الصداقة بين الزوجين
كان يحدثني بينما كنا معا في العمل: ' خرجت أنا وصاحبتي وتمشينا على شاطئ البحر طويلا فلم نشعر بالوقت يمر علينا ثم انطلقنا إلى أحد المطاعم لنتعشى ثم ذهبنا مسرعين إلى البيت لننعم بالدفء سويا وقضينا الليل حتى ظهرت أول أنوار الصباح متقاربين نتحادث ونتسامر ونتطلع إلى النجوم.......' وبينما كان صاحبي يصف جمال ليلته الماضية حانت منه التفاتة إلى وجهي فوجدني مشدوها مسبهلا فاغرا فمي مندهشا من جرأته فتوقف ليسألني: ماذا هناك ؟ ماذا بك؟ فقلت: أنت الرجل الحريص على رضا ربك المجانب لكل ما حرم تفعل كل هذا ثم لا تستحي أن تذكره للآخرين قال: وما الحرام في صحبة زوجتي وأم أبنائي وقضاء بعض الوقت الحسن بصحبتها............؟
إن العلاقة بين الزوجين لها خصائص كثيرة, ولكن إذا أردنا اختيار خاصية واحدة تضفي على علاقتهما دوام المتعة والحيوية على مر السنين فلن تكون سوى أن يعامل كل منهما الآخر معاملة الصديق الحميم.
فما أكثر أن نجد زوجين مخلصين لبعضهما ومع هذا تراهما وقد احتدم النقاش بينهما ولن يدوما على وفاق طويلاً, وكثيرًا ما نجد أزواجًا رائعين ومتفانين ويشتركان في نفس الهوايات والاهتمامات ومع هذا يسيطر التوتر على علاقتهما.
أما عندما يكون الزوجان أصدقاء في المقام الأول فإن الأمور تسير طبيعية من تلقاء نفسها, فالصداقة تحتم على كل صديق أن يدعم صديقه وأن يحتمله ويعطف عليه, ويلتمس له العذر, كما أن الصداقة تسهل عملية التواصل, والصداقة تمهد الطريق للضحك والمرح كما أنها أيضًا تعني التزام الجدية إذا تطلب الأمر ذلك والصديق على اتصال دائم بصديقه يجده وقت الرخاء, ولا يفتقده وقت الشدائد.
أي الناس أحبُّ إليك؟
سؤال وُجّه للرسول صلى الله عليه وسلم، فردّ أمام الناس وقال اسم امرأة, قال: عائشة. فسأله السائل مِن الرجال؟ قال: أبوها.
يمكننا أن نفهم من هذه المصارحة أن السيدة عائشة هي الزوجة الصديقة في المنزل, وأبا بكر هو الصديق الحميم من الرجال.
وما أكثر ما ذُكر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من حبه للسيدة عائشة, وما روي في صحيح مسلم والبخاري من أشكال الصداقة بينهما لعب وضحك وجري وملاطفة وحوار وحديث واستماع, وكلنا يعرف القصة المشهورة قصة 'أم زرع' الطويلة التي حكتها السيدة عائشة للرسول صلي الله عليه وسلم, وعلى طولها كان يستمع إليها ويشاركها الحديث, وكانت رضي الله عنها تغارُ عليه, وتغضب وغير ذلك من مشاعر البشر, وكان صلى الله عليه وسلم يحترم ذلك ويقول في رواية للسيدة عائشة: 'إني لأعلم إذا كنتِ عني راضية وإذا كنتِ عليّ غضبى؟ قالت: ومن أين تعرف ذلك؟ قال: أما إذا كنتِ عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد, وإذا كنتِ غضبى قلت: لا ورب إبراهيم. قالت: أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك'.
فإذا أردت أن تكسب زوجتك وتحول الزواج إلى سعادة تلو سعادة فلابد أن تعامل زوجتك معاملة البشر فتستشيرها في أمورك وتشركها في قراراتك, وتجلس معها لتبث لها همومك, وتسمع منها همومها, تمزح معها وتمزح معك, وتشعرها بأنها صديقتك وتعف عن التحقير وتعتذر إن أخطأت بحقها، وتخبرها إن تأخرتَ خارج المنزل, وتقدم لها الهدية بين فترة وأخرى, وتحترم آراءها واقتراحاتها وتناديها بأحب الأسماء إليها, وتتودد إليها كما تتودد إليك, ولا يظنن أحد أن في ذلك إهانة للرجل أو انتقاصا من قدره أو تنازلاً عن قوامته, بل هذا جزء أصيل من الرجولة والقوامة, فلا خير في رجولة لا تراعي طبيعة المرأة, والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: 'خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي'.
وكم نسمع من تقول:
'زوجي هو أفضل أصدقائي' ولكن أفكارهم ومشاعرهم وتصرفاتهم تناقض هذا, فتراهم على عكس ما يقولون, يغارون من أزواجهم ويطالبونهم بما لا يطالبون به صديقًا, وإلى جانب هذا تراهم لا يقدرونهم حق التقدير ولا يحترمونهم كما يجب ولا يلتزمون اللطف في التعامل معهم.
وأفضل طريقة للإبقاء على علاقة الصداقة بين الزوجين هي أن تعرف فائدة الصداقة في هذه العلاقة فالصداقة هي أفضل طريقة للحفاظ على العلاقة الزوجية.
وعليك أن تذكّر نفسك بأن هدفك هو أن تعامل زوجتك بعطف وتقدير واحترام تمامًا كما تعامل أقرب أصدقائك, وعندما لا تعرف ماذا تفعل اسأل نفسك: 'إذا كان هذا الشخص صديقي فكيف سيكون سلوكي معه ورد فعلي تجاهه؟' إنه من الأهمية بمكان أن تتذكر كيف يتعامل الأصدقاء مع بعضهم ثم تحاول تطبيق هذا في علاقتك مع شريكة الحياة.
كوني صديقة لزوجك
لماذا لا تكونين صديقة لزوجك؟
لماذا لا تكونين له واحدة من هذه الأنواع من الصداقة؟
الصديقة المنعشة: التي يأخذ من نشاطها وحماسها ويتعلم منها كل ما هو حديث وجديد.
الصديقة المماثلة: لها نفس اهتمامات زوجها, قادرة على فهم وجهة نظره وأفكاره عندما يحتاج إلى من يشكي إليه همومه.(/1)
الصديقة الحكيمة: التي لديها خبرة في أمور كثيرة, ووجودك في حياته يشعره بالأمان تمدين له يد العون والمشورة والنصيحة.
الصديقة المرحة: تنسيه مشاكله وقلقه عندما يتحدث إليك, فتكونين قادرة على تخفيف الحزن عنه وإضحاكه وتوسعة صدره.
الصديقة الذاكرة: فتذكريه بمواعيده ولقاءاته الهامة والمناسبات العائلية وغير ذلك من يوميات الحياة.
وهنا نقف ونتساءل: كيف تصبحين صديقة لزوجك؟ وهل هذا ممكن أم مستحيل تحقيقه؟
هذا ما سنعرض له في لقاء آخر من خلال نافذتنا إن شاء الله تعالى فتابع معنا عزيزي القارئ الباحث عن السعادة الزوجية الحقيقية.
وإلى لقاء آخر لكم منا خالص التحية والاحترام والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/2)
الصداقة بين العقوق ومُراعاة الحُقوق!
د. محمد عمر دولة*
"ويلٌ للناسِ من الألفاظِ؛كم تخدعهم عن الحقيقة؟!" كلمةٌ جليلةٌ.. قالها الشيخ محمد قطب[1] مُفعَمَة[2] بفقه الإخلاص ودلالات المعركة الإنسانيّة بين المظاهر والجواهر؛ ولكنّنا لم نَدْرِِ مغزى هذه الكلمة المباركة حتى الآن.
ومعلومٌ بداهةً أنّ الصداقة تقوم على أساس المحبّة والتناسُب بين الناس؛ فليس من أحدٍ من العالمين إلا وله صديقٌ، صالحاً كان أو طالحاً؛ وذلك تَبَعاً لكون الإنسانِ مدنيّاً بطبعِهِ كما قال ابنُ خلدون رحمه الله.
فكلّما تشاكلت القلوبُ والأرواحُ تصادقت الأبدانُ والأشباح! وما ذلك إلا لأنّ "المحبّة والإرادة أصلُ كلّ فعلٍ ومبداه؛ فلا يكون الفعل إلا عن محبّةٍ وإرادةٍ".[3] وقد صرّح النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى في حديث مسلم الذي علّقه البخاري: (الأرواح جندٌ مُجنَّدةٌ فما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف). قال البيهقي: "سألتُ أبا عبد الله الحافظ عن معناه؛ فقال: المؤمن والكافر لا يسكن قلبُهُ إلا إلى شكلِهِ"![4] ولله درُّ ابن القيِّم حيث قال: "أنتَ إذا تأمّلتَ الوجودَ لا تكاد تجد اثنين يتحابّان؛ إلا وبينهما مُشاكَلةٌ أو اتفاقٌ في فعلٍ أو حالٍ أو مقصدٍ؛ فإذا تباينت المقاصدُ والأفعالُ والطرائقُ لم يكن هناك إلا النَّفْرة والبُعد بين القلوب"![5]
وقد بيّن القرآنُ حقيقةَ المناسبةِ بين أهل الصلاح من ناحيةٍ وأهل الفساد من ناحيةٍ أخرى، كما في قول الله عزّ وجل: (وكذلك جعلنا لكلّ نبيٍّ عدوّاً شياطين الإنس والجنّ يُوحي بعضُهم إلى بعضٍ زُخرفَ القول غُروراً)،[6](وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم)،[7] وقوله تبارك وتعالى: (وقيّضنا لهم قرناء فزيَّنوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحقَّ عليهم القولُ في أممٍ قد خلتْ من قبلِهم من الجنّ والإنس إنهم كانوا خاسرين)،[8] (ومن يَعْشُ عن ذِكْرِ الرحمنِ نُقيِّضْ له شيطاناً فهو له قرين)،[9] (وكذلك نُولِّي بعضَ الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبُون)![10]
وما ألطفَ التعبيرَ القرآنيَّ بالصورةِ الحسِّيَّة والقصصيّة[11] عن النجاةِ من الهلاكِ بسبب اتخاذِ قُرَناءِ السُّوءِ: (قال قائلٌ منهم إنِّي كان لي قرينٌ يقول أئنّك لمن المصدِّقين أئذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أئنّا لمدينون قال هلْ أنتمْ مُطَّلِعُون فاطَّلَع فرآه في سواء الجحيم قال تاللهِ إن كِدتَ لَتُرْدِين ولولا نعمةُ ربِّي لكنتُ من المُحضَرين).[12]
ولله درُّ المتنبي حيث قال:
وهذا يُذكِّرنا بقول الله عزّ وجل: (أم حَسِبَ الذين في قُلُوبِهم مَرَضٌ أن لن يُخرِجَ اللهُ أضغانَهم ولو شئنا لأريناكَهُمْ فلَعَرَفْتَهم بِسِيماهُمْ ولَتَعْرِفَنَّهم في لَحْنِ القَوْلِ).[13]
ولله درُّ ابنُ الطُّفَيْل ما أحسنَ قولَه:
والصداقة ـ لعمري ـ إما منحةٌ من الله تعالى أو مِحْنةٌ؛ وتأمَّلْ هذا المعنى في الصحبة بين أعظم أجيال هذه الأمة! (محمّدٌ رسولُ الله والذين معه أشدّاءُ على الكفار رحماءُ بينَهم)،[14] وكيف كان أبو طلحة يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (نَحْرِي دون نَحْرِك)؟![15] وتدبَّرْ ذلك في المشركين الذين قال القرآنُ فيهم: (بأسُهم بينهم شديدٌ تحسبهم جميعاً وقلوبُهم شتَّى ذلك بأنهم قومٌ لا يعقلُون).[16]
ومن عظمة شأن الصداقة الصالحة أنّ الله عزّ وجلّ قد جعل من أسباب حلاوة الإيمان (أن يُحِبَّ المرء؛ لا يُحبُّه إلا لله).[17] وقال تعالى: (الأخِلاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدوٌّ إلا المتقين)![18] وشتانَ بين من يقولون: (ربَّنا اغفرْ لنا ولإخوانِنا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعلْ في قلوبِنا غِلاً للذين آمنوا)،[19] وبين من يتخاصمون في الدنيا ثم في نار جهنّم (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها)![20] (هذا فوجٌ مُقتحمٌ معكم لا مرحباً بهم إنهم صالو النار قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدَّمْتُمُوهُ لنا فبئسَ القرار)،[21] (إنّ ذلك لحقٌّ تخاصمُ أهلِ النار)![22]
وليت شعري هل أَمَرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن يُخبرُ أحدُنا من أحبَّه من إخوانِهِ بأنه يُحِبُّه في الله؛ إلا لتحصيل الثمار الاجتماعيّة للصداقة؟! وقد نقل القرطبي عن بعض السلف قوله: "عليكم بالإخوان؛ فإنهم عُدَّةُ الدنيا وعُدَّةُ الآخرة؛ ألا تسمع إلى قول أهل النار: (فما لنا من شافعين ولا صديقٍ حميم)[23]".[24] وحكى ابن كثير عن قتادة قوله: "يعلمون ـ واللهِ ـ أنّ الصديق إذا كان صالحاً؛ نفع، وأنّ الحميمَ إذا كان صالحاً؛ شفع!"[25] وقال الشيخ ابن عاشور في تفسير قول الله تعالى: (أو ما ملكتم مفاتحَه أو صديقكم)[26] : "سُئل بعضُ الحكماء: أيُّ الرجلين أحبُّ إليك: أخوك أم صديقك؟ فقال: إنما أُحِبُّ أخي؛ إذا كان صديقي!"[27]
1) الصداقة اصطفاء:(/1)
فالصَّداقةُ عند أُولِي الألباب انتقاءٌ للكرام؛ إذ (الناسُ كإبلٍ مائة لا تكاد تجد فيها راحلة).[28] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كذلك: (تجدون الناسَ معادن ... وتجدون شرَّ الناسِ ذا الوجهَيْن الذي يأتي هؤلاء بوجهٍ، وهؤلاء بوجهٍ)![29]
وفي مثل هذا قال ابن الأعرابي:
وقال أبو الفتح البستي:
ولكنَّ منهجَ الاصطفاء الذي يقوم على التحرِّي والتثبُّت والتروِّي في اتخاذ الأصحاب؛ قد يُغالي فيه بعضُ الناس؛ فيحملهم في بعض الأحيان على اجتناب مخالطة الناس، وإساءة الظنِّ بهم جميعاً، وذمِّ الصداقة مُطلَقاً؛ بعد نَفْضِ أيديهِمْ من الأصدقاء، كما قال أبو الفتح البستي:
وما ينبغي أن تُشادَ الصداقاتُ على أساس المنظرِ الحسن، ولا أن يُجتنب الرجلُ ذو الثوب الخشن، كما قال المعري:
وكثيراً ما تؤول صداقاتُ المظاهر الكاذبة إلى تباغُضٍ وتنافر؛ لفقدان المشاكلة النفسيّة والموافقة الفِكريّة؛ ومن هذا الباب قولُ بعضِهم:
2) أسس الصداقة:
ولا ريبَ أنّ (الصداقة) قيمةٌ نادرةٌ لا تتحقق ثمراتُها الاجتماعيّة إلا بوجود صفاتٍ وضوابط، تكون بمثابة الأسس العلميّة التي تقوم عليها هذه الصداقة؛ وهذا ما جعل العرب يقولون: (ثلاثة ليس لهنّ وجودُ: الغول والعنقاءُ والخلّ الودودُ!)؛ وقد نقل القرطبي لطيفةً عن العلامة الزمخشري في تفسير قول الله عزّ وجل: (فما لنا من شافعين ولا صديقٍ حَمِيمٍ) حيث قال: "جَمَعَ الشافعَ؛ لكثرة الشافعين، ووَحَّدَ الصَّدِيقَ لقِلَّتِهِ! ألا ترى أنّ الرجل إذا امْتُحِنَ بإرهاقِ ظالمٍ؛ مضتْ جماعةٌ وافرةٌ من أهلِ بلدِهِ لشفاعتِه رحمةً له وحِسْبةً وإن لم تسبقْ له بأكثرِهم معرفةٌ؛ وأما الصديقُ فهو الصادقُ في وِدادِك الذي يهمُّهُ ما يُهِمُّكَ؛ فأعزُّ من بيض الأنوق، وعن بعض الحكماء: أنّه سئل عن الصديق؟ فقال: اسمٌ لا معنى له!"[30]
وقد ذكر عبد القاهر البغدادي في (دلائل الإعجاز) في معرض كلامه عن السياق البلاغي للتعجيز أنّ نديماً لأحد الخلفاء أنشده قولَ بعضهم:
فقال له الخليفة: ائتني بهذا الصاحب؛ وخُذِ الخلافة!
3) الصديق الصدوق:
فالصديق الصدوق أغلى من كنوز الدنيا لو وُجِدَ، كما قال عبد العزيز الأبرش:
وما أحسنَ ما قيل:
وكلُّ ما جاء من الحثِّ على الإكثار من الأصحاب، فيُراد به هذا المعنى، كما قال مهدي بن سابق:
وقد قال محمد بن عمران الضبِّي:
فينبغي أن يُراعَى في الصديق أن يكون كريمَ الأخلاق، مُهَذَّبَ الخصال، تَلُوحُ على مرآةِ وجهِهِ أنوارُ قلبِهِ، كما قال أبو الفتح البُستي:
4) صداقة الأوفياء:
وأما الوفاء، فهو أعظمُ خصالِ الصَّديق؛ وهو أغلى من الدنيا وما فيها! وفي مثل هذا الصّاحب يقول الفرزدق:
وما أحسنَ وأصدقَ ما قال أوس بن حجر في الوفاء:
5) صداقة السفهاء:
وأما الذين يستحيِي المرءُ أن يراهم الناسُ في صحبتِه من الفُسّاق والمنافقين؛ فهؤلاء عيبٌ على العبد الصالح أن يتّخذهم أصحاباً، كما قال الله عزّ وجلّ: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالا)،[31] وقال تعالى: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالَكم يبغونكم الفتنة)،[32] وقال ابن وكيع:
وقال عبد القدوس:
وقال ابن الرومي:
وإذا كان الله تبارك وتعالى لم يرضَ لنا أن نقعدَ في مجالسِ السفهاء؛ لكونها لا تخلو من الاستهزاءِ بشعائرِ الدِّين أو شرائعِهِ أو ثقافتِهِ؛ فكيف بمن يتخذ السفهاءَ أصفياءَه وأصدقاءه؟! ومن تدبَّرَ قولَ الله تعالى: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتِهم خاشعون والذين هم عن اللَّغْوِ مُعرِضُون)،[33] وقولَه جل جلاله: (وإذا مرُّوا باللَّغْوِ مرُّوا كراماً).[34] ولله درُّ من قال:
وقد حكى ابنُ القيِّم أنه "ذُكِرَ لبُقراط رجلٌ من أهلِ النقص يُحبُّهُ؛ فاغتمَّ لذلك، وقال: ما أحبَّني إلا وقد وافقتُهُ في بعض أخلاقِهِ!"[35] وإنّ الرجل الفاضل ما إن يتردَّدُ عليه بعضُ المناحِيس ـ كما هو مُشاهدٌ ـ حتى يدخُلَ عليه من سُوء أخلاقِهم ما اللهُ به عليمٌ؛ حتى إنه لا يفطِن إلى تغيُّر أخلاقِهِ وطِباعِهِ إلا إذا عاد إلى مصاحبة أهل الفضل!
6) صداقة المُخادِعِين وأهل الغدر:
ومن شروط الصداقة الناجحة: التزامُ الوضوحِ والصّراحةِ المتبادلة؛ ولا شكّ أنّ من أسوءِ الأصدقاءِ مُعاشَرَةً أهلُ التلبيس والتدليس؛ الذين أُشْرِبَتْ قلوبُهم المكرَ والخِداع؛ فهم على الدّوام يتلوّنون ويمكرون ويتربَّصُون بصاحبِهم الدوائر؛ فيُظهِرون الخيرَ وتغلب قلوبُهم على ألسنتِهم في إبداء الشرَّ! (قد بدت البغضاءُ من أفواهِهم وما تُخْفِي صدورُهم أكبر)،[36] فهؤلاء لا علاجَ لهم إلا عتقِ الرِّقابِ من صُحبتِهم؛ وما أحسنَ ما قال المثقب العبدي:
فاستعِذْ بالله العظيم ربِّ العرشِ الكريمِ من صديقٍ (عَدُوٍّ) لا يحفظ الودَّ ولا يذكر العهد! ولله درُّ المتنبي حيث قال:(/2)
وإذا كان الله عزّ وجلّ قد حذَّرَنا من أزواجِنا وأولادِنا، وقال جل جلالُه: (إنّ من أزواجكم وأولادِكم عدوّاً لكم فاحذروهم)،[38] وقال لنوحٍ عليه السلام: (يا نوحُ إنه ليس من أهلِكَ إنه عَمَلٌ غيرُ صالحٍ)؛ فكيف بربِّك يرضى العاقلُ بمصاحبة البعيد الطالح؟! كما قيل:
وقال عبد الله الجعفري:
ولا بدّ من التفريق بين أن يزلَّ الصديق الوفيُّ مرّةً؛ فتأتي مآثِرُهُ بمن يشفع! كما قيل:
وبين من شأنُه التقلُّب والمكرُ؛ فأخلاقُه * هل رأيتَ الذئبَ قط؟! * فهفوةُ الحبيب وإن كانتْ مؤلمةً ولكنّ الصاحبَ الصادقَ يتجاوز عنها، كما قيل:
وقال الطغرائي:
7) صداقة الأطماع:
ومن البلايا والرزايا أن يتعلّق بأذيال الصالحِين بعضُ الطامعين؛ لا يريدون من صداقتِهم إلا بلوغَ مآربِهِم وتحقيقَ مطامعِهِم؛ (فإن أُعْطُوا منها رَضُوا وإن لم يُعطَوْا منها إذا هم يسخطون)![39] كما قال صلاح عبد القدوس:
وما ينبغي للعاقلِ أن يُعلِّل نفسَه على اتخاذِ الدَّنيء صاحِباً بوجود خصلةٍ فيه طيِّبة ما دام (يدعو لَمَن ضَرُّه أكبرُ من نفعِهِ لبئس المولى ولبئس العشير)![40] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أي عائشة إنّ شرَّ الناسِ منزلةً عند الله من تَرَكَََه ـ أو وَدَعَهُ ـ الناسُ اتقاءَ فُحْشِهِ)؛ ورحمَ اللهُ البخاريَّ حيث أخرج هذا الحديث في كتاب الأدب باب (المُداراة مع الناس) قال ابن حجر: "المرادُ به: الدَّفْعُ برِفقٍ"[41] وجعله ـ درّ درّهُ ـ متوسِّطاً بين بابين بديعَيْن: باب (الانبساط إلى الناس، وقال ابنُ مسعودٍ: خالِطِ الناسَ ودينَكَ لا تَكْلِمَنَّهُ)، وباب (لا يُلْدَغُ المؤمنُ من جُحْرٍ واحِدٍ مرَّتَيْن، وقال معاوية: لا حكيمَ إلا ذو تجربة)![42]
وقلْ مثلَ ذلك في صداقة أهل الرِّيبة؛ ذلك أنّ الصاحب المُريب لا يصفو له ودٌّ أبدا! كما قال عبد الله بن معاوية الجعفري:
ولكنّ الماكرين من الأصدقاء لا يُفلحون، وما يحصِّلونه من المكاسب الدنيئة قلّما يتنعّمون بها ويهنؤون؛ بل ترى الواحدَ منهم مُعَذَّباً متنغِّصاً في الدنيا قبل الآخرة (ويُسْقَى من ماءٍ صديدٍ يتجرَّعُهُ ولا يكادُ يُسيغُهُ)؛[43] إذ إنّ الله ينزع ممّا يحصِّلُهُ البركة، كما قال جل جلالُه: (إنّ الله لا يُصلِح عمل المُفسدين)![44] وليت شعري أين يذهبُ عنهم قولُ الله عز وجل: (ولا يحيق المكرُ السيِّءُ إلا بأهلِهِ)؟![45] وقولُه تعالى: (ومن الأعراب من يتخذ ما يُنفق مغرماً ويتربّصُ بكم الدوائر عليهم دائرة السوء)![46] ورحم الله المعري حيث قال:
8) صداقة أهل المروءة:
وأما الصداقة الطيِّبة التي تؤتي أُكلَها كلَّ حينٍ؛ فهي التي تقومُ على المروءة، كما قال المعرِّي:
فلا بدّ للرجل الصالح من الوفاء للصَّديق، وإن قدمتْ صداقته؛ بل ذلك أدعى لحفظ وُدِّه، ولا شيء أقبح عند الحُرِّ من التقلُّب في هذا الباب، كما قال المعرِّي:
وقال قبيصة بن عامر:
9) الصداقة والأكدار:
ومعلومٌ أنَّ الصَّداقة ليست صَفْواً على الدَّوام؛ فقد يعتريها من التكدير ما يعتريها، شأن الحياةِ الدنيا!
فمن الصيانةِ والإحسانِ تركُ العتاب للحبيب ما استطاع المرء؛ وكأنما عنى البخاري هذا المعنى حين ترجم (باب مَنْ لم يُواجِهِ الناسَ بالعِتاب)![47] وهذا من الحكمة البالغة؛ فإنّ الصديق الصَّدوقَ لا بُدَّ أن نصبرَ على زلاتِه ونتجاوزَ عن هفواتِهِ؛ لأنّ ذنوبَه مُغتفَرَةٌ في جَانِب أُخُوَّتِهِ الصادقة! ومن الإنصاف أن نستحضرَ عند الغضب من كرام الأصدقاء مواقفَهم المعهودة ومحاسنَهم المشهودة! كما ذَكَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصحابةَ حينما غضبوا من حاطب بن أبي بلتعة بأنه من (أهل بدرٍ) رضي الله عنهم جميعاً! فقد استحضر الصحابةُ لحظتَهم الحاضرةَ (بين يدي فتح مكّة) وعاد النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقلبه الكبيرِ إلى الماضي البعيد ومجدِهِ التليد! (إلى وقعة بدرٍ الكبرى)؛ وما أحسنَ قولَ الشاعر:
ولله درُّ النابغة الذبياني حيث قال:
ومن لك في زمانِ الفِتَن والمِحَن بأخٍ مُبارَكٍ شفوقٍ: يُذَكِّرُك إذا نسيتَ الرفيق؟ ويهديك إذا ضللتَ الطريق؟ وينصحك إذا زللتَ؛ فتصحو من غفلتك وتُفيق؟! كما قال عبد الله الجعفري:
ولكنّ بعض الناس لا يرضى من صاحبٍ له أن يقصِّر في حقِّه ـ لاسيما في بدايات الصداقات ـ فيكون ذلك سبباً في انصرام العلاقة بينهما، كما قال الشريف المرتضى:
وقال المرقش الأصغر:
10) صداقة العلماء والفضلاء:
وهذه صداقة الأصفياء الأنقياء؛ فهؤلاء لا صبرَ للعاقل على فراقهم، وهم أولى الناسِ بالمحبّة والإخاء، كما قال المؤمل المحاربي:
ولله در أبي فراس ما أعذبَ قولَه:
فلم تبق المحبّةُ الصادقةُ شيئاً من حظوظ النفس!
ومن لك بالحبيب اللبيب العاقل الرَّشيد الذي يخشى عليك الرَّدى، وينصح لك حاضراً وغائباً؟! كما قال المتنبي:
فاظْفُرْ بالكريمِ الحليم، واملأْ منه يديك؛ فهو خيرُ صاحبٍ في الكدر والصفاء، كما قال أسامة بن منقذ:(/3)
والصديقُ التقيُّ النَّقِيُّ أعظمُ كَنْزٍ في الفقر والغنى؛ كما قال ربيعة بن مقروم:
ومن لك بصاحبٍ يحفظ الوفاء، وقد نعاه الشعراء، وبكاه العلماء! كما قال التهامي:
----------
[1] في كتابه شبهات حول الإسلام ص 150.
[2] يُقال: أفعم المسكُ البيتَ: ملأه بريحِهِ، فهو مُفْعَمٌ. المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربيّة بالقاهرة ص 728. ط2. 1392 هـ.
[3] روضة المُحبّين ونُزهة المشتاقين لابن القيّم ص 56. مكتبة الصفا
[4] كشف الخفا ومُزيل الإلباس للعجلوني 1/110. دار الكتب العلميّة. بيروت. ط3. 1408 هـ.
[5] روضة المُحِبِّين لابن القيِّم ص 66.
[6] الأنعام 112.
[7] الأنعام 121.
[8] فصلت 25.
[9] الزخرف 36.
[10] الأنعام 129.
[11] راجع في هذا الأسلوب القرآني البديع كتاب (التصوير الفنّي في القرآن) لسيد قطب رحمه الله. دار الشروق. ط 1415 هـ.
[12] الصافات 51-57.
[13] محمد 29-30.
[14] الفتح 29.
[15] رواه البخاري في كتاب المغازي. فتح الباري 8/107.
[16] الحشر 14.
[17] رواه الشيخان في كتاب الإيمان.
[18] الزخرف 67.
[19] الحشر 10.
[20] الأعراف 38.
[21] ص 59-60.
[22] ص 64.
[23] الشعراء 100-101.
[24] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13/116-117. مكتبة الغزالي. دمشق.
[25] تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/449. جمعيّة إحياء التراث الإسلامي. الكويت. ط5. 1420 هـ.
[26] النور 61.
[27] تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور 18/302. دار سحنون. تونس.
[28] رواه الشيخان.
[29] رواه البخاري ومسلم. وراجعْ باب (ذمَِ ذي الوجهين) من (رياض الصالحين) للنووي ص 530. المكتب الإسلامي. ط 1418 هـ.
[30] الجامع لأحكام القرآن 13/117.
[31] آل عمران 112.
[32] التوبة 47.
[33] المؤمنون 1-3.
[34] الفرقان 72.
[35] روضة المُحِبِّين ص 65.
[36] آل عمران 118.
[37] ديوان المتنبي 1/93. بشرح البرقوقي.
[38] التغابن 14.
[39] التوبة 58.
[40] الحج 13.
[41] فتح الباري 12/161.
[42] راجع فتح الباري 12/157-163.
[43] إبراهيم 16-17.
[44] يونس 81.
[45] فاطر 43.
[46] التوبة 98.
[47] فتح الباري 12/141.
[48] الخَلَّةُ: الخصلة، وأما الخُلَّة ـ بضم الخاء ـ فهي الصداقة والمحبّة. راجع المعجم الوسيط ص 276.
[49] قال العلامة ابنُ فارس: "الجِلَّة: الإبل المسانّ...والجلالة: الناقة العظيمة...وأتيتُ فلاناً فما أجلّضني ولا أحشاني: أي ما أعطاني صغيراً ولا كبيراً من الجِلّة ولا من الحاشية" معجم مقاييس اللغة لابن فارس 1/417. دارالكتب العلميّة.
[50] قال ابن منظور: "حِمْلٌ مُضْلِعٌ: مُثْقِلٌ للأضلاع" لسان العرب 8/225. دار صادر. ط6. 1417 هـ.(/4)
الصدام الجنسي للحضارات!
محمد أبو رمان 7/1/1427
06/02/2006
يمثل "الإصلاح الثقافي" أحد الأبعاد الرئيسة في الدعوات الأميركية إلى إصلاح العالم العربي، والتي شهدت طفرة حقيقية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وفي الوقت الذي نجد فيه تفصيلاً وشرحاً وافياً لمعاني ومؤشرات الإصلاح السياسي والاقتصادي المطلوب، فإن المقصود بالإصلاح الثقافي مازال ضبابياً، وتعتريه حالة من الغموض والاختلاف حتى داخل الأوساط الثقافية والسياسية الأميركية.
بعض الرؤى الأميركية تقرأ الإصلاح الثقافي من خلال الدعوة إلى إصلاح المناهج التربوية، وتطوير الخطاب الديني، وتصحيح إدراكات المسلمين فيما يتعلق بالجهاد و"الآخر"، والقبول بالديمقراطية والتعددية ومبدأ التعايش الديني والحضاري. وتتوافق هذه الرؤى في خطوطها العامة مع نظيرتها لدى التيار الثقافي العام في العالم العربي والإسلامي، والذي يرى أن المجتمعات العربية والإسلامية اليوم تحتاج إلى إصلاح ديني-ثقافي، يؤدي وظيفة حقيقية في انتقال المجتمعات من حالة التخلف والركود إلى النهضة والإصلاح. كما أن الإصلاح الثقافي ضرورة تفرضها مؤشرات الواقع الإسلامي الذي يكتوي بعلامات التراجع الثقافي والمعرفي، وازدهار بعض الحركات المتشددة، وغياب دور المراكز البحثية والعلمية في التخطيط والمعرفة المؤثرة في المجتمعات العربية. وقد أتت تقارير التنمية الإنسانية العربية، ولا سيما التقرير الأول حول حالة المعرفة العربية، لتؤكد الملاحظات السابقة.
إلاّ أن هناك رؤية أميركية أخرى للإصلاح الثقافي المطلوب، تتبناها بعض مراكز الخبرة والرأي في الولايات المتحدة. وفي تقديري، فإن هذه الرؤية تعكس بدرجة أدق النظرة المركزية الغربية للآخر، وتستبطن المنظور الحقيقي للمثقف الأميركي تجاه الآخر. وهو ما يفسر الحديث الأميركي المتكرر حول قضية حقوق المرأة، وحقوق المثليين الجنسية، والعلاقات الجنسية قبل الزواج، والتعددية الثقافية في العالم الثالث، بدرجة تفوق كثيراً ما هو معمول به في أعتى الديموقراطيات الغربية.
ومن أبرز الدراسات التي تكشف عن هذا المنظور دراسة الخبير الأميركي أنغلهارت في مجلة السياسة الخارجية (Foreign Policy)، (أكتوبر 2003)، وهي من المجلات المعتبرة في الولايات المتحدة. تحمل دراسة أنغلهارت عنواناً معبراً عن مضمونها الفكري والسياسي، وهو "الصدام الحقيقي للحضارات". إذ يرى أنغلهارت أنّ الصدام الحقيقي للحضارات ليس بين القيم الثقافية السياسية، بل بين القيم الجنسية!
وتقوم الفكرة الرئيسة للدراسة على أنّ صمويل هانتنجتون في أطروحته "صدام الحضارات" يصيب نصف الحقيقة المتمثل بأنّ الثقافة باتت أمرًا مهماً بالنسبة للشعوب في العالم، وأنّ الصراع العالمي -في المرحلة القادمة- يكمن في الجانب الثقافي. إلاّ أن المشكلة ليست، كما يظن هانتنجتون، مرتبطة بالقيم السياسية في العالم الإسلامي، فنتائج الاستطلاعات العالمية تظهر أن الديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة أصبحت قيماً مرغوبًا فيها، ومطلوبة بشكل كبير في المجتمعات المسلمة، وهكذا فإن المشكلة الحقيقية تتمثل في المعتقدات الأساسية لهذه المجتمعات المرتبطة بالثقافة الاجتماعية.
ولإثبات مقولته، يحلل أنغلهارت استطلاعات رأي واسعة أُجريت داخل المجتمعات الإسلامية، ليصل إلى أنّ الشعوب المسلمة أقل تسامحًا تجاه المساواة بين الجنسين، وحقوق المرأة، والعلاقات الجنسية، وحقوق المثليين؛ وبعبارة أخرى، فإن الصدام الحقيقي للحضارات هو صدام حول المفاهيم الجنسية التي تعكس التباين القيمي الحقيقي في المعتقدات الأساسية بين الشعوب العربية والغربية.
إذن، "المشكلة الثقافية" في العالم العربي والإسلامي تكمن، وفقا لتيار كبير داخل الفكر السياسي الأميركي، في القيم الاجتماعية والثقافية، وبالتالي فإن المطلوب هو إيجاد حالة ثقافية ممسوخة، قائمة على المحاكاة الكاملة للنموذج الثقافي الغربي. لكن السؤال هو: أي نموذج؟ فإذا كان أنغلهارت يتحدث عن عدم تسامح تجاه المثليين جنسياً، والعلاقات الجنسية قبل الزواج، فإن أحد العوامل الرئيسة التي ساهمت في انتصار الرئيس بوش في معركته الانتخابية الأخيرة هو رفض المحافظين الجدد لـ"الزواج المثلي"، وتأكيدهم على القيم الدينية المحافظة للمجتمع الأمريكي، بينما تنطلق أصوات نخبة من الكتاب في العالم العربي تطالب بإصلاح ثقافي على طريقة أنغلهارت!(/1)
للأسف الشديد، فإن النموذج الثقافي المرحّب به، والذي يلقى قبولاً لدى تيار واسع من المثقفين والكتاب والسياسيين الأمريكيين هو "النموذج التغريبي"، الذي يندفع بعيداً في محاكاة الثقافة الغربية في المجتمعات العربية والإسلامية. وأي جانب من الثقافة الغربية؟! المظاهر السطحية التي ترتبط بقيم اجتماعية ونمط ثقافي استهلاكي لا يلتفت أبداً إلى الجانب الإنتاجي من هذه الثقافة، ولا حتى إلى دور الدين في المجتمع، ولا إلى معاني نحن أحوج ما نكون إليها اليوم: المؤسسية، والحفاظ على الوقت، وتقديس العمل والجهد، والمنطق العلمي في التعامل مع الأمور، والمعايير الموضوعية في التقييم والإنجاز... الخ. فالغرب- لدى فئة من الشباب العربي الملحقين بالثقافة الغربية على طريقة أنغلهارت- لا يزيد عن وجبات سريعة، وموضات اجتماعية، وحياة استهلاكية مبتذلة!
ما تجدر ملاحظته في هذا السياق، هو أن الفكر الإسلامي في عصر النهضة، في بدايات القرن المنصرم، كان سباقاً إلى الدعوة إلى إصلاح ثقافي-ديني في العالم العربي، وإلى الإفادة من الحضارة الغربية، لكن في الجانب الإبداعي المفيد الذي يحرك العقول ويدفعها إلى الإنتاج والعطاء، وهو ما تحتاج أن تتعلمه المجتمعات العربية بالفعل من الغرب.
نعم، ثمة ضرورة للإصلاح الديني والثقافي في العالم العربي، لكن في سياق محترم يقوم على فكر إسلامي مستنير، ينطلق من الإسلام وقيمه الإنسانية، ومن الخصوصية الحضارية والثقافية، التي لا تعني اضطهاداً للمرأة، أو الأقليات، أو حتى الحريات الدينية؛ لكنها لا تعني، في الوقت ذاته، انسلاخ المجتمعات الإسلامية عن قيمها وثقاف(/2)
الصدر يتحدى أمريكا .. العبارة خاطئة
أحمد فهمي
بدأت الشرارة الأولى بإغلاق الصحيفة ، وبدأت الشرارة الثانية باعتقال – أو إشاعة اعتقال - محمد اليعقوبي ممثل مقتدى الصدر في النجف ، وقبل ذلك وبعده كان تيار الصدر يقضي أوقاته على سطح صفيح ساخن ، خاصة مع قرب موعد نقل السلطة – الشكلي – من قوات الاحتلال الأمريكية إلى حكومة عراقية ومجلس حكم تم انتقاؤهم بعناية ولا يتوقع أن يكون الصدر من بينهم ، وأيضا مع وصول الأخضر الإبراهيمي على رأس وفد من الأمم المتحدة لبحث هذه القضية .. إذن مقتدى الصدر خطط لمواجهة محسوبة مع الأمريكيين ولم ينطلق من ردود أفعال عشوائية .
ماذا يريد الصدر ؟
لم يحظ تيار الصدر برجال بارزين في باقة المعارضة العراقية التي كونتها الإدارة الأمريكية عبر سنوات الحصار لنظام صدام حسين ، ومن ثم لم يلتفت إليه عندما توزعت المناصب على الفائزين بالجائزة الكبرى رغم أن زعيم التيار لم يبد مطالب ضخمة ، فقط كان يمكن استيعابه في مجلس الحكم ، فلماذا أهمله الأمريكيون ، وما الذي يريده الصدر من افتعال الأحداث الأخيرة ؟ .. هذا ما سنحاول الإجابة عليه ..
أولا :
الدافع الرئيس للأحداث هو إثبات الوجود على الطريقة " الزاعقة " التي ابتكرها حسن نصر الله في لبنان ، والتي يلزم لتدشينها في البداية إسالة بعض الدماء ، وذلك في مقابل النهج الأمريكي الواضح لترسيخ إهمال هذا التيار وتهميشه ، والصدريون يسعون إلى إثبات قوتهم عن طريق التظاهرات والاستعراضات العسكرية التي يشارك فيها عناصر من جيش المهدي ، وعن طريق استخدام خطاب حاد اللهجة من مقتدى الصدر يوظف فيه أحداثا خارجية مثل تأييد حماس وحزب الله ونصر الله ، كما أنه أصر دائما على اتباع نهج معارض لإدارة الاحتلال للعراق ، ورفض الاعتراف بمجلس الحكم واعتبر أعضاءه من الخونة ، يقول الناطق الرسمي باسم "مكتب الصدر" في بغداد عباس الربيعي : " الأميركيون وأطراف أخرى يريدون تغييب دور تيار الصدر وعزله عن الوضع السياسي الراهن " .
ثانيا :
بالنسبة للأمريكيين فإن مقتدى الصدر لا يعدو كونه مراهقا سياسيا يناطح الكبار دون أن تكون له إمكانيات حقيقية لذلك ، فهو لا يستطيع أن يدخل في مواجهة طويلة الأمد مع أي طرف ، سواء المرجعيات في النجف أو الاحتلال الأمريكي ، وقدراته الحالية تنحصر في تجييش الأتباع المؤيدين للتيار الصدري بصفة عامة ، وتوظيفهم في محاولات استعراض القوة ، ومع أن جيش المهدي الجناح المسلح يمثل عنصرا هاما في ذلك ، ولكن تبقى قدرته محصورة في المشاغبة السياسية العلنية وبعض العمليات الانتقامية والثأرية التي تعزف على وتر تعدد الدوافع وفوضى المصالح داخل العراق ، ويتوقع بعض الرموز الشيعية والمختصين في الشأن العراقي أن تيار الصدر سوف يستأنس إلى حد كبير لو تم استيعابه سياسيا أو مرجعيا ، وقد سبق لبعض ممثلي مقتدى الصدر أن طالبوا سلطات الاحتلال بإسناد منصب وزير الدفاع إلى أحد أتباعه كنوع من التسوية ، والتصعيد الأخير لا يمكن الاتكال عليه بمفرده في توقع مقاومة عسكرية جديدة يتولاها أتباع الصدر ، فهو تيار مكشوف من حيث رموزه وقادته ، ليس له رصيد استراتيجي يمكنه من خوض مواجهة طويلة الأمد مع الأمريكيين ، كما أنه يدرك أن تبني هكذا مقاومة سوف يعود عليه بخسارة كل مكتسباته وتحوله إلى حركة سرية سرعان ما تذوب ، خاصة وأن الأغلبية الشيعية لا تبدو متحمسة لذلك في ظل احتلال يعتبرها للمرة الأولى في العراق أغلبية مطلقة – 60% - ، ولذلك فقد وجه مقتدى الصدر نداءا إلى أتباعه بأن يكفوا عن التظاهر ويلجأوا إلى أساليب " ترويع " الأمريكيين حسب تعبيره . واللافت هنا أنه بينما كان الصدر يوجه أتباعه للاشتباك مع الأمريكيين ، كان بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق يعلن تعيين علي عبد الأمير علاوي الشيعي وزيرا مدنيا للدفاع ، وهو مكسب كبير للشيعة .
ثالثا :(/1)
تبرز المطالب المشوشة لتيار الصدر هذه الحقيقة ، فقد تمثل المطلب الأكبر في إغلاق صحيفة الحوزة ، وهي وإن كانت الرئيسية إلا أنها ليست الوحيدة الموالية للتيار ، وقرار إغلاقها صدر لمدة شهرين فقط وليس دائما ، والمطلب الثاني كان الإفراج عن اليعقوبي ، ورغم إعلان اتهامه بالتورط في حادثة اغتيال عبد المجيد الخوئي قبل نحو عام ، إلا أن إطلاق سراحه أمر ليس صعبا ، وباقي المطالب تتعلق أصلا بأمور حدثت بعد التظاهرات مثل فك الحصار عن الصدر ، فهل هذه مطالب تسوغ كل هذه الهبة الشاملة التي سقط جراءها حتى الآن أكثر من عشرين قتيلا شيعيا وسبعة في الجانب الأمريكي غير الإصابات ، إن رد فعل الفئات الشيعية المؤيدة للصدر على مقتل أكثر من 170 شخصا في مواطن يقدسونها لم يبلغ واحد على عشرة من موقفهم الأخير ، وهو رد فعل يثير التساؤل والشك . أمر آخر هو طريقة الصدريين الساذجة في التعبير عن غضبهم تجاه الاحتلال الأمريكي ، فهم يتقدمون خطوات يعرفون تماما أنهم لن يستطيعوا الحفاظ عليها ، فما معنى الاستيلاء على مراكز الشرطة في الكوفة ، هل يعتبرون أنفسهم قوة لا تقهر ؟ وهل ستتركهم قوات الاحتلال وتستسلم للأمر الواقع ، أم ستتبع القوة في إخراجهم ؟ .
رابعا :
في محاولة لتفسير الموقف الأمريكي من تيار الصدر يطرح البعض احتمال أن الأمريكيين لا يقصدون تحييد مقتدى الصدر أو القضاء على نفوذه حرفيا ، بل يريدون ترويضه أولا ثم فسح المجال لمشاركة سياسية ثانيا في الفترة المقبلة لإحداث نوع من التوازن – حسب المفهوم الأمريكي - في الفسيفساء الشيعية ، ويقول آخرون أنه ربما يكون الهدف من تهميشه أمريكيا هو الإبقاء عليه كقنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة حسب التوقيت الأمريكي ، كما أنه يمكن أن يبقى بهذه الوضعية القلقة لا في الداخل ولا في الخارج ، طرفا يمكن أن تنسب إليه كثير من العمليات الغامضة التي بلا هدف .
خامسا :
أثارت تصريحات الصدر بأن تياره سيكون اليد الضاربة لحماس وحزب الله دهشة الكثيرون في داخل العراق وخارجه ، خاصة وأن مدير "مكتب الصدر" في بغداد حازم الأعرجي أكد أن تيار الصدر جاد في تطبيق تعليمات زعيمه للتجنيد في صفوف حماس و حزب الله ، ويذكر أن حركة حماس ليس من مصلحتها أبدا أن يبرز مثل هذا التحالف الذي يدعيه مقتدى الصدر ، فهي تقصر عمليات المقاومة فقط في الداخل الفلسطيني ، حتى لا تختلط الأوراق وتدخل في مواجهات لا قبل لها بها ، وهذه سياسة ثابتة للحركة تصر عليها في كثير من المناسبات وآخرها جريمة اغتيال الشيخ ياسين رحمه الله ، وليس هناك لدى الحركة في العراق أهداف تسعى إلى مواجهتها أو يمكن أن تدخل ضمن استراتيجيتها العسكرية الحالية ، فما الذي يمكن للصدر أن يقدمه لهم في العراق ، لا شئ إلا أنه يستغل اسم حماس وشعبيتها كموجة كاسحة يريد الركوب عليها ليخرج من حالة الحصار والبين بين التي يعاني منها العراق . أما حزب الله فلا يستطيع أن يعدو قدره ، فمنذ الانسحاب "الإسرائيلي " من جنوب لبنان ، وهو يعاني من حالة بطالة ثورية دعائية ، يحاول أن يشغلها حينا بإطلاق الصواريخ على المواقع الخالية ، أو بتبادل الجثث والأسرى مع الصهاينة .
سادسا :
عندما يدعي الصدر أنه سيكون اليد الضاربة لحزب الله في العراق ، فإن يخالف مزاعمه التي يصرح بها في كل محفل ، وهي رفضه للسيطرة الإيرانية على المرجعيات في العراق ، وهو يعلم تماما أن حزب الله مرجعياته في إيران وأنه يتلقى دعمه الرئيس من هناك ، فهو ميلشيا إيرانية تشكلت في لبنان ، فلماذا يظهر معارضته لإيران ، ثم يجعل نفسه اليد الضاربة لمندوب إيران في لبنان ؟ !!.. ومواقف الصدر تجاه إيران بصفة عامة غير واضحة ، فهو يظهر رفضه لسيطرة المرجعيات ذات الأصول الإيرانية في العراق ، ولكن هذه المرجعيات ترفض مبدأ الولاية العامة للفقيه الذي تتبعه إيران ، وبالتالي لا تتبنى خيار دولة دينية في العراق مماثلة لإيران ، على الأقل في الظاهر ، بينما مقتدى الصدر يقتفي خطى أبيه فيؤيد دولة إسلامية في العراق ، وإن كان موقفه في هذا الشأن يبدو متذبذبا ، فالإطار العام الذي يفترض أن ينسج من خلاله العلاقة مع إيران هو اغتيال والده صادق الصدر ، بتنسيق بين الإيرانيين والمرجعيات الشيعية في العراق حسبما يعتقد مقتدى ، لكن يقول بعض المراقبين أن هناك تنسيقا أو توظيفا من قبل الإيرانيين لمقتدى الصدر في تحقيق بعض المصالح ، فقد كان اغتيال عبد المجيد الخوئي من قبل أتباع الصدر متوافقا مع المصلحة الإيرانية ، وكذلك اغتيال باقر الحكيم لو صح أن مقتدى مسؤول عنه ، فهو يخدم إيران لأن الحكيم كان يغير توجهاته وولاءاته ، وكان مقتدى الصدر قد فر إلى إيران لعدة أيام بعدما ترددت أنباء عن تورطه في الاغتيال ونقمة رموز شيعية عليه ، إلا أنه عاد بعدها إلى العراق ..
سابعا :(/2)
التعبير الذي استخدمه الصدر في توصيف هذا الدور الدعائي الجديد " اليد الضاربة " ربما يكشف باستخدام التحليل النفسي عن بعض التوجهات الحقيقة لمقتدى الصدر ، فهو يعاني من تبينه لمطلب يلقى جماهيرية بين شيعة العراق ، وهو تشجيع المرجعيات العراقية ورفض المرجعيات غير العراقية ، بينما هو نفسه غير مؤهل لتبني هذا المطلب من الناحية المرجعية ، فهو ليس مؤهلا من الناحية العلمية لأن يصبح مرجعا ، وبالتالي لا يمكنه إلا أن يرتدي فقط عباءة أبيه دون قدرة حقيقة على وراثته علميا ، وهذا يجعله تيارا لا يتمتع بالاكتفاء الذاتي علميا أو سياسيا ، فهو ليس حزيا سياسيا بالمعنى المفهوم ، وليس مرجعية علمية بالمعنى المعروف ، ولذا يبحث دائما عن تأييد أو دعم من أطراف أخرى ، وهنا يبرز مفهوم اليد الضاربة ، فهو لا يريد حقيقة أن يصبح يدا ضاربة لحماس أو حزب الله فلا أهداف لهما في العراق حيث الصدر ، ولكنه يقدم إعلانا واضحا للقوى الفاعلة في المنطقة : هاأنذا قوة ضاربة لمن يريد وعلى من يعترض ، فالعملية لا تعدو ممارسة جديدة لإشكالية البحث عن دور يخرجه من " المزنق " الذي وضعته فيه سلطة الاحتلال الأمريكية ، ولو عن طريق الأمريكيين أنفسهم ..
ثامنا :
سبق لمقتدى الصدر أن تبنى سياسة المزايدة السياسية هذه في التعامل مع أهل السنة في العراق ، محاولا أن يبرز على أنه يقدم النهج الأمثل للعلاقة بين المنظمات الشيعية الفاعلة والسنة ، فهو يحرص دوما على الحديث عن التنسيق وتوحيد المواقف ، بل عرض في إحدى خطبه أن يتولى أتباعه حماية مساجد السنة من الاعتداءات التي تتعرض لها ، فهو محترف في مجال تقديم العروض الدعائية التي لا يمكن أن يقبل بها الطرف المقابل .. خلاصة الأمر أن مقتدى الصدر ظاهرة عراقية صوتية ، وتكمن خطورته الحقيقية في قدرته على تجييش الأتباع والإزعاج المستمر ، وأيضا تنفيذ عمليات اغتيال هنا وهناك لكن دون رؤية استراتيجية واضحة ، ويبدو أن عجز الأمريكيين عن استيعابه سوف يسبب لهم الضرر ولو على المدى القصير ، خاصة لو نجحت أطراف خارجية مثل إيران في توجيه تيار الصدر أو على الأقل الاستفادة منه ..(/3)
الصدقة تغير حياتك إلى الأفضل
غزوان مصري
gazwan@gazwan.com
برهان على صحة الإيمان:
قال صلى الله عليه وسلم
" والصدقة برهان "
سبب في شفاء الأمراض:
قال صلى الله عليه وسلم
" داووا مرضاكم بالصدقة "
تظل صاحبها يوم القيامة:
قال صلى الله عليه وسلم
" كل امرئ في ظل صدقته حتى يُفصل بين الناس "
تطفىء غضب الرب:
قال صلى الله عليه وسلم
" صدقة السر تطفىء غضب الرب "
محبة الله عز وجل:
قال عليه الصلاة والسلام
" أحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولئن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أن اعتكف في هذا المسجد شهر "
الرزق ونزول البركات:
قال الله تعالى
" يمحق الله الربا ويربي الصدقات "
البر والتقوى:
قال الله تعالى
" لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم "
تفتح لك أبواب الرحمة:
قال صلى الله عليه وسلم
" الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء "
يأتيك الثواب وأنت في قبرك:
قال صلى الله عليه وسلم:
" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولدٍ صالح يدعو له "
توفي الصدقة نقص الزكاة الواجبة:
حديث تميم الداري ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً قال: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة؛ فإن كان أكملها كتبت له كاملة، وإن كان لم يكملها قال الله ـ تبارك وتعالى ـ لملائكته : هل تجدون لعبدي تطوعاً تكملوا به ما ضيع من فريضته ؟ ثم الزكاة مثل ذلك، ثم سائر الأعمال على حسب ذلك"
إطفاء خطاياك وتكفير ذنوبك:
قال صلى الله عليه وسلم
" الصوم جنة، والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار "
تقي مصارع السوء:
قال صلى الله عليه وسلم
" صنائع المعروف تقي مصارع السوء "
أنها تطهر النفس وتزكيها:
قال الله تعالى
" خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها "
و قال صلى الله عليه وسلم :
" ما نقص مال من صدقة "
و قال صلى الله عليه وسلم :
" اتقوا النار ولو بشق تمرة "(/1)
الصدقة على غير المسلمين
د. حمد بن إبراهيم الحيدري
السؤال
نحن نعيش في بلد النصارى, ونجد من يسألنا الصدقة عند مرورنا بالفقراء, وأحياناً يسألوننا بالله. فهل يجوز أن نعطيهم صدقة أو مساعدة؟ وهل نؤجر على ذلك؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد قال الله تعالى: "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِن دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الممتحنة:8].
وقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "في كل كبد رطبة أجر" صحيح البخاري (2363)، وصحيح مسلم (2244).
وبناء على ذلك فتستحب الصدقة حتى على غير المسلمين، وقد يكون في ذلك تأليف لهم وترغيب في الإسلام، لكن لو كانوا يستعينون بذلك على أذى المسلمين فحينئذٍ لا تجوز الصدقة عليهم. والله تعالى أعلم.(/1)
الصراط
يوم القيامة هو يوم المخاوف ، فما يخلص الناس من هول من أهوال ذلك اليوم، حتى يدركهم هول آخر . فتمتلئ القلوب خوفاً وفزعاً ، فلا تدري متى تنجو ، ولا تدري أي مصير ستؤول إليه، وبينما الأمم في محشرها ، إذ يأمر الله سبحانه، أن تتبع كل أمة ما كانت تعبده ، فمنهم من يتبع الشمس ، ومنهم من يتبع القمر ، ثم يُذْهَبُ بهم جميعاً إلى النار . وتبقى الرسل مع أممهم وفيهم المنافقون ، فيُنْصَبُ لهم صراط على ظهر جهنم، أحدُّ من السيف وأدقُّ من الشعر، وفي حافتيه خطاطيف وكلاليب ، فيأمرهم سبحانه أن يمروا على ظهره ، فيشتدُّ الموقف ، ويعظم الخطب ، ويكون دعوى الرسل يومئذ اللهم سلِّم سلِّم ، ويكون أول من يجتاز الصراط النبي صلى الله عليه وسلم بأمته ، ثم تتبعهم سائر الأمم من أتباع الرسل ، ويتفاوت الناس في كيفية مرورهم تفاوتاً عظيماً فمنهم من يمر كطرف العين ، ومنهم من يمر كالبرق ، ومنهم يمر كالريح ، ومنهم من يمر كالخيل الجيدة ، وحينئذ فمنهم من ينجو سالماً ، ومنهم من ينجو مخدوشاً ، ومنهم من تخطفه الكلاليب ويلقى به في النار .
والورود على الصراط أمر ثابت بالقرآن والسنة ، أما القرآن فقوله تعالى { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} (مريم:71) . فقد فسر ابن مسعود رضي الله عنه الورود في هذه الآية بالمرور على الصراط ، كما روى ذلك الطبري في تفسيره.
وأما الأحاديث فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل وكلام الرسل يومئذ اللهم سلًم سلِّم ) رواه البخاري و مسلم .
حتى إذا خلص المؤمنون من الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار يتقاصون مظالم كانت بينهم ، وهؤلاء لا يرجع أحدٌ منهم إلى النار ، قال صلى الله عليه وسلم : ( يخلص المؤمنون من النار ، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ) رواه البخاري فهذه القنطرة خاصة بتنقية المؤمنين من الذنوب المتعلقة بالعباد حتى يدخلوا الجنة وليس في قلوبهم غلٌ ولا حشدٌ لأحدٍ ، كما وصف الله أهل الجنة فقال : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (الحجر:47) .
هذا هو الصراط ، وهذه هي أحوال الناس عند المرور عليه ، فتفكر- أخي الكريم- فيما يحلُّ بك من الفزع إذا رأيت الصراط ودقته ، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحتك، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها ، وقد كُلِّفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك، واضطراب قلبك ، وتزلزل قدمك ، وثقل ظهرك بالأوزار ، فيا له من منظر ما أفظعه، ومرتقى ما أصعبه ، ومجاز ما أضيقه . نسأل الله السلامة والعافية . فالعمل العمل ، فهو النجاة من تلك المخاطر والأهوال ، نسأل الله أن يحسن أعمالنا ، وأن يوفقنا لطاعته، حتى نلقاه وهو راض عنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، والحمد لله رب العالمين .(/1)
الصراع بين الحق والباطل من خلال سورة الأعراف
سورة الأعراف (مكية) نزلت بعد سورة (ص) وهي في المصحف بعد سورة الأنعام وعدد آياتها 206.
قذائف الحق على الباطل
نزلت السورة في وقت كان الصراع فيه على أشده بين المسلمين والكفار. وبالتحديد في الوقت الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة. إنها مرحلة جديدة، مرحلة فيها الإعلان والمواجهة، وقد يخجل البعض أو يخاف الأذية.. أنزلت السورة في هذا الظرف وهذا الجو، لتتحدث عن الصراع بين الحق والباطل وأن هذا الصراع سنّة كونية دائمة ومستمرة منذ خلق الله الخلق إلى نهاية يوم القيامة.
فبدأت السورة بالصراع بين آدم وإبليس مع بدء الخليقة وأتبعته بالحوار بين أهل الجنة وأهل النار، وكأن المعنى: هذه هي نتيجة الصراع: فريق في الجنة وفريق في النار. وبعد ذلك رسمت خطاً بيانياً يظهر الصراع في تاريخ البشرية بين كل نبي وقومه، ويظهر أن نهاية الصراع دائماً هي هلاك الظالمين بسبب فسادهم. وبين كل مقطع من هذه المقاطع تسألك السورة: أين أنت من هذا الصراع؟ حدّد موقفك.
وهذا المحور لمناسب جداً لجو الصحابة في المرحلة المكية كما أنه ينعكس على الناس جميعاً في كل زمان ومكان. ففي كل عصر سيعيش الناس مواقف صراع بين الحق والباطل على مستوى الدول والأمم وعلى مستوى الحياة الشخصية أي بين الإنسان ونفسه.
ربما أنت السبب..!
والهدف الذي تدور حوله أحداث السورة ومعانيها هو ضرورة تحديد الموقف وسط الصراع.. حدد موقفك يا مسلم.. في أي الفريقين أنت؟ لا تكن من المتفرجين.
وهذا المعنى يبدو واضحاً في قصص الأنبياء الواردة في هذه السورة، والتي ركّزت على الفصل بين المؤمنين الذين أنجاهم الله تعالى وبين الكفار، مع عدم ذكر أي فئة سلبية أو متفرجة، لأن الأصل أن يكون للإنسان موقف محدد في حياته. ففي قصة نوح مثلاً نرى أن ختام القصة كان: ]فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ[ (64) وفي قصة هود:
]فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ[ (72). وفي قصة لوط: ]وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن
قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ[ (82) ]فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَه[ُ. وفي قصة شعيب: ]قَالَ الْمَلاَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ... فِي مِلَّتِنَا[ (88). وفي قصة صالح: ]قَالَ الْمَلاَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ... لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ[ (75).
وكأن المعنى في هذا كله إما أن تكون مع (الذين آمنوا معه) وإما أن تكون مع (الذين كذبوا بآياتنا) فلا وجود للفئة المتفرجة في هذه القصص.
سبب تسمية السورة بالأعراف
فلماذا سميت السورة بهذا الاسم (الأعراف)؟ يقول تبارك وتعالى:
]وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الاْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ[ (46) أي بين الجنة والنار يعرفون أهل كل منهما فينادون أصحاب الجنة:]وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ[(46) ويخافون من النار ]وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ & وَنَادَى أَصْحَابُ الاْعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ[ (47-48).
فمن هم أصحاب الأعراف؟ إنهم أناس تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فهم لم يحسموا مواقفهم وأعمالهم في الحياة. ولأن الجزاء من جنس العمل، فهم يوم القيامة يحبسون في مكان عالٍ (يسمى الأعراف) بين الجنة والنار، ليشرفوا على المكانين. والمترددون يشملون أصنافاً كثيرة من الناس (لذلك هناك أعراف كثر وليسوا عرفاً واحداً)، فإياك أن تكون أحدهم.. أخي المسلم بادر إلى اتباع طريق الحق ولا تكن اعرافياً، بل احسم موقفك لأنك قد تحرم حتى من أن تكون مع أصحاب الأعراف في حال سوء الخاتمة والعياذ بالله.
آدم وإبليس: فدلاهما بغرور
ومنذ بداية البشرية يبدأ الصراع بين آدم وإبليس الآيات (20 - 22)، فكيف كان إغواء إبليس لأبوينا؟
]فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ[ (22) أي أن طريقة الإغواء كانت بتركهما في حيرة وعدم استقرار، فكان استعمال كلمة (فدلاهما) لتشبيهها بمن يدلو دلوه في البئر ثم يتركه معلقاً وسطه دون أن يحسم مكانه. ولذلك فإن الإيجابية وحسم الأمر من أقوى جند الحق والسلبية والتردد طريق المعصية وإن كان صاحبهما مؤمناً.
العري: سلاح إبليس
لاحظ تركيز إبليس على نوع من أنواع الإفساد: العري، وهذا واضح في الآيات:(/1)
]فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءتِهِمَا[ (20) فماذا كانت النتيجة ]فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءتُهُمَا...[ (22).
لذلك كان الأمر الإلهي بالستر والتحذير من كل مظاهر كشف العورات: ]يَابَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا[ (26).
]يَابَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا..[ (27).
]يَابَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ[ (31).
تعلّموا يا شباب من هذه السورة، أرأيتم كثرة الآيات المحذّرة؟ تعلّموا ستر العورات وغض الأبصار، تعلّموا يا فتيات العفة والحشمة، واحسموا موقفكن من الحجاب بدون تردد، لأن العري سلاح إبليس منذ بدء الخليقة، وانتشاره يساعد على نشر الرذيلة وسهولة المعصية، لذلك كان التعقيب على قصة آدم قوله تعالى: ]قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ...[ (33).
آدم وإبليس: فدلاهما بغرور
ومنذ بداية البشرية يبدأ الصراع بين آدم وإبليس الآيات (20 - 22)، فكيف كان إغواء إبليس لأبوينا؟
]فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ[ (22) أي أن طريقة الإغواء كانت بتركهما في حيرة وعدم استقرار، فكان استعمال كلمة (فدلاهما) لتشبيهها بمن يدلو دلوه في البئر ثم يتركه معلقاً وسطه دون أن يحسم مكانه. ولذلك فإن الإيجابية وحسم الأمر من أقوى جند الحق والسلبية والتردد طريق المعصية وإن كان صاحبهما مؤمناً.
العري: سلاح إبليس
لاحظ تركيز إبليس على نوع من أنواع الإفساد: العري، وهذا واضح في الآيات:
]فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءتِهِمَا[ (20) فماذا كانت النتيجة ]فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءتُهُمَا...[ (22).
لذلك كان الأمر الإلهي بالستر والتحذير من كل مظاهر كشف العورات: ]يَابَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا[ (26).
]يَابَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا..[ (27).
]يَابَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ[ (31).
تعلّموا يا شباب من هذه السورة، أرأيتم كثرة الآيات المحذّرة؟ تعلّموا ستر العورات وغض الأبصار، تعلّموا يا فتيات العفة والحشمة، واحسموا موقفكن من الحجاب بدون تردد، لأن العري سلاح إبليس منذ بدء الخليقة، وانتشاره يساعد على نشر الرذيلة وسهولة المعصية، لذلك كان التعقيب على قصة آدم قوله تعالى: ]قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ...[ (33).
قصص الأنبياء: رسم بياني للصراع عبر التاريخ
وللتأكيد على الرسائل التي تحملها السورة:
1. أن الصراع بين الحق والباطل دائم ولن يتوقف.
2 أن الباطل منهزم لا محالة.
3 أن السبب الأساسي لهزيمة الباطل هو البعد عن الله والفساد بأشكاله المختلفة (الأخلاقي أو الاقتصادي أو الاجتماعي).
تذكر لنا السورة قصصاً لخمسة أنبياء من أنبياء الله ومواجهتهم لأقوامهم. والملاحظ أن هذه القصص قد ذكرت مرات عدة في القرآن، فما الذي يميّزها هنا؟ إنها تخدم هدف السورة في حسم الموقف من الصراع، من خلال:
- إظهار أن عناصر المواجهة بين كل الأنبياء وأقوامهم هي تقريباً نفسها (مع نفس الكلمات أحياناً)، وكل هذا لإثبات قدم الصراع وتكراره مع تغيّر الأشخاص والأمم.
فكانت دعوة الأنبياء كلها واحدة ]يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُم مّنْ اله غَيْرُهُ[ (59).
]أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى...[ (68) وحتى الحجج ]أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ...[ (69).
- انتهاء إلى تكذيب الكفار ]إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ[ (60)، ]إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ[ (66).
- التركيز على نهاية الباطل، تحت قاعدة "الجزاء من جنس العمل".
فقوم ثمود، مثلاً، كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين، فدعاهم أمنهم إلى الاستكبار على دين الله، فكان عقابهم الرجفة (والتي يرافقها الخوف، لأن الخوف ضد الأمن). هذه القاعدة تنطبق أيضاً على قوم لوط الذين أسرفوا في الشهوة الجنسية مما أدى بهم إلى مخالفة الفطرة الإنسانية والشذوذ، وسبب ذلك الإسراف، كما بينت الآية ]إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ النّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ[ (81)، لذلك كان جزاؤهم مطراً من الحجارة.
- التنبيه إلى أن سبب هزيمة الباطل إنما هو الفساد:
ففي ثمود - قوم صالح - كان فساد الترف الزائد هو الذي أهلكهم (الآية 74)(/2)
أما قوم لوط، فكان فسادهم الأخلاقي وشذوذهم الجنسي سبباً لإهلاكهم الآيات (80 - 81).
وأما مدين - قوم شعيب - فكان الفساد الاقتصادي هو المستشري فيهم:
]فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ...[ (85).
- التحذير من الاستكبار، لأنه من أخطر أسباب الهلاك:
فعبارة { قَالَ الْمَلاَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ... } (74) نراها تتكرر مع ثمود ومدين، كما نرى في أوائل السورة التركيز على عبارات { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا... } الآيات (36 و40).
ولا يمكن أن تتكرر عبارة بحذافيرها في القرآن من دون أن يكون هناك معنى مهم جداً ينبهنا إليه ربنا سبحانه.
- التركيز على نجاة النبي والذين آمنوا معه وهلاك الكافرين،
بدون أي ذكر لأي فئة متفرجة أو محايدة. ]فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ...[ ]فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ[
]لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَكَ[ الآيات (64 - 72 - 83 - 88).
حزم بدأ بسجدة
فعندما أتى السحرة لطلب القرب من فرعون ومواجهة موسى عليه السلام، رأوا الآية الدالة على رسالته، فحسموا موقفهم خلال دقائق وكان حسمهم شديداً وفي منتهى القوة: ]فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ & فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ & وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ[ (118-120) بدأ إيمانهم بهذه السجدة المؤمنة وتمسكوا بهذا الإيمان رغم التهديد بالهلاك والتعذيب: ]قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ & رَبّ مُوسَى وَهَارُونَ & قَالَ فِرْعَوْنُ ءامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ...[ (121-123).
وبعد ذلك يقول لهم فرعون ]لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ[ (124) فماذا كان أثر ذلك على موقفهم؟ ]قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ & وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بِئَايَاتِ رَبّنَا لَمَّا جَاءتْنَا[ (125-126) هكذا في إصرار وعدم تردد رغم تهديد فرعون ووعيده، بل أنهم استمدوا الصبر والتمسوا حسن الخاتمة من صاحب الحق: ]رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ...[ (126).
بنو إسرائيل: سلبية وتردّد
وبالمقابل، ترينا الآيات نموذجاً آخر للتردّد وهم بنو إسرائيل، فعندما قال لهم نبيّهم ]اسْتَعِينُواْ بِالله وَاصْبِرُواْ إِنَّ الارْضَ لله يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[ (128) فماذا كان جوابهم؟
]قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا[ (129).
فردّ عليهم موسى ليعلمهم حسن الظن بالله والذي هو أمر أساسي من متطلبات الحسم:
]قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الاْرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ[ (129).
فالآيتان (128 - 129) تؤكدان على أن الحزم وعدم التردد
أمران أساسيان في امتحان الاستخلاف على الأرض، وهذا ما لم يفهمه بنو إسرائيل.
حتى في العقيدة
ويظهر بنو إسرائيل في مواقف أخرى توحي أنهم يعيشون بلا غاية ولا هدى حتى في أمور العقيدة. ففي الآية 138 نرى قوله تعالى ]وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرءيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ[ لقد كانوا منذ قليل يعبرون البحر، وقد رأوا فرعون وجنده وغرقهم، فماذا كان موقفهم التالي: ]قَالُواْ يامُوسَى اجْعَلْ لَّنَا الها كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ[. هذا السؤال الذي ينمّ عن قمة في الجهل أتى في نفس الآية التي تحكي قصة نجاتهم ليرينا الله تعالى حالة التردد وعدم الثبات عندهم.
(فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا)
كانت أغلب أوامر الله لبني إسرائيل تحثّ على تطبيق أمر الله ودينه بقوة.
ففي الآية (145): ]فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا[.
وفي الآية (171): ]خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ...[.
فكيف كان أخذهم لأوامر الله؟
تركهم موسى وذهب للقاء ربه، فماذا فعلوا؟
]وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ[ (148).
فتنكر عليهم الآيات بشدة:
]أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ & وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[ (148-149).(/3)
فهم يشكون من عدم الوضوح والحزم في تديّنهم وعلاقتهم مع الله ،وبذلك يظهر الفارق واضحاً بين السحرة وبين بني إسرائيل، بين تحدي السحرة لفرعون ]فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ[ (72) وبين ]قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا[ (129).
بين ]قَالُواْ آمَنَّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ[ (121) التي أتت دون تردد من السحرة، وبين ]اجْعَلْ لَّنَا الها كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ[ (138) التي صدرت من بني إسرائيل رغم المعجزات الكبيرة التي رأوها.
فمثله كمثل الكلب
وتقوم السورة قبل ختامها بحشد عدد كبير من الأمثال والآيات لتخدم نفس المعنى وتحذِّر المؤمنين من الغفلة وعدم الحسم مع شرع الله ودينه، فيأتي مثال رهيب:
]وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءاتَيْنَاهُ ءايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ & وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاْرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث...[ (175-176).مثال رهيب عن من آتاه الله آياته وهدايته، فانسلخ منها كما تنسلخ الحية من جلدها. ولو أنه بقي على تديّنه لأعزّه الله ورفعه، لكنه آثر الدناءة. فهو كالكلب يتعب ويلهث سواء أكان حاله الغفلة أم المعرفة. مثال رهيب لا بد أن يوقظ كل نائم وكل غافل.
اسجدها... بهذا المعنى
وأجمل ختام للسورة آية فيها سجدة. وهي أول سجدة في المصحف،
حتى نذكر الحزم والحسم والعزيمة.. نذكر سجدة السحرة الذين تحدّوا
فرعون بجبروته وظلمه. كما أن الآية تدعونا إلى إظهار الخضوع لله تعالى بشكل عملي لأنّ حركة السجود تنبّه النفس للتطبيق فتزداد استعداداً لحسم موقفها في الحياة.
بهذا المعنى نسجدها: ]إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ[ (206)..(/4)
الصراع بين الحق والباطل
يتناول الدرس بيان حقيقة الصراع بين الحق والباطل والرابطة التي يتناصر بها أهل الباطل، والتلبيس الذي يمارسونه على أهل الحق، وبيان أن الحق ثابت والباطل طائش والعاقبة للمتقين ولكن النصر يحتاج إلى بذل المجهود واتخاذ الأسباب ، وتناول أيضا ميادين الصراع بين الحق والباطل وأنه تارة يستعلن وتارة يستخفي.
فإن كل ما في الدنيا من أهواء, وأعمال, وآراء : متردد بين الحق والباطل, والهدىوالضلال, والخطأ والصواب ؛ ومسألة الحياد في أمر الحق والباطل ؛ مسألة غير واردة , وحين يقول إنسان : أنا محايد بين الحق, والباطل ؛ يصنف في دين الله وشرعه في قائمة أهل الباطل , ولذلك يقول الله جل وعلاه : } فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ... [ 32 ] {سورة يونس , والحق والباطل بينهما صراع منذ أن خلق الله الإنسان, قال عز وجل: }يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [ 117 ]{ سورة طه ومنذ تلك اللحظة ابتلى الإنسان بكيد الشيطان, وصراعه معه, ومازال الشيطان يكيد لآدم حتى أهبط لهذه الدنيا, وهنا انتقل ميدان الصراع إلى هذه الأرض , يقول الله عز وجل : } بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ... [ 36 ] {سورة البقرة , وبعد هبوط آدم وحواء إلى الأرض ؛ ظلت أجيال من الناس على الهدى قرون طويلة يتوارثون الهدى والإيمان عن أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام كما جاء في تفسير قول الله جل وعلا في سورة البقرة : } كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ... [ 213 ] {سورة البقرة , قال ابن عباس : [ كان بعد آدم عشرة قرون كلهم على الهدى فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ] وهكذا جاء في قراءة ابن مسعود وأبى بن كعب : [ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ] وهذا أحد الأوجه في تفسير الآية, وبناء عليه نستطيع أن نقول : أن الأجيال التالية لآدم ظلت وفية للحق و للتوحيد الذي تلقته عن آدم عليه السلام حتى أثر فيهم هذا الشيطان؛ فانحرفوا عن التوحيد, واندرست معالمه, فاحتاج الأمر إلى بعثة نبي يجدد الإسلام والتوحيد فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .
وبعد بعثة هؤلاء الرسل عليهم السلام صارت الخصومة بين الرسل وأتباعهم, وبين أعداء الرسل من الشياطين و أتباعهم, ولذلك يقول الله تعالى : } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ ... [ 31 ] {سورة الفرقان , فما من نبي يبعث إلا ويتصدى له أعداء من المجرمين, يضعون العراقيل في طريقه ويعترضون عليه بمختلف الوسائل,يقول الله جل وعلا: } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [ 112 ] وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ [ 113 ] {سورة الأنعام , وبعد بعثة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم انحصرت الخصومة بين أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وبين أعدائه , فالنبي صلى الله عليه وسلم كان له أعداء كثيرون من المجرمين,ومن الأكابر: } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [ 123 ] { سورة الأنعام ,وما أبو جهل, وعتبة, وأبو لهب, وشيبة, وغيرهم إلا أمثلة ,ونماذج لأعداء الرسل عليهم السلام, ثم الدين يحاربون دعوته صلى الله عليه وسلم عبر العصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
وبالمقابل بعد وفاة صلى الله عليه وسلم أصبح أولياءه : هم العلماء الذين ورثوا هديه , وتراثه , يقول النبي صلى الله عليه وسلم : [ إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ] رواه أبو داود, والترمذي, وابن ماجه, والدارمي, وأحمد . و بين الله عز وجل أن هذه الأمة سيوجد فيها من يحمل الرسالة , فكلما جاء جيل قيض الله تعالى منهم من يحمل الراية , ويقيم الحجة على أهل هذا العصر , ولهذا يقول الله عز وجل في محكم التنزيل : } وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [ 181 ] { سورة الأعراف , والاسم الخاص الذي ميز الرسول صلى الله عليه وسلم به هؤلاء هو : الطائفة المنصورة , قال صلى الله عليه وسلم : [ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ] رواه الترمذي,وابن ماجه, وأحمد . يهدون بالحق, وبه يعدلون .(/1)
ويقابلهم أعداء الرسل يحاربونهم ويضعون في طريقهم الأذى , والشوك , فلا يضرونهم إلا بالتعب والجهد } لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ [ 111 ] {سورة آل عمران. وأريد أن ألقي الضوء على بعض المسائل المهمة التي وردت في شأن الخصومة بين الحق والباطل في الآيات, والأحاديث :
المسألة الأولى: وهى مهمة للمسلم في هذا العصر: حركة الصراع بين الحق والباطل و فيها ملاحظات :
الملاحظة الأولى: هي الرابطة الوثيقة التي يتناصر بها أعداء الرسل : يقول الله تبارك وتعالى : } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ { كل هؤلاء مصنفون في عداد أعداء الأنبياء , ثم قال تعالى : } يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ... [ 112 ] { سورة الأنعام ويقول الله جل وعلا: } الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ { سورة التوبة , ويقول سبحانه: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ... [51 ] { سورة المائدة , فأعداء الرسل, أعداء الإسلام يتناصرون بمقتضى العداوة وقد يكون بينهم من الخلاف, والصراع الشيء الكثير لكنهم حين يواجهون الإسلام يكونون صفاً واحداً ....فاليهود والنصارى مثلاً : بينهم عبر التاريخ خصومات طويلة , ومع ذلك يقول الله عز وجل : } بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ... [51 ] { سورة المائدة ,يعنى في حرب الإسلام , ومواجهته , وكما قال القائل :
وليس غريباً ما ترى من صارع هو البغي لكن الأسامي تجدد
وأصبح أحزابا تناحروا بينها وتبدوا في وجه الدين صفاً موحد
فهم حين يكون العدو هو الإسلام؛ ينسون خصومتهم الداخلية, والفرعية, ويوحدون الوجهة ضد الإسلام وأهله , فهذا أمر ملحوظ في ولاية أعداء الرسل بعضهم لبعض . و هذا يوجب على حملة الإسلام أنه لابد أن يكونوا أولياء بعضهم لبعض أيضا , وهناك فرق أساسي : بين ولاية الكافرين , وولاية المؤمنين : فولاية الكافرين مبناها على التعصب والهوى؛ لذلك يقول الله عز وجل: }الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ ... [ 67 ] {سورة التوبة , وكلمة : }مِّن { يقابلها الآية في الأخرى : }وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [ 71 ] { سورة التوبة , وبادي الرأي قد يخيل للإنسان أن كلمة : }مِّن { هنا أبلغ , فكيف عبر الله تعالى عن علاقة المنافقين بأن بعضهم من بعض وأما علاقة المؤمنين , فقال : } بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ { هل معنى ذلك أن علاقة المنافقين ببعض أقوى من علاقة المؤمنين ؟ كلا, وإنما السر _ والله تعالى أعلم فيما ظهر لي _ : أن علاقة المنافقين ليست مبنية على منهج , وطريق صحيح يتوالون فيه , بل مبنية على الهوى , والتوافق على الباطل . وأما أهل الحق : فولايتهم مبنية على الحق , فهم أولياء لبعض في الحق , ولذلك لو تخلى أحد منهم عن الحق ؛ تخلوا عن ولايته ، وكذلك لو أخطأ إنسان لما كانت ولايتهم له موجبة لموافقته في الخطأ , ولذلك قال : } بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ { فهي ولاية نبوية على بصيرة , وليست عمياء على مجرد الهوى .
إنه لابد في كل عصر _ وفى هذا العصر بالذات وقد رأينا جميعاً كيف يتوالى أعداء الإسلام على حربه _ من التعاون بين المسلمين على البر والتقوى كما قال الله تبارك وتعالى : } إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ [ 4 ] { سورة الصف , هل تجد أبلغ من هذا الوصف والتشبيه . والبنيان المرصوص لا يمكن أن يجد فيه أحد ثغرة ينفذ منها , أو يتسلل .
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : [ الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ] رواه البخاري، ومسلم, والنسائي, وأحمد .
فالواجب أن لا ينشغل المؤمنون بعضهم ببعض ؛ فإن الحاجة ماسة وداعية إلى أن يجتمع أهل السنة والجماعة تحت الراية الواحدة التي تجمعهم : مهما اختلفت اجتهاداتهم في المسائل الفقهية، و الأمور العملية, ومهما اختلفت اجتهاداتهم في الدعوة إلى الله جل وعلا, ومهما اختلفت بلادهم وآراؤهم, فهذه القضايا ليست مدعاة إلى أن يتفرق أهل السنة والجماعة . وأما إذا كان الخلاف خلافا عقدياً مبنيا على أصول , فهنا لابد من توضيح الأمر, لئلا يلتبس الحق بالباطل على الناس .(/2)
أما أن نتخذ من هذه الخلافات الجزئية الفرعية التي لا تؤثر سبباً للتفرق والخصومة والتنافر, وأن ينشغل بعضنا ببعض , فهذا ليس من الحكمة التي أمر الله تعالى بها.هل من الحكمة أن ينشغل المؤمنون والدعاة والصالحون _ مثلاً _ بالخلاف حول سنة من السنن, أو حول مسألة فقهية , ويتركوا أمرا هم يجمعون على أنه باطل وضلال ؟ ! هناك أشياء كثيرة يتفق أهل السنة والجماعة على أنها : منكرات وضلالات , بل منها ما يتفقون على أنها كفر بالله العظيم .. فلماذا لا يكون هناك تعاون في محاربة هذه الأشياء التي يتفق الجميع على أنها كفر أو ضلال, أو باطل, أو ما أشبه ذلك ... وهذا لا يعنى أننا نمنع الكلام في الأمور الفرعية , كلاً … لا مانع أن يتكلم الإنسان في قضية فرعية , أو في مسألة خلافية, فيبين الراجح من المرجوح بالأدلة, لكن الشيء الذي أقصده : أن لا يتحول هذا الأمر إلى سبب يوجب عدم التعاون بين المؤمنين في أمور يتفق الجميع على أنها يجب أن تقاوم , وتحارب .
وهناك كلمة يقولها البعض , وهى تحتاج إلى شيء من الإيضاح , فبعض الدعاة يقولون أحياناً : يجب أن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه , ونتعاون فيما اتفقنا عليه . وأقول: هذه الكلمة تحتاج إلى إيضاح فلا يجب قبولها, أو ردها بدون أن تحدد : ففي قضايا العقيدة أو الأحكام التي فيها الأدلة واضحة ,ثم يأتي إنسان فيقول فيها برأى من غير اجتهاد فلا يعذر في ذلك . وكذلك التعاون فيما اتفق عليه, فهذا صحيح في إطار أهل السنة والجماعة .
أما مع الطوائف الضالة, فلا, ولابد من وضوح الراية , وتميز المنهج , وليس من المعقول مثلاً: أن أقول : يجب أن نتعاون مع الرافضة فيما اتفقنا معهم فيه, فنتعاون معهم _ مثلا _ في حرب الشيوعية, فهذا غير صحيح, فلابد من وضوح الراية حتى يكون عند الناس تمييز بين الحق والباطل, فداخل إطار أهل السنة والجماعة يمكن أن يتعاون الجميع فيما اتفقوا عليه
الملاحظة الثانية : ملاحظة التلبيس الذي يحدثه أعداء الرسل : لاحظ قول الله جل وعلا: } شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ... [ 112 ] { سورة الأنعام, إذن هناك مؤامرة عالمية, و ليست جديدة كما نتصور....قد تكون تطورت الآن, وأخذت شكلا جديدا, وأسلوبا جديدا, وبعدا جديدا, لكنها قديمة, وهى الحرب الإعلامية ضد الإسلام, وحملته, وحملة السنة, والتي تشوه الحق وتلبسه لبوس الباطل، وتلبس الباطل لبوس الحق بتزيين الألفاظ وزخرف العبارات ، وزخرف القول ؛ لذلك يقول القائل :
في زخرف القول تزيين لباطله والحق قد يعتريه سوء تعبير
تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قىء الزنانير
مدحاوقدحا وما جاوزت وصفهما و الحق قد يعتريه سوء تعبير
فالآية توضح الجهد الذي يبذله أهل الباطل في تزيين باطلهم, وفى تشويه الحق } يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ... [ 112 ] { سورة الأنعام, ولذلك نجد الحملة الإعلامية العالمية اليوم ضد الإسلام تسمي المسلمين: بالأصوليين مثلاً, أو بالمتشددين, أو المتطرفين .... و غير ذلك من العبارات التي تبثها وكالات الإعلام العالمية, وتتناقلها حتى الإذاعات والصحافة في البلاد الإسلامية على أنها عبارات دارجة ويصبح هؤلاء : أصوليون، ومتشددون، ومتطرفون … إلى غير ذلك من العبارات التي يلبسون بها على الناس الحق بالباطل .مثل آخر : قضية الأدب والشعر وغير ذلك من الوسائل المهمة في كثير من البلاد الإسلامية أصبحت وسائل للهدم والتخريب , و تهييج الغريزة والجنس والإثارة, إضافة ألوان كثيرة من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات ، و أعداد هائلة من الدواوين الشعرية التي تسير في اتجاه زخرفة الباطل وتلبيسه بالحق , وهذا يؤكد أن الكلمة من أخطر ميادين الصراع بين الأنبياء وأعداءهم فكلمة الحق لها وقع كبير , وبالمقابل كلمة الباطل لها تأثير كبير, وأهل الباطل يعملون على زخرفة باطلهم بالعبارات الرنانة, والكلمات المعسولة, و الذين ينخدعون بهذه الأشياء هم من قال الله فيهم :} وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ [ 113 ] {سورة الأنعام, إذن لا تروج هذه الأشياء إلا إذا كان هناك خواء روحي وعقلي, فتصبح الشعوب مستعدة لتلقى هذا الزخرف من القول , و لو كان عند الناس وعى ما تأثروا بهذا الباطل .(/3)
وهذا مما يؤكد على أنه لابد لحملة رسالة الإسلام أن يستفيدوا من أجهزة الأعلام مقروءة, أو مسموعة, أو مرئية في الدعوة إلى الحق وحمايته, ونشره وبناء الفضيلة والأخلاق, وأنه لابد من أن يستفيدوا من الوسائل الأدبية : كالقصة, و المقالة , و القصيدة في الوصول إلى كافة الناس من جميع الطبقات , وإيصال الحق إليهم . فليست المحاضرة, أو الدرس العلمي, أو الخطبة, أو الموعظة, هي الوسيلة الوحيدة ,هذه وسائل لا شك في نفعها وأنها مؤثرة ولها جمهور, لكن هناك جمهور آخر لابد له وسائل أخرى؛ لأن الحق لابد أن يصل لكل أذن بقدر المستطاع, و الله تبارك وتعالى بين الصراع في ناحية الكلمة , فقال : } ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء [ 24 ] تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [ 25 ] وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ [ 26 ] { سورة إبراهيم , فالكلمة الطيبة تقارع الكلمة الخبيثة , ولابد أن تقال في كل ميدان , وبكل وسيلة حتى تفعل هذه الكلمة الطيبة فعلها .
الملاحظة الثالثة : هي ثبات الحق ورسوخه وانتصاره وطيشان الباطل وزواله : وهذا ظاهر بين يقول الله تعالى:} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [31] {سورة الفرقان, وهذه الخاتمة : } وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا {إشارة إلى أن الله تعالى ينصر المهتدين, ويؤيدهم, ويحفظهم . و قال تعالى : } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ {سورة الأنعام , ثم عقب ذلك بقوله : } وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ ... [ 115 ] { سورة الأنعام , أي : صدق في الأخبار, وعدل في الأحكام . وفى الآية الثالثة قال } ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء [ 24 ] { سورة إبراهيم , ولما ذكر الكلمة الخبيثة قال : } اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ [ 26 ] { سورة إبراهيم , ثم قال : } يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [ 27 ] { سورة إبراهيم , والطائفة التي تحمل الحق سماها الرسول صلى الله عليه وسلم : الطائفة المنصورة ؛ إشارة إلى أن النصر هو حليفهم في النهاية , طال الزمن, أو قصر .
ولما قال الله عز وجل : }الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ... [ 76 ] { سورة النساء، _ وهذا نموذج من الخصومة بين الحق والباطل, وأن الخصومة قد تكون فكرية , وقد تكون في ميدان القتال _ عقب بقول : }فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [ 76 ] { سورة النساء، ولذلك نقطع بأنه : إذا وجدت معركة حقيقية بين الحق والباطل, ووجد للحق حماته الذين يدافعون عنه _ وهم موجودون لا محالة كما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام _ فإن العاقبة لهؤلاء المتقين : } وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[ 128 ] { سورة الأعراف, }وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [ 132 ] { سورة طه , } وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [ 105 ] { سورة الأنبياء .(/4)
الملاحظة الرابعة: أن هذا النصر الموعود ليس أمرا يأتي بقضاء الله وقدره بدون جهد البشر: يقول تبارك وتعالى : } ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ [ 4 ]{ سورة محمد, فالله تعالى خلق الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم, ويفعلون ما يؤمرون, يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ] رواه الترمذي, وأحمد,وابن ماجه. هؤلاء لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون, خلقهم عز وجل بهذه الصفة, وجعل الإنسان في ميدان الخصومة بين الحق والباطل, ولذلك قال : }وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ[118] إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ... [119]{ سورة هود , فالله سبحانه شاء أن يخلق بشرا يمكن أن يهتدي, ويمكن أن يضل؛ ليتحقق بذلك الاختبار والابتلاء لحكمة يعلمها_ وهو عز وجل أحكم الحاكمين_ فهذا النصر ليس غنيمة باردة يقبضها الإنسان من غير ثمن بل لابد من الصبر والجهاد, وكما أن أهل الباطل يجهدون ويجاهدون ويتعبون, فكذلك أهل الخير, يقول الله تعالى: } وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ [104] { سورة النساء, إذن : الجهد الذي يبذله أهل الباطل يجب أن يبذل أهل الخير ما يستطيعون في مواجهته و} لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا [286] { سورة البقرة، المهم: أن لا يظن الإنسان أن الطريق مفروشة بالورود والرياحين ويكفيه أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لاقوا في سبيل هذا الطريق ما لاقوا : فمنهم: من أُذى ... ومنهم: من أخرج ... ومنهم: من طرد, حتى قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم أول ما بعث :[ لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا] رواه البخاري,ومسلم,وأحمد . وهذا الذي حدث فعلاً حيث أخرج النبي صلى الله عليه وسلم, فخرج حزيناً على, فلما وصل إلى الحزورة, وهو بقلب حزين دمعت عيناه صلى الله عليه وسلم, وقال يخاطب مكة: [ وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ] رواه الترمذي,وابن ماجه,والدارمي,وأحمد .فالطريق شاق وطويل, ويحتاج إلى جهاد دائم من حملة رسالة الإسلام, و الله تعالى يؤيد هذا الجهاد, ولذلك قال:} وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ [104] { سورة النساء, ويبارك فيه ولو كان قليلاً المهم أن يبذل الإنسان ما يستطيع .
المسألة الثانية والأخيرة في هذا الموضوع وهى: ميدان الصراع بين الحق والباطل:
الصراع بين الحق والباطل له ميدانان :
الميدان الأول : هو ميدان النفس البشرية, فالإنسان قابل للهدى والضلال: }وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [7] فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [8] { سورة الشمس, } إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [3] { سورة الإنسان، و الإنسان حين يكون خيراً لا يعنى أن عناصر الشر زالت منه بالكلية بل النفس الآمرة بالسوء موجودة, وكيد الشيطان موجود ولذلك قد يخطئ المستقيم, أو يضل, أو ينحرف عن هذا الطريق أو يتركه حيناً, ثم يعود إليه . وبالمقابل الإنسان المنحرف والضال لا يعنى أنه أصبح شيطاناً رجيماً, فقد يستقيم ويهتدي للخير بل وحتى حين يكون مصرا على الشر الذي هو فيه لا تظن أبدا أنه لا تثور في نفسه نوازع الخير…. لقد حدثني أناس قضوا زمانا طويلاً في ميادين الشر والفساد : أن قلوبهم أحيانا تغلى بمراجل الهم والندم والحزن والرغبة في الإقلاع.(/5)
والمؤمن قد يعصى ولكنه لا يمكن أن يفرح بهذه المعصية ويطمئن إليها بل لابد أن يوجد في قلبه ندم على هذه المعصية, ولذلك يقول الله تبارك وتعالى في صفة المؤمنين: }وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [135] { سورة آل عمران, وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ] رواه الترمذي . والإنسان الطيب لا يخلو من وجود شئ من الشر يحتاج إلى مدافعة وإزالة ومقاومة ولذلك لابد من مجاهدة النفس .
وبالمقابل الإنسان الشرير لا يوجد ما يدعو لليأس منه, أواعتقاد أنه لا خير فيه, رب كلمة توافق قلباً فتتدخل فيه, وتغيره رأساً على عقب , واسأل الذين اهتدوا ؛ تجد أن بعضهم سمع برنامجاً في الإذاعة, أو سمع كلمة طيبة من أحد فتأثر بها _ وربما الذي قال هذه الكلمة لم يحسب لها حساباً لكنها صادفت قبولاً في هذا الإنسان _ فغيرت معالمه ظاهراً وباطناً ...وهذا يوجب على الإنسان الصالح عدم الاغترار؛ لأنه من الممكن أن يتغلب عنصر الشر يوماً من الأيام فينتكس والعياذ بالله, و أيضا : لا ييأس الإنسان من نفسه, ولا من غيره.
فأما اليأس من النفس فإنه من مداخل الشيطان العظيمة على النفوس ... فيأتي مثلاً إلى رجل صالح مع قوم صالحين, أو إنسان يؤم الناس في الصلاة, أو يقرئهم القرآن, أو يعلمهم العلم, أو يدعوهم إلى الله جل وعلا, وقد يكون عنده معصية خفية لايعلمها الناس فيأتيه الشيطان, ويقول له : أنت منافق تتظاهر بشيء, وفى باطنك تعلم أن عندك معاصي , وعندك كذا وكذا, فلا يزال به حتى يقنعه بترك الطاعة التي هو فيها, وقد علمت أن هناك من الصالحين من انحرف لهذا السبب, وليس العلاج بأن يترك الإنسان العوامل الطيبة في نفسه استجابة لداعي الشيطان بل نقول: ضاعف الأمور الخيرة في نفسك, وقاوم بقدر ما تستطيع المعصية, وحتى لو لم تستطيع النجاة منها اليوم, أو غداً لا تعتقد : أن الحل أن تترك أعمال الخير,وخطأ أن تعتقد أن هذا من النفاق؛لأن وجود الكره للمعصية, والحرص على التخلص منها؛ يدل على الخير, وليس مطلوبا منك أن تترك أعمال الخير, و تفعل المعصية, ويتفرد بك الشيطان ... فهذا مزلق خطي يجب أنر ينتبه له الإنسان فلا ييأس الإنسان من نفسه ولا من غيره .
الميدان الثاني : هو الصراع عبر المجتمع , فالجهاد في ميدان النفس لاينتهي, لكن الذين يجاهدون أنفسهم منهم : من ينجح في هذا الجهاد فيكون من أهل الخير,و دعاة الإسلام, ومنهم : من يفشل في هذا الجهاد, ولا يجاهد أصلا؛ فيكون من أهل الشر الذين عرفوا الحق ورفضوه, أو لم يعرفوه أصلا, وهنا يوجد الصراع بين هؤلاء وهؤلاء في الميدان الكبير, ميدان المجتمع وهذا هو الميدان الأخير للمعركة بين الحق والباطل, وبين الشيطان وبين الرسل وأتباعهم؛ ولذلك حرص الإسلام على تحصين المجتمعات من عوامل الفساد,حتى لو وجد فساد على مستوى فردى, فالإسلام حريص على أنه لا ينتشر بحيث يلوث البيئة ,وتوعد الرسول صلى الله عليه وسلم المجاهرين بقوله: [ كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ] رواه البخاري, ومسلم. وذلك: لأن بالمجاهرة انتقلت المعصية من كونها معصية فردية تضر صاحبها إلى كونها معصية عامة تلوث البيئة كلها ,ولذلك في شريعة الإسلام شرع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, والمقصود من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر _ ليس القضاء النهائي على المنكرات؛ لأن القضاء النهائي على المنكرات بحيث يصبح المجتمع سليماً من المنكر بنسبة مائة بالمائة بعيد أو غير ممكن_ وإنما المقصود وقاية البيئة العامة من التلوث؛ لأن البيئة العامة إذا تلوثت أصبح من الصعب على الإنسان أن يستقيم لأنه كما يقال: أصبح يسبح ضد التيار ...وهذا يؤكد أهمية صلاح المجتمع في صلاح أفراده .(/6)
وفى هذا الإطار أيضا تأتي عناية الإسلام بالمظهر الخارجي : عناية الإسلام بشكل الإنسان كتقصير الثياب, و إعفاء اللحى, و عدم التشبيه بالمشركين ... إلى غير ذلك. وبعض الذين عندهم قصر نظر يقولون لك:ما هذه الجزئيات و القشور التي أشغلتمونا بها؟ لا يا أخي هذه قضية لها بعد كبير جدا لأن هذه من شأنها أن تحقق للمجتمع المسلم تميز واستقلالية, وتحفظ المجتمع من الانهيار والمشي في ركاب الأمم الأخرى أو التشبه بهم بحيث يفقد المجتمع المسلم تميزه وصلاحه . والمجتمع لا يلجأ إلى أخذ ما عند الآخرين إلا إذا شعر بالهزيمة والضعف ولذلك عقد ابن خلدون في المقدمة فصلاً :في إقتداء المغلوب بالغالب, ولذلك : لا تجد أن الأعداء يقلدوننا, بل نحن الذين نقلدهم … لماذا ؟ لأننا في حالة هزيمة حضارية, و تأخر في مجال العلم والتقدم الصناعي؛ فأصبحنا ننظر إليهم, ونقتبس منهم .
فالإسلام حرص على تميز المسلم حتى في مظهره حماية ووقاية لهذا المجتمع, و اليوم تجد : أن هناك حربا على المجتمعات الإسلامية بتلويثها : فهذه عصابات المخدرات المنتشرة في العالم جندت نفسها لترويج المخدرات بالذات في البلاد الإسلامية, وبعض البلاد الإسلامية أصبحت مركزا لتحضير, أو تصنيع, أو تهريب, وترويج المخدرات بأنواعها ...وهذا نموذج من محاولة تلويث المجتمع .
نموذج آخر :قضية الوسائل الإعلامية :واستغلال أجهزة الإعلام في التأثير على الناس.... والإعلام له أثر بالغ في تغيير مفاهيم الناس وسلوكهم وآراءهم, و هناك الكثير من القضايا الاجتماعية استطاع الإعلام أن يغير فيها سلوك الناس ويضغط عليهم, و من أمثلة ذلك:
قضية تعدد الزوجات : فلا يكاد يعرض مسلسل في كثير من أجهزة الإعلام الإسلامية يتعلق بموضوع تعدد الزوجات إل,ا ويكون ورائه الحديث عن فشل التعدد وأنه ينتهي بالرجل إلى الهروب من البيت وتحطيم الأسرة وترك الأولاد, والمرأة تذهب ضحية هذا التعدد ومازال الضرب على هذا الوتر حتى يستقر في نفوس الناس أنه فعلاً تعدد الزوجات أمر خطير . حتى وصل الأمر إلى أن تقبل بعض النساء أن تعلم أن زوجها يرتكب الفاحشة و لاتقبل من زوجها مجرد التفكير في الزواج بامرأة أخرى ... هذا جانب من تأثير أجهزة الإعلام .
جانب آخر : ما يسمى بالبث المباشر الذي من أهم أهدافه : زعزعة العقائد الإسلامية,و نشر الأخلاق المنحلة, و الرذيلة بين المسلمين, و تكريس المنكرات في المجتمع بحيث لا تنكر, ولا يفكر أحد في إزالته وربما يضحك الناس من إنسان لو فكر بتغيير المنكرات, لأنها استقرت في نفوس الناس, وتمكنت منها .
و أنت لما تجد كثيار ممن حولك يتعاطون هذا الأمر تجد أنه لا فائدة من حرية و يخيل إليك ذلك,و هذا طبعاً لا يسوغ ,فلا يجوز للإنسان ترك المنكر والسكوت عنه ... لكن هنا ينشأ جانب من جوانب الصراع بين الحق والباطل, وهذا يمر بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: بالنسبة للذين قصروا فيما أوجب الله تبارك وتعالى عليهم: أن الإنسان يسكت عن إنكار المنكر, فيقول بعض المهزومين والمخذولين: أنت تنفخ في رماد,و التيار أقوى منك اترك هذه الأشياء, هذه مرحلة ... فبذلك يترك الإنسان النهى عن المنكر .
المرحلة الثانية : بعد فترة يقع هو في هذا المنكر, فتجد الإنسان الذي كان يقول بالأمس : هذا منكر ولكن لا أنكره على الناس, انتقل إلى وقوعه هو في المنكر .
المرحلة الثالثة : تجد هذا الإنسان أصبح يسوغ المنكر, ويحاول أن يلبسه لبوس الحق ,وخذ مثالا لذلك: الغناء كل النفوس السليمة تعرف أن الغناء حرام, إذا قيل الغناء؛ انصرفت الأذهان إلى الغناء الذي يبث عبر وسائل الأعلام بالموسيقى, وهو امرأة تحن إلى رجل, ورجل يحن إلى امرأة أو يشتاق .... لكن الإنسان لما يرى أن الغناء أصبح قضية موجودة في كل مكان, يسكت عن هذا الأمر أولاً باعتبار أنه أمر انتشر, و نحن ننشغل بما هو أهم منه ... ولما ينتشر هذا الأمر تأتى بعد ذلك مرحلة أخرى: فهذا الإنسان الذي سكت بالأمس عن هذا المنكر أصبح يشارك فيه_ ولو لم يرضاه أو يقر به_ لأنه فرض عليه، بعد ذلك تأتى مرحلة ثالثة : وهى أن هذا الإنسان لا يكتفي بأنه وقع في المنكر, بل صار يبحث عن قول فقهي أو تأويل ضعيف أو رأى شاذ؛ ليقول: أن هذا الأمر حلال مباح, ولا شيء فيه، وهذا يبين لك خطورة تلوث المجتمع, و البيئة العامة .(/7)
و أخيرا : فالصراع بين الحق والباطل قد يحتدم أحياناً, وقد يهدأ أحياناً أخرى, و في وقت :كان الصراع يمر بمرحلة يمكن أن نسميها : مرحلة فتور أو هدوء وكان غالبية الناس في المجتمعات الإسلامية في مرحلة الوسط: لا هم بالصالحين صلاحا يذكر ويتحدث عنه, ولا هم منحرفين انحرافا مشهورا, بل هم وسط فيهم خير, وفيهم تقصير, و الآن أرى أن الموضوع بدأ يتجه نحو الاحتدام؛ ولذلك تجد أن مرحلة الوسط هذه بدأت تتآكل, وصار غالبية الناس : إما يتجهون نحو الخير, أو الشر, والذين في الوسط يقلون تدريجياً, ولذلك تجد الإنسان عندما يتحدث عن الخير والصلاح والمحاضرات والدروس العلمية والصحوة يجد ميدانا خصبا للحديث؛ لأن كثيرا من الناس أقبلت على الخير,وكثير من هؤلاء كانوا بالأمس في الوسط واليوم صاروا في جانب الخير .
و بالمقابل هناك أناس آخرون استهلكتهم التيارات المنحرفة, و المذاهب الضالة، و البدع، و الخرافات، وألوان الانحراف الموجودة فبدأ الأمر يتميز, وبدأت المجتمعات تتميز _ كما ورد في بعض الآثار _ إلى : معسكر إيمان لا نفاق فيه, ومعسكر نفاق لا إيمان فيه … وهذا الاحتدام في الصراع بين الحق والباطل يبدو لي أنه مؤشر إلى أن الصراع بدأ يكون علنيا, وليس خفياً, ولذلك تجد الآن الصراع في الميدان العام وهذا يؤكد على حملة رسالة الإسلام, و الناس عموماً :ضرورة تحديد الموقف, وأن الحياد لا مكان له .
الصراع بين الحق والباطل، للشيخ سلمان بن فهد العودة(/8)
الصراع في الفكر الغربي بين الفردية والجماعية
إعداد:الشيخ/أبوزيد بن محمد مكي المحاضر بجامعة أم القرى 18/4/1424
18/06/2003
المقدمة
الحمد لله , والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فإن من حكمة الله سبحانه وتعالى في خلقه للإنسان أن جعل فيه صفات تبدو في الظاهر متضادة متناقضة , مثل صفة الحب مع البغض , والخوف مع الرجاء , والاتجاه إلى الواقع مع الاتجاه إلى الخيال , والسلبية مع الإيجابية .. وهذه الصفات إذا أعملها الإنسان في مجالها الصحيح , فإنه لا يحدث بينها أي تضاد أو صراع , بل يكون بينها من التوافق ما يؤدي إلى سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة .
وإن من أخطر الصفات التي تبدو في الظاهر متضادة متناقضة : إحساس الإنسان بفرديته , وإحساسه بالميل إلى الاجتماع بالآخرين , وقد انقسم الناس تجاهها إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : من اهتم بالجانب الفردي على حساب الجانب الجماعي .
والقسم الثاني : من اهتم بالجانب الجماعي على حساب الجانب الفردي .
والقسم الثالث : من اعتقد الانفصام بينهما , فحاول التوفيق بمحاولة خاطئة .
وإن السبب الحقيقي لهذا الاختلاف يعود إلى عدم فهم حقيقة النفس البشرية , وأنها لن تسعد وتستقيم إلا بالاهتمام بالجانبين المتضادين معاً , وإعطاء كل واحد منهما غذاءه المناسب له , وهذا ما يقدمه الإسلام للإنسان , فإنه كما يغذي الجانب الروحي , يغذي الجانب المادي , وكما يغذي الحب في مجاله , هو يغذي الكره في مجاله , وكما يغذي الخوف فهو يغذي الرجاء , وهنا : كما يغذي الفردية , فهو يغذي الجماعية , ويوفق بينهما توفيقاً يؤدي لصلاح الفرد والمجتمع , بإذن الله تعالى .
وقد أحببت الكتابة في موضوع الفردية والجماعية عبر المباحث التالية :
المبحث الأول : المذهب الفردي .
المبحث الثاني : المذهب الجماعي .
المبحث الثالث : المذهب التلفيقي .
المبحث الرابع : المذهب الإسلامي .
وقد قسمت كل مبحث إلى مطالب تفصيلية , ثم ختمت المباحث بخاتمة ذكرت فيها أبرز النتائج , سائلاً الله تعالى الإعانة والإخلاص والتوفيق .
المبحث الأول : المذهب الفردي
المطلب الأول : حقيقة المذهب الفردي
يقصد بالفردية : اهتمام المرء بنفسه , ومحافظته على ذاتيته , واستقلاله وكيانه(1).
يرى أصحاب المذهب الفردي أن الإنسان فردي النزعة,وأن المجتمع مفروض عليه من خارج نفسه,متحكم فيه بغير إرادته ,ومن ثمَّ فهو مكروه ,وتفتيته وتفكيكه حلال(2).
يقوم المذهب الفردي على إبراز كيان الفرد حتى يجعله مقدساً , يحرم على المجتمع المساس بحريته , وليس له أن يحرِّج عليه , وليس له أن يقول له : هذا خطأ وهذا صواب (3).
وقد نتج المذهب الفردي في الغرب لعدة أسباب أبرزها:(4)
1-ردة فعل للطغيان الكنسي , وفرضه سلطاناً مذلاً على كاهل الناس .
2-ردة فعل لاستبداد الإقطاعيين بالأفراد , وسلبهم حقوقهم وحرياتهم .
3-الانقلاب الصناعي الذي حدث في عصر النهضة الأوروبية , والذي أحدث تغيراً كاملاً في صورة المجتمع , وقدم العمال فرادى من الريف , كل منهم يسعى لتحقيق ذاته , ونفع نفسه .
4-تشجيع الرأس مالية للمذهب الفردي , لقيامه على أساسه , ومدافعته عنه دفاعاً عنيفاً , وكان شعارهم الذي رفعوه : " دعه يعمل . دعه يمر " , أي : دع الفرد يعمل ما يشاء بلا حواجز , دعه يمر بلا عوائق . فكانت دعوة للانطلاق من القيود(5).
المطلب الثاني : أبرز روَّاد المذهب الفردي :
يعتبر , كارل روجرز , عالم النفس الأمريكي , رائد هذا المذهب , والذي وجهه إلى ميدان علم النفس والتربية . وهو ينادي بوجوب إتاحة الفرصة للأفراد للعيش في عالم متحرر من ضغوط المجتمع , وليختاروا القيم التي تنبع من داخلهم . فهو يود تحرير الأفراد من القيود المدمِّرة – كما يسميها – التي يفرضها المجتمع عليهم(6).
1-ويعتبر المذهب الفردي امتداداً لآراء فرويد وآراء مدرسة التحليل النفسي , والذين يزعمون بأن الفرد هو الضحية الدائمة للمجتمع , وأن المجتمع شيء مفروض على الإنسان من خارج كيانه , وضاغط عليه , وكابت لرغباته , ومعوِّق لنموه الأصيل(7).
2-وتعتبر الرأسمالية في الغرب قائمة على أساس فردية الإنسان , فتوسع له في حدود فرديته , وتترك له حرية التصرف في كثير من الأمر حتى يصل إلى حد إيذاء نفسه وإيذاء الآخرين , تحت ستار الحرية الشخصية(8).
3-وكذلك يتبنى هذا المذهب علماء النفس الفرديون , والذين ينظرون إلى المجتمع من وجهة نظر الفرد , فيبالغون في تقديره كشخصية مستقلة , لها كيانها المنفصل عن الآخرين , كما يبالغون في الحجر على حق المجتمع في تأديب الفرد الخارج على طاعته(9).
4-وكذلك ينادي بهذا المذهب:الوجوديون وغيرهم من المنحلين,الذين يقولون بأن المجتمع لا يضره شيء في أن يستمتع الفرد بحريته في شئونه الشخصية,لأنه الفرد هو الأصل,وهو الذي ينبغي أن يتحقق له وجوده الكامل,رضي الآخرون أو غضبوا(10).(/1)
المطلب الثالث : فلسفة التربية الحديثة في المذهب الفردي .
يرى أصحاب المذهب الفردي أن التربية يجب أن تنطلق من الفرد وتنتهي بالمجتمع , وعليها أن تساعد الأفراد للتحرر من القيود التي فرضها عليهم المجتمع .
إنهم يرون أن الأفراد يتسترون خلف قناعات زائفة تخفي حقيقتهم الأساسية , هذه القناعات الزائفة هي القيم التي يفرضها المجتمع عليهم , وهم في الواقع يؤمنون بأشياء أخرى غيرها , فلابد إذن أن تساعدهم التربية على إخراج القيم النابعة من داخلهم , وتحطيم القيود المفروضة عليهم من خارجهم , وبذلك يتعامل الأفراد مع بعضهم طبقاً لرغباتهم الفطرية المتحررة من القيود التي نسجتها اتجاهات المجتمع وقيوده(11).
المطلب الرابع : نقد المذهب الفردي .
1-أول نقد يوجه للمذهب الفردي أنه اهتم بجانب من الإنسان – بغض النظر عن كيفية الاهتمام – وأهمل جانباً آخر , وبالتالي فلن يتوازن الإنسان , ويكتمل نموه , فهو قد أهمل الجانب الجماعي في الإنسان , وهو حاجة ورغبة ملحة فيه.ففي الإنسان هذه الطبيعة المزدوجة : الميل إلى الفردية , والميل إلى الجماعية,وكلاهما أصيل فيه,فلابد من العناية بهما معاً,وإلا حصل الاضطراب في باطن النفس,وفي واقع الحياة(12).
2-لقد وسعوا في دائرة الفردية حتى خرجوا بالإنسان إلى الأنانية المرذولة , وساهموا في تفكيك المجتمع , وتشتيت طاقات(13).
3-اعتبارهم المجتمع مفروض على الفرد خطأ , لأن المجتمع ناشئ من داخل كيان الفرد , ناشئ من رغبته في الاجتماع بالآخرين , ونقصد بالمجتمع : المجتمع الطبيعي الذي ينشأ من تلاقي الأفراد , لا نقصد به المجتمع المنحرف , وهم كذلك لا يقصدونه , وإنما يقصدون أي مجتمع هو مفروض على الفرد , معوِّق لنموه , والصحيح بأنه ما هو إلا تكملة طبيعية للفرد , وامتداد طبيعي يجد فيه الفرد وجوده المتكامل السليم(14).
4-إن خروج الأفراد على تقاليد المجتمع الصحيحة دون رادع,وتنازل المجتمع عن تقاليده تلك نتيجة الحتمية:انهيار المجتمع بكارثة تصيبه من الداخل أو الخارج,وتؤدي في النهاية إلى حرمان أولئك الأفراد أنفسهم مما كانوا غارقين فيه من المتاع المباح(15).
5-إن المذهب الفردي ينفي عن الإنسان كل هدف أبعد من هدف المصلحة المباشرة القريبة , وينفي عن الإنسان عنصر التطلع إلى ما هو أبعد من الذات(16).
المبحث الثاني : المذهب الجماعي .
المطلب الأول : حقيقة المذهب الجماعي
يقصد بالجماعية : ميل الإنسان إلى العيش في الجماعة , والتعايش معها(17).
يرى أصحاب المذهب الجماعي أن الإنسان جماعي النزعة , وأن الواجب على الفرد أن يغمس نفسه في المجتمع , ويفنى فيه من أجل صالح المجموع .
ويرون أن الوجود المستقل للأفراد عن الجماعة وهم من الأوهام(18).
ويبالغ أصحاب المذهب الجماعي في إبراز كيان المجتمع حتى يجعلون منه كياناً مقدساً , والفرد لا قداسة له ولا كيان , ولا يحق له أن يملك , ولا يحق له أن يصوغ أفكاره وعقائده وأخلاقه وتقاليده . لا يحق له أن يعترض على عمل المجتمع , أو يصفه بأنه خطأ أو صواب . إنهم في الحقيقة يؤلهون المجتمع , ومن يصنع ما يحلو له , ويجعلون الفرد عبداً خاضعاً له(19).
وقد قام المذهب الجماعي لعدة أسباب أهمها :
-1- رد فعل للمذهب الفردي الرأسمالي .
يقول سيد – رحمه الله - : "إنه جموح جديد ينشأ من رد فعل لجموح قديم , وداء جديد تعالج به البشرية من داء قديم . وتحطيم لخصائص الإنسانية في جانب لإنقاذه تحطم خصائصه الأساسية في جانب آخر"(20).
-2- ولأنهم يرون أن الذات الإنسانية محدودة بالزمان والمكان , بخلاف الجماعة , وأن الفرد إنما وجد من أجل نفع الجماعة , ولذلك فالقوى الاجتماعية هي التي تشكل الفرد من أوله لآخره , وليس لكيان الفرد الداخلي أي دور(21).
المطلب الثاني : أبرز روَّاد المذهب الجماعي .
1-يعتبر هيجل من أول من دعا للمذهب الجماعي , ونادى بأن يكون الأفراد تروساً نافعة في أجهزة المجتمع المعقد , وأن يفنوا فيه من أجل صالح المجموع .
2-وقد قام ماركس بهذا المذهب بكل قوة , ودعا المجتمع أن يكبت بوحشية الذاتية الفردية بمساعدة الذاتية الجماعية , حتى يثور الإنسان ضد ضميره الأخلاقي , وضد الحقيقة والعدل , وضد رب الوجود(22).
3-وكذلك يرى هذا المذهب عالم الاجتماع "دوركايم" , ويقول بأن المجتمع قوة قائمة بذاتها, غير نابعة من كيان الأفراد, ومؤثرة في الأفراد بإرادة مستقلة عن إرادتهم (23).
4-وقد قامت الشيوعية في الشرق على هذا الأساس , فوسعت في دائرة الجماعة ( الدولة ) , وحجرت على نشاط الأفراد إلاَّ فيما يتعلق بالنشاطات الحسية الغليظة , ومنعت مشاركتهم الفعلية في سياسة الحكم وسياسة المجتمع , وفرضت عليهم النظم بدعوى أنها أعرف منهم بمصالحهم(24).
المطلب الثالث : فلسفة التربية الحديثة في المذهب الجماعي .(/2)
يرى أصحاب المذهب الجماعي – دوركايم وأمثاله – أن وظيفة التربية هي نقل الثقافة الاجتماعية إلى الفرد الناشئ . فالتربية تبدأ بالمجتمع وتنتهي بالفرد .
إنهم يرون أن الحياة الحقيقية النافعة تكون بقيام المجتمع وتوثيق روابطه , وبالتالي فالمجتمع يحتل عندهم المكانة الأولى ثم يأتي بعده الفرد , فوظيفة التربية يجب أن تكون منصبة في تطوير الروح الجماعية عند الأفراد . فمحور أهداف التربية في المذهب الجماعي هو المجتمع وليس الفرد .كذلك يرى أصحاب المذهب الجماعي أن مسئولية التربية تقع على الدولة , والتي عليها أن تعد المعلمين والمدارس إعداداً مناسباً للقيام بالوظيفة بالشكل الذي ترغب به الدولة (25).
يهتم أصحاب المذهب الجماعي في تربيتهم للأفراد بتقديم معلومات محددة مناسبة للعمل والوظيفة التي يقوم بها أولئك الأفراد . ويهتمون بقضية التعويد على الإذعان والخضوع للسلطة , ويرن أنها من أهم مقومات نجاح الفرد , فالتربية للعمل في المصانع , لا تتطلب عمالاً يناقشون في الصواب والخطأ والحقوق والواجبات . ولذلك فإن علاقة المعلم بتلاميذه , والمدير بمعلميه علاقة تنفيذية , قائمة على السلطة والتعليمات , وإصدار الأوامر , وتنفيذ القرارات , مثل التربية العسكرية التي تجفف إرادة الفرد , وتجعله ينفذ الأوامر دون تساؤل أو تفكير(26).
المطلب الرابع : نقد المذهب الجماعي
1-يقوم المذهب الجماعي بالاهتمام بجانب من الإنسان – بغض النظر عن كيفية – وإهمال جانب آخر فيه , وهو الجانب الفردي , وبالتالي يختل كيان الإنسان , ويفقد سعادته(27).
2-إن معاملة الفرد على أنه حركة لا إرادية في أيدي المجتمع الشديدة إنكار للعلاقة الفردية بين العبد وربه , وهي علاقة فطرية ضرورية للإنسان , لا صلاح للفرد بدونها , والعبد مسئول فرداً يوم القيامة عن أعماله , ولذلك فليس هو ملك للمجتمع يصرفه كيفما يشاء , بل له القدرة والاختيار في أعماله وأقواله(28).
3-إن اعتبار الجماعة أسمى من الأفراد خطأ, وإنما خلقت الجماعة كقوة تكميلية للأفراد(29)
4-إن المذهب الجماعي يقضي على تميز الأفراد , ولا ينشئ إلا مجتمعاً مستضعفاً خانعاً , لأن أفراده أصفاراً لا وجود واقعي لهم , ليس لديهم القدرة على رفع ظلم عن مظلوم , لا بكلمة ولا بفعل , طالما أن المجتمع أراد ذلك.أي:الحاكم والسلطان على الحقيقة(30).
5-إن الواقع المحسوس يرد على المذهب الجماعي كما يرد على المذهب الفردي وهو أن كل فرد هو في ذات الوقت كائن مستقل , وعضو في جماعة , ولا تكاد توجد لحظة واحدة ولا فكرة ولا عمل يمكن أن يزاوله الفرد بإحدى صفتيه دون الأخرى , وإن بدا في ظاهر الأمر أن هذا مستطاع(31).
المبحث الثالث : المذهب التلفيقي
المطلب الأول : حقيقة المذهب التلفيقي
يراد بالمذهب التلفيقي : المذهب القائم على وجود انفصام بين النزعة الفردية والنزعة الجماعية عند الإنسان , وعلى وجود صراع بين الفرد والمجتمع , فيلفِّق مذهباً فردياً ولا جماعياً , وإنما مذهباً نفعياً قائماً على استغلال تبادل العلاقة بينهما إلى أقصى حد .
يرى أصحاب المذهب التلفيقي أن أساس الخطأ عند المذهب الفردي وعند المذهب الجماعي هو الفصل بين الفرد والمجتمع , ووضع مصلحة كل واحد منهما ضد مصلحة الآخر , وأن أياً منهما لا يحقق وجوده إلا بالتغلب على الآخر , فهم يوافقونهم على وجود الانفصام لكن يخالفونهم في طريقة العلاج , فالمعالجة عندهم تكون على وفق ما يحقق المصلحة والمنفعة للجميع(32)
المطلب الثاني : أبرز روَّاد المذهب التلفيقي :
يعتبر جون ديوي من أبرز دعاة هذا المذهب (33),فديوي يعتقد بوجود تأثير كبير للبيئة والمجتمع في أفكار الناس ومعتقداتهم وميولهم(34), ويرى في الوقت ذاته أن للفرد قدرة كبيرة في تغيير نظم المجتمع بما يوافق مصلحته . فمذهب ديوي كما هو معروف قائم على النفعية , وقد يسمى بالذرائعية , وهو محارب لكل شئ من شأنه أن يقف أمام الحرية الشخصية , أو يضع العقبات في سبيل التطور الاجتماعي , فهو يشجع كل مسعى يراد به تنظيم الهيئة الاجتماعية من جديد(35).
المطلب الثالث : فلسفة التربية الحديثة في المذهب التلفيقي :
يرى ديوي أن الفلسفة بإمكانها معالجة انفصام العلاقة بين الفرد والمجتمع . وأن وظيفة التربية تقوم على استغلال تبادل العلاقة بينهما إلى أقصى حد .
ويرى أن الوسيلة لتحقيق هذا الهدف هو الذكاء الإنساني , المتضمن لقوة الملاحظة التي تمكن الفرد من تحديد المشكلات وتحليلها وتقييمها ثم حلها .
فيرى أن بالذكاء يمكن للفرد إعادة تقييم المهارات والعادات والتقاليد الاجتماعية , وتقرير النافع منها.
ويقرر بأن العقل لا ينمو من خلال فرد يطيع المجموع طاعة عمياء , ولا من خلال مجمع يصب الأفراد في قوالب محددة من السلوك ,وإنما ينمو من خلال الحوار وحرية الرأي التي تؤدي إلى إيجاد العقل الاجتماعي.(/3)
ويريد ديوي بالعقل الاجتماعي : المؤسسات الاجتماعية التي تفكر بمصلحة الجميع , وتحسين نوعية الفرد .
إذن فديوي يرى أن التربية واجب عليها أن لا تقيد الفرد أثناء تعليمه بقيود , بل توفر له الفرصة للتدرب على حل المشكلات , وتعطيه الفرصة ليتعلم بنفسه , ويتفهم آراء الآخرين , ومن هؤلاء الناضجين تتكون المؤسسات الاجتماعية والتي من شأنها أن تضع القرارات والقيود , وتشكل القيم التي توضع بعد ذلك ضوابط للأفراد(36).
المطلب الرابع : نقد المذهب التلفيقي(37):
1-يقوم المذهب التلفيقي على اعتقاد انفصام العلاقة بين النزعتين الفردية والجماعية عند الإنسان , وهذا خطأ أيضاً , فكما تقدم أن لكل نزعة دور مهم تقوم به في حياة الإنسان , وأن إعمال كل منهما في مجاله يؤدي لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة .
2-يعتبر هذا المذهب متناقض مع نفسه , ففي الوقت الذي ينادي بوضع أهداف تربوية متمركزة حول إعداد الفرد , وجعل التلميذ سيِّد نفسه , يضع أهدافاً متمركزة حول المصالح الاقتصادية , ويطالب بتربية الطالب على الخضوع والانقياد لمتطلبات العمل في المؤسسات الصناعية .
فهو في الوقت الذي يدعو فيه إلى توسيع المعلومات لإعداد الفرد , يطالب بإعطاء الطالب معلومات محددة تعده للوظيفة المناسبة , وفي الوقت الذي يدعو فيه تربية الطالب على التأمل والتفكر , يربيه على الخضوع والإذعان للسلطة ولأصحاب العمل . وفي الوقت الذي يدرب فيه الطالب بأن يخطط مستقبله باستقلال ووعي , يدربونه على كيفية تقبل أي وظيفة تسند إليه .
ولذلك فقد احتار المربون الأمريكيون في هذه المشكلة , فمنهم من مال إلى أسلوب النعامة أي : دفن الرؤوس في الرمال , وتجاهل هذا التناقض , ومنهم من يرى بأن الحل لذلك أن بانفصال أهداف التربية , فأهداف تربية الفرد منفصلة عن أهداف المجتمع الصناعي .
3- ينتهي مذهب جون ديوي إلى خدمة المذهب الاقتصادي الرأسمالي فهو في حقيقته تربية ترويضية للناشئة على تقبل النظام الاقتصادي القائم , وتنفيذ سياساته , والدفاع عنه , معدم الانتباه لنقائصه , لأنه صادر عن العقل الاجتماعي , فهو صادر عن حرية الفرد , ولذلك تؤخذ المناهج والنظريات التي تدرس للطلاب عن طريق أصحاب العمل .
المبحث الرابع : المذهب الإسلامي في الفردية و الجماعية .
المطلب الأول : حقيقة المذهب الإسلامي في الفردية والجماعية .
إن سبب اختلاف المذاهب السابقة في الفردية والجماعية يعود إلى اختلاف تصوراتهم عن الطبيعة البشرية(38)ولقد هدى الله أهل الإسلام إلى الحق في ذلك بما علَّمهم في القرآن , وفي السنة , من بيان لحقيقة النفس البشرية , والطبيعة الآدمية , وأنها مخلوقة من قبضة من الطين,سرت فيها نفخة من روح الله,ولذلك فطبيعتها فيها المتضادات:الطين والروح,والحب والكره , والخوف والرجاء,..,وكذلك الفردية والجماعية(39).
يرى أصحاب المذهب الإسلامي أن الفردية والجماعية من أخطر الخطوط في الطبيعة البشرية , وعليهما – في صورتهما الصحيحة أو المنحرفة – تقوم نظم الحياة كلِّها , صالحها أو فاسدها , وعلاقات الحياة كلها , سويها أو منحرفها , وسلوك الأفراد والجماعات(40).
وتقوم نظريتهم على أساس الاهتمام بالنزعتين معاً , دون إغفال لإحداهما , أو المبالغة في تقدير واحدة منهما على حساب الأخرى(41).
يقول محمد قطب : "ففي كل نفس سوية ميل للشعور بالفردية المتميزة , بالكيان الذاتي , وميل مقابل للاندماج في الجماعة والحياة معها وفي داخلها , ومن هذين الميلين معاً تتكون الحياة . ومن ثمَّ لا يكون الإنسان فرداً خالصاً , ولا يكون أيضاً جزءاً منبهماً في كيان المجموع"(42).
ويقول : "لا تمر على الإنسان لحظة واحدة يكون فيها فرداً خالص الفردية قائماً بذاته . ولا تمر عليه لحظة واحدة يكون جزءاً من القطيع غير متميز الكيان , عملية مستحيلة, غير قابلة للتحقيق .
في أشد اللحظات فردية يحمل الإنسان في قلبه مشاعر تربطه بالآخرين .
وفي أشد اللحظات جماعية يحس – بأنه على الأقل – هو الذي ينفذ رغبة الجماعة بذاته , بكيانه الفردي"(43).
المطلب الثاني : أبرز روَّاد المذهب الإسلامي .
مما لا شك فيه أن المذهب الإسلامي في الفردية والجماعية قد جاء واضحاً جلياً في القرآن والسنة , وقد تربى عليه جيل الصحابة والتابعين , ومن بعدهم . فقد جاء في القرآن بأن كل إنسان يحاسب على عمله فرداً , وجاء فيه الأمر بالتعاون مع المجتمع على البر والتقوى , وجاء فيه حث الإنسان أن لا يكون إمَّعة , فيسير مع المجتمع كيف سار , بل عليه أن يحسن إذا أحسنوا , ولا يسيء إذا أساءوا , وجاء فيه الحث على السمع والطاعة لولاة الأمر ما لم يأمروا بمعصية , فالسمع والطاعة إنما تكون في حدود الشرع , وهكذا .(/4)
وعندما ظهرت في العصور المتأخرة الرأسمالية متبنية للمذهب الفردي ,وظهرت الشيوعية متبنية المذهب الجماعي , قام مفكروا الإسلام يوضحون موقف الإسلام من الفردية والجماعية , فكان من أوائل من تصدى لهذا الموضوع : سيد قطب رحمه الله في كتابية : الإسلام ومشكلات الحضارة , والسلام العالمي والإسلام .
ثم تناول محمد قطب–حفظه الله–هذه القضية بشيء من التفصيل في العديد من كتبه مثل:الإنسان بين المادية والإسلام,ودراسات في النفس الإنسانية,ومنهج التربية الإسلامية,وفي النفس والمجتمع,وغيرها من الكتب.ثم تتابع بعد ذلك علماء النفس وعلماء الاجتماع وعلماء الاقتصاد ممن يتبنى الإسلام عقيدة ومنهجاً بإيضاح هذه القضية(44).
المطلب الثالث : فلسفة التربية في المذهب الإسلامي
يمكننا أن نقول بأن فلسفة التربية في المذهب الإسلامي تقوم على الأسس التالية: الأساس الأول : تغذية الفردية في الإنسان .
الأساس الثاني : تغذية الجماعية في الإنسان .
الأساس الثالث : التوفيق بين الفردية والجماعية في الإنسان .
الأساس الأول : تغذية الفردية في الإنسان :
إنَّ الاهتمام بالجانب الفردي في الإنسان , والعناية به , يثمر ثمرات عديدة منها :
1-عدم تعلق القلب بغير الله تعالى , وإخلاص العبادة له .
فإن الفرد الذي لا يربي نفسه على الاستغناء عن المخلوقين , والزهد عما في أيديهم من أموال ومناصب ومتع الدنيا , فإن قلبه يتعلق بهم تعلقاً قد يصل به إلى الشرك بالله , وقد يصل به إلى الذلة والمهانة لهم , وقد يناله العذاب منهم من جرَّاء ذلك .
2-الثبات على دين الله تعالى , والقدرة على مواجهة المصاعب والمشاق .
إن الفرد الذي ربى جانب الفردية فيه , لديه من الاستعدادات والقدرات ما يجعله يثبت عند المحن والشدائد , بخلاف الذي أسلم قيادة نفسه للجماعة , تفكر له , وتعتني به, فإنه بمجرد انفراده عنها يضيع وينحرف .
3-مضاعفة النشاط والجهد .
لأنه يعلم أن المحاسبة على الأعمال يوم القيامة فردية , وأن جهده في الدنيا يحقق مصلحة نفسه , ويحقق ذاتيته .
4-تحرير العقل والإرادة من اعتداء الآخرين عليهما .
إن الذي ربى نفسه على أن يفكِّر لها , وينظر فيما يصلحها , ويسير وفق ذلك , بالضوابط الشرعية , فإنه يصعب على الآخرين السيطرة عليه بأهوائهم , ولذلك تجده سرعان ما ينجو من انحرافات الجماعات , ويتحرر من استبداد الطغاة , ويدافع عن نفسه, ويجهر بالحق , ويشارك بالرأي , ولا يسلم نفسه لتقاد بغير شرع الله .
ولمَّا كان لتنمية الجانب الفردي هذه الفوائد العديدة وغيرها كثير , فقد حرص الإسلام على تغذية هذا الجانب من نواحي متعددة منها :
1- ربط القلب البشري بالله تعالى(45):
ويكون ذلك بتعريف الفرد بنعم الله تعالى عليه , وتعريفه بأسماء الله وصفاته وأفعاله ومنها : سعة علم الله , وسعة قدرته , وعظيم إبداعه , وأن الخير بيده , والشر بيده , والحياة والموت بيده , وأن المخلوقين لا يملكون له نفعاً ولا ضراً , ولا موتاً ولا حياة , وأن المالك لذلك كله هو الله .
هذا التعلق القلبي بالله , يجعل الشخص يشعر بوجوده المستقل , ويشعر بالقوة النفسية , والتحرر من عبادة العباد .
2- إشعاره بالمسئولية عن أعماله(46).
كما قال تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة ٌ) . وقال تعالى :( لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً). (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) .
فإذا تربى الإنسان على هذا الشعور , فإنه ولا شك سيدفعه للعمل من أجل مصلحة نفسه ونفعها في الدنيا والآخرة , وسيقوم بمحاسبتها ومراقبتها , حتى تحقق له ما يرجو من الأهداف .
3-دعوته إلى الاعتزاز بنفسه , والبعد بها عن سفاسف الأمور(47).
قال تعالى : ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ). وقال صلى الله عليه وسلم : "لا يحقر أحدكم نفسه" . قالوا : يا رسول الله , وكيف يحقر أحدنا نفسه , قال : يرى أمراً لله عليه فيه مقال , ثم لا يقول فيه , فيقول الله عز وجل له يوم القيامة : ما منعك أن تقول في كذا وكذا ؟ فيقول : خشية الناس , فيقول : فإياي كنت أحق أن تخشى" .
4-تحذيره من متابعة الجماعة دون فهم ووعي(48).
قال تعالى : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : " لا تكونوا إمَّعة , تقولون : إن أحسن الناس أحسنا , وإن ظلموا ظلمنا , ولكن وطِّنوا أنفسكم , إن أحسن الناس أن تحسنوا , وإن أساءوا فلا تظلموا " .
5-حثه على أداء كثير من العبادات بمفرده , وحثه على الإسرار بها:
مثل : قيام الليل , وصيام النوافل , والصدقات , والنصيحة الفردية لآحاد الناس , وغير ذلك .(/5)
الأساس الثاني : تغذية الجماعية في الإنسان
إن اهتمام الإنسان بجانب الجماعية له ثمرات عديدة منها(49):
1-التعاون على البر والتقوى , ومقاومة الظلم والعدوان .
2-تجديد النشاط والهمة .
3-اكتشاف عيوب النفس , والقيام بإصلاحها , وخاصة العيوب التي لا تظهر إلا من خلال حياة الإنسان في الجماعة : كالأنانية والكبر , والعجلة والغضب , ..
4-أداء العبادات التي تتطلب أداؤها وجود الجماعة , كالصلوات المفروضة , والجهاد وغيرهما .
5-تكامل الطاقات والقدرات , وتحقيق الحاجات النفسية وللمجتمع .
ولمَّا كان للتربية الجماعية هذه الثمرات , فضلاً عن كون الحاجة للجماعة نزعة فطرية في الإنسان , فقد
اهتمت التربية الإسلامية بهذا الجانب اهتماماً عظيماً,ومن ذلك(50) :
1-الربط بين صحة العقيدة وبين حسن الخلق مع المجتمع .
فجعل الدليل على صحة عقيدة الإنسان حسن الخلق مع المجتمع , وجعل سوء الخلق مع الناس دليلاً على فساد العقيدة .
قال تعالى :( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ،وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ). فجعل الله من أخص صفات المكذبين بيوم القيامة , ممَّن فسدت عقائدهم : سوء أخلاقهم مع المجتمع , وخاصة ممن لا يرجون من ورائه نفعاً دنيوياً عاجلاً كاليتامى والمساكين . ومعنى ذلك أن من صحت عقيدته في الله وفي اليوم الآخر , فإنه يحسن خلقه مع المجتمع , سواء رأى مردود ثمرته في الدنيا أم لا , لأنه سيجده عند الله تعالى .
2-وضَّح الإسلام أن المقصود من تشريع العبادات إكساب الناس التقوى . ووضح أن التقوى هي حسن الخلق بقسميه : حسن الخلق مع الخالق , وحسن الخلق مع الناس .
فمن أدى العبادات , وساء خلقه مع الناس , فإن ذلك يدل على نقص تقواه , وأن عبادته ما أنتجت الثمرة المطلوبة منها .
ويدل على ذلك قصة المرأة صائمة النهار , قائمة الليل , ولكنها سليطة اللسان تؤذي جاراتها , أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم أنها في النار .
ويدل على ذلك حديث المفلس , الذي يأتي يوم القيامة بعبادات عظيمة ومتنوعة , ولكنه يأتي بسوء خلق مع المجتمع , فيتقاسم الغرماء حسناته , حتى إذا فنيت حسناته , أخذ من سيئاتهم فوضعت عليه , فطرح في النار .
3-حث الإسلام على التآخي في الله , وجعل لذلك منزلة رفيعة , وحسنات عظيمة .
4-حث الإسلام على أداء بعض الشعائر جماعة تأكيداً على الجماعة .
5-أمر الإسلام بلزوم الجماعة .
6-حض الإسلام على الشورى .
7-شرع الإسلام الزواج , ورتب على ذلك الأجور الكثيرة .
8-حث على السماحة في المعاملة من بيع وشراء ونحو ذلك .
9-نهى عن كل ما يضر بالمسلم من أقوال أو أعمال كالسخرية والاستهزاء , والكبر والخيلاء , والتناجي .
10- رتب على الأعمال الخيرية التي يقدمها الفرد للمسلمين أجوراً عظيماً , وفضلها على أداء النوافل من الصلوات .
الأساس الثالث : التوفيق بين الفردية والجماعية
هذا التوفيق بين الفردية والجماعية في الإنسان هو من أعظم مميزات التربية الإسلامية عن غيرها من مناهج التربية , ويقوم هذا التوفيق على المبادئ التالية(51):
1-تأكيد الإسلام على أن العلاقة الفردية التي بين العبد وربه , لابد أن تبرز في الخارج في نظام اجتماعي عادل متحرر من كل أشكال التسلط والقهر .
2-جعل الإسلام في شرائعه من الأوامر والنواهي ما يحقق التوازن بين الفردية والجماعية , فإذا انضبط المسلم بالشرع حقق فرديته , وخدم مجتمعه , دون تجاوز من أحدهما على الآخر .
3-بدأ الإسلام في بناء المجتمع من خلال ضمائر الأفراد ووجدانهم , فغرس فيها بذر الحب والرحمة للمؤمنين , وجعل محبتهم من حقيقة الإيمان بالله , ومن الأمور الجالبة لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة .
4-جعل الإسلام العلاقة بين أفراد المجتمع علاقة تكافلية , وأقام السلام على أساس مصلحة الفرد والمجتمع , على خلاف المذاهب الأرضية , فقد جعلت العلاقة بين أفرادها علاقة صراع وتنافس , وأقامت سلامها إما على مصلحة الفرد دون المجتمع,أو العكس .
5-جعل الإسلام قيماً منظمة لعلاقة الفرد بربه , وقيماً منظمة لعلاقة الفرد بنفسه, وقيماً منظمة لعلاقة الفرد بالآخرين , هذه القيم لو ربى المسلم نفسه عليها لأصبح نموذجاً فريداً , تشرأب الأنظار إليه , ولتكون من هؤلاء الأفراد مجتمعات سوية , ولعادت الأمة الإسلامية إلى مكانتها من القيادة والريادة , ولحلَّ السلام الحقيقي بالعالم أجمع .
الخاتمة
وفيها أبرز النتائج :
1- من أبرز الصفات في الإنسان التي تبدو في الظاهر متضادة متناقضة : إحساس الإنسان بفرديته , وإحساسه بالميل إلى الاجتماع بالآخرين .
2- انقسمت المذاهب الفلسفية تجاه الفردية والجماعية إلى ثلاثة أقسام , وكلها ترى أن العلاقة بينهما علاقة صراع وتضاد .(/6)
3- يقوم المذهب الفردي على تقديس الفرد , ويقوم المذهب الجماعي على تقديس المجتمع , ويحاول المذهب التلفيقي الجمع بينهما من ناحية المنفعة , فازداد التناقض والصراع عنده من ناحية التربية , فهو يربيه ليكون فرداً , وفي الوقت ذاته يفرض عليه آراء وقيود أرباب العمل دون قناعة منه بذلك , ويربيه على تقبلها دون تفكير.
4- يتبنى المذهب الفردي : الرأسمالية , وعلماء النفس الفردي , والوجوديون , وأصحاب المدرسة التحليلية من أتباع فرويد .
ويتبنى المذهب الجماعي : الشيوعية , ويعتبر هيجل وماركس ودوركايم من أبرز من دعا إليه .
ويتبنى المذهب التلفيقي : جون ديوي , وينتشر فكره حالياً في أمريكا .
-5- تنطلق الرؤية الإسلامية لحقيقة الفردية والجماعية من القرآن والسنة , ولذلك ترى أهمية الفردية وأهمية الجماعية , فتربيهما جميعاً في الإنسان بتوازن وشمول وتكامل , فينتج من ذلك الوفاق في داخل الإنسان , وبين الفرد ومجتمعه , ولا يطغى أحدهما على الآخر .
وصلى الله على محمد وآله وسلَّم .
(1)- انظر : شخصية المسلم (12) .
(2)-انظر : منهج التربية الإسلامية (163) .(3)- انظر : جاهلية القرن العشرين (130) .
(4)-انظر : المصدر السابق (131 - 136) . (5)- انظر : المصدر السابق (141 - 142) .
(6)- انظر : أهداف التربية الإسلامية (468) .(7)-انظر : دراسات في النفس الإنسانية(139) . والبحث السابق "مدارس علم النفس : عرض ونقد" . (8)-انظر : منهج التربية الإسلامي(162) (9)-انظر:الإسلام بين المادية والإسلام (111) . (10)- انظر:المصدر السابق (115).
(11)-انظر:أهداف التربية الإسلامية (468 - 469) .(12)-انظر:منهج التربية الإسلامية 163) .
(13)-انظر :دراسات في النفس الإنسانية (133) .
(14)-انظر : دراسات في النفس الإنسانية (139) . والإنسان بين المادية والإسلام (112) .
(15)-انظر:الإنسان بين المادية والإسلام (120) . (16)- انظر : السلام العالمي والإسلام (104) .
(17)- انظر : شخصية المسلم (12) . وانظر:علم الأخلاق , ألكسندر تيتارينكو (150 - 152) .
(18)- انظر : مفهوم إسلامي للتاريخ (68 - 69) . ضمن كتاب " العلوم الطبيعية والاجتماعية من وجهة النظر الإسلامية ".
(19)-انظر:جاهلية القرن العشرين (131).
(20)- انظر :الإسلام ومشكلات الحضارة (104) , وانظر : في فلسفة الحضارة (234) .
(21)- انظر : مفهوم إسلامي للتاريخ (69) . (22)-انظر : مفهوم إسلامي للتاريخ (69) , وانظر : آفاق الفلسفة (387) . (23)- انظر : دراسات في النفس الإنسانية (139) .(24)- انظر :منهج التربية الإسلامية (162 - 163) . وانظر : تقاليد أول أيار , ألكسندر خرامتسوف .(25)- انظر :أهداف التربية الإسلامية (467 , 468) .(26)- انظر : المصدر السابق (471 , 472) .
(27)-انظر : الإسلام بين المادية والإسلام (111) .(28)-انظر : مفهوم إسلامي للتاريخ (71) .
(29)-انظر:مفهوم إسلامي جديد لعلم الاجتماع (50) .(30)-نظر:منهج التربية الإسلامية (164) .
(31)-انظر:الإنسان بين المادية والإسلام (112)
(32)-انظر : أهداف التربية الإسلامية (469) .(33)- انظر ترجمته في : دراسات في الفلسفة المعاصرة , د0 زكريا إبراهيم (58 - 65) .(34)- انظر : المصدر السابق (59) .(35)- انظر : فلسفة المحدثين والمعاصرين , أ0 وولف , ترجمة : أبو العلا العفيفي (110) .(36)-انظر : أهداف التربية الإسلامية (469 - 470) .
(37)- انظر : أهداف التربية الإسلامية (469 - 480) .
(38)- انظر : كلام رودمان ويب , في كتاب " أهداف التربية الإسلامية " لماجد الكيلاني (470) .
(39)-انظر : منهج التربية الإسلامية (126) .(40)- انظر : دراسات في النفس الإنسانية (130) .
(41)- انظر:الإنسان بين المادية والإسلام (128).(42)-انظر:دراسات في النفس الإنسانية (130 , 131) .
(43)-انظر : المصدر السابق (132) .
(44)- انظر : بحوث ندوة خبراء " أسس التربية الإسلامية " . مجموعة في مجلد بهذا العنوان .
(45)-انظر : منهج التربية الإسلامية (165) , وشخصية المسلم بين الفردية والجماعية (52 - 55) .
(46)-انظر : التربية الذاتية من الكتاب والسنة (56 - 60) . (47)- انظر : شخصية المسلم (60) , أسس التربية الاجتماعية في الإسلام (2 - 5) .(48)- انظر : شخصية المسلم (56) .
(49)-انظر : شخصية المسلم (25 - 37) . (50)- انظر : السلوك الاجتماعي في الإسلام , حسن أيوب (11 - 20) , ومنهج التربية الإسلامية .(51)- انظر : مفهوم إسلامي للتاريخ (71) , وأسس التربية الإسلامية (2) , والإنسان في القرآن (8 , 17) والبناء القيمي للشخصية كما ورد في القرآن الكريم (3 , 4 , 13).والنظرية التربوية في الإسلام (16 ,17) .والتربية والتجديد,وتنمية الفاعلية عند المسلم المعاصر (43 59) .(/7)
الصغائر
روى الإمام أحمد عن عوف بن الحارث –ابن أخي السيدة عائشة من أمّها- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:
"يا عائشة. إياك ومحقّرات الذُّنوب، فإنّ لها من الله طالباً"
قال سعيد بن مسلم بن بانك المدني:
حدّثت بهذا الحديث عامر بن هشام، فقال لي:
ويحك يا سعيد بن مسلم! لقد حدّثني سليمان بن المغيرة أنّه عمل ذنباً فاستصغره، فأتاه آت في منامه، فقال له: يا سليمان:
لا تحقرنّ من الذنوب صغيرا إنّ الصغير غداً يعود كبيرا
إنّ الصغير ، ولو تقادم عهده عند الإله مسطَّرٌ تسطيرا
فازجر هواك عن البطالة لا تكن صعب القياد، وشمِّرَنْ تشميرا
إنّ المحبَّ إذا أحبَّ إلهه طار الفؤاد، وأُلهمَ التفكيرا
فاسأل هدايتك الإله بنيّة فكفى بربّك هادياً ونصيرا(/1)
الصفات الإدارية للداعية
د. محمد بن عبد الله حياتي رضا*
المقدمة:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، وصلى الله على الناطق بالحكمة والصواب، الذي انقاد له العرب بحسن مداراته، وحكمة تدبيره، وتبشيره بحسن المآب صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأتباعهم، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن المسئولية الدعوية لا تتوقف عند الوقوف في المحراب أو اعتلاء المنبر، وإنما تتعدى ذلك لتشمل النزول إلى ساحة المجتمع والاختلاط به ليكون الداعية رمز ربط لوشائج القلوب، وحاديًا يحدوها إلى مرضاة ربها، ومنقذًا لها من غمرات الضلالة إلى نور العمق الإيماني، والتأصيل العلمي، والبعد الفكري – إلا بالمعرفة والبصيرة بضبط سير الحياة الدينية والاجتماعية للمخاطبين دون حواجز نفسية فيما بينهم، أو معوقات مادية تحول دون الترابط فيما بينهم، وذلك يقتضي من الداعية التحلي بصفات إدارية لتحقيق ذلك، وذلك جزء مهم من مسئوليته، وواجب تحتمه المصلحة الدعوية، فيما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ونظرًا لأهمية هذا الجانب في المسئولية الدعوية أحببت أن أدلي فيه بدلوي مع من سبقني عسى الله عز وجل أن يجعل فيه النفع والقبول.
هذا وقد اتسق البحث من تمهيد، وأربعة فصول، تفرعت عنها مباحث، ثم الخاتمة، وقد ضمنتُ التمهيد إبراز هذا الجانب من المسئولية الدعوية، ثم تعريف الإدارة لغة وعرفًا، ووجه الصلة بين التعريف اللغوي والعرفي المعاصر، ثم جعلت الصفات الإدارية عناوين كلية للفصول، وجعلت الأساليب والأسباب عناوين للمباحث، فجاءت الخطة على النحو التالي:
التمهيد
الفصل الأول:
الخبرة العلمية والعملية في معرفة استعدادات المدعو قبل التعامل معه.
المبحث الأول: الدقة في تقييم المواقف والشخصيات.
المبحث الثاني: التثبت في نقل الخبر.
الفصل الثاني:
الأسلوب الدعوي المناسب.
المبحث الأول: الحزم في غير شدة واللين في غير ضعف.
المبحث الثاني: التصريح في موضعه والتلميح في موضعه.
المبحث الثالث: إطلاق الأمر والنهي في الوقت المناسب والأسلوب المناسب.
الفصل الثالث:
الحكمة في التعامل مع المخاطبين.
المبحث الأول: مداراة الناس.
المبحث الثاني: إنزال الناس منازلهم.
المبحث الثالث: كتمان أسرار الناس.
المبحث الرابع: حسن الظن بالمسلمين.
الفصل الرابع:
القدرة على تجاوز العقبات الدعوية، والمشكلات الاجتماعية بين المخاطبين.
المبحث الأول: الأخذ بالشورى.
المبحث الثاني: حل المشكلات حلاً منهجيًا.
الخاتمة.
الفهارس.
هذا والله أسأل تمام التوفيق والسداد والقبول إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه
محمد بن عبد الله حياني
5/12/1423هـ
التمهيد:
إن المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، يجد أن حياته عليه السلام لم تتوقف عند تلاوة الوحي بعد نزوله عليه، ثم بيانه بسنته المطهرة فحسب دون أسلوب مناسب يحقق الهدف من ذلك؛ وإنما تخلل ذلك؛ مراعاة الاستعدادات النفسية، والطاقات الفكرية، والظروف الواقعية، والأسلوب المناسب، والمقام المناسب، والأخذ بالشورى، وإنزال الناس منازلهم؛ إكرامًا لكريم، ومداراة لصفيه، ثم حلاً لمشكلة، وإماتة لمعضلة، حتى أسر قلوبهم بالإيمان والإذعان، والتزموا بالحق بقناعة ويقين، فأتمروا بأمره وانتهوا بنهيه، وبذلوا نفوسهم رخيصة في سبيل ربهم، وأصبحوا قادة الأمة وقدوتها الحسنة إلى يوم القيامة، وقد تم ذلك بحكمته عليه السلام، وحسن سياسته وتدبيره مُؤَيَدًا بوحي من الله. ومسددًا بتوفيق الله عز وجل.
قال الإمام الخطابي رحمه الله في معرض تعليقه على صلاة النبي عليه الصلاة والسلام على جنازة رأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول لطلب ابنه عبد الله ذلك: قال رحمه الله: ((إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أُبي ما فعل لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين، ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح، ولتألف قومه من الخزرج لرياسته فيهم، فلو لم يُجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سُبةً على ابنه وعارًا على قومه، فاستعمل أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نُهي – عن الصلاة على المنافقين – فانتهي(1) أهـ)).
وقال القاضي عياض رحمه الله في معرض وصفه لحسن سياسته عليه الصلاة والسلام للناس، قال: ((ومن تأمل حسن تدبيره للعرب الذين كانوا كالوحش الشارد، والطبع المتنافر المتباعد، كيف ساسهم؟ واحتمل جفاهم، وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، وقاتلوا دونه أهليهم: (أباهم، وأبناءهم)، واختاروه على أنفسهم، وهجروا في رضاه أوطانهم، وأحبابهم، من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يتعلم منها سنن الماضين، فتحقق أنه صلى الله عليه وسلم أعقل الناس، ولما كان عقله صلى الله عليه وسلم أوسع العقول؛ لا جرم اتسعت أخلاق نفسه الكريمة اتساعًا لا يضيق عن شيء(2))) أهـ بتصرف.(/1)
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مؤيدًا من الله عز وجل؛ فالداعية بحاجة إلى الأخذ بأسباب النجاح والتوفيق؛ وذلك بتعميق الإيمان بالله عز وجل، والتأصيل العلمي، والإفادة من أهل الفضل والخبرة، ليتحلى بالخبرة العلمية والعملية في معرفة استعدادات المخاطبين، والأسلوب الدعوي المناسب، والحكمة في التعامل مع المخاطبين، والقدرة على تجاوز العقبات الدعوية والمشكلات الاجتماعية، كما عليه أن يسكن قلبه عزيمة صادقة وقوة إرادة، كي يتمكن من بلوغ الهدف من دعوته بعد ذلك.
فالمسئولية الدعوية تقتضي ذلك، لأن الداعية ليس خطيب منبر وإمام محراب فحسب، وإنما هو واحد من أفراد مجتمعه بل قدوته، يمتزج مع المجتمع في المسجد والمدرسة، والمكتب، والحضر والسفر، يشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم، ويحل مشاكلهم، ويطلع منهم على مالا يطلع عليه غيره.
لذا لابد له من ذلك ليتمكن من ضبط سير حياتهم الدينية، وترابطهم الديني والاجتماعي دون عائق.
ولعل هذه الصفات هي المعنى المراد من القوة التي أمر الله بها موسى عليه الصلاة والسلام في أخذه ما أنزله عليه، قال تعالى: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء، فخذها بقوة، وأمر قومك يأخذوا بأحسنها)(3) والتي أمر بها نبيه يحيى عليه الصلاة والسلام بأخذه لكتابه الذي أنزله عليه بقوله: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة)(4).
فقد فسر العلماء القوة في الآيتين بمعان متعددة، وكلها لا تخرج عن إطار الصفات السالفة الذكر، وجميعها من مقتضيات الأخذ بالكتاب والحكم بما فيه، ولم يفسروها بالقوة المركزية المجردة وإنما بالموضوعية المتكاملة، فقد فسروها: بالعلم، والعقل، والحكمة، والحلم، والصفح، والملاطفة، والصبر، وقوة العزيمة، والجد والنشاط، وقوة الإرادة(5).
وبتدبر هذه الصفات يظهر أن أهمها قوة العزيمة والإرادة، والاستعداد النفسي لخوض هذه المهمة بهمة عالية، لأنه بدون ذلك يعسر استمرارية باقي الصفات، وبلوغ الهدف المنشود.
قال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسير القوة من قوله تعالى لموسى عليه السلام: (فخذها بقوة قال: ((القوة هنا تمثيل لحالة العزم على العمل في الألواح بمنتهي الجد والحرص دون تأخير ولا تساهل، ولا انقطاع عند المشقة ولا ملل، بحالة القوي الذي لا يستعصى عليه عمل يريده. أهـ))(6)
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((لا تصغرن هممكم، فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمم))(7)
تعريف الإدارة:
الإدارة؛ مصدر أدار يدير إدارة. تقول العرب: أدرت الشيء أديره إدارة، وأدار الشيء يديره إدارة. يريدون من ذلك التعدي بفعل التدوير للشيء دورانًا ذات اليمين أو ذات الشمال.
ويستعمل الفعل لازمًا أيضًا، فيقال: دار الشيء يدور دورانًا(8).
ولم يقف العرب في استعمال هذا الفعل عند الدوران الحقيقي بل تجاوزا ذلك إلى استعماله في نقل الشيء من مكان إلى آخر، ومن رجل إلى رجل آخر أيضًا، وقد جاء في القرآن الكريم كذلك. قال الله تعالى: (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم)(9)
أي تتعاطون بيعها أخذًا وعطاء، تقابضًا يدًا بيد.
قال الإمام أبو الحسن الماوردي رحمه الله: ((معنى الإدارة؛ إما أنهم يتناولونها من يد إلى يد، أو يتبايعونها في كل وقت. أهـ))(10)
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله في معنى الآية أيضًا ((أي يتعاطونها يدًا بيد. فالإدارة التعاطي والتقابض))(11)
فيتضح مما تقدم: أن معنى الإدارة في الآية واضح في النقل لا في الدوران الحقيقي. وكما استعملوا الإدارة في الدوران، ونقل الشيء وتعهده في المحسوسات؛ استعملوه أيضًا في غير المحسوس، قال ابن منظور رحمه الله ((يقال: أدرت فلانًا على الأمر. إذا حاولت إلزامه إياه، وأدرته عن الأمر. إذا طلبت من تركه))(12) والأمر هنا على إطلاقه أعم من كونه ماديًا أو معنويًا؛ كطلب فعل، أو قول، أو معقول، أو ترك ذلك.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله في معنى قوله تعالى: (إذ يبيتون ملا يرضي من القول)(13)
قال: ((يديرون الرأي بينهم، لأن الغالب أن تكون إدارة الرأي بالليل)(14)
كما استعملوا هذا الفعل في المعني الشائع في عصرنا الحاضر أيضًا، وهو: إدارة الشؤون سواء أكان ذلك في مؤسسة علمية أم عملية، أو على مستوى الأسرة، قال ابن منظور رحمه الله: ((يقال أيضًا: مداورة الشؤون معالجتها. والمداورة. المعالجة))(15)
وقياسًا على ما سبق؛ يمكن أن يطلق على الداعية الناجح في معالجته لشؤون المخاطبين: ذو إدارة ناجحة. لأنه يتحلى بصفات إيجابية تخوله اتخاذ أسباب النجاح في معالجته لحياة المخاطبين، لذا يمكن تعريفه من هذا الجانب:
(بأنه الذي يملك قوة التأثير في الناس؛ لاستمالتهم إلى تعاليم الإسلام بقناعة ويقين، بصفات وأساليب مخصوصة).
علمًا أن تعريف الإدارة في العرف الإداري المتخصص على اختلاف أصحابه في تعريفها لا يخرج عن الآتي:(/2)
(المعرفة الدقيقة بهدف العمل ومستلزماته، والهيمنة على الأفراد لجعلهم يعملون بكفاءة تحقق هدف المنشأة، أو المؤسسة العلمية أو العملية).
ومن ذلك يمكن تعريف الإداري الناجح: (بأنه الشخصية المؤثرة في عمال المنشأة تأثيرًا تطوعيًا لتحقيق أهداف المنشأة أو المؤسسة العلمية أو العملية).(16)
ثم بالنظر في عرف الإدارة المعاصر نجد توافقًا كبيرًا بين صفات الإداري الناجح والداعية الناجح، وكذلك في الأسلوب الإداري المطلوب، والأسلوب الدعوي أيضًا.
أما صفات المدير أو القائد الإداري الناجح التي لا يختلف بها المتخصصون في العلوم الإدارية؛ هي ما يلي: (القدوة الحسنة، الفطنة، القدرة العقلية، العلم الشامل، الخبرة الإدارية).
وبمقارنة ذلك في تفسير العلماء (للقوة) في أخذ موسى ويحيى عليهما الصلاة السلام لكتاب الله والحكم بين الناس بما فيه، كما تقدم، نجد توافقًا كبيرًا بينهما، بل تفسير القوة عند المفسرين أعم وأشمل.
أما الأسلوب الإداري المناسب لضبط سير العمل في المنشأة فهو: (القيادة المؤثرة، التوجيه، الاتصال المباشر بعمال المنشأة، أخذ الشورى، الرقابة لمنع وقوع الضرر أو دفعه بعد وقوعه، وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، الخطاب المناسب) وبمقارنة هذه الأساليب بالأسلوب الدعوي المناسب السالف الذكر نجد اتفاقًا كبيرًا بينهما أيضًا.(17)
بعد هذا نخلص إلى أن إضافة لفظ (الإدارة) إلى صفات وأساليب الداعية السالفة الذكر إطلاق له أصله اللغوي.
والله أعلم.
الفصل الأول
الخبرة العلمية والعملية في معرفة
استعدادات المدعو قبل التعامل معه
المبحث الأول
الدقة في تقييم الأشخاص والمواقف
يختلف الناس في مدى استعداداتهم الفكرية والعلمية والنفسية، وهذا التفاوت تجب معرفته على الداعية بدقة بالغة كي يتسنى له إعطاء كل ذي حق حقه، واستغلال الطاقات، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، فكلما تكاملت حلقات التصور المطلوبة كان الحكم محكمًا أكثر، والعكس بالعكس.
فإذا قصرت مدارك الداعية عن إدراك ذلك – لقصور علمي، أو بساطة فكرية (18)– انعكست تلك النتائج نفسها إلى سلبيات، من إضاعة للحقوق، وهدر للطاقات، ووضع للشيء في غير موضعه وتلك ثغرة في شخصية الداعية ومسؤوليته فضلاً عن سوء سمعة من أخطأ الداعية في تقييمه وأساء الظن به، لأن المخاطبين يتفاعلون مع تأثيرات الداعية تلقائيًا لفرط الثقة به.
وللوصول إلى التقييم السديد، يجب أن يتوافر في الداعية ما يلي:
1- عمق إيماني يضيء طريق السداد في الحكم.
لأنا لو تأملنا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا الدقة المحكمة في الحكم، ووضع الأمور في نصابها ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
2- الأصالة العلمية الشرعية فضلاً عن اللغوية، لأن تصرفات الناس لا تقاس إلا بالمقياس الشرعي الدقيق، وتفسير المواقف التفسير الصحيح بعد معرفة الأسباب والآثار.
3- فطنة، ودقة ملاحظة، أو تمييز بين المواقف.
4- عدم الاقتصار على معرفة موقف واحد أو موقفين، أو قرينة أو قرينتين من الرجل المقيم، بل لابد من تعدد ذلك، بحيث يمكن بذلك تكوين تصور معين منضبط. وذلك يقتضي التريث وعدم العجلة في الحكم.
فمثلاً اختار الرسول صلى الله عليه وسلم لصحبته في الهجرة من مكة إلى المدينة أبا بكر رضي الله عنه(19) ولم يختر لذلك عمر أو عثمان رضي الله عنهما، أو غيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم!
وذلك يدل على تميز شخصية أبي بكر رضي الله عنه بخصوصية تؤهله لمثل هذا الموقف الخطير لأنه أخطر موقف مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم – في الظاهر – حيث تعرضت فيه حياته للخطر ومن ثم حياة الدعوة أصلاً.
وخص عمر رضي الله عنه قبل هجرته عليه الصلاة والسلام بالهجرة في نفر من الصحابة ليقوم بحمايتهم ويَسُوس أمرهم، إلى أن يصل إلى المدينة(20)، وذلك لشهرته بالشجاعة، وشدة البأس، مع سداد الرأي رضي الله عنه.
والأولى في الظاهر أن يخص عمر رضي الله عنه لصحبته في هجرته – عليه الصلاة والسلام – لشهرته بالشجاعة وشدة البأس؟
إذاً إنه تقويم النبي عليه الصلاة والسلام السديد المحكم للشخصيات.
ولعله في توفر كمال العقل وأرقى درجات الإيمان وأعلاها منزلة في أبي بكر رضي الله عنه كان سبب ذلك؛ أما الشجاعة فتتوافر في وقتها المناسب، وإن لم يسبق لها شهرة.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبصر المعاين للاستعدادات، المسدد من الله عز وجل.
ثم مع ما تقدم من فضل أبي بكر ثم عمر رضي الله عنهما وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم لهما في أجلّ الأمور أرسلهما في سرية إلى ذات السلاسل.
بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه حيث كان على جانب كبير من السياسة العسكرية(21)، وذلك فضلاً عن الجانب التربوي في هذه المهمة.(/3)
ثم أرسل عمر رضي الله عنه في جيش إلى بلاد الشام تحت إمرة أسامة بن زيد رضي الله عنهما حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عُمْر أسامة يومئذ لا يتجاوز ثمانية عشر عامًا(22)، إذ كان يعتبر في سن أبناء عمر رضي الله عنه.
ولا يقال: لعل محبة النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة جعلته ينصبه أميرًا على جيش فيهم أمثال عمر رضي الله عنه؟
لا يقال ذلك، لأنه لا دخل للعاطفة في مثل هذا الموطن الحرج، لأنه جيش متوجه إلى بلاد الشام ليقاتل أعتى جيش في الأرض آنذاك، فكيف يفرط رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيش ويفرط أيضًا بمنزلة عمر رضي الله عنه تحت قيادة شاب صغير بمثابة ولده بدافع عاطفي! إن أي إنسان غير معصوم لا يفعل ذلك فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم؟
إن القضية إذاً قضية خبرة وتربية، إذ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شخصية أسامة الأهلية العسكرية في هذا السن المبكرة، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن تسير في مجالها كي تؤتي ثمارها مستقبلاً بعد تدريبها على الإدارة بصحبة الكبار الأفذاذ.
وبالفعل فقد أرسله أبوبكر رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وعاد مظفرًا رضي الله عنه(23).
ولقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمين سره بشأن المنافقين حذيفة بن اليمان رضي الله عنه(24) والأولى بذلك منه في الظاهر أبوبكر أو عمر رضي الله عنهما وأمثالهما في المنزلة والملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم.
إنه توزيع المسؤوليات المتنوعة على الكفاءات الموهوبة والمتخصصة، بتقويم سديد، ينطلق من بصيرة نافذة بنور الله وتوفيقه، ليكون ذلك التقويم المحكم أسمة لمن بعده عليه الصلاة والسلام، ليتم سير الأمور باستقامة، ودون عوائق.
فالقضية ذات أهمية وخطورة بالغة، فلا يتحقق إصدار الحكم في شخص ما إلا بعد تواتر سماع وطول معاينة، فالإنسان يعرف بمواقفه القولية والفعلية العديدة بالإضافة على الاحتكاك في المعاملة المادية، والسفر الطويل، لا بنظرة متفرِس ولا بهمسة أذن من ساذج أو مغرض.
المبحث الثاني
التثبت في نقل الخبر
إن الخبر يصاحب الناس في صباحهم ومسائهم، وغدوهم ورواحهم، فبه ترتبط أواصر القلوب وبه تفترق، وبه تثور، وبه تهدأ، وبه تسعد، وبه تحزن، وبه تتأصل دعائم الخير، أو تتراكم ويلات الشر.
إنه من الأسباب الأساسية في تقييم الأفراد والمجتمعات، وتيسير سير المصالح العامة والخاصة أو تعطيلها.
وإن أعراض المسلمين غير مباحة لطعن الطاعنين دون حساب، ومصالحهم غير متروكة للهدر دون تمحيص وعقاب.
لذا كان من أهم أسس الإسلام أن جُعل الحفاظ على عرض المسلم من مقاصد الشريعة الغراء، ليبني بذلك المجتمع المسلم المتماسك، الذي يمكن أن ينطلق في تشييد الحضارة الإسلامية المنشودة، وتتحقق به الخلافة عن ربه في الأرض.
ولما كان للحكم العاطفي على الآخرين والارتجالي، والعقل الماكر الهادف، واللسان المغرض، والقلم المأجور، والطرف الخفي، والإشارة الخفية المفهمة، الدور الفعال والمؤثر في تدمير السمعة وشل حركة المصالح، بسبب غيرة وحرص على حياة، أو بساطة فكرية وعاطفية ساذجة، أو تنافس في حظ نفسي؛ من مزيد شهرة في علم، أو عبادة، أو منصب إداري، وقف الإسلام في وجه هذا التيار المدمر بمنهج ذي سدود منيعة من القواعد والضوابط التي يجب أن يمر بها الخبر عبر قنواتها لتختبر ماهيته، وتعرف هوية ناقله، وأسباب روايته، وأهداف ذلك وآثاره فإما أن يطرحه بعد ذلك، ويعاقب الناقل بما يناسب، أو يأخذ به بيانًا عليه أسلوب التعامل المناسب مع المخبَر عنه.
إن هذا المنهج استنبطه العلماء من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا، أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)(25).
ثم ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)(26).
ثم من القاعدة الأصولية (مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب)(27).
فقد سلط القرآن الضوء على ناقل الخبر فوصفه بالفسق حتى وإن كان قد تزيا بزي العلماء أو تمثل برزانة الفضلاء، أو تشبه بحلم العقلاء، إنه متهم حتى تثبت براءته ولا تثبت براءته إلا بما يلي:
1- أن يكون عدلاً في دينه.
2- ضابطًا في نقله.
3- غير معروف بمنافسة مادية أو علمية، أو حساسية شخصية بينه وبين من يخبر عنه.
أما العدالة فلا تثبت إلا بما يلي:
الإسلام، البلوغ، العقل، السلامة من أسباب الفسق، السلامة من خوارم المروءة، أما المسلم فضده الكافر، وأما البالغ فضده الصبي الصغير، وأما العاقل فضده المجنون، وأما السالم من أسباب الفسق فهو الذي لم يفعل كبيرة، ولم يصر على صغيرة. وهذا أمر لا يعرف إلا بمصاحبة سفر، أو معاملة بالدينار والدرهم. وادعاء المعرفة المؤصلة بسوى ذلك مجازفة.
أما السالم من خوارم المروءة فهو: تنزهه عن أفعال العامة.
ولعل هذا الشرط الأخير أليق براوي حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الضبط فيشترط لثبوته ما يلي:(/4)
- رواية الخبر بألفاظه تمامًا، أو بالألفاظ القريبة منها، فإن لم يستطع فالمعاني الصحيحة بألفاظ تدل عليها دلالة واضحة صريحة لا ظنية، شريطة أن يكون الناقل عندئذٍ على علم ودراية كافية بمعاني الألفاظ العربية ودلالاتها، كي لا يخل في الدلالة على المعنى الصحيح.
وهذا الضابط فيما يتصل بالمعنى الصريح للخبر الذي لا يختلف في فهمه اثنان لو سمعاه، وإنما شرطوا ذلك لضبط المعنى كي لا يضطرب.
أما ما يختلف فهمه من رجل إلى آخر فلا يجوز نقله وروايته إلا بحروفه، وإلا فلا تجوز روايته بحال من الأحوال، دفعًا لما يترتب على ذلك من ضرر(28).
ونظرًا للتساهل الواسع من الناس اليوم في نقل الأخبار فيما بينهم دون روّية وتثبت وتدقيق ونظر، ودون معرفة بمعاني الألفاظ العربية ودلالتها، وما أدى ذلك إلى قطع حبل الأخوة الإسلامية، وتعطيل المصالح، فالمناسب – من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وسدًا للذريعة – أن تضاف شروط أخرى إلى الضبط وهي:
1- ذكر الألفاظ الواردة قبل الخبر والألفاظ التي وردت بعده، لمعرفة دلالة السياق، لأن الخبر قد يكون جملة مقتطعة من سياق، فإذا وضعت في سياقها كانت لها دلالة وإذا فصلت عنها كانت لها دلالة أخرى، وكثيرًا ما يقع ذلك عمدًا لغرض ما، أو سهوًا.
2- حكاية اللهجة التي صدرت من المخبَر عنه حال تلفُّظه، ليُعلم هل كانت لهجة انفعال وصرامة، أم لهجة ود وتقدير واحترام، ولكل من اللهجتين دلالتها سلبًا أو إيجابًا.
3- ذكر قرائن الأحوال التي احتفت بهذا الخبر، كالأسباب التي دعت إلى الكلام أو حدوث الفعل.
ومن خلال الشروط المذكورة تضبط معاني الخبر، وسياقه، أسبابه، وأهدافه.
فإذا عرف الناقل للخبر أنه غير قادر على ضبط الخبر بالشروط المذكورة حرم عليه التحدث بما رأى أو سمع، وحرم على من سمع ناقله أن يصدقه – سواء أكان الخبر مما يضر بالمصلحة الخاصة أم العامة – لما في ذلك من حدوث الجفوة بين القلوب المؤمنة، والإضرار بالمصالح بمجرد الاحتمالاتت.
وإذا توافرت شروط العدالة والضبط فإن الحال يقتضي الاستفسار من المخبر عنه – إن لم ينشأ عن ذلك ضرر بالأخوة – ومصارحته بما يقال فيه بأسلوب مناسب دون تصريح باسم الناقل، فربما تقبّل ذلك بصدر رحب، ودفع عنه ذلك بحجة قوية وهي القصد الحسن من إطلاق كلمة يريد بها خيرًا، وفهمت منه على ظاهرها، وإنما أخطأ في انتقاء اللفظ المناسب لا أكثر.
أو قيام بفعل بقصد حسن، ولم يقدّر النتائج تقديرًا حسنًا فيعيب به وساء فهمه لدى المشاهد، وهذا كثير جدًا في الحياة اليومية المعاصرة.
وإن اعترف بما قيل عنه نُصِح وذُكر (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)(29)، وإن لم يتقبل النصح أكثر من مرة، وبأسلوب مختلف هُجر عندئذٍ هجرًا جميلاً بقصد تربوي، لا ترفعًا واستحقارًا.
أما إن كانت مصارحته تثير فتنة، نكتم خبره عندئذ، وندعو له ونعرض بذلك تعريضًا له في الوقت المناسب.
أما عن كونه غير معروف بالمنافسة بينه وبين من يخبر عنه:
إن كل ما تقدم فيما إذا لم يسبق النقل نشوب حساسية بين المخبر والمخبر عنه، أو منافسة بينهما، فإن كان بينهما ذلك، فلا يقبل خبرهما في بعضهما البعض أصلاً، لأنه إن كانت الذاكرة تخون، والفهم يخطئ في الحالات العادية الخالية من المنافسة والحساسية فكيف مع وجودهما؟
يؤيد ذلك ما أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن(30) سوى النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا محدود في الإسلام، ولا ذي غِمر على أخيه)، والغمر بكسر الغين – الشحناء والعداوة(31).
لهذا اتفق العلماء على أنه لا يقبل كلام الأقران بعضهم في بعض في حال نشوب الحساسية فيما بينهم، بسبب المنافسة العلمية والحظوظ النفسية:
قال الإمام البخاري رحمه الله ((لم ينج كثير من الناس من كلام بعض الناس فيهم، وتناول بعضهم في العرض والنفس، ولم يلتفت أهل العلم إلى ذلك، ولا سقطت عدالة أحد إلا ببرهان ثابت وحجة))(32).
وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: ((كان بين جلة العلماء كلام عند الغضب، ولكن أهل الفهم والعلم والميز لا يلتفتون إلى ذلك، لأنهم بشر يغضبون ويرضون، والقول في الرضا غير القول في الغضب))أهـ(33) بتصرف.
وقال الحافظ الذهبي رحمه الله: ((كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لاسيما إذا لاح لك أنه لعدواة، أو لمذهب، أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصمه الله، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين))(34).(/5)
بعد هذا فالتثبت في النقل بالشروط المذكورة إنما يحتاجه الداعية والعالم، بل كل مسلم عندما يسمع عن رجل لم يسبق له فيه معرفة بهوية شخصيته السلوكية والعلمية والفكرية والنفسية؛ أما إن بلغه عن رجل له فيه معرفة راسخة بطول صحبة، أو بشهرة واستفاضة بين الناس بالفضل فمن العسير عند كل عاقل فضلاً عن الداعية أن يصدّق بعد ذلك ما يسمعه فيه مما يخالف التصور الذي عرفه فيه، فالحكم الذي تأصل بالتواتر لا يُزحزح بخبر الآحاد، وما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين.
ولا يليق بالمسلم فضلاً عن الداعية أن يكون أذنًا لكل ناقل، فيمدح اليوم من يذمه غدًا أوالعكس.
إن الداعية أهم شخصية في المجتمع تتحمل مسؤولية هذا المنهج، وبدون هذا المنهج تهتز صورة جمال القيم وزانة الحقائق، وتنعكس الموازين، وتهدر القيم فيتطاول الصغار على الكبار، وينال أهل المطل من أهل الفضل، ويتكلم العامة في أمر الخاصة.
وإننا لو حققنا في الخلافات الناشبة بين الناس بسبب سوء النقل في ضوء هذا المنهج الحكيم المنضبط لطرح معظمها، استقامت الأمور، ولكن هيهات.
بعد هذا يحسن التنبيه إلى أن سمعة المسلم لا تتعرض للإساءة عن طريق نقل الخبر فحسب، وإنما عن طريق النقد العلمي، والشخصي، والسلوكي المبني على الاجتهاد أيضًا، وهذا باب واسع جدًا.
والنقد النظيف المخلص مبني أصلاً على الاجتهاد المعّرض للقبول والرد، فكيف إذا شابته شوائب الحساسية والغيرة؟ وهو الأغلب، لذا على الداعية أن يتحرى الدقة والتمييز بين المتشابهات في الظاهر.
الفصل الثاني
الأسلوب الدعوي المناسب
المبحث الأول
حزم في غير شدة ولين في ضعف
إن العمل الدعوي يقتضي من الداعية أن يكون معلمًا ومفكرًا ومربيًا، ومثل هذه الشخصية الجامعة يجب أن تتميز بالأصالة العلمية، والبعد الفكري، والبصر في الحياة الإدارية، والتحلي بأسمى مكارم الأخلاق مع العمق الإيماني.
إنها شخصية تدرك بُعد الأمور، فتتعامل مع الواقع بالحكمة، إنها متوازنة في إدارتها، حزمٌ في غير شدة، ولين في غير ضعف، مباسطة في غير هزل، مداراة في غير مداهنة، تأنيب في غير تعنيف، وزجر في غير تقبيح.
جمعت بين حزم النذارة، وبشاشة البشارة، وهدوء الحلم، وثورة الغضب في الله عز وجل، وعزم الصبر والتفاعل مع الحوادث في غير انفعال، وهيمنة التربية، وحنان الأبوة إنها راسخة الإيمان، لا تجتذبها بوارق المغريات، ولا تثيرها الأحداث.
فمثل هذه الشخصية تمسك بزمام القلوب، وتقودها إلى الهدف المنشود.
لقد ضمنت الكتب السماوية التكاليف الشرعية، والتكليف شاق على النفوس، فالأمر به يحتاج إلى قوة الجد والعزيمة من الرسل عليهم الصلاة والسلام لينهضوا بالنفوس إلى القيام بأعبائه، لكن مع الشفقة لتخفيف عبء المشقة.
وقد رسم القرآن الكريم حدود هذا التوازن الإداري، قال تعالى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيًا)(35).
وقال في حق موسى عليه الصلاة والسلام: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء فخذها بقوة، وأمر قومك يأخذوا بأحسنها، سأوريكم دار الفاسقين)(36).
لكن لما كانت النفوس تسأم من حمل التكاليف مع الاستمرار أمر الله عز وجل نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام أن يجمع بين جد الحزم ولين الرحمة. قال تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين، وأخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين)(37).
وقال تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين)(38).
إن الحزم في غير شدة إذا انضم إليه لين الجانب كان مقبولاً، فإذا انضم إليه بشاشة البشارة كان أكثر قبولاً، قال تعالى: (إنا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرا)(39)
لكن كثيرًا من النفوس تتثاقل عن حمل التكاليف لمرض في القلب مع توافر ما يُروّحها ويخفف عنها، فذلك مدعاة للأخذ بالصرامة والتعنيف والشدة في حقهم.
قال تعالى: (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم، فأعرض عنهم وعظهم، وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغًا)(40).
وهناك بعض النفوس لا تقبل التكاليف عنادًا وكفرًا، بل تكيد بصاحب الرسالة، فذلك يحتاج إلى صبر وثبات. قال تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)(41).
إن هذا التوازن تحقق في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، واتضحت آثاره في قلب موازين الحياة، وإعادة الأمور إلى نصابها في زمن قياسي.
قال القاضي عياض رحمه الله:
((ومن تأمل تدبيره صلى الله عليه وسلم أمر بواطن الخلق وظواهرهم، وسياسة الخاصة والعامة مع عجيب شمائله، وبديع سيره، فضلاً عما أفاضه من العلم، وقرره من الشرع دون تعلم سبق، ولا ممارسة تقدمت، ولا مطالعة لكتب، لم يمتر في رجحان عقله وثقوب فهمه لأول وهلة.(/6)
ومما يتفرع عن العقل ثقوب الرأي وجودة الفطنة والإصابة، وصدق الظن، والنظر للعواقب، ومصالح النفس، ومجاهدة الشهوة، وحسن السياسة والتدبير، واقتفاء الفضائل، واجتناب الرذائل، وقد بلغ صلى الله عليه وسلم من ذلك الغاية التي لم يبلغها بشر سواه صلى الله عليه وسلم.
ومن تأمل حسن تدبيره للعرب الذين كانوا كالوحش الشارد، والطبع المتنافر المتباعد كيف ساسهم واحتمل جفاهم، وصبر على أذاهم، إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، وقاتلوا دونه أهليهم آباءهم وأبناءهم واختاروه على أنفسهم، وهجروا في رضاه أوطانهم، وأحبابهم من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يتعلم منها سنن الماضين، فتحقق أنه صلى الله عليه وسلم أعقل الناس، ولما كان عقله صلى الله عليه وسلم أوسع العقول لا جرم اتسعت أخلاق نفسه الكريمة اتساعًا لا يضيق عن شيء)).أهـ
إن هذا الكمال له جلالته وهيمنته، لذا كان من رآه بديهة هابه، ومن خالطه بشاشة أحبه(42).
فالشخصية الدعوية لا تهيمن على القلوب وتؤثر فيها إلا بتوافر الصفات المثالية والتوازن في القرارات الإدارية، بين الحزم في غير شدة، واللين في غير ضعف.
المبحث الثاني
التصريح في موضعه والتلميح في موضعه
بما أن العصمة للأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام فكل من سواهم عرضة للسهو والخطأ مهما كان نوع الخطأ.
والداعية قد يرى في المخاطبين خطأ أو يبلغه عنه فمن الحكمة عدم التصريح به أمام فاعله لأن النفوس تنفر من المواجهة بالخطأ ولا تتقبل تصحيحه بهذا الأسلوب.
لذا فانطلاقًا من الحفاظ على مشاعر الناس وكرامتهم حتى في التعليم والتصويب، وحرصًا على تقويم وتعديل السلوك كان التعريض والتلميح المفهوم هو الأسلوب الأمثل بل والمتعين لذلك.
وقد كان سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها فإذا رأي شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه)(43).
لذا كان عليه الصلاة والسلام يُعرّض به تعريضًا فيقول: ما بال أقوام، وما بال رجال يقولون أو يفعلون كذا.
فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: (ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا)(44).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم)(45).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أخذ يواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم – الصوم – وذاك في آخر الشهر، فأخذ رجال من أصحابه يواصلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال رجال يواصلون، إنكم لستم مثلي، أما والله لو تمادّ لي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم)(46).
وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلاً في وجهه بشيء يكرهه، فلما خرج قال: (لو أمرتم هذا أن يغسل هذا عنه)(47).
ومثل هذا كثير في السُنّة.
ثم إن هذا الأسلوب خُلُق لم يتوقف عند حد التعليم وتصحيح الخطأ فحسب، بل تعدى إلى كل ما يستحيى من التصريح به من أمور الحياة الزوجيه، والحياة الخاصة المعتادة لدى كل إنسان كالخروج للغائط ونحو ذلك.
والناظر في القرآن الكريم يجد الكثير من ذلك، فقد كنى القرآن وعرض عن الجماع بالملامسة. قال تعالى: (أو لامستم النساء)(48).
وبالرفث. قال تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)(49).
والدخول. قال تعالى: (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن)(50).
والسر. قال تعالى: (ولكن لا تواعدوهن سرًا)(51).
والغشيان. قال تعالى: (فلما تغشاها حملت حملاً خفيفًا فمرت به)(52).
وبالحرث. قال تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم)(53).
وعرض عن البول ونحوه بالغائط. قال تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء)(54).
وعن قضاء الحاجة بأكل الطعام. قال تعالى: (كانا يأكلان الطعام)(55).
ومن هذا الباب في السنة كثيرًا أيضًا.
فعن عائشة رضي الله عنها أن امرأة رفاعة القريظي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:
يا رسول لله: إن رفاعة طلقني، وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل الهدبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا. حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك)(56).
فكنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعسيلة عن الجماع ولم يصرح به.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما عندما عاد معه من غزوة تبوك، وقيل: ذات الرقاع، واراد جابر أن يعجل بالدخول على أهله، فمما قال له عليه الصلاة والسلام: (فعليك بالكيس الكيس)(57).
وأراد من ذلك الجماع طلبًا للولد.(/7)
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلطف شهور أصحابه إذا أراد تعليمهم ما يستحي من التصريح به، حيث كان يقول في بدء تعليمهم ذلك: أنا لكم مثل الوالد أعلمكم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم؛ فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها. الحديث)(58).
ونحو هذا كثير في السنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
والداعية أحوج الناس إلى مراعاة مشاعرهم والتلطف في مخاطبتهم تلميحًا أو تعريضًا، ولتحقيق ذلك يجب أن يكون مرهف الشعور كي يشعر بمشاعر الناس سواء بالفطرة أو بالإفادة من الكتاب والسنة وتوجيه أهل الفضل ذوي الخبرة، كما يجب أن يكون على جانب من العلم في اللغة العربية فضلاً عن العلوم الشرعية، ليتمكن من اختيار الكلمة المناسبة في التلميح والتعريض.
المبحث الثالث
إطلاق الأمر والنهي في الوقت المناسب وبالأسلوب المناسب
ليس مجرد إطلاق الأمر والنهي بكثرة أو تكرار، وباللهجة الحازمة دليلاً مطردًا على قوة شخصية الداعية، وإنما قد يكون على العكس تمامًا، لأن ذلك يدل على ضيق أفق الداعية عندئذ، وإن دل ذلك من وجه آخر على حرص أو إخلاص.
لأن النفوس تتثاقل من الأمر التكليفي، كما يعسر عليها ترك ما اعتادت عليه؛ فمراعاة الظروف النفسية أمر مهم جدًا في ذلك.
كما أن مراعاة الأمر والنهي ولهجتهما مما يتناسب مع تلك الظروف أمر مهم أيضًا لأن للناس مشاعر وأحاسيس مرعية، مما يدعو إلى سلوك الحكمة في إطلاق الأمر والنهي بالأسلوب المناسب، وقد راعى الإسلام ذلك في أسلوبه في التشريع.
فالله عز وجل لم ينزل تحريم الخمر تحريمًا قطعيًا من أول مرة، وإنما على مراحل متعددة وفي أزمنة مختلفة مراعيًا في ذلك الظروف النفسية والعادات المستحكمة، مع اعتبار مدى تأصّل الإيمان في القلب، لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا قريبي عهد بجاهلية فأول آية نزلت في الخمر في مكة لم تصرح ولم تشر إلى تحريمه قط، وإنما كانت حكاية فعل وهي قوله تعالى: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرًا ورزقًا حسنًا)(59).
ثم نزلت بعدها في المدينة آية صرحت بما في الخمر من ضرر ومنفعة، مع الإلماح إلى التحريم.
قال الله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إثم كبير، ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)(60).
فترك عندئذ شربها قوم لقوله تعالى: (فيهما إثم كبير)، وشربها آخرون لقوله تعالى: (ومنافع للناس) ثم نزل بعدها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون)(61).
فصرحت الآية بالتحريم في وقت الصلاة فحسب، وأباحتها فيما سواها.
ثم نزل بعد ذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)(62).
فقد سلك الإسلام طريق التدرج في تحريم الخمر، حيث بدأ بالتنفير منه بطريق غير مباشر، ثم بالتنفير المباشر عن طريق المقارنة بين ذكر ضرره ونفعه مع زيادة الضرر على النفع، ثم بالتحريم الجزئي، ثم بالتحريم الكلي(63).
هذا وقد جاء هذا التدرج في تحريم الربا أيضًا مراعاة للظروف النفسية والعادات المتأصلة، حيث لم ينزل الله عز وجل تحريم الربا بصورة قطعية من أول مرة، وإنما على مراحل متعددة، وفي أزمنة مختلفة، مراعيًا الظروف المذكورة أيضًا.
فأول آية نزلت نوهت بكراهية الله عز وجل للربا دون أن تصرح بتحريمه، وكان ذلك في مكة. قال تعالى: (وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون)(64).
ثم نزل في المدينة تلويح بتحريمه بقوله تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه)(65).
ثم نزل بعد ذلك تحريم جزئي. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة)(66).
ثم نزل بعد ذلك تحريم كلي. قال تعالى: (يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون)(67).
إن هذه الأحكام عندما تنزل تدريجيًا كان يراعى في ذلك الظروف والزمن المناسب تمامًا والأسلوب المناسب ايضًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغها في زمن النزول، ثم بعد ذلك إن ذكر بها آمرًا، أو ناهيًا راعى في ذلك الظرف والوقت المناسب أيضًا.
فالنفوس تسأم وتمل من الإكثار والتكرار، ولا تنشط لها دائمًا.
عن أبي وائل شقيق بن سلمة البلخي رحمه الله قال: كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يذكر الناس في كل خميس. فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: (أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُملّكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السأمة علينا)(68).(/8)
هذا ولم يقتصر الإسلام في التشريع على مراعاة العادات والظروف النفسية، بل راعى الطبقات العلمية والاجتماعية ليعالج بالأسلوب المناسب الذي يؤدي الثمرة المرجوة.
ففي التعزير مثلاً ترك الإسلام مجالاً للقاضي الحاذق البصير تقدير طبقات المعزرين، فرب معزر كان معروفًا في مجتمعه بالفضل ويكفي في ردعه عن القبيح توبيخ أو تأنيب ولو بكلمة، وآخر قد يفتح التوبيخ له ثغرة إلى التمادي في القبيح، فمثله لابد فيه من أسلوب أشد من التوبيخ كالحبس والضرب، وذلك مشروع في التعزير(69) لذا بعد استقرار التشريع السماوي مع نهاية عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان دور العلماء والدعاة تعليم الأحكام والتذكير بها مراعين في ذلك ما راعاه الإسلام من الظروف النفسية والزمانية المناسبة والأسلوب المناسب.
الفصل الثالث
الحكمة في التعامل مع الأتباع
المبحث الأول
مداراة الناس
يختلف الناس في مستوى مداركهم، وفي مستوى أخلاقهم، وفي قدر ما يسكن في نفوسهم من خير أو شر، فقل أن يخلو مجتمع من أحمق أو شرير، والداعية ربما ابتلي في مجتمعه بهذا الصنف من الناس، لذا عليه أن يعرف كيف يداري الناس حسب مداركهم وأخلاقهم بالقول والفعل المناسب ليكسبهم للدعوة، أو ليدفع شرهم في أقل تقدير، ولا يفتح على نفسه ثغرة شرورهم فيخسر الكثير.
والمداراة أصلها المدافعة أو الدفع برفق، قال الإمام ابن بطال: ((المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول))(70).
وقال الحافظ ابن حجر هي: ((الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولاسيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك))(71).
وقال الإمام محمد بن يوسف الصالحي: ((مُلاينة الناس، وحسن صحبتهم، واحتمالهم لئلا ينفروا عنه))(72).
والتعاريف الثلاثة تتفق في المعني وهو: الصبر على الأذى، ولطف المعاملة بالقول و الفعل.
والمداراة تختلف عن المداهنة كثيرًا. قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((الفرق بين المداراة والمداهنة، أن المداراة بذلك الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا. وهي مباحة، وربما استحبت، والمداهنة: ترك الدين لصلاح الدنيا))(73).
وقال الحافظ ابن حجر: ((إن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرضى بما هو فيه من غير إنكار عليه))(74).
والناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد الكثير من مداراته عليه الصلاة والسلام لضعفاء الإيمان، ومن عُرف بالحماقة، وسوء الخلق، حيث يستألفهم بالمال ولطف الجانب ولين الكلام.
أخرج البخاري(75) من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: (ائذنوا له فبئس ابن العشيرة – أو بئس أخو العشيرة – فلما دخل ألان له الكلام، فقلت: يا رسول الله. قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول؟ فقال: أي عائشة إن شر الناس منزلة عند الله من تركه – أو ودعه الناس – اتقاء فحشه). والرجل هو: عيينة بن حصن الفزاري المعروف بالأحمق المطاع(76).
وعن عبد الله بن أبي مُليكة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أهديت له أقبية من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها في أناس من أصحابه، وعزل منها واحدًا لِمخْرَمة، فلما جاء قال: (خبأت لك هذا، وكان في خلقه شيء)(77).
ومخرمة هذا هو ابن نوفل بن أهيب القرشي الزهري والد المِسْوَر، وكان من مسلمي الفتح، وهو أحد المؤلفة قلوبهم، وكان في خُلقه شدة، وفي لسانه بذاءة(78).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مداراة الناس صدقة)(79).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس)(80).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (إنا لنُكشِّر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم)(81).
والكَشَر ظهور الأسنان في الضحك وغيره، وأكثر ما يكون في الضحك وهو المراد هنا(82).
المبحث الثاني
إنزال الناس منازلهم
إن مواقف الداعية من ودٍ للناس، واحترامهم، وإعطاء كل ذي فضل تقديره الائق به، لها دورها الإيجابي، في غرس الثقة به، وتربية قبوله في قلوب الناس، وذلك كسب كبير للدعوة، لأن الدعوة لا تسير على الوجه الصحيح إلا بالثقة بالداعية وقبوله في القلوب.
إن هذه المواقف الإيجابية دليل على وفور عقله، وأنه يعرف قدر نفسه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل)(83).
وقال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله: (من جهل أقدار الناس فهو بمقداره أجهل)(84).
وقد أولى الإسلام هذا الجانب اهتمامًا خاصًا لما فيه من مراعاة لخواطر الناس وحفظ لحقوقهم المعنوية، ولما فيه من كسب للقلوب نحو الإسلام.
قال الله تعالى: (ويؤت كل ذي فضل فضله)(85).(/9)
فإذا أعطى الله عز وجل أصحاب الفضل حقوقهم يوم القيامة، فعلى المخلوق أن يعطي الحق لأهله كذلك في الدنيا ماديًا كان أو معنويًا.
وقد أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم)(86).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا)(87).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه)(88).
ومن هذا الباب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتجاوز عن عثرات أهل الفضل وذوي الهيئات، وتَقبُّل أعذارهم للحفاظ على منزلتهم وشأنهم إلا في حدود الله عز وجل وحقوق الناس، لأنه أمثالهم تكفيهم الإشارة والتلميح بالخطأ زجرًا في الرجوع عنه.
فقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنصار الذين حازوا الخير والفضل كله بإيوائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته، وحبه، وحب كل من هاجر إليهم ومؤاثرته على أنفسهم. أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: (أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزا عن مسيئهم)(89).
والتجاوز عن الإساءة ليس مطلقًا وإنما عدا الحدود الشرعية، وحقوق الناس.
فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)(90).
بعد هذا يحسن التنبيه إلى نكتة وهي: قد يستثنى بعض الدعاة نفسه من ذلك: كما لو كان في صدر مجلس بين أتباعه، ودخل عليه رجل من أهل الفضل وذوي الهيئات فإنه لا يقوم له من مجلسه، ولا يوليه الاحترام المناسب لأنه الأحق بمجلسه؟ فتلك مغالطة نفسية لا أكثر، إذ تمنعه نفسه من ذلك خشية أن يصغر في عين أتباعه، والواقع عكس ذلك.
والأدهى من ذلك ما لو ظن أنه الأحق بكل مجلس في بلده تعليمًا، ووعظًا، وإرشادًا، حيثما حل. وإن كان للمجالس أهل وأصحاب.
إن دين الإسلام دين مراعاة الأحاسيس والمشاعر، ودين أداء الحقوق لأصحابها، حتى لو ارتفعت الكلفة بين الأخوة.
قال أحمد بن يحيى بن الجلاء: ((تُضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه من المودة والصداقة، فإن الله فرض لكل مؤمن حقوقًا لا يضيعها إلا من لم يراع حقوق الله عليه))(91).
المبحث الثالث
كتمان أسرار الناس
إن الداعية موضع ثقة الناس، فهو كالطبيب تعرض عليه مشاكل خاصة بين يديه ليقوم بحلها، فربما تكشفت له فيها عيوب ونقائض، ويُستفتى في أمور خاصة لا يحسن الإفصاح عنها لغيره، فإذا لم يكن على قدر المسؤولية في كتمان أسرار الناس – وهو خلق الرجال – عندئذٍ يفقد تلك الثقة، ونظر الناس إليه نظرة ضعف واستهتار بمقامه، وذلك فضلاً عما قد ينتج عن ذلك من فتنة يكون سببًا في إيقاظها.
ولما كان في إفشاء أسرار الناس، وكشف عوراتهم مهانة لهم وفتنة بينهم نهى الإسلام عن ذلك وحذر من مغبة الوقوع فيه. قال الله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب اليم في الدنيا والآخرة).(92)
إن الآية وإن نزلت في حادثة الإفك لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإذاعة عيوب الناس دليل على مرض في النفس، أو على بساطة وسذاجة، وذلك مدعاة للفتنة.
وعن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمَّع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به)(93).
فمن سمّع بعيوب الناس مذيعًا لها، أظهر الله عيوبه، وسمّع به عقابًا له من جنس عمله(94).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعِرضه)(95).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)(96).
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ستر مسلمًا كان كمن أحيا موءودة من قبرها)(97).
المبحث الرابع
حسن الظن بالمسلمين
إن طبيعة العمل الدعوي تقتضي القرب من الأفراد ومخالطة المجتمع، والاطلاع على زلات المجتمع التي قد تخفى على الآخرين في حين أنه لا يخفى على أحد حال أكثر المسلمين اليوم من الانسياق في تيار الحياة المادية، ونسيان أو تناسي تعاليم الإسلام والقيم الإسلامية.
إن هذا الواقع قد يثبط همة الداعية نحو العمل الدعوي، لأنه مدعاة للإحباط كما يورث سوء الظن بالمجتمع المسلم.(/10)
وسوء الظن يعكر بدوره طريق العمل الدعوي من جانب آخر، لأنه يفرز لهجة جافة في مخاطبته، وربما صاحب ذلك شعور بالأفضلية على مجتمعه – في حين غفلة من نفسه – وكل ذلك يُنفر الناس من الداعية، فلا تتقبله قلوبهم، فمهما بذل فجهده ضائع عندئذٍ.
ولو أمعن الداعية النظر في حقيقة الأمر، وجد أنه ليس كل مظهر من مظاهر المعاصي يدل على موت الإيمان.
لذا على الداعية أن يعمق النظر متجاوزًا ظاهر الوضع العام، لأنه يتعامل مع معادن؛ فكم من معدن نفيس تغطى بغبار المادة، وإنما يحتاج إلى كشط ذلك الغبار حتى تظهر جودة معدنه، وصفاء جوهره.
إنه يتعامل مع إيمان مثقل بأغشية الحياة المادية، ويحتاج إلى من يرفع عنه تلك الأغشية ليتجدد فيه العزم الساكن إلى السير بحيوية في الاتجاه الصحيح.
هذا فيما يتعلق بسوء الظن بعامة المجتمع بالنظر إلى الواقع العام المعاصر، أما سوء الظن في بعض الأفراد نتيجة مشاهدة قرائن أو سماع خبر؛ فعلى الداعية أن يلتمس العذر فيما شاهد ويتحقق مما بلغه ويحسن الظن، لأن شأن المؤمن الوقوع في الخطأ ثم التوبة منه إذا ذُكر أو تذكر، ما دام الإيمان يسكن قلبه.
وغاية الأمر أن يُنبه ويذكر ملمحًا أو معرّضًا، ولا يخبر بذلك أحدًا فيأثم.
قال الإمام بكر بن عبد الله المزني، رحمه الله: ((إياك من الكلام ما إن أصبت فيه لم تؤجر، وإن أخطأت فيه أثمت، وهو سوء الظن بأخيك))(98).
ثم إن سلبيات سوء الظن لا تتوقف على ما سبق وإنما تتعدى إلى الإضرار بالآخرين من سوء السمعة عن طريق التجسس بحجة التحقق من الظن، ثم الغيبة والتشهير، وذلك يؤدي بدروه على حل عري الأخوة، والإضرار بالمصالح، لذلك حرمه الإسلام.
قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضًا .. الآية)(99).
فنهى الله عز وجل عن إشغال القلب بالظن الذي يغلب عليه مطابقة الواقع بعد التتبع المحرم، كيلا نقع في القليل الذي لا يطابق الواقع.
وهذا غاية في صون عرض المسلم والحفاظ على سير المصالح، وتحقيق الأهداف.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: دل سياق الآية على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة لتقدم النهي عن الخوض فيه بالظن فإن قال الظان: أبحث كي أتحقق؟ قيل له: ولا تجسسوا، فإن قال: تحققت من غير تجسس. قيل: ولا يغتب بعضكم بعضًا(100).أهـ
هذا وقد جاء النهي عن سوء الظن في السنة الصريحة بصيغة التحذير.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا)(101).
فسمى الظن أكذب الحديث لأن الاغترار به، أكثر ضررًا من الكذب المحض، لأن الكذب المحض واضح لعدم استناده إلى دليل، أما الظن فإن صاحبه يزعم أنه مستند إلى دليل، والواقع خلاف ذلك(102).
بعد هذا يحسن التنبيه إلى مهمة، يجب أن لا يغفل عنها الداعية، وهي:
إن الأمر بحسن الظن لا علاقة له بانتخاب الكفاءات للساحة العلمية سواء كانت مالية كالشركة في عمل تجاري، أو اجتماعية كالزواج، أو إدارية كالتعيين في منصب ما، لأن انتخاب الكفاءات يحتاج إلى سؤال وتمحيص قائم على سوء الظن للوصول إلى اليقين بصلاح الكفاءات المنتخبة للأداء المطلوب.
ولو قام ذلك على حسن الظن لما احتاج على سؤال واختبار أصلاً، ونتج عن ذلك وضع الشيء في غير موضعه غالبًا، ومن ثم إضاعة الحقوق، وهدر الطاقات والزمن، وهذا هو المراد مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (احترسوا من الناس بسوء الظن)(103).
وما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن من الحزم سوء الظن بالناس)(104).
والله أعلم.
الفصل الرابع
القدرة على تجاوز العقبات الدعوية
والمشكلات الاجتماعية بين الأتباع
المبحث الأول
أخذ الشورى
يحتاج الداعية في مسؤوليته الإدارية إلى النزول إلى ساحة مخاطبيه بعيدًا عن التميز والاستقلالية للامتزاج الموضوعي معهم، مشاورًا(105) إياهم فيما يتعلق بشؤونهم غير منفرد بقرار، وفي ذلك رفع للمعنوية، لما في ذلك من إشعارهم بالمسئولية المشتركة في اتخاذ القرار. قال تعالى: (وأمرهم شورى بينهم)(106) وقال تعالى: (وشاورهم في الأمر)(107).
وذلك أدعى لرزانة القرار، والأمل الكبير في نجاحه، ودليل على حزم الرأي ايضًا، فعن خالد بن مَعدان رحمه الله أن رجلاً قال: يا رسول الله ما الحزم؟ قال: (أن تشاور ذا لُبٍ ثم تطيعه)(108).
إن نتائج المشورة لا تقف عندما سبق، وإنما تضفي على الجماعة ثوب الترابط عن طريق التعاون، والتناصر، والتناصح، والتوادد فيما بينهم، لذا كله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من مشورة أصحابه. قال أبو هريرة رضي الله عنه: (ما رأيت أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم)(109).
فأحسِن بالمشورة من سبيل للنجاح الإداري، وأكرم بها من عقد للترابط الأخوي.(/11)
وبما أن الداعية محل ثقة الناس ومشورتهم، لذا عليه أن يستفرغ جهده وطاقته العلمية، والعقلية وخبرته في إبداء الرأي السديد النابع من حرص، والخالي من شائبة التقصير لأنه مؤتمن.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المستشار مؤتمن)(110).
وعنه رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشده فقد خانه)(111).
المبحث الثاني
حل المشكلات حلاً منهجيًا
تعتري الناس في حياتهم العملية مشاكل تحول دون تحقيق الأخوة الإيمانية فيما بينهم لذا جعل الإسلام الصلح بين المسلمين أصلاً من الأصول العامة في الشرع التي تحقق الأخوة الإسلامية.
قال الله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم)(112).
وقال تعالى: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم)(113).
وقال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما)(114).
وقال تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس)(115).
فقد أمر الله تعالى بالإصلاح بين الناس في الآيات الثلاث الأُوَل، وخصه بالخيرية بأسلوب الحصر في الآية الرابعة ليدل على بالغ أهميته.
هذا وقد ركزت السنة المطهرة على أهمية هذا الأصل العام في أحاديث كثيرة. وطلبًا للاختصار أقتصر منها ما يلي:
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين: الحالقة)(116).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سُلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقه، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة)(117).
والشاهد في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: تعدل بين الاثنين صدقة. أي تصلح بينهما.
وعن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا)(118).
أي يخبر عما رآه من خير، ويسكت عما رآه من شر، ولا يكون في ذلك كذبًا، لأن الكذب: الإخبار بالشيء على غير ما هو عليه، وهذا ساكت(119).
ولا ينسب إلى ساكت قول.
والصلح بين المسلمين له منهجه وأساليبه بحسب أسباب ودواعي الخصومة والمشكلة، إذ إن الخصومة تقع بين المسلمين على النحو الآتي:
أ- بين المسلمين والكفار.
ب- بين فئة باغية وفئة عادلة.
ج- بين الزوجين.
د- بين رجلين في الجراح على مال.
هـ- بين رجلين إذا وقعت المزاحمة في الأملاك التجارية، والديون، أو المشتركات كالشوارع، ونحو ذلك(120).
والداعية موضع الثقة لدى الناس فقد يدخل في الصلح بأنواع الخصومات السالفة الذكر؛ لذا عليه أن يكون على علم بالآتي:
أ- الأسباب الجذرية للمشكلة.
ب- الظروف النفسية المحيطة بالخصوم.
ج- القدرات الفكرية، والعلمية، والمالية لدى الخصوم.
د- منهج الشرع الحكيم في أسلوب الصلح في كل نوع من أنواع الخصومات السالفة الذكر.
ولا بد من بعد ذلك: من ثقة طرفي النزاع بالداعية المصلح، مع تحليه بالحلم والفطنة، ولعل لمكانة الداعية أثر جيد في ذلك، إذا كان الداعية على قدر المسؤولية.
وبما تقدم يمكن احتواء المشاكل بصورة جذرية، دون فسح المجال لنشوبها من جديد.
والله أعلم
الخاتمة
الحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات، والصلاة والسلام على من رسالته خاتمة الرسالات، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
- فإن الصفات الإدارية في الداعية لا تقل أهمية عن الصفات العلمية والفكري لأن بها يتمكن الداعية من ربط القلوب المؤمنة بعضها ببعض، ووضعها في المنهج القويم لتسير قدمًا نحو مرضاة ربها مجتمعة ومنفردة دون عائق، ولا يعني ذلك أنه إذا افتقر الداعية إليها جميعًا أو بعضها سقط عنه حكم وجوب الدعوة لأن الدعوة واجب كفائي بما يملكه الداعية من استعدادات عقلية وعلمية تمكنه من أداء أدنى حد من الهدف الدعوي لكن دون أن يفتح ثغرة على الإسلام مع تكليفه بصقل شخصيته بالدراسة والفهم، والإفادة من الآخرين، ورياضة النفس، وتعميق الإيمان، كي يتوسم بعد ذلك النجاح والقبول في دعوته.
- على المؤسسات التعليمية الدعوية أن تعنى بتدريب خريجيها من الدعاة على هذا الجانب في شخصية الداعية؛ لما له من أهمية، وأن تزود الدعاة بين الحين والآخر بنتائج الخبرات الدعوية، خاصة فيما يتعلق بالوسائل التي تساعد على صقل شخصية الداعية علميًا، وعقليًا، وتربويًا، وإداريًا؛ كي يحظى بالقبول عندا لله وعند المخاطبين.
- إن الحياة الإدارية ربما قامت على حظ النفس، وهو حبها للسيطرة الإدارية – وتلك شائبة خطيرة.
- ففرق كبير بين داع يدعو إلى ربه، وداعٍ يدعو إلى نفسه.(/12)
إن العمل الدعوي لن ينجح كما يريده الله عز وجل إلا إذا قام على إخلاص القول والفعل لله عز وجل، واجتماع الأتباع على الداعية وكثرتهم مدعاة تسلل حظ النفس في الأقوال والأفعال.
والإداري الفارس من يميز بين عزم القلب الخالص، وتسلل النفس بالدسائس. والله الهادي إلى سواء السبيل.
ثبت المراجع
1- القرآن الكريم.
2- الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، ت (911هـ) المطبعة العصرية، بيروت، 1407هـ.
3- أدب الدنيا والدين، الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري، ت (450 هـ) دار الكتب العلمية، بيروت.
4- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد النمري، ت (463 هـ) مكتبة نهضة مصر ومطبعتها، مصر.
5- الإلماع إلى اصول الرواية، وتعييد السماع، القاضي عياض بن موسى بن عياض بن عمرو أبو الفضل اليحصبي، ت (544هـ) دار التراث القاهرة، والمكتبة العتيقة، تونس، 1389هـ.
6- تاريخ المدينة المنورة، ابن شبّة، أبو زيد عمر بن شبَّة النمري البصري، ت (262هـ) تحقيق فيهم شلتوت، طبع على نفقة السيد حبيب محمود أحمد بالمدينة المنورة.
7- تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، أبوبكر أحمد بن علي بن ثابت، ت (463هـ) دار الكتب العلمية، بيروت.
8- تدريب الراوي، في شرح تقريب النواوي، السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر الطبعة الأولى، المكتبة العلمية، المدينة المنورة، 1379هـ.
9- تفسير آيات الأحكام من القرآن، الصابوني، الشيخ محمد علي مكتبة الغزالي، دمشق، الطبعة الثانية 1397هـ.
10- تفسير البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي؛ محمد بن يوسف، ت(754هـ) دار الفكر، بيروت الطبعة الثانية، 1403هـ.
11- تفسير التحرير والتنوير؛ الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر.
تفسير القرآن العظيم؛ ابن كثير: إسماعيل بن كثير الدمشقي، ت(774هـ). مكتبة النهضة الحديثة، مصر، الطبعة الأولى، 1384هـ.
12- التفسير الكبير، الفخر الرازي، ت(606هـ) دار إحياء التراث العربي الطبعة الثالثة، بيروت.
13- تقريب التهذيب، ابن حجر، أحمد بن علي بن محمد العسقلاني، ت(852هـ) دار الرشيد، حلب، سورية، 1406هـ.
14- التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، الأسنوي، جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن الأسنوي، ت(772هـ) دار الإشاعة، أحاديث أكاديمي، الهند.
15- تهذيب التهذيب، ابن حجر، دار صادر، بيروت.
16- جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق أبو الأشبال الزهري، دار ابن الجوزي، الرياض 1416هـ.
17- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، ت(310هـ) دار الفكر بيروت، 1405هـ.
18- الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، السيوطي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الرابعة.
19- الجامع لأحكام القرآن، القرطبي؛ محمد بن أحمد الأنصاري، ت(671هـ) دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، 1387هـ.
20- الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، السمين الحلبي؛ أحمد بن يوسف، ت(756هـ) دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1411هـ.
----------
(1) انظر: فتح الباري، 8/336.
(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم 1/66، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 7/11 وحدائق الأنوار 2/824.
(3) الأعراف 145
(4) مريم 12
(5) انظر: جامع البيان 6/58 و 9/55، المحرر الوجيز 6/74 و 9/420، زاد المسير في علم التفسير 3/259 التفسير الكبير للرازي 14/236 و 21/191، الجامع لأحكام القرآن 7/281 و 11/86’ تفسير البحر المحيط 4/388 و 6/176، روح المعاني 9/58 و 16/72، التحرير والتنوير 9/100 و 16/75.
(6) التحرير والتنوير 9/100.
(7) انظر: أدب الدنيا والدين ص 307.
(8) لسان العرب 4/295، القاموس 2/32، تاج العروس 11/331.
(9) البقرة 282
(10) النكت والعيون 1/196، وانظر تفسير البحر المحيط 2/353، تفسير القرآن العظيم 1/349.
(11) فتح القدير 1/302.
(12) لسان العرب 4/299، القاموس 2/33، تاج العروس 11/334.
(13) النساء 108.
(14) فتح القدير 1/511.
(15) لسان العرب 4/297، القاموس 2/33، تاج العروس 11/338.
(16) اختلف الباحثون الإداريون في تعريف الإدارة اختلافًا كثيرًا يتسم بتعدد وجهات النظر في ذلك والإطناب في التعريف. انظر مبادئ الإدارة والقيادة في الإسلام ص 23 و 169، المفاهيم الإدارية الحديثة ص 12 – 13.
(17) انظر للمقارنة؛ كتاب مبادئ الإدارة والقيادة في الإسلام، د. محمد بن عبد الله البرعي ص 66، 69، 70، 81، 169، ومن ص 183 – 233. وكتاب المفاهيم الإدارية الحديثة، د. فؤاد الشيخ سالم، د. زياد رمضان، د. محسن مخامرة د. أميمة الدهان. ص 181، 183، 185، 197، 203، 217، 231، 234.
(18) كان يُقوّم الأشخاص باعتبار ما كانوا عليه لا باعتبار ما هم عليه، أو بما يسمعه عنهم دون تحقق وتثبت ومعاينة، أو يصغى إلى تقويم الآخرين دون تثبت ورويّة.(/13)
(19) أخرج البخاري من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت في حديثها عن هجرة أبي بكر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم: (وتجهز أبو بكر قِبَل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رِسْلك، فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال أبوبكر: وهل ترجو ذلك بأبي وأمي أنت؟ قال: نعم. فحبس أبوبكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه.. الحديث).
مناقب الأنصار باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة 7/230-231، المسند 6/198.
(20) أخرج البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (أول من قدم علينا – يعني المدينة – مصعب بن عمير وابن أم مكتوب وكانوا يُقرئون الناس، فقدم بلال وسعد وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم، الحديث). مناقب الأنصار، باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة 7/259.
(21) انظر القصة في طبقات ابن سعد 2/131. وأخرج الطبراني في الكبير مرسلاً عن ابن بُريدة؛ (أن أبا بكر رضي الله عنه قال لعمر يوم ذات السلاسل: إنما ولاه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلمه بالحرب). قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح غير المنذر بن ثعلبة وهو ثقة. مجمع الزوائد 9/355.
(22) نص على ذلك الحافظ الذهبي رحمه الله. أنظر سير أعلام النبلاء 2/500، طبقات ابن سعد 4/66.
(23) القصة أخرجها البخاري في فضائل الصحابة، باب مناقب زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. مختصرة ليس فيها إنفاذ أبي بكر رضي الله عنه لجيش أسامة بعد استخلافه 7/86 وأخرجها ابن سعد مطولة بإسناده من حديث هشام بن عروة عن أبيه، وفيها إنفاذ أبي بكر جيش أسامة 4/67.
(24) قال ذلك أبو الدرداء رضي الله عنه في حديث طويل كما عند البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمار وحذيفة رضي الله عنهما 7/90 وانظر المسند 6/449.
(25) الحجرات الآية 6.
(26) أخرجه مالك في الموطأ مرسلاً، كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق 2/745 وأحمد في المسند 5/327. وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره. من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وقال في الزوائد: رجال إسناده ثقات إلا أنه منقطع، لأن إسحاق بن الوليد، قال عنه الترمذي وابن عدي: لم يدرك عبادة بن الصامت. وقال البخاري: لم يلق عبادة. أهـ 2/784 رقم (2340) والحديث أجمع الفقهاء على العمل به وأصبح أحد القواعد الفقهية الكبرى. انظر شرح القواعد الفقهية ص 113.
(27) انظر: المحصول في علم الأصول الجزء الأول القسم الثاني ص 317، شرح الكوكب المنير 1/357، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول ص 15، الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية 269.
(28) هذه الشروط حوتها كتب علوم الحديث والفقه وأصوله. انظر علوم الحديث لابن الصلاح صفحة 94 – 96، هدي الساري مقدمة فتح الباري 385، وفتح المغيث 3/362، وتدريب الراوي 198 – 210، المغني لابن قدامه 14/145 – 150 و178، وشرح الكوكب المنير 2/378 – 389، المحصول الجزء الثاني – القسم الأول 563 – 612.
(29) الذاريات الآية 55.
(30) المسند 204 225 – 208 – ، أبو داود كتاب الأقضية باب من ترد شهادته 4/24، والترمذي أبواب الشهادات باب ما جاء فيمن لا تجوز شهادته 7/62 واستغربه من حديث أم المؤمنين رضي الله عنها، وقال: وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، وابن ماجة كتاب الأحكام، باب من لا تجوز شهادته 2/792، وإسناد عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده محتج به عند أكثر المحدثين. انظر علوم الحديث لابن الصلاح ص 283، فتح المغيث 3/194 – 195، تدريب الراوي ص 434.
(31) انظر غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام 2/154، النهاية 3/384.
(32) جواز القراءة خلف الإمام ص 14.
(33) جامع بيان العلم وفضله 2/125 – 155.
(34) ميزان الاعتدال 1/111، ترجمة أحمد بن عبد الله الأصبهاني.
(35) مريم الآية 12.
(36) الأعراف الآية 145.
(37) الشعراء الآيتين 214 و215.
(38) آل عمران الآية 159.
(39) البقرة الآية 119.
(40) النساء الآية 63.
(41) الروم الآية 60.
(42) هذا الوصف من قول سيدنا علي رضي الله عنه. أخرجه الترمذي أبواب المناقب، باب وصف علي للرسول صلى الله عليه وسلم – وقال حديث حسن غريب، ليس إسناده بمتصل 9/255 رقم (3642) وإنما كان إسناده ليس بمتصل؛ لأنه من طريق إبراهيم بن محمد بن علي، وإبراهيم لم يسمع من جده علي رضي الله عنه. أنظر تهذيب الكمال 2/183، تهذيب 1/157، والحديث أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 6/328 رقم (31805) والبيهقي في شعب الإيمان 2/150 رقم (1415) من طريق إبراهيم بن محمد ايضًا، لكن حسنه الإمام الترمذي لمتابعاته وشواهده، فقد تابع إبراهيم بن محمد نافع بن جبير بن مطعم عن علي به، أخرجه الترمذي مختصرًا وصححه. انظر رقم (3641).(/14)
(43) البخاري، كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب 10/513، مسلم، الفضائل، باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم، 4/1809.
(44) أبو داود، كتاب الأدب، باب في حسن العشرة، 5/143 وفي إسناده عبد الحميد بن عبد الرحمن الحِماني، اختلفوا في توثيقه وتضعيفه، وقال عنه الحافظ ابن حجر: صدوق يخطئ. قلت: وقد روى له الشيخان وأصحاب السنن سوى النسائي. انظر تهذيب التهذيب 6/120، تقريب التهذيب ص 393 رقم (3771) مقدمة فتح الباري ص 416 ويشهد للحديث الحديثان الآتيان بعده.
(45) البخاري، كتاب الأذان، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة 2/223، مسلم، الصلاة، باب النهي عن رفع البصر إلى السماء 1/321.
(46) البخاري، كتاب الصيام، باب التنكيل لمن أكثر الوصال 4/2.5 ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم 2/775 رقم (59) واللفظ له.
ومعنى يدع المتعمقون تعمقهم: أي لو أردت أن أواصل لفعلت دون فتور أو ملل، فإذا قلدني المتعمقون في الدين دون توازن – انقطعوا، أو تركوا تعمقهم. والمتعمق: المبالغ في الأمر، المتشدد فيه، الذي يطلب أقصى غايته. أنظر النهاية 3/299.
(47) أبو داود كتاب الأدب، باب من حسن العشرة 5/143، وفي الحديث سِلم بن قيس العلوى. قال الحافظ في التقريب ضعيف ص 292 (2473) وقال في الفتح 10/304 (5846) فيه لين. والحديث أخرجه الترمذي في الشمائل من طريقه أيضًا، باب ما جاء في خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. ص 182 رقم (339) ويشهد للحديث ما تقدمه من أحاديث.
(48) النساء الآية 43.
(49) البقرة الآية 187.
(50) النساء الآية 23.
(51) البقرة الآية 235.
(52) الأعراف الآية 189.
(53) البقرة الآية 223.
(54) المائدة الآية 6.
(55) المائدة الآية 75 وانظر الإتقان في علوم القرآن للإمام السيوطي 3/143.
(56) أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب من قال لامرأته أن علي حرام 9/371 والهدبة استعارة من حَمَل الثوب المتدلي، أرادت به صفة الجماع. انظر القاموس 1/144.
(57) البخاري، كتاب الشروط، باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى 5/320، كتاب النكاح باب طلب الولد 9/341، ومسلم، كتاب الرضاع، باب استحباب نكاح البكر 3/1078 رقم 56 – 57 وفي الحديث قصة.
(58) أبو داود، كتاب الطهارة، باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة 1/18، وأخرجه النسائي، كتاب الطهارة باب النهي عن الاستطابة بالروث 1/38 (40) وابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث 1/114 (313)، أخرجه جميعًا من طرق عن محمد بن عجلان المدني، عن القعقاع بن حكيم الكناني المدني، عن ذكوان أبي صالح السمان المدني، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. ورجال إسناده ثقات أثبات سوى محمد بن عجلان قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة ص 579 (6236) وللحديث شواهد كثيرة في أبواب الطهارة من الكتب الستة.
(59) النحل الآية 67.
(60) البقرة الآية 219.
(61) النساء الآية 43.
(62) المائدة الآية 90
(63) تفسير آيات الأحكام للشيخ محمد علي الصابوني 1/272 – 73.
(64) الروم الآية 39.
(65) النساء الآيتان 160 – 161.
(66) آل عمران الآية 130.
(67) البقرة الآيتان 278 – 279.
(68) البخاري، كتاب العلم، باب من جعل لأهل العلم أيامًا معلومة، 1/163، مسلم، كتاب صفات المنافقين باب الاقتصاد في الموعظة 4/2172 رقم (2).
(69) التعزير عقوبة مشروعة في جناية لا حدّ فيها، ويحصل بالضرب والحبس والتوبيخ، انظر المغني 11/253 -26.
(70) فتح الباري 10/528.
(71) المرجع السابق.
(72) سبل الهدى والرشاد 7/47.
(73) انظر فتح الباري 10/454.
(74) فتح الباري 10/528 قال ابن فارس في معنى المداهنة: الدال والهاء والنون، اصل واحد يدل على لين، وسهولة، وقلة، ومن الباب؛ الإدهان. من المداهنة وهي المصانعة، وداهنت الرجل؛ إذا واريته وأظهرت له خلاف ما تضمر له. يقال: أدهنت إدهانًا: غششت. ومنه قوله جل ثناؤه: (ودوا لو تدهن فيدهنون). سورة القلم، 9 معجم مقاييس اللغة 2/308، وانظر لسان العرب 13/162.
(75) كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس 10/527، مسلم، كتاب البر والصلة، باب مداراة من يتقي فحشه. 4/2002 رقم (73).
(76) انظر فتح الباري 10/529 والاستيعاب 3/1249.
(77) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس، 10/527.
(78) انظر الاستيعاب 3/1380 وفتح الباري 10/529.
(79) قال الحافظ ابن حجر: أخرجه ابن عدي والطبراني في الأوسط، وفي سنده يوسف بن محمد بن المنكدر ضعفوه. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وأخرجه ابن أبي عاصم في آداب الحكماء، وبسند أحسن منه أهـ. فتح الباري 10/528.
(80) عزاه الحافظ ابن حجر للبزار وضعّف إسناده. فتح الباري 10/528. وقال الهيثمي: فيه عبيد الله بن عمرو أو ابن عمر القيسي. وهو ضعيف. مجمع الزوائد 8/20.(/15)
(81) أخرجه البخاري معلقًا بصيغة التمريض في كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس. وقال الحافظ ابن حجر: وصله ابن أبي الدنيا، وإبراهيم الحربي في غريب الحديث، والدينوري في المجالسة من طريق أبي الزاهية عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء أهـ فتح الباري 10/528.
(82) انظر القاموس المحيط 2/132. فتح الباري 10/528 النهاية 4/170.
(83) هذا حديث مرفوع ورد عن العسكري في الأمثال من طريق أنس ابن مالك رضي الله عنه، وعند ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق عائشة رضي الله عنها، وقد ضعفه العجلوني وقال: ولكن المعنى صحيح قاله السخاوي أهـ. انظر كشف الخفاء 1/250، المقاصد الحسنة ص 108، رقم (212).
(84) انظر الإلماع ص 243.
(85) هود الآية 3.
(86) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم 5/173 من حديث ميمون بن أبي شبيب عن عائشة رضي الله عنها وقال: ميمون بن أبي شبيب لم يدرك عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه الإمام مسلم معلقًا في مقدمة صحيحه 1/6، وصححه الإمام الحاكم في معرفة علوم الحديث له ص 49، والإمام أبو عمرو بن الصلاح في علوم الحديث له ص 276، والسيوطي في الجامع الصغير1/109 وللحديث شاهد من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عند الخرائطي في مكارم الأخلاق 1/58 رقم (41) حسّنه السيوطي في الجامع الصغير 1/109 وانظر كشف الخفاء1/224.
(87) الترمذي، البر والصلة، باب ما جاء في رحمة الصبيان، وقال: حسن صحيح 6/170، وأخرجه أحمد بلفظ مقارب. المسند 2/222.
(88) قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفي إسناده عيينة بن يقظان وثقه ابن حبان، وكذلك مالك بن الحسن بن مالك بن الحويرث، وفيهما ضعف، وبقية رجاله ثقات. وعزاه أيضًا على البزار والطبراني من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وعزاه إلى الطبراني من حديث جابر ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن ضميرة عن ابيه، وعن أبي هريرة رضي الله عنهم جميعًا، وكل هذه الطرق لم تخل من مقال، غير أن تعددها مشعر بأن ضعف الحديث قريب محتمل. والله أعلم. مجمع الزوائد 8/18.
(89) البخاري، كتاب المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: اقبلوا من محسنهم وتجاوزا عن مسيئهم 7/120: مسلم، فضائل الصحابة 4/1949 رقم 176.
(90) أبو داود، كتاب الحدود، باب الحد يشفع فيه 4/540، المسند 6/181 وقال المنذري: في إسناده عب الملك بن زيد العدوي، وهو شعيف الحديث [مختصر سنن أبي داود 6/231] قلت: إن الحافظ الذهبي قد ذكر تضعيف علي بن الجنيد له، وقول النسائي فيه: لا بأس به. انظر الميزان 2/5210 الكاشف 1/664 المغني في الضعفاء 1/574 واقتصر الحافظ ابن حجر في التقريب ص 425 (4179) على ذكر قول الإمام النسائي وذلك مشعر بارتياحه إلى حكم النسائي فيه والله أعلم.
(91) تاريخ بغداد. 5/215.
(92) النور الآية 19.
(93) البخاري، كتاب الرقائق، باب الرياء والسمعة 11/335.
(94) وهذا المعنى بعض معاني هذا الحديث. وانظر باقي معانيه في فتح الباري 11/337.
(95) مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم 4/1986 رقم (2564) والعِرض: موضع المدح والذم من الإنسان، سواء كان في نفسه، أو في سلفه، أو من يلزمه أمره. انظر النهاية 3/208 – 209.
(96) البخاري، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه 5/97، مسلم البر والصلة، باب تحريم الظلم 4/196 رقم 58.
(97) المسند 4/147 – 158 – 159.
(98) تهذيب التهذيب 1/484.
(99) الحجرات الآية 12.
(100) أما مجرد الخواطر التي لا يؤدي إلى تجسس، وغيبة وإضرار بالمظنون به فهذا لا يمكن دفعه عن القلب. يؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم.) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره 9/388 وانظر كلام الحافظ بن حجر في المسألة 10/481.
(101) البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر 10/481، مسلم، كتاب البر، باب تحريم الظن والتجسس 4/1985 رقم (28).
(102) انظر فتح الباري 10/482.
(103) عزاه الهيثمي للطبراني في الأوسط، وقال: فيه بقية بن الوليد وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات. مجمع الزوائد 8/92.
(104) أخرجه بن شبّه في تاريخ المدينة المنورة 3/801.
(105) الشورى: لغة أخذ شيء من شيء مشتق من قولهم: شِرت العسل أشوره. أي أخذته، فكأن المستشير يأخذ الرأي من غيره. انظر معجم مقاييس اللغة 3/226، لسان العرب 4/434.
واصطلاحًا: استنباط المرء الرأي من غيره فيما يعرض له من مشكلات الأمور التي يتردد المرء فيها بين فعلها وتركها. انظر الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني 294، وانظر المفردات 270.
(106) الشورى الآية 38.
(107) أل عمران الآية 159
(108) المراسيل لأبي داود صفحة (441) وعزاه الحافظ لأبي داود في المراسيل من طريق عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي حسين. ولم أجده في المطبوعة. انظر فتح الباري 13/190.(/16)
(109) ذكره الترمذي بدون إسناد. أبواب الجهاد، باب ما جاء في المشورة 6/35، وأحمد من رواية الزهري عن أبي هريرة رضي الله عنه ضمن حديث أخرجه من طريق الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، في قصة صلح الحديبية 4/328 وعزاه الحافظ ابن حجر لابن أبي حاتم، وقال: رجاله ثقات إلا أنه منقطع، فتح الباري 13/340 والانقطاع ما بين الزهري وأبي هريرة رضي الله عنه، وما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم هو منهج في سيرته عليه الصلاة والسلام مع أصحابه امتثالاً لأمر ربه سبحانه (وشاورهم في الأمر) يؤكد ذلك مشورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في عزوة بدر لمباشرة القتال، عند مسلم في كتاب الجهاد والسير 3/1403 رقم (83) ثم في أسرى بدر عند مسلم أيضًا، الجهاد والسير رقم (58) ويوم أحد في قتال المشركين داخل المدينة أو خارجها، علقها البخاري بصيغة الجزم، كتاب الاعتصام باب (28) ووصلها الطبراني وصححها الحاكم، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر. انظر فتح الباري 13/339، ويوم الحديبية عند البخاري في كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والحرب 5/329، وفي حادثة الإفك عند البخاري، كتاب التفسير باب تفسير سورة النور 8/452.
(110) أبو داود، الأدب، باب في المشورة 5/345، الترمذي الأدب، باب المستشار مؤتمن. وقال: حديث حسن 8/46، ابن ماجة الأدب، باب المستشار مؤتمن 2/1232 من حديث أبي مسعود الأنصاري. قال في الزوائد: إسناد حديث أبي مسعود صحيح. رجاله ثقات.
(111) المسند قطعة من حديث 2/321 – 365.
(112) الحجرات الآية 10.
(113) الأنفال الآية 1.
(114) الحجرات الآية 9.
(115) النساء الآية 114.
(116) أبو داود، كتاب الأدب، باب في إصلاح ذات البين 5/218، والترمذي، أبواب صفة القيامة، باب سوء ذات البين. وقال حسن صحيح 7/198.
(117) البخاري، كتاب الجهاد، باب من أخذ بالركاب 6/132 مسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف 2/697 رقم (56).
(118) البخاري، كتاب الصلح، باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس 5/299، مسلم، كتاب البر والصلة، 4 باب تحريم الكذب وبيان المباح منه 4/2011.
(119) انظر فتح الباري 5/299 – 300.
(120) انظر فتح الباري 5/298 والمغني لابن قدامة 7/5.
* كلية التربية جامعة الملك فيصل – السعودية.(/17)
الصفحة الأخيرة من حياة عمر رضي اللّه عنه
بقلم: الدكتور جابر قميحة
komeha@menanet.net
قال عنه رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم «... لم أرَ عبٍقريا يفٍري فريه...» أي يقطع في الأمور, ويحسمها حسمه, ووصفه رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم بأنه «محدَّث», أي ملهم, ذو شفافية إيمانية وروحية فائقة, وقد تكون هذه السمة تعليلاً لما نزل بسببه من آيات قرآنية, وما نزل منها موافقًا لرؤيته, حتي قال عنه ابنه عبد اللّه رضي اللّه عنهما «ما نزل بالناس أمر قط, فقالوا فيه, وقال فيه عمر إلا نزل القرآن علي نحو ما قال عمر». ومن كلمات عمر رضي اللّه عنه «وافقتُ ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم, وفي الحجاب, وفي أساري بدر».
كانت خلافة أبي بكر رضي اللّه عنه قرابة عامين, وقد استغرقها التصدي للمرتدين, والقضاء علي فتنتهم, وتأمين الجبهة الشمالية ببعث أسامة رضي اللّه عنه, وجمع القرآن بعد أن استشهد عشرات من كبار القراء (حفظة القرآن) في قتال مسيلمة بن حبيب الكذاب.
ولكن خلافة عمر رضي اللّه عنه امتدت لعشر سنين وبضعة أشهر, واتسعت هذه السنين للفتوحات العظيمة, ودك دولتيٍ الفرس والروم, وانتشار الإسلام في أرجاء الأرض, وانتعش الاقتصاد, وارتفع مستوي المعيشة, وساد العدل والطمأنينة, وأصبح للإسلام وخليفته المكانة الأولي علي مستوي العالم كله.
وسجل التاريخ للخليفة عمر أكثر من خمسين أولية, لم يسبقه أحد إليها, فله بها مكان السبق والريادة. ومنها أنه كان أول من مصَّر الأمصار بإنشاء مدن جديدة أشهرها الكوفة والبصرة, وأول من استقضي – عيَّن - القضاة في الأمصار, وأول من دوّن الدواوين, فسجل أسماء الناس وأعطياتهم, وأول من اتخذ دارًا للدقيق والمواد التموينية الأخري مثل التمر والزبيب, لإطعام الفقراء, ومن ينزل بالمدينة من الضيوف, وأول من اتخذ بيت المال, وأول من وسّع مسجد الرسول صلي اللّه عليه وسلم وفرشه بالحصا, وأول من جمع الناس علي التراويح في رمضان...
مؤامرة .. وشهيد
ولقي عمر ربه شهيدًا بطعنات غادرة علي يد أبي لؤلؤة المجوسي وهو يصلي الفجر في الأسبوع الأخير من ذي الحجة سنة 32هـ ولفظ آخر أنفاسه بعد طعنه بثلاثة أيام, ومن يتعمق الوقائع آنذاك يدرك - أو يرجح - أن الخليفة قُتل بمؤامرة تعددت أطرافها:
فأبو لؤلؤة - واسمه فيروز - مجوسي موتور, من سبٍي مَعٍركة «نهاوند», وأنزله سيده: المغيرة بن شعبة المدينة, ويقال إنه ظل وفيًا لوطنه, فكان يبكي ويقبل أيدي أطفال الفرس. وشكا لعمر سيده المغيرة بن شعبة لأنه كان يتقاضي منه أربعة دراهم في اليوم, مع أنه كان صانعًا ماهرًا جدًا في النجارة والحدادة ونحت الحجر, وغيرها. قال له عمر: ما ظلمك مولاك, فأحسن إليه, فقد علمت أنك صَنَاع ماهر تصنع الأرحاء, وقيل إنك تستطيع أن تصنع رحي تدور وتطحن بالريح (أي طاحونة هوائية). فقال العبد غاضبًا: لأصنعن لك رحي يتحدث بها الناس, فقال عمر لمن معه: هددني العبد آنفًا (أي أن عبارته توحي بأنه ينوي قتلي(
وصنع أبو لؤلؤة خنجرًا له رأسان, يُمسك من وسطه, وسمّه وطعن به الخليفة وهو يكبر لصلاة الفجر, وطعن بالخنجر نفسه ثلاثة عشر من المسلمين, مات منهم تسعة, ثم انتحر بعد أن طرح عليه عبد الرحمن بن عوف بُرنُسه (عباءته) للإمساك به.
ومما يرجح ما ذكرناه آنفًا من أن الجريمة عليها طابع المؤامرة شهادة عبد الرحمن بن أبي بكر رضي اللّه عنهما, وخلاصتها أنه مرّ علي أبي لؤلؤة ومعه جفينة النصراني, والهرمزان الفارسي (أحد قادة الفرس الذين أسرهم المسلمون وعاش في المدينة متظاهرًا بالإسلام) وهم نجيّ (أي مجتمعون يتهامسون) فلما باغتهم اضطربوا, ونهضوا وسقط من بينهم الخنجر الذي قُتل به عمر رضي اللّه عنه (والعرب لم يعرفوا, ولم يستخدموا هذا النوع من الخناجر . والأستاذ علي الطنطاوي - رحمه اللّه - يري في هؤلاء الثلاثة شركاء أصليين, وهناك متهمان فرعيان كانا علي علم بالمؤامرة هما كعب الأحبار وعيينة بن حصن, علي تفصيل لا يتسع المجال لذكره.
إنها الشوري..
وحرصًا علي سلامة الأمة, وترسيخ قاعدة الشوري اختار عمر رضي اللّه عنه ستة من الصحابة يعدون - من وجهة نظره - خير العناصر الصالحة لحكم المسلمين, وهم: علي, وعثمان, وطلحة, والزبير, وسعد بن أبي وقاص, وعبد الرحمن بن عوف 0 علي أن يجتمعوا, ويختاروا من بينهم واحدًا خلال ثلاثة أيام, ليكون خليفة علي المسلمين, ويضم إليهم عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما, يستشار, ولا يُختار. واستقر الأمر علي عثمان بن عفان رضي اللّه عنه, علي ما هو معروف في التاريخ.
رفض عمري(/1)
وفي هذا السياق نشير إلي واقعة لابد من ذكرها, وخلاصتها أن المغيرة بن شعبة أشار علي عمر رضي اللّه عنه بعد طعنه أن يستخلف بعده ابنه عبد اللّه, فغضب عمر, وقال له: قاتلك اللّه, واللّه ما أردت اللّه بهذا, ولا أربَ (رغبة) لنا في أموركم, وما حمدتُها - الخلافة والسلطة -, فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي, إن كان خيرًا فقد أصبٍنا منه. وإن كان شرًا فحسٍب آل عمر أن يُحاسََب منهم رجل واحد, ويسأل عن أمر أمة محمد صلي اللّه عليه وسلم. أما لقد جهدتُ نفسي, وحَرمتُ أهلي, وإن نجوت كفافًا, لا وزر, ولا أجر إني لسعيد.
شخصية ابن عمر
لقد رفض عمر رضي اللّه عنه أن يستخلف ابنه من بعده حرصًا علي الشوري, وهي قاعدة القواعد في الحكم والخلافة, ولو فعل لتحولت الخلافة إلي ملك عضوض. وأخذًا بالأحوط, وحرصًا منه علي ألا يحكم ابنه من بعده, لم يجعله واحدًا من الستة الذين يختار من بينهم المسلمون خليفة, وحصر حقه في أن يستشار ولا يُختار.
وكأن عمر بفراسته وشفافيته كان يدرك أنه لو كان واحدًا من الستة لرجحت كفته لسببين:
الأول: تعاطف الناس مع عمر, وحبهم له, لما عاشوه في عهده من عدل ورحمة, وحرص علي مصلحة الناس وإسعادهم, وهذا التعاطف سيمتد بداهة إلي ابنه, بل إنه سترتفع درجته - من قبيل الوفاء لعمر - بعد أن لقي ربه شهيدًا.
والثاني: أن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنه كان شخصية «نموذجية متكاملة», جمعت كل صفات المسلم المثالي التي تؤهله لموقع الخلافة, فهناك إجماع علي أنه كان أشبه الناس برسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم. وتاريخه كله يمثل سجلاً مشرقا في التدين والعلم والسلوك. أسلم مع أبيه, وهاجر إلي المدينة وعمره عشر سنين. وكان حريصًا علي الجهاد من صغره, ولكن النبي صلي اللّه عليه وسلم استصغره فرّده يوم بدر, ورده يوم أُحد. وبدأت مسيرته الجهادية من «الخندق».
قال عنه رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم «نعم الرجل عبد اللّه, لو كان يصلي من الليل», فكان بعدها لا ينام من الليل إلا القليل. وقال عليه الصلاة والسلام لحفصة رضي اللّه عنها: «إن أخاك عبد اللّه رجل صالح».
وعن ورعه وزهده, وتعففه عن متاع الدنيا قال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه: «إن أمٍلك شباب قريش لنفسه عن الدنيا عبد اللّه بن عمر». وجاء عن السدّي «رأيت نفرًا من الصحابة كانوا يرون أنه ليس أحد فيهم علي الحالة التي فارق عليها النبي صلي اللّه عليه وسلم إلا ابن عمر».
وعاش بعد رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم ستين عامًا يفتي الناس, وتأتيه الوفود من كل مكان في الأرض يستفتونه. ولا معقب ولا ناقض لما أفتي به, وذلك لسعة علمه وفقهه. قال أحدهم للإمام مالك رضي اللّه عنه «أسمعت من المشايخ يقولون من أخذ بقول ابن عمر لم يدَعٍ من الاستقصاء شيئًا? قال مالك: نعم».
وكان يبكي إذا سمع قوله تعالي: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} [الحديد: 61], وكذلك إذا ذكر رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم.
ومن حرصه علي الشوري ومصلحة المسلمين يروي أن نفرًا أتوه بعد مقتل عثمان بن عفان رضي اللّه عنه, وعرضوا عليه أن يبايعوا له, قال: وكيف لي بالناس? قالوا: تقاتلهم, ونقاتلهم معك (إذا رفضوا أن يبايعوك). فقال: «واللّه لو اجتمع عليّ أهل الأرض إلا أهل فدَك (وهم قلة قليلة) ما قاتلتهم».
وعاش لا تأخذه في اللّه لومة لائم: خطب الحجاج بن يوسف يومًا, وأطال, وأخر الصلاة, فقال ابن عمر: إن الشمس لا تنتظرك. فقال له الحجاج: «لقد هممت أن أضرب الذي فيه عيناك (أي رأسك). فقال له ابن عمر: «إن تفعل فإنك سفيه مُسلّط .
اقرءوا التاريخ يا قادة ...
تلك كانت ملامح شخصية عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما: التقوى والورع والفقه والصلاح والجرأة في الحق والحرص على الشورى ومصلحة المسلمين, ومع ذلك رفض أبوه أن يستخلفه, أو حتي أن يكون واحدًا من المرشحين للخلافة. وبذلك قدم عمر رضي اللّه عنه للأمة والحكام درسًا خالدًا علي مدار التاريخ, ما أحوجنا إلي استيعابه, وأخذ أنفسنا به, وإلا فانتظروا الطوفان والغرق والضياع(/2)
الصلاة على الغائب و من دُفِنَ و لم يُصلَّ عليه
السؤال :
ما هو حكم الصلاة على ميت دفن منذ سنين دون أن يُصلى عليه ، فهل تجوز الصلاة عليه الآن ، علما أنه بعيد من مقر سكنانا و إذا كانت الصلاة عليه جائزة فوضحوا لنا كيفيتها ، و هل تجوز الصلاة عليه من طرفنا نحن ذويه في البيت لأنه يتعسر علينا الوصول إلى قبره ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
الصلاة على الميّت واجبة على الكفاية ، فإن قام بها البعض سقط الوجوب عن الباقين ، و إن لم يَقُم بها أحدٌ أثموا جميعاً ، و هاهنا مسائل هامّة ذات صلة بموضوع السؤال ، أوجز الكلام عليها تعميماً للفائدة :
المسألة الأولى : في مشروعيّة الصلاة على الميّت الغائب عن البلد ، و قد قال بذلك الشافعي و أحمد في المشهور عنه و الظاهريّة ، و خالف المالكيّة و الحنفيّة في جوازها ، و فصّل آخرون .
قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله : ( تجوز الصلاة على الغائب في بلد آخر بالنية ، فيستقبل القبلة ، و يصلى عليه كصلاته على حاضر ... و بهذا قال الشافعي . و قال مالك و أبو حنيفة : لا يجوز ، و حَكى ابن أبي موسى عن أحمد روايةً أخرى كقولهما ) [ المغني : 2 / 195 ] .
و مدار الخلاف في هذه المسألة إنّما هو على حديث الصلاة على النجاشي رضي الله عنه ، الذي أخرجه أصحاب الكتب الستّة و غيرهم .
و قد أحسن الإمام الشوكاني رحمه الله التفصيل في هذه المسألة في قوله : ( استدل بهذه القصة القائلون بمشروعية الصلاة على الغائب عن البلد ، قال في الفتح : و بذلك قال الشافعي ، و أحمد ، و جمهور السلف ، حتى قال ابن حزم : لم يأت عن أحد من الصحابة منعُه . قال الشافعي : الصلاة على الميت دعاء له فكيف لا يُدعى له و هو غائب أو في القبر . و ذهبت الحنفية و المالكية و حكاه في البحر عن العِتْرة أنها لا تشرع الصلاة على الغائب مطلقا ، قال الحافظ : و عن بعض أهل العلم إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه أو ما قرُبَ منه لا إذا طالت المدة ، حكاه ابن عبد البر ، و قال ابن حبان : إنما يجوز ذلك لمن كان في جهة القبلة ، قال المحب الطبري لم أر ذلك لغيره ، واعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن هذه القصة بأعذار منها أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد ومن ثم قال الخطابي لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس فيها من يصلي عليه واستحسنه الروياني وترجم بذلك أبو داود في السنن فقال باب الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك في بلد آخر قال الحافظ وهذا محتمل إلا أنني لم صليت في شيء من الأخبار أنه لم يصل عليه في بلده أحد .اهـ . و ممن اختار هذا التفصيل شيخ الإسلام ابن تيمية ، و المحقق المقبلي ، و استدل له بما أخرجه الطيالسي و أحمد و ابن ماجة و ابن قانع و الطبراني و الضياء المقدسي ، و عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال : إن أخاكم مات بغير أرضكم فقوموا فصلوا عليه ) [ انظر : نيل الأوطار : 4 / 87 ] .
و مذهب الجمهور أولى المذاهب بالاتّباع ، و أقواها حجّة ، و إليه أذهب ، و إن كنت فيما مضى أذهَب مذهَب شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله ، ثمّ بدا لي خِلافُه لأنّ في الاستدلال بزيادةِ ( ماتَ بغير أرضكم ) على أنّ الصلاة على الغائب لا تُشرَع إلاّ إذا كان غائباً في أرض لم يُصلّ عليه فيها فيه نَظر ، لِعَدَم التصريح بالعلّة من جهة ، و لاحتمال أن يكون قوله هذا لبيان الحال و ليس للتقييد ، إذ لو لم يكن النجاشي قد مات بغير أرضهم ، لما كانت الصلاة صلاةً على غائبٍ أصلاً .
المسألة الثانية : في مشروعيّة الصلاة على من دُفِن و لم يُصلِّيَ عليه أحد ، و لو لم يكن غائباً عن البلد ، و هي ثابتة من وجهين :
أحَدُهُما : لوجوب الصلاة على الجنازة على الكفاية ، فإن لم يقُم بها أحدٌ أثِموا جميعاً ، و يُرفَََعُ الإثم بالأداء ، و لو بعد الدفن .
و ثانيهما : قياساً على الصلاة على الغائب الذي مات و دُفِن في أرضٍ بعيدةٍ ، و لم يُصلّى عليه ، فهما سواء من جهة دفنِ كلّ واحدٍ منهما بدون صلاةٍ عليه .
قال الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله : ( أما الصلاة على الغائب ؛ فقد جاء به نص قاطع أغنى عن النظر ، و إن كان النظر تجب به الصلاة عليه لأن قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : صلوا على صاحبكم ، عمومٌ يدخل فيه الغائب و الحاضر ، و لا يجوز أن يُخَصَّ به أحدهما ، بل فرضٌ في كل مسلم دُفن بغير صلاة أن يصلي عليه من بلغه ذلك من المسلمين لأنها فرض على الكفاية وهي فيمن صُلِّيَ عليه ندبٌ ) [ المحلى : 5 / 139 ] .
المسألة الثالثة : في تحديد المدّة التي تشرع فيها الصلاةُ على الميّت بعد دفنه ، سواءً صُلّيَ عليه قبل الدفن أم لا ، و في هذه المسألة أقوال القويّ منها ضعيف ، إلاّ قولٌ أطلَقَ و لم يُقيِّد .(/1)
قال الإمام الشربيني رحمه الله : ( يجب تقديمها أي الصلاة على الدفن و تأخيرها عن الغسل أو التيمم ... و يصلى عليه و هو في القبر ولا ينبش لذلك ... و إلى متى يصلى عليه فيه أوجه :
أحدها : أبدا فعلى هذا تجوز الصلاة على قبور الصحابة فمن بعدهم إلى اليوم . قال في المجموع : و قد اتفق الأصحاب على تضعيف هذا الوجه .
ثانيها : إلى ثلاثة أيام دون ما بعدها ، و به قال أبو حنيفة .
ثالثها : إلى شهر ، و به قال أحمد .
رابعها : ما بقي منه شيء في القبر فإن انمحقت أجزاؤه لم يصلَّ عليه ، و إن شك في الانمحاق فالأصل البقاء .
خامسها : يختص بمن كان من أهل الصلاة عليه – وهو المسلم البالغ العاقل الطاهر - يوم موته ) [ مغني المحتاج : 1 / 346 و قد ذكر هذه الأقوال عدا الأوّل أبو اسحاق الشيرازي رحمه الله في المهذّب : 1 / 134 ] .
قلتُ : هذه الأقوال يُسقِطُ بعضُها بعضاً ، و لا حُجَّةَ في بعضها على بَعضٍ ، و لا دليل يَصلُح على تحديد أو تَرجيح مدّةٍ دون أخرى ، بل غايةُ ما جُمعَ للانتصار لبَعضِها هو من قبيل الاتّفاق و ليس التحديد ، كما هو الحال في اشتراط العَدَد لصلاة الجُمُعة .
بل الأمر على إطلاقه ، فإذا شُرِعَت الصلاة على من دُفِن و لم يُصلَّ عليه ، شُرعت المبادرة إليها عند الاقتدار و الله أعلَم .
المسألة الرابعة : إذا كان الميّت مدفوناً في بَلَد المصلين عليه ، فليس لهم أن يُصلّوا عليه صلاة الغائب في بيوتهم ، بل عليهم التوجّه إلى قبره للصلاة عليه .
قال أبو إسحاق الشيرازي الشافعي : ( و إن كان الميت معه في البلد لم يجز أن يصليَ عليه حتى يحضر عنده لأنه يمكنه الحضور ) [ المهذّب : 1 / 134 ] .
و قال ابن قدامة المقدسي : ( لو كان في البلد لم تجز الصلاة عليها مع غَيبَتِها عنه ) [ المغني : 2 / 195 ] .
و قال الإمام النووي رحمه الله في شرح كلام الشيرازي المتقدم : ( قطع المصنف و الجمهور : لا يجوز أن يصلى عليه حتى يحضر عنده لأن النبي صلى الله عليه وسلم « لم يصل على حاضر في البلد إلاّ بحضرته » ، و لأنه لا مشقة فيه بخلاف الغائب عن البلد ) [ المجموع : 5 / 206 ] .
فهذا مذهب الجمهور ، و لا دليل يُسلّم لمن خالفه ، و لا يُحتجُّ بوجود المشقّة أو احتمال وجودها للصلاة على الميت لمن لم يحضر جنازته أهل البلد في البيوت ، لأنّ المشقّة كما لم تمنع من دفنه فلا تمنع من شهود جنازته أو الصلاة عليه عند قبره .
قال الإمام شمس الدين ابن القيّم رحمه الله : ( لو جاز لكل مشغول و كل مشقوق عليه الترخيص ضاع الواجب و اضمحل بالكلية ) [ إعلام الموقعين : 2 / 130 ] .
و قال أيضاً في مَعرض كلامه عن رُخَص السفَر : ( مصالح الدنيا و الآخرة منوطةٌ بالتعب ، و لا راحة لمن لا تعب له بل على قدر التعب تكون الراحة فتناسبت الشريعة في أحكامها و مصالحها بحمد الله و مَنِّه ) [ إعلام الموقعين : 2 / 131 ] .
هذا ما تيسّر تحريره في موضوع السؤال ، و بالله التوفيق .(/2)
الصلاة على من مات مصراً على كبيرة
السؤال :
هل تجوز صلاة الجنازة على من ثبتت وفاته شاربا للخمر.
الجواب :
إنَّ مَن شَرِب الخمر غيرَ مستحلٍ لها مسلمٌ فاسق ( عاصٍ ) ، و من حقّ المسلم على المسلم أن يشهد جنازته و أن يُصلي عليه ، حتى و إن مات مصراً على معصيته ، لما رواه مسلم و أحمد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ » . قِيلَ : مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : « إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَ إِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ وَ إِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ وَ إِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ وَ إِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَ إِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ » .
و لكن لا يُصلي عليه أهل العلم و الفضل المعروفون ، حتى لا يقع في نفس العامّة أنّهم يُقرّونه على معصيته التي مات عليها ، فقد روى الشيخان و أصحاب السنن عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ - رضى الله عنه - قَالَ كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أُتِىَ بِجَنَازَةٍ ، فَقَالُوا : صَلِّ عَلَيْهَا . فَقَالَ : « هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ » . قَالُوا لاَ . قَالَ : « فَهَلْ تَرَكَ شَيْئاً ؟ » . قَالُوا : لاَ . فَصَلَّى عَلَيْهِ .
ثُمَّ أُتِىَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلِّ عَلَيْهَا . قَالَ : « هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ » قِيلَ : نَعَمْ . قَالَ : « فَهَلْ تَرَكَ شَيْئاً ؟ » . قَالُوا : ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ ، فَصَلَّى عَلَيْهَا .
ثُمَّ أُتِىَ بِالثَّالِثَةِ ، فَقَالُوا : صَلِّ عَلَيْهَا . قَالَ : « هَلْ تَرَك شَيْئاً ؟ » . قَالُوا : لاَ ، قَالَ : « فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ » , قَالُوا : ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ ، قَالَ : « صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ » . قَالَ أَبُو قَتَادَةَ : صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَعَلَىَّ دَيْنُهُ ، فَصَلَّى عَلَيْهِ .
فانظُر – رحمك الله – كيف أنّ النبيّ صلى الله عليه و سلّم لم يُصَلّ على من مات و عليه دَيْنٌ ، حتى تكفّل أحد الصحابةِ بسداده عنه ، و مع ذلك فقد رخّص عليه الصلاة و السلام للصحابة الكرام بالصلاة عليه فقال : ( صلّوا على صاحبكم ) رغم أنّه مات متلبّساً بذنبٍ .
نسأل الله لنا و لكم حسن الختام ، و الحمدُ لله ربّ العالمين .(/1)
الصلاة في أوقات النهي ...
تحرير محلّ النِّزاع :
قال ابن الملقّن : أجمعت الأمة على كراهة صلاة لا سبب لها في أوقات النهي ، واتفقوا على جواز الفرائض المؤدّاة فيها .
واختلفوا في النوافل التي لها سبب كالعيد والجنازة وقضاء الفوائت (1) .
وقال الشوكاني : وقد اختلف أهل العلم في الصلاة بعد العصر وبعد الفجر ، فذهب الجمهور إلى أنها مكروهة وادعى النووي الاتفاق على ذلك ، وتعقبه الحافظ بأنه قد حُكي عن طائفة من السلف الإباحة مطلقا ، وأن أحاديث النهي منسوخة . قال : وبه قال داود وغيره من أهل الظاهر ، وبذلك جزم ابن حزم (2) .
وتعقب الحافظ للنووي مُتعقّب :
لأن الإمام النووي لا يرى الاعتداد بخلاف أهل الظاهر ، فإنه قال في المجموع (3) في مناقشة مسألة أخرى : فكأنهم لم يعتدوا بخلاف داود ، وقد سبق أن الأصح أنه لا يُعتد بخلافه ، ولا خلاف غيره من أهل الظاهر لأنهم نفوا القياس ، وشرط المجتهد أن يكون عارفا بالقياس .
ثم إن هذا الاتفاق نقله غير واحد ، فقد نقله ابن عبد البر فقال : ولا خلاف بين المسلمين أن صلاة التطوع كلها غير جائز أن يُصلى شيء منها عند طلوع الشمس ولا عند غروبها ، وإنما اختلفوا في الصلوات المكتوبات والمفروضات على الكفاية والمسنونات (4) .
وقال العراقي : وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ (5) . ثم ذكَرَ قول ابن عبد البر وقول النووي .
أوقات النهي :
يُمكن تقسيم أوقات النهي عن الصلاة إلى خمسة أوقات :
1 - بعد العصر إلى أن تصفرّ الشمس .
2 – بعد الفجر إلى أن تطلع الشمس .
3 – قُبيل صلاة الظهر إلى أن تزول الشمس ( بمقدار عشر دقائق تقريباً قبل الأذان ) .
4 – من اصفرار الشمس إلى الغروب .
5 – من طلوع الشمس إلى أن ترتفع قيد رمح ( بمقدار عشر دقائق تقريباً ) .
هذه الأوقات لا يجوز أن التطوّع فيها ابتداءً .
ويُمكن تقسيم هذه الأوقات الخمسة إلى أوقات موسّعة ، وهي ما بعد صلاة الفجر وما بعد صلاة العصر ، وإلى أوقات مُضيَّقة ، وهي عند طلوع الشمس وعند غروبها وعند الزوال .
والذي يظهر أن ذوات الأسباب تُصلى في الأوقات الموسَّعة دون المضيَّقة .
وذلك للدليل والتعليل :
أما الدليل فهو قوله عليه الصلاة والسلام : إذا طلع حاجب الشمس فأخِّروا الصلاة حتى ترتفع ، وإذا غاب حاجب الشمس فأخِّروا الصلاة حتى تغيب . رواه البخاري ومسلم .
وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا : حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب . رواه مسلم .
وحديث عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه ، وهو في صحيح مسلم ، وستأتي الإشارة إليه .
وحديث ابن عمر مرفوعا : " لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها ، فإنها تطلع بقرني شيطان "
وفي رواية : " لا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها ، فإنها تطلع بين قرني شيطان " رواه البخاري ومسلم .
قال العراقي في شرح الحديث :(/1)
اقْتَصَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى حَالَتَيْ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا ، وَدَلَّ غَيْرُهُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ مُسْتَمِرٌّ بَعْدَ الطُّلُوعِ حَتَّى تَرْتَفِعَ ، وَأَنَّ النَّهْيَ يَتَوَجَّهُ قَبْلَ الْغُرُوبِ مِنْ حِينِ تَضَيُّفِ الشَّمْسِ أَيْ مَيْلِهَا ، وَهِيَ حَالَةُ صُفْرَتِهَا وَتَغَيُّرِهَا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ " إذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلاةَ حَتَّى تَرْتَفِعَ " لَفْظُ الْبُخَارِيِّ ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ حَتَّى يَبْرُزَ ، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : : ثَلاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَزُولَ وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ " وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قُلْت يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ الصَّلاةِ قَالَ صَلِّ صَلاةَ الصُّبْحِ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ ، ثُمَّ صَلِّ ، فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلاةِ ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ ، فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ . وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُطْلَقُ الارْتِفَاعِ عَنْ الأُفُقِ بَلْ الارْتِفَاعُ الَّذِي يَذْهَبُ مَعَهُ صُفْرَةُ الشَّمْسِ أَوْ حُمْرَتُهَا ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِقَدْرِ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لا تُنَافِي لَفْظَ الْحَدِيثِ ؛ لأَنَّ مَعْنَى ( عِنْدَ ) حَضْرَةُ الشَّيْءِ ، فَمَا قَارَبَ الطُّلُوعَ وَالْغُرُوبَ فَلَهُ حُكْمُهُ ، لَكِنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا يُقَارِبُ الطُّلُوعَ مِمَّا بَعْدَهُ ، وَمَا يُقَارِبُ الْغُرُوبَ مِمَّا قَبْلَهُ ، وَتَمَسَّكَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ : إنَّ الْكَرَاهَةَ تَزُولُ بِطُلُوعِ قُرْصِ الشَّمْسِ بِتَمَامِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لأَنَّ الأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الارْتِفَاعِ مَعَهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ فَيَجِبُ الأَخْذُ بِهَا . اهـ .
وروى الإمام أحمد وأبو داود من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربّع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء . وفي إسناده سماك بن حرب ، وهو صدوق .
وأما التعليل فلأن الأوقات المضيَّقة هي أوقات قصيرة يسيرة ، مع ما يقع فيها من مُشابهة المشركين .
قال الإمام الذهبي : فنفس الموافقة والمشاركة لهم (6) في أعيادهم ومواسمهم حرام ، بدليل ما ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها ، وقال : إنها تطلع بين قرني شيطان ، وحينئذ يسجد لها الكفار ، والمصلِّي لا يقصد ذلك إذ لو قصده كَفَرَ ، لكن نفس الموافقة والمشاركة لهم في ذلك حرام (7) .
قال ابن قدامة : والنهي عن الصلاة بعد العصر متعلق بفعل الصلاة ، فمن لم يُصلِّ أبيح له التنفّل وإن صلى غيره ، ومن صلى العصر فليس له التنفل ، وإن لم يصل أحد سواه ، لا نعلم في هذا خلافا عند من يمنع الصلاة بعد العصر (8) .
وقال أيضا : الصحيح أنه لا يُصلى على الجنازة في الأوقات الثلاثة التي في حديث عقبة بن عامر ، وكذلك لا ينبغي أن يركع للطواف فيها ، ولا يعيد فيها جماعة ، وإذا مُنعت هذه الصلوات المتأكدة فيها فغيرها أولى بالمنع (9) .
هل تُصلّى ذوات الأسباب في وقت النهي ؟
ما كان من ذوات الأسباب فإنها تُصلّى في أوقات النهي على الصحيح من أقوال أهل العلم .
فالفوائت تُصلي في أوقات النهي
لقوله عليه الصلاة والسلام : من نسي صلاة أو نام عنها ، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها ، لا كفارة لها إلا ذلك . رواه مسلم .
ولقوله عليه الصلاة والسلام : من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس ، فقد أدرك الصبح ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس ، فقد أدرك العصر . رواه البخاري ومسلم .(/2)
قال ابن عبد البر : وقال مالك والثوري والشافعي والأوزاعي - وهو قول عامة العلماء - من أهل الحديث والفقه من نام عن صلاة أو نسيها أو فاتته بوجه من وجوه الفوت ثم ذكرها عند طلوع الشمس واستوائها أو غروبها أو بعد الصبح أو العصر - صلاها أبداً متى ذكرها (10) .
كما تُصلى كل صلاة لها سبب
فتُصلّى ركعتي الطواف في أوقات النهي لقوله عليه الصلاة والسلام : يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار (11) .
وتُصلى تحية المسجد لقوله عليه الصلاة والسلام : إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين . رواه البخاري ومسلم .
وسنة الوضوء تُصلى في أوقات النهي الموسَّع
فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ بلالاً على صلاة ركعتين كلما توضأ ، فقال عليه الصلاة والسلام : يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة ؟ فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة . قال بلال: ما عملت عملا في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورا تاماً في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كََتَبَ الله لي أن أصلي . رواه البخاري ومسلم .
ولقائل أن يقول : كيف مُنعت الصلاة في الأوقات المضيّقة ، وحديث بلال هذا لم يخص وقتا دون وقت .
والجواب : أن ما في هذا الحديث إقرار منه عليه الصلاة والسلام ، وما تقدّم من النهي عن الصلاة في الأوقات المضيّقة قول ، ودلالة القول أقوى من دلالة التقرير .
كما أن القول خاص ، وفعل بلال عام في كل وقت ، فقُدِّم الخاص على العام .
وتبقى دلالة فعل بلال على جواز صلاة ذوات الأسباب في أوقات النهي الموسّعة دون المضيّقة .
وتُصلى راتبة الفجر بعد الفجر
قال ابن قدامة : فأما قضاء سنة الفجر بعدها فجائز ، إلا أن أحمد اختار أن يقضيهما من الضحى ، وقال : إن صلاهما بعد الفجر أجزأ ، وأما أنا فأختار ذلك ، وقال عطاء وابن جريج والشافعي يقضيهما بعدها ، لما رُوي عن قيس بن قهد (12) قال : رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الفجر ، فقال : ما هاتان الركعتان يا قيس ؟ قلت يا رسول الله لم أكن صليت ركعتي الفجر فهما هاتان . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي (13) ، وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى سنة الظهر بعد العصر ، وهذه في معناها ؛ ولأنها صلاة ذات سبب فأشبهت ركعتي الطواف (14) .
وتُصلّى صلاة الكسوف ، ويُسجد سجود التلاوة والشكر في هذه الأوقات ؛ لأنها من ذوات الأسباب .
إشكال وجوابه :
ثبت النهي عن الصلاة بعد العصر في غير حديث تقدّم بعضها ، وثبت ما يُعارضه ظاهرا ، وهو أنه عليه الصلاة والسلام قضى سنة الظهر بعد العصر ، فقد روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر عندي قط .
وسيأتي ذِكر مزيد من الروايات :
وللعلماء مسالك في الجمع بين هذه الأحاديث :
الأول : أنه تعارض حاظر ومُبيح
والقاعدة أنه إذا تعارض حاظر ومُبيح قُدِّم الحاظر .
والثاني : أنه هذا الفعل خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم .
قال الحافظ ابن حجر : تمسك بهذه الروايات من أجاز التنفل بعد العصر مطلقا ما لم يقصد الصلاة عند غروب الشمس ، وقد تقدم نقل المذاهب في ذلك ، وأجاب عنه من أطلق الكراهة بأن فعله هذا يدل على جواز استدراك ما فات من الرواتب من غير كراهة ، وأما مواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك فهو من خصائصه ، والدليل عليه رواية ذكوان مولى عائشة أنها حدثته أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر وينهى عنها ، ويواصل وينهى عن الوصال . رواه أبو داود (15) .
والثالث : أن هذا من قضاء النوافل ، ولا يكون هذا إلا لمن حافظ عليها .
وهذا الذي يظهر من النصوص الواردة في صلاته صلى الله عليه وسلم بعد العصر .(/3)
ففي الصحيحين عن كريب مولى ابن عباس أن عبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن أزهر والمسور بن مخرمة أرسلوه إلى عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : اقرأ عليها السلام منا جميعا وسلْها عن الركعتين بعد العصر ، وقل : إنا أُخبرنا أنك تصلينهما ، وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنهما . قال ابن عباس : وكنت أَضْرِب مع عمر بن الخطاب الناس عليها . قال كريب : فدخلت عليها وبلغتها ما أرسلوني به فقالت : سَلْ أم سلمة . فخرجت إليهم فأخبرتهم بقولها فردوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة فقالت أم سلمة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنهما ثم رأيته يصليهما ؛ أما حين صلاهما فإنه صلى العصر ، ثم دخل وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار فصلاهما ، فأرسلت إليه الجارية فقلت : قومي بجنبه فقولي له : تقول أم سلمة يا رسول الله إني أسمعك تنهى عن هاتين الركعتين وأراك تصليهما ، فإن أشار بيده فاستأخري عنه . قال : ففعلت الجارية فأشار بيده ، فاستأخرت عنه ، فلما انصرف قال : يا بنت أبي أمية سألتِ عن الركعتين بعد العصر . إنه أتاني ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم ، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر ، فهما هاتان . متفق عليه .
وعند مسلم عن أبي سلمة أنه سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصليهما بعد العصر . فقالت : كان يصليهما قبل العصر ، ثم إنه شغل عنهما أو نسيهما فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما ، وكان إذا صلى صلاة أثبتها . قال يحيى بن أيوب : قال إسماعيل : تعني داوم عليها .
قال ابن قدامة : وأما قضاء السنن الراتبة بعد العصر ، فالصحيح جوازه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله فإنه قضى الركعتين اللتين بعد الظهر بعد العصر في حديث أم سلمة ، وقضى الركعتين اللتين قبل العصر بعدها في حديث عائشة ، والاقتداء بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم متعين ؛ ولأن النهي بعد العصر خفيف لما رُوي في خلافه من الرخصة ، وما وقع من الخلاف فيه ، وقول عائشة : إنه كان ينهى عنها ، معناه - والله أعلم - نهى عنها لغير هذا السبب ، أو أنه كان يفعلها على الدوام وينهى عن ذلك ، وهذا مذهب الشافعي (16) .
-------------------------------
[1] الإعلام بفوائد عمدة الأحكام ( 2 / 310 ) .
[2] نيل الأوطار ( 3 / 100 ) .
[3] ( 9 / 230 ) .
[4] الاستذكار ( 1 / 112 ) .
[5] طرح التثريب ( 1 / 367 ) .
[6] يعني بهم الكفار والمشركين .
[7] تشبه الخسيس بأهل الخميس ( ص 30 ) .
[8] المغني ( 2 / 525 ) .
[9] المرجع السابق ( 2 / 535 ) .
[10] الاستذكار ( 1 / 47 ) .
[11] رواه الترمذي ( ح 868 ) وابن ماجه ( ح 1254 )
[12] قال النووي : بقاف مفتوحة ثم هاء ساكنة ثم دال .
[13] وقال الألباني : صحيح لغيره .
[14] المغني ( 2 / 531 ، 532 ) .
[15] فتح الباري ( 2 / 64 ) .
[16] المغني ( 2 / 533 ) .
عبد الرحمن بن عبدالله السحيم
...(/4)
الصلاة في مسجد بني بمالٍ حرام
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ كتاب الصلاة/أحكام المساجد
التاريخ ... 03/05/1427هـ
السؤال
هل تجوز الصلاة في مسجد بني بمال المخدرات؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
نعم تجوز الصلاة؛ لأن المراد بعمارة المساجد في مثل قوله تعالى: "إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" [التوبة:18]. المراد بالعمارة العمارة الحقيقية بالصلاة والذكر والدعاء ولهذا ذكرت البيوت في قوله تعالى: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ" [النور:36-38]. أما البناء الحسي المادي إذا كان المال فيه حراماً فلا أجر لصاحبه، لما جاء في الحديث: "أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا" صحيح مسلم (1015). فيؤجر المستفيد دون الدافع في هذا، وقد عاب الله على المشركين عمارتهم للمسجد الحرام،وأمر المؤمنين أن يصلوا فيه فقال: "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [التوبة:19].
وفق الله الجميع إلى كل خير.(/1)
الصلاة وأثرها في الأمة
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ?[آل عمران: 200].
أيها المسلمون هذا نداء من الله لعباده المؤمنين حيث أمرهم تعالى بالصبر والمصابرة والثبات والمرابطة لينتصروا على أنفسهم وعلى أعدائهم ، فيفلحوا ويسعدوا ويفوزوا في الدنيا والآخرة. فكأن الآية تخاطب المؤمنين وتقول لهم اصبروا على مشاق الطاعات ووعورة الطريق، اصبروا على ما يصيبكم من الشدائد كالمرض والفقر والقحط ونقص الأنفس والثمرات وغير ذلك من المشاق وصابروا على مغالبة الأعداء ومجاهدتهم ومنازلتهم في ساحات الوغى وميادين القتال والمصابرة نوع خاص من الصبر، ذكر بعد الصبر تخصيصاً له لشدته وصعوبته.
والصبر هو حبس النفس عما لا يرضاه الله، وأوله التصبر وهو التكلف لذلك، ثم المصابرة وهي معارضة ومقاومة ما يمنعه عن ذلك، ثم الاستكبار والاعتبار والالتزام، ثم الصبر هو كماله وحصوله من غير كلفة.
اصبروا وصابروا ورابطوا بأبدانكم وعددكم وعتادكم في الثغور مترصدين للأعداء وعودوا أنفسكم على طاعة الله وملازمتها، فهي مرابطة دائمة لحراسة النفس من الانحراف والتفريط في حق الله تعالى كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح قال: "ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط ، فذلك الرباط فذلكم الرباط"() إن مجاهدة النفس على القيام بفرائض الله والاستمرار عليها نوع من المرابطة العظيمة.
هذه الصلاة التي هي العلامة الفارقة بين المسلمين والكفار كم من المسلمين اليوم لا يصليها وكم من المسلمين ممن لا يحضرون إلى المساجد ولا يعمرونها، إنه الجم الغفير، ثم الذين يؤدون الصلوات كثير منهم لا يقومون بواجب النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أسرهم ومجتمعاتهم من أجل إقامة فرائض الله والمحافظة عليها. فالصلاة الصلاة أيها المؤمنون والرباط الرباط فإنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
أقيموا صلاتكم واعمروا مساجدكم ومروا أولادكم وأهليكم بها واصبروا على ذلك فإن الأمر شاق وعسير ويحتاج إلى جهد كما قال الله تعالى : ? وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ?[طه: 132] ولقد كان الأنبياء والصالحون إذا نزلت النكبات بهم وحلت المصائب بهم والأزمات فزعوا إلى الصلاة فهي من أعظم ما يعين على المصائب: ? وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ...?[البقرة:45].
أيها المؤمنون: إن سورة آل عمران التي اختتمت بهذا النداء. نداء الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى سورة حافلة بالدعوة إلى الإيمان وإلى الصبر والاحتمال وإلى المجاهدة ودفع كيد الأعداء ومكرهم، وعدم الاستماع أو الإنصات لدعاة الهزيمة والبلبلة من المنافقين الذين يعيشون بين المسلمين وهم أبواق للأعداء تبث الأراجيف والهزائم وتخلخل الصفوف وعزائم النفوس.
وقد أمر الله المؤمنين في مواجهة ذلك كله بالصبر والتقوى، ولذلك ختمت السورة بالدعوة إلى الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى.
أيها المؤمنون: إن من أعظم مواقف الصبر والمصابرة صبر المرء على البلاء وتجلده ، ويظهر ما في صدور الذين صدقوا ويفتضح الكاذبون.
وإن أشد الناس بلاءاً الأنبياء ، فلقد أوذوا في الله فكانوا أئمة للصابرين، فقد أوذي النبي محمد صلى الله عليه وسلم بما لا يحتمل من الأذى فصبر وكانت له العاقبة على القوم الظالمين.(/1)
وإن أعظم فتنة يمر بها المسلمون اليوم هي ظهور الكفار وانتفاشهم وعلو باطلهم وانتشار الشر والفساد واستباحة بلدان المسلمين والسيطرة على مقدراتهم وفرض كفرهم وباطلهم مع قلة الناصرين للحق وضعف المسلمين وكثرة الإرجاف ووساوس الشياطين في ساعات الكرب والشدة والضيق. ولقد نزلت بالمسلمين كوارث من قبل فصبروا وثابروا وأنابوا إلى الله واستغفروه فنجاهم الله من كرباتهم ومنحهم نصره وتأييده حين رجعوا إليه واستنصروه وأخذوا بأسباب النصر وإن مما ابتلي به المسلمون من تكالب الأعداء عليهم وتكتل المجرمين لقتلهم وغزوهم في ديارهم وهذا بلا شك بلاء ومحنة وشر مستطير ولكنهم حينما قابلوا ذلك بالصبر الجميل والتضحية والجهاد والمرابطة في أرفع مجالاتها أعقبهم الله الخير بعد الشر والأمن بعد الخوف وخيب آمال أعدائهم وأحبط خططهم ومؤامراتهم كما قال الله عز وجل في شأن غزوة الأحزاب ? وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً ? [الأحزاب: 25] وتلك هي المنة وهي المعجزة والكرامة للنبي وللمؤمنين معه لأن ذاك الاندحار وفشل الكفار إنما كان بفضل الله ورحمته وكرمه على عباده ثم ببركة التوجه إلى الله وحده في تفريج الكربات وكشف الشدائد واللجوء والتضرع إليه والاستعانة به والتوكل عليه جل وعلا.
ولا نجاة للمسلمين اليوم من هذه المحن إلا بالتوبة الصادقة والعودة إلى الله والاستمساك بهذا الدين الذي أكرمنا الله به مع الصبر والمصابرة حتى نلقى الله عز وجل.
أيها المؤمنون: إن الشر لا يستريح لمنهج الخير العادل المستقيم، والكفر والطغيان لا يرضى عن الإيمان والحق والعدل، فلا بد إذاً من مواجهة ذلك بالصبر والمصابرة والمرابطة حتى لا تؤخذ الأمة الإسلامية على حين غرة من أعدائها المتربصين بها في كل مكان وزمان.
وقد اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسير قول الله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ ... ?[آل عمران: 200].
قال: أمرهم أن يصبروا على دينهم ولا يدعوه لشدة ولا رخاء، ولا سراء ولا ضراء وأمرهم أن يصابروا الكفار وأن يرابطوا المشركين.
عن محمد بن كعب القرضي أنه قال: اصبروا على دينكم وصابروا الوعد الذي وعدتكم، ورابطوا عدوي وعدوكم حتى يترك دينه لدينكم واتقوا الله فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون غداً إذا لقيتموني.
وفي شعب الإيمان للبيهقي أن أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم، فكتب عمر إليه:
أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من شدة يجعل الله بعدها فرجاً. وإنه لن يغلب عسر يسرين وأن الله يقول في كتابه: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ?[آل عمران: 200].
وذكر عن إبراهيم بن أدهم وكان من العباد الزهاد رحمه الله أنه كان يسير إلى بيت الله الحرام راجلاً، فإذا أعرابي على ناقة فقال: يا شيخ إلى أين؟ فقال إبراهيم إلى بيت الله ، قال: طف وأنت راجل لا راحلة لك؟ قال إن لي مراكب كثيرة فقال ماهي؟
قال: إذا نزلت بي بلية ركبت مركب الصبر وإذا نزلت علي نعمة ركبت مركب الشكر، وإذا نزل فيَّ القضاء ركبت مركب الرضى، وإذا دعتني النفس إلى شيء علمت أن ما بقي من العمر أقل مما مضى.
فقال الأعرابي: أنت الراكب وأنا الراجل سر في بركة الله .
أيها المؤمنون: تسلحوا بالإيمان والصبر والتقوى وجاهدوا في الله حق جهاده اعتصموا بالله هو مولاكم نعم المولى ونعم النصير.
الخطبة الثانية:
سقطت بغداد قبل عدة أشهر فسقطت تبعاً لذلك عراق الخلافة والعروبة والإسلام، لا تظن أنه وقع لأرض الإسلام شيء يقاربه من القرون الأخيرة فحزن المسلمون لذلك، وفرح المجوس والمنافقون أحفاد العلقمي الذي أغرى التتار باجتياح بغداد في أيامه في القرن السادس الهجري.
أيها المؤمنون: إن أعداء الإسلام يصورون لنا المعركة على غير حقيقتها وخداعاً للمسلمين ، إنهم يصورون الاعتداء على الإسلام والمسلمين بأنه صراع بين شخص أو نظام ، كما صوروا وبرروا احتلالهم للعراق بأنه للتخلص من دكتاتور خطير وأنهم يريدون تحرير الشعب العراقي من الظلم والاستبداد.
ويظنون بأنهم أمسكوا بصدام فإن المعركة انتهت وزال مبررها هكذا يصورون المعركة. ولكن الحقيقة خلاف ذلك إنهم يشنون حرباً ضروساً على الإسلام والمسلمين في كل مكان إنهم يطالبون كل البلدان الإسلامية جهاراً نهاراً بتغيير مناهجهم الدينية وتغيير اعتقاداتهم وقيمهم وأخلاقهم ومحاربة علمائهم ودعاتهم ممن يدعون إلى الخير ويأمرون الناس بالقسط.(/2)
إنهم يطالبون المسلمين اليوم بالتخلي عن دينهم إما بالكلية وإما بحذف أجزاء كثيرة منه. فهم يطالبون جهاراً نهاراً بإسقاط الجهاد وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبإسقاط فريضة الزكاة ومنع الأغنياء من مساعدة الفقراء والمساكين وإعلان الحرب على الجماعات والجمعيات الخيرية التي تعنى بالأرامل والمساكين والأيتام والفقراء.
إنهم يطالبون بإفساد المرأة والشباب ونشر الإباحية والفوضى في بلاد المسلمين إنها حرب ليست من أجل فلان وفلان أو حزب أو نظام إنها حرب شاملة تستهدف المسلمين جميعاً بكل فئاتهم وتنظيماتهم وأحزابهم ودولهم وليس للمسلمين من خيار سوى أن يرتدوا عن دينهم ويستجيبوا لمطالب هؤلاء الكفرة فيخسرون بذلك الدنيا والآخرة كما قال تعالى: ? وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ?[البقرة: 217] وقال تعالى: ? مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ?[النحل:106-107].
وقال الله تعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ?[محمد:25-28].
هذا أحد الخيارات في هذه المعركة الشرسة وإما أن يثبت المسلمون على دينهم ويصبروا ويصابروا حتى يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده بأن يظهر الله أمر دينه وأن يعلي كلمته ويعز جنده وأولياءه أو أن يهلكوا دونه ، والظن بالمسلمين أنهم وإن غفلوا ونسوا فإنهم لن يفرطوا في دينهم ولن يساوموا على عقيدتهم وإيمانهم وسيقدمون الأرواح والأموال رخيصة يبذلونها لله طالبين مرضاته متطلعين إلى جواره الكريم في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار فهي صفقة قد تمت بين الله وبين عباده المؤمنين وهي متجددة في كل عصر وحين.
? إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ?[التوبة:111].
أيها المؤمنون لا يكفي التألم والبكاء على أحوال المسلمين بل لا بد من تحمل المسئولية الفردية والجماعية واستشعار المخاطر التي تحدق بأمتنا ثم العمل على تحصين أنفسنا ومجتمعاتنا بالإيمان الصادق والعمل الصالح والتعاون على جمع الكلمة ووحدة الصف لتقف الأمة كلها موقفاً موحداً أمام أعدائها فإن ذلك مما يحبه الله ويرضاه كما قال سبحانه: ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ?[الصف:4].
إن الأعداء لن يتركونا مهما قدمنا لهم من قرابين الطاعة والولاء.. وهذا ما لا ينبغي أن يكون. وإنما الواجب أن تستمسك بأحكام ديننا وأن تصبر وتصابر وأن تعمل وتجاهد فلا مكان اليوم للضعفاء والكسالى في هذا العالم المادي الكافر الهائج المائج.
إننا إن تمسكنا بتعاليم القرآن وسرنا على هديه وترسمنا خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن يستطيع الأعداء أن ينالوا منا شيئاً إلا مجرد أذى يحصل لنا كأذى الحر والبرد. أما أن يسلطوا علينا ويذلونا فهذا لن يكون أبداً مادمنا مؤمنين حق الإيمان وقد وعد الله المؤمنين بأن لا يسلط عليهم عدوهم من الكفار فقال:?... وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ?[النساء:141 ].
فلنجدد إيماننا ونصدق مع ربنا في التوكل عليه وحسن اللجوء إليه. هو مولانا لا رب لنا غيره.(/3)
ثم صلوا وسلموا على نبي الرحمة والملحمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي بدأ الله فيه بنفسه وثنى بملائكته المسبحة بقدسه وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه فقال: ? إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً?[ الأحزاب:56].
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
) صحيح مسلم: باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره: الحديث رقم: (251) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .(/4)
الصلاة والدورة الدموية
الصلاة فرض على المسلمين لا يصح إسلام العبد بدونها، قال تعالى: ?إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا?[النساء: 103]وقال تعالى: ?إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي?[طه: 14]وقد أكد الإسلام على هذا الفرض وأعطاه من الأهمية ما لم يعط غيره، ويظهر هذا الأمر جليا ًلمن تفقه في أحكام الصلاة، واطلع على النصوص الشرعية في ذلك، ولست هنا بصدد تبيين الأحكام الشرعية لتارك الصلاة وما أعد الله للقائم بها من النعيم المقيم والسعادة الأبدية، ولكني سأبين بعض المنافع التي حوتها هذه الفريضة العظيمة، والتي أمَرَنا بإقامتها على الوجه الصحيح خالقنا وخالق الناس أجمعين، فأرسل لنا رسولاً من أنفسنا ليشرح لنا كيفية أداء هذا الركن المهم، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»(1)، ولما لهذا الفرض من الأهمية التي لا تخفى؛ فقد أوجب لها الشارع الطهارة الخاصة بها، وإنه لا تصح كذلك الصلاة بدونها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تقبل صلاة بغير طهور»(2)، بل أمر الله بها فقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ?[المائدة: 6]، وبالإضافة إلى الوضوء فقد حثنا الشارع إلى أدائها جماعة في المساجد ومنع من أدائها بغير ضرورة في البيوت أو فرادى، ولهذا سأتناول في هذا البحث مزايا وإيجابيات الصلاة على المسلم من الناحية الصحية وأثرها على الدورة الدموية، ضاماً إليها كذلك الفوائد الصحية للوضوء والمشي إلى الصلاة؛ لما لهما من الارتباط الوثيق الذي يكاد لا ينفك عنها، ولما لهما من الصلة الواضحة في إحداث تلك الآثار الصحية، والتي تناولها علماء الاختصاص بشيء من التفصيل والتدليل العلمي الرصين.
الوضوء
إن الوضوء ليس مجرد تنظيف للأعضاء الظاهرة، وليس مجرد تطهير للجسد يتوالى عدة مرات في اليوم؛ بل إن الأثر النفسي والسمو الروحي الذي يشعر به المسلم بعد الوضوء لشيء أكبر بكثير من ذلك، يشعر به من عاشه حقيقة مع وجود الدافع الإيماني المقترن معه، ولعل السر يكمن في هذا الأخير، خاصة مع إسباغ الوضوء وإتقانه، فللوضوء دور كبير في حياة المسلم، ذلك أنه يجعله دائماً في يقظة وحيوية وتألق، وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت الخطايا من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره»(3)، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: «من توضأ فأسبغ الوضوء وغسل يديه ووجهه ومسح على رأسه وأذنيه ثم قام إلى صلاة مفروضة غفر له في ذلك اليوم ما مشت إليه رجلاه وقبضت عليه يداه وسمعت إليه أذناه ونظرت إليه عيناه وحدث به نفسه من سوء»(4)
الوضوء من منظور علمي
إن عملية غسل الأعضاء- المعرضة دائماً للأتربة من جسم الإنسان- لا شك أنها في منتهى الأهمية للصحة العامة، فأجزاء الجسم(اليدان والقدمان والرأس وما فيه من أعضاء حساسة) تتعرض طوال اليوم لعدد مهول من الميكروبات تعد بالملايين في كل سنتيمتر مكعب من الهواء، وهي دائماً في حالة هجوم على الجسم الإنساني من خلال الجلد في المناطق المكشوفة منه، وعند الوضوء تفاجأ هذه الميكروبات بحالة مسح شاملة لها من فوق سطح الجلد، خاصة مع التدليك الجيد وإسباغ الوضوء، وهو هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وبذلك لا يبقى بعد الوضوء أي أثر من أدران أو جراثيم على الجسم إلا ما شاء الله. وقد ثبت بالبحث العلمي أن الدورة الدموية في الأطراف العلوية من اليدين والساعدين، والأطراف السفلية من القدمين والساقين أضعف منها في الأعضاء الأخرى لبعدها عن المركز المنظم للدورة الدموية وهو القلب، ولذا فإن غسل هذه الأطراف جميعاً مع كل وضوء ودلكها بعناية يقوي الدورة الدموية، مما يزيد في نشاط الجسم وحيويته. وقد ثبت أيضاً تأثير أشعة الشمس ولا سيما الأشعة فوق البنفسجية في إحداث سرطان الجلد، وهذا التأثير ينحسر جداً مع توالي الوضوء لما يحدثه من ترطيب دائم لسطح الجلد بالماء، خاصة تلك الأماكن المعرضة للأشعة، مما يتيح لخلايا الطبقات السطحية والداخلية للجلد أن تحتمي من الآثار الضارة للأشعة(5).
المشي إلى الصلاة:(/1)
لقد حض النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صلاة الجماعة في المسجد وبيَّن أن في كثرة الخُطى إلى المساجد الأجر الكبير وكلما كانت المسافة التي يقطعها المصلي أبعد كلما كان الأجر الذي يناله من الله أعظم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى، فأبعدهم. والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصليها ثم ينام»(6) وفي رواية أبي كريب: «حتى يصليها مع الإمام في جماعة»، و لما كانت آلة الذهاب إلى المسجد هي المشي على القدمين، لأن المسلم مأمور أن يذهب إلى المسجد في كل يوم خمسة مرات فنجد أن المسلم يمشي كل يوم مسافة معينة تتفاوت من مسلم إلى آخر بحسب بعد منزله عن المسجد، فالإسلام أمر المسلم بالمشي إلى المساجد فإذا فرضنا أقل وقت يلزم المسلم للذهاب إلى المسجد والعودة منه 5 دقائق، فإن المسلم يمشي كل يوم ما لا يقل عن 25 دقيقة كأقل تقدير، لاشك أن الخالق سبحانه وتعالى حين جعل المشي سمة في كل إنسان علم أنه سيحفظ توازن الإنسان ويحافظ على لياقته لأبسط أنواع الرياضة فبمجرد المشي يكتسب الإنسان الكثير من اللياقة البدنية ويقضي على الكثير من الإمراض التي يمكن أن تعتري الإنسان لكثرة جلوسه وقلة حركته والمشي هو الرياضة الوسط بين الرياضات فلا هو بالعنيف فيجهد الجسد ويؤدي إلى تضخم العضلات كما نراه عند الذين يمارسون ألعاب القوى ولا هو سيء لدرجة وصول الإنسان معه إلى الترهل، لذا كان المشي هو الحل الوسط، إنَّ المسلم المحافظ على أداء الصلوات، يمارس فيها من الحركات البدنية المتكررة ما مجموعها يفوق مجموع الحركات التي يؤديها ممارس التمارين الرياضية - هذا إذا فرضنا أنه يمارس التمارين كل يوم - ولكن إذا علمنا أنَّ معدل ممارسته للتمارين هي ثلاث مرات في الأسبوع أو أقل عندها لا يبقى أي مجال للمقارنة، لأن المسلم لا يؤدي الصلاة مرة واحدة في اليوم بل خمس مرات، وبعض الرياضات قد يمنع من ممارستها بعض الفئات من الناس: ككبار السن، ومرضى القلب على سبيل المثال، بينما يستطيع هؤلاء أداء الصلاة لأن أداءها خال من أي خطورة، فحركاتها ليست عنيفة بل ناعمة وتؤدى ببطءٍ وهدوء.
المشي من منظور علمي
لو ذهبت تسأل أي مدرب رياضي اليوم في أي ناد من النوادي المشهورة، ولو سألت أي طبيب متخصص في علوم الحمية والرشاقة عن أفضل عمل تعمله لتقلل من وزنك أو لتتفادى الأمراض التي تصيب القلب والشرايين لقالوا لك عليك بالمشي اليومي الذي لا يقل عن نصف ساعة على الأقل، وقال باحثون في جامعة إلينوي الأميركية إن التمارين المعتدلة البسيطة مثل المشي نصف ساعة يومياً, يساعد في تقليل ضغط الدم الشرياني إلى حدوده الطبيعية وخاصة عند الأميركيين الأفارقة. وأكد الباحثون أنه ليس بالضرورة أن تكون التمارين قاسية وعنيفة لتحقيق الفوائد الصحية, بل يكفي ممارسة رياضة معتدلة للمحافظة على سلامة الجسم والتخلص من ارتفاع الضغط, وأشاروا إلى أن 40 مليون شخص في الولايات المتحدة يعانون من ارتفاع ضغط الدم الشرياني التي تزيد قراءاته الانقباضي والانبساطي عن 140/90 مليمتر زئبق,أي ما يقرب من 40% منهم من الأميركيين الأفارقة. وقام الباحثون في الدراسة التي استمرت ستة أشهر بمتابعة 40 شخصاً من الأميركيين الأفارقة المصابين بارتفاع ضغط الدم تراوحت أعمارهم بين 35 و59 عاماً, إذ أعطوهم مقياساً لمسافة السير عند مشيهم ثلاثين دقيقة أو 1.5 ميل يومياً إضافة إلى نشاطاتهم العادية, أي ما يصل إلى 10 آلاف خطوة أو ما بين 3.5 و4 أميال يومياً. وينصح الأطباء هؤلاء المرضى بالمشي والحركة في حياتهم العادية كاستخدام الدرج بدلاً من المصاعد الكهربائية، ووقف السيارات في أماكن بعيدة عن العمل والمنزل, وتقليل الملح في غذائهم, وحذروا من أن ترك هذه الحالة دون علاج قد يؤدي إلى الإصابة بمشكلات في البصر وأمراض القلب والسكتات وقصور الكلى.
المشي والقلب من منظور علمي:(/2)
يفيد المشي في تحسين أداء القلب والمحافظة على صحته وخفض الكولسترول وخفض ضغط الدم وتحسين التمثيل الغذائي والاستفادة من العناصر الغذائية، إذ تشير الدراسات إلى أن معدل التمثيل الغذائي يكون بطيئاً لدى الإنسان البدين الذي لا يمارس الحركة، بينما التمثيل الغذائي يكون سريعاً لدى من يمارس الحركة أو الرياضة، ويقوي العظام ويحافظ على صحة المفاصل ويقوي العضلات ويخفف من حدة التوتر النفسي، إذ أن الرياضة بشكل عام تساعد على إفراز هرمون الإندروفين الذي يمنح الإنسان الشعور بالراحة والسعادة. ورياضة المشي بذلك تخفف من حدة التوتر والشعور بالقلق والاضطرابات الناجمة عن ضغوط الحياة اليومية التي لا تنتهي. وعن طريق مزاولة الأنشطة الرياضية بما في ذلك رياضة المشي، يحصل الإنسان على مفهوم الذات من الناحية الايجابية حيث يشعر بالسعادة والسرور والنظرة المتفائلة عن شخصيته وذاته، فكيف لو صاحب هذا المشي هدف سام، أو كنت تمشي إلى مكان فيه رضا خالقك وفيه الشعور بأنك ستقوم بعمل يباعدك من العذاب ويقربك من النعيم ويحط عنك الذنوب ويرفع لك الدرجات، وهو الصلاة فكيف تكون نتيجة هذا المشي؟ لا شك إن نتائج هذا المشي من الناحية الصحية والنفسية سيكون له مردود أكثر إيجابية على تلك الأعضاء وعلى النفس كذلك، والتي تتأثر تأثراً طردياً مع المسافة والهدف، أرأيت لو سيق إنسان إلى قاعة الإعدام أو القصاص لجرم اقترفه وآخر يساق مع كوكبة من المرحبين والمهنئين إلى صالة التكريم والتتويج، أيهما يكون لمشيه ميزة التفاؤل والإقدام والإسراع؟ لقد وصف الله الحالة الأولى بقوله: ?كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ?[الأنفال: 6] ووصف الحالة الثانية بقوله: ?أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون?[المؤمنون: 61] وهكذا يتفاعل الجسم مع كل مشية يمشيها، فيكون لنوع تلك المشية ومقصدها الأثر الكبير على الجسم وما يعتريه من أعراض وآلام، أو سعادة وانشراح.
الصلاة من منظور علمي:
جسم الإنسان يتكون من عظام ومفاصل وعضلات وشرايين وأوردة وأعصاب وتبلغ العضلات في جسم الإنسان المئات، والأعصاب كثيرة ومنتشرة متشابكة ومتشعبة وهي كالأسلاك الكهربية وكلها تحتاج إلى تزييت وتشحيم كل يوم بالحراك لأن الراحة التامة والنوم يصيبها بالكسل والملل وعدم الكفاءة في ظروف أخرى تتطلب مجهوداً أكبر، ولعل جلطة الساقين الوريدية أو بعض آلام الظهر تأتى الأفراد الذين يؤثرون الراحة التامة، والصلاة لذلك رياضة بدنية ممتازة تتحرك فيها المفاصل والعضلات وتنشط لها الدورة الدموية فما بالك بخمسة تمرينات رياضية كل يوم وتتكرر كلما ازدادت قوة إيمان الشخص. إن أهم ما تعنى به أساليب التربية الحديثة، وما ينصح به علم الصحة الوقائي للتمرينات الرياضية التي أصبحت تمارس وتؤدى في أوقات مخصصة شأنها شأن باقي المواد والدروس لما اتضح أن التمرينات الرياضية هي الأساس في بناء الجسم السليم الذي لابد منه لوجود العقل السليم، وأن أداء الصلاة خمس مرات كل يوم خير وسيلة لجني فوائد التمرينات لرياضية، أما حركاتها فقد عرف أن القيام في الصلاة خير وسيلة لتنشيط الدورة الدموية التي تنشط كافة الأجهزة، ولذا تعتبر الصلاة منشطة للهضم وفاتحة للشهية، ونرى أن أوقاتها تتناسب وهذه الحكمة تناسباً تاماً. إن الصلاة كمعدن (الراديو) مصدر للإشعاع ومولد ذاتي للنشاط، يقول الدكتور " ألكسيس كاريل" الحاصل على جائزة نوبل في كتابه(الإنسان ذلك المجهول) .لعل الصلاة هي أعظم طاقة مولدة للنشاط عرفت إلى يومنا هذا وقد رأيت بوصفي طبيباً أن كثيراً من المرضى فشلت العقاقير في علاجهم فلما رفع الطب يديه عجزاً وتسليماً دخلت الصلاة فبرأتهم من عللهم(7) .
السجود والدورة الدموية(/3)
قال ابن القيم: "السجود سر الصلاة وركنها الأعظم وخاتمة الركعة وما قبله من الأركان كالمقدمات له فهو شبه طواف الزيارة في الحج فإنه مقصود الحج ومحل الدخول على الله وزيارته وما قبله كالمقدمات له، ولهذا اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"(8)، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء»(9)وإذا تأملنا أكثر أركان الصلاة تكراراً وجدناه السجود حتى جعله الله من صفات من شرفهم بنسبتهم إلى ذاته العلية، ولكن ما علاقة السجود بصحة الجسم؟ يجيب علماء الطب فيقولون: يؤدي السجود إلى خفض ضغط الدم، وكلما طالت فترة السجود، ازداد انخفاض ضغط الدم. وقد تكون الصلاة أهم عامل في ندرة الإصابة بضغط الدم في الركع السجود الخاشِعَيْن، كما أنها قد تكون علاجاً للمصابين به، وتعتبر كثرة السجود بمثابة التمرين اليومي المنتظم والمتكرر لمراكز التحكم ومنتجاتها الموجودة بالشريان الأورطى والشريان البابي الأيمن ونظيره الأيسر فيؤدى إلى زيادة كفاءتها في تنظيم الدورة الدموية، وبالتالي يستطيع الجسم أن يواجه أي تغيير في وضعه أو في حالة اهتزازه دون الإصابة بالدوار الناتج عن مثل تلك الأحوال .يتعرض الإنسان خلال اليوم لمزيد من الشحنات الاكتروستاتيكية "الكهربائية الساكنة" من الغلاف الجوى وهي تتركز على الجهاز العصبي المركزي، ولابد من التخلص منها حتى لا تؤدي إلى حدوث متاعب غير محتملة منها على سبيل المثال: الإحساس بالصداع وتقلصات عضلية وآلام بالرقبة، وقد وجد أن وضع السجود هو أنسب الأوضاع للتخلص من هذه الشحنات لأنه بمثابة توصيل الجسم بالأرض التي تبددها وتمتصها تماماً وبهذا ينخفض الضغط الالكتروستاتيكي على المخ، كما يزداد توارد الدم إلى المخ أثناء السجود وبالتالي يصل، ما يلزمه من مواد غذائية وأكسجين ويؤدي وظيفته على أحسن وجه، ومعروف أن المخ يمثل مركز التحكم في الجسم كله ويبدو تأثير عدم إمداد المخ بالدم الكافي واضحاً في الأشخاص الذين يقفون مدة طويلة كجنود الحراسة حيث يصابون بالإغماء المفاجئ، كما أن زيادة موارد الدم إلى منطقة الرأس يساعد على تنشيط الدورة الدموية بالوجه والرقبة ويكسبها نضارة وحيوية خاصة في الطقس البارد، وقد عرف أصحاب رياضة (اليوجا) أهمية وضع الرأس إلى أسفل فجعلوا من بين أوضاعها وضع الوقوف على الكتفين، وهي رياضة من وضع البشر، وشعائر الله كما هي عبادات قد تحفى حكمها وأسرارها على العبد أو قد تكون غير معقولة المعنى إلا أنها تقدم للناس الخير بأفضل مما يبتكرونه لأنفسهم من الناحية الطبية. كما يساعد وضع السجود على تخفيف الاحتقان بمنطقة الحوض وبالتالي يساعد على الوقاية من الإصابة بالبواسير، وحدوث الجلطات بالأوردة، والتي لا تخفى خطورتها، كما أنه يساعد على التخلص، من الإمساك ويعتبر من أنسب الأوضاع لعلاج سقوط الرحم الخلقي لدى الإناث، وقد اكتشفت فوائد هذا الوضع حديثاً، ولهذا ينصح به أطباء النساء والتوليد في علاج بعض الأعراض وقد أطلقوا عليه "وضع الركبتين والصدر"، وللسجود دور عميق في إزالة القلق من نفس المسلم، حيث يشعر فيه بفيض من السكينة يغمره وطوفان من نور اليقين والتوحيد. وكثير من الناس في اليابان يخرون ساجدين بمجرد شعورهم بالإرهاق أو الضيق والاكتئاب معللين ذلك بالفوائد الرياضية والصحية التي تترتب على هذا الفعل المجرد دون أن يعرفوا أن هذا الفعل ركن من أركان صلاة المسلمين، فهو عبادة يؤجر المسلم عليها، ورياضة يلمس ثمارها في صحة بدنه، فسبحان من أحكم هذا التشريع بما يخدم بني آدم، وهو أحكم الحاكمين(10).
الصلاة والوقاية من مرض دوالي الساقين:
مرض دوالي الساقين عبارة عن خلل شائع في أوردة الساقين، يتمثل في ظهور أوردة غليظة ومتعرجة وممتلئة بالدماء المتغيرة اللون على طول الطرفين السفليين، وهو مرض يصيب نسبة ليست بضئيلة من البشر، بين عشرة إلى عشرين بالمائة من مجموع سكان العالم، وفي بحث علمي حديث تم إثبات علاقة وطيدة بين أداء الصلاة وبين الوقاية من مرض دوالي الساقين.(/4)
وبالملاحظة الدقيقة لحركات الصلاة، وجد أنها تتميز بقدر عجيب من الانسيابية والانسجام والتعاون بين قيام وركوع وسجود وجلوس بين السجدتين، وبالقياس العلمي الدقيق للضغط الواقع على جدران الوريد الصافن عند مفصل الكعب كان الانخفاض الهائل الذي يحدث لهذا الضغط أثناء الركوع يصل للنصف تقريباً. أما حال السجود فقد وجد أن متوسط الضغط قد أصبح ضئيلاً جداً، وبالطبع فإن هذا الانخفاض ليس إلا راحة تامة للوريد الصارخ من قسوة الضغط عليه طوال فترات الوقوف. إن وضع السجود يجعل الدورة الدموية بأكملها تعمل في ذات الاتجاه الذي تعمل به الجاذبية الأرضية، فإذا بالدماء التي طالما قاست في التسلق المرير من أخمص القدمين إلى عضلة القلب نجدها قد تدفقت منسكبة في سلاسة ويسر من أعلى إلى أسفل، وهذه العملية تخفف كثيراً من الضغط الوريدي على ظاهر القدم من حوالي (100 - 120 سم/ماء) حال الوقوف إلى (1.33 سم/ ماء) عند السجود، وبالتالي تنخفض احتمالات إصابة الإنسان بمرض الدوالي الذي يندر فعلاً أن يصيب من يلتزم بأداء فرائض الصلاة ونوافلها بشكل منتظم وصحيح ولعل هذه الحقيقة العلمية لا ينكرها من شاهد الكثير ممن حوله، وخاصة أولئك الذين يقفون لفترات طويلة على أقدامهم بسبب طبيعة أعمالهم مع عدم أدائهم للصلاة يجدهم مصابون بمرض الدوالي المزمن، مع ما يصاحبه من منظر مقزز تقشعر منه النفس.
وقد قرر العلماء أن أخطر سببين في تدمير الأوردة السطحية وإبراز دوالي الساقين هما:
العنصر الأول: هو تركيز أعلى للضغط على جدران الأوردة السطحية للطرفين السفليين عن طريق الوقوف ولفترات طويلة.
العنصر الثاني: أن الوريد السطحي المؤهل للإصابة بالدوالي، إنما يكون واقعاً من البداية تحت تأثير مرض عام في الأنسجة الرابطة، يؤدي إلى إضعاف جدرانه إلى مستوى أقل من نظيره الطبيعي، والآن يبدو ظاهراً إنه بتكاتف هذين العنصرين معاً في شخص ما تكون النتيجة الحتمية هي إصابته بدوالي الساقين، وهكذا فإن الصلاة تعد عاملاً مؤثراً في الوقاية من دوالي الساقين عن طريق ثلاثة أسباب:
الأول: أوضاعها المتميزة المؤدية إلى أقل ضغط واقع على الجدران الضعيفة لأوردة الساقين السطحية الثانى: تنشيطها لعمل المضخة الوريدية الجانبية، ومن ثم زيادة خفض الضغط على الأوردة المذكورة الثالث: تقوية الجدران الضعيفة عن طريق رفع كفاءة البناء الغذائي بها، ضمن دفعها لكفاءة التمثيل الغذائي بالجسم عموماً. فالله فرض علينا الصلاة لحاجتنا إليها ولأنه هو الذي خلقنا وهو أعلم بما ينفعنا، فبادر أخي إلى أداء الصلاة بالصفة التي جاء بها نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خشوع وتدبر فهي لمصلحتنا ولسعادتنا والله هو المتفضل علينا بها فله الحمد والشكر، ولكن ليكن أداؤك لها ليس فقط لتكسب منها الفوائد التي تحققها وليكن قصدك الأسمى في كل ذلك هو الحصول على رضا الله عز وجل .وهو القصد الذي يجب أن يكون لدينا في جميع أمور حياتنا(استحضار نية التعبد(11)والصلاة تساعد الإنسان على التأقلم مع الحركات الفجائية التي قد يتعرض لها كما يحدث عندما يقف فجأة بعد جلوس طويل مما يؤدي في بعض الأحيان إلى انخفاض الضغط، وأحياناً إلى الإغماء. فالمداومون على الصلاة قلما يشتكون من هذه الحالة. وكذلك قلما يشتكي المصلون من نوبات الغثيان أو الدوار.
وجه الإعجاز:(/5)
الصلاة عند المسلمين لها شروط وأركان وواجبات إذا اختل واحد منها بطلت الصلاة ووجب إعادتها، على تفاصيل وضوابط عند العلماء، وقد ذكرنا منها الوضوء، وهو الذي لا تصح الصلاة بدونه-طبعاً في غير حالة الضرورة وعدم وجود الماء- والمشي وهو الوسيلة التي يستعين بها المسلم ليكمل بها صلاته وليحصل بها على الأجر الكامل من خالقه سبحانه الذي أمره بها بذهابه إلى المسجد فيؤديها، والمسلم وهو يؤدي هذه العبادة العظيمة يمتثل لأمر مولاه طاعة له وتقرباً لمرضاته مستحضراً للإخلاص فيها وفي غيرها من العبادات، وليس همه الأول هو التداوي بها وجعلها جرعة من جرعات العلاج، وعلى هذا كان هدي نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته من بعده ولم يكن يعلم صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الأمراض بل ولا كان هناك أحد يشكو منها؛ ولكن اليوم ومع تغير الأحوال والأزمان ظهرت هذه الأمراض والعلل التي لم تكن موجودة من قبل، وقد هيأ الله سبحانه من عباده من تخصص في دراسة هذه العبادة من الناحية العملية ومقارنتها بالعلاجات الحديثة وما توصل إليه الطب النفسي وخبراء الرياضة وغيرهم، فوجدوا ما وجدوا من أعاجيب تذهل لها العقول لما تحتويه هذه العبادة من أسرار قد هيأها الخالق لعباده وضمنها إياها، وجعلها فريضة على عباده المؤمنين، وكأنه قال لنا يا عبادي أنا خلقتكم وأنا أمرتكم بعبادتي وما أمرتكم بشيء إلا وفيه سعادتكم وشفاؤكم وطهارتكم، وهذا والله ما يقر به اليوم العلم الحديث الذي يأتينا كل يوم بشاهد أن هذا الدين حق وأن ما أمرنا الله به إنما هو لمصلحتنا ونجاتنا من أمراض العصر الكثيرة والمتشعبة والخطيرة والتي أغنانا الله عنها بهذه العبادة الخالصة لوجهه الكريم، ولعل هذا من الأسباب التي ادخرها لنا الله ليزداد بها إيماننا ولنعلم أنه الحق المبين الذي لا يأتيه الباطل، ولا تعلوه الوساوس والشكوك، وأن ما جاءنا به محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الحق من ربه وهو البرهان الساطع على نقاء هذا الدين من الأباطيل والخرافة والشعوذة، ولتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى وصدق الله القائل: ?وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ?[الحج: 54].
إعداد: قسطاس إبراهيم
2006:6:28
مراجعة/ عبد الحميد أحمد مرشد
(1) - صحيح البخاري 1/226، رقم: 605.
(2) - صحيح مسلم 1/302، رقم:
(3) - صحيح مسلم 1/216، رقم: 245.
(4) - مسند الإمام أحمد بن حنبل 5/263، رقم: 22326.
(5) - http://www.khayma.com/ashab/taab_alabadat_malafat/alwwtoowa-altharaa-fwwed.htm
(6) - صحيح مسلم 1/460، رقم: 662
-(7)مجلة " المجاهد " القاهرية، عدد رمضان 146 أبريل 1986 للدكتور عثمان الخواص أستاذ العظام.
(8) - الصلاة وحكم تاركها للإمام ابن القيم 1/209.
(9) - صحيح مسلم 1/350، رقم: 482.
(10) - الدكتور غريب جمعة"بالمجلة العربية السعودية" ، رقم (224) السنة العشرون الصادر في رمضان 1406 هـ فبراير 1996.
(11) - مجلة "الإعجاز" السعودية فى عددها الثانى إصدار جمادى الأولى 1417(/6)
الصلاة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? [ آل عمران : 102] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً? [ النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
إن الصلاة عبادة متصلة بحياة المسلم اتصالاً وثيقاً فهي تنهاه عن الفحشاء والمنكر، وتؤثر في سلوكه وأخلاقه، فالصلاة مرآة عمله إن كان صالحاً دل ذلك على صحة صلاته وقبولها عند الله عز وجل ، ولا شك أن الصلاة المقبولة لها آثارها الكبيرة على الإنسان ، وإن من آثار ذلك الصدق في المعاملة، وأداء الأمانة ، وحسن الجوار والإحسان إلى الخلق، وكف الأذى عنهم ، وتقديم الخير وإشاعة السعادة والأخوة والألفة والوئام بين المسلمين جميعاً.
الصلاة أيها المؤمنون نور يستضيء به المؤمن في ظلمات هذه الحياة.
فإذا تعددت عليك المشكلات وكثرت لديك الخيارات والمسالك في الأمور فعليك أيها المسلم أن تلجأ إلى الصلاة . وصلاة الاستخارة تصلى ركعتين في خشوع وإخلاص تطّرٍح بين يدي خالقك ، ثم تدعوه أن يلهمك الرشد والصواب، وأن ييسر لك الخير في دينك ودنياك وعاجل أمرك وآجله ، وأن يصرف عنك الشر والفتن ويجنبك المآسي والمحن ثم سر على بركة الله في عملك وطريقك دون خوف أو وجل .. فهذا مما وجه به وأرشد إليه سيد الخلق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث قال - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه " إذا هم أحدكم بأمر ، فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر –وتسميه باسمه- خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، أو (عاجله وآجله) فاقدره لي ويسره لي ، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، أو (عاجله وآجله)، فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رضني به" .
وإذا ما حدث جدب أو قحط وتضرر الخلق من ذلك فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرع لنا صلاة الاستسقاء واللجوء إلى الله عز وجل وإظهار التضرع بين يدي الله سبحانه وإظهار الضعف والفاقة والحاجة إلى الله فقد خرج - صلى الله عليه وسلم - إلى صلاة الاستسقاء متواضعاً ، متبذلاً متخشعاً، متوسلاً، متضرعاً، فصلى ركعتين كما يصلي في العيد. ثم خطب الناس كما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: "شكا الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوماً يخرجون فيه، فخرج حين طلعت الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله ، ثم قال: "إنكم شكوتم جدب دياركم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين ، لا إله إلا الله يفعل ما يريد ، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت ، أنت الغني ونحن الفقراء ، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت علينا قوة وبلاغاً إلى حين ، ثم رفع يديه فلم يزل حتى رُئِي بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره وقلب رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت".
لقد سار المسلمون على هدي نبيهم - صلى الله عليه وسلم - في اللجوء إلى الله تعلى والتوجه إليه والخروج إلى المصلى كل ما جفت الأرض وشحت المياه وانقطع المطر.
وكثيراً من الأوقات لا يصلون إلى بيوتهم إلا وقد أغاثهم ربهم وأنزل عليهم رحمته. ? وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ? [ سورة الشورى : 28].
لكننا أيها المؤمنون وفي هذا الزمن قد قصرنا في جنب الله وكدنا أن ننساه جل وعلا. نكتوي بالمصائب وتحل بنا الكوارث وتغور الآبار ويتأخر نزول المطر فلا نرجع إلى ربنا ولا نطرق بابه وكأننا قد استغنينا عنه تبارك وتعالى.(/1)
نشكو من قلة المخزون وكثرة البشر وقلة المطر وندق نواقيس الخطر بنضوب المياه الجوفية ونتوجه إلى المنظمات والهيئات الدولية للإغاثة والمساعدة وربنا جل جلاله وهو أقرب إلى أحدنا من حبل الوريد ، الخير كله بيديه والشر ليس إليه. ما بالنا لا نصلي له وندعوه ونتضرع إليه كلما حزبنا أمر أو حلت بنا ضائقة فيكشفها ويزيلها ويغيث عباده.
وإذا ما حدث تغيير في سير الكواكب ومنها الشمس والقمر في ظاهرة الكسوف والخسوف فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يندب أمته ويدعوهم إلى الصلاة ، فعندما يريد الله عز وجل تغيير شيء من آياته الكونية كالكسوف والخسوف والزلازل ليوقظ عباده من الغفلة وليعلمهم أن وراء هذه المخلوقات العظيمة وهذا الكون الكبير رباً مدبراً قديراً حكيماً بيده كل شيء. فهو قادر على أن يعاقبهم بآياته الكونية كما أهلك الأمم السابقة بالصواعق والرياح والطوفان والزلازل والخسوف.
كما أنه قادر على أن يسلبهم نور الشمس والقمر فيظلون في أرضهم يعمهون. فحين يحدث كسوف أو خسوف فعلى المسلمين أن يتوجهوا نحو بيوت الله عز وجل للصلاة والدعاء والاستغفار فقد كسفت الشمس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي مات فيه ابنه إبراهيم وذلك في الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين من شهر شوال سنة عشر من الهجرة في الساعة الثامنة والنصف صباحاً كما ذكر ذلك علماء الفلك وأهل الحساب والتاريخ فخرج - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد مسرعاً فزعاً يجر رداءه فتقدم فصلى ركعتين أطال فيهما القراءة وكان في كل ركعة ركوعان وسجودان. ثم انصرف من الصلاة وخطب في الناس خطبة بليغة وكان مما قاله فيها - صلى الله عليه وسلم - "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك ، فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا.
يا أمة محمد ، والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرا"
فافزعوا أيها المؤمنون إلى الله في كل أموركم وشؤونكم وتوجهوا إليه بالصلاة والذكر والدعاء فإن في ذلك سعادة الأبد والرفعة والعزة في الدنيا والآخرة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ? وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ? [ سورة البينة : 5] .
الخطبة الثانية
أعداء الإسلام في هذه الأيام يكثفون مؤامراتهم ويزداد كيدهم ومكرهم على الإسلام والمسلمين في كل مكان وبمختلف الوسائل .. يتولى كبر هذه المؤامرات اليهود الأمريكان، الذين يسوقون الناس سوقاً إلى أهدافهم وسياساتهم وكأن الأمم والشعوب لم توجد إلا لخدمتهم وتقديم القرابين والولاء لهم .. والمسلمون في غفلة لا يدركون حجم المؤامرات التي تحاك ضدهم .. ثم إن الحرب معلنة وتمارس ضد العالم الإسلامي من قبل أمريكا ومع ذلك تريد منا أن نقدم لها فروض الولاء والطاعة والاستسلام ومن الأمور التي تقوم بها أمريكا في عالمنا الإسلامي مؤتمر الدوحة الذي نظمته ودعت له أمريكا ورعته لتحقق أهدافاً كثيرة من خلال ذلك المؤتمر لو لم يكن منه إلا إيجاد الفرقة والاختلاف بين العرب العاربة والعرب المستعربة لكان ذلك ربحاً كبيراً لليهود الأمريكان فهم لم يضغطوا على الحكام العرب الذين طبعوا مع اليهود لحضور المؤتمر إذ أن هؤلاء قد فرغوا منهم .. لكنهم شددوا وركزوا على الدول التي لم تطبِّع بعد لحضور المؤتمر لتوريطهم وإذلالهم ورسم المخطط لهم ليلحقوهم بقافلة التطبيع والاستسلام لأعداء الله اليهود.
ومن المستجدات التي تقودها أمريكا ضد الأمة الإسلامية هذا الحصار الاقتصادي وإعلان الحرب على السودان إذ يعتبر الأمريكان هذا البلد قد شذ عن القاعدة التي وضعوها فهو يأكل مما يزرع ويحاول أن يلبس مما يصنع وينتج، وهم يريدونه أن يبقى مرتهناً بكيس القمح الأمريكي والمنتجات التي تصنعها الشركات اليهودية ثم التمسك بالشريعة وإعلان سيادتها وتطبيقها هي الجريمة التي لا تغتفر لدى اليهود .. وقبل السودان هذا الحصار الذي يفرضونه على الشعب العراقي إنه موت بطيء يمارسونه مع شعب ينتمي إلى العروبة والإسلام بحجة تدمير أسلحته الشاملة ودولة اليهود عبارة عن ترسانة من الأسلحة النووية والذرية وغيرها، ثم لا تدمر أسلحتهم ولا يحاصرون ، إن المعركة واضحة وهذا العلو والغطرسة اليهودية التي ذكرها الله لنا في كتابه عن اليهود في قوله:?... وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ? [ الإسراء : 4] ثم أخبرنا بما يؤول إليهم هذا العلو والإفساد إنه التدمير والهلاك الذي ينتظرهم ولن ينفعهم حينئذ إنس ولا جان ولا روس ولا أمريكان .
أخرجه البخاري وغيره أنظر صحيح البخاري ج1 أبواب التطوع . ص391 رقم الحديث: 1109
حسنه الألباني في صحيح أبي داود ج1 ص 217 رقم الحديث: 1040(/2)
متفق عليه : أنظر صحيح البخاري ج باب الصلاة في كسوف الشمس ص353 رقم الحديث: 993 وصحيح مسلم ج2 باب صلاة الكسوف ص618 رقم الحديث: 901 ...(/3)
الصلاة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? [آل عمران : 102] ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً? [النساء :1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
الصلاة الصلاة أيها المؤمنون إنها آخر ما نتشبث به من ديننا ، إنها ترتبط بحياتنا ارتباطاً عظيماً في حالة الصحة والمرض وفي حالة الغنى والفقر وفي حالة الإقامة والسفر، وفي حالة السلم والحرب .. وقد بينت لكم شيئاً من التشريعات الإسلامية في صلاة الاستسقاء واللجوء إلى لله عز وجل إذا غارت المياه الجوفية وتأخر المطر فلا علاج حينئذ إلا بإعلان التوبة والاستغفار، وإقامة الصلاة.
صلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يوماً بالمسلمين صلاة الاستسقاء فلم يزد على الاستغفار حتى رجع ، فأمطروا ، فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ قول الله تعالى:? فقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً?[نوح:10-12]
وشكى رجل إلى الحسن البصري الجدب فقال له في إجابته: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، فقال: استغفر الله. وجاء آخر وقال له أدعُ الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه صاحب بستان جفاف مزرعته ، فقال: استغفر الله، فقال له جلساؤه في ذلك فتلى عليهم الآيات.
ولقد تحدثنا أيضاً عن صلاة الخسوف والكسوف وصلاة الحاجة وهناك جوانب أخرى يفزع فيها المسلمون إلى الصلاة ، فحين يموت مسلم أو مسلمة فإن المسلمين يسارعون إلى تجهيزه وتكفينه والصلاة عليه إذْ يكون العبد في تلك الحالة أشد ما يكون محتاجاً إلى رحمة ربه عز وجل، فإذا ما صلى عليه أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً شفعهم الله تعالى فيه ، فقد أخرج الإمام مسلم وأحمد وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعوا فيه". وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم : "مامن ميت يصلي عليه أمة من المسلمين، يبلغون أن يكونوا مائة، فيشفعون له إلا شفعوا فيه" وكلما كثر المصلون كان ذلك أرجى للقبول والإجابة لأن الصلاة على الجنازة شفاعة من المصلين للميت ، فكلما كثر عددهم كان أفضل ليكثر الدعاء والترحم والاستغفار للميت من قبلهم ، وفي الحديث بيان لفضل توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة والبعد عن الشرك الجلي والخفي بكل أشكاله ومظاهره، فإن إخلاص التوحيد حسنة لا يعادلها حسنة ، كما أن الشرك ظلم عظيم ، أعاذنا الله جميعاً منه.
وذكر الرجل في الحديث هو من باب التغليب في الألفاظ وإلا فإن الحكم واحد للرجل والمرأة.
وإذا ما مرض الإنسان واعتلت صحته ولزم الفراش فإن الصلاة لا تسقط في حقه بل عليه أن يحافظ على الصلاة حسب قدرته واستطاعته، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين - رضي الله عنه - حين شكا إليه مرضاً: "صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب وإلا فأومئ".
وهكذا يجب على المسلمين جميعاً أن يحرصوا على الصلاة فإنها لا تسقط عن الإنسان مادام العقل ثابتاً .. وما أحرى الأطباء والممرضين بأن يوجهوا المرضى ويرشدونهم في المستشفيات والمستوصفات إلى إقامة الصلاة حتى إذا ما قدم الإنسان على الله عز وجل يكون متصلاً به محباً للقائه. وفي بعض البلدان الإسلامية نجد أمثلة جميلة في هذا الجانب إذ نجد أن المستشفى يوفر التراب في أواني يقدمها للمرضى الذين لا يستطيعون استخدام الماء عند كل صلاة للتيمم، ويبينوا لمن لا يعرف الكيفية ويسهلوا له الأمر. كما أنهم يوفرون النشرات والكتيبات ، فيقومون بمعالجة المرضى روحياً وجسدياً .. وحبذا أن تحذوا وزارة الصحة في بلادنا حذوهم وتفعل كما فعلوا وعلى المصلين جميعاً أن لا ينسوا ولا يهملوا الصلاة فذلك حق الإسلام والإيمان عليهم.(/1)
وإذا ما أذنب الإنسان ذنباً أو وقع في خطيئة فما عليه إلا أن يقوم بالتطهر للصلاة، والصلاة والاستغفار حتى يغفر له خطيئته ، فقد أخرج الطبراني وابن خزيمة في صحيحه وغيرهما أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مامن رجل يذنب ذنباً، ثم يقوم فيتطهر ، ثم يصلي ثم يستغفر الله، إلا غفر الله له" ثم قرأ هذه الآية: "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون"، وقال تعالى: ?وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ?[هود:114]
وإذا ما كثر الأعداء وتسلطوا على هذه الأمة فما عليها إلا أن تتوجه إلى البحث عن أسباب النصر، فإنها ستجد من أسبابه الإحسان إلى عباد الله الصالحين من الفقراء والمساكين فإن الإحسان إليهم وإكرامهم يدفعهم إلى أن يتوجهوا إلى الله بالصلاة والدعاء الصادق بأن يحفظ هذه الأمة وأن ينصرها على أعدائها فيستجيب الله تلك الدعوات الخالصة فقد روى النسائي وغيره عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم" وفي لفظ "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بصومهم وصلاتهم ودعائهم".
ثم في حالة الحرب والخوف نجد أن الإسلام يحث المسلمين على إقامة الصلاة، وصلاة الخوف ثابتة في الكتاب والسنة وعند جمهور المسلمين، فقد قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: ? وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ ...?[ النساء:102]. ومشروعية صلاة الخوف في الحرب عند تقابل الجيشين واحتدام المعارك تدلنا على أمرين مهمين.
الأول: عظم أمر الصلاة وشدة الاهتمام بها والحرص على أدائها في وقتها فإنه لم يعذر المسلم من أدائها حتى في هذه الحال التي يشتد فيها القتال، ويلتحم المسلمون بعدوهم ويشتبكون بالسلاح، فإذا بلغ الأمر هذا المبلغ من الاهتمام بالصلاة فكيف يتساهل بها بعض المسلمين ويفوتونها وهم في بيوتهم وعلى فرشهم. وكيف تربى جيوشنا اليوم إنها مقطوعة الصلة بالصلاة والمساجد إلا قلة قليلة من الحريصين على دينهم.
إن من واجب الأمة وواجب الدولة أن تنشئ المساجد وتقيمها في كل موقع عسكري، وأن تزود الجنود والضباط بالعلماء والدعاة الذين يوجهونهم ويعلمونهم أمر دينهم، وإن أي تقصير في هذا إنما هو دليل على الاستخفاف بالأمة وبدينها وإيمانها وصلاتها وبجيشها ، إننا نعجب من التضييق والمنع من وصول العلماء والدعاة إلى صفوف جيوشنا العربية .. بينما نجد الجيش الأمريكي يسمح للمسلمين بإقامة شعائرهم واحترام مشاعرهم؟! إن هذا شيء عجيب وغريب.
والأمر الثاني: الذي نستفيده من مشروعية صلاة الخوف: بيان مكانة الجهاد وأهمية القيام به حتى سومح لأجله بالإخلال بالصلاة المفروضة وترك كثير من أركانها والإتيان بما ينافيها من الكر والفر واستدبار القبلة وترك الركوع والسجود والقعود وغير ذلك من أفعال الصلاة وما ذاك إلا من أجل القيام بأمر الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته ونشر دينه وبث دعوته وما أصاب المسلمين من الذل والمهانة والحقارة من قبل أعدائهم إلا بسب تركهم الجهاد في سبيل الله وركونهم إلى الدنيا والدعة والإخلاد إلى الأرض.
كانت الصلاة لدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولدى أصحابه شيئاً عظيماً في حياتهم ، إنها مظهر العبودية لله رب العالمين. وإن تأخير فريضة عن وقتها كان يعدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كارثة عظيمة، ففي معركة الأحزاب كانت محنة المسلمين شديدة إذ أحاطت الجيوش بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم والصحابة الكرام مع قائدهم ونبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ثابتون في مواقعهم يصدون الهجمات ويحبطون المحاولات الكثيرة التي قام بها لاقتحام المدينة.(/2)
وفي يوم من الأيام رأى المشركون أن يقوموا بعمل حاسم لإيقاع الهزيمة بالمسلمين، وإحداث ثغرة ينفذون من خلالها إلى قلب المدينة ، غير أن المسلمين بقيادة رسول الله r كانوا لهم بالمرصاد يدافعون ويصدون الهجوم وقد بدأ التسلل والهجوم بعد الظهر وظل مستمراً حتى غربت الشمس لم يستطع المسلمون من أداء صلاة العصر لأن الخطر كان شديداً على المدينة ولم يجد الرسول وصحبه رضوان الله عليهم بداً من مواجهة العدو حتى تنكسر شوكته وحدته. ووقف الهجوم بعد المغرب لما يئس الكافرون من إدراك شيء. فصلى المسلمون العصر بعد وقتها وكان رسول الله مغتاظاً لما حدث فقال داعياً على الكفار كما في الحديث المروي عن علي رضي الله عنه قال صلى لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس" (6)
إن إضاعة وقت العصر كان محنة حقيقية عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لقد فوت المشركون عليه صلاة العصر عن وقتها الذي كان سيؤم الصحابة في جماعة خاشعة تناجي ربها وترجوا رحمته وتخشى عذابه وتسأله النصر والظفر.
والأمة الإسلامية تقف كلها من وراء الجبهة الساخنة في مقارعة خصوم الإسلام ومنازلتهم تدعوا ربها في إنزال النصر وتأييد المجاهدين ، فها هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يقنت في الصلوات ويدعوا لجيوش الإسلام الظافرة التي كانت تطرق أبواب المجوسية والنصرانية ، فقد كان يقول في دعائه والمسلمون يؤمنون: اللهم عذب الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أوليائك.
وبعد النصر والظفر كانت الصلاة هي أول عمل يقوم به الفاتحون فحين فتح الله مكة على رسوله وكان فتحاً عظيماً بعد طول عناء وعناد من المشركين دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار أم هانئ بنت أبي طالب، فاغتسل، وصلى ثمان ركعات في بيتها، وكانت ضحى، فظنها بعض العلماء أنها صلاة الضحى وإنما هي صلاة الفتح، وكان أمراء الإسلام إذا فتحوا حصناً أو بلداً صلوا عقيب الفتح هذه الصلاة اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
هذه هي أمة الإسلام وهذا تاريخها يا مسلمون .. غير أننا في هذه الحقبة من الزمن حيث لا نصر ولا فتح وإنما هزائم وانكسارات متلاحقة وأول الهزائم هي هزائم القيادات النفسية والفكرية والروحية، فلا دين ولا صلاة ولا رجوع إلى الله تعالى، وإنه لا عزة ولا نصر ولا خروج من هذه المصائب التي تعاني منها الأمة في كل مكان إلا بالإيمان الصادق وإقامة شعائر الله وتعظيم حرماته وتنفيذ أحكامه والجهاد في سبيل الله لنصرة دينه ورفع رايته .. لا طريق غير هذه ولا سبيل سواه، وإن تشدق البعض بخلافه.
راجعه : عبد الحميد أحمد مرشد
صحيح مسلم.ج2 باب من صلى عليه أربعون شفعوا فيه. الحديث رقم: 948 ولفظه عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ، أَنّهُ مَاتَ ابْنٌ لَهُ بِقُدَيْدٍ أَوْ بِعُسْفَانَ. فَقَالَ: يَا كُرَيْبُ! انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ النّاسِ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَإذَا نَاسٌ قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ. فَأَخْبَرْتُهُ. فَقَالَ: نَقُولُ هُمْ أَرْبَعُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَخْرِجُوهُ. فَإنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَىَ جِنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلاً، لاَ يُشْرِكُونَ بِاللّهِ شَيْئاً إلاّ شَفَعَهُمُ اللّهُ فِيهِ".
سنن النسائي 4/ 75، حديث رقم: 1991، وصححه الألباني.
صحيح البخاري،ج1 باب: إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب. الحديث رقم: 1066
ـ صححه الألباني في صحيح الترمذي ج1 ص128 ص333
ـ سنن النسائي 6/ 45 ، حديث رقم: 3178 ، وصححه الألباني.
ـ البخاري 3/1071 ، حديث رقم: 2773، ومسلم 1/436، حديث رقم: 627 .(/3)
الصلاتيون والزكاتيون والحدوديون
د.وسيم فتح الله
</TD
لئن كان باب الأسماء والأحكام من أهم أبواب الدين، فإن التلاعب والتضليل في هذا الباب من أحط المستنقعات الإبليسية التي يتمرغ فيها صرعى الهوى وعبدة العجل بلا ريب، فباب الأسماء يقوم على مثل قوله تعالى:" هو الذي خلقكم فمنكم كافرٌ ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير"(التغابن 2)، في حين يقوم باب الأحكام على مثل قول المعصوم صلى الله عليه وسلم :" من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تُخفروا الله في ذمته"(صحيح البخاري)، وإن ثبوت الأسماء وترتيب الأحكام عليها لا يكون إلا من جهة الشرع، نعم قد يكون تنزيل هذه الأسماء والأحكام مناط اجتهاد، كالنظر في مدى تلبس المبتدع ببدعته، وهل هو مبتدع داعٍ لبدعته أو مقلد جاهل لا يلزمه من التعزير والهجر ما يلزم الأول وهكذا، أما تأصيل هذه المسائل فليس إلا من قبل الشرع، فلا نخترع أسماءً نحاكم الناس إليها، ولا نعطل أسماءً أثبتها الشرع، كما لا نخترع أحكاماً نرتبها على الاسم المعين، ولا نعطل أحكاماً رتبها الشرع على الاسم المعين، وتأمل كيف أصلَّ القرآن الكريم هذه المنهجية :" قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يَلِتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم. إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون. قل أتُعلِّمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات والأرض والله بكل شيء عليم"( الحجرات 14-16)، فتحرير اسم المؤمن والمسلم مرده إلى الله تعالى، وعلمه من جهة الشرع مهما ادعى المدعي في دين الله، فمن باب أولى ألا يُنظر إلى اسم لم يثبته الشرع أصلاً، فتأمل.
فإذا عُلم ما تقدم، فاعلم أن ما تروج له الألسنة الحداد وتروج له الأبواق الإبليسية من تمييع أسماء الدين وتعطيل موجَباتها ليس إلا من جنس تعطيل الدين نفسه، ولما استشرى خطر هؤلاء والتبس على كثير من الناس حقيقة مرادهم، كان من الواجب التصدي لهذه المصائد وتحذير المسلمين منها، وفيما يلي بعض هذه الصور :
أولاً: تعطيل أسماء الدين وأحكامه: وذلك كحال من أراد أن يلغي مسمى الكفر والكافر ويعطل الأحكام المترتبة عليهما، ويميع اسم المؤمن والمسلم ويضيع حقوقهما، وهؤلاء يريدون أن يلغوا القرآن الكريم خابوا وخسروا، فلما أعيتهم الحيلة لم تَجُد عليهم شياطينهم بأخزى من أن ينفروا الناس من هذه الأسماء بحجة أن حكم الردة كبتٌ للحريات، واستعمال لفظ الكفر مثارٌ للنعرات والعصبيات، وتقديم المسلم تمييز طائفي تمنعه حقوق الإنسان، بل أخذ هؤلاء يروجون لباطلهم متكئين على مبادئ التسامح والرحمة والعدالة الإسلامية، ولكن أنى لذليل منبوذ أن يفهم حقيقة التسامح، وأنى لشقي يورد نفسه موارد الهلاك أن يكون رحيماً بالناس، وأنى لظالم نفسه أن يسعى للناس بالعدل ويحكم بينهم بالقسط؟!
ثانياً: تنزيل أسماء الدين وأحكامه على غير مناطها: وهذا من أسوأ التلبيس والتضليل بل والكذب على الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولقد راجت هذه الحيلة الإبليسية ونعق في بوقها الناعقون وأنصت لنعيقها الجاهلون، فإذا بالذمي الذي كان في الأمس يُشد بيده شداً ليدفع الجزية صاغراً في مقابل أمان الدولة الإسلامية له والمسلمون يسحبونه إلى الجنة بالسلاسل لعله يؤمن فينفعه يؤمنه ، فإذا بالذمي في عرف هؤلاء اليوم هو ذلك المنصر الصليبي الذي يجوب جنبات المجتمع المسلم نافثاً سُمَّه وناصباً شراكه ليوقع فيه فرائس الجهل من أبناء الأمة فيهوي بهم إلى نار جهنم، وهو في كل هذا مستعلٍ بكفره مجرداً سلاحه ، يشتم نبنيا – حاشاه صلى الله عليه وسلم - فيقال حرية التعبير، ويعري بناتنا فيقال حرية اختيار ، ويستبيح الإعلان بالزنا والخنزير وشرب الخمر، ويرتد على يديه شبابنا فيقال دعوا الأمر إلى حكمة ولي الأمر، ، فإذا بك تقرأ قول الله تعالى :" حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون"(التوبة 29) فتحسب أنك تقرأ عن دين غير ديننا، فإذا أنكر مسلم على الدولة منكراً استعار له هؤلاء رداء الخروج فألبسوه إياه زوراً وبهتاناً، وهكذا دواليك..(/1)
ثالثاً: اختراع أسماء مبتدعة ومحاكمة الناس إليها: وهذا المسلك ليس أقل خطراً من سابقه، فهذا الفريق يخترع أسماءً جديدة مبهمة تهدف إلى تفتيت الدين وتفريغه من حقائقه واحدةً تلو الأخرى، ويحاكمون الناس إليها موقعين بهم أسوا الأحكام ومرتبين على تلبسهم بها أقذع الألفاظ من وصمٍ بالإجرام والضلال والزيغ والانحراف، ولئن كان من هذه الأسماء في القديم الحشوية والناصبة فتأمل معي أمثال هذه الألفاظ اليوم : الجهاديون، الأصوليون، التكفيريون، وغيرها من المسميات التي لا هدف من وراء ترويجها والحكم على فئام الناس بها وإيقاع أشد النكال المعنوي والمادي بهم إلا تفتيت الدين وإقصاء الناس عن هذه المعاني التي لا تخلو حقيقة الدين منها، فإذا بالمسلم يرى النكال المنزل بالجهاديين فيتبرأ من الجهاد والمجاهدين، وإذا به يرى الصورة المنفرة للأصولية فيخلع من رداء الدين ما استطاع أن يخلع فراراً من أن يُحسب على هذه الفئة، حتى إذا جاء ذكر التكفيريين تبرأنا من كل تكفير وأصبح إيمان إبليس وفرعون وهامان وقارون كإيمان جبريل وميكائيل والنببيين والصديقين، فتباً لهم ما أقبح ما جاؤوا به...
وبعد، فإن المستنقع الذي يغرق فيه هؤلاء عميق ، والهوي فيه لا قرارة له، روى الحاكم في مستدركه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال:" إني لأعلم أهل دينين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار؛ قومٌ يقولون: إن كان أولنا ضُلالاً، ما بال خمس صلوات في اليوم والليلة، إنما هو صلاتان العصر والفجر ، وقومٌ يقولون: إنما الإيمان كلام وإن زنى وإن قتل" (قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)، فليس غريباً أن يتكئ أمثال هؤلاء على قوله تعالى:"وأقم الصلاة طرفي النهار"(هود 114) فيشنوا الغارة على (الصلاتيين) الذين يصرون على التطرف والتشدد فيلتزمون بالصلوات الخمس، أو يجيء من يتكئ على قوله تعالى:" خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إن صلاتك سكنٌ لهم والله سميعٌ عليم" (التوبة 103)، فيشنوا الغارة على (الزكاتيين) الذين يصرون على هذه النظرة المتطرفة والتشدد الأصولي والنزعة التكفيرية تجاه من يجحد الزكاة، ورديف هؤلاء وهؤلاء قومٌ يأنسون إلى حديث :" ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعاً" (سنن ابن ماجة، وضعفه الألباني رحمه الله)، فيشنون الغارة على (الحدوديين) الذين يدعون إلى إقامة حدود الله بين عباد الله في أرض الله، وهكذا حال هؤلاء من حضيض إلى حضيض، يخترعون أسماءً يفتتون بها الدين ويفرقون بها شمل أهله ويقطعون بها أواصر رحمه، ولقد فضخ الله تعالى هؤلاء في كتابه فقال:" كما أنزلنا على المقتسمين. الذين جعلوا القرآن عِضين"( الحجر 90-91)، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى ( الذين جعلوا القرآن عضين) قال:" هم أهل الكتاب جزؤوه أجزاءً، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه"(صحيح البخاري)، ولكن أين الفرار لهؤلاء، فلقد أقسم الباري جل وعلا :"فوربك لنسألنهم أجمعين. عما كانوا يعملون"(الحجر 92-93).
هذا بعض ما أردنا تحذير المسلمين منه من شأن هؤلاء المقتسمين، فليمضوا في غيِّهم يحذرون الناس من الجهاديين ومن الأصوليين ومن الصلاتيين ومن الزكاتيين ومن الحدوديين، ولئن كان الله سبحانه وتعالى قد كفانا أمثال هؤلاء :" إنا كفيناك المستهزئين"(الحجر 95)، فإنا ماضون بإذن الله على أمر الله تعالى:" فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين"(الحجر 94).(/2)
الصلة بين الحكم والتشريع وبين حقيقة الإيمان والكفر عند أهل السنة
إعدادالشيخ :أبوزيد بن محمد مكي 2/4/1424
02/06/2003
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فقد تباينت أقوال الناس في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله ، رغم كثرة النصوص الواردة فيها , والمجلية لحكمها , وإن أعظم سبب لهذا الاختلاف هو اختلافهم في حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر .
إن من فهم حقيقة الإيمان , وحقيقة الكفر عند أهل السنة والجماعة , عرف مباشرة منزلة الحكم بما أنزل الله في الإيمان , وعرف أحوال ومراتب الحكم بغير ما أنزل الله في الكفر .
ولذلك أحببت أن يكون البحث في مسألة الحكم والتشريع متصلا ً بإيضاح حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر عند أهل السنة والجماعة , فكان هذا البحث في فصلين بمباحثهما كالتالي :
الفصل الأول: الصلة بين الحكم بما أنزل الله وحقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة . وفيه مبحثان:
المبحث الأول : حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة .
المبحث الثاني : صلة الحكم بما أنزل الله بأركان الإيمان المطلق .
الفصل الثاني : الصلة بين الحكم بغير ما أنزل الله وحقيقة الكفر عند أهل السنة والجماعة. وفيه مبحثان :
المبحث الأول :حقيقة الكفر عند أهل السنة والجماعة .
المبحث الثاني : الصلة بين مسألة الحكم بغير ما أنزل الله وحقيقة الكفر عند أهل السنة والجماعة .
سائلا ً الله تعالى التوفيق والإعانة
الفصل الأول:الصلة بين الحكم بما أنزل الله وحقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة
المبحث الأول : حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة
ـ تعريف الإيمان لغة :
هو مصدر لفعل آمن,وفعل آمن له حالتان:
الحالة الأولى:أن يتعدى إلى مفعوله بدون واسطة,كقوله تعالى:(وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)(1)فيكون معنى الإيمان هنا هو إعطاء الأمان.
الحالة الثانية : أن لا يتعدى إلى من يضاف إليه ويلصق به إلا بصلة ، وهذه الصلة, إما أن تكون (الباء) كقوله تعالى ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ )(2)أو تكون (اللام) كقوله تعالى: ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ )(3). وقوله تعالى: ( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ )(4). فيكون معنى الإيمان هنا هو التصديق
ومن المهم جداً أن ننتبه إلى أمرين خطيرين عندما نفسر الإيمان لغة بأنه التصديق وهما :
الأمر الأول : أنه ليس المراد به مجرد التصديق , وإنما المراد به التصديق الذي يكون معه : إقرار وأمن وطمأنينة , فأنت عندما تؤمن بكلام ما , معناه : أنك وصلت في تصديقك بهذا الكلام إلى مرحلة الأمن من أن يكون في هذا الكلام كذب بوجه من الوجوه , فلذلك فأنت مطمئن له , ومقر به.
ولذلك فسر شيخ الإسلام الإيمان لغة بأنه : الإقرار(5).
الأمر الثاني : أن التصديق في اللغة كما يكون بالقلب , يكون باللسان وحده , ويكون بالقلب واللسان معا ً, ويكون بالجوارح أيضا ً , قال صلى الله عليه وسلم : »والفرج يصدق ذلك أو يكذب « .
فعندما يُفسر الإيمان في اللغة بأنه التصديق فلا يظن ظان أن التصديق مقصور على القلب , بل التصديق - كما تقدم - كما يكون بالقلب يكون باللسان والجوارح أيضا ً, فكذلك الإيمان في اللغة كما يكون بالقلب يكون باللسان والجوارح أيضا (6).
2- تعريف الإيمان شرعا ً:
الإيمان شرعا ً له حالتان :
الحالة الأولى : حالة الاقتران :
وهي : الحالة التي يرد فيها ذكر الإيمان في النصوص الشرعية مقترنا ً بذكر الإسلام .
كقوله تعالى : ( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا )(7).
والحالة الثانية : حالة الإطلاق :
وهي : الحالة التي يرد فيها ذكر الإيمان في النصوص مطلقا ً غير مقترن بذكر الإسلام .
كقوله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ )(8).
فإذا تأملنا في الحالة الأولى , وفي آية الحجرات بالذات , فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا , أن بين الإيمان والإسلام فرق في المعنى , فإذا أردنا التعرف على هذا الفرق , فإن حديث جبريل يفيدنا به, فعندما سئل المصطفى صلى الله عليه وسلم عن الإسلام أجاب بأركان الإسلام الخمس,وعندما سئل عن الإيمان أجاب بأركان الإيمان الستة,ثم عندما انصرف جبريل,قال صلى الله عليه وسلم:»فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم«(9).
فدل حديث جبريل أن دين الإسلام مكون من ثلاث مراتب : الإسلام والإيمان والإحسان ، وإذا تأملنا في أركان الإسلام رأينا أنها تعني بالجانب العلانية من الدين والمتعلق بالجوارح , وأن أركان الإيمان تعني بالجانب الباطن من الدين والمتعلق بالقلب .(/1)
فلذلك يمكننا أن نعرف الإيمان شرعا : بأنه الجانب الباطن من الدين , والمتعلق بالقلب , وأركانه ستة وهي أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر , وأن تؤمن بالقدر خيره وشره , ويدخل في الإيمان جميع أعمال القلوب الأخرى : كالإخلاص لله , ومحبته , والخوف منه , والرجاء في رحمته , والرضا به وبدينه وبرسوله , والتوكل عليه , وغير ذلك من أعمال القلوب .
وهذا الإيمان هو الذي اصطلح فيما بعد بتسميته بالعقيدة .
ويطلق على الإسلام – وهو الجانب الظاهر من الدين والمتعلق بالجوارح , وأركانه خمسة - الشريعة . هذا ما يتعلق بالحالة الأولى , وهي حالة الاقتران .
وإذا تأملنا في الحالة الثانية , وهي حالة الإطلاق , ونظرنا في حديث وفد عبد القيس , لوجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شرح لهم الإيمان بذكر أركان الإسلام , فدل ذلك عن الإيمان في حالة الإطلاق هو الإسلام(10).
وإذا تأملنا في قول الله تعالى:(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلام(11)ُ),وفي قوله :( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ )(12),فإننا نجد أن الله تعالى جعل الإسلام هو الدين كله ,باطنه وظاهره , ما يتعلق منه بالقلب , وما يتعلق منه بالجوارح .
وإذا تأملنا في آيتي الأنفال السابق ذكرهما ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ...) لرأينا أنه شرح الإيمان بذكر شيء من أعمال القلوب كالوجل , والتوكل , وبذكر شيء من أعمال الجوارح كالصلاة , والإنفاق , فدل ذلك على أن الإيمان أيضا ً في حالة الإطلاق يراد به الدين كله , باطنه وظاهره .
فنخلص من هذا , بأن الإيمان في حالة الاقتران يراد به الجانب العقائدي من الدين , والمتعلق بالقلب , ويقوم على الستة الأركان المعروفة . وفي حالة الإطلاق يكون هو والإسلام بمعنى واحد, ويراد بهما : الدين كله ما يتعلق منه بالقلب , وما يتعلق منه بالجوارح(13).
3-حقيقة الإيمان المطلق عند أهل السنة والجماعة .
الإيمان المطلق عند أهل السنة والجماعة حقيقة مركبة من القول والعمل , لا تصح هذه الحقيقة إلا بهما معا ً, فلو ذهب القول كله ذهب الإيمان كله , ولو ذهب العمل كله ذهب الإيمان كله .
ولكن لأنه حقيقة مركبة , فإنه لو ذهب بعض القول أو ذهب بعض العمل - مما لا يعتبر ذهابه من نواقض الإيمان - بقي البعض الآخر .
فالإيمان حقيقة مركبة , كما يقول ابن القيم - رحمه الله - : ( وكل هؤلاء لم يعرفوا حقيقة الإيمان ... والإيمان وراء ذلك كله , وهو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً , والتصديق به عقدا ً, والإقرار به نطقا ً, والانقياد له محبة وخضوعا ً, والعمل به باطنا ً وظاهراً, وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان ...)(14).
وقد حكى غير واحد - كما يقول ابن تيمية - الإجماع على أن الإيمان عند أهل السنة والجماعة : قول وعمل , وأصبح من شعائر السنة (15).ويقول سفيان بن عيينة : السنة عشرة , فمن كن فيه فقد استكمل السنة , ومن ترك منها شيئا ً فقد ترك السنة : إثبات القدر, وتقديم أبي بكر وعمر , , والحوض , والشفاعة , والميزان , والصراط , والإيمان قول وعمل ,... )(16).
ويقول الإمام أحمد : ( أصول السنة عندنا : التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والإقتداء بهم ... والإيمان قول وعمل , يزيد وينقص ... )(17).
وقد شرح ابن تيمية وابن القيم ـ رحمهما الله ـ مراد السلف بقولهم : الإيمان : قول وعمل , أنه : قول القلب , وعمل القلب , وقول اللسان وعمل الجوارح .
قال ابن تيمية - رحمه الله - : ( وأجمع السلف أن الإيمان : قول وعمل يزيد وينقص , ومعنى ذلك أنه : قول القلب وعمل القلب , ثم قول اللسان , وعمل الجوارح )(18).
وقال ابن القيم - رحمه الله - : ( الإيمان له ظاهر وباطن , ظاهره : قول اللسان وعمل الجوارح , وباطنه : تصديق القلب وانقياده ومحبته .
فلا ينفع ظاهر لا باطن له , وإن حقن به الدماء , وعصم به المال والذرية ، ولا يجزئ باطن لا ظاهر له ، إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه أو خوف هلاك , فتخلف العمل ظاهراً مع عدم المانع دلي على فساد الباطن وخلوِّه من الإيمان , ونقصه دليل نقصه , وقوته دليل قوته )(19).
مما تقدم يمكننا أن نقول ، كما أن الإيمان الخاص المقترن بالإسلام له ستة أركان ، فالإيمان العام المطلق له أربعة أركان هي :
الركن الأول : قول القلب .
والركن الثاني : عمل القلب .
والركن الثالث : قول اللسان .
والركن الرابع : عمل الجوارح .
فما المراد بكل ركن من هذه الأركان , وما الدليل عليه ؟ هذا ما سنذكره في المبحث التالي – بمشيئة الله تعالى - مع بيان صلة الحكم بما أنزل الله بكل ركن من هذه الأركان .
المبحث الثاني:صلة الحكم بما أنزل الله بالأركان الأربعة للإيمان المطلق .
الركن الأول : قول القلب(/2)
المراد به : ( التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر , ويدخل فيه : الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم )(20).
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ )(21).
ومما هو معلوم من الشرع أن الإيمان بالله يتضمن الإيمان بأربعة أمور : بوجوده وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته. وإذا تأملنا مسألة الحكم بما أنزل الله وجدناها من أبرز مقتضيات التصديق والإقرار بهذه الأمور الأربعة .
فالإيمان بربوبية الله معناه : الاعتقاد الجازم بانفراد الله بالخلق , والملك , والأمر والتدبير , كما قال تعالى :(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ )(22)وأمر الله نوعان : أمر يتعلق بالكون , وأمر يتعلق بالشرع , فكما أن الواجب اعتقاد انفراد الله بالتشريع للناس في أمور دينهم ودنياهم .
والإيمان بألوهية الله معناه : البراءة من عبادة كل ما سوى الله , وإخلاص العبادة لله وحده , ومما لاشك فيه أن التحاكم إلى ما أنزل الله عبادة من أجل العبادات , فوجب أن تكون خالصة لوجه الله .
والإيمان بأسمائه وصفاته , ومنها الحكم معناه : اعتقاد انفراد الله بتلك الأسماء والصفات , وأنه لا ند له فيها ولا نظير , ولذلك فإن الحكم بما أنزل الله , هو من إفراد الله تعالى باسمه الحكم أي الذي إليه الحكم .
وهكذا , من خلال هذا المثال فحسب , وجدنا أن مسألة الحكم بما أنزل مرتبطة ارتباطا ًوثيقا ً بقول القلب ,,, والله الموفق .
الركن الثاني :عمل القلب .
والمراد به : انقياد القلب وإذعانه بتحقيق أعمال القلوب , من الإخلاص لله بجميع أنواع العبادة , ومحبة الله,والخوف منه,والرجاء لرحمته,والرضا بالله ربا ً, وبالإسلام دينا ً,وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً,ونحو ذلك من أعمال القلوب المعروفة(23). قال تعالى :(ومَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ )(24).وقال تعالى : ( فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )(25).وقال تعالى : (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين )(26).
ولو أخذنا مثالا ً واحدا ً من أعمال القلوب , لنرى مقدار الصلة بينه وبين الحكم بما أنزل الله , وليكن(الرضا) .
لقد بين لنا صلى الله عليه وسلم مجالات الرضا , بقوله : » ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا ً, وبالإسلام ديناً, وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ً « (27) . فدل ذلك أن مجالات الرضا ثلاثة :
1- الرضا بالله ربا ً, وهذا من مقتضياته : إفراده بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات , والرضا بقدره , والرضا بشرعه . وقد تقدم بيان الصلة بين أنواع التوحيد والحكم بما أنزل الله , وهنا إضافة : أن من الرضا بالله رباً أن ترضى به مشرعاً, وكما ترضى بقضائه الكوني القدري , ترضى بقضائه الشرعي الديني
2 - الرضا بالإسلام دينا ً , من مقتضياته : اعتقاد بطلان جميع الأديان السابقة بظهوره , وأن لا يجوز عبادة الله بغيره , وأن تعتقد أن شرعه لا مثيل له , فضلا ً عن أن يكون هناك شرع أفضل منه , وأن تعتقد أنه لا يجوز التحاكم إلى غيره , وأن تعتقد أن صلاحية شرعه لكل زمان ومكان .
3 - والرضا بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ً, من مقتضياته : تصديقه في جميع ما أخبر , ومحبته صلى الله عليه وسلم , وطاعته في أوامره , واجتناب نواهيه , واتخاذ ما جاء به من الشرع منهاجا ً للحياة.
ومن الواضح جدا ً ارتباط مسألة الحكم بما أنزل الله بأعمال القلوب من خلال هذا المثال فحسب , مما يدل على أهمية هذه المسألة .
الركن الثالث : قول اللسان .
والمراد به : النطق بالشهادتين.
قال تعالى : ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ )(28).
ومما لاشك فيه أن إعلان شهادة أن لا إله إلا الله , تتضمن إفراد الله تعالى بأنواع التوحيد الثلاثة , وقد تقدم بيان الصلة بينها وبين الحكم بما أنزل الله .
وكذلك شهادة أن محمدا ً رسول الله , تتضمن الإقرار بأن ما جاء به من الشرع يجب التزامه والتحاكم إليه في جميع مجالات الحياة .
الركن الرابع : عمل الجوارح .
والمراد به : الالتزام العملي الظاهر بفعل الواجبات , وترك المحرمات . كالصلاة والصوم والزكاة والحج , وغير ذلك من العبادات .
قال تعالى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ )(29) ) أي : صلاتكم إلى بيت المقدس .
وقال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ )(30).(/3)
ومما لاشك فيه أن من الواجبات التي أمرنا الله بفعلها هي التحاكم إلى شرعه , قال تعالى : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً )(31).
إن ارتباط مسألة الحكم بما أنزل الله بأعمال الجوارح من الأمور المسلم بها لدى الجميع , ولكن رأينا مما سبق أن لها ارتباط وصلة وثيقة بقول القلب وعمله وبقول اللسان , ببيان أنها من مقتضيات التوحيد , ومن لوازم الشهادتين , ومن أبرز مستلزمات الرضا , ومن أعظم جوانب الطاعة والإخلاص فيها . والله تعالى أعلم
الفصل الثاني:الصلة بين حقيقة الكفر عند أهل السنة والجماعة وبين مسألة الحكم بغير ما أنزل الله
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : حقيقة الكفر عند أهل السنة والجماعة
1- الكفر لغة :هو الستر والتغطية , يقال لمن غطى درعه بثوب : قد كفر درعه . فمن غطى الحق فقد كفره, ومن جحد النعمة وغطاها فقد كفرها , ومن غطى الحبَّ بتراب الأرض فقد كفرها (32). وهكذا ..
2- الكفر شرعاً : هو عدم الإيمان(33),أو يمكن أن يقال هو : نقيض الإيمان )(34).
وكما تقدم , فإن الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو : قول وعمل , قول القلب وعمله , وقول اللسان وعمل الجوارح , فكذلك الكفر , لأنه عدم الإيمان , فهو عندهم عدم القول والعمل أو عدم أحدهما .
ولأن الكفر أيضا ً نقيض الإيمان ، فهو ارتكاب ناقض ينقض به الإنسان قول القلب أو عمله , أو قول اللسان أو عمل الجوارح , مما دلت عليه الشريعة على كونه من النواقض .
فالكفر إذن ليس خاصا ً بقول القلب أو عمله , بل كما يكون بهما , يكون باللسان , ويكون بعمل الجوارح أيضا ً, وأي قول أو عمل يفسد أحد الأركان الأربعة من أركان الإيمان المطلق يعتبر مفسدا ً للإيمان بالكلية .
يقول الشيخ ابن باز- رحمه الله - :( فنواقض الإسلام , وهي الموجبة للردة , هذه تسمى نواقض , والناقض يكون قولا ً , ويكون عملا ً, ويكون اعتقادا ً, ويكون شكا ً, فقد يرتد الإنسان بقول يقوله ، أو بعمل يعمله , أو باعتقاد يعتقده,أو بشك يطرؤ عليه , هذه الأمور الأربعة كلها يأتي منها الناقض الذي يقدح في العقيدة ويبطلها )(35).
3 - أنواع الكفر :
الكفر كفران : كفر أكبر مخرج من الملة , وكفر أصغر لا يخرج من الملة .
فالكفر الأكبر: هو ما سبق الحديث عنه , بأنه عدم الإيمان بالله ورسوله , سواء كان معه تكذيب أو شك أو إباء أو إعراض(36).
وأما الكفر الأصغر:فهو ما ورد إطلاق الكفر على فاعله,مع دلالة النصوص على عدم خروجه من الملة (37).
وهناك من يقسِّم الكفر تقسيما ً آخر فيقول : كفر اعتقادي , وكفر عملي .فالإعتقادي هو ما يتعلق بالقلب قولا ً وعملا ً,والعملي هو ما يتعلق باللسان والجوارح(38).
وقد توهم بعض الناس أن أهل السنة والجماعة يجعلون القسم الثاني : الكفر العملي , كله كفرا ً أصغر , فكل عمل بالجوارح أو قول باللسان مما ثبت في الشرع أنه كفر , فهو عندهم كفر أصغر , ما لم يستحله , لأنه من قبيل الكفر العملي . وهذا توهم خاطئ , فإن أهل السنة والجماعة ممن قالوا بهذا التقسيم , أوضحوا مرادهم به , يقول ابن القيم - رحمه الله - ( وأما كفر العمل , فينقسم إلى ما يضاد الإيمان , وإلى ما لا يضاده ,فالسجود للصنم,والاستهانة بالمصحف,وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان)(39). فدلَّ ذلك على أنهم يرون أن الكفر العملي منه ما هو مخرج من الملة,ومنه ما هو غير مخرج منها , لا أنه كله غير مخرج من الملة .
يقول د0 عبد الرحمن المحمود – حفظه الله - : ( ولكن وجد في العصور المتأخرة من أشرب بعض آراء المرجئة, إما في الجملة أو في مسألة معينة , فتلقف ما ورد عن بعض الأئمة من العبارات في التفريق بين الكفر الأكبر والأصغر , وهي عبارة الكفر الاعتقادي والعملي فجعلها قاعدة وعممها , وبنى عليها الشبهة التالية , وهي أنه لا يكفر إلا المستحل , وعمم هذه الشبهه في جميع المكفرات . وصار ديدن هؤلاء في شرح مسائل الإيمان أو الرد على الخوارج أن يأتوا بهذه القاعدة ليقولوا : هذا من الكفر العملي . والكفر العملي لا يخرج من الملة .
فمثلا يقول القائل : الحكم بغير ما أنزل الله من القوانين الوضعية – من غير استحلال – هو من الكفر العملي , والكفر العملي لا يخرج من الملة . وبهذا يكون قد حسم الموضوع حسماً قاطعاً . لأنه بناه كما زعم على أصل من أصول السلف )(40).
وهناك من يقسم الكفر الأكبر إلى هذه الأقسام التالية (41):
1-كفر التكذيب : وهو اعتقاد كفر الرسل , وجحد صدقهم باللسان .
2-كفر الشك : وهو التردد ,وعدم الجزم في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتصديق ولا تكذيب .
3-كفر الإباء : وهو الامتناع عن الانقياد للحق الذي جاءت به الرسل حسداً أو كبراً أو خوفاً , أو محبة لدين الآباء , وغير ذلك من الأهواء الصارفة عن اتباع الرسل .(/4)
4-كفر الإعراض : وهو الصدود والتولي التام عن النظر في دين الرسل .
المبحث الثاني : الصلة بين مسألة الحكم بغير ما أنزل الله وحقيقة الكفر عند أهل السنة والجماعة
إن من أعظم أسباب الخطأ في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله أمران :
الأول : جعله كله في مرتبة واحدة , والحكم عليه بحكم واحد .
والآخر :عدم التفريق بين التكفير المطلق والتكفير المعين .
فمن الناس من اعتبر كل من حكم بغير ما أنزل الله أو تحاكم إليه كافرا ً كفرا ً أكبر دون تفصيل , وينزلون هذا الحكم مباشرة على المعينين دون الحرص على استيفاء الشروط وانتفاء الموانع .
ومن الناس من ضاد هذه الفئة فجعل الحكم بغير ما أنزل الله كله كفرا ً أصغر دون تفصيل , وأنزلوا الجميع منزلة واحدة سواء متخذين للقوانين الوضعية , مستبدلين بها الشريعة السماوية , أو كانوا قضاة يحكمون بالشريعة , ولكنهم خالفوا في تلك القضية أو القضايا المعينة فحكموا فيها بغير شرع الله .
والصواب , والنجاة تكون في استقراء أحوال الحكام والمحكومين بغير ما أنزل الله , وتفهم كل حالة على حدة , وتنزيل الحكم الشرعي عليها , فقد يكون الحكم عليها بالكفر الأكبر أو الأصغر , وقد لا يكون شيئا ً من ذلك , بل يكون الحاكم مجتهدا ً مأجورا ً , إذا اجتهد أن يحكم بما أنزل الله فأخطأ في ذلك .
وليس هذا فحسب , بل عندما ينتهي المؤهل من دراسة الحالة فإنما يكون الحكم على الفعل لا الفاعل , فإذا أراد تنزيل الحكم على الفاعل فلا بد من التشدد في ذلك , وعدم التسرع , والنظر في استيفاء الشروط وانتفاء الموانع , والنظر إلى جانب المصالح والمفاسد , والعناية بجانب الدعوة والبيان والإيضاح , وغير ذلك من الاحتياطات المهمة .
لقد ذكرنا فيما سبق , أن أهل السنة والجماعة يرون أن الكفر هو عدم الإيمان , أو ارتكاب قادح مكفر يقدح في أحد أركان الإيمان المطلق الأربعة .
وإن مسألة الحكم بغير ما أنزل الله منها ما يقدح في قول القلب , وذلك إذا جحد الحاكم وجوب الحكم بما أنزل الله , واستحل الحكم بغيره , ومنها ما يقدح في عمل القلب , وذلك إذا اعتقد أن هناك شرع أفضل من شرع الله أو مثله أو يجوز التحاكم إليه , ومنها مايقدح في قول اللسان , وذلك إذا استهزأ بشرع الله , أو قال بأنه لا يصلح لهذا العصر ، ومنها ما يقدح في عمل الجوارح وذلك إذا استبدل شرع الله بالقوانين الوضعية , ودعا الناس إلى التحاكم إليها .
وكل واحد من هذه الحالات يعتبر كفرا ً أكبر , وأمَّا إذا حكم بغير ما أنزل الله , دون أن يرتكب ما يقدح في أحد أركان الإيمان الأربعة , وإنما فعل ذلك لهوى في نفسه أو لظلم غيره , دون أن يجعل ذلك تشريعا ً ثابتا ً,ودون استحلال لفعله,وإنما فعل ذلك وهو يعلم أنه مذنب عاص ٍ, فهذا من قبيل الكفر الأصغر .
وبناءً على ذلك,يمكننا أن نقول بأن الحكم بغير ما أنزل الله له حالتان(42) :
1-الحالة الأولى : حالة الكفر الأكبر , وهذه على أقسام ثلاثة :
أ-القسم الأول : حالة الجحد والاستحلال .
ب- والقسم الثاني : حالة التشريع المخالف لشرع الله .
ج- والقسم الثالث : حالة الطاعة للمبدلين لشرع الله مع العلم بأنهم خالفوا شريعة الله وحكمه .
2- الحالة الثانية : حالة الكفر الأصغر , وفيما يلي تفصيل هذه الحالات :
أولا ً: حالات الكفر الأكبر :
القسم الأول : الجحد والاستحلال :
هذا القسم يضاد قول القلب الإيماني وهو التصديق والإقرار , ويضاد عمل القلب الإيماني وهو الإخلاص والمحبة والرضا ...
فإن الجحد هو التكذيب والإنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة وهو وجوب الحكم بما أنزل اله بين الناس . وإن الاستحلال : هو اعتقاد حِلِّ الحكم بغير ما أنزل الله , أو الرضا بذلك , أو تفضيله على الشرع
يقول الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله - : أمَّا الأول , وهو كفر الاعتقاد فهو أنواع:
أحدها : أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله , وهو معنى ما روي عن ابن عباس , واختاره ابن جرير , أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي , وهذا ما لا نزاع فيه عند أهل العلم , فإن الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم أنَّ من جحد أصلاً من أصول الدين , أو فرعاً مجمعاً عليه , أو أنكر حرفاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعياً , فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة .
الثاني : أن لا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كون حكم الله ورسوله حقاً , لكن اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه , وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع , إما مطلقاً , أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال , وهذا أيضاً لا ريب أنه كفر ؛ لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان , وصِرْف حثالة الأفكار , على حكم الحكيم الحميد .(/5)
الثالث : أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله , لكن اعتقد أنه مثله . فهذا كالنوعين اللذين قبله , في كونه كافراً الكفر الناقل عن الملة,لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق,والمناقضة والمعاندة لقوله عز وجل:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )(43)ونحوها من الآيات الكريمة الدالة على تفرد الرب بالكمال,وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين في الذات والصفات والأفعال, والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه .
الرابع : أن لا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلاً لحكم الله ورسوله ,فضلاً عن أن يعتقد كونه أحسن منه , لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله , فهذا كالذي قبله يصدق عليه ما يصدق عليه , لاعتقاده جواز ما علم بالنصوص الصريحة القاطعة تحريمُه(44).
بالنسبة للنوع الأول , فكما قال الشيخ محمد بن إبراهيم , بأنه مما لا نزاع فيه , ولكن الأنواع الثلاثة قد تختلط على بعض الناس , فيظن أن المراد بها هو التشريع , والتشريع قسم مستقل سيأتي الحديث عنه , ولكن المراد بهذه الأنواع حتى في آحاد القضايا , والتي لا تجعل قوانين يلزم بها الناس , ولكنه حين مقارنته لحكم الإسلام في قضية معينة بحكم غيره , يعتقد أن حكم غير الله أفضل أو مثله في الفضل , أو يجوز التحاكم إليه .
قال الشيخ محمد بن عثيمين – رحمه الله – ( الثاني – أي : من أقسام الحكم بغير ما أنزل الله , وقد جعل القسم الأول : المشرِّع - : أن يستبدل بحكم الله تعالى حكماً مخالفاً له في قضية معينة دون أن يجعل ذلك قانوناً يجب التحاكم إليه , فله ثلاث حالات :
الأولى : أن يفعل ذلك عالماً بحكم الله تعالى معتقداً أن ما خالفه أولى منه وأنفع للعباد , أو أنه مساوٍ له , أو أن العدول عن حكم الله إليه جائز , فهذا كافر كفراً مخرجاً من الملة لما سبق في القسم الأول )(45).
وقد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب مبيناً نواقض الإسلام :( الرابع : من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه , أو أن حكم غيره أحسن من حكمه , كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر )(46).
وقد علَّق الشيخ ابن باز على كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب السابق بقوله : ( ويدخل في القسم الرابع : من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام , أو أنها مساوية لها , أو أنه يجوز التحاكم إليها – ولو اعتقد أن الحكم بالشريعة أفضل - , أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين , أو أنه كان سبباً في تخلف المسلمين , أو أنه يحصر في علاقة المرء بربه دون أن يتدخل في شؤون الحياة الأخرى .
ويدخل في الرابع أيضاً : من يرى أن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق , أو رجم الزاني
المحصن لا يناسب العصر الحاضر .
ويدخل في ذلك أيضاً كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات أو الحدود أو غيرها , وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة , لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرَّمه الله إجماعاً , وكل من استباح ما حرَّم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة , كالزنا والخمر والربا والحكم بغير شريعة الله فهو كافر بإجماع المسلمين ) .
القسم الثاني : التشريع المخالف لشرع الله .
هذا القسم يضاد بالأصالة عمل الجوارح , ويلزم منه لوازم تنقض قول القلب وعمله وقول اللسان , كما سيأتي إيضاحه .
وهذا القسم رغم وضوح الحكم فيه , إلا أنه وقعت فيه المنازعة في الآونة الأخيرة بين صفوف أهل السنة والجماعة , ولعل السبب في ذلك يعود لعدم وضوح الأمور التالية :
أولاً : هل كل الأعمال الكفرية المتعلقة بالجوارح من قبيل الكفر الأصغر إلا إذا استحلها ؟
ثانياً : هل التشريع فيه كفر أكبر وأصغر ؟
ثالثاً : هل التشريع ناقض فقط لأعمال الجوارح , أم أنه ناقض أيضاً لقول القلب وعمله وقول اللسان ؟
رابعاً : هل يلزم القول بكفر المشرعين تكفيرهم بأعيانهم دون إقامة الحجة , واستيفاء الشروط وانتفاء الموانع ؟
وسنأخذ جملاً يسيرة في هذه المسائل الأربع , ومن خلالها يزداد وضوح الحكم في هذا القسم بإذن الله تعالى .
المسألة الأولى : دخول الكفر الأكبر على أعمال الجوارح وإن لم يستحل أو يجحد :
لقد تقدم بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في أعمال الجوارح الإيمانية , أو في العمل بأركان الإسلام من الصلاة والصيام والزكاة والحج , وأن هذه الأعمال ركن من أركان الإيمان , لا تصح حقيقة الإيمان إلا بالعمل مضافاً إلى القول .(/6)
ولكن هناك من اشتبهت عليه هذه المسألة , عندما بحث في حكم ترك الحج تهاوناً وكسلاً , فترجح له عدم التكفير , ثم انتقل إلى الزكاة ثم الصيام , فخرج بأن الراجح عدم تكفير من تركهما تهاوناً وكسلاً , فبحث مسألة الصلاة وترجح عنده أيضاً عدم كفر تاركها تهاوناً وكسلاً , فبنى على ذلك أن ترك غير هذه المباني الأربعة تهاوناً وكسلاً ليس بكفر من باب أولى , فإذا كان ترك المباني وغيرها من شعائر الإسلام تهاوناً وكسلاً ليس بكفر , فترك العمل بالكلية بشعائر الإسلام ليس بكفر , والنتيجة أن العمل ليس من الإيمان , ولكنه يعلم علم اليقين أن هذه النتيجة خاطئة , وهي قول المرجئة , ويعلم إجماع السلف على أن الإيمان قول وعمل , فأراد وفاقهم , وفي الوقت ذاته مخالفة المرجئة , فقال بأن العمل المراد به في كلام السلف هو عمل القلب , فعمل القلب شرط صحة في الإيمان , وأما أعمال الجوارح فهي شرط لكماله لا لصحته , ثم ذهب يبحث في الأحاديث التي يمكن أن يفهم منها بقاء الإيمان في الشخص مع ذهاب عمل الجوارح بالكلية و فاضطربت أقواله , وردد شبه المرجئة , ورد أقوال السلف وأوَّلها .
والصواب , ما تقدم إيضاحه , من أن العمل سواء عمل القلب أو عمل الجوارح شرط صحة للإيمان , وكذلك الراجح في أن ترك الصلاة بالكلية تهاوناً وكسلاً كفر أكبر , وكذلك من رأى من السلف بأن تركها تهاوناً وكسلاً ليس بكفر , فإنه يرى كفر من لم يلتزم بعمل الجوارح , ويصف بالزندقة وبالكفر المبين كل من لا يعمل الواجبات , ويذكر بأنه ليس جاحداً لوجوبها , ويقع في المنكرات , ويذكر أنه مقر بتحريمها .
فهناك فرق بين جنس العمل وبين آحاد العمل , فالتارك للجنس بالكلية كفر أكبر, ولا يصح الإيمان معه , والتارك للآحاد فيه خلاف بالنسبة للمباني الأربعة , والراجح في الصلاة تكفير من تركها بالكلية .
والمراد هنا : أن ترك جنس العمل بالكلية – بلا مانع أو عذر – كفر أكبر , وإن لم يجحد ذلك , فالتكفير ليس محصوراً في الجحد والتكذيب أو الاستحلال , بل كما يكون بذلك ؛ يكون بارتكاب نواقض قولية كسب الله وسب الرسول والاستهزاء بالدين , استقلالاً , أي : وإن لم يعتقد أن هذا السب والاستهزاء حلال . وكذلك يكون الكفر بارتكاب أعمال تتعلق بالجوارح كدوس المصحف متعمداً , والسجود للأصنام , وعمل السحر , وإن كان يعتقد حرمة هذه الأمور .
فالكفر كما يكون بارتكاب النواقض القلبية , يكون بارتكاب النواقض القولية والعملية .
وبهذا يعلم خطأ من حصر التكفير بالنسبة لأعمال الجوارح بالاستحلال , بل نقول هناك ذنوب ومعاصي ترتكب بالجوارح فيكون منها ما هو صغائر , ويكون منها ما هو كفر أصغر , ويكون منها ما هو كفر أكبر .
ونعود لمسألتنا الآن , وهي هل كون التشريع من أعمال الجوارح , فلا يدخله الكفر الأكبر إلا إذا استحله ؟
فالجواب : أن التشريع كفر أكبر , وإن لم يستحل ذلك , أو يجحد شرع الله , والله تبارك وتعالى قد سمَّى أولئك المشرعين طواغيت , وأنهم قد رفعوا أنفسهم إلى مقام الربوبية .
قال ابن حزم – رحمه الله - : ( وقال عز وجل : ( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ) قال أبو محمد : وبحكم اللغة التي نزل بها القرآن أن الزيادة في الشيء لا تكون إلا منه لا من غيره , فصح أن النسيء كفر وهو عمل من الأعمال , وهو تحليل ما حرم الله تعالى , فمن أحلَّ ما حرم الله تعالى – وهو عالم بأن الله تعالى حرَّمه – فهو كافر بذلك الفعل نفسه )(47).
وقال ابن كثير- رحمه الله - : ( فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر , فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين )(48).
قال الشيخ محمد بن إبراهيم –رحمه الله - : ( إن من الكفر الأكبر المستبين , تنزيل القانون اللعين , منزلة ما نزل به الروح الأمين , على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين ... )(49).
وقال - مبيناً أنواع الحكم بغير ما أنزل الله - : ( الخامس : وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع , ومكابرة لأحكامه , ومشاقة لله ولرسوله , ومضاهاة بالمحاكم الشرعية , إعداداً وإمداداً وإرصاداً وتأصيلاً , وتفريعاً , وتشكيلاً , وتنويعاً , وحكماً , وإلزاماً , ومراجع ومستندات .
فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات , مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, فلهذه المحاكم مراجع هي : القانون الملفق من شرائع شتى , وقوانين كثيرة , كالقانون الفرنسي , والقانون الأمريكي , والقانون البريطاني , وغيرها من القوانين , ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك .(/7)
فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة , مفتوحة الأبواب , والناس فيها أسراب إثر أسراب, يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون , وتلزمهم به , وتقرهم عليه , وتحتمه عليهم , فأي كفر فوق هذا الكفر , وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة .
وذكر أدلة جميع ما قدمنا على وجه البسط معلومة معروفة , لا يحتمل ذكرها هذا الموضع ...
السادس : ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم من حكايات آبائهم وأجدادهم , وعاداتهم التي يسمونها ( سلومهم ) يتوارثون ذلك منهم , ويحكمون به , ويحضون على التحاكم إليه عند النزاع بقاءً على أحكام الجاهلية , وإعراضاً ورغبة عن حكم الله ورسوله , فلا حول ولا قوة إلاًّ بالله )(50).
المسألة الثانية : التشريع كله كفر أكبر , ولا تدخله القسمة .
قال الشيخ ابن عثيمين – مجيباً على سؤال عن الفرق بين التشريع , وبين حكم قاضٍ شرعي حكم في مسألة معينة بغير ما أنزل الله - : ( نعم هناك فرق , فإن المسائل التي تعتبر تشريعاً عاماً , لا يتأثر فيها التقسيم السابق , وإنما هي من القسم الأول فقط , لأن هذا المشرع تشريعاً يخالف الإسلام إنما شرًّعه لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام وأنفع للعباد , كما سبقت الإشارة إليه )(51).
المسألة الثالثة : التشريع ليس ناقضاً لعمل الجوارح فحسب , بل هو ناقض لقول القلب وعمله ولقول اللسان أيضاً.
إنًّ المتأمل في التشريعات الوضعية يجدها قائمة على إنكار وجود الله , أو على إنكار اختصاصه سبحانه وتعالى بذلك , ويجدها قائمة على إبعاد حكم الله عن المعاملات وعن العلاقات , وعن السياسات , وإذا طبقت فإنما تقصر على جانب معين مما يطلق عليه بالأحوال الشخصية .
يقول الشيخ عابد السفياني : - حفظه الله – عن قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً )(52):( فالقرآن يصوِّر لنا أصول الحكم الجاهلي وهي :
1 – واضع القانون : وهو إما أن يكون شخصاً أو جهة تتكون من أشخاص , ويطلق القرآن على هذا الواضع لفظ ( الطاغوت ) وهو كل معبود من دون الله سواء كان فرداً أو جماعة , وسبب هذه التسمية أن التعدي على حق الله سبحانه الذي جعله لنفسه – وهو إنزال الكتب وسن الشرائع – يعتبر مجاوزة للحد , وهذا هو الطغيان , ذلك أن الواضع لا حق له في ذلك , بل الحق الذي عليه هو أن يخضع لما جاء من عند الله .
2-السلطة الحاكمة بذلك القانون : وتسمى بالاسم نفسه للسبب نفسه , وتكون تارة شخصاً واحداً كالكاهن , أو مجموعة معينة كزعماء القبيلة , أو الحزب .
3 – الأمة , أو الفرد الذي يخضع لهذه السلطة , ويبتغي التحاكم إليها عن رضى وطواعية , كما ورد في شأن الرجل الذي نزلت الآية فيه , فهذه الأصول الثلاثة – وهي الجهة التي تضع القوانين , والجهة التي تحكم به , والجهة التي تذعن له – هي عبارة عن أصول الحكم الجاهلي , فها هنا قانون وسلطة وأفراد , وهذه الصورة هي الصورة التي جاء الإسلام ليرفعها ويحل محلها الصورة الإسلامية .
فبدل أن يعتقد الناس أن واضع القانون هو عقل الفرد أو الأمة أو القبيلة أو الحزب يجب أن يعتقدوا أن ذلك حق الله سبحانه قد تكفل به , فأنزل الشريعة ليخضع الناس لها جميعاً , وبدل أن يعتقدوا أن السلطة التي تقوم على القوانين الأرضية سلطة شرعية يجب عليها الخضوع لها أعلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك من الشرك , ونهاهم عنه , وأمرهم بإنكاره قدر استطاعتهم , وأبدلهم بذلك وجوب الخضوع لله ورسوله صلى الله عليه وسلم , المتمثل في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته , واتباع الشريعة بعد مماته , والطاعة لأولي الأمر القائمين بها )(53).
ويقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله - : ( فنقول : من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً به أو احتقاراً له , أو اعتقاداً أن غيره أصلح منه , وأنفع للخلق فهو كافر كفراً مخرجاً من الملة . ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجاً يسير الناس عليه , فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلاَّ وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق , إذ من المعلوم بالضرورة العقلية , والجبلة الفطرية أن الإنسان لايعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلاَّ وهو يعتقد فضل ما عدل إليه , ونقص ما عدل عنه )(54).
المسألة الرابعة : لا يلزم من تكفير المشرع تكفيرهم بأعيانهم إلاَّ بعد إقامة الحجة , واستيفاء الشروط وانتفاء الموانع .
لقد حصل النزاع بين كثير من أهل السنة والجماعة في هذه المسألة في هذه الآونة الأخيرة .(/8)
فمنهم من يرى كفر كل الحكام بسبب أن أنظمتهم تحتوي على قوانين وضعية مخالفة للشريعة , ويرمي من لا يكفرهم بالإرجاء أو بالنفاق أو غير ذلك .
ومنهم من يرى عدم تكفيرهم , ويجعل السبب في ذلك هو أن التشريع منقسم إلى أكبر وأصغر , ويرى أن فعلهم كفر أصغر حتى يثبت استحلالهم له , ويرمي الأولين بوصف الخوارج أو المعتزلة أو المكفرانية .
والصواب , ما تقدم من أن التشريع غير منقسم , بل هو كفر أكبر , ومع هذا فإنه لا يتسرع بتكفير المعين , بل يُدعى للحق , ويوضح له , ويوكل هذا الأمر لأهل العلم الراسخين , حتى ينظروا في حاله , هل انتفت عنه موانع التكفير من الجهل أو الإكراه , ونحو ذلك , وهل هو مشرِّع فعلاً أو آمر بالتشريع , أو أنه جاء فوجد ذلك التشريع أمامه , فحكم به , أو غير ذلك , ثم تقدر المصالح والمفاسد من ناحية إعلان كفره من عدمه , وغير ذلك من الضوابط مما هو معروف عند أهل العلم .
يقول الشيخ محمد بن عثيمين – رحمه الله - : ( وهذه المسألة أعني مسألة الحكم بغير ما أنزل الله من المسائل الكبرى التي ابتلي بها حكام هذا الزمان , فعلى المرء أن لا يتسرع في الحكم عليهم بما لا يستحقونه حتى يتبين له الحق , لأن المسألة خطيرة , نسأل الله تعالى أن يصلح للمسلمين ولاة أمورهم وبطانتهم , كما أن على المرء الذي آتاه الله العلم أن يبينه لهؤلاء الحكام لتقوم الحجة عليهم , وتبين الحجة , فيهلك من هلك عن بينة , ويحي من حي عن بينة , ولا يحقرن نفسه عن بيانه , ولا يهابنَّ أحداً فيه , فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين . والله ولي التوفيق )(55).
ويقول : ( من وضع قوانين تشريعية مع علمه بحكم الله وبمخالفة هذه القوانين لحكم الله , فهذا قد بدًّل الشريعة بهذه القوانين فهو كافر , لأنه لم يرغب بهذا القانون عن شريعة الله إلاَّ وهو يعتقد أنه خير للعباد والبلاد من شريعة الله
وعندما نقول بأنه كافر , فمعنى ذلك : أن هذا الفعل يوصل إلى الكفر , ولكن قد يكون الواضع له معذوراً , مثل أن يغرر به , كأن يقال : هذا لا يخالف الإسلام , أو هذا من المصالح المرسلة , أو هذا مما رده الإسلام إلى الناس )(56).
القسم الثالث : طاعة المبدلين لشرع الله مع علمهم أنهم خالفوا شريعة الله وحكمه .
طاعة المشرعين بما يخالف كم الله فيها تفصيل , فتارة تكون كفراً أكبر , وتارة تكون معصية , وضابط الشرك الأكبر فيها هو : أن تطيع غير الله في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحلَّ الله معتقداً حِلَّ ذلك . أمَّا لو كانت الطاعة مع الظن بأنهم يحكمون بالشريعة , أو الاعتقاد أنهم لا يجوز لهم تبديل الشريعة , ولكنه يتابعهم هوى وشهوة أو غفلة , فهذا كفر أصغر .
وقد تكون الطاعة في حال إكراه أو اضطرار , وينكر ذلك , أو لا يستطيع الإنكار لعدم قدرته على ذلك , فهذا لاشيء عليه . وأما إذا لم ينكر مع قدرته على ذلك فهو آثم .
يقول ابن تيمية – رحمه الله - : ( وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله , وتحريم ما أحل الله , يكونون على وجهين :
أحدهما : أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعوهم على التبديل , فيعتقدوا تحليل ما حرَّم الله , وتحريم ما أحلَّ الله اتباعاً لرؤسائهم – مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل – فهذا كفر , وقد جعله الله ورسوله شركاً ...
والثاني : أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال , وتحليل الحرام ثابتاً , لكنهم أطاعوهم في معصية الله , كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي , فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب ... )(57).
ثانياً : الحالة الثانية : حالة الكفر الأصغر .
يقول الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله - : ( وأمَّا القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله , وهو الذي لا يخرج من الملة , فقد تقدَّم أنَّ تفسير ابن عباس –رضي الله عنهما – لقول الله عز وجل : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) قد شمل ذلك القسم , وذلك في قوله – رضي الله عنه – في الآية : ( كفر دون كفر ) . وقوله أيضاً : ( ليس الكفر الذي تذهبون إليه ) . وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله , مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق , واعترافه على نفسه بالخطأ , ومجانبة الهدى .
وهذا , وإن لم يخرجه كفره عن الملة , فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر كالزنا وشرب الخمر , والسرقة واليمين الغموس وغيرها , فإن معصية سمَّاها الله في كتابه كفراً أعظم من معصية لم يسمها كفراً )(58).
ويقول د.المحمود - حفظه الله - : ( ومن خلال أقوال العلماء , والنظر في النصوص , يتبين أنه لابد لكي يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أصغر من القيود التالية :(/9)
1 – أن تكون السيادة للشريعة الإسلامية , وأصل التحاكم مبنياً على الكتاب والسنة , والحاكم أو القاضي معترفاً بذلك , قابلاً له , غير جاحد ولا منكر ولا مستحل , سواء في هذه القضية التي قضى بها مخالفاً لحكم الله , أو في غيرها – ولو لم يقض بما يخالف الشرع .
2 – أن تكون في حوادث الأعيان لا في الأمور العامة التي تفرض على جميع الناس بحيث تصبح قانوناً عاماً .
3 – أن يقر بأن حكم الله هو الحكم الحق , وأنه لا يجوز التحاكم إلى غيره , ومن ثم فهو بتركه الحكم في هذه الحادثة المعينة مقر بأنه آثم مرتكب المعصية . ولو اعتقد أن حكمه جائز , وأنه غير عاص فيه لم يكن كفره كفراً أصغر)(59).
الخاتمة
تبين من خلال البحث الأمور التالية :
1 – أن الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل , قول القلب وهو التصديق والإقرار, وعمل القلب وهو الإخلاص والمحبة والرضا , وقول اللسان وهو النطق بالشهادتين , وعمل الجوارح وهو الصلاة والصيام والزكاة والحج ونحو ذلك .
2 – وتبين أن الحكم بما أنزل الله متصل بأركان الإيمان المطلق الأربعة , فهو من مقتضيات قول القلب , وقول اللسان , وعمل القلب وعمل الجوارح , فله منزلة عظيمة في الدين .
3 – وتبين أن الكفر عند أهل السنة والجماعة قول وعمل أيضاً , وأن النواقض كما قد تكون متعلقة بقول القلب وعمله , تكون كذلك بقول اللسان وحده , وبعمل الجوارح وحده .
4 – وتبين أن هناك فرق بين المشرع – واضع القوانين الوضعية – وبين الحاكم بالشريعة , ولكنه يحكم في بعض المسائل بغير ما أنزل الله .
5 – وتبين أن المشرع عمله غير منقسم إلى أكبر وأصغر , بل كله كفر أكبر .
6 – وتبين أن الحاكم بالشريعة والذي يحكم في بعض المسائل بغير ما أنزل الله , عمله منقسم , فتارة يكون أكبر , إذا استحل , أو اعتقد الجواز , أو اعتقد أنه مثله أو أفضل منه .وتارة يكون أصغر , إذا كان إنما فعل ذلك لشهوة أو ظلم , مع اعتقاده أنه آثم عاصٍ .
7 – وتبين أن المحكومين إذا أطاعوا المبدلين مع علمهم بالتبديل , فأطاعوهم معتقدين أنهم يحل لهم ذلك , فهذا كفر أكبر , وأما إذا أطاعوهم , معتقدين أنهم لا يجوز لهم تبديل الشريعة , ولكن وافقوهم هوى وشهوة وغفلة , فهذا كفر أصغر .
8 – وتبين أننا حينما نحكم بالكفر على الفعل , فإنه لا يقتضي كفر الفاعل , بل لابد في التطبيق على الفاعل من إقامة الحجة , واستيفاء الشروط وانتفاء الموانع . والله تعالى أعلم .
(1) سورة قريش : 4
(2) سورة البقرة : 136
(3) سورة العنكبوت : 26
(4) سورة يوسف : 17
(5) انظر: كتاب الإيمان : 116
(6) أخرجه البخاري , كتاب الاستئذان , باب زنا الجوارح دون الفرج ( الفتح 11/26 رقم 6343 ) , ومسلم ,كتاب القدر , باب قدّر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره (4/2046 برقم 2657)
(7) انظر : تعرف الإيمان لغة : معجم مقاييس اللغة لابن فارس ( 1/133 ) والنهاية في غريب الحديث لأبن الأثير ( 1/69-72 ) , ومختار الصحاح لأبن أبي بكر الرازي (26) , ولسان العرب لأبن منظور ( 1/223 - 227 ),والقاموس المحيط للفيروز آبادي (4/281 ) وكذلك المختار من كنوز السنة النبوية ل رَّ ا ز ( 69 ) .
(8) سورة الأنفال : 2-4 .
(9) حديث جبريل أخرجه مسلم ,كتاب الإيمان ,باب الإيمان والإسلام والإحسان ..(1/36 برقم 1 )
(10) حديث وفد عبد القيس , أخرجه البخاري , كتاب الإيمان , باب أداء الخمس من الإيمان ( الفتح 1/29 ) ومسلم , كتاب الإيمان ,باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ( 1/46 ) .
(11) سورة آل عمران : 19 .
(12) سورة آل عمران : 85 .
(13) انظر : تعريف الإسلام والإيمان في حالة الإطلاق والاقتران : جامع العلوم والحكم لأبن رجب : شرح الحديث الثاني .
(14) الفوائد ( 159 ) .
(15) انظر :مجموع الفتاوى ( 7/308 ) .
(16) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي ( 1/155-156 ) .
(17) المصدر السابق نفسه ( 1/156-164 ) وقوله والإيمان قول وعمل ( 159 ) .
(18) مجموع الفتاوى ( 7/672 ) .
(19) الفوائد ( 128-129 )
(20) مجموع الفتاوى ( 7/672 ) .
(21) سورة المائدة : 41 .
(22) سورة الأعراف :54 .
(23) انظر : معارج القبول
(24) سورة البينة : 5 .
(25) سورة آل عمران :175 .
(26) سورة المائدة : 23 .
(27) أخرجه مسلم .
(28) سورة البقرة:136
(29) سورة البقرة : 143 .
(30) سورة الأنفال : 2 .
(31) سورة النساء : 59 .
(32) انظر: معجم مقاييس اللغة ( 5/191 ) .
(33) مجموع الفتاوى ( 20/86 ) .
(34) نواقض الإيمان د.عبد العزيز آل عبد الطيف ( 38 ) .
(35) القوادح في العقيدة , ابن باز ( 27 ) .
(36) انظر : مجموع الفتاوى ( 12/335 ) .
(37) انظر : أعلام السنة المنشورة ( 127 ) .
(38) انظر : كتاب الصلاة لأبن القيم ( 55 ) .
(39) كتاب الصلاة (55) .
(40) الحكم بغير م أنزل الله (279) .
(41) انظر الوعد الأخروي , لعيسى السعدي ( 2/773-781 ) .(/10)
(42) انظر الحكم بغير ما أنزل الله للمحمود ( 159-214 ) .
(43) سورة الشورى : 11 .
(44) تحكيم القوانين ( 6-7 ) .
(45) فتاوى العقيدة ( 214 ) .
(46) مجموع فتاوى بن باز ( 1/132 ) .
(47) الفصل ( 3/245 ) .
(48) البداية والنهاية ( 13/119 ) .
(49) تحكيم القوانين ( 2 ) .
(50) تحكيم القوانين ( 7-8 )
(51) فتاوى العقيدة ( 213 ) .
(52) سورة النساء : 60 .
(53) الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية ( 303-304 )
(54) فتاوى العقيدة ( 211 )
(55) فتاوى العقيدة ( 215 ) .
(56) القول المفيد على كتاب التوحيد ( 1/268-269 )
(57) الإيمان ( 67 ) .
(58) تحكيم القوانين ( 8 ) .
(59) الحكم بغير ما أنزل الله ( 213-214 ) .(/11)
الصلة والتواصي بين الأرحام
18/4/1424هـ
المشرف العام على موقع المسلم-أ.د ناصر بن سليمان العمر
*فإن من الأعمال الصالحة العظيمة التي أمر الله بها؛ التواصي بالحق، ولا سيما بين الأقربين، فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله.
وقد كان من أول التنزيل قول الحق سبحانه: (وأنذر عشيرتك الأقربين)، ويتأكد هذا في زمن وجهت فيه السهّام إلى الأسر المسلمة، وأصبحت معاول الهدم فيها تعمل، فتفككت بعض الأسر وتباعدت القرابة كما تباعد المسلمون حتى أضحى لسان حال بعضهم:
ما هذه القربى التي لا تصطفي
ما هذه الرحم التي لا ترحمُ
حسد القرابة للقرابة قرحة
أعيت عوائدها وجرح أقدم
وقال آخر:
أيا قومنا لا تنبشوا الحرب بيننا
أيا قومنا لا تقطعوا اليَّد باليدِ
وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً
على المرء من وقع الحسام المهند
فيا ليت داني الرحم منّا ومنكم
إذا لم يقرِّب بيننا لم يبعّدِ
ويتضاعف ذلك مع غفلة الطيبين وتشاغل كل فرد بخاصة نفسه وانشغاله بشأنه، هذا والرحم قد أخذت بحقو الرحمن وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب. قال: فذاك، قال أبو هريرة راوي هذا الحديث: إقرأوا إن شئتم (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم).
قال الله عز وجل: (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم).
فوصل الأقربين سبيل حق وقطع الرحم مُطّلعٌ كؤود
أذكر بهذا لأنا أصبحنا نعيش زماناً لا أقول يجهل فيه المسلم حال أخيه المسلم بل يجهل فيه المسلم حال أقاربه وأرحامه.
بني عمنا لا تنسوا الرحم أسرعوا
إليها فقد قام الردى بحيالها
ألاقائم من قومنا يدفع الأذى
عن الدار أو يعنى بإصلاح حالها
ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه.
ولنعلم أنه ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا من قطيعة الرحم.
جعلنا الله وإياكم من الواصلين لأرحامهم المتناصحين فيما بينهم المتزاورين فيه.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛؛؛
--------------------------------------------------------------------------------
*مقال نشر ببعض الدوريات بتاريخ 3/11/1423(/1)
الصلح مع اليهود
الكاتب: الشيخ د.سلمان بن فهد العودة
السؤال
هل يجوز الصلح مع اليهود أو النصارى على أرض بلد مثل (فلسطين مثلاً)، وقد كانت تحت حكم المسلمين سابقاً، ويكون هذا الصلح بلا تحديد لمدة معينة ؟
الجواب
الذي أختاره في هذه المسألة، أعني مسألة الهدنة مع الكفار يهوداً كانوا، أو نصارى، أو وثنيين أنها لا تجوز إلا مؤقتة محددة، وأقصى ما عاهد عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم- كان في الحديبية، ومدتها عشر سنين، وليس هذا بمتعين ألاّ يجوز أكثر منه؛ لأنه أمر مرتبط بالمصلحة وظروف الواقع والحال.
وإنما لم تجز الهدنة المطلقة لأسباب، منها: أنها تفضي إلى إبطال الجهاد المقرر في القرآن والسنة، والثابت ثبوتاً قطعياً لدى جميع المسلمين، والباقي بقاءً قدرياً ولو كره الكافرون.
ومنها أنها تفرض على الأمة الالتزام بتبعات فترات الضعف والعجز حتى حين تقوى وتقدر على دفع عدوها، واسترداد أرضها، ولذلك نرى أن الهدنة المطلقة غير ملزمة للأمة إذا قويت على أخذ حقها.
والقول بذلك، أعني بتحريم الهدنة المطلقة هو قول جمع من أهل العلم، ولذلك قال الشافعي: "أحب للإمام إذا نزلت بالمسلمين نازلة.. مهادنة يكون النظر لهم فيها ولا يهادن إلا إلى مدة، ولا يجاوز بالمدة مدة أهل الحديبية، فإن كانت بالمسلمين قوة قاتلوا المشركين بعد انقضاء المدة، فإن لم يقوَ الإمام فلا بأس أن يجدد مدة مثلها، أو دونها ولا يجاوزها، وإن هادنهم إلى أكثر منها فمنتقضة؛ لأن أصل الغرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية.
قال: "وليس للإمام أن يهادن القوم من المشركين على النظر مدة هدنة مطلقة، فإن الهدنة المطلقة على الأبد، وهي لا تجوز لما وصفت ...الخ " باختصار.
وذكر ابن قدامة في (المغني) معنى الهدنة، وأنها عقد على ترك القتال مدة، ثم قال: لا تجوز المهادنة مطلقاً من غير تقدير مدة؛ لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية، ولا يجوز أن يشترط نقضها لمن شاء منهما؛ لأنه يفضي إلى ضد المقصود منها.
ثم ذكر -رحمه الله- الخلاف في المدة، هل تجوز على أكثر من عشر سنين؟ كما هو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد؟ أم لا تجوز كما هو منصوص الشافعي كما سبق ورواية أخرى عن أحمد.
والأصح الجواز -والله أعلم- إذا اقتضته المصلحة، أو دعت إليه الضرورة.
وذكر ابن القيم في أحكام أهل الذمة خلافاً في الهدنة المطلقة، وقال: هل يجوز لولي الأمر أن يعقد الهدنة مع الكفار عقداً مطلقاً لا يقدره عدة، بل يقول: نكون على العهد والميثاق ما شئنا، ومن أراد فسخ العقد فله ذلك إذا أعلم الآخر ولم يغدر به، أو يقول: نعاهدكم ما شئنا ونقركم ما شئنا.
وذكر في المسألة قولين: أحدهما: المنع، وهو قول للشافعي ورواية عن أحمد.
والثاني: الجواز، وهو نص الشافعي في (المختصر)، ثم ذكر قولاً ثالثاً لأبي حنيفة، وهو أنها تكون جائزة غير لازمة.
والذي يظهر من كلام ابن القيم أن مرادهم عدم تجديد مدة في العقد، وهذا يختلف عن أن يتفق الطرفان على أبدية العقد، والحديث موصول.(/1)
الصلوات غير المفروضة
عبدالله القرني
دار الوطن
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه … أما بعد:
أخي الحبيب: إن الله تعالى فرض علينا أداء خمس صلوات في اليوم والليلة وهي بلا شك عمود الدين وركن من أركانه، كما شرع لنا صلوات دونها سميت بصلاة التطوع، فكل صلاة مشروعة في الإسلام زيادة على الفروض الخمسة الواجبة في اليوم والليلة يشملها اسم (صلاة التطوع).
عن طلحة بن عبيد الله قال: { جاء رجل إلى رسول الله من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول: حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام ! فقال رسول الله : خمس صلوات في اليوم والليلة فقال: هل علي غيرها ! قال: لا إلا أن تطوع } [أخرجه البخاري].
فضل صلاة التطوع
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة قال: يقول ربنا عز وجل لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً قال: انظروا هل لعبدي من تطوع، فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم } [أخرجه الأربعة وصححه الألباني].
السنن الرواتب
أعلم رحمك الله أن المقصود بالسنن الرواتب هي تلك الصلوات التي كان رسول الله يصليها أو يرغب في صلاتها مع الصلوات الخمس المفروضة قبلها أو بعدها.
وهي التي أشار إليها في قوله { ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشر ركعة تطوعاً إلا بنى الله له بيتاً في الجنة } [رواه مسلم].
وإليك - أيها القارئ الكريم - بيانها:
1- راتبة صلاة الفجر: وهي ركعتان قبل الفريضة.
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي قال: { ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها } [رواه مسلم].
2- راتبة صلاة الظهر وهي أربع ركعات قبل الفريضة وأربع أو اثنتان بعدها:
عن أم حبيبة قالت سمعت رسول الله يقول: { من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار } [أخرجه الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني].
وله أن يصلي ركعتين بعدها لحديث عائشة قالت: { كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعاً ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيصلي ركعتين} [أخرجه مسلم].
3- راتبة صلاة المغرب وهي ركعتان بعد الفريضة:
لحديث عائشة قالت: { ……. وكان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل فيصلي ركعتين } [رواه مسلم].
4-راتبة صلاة العشاء وهي ركعتان بعد الفريضة:
لحديث ابن عمر قال: { حفظت من رسول الله عشر ركعات. قال وركعتين بعد العشاء في بيته } [أخرجه البخاري ومسلم].
فضل صلاة الليل والوتر:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل } [أخرجه مسلم].
وعن عبد الله بن عمر عن النبي قال: { اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً } [متفق عليه].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: { كان رسول الله يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشر ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة….. } [أخرجه مسلم].
ومن صلاة الليل صلاة التراويح في ليالي شهر رمضان ويشرع الاجتماع لأدائها وفيها فضل عظيم.
صلاة الضحى:
عن أبي ذر عن النبي أنه قال: { يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكيبرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزىء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى } [أخرجه مسلم].
ويشرع للمسلم أن يصليها ركعتين أو أربعاً أو ستاً أو ثمانياً أو اثنتي عشرة ركعة. كل ذلك ثبت في الأحاديث.
صلاة ركعتين بعد الوضوء:
عن عمران مولى عثمان أنه { رأى عثمان بن عفان دعا بإناء فافرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما، ثم جعل يمينه في الإناء، فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله : من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه } [أخرجه الشيخان].
صلاة تحية المسجد:
يشرع للمسلم إذا دخل المسجد وأراد الجلوس فيه أن يصلي ركعتين.
فعن أبي قتادة السلمي أن رسول الله قال: { إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس } [أخرجه الشيخان]. وفي رواية البخاري { إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين }.
الصلاة بين الآذان والإقامة:
عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله : { بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة ثم قال في الثالثة لمن شاء } [أخرجه البخاري].
والمقصود بالأذانين هنا الأذان والإقامة.
صلاة التوبة:(/1)
عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله يقول: { ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، ثم قرأ هذه الآية: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون [آل عمران] } [أخرجه الترمذي وأبو داود وحسنه الألباني].
الصلاة قبل الجمعة:
عن أبي هريرة عن النبي قال: { من اغتسل ثم أتى الجمعة وصلى ما قدر له ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته، ثم يصلي معه غفر له ما بين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام } [أخرجه مسلم].
السنة البعدية للجمعة:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً } [أخرجه مسلم].
صلاة القادم من السفر:
عن كعب بن مالك قال: {.. كان - يعني رسول الله - إذا قدم من السفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس } [أخرجه الشيخان].
صلاة الاستخارة:
عن جابر بن عبد الله قال: { كان رسول الله يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني استخيرك بعلمك …) } [أخرجه البخاري].
صلاة الكسوف والخسوف:
وهي سنة مؤكدة فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: { خسفت الشمس في عهد رسول الله فصلى رسول الله بالناس، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول ثم سجد فأطال السجود ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى ثم انصرف وقد انجلت الشمس فخطب في الناس … } [أخرجه الشيخان].
ويشرع صلاتها في المسجد جماعة من غير أذان ولا إقامة.
صلاة العيدين:
وقد لازم النبي أداءها وأمر الناس بالخروج إليها.
عن أم عطية قالت: { أمرنا – تعني رسول الله – أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين } [أخرجه الشيخان].
صلاة الاستسقاء:
تشرع إذا منع المسلمون القطر وأجدبت الأرض.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوماً يخرجون فيه. قالت عائشة: فخرج رسول الله حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبر، وحمد الله عز وجل ثم قال: { إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم وقد أمركم الله عز وجل أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم }
ومن حديث ابن عباس قال: { خرج رسول الله صلى الله متبذلاً متواضعاً متضرعاً، حتى أتى المصلى فرقى على المنبر ولم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد } [أخرجه أبو داود والترمذي، وحسنه الألباني].
صلاة الجنازة:
الصلاة على الميت المسلم فرض كفاية وفيها فضل عظيم.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من أجر كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد } [أخرجه الشيخان].
وعن أبي هريرة { أن رسول الله نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات } [أخرجه الشيخان].
صلاة ركعتي الطواف:
تصلى بعد كل سبعة أشواط، قال الله تعالى: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [البقرة:125].
وجاء في حديث جابر الطويل في صفة حجته قال: {.. ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، فجعل المقام بينه وبين البيت، وكان يقرأ في الركعتين: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس } [رواه مسلم].
الصلاة في مسجد قباء:
عن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله : { من خرج حتى يأتي هذا المسجد – مسجد قباء - فصلى ركعتين كان له عدل عمرة } [أخرجه النسائي وابن ماجة وصححه الألباني].
مسائل تتعلق بصلاة التطوع:
التطوع في البيت أفضل:
لحديث زيد بن ثابت وفيه { فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة } [أخرجه الشيخان].
المداومة على التطوع أفضل وإن قل:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: { كان لرسول الله حصير، وكان يحجره من الليل فيصلي فيه، وجعل الناس يصلون بصلاته، وبسطه بالنهار، فثابوا ذات ليلة فقال (يا أيها الناس ،عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل) } [متفق عليه].
صلاة التطوع عن قعود:
عن عمران بن حصين وكان ميسوراً، قال: { سألت رسول الله عن صلاة الرجل قاعداً ! قال: (إن صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد) } [أخرجه البخاري].
قال الترمذي: معنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم في صلاة التطوع.(/2)
صلاة التطوع على الراحلة:
عن ابن عمر قال: { كان رسول الله يسبح على الراحلة قبل أي وجه توجه، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة } [متفق عليه].
صلاة التطوع في السفر:
لم يكن من هديه في السفر الصلاة قبل المكتوية ولا بعدها، ولم يلتزم بالرواتب وإنما ثبت عنه التطوع المطلق.
عن عامر بن ربيعة قال: { رأيت رسول الله وهو على الراحلة يسبح يومىء برأسه قبل أي وجه توجه، ولم يكن رسول الله يصنع ذلك في المكتوبة } [متفق عليه].
الجماعة في صلاة التطوع:
تشرع الجماعة في صلاة التطوع إلا أنه لا ينبغي المداومة عليها وفعلها في البيت أفضل:
فعن أنس بن مالك { أن جدته مليكة دعت رسول الله لطعام صنعته له، فأكل منه ثم قال: (قوموا فلأصل لكم) قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبس فنضحته بماء فقام رسول الله وصففت اليتيم وراءه والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول الله صلى الله عيه وسلم ركعتين ثم انصرف } [متفق عليه].
قضاء الراتبة مع الفائتة:
عن أبي هريرة قال: { عرسنا مع نبي الله ، فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس، فقال النبي : (ليأخذ كل رجل برأس راحلته فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان) قال: ففعلنا ثم دعا بالماء فتوضأ ثم صلى سجدتين، ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة } [أخرجه مسلم].
أفضل الصلاة طول القراءة:
عن جابر قال: قال رسول الله : { أفضل الصلاة طول القنوت } [أخرجه مسلم].
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى وجعلنا جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.(/3)
الصمد
من أسمائه تعالى الصمد كم ورد في سورة الإخلاص حيث لم يرد في القرآن الكريم الا في هذا الموقع فحسب بينما ورد في غير حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم منها حديث الاسم الأعظم " إني أسألك بأنك أنت الله لا أله الا أنت الواحد الاحد الفرد الصمد الذي لم يلد و لم يولد ولم يكن له كفوا أحد المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام
الصمد من أسمائه سبحانه فما معنى الصمد ؟ الصمد من معانيه الرب المالك المدبر فهو مالك الأشياء و مدبرها و ربها من معاني الصمد : السيد الذي يتوجه إليه الناس بحاجاتهم و يقصدونه في أمورهم أي يصمدون و يتوجهون اليه فيما يحتاجونه فهذا من معاني الصمد من معاني الصمد الكامل ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه كما ذكره ابن جرير الطبري و غيره في تفسير الصمد قال : السيد الذي كمل في سؤدده الشريف الذي كمل في شرفه الغني الذي كمل في غناه العظيم الذي كمل في عظمته الحليم الذي كمل في حلمه العليم الذي كمل في علمه الحكيم الذي كمل في حكمته إذا ابن عباس رضي الله عنه يعني بذلك أن من معاني الصمد أم لله تبارك و تعالى من الأسماء والصفات أكملها و أوفاها فلا يعتري أسماءه و صفاته نقص بوجه من الوجوه
من معاني الصمد أيضا الغني الذي لا يحتاج الى أحد و يحتاج اليه كل أحد وهذا من صفاته جل و تعالى فالله جل و علا لا يحتاج الى ما يحتاج اليه المخلوقون فالمخلوق يحتاج الى أن يأكل و أن يشر وأن ينام بينما الله عز وجل في غنى عن ذلك كله قال تعالى " أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض و هو يطعم ولا يطعم" فالله سبحانه يطعم عباده يرزقهم يقيتهم يغيثهم لكنه لا يطعم قال تعالى " و ما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون ما اريد منهم من رزق و ما اريد أن يطعمون" فالله تعالى لم يخلق الخلق ليستكثر بهم من قله و لا ليتعزز بهم من ذله و إنما خلقهم ليعبدوه و ليختبرهم فلله تعالى الكمال المطلق والغنى التام فلا يحتاج الى شيء لا يأكل و لا يشر ولا ينام كما قال في غير ما موضع سبحانه " لا تأخذه سنة ولا نوم" و لذلك من معاني الصمد الغني الكامل الغنى الذي يحتاج اليه الخلق ولا يحتاج الي شيء منهم
أيضا من الصمد كما في آخر السورة " لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد" وكأن آخر هذه السورة الكريمة تفسير لهذا المعنى العظيم أنه سبحانه لم يلد و لم يولد ول م يكن له كفوا أحد فله من الكمال في صفاته و أسمائه و المجد والعظمة كما ذكرنا و لذلك كان الصمد من أسمائه سبحانه(/1)
إذا كان العبد يؤمن بهذا المعنى وأن الله تعالى له الغنى التام و بيده كل شيء و الأمر اليه و هو السيد الذي يقصد بالحاجات فهنا يتحقق للعبد بالقرب من الله الغنى عن الخلق لذلك قال ابن عباس كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال يا غلام إني أعلمك كلمات إذا سألت فاسأل الله و ذا استعنت فاستعن بالله و اعلم أن الأمة لو اجتمعوا على ان ينفعوك بشيء لم ينفعوك الا بشيء قد كتبه الله لك و لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك الا بشي قد كتبه الله عليك " وهو حديث صحيح رواه الترمذي واحمد فتجد هذا التوجيه النبوي الكريم لشاب يافع في مقتبل عمره وهو خليق أن يكون توجيه لكل أحد حينما يشعر بالحاجة و هو لا شك شاعر بها في كل لحظه فانه يستعين بالله تبارك و تعالى يتوجه اليه بسؤاله يسأله في حاجاته في ملماته و في رغبه و رهبه و خوفه و رجائه و يقظته و منامه و أمور دينه و امور دنياه و صغير أموره و كبيرها حتى يسأل الإنسان ربه كل شيء " ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار" و من هنا لا يكون الإيمان بأسماء الله الحسنى مجرد ترديد باللسان أو كلا م يقوله الإنسان بمناسبة و بغير مناسبة وإنما يتحول ليكون منهجا يسير حياة المرء و يوجهها الوجه السليمه و يغرس في المؤمن العزة والانفه والاستغناء عما في أيدي الناس – صحيح أن الانسان يحتاج الى الآخرين كما يحتاجون اليه والناس خدم لبعضهم و إن لم يشعروا كما يقال لكن فرق بين تعاون على بر و تقوى بمقتضى الطبيعة يكون الانسان فيه محفوظ الكرامة والعزة قويا و بين أن يخضع الإنسان لغير الله عز و جل أو يذل نفسه أو يبالغ في الطلب من فلان أو علان أو يريق ماء وجهه و كرامته من أجل غرض أو مطمع أو دنيا أو رتبه أو وظيفة أو ترقيه أو ما أشبه ذلك هذا الاستغناء بالله لا يتحقق الا للمؤمن الذي تشبع قلبه بمعنى الصمديه فعرف أن الله تعالى هو الصمد الذي تصمد اليه الخلائق بحاجاتها و تتوجه اليه في ضروراتها و لهذا جرب أخى الحبيب أختي الحبيبه أذا المت بك ملمه أو نزلت بك نازله أو كنت في حاجة لشيء جرب أن تتوجه بقلبك الى ربك تبارك و تعالى و تهتف بلسانك من قلب صادق و تنادي يا صمد يا صمد يا صمد و تتصور هذه الاستغاثه بالله جل وعلا كيف ستجد أنها ستجعل في قلبك من الرضا و اليقين والثقة بوعد الله تعالى و سرعة الفرج و قربه الشيء الكثير بينما الإنسان إذا سأل الناس قد يعطوه أو يمنعوه و في كل الاحوال لا شك أنه سأل انسانا مثله بينما الله تعالى يدعونا الى أن نسأله و أن نتوجه اليه وان نيتهل الى جلاله و عظمته
أمام بابك كل الخلق قد رقدوا و هم ينادون يا فتاح يا صمد ***
فأنت وحدك تعطي السائلين ولا ترد عن بابك المقصود من قصدوا ***
والخير عندك مبذول لطالبه حتى لمن كفروا حتى لمن جحدوا***
إن أنت يارب لم ترحم ضراعتهم فليس يرحمهم من بينهم أحد ***
إن العبد محتاج أن يعرف عضمة هذا الاسم الشريف وأن يمرره على قلبه ولسانه و أن يتلو هذه السورة القصيرة العظيمة في ورده صباحا و مساء
أتيناك بالفقر يا ذا الغنى وأنت الذي لم تزل محسنا
**و عودتنا كل فضل عسى يدوم منك الذي عودتنا
**مساكين كالشعث قد ولوهوا بحبك إذ هو أقصى المنى**
فما في الغنى أحد مثلكم و في الفقر لا أحد مثلنا
**ذكرت اسمكم غيرة ها انا الوح بالشعب والمنحنى **
و انت هو الصمد المرتجى فيا ليت شعري انا من انا
إن العبد ذرة تائهة في هذا الكون إنه مخلوق صغير و لو انه قرن نفسه الى احد الأفلاك أو المجرات بل الى احد المخلوقات التي يراها أمامه في متناوله قريبا منه لوجد انه لا يقاس اليها إن الطيور أو الحيوانات ربما يكون لديها من القوة أو القدرة أو الضخامة الشيء الكثير الذي لا يتسمى للإنسان الحصول عليه لكن ميز الله تعالى هذا الانسان بالعقل الذي ركبه فيه وبالتالي التكليف الذي أناطه به والوحي الذي خوطب به فاذا تخيل الإنسان ضعفه الشديد وانه ذره تائهة صغيره كيف يمكن ان تقاس الى الأملاك والأفلاك والمخلوقات إنه لا شيء و مع ذلك فانه إذا عرف الله تعالى و تلا كتابه وآمن به و توجه اليه حصل من جراء ذلك على هذا المجد العظيم الذي لا ينقضي و لا ينتهي أن يذكر الله عز و جل و هذا شرف عظيم قال تعالى : "في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها أسمه" فمجرد إذن الله تعلى لي ولك أن نذكره فهذا شرف عظيم فالله تعالى أعطانا اللغه و أقدرنا على الكلام بها ثم أنزل علينا الوحي و عرفنا بأسمائه و صفاته و تعبدنا بذكرها و السؤال والدعاء بها و أقدرنا سبحانه و تعالى على ذلك و جعل لنا من العقول و القلوب ما نستشرف به بعض معاني هذه الأسماء المقدسه العظيمة الشريفه فاذا وصل الانسان الى شيء من ذلك أو نافس فيه أو حاول فالله تعالى يعينه على ذلك(/2)
اللهم إني أسألك بأنك انت الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد و لم يولد لوم يكن له كفوا أحد أن غفر لي ذنوبي اللهم إني أسألك خير المسأله و خير الدعاء و خير النجاح و خير العمل و خير الثواب و خير الحياة وخير امملت وفاتح الخير و جوامعه واوله وآخره اللهم يمن كتابي و يسر حسابي و ثقل موزيني و ثبت على الصراط قدمي اللهم حقق ايماني وارفع درجتي و تقبل صلاتي واغفر خطيئاي اللهم اني أسألك الدرجات العلا من الجنه
اللهم اني اسألك فعل الخيرات و ترك المنكرات و حب المساكين وان تغفر لي و ترحمني واذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني اليك غير مفتون اللهم حبب الي الايمان و زينه في قلبي و كره الي الكفر والفسوق والعصيان واجعلني من الراشدين اللهم اني اسألك باسمك الصمد العظيم وبكل اسمائك الحسنى و كل اسمائك حسنى و بكل صفاتك العليا وكل صفاتك عليا ز نسألك باسمك الاعظم الذي لا يرد من سألك به ولا يخيب من رجاك به أن تغيث ملهوف المسلمين في كل مكان اللهم أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف واهدهم من ضلاله وعلمهم من جهاله واجمعهم من شتات ووحدهم من فرقه و اعنهم على امور دينهم و دنياهم اللهم ولي عليهم خيارهم و اكفهم شرارهم اللهم اصلح صغارهم وكبارهم و رجالهم ونساءهم يا حي يا قيوم اللهم اجعلهم شاكرين نعمك مثنين بها عليك قابليها و اتمها عليهم يا ذا الجلال والاكرام
اللهم انا نسألك بعظمتك و مجدك و سلطانك ان تتقبل منا و تغفر لنا و ترحمنا وان تصلي و تسلم على عبدك و رسولك و خاتم انبيائك محمد عليه الصلاة والسلام وعلى آله وصحبه(/3)
الصهيونيّة والعنصريّة المحصّنة (1)
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة 8/11/1425
20/12/2004
سأتحدث في هذه العُجالة عن الدافع الأولي لهجرة اليهود لأرض فلسطين والذي يكاد يكون مغيباً، وما حديثي عنه هنا لهذا السبب، بل لسبب آخر آمل أن أصل معكم إلى حدوده في نهاية المطاف.
البداية ستكون من روسيا، فقد حدث في شهر مارس من عام 1881م محاولة لاغتيال قيصر روسيا الاسكندر الثاني. اتُّهم اليهود بالوقوف والتخطيط لها، وعليه قامت السلطات الروسية آنذاك بحملة مضادة ضد يهود روسيا، فأصدرت في شهر مايو من عام 1882م، ما عرف بـ(قوانين مايو ) .. وإليكم بعض ما جاء فيها:
- يُمنع اليهود المقيمون في المناطق الريفية من جلب أقربائهم.
- أي يهودي يغادر قريته لا يسمح له بالعودة إليها ثانية.
- لا تجدد عقود الإيجار المبرمة مع اليهود.
- يحق للروس طرد اليهود من قراهم، بقرار من رئيس القرية.
- يُمنع تشغيل أي يهودي في المناطق الريفية.
- أي يهودي يعيش داخل روسيا، أي خارج (منطقة الاستيطان) ويقوم بتوسيع نشاطه الاقتصادي، يُعاد إلى منطقة الاستيطان فوراً.
يُمنع أي يهودي من الاستيطان في المناطق الريفية في روسيا، وتحصر إقامتهم في ( منطقة الاستيطان ) وهي منطقة بمساحة (360) ألف ميل مربع خصصتها السلطات الروسية وبشكل حصري لسكن وعمل اليهود.
تحديد الطلاب اليهود في المدارس الإعدادية وفي الجامعات، بما يحدده المجلس التعليمي الروسي.
هذه القوانين ذات الطابع العنصري(وكما يؤكد معظم المؤرخين اليهود) كانت الدافع الأولي وراء هجرة اليهود الروس، والتوجه لفلسطين العربية.
إن ( قوانين مايو ) أثارت دهشتي .. إذ كيف تحولت تلك الضحية - كما يحلو لها أن تصور نفسها - لجانٍ مستبدٍ لا يعرف أبسط مفردات الرحمة..!! هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تعجبت من التوافق الواضح بين مضامين تلك القوانين -والموجهة آنذاك ضد يهود روسيا- والوضع الحالي للإنسان العربي الخاضع لسياط كيان الاحتلال الصهيوني.
ولأنه من المستبعد نقل صورة طبق الأصل للحياة المأساوية للإنسان الفلسطيني الحرّ.. الذي فضّل ظلم المحتل على مغادرة أرض أجداده .. رافضاً كل إغراء قدم له من قبل سلطة الاحتلال التي خصصت ( صندوق الهجرة ) لتقديم المساعدة المادية لكل فلسطينيي يغادر وطنه دون رجعة ، وفي الوقت نفسه سعت وبكل طاقاتها لتوسيع نطاق عمليات الهدم في الضفة والقطاع متطلعة من خلال ذلك لإبادة شعب بأكمله..
وعن هذه السياسة العنصرية كتب ميخائيل (ميكادو) فرشفسكي وثيقة وقع على بنودها عدد من اليهود: إن هذه السلطة ( تظهر وكأنها عقدت العزم على القضاء على الشعب الفلسطيني عن آخره) كما تضمنت هذه الوثيقة مطالبتهم ( بالإلغاء الفوري لجميع القوانين واللوائح والإجراءات التي تميز بين المواطنين اليهود والعرب في إسرائيل، وكذلك حل كل المؤسسات والهيئات التي تعتمد على هذه القوانين واللوائح والإجراءات)!!
فما هي تلك الإجراءات العنصرية التي يطالب بإلغائها هؤلاء المفكرون؟ هذه الإجراءات التعسفية كانت مطبقة حتى قبل عام 1948م، وإليكم ما كتبه صاحب صحيفة الكرمل اليهودية عام 1914م عن هذه السياسات العنصرية للمهاجرين الجدد: (أيَّ مزرعة اشتريتم وأبقيتم فيها على واحد من أهلها العرب؟ وهل تدلوننا على قومكم الذين يدخلون مخازن (الفلسطينيين ) ويشترون منها)؟!
إلا أن هذه السياسات العنصرية قُنّنت بعد الاحتلال الصهيوني لفلسطين أي عام 1948م؛ فقد عمل الصهاينة على حصر أكثر من ثلاثة أرباع الفلسطينيين المتبقين تحت سلطة الاحتلال في مدن وقرى ومخيمات منعزلة، كما طبقت سياسة الفصل العنصري بكل أبعاده، فهناك مدارس مميّزة لليهود، وأخرى دون أي إمكانيات للفلسطينيين، وهناك دوائر ثانوية للشؤون العربية في جميع الوزارات والمؤسسات في هذا الكيان العنصري؛ ففي كل وزارة يوجد على -سبيل المثال- مكتبان واحد رئيسي يختص باليهود وآخر ثانوي يختص بالفلسطينيين.(/1)
أما عن إمكانية الفلسطينيين في السكن والعمل في فلسطين المحتلة، فقد كتب (شلومو أفنيري ) من الجامعة العبرية في صحيفة معاريف: (لا يستطيع كل من يتحدث مع طلبة عرب في القدس إلا أن يُصاب بالخجل الشديد عندما يستمع إلى قصصهم عن صعوبة بل استحالة حصولهم على غرفة في المنازل أو الأحياء اليهودية)، ويقول (نعوم تشومسكي ): ( إن المواطن غير اليهودي أي الفلسطيني، لا يُسمح له مثلاً أن يستأجر أو يعمل في أراضي الدولة، ولا يسمح له بالإقامة في مدن يهودية) فعلى سبيل المثال: ( تقدم في أوائل السبعينيات( إسماعيل قبلان) أحد دروز قرية العسافية، بطلب للموافقة على إقامة معمل رخام في مستوطنة كرميئيل التي صُودرت أراضيها بالكامل من الفلسطينيين العرب، فكانت إجابة مدير مصلحة الأراضي الصهيوني بأن المدينة محظورة على غير اليهود)، بل نُقل عن أحد أعضاء مجلس الحكم في هذه المستوطنة قوله:( سنبذل كل ما في وسعنا للحيلولة دون إقامة مصانع أو متاجر عربية في كرميئيل)، وموقفهم هذا بطبيعة الحال يشمل تحريم سكن العرب في تلك الأحياء، وإليكم ما حدث عندما أقدم أحد كبار المسؤولين ببيع منزله إلى مواطن عربي، فما أن باشر هذا العربي بالاستعداد للانتقال إليه حتى جمع السكان اليهود التواقيع على عريضة طالبوا من خلالها المحافظة على نقاء مدينتهم التي أسست لليهود دون غيرهم، وكان متوقعاً موقف السلطات المحتلة من هذه المطالبات، كان طبيعياً أن يتوافق ردّ فعلها مع هذه العنصرية في هذه الحادثة وغيرها، فقد وضعت شرطاً تعسفياً يحول دون حصول العرب على إذن الإقامة في الإحياء اليهودية؛ إذ حُصِر حقّ التملك بمواطنين إسرائيليين!! وهذا ما أعلنت عنه إدارة الأراضي الإسرائيلية في فلسطين المحتلة في عام 2004م؛ إذ بينت أن أي مزادات يُعلن عنها بشأن بيع أراضي(الصندوق القومي الإسرائيلي) مخصّصة بالفعل لليهود فقط!! وبالتالي فمحرّم اقتراب عرب 1948م منها !! وجدير بالملاحظة هنا أن هذا الصندوق يمتلك 13% من الأراضي المحتلة في فلسطين!!
لقد صادرت سلطة الاحتلال الصهيوني بقوة الإرهاب الأراضي الفلسطينية، وهكذا تمكن الكيان الصهيوني من امتلاك 93% من مساحة فلسطين محتلة ..ثم عمدت على انتقال الأراضي الدارجة تحت خطط التطوير والبناء لليهود دون غيرهم، في حين قلّلت مساحة القرى العربية، أصدرت قوانين عنصرية تعسفية تمنع الأهالي من القيام بأي مشاريع إنمائية تتعلق المواطنين العرب..
من المؤسف أني كلما حاولت التوقف عند واقعة لأنقلها للقارئ الكريم، أجد غيرها قد انتصب أمامي، وهكذا عليّ الاعتراف بعجزي الكامل عن نقل صورة حقيقة للحياة اليومية المأساوية للفلسطينيين الخاضعين لسلطة الاحتلال سواء كانوا عرب 1948م ، أم لا!! ولأن الواقع أبشع وأفظع من أن يروى بسطور هنا أو هناك، أعمد هنا لذكر بعض الوقائع التي قد لا تمثل النظام العنصري الصهيوني على حقيقته، لكن سأجتهد ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وعلى الله الاتكال ..
سأنتقل معكم الآن لعام 2004م حيث استأجرت عناصر عربية مبنى مهجوراً في حي ( كرات مناحم ) في الرملة، بهدف فتح ثلاث فصول للتعليم النظامي فيه، ويعلل الدكتور زيدان نصار مدير عام هذا المشروع: ( منذ ثلاث سنوات بدأنا التفكير في بديل للمدارس الموجودة في الرملة، والتي تعاني الإهمال المتواصل، ففي عام 2003م لم يجتز امتحانات إتمام المرحلة الثانوية سوى ( 16 ) تلميذاً من بين (23) تلميذاً، وأضاف: ( إننا كأولياء أمور لا نستطيع السماح لأبنائنا بالدراسة في مثل هذه المدارس، فجهاز التعليم في الرملة في حاجة للكثير من الإصلاحات .. وقد تقدمنا بعشرات الطلبات، تجاهلتها البلدية)!!
أحلام بسيطة لا تتعدى افتتاح ثلاثة فصول لطلاب مرحلة التعليم النظامي، أحلام كان القرار السياسي للكيان العنصري في فلسطين المحتلة لها بالمرصاد، لقد أعلنت بلدية الرملة أنها لن تسمح بفتح المدرسة!! ولم يكتفِ سكان الحي من اليهود بإعلان البلدية الرافض لهذه الفكرة جملة وتفصيلاً، بل بادروا بالكتابة لرئيس المدينة ونسخة منه لوزير التعليم، يطالبون فيه بعدم السماح للعرب بفتح هذه المدرسة، وإليكم بعض ما جاء في تلك الرسالة: ( لدينا ما يكفي من المشاكل مع مدرسة عربية أخرى تقع خارج الحي، ويجب أن يفهم سعادة رئيس المدينة أننا لا نكره العرب!! .. ولكن ثقافتنا ونمط حياتنا يختلفان، ولن نتأقلم معهم .. يعلم سعادته أننا نقدر أفعاله ونشاطاته لتطوير الحي والمدينة، ولكن فتح مدرسة عربية – ثلاث غرف دراسية - سيلحق ضرراً بالغاً بالأعمال الجليلة التي تمّت في الحي، وفي المدينة بوجه عام، يشعر السكان بالاستياء ويهددون بالرحيل عن المكان، الأمر الذي سيسيء كثيراً إلى صورة المدينة .. أننا نعارض تماماً-وبشكل قاطع- فتح المدرسة في الحي، ونطالب بشدة إيجاد السبل لحل المشكلة التي نواجهها..(/2)
وعن هذه العنصرية المحصنة كما يحلو لي تسميتها يقول( إسرائيل شاحاك): ( إن العرب يعاملون باضطهاد؛ إذ تُحرّم عليهم القوانين والتنظيمات في إسرائيل العيش أو التواجد بأي شكل من الأشكال في الأماكن المخصصة لليهود) وهذا الوضع دفع المفكر اليهودي الفرنسي (بيير ديميرون) لانتقاد سياسة الكيان الصهيوني العنصرية بقوله: ( إنها تشبه سياسة النازية ضد اليهود)!!
آمل أن تعاودوا النظر في معطيات( قوانين مايو) الموجّه ضد يهود روسيا، محاولين من خلال ذلك عقد مقارنة موضوعية بينها وبين طبيعة حياة العرب تحت السلطة العنصرية للاحتلال الصهيوني..
إنها عنصرية محصّنة من كل انتقاد تلك هي عنصرية الكيان الصهيوني، والداعمين له ولفكره، توجّه يُفترض أن يكون مستهجناً من قبل الدول الرافعة لشعار حماية حقوق الإنسان والداعمة في الوقت نفسه لسياسة الصهيونية العنصرية، بل يُفترض أن يكون مستهجناً من قبل شعب يعلن دوماً أنه ذاق مرارة صراعات عنصرية ودينية صاغها دون شك تاريخ الإنسان الغربي .. ومع هذا وذاك نجد الكيان الصهيوني يتلذذ وهو يقنن نظماً تحرم الفلسطيني من كرامته الإنسانية، ولِيحيَ حياة الدواب، دواب تملك من الحقوق في ظل هذا الكيان التعسفي أكثر مما يمكن أن يناله الفلسطيني حتى في أحلامه ..
وللحديث بقية بإذن الله.
العنصرية المحصنة!! (2)
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة 22/11/1425
03/01/2005
لقد أشرت في الجزء الأول من هذا الموضوع إلى الدافع الأوّلي لهجرة اليهود لأرض فلسطين، والذي حدث في روسيا عام 1881م حيث اتهم اليهود بمحاولة اغتيال قيصر روسيا الاسكندر الثاني، وعليه أصدرت السلطات الروسية في شهر مايو من عام 1882م، ما عُرف بـ(قوانين مايو) والتي كانت الدافع الأساسي وراء تلك الهجرة، فمن خلالها منع سكانُ المناطق الريفية في روسيا اليهودَ من جلب أقاربهم، ومن غادر منهم قريته يُمنع من حق العودة، وحُرّم عليهم تجديد عقود الإيجار المبرمة معهم حال انتهائها، ويحق للروس طرد اليهود من أحيائهم وقراهم، كما يُمنع تشغيل اليهود في المناطق الريفية، يُعاد من لوحظ عليه توسعة نشاطه الاقتصادي خارج منطقته الاستيطانية إلى منطقته فوراً، ويُمنع على اليهود الاستيطان في المناطق الريفية بتاتاً،وأخيراً يُحدّد عدد الطلاب اليهود في المدارس النظامية والجامعات.
لا أعرف كيف تحوّلت تلك الضحية - كما يحلو لها أن تصوّر نفسها - لجانٍ مستبدّ ..!! هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أعرف كيف أمكن إيجاد هذا التوافق الواضح بين مضامين تلك القوانين -والموجهة آنذاك ضد يهود روسيا- والوضع الحالي للإنسان العربي الخاضع تحت نير الاحتلال الصهيوني، فالممارسات العنصرية في الكيان الصهيوني وفي العقيدة الصهيونية اليهودية لا تعدو شكلاً من الأشكال التعبيرية عن عقيدة الدولة؛ فالفلسطينيون ليسوا مواطنين بالمعنى الحرفي للكلمة، إنما هم من سكان إسرائيل،أو مواطنون من الدرجة الثالثة.
* عنصرية عجزت عن استيفاء إجماع يهودي، فرفضها عدد منهم، ومن هؤلاء المحامي أمنون روبنشتاين الذي قال: ( إن المطالبة المتطرفة بحرمان عرب إسرائيل حقوق الإنسان لم تصدر من اليمين الإسرائيلي فحسب، وإنما صدرت عن حزب العمل أيضا، والواقع:
إن حرمان العرب من كيانهم وحقوقهم، من قبل يهود كانوا هم أنفسهم حتى الأمس فاقدي الحقوق، هو التعبير عن حالة الانحلال الفكري التي تعاني منها حكومة إسرائيل) في حين أكد الصهيوني شموئيل تولياندا هذه العنصرية بقوله: ( إن وضع العرب الإسرائيليين هو الأسوأ في العالم)!!
إن العدوان الصهيوني لا يقتصر على ما نتابعه يومياً من قتل وهدم للبيوت الفلسطينية، وجرف للأراضي الزراعية مضى على رعايتها عقود من الزمان، ولا على الاغتيالات العشوائية لهذا الكيان الذي لا يفرق بين طفل ولا شيخ، وامرأة ولا رجل، فهذا الاحتلال يتعامل مع السكان الفلسطينيين على أنهم مواطنون من الدرجة الثالثة، ويخضعهم لشتى أنواع الاضطهاد العنصري؛ فمعظم جوانب حياتهم خاضعة بشكل أو بآخر لهذه السياسة العنصرية،عنصرية تشمل الجانب السياسي ،والاقتصادي، والثقافي، والاجتماعي، وفي مجال البناء والتطوير، والتوظيف،والصحة، وغيرها ...!!
وسأعمد هنا إلى الإشارة لبعض هذا التمييز، لعلنا نصل إلى يقين بأن من المحال التعامل مع هؤلاء بعدالة نضمن وصولها لكلا الطرفين، ما دام الخيار بأيدي هؤلاء، وما دام العالم غير مدرك لأهمية الإعلان عن رأيه صراحة فيما يجري على أرض الواقع في فلسطين المحتلة!!(/3)
فعلى الصعيد السياسي حُرم الفلسطينيون من كافة الحقوق السياسية التي يتمتع بها المواطنون اليهود، وقد توقف إسرائيل شاحاك المفكر اليهودي عند هذه النقطة قائلاً: (إن إسرائيل حظرت على الفلسطينيين كافة أشكال النشاط السياسي، فسياسة الكبت طاغية، ولا يُسمح للفلسطينيين برفع أية شكوى ضد السلطات العسكرية) بل إنه يؤكد هذا التعسف السياسي ضد الفلسطينيين بقوله: ( إن جميع ضروريات الحياة فيما يتعلق بالفلسطينيين - اللهم إلا التنفس - خاضعة لتصريح من السلطات العسكرية) كما يعلن للعالم: ( أن الإسرائيليين يرون أن جميع الأنظمة والقوانين النافذة في إسرائيل، وسياسة القهر والكبت والاضطهاد، ضرورة للحفاظ على (الطائفة اليهودية ) ولجعل إسرائيل دولة يهودية)!!
وإذا أردنا النظر في وضع الاقتصادي الفلسطيني فلن نجد إلا بقايا مجتمع ريفي محطم، انتهي إلى هذا الوضع بفعل السلطات السياسية لهذا الاحتلال الذي عمد ويعمد إلى مصادرة الأراضي الزراعية الفلسطينية أو إلى جرف محصولها، وحبذا لو تم ذلك قبيل موسم الحصاد إمعاناً في إذلال وقهر أصحابها، ولم تكتفِ هذه السلطات بذلك بل باشرت في تضخيم الضرائب المخصّصة على ملاك الأراضي الزراعية للفلسطينيين، مما دفع بالمزارع الفلسطيني والذي يُمنع من تسويق محاصيله الزراعية، لبيعها تخلصاً من الضرائب المفروضة، أو لمصادرة أرضه في حال عجزه عن دفع الضريبة المقررة، وقد تلجأ سلطات الاحتلال لإصدار قرارات تتحول الأراضي القروية بموجبها لأراضي مدن، إمعاناً في رفع قيمة الضرائب المفروضة عليها، وليس هذا فقط، فعلى المواطن العربي ضرائب دخل، وضرائب بلدية، وضرائب أخرى غير مباشرة، أما ضريبة الملك فهي موجهة للسكان العرب دون اليهود!!
كما أن السلطات السياسية لهذا الاحتلال كعادتها مارست وتمارس تعسفها وعنصريتها وبشكل سافر؛ إذ تدخلت في تحديد نوعية المحاصيل التي يفسح المجال للعرب بزراعتها، وفي هذا الشأن تحدث إسرائيل شاحاك فقال: (إن الاقتصاد الزراعي في الضفة الغربية قد دُمّر بفعل مجموعة من الأسباب، ربما أهمها: المصادرات، والأسعار المنخفضة للمنتجات الزراعية) كما قال: (إن إسرائيل حظرت زراعة سائر أنواع الحبوب في الضفة الغربية منذ 1968م، على اعتبار أن زراعتها مقتصرة على اليهود وحدهم).
وعندما توجه المزارعون العرب لزراعة (الطماطم ) عمد الكيان الصهيوني لمكافحة إنتاجهم بشتى الطرق، ورغم تدني أسعار المحصول وارتفاع أسعار المبيدات. واستمر المزارعون العرب بزراعتهم لهذا النوع من المحاصيل، فما كان من مكتب وزارة الزراعة إلا أن أرسل تحذيراته وإنذاراته المتتالية التي تحرّم عليهم زراعتها، ثم أوعزت للشركات التي تتعامل معهم تقليص مشترياتها من الطماطم، لينتهي الأمر بتحقيق خسارة لا تعوض للمزارعين العرب.
أما منظر الأراضي الفلسطينية المزروعة بالحمضيات وهي تُجرف بالجرارات الصهيونية قبيل بناء الجدار الفاصل، فما زال عالقاً في الذاكرة، ولم يكتفوا بذلك بل صادروا الأرض بدعوى حفظهم لأمن كيانهم الصهيوني، كما عمدوا لمنع وصول الماء للأراضي الباقية بأيدي الفلسطينيين.
وقد تحدث الكاتب اليهودي إنجليزي الجنسية ( فالتر شفارتز) في كتابه (العرب في إسرائيل) عن معاناة العرب تحت الاحتلال الإسرائيلي فقال: ( يُحرّم على المزارعين العرب نقل إنتاجهم إلى أسواق المدن، وبالتالي يُجبرون على بيع محاصيلهم بأسعار بخسة، وهي بعد في الحقول).
لقد أدّت هذه الظروف القاهرة إلى وجود طبقة متزايدة من العمال الفلسطينيين، تبحث عن عمل في السوق اليهودي الذي تعمّد استغلال حاجتهم بأبشع صورة، خاصة مع عدم وجود صناعة عربية كافية يمكن لها أن تحتويهم، وقد بيّن إسرائيل شاحاك الأوضاع الاقتصادية التي آلوا إليها بقوله: (إن العرب في دولة إسرائيل أصبحوا من الطبقات العاملة التي تعتمد على أجورها، وهم مجبَرون على العمل في المنشآت الإسرائيلية، والعودة ليلياً إلى مناطق تجمعاتهم؛ لأنهم ممنوعون من الإقامة في مناطق عملهم اليهودية، أو حتى التواجد فيها ليلاً، وهكذا يجد العمال العرب أنفسهم مرهقين لدرجة لا يستطيعون بعدها إلا النوم).
لقد حول هذا التحايل المجتمع الفلسطيني من طبقة ملاك لطبقة عمال مأجورين، يسهل التحكم فيهم وفي مواردهم ..!! ولكني أجزم أنه -مع كل تلك الإجراءات- يصعب التحكم في أرواحهم الأبية!!
إن لدى الإسرائيليين طريقة معينة في التعبير عن قلة الاحترام تجاه شخص ما أدنى منهم منزلة، فقد يصف يهودي حياة يهودي آخر بقوله : (إنه يعيش كالعرب)، كما أنهم عندما يمعنون في تحقير مهنة ما يقولون: (هذه من وظائف العرب!) و المعنى واضح في كلا الحالتين وأمثالها فالغاية تبيان أن العرب أقل منزلة ومقاماً من اليهود!!(/4)
وإذا وددت الحديث إليكم عن الحياة الثقافية لشعب فلسطين في ظل الاحتلال، أجد نفسي أمام قول روبنشتاين الذي تحدّث عن الفصل العنصري الثقافي لهذا الكيان بقوله: "إنها تفصل في مجال التعليم بين مجموعتين من السكان، فللمواطنين العرب إدارة تراقب وتقيّد وتحذّر وتهدّد وتعاقب، وفي المقابل هناك جهاز آخر يختلف كلياً، يُعنى بالمواطنين اليهود، جهاز يشجع وينمّي ويوسّع ويُدلّل .. ) إن الواقع الذي لا مِراء فيه يؤكد أن الكيان الصهيوني لم يبذل آية جهد فيما يتعلق بتجديد وتطوير مدارس عرب فلسطين، وبطبيعة الحال لم يحاول التفكير في بناء أي منها في مناطق التجمعات الفلسطينية، فحالة الأبنية المدرسية هناك سيئة للغاية، وعدد كبير منها آيل للسقوط، وتفتقر معظمها للمرافق الصحية والمرافق التعليمية ..من معامل ومكتبات وملاعب مدرسية، حتى الطفل الفلسطيني في رياض الأطفال ناله شيء من هذه التفرقة العنصرية فهو محروم من الرعاية الصحية والغذائية التي يتمتع بها أطفال اليهود.
ويقول عاموس إيلول نقلاً عن الشاعر أوري بيرنشتاين : ( إن الحرية التي نرغب في إتاحتها للفلسطينيين في المناطق المحتلة، ليست سوى حرية الجهل، إننا نسمح لهم فقط بحركات متوقعة سلفاً، ومن أشخاص آليّين لا روح فيهم، يجب ألا يفكروا.. إننا لا ننكر عليهم الاستقلال السياسي فحسب، بل إننا نريد السيطرة على نفوسهم وآدابهم وأشعارهم ..) بل إن الكتب المحظور تداولها على المواطن الفلسطيني لا تنحصر بالكتب السياسية بل تشمل التاريخ والأدب وعلوم اللغة العربية بل حتى الكتب الرياضية وغيرها.
كما أن إسرائيل شاحاك الذي فر بنفسه من طغيان اليهود يؤكد أن ما يُكتب عن الكيان الصهيوني ما هو إلا تعتيم مقصود أو نوع من أنواع الخديعة، كما قال: (إن كل شيء يُصنف من منظور ذلك الكيان يكون إما يهودياً أو غير يهودي، هذا التقسيم لا ينطبق على الناس فقط بل حتى على الحيوانات والنباتات ..!! فاليهود يُعاملون كمواطنين لهم حظوة وامتيازات وخصوصيات تُحترم، ويتمتعون بكل الحقوق والرعاية من السلطة، أما غير اليهود فيُعاملون كأقليات مضطّهدة تُحرِّم عليهم القوانين والتنظيمات العيشَ أو التواجدَ بأي شكل من الأشكال في أماكن محددة، ومن بين هذه الأماكن الكرمل، الناصرة العليا، حتزور، آراد ،متزبة، رامون، تل أبيب، حيفا، والعديد من الأحياء في مدينة القدس وغيرها.. ) هذه هي العدالة الصهيونية..!!
وللحديث بقية بإذن الله.
|1|2|3|
________________________________________
* قسّم المجتمع الصهيوني اليهود إلى قسمين: المرتبة الأولى اِلأشكناز- وهم يهود من أصول غربية، والمرتبة الثانية السفارديم – وهم يهود من أصول عربية، وهذا القسم يضم يهود أثيوبيا، وإن كان بعضهم يصنف هؤلاء بدرجة أقل من السفارديم
العنصريّة المُحَصّنة!! (3)
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة 6/12/1425
17/01/2005
سأعمد هنا ابتداءً للغوص في محور يتعلق بشكل أو بآخر بما نحن بصدده، وأعني به موقف الإسلام والمسلمين بطبيعة الحال من الآخر، لعلنا نتمكن من خلال ذلك من عقد مقارنة موضوعية بين موقفي الإسلام واليهودية وأهلهما من غيرهما، ولعلنا ننتهي من خلالها للوقوف على النظرة الإنسانية للآخر من كلتا الجهتين الإسلامية العربية واليهودية الصهيونية.
غنيّ عن البيان أن دماء اليهود كدماء النصارى وأعراضهم وأموالهم مصونة إسلامياً؛ فنحن كمسلمين لا يمكن لنا التعرّض للمسالمين منهم بسوء، فقد حذّرنا خاتم الأنبياء والرسل -عليه الصلاة والسلام- من التعرّض لهم بقوله: "من آذى ذمِّياً فأنا خصمه يوم القيامة، ومن خاصمته خصمته". هذا المفهوم وضّحه بعض فقهاء الحنفيّة بقولهم: (ويجب كفّ الأذى عنه – أي الذمّي – وتحرم غيبته كالمسلم). كما قال فقهاء المالكية: (إن عقد الذّمة يوجب حقوقاً علينا لهم ..فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عِرض أحدهم أو نوع من أنواع الأذيّة، أو أعان على ذلك فقد ضيّع ذمّة الله...).
فهل طبّق المسلمون هذا المنهاج المتسامح على أرض الواقع؟(/5)
استفهام ستكون إجابته أوقع لو جاءت من خارج الدائرة، وعليه ارتأيت ترككم مع هذه الباقة من أقول علمائهم، وسأتوقف ابتداء عند (سيرايتز غواتين) رئيس قسم الدراسات الشرقية في الجامعة العبرية بالقدس الذي قال: (في الأندلس العربية .. عاش اليهود عصراً ذهبياً) في حين قارن الكاتب اليهودي الصهيوني نسيم رجوان بين حالهم في أسبانيا المسيحية، وحالهم بعد أن ارتفعت راية الإسلام في أجوائها، فقال: ( لاقى اليهود في أسبانيا الأوربية مصيراً بائساً، وعانوا الكثير من قسوة بعض ملوك النصارى، وعندما وصل المسلمون إلى أسبانيا عملوا على تحرير اليهود.. وثمّة إجماع على الاعتراف بأنّ هذه الفترة كانت من أكثر الفترات ازدهاراً في التاريخ اليهودي، وإن أثرها في اليهودية وفي الشعب اليهودي اليوم لا جدال فيه)!! ويضيف رجوان: ( وللمناسبة يبدو مفيداً النظر في وضع اليهود الذين كانوا يقيمون في الحقبة نفسها في بلدان أوروبا المسيحية، فبينما كان يهود أسبانيا العربية يتمتعون كلياً بالسلام والحرية، كان يهود أوروبا المسيحية يعيشون فوق بركان يهدّد بإزالتهم في أي وقت، كانوا معرضين للاضطهاد الدائم)!! وعن هذا التعايش الإنساني الذي عاش اليهود في نطاقة، يتحدّث البريفسور الأمريكي (ألن غودبي) أستاذ (العهد القديم) في جامعة ديوك في الولايات المتحدة الأمريكية فيقول: (تفوّق السفارديم – يهود الشرقيين - كان نتيجة الحرية التي منحها العرب لليهود، في وقت كانت أوروبا المسيحية تمنعها عن اليهود)، وهذا ما أكّدته الموسوعة البريطانية بقولها: ( لم يعرف اليهود في عهد العرب أي قيد على حريتهم).
أما في القرن العشرين فقد استقبل عرب فلسطين اليهود المهاجرين بالتسامح المعهود منهم يقول هارون بيشر: (ظل سكان شمال فلسطين مخلصين في تعاملهم مع اليهود حتى عام 1948م، فقد عاش اليهود مع هؤلاء الفلاحين العرب بسلام، ووجدوا منهم كل مساعدة) ويقول عميد كلية الحقوق السابق في جامعة تل أبيب (أمنون روبنشتاين): (إن لهؤلاء الفلاحين تاريخاً طويلاً من الودّ والمساعدة والإخلاص لليهود)!! وفي مقابل هذه الصورة الإنسانية والأخلاقية لعرب فلسطين نجد احتلالاً صهيونياً عنصري النزعة يهودي الديانة، احتلالاً استمد قيمه من تعاليم دينه الذي يتنكر للكرامة الإنسانية وللمثل الأخلاقية؛ فرجال الدين اليهودي الصهاينة يتبجحون وبتصريحات عنصرية دموية وهم الآمنون من كل عقاب؛ بل حتى من أي لوم؛ ألم نسمع عوفديا يوسف يصرح عبر وسائل الأعلام بقوله : "اقتلوا العرب"، ويضيف : "إن الله ندم على خلقهم " وإليكم ما قاله الحاخام ديفد كيفت: "إن قتل العرب لا يعتبر مشكلة أخلاقية".
ولم يعرف واقع العالم ظلماً أشد ضراوة من الظلم الذي لحق بأهل فلسطين المحتلة، كما أكد الدكتور جورجي كنعان تلك العنصرية بقوله: "فقد حرموا من ممارسة حقهم في تقرير المصير، وتم إجلاؤهم بعيداً عن دورهم وأراضيهم وبلدهم، ومن بقي منهم في مكانه عانى ويعاني من أبشع أشكال التمييز والتفرقة العنصرية؛ فقد حيل بينهم وبين المشاركة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخل وطنهم، الذي تحول بسطوة الاحتلال إلى دولة يهودية، وظلوا يعيشون فيها تحت وطأة قوانين وممارسات عنصرية قاسية، مهدّدين بالتشريد، وممتلكاتهم معرضة للاستيلاء، وبيوتهم للهدم والتدمير).
ولم يكن مستغرباً أن يعلن الدكتور (موشيه) العنصري النزعة والهوى، والرئيس الأسبق لجنوب أفريقيا أعجابه بالكيان الصهيوني، إثر زيارة قام بها لهذا الكيان، فقد جاء على لسانه: (يوجد لدى إسرائيل الكثير مما يمكن تعلمه)!! معه الحق كل الحق فيما ذهب إليه؛ فالكيان الصهيوني هو الكيان العنصري الأمثل له ولأمثاله!!
إن من حق الفلسطينيين دفع هذه الأغلال وتلك القيود، ولا مجال لقبولهم بالحلول المبتورة التي لا تراعي إنسانية الإنسان الفلسطيني، حقيقة لا يمكن للعقلاء نفيها أو التهاون بنتائجها، حقيقة دفعت الدكتور (إسرائيل شاحاك) أستاذ الكيمياء الأسبق في الجامعة العبرية ليقول: "نحن اليهود لا يمكن أن نسكت أو نغضّ النظر عن مثل هذا الاضطهاد إذا كان موجّهاً إلى أقلية يهودية، في أي بلد من بلدان العالم، ولذلك يجب علينا ألاّ نسكت عن الاضطهاد الذي تمارسه إسرائيل بحق العرب).
وبعد كل هذا وغيره كثير، أُوجّه تساؤلي لمنظمة الأمم المتحدة التي أقرّت عام 1975م، أن الكيان الصهيوني شكل من أشكال العنصرية، كيف تأتّى لهذه المنظمة العالمية إلغاء قرارها هذا عام 1991م؟! مع يقينها أنها ازدادت في تعنّتها العنصريّ الساديّ، وانسلاخها من كل القيم الإنسانية، والقوانين الدولية، والتي في مجملها تعلن احترامها للإنسان!!
أو هكذا تدّعي!!(/6)
الصورة وتوثيق الجريمة
- توثيق الجرائم الأميركية والإسرائيلية التي تجري حالياً في فلسطين والعراق أصبح من ضرورات تأكيد حدوثها، في عصر الأكاذيب الأميركية اللامنتهية، ولولا وجود كاميرا التقطت صورة للشهيد محمد الدرة لما صَدَّق العالم همجية اليهود، رغم قيامهم بآلاف الجرائم التي لم توثقها الكاميرات، وليس آخرها مجزرة مخيم جنين. إن بشاعة جريمة التعذيب في سجون العراق لم تخفف من حدتها المساءلة الصورية لرؤساء الجريمة بواسطة الكونغرس.
- ولولا تسرب (أو تسريب) صور تُظهر بشاعة وهمجية التعذيب الوحشي الذي تعرّض له (ولا يزال) سجناء العراق المظلومون لما صَدَّق الناس بعض روايات (تكاثرت وتواترت، لكنها لم تأت من واشنطن) تلك الروايات التي بدأت تتسرب منذ أواخر العام الماضي، ولولا الصور عينها لما صَدَّق بعض المخدوعين والعملاء من أمتنا ممن أعمتهم المناصب والدولارات عن التصديق.
- إذا كان كل هذا الحجم الهائل من الجرائم لا يُصَدَّق إلا إذا تم توثيقه بصورة كاميرا، فإن ذلك يدل على أن العالم أصبح أخرس وأبكم وأعمى ويتعامى عن الحقائق طالما لم تنطق بها واشنطن، أو لم تفرج عن صور تعذيب قذر موجودة لدى وزارة الدفاع والاستخبارات العسكرية وجهاز (CIA) منذ عدة شهور.
- تقول الأنباء إن الصليب الأحمر الدولي كان يعلم بالانتهاكات المجرمة التي حصلت في كل السجون الأميركية في العراق وليس في سجن أبو غريب فقط، وكذلك في السجون البريطانية، وكانت لجان حقوق الإنسان (الصمّاء البكماء) تعلم أيضاً، ووزارة الحرب الأميركية كانت تعلم، والاستخبارات الأميركية والعربية والإيرانية كانت تعلم، ومجلس الحكم العميل كان يعلم، والقنوات الفضائية العربية (النشيطة جداً) كانت تعلم ولديها تسجيلات لا تتجرأ على نشرها حتى هذه اللحظة.
- هل بعد هذا التواطؤ على الجريمة من قبل كل هؤلاء من آمال يعلقها بعض المخدوعين من أمتنا على هؤلاء كلهم، إن سكوتهم على الجرائم هو تواطؤ أو خيانة أو جبن، أو كل ذلك معاً قرآن كريم(/1)
الصوفية وموضوعية الفهم والتعامل
عبد الحميد الكبتي
( الطرق الصوفية في أفريقيا حاضرها ومستقبلها )
ذاك عنوان لندوة عالمية عقدت في ليبيا الحبيبة تحت رعاية الجامعة الأسمرية للعلوم الإسلامية بزليتن ، بالتعاون مع مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية في الفترة من 22- 24 الحرث 2005 م ، ولكون مجال تقديم البحوث يشق أحيانا ، لظروف المكان ، أو للشروط غير الموضوعية ، فإن المشاركة تكون صعبة المنال ، وحرصا مني على توضيح صورة هذا العلم " التصوف " ولو في عدة أسطر ، أقدم هذه المشاركة ، عل الله أن ينفع بها ، وقد سميتها ( الصوفية وموضوعية الفهم والتعامل ) .
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، ثم الصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين ..
ثم أما بعد ...
فمن الأمور التي زَلَّت فيها الأفهام ، وأخطأت فيها التعاملات ، قديما وحديثا ؛ مسألة التصوف ، وتعامل معها الناس إما بولاء تام وتبرير غير علمي ، وإما بنبذ واتهام وشطط بعيد عن منهج السلف الصالح ، رضوان الله عليهم ، وقليل من أنصف وعدل وأقام الميزان الحق في هذا الأمر .
· منذ بداية عصر النبوة وقضية الأسماء والمسميات تصاحب حركة التاريخ الإسلامي ؛ للتمييز بين الطوائف بعضها عن بعض ، وبين مراتب الرجال وسبقهم وعطائهم ، وكان القرآن الكريم يستخدم الأسماء والأوصاف للغرض نفسه ؛ ففرق القرآن بهذه التسميات بين المهاجرين والأنصار ، وبين من هاجر من قبل الفتح وقاتل ومن هاجر بعد الفتح .. وتتابع الأمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وورد في خطابه عليه الصلاة والسلام هذا الأمر ، ولعل مثالاً واحداً يكفي ؛ ففي قوله عليه الصلاة والسلام : ( لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) " 1 " دليل واضح .
ثم تتابع ذلك على مدار التاريخ الإسلامي وحتى أيامنا هذه ! ، فنجد اليوم جماعات إسلامية ومؤسسات عاملة لهذا الدين تجعل لنفسها اسما ، لنفس الغرض ، وما نحن بصدده من مصطلح " الصوفية أو التصوف " إن هو إلا أنموذج من هذه التسميات ، والذي ظهر في القرون الثلاثة الأولى ، المشهود لها بالخيرية ! . يقول أبو القاسم القشيري ـ وهو من أعلام التصوف ـ :
( اعلموا ـ رحمكم الله تعالى ـ أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسم أفاضلهم في عصرهم بتسمية عَلم سوى صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ لا فضيلة فوقها ، فقيل لهم الصحابة ، ولما أدركهم أهل العصر الثاني تسمى من صحب الصحابة بالتابعين ، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين الزهاد والعبّاد ، ثم ظهرت البدع ، وحصل التداعي بين الفرق ، فكل فريق ادَّعَى أن فيهم زهادا ، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف ، واشتهر الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة ) " 2 " .
وبغض النظر عما يحمله كلام القشيري من تزكية ابتداء للصوفية ، فإن المقصود من نقل كلامه هو طبيعة خروج التسميات بشكل عام ، وليس الحكم على التصوف ، وندرك أيضا أن قضية الأسماء والمسميات تحكمها ظروف وملابسات حتى يضع أهل ذلك العلم لأنفسهم تسمية تميزهم عن باقي الطوائف والمذاهب .
لكن مصطلح التصوف غدا اليوم من الألفاظ المجملة التي تضم صواباً وخطأ ، وحقاً وباطلا ، لذلك وجب التفصيل قبل التسرع وإصدار الأحكام ، فيمدح إذا أريد به صوابا وحقا ، ويذم إذا أريد به خطأ وباطلا .
والميزان في كلا الحالتين هو كتاب الله عز وجل ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تأويلا ) النساء : 59 .
ويقول سبحانه : ( وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ) هود : 85 .
ويقول عز من قائل : ( وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) النساء : 58 .
و"لكن عندما ينشب الخلاف ، وتثور العداوات.. يصبح كثير من الناس عاجزاً عن الإبصار بعينين ؛ فهو لا يرى إلا المثالب والمساوئ ، وحين تهب رياح المودة فإن كثيرين أيضا لا يبصرون إلا بعين الرضا ، ومن هنا جاءت دعوة شعيب عليه الصلاة والسلام واضحة صريحة للخلاص من هذه النقيصة ، حين نصح قومه { وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ } " . " 3 "(/1)
يقول ابن تيمية في هذا الباب : ( لفظ الفقر والتصوف قد أدخل فيه أمور يحبها الله ورسوله فتلك يؤمر بها ، وإن سميت فقرًا وتصوفًا ؛ لأن الكتاب والسنة إذا دل على استحبابها لم يخرج ذلك بأن تُسمى باسم آخر . كما يدخل في ذلك أعمال القلوب كالتوبة والصبر والشكر والرضا والخوف والرجاء والمحبة والأخلاق المحمودة . وقد أدخل فيها أمور يكرهها الله ورسوله ، كما يُدخل فيه بعضهم الحلول والاتحاد ، وآخرون نوعا من الرهبانية المبتدعة في الإسلام ، وآخرون نوعا من مخالفات الشريعة ، إلى أمور ابتدعوها ، إلى أشياء أخرى ، فهذه أمور ينهى عنها بأي اسم سميت ...) " 4 " .
فالعبرة بالمسمى لا بالمسميات ، نحكم على ماهية الشيء بأي اسم كان ، ولا نقف على ظاهر الأمر ، وسطحية التعامل مع المسميات ، فإن هذا خلل في الفهم والممارسة الفكرية والعملية ، وسنجد أنفسنا متناقضين حين ينشئ أحدهم ـ مثلاً ـ حزب الصحابة الكرام ـ ونفرح بهذه التسمية ونحبها ، ونغفل عن انحرافات كثيرة في فكر هذا الحزب أو الجماعة ! ، فهل يستقيم الأمر؟ كلا ، نقبل الحسن الصحيح من أي كان ، ونرفض القبيح المرفوض من أي كان ، والميزان هو كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام .
والذي يهمنا كطلبة علم وطالبي الفهم الصحيح ، ليس الأسماء ، بقدر ما يهمنا المضمون ، وفقا للقاعدة المعروفة ( العبرة بالمسميات لا بالأسماء ) أو ( العبرة بالمسميات والمضامين ، لا بالأسماء والعناوين ) ، فما هي حقيقة الصوفية في أصلها الذي بدأت منه ؟
· إن معرفة تاريخ وظروف ظهور التصوف أو الصوفية أمر مهم في معرفة حقيقة ماهية التصوف ، فقد ظهرت عندما طغت المادية ، وغلّب الجانب العقلي ؛ الجانب الماديّ ، نتج عن الترف الذي أغرق بعض الطبقات ، بعد اتساع الفتوحات ، وكثرة الأموال ، وازدهار الحياة الاقتصادية ، مما أورث غُلوًّا في الجانب المادي ، مصحوبًا بغلوّ آخر في الجانب العقلي ، أصبح الإيمان عبارة عن "فلسفة" و"علم كلام" "وجدل" ، لا يشبع للإنسان نهمًا روحيًا ، حتى الفقه أصبح إنما يعنى بظاهر الدين لا بباطنه ، وبأعمال الجوارح لا بأعمال القلوب وبمادة العبادات لا بروحها .
ومن هنا ظهر هؤلاء الصوفية ليسدُّوا ذلك الفراغ ، الذي لم يستطع أن يشغله المتكلمون ولا أن يملأه الفقهاء ، وصار لدى كثير من الناس جوع روحيّ، فلم يشبع هذا الجوع إلا الصوفية الذين عنوا بتطهير الباطن قبل الظاهر ، وبعلاج أمراض النفوس ، وإعطاء الأولوية لأعمال القلوب ، وشغلوا أنفسهم بالتربية الروحية والأخلاقية ، وصرفوا إليها جُلَّ تفكيرهم واهتمامهم ونشاطهم . قال ابن خلدون في مقدمته : " وهذا العلم ـ يعني التصوف ـ من العلوم الشرعية الحادثة في الملَّة ؛ وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة ، والانقطاع إلى الله تعالى ، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها ، والزهد في ما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق، والخلوة للعبادة ، وكان ذلك عامًّا في الصحابة والسلف ؛ فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده ، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية " " 5 " .
فلم يظهر هذا المصطلح في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا صحابته الأبرار ، إنما ظهر في أواخر عهد التابعين ، والسبب في ذلك أنه لم يكن هناك حاجة لظهور من يدعو إلى تلك المعاني التي حمل لواءها الصوفية فيما بعد ؛ لأن أهل هذا العصر ـ عصر الصحابة ـ كانوا أهل تقوى وورع ، وأرباب مجاهدة وإقبال على العبادة بطبيعة حالهم ، وبحكم قرب اتصالهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كانوا يتسابقون ويتبارون في الاقتداء به في أحواله كلها ؛ ولم يكن ثمة ما يدعو تلقينهم علماً يرشدهم في أمرٍ هم قائمون به فعلا ، ومثلهم في ذلك مثل العربي القُح ؛ فإنه لا يحتاج إلى دراسة علوم النحو والبلاغة وغيرها من العلوم اللغوية ، وإنما يحتاجها من فشا اللحن في لسانه وضعف ذوقه في التعبير .
والمتتبع لمنشأ العلوم الإسلامية عامة يجد كل علم قد أحاطت به ظروف ، دفعت الغيورين عليه لتأصيله وتدوينه ووضع الضوابط التي تضمن عدم انحرافه ، وبقاءه في الأمة ، ليحفظ من الضياع والاختلاط ، وكل علم يصلح أن يكون مثالاً واضحاً لهذا الزعم الذي أقوله ، وهو أمر مسلم به عند أهل العلم .(/2)
لذلك تم تأصيل علم التصوف وأطلق عليه هذا الاسم الذي لم يكون موجودا من قبل ، ولكن عندما اتسعت رقعة الإسلام ، ودخل في الإسلام أمم شتى كانت تعيش في الباطل ، واختلطت تلك الأمم بالمسلمين ، تأثر المسلمون بذلك وضعف عندهم هذا الجانب ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى تأثر المسلمون بما جلبت لهم تلك الفتوحات الإسلامية من غنائم وخيرات ، زُينت لهم الحياة الدنيا ، فضعف الجانب الإيماني ، وضعفت المعالجات القلبية لدى الناس ، وأصبحت هذه المسائل سلعة غير رائجة ، بل وبضاعة مزجاة عند كثير من المسلمين وقتها ، والتي كانت عند أسلافهم تمثل رأس مالهم ، وذروة عيشهم ... عند ذلك كله انبرى من ينادي بتلك المعاني من جديد ؛ تذكيراً للناس ، وتعليماً للجاهل منهم ، وتحذيراً من زخرف الحياة الدنيا ، ضاربين من أنفسهم الأمثلة العملية في ذلك ، وقدوة حسنة للتحقق بتلك المعاني الربانية .
· فهي منهج ومسلك تربوي يركز على أعمال القلوب والعبادات والقربات إلى الله تعالى عز وجل ، لينجو المسلم من كل الآفات قدر الإمكان ؛ فطهارة النفس ، ونقاء القلب ، والمواظبة على العمل ، والالتزام والإلزام به ، والإعراض عن الخلق بقلة الخلطة ، وكثرة الصمت وضبط اللسان وعفته ، والإكثار من الذكر وقراءة القرآن وأنواع العلوم ، والحب في الله ، والارتباط على الخير ، وأخذ العهود في ذلك ... الخ ، ليحصل المسلم ويصل إلى مقام الإحسان ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) " 6 " هذه هي المعاني التي يركز عليها التصوف النقي كمسلك تربوي . ومما لا شك فيه ـ عند المنصفين ـ أن الصوفية قد بلغوا مرتبة عالية في علاج النفوس ودوائها ، وطبها والرقي بها ، بلغوا مبلغًا لم يصله غيرهم من المربين ، ومن طالع كلام أعلامهم المشهود لهم من أهل العلم بالتوثيق والعدالة ، وأذاق نفسه مجانبة الهوى ، وتجرد وأقبل على كلامهم بمكيال الكتاب والسنة ، وجد دقة كلامهم على النفس وغوائرها ، وانشرح صدره وإيمانه لقبول أقوالهم وطريقتهم في التربية . على أننا لا ننكر وجود من خلّط وانحرف وبالغ للحد الذي يجعله يقع في بدع كبار ، إن لم نقل كفرا صريحا ، لكنني أهمل هؤلاء المنحرفين ، لوضوح شذوذهم ، ولأن الجانب المظلم في الصوفية بات مضيئاً في عقول الكثيرين من طلاب العلم اليوم وشباب الصحوة الإسلامية ، بالرغم من أن أحادية النظرة خلل في التفكير ، وهذه الأحادية آفة واضحة اليوم في الكثير من الشباب المتحمس المنتسب للسلف ، بل ولدى بعض الدعاة أيضا ! .
لنأخذ جولة في كلام أهل التصوف الطاهر أول الأمر ، ومن قادة هذا الفن :
· قال الإمام الجنيد " 7 " : ( التصوف استعمال كل خُلق سني ، وترك كل خلق دني ) " 8 ".
· وقال : ( طريقنا هذا ـ أي التصوف ـ مضبوط بالكتاب والسنة ) " 9 "
· قال أحمد زروق " 10 " رحمه الله ( التصوف علم قصد لإصلاح القلوب ، وإفرادها لله تعالى عما سواه. والفقه لإصلاح العمل ، وحفظ النظام ، وظهور الحكمة بالأحكام . والأصول "علم التوحيد " لتحقيق المقدمات بالبراهين ، وتحلية الإيمان بالإيقان ، كالطب لحفظ الأبدان ، وكالنحو لإصلاح اللسان إلى غير ذلك ) . " 11 "
· وقال : ( وقد حد التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ نحو ألفي مرجع.. كلها لصدق التوجه إلى الله تعالى ، وإنما هي وجوه فيه ) " 12 " .
· وقال الإمام السهروردي : ( الصوفي : هو الذي يكون دائم التصفية ولا يزال يصفي الأوقات من شوائب الأكدار بتصفية القلب عن شوائب النفس ، ويعينه على كل هذه التصفية دوام افتقاره إلى مولاه ، فبدوام الافتقار يُنَقَى من الكدر ، وكلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته النافذة وفر منها لربه ... وهذه القوامية لله على النفس هي التحقق بالتصوف ) " 13 " .
· قال أبو الحسن الشاذلي : ( التصوف : تدريب النفس على العبودية ، وردها لأحكام الربوبية ) " 14 " .
· قال سهل بن عبد الله التستري : ( الصوفي من صفا من الكدر ، وامتلأ من الفكر ، وانقطع إلى الله من البشر ، واستوى عنده الذهب والمدر ) " 15 " .
من هذه الأقوال يتضح لنا أن التصوف في أصله صحيح مقبول موافق للكتاب والسنة ، ولذلك قال ابن تيمية : ( وَأَمَّا أَئِمَّةُ الصُّوفِيَّةِ وَالْمَشَايِخُ الْمَشْهُورُونَ مِنْ الْقُدَمَاءِ :
مِثْلُ الجنيد بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَتْبَاعِهِ وَمِثْلُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَأَمْثَالِهِ فَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ لُزُومًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَتَوْصِيَةً باتباع ذَلِكَ ) " 16 "
و من خلال ما ذكر آنفا نخلص إلى عدة نقاط :
· العبرة بالمسميات لا بالأسماء .
· يجب أن نزن الأمور بالعدل والإنصاف .
· لا نغفل عن الوقت التاريخي لظهور التصوف والظروف المحيطة بذلك .
· حقيقة التصوف مسلك تربوي عبادي يعنى بتربية النفس .
· لا نبخسهم دورهم وحقهم وعلمهم .(/3)
· كلام أئمة التصوف الأولين كله موافق لشرع الله ، وهم أئمة في دين الله .
· وهؤلاء الأئمة أول الناس رفضاً ومحاربة لكل مخالفة شرعية .
ما بعد هذه المقدمات المهمة :
1. توسع التصوف وراج أمره ، ودخل فيه الناس ، بحسب أحوالهم وأهوائهم وعلمهم ، فكان منهم الغث والسمين ، الصالح وغير ذلك ، وبدأ الانحراف يدب فيه ، بدرجات مختلفة ، فمع مرور الزمن حدث التساهل ، وحدث معه الانحراف ؛ سواء على مستوى الاعتقاد ، أو مستوى السلوك ، وهذا الانحراف له أسبابه الكثيرة ، ومنها :
· عدم تحلي بعض المشايخ في الطرق الصوفية بالعلم الشرعي ، الذي يعصم السير من الزلل والانحراف والابتداع في الدين ، خلافا لسابقيهم من أعلام التصوف الذين يشهد لهم بالعلم والتقوى معاً .
· اعتقاد بعض المتصوفة في مشايخهم اعتقادات منحرفة عن نظرة الإسلام للرجال ، وصل في كثير من أحيانه إلى حد التقديس والقول بالعصمة ، وأن الشيخ له علاقة خاصة بربه ، وأشياء أخرى من الخرافات كأن يقال بأن المدد يأتيهم من السماء ، واتسعت هذه الدائرة لينشأ عنها التفاخر بين الأتباع كل بشيخه وما يحدث له من خوارق العادات أو الكرامات .
· التباس الرؤية عند بعضهم في النظرة إلى كرامات المشايخ ، وعدم تَمييزهم بين الكرامة وتلبيسات الشيطان ، وهذا ما دفع ابن تيمية لكتابة كتابه ( الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ) فقد كان عصره يعج بأمثال هؤلاء المنحرفين ، فكان جواباً وافياً لهم وعليهم .
· دخول أصحاب الأهواء في التصوف ووصولهم إلى مراكز التأثير في الطرق الصوفية ، والانحراف بها ، وفقا لأهوائهم وتحقيقا لأغراضهم ومكاسبهم الذاتية .
· تأثر بعض الطرق الصوفية بالداخلين الجدد في الإسلام من الأمم الأخرى ، مثل الفرس والهند والروم ، والذين لم يخلص انتسابهم لدين الله ، فدخلوا هذه الطرق بما عندهم من خرافات وكفريات أذاعوها بين الصفوف فضلوا وأضلوا .
· ومنها ، أن هذا الطريق ـ طريق الاهتمام بالجانب الروحي ـ يضفي شعوراً في النفس بالصفاء والطمأنينة ، لكن هذا الشعور إن لم يكن صاحبه محاطاً بتوفيق من الله أولاً وآخرا ، ويستشعر دائما أنه بغير ذلك لن يستقيم أمره ، ويكون على علم وبينة بضوابط الشرع الحكيم التي تنير وتؤصل له طريقه هذا ، فإن صاحبه أكثر من غيره عرضة لتلبيسات الشيطان ، لأنه يظنها حالة من حالات الكرامة والرضا من الله ، بينما هي ـ إن تعرت من الشرع ـ مدخل ومنزلق من مزالق الشيطان ، لذا كتب ابن الجوزي " 597 هـ " كلاماً طويلاً في تلبيس إبليس عن أولئك المتصوفة ، غير أنه بالغ ولم يكن موضوعياً ، وكلام ابن تيمية " 728 هـ " أجود منه .
2. ساهم المستشرقون في تشويه صورة التصوف ، زاعمين أن التصوف فكر عالمي ، فمنه التصوف البوذي ومنه الهندي والنصراني ، الأمر الذي يجعل النفرة كبيرة لدى بعض المنتسبين للسلف من مجرد اسم التصوف والصوفية ، بل أمست التسمية عند بعض الجهال نوعاً من المسبة والتعيير .
3. تنوعت الطرق الصوفية وتعددت الاجتهادات ، واختلط الحابل بالنابل كما يقولون ، وأمسى التفريق صعباً على طلاب العلم في بدء سيرهم العلمي ، وبات التعامل معهم على ثلاثة أحوال :
الأول : الاعتقاد أنهم على الصواب وأنهم على وراثة النبوة ، وأنهم أفضل الخلق .
الثاني : الاعتقاد أنهم على ضلالة وانحراف ، ويجب محاربتهم وفضح عوارهم ، ونبذ كل شيء منهم ، وفي بعض الأحيان إخراج كل التصوف عن أهل السنة والجماعة .
الثالث : الاعتدال في الحكم ، ومجانبة التعميم ، وأخذ أحسن ما عندهم ، ورد ما فيهم من مخالفات .
والحق فيهم هو المذهب الثالث ، قال ابن تيمية : ( والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله ، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ، ففيهم السابق المقرب بحسن اجتهاده ، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين ، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب ، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه ، عاص لربه ) . " 17 "
وقال ابن القيم في مدارج السالكين عما يقع من شطحات وانحرافات لدى بعض المتصوفة ، قال رحمه الله : ( هذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس:
إحداهما: حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة ، ولطف نفوسهم ، وصدق معاملتهم ، فأهدروها لأجل هذه الشطحات ، وأنكروها غاية الإنكار ، وأساءوا الظن بهم مطلقا ، وهذا عدوان وإسراف ، فلو كان كل من أخطأ أو غلط : ترك جملة ، وأهدرت محاسنه ، لفسدت العلوم والصناعات ، والحكم ، وتعطلت معالمها .
والطائفة الثانية : حجبوا بما رأوه من محاسن القوم ، وصفاء قلوبهم ونقصانها ، فسحبوا عليها ذيل المحاسن ، وأجروا عليها حكم القبول والانتصار لها ، واستظهروا بها في سلوكهم . وهؤلاء أيضًا معتدون مفرطون.(/4)
والطائفة الثالثة : وهم أهل العدل والإنصاف ، الذين أعطوا كل ذي حق حقه ، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته ، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول ، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح ، بل قبلوا ما يقبل، وردوا ما يرد ) . وقال : ( البصير الصادق يضرب في كل غنيمة بسهم ويعاشر كل طائفة على أحسن ما معها ) " 18 "
فقد عد الإمام ابن القيم كلا طرفي النظر للمتصوفة من المعتدين المفرطين ، وأخذ المنهج الوسط ، وكان منهجه الوسطي هذا وافياً في كتابه مدارج السالكين ، الذي هو شرح لكتاب " منازل السائرين " لشيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي الحنبلي الصوفي المتوفى سنة 481 هـ ، حتى أن الإمام ابن القيم رحمه الله أمسى في الكتاب مرددا لعبارات هي معروفة عن الصوفية ، أمسى يكررها لأن معناها صحيح غير مخالف للشرع ، كمثل لفظ المريد والسير إلى الله ونحوها ، ويجد ذلك واضحاً من درس الكتاب .
4. لقد كان للفكر الصوفي المنحرف أثراً سيئاً في الأمة في جوانب حياتها ، كما كان له الأثر الطيب كما ذكرنا ، ومن أبرز جوانب الانحراف التي أثرت في الأمة في الفكر الصوفي :
· مقالة بعضهم في القضاء والقدر ، وأن الإنسان مسير في قدر الله ، وعليه أن يستسلم ويرضى بما يجري من أمور ، ولا يتحرك مع هذا القدر بقدر آخر ، هو يسعى له بمشيئة الله تعالى .
· ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهي نقطة متولدة من النقطة الأولى ، وأصاب التبلد الأمة ، وخارت النفوس ، وترك الجهاد ، وساد الاهتمام بالذات على حساب مصالح الأمة ، ودفع الصائل عنها ، حتى أمست الشعوب اليوم راضية بكل ما يصيبها من جلاديها ، قانعة بقضاء الله وقدره !!
· الاعتماد على الخرافة والقصص والكرامات ، بدلاً من الاعتماد على الإنجاز والتحرك والعمل المثمر وفق شرع الله ، وسادت عادات سيئة تواكلية كثيرة في الشعوب جراء هذا التخلف .
وهذه الأمور الثلاثة قد تأثرت بها الشعوب نتيجة الفكر الصوفي ـ المنحرف ـ ولم تكن موجودة في صفاء التصوف ، ولا لدى قادته الكبار .
فالموضوعية تقتضي منا أن نتعامل بالعدل والإنصاف ، وأن نأخذ الصواب والحق منهم ، ونرد مالهم من شطحات وانحرافات ، لا أن نبالغ ونرفض كل شيء ، وخاصة في هذا الوقت ؛ حيث يروج بأن التصوف كله انحراف ، وكله منبوذ ، وكله يجب محاربته ، وهذا غلو واعتداء وبغي بغير حق ولا علم ، وليس هو منهج السلف رضوان الله عليهم ، إنما منهج جديد يدعي الانتساب للسلف !
إن لفكرة التصوف في الجانب التربوي أثراً لا يُنْكِرُه إلا قليل علم أو مكابر .. ولم يزل علماء الأمة ينتسبون إلى التصوف بكل أريحية ، ولا يجدون في ذلك غضاضة أبدا ، لأن التصوف كما قلت مسلك تربوي في سلوك العبد مع الله تعالى ، وكان التصوف في أول أمره على الجادة ؛ ثم اختلط !! وينبغي أن نتعامل معه بالعدل والإنصاف ، لا بالتعدي والإجحاف ، مستفيدين من تراثهم التربوي الكبير، غير مبررين لانحرافات حدثت لهم ، ولا نتأولها قطعاً لهذه الشطحات .
وكمثال على هذا التعامل المنصف ، أورد كلام الشيخ أبي الحسن الندوي في بيان أمر كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي رحمه الله ، وهو من علماء التصوف ، قال الندوي رحمه الله : ( وعلى ما تعقب على الغزالي في الإحياء من إيراد أحاديث ضعيفة ، بل موضوعة في كثير من الأحيان ، وأشياء من كلام الصوفية الممعنة في الغلو وهضم النفس وترك المباحات ، وقد لا تتفق مع أصول الدين ، ومع ما ورد فيه من مواد كلام الفلاسفة ، إلى غير ذلك من مآخذ تعقبها العلامة الحافظ ابن الجوزي ، وشيخ الإسلام ابن تيمية، مع اعترافهما بفضل الكتاب ، فإن كتاب الإحياء في مقدمة الكتب الإسلامية التي انتفع بها خلائق لا تحصى في كل عصر وجيل ، وأثرت في النفوس تأثيرًا لا يعرف إلا عن كتب معدودة ، ولا يزال الكتاب الذي يكثر قراؤه والمعجبون به والمتأثرون به في أكثر البلاد ، لا يزال ثروة زاخرة في الدين ، ومصدرًا قويًا من مصادر الإصلاح والتربية ) " 19 " .
وقال الإمام الذهبي عن الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله : ( الشيخ الإمام العالم الزاهد العارف القدوة ، شيخ الإسلام ، علم الأولياء ) " 20 " كان الشيخ الجيلاني ( يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر للخلفاء والسلاطين والقضاة والخاصة والعامة ، يصدعهم بذلك على رؤوس الأشهاد ، وفوق المنابر وفي المحافل ، يُنكِر على من يولي الظلمة ، ولا تأخذه في الله لومة لائم ) " 21 " . ولنتأمل حال الشيخ من التصوف والدعوة والجهاد ، ولنر اليوم الطريقة الجيلانية وكيف سيرها ومدى التزامها بشرع الله ! .(/5)
ومن الحركات الصوفية التي كانت على الجادة في منهجها وفي رجالاتها " الحركة السنوسية " في ليبيا ، التي كان لها الدور الكبير في نشر الإسلام في أصقاع أفريقيا ، وفي محاربة الاستعمار والتصدي له ، ضاربة بذلك المثل العالي للتصوف العملي الصافي من كل كدر ، المجاهد في سبيل الله تعالى ، ومن أبرز أعلام الحركة ( الإمام محمد بن علي السنوسي ) والإمام ( أحمد الشريف ) الذي رشح للخلافة ، ومن أبرز رجالاتها الشيخ عمر المختار أسد الصحراء وشيخ المجاهدين ، الذي تربى منذ صغره في الحركة السنوسية ، وهاجر لأفريقيا داعية فيها للإسلام ، ونشره بين أهلها ، وكان حافظاً للقرآن معلماً له ، ثم أمسى قائد الجهاد في ليبيا ضد الطليان ، ضارباً بذلك المثل العالي لكل رجالات الدنيا في حسن السلوك والعمل والعلم والدعوة ، برغم كبر سنه رحمه الله.
ذكر الدكتور الحبيب علي الصلابي قصة لطيفة عن عمر المختار فقال حفظه الله : ( استأذن ـ أي عمر المختار ـ في الدخول على الإمام محمد المهدي من حاجبه محمد حسن البسكري في موقع بشر السارة الواقع في الطريق الصحراوي بين الكفرة والسودان ، وعندما دخل على المهدي تناول مصحفاً كان بجانبه وناوله للمختار وقال : هل لك شيء آخر تريده ، فقلت يا سيدي إن الكثيرين من الإخوان يقرءون أوراداً معينة من الأدعية والتضرعات أجزتموهم قراءتها وأنا لا أقرأ إلا الأوراد الخفيفة عقب الصلوات فأطلب منكم إجازتي بما ترون ، فأجابني بقوله { يا عمر وردك القرآن } فقبلت يده وخرجت أحمل الهدية العظيمة " المصحف " ولم أزل بفضل الله أحتفظ بها في حلي وترحالي ولم يفارقني مصحف سيدي منذ ذلك اليوم وصرت مداوماً على القراءة فيه يومياً لأختم السلكة كل أسبوع ). " 22 "
فهذه الأمثلة من التوازن في التعامل ؛ قصدت منها فقه التوازن مع تراث الصوفية.. ذكرت مثالاً فيه كتاب الإحياء للإمام الغزالي ، وفقه الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال الإمام الجيلاني ، وفقه الدعوة والجهاد من خلال عمر المختار ، وكلهم من الصوفية .
وقد كتبت أصول هذه الكلمات في بحث صغير قبل عشر سنوات ، وأضفت لها هذه الأيام وقدمت وأخرت ، وأسأل الله أن يمن علينا بالعلم النافع والعمل الصالح ، ويرزقنا جهادا في سبيله وشهادة نلقاه بها مخلصين له الدين .
===============
" 1 " رواه البخاري .
" 2 " مذكرات في منازل الصديقين والربانيين / 9 .
" 3 " فصول في التفكير الموضوعي لعبد الكريم بكار / 53 .
" 4 " الفتاوى 11/28-29 .
" 5 " مقدمة ابن خلدون /329
" 6 " جزء من حديث متفق عليه .
" 7 " من أعلام التصوف قال فيه ابن تيمية : ( كان الجنيد رضي الله عنه سيد الطائفة إمام هدى) . وكررها بعد، فقال: ( والجنيد وأمثاله: أئمة هدى ) وقال : (كان الجنيد رضي الله عنه سيد الطائفة، ومن أحسنهم تعليمًا وتأديبًا وتقويمًا) . ارجع في هذه التزكيات لمقدمة شيخنا الراشد في كتابه الأول " المنطلق " .
" 8 " حقائق الصوفية لعبد القادر عيسى /14 .
" 9 " معيد النعم ومبيد النقم لتاج الدين السبكي /94 .
" 10 " الشيخ أحمد زروق من علماء المغرب الأفذاذ ، وهو من أصل فاسي أقام في ليبيا ودفن فيها ، وقبره في مدينة مصراتة بليبيا ، وهو على الطريق المستقيم ، ومحارب للبدع وأهل التصوف المبتدعين ، وله كتاب اسمه " عدة المريد الصادق " والذي يعرف باسم آخر وهو " النهي عن الحوادث والبدع " وسبب تأليفه لهذا الكتاب هو الرد على المبتدعة من المتصوفة الذين شاهدهم ورأى افتتان الناس بهم حيث قام بحصر بدعهم وعرفها وبين فاسدها ؛ كما بين في كتابه التصوف الصحيح وبين قواعده وردها إلى الكتاب والسنة وسيرة الصوفيين الأوائل وبين أن الصوفي الحقيقي هو من يلتزم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويبتعد عن البدع واستشهد في ردوده بأقوال عدد من أهل التصوف أنفسهم، ومن بينهم الشيخ أبي القاسم النصر آبادي الذي قال: "أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع، وتعظيم المشائخ ورؤية أعذار الخلق والمداومة على الأوراد، وترك الرخص والتأويلات" كما استشهد بما أنشده أبي القاسم الجنيد في حال هؤلاء المدعين فقال:
"أهل التصوف قد مضوا صار التصوف مخرقة
صار التصوف ركْوة وسجادة ومزلقة
صار التصوف صيحة وتواجداً ومنطقة
كذبتك نفسك ليس ذي سنن الطريق المحلقة" .
راجع كتاب عدة المريد الصادق تحقيق د. الصادق الغرياني .
" 11 " قواعد التصوف لزروق /7 .
" 12 " قواعد التصوف/ 4 .
" 13 " التصوف والصوفية لعدنان حقي /17 .
" 14 " حقائق عن الصوفية / 14 .
" 15 " المرجع السابق .
" 16 " الفتاوى : 8/366 .
" 17 " الفتاوى : 11/18 .
" 18 " مدارج السالكين 2/370 .
" 19 " رجال الفكر والدعوة في الإسلامي لأبي الحسن الندوي : 1/198 .
" 20 " سير أعلام النبلاء 20/439 .
" 21 " رجال الفكر والدعوة في الإسلامي لأبي الحسن الندوي : 1/223 .(/6)
" 22 " الحركة السنوسية في ليبيا لعلي الصلابي : 3/110 .(/7)
الصيام والمفاهيم
ياسر الشهري 15/9/1425
29/10/2004
المراقبون لنهضة الأمة، والمجاهدون لتوجيهها الوجهة الصحيحة نحو الهدف والغاية، يدركون أكثر من غيرهم خطورة المفاهيم إن أصابها الخلط والاضطراب، ويدركون قوتها ومكانتها في فكر الأمة ونهضتها.
وجامعة رمضان التي تستهدف بناء الأمة بناء متكاملاً، والكشف عن قواها الكامنة، تنطلق في ذلك من مرتكز رئيس، هو تصحيح المفاهيم حتى تكون حركة الحياة مؤسّسة على أسس متينة تمكن من النهوض والسير بالأمة في طريق الرقي والتقدم المادي والسلوكي.
المفاهيم التي نتعلمها في جامعة رمضان متعددة وكثيرة، في مقدمتها أن كل فرد من أفراد الأمة "الصائمة" يكون على معرفة وإدراك بالغاية التي ينشدها المسلم من شهره ومن ثم حياته كلها، فيترتب على ذلك أن يقف الإنسان مع نفسه في حالة من المحاسبة والمراجعة قد تكون نتائجها عاجلة أو أجلة –إن مد الله في العمر- إلا أنها –كمنهج حياة للمسلم- وإن تأخر ظهور ثمارها تعد إيجابية بكل المقاييس، فالمسلم الذي يدرك حجم بعده عن المنهج الرباني -حتى وإن لم يستقم أمره- يتكون لديه مفهوم سيؤدي يومًا ما –بإذن الله- إلى وضوح في الرؤية والفكر، فتصح وجهته، وتتضح له معالم الطريق ويستقيم أمره.
وتكمن قوة الصيام على تصحيح المفاهيم في إذكاء جذوة الإيمان والتوحيد في نفس كل مسلم صائم، فالإخلاص لله هو أساس كل المفاهيم التي تُكوّن فكرنا ورؤيتنا للحياة والكون، ولا يمكن أن يتحقق الصيام بدون الإخلاص، الذي يعني الاقتناع الفكري والعاطفي، ويعني الرضا، والقبول، والاطمئنان، ومن ثم تتحول المفاهيم والأفكار إلى واقع سلوكي في الحياة.
الجميع داخل هذه الجامعة ينهل من المفاهيم والأفكار السديدة سواء شعر أم لم يشعر، وبقدر الاجتهاد يكون النصيب، أما أولئك الذين يعانون من اضطراب في المفاهيم، واختلاط في الفكر،-عافانا الله- فإنهم يقفون داخل جامعة رمضان مبهوتين أمام تلك الجموع القائمة، الداعية، المتصدقة، المتضرعة، في صور تبدد الاضطراب والتشتت، ووضوح يكشف التقصير والتناقض، وتمييز بين قوى الخير والشر، وكل نفس بعد ذلك بما كسبت رهينة.
هكذا هو رمضان، وسيأتي في كل عام لتصحيح المفاهيم التي شوّهها أعداء الإسلام، وترسيخ المفاهيم الإسلامية المغيبة، يتجلى فيه الصف الذي يجب أن نقف فيه، ونسد الثغر المُناط بنا فيه، ونحسن إلى من يقف معنا، ونستثمر كل قوى البشر ليقفوا معنا فيه.
اللهم بارك لنا في رمضان، وأعِدْه علينا أعواماً عديدة وأزمنة مديدة، إنك سميع مجيب.(/1)
الصيام وسيلة التقوى
د. محمد بن عبد الرحمن الجهني* 12/9/1425
26/10/2004
المقصود من مشروعيّة الصيام تحقيق التقوى، قال سبحانه: "... كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" [البقرة: من الآية183]، وليس الإمساك عن الطعام والشراب مقصودًا لذاته، ولكنه وسيلة إلى المقصود الذي هو التقوى.
لأن بالإمساك عن الطعام والشراب خفة البدن الذي تصفو به الروح فتتهيّأ للتقوى.
وقد تواردت الأدلة والآثار على الحث على الإقلال من الطعام والشراب وذم الإكثار من ذلك:
قال تعالى: "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا" [الأعراف: من الآية31].
وقال –صلى الله عليه وسلم-: "ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم لقُيْمات يُقِمن صُلبَه، فإن كان لابد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه". حديث صحيح من حديث المقدام بن معدي كرب، أخرجه النسائي والترمذي وابن ماجة من أصحاب السنن وأحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي.
وفي الإسرائيليات: أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السلام فرأى عليه معاليق من كل شيء. فقال يحيى: يا إبليس، ما هذه المعاليق التي أرى عليك؟ قال: هذه الشهوات التي أصيد بهن ابن آدم. قال: فهل لي فيها من شيء؟ قال: ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة وثقلناك عن الذكر، قال: فهل غير ذلك؟ قال: لا. قال: لله عليّ أن لا أملأ بطني من طعام أبدًا. قال إبليس: ولله عليّ أن لا أنصح مسلمًا أبدًا. (ذكره ابن الجوزي في تلبيس إبليس).
وقد اتفق العقلاء على ذم فضول الطعام؛ لما يؤدي إليه من ضعف العقل وفساد المروءة وقسوة القلب.
فظاهرٌ أن الإكثار من الطعام والشراب وثقل البدن به مانعٌ عظيمٌ من موانع حصول التقوى وإقبال الروح على طاعة الله واللّجوء إلى جنبه.
ولذا كان الإقلال منهما والاقتصار فيهما على ضرورة البدن من أعظم الوسائل إلى التقوى. ولهذا كان الأمر به دائمًا للعبد المؤمن.
ولما كان العبد-لطبعه البشري- تغلبه الشهوات حينًا والغفلة حينًا والجهل حينًا، ونحو ذلك مما يمنع التزامه بالإقلال من الطعام والشراب، فكان تركه وشأنه في ذلك مظنة لتركه الالتزام بما تتحقق به مصلحة روحه من التخفيف من الطعام والشراب إما على الدوام أو على الغالب فرض الله عليه الأخذ بهذه الوسيلة فرضًا واجبًا في موسم من مواسمه سبحانه المحبوبة إليه ليأطُره إلى مصلحته أطْرًا، وجعل فرضه على نحو بديع من التنظيم يخفّ به البدن حقًا، ويتهيأ تمام التهيّؤ لزاد التقوى.
ومن تمام حكمته سبحانه ورحمته بعباده أن جعل هذا الفرض لمدة محدودة: "...أَيَّاماً مَعْدُودَات... " [البقرة: من الآية184]، ثم استحبه مطلقًا وأكّد استحبابه في أيام معلومة كالاثنين والخميس والأيام البيض ونحو ذلك مما ورد شرعه سبحانه به.
فكان في صوم الفرض فرصة ثمينة أطَر عليها العبد للوقوف على جليل فائدة الصيام، ثم في صوم الاستحباب مُتّسع للاستزادة من هذه الفائدة والأخذ منها بنصيب أوفى. فإن لم يَزعْ مجرّد الاستحباب النفسَ إلى ذلك ففي تأكيد الاستحباب في مُدَد منظّمةٍ مرتبةٍ وازعٌ أقوى.
ثم لمّا كان إقبال العبد على الاستزادة قد يجنح به إلى الغلوّ، فتنقلب الفائدة مضرة؛ كبح الله لجام تهوّره ففرض عليه حُرمة الوصال مطلقًا، وحرّم عليه الصوم في العيدين وأيام التشريق، وكره منه صيام أيام الدهر كلها وقيّد له أفضل الصوم وأتمه بصيام يوم وإفطار يوم.
لأنّ في الوصال وفي تتابع الصوم الدهر كله إضعاف البدن إضعافًا يمتنع معه على الروح الأخذ بالتقوى، لأن شدة ضعف البدن ينهكها ويذهب بأصل حياتها التي بها آلة نشاطها.
فكان الإكثار من الطعام وترك الصوم قاتلاً الروح –كما الماء الغزير الكثير يقتل الزرع- وكان ترك الطعام أو الأخذ منه دون البُلغة قاتلاً الروح أيضًا -كالجفاف أو ندرة الماء تقتل الزرع- ففي كليهما هلاك الروح وفي الوسط بينهما حياتها. ولقد قيل: "كل فضيلة محاطة برذيلتين الإفراط فيها والتفريط فيها".
فظاهر أن مقصود الصيام ليس ترك الطعام والشراب بل الوصول إلى التقوى والاستواء على كرسيها.
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصائم أن يقول لمن شاتمه: "إني صائم". فلو كان مقصود الصيام مجرد الإمساك عن الطعام والشراب لما كان في هذا بمجرده ما يمنع من تحرك اللسان بالشتم والسب، ولكن المراد إني صائم صومًا يمنعني من التلوث بما يخدش التقوى، ولا يجامعها وهي مقصود الصيام، فهو احتجاج بترك الطعام والشراب على ثمرته وغايته، وكأنه يقول: أنا ما صمت إلاّ لترك السبّ والشتم، وكل ما كان من جنس نواقض التقوى فلن تجرّني إلى اقترافه، وإلا فما معنى صومي؟!(/1)
وفي البخاري من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" فهذا من مفردات نواقض التقوى ولذلك فلا حاجة للإمساك عن الطعام والشراب معه؛ لأنه وسيلة إلى التقوى فلا يجتمع ومناقضها.
وقد ورد في الحديث التصريح بكون الصوم وسيلة لا غاية؛ ففي الصحيحين من رواية النبي –صلى الله عليه وسلم- عن ربه أنه قال سبحانه: "الصوم جنة كجنة أحدكم" أي يحفظ بها ما وراءها ويتقي بها ما يضر ما تحفظه، تحفظ به الروح وتتقي به غوائلها. وقد ورد في بعض طرقه زيادة: "فلا يخدشها" والخدش يُطلق على أدنى الضرر وأكبره.
وقد جزم الله الأمر فقال: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي" إذًا فالصيام لله وترك الطعام أو الشهوة من أجله، وما لم يكن كذلك فليس بصيام. ولقد استقرّ هذا الفهم –كون المقصود بالصوم ترك ما يخدش التقوى لا ترك الطعام والشراب- في نفوس السلف، فكان من ثمرة استقرار هذا الفهم أن روي عن بعضهم أن الغيبة ونحوها تبطل الصوم ويلزم معها القضاء، حُكي عن الأوزاعي –رحمه الله-.
فليستقر هذا في فهم المسلم وتطبيقه وليقم في قلبه يستقبل به شهر الصوم ويمارس به شعائره حتى تمامه.
والحمد لله أولاً وآخرًا لا شريك له.
* عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية في المدينة النبو(/2)
الصيد الثمين في أحكام اليمين ...
الحمد لله المتوحد بالعظمة والجلال وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والآل .. . وبعد
فهذا مبحث لطيف فيما يتعلق بالحلف واليمين والقسم ، وذلك لأن الأيمان من شعائر الله التي بها يعظّم جل وتعالى . والتي أمر الله تعالى بتعظيمها حق التعظيم .
أولاً : الإقسام بالله وما يتعلّق به .
• معنى ( الحلف ) .
قال في اللسان :
حلف: الحِلْفُ والحَلِفُ: القَسَمُ لغتان، حَلَفَ أَي أَقْسَم يَحْلِفُ حَلْفاً وحِلْفاً وحَلِفاً ومَحْلُوفاً .
والحَلِفُ: اليمين وأَصلُها العَقْدُ بالعَزْمِ والنية .
ويسمى الحلف " يميناً " قال في القاموس :
واليَمينُ: القَسَمُ، مؤنَّثٌ لأَنَّهُمْ كانوا يَتَماسحونَ بأيْمانِهمْ، فيتحالفونَ .
- واليمين ( الحلف ) في الشرع : هو تأكيد الشيء بذكر معظّم بصيغة مخصوصة بالباء أو التاء أو الواو ( 1 )
أو : هي توكيد الأمر المحلوف عليه بذكر الله، أو اسم من أسمائه، أو صفة من صفاته على وجه مخصوص، وتسمى الحلف أو القسم. واليمين فيها معنى التعظيم للمحلوف به .
• حروف القسم .
حروف القسم ثلاثة :
الواو : والله . .
الباء : بالله . .
التاء : تالله . .
الفرق بين هذه الأحرف :
- الباء : هي أعمّ هذه الحروف لأنها تدخل على الظاهر والمضمر ، وعلى اسم الله وغيره ويذكر معها فعل القسم ويحذف . فيذكر نحو : " وأقسموا بالله جهد أيمانهم " .
ويحذف نحو قولك : بالله لأفعلن .
وتدخل على المضمر نحو قولك : الله عظيم أحلف به لأفعلن .
وتدخل على الظاهر كما في الآية .
وتدخل على غير لفظ الجلالة كقولك : بالسميع لأفعلنّ .
- الواو : لا يذكر معها فعل القسم ولا تدخل على الضمير ويحلف بها مع كل اسم .
- التاء : لا يُذكر معها فعل القسم ، وتختص بـ ( الله - رب ) فتقول : تالله ، تربّ ( 2 )
• أقسام الحالفين من جهة المقسم به .
لمّا كان اليمين فيه تعظيم وتشريف للمحلوف به انقسم المقسم به إلى قسمين من جهة الحالفين .
الأول : أن يكون المقسم هو الله .
فالله عز وجل له أن يقسم بـ :
- صفاته كما ورد في الحديث القدسي " وعزتي وجلالي " ( 3 )
- وله جل وتعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته .
في نحو : " والعصر . . والفجر . . والتين . . والليل . . والشمس . . "
- معنى القسم من الله .
القسم من الله ليس معناه طلب تصديق القارئ أو السامع .
إنما القسم من الله له معاني :
1- تعظيمه جل وتعالى ، لأن القسم بهذه المخلوقات تعظيمٌ لها ؛ ورفع شأنها متضمنٌ للثناء على الله بما تقتضيه من الدلالة على عظمته .
2 - توكيد جواب القسم .
3 - تعظيم المقسم به وتشريفه .
الثاني : أن يكون الحالف هو المخلوق .
والمخلوق لا يقسم إلا بالله جل وتعالى أو بأي اسم من أسمائه أو بصفة من صفاته ، ولا يجوز له أن يقسم بالمخلوق .
قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )). ( 4 )
- حكم الحلف بغير الله .
الحلف بغير الله له حالات :
1 - شرك أكبر : إن اعتقد الحالف أن المحلوف به مساوٍ لله تعالى في التعظيم .
2 - شرك أصغر : تعظيم المحلوف به من غير اعتقاد المساواة .
لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حلف بغير الله فقد أشرك )). ( 5 )
وقد حكى ابن تيمية رحمه الله إجماع الصحابة على ذلك ( 6 )
- شبهة :
جاء عند مسلم في كتاب الإيمان : باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " أفلح وأبيه إن صدق " . . فهل هذا قسم بالآباء وحلف بغير الله ؟
الجواب : عن هذا من وجوه :
1 - أن بعض العلماء أنكر هذه اللفظة وأنها لم تثبت فلا يصح نسبتها للرسول صلى الله عليه وسلم لمناقضتها صريح التوحيد .
2 - أن هذه اللفظة تصحيف من الرواة إذ الأصل : " أفلح والله إن صدق " وكانوا في السابق لا يشكلون الكلمات ؛ و " أبيه " تشبه " الله " إذا حذفت النقاط .
3 - أن هذا مما يجري على الألسنة بغير قصد .
4 - أنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم وهو من أبعد الناس عن الشرك فيكون من خصائصه لأن الناس لا يساوون النبي صلى الله عليه وسلم في إخلاص التوحيد .
5 - أن ذلك على حذف مضاف والتقدير : " أفلح ورب أبيه إن صدق " .
6 - أن هذا منسوخ ، لأن من عادة العرب أنها كانت تحلف بآبائها ، وأن هذا اليمين كان جارياً على ألسنتهم فتُركوا حتى استقر الإيمان في نفوسهم ثم نهوا عنه ؛ وكان هذا من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ينسخ ، قال ابن عثيمين رحمه الله : وهذا أقرب الوجوه . ( 7 )
- شبهة أخرى :(/1)
جاء عند البخاري في كتاب مواقيت الصلاة باب السمر مع الضيف من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ، وفي القصة : " ..فنظر إليها - أي زوجته أم رومان رضي الله عنها - أبو بكر فإذا هي - اي الصحفة - كما هي أو أكثر منها فقال لامرأته يا أخت بني فراس ما هذا قالت لا وقرة عيني لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات "
فهل قولها : " وقرة عيني " قسم بغير الله ؟!
أو ذلك قسم بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟!
الجواب عن هذا من وجوه :
1 - أن هذه اللفظة " وقرة عيني " هي من قول صحابية رضي الله عنها ، والأدلة الصحيحة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم قد دلّت على النهي عن ذلك ، ونحن متعبدون بالوحي . وربما كان هذا من أم رومان رضي الله عنها قبل النهي أو أنها كانت تجهل النهي .
2 - أن هذه اللفظة " وقرة عيني " لم يخرجها مسلم في صحيحه رحمه الله على أنه ساق القصة ولم يذكر هذه اللفظة .
3 - أنه في رواية المسند جاءت من غير حرف " الواو " ( قرة عيني ) على سبيل مداعبة الزوجة لزوجها بأطيب الكلام أو على سبيل الدعاء أو الخبر لا على سبيل القسم .
4 - قال ابن حجر : ( قرة العين يعبر بها عن المسرة ورؤية ما يحبه الإنسان ويوافقه , يقال ذلك لأن عينه قرت أي سكنت حركتها من التلفت لحصول غرضها فلا تستشرف لشيء آخر , فكأنه مأخوذ من القرار , وقيل : معناه أنام الله عينك وهو يرجع إلى هذا . . وإنما حلفت أم رومان بذلك لما وقع عندها من السرور بالكرامة التي حصلت لهم ببركة الصديق رضي الله عنه ) فلعل ذلك وقع منها لما حصل لها من شدة السرور ، كما أخطأ الرجل الذي قال : " اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح " !
5 - قال ابن حجر رحمه الله : ( وزعم الداودي أنها أرادت بقرة عينها النبي صلى الله عليه وسلم فأقسمت به , وفيه بُعد ) ( 8 )
6 - أن الواو هنا ليست واو القسم ، وغنما هي واو استئنافية على تقدير محذوف بعدها فيكون التقدير " لا وأنت قرة عيني " سيما أن سياق القصة صالحٌ لتقدير هذاالمحذوف . والله أعلم .
وعليه : فإنه ليس في الحديث دليل على جواز القسم بغير الله تعالى ولو كان المحلوف به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حجّة لمن زعم أن النبي مخصوص في جواز القسم به صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم قد قال للرجل الذي قال : ما شاء الله وشئت قال له : " أجعلتني لله ندّاً قل ما شاء الله وحده " .
وقد حكى ابن تيمية رحمه الله النزاع في هذا ، وبيّن أن الجمهور على حرمة القسم به صلى الله عليه وسلم ، وأن الخلاف في ذلك ضعيف ( 9 )
* كفارة الحلف بغير الله:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق )). ( 10 )
2- عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه حلف باللات والعزى، فقال له النبي صلى الله
عليه وسلم: ((قل لا إله إلا الله وحده ثلاثاً، واتفل عن شمالك ثلاثاً، وتعوذ بالله من الشيطان، ولا تعُد )). ( 11 )
• أجناس الحالفين من جهة انعقاد اليمين .
الناس في هذا إما مسلم أو كافر :
1 - فالمسلم له حالان :
- أن يكون مكرهاً . فلا تنعقد يمينه .
- أن يكون مختاراً قاصداً توفرت فيه شروط انعقاد اليمين فهذا تنعقد يمينه .
2 - أمّا الكافر : فإنه يقع يمينه . فإذا أسلم وفّى بما حلف ، لحديث عمر رضي الله عنه : كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة ، فقال له صلى الله عليه وسلم : " أوف بنذرك " . ( 12 )
• أقسام اليمين .
أقسام اليمين ثلاثة :
1- اليمين المنعقدة .
وهي : يمين على أمر مستقبل وهي تنعقد، وفيها الكفارة إن حنث.
2- اليمين الغموس .
وهي : يمين على أمر مضى كذباً ، وهي من أكبر الكبائر ، وسميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار ؛ ولا تنعقد ولا كفارة فيها وتجب المبادرة بالتوبة منها .
3- اليمين اللغو .
وهي على نوعين :
- قسم على أمر ماضٍ بغلبة الظن فبان خلافه .لا حنث فيه ولا كفارة .
- قسم مما يجري على اللسان حيث لا يقصد اليمين كقوله : لا والله .. لتأكلن والله . .
وهذه اليمين لا تنعقد، ولا كفارة فيها، ولا يؤاخذ بها الحالف، لقوله تعالى: "لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ " ( 13 )
• شروط انعقاد اليمين .
المقصود بانعقاد اليمين أي اليمين التي تُعظّم ويجب الوفاء بها وعدم الحنث فيها .
وهذه اليمن تنعقد على هذه الصورة إذا توفرت فيها خمسة شروط وهي :
- البلوغ .
- العقل .
- الحلف بالله .
- عدم الإكراه .
- القصد .
• شروط وجوب كفارة اليمين .
تجب كفارة اليمين بشروط أربع :
أن تكون يميناً منعقدة .
أن يكون القسم على أمر مستقبلي .
الحنث في القسم . بأن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله .
الاختيار وعدم الإكراه . ويمينه باقية .
الذكر . لأن الناسي معذور بنسيانه ، ويمينه باقية .(/2)
• كفارة اليمين .
يخير من لزمته كفارة يمين بين:
1- إطعام عشرة مساكين نصف صاع من قوت البلد .
2- كسوة عشرة مساكين ما يُجزئ في الصلاة.
3- عتق رقبة مؤمنة.
وهو مخير في هذه الثلاثة السابقة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام، ولا يجوز الصيام إلا عند العجز عن الثلاثة السابقة.
و يجوز تقديم الكفارة على الحنث، ويجوز تأخيرها عنه، فإن قدمها كانت محللة لليمين، وإن أخرها كانت مكفرة له.
قال الله تعالى في بيان كفارة اليمين: " لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ "
• إحكام الحنث في اليمين .
- سنة :
يسن الحنث في اليمين إذا كان خيراً، كمن حلف على فعل مكروه، أو ترك مندوب، فيفعل الذي هو خير ويكفر عن يمينه، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها، فليأتها، وليكفر عن يمينه )). ( 14 )
- واجب :
يجب نقض اليمين إذا حلف على ترك واجب كمن حلف لا يصل رحمه، أو حلف على فعل محرم كمن حلف ليشربن الخمر، فيجب نقض اليمين، ويكفر عنها.
- مباح :
ويباح نقض اليمين كما إذا حلف على فعل مباح، أو حلف على تركه، ويكفر عن يمينه.
- حرام :
نقض اليمين المنعقدة لغير سبب مباح .
ومن ذلك :
o من حرم على نفسه حلالاً سوى زوجته من طعام أو غيره لم يحرم عليه، وعليه إن فعله كفارة يمين، لقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ " ( 15 )
• من أدب اليمين .
1- حفظ اليمين ، وكل يمين لها ابتداء وانتهاء ووسط :
فحفظ اليمين ابتداءً بـ :
o عدم الإكثار من اليمين .
o أن يُحلف بالله وعدم الحلف بغيره .
o الحلف على مباح .
o أن يحلف صادقاً . والحدّ الأدني في هذا الحلف بغلبة الظن .
وحفظ اليمين وسطاً بـ :
o عدم الحنث فيها .
o أن لا يُجعل الله عرضة وحائلا أي حائلاً عن فعل البر . ونقض اليمين إذا تبيّن له أن غيرها أفضل منها ويكفّر ، لقول الله تعالى : " وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " ( 16 ) . أي : حائلا عن عمل البر .
و لحديث عبد الرحمن بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها ؛ فكفّر عن يمينك وائت الذي هو خير " ( 17 )
وحفظ اليمين انتهاءً بـ :
o الوفاء بها .
o الكفارة عند الحنث فيها .
2 - من حق المسلم على أخيه إبرار قسمه إذا أقسم عليه إذا لم يكن في معصية.
3 - الرضى بحلف الصادق لقوله صلى الله عليه وسلم : " من حلف بالله فليصدق ومن حُلف له بالله فليرض ، ومن بم يرض فليس من الله " ( 18 ) وشرط الرضا : أن يكون الحالف صادقاً ، ويعرف هذا بالحس والواقع .
• أحكام اليمين .
1- يمين واجبة: وهي التي ينقذ بها إنساناً معصوماً من هلكة.
2- مندوبة: كالحلف عند الإصلاح بين الناس. وفي الحرب وعلى الزوجة لحديث : " كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاثا : الرجل يكذب في الحرب، فإن الحرب خدعة، و الرجل يكذب المرأة فيرضيها، و الرجل يكذب بين الرجلين ليصلح بينهما " ( 19 )
3- مباحة: كالحلف على فعل مباح أو تركه، أو توكيد أمر ونحو ذلك.
4- مكروهة: كالحلف على فعل مكروه، أو ترك مندوب، والحلف في البيع والشراء.
5- محرمة: كمن حلف كاذباً متعمداً، أو حلف على فعل معصية أو ترك واجب.
• الاستثناء في الحلف :
إذا قال الحالف بعد حلفه : ( إن شاء الله ) فهو مخير : إن شاء مضى في يمينه وإن شاء ترك ( من حلف فاستثنى ) . ( 20 )
ويلزم أن يكون الاستثناء متصلا . إلا أن يكون فاصلا عارض كتثاؤب أو عطاس ..
• على أي شيء يقع اليمين ؟
o الأعمال بالنيات، فمن حلف على شيء وَوَرَّى بغيره فالعبرة بنيته لا بلفظه.
o اليمين تكون على نية المستحلف، فإذا حلَّفه القاضي في الدعوى أو غيرها، فيجب أن تكون على نية المحلف لا على نية الحالف، وإذا حلف بدون استحلاف فعلى نية الحالف.
ثانياً : الإقسام على الله . . أقسامه وحكمه .
• معناه :
أن تحلف على الله أن يفعل ، أو تحلف عليه أن لا يفعل .
• أقسامه .
القسم على الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : أن يقسم بما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم من نفي أو إثبات .
فهذا : لا بأس به .
مثال :(/3)
والله ليُشفعنّ الله نبيه في الخلق يوم القيامة .
والله لا يغفر الله لمن أشرك به .
الثاني : أن يقسم على ربه لقوة رجائه وحسن الظن بربه .
فهذا : جائز .
لحديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه " ( 21 )
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره " ( 22 )
الثالث : أن يكون الحامل له على الإقسام هو الإعجاب بالنفس وتحجّر فضل الله عز وجل وسوء الظن به تعالى .
فهذا : لا يجوز بل هو وشيك أن يحبط العمل .
لحديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال : رجل والله لا يغفر الله لفلان !! فقال الله عزوجل : من ذا الذي يتألّى عليّ أن لا أغفر لفلان ؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك " ( 23 )
ثالثاً : أحكام لها تعلق باليمين :
1 - الإيلاء :
• معناه :
هو : حلف الزوج على ترك وطء زوجته مطلقا أو مقيدا بأقل من أربعة أشهر أو أكثر.
• شروط الإيلاء .
o الحلف بالله .
o أن يحلف على ترك الوطء أكثر من أربعة أشهر أو مطلقاً.
o أن يحلف على ترك الوطء في الفرج .
o أن يكون المحلوف عليه امرأته . فمن آلى من أجنبية لا يقع ولا من جاريته .
• أحكام في الإيلاء .
o يصح الإيلاء من كل مسلمة حرة أو كتابية .
o يصح الإيلاء من غير المدخول بها .
o يصح الإيلاء من المجنونة والصغيرة لكنه لا يطالب بالفيئة لأنهما ليسا من أهل المطالبة.
o لا يشترط في الإيلاء الغضب ولا قصد إضرار .
• ألفاظ الإيلاء :
o صريحة : مثل : لا آتيك لا أدخل عليك لا وطئتك ..
o غير صريحة يشترط فيها النية : مثل : لا اجتمع وإياك تحت سقف .
• الفرق بين الإيلاء والهجر .
الهجر : ليس له مدة . فطالما أن المرأة لم ترتدع فيجوز للزوج هجرها فوق أربعة اشهر
والإيلاء : محدود بمدة.
2 - النذر :
• معناه :
هو إلزام مكلف مختار نفسه لله تعالى شيئاً غير لازم بأصل الشرع بكل قول يدل عليه.
والنذر نوع من العبادة، لا يجوز صرفه لغير الله تعالى؛ لأنه يتضمن تعظيم المنذور له، والتقرب إليه بذلك .
قال الله تعالى في صفة الأبرار: " يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً " ( 24 ) وقوله : " وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ " ( 25 )
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه )). ( 26 )
فإن قيل : كيف يكون النذر عباده ويكون مكروهاً ؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال: ((إنه لا يرد شيئاً ولكنه يستخرج به من البخيل )). ( 27 )
الجواب :
أن النذر قسمان :
الأول : مطلق . وهو : أن يلزم الإنسان نفسه بعبادة ليس في مقابل شيء يحصل له ، كان يقول : نذرت أن أصلي لله ركعتين ، فهذا ليس بمكروه .
الثاني : مقيد . وهو الذي يلزم نفسه بطاعة في مقابل أمر يحصل له ، كأن يقول : إن شفي مريضي فلله عليّ نذر أن أتصدق بكذا ..
فهذا هو المكروه ، وهو مكروه من جهة الاعتقاد ، دلّ على ذلك التعليل : " إنما يستخرج من البخيل " إذ صاحبه يظن أنه لا تحصل له حاجته إلا بالنذر ، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : إن من ظن هذا الظن فإنه في اعتقاد محرم لأنه ظن أن الله لا يعطي إلاّ بمقابل ، وهذا من سوء الظن بالله .
• حكم النذر:
النذر مشروع في حق من يعلم من نفسه القدرة على الوفاء به، ومكروه في حق من يعلم من نفسه عدم القدرة على الوفاء به .
• شروط انعقاد النذر .
o الإسلام .
o البلوغ .
o الاختيار .
o العقل .
• أقسام النذر .
النذر على أقسام :
الأول : نذر الطاعة وله حالان :
1 - مطلق . فعلاً أو تركاً .
2 - مقيّد .
o نذر الطاعة يجب الوفاء به .
o من نذر فعل طاعة ثم عجز عن الوفاء بما نذر فعليه كفارة يمين.
o من نذر فعل طاعة ومات قبل فعلها فعلها عنه وليه. لحديث : أن امرأة من جهينة، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال : نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيتة؟. اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء." ( 28 )
o من نذر أن لايفعل شيئا ثم فعله فعليه كفارة يمين .
o من نذر أن يفعل مباحاً فهو مخير بين الوفاء أو الكفارة .
الثاني : النذر المكروه .
هو النذر المقيد بحصول شيء ما .
ومنه :
o نذر الطلاق ونحوه فيسن أن يكفر عن يمينه ولا يفعله.
o النذر في كل ما يشق على العبد من الأعمال والطاعات.
الثالث : نذر المعصية .
o كمن نذر أن يشرب خمراً أو يقطع رحماً ..
هذا النذر لا يصح، ويحرم الوفاء به، وعليه كفارة يمين، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين )). ( 29 )(/4)
o من خلط في نذره طاعة بمعصية لزمه فعل الطاعة، وترك المعصية.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مُرْهُ فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه )). ( 30 )
o حكم من نذر أن يصوم أياماً فوافق النحر أو الفطر:
عن زياد بن جبير قال: كنت مع ابن عُمر، فسأله رجل فقال: نذرت أن أصوم كل يوم ثلاثاء أو أربعاء ما عشت، فوافقت هذا اليوم يوم النحر، فقال: أمر الله بوفاء النذر، ونهينا أن نصوم يوم النحر، فأعاد عليه، فقال مثله، لا يزيد عليه. ( 31 )
• مصرف النذر:
مصرف نذر الطاعة على ما نواه به صاحبه في حدود الشريعة المطهرة، فإن نوى بالمنذور من لحم أو غيره الفقراء فلا يجوز أن يأكل منه.
وإن نوى بنذره أهل بيته، أو رفقته، أو أصحابه جاز له أن يأكل كواحد منهم.
وبعد : فإن من تعظيم الله تعالى يورث طهارة القلب والتقوى ، كما قال الله تعالى : " ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ " ( 32 )
وإن من تعظيم الله تعالى حق التعظيم أن يصرف له كل أمر لا ينبغي إلا له كالدعاء والحلف والنذر ، وأن يُغظّم الله تعالى في كل عبادة لا أن تتخذ على سبيل من الاستهانة وعدم التوقير .
جملة من الفوائد والأحكام ، جمعتها في هذا المبحث اللطيف أسأل الله القبول
وصلى الله على بي الله محمد بن عبد الله وعلى آله وأزواجه وذريته وأصحابه ومن تبعهم بإحسان ..
والحمد لله رب العالمين .
==================
( 1 ) القول المفيد على كتاب التوحيد 2 / 214
( 2 ) المرجع السابق .
( 3 ) البخاري رقم 7510 ومسلم رقم 193
( 4 ) أخرجه البخاري برقم (2679)، مسلم برقم (1646)، واللفظ له.
( 5 ) أخرجه أبو داود برقم (3251)، وهذا لفظه، صحيح سنن أبي داود رقم (2787). وأخرجه البخاري برقم (1535)، صحيح سنن الترمذي برقم (1241).
( 6 ) الفتاوى 1 / 204
( 7 ) انظر القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين رحمه الله 2 / 215
( 8 ) وما قبله : فتح الباري . كتاب المناقب : باب علامات النبوة .
( 9 ) الفتاوى 1 / 204
( 10 ) أخرجه البخاري برقم (4860)، واللفظ له، ومسلم برقم (1647).
( 11 ) أخرجه أحمد برقم (1622)، وهذا لفظه، وقال الأرنؤوط: سنده صحيح. وأخرجه ابن ماجه برقم (2097).
( 12 ) البخاري رقم 6697 ومسلم رقم 1656
( 13 ) سورة المائدة آية ( 89 ) .
( 14 ) أخرجه مسلم برقم (1650).
( 15 ) سورة التحريم الآيات ( 1 ، 2 ) .
( 16 ) سورة البقرة آية ( 224 ) .
( 17 ) البخاري 4 / 214 ومسلم 3 / 1274
( 18 ) ابن ماجه 1 / 679 وحسنه الحافظ في الفتح 11 / 536
( 19 ) الحديث بهذا اللفظ فيه ضعف : ضعيف الجامع : 4215
( 20 ) صحيح أبي داود برقم 2795 وصحيح النسائي 3551
صحيح الجامع / 6206
( 21 ) البخاري 2 / 269 ومسلم 3 / 1302
( 22 ) أخرجه مسلم 4 / 2024
( 23 ) أخرجه مسلم 4 / 2023
( 24 ) سورة الإنسان آية رقم ( 7 ) .
( 25 ) سورة القرة آية رقم ( 270 ) .
( 26 ) أخرجه البخاري برقم (6696).
( 27 ) أخرجه البخاري برقم (6693)، واللفظ له، ومسلم برقم (1639).
( 28) البخاري برقم 1852
( 29) أخرجه أبو داود برقم (3290)، صحيح سنن أبي داود رقم (2816). وأخرجه الترمذي برقم (1524)، صحيح سنن الترمذي رقم (1231).
( 30) أخرجه البخاري برقم (6704).
( 31 ) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6706) واللفظ له، ومسلم برقم (1139).
( 32 ) سورة الحج آية رقم ( 32 ) .
أبو أحمد مهذب(/5)
الصيف وإنتاجية الفرد المسلم
الكاتب : تركي العبدلي ...
مع لهيب الصيف نجد أن الإنتاجية لدى الفرد تتناسب تناسبا عكسيا مع دراجة الحرارة ، فما إن تبدأ العطلة الصيفية إلا وتجد الفوضى تعم وقتنا وتهدر النفيس من أعمارنا بحجة الترفيه عن النفس ، ولو دققنا وتفحصنا ما نقوم به لوجدنا أننا نقوم ببيات صيفي لايمت للترفيه الإيجابي بصلة .
فالإسلام حريص كل الحرص على وقت المسلم ، ونبه على ذلك في مواضع كثيرة في الكتاب والسنة ، فينبغي علينا أن نحرص على إقامة السنة النبوية في أوقاتنا كما نطالب بها في مظاهرنا ، وللأسف أننا نجد كثيرا من الناس لا سيما المتدينين منهم حريصين على السنة الظاهرة والتي يتفاوت حكمها بين الوجوب والإستحباب ، كاللحية والإزار والسواك - ويشكرون على ذلك – لكن في الحقيقة تجدهم مفرطين في الهدي النبوي بالنسبة لرفع إنتاجيتهم الإيجابية بما يعود بالنفع عليهم وعلى مجتمعاتهم .
نصوص وآثار مهمة :
قال الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ )
ويقول أيضا ( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن خمس، وذكر منها: وعن عمره فيما أفناه ) ويقول عليه أفضل الصلاة والتسليم ( اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك وغناك قبل فقرك وحياتك قبل موتك ).
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ( اني لاكره ان ارى احدكم سبهللا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة ).
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى : ( ادركت اقواما كان احدهم اشح على وقته منه على درهمه ).
والنصوص في ذلك كثيرة ، لكن ينبغي علينا فقهها وفهمها فهما جيدا ، فلقد سمعت البعض يقول بأن هذه النصوص خاصة في العلم الشرعي والعبادات المنصوص عليها فحسب ولا أدري من أين أتى بهذا الحصر ! وهو في الحقيقة حجر على على سعة الإسلام وتضييق لأفقه .
لاشك أن هذه الآثار والأحاديث تشمل العلم الشرعي كما أنها تشمل العبادات المنصوص عليه وتشمل أيضا كل عمل صالح يؤجر عليه العبد إن نوى به طاعة ربه ونفع المسلمين به .
طرق الإستفادة من الإجازة الصيفية :
الناس مذاهب ولكل ميوله ومشربه ، وأفضل ما أنفق العبد به وقته ما عاد عليه وعلى أمته بالخير والنفع ، لكن لا بد لنا من حسن توزيع الوقت حتى نستطيع الإستفاده منه على أكمل وجه ، وأنا لا ادعي أني بهذه المقالة أستطيع الإحاطة بذلك كله ، ولكنني أحاول لفت انتباه القارئ الكريم لتنوع الإستفادة من الوقت ، فكثير من الناس تجده يشتكي من الفراغ وعدم معرفته في كيفية الإستفادة منه .
أ- الاستفادة العبادية
هناك سنن كثيرة فرطنا بها أثناء إنشغالنا في أعمالنا قبل إجازة الصيف فنحاول إحيائها في وقت فراغنا ومثل ذلك :
- صلاة الضحى ولو ركعتين في اليوم .
- قيام الليل ولو بركعتين بعد صلاة العشاء مباشرة ثم نبدأ بالفصل بينهما ودفع وقتهما رويد رويدا للثلث الأخير من الليل .
مراجعة حفظ القرآن الكريم على هذا النحو :
- تقوم بفتح المصحف الكريم وتسجيل السور والآيات التي ترغب بمراجعتهاومن ثم تقسمها أجزاء بحيث أن يكون نصيب كل اسبوع 14 صفحة ثم تعمل جدولا توزعه حسب الكيفية التي تتلاءم مع طبعك بحيث يكون هناك جدولا لكل اسبوع وأنا أفضل أن تراجع كل يوم صفحتين إحداهن في الصباح والأخرى بعد صلاة العشاء، وتقيم ليلتك بهن .
ب- الاستفادة العلمية
قراءة كتاب وطريقته كالتالي :
تحدد أولا كم صفحة تستطيع أن تقرأها في اليوم فمثلا تقول أستطيع أن أقرأ 20 صفحة فسأقول لك حسنا أنت تستطيع أن تنجز خلال شهر قراءة 600 صفحة أي ما يقارب مجلدين من الحجم المتوسط ، وعلى كل تستطيع على ضوء هذه الكمية تحديد ما ستقرأه من كتب حسب الأولوية ، فإن مما يثبط الهمم أن يقرر الفرد أن يقرأ المجلد الفلاني خلال شهر فيفاجأ بأن الشهر إنقضى ولم يكمله فذلك لسببين الأول لعدم إنضباطه بالوقت أو بالكَمِّ فليتنبه .
ج - تعلم مهارة فنية :
كثير من الدورات تعقد في بلادنا لاسيما البلاد الخليجية فلِمَ لانبادر بالتسجل فيها فمثلا نتعلم صيانة كمبيوتر أو تصميم صفحات إنترنت أو تعلم لغة أجنبية أو نتعلم لغتنا العربية ! أو نتعلم مهارة فن الإلقاء أو فن كتابة البحث والتقرير ...الخ من الدورات الكثيره والتي تعود بالنفع علينا من حيث تطوير الذات أو تعود بالنفع على أمتنا كمساعدة الآخرين في تجاوز عقبات الحياة .
د - الإستفادة الإجتماعية :
وضع خطة لصلة الرحم وهي كالتالي :
أن نأتي بورقة وقلم ونسجل فيها أسماء أرحامنا وأرقام هواتفهم ونفرزهم من حيث الإتصال بهم فمنهم من ننسق معه زيارة ومنهم من يكفيه اتصال هاتفي لبعد المسافة مثلا ومنهم من نتواصل معه بالرسائل الهاتفية .
نعقد جلسة أسبوعية عائلية قصيرة نقرأ صفحات من كتاب - وأرشح كتاب رياض الصالحين – حتى نساهم في اصلاح بيوتنا من الداخل .(/1)
وعلى كل أبواب الخير كثيرة وما ذكرته ما هو إلا حفنة تِبْر من جبال الذهب ، وبقي أن أقول لكم أن المؤمن كيس فطن حريص على ما ينفعه، فلا تكن أخي القارئ سلبيا مع نفسك ومع الآخرين ، فالمؤمن القوي المتسلح بسلاح العلم والعمل والمعرفة خير من المؤمن الضعيف الخامل(/2)
الصّحوةُ تزعجُ مَنْ؟
د.سعيد بن ناصر الغامدي 6/11/1425
18/12/2004
كتب كثيرون عن الصّحوة كل بحسب قناعته ومشربه ونفسيته و مقدار علمه وإنصافه، وقسّم بعضهم مواقف أصحابها إلى أربعة أقسام، وبعضهم جعلهم في قسم واحد مدموغ بالدمغة العلمانيّة المشهورة، التي يطلقها أصحابها ضد الصّحوة تحت عنوان( من لم يمارس عنفه فقد نوى).
بيد أن من أظلم المواقف ضد الصّحوة تلك التي تصدر من طائفة كانوا يسكنون منازل "الدعوة"، ويُدرجون في حدائقها ذات البهجة، ثم لأمر مّا -فالله وحده أعلم
بالنيات- آثر أهل هذا القسم أن يتركوا هذه المنازل وأن ينضموا إلى (ثلة) استمرأت قذف الحجارة على نوافذ تلك المنازل وأبوابها، وحرق أشجار تلك الحدائق وكسر أسوارها.
هذا القسم يستوطن –للأسف- غار النقمة وينطلق من منصّات الترصد، شعاره: (ما رأيت منك خيراً قط) حتى تحوّلت عند بعضهم فضائل التجديد والمراجعة والتصحيح إلى رذائل، وعبث أفراد يبحثون عن أماكنهم، ولو لم يحدث التطوير والمراجعة لقالوا جمود وتصحّر وتخشّب!!
وفات على هذا الصنف من الناس التأمل في دلالات آيات قرآنية كريمة في هذا المعنى منها قول الله تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار)[ص:28].
ومنها قوله سبحانه: (وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كَلّ على مولاه أينما يوجْهه لا يأتِ بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم)[النحل:76]. ولعله ليس من قبيل المصادفة أن ينتقل هؤلاء الناقمون من مربع أدنى، إلى منازلهم الأولى، إلى مربعات أخرى تأخذهم نحو الأبعد فالأبعد ليتحول أحدهم إلى ممارسة هدم ما لم يحسن بناءَه وتلطيخ لوحةٍ لم يسهم في رسم روائعها حتى وصل الحال ببعضهم إلى الانتقال إلى العدوة القصوى، وببعضهم إلى وصف روّاد الدعوة والصحوة بالتصحر مع أنهم – في الجملة من غير ادّعاء عصمة لأحد - أهل خير وبرّ وصلاح وإصلاح ونفع ورشاد أمرعت بهم الصحاري وأينعت بأعمالهم المباركة القلوب والأفكار والأعمال، وأضاءت بهم حَوالِك.
وما الضياء اللامع على جبين هؤلاء إلا قبس من نور مشكاة الفضائل المتنامية في
جو الإيمان والأخوة الضافي فمن لم يحس بهذا ولم يره يُقال له:
دع عنك تعنيفي وذق طعم الهُدى ... ...
فإذا عشقت فبعد ذاك فعنّفِ
وما هو بعشق أهل البطالة ، لكنه عشق المكارم والمعالي، والقمم العوالي، والبذل الدقيق المتوالي كما قال الشاعر:
عشق المكارم فهو معتمد لها ... ...
والمكرمات قليلة العشاق
وأما من لم يكن بهذا الميدان، ولا بلغ مبالغ أهل هذا الشأن، ولاجرى مع فرسان هذا الميدان فهو حقيق بأن يُقال له: ما هذا بعشك يا حمامة فادرجي!!
وذلك أن المترصد المتجانف قد اختار العيش في سفوح الذات، وحفر النزعات ولم يجد سوى نشر التهم والمثالب والإشاعات، تاركاً الأعباء الكبيرة لأهل العزم.
في الناس من يحمل الأعباء محتسباً ... ...
فنفسه دائماً مخنوقة الذات
وفيهم المرتمي في حضن رغبته ... ...
فما يجيد سوى نشر الإشاعات
(مع الاعتذار للشاعر د0العشماوي لتحوير الشطر الأخير)0
و من لم يعرف الرشاد الذي تشيعه أعمال العلماء والدعاة وتربّى عليه فمن نفسه أُتِي.
قد تنكر العينُ ضوءَ الشمس من رَمَدٍ ... ...
وينكر الفمُ طعمَ الماءِ من سَقَمِ
وما بالشمس من عيب إذا عشيت عنها الأعين الرمد، وليس بالعذب الزلال من كدر إذا لم يجد الفم المريض طعمه، لكن ضعيف البصر، وأعشى النظر، ومريض الفم يرى الشمس محاطة بالقتر والغبار ويجد طعم الزلال مراً، ولا يضرّ ذلك شمس الضحى ولا زلال الماء؛ فالخلل من الناظر والشارب من داخله هو.
ما ضر شمس الضحى في الأفق طالعة ... ...
أن لا يرى ضوءها مَنْ ليس ذا بصر
ومن يكُ ذا فمٍ مرٍ مريضٍ ... ...
يجدْ مراً به الماءَ الزلا لا
وهذا القول من الإنصاف الواجب، ولا نزكي أحداً على الله، ولا ندّعي العصمة لأحد، ولكنها شهادة الواقع ومخاوف الأعداء تؤكّد ما نقول، وقبل ذلك كله دلالة الشرع الكريم على صحة أصل مسلك الدعاة، وصواب طريق مثقفي الإسلام وعلمائه، ذلك الطريق الذي جمع بين الربانية والشمول والتكامل والعالمية وفق رؤية معلومة تشيع الفقه، وتربي بالتعبّد، وتحث على التمسك بآداب السنة، وتتناول العمل الخيري، وتسهم في برامج عملية بديلة، كل ذلك يأتي ضمن إطار توازن وتدرج وبحكمة وموعظة حسنة، وفي جوّ من التآخي والتحابّ، في الجملة، مع وجود مكدّرات ونواقص وأخلاط، لا تقتضي طمْر المحاسن و الفضائل التي يعبق أريجها في كل أنف ذي شمم، تجعلنا نذكر بمناقب هؤلاء الأخيار من غير فخر ولا غرور، و من غير ادّعاء كمالٍ لهم، فإن غاب عن القاعد جمال هذه الصفات، وفات على الراقد إدلاج سراة الليل، وخفي على الأعشى حسن تلك المناقب، فليس ذلك بعيب في منهج دعوة وصحوة تترسم طريق الأنبياء وتحرص عليه، وإن حصل زلل هنا وخلل هناك، لكن العبرة بالغالب، فإن المعصية والبدعة(/1)
والمخالفة خبث (والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث)0
وأما المعادون والجالسون والمتهالكون في رغباتهم وذواتهم، والمُبْتلون بالتنقلات
الفكرية المتعاكسة، وبالعصرانيات الملتاثة، فلهم من الدعاة النصح والدعاء بالشفاء، ويا ليتهم يكفّون أقلامهم وألسنتهم، وينظرون بعين الإنصاف0
كما أن من الواجب على الدّعاة ألا تضيق صدورهم بنقد يوجّه لهم، فإنّ هذا أمر لازم لا يستنكر، وهو جيّد لتصحيح الطريق، لكن المستنكر تلك الخلفية المتوترة
وذلك النقد الشبيه بالتحريش، وإغفال المناقب والجمال والحسن البادي لكل ذي
بصيرة، كما يستنكر من هذه الفئة ما يمارسونه من اقتناص حين يجرّدون الأخطاء تجريداً عما صاحبها من الإصابة وقارنها من البذل0
إن العدل والنصح من أوجب الواجبات، وهذا يقتضي أن نرى بجانب السلبيات المنتقدة الإيجابيات اللامعة، فإن للصحوة والدعوة من خلال انتشارها في العالم كله - مناقب كثيرة - أقلها حفظ الشباب من الانحراف في المفاسد، وإمدادهم بالسكينة الإيمانية، والطمأنينة القلبية في عصر الاضطراب.
فمن مدارس وجامعات تعلم العلم، و صحف تدافع عن قضايا الأمة وترد على المخالفين، وكتب منهجية تعين الشباب على فهم الإسلام، و نضال لردّ عدوان اليهود والمستعمرين والشيوعيين والصليبيين، وسعي في إعانة الناس على ضرورات الحياة، وتوعية سياسيّة للأمة تقابل خطط الماسونيّة والصليبيّة، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وإشاعة للقرآن وتحفيظه وتعليم آدابه، وإنشاء للمكتبات والمساجد ،حتى إن بعض الدعاة قد تجاوزوا في ذلك بذل أموالهم وأوقاتهم إلى بذل أرواحهم ودمائهم؛ فنقش الرصاص صدورهم، ومزّقت الصواريخ أجسادهم، والتفت الحبال على أعناقهم، ولُفظت أنفاس كريمة تحت السياط في غرف التعذيب، هذه فعال لا تُنسى، وهذا تأريخ وحاضر مرئي مشاهد، ولكن بعض الناقدين يتجاوزون هذه الصور الفاضلة والمفاخر المشرفة لكل مسلم، ويأبون إلا التعسّف(/2)
الصّفقة الخاسرة
أ. د. عماد الدين خليل 15/3/1426
24/04/2005
تعود "قضية" المرأة في العقدين الأخيرين لكي تحتل موقعاً متقدماًً في ساحة الصراع الفكري، وتكون واحدة من أكثر المواضيع سخونة في العالم.
قبلها كان الغربيون هم الذين "يغزوننا" بأفكارهم ومعطياتهم وتقاليدهم بخصوص المرأة والأسرة، وكل المفردات المرتبطة بهذين القطبين الأساسيين في الحياة الاجتماعية .. كنا نستورد، وكانوا يصدرون .. وكانت تجارة رائدة أن يظهر في ديارنا مقاولون أو متعهدون كبار يمارسون مهمة الاستيراد هذا بحساب الجملة.. وكانت الصفقات تتم دون معاينة جادة للبضاعة، فكانت تحمل وهي تتدفق على موانئنا الكثير من المزيف والمغشوش الذي سرعان ما انتشر في أسواقنا، وملأها بالبضائع المدسوسة التي ضاعت في غبشها المرأة المسلمة، وتعرّضت الأسرة للاهتزاز والدمار بكل ما تنطوي عليه هذه المؤسسة من قيم تربوية تصنع مجد الأمم والشعوب، أو تقودها إلى البوار.
كانت المرأة والأسرة هناك في ديار الغرب تعانيان من ألف مشكلة ومشكلة فنُقلت إلينا كما لو كانت هي الحل، فكانت خسارتنا مضاعفة على كل المستويات وبكل المقاييس. استبدلنا الأعلى بالأدنى، بمعيار معكوس كان يصور للمتعاملين على أنه هو المقياس المطلوب والضروري في القرن العشرين.
وكانت تغذي المحاولة المعكوسة هذه، وتحرسها، وتمضي بها إلى نهاية الشوط شبكة من السماسرة في عالم الفكر والإعلام والاجتماع، قد يختصمون على كل شيء إلا في هذه.. وكانت الأصوات " المعارضة" التي ترتفع لكي تدين السمسرة الماكرة، تُكبت أو تُعزل، وأحياناً يغيب أصحابها بهذه الحجة أو تلك.
صوت الطهر والنظافة والاستقرار والأمن والتوحد كاد يضيع قبالة أصوات المهرجين الذين أريد لهم أن يدخلوا المضمار، وأن يحظوا بالفوز بأي ثمن.
كانوا يصدرون مشاكلهم عبر موانئ الفكر المفتوحة على مصراعيها، ومن خلال شبكة المستوردين والسماسرة، مخيّلين للمسلمين أن المرأة المسلمة هي التي تعاني من المشاكل والأزمات، وأن الأسرة المسلمة بحاجة إلى تعديل الوقفة الجانحة من أجل كرامة المرأة وحقها الإنساني المشروع في الحياة الحرة الشريفة!! وبهدف تجاوز الهضم والإجحاف والتحقير التي عانت منها عبر القرون.
الاستقرار النفسي، والأمن الأسري، والطهارة الخلقية، والطفولة الآمنة المتوحدة.. أصبحت مآخذ على الحياة الإسلامية، سعى السماسرة إلى استيراد الحلول المناسبة لتداركها .. والحلول كانت سموماً مركزة أطاحت بالاستقرار والأمن والطهارة، ودست في شرايين الحياة الإسلامية: الفساد والعهر والشذوذ والتفكك والخوف والدمار.
ومنذ بدايات القرن الماضي حدثنا المتحدثون والكتاب عن حدث يحمل دلالاته العميقة في هذا المجال. لقد كانت (اسطنبول) عاصمة الخلافة الإسلامية واحدة من أنظف مدن
العالم في مجالات العلاقة بين الرجل والمرأة، فلما دخلها الغربيون تحت مظلة الإصلاح والتحديث .. لمّا غزتها قوانين (بونابرت) الوضعيّة وأبعدت مفردات الشريعة الإسلامية شيئاً فشيئاً.. لما أخذ الطلبة الأتراك يذهبون إلى عواصم الغرب ويرجعون بالشهادات
أو بدونها .. بدأ الطفح الأحمر يظهر على جلد (اسطنبول) .. والزهري والسيلان وكل السموم الجنسية المدمرة تتسرب في شرايينها. ويذكر (شمتز دوملان) في كتابه (الإسلام) أنه " عندما (غادر الدكتور مافرو كور داتو) الأستانة سنة 1927 م إلى برلين لدراسة الطب لم يكن في العاصمة العثمانية كلها بيت واحد للدعارة. كما لم يُعرف فيها داء الزهري وهو السفلس المعروف في الشرق بالمرض الافرنكي، فلما عاد الدكتور بعد أربع سنين تبدّلت الحال غير الحال. وفي ذلك يقول الصدر الأعظم (رشيد باشا) في حسرة موجعة: إننا نرسل أبناءنا إلى أوروبا ليتعلموا المدنية الافرنكية فيعودون إلينا بمرض الداء الافرنكي".
كانت الخطوة الأولى .. الخطوة الضرورية.. وأعقبتها بقية الخطوات .. صار العملاق العثماني الذي دق أبواب فينا، رجلاً مريضاً، وراحت السكاكين تعمل في جسده الممزق، حتى انتهى الأمر إلى قتله تماماً على يد واحد من المحسوبين على جغرافية الإسلام.. وجاء من بعده عشرات القادة لكي يواصلوا المهمة. ومن قبلهم ومعهم، وربما بعدهم، استمرت شبكة السماسرة في دوائر الفكر والثقافة والإعلام والاجتماع تمارس مهمتها المعكوسة، فترفع شعار تحرير المرأة لكي تصل بها في نهاية الأمر إلى التعهير!
عدد ليس بالقليل من النساء الغربيات أنفسهن، كما سنرى، كن يجدن في الحياة الإسلامية.. في جمال المرأة والأسرة والطفولة المثل الأعلى والصيغة المرتجاة للأمن والاستقرار والعطاء والسعادة.. وكن يتُقْن إلى التمتع بعشر معشار ما تتمتع به المرأة(/1)
المسلمة. وأغلب الظن أن عدداً من القراء والمتابعين لا يزالون يذكرون، من بين وقائع كثيرة، ذلك المؤتمر النسائي الحاشد الذي نظمته وزيرات المرأة والأسرة في الحكومات الألمانية الإقليمية عام 1991 م والذي كان بمثابة تظاهرة نسائية رسمية ضخمة استهدفت تأكيد دور المرأة في المجتمع الألماني، وقد طالبت النساء في المؤتمر بالحقوق التي تتمتع بها المرأة المسلمة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، وخاصة بالنسبة لاحتفاظ المرأة الألمانية باسم والدها بدلاً من إجبارها على حمل اسم زوجها. وحيّت النساء المحتشدات قرار المحكمة الدستورية في ألمانيا (الاتحادية) الذي أقرت فيه بعدم حتمية قيام المرأة بحمل اسم زوجها، وأنه لها الحق في الاحتفاظ باسم والدها إن أرادت ذلك.
قبل ذلك بحوالي العقدين من الزمن كانت الساحة الإيطالية قد شهدت هجوماً مضاداً آخر في مواجهة الميل بالمرأة والأسرة عما أراده لها الله سبحانه .. تلك الضغوط المتواصلة في البرلمان الإيطالي .. على بعد خطوات من الفاتيكان زعيمة الكاثوليكية في العالم .. والتي تزعمها أشد البرلمانيين ليبرالية، من أجل إقرار حق الطلاق للرجل الإيطالي، بعد حجبه القرون الطوال.
بل إن بعض النسوة الغربيات انتمين إلى الإسلام من أجل أن يذُقْن التجربة ويبعدن عن مواطن التفكك والرذيلة والعفن والقلق والسعار الذي يحكم حياة المرأة الغربية، حتى لم تعد الكثيرات منهن يأمن على أزواجهن من المعاشرة اللاشرعية، ولم يعد الأزواج أنفسهم يأمنون على الذراري والأبناء، ويضمنون انحدارهم من الأصلاب!
هذا كله يتسرب بدعاوى السماسرة الذين أطلقوا على أنفسهم دعاة تحرير المرأة.. يتسرب إلى حياتنا فيستبدل الذهب بالتراب، ويكون هذا الذي كان ..
وليس ثمة أمة كهذه الأمة المسماة تجوّزاً " بالإسلامية " تجهل كل فن مجدٍ في صيرورة الحياة وتناميها، ولكنها تحذق فن هدر الطاقة، والتفريط بعناصر التميّز والتفوّق، واستبدال الغالي بالرخيص.
في سياقات عديدة تمّت الصفقات الخاسرة في التاريخ الحديث والمعاصر لهذه الأمة .. في مجال الاقتصاد والسياسة والحرب والعلم و الأخلاق.. وهاهنا في سياق المرأة والأسرة، كان القانون نفسه يعمل عمله بوساطة جيش من السماسرة وأدعية التقدّميّة والتحرر، لكي يفرط بواحدة من أكثر الحلقات في الحياة الإسلامية تميّزاً وتفوقاً، ويحلّ محلها: التفكك والعفن والرذيلة والخراب والشذوذ والزهري والسيلان.. وأخيراً الإيدز الذي بدأ يدق الأبواب.
هذا كله كان، ولا يزال قائماً حتى اللحظات الراهنة في ديارنا، رغم أنه حوصر إلى حد كبير بقوة معطيات الصحوة الإسلامية ومطالب الفطرة البشرية التي تميل إلى الطهر والعفاف والنظافة والاستقرار، والتي لن تحظى بتحققها المأمول إلا في إطار هذا الدين.
ألا أن المفاجأة التي حدثت، فيما لم يكن أحد يحسب له أيما حساب، إن المكر السيئ حاق بأهله، وتلك هي واحدة من سنن الله سبحانه في خلقه. وليس المقصود هنا حشود السماسرة الذين مرّروا العملية؛ فهؤلاء ليسوا بأكثر من أدوات أو آلات للتوصيل.. وإنما الحياة الغربية نفسها التي أخذت تتلقى الهجوم المضاد في قضية المرأة.. في عقر دارها.. عبر العقدين الأخيرين على وجه الخصوص. وأصبح هذا "الغزو" إذا صح التعبير، أو الهجوم المضاد، يمثل بمرور الوقت هاجساً ملحاً في دوائر الحياة الغربية على مستوى السلطة والمجتمع، وأخذ يتصاعد حتى كاد يدفع بعض القيادات الغربية إلى تجاوز ما يُسمى هناك بالثوابت الديموقراطية من أجل وقف الظاهرة التي أخذت تهدّد الحياة الغربية، على ما تصوّروه هم بحكم التقاليد الفكرية والسلوكية وضغط الأعراف والمسلمات الخاطئة القادمة من عمق الزمن الأوروبي.
أمامي الآن مقال للمفكر الفرنسي (برنارسيشير) بعنوان "الحجاب العرب .. ونحن" ينطوي على بعض المعطيات المهمة، وهي تمس كما يبدو من العنوان، إحدى الحلقات المهمة في موضوع المرأة المسلمة، ولا أقول قضيتها، ألا وهو (الحجاب).. فها هو الحجاب يقتحم العري الفرنسي.. التهتك الباريسي المعروف، ويفرض حضوره في قلب المجتمع.. فكيف كانت رؤية الفرنسيين أنفسهم للظاهرة؟ كيف كانت ردود الأفعال؟
حين تحجّبت بعض الفتيات في (الليسيه) يقول (سيشير)، تحركت الطبقة السياسية، وراح يدلي كل بدلوه حول الاحترام الواجب تجاه بلد الضيافة، وهو يقصد ضرورة احترام التقاليد الفرنسية من قبل أولئك الغرباء الذين قبلتهم فرنسا ضيوفاً عليها، بغض النظر عن القيم الأخلاقية لهذه التقاليد، حتى إن أحد الوزراء هدّد باتخاذ موقف، واجتمعت أخيراً الهيئة الدستورية، في حين كاد يعلن بعض المثقفين - جهاراً - أن الوطن العلماني في خطر!(/2)
ويمضي (سيشير) إلى القول بأنه مهما بلغت قدرة عملاء العروض المشهدية على التلاعب والتأثير - وهم لم يترددوا في ممارستها بوقاحتهم المألوفة - فإن حادثاً كهذا لا يكتسب مثل هذه الأهمية ولا يثير مثل هذه الأصداء، إلا إذا كان يمس الطبقات العميقة من الوعي الاجتماعي. وبما أن من تحرّك هذه المرة ليس من أتباع (الساسة الفاسدين)، وإنما من المفكرين اللامعين الذين اجتاحتهم فجأة موجة من الغضب المفرط.. فيجب أن نبحث عن الدوافع البعيدة.. إنها أعراض (بواتييه) المرضية!
إذن فإن تراكمات التأريخ والعمق الصليبي للمثقف الفرنسي الذي لا يزال يتذكر محاولة الاقتحام الإسلامي للأرض الفرنسية وهزيمته عند (بواتييه)، هي التي تستفز في تحليل (سيشير) العقل الغربي لمجابهة ظاهرة الحجاب الإسلامي، حتى لو أدّى الأمر إلى
خرق الثوابت الديموقراطية وضرورات "التسامح وجمال الاختلاط العرقي" التي يدّعيها الفرنسيون. ويبدو لي - يقول سيشير -: إن أعراض (بواتييه) المرضية إنما تشهد على جهلنا العميق بحقائق الإسلام كما تشهد في الوقت نفسه على عودة غريبة للمكبوت تجعل
العربي (المسلم بالأخص) يحل وقتياً محل اليهودي في الاستيهام العنصري والمتوتر لغيريّة AL teroite )) قوية تنذر وتهدّد.
إنه "النسيان المذهل" و "النفي المجنون" كما يعبر (سيشير)، لأفضال الحضارة الإسلامية على الغرب"، وإذا كان العرب قد بهروا ذاكرتنا القديمة وأربكوها إلى هذا الحد ، فذلك لأنهم كشفوا عن قدرتهم على ابتكار الحضارة الأكثر ألقاً وغنى ، عندما كنا لا نزال نحن في طور التخلف، وقد لعبت الكنيسة المسيحية، في إطار هذا الكبت الكبير، دوراً لا تُحسد عليه أبداً، وآن الأوان لكي تعترف بذلك خصوصاً وأن مذهبها ما كان ليتكون لولا أن سلبت الكنز النفيس الذي وصلها من الفكر الإسلامي، ثم عملت على طمس معالمه المدهشة ".
إن الفرنسيين، والغربيين عموماً هم ضحايا التعصب - كما يقرر سيشير - ضحايا تشويه تجعلهم يتصورون أن تأريخهم هو التاريخ الوحيد الممكن، ويجعلهم يسقطون من خلال هذه الأفكار (وعسكرياً من خلال الأفعال) تحديدهم للسياسة على وقائع تاريخية وثقافية تبدو لهم متطرفة لدرجة أنهم يمضون وقتهم في ترسيخ سوء التفاهم.
وبوصفي مدرساً - يقول سيشير - فإنني أتساءل كيف لا ترون أن المشكلة الملحة ليست الحجاب، وإنما الانهيار العام لثقافة لا تعني رجال السياسة عندنا؟" وتقولون: إنكم تريدون حماية هُويّة؟ وأية هُويّة؟ ولأن الجواب لن يكون سهلاً فمن الأفضل فتح باب المناقشة والانحياز إلى الفكر وليس إلى الخوف!
" لقد أحالتنا الحيوية الدينية الإسلامية فجأة، إلى وعي مخيف، ولقد عبّر عنها بعض المثقفين المستنيرين من خلال ردود فعل مرعبة وتشنّجات غير عقلانية"
هذا بعض ما يخلص إليه (سيشير) وهو يعالج ردود الفعل الفرنسية تجاه ظاهرة الحجاب في سياق الموقف المسيحي العام من خلال الظاهرة الإسلامية ببعدها الديني وعمقها التاريخي، وهو موقف لا يعكس فكر أو عاطفة الشرائح الدنيا في المجتمع، أو حتى الساسة (الفاسدين)، ولكن المثقفين والمفكرين اللامعين(/3)
الصَّبرُ عند الصَّدْمةِ الأُولَى
د. محمد عمر دولة*
لقد وَعَدَ الله عزَّ وجلَّ الصابرين المحتسبين أجراً عظيماً؛ فقال جلَّ جلالُه: (وبشِّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون).[1] وقال تعالى: (إنما يُوَفَّى الصابرون أجرَهم بغيرِ حسابٍ).[2] وقد روى أبو أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله سبحانه: ابنَ آدم إن صبرتَ واحتسبتَ عند الصدمةِ الأولى؛ لم أرْضَ لك ثواباً دون الجنة).[3]
وروى أنس رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بامرأةٍ تبكي عند قبرٍ،[4] فقال: (اتّقي الله واصبري. فقالت: إليك عنِّي؛ فإنك لم تُصَبْ بمصيبتِي ـ ولم تَعرِفْه ـ فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فأتتْ بابَ النبي صلى الله عليه وسلم فقالتْ: لم أعرِفْك؛ فقال: إنَّما الصَّبرُ عند الصَّدمةِ الأُولَى) [5] وفي روايةٍ: (فقال إنَّما الصبرُ عند الصَّدمةِ الأولى، أو عند أولِ صَدْمة).[6]
وتأمَّلْ محاسِنَ التعبيرِ النبوي: (عند الصَّدْمة الأولى)؛ فالمصِيبةُ صَدْمَةٌ نَفسِيةٌ بكلِّ ما في العبارةِ من معنى؛ فإنها تَهجُم على النفسِ؛ فتصدمها وتبغتها وتكشف عن حقيقتِها في تلك اللحظة.. (عند الصدمة الأولى) عند هَيَجان العاطفة وجَيَشان المشاعر وسَيَلانِ اللِّسانِ وانفِلاتِ الزِّمام [7]
وانظرْ قاموس الحديث النبوي الشريف؛ ما أجملَ مَبانِيَه وما أجلَى مَعانِيَه قال النووي رحمه الله: "أصْلُ الصَّدمِ: الضربُ في شيء صُلْبٍ، ثم استُعمِلَ مجازا في كلِّ مكروهٍ حَصَلَ بَغتةً".[8] وقال ابن حجر رحمه الله: "المعنى إذا وقعَ الثباتُ أولَ شيء يهجُم على القلبِ مِن مقتضيات الجزع؛ فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجرُ... قال الخطابي: المعنى أنَّ الصبرَ الذي يُحمَد عليه صاحبُه ما كان عند مُفاجأةِ المصيبةِ بخلافِ ما يعد ذلك؛ فإنه على الأيام يَسْلُو".[9]
فـ(الصبرُ عند الصدمةِ الأولى): عنوانُ قوةِ الإيمانِ وصِدقِ الاحتساب وتحمُّلُ المصيبةِ ابتغاءَ ما عند الله، قال النووي رحمه الله: "قوله صلى الله عليه وسلم : (الصبرُ عند الصدمة الأولى)، وفي الرواية الأخرى (إنَّما الصبر) معناه: الصبرُ الكاملُ الذي يترتبُ عليه الأجرُ الجزيلُ؛ لِكثرةِ المشقةِ فيه".[10]
ولا ريبَ أنَّ قِلَّةَ الصَّبرِ تؤدِّي إلى الجزعِ عند المصيبةِ وتسخُّطِ القضاء والبُعدِ عن صِفاتِ المتقين الصابرين المحتسبين؛ ولذلك أمرَها النبي صلى الله عليه وسلم بالتقوى والصبر؛ فإنَّ التقوى خيرُ زادٍ يُعين على الصبرِ: فقال (اتقي الله).[11] قال ابن حجر رحمه الله: "قال القرطبي: الظاهرُ أنه كان في بكائها قَدْرٌ زائدٌ مِن نَوْحٍ أو غيرِه؛ ولهذا أمَرَها بالتقوى. قلتُ:[12] يؤيده أن في مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور (فسمع منها ما يكره؛ فوقف عليها). وقال الطيبي: قوله (اتقي الله) توطئةٌ لقولِه (واصبري)؛ كأنه قيل لها: خافي غضب الله إن لم تصبري، ولا تجزعي؛ ليحصلَ لك الثواب".[13]
فإذا كان (الصّبرُ) قائماً على مَعرفةٍ بالله عزَّ وجلَّ وإيمانٍ بقضاءِ الله وقدَرِه ويقينٍ بما عنده؛ نفعَ صاحبَه (عند الصدمة الأولى)؛ فلم يجزع ولم يتسخَّطْ بل سَلَّمَ واسترجعَ ورحم الله ابن كثير حيث قال: "(والصابرين والصابرات) هذه سَجِيةُ الأثباتِ، وهي الصبرُ على المصائبِ والعِلمُ بأن المقدرَ كائنٌ لا محالة وتلقِّي ذلك بالصبر والثبات، (وإنما الصبر عند الصدمةِ الأولى): أي أصْعبُه في أولِ وَهلةٍ، ثم ما بعده أسهلُ منه، وهو صِدقُ السَّجيةِ وثباتُها".[14] وقال القرطبي رحمه الله: " قوله تعالى: (وبشر الصابرين): أي بالثوابِ على الصبرِ... لكن لا يكونُ ذلك إلا بالصبرِ عند الصَّدمةِ الأولى... أي: إنما الصبر الشاقُّ على النفسِ الذي يعظم الثوابُ عليه إنما هو عند هُجومِ المصيبةِ وحرارتِها؛ فإنه يدلُّ على قوةِ القلبِ وتثبتِه في مقامِ الصَّبرِ، وأما إذا بردَت حرارةُ المصيبةِ فكلُّ أحدٍ يصبر إذ ذاك؛ ولذلك قيل: يجبُ على كلِّ عاقلٍ أن يلتزمَ عند المصيبة ما لا بد للأحمق منه بعد ثلاث".[15]
فـ(الصبرُ عند الصَّدمةِ الأولى)؛ ولله دَرُّ مَن قال:
إذا مات ابنُها صَرخَتْ بجهلٍ*** وماذا تستفِيدُ من الصُّراخِ؟
ستتبعه كعطفِ (الفاءِ) ليستْ**بِمَهْلٍ أو كـ(ثُمّ) على التراخِي
---------------------------------------------------------------
[1] البقرة 155-157.
[2] الزمر 10.
[3] سنن ابن ماجه 1/509، باب (ما جاء في الصبر على المصيبة)، حديث 1597. قال البوصيري: "هذا إسنادٌ صحيحٌ رجاله ثقاتٌ، وله شاهدٌ من حديث أنس بن مالك رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه". مصباح الزجاجة 2/49.(/1)
[4] قال ابن حجر رحمه الله: "وفي رواية لمسلم ما يشعر بأنه ولدها ولفظه (تبكي على صبي لها)، وصرح به في مرسل يحيى بن أبي كثير عند عبد الرزاق ولفظه (قد أصيبت بولدها)". فتح الباري 3/149.
[5] رواه البخاري 1/430، في باب (زيارة القبور)، حديث 1223، و1/438، في باب (الصبر عند الصدمة الأولى)، حديث 1240. ورواه مسلم 2/637، في باب (الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى)، حديث 926. والترمذي 3/313-314. باب (ما جاء أن الصبر عند الصدمة الأولى)، حديث 987. والنسائي 4/22، باب (الأمر بالاحتساب والصبر عند نزول المصيبة)، حديث 1869، وابن ماجه 1/509، باب (ما جاء في الصبر على المصيبة)، حديث 1596. وابن أبي شيبة 3/59، في الصبر عند الصدمة الأولى، حديث 12089. وسنن البيهقي الكبرى 4/65، باب (الرغبة في أن يتعزى بما أمر الله تعالى به من الصبر والاسترجاع)، حديث 6919.
[6] سنن أبي داود 3/198، باب (الصبر عند الصدمة)، حديث 3124.
[7] قال ابن حجر رحمه الله: "قوله (إليك عنِّي) هو من أسماء الأفعال ومعناها: تنحَّ وأبعد، قوله (لم تصب بمصيبتي) سيأتي في الأحكام من وجه آخر عن شعبة بلفظ (فإنك خِلْوٌ من مصيبتي) وهو بكسر المعجمة وسكون اللام ولمسلم (ما تبالي بمصيبتي) ولأبي يعلى من حديث أبي هريرة أنها قالت (يا عبد الله إني أنا الحرى الثكلى؛ ولو كنت مصابا عذرتني)! قوله (ولم تعرفه) جملة حالية: أي خاطبته بذلك ولم تعرف أنه رسول الله. قوله (فقيل لها) في رواية الأحكام (فمر بها رجل فقال لها أنه رسول الله فقالت ما عرفته)، وفي رواية أبي يعلى المذكورة (قال فهل تعرفينه قالت لا) وللطبراني في الأوسط من طريق عطية عن أنس أن الذي سألها هو الفضل بن العباس، وزاد مسلم في رواية له (فأخذها مثل الموت): أي من شدة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه صلى الله عليه وسلم ؛ خجلا منه ومهابةً. قوله (فلم تجد عنده بوابين) في رواية الأحكام (بوابا) بالإفراد، قال الزين بن المنير: فائدة: هذه الجملة من هذا الخبر بيانُ عذرِ هذه المرأة في كَونِها لم تعرفه؛ وذلك أنه كان من شأنه أن لا يتخذ بواباً مع قدرتِه على ذلك تواضُعاً، وكان من شأنه أنه لا يستتبع الناسَ وراءه إذا مشى كما جرت عادة الملوك والأكابر؛ فلذلك اشتبه على المرأة؛ فلم تعرفه مع ما كانت فيه مِن شاغلِ الوجدِ والبكاء. وقال الطيبي: فائدة هذه الجملة أنه لما قيل لها إنه النبي صلى الله عليه وسلم استشعرت خوفاً وهَيبةً في نفسِها؛ فتصورت أنه مثل الملوك له حاجب وبواب يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصورته. قوله (فقالت لم أعرفك) في حديث أبي هريرة (فقالت: والله ما عرفتك)". فتح الباري 3/149.
[8] شرح النووي على مسلم 6/227.
[9] فتح الباري 3/149.
[10] شرح النووي على مسلم 6/227.
[11] قال ابن حجر: وفي رواية أبي نعيم في المستخرج فقال: (يا أمةَ الله اتقي الله)! فتح الباري 3/149.
[12] القائل: ابن حجر.
[13] فتح الباري 3/149.
[14] تفسير القرآن العظيم 3/489.
[15] الجامع لأحكام القرآن 2/174.(/2)
الضابط في التعامل مع الرؤيا
رقم الفتوى
10999
تاريخ الفتوى
4/1/1426 هـ -- 2005-02-13
السؤال
امرأة رأت في منامها عددا من المزهريات(أكواب من طين يغرس فيه الزهر و الورد و غيره) و سمعت صوتا يقول لها تلك صلوات عليك إعادتها’ فبمادا تنصحونها؟ و الله يجازيكم بخير
الإجابة
الحمد لله رب العالمين وبعد :
أما تعبير الرؤيا فاعلم أن الرؤى لايتلقى منها أحكاماً شرعية، وإنما غاية مافي الرؤى هو للاستئناس فقط.
والسنة في التعامل مع الرؤيا قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان، فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره "
وأما الصوت الذي سمعتيه وفهمتِ منه أن ذلك صلوات عليك إعادتها، فإن كنت تذكرين أن عليك صلوات فائتة لم تقضها فتوبي وبادري إلى قضائها اليوم قبل غد، وإن كنت لا تذكرين شيئا من ذلك فلا تلتفتي إلى هذا الصوت ولا يضرك إن شاء الله تعالى،
و الله أعلم.(/1)
الضرائب الحكومية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/مسائل متفرقة
التاريخ ... 05/05/1426هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
ما حكم الضرائب الحكومية على المسلمين من الحاكم المسلم؟ وهل تعتبر رسوم الإقامة وتجديد الجواز ورسوم رخص المحلات ورسوم رخص القيادة وغيرها من الضرائب؟أم لا؟ وما الدليل؟
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الأصل أن لا توضع الضريبة على المسلمين إلا إذا دعت إليها ضرورة شرعية أو حاجة ملحَّة، كأن يعجز بيت المال أو خزينة الدولة عن تيسير وتسهيل الخدمات، وما يصلح شؤون الرعية، أو أن توضع الضرائب للحد من الإسراف والتجاوز والتعدي على المال والحق العام ونحو ذلك، وفي كل حال يتعين أن تكون الضريبة -إذا وضعت- غير ظالمة أو مكلفة أو مرهقة لأوساط الناس وضعفائهم، وما ذكر في السؤال هو من أنواع الضرائب المتعارف عليها اليوم.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن ما يأخذه الملوك من الكلف – يعني: الضرائب- التي يضربونها على الناس قد أفتى بها طائفةٌ من الفقهاء طائفةً من الملوك، فأجازوا لهم وضع هذه الوظائف (الضرائب) كما فعل أبو المعالي الجويني في كتابه (غياث الأمم)، وكما ذكر ذلك بعض الحنفية، وما قبض بتأويل – يعني الضرائب هذه- فإنه يسوغ للمسلم أن يشتريه ممن قبضه، وإن كان المشتري يعتقد أن ذلك العقد محرم. انظر مجموع الفتاوى (29/264-265)، وهذه الكلف دخلها التأويل والشبهة، ومنها ما هو ظلم محض.(/1)
الضرائب وحكم توظيفها
د. عيسى صالح العمري*
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، أسبغ نعمه على الخلق ظاهرة وباطنة، فلله الحمد أولاً وأخيرًا، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وسيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه، وسائل أنبياء الله أجمعين... وبعد
فإننا إذا أمعنا النظر في أحوال العالم اليوم، وجدنا أن شغله الشاغل ما يعانيه في مشكلاته المعيشية، حيث البطالة تتزايد في معظم أنحاء العالم ويتناقص دخل الفرد. وتبدو ظاهرة الفقر في معظم الدول، إذ عجز الكثير منها عن القيام بالتزاماته تجاه توفير سبل العيش الكريم لأبنائه. والحقيقة أن هذه الظروف التي يعيشها العالم بشكل عام، ودولنا الإسلامية والعربية على الخصوص هي نتاج البعد عن منهج الله وسننه في الكون، فلقد وضع الحق منهجًا شاملاً لكل جوانب الحياة البشرية، نظمها، ووجهها إلى ما يحقق لها الأمن والسعادة في كل مجالات الحياة، فمن أخذ بمنهج الله فقد اهتدى قال تعالى: (قل إن هدى الله هو الهدى)(1)، ومن تولى فوعد الله قائم بالشقاء للمعرضين يقول تعالى: (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكا)(2).
فالجزاء من جنس العمل، فمن اعتمد العقل البشري بمعزل عن هدى الله ودون مراعاة لسنن الله في الكون لابد أن يقع في الخطأ ويذوق وبال أمره، وذلك بقصور العقل البشري عن الإحاطة بكل شيء وعجز عن معرفة المستقبل وما يلائمه قال تعالى: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون)(3).
ولما كانت دولنا العربية والإسلامية في هذا العصر، قد اعتمدت في نظامها الاقتصادي على تخطيطات غيرها من الدول ونهجت المنهج الرأسمالي وغيره لكنها لم تستطع مسايرة ذلك النظام الوضعي ولا الصمود أمامه لأسباب متعددة اضطرت أن تبدي عجزها عن مواكبة ذلك النظام بعد أن غرقت في مديونية عالمية لتلك الأنظمة الرأسمالية فباتت تملي عليها من الترتيبات والتشريعات الاقتصادية ما تراه يحقق مآربها، وأصبحت دولنا مضطرة لقبول تلك المقترحات، وصارت تقايض في كل عام جدولة ديونها وفق شروط معلنة وأخرى خفية، لما غرقت في مطلبات متزايدة لشعوبها بسبب التطور البشري في العلوم والتكنولوجيا، لجأت إلى وسائل متعددة علها تتمكن من سد المتطلبات الملحة وتأمين الخدمات الضرورية للشعوب، ومن هذه الوسائل توظيف الضرائب المتكررة والمتنامية على الناس بمقادير فاقت قدرة المواطن، وشعر الكل بثقلها منها ما هو بحق ومنها ما هو بدون حق.
لذا رأيت أن أكتب هذا البحث لأبين بإذن الله مدى شرعية فرض الضرائب على الناس والشروط التي تتوافر لذلك.
وقد جعلت خطة البحث على النحو التالي:
مقدمة:
المبحث الأول: التعريف بالضريبة وعلاقتها بموارد بيت المال، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: التعريف بالضريبة لغة واصطلاحًا:
أولاً: تعريفها في اللغة.
ثانيًا: تعريفها في الاصطلاح:
أ - في اصطلاح علماء الفكر الاقتصادي كمصطلح حديث.
ب - في اصطلاح علماء الشريعة الإسلامية.
المطلب الثاني: الموارد المالية في الدولة الإسلامية ومدى علاقتها بالضرائب:
أولاً: ماهية الموارد المالية للدولة الإسلامية.
ثانيًا: مدى توافق هذه الموارد مع مفهوم الضريبة في صورتها الحديثة.
المبحث الثاني: حكم فرض الضريبة في الفقه الإسلامي، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: المجيزين لفرض الضريبة.
أولاً: آراء أصحاب المذاهب الإسلامية ومستندهم الشرعي.
ثانيًا: آراء الفقهاء المحدثين.
المطلب الثاني: المانعون لفرض الضرائب وحجتهم في المنع.
المطلب الثالث: مناقشة أدلة الفريقين والترجيح.
المبحث الثالث: مسؤولية فرض الضريبة، وفيه ثلاث مطالب:
المطلب الأول: من له حق فرض الضريبة.
المطلب الثاني: شروط الحاكم الذي يفرض الضريبة.
المطلب الثالث: الشروط المعتبرة لشرعية الضريبة.
المطلب الرابع: شروط جباة الضرائب.
نظرة في الواقع.
النتائج والتوصيات.
المصادر والمراجع.
المبحث الأول
التعريف بالضريبة وعلاقتها بموارد بيت المال الإسلامي
المطلب الأول
التعريف بالضريبة لغة واصطلاحًا
أولاً: في اللغة:
الضريبة مشتقة من الفعل ضرب، وهي ما يفرض على المِلك والعَمَل، والدخل للدولة، وتختلف باختلاف القوانين والأحوال(4). وجاء في لسان العرب: الضريبة واحدة من الضرائب التي تؤخذ في الجزية ونحوها. ومنه ضريبة العبد، أي غلته، وهي ما يؤديه العبد إلى سيده من الخراج المقرر عليه. وتجمع على ضرائب(5).
ثانيًا: في الاصطلاح:
أ - التعريف في اصطلاح علماء الفكر الاقتصادي الوضعي:
لقد اختلف أولئك في تعريف الضريبة كل حسب نظرته، حيث نظر بعضهم باعتبارها إيرادًا للدولة تقوم فرضيتها على أساس النظرية التعاقدية(6). ونظر البعض الآخر بأن فرضيتها تقوم على أساس سيادة الدولة(7).(/1)
وبناء على ذلك فقد عرفها البعض بأنها: فريضة نقدية تقتطعها الدولة، أو من ينوب عنها من الأشخاص العامة، أو الأفراد، قسرًا، وبصفة نهائية، دون أن يقابلها نفع معين، تفرض طبقًا للقدرة التكليفية للممول، وتستخدم في تغطية النفقات العامة، والوفاء بمقتضيات السياسة المالية العامة للدولة(8).
وعرفها البعض على أساس التضامن الاجتماعي أو القومي. فعرفت الضريبة بأنها: ما تفرضه الدولة لمقابلة الكوارث العامة كالفيضانات والزلازل، والمجاعات، تستوفيها من الأغنياء حسب مقدرتهم المالية(9).
وعرفها د. أحمد شلبي: الضريبة نظير خدمات والتزامات تقوم بها الدولة لصالح المجموع كالدفاع والشرطة، والتعليم، والمستشفيات وغيرها(10).
وهناك تعاريف أخرى لا تخرج عن هذه المفاهيم والمعاني لا داعي لذكرها(11). ولا يفوتنا أن نذكر الضريبة عرف قديم استخدم منذ العصور القابرة، فقد استعملها قدماء اليونان حيث فرضت حكومة الجمهورية في أثينا ما نسبته 2% تسمى ضريبة البضائع والمحاصيل الأجنبية، وكذلك شيد الفراعنة في مصر، نظام ضرائب خاصًا بهم، كما فعل ذلك الفرس والرومان، وقسمت الضرائب إلى مباشرة وغير مباشرة تشتمل ضرائب الجمرك(12).
ب - الضريبة في اصطلاح فقهاء الشريعة الإسلامية:
من المعلوم أن كل ما لم يرد به نص يحدد معناه فإن للعلماء فيه أقوالاً ولذا فلقد اختلفوا في تعريفاتهم للضريبة وإن كانت تبدو جميعها بمعنى واحد إلى حد ما:
1- عرفها الإمام الغزالي بأنها: ما يوظفه الإمام على الأغنياء بما يراه كافيًا عند خلو بيت المال من المال(13).
2- عرفها الإمام الجويني بأنها: ما يأخذه الإمام من مياسير البلاد والمثرين (الأغنياء) من طبقات العباد بما يراه سادًا للحاجة(14).
3- وعرفها من المحدثين د. يوسف إبراهيم فقال(15): هي ما تفرضه الدولة فوق الزكاة وسائر التكاليف المحددة بالكتاب والسنة وذلك وفقًا لظروف المجتمع الإسلامي، وتتميز هذه الضرائب بأنها مؤقتة بالظروف التي فرضت من أجلها، ويمكن أن يطلق عليها الضرائب الاستثنائية.
4- وجاء في تعريفها كذلك: بأنها الاقتطاعات المالية، العينية منها والنقدية التي تقتطعها الدولة الإسلامية من أموال الأفراد قسرًا وبصفة نهائية دون أن يكون مقابلها نفع معين مشروط، وتخصص لتغطية النفقات العامة، وفي نفس الوقت تستند فرضيتها إلى الأحكام والقواعد الكلية للشريعة الإسلامية(16).
ومما سبق يمكن وضع مفهوم للضريبة في الفقه الإسلامي بأنها:
مقدار محدد من المال تفرضه الدولة في أموال الممولين لضرورة طارئة مستندة في ذلك إلى قواعد الشريعة العامة، دون أن يقابل ذلك نفع معين للممول، تستخدمه الدولة في تغطية النفقات العامة للمواطنين، وتمتاز هذه الضرائب بأنها مؤقتة بالظروف التي فرضت من أجلها، وليست تشريعًا دائمًا أصيلاً بل هي استثنائية تنتهي بانتهاء الظروف التي استوجبتها.
أوجه الاتفاق والاختلاف بين معنى الضريبة في الفقه الإسلامي ومعناها في اصطلاح الاقتصاديين:
أوجه الاتفاق:
يتفق معنى الضريبة في الفقه الإسلامي مع معناها في اصطلاح علماء الاقتصاد في الأوجه التالي:
1- كلاهما تفرضه الدولة على سبيل الجبر والإلزام.
2- كلاهما فريضة نقدية.
3- لا يقابلها نفع معين يعود على الممول.
أما أوجه الاختلاف:
1- الضريبة في المفهوم الإسلامي تستند في فرضيتها إلى أصل شرعي من الكتاب أو السنة أو الآثار الوارد عن الصحابة.
في حين أن الضريبة في المفهوم الاصطلاحي لدى علماء الاقتصاد لا تعتمد في فرضيتها على شيء من الشريعة بل قد تفرضها على أساس نظرية سيادة الدولة أو على أساس أن الأفراد ملزمون بحكم كونهم أعضاء في المجتمع بالمشاركة في النفقات العامة التي تقوم بها الدولة.
2- تعتبر الضريبة في العرف الدولي موردًا من موارد الدولة الثابتة في حين أن الضريبة من وجه نظر الشريعة تفرض لظروف طارئة تعجز الدولة عن مواجهتها، وليست تشريعًا أصيلاً بل استثنائيًا.
3- الضريبة في النظام الوضعي تتصف بالديمومة، بينما في الفكر الإسلامي مرتبطة بالظروف التي من أجلها فرضت وليست تشريعًا دائمًا.
المطلب الثاني
الموارد المالية في الدولة الإسلامية ومدى علاقتها بالضرائب
قبل الحديث عن مشروعية فرض الضرائب وآراء الفقهاء في ذلك لا بد من أن نطرح السؤال التالي ثم نجيب عنه:
هل وجد في النظام المالي الإسلامي في عهد التشريع ما يتوافق مع مفهوم الضريبة بمفهومها العصري؟
وحتى تكون الإجابة واضحة – بإذن الله تعالى – لابد أن نتعرض بإيجاز إلى الموارد المالية في الدولة الإسلامية في عهد النبوة والخلفاء الراشدين لنتبين هل من وجود علاقة بين تلك الموارد التي كان يؤديها المكلف وبين الضرائب بالمفهوم المعاصر.
أولاً: الموارد المالية للدولة الإسلامية:(/2)
لما كان تحقيق المصالح العامة وتأمين الحاجات الضرورية لأي مجتمع يمثل المسؤولية الأولى للدولة القائمة عليه، فإنه لا يتسنى لهذه الدولة أن تقوم بدورها في النفقات العامة إلا بوجود موارد مالية ثابتة ودورية تركن إليها في تأمين هذه المتطلبات، وبما أن الإسلام نظام حياة للبشرية، وهو دين العدالة والرحمة والمساواة، فإنه من باب أولى أن تكون دولة الإسلام رائدة وقدوة حسنة في تحمل مسؤولية أبنائها وتأمين حاجاتهم الأساسية وتقديم الخدمات العامة التي تستوجبها الحياة، وتحقيق التكافل الاجتماعي فيما بينهم. إذ أن من واجبات الدولة تحقيق الأمن السياسي والاجتماعي والاقتصادي لأبنائها إضافة إلى واجباتها الدينية والروحية(17).
وبناء على ذلك، فهل كان للدولة الإسلامية موارد مالية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده؟ والجواب عن ذلك من خلال الواقع والنص يقول – نعم – .
وإليك أهم الموارد التي كان يعتمد عليها بيت المال في صدر الإسلام:
1- الزكاة: وهي تمليك مال مخصوص لمستحقه بشرائط مخصوصة(18). وفي تعريف آخر هي: حق واجب في مال خاص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص(19). وتؤخذ من المسلم من سائر أمواله نقدية أو زراعية أو عروضًا تجارية إذا بلغت أمواله النصاب الشرعي المقرر فمن ملك النصاب يجب عليه أن يؤدي زكاة ماله للدولة أو تقوم الدولة بجبايتها لتنفقها على مستحقيها. وقد جاءت فرضيتها في كتاب الله تعالى حيث يقول جل وعلا: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)(20).
ويقول سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض)(21). وفي تفسير هذه الآية يقول الإمام الرازي: ظاهر الرواية يدل على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان فيدخل فيه زكاة التجارة والنقدية والنعم لأن ذلك لما يوصف بأنه مكتسب(22).
2- الخمس من غنائم الحرب، ومما يستخرج من الأرض من المعادن والركاز(23). قال تعالى: (واعلموا أنّما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)(24). وقال صلى الله عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس)(25).
3- الجزية: وهي ضريبة مالية تؤخذ من غير المسلمين إذا دخلوا في ذمة المسلمين وعهدهم مع بقائهم على دينهم، يدفعونها للدولة الإسلامية نظير حماية المسلمين لهم من عدوهم وحقنًا لدمائهم فلا يتعدى عليهم أحد من المسلمين، وكذلك نظير انتفاعهم بمرافق الدولة الإسلامية، وأما مقدارها فيجتهد فيه الإمام حسب حالة الناس المادية وظروفهم، وقد وردت شرعيتها في كتاب الله تعالى إذ يقول سبحانه: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون)(26).
4- الخراج: ما وضع على رقاب الأرضين من حقوق تؤدى عنها(27). وهو جزء معين من الخارج منها كالربع والثلث ونحوهما وقد يكون نصف الخارج. وهذا المورد ضريبة يفرضها الإمام على أراضي أهل الذمة بعد فتحها عنوة وإقرار أهلها عليها إن رغبوا(28).
وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح خيبر وأبقى رقبة الأرض في أيدي أهلها نظير خراج يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم(29)، ثم فعل ذلك عمر بن الخطاب في أرض سواد العراق(30).
والملاحظ أن ضريبة الخراج إنما كانت على غير المسلمين لانتفاعهم برقبة الأرض بعد أن أصبحت للمسلمين عقب الفتح – على أن يخرجهم المسلمين منها متى شاؤا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل خيبر – ، أو أرضًا صالح عليها أهلها دون قتال على أن يدفعوا خراجًا يقدره أولو الأمر من المسلمين.
5- العشور: وهي ما يؤخذ من أموال التجارة سواء كان المأخوذ عشرًا لغويًا أو نصفه أو ربعه أو ما تأخذه الدولة ممن يجتاز بلده إلى غيره من التجار(31).
وقد أصبح من موارد بيت المال في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما كتب إليه أهل منبج من وراء بحر عدن يعرضون عليه أن يدخلوا تجارتهم أرض العرب وله منها العشر فشاور عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأجمعوا على ذلك، فهو أول من أخذ منهم العشور. وكذا سأل عمر المسلمين كيف يصنع بكم الحبشة إذا دخلتم أرضهم قالوا: يأخذون عشر ما معنا، قال: فخذوا منهم مثل ما يأخذون منكم(32).
وبذلك يكون عمر رضي الله عنه قد شرعها من قبيل المعاملة بالمثل ولا تؤخذ إلا من غير المسلمين، أما المسلمون فلا يؤخذ منهم إلا ربع العشر وهو مقدار الزكاة المفروضة.
فعن عبد الرحمن بن معقل قال: سألت زياد بن حدير: من كنتم تعشرون؟ قال: ما كنا نعشر مسلمًا ولا معاهدًا. قلت: فمن كنتم تعشرون؟ قال: تجار الحرب كما كانوا يعشروننا إذا أتيناهم(33).
سئل عبد الله بن عمر: هل علمت عمر أخذ العشر من المسلمين؟ فقال لا لم أعلم(34).
ثانيًا: مدى توافق هذه الموارد مع مفهوم الضريبة المعاصرة:(/3)
لا شك أن هنالك توافقًا في بعض الوجوه واختلافًا أكبر في وجوه متعددة نبنيها في ما يلي ثم في ضوء ذلك نحكم على التوافق أو الاختلاف.
1- وجوه التشابه أو التوافق:
تتفق الزكاة مع الضريبة من حيث:
أ- إن كلا منهما يدفعه المكلف قسرًا وإلزامًا إذا امتنع عن الدفع مختارًا.
وتتضح قسرية الزكاة في التحصيل الجبري لها من الممتنع عند أدائها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعطاها مؤتمرًا فله أجرها ومن منعها فإني آخذها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ليس لآل محمد منها شيء(35). كما أن أبوبكر الصديق رضي الله عنه قاتل من امتنع عن دفع الزكاة(36).
ب- الزكاة والضريبة تدفعان إلى السلطات المحلية.
ج- يشتركان في إنعدام المقابل الخاص للممول وإنما تدفع منه بوصفه عضوًا في مجتمع مسلم يتمتع بحمايته وكفالته وأخوته، فعليه أن يسهم في معونة أبنائه(37).
2- أما أوجه الاختلاف بين الزكاة والضريبة فهي كثيرة منها:
أ- من حيث أساس فرضية كل منهما: فإن أساس فريضة الزكاة هو القرآن الكريمة فهي فريضة إلهية وركن من أركان الإسلام وتسمى في لغة القرآن. قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)(38). وهي عبادة لله تعالى وتقربًا إليه سبحانه، أما الضريبة فهي التزام مدني محض خال من كل معنى للقربة والعبادة، إلا طاعة الحاكم فيما له سند شرعي – جاءت بطلب بشري على شكل قوانين أو قرارات حكومية قد تكون قسرية، وقد تفرض ظلمًا أو تنبع عن هوى مما يجعل الكثير من المكلفين يتهربون منها إن أمكن على العكس من الزكاة التي يدفعها المكلف طوعًا وطمعًا في ثواب الله تعالى ومغفرته، كما أن الزكاة لا تكون إلا على المسلم بينما الضريبة على المسلم وغيره من المواطنين(39).
ب- من حيث الاسم الذي تحمله كل منهما: فالزكاة تعني النماء والطهارة والبركة(40). سواء للمال نفسه أو لصاحبه من الشح والبخل، في حين أن الضريبة من الفعل ضرب، وضرب عليه الغرامة أي ألزمه وكلفه تحمل عبئها(41)، ومنها قوله تعالى: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة)(42)، فالضريبة تعني المغرم، والنقص، والعبء.
ج- من حيث الثبات والاستمرارية: فالزكاة فريضة دائمة وثابتة ما دام في الأرض مسلمون يوحدون الله تعالى لا يبطلها دور جائر ولا عدل حاكم، شأنها شأن الصلاة، وهي لا تخضع لتقنين التعديل أو التبديل أو الإلغاء، ولا تخضع لقاعدة، لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان(43)، وإنما تخضع لقاعدة "لا مساغ للاجتهاد في مورد النص"(44).
أما الضريبة فليس لها صفة الدوام والثبات لا في نوعها ولا مقاديرها، ولكل حكومة أن تضع من الضريبة حسب ما تراه السلطة التشريعية فيها، فهي تجب حسب الحاجة وتزول بزوالها، اقتضت فرضيتها ظروف مستجدة، فهي تكليف زمني تتحدد أحكامها بتعًا لمشيئة الوضع الحكومي(45).
د- من حيث تحديد المقادير في كل منهما: أن الزكاة فريضة إلهية في وجوبها ومقاديرها وأنصبتها وأوعيتها وشروطها وسائر أحكامها فمقادير الزكاة من العشر، والخمس، ونصف العشر، وربع العشر، كلها مقادير من عند الله تعالى وليس لأحد أن يغير أو يبدل بخلاف الضريبة حيث تخضع في تقديرها لمشيئة الوضع الحكومي واجتهاد أولي الأمر، وإن بقاءها وعدمه مرهون بتقدير السلطة لمدى الحاجة إليها(46).
هـ- من حيث وجوه الإنفاق في كل منهما: فللزكاة مصارف خاصة محددة في كتاب الله تعالى والسنّة النبوية توزعها الدولة بعد جبايتها أو يوزعها المسلم بنفسه إن شاء، قال تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم)(47).
في حين أن مصارف الضريبة ووجوة إنفاقها غير محددة، وتحكم فرضيتها المشاركة في تحمل الأعباء العامة، وتغطية أوجه الإنفاق العام(48). أضف إلى ذلك أن زكاة كل إقليم أو بلد مخصصة للإنفاق في نفس الإقليم أو البلد، ولا يجوز إخراجها إذا كان يوجد فيه من هو بحاجة إليها فإذا فضل شيء عن حاجة فقراء البلد ومصالحهم فعندها ينقل إلى بيت المال لينفق على سائر السكان(49)، في حين أن الضريبة تعود فورًا إلى خزينة الدولة لتنفقها الدولة على ما تشاء في المصالح العامة.(/4)
من هذا وغيره نرى الفرق بين معنى الزكاة وأحكامها وبين مفهوم الضريبة المعاصر، كما أن ما ينطبق على الزكاة ينطبق في الغالب على سائر موارد بيت المال الآنفة الذكر، فالجزية مثلاً منصوص عليها في كتاب الله تعالى كما مر سالفًا، وكذا الفيء والعشور على اعتبار أنهما فيء للمسلمين يدخلان تحت آية الفيء قال تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير، ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم..)(50)، وكذا خمس الغنائم مقداره وسنده محدد بنص القرآن الكريم بقوله تعالى: (اعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول)(51).
وهذا الأساس يختلف قطعًا عن الأساس القانوني لفرض الضريبة والتي أساسها إما النظرية التعاقدية التي ألتزمت بموجبها الدولة أن تقدم للأفراد خدمة الأمن بكافة أشكالها والتزم الأفراد بمقتضاه أن يدفعوا للدولة الضريبة مقابل ما يحصلون عليه من منافع، وأما نظرية السيادة والتي تعني أن الضريبة عمل من أعمال السيادة وهذا الاتجاه يستند إلى فكرة التضامن المالي، إذ الأفراد ملتزمون بناء عليه بدفع الضرائب للدولة حتى تستطيع النهوض بأعبائها(52). ومما يجدر ذكره أن معظم هذه الموارد قد انتهى وجودها في هذا العصر كمورد ثابت من موارد الدولة الإسلامية فالزكاة مثلاً أصبحت في معظم الدول الإسلامية موكول أمرها إلى من يملك النصاب فإن شاء أداها، وإن شاء منعها ولا تتدخل الدولة في إلزامه بدفعها ولا تحصيلها، وإنما يرجع ذلك إلى مدى إيمان المسلم بربه.
وأما الجزية فقد توقف العمل بها، لأن من يقيم في ديار المسلمين من غير المسلمين أصبحوا من مواطني الدولة ورعاياها يساهمون مع المسلمين في الدفاع عن حمى الوطن، ويوقع عليهم ما يوقع على المسلمين من التزامات تفرضها الدولة على رعاياها، إضافة إلى أنه ليس للمسلمين اليوم شوكة لحماية أنفسهم وديارهم، فأنى لهم أن يفتحوا بلادًا جديدة، يلتزمون بحماية أهلها مقابل دفع الجزية.
وأما الخمس من الغنائم فما عاد له ذكر إذ أن هذه الأمة تركت الجهاد ورفعت رايات السلام والتسليم وفقدت هيبتها في ميادين القتال، وتداعت عليها الأمم كما جاء في الحديث النبوي "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: يا رسول الله فمن قلة يومئذ، قال: لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل يجعل الوهن في قلوبكم وينتزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت"(53).
وكذلك الخراج ما عاد موردًا للدولة الإسلامية بسبب ما آلت إليه من ضعف في شخصيتها الاعتبارية أمام غيرها إذ قعدت عن الجهاد بل وحتى عن الدفاع عن النفس.
وإننا لنرجو الله تعالى أن يعيد للإسلام مجده بأن يهيء لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها ويعيد لها هيبتها فتنبعث من جديد وتحيي راية الجهاد وتعود مثل هذه الموارد للدولة الإسلامية.
ومع غياب هذه الموارد فهل للدولة الإسلامية اليوم وفي ظل الظروف القائمة أن تفرض على مواطنيها ضرائب في أموالهم؟ وفي أي الأحوال يكون ذلك؟ وما مستنده الشرعي؟ هذا ما سنتبينه في المبحث الثاني.
المبحث الثاني
حكم فرض الضريبة في الفقه الإسلامي
ذكرنا أن الضريبة ما تفرضه الدولة في أموال لمكلفين لظروف خاصة طارئة تقتطعه الدولة قسرًا بصفة نهائية دون نفع معين يعود على الممول لمواجهة تلك الظروف، فما حكم فرض مثل هذه الضرائب؟
انقسم الفقهاء حياله إلى فريقين، فريق قال بالجواز ولكن ليس على الإطلاق، وفريق منع من فرض الضريبة مطلقًا ولكل أدلته ووجهة نظره وإليك البيان.
المطلب الأول
المجيزون أصحاب المذاهب الفقهية
أولاً: آراء أصحاب المذاهب الفقهية:
أ- الحنفية: يرى الحنفية جواز فرض الضرائب على الناس، إذا كانت هناك حاجة تدعو إليها حيث يسمونها النوائب(54)، فقد جاء في حاشية رد المحتار ما نصه زمن النوائب ما يكون بالحق كري النهر المشترك للعامة، وأجرة الحارس للمحلة والمسمى الخفير وما وظف للإمام ليجهز به الجيوش، وفداء الأسرى، بأن احتاج إلى ذلك ولم يكن في بيت المال شيء فوظف على الناس ذلك، ويتابع فيقول: وينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يوجد في بيت المال ما يكفي لذلك(55).
ب- المالكية قالوا يحق للإمام أن يوظف الضرائب لظروف خاصة ومن أقوال فقهائهم:
1- يقول الشاطبي إذا قررنا إمامًا مطاعًا مفتقدًا على تكثير الجنود لسد حاجة الثغور، وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم، فللإمام إذا كان عدلاًَ أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال إلى أن يظهر مال في بيت المال، ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك.(/5)
وإنما لم ينقل عن الأولين مثل هذا الإتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام، بطلت شوكة الإمام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار(56).
2- يقول الإمام القرطبي: واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها(57)، وقال الإمام مالك: يجب على الناس فداء أسراهم وأن استغرق ذلك أموالهم(58).
ج- الشافعية يقرون شرعية الضرائب على الأغنياء إذا احتاج الإمام من أجل مصلحة عامة وفي ذلك:
1- يقول الإمام الغزالي: إذا خلت الأيدي من الأموال، ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر، واشتغلوا بالكسب لخيف دخول العدو ديار المسلمين، أو خيف ثوران الفتنة من أهل العرامة في بلا الإسلام، جاز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند(59).
2- ويقول الرملي: ومن فروض الكفاية دفع ضرر المسلمين، ككسوة عارٍ، وإطعام جائع، إذا لم يندفع بزكاة أو بيت مال. على القادرين وهم من عنده زيادة على كفاية سنة لهم ولمموليهم(60).
3- وفتوى الشيخ عز الدين بن عبد السلام للملك المظفر قطز في فرض الضرائب على الناس لأجل الإستعداد والتجهيز لقتال التتار:
إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم وجاز لكم أن تأخذو من الرعية ما تستعينون به على جهادكم بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء وأن تبيعوا ما لكم من الحوائص(61) المذهبة، والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوبه وسلاحه، ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقايا في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا(62) .
وما حدث في الأندلس عندما أراد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين أن يفرض الضرائب ويجهز الجيش للدفاع عن البلاد الإسلامية فأفتاه العلماء بجواز فرض الضرائب إذا حلف بحضرة أهل العلم أن ليس في بيت المال شيء من المال(63).
د- أما فقهاء الحنابلة فقد أجازوا فرضيتها وسموها الكلف السلطانية واعتبروها من الجهاد بالمال، وفي ذلك يقول ابن تيمية في الفتاوى إذ يعتبر أن الكلف السلطانية أو ما يأخذه السلطان من أموال الأغنياء يعد من قبيل الجهاد بالمال فيقول: وإذا طلب منهم شيء يؤخذ على أموالهم ورؤوسهم، مثل الكلف السلطانية التي توضع عليهم كلهم، إما على عدد رؤوسهم، أو على عدد دوابهم، أو على أكثر من الخراج الواجب بالشرع، أو تؤخذ منهم الكلف التي أحدثت في غير الأجناس الشرعية، كما يوضع على المتابعين للطعام والثياب والدواب والفاكهة، وغير ذلك، يؤخذ منهم إذا باعوا، ويؤخذ تارة من البائعين، وتارة من المشترين(64).
هـ- يرى ابن حزم الظاهري كذلك جواز فرض الضرائب العامة إن كان هناك مصلحة وضرورة فيقول: فرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات، ولا فيء سائر المسلمين بهم. فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللبس للشتاء والصيف لمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر، والصيف، والشتاء، وعيون المارة(65).
المستند الشرعي لرأي هذا الفريق
استدل الفقهاء على موقفهم القائل بجواز بجواز فرض الضرائب في أموال الناس غير الزكاة بأدلة من الكتاب والسنة، والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم ومن المعقول وإليك البيان:
أ- استدلالهم بالقرآن الكريم:
استدل هذا الفريق بقول الله عز وجل: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام والصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم المتقون)(66).
وجه الاستدلال في الآية الكريم أن الله تعالى نص على إيتاء الزكاة كما نص على إيتاء المال لذوي القربى واليتامى والمساكين، مما يدل على أن المراد بإيتاء المال في الآية غير الزكاة، وأن في المال حقًا سوى الزكاة.
يقول الفخر الرازي: واختلفوا في المراد من هذا الإيتاء فقال قوم: إنها الزكاة وهذا ضعيف، وذلك لأنه تعالى عطف الزكاة عليه بقوله: (وأقام الصلاة وآتي الزكاة) ومن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يتغايرا، فثبت أن المراد به غير الزكاة.. وإن كان غير الزكاة إلا أنه من الواجبات(67).(/6)
وجاء في الجامع لأحكام القرآن في تفسير قوله تعالى: (وآتي المال على حبه) استدل به من قال إن في المال حقًا سوى الزكاة، وبها كمال البر. وقيل المراد الزكاة المفروضة، والأول أصح. إذ أن الله تعالى ذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله تعالى: (وآتي المال على حبه) ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك كان يكون تكرارًا. واتفق الفقهاء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها. كما ذهب إلى ذلك القاسمي في تفسيره فذكر أن المراد من قوله تعالى: (وآتي المال على حبه..) التنفل بالصدقات والبر والصلة، وقدم على الفريضة مبالغة في الحث عليه كما ذكر المراغي في تفسير هذه الآية بأن قال: وفي جعل هذا نوعًا من البذل وجبًا على المسلمين والبذل لهذه الأصناف لا يتقيد بزمن معين ولا بامتلاك نصاب محدد، ولا بتقدير المال المبذول بمقدار معين كالزكاة الواجبة بل هو موكول إلى أريحية المعطي وحال المعطي(68).
ويقول ابن العربي بعد أن شرح المراد بإيتاء المال: والصحيح عندي أنهما فائدتان: الإيتاء الأول في وجوهه، فتراه يكون ندبًا وتارة يكون فرضًا، والإيتاء الثاني هو الزكاة المفروضة(69). ومما سبق من أقوال الأئمة المفسير يتبين لنا أن في المال حق سوى الزكاة. وبهذا يجوز لولي الأمر إذا لم تكفي الزكاة سد حاجة الفقراء أن يفرض في أموال الأغنياء ما تقتضيه حاجة لفقراء أو المصلحة العامة.
ب- استدلالهم من السنة النبوية: استدلوا بما يلي:
1- عن فاطمة بنت قيس قالت: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة فقال: "إن في المال لحقًا سوى الزكاة"(70) ثم تلا هذه الآية من سورة البقرة (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب)
2- عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان له فضل زاد فيعد به على من لا زاد له، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل"(71).
3- عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بالقدر الذي يسع فقرائهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يضع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حسابًا شديدًا ويعذبهم عذابًا أليمًا"(72).
4- عن عبد الرحمن بن أبي بكر – رضي الله عنه – أنه أصحاب الصفة كانوا أناس فقراء وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس". وإن أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة(73).
وجه الدلالة من الأحاديث:
إذا أمعنا في الأحاديث السالفة وجدنا أنها في مجملها تؤكد على التكافل بين أبناء المجتمع الإسلامي. فالحديث الأول عن فاطمة بنت قيس يؤكد أن في مال المسلم الغني حقًا للفقراء المسلمين غير الزكاة إذا احتاجوا إلى ذلك. وهذا هو المعنى الحقيقي للتكافل الاجتماعي.
وفي الحديث الثاني عن ابي سعيد يطلب الرسول صلى الله عليه وسلم ممن كان عنده فضل مال زائد عن حاجته أن تصدق به على من لا مال له.
وكذلك يبين الحديث الثالث عن علي أن في مال الأغنياء حقًا للفقراء عند حاجتهم إليه على سبيل الوجوب لقوله عليه السلام "إن الله فرض على الأغنياء المسلمين في أموالهم بالقدر الذي يسع فقراءهم". فيتضح من ذلك جواز أن يفرض على الأغنياء ما يسد حاجة الفقراء عند عدم كفاية الزكاة.
وفي الحديث الرابع الذي يحمل طابع الأمر حيث يقول عليه السلام "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث..." حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم طبق ذلك على نفسه فذهب بعشرة، وذهب أبوبكر بثلاثة...
فالملاحظ أن الأحاديث جميعها تؤكد وجوب التكافل بين المسلمين، وقد دعت إلى حل مشكلات وحالات خاصة لمصالح فردية فكيف إذا كانت المصلحة عامة فهي أولى أن تقدم. ولهذا يجوز لولي الأمر أن يوظف في أموال القادرين ما يكفي لسد الحاجات الطارئة إذا احتاجت إلى مال غير متوفر في خزينة الدولة، كإعداد جيش للدفاع عن أرض المسلمين أو فكاك أسراهم.
جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري: يستفاد من هذا الحديث جواز التوظيف في المخمصة(74).
وذكر في شرح جامع الترمذي بخصوص حديث فاطمة بنت قيس أن في المال لحقًا سوى الزكاة. قوله كفكاك أسير وإطعام مضطر، وإنقاذ مُخْتَرَمٍ. فهذه حقوق واجبة كغيرها ولكن وجوبها عارض(75). وهذه فكرة حقيقة جواز فرض الضريبة إلى جانب الزكاة من قبل ولي الأمر عند عدم كفايتها(76).
ج- واستدلوا بالآثار الواردة عن الصحابة ومن ذلك:(/7)
1- ما ورد عن الفاروق عمر رضي الله عنه أنه قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقرائهم(77). وبهذا يرى عمر أنه يجوز لولي الأمر أن يفرض على الأغنياء من الصدقات غير الزكاة قدرًا تسد به حاج الفقراء، ويمحى به الفقر من المجتمع. كما ذهب إلى ذلك أبو هريرة وابن عباس وابن عمر وأبو ذر وعائشة وفاطمة بنت قيس رضي الله عنهم(78).
2- وصح عن الشعبي، ومجاهد، وعطاء، وطاووس من التابعين رضي الله عنهم أن في المال حقًا سوى الزكاة(79)، وهذه الأقوال لم تلق تعارضًا فتكون بمثابة إجماع سكوتي على جواز فرض ضريبة مع الزكاة عند عدم كفايتها لسد حاجات الفقراء.
د- وأما ما يستدل به من المعقول:
1- مبدأ التكافل الاجتماعي بين الفرد والمجتمع، والتكامل القائم بينهما وذلك انطلاقًا من قوله عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"(80)، إذ أن الفرد لا يمكنه أن يعيش بغير عون المجتمع له، فهو الذي يؤثر في سلوك الفرد، ويعاونه على التكيف مع الحياة في مختلف مراحلها، ويغذيه باللغة والثقافة والعادات والتقاليد، وقواعد الدين، والمعاملة، وفيه ومن خلاله تكون مكاسبه المادية، والاقتصادية. كذلك فالفرد لا يمكن أن يكسب المال بجهده وحده، بل تشاركه في كسبه جهود وأفكار، وأيد كثيرة، فالفلاح مثلاً كيف يجمع ماله ويحقق مكسبه لولا جهد المجتمع الذي شق له القنوات، ونظم له الري والصرف، وصنع له أدوات الحراثة والزراعة، وهيأ له الأمن والاستقرار؟ وهكذا الصانع، والموظف(81).
ومن أجل هذا فإن المال الذي يحوزه الفرد، وينسب إليه، هو بمثابة مال الجماعة أيضًا، ينسب إليها ويجب عليها، أ، تحافظ عليه. قال تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا)(82).
وقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا)(83)، ويتبين من الآيات الكريمة أن الله تعالى أضاف الأموال فيها إلى جميع المخاطبين، فلم يقل، لا يأكل بعضكم مال بعض، بل قال تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) لينبه على أن المجتمع المسلم وحدة متضامنة في كل أمورها.
يقول الشيخ رشيد رضا في تفسير الآية "ذلك بأن الإسلام يجعل مال كل فرد من أفراد المتبعين له مالاً لأمته كلها، مع احترام الحيازة والملكية، وحفظ حقوقها. فهو يوجب على كل ذي مال كثير حقوقًا معينة لصالح العامة، كما يوجب عليه وعلى صاحب المال القليل حقوقًا أخرى لذوي الاضطرار من الأمة، ويحث فوق ذلك على البر والإحسان(84).
إن هذه القاعدة توجد أسس المصلحة المشتركة بين الدولة والأفراد، إذ لا بقاء لأحدهما دون الآخر، وفي نفس الوقت تقوم أسس هذه المصلحة المشتركة على العلاقة التبادلية في الحقوق والواجبات، فالرعية تستمد وجودها من وجود الدولة، فتتمتع باستغلال مرافقها من أمن ودفاع، وتعلم، ونقل، وصحة، وغير ذلك من المصالح، كما تستمد من حماية الدولة وانتمائها لها القدرة على تلبية حاجاتها الخاصة، وتنمية أموالها. ولذا فالكل مكلف بحماية الدولة، ودعم أسس وجودها، ووجوب مشاركتها في تحمل الأعباء العامة، وخاصة في الظروف غير العادية، والالتزام بدفع ما يترتب من ضرائب عارضة، تفرضها الدولة مراعية الظرف الاستثنائي الطارئ في فرضيتها بحيث يتناسب مع حجم هذا الظرف وبقائه.
2- مبدأ الإخاء الذي نادى به الإسلام "إنما المؤمنون أخوة"(85)، فإن لهذه الأخوة ثمرات، ومتطلبات، تؤتي أكلها في مجال التضامن الأخوي العلمي، والتكافل الاجتماعي فهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، "والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره"(86)، فهذا الإخاء الروحي في الرعية يجب أن يكون دافعًا للوقوف بجانب الدولة عند حدوث الظرف الاستثنائي غير العادي، فالإخاء علاقة روحية يجب أن تعكس واجب التضامن مع الدولة في محنتها.
هذا هو المجتمع المسلم بنيان مرصوص يشد بعضه بعضًا، وأسرة واحدة يكفل كل أخ فيها أخاه.
نخلص من هذا كله إلى أن للجماعة حقًا أكيدًا في مال الفرد، حقًا لا يسلبه ملكيته المشروعة له، بل يجعل جزءًا معينًا لمصالح الجماعة العامة، كالزكاة وأكثر منه عند اقتضاء الحاجة واستدعاء المصلحة، ومن حق المجتمع ممثلاً في الدولة التي تشرف عليه، وترعى مصالحه أن يكون لها نصيب من مال ذي المال، تنفقه فيما يعود على المجتمع كله بالخير وخاصة عند الملمات والشدائد، والمستجدات التي لم يكن يحسب لها حساب، فلا بد عندها من أن يفرض الحاكم على الرعية ما يمكنه من التغلب على النوائب، وإلا انعكس ذلك سلبيًا على الأمة كلها، وإلا لما كان في دعوة التضامن من معنى.(/8)
وفي هذا يقول الفخر الرازي: وأما العقل فإنه لا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة، وجب على الناس أن يعطوه مقدار دفع الضرورة، وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم. ولو امتنعوا من الإعطاء جاز الأخذ منهم قهرًا فهذا يدل على أن الإيتاء واجب(87).
3- الزكاة لا تغني عن الضرائب لأن مصارفها محددة وغايتها اجتماعيه، ودينية، وسياسية، وأخلاقية، فهي ليست جمعًا للمال لإنفاقه على مرافق الدولة بل محصورة في الأصناف الثمانية المعروفة في الآية الكريمة الخاصة بالزكاة (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم)(88).
ولهذا فإن أموالها لا تخلط بأموال الموارد الأخرى، قال الفقهاء لا تصرف الزكاة إلى بناء الجسور وتمهيد الطرق وشق الأنهار، وبناء المساجد والمدارس والسقايات وسد البثوق(89)، وهذه المرافق العامة وغيرها الكثير ضروري للجماعة، والدولة هي المسئولة عن إصلاح هذه المرافق وإقامتها، فمن أين ينفق على مصالح الجماعة ومن أين تسد ثغور الوطن، إذا لم يجز للحاكم أن ينفق عليها من أموال الزكاة؟ يبقى الجواب أنه حالة عجز الدولة عن القيام بهذه المرافق لابد من فرض ضرائب على ذوي الأموال بقدر ما يحقق المصلحة الواجب تحقيقها وفقًا للقاعدة التي تقول "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"(90).
4- من قواعد الشريعة يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام بمعنى أن نفع الجماعة مقدم على نفع الفرد، وكذلك درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة(91)، وتفويت أدنى المصلحتين تحصيلاً لأعلاهما، كل ذلك لا يؤدي إلى إباحة فرض الضرائب فحسب، بل على العكس يحتم فرضها، وأخذها بالقوة، إذا وقعت الدولة في مأزق أو ظرف طارئ يستوجب مالاً كثيرًا لا تتحمل خزينة الدولة القيام به وإن لم يدفع هذا الطارئ، ربما تزول الدولة، أو ينخر الضعف كيانها، ناهيك عن الأخطار العسكرية من قبل أعدائها، فيطمعون بها، لا يعقل أن يمنع فرض الضرائب في حال النوازل بالأمة، وعدم قدرتها على مواجهة ذلك فتفوت مصالح الأمة من أجل المحافظة على الملكية الخاصة. فالقاعدة الشرعية كذلك تقول "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"(92).
5- تطور الإنفاق: مطلوب من الدولة أن تتفوق في شتى جوانب الحياة العلمية والصناعية، والاقتصادية والعسكرية، بما يتلاءم مع تطور حياة أعدائها وبما يحقق لأبنائها مواكبة التطور والعيش الكريم، ومن الطبيعي جدًا أن زيادة عدد السكان يحتاج إلى زيادة في الإنفاق، كل هذا يفتقر إلى مقادير كبيرة من المال، قد يُعجز الدولة إيجاده وتوفيره ولا يكون سبيل إلى ذلك إلا بفرض الضرائب، وعندها تكون هذه الضرائب نوعًا من الجهاد بالمال، والمسلم مأمور بذلك، ليحمي دولته، ويقوي أمته، ويحمي دينه وماله وعرضه(93).
6- إن ما يجمع من الضرائب لابد وأن ينفق في المصالح العامة، ومرافق الدولة كالدفاع والأمن، والتعليم والصحة، ونحوه، وهذا لا شك يستفيد منه جموع المسلمين من قريب أو بعيد. وإذا كان الفرد يستفيد من وجود الدولة، ويتمتع بالمرافق العامة في ظل إشرافها وتنظيمها، وحمايتها للأمن الداخلي والخارجي، فلا بد أن يسهم بالمال اللازم عند الحاجة، لتتمكن الدولة من القيام بأعبائها ومسؤوليتها. فكما يغنم الفرد من المجتمع ممثلاً في الدولة ونشاطاتها يجب أن يغرم، ويدفع ما يخصه من ضرائب والتزامات تطبيقًا للقاعدة الشرعية "الغرم بالغنم"(94).
ثانياً: آراء الفقهاء المحدثين في جواز فرض الضريبة:
تأسيسًا على ما تقدم من نصوص في المسألة، وما قال به الفقهاء القدامى من أئمة المذاهب من جواز توظيف الضرائب على القادرين عند الضرورة فقد ذهب كبار الفقهاء المحدثين إلى جواز الجمع بين الزكاة والضرائب الأخرى، إذا قامت في المجتمع ضرورة تدعو لذلك.
وفي يلي بيان لآراء أشهر الفقهاء:
1- يرى الشيخ عبد الحليم محمود – شيخ الجامع الأزهر – رحمه الله –، أن المجتمع مسئول عن لمحتاج فيه، وعليه أن يسد حاجته، وأن يرعى حقه المعلوم في أموال الزكاة، فإن لم يكون في الزكاة وفاء، فرض المجتمع في أموال الأغنياء ما يدفع احتياج الفقراء واستدل على ذلك بآية البر، في سورة البقرة(95) (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة، والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى، واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتي الزكاة) فيرى أن عطف الزكاة على إيتاء المال يقتضي المغايرة(96) وقد اشرنا إلى ذلك.(/9)
2- يرى الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر رحمه الله أن الزكاة عبادة مالية، وليست ضريبة يجب إخراجها، وجدت حاجة إليها أو لم توجد، وهي مورد دائم للفقراء والمساكين، وأما الضرائب فهي من وضع الحاكم عند الحاجة، وإن إحداهما لا تغني عن الأخرى .. وعليه فيجب دفع الضرائب، وتكون بمثابة دين شغل به المال. ويقول: إن الحاكم الممثل للأمة إذا لم يجد ما يحقق به المصالح العامة للجماعة، كإنشاء دور التعليم، وتعبيد الطرق، وحفر الترع والمصانع، وإعداد العدة للدفاع عن البلاد، ورأى أن أغنياء الأمة قد قبضوا ايديهم، ولم يمدوه بالبذل والمعونة، جاز له وقد يجب أن يضع عليهم من الضرائب ما يحقق به تلك المصالح دون إرهاق أو إعنات(97).
وهذا ما يراه الشيخ محمد السايس عضو مجمع البحوث الإسلامية كذلك فيقول: ولا يمنعه من فرض ذلك على المسلمين ما أوجبه الله عليهم قربة ودينًا من صدقات تطهرهم وتزكيهم(98).
3- يؤكد الشيخ محمد أو زهرة – رحمه الله تعالى – جواز فرض ضرائب بجوار الزكاة مستندًا إلى أسانيد فقهية شرعية فيقول:
"زعم بعض العلماء أن الضرائب القائمة في الدولة الإسلامية، تقوم مقام الزكاة وتغني غناءها، وذلك زعم لا يتفق مع أصل شرعة الزكاة، لأن هذه الضريبة كانت لعلاج الفقر والفقراء، وسد حاجة المحتاجين، والصرف على الجيش المجاهد في سبيل الدعوة الإسلامية، وليست هذه مصارف الضرائب التي تفرض الآن. ويعلل عدم وجود ضرائب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجود تعاون كبير بين المؤمنين ورغبة تطوعية في الإنفاق في سبيل الله، والمؤاخاة بين المجاهدين والأنصار ضيقت مسارب الفقر وجيوبه، فلم يكن ثمة حاجة إلى فرض ضرائب غير الزكاة، والجزية، والخراج، ويعزو جواز فرض ضرائب غير الزكاة الآن إلى تعقد الاجتماع واستبحار العمران، وحاجة الدولة الإسلامية إلى المال الكثير، وأن الزكاة لا تكفي. ولذا فإنه إذا كانت هناك حاجة شديدة في بيت المال، وكان القائمون عدولاً، تفرض الضرائب، محتجًا بقول مالك رحمه الله: "يجب على المسلمين فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم، وهذا إجماع(99) كما يستند في فتواه إلى المصلحة المرسلة في التوظيف على الأغنياء، إذا خلا بيت المال وارتفعت حاجات الجند، وليس فيه ما يكفيهم، وجعل حصة الأغنياء فيها أكبر نسبة من حصة غيرهم ما دامت المصلحة توجب ذلك، وما دام ولي الأمر قائمًا بالعدل والقسطاس(100).
4- ويقول المناوي في فيض القدير. في المال حق سوى الزكاة كفكاك الأسير، وإطعام المضطر، وسقي الظمآن، وعند منع الماء والملح والنار، وإنقاذ محترف أشرف على الهلاك ونحو ذلك، قال ابن عبد الحق: قام الإجماع على وجوبها وإجبار الأغنياء عليها(101).
5- ويرى المودودي جواز فرض الضرائب فيقول: ".. أما حاجات الحكومة فما هي إلا حاجات الجمهور أنفسهم، فكل ما يطالبون به الحكومة، من واجبهم أن يكتتبوا لها من الأموال ما تحقق به مطالبهم، فكما أنه يكتتب بالمال مختلف الشئون الاجتماعية فكذلك يجب على الناس أن يكتتبوا بالمال، ويمكنوا الحكومة من القيام بكل ما هم في حاجة إليه، وما الضريبة في الواقع إلا مال يكتتب به الناس لمصالحهم"(102).
المطلب الثاني
المانعون لفرض الضرائب
يرى هذا الفريق أن الحق الوحيد في المال هو الزكاة، فمن أخرج زكاة ماله فقد برئت ذمته، ولا يجوز بعد ذلك التعرض لما في يده من أموال دون حق ولا يطالب بشيء إلا أن يتطوع رغبة بالأجر من الله تعالى.
حجتهم في المنع: احتجوا لهذا الرأي بأحاديث أهمها:
1- ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن أعرابيًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة فقال: تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا، فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر على رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا، وفي رواية قال عليه السلام: "إن صدق الأعرابي، دخل الجنة"(103)، ففي هذا الحديث أعلن الرجل أنه لا يزيد على الزكاة المفروضة ولا ينقص، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه من أهل الجنة.
2- روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك"(104)، ومن قضى ما عليه في ماله، لم يكن عليه حق فيه ولا يطالب بإخراج شيء آخر على سبيل الوجوب.
3- ما رواه ابن ماجة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس أنها سمعته تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس في المال حق سوى الزكاة"(105).
وقالوا إن ما جاء في بعض النصوص من إثبات حقوق في المال غير الزكاة مطلوبة على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب والالتزام كما في حق الضيف، أو قالوا بأنها حقوق واجبة قبل الزكاة فلما فرضت الزكاة نسخت كل حق كان قبلها(106).(/10)
4- احترام الملكية الشخصية. إذ أن الإسلام احترم الملكية الشخصية، وجعل كل إنسان أحق بماله وحرم الأموال كما حرم الدماء والأعراض، والضرائب مهما يقول القائلون في تبريرها وتفسيرها ليست إلا مصادرة جزء من المال يؤخذ من أربابه قسرًا وكرهًا.
5- الأحاديث الواردة بذم المكس، ومنع العشور. فلقد جاءت الأحاديث النبوية بذم المكوس والقائمين عليها وتوعدهم بالنار والحرمان من الجنة.
فعن رويفع بن ثابت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن صاحب المكس في النار"(107).
وعن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة صاحب مكس"(108)، وعدّ الذهبي المكس من الكبائر وقال: المكاس من أكبر أعوان الظلمة، بل هو من الظلمة أنفسهم، فإنه يأخذ ما لا يستحق، ويعطيه من لا يستحق(109).
المطلب الثالث
مناقشة أدلة الطرفين
بعد عرض أدلة الطرفين المانعين والمجيزين أرى أنه لابد من مناقشة آراء الفريقين وحججهم لنتبين ما يترجح من الآراء.
أولاً: مناقشة آراء المانعين والرد عليهم:
لقد احتج المانعون لفرض الضريبة وإنه ليس في المال حق سوى الزكاة بأحاديث يؤخذ من ظاهرها ما قالوه. وإليك ما أجاب به المجيزون عن أدلة المانعين:
أ- فبخصوص حديث الأعرابي الذي أعلن فيه أنه لا يزيد على الزكاة المفروضة ولا ينقص وقبل منه الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه من أهل الجنة، وكذلك حديث الترمذي عن أبي هريرة إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك.
فقد رد عليها بأن الزكاة حق على المسلم تأديته وهو حق محدد وثابت في المال وواجب على الأعيان بصفة دائمة تطهيرًا وتزكية للنفس والمال، وهو واجب الأداء وإن لم يوجد فقير يستحق المواساة، أو حاجة تستدعي الإسهام.
فالفرد المسلم المالك للنصاب في الظروف العادية لا يطالب بشيء من ماله غير الزكاة فإذا أداها قضى ما عليه، وليس عليه شيء آخر، إلا أن يطوع كما جاء في الحديث.
أما الحقوق الأخرى كفرض الضرائب ونحوها فهي حقوق طارئة غير ثابتة ثبوت الزكاة، وغير مقدرة بمقدار معلوم، فهي تختلف باختلاف الأحوال والحاجات، وتتغير بتغير العصور والمستجدات، فإذا كثرت حاجات الأفراد، واتسعت نفقات الدولة وأعباؤها كما في عصرنا الحديث، فحينئذ لابد من تدخل الدولة وفرض ما تحتاجه لمواجهة ما طرأ(110) كما جاء في فتح الباري من قول القرطبي ردًا على حديث الأعرابي: ولعل أصحاب هذا القصص كانوا حديثي عهد بالإسلام فاكتفى منهم بفعل ما وجب عليهم في تلك الحال لئلا يثقل عليهم فيملوا، حتى إذا انشرحت صدورهم للفهم عنه، والحرص على تحصيل المندوبات سعلت عليهم(111).
ب- أما بخصوص حديث فاطمة بنت قيس "ليس في المال حق سوى الزكاة":
1- قال فيه ابن تيمية: أي ليس في المال حق يجب بسبب المال سوى الزكاة، وإلا ففيه واجبات بغير سبب المال، كما تجب النفقات للاقارب والزوجة وحمل العاقلة وقضاء الديون، ويجب الإعطاء في النائبة، ويجب إطعام الجائع وكسوة العاري فرضًا على الكفاية إلى غير ذلك من الواجبات المالية(112).
2- وقال المناوي عند شرحه للحديث: يعني ليس فيه حق سوى الزكاة بطريق الأصالة، وقد يعرض ما يوجب فيه حقًا كوجود مضطر، فلا تناقض بينه وبين الخبر "إن في المال لحقًا سوى الزكاة" لما تقرر أن ذلك ناظر إلى الأصل، وذا ناظر إلى العوارض، وبناء على ذلك فإنه لا يجوز الاحتجاج على منع توظيف المال على الأغنياء بحديث "ليس في المال حق سوى الزكاة"، بدعوى أن المسلم إذا أدى ما عليه من زكاة قد ثبت أن هناك حقوقًا أخرى في المال سوى الزكاة منها النفقة على الوالدين والولد والزوجة وعلى الرقيق والحيوان، ومنها الديون والأروش وقرى الضيف، وصلة الرحم(113).
3- ناهيك عما في الحديث من ضعف ذكره نقاد الحديث فقالوا حديث ضعيف جدًا ومردود بلا شك بل خطأ وتحريف(114).
4- أما بخصوص وجوب احترام الملكية الشخصية:
فإن احترام الإسلام للملكية الفردية لا ينافي تعلق الحقوق بالمال، وكما سبق أن أشرنا في الأدلة العقلية على جواز فرض الضريبة فإن للجماعة حقًا في مال الفرد لأنه لم يكسب ماله إلا بها، وهي التي أسهمت في تكوين ثروته، فإذا كان في الدولة الإسلامية محتاجون لم تكفهم الزكاة، أو كانت المصلحة العامة تتطلب مالاً لسد الثغور مثلاً، أو بناء مرفق عام ينتفع به الناس، أن كان دين الله وتبليغ دعوته يحتاج إلى مال لإقامة ذلك، فإن الواجب الذي يحتمه الإسلام أن تفرض في أموال الأغنياء ما يحقق هذه الأمور، وما دام تحقيق ذلك منوطًا بأولي الأمر، ولا مال إلا بفرض الضريبة فإن له الحق في ذلك(115)، لأن القاعدة الشرعية تقول: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"(116).
ج- قولهم بحرمة المكس:(/11)
إن المكس الذي يدعون غير الضريبة الشرعية وإن الأحاديث الواردة في ذم المكس أكثرها لم تثبت صحتها(117)، وإن كلمة المكس لا يراد بها معنى واحد محدد لغة أو شرعًا، فهو يأتي يمعنى: ما يأخذه العشار، والضريبة التي يأخذها الماكس وأصله الجباية، ويأتي بمعنى النقص، والمكس: انتقاص الثمن في البياعة وما يأخذ الماكس ممن يدخلون البلد من التجار(118). وعلى هذا يحمل صاحب المكس على الموظف العامل الذي يجبي الزكاة فيظلم في عمله، ويتعدى على أرباب الأموال فيأخذ منهم ما ليس من حقه. أو يقل من المال الذي جمعه مما هو حق للفقراء وسائر المستحقين، وقد يدل لذلك ما جاء عن بعض الرواة من تفسير العاشر بالذي يأخذ الصدقة على غير حقها(119)، كما أن أبا داود أخرج الحديث في باب السعاية على الصدقة(120).
وهناك محمل آخر لكلمة المكس لعله هو الظاهر(121)، والمراد بها الضرائب الجائرة التي كانت تسود العالم يوم ظهور الإسلام وتؤخذ بغير حق، وتنفق بغير حق، ولم تكن تنفق على مصالح الشعوب، بل في مصالح الملوك والرؤساء وشهواتهم، وأتباعهم، ولم تكن تؤخذ من الناس حسب قدراتهم على الدفع، فكثيرًا ما أعفى الغني محاباة، وأرهق الفقر عدوانًا، قال في التبيين من كتب الحنفية، وما ورد من ذم العشار محمول على من يأخذ أموال الناس ظلمًا كما يفعله الظلمة اليوم(122).
فهذا النوع من الضرائب هو أولى أن يطلق عليه اسم المكس الذي جاء فيه الوعد والوعيد، أما الضرائب التي تفرض من قبل الحاكم العادل، وبالشروط التي يجب أن تتوافر بها كما سنبين إن شاء الله تعالى وعلى أساس المصلحة والعدالة، لتغطي نفقات الميزانية وتسد حاجات البلاد من الإنتاج والخدمات، وتقيم مصالح الأمة العامة العسكرية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والصحية وغيرها، فإن مثل هذه الضرائب لمثل هذه الغايات وما شابهها، لا يشك ذو بصر في الإسلام أنها جائزة بل قد تكون واجبة، وللحكومة الإسلامية الحق في فرضها وأخذها من الرعية حسب المصلحة وبقدر الحاجة(123).
ثانيًا: مناقشة آراء المجيزين:
أعتمد المجيزون في آرائهم على الكتاب والسنة النبوية والآثار التي وردت عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم كما احتجوا لذلك بالمعقول وما تهدي إليه القواعد الشرعية والمبادئ العامة القائمة على المصلحة العامة كما أسلفنا.
وإليك مناقشة هذه الحجج والرد عليها:
1- أما استدلالهم بآية البر وهي قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب..... وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة ...) فقالوا إن فيها دلالة واضحة على أن في المال حقًا سوى الزكاة، لأن الله تعالى نص على إيتاء المال لذوي القربى .... ثم عطف قيام الصلاة وإيتاء الزكاة على ما سبق، فإن في ذلك دلالة على أن في المال حقًا سوى الزكاة، لأن المعطوف مغاير للمعطوف عليه في العادة وبذلك يجوز للإمام أن يوظف على المكلفين نصيبًا من المال عند عدم كفاية الزكاة لسد حاجة فقراء المسلمين أو تحقيق مصالحهم، ما دام أن في المال حقًا سوى الزكاة فالمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
ورد المخالفون هذا الاستدلال من وجوه فقالوا:
إن ما جاء في النص من إثبات حقوق في المال غير الزكاة مطلوب على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب، وإنما هو واجب حال الضرورة فقط.
وقال الضحاك بن مزاحم بأن إيتاء المال كان حقًا واجبًا قبل الزكاة فلما فرضت الزكاة نسخت كل حق كان قبلها(124).
وإني أرى أن هذه الردود لا تقوى على دحض حجة المجيزين واستنباطهم أن في المال حقًا سوى الزكاة حيث أن آراء المانعين في الرد اختلفت وتعددت، فمنهم من اعتبر أن في المال حقًا على سبيل الندب، ومنهم من قاله على سبيل الوجوب عند الضرورة، ومنهم من اعتبر أن ذلك منسوخ بآية الزكاة، وإن قولهم بأن ذلك مطلوب على وجه الاستحباب يتفق مع رأي المجيزين أخذ المال من المكلف غير الزكاة عند عدم كفاية الزكاة وعند الحاجة إلى مال لتحقيق مصلحة للمسلمين، أو دفع مضرة فهم يقولون بذلك عند الضرورة وهذا لا يخالف ما قاله المانعون عندما أوجبوا ذلك عند الضرورة.
وأما ادعاؤهم النسخ فهذا غير مسلم لأنه لو صح لكان قول الله تعالى في الآية (وآتى الزكاة) ناسخًا لقوله تعالى: (وآتى المال على حبه) فيقرر جزء الآية حكمًا ينسخه الجزء الآخر وهذا غير معقول في حق الله تعالى.
كما أن الآية اشتملت على خبر ووصف لأهل البر والتقوى، والأخبار لا تنسخ لأن نسخها يكون تكذيبًا لقائلها وتعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا(125).
وروى أبو عبيد عن أبي عباس أن الآية نزلت في المدينة حين نزلت الفرائض وحددت الحدود وأمروا في العمل، فهي محكمة(126).
استدلالهم من السنة(/12)
2- : رد المخالفون على المجيزين استدلالهم بحديث فاطمة بنت قيس بأنه حديث ضعيف، قاله الترمذي لأنه من طريق أبي حمزة ميمون الأعور القصاب، وهو ضعيف جدًا عند أهل الحديث. ولا يعول على ما رواه، وقال البيهقي في الحديث لست أحفظ فيه إسنادًا(127).
ورد عليه المجيزون بأن الحديث وإن كان به ضعف إلا أن آية البر المذكورة تقوي عضده وتشد أزره، وهي وحدها حجة بالغة ، قال القرطبي معقبًا على الحديث المذكور: والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: (وأقام الصلاة وآتى الزكاة) ليس الزكاة المفروضة فإن ذلك يكون تكرارًا(128).
وأما بقية الأحاديث فقد استدلوا بها فهي واردة في الصحاح، ورغم صحتها لكنها لا دلالة فيها على جواز فرض الضريبة مباشرة بل غاية ما تدل عليه أن للمسلم الفقير حقًا في مال الغني المسلم، فإذا لم تكف الزكاة لسد حاجة الفقراء والمحتاجين، فإنه يلزم الأغنياء إعطاء الفقراء من فضول أموالهم.
فإن جاع الفقراء أو عروا فإنما بسبب منع الأغنياء فضول أموالهم، وسيحاسبون على ذلك المنع يوم القيامة، لكنه يمكن الاحتجاج بهذه الأحاديث على جواز فرض الضريبة قياسًا على هذا الحق، فإذا عجز بيت المال عن تحقيق مصالح الناس أو دفع خطر داهم عليهم فإن للحاكم أن يفرض على المكلفين ما يحقق المصلحة الضرورية، أو يدفع الخطر الداهم فالمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
3- وأما ما استدلوا به من أقوال الصحابة والتابعين فإن قول الصحابي حجة إذا لم يوجد من يعارضه، ولما لم نجد معارضًا لقول عمر الذي استشهدوا به على جواز فرض الضريبة، وكذا آراء آخرين من الصحابة يقولون بقول عمر، فإن ذلك يكون بمثابة إجماع ويصلح أن يكون استدلالهم حجة.
4- وأما استدلالهم من المعقول أن من واجب الفرد المسلم أن يسهم في تحقيق مصالح المجتمع الإسلامي ويحافظ على كيانهم، ويدفع عنه الخطر انطلاقًا من مبادئ إسلامية عامة، كمبدأ التكافل الاجتماعي، والإخاء الإسلامي، الذي قررته الآية الكريمة والأحاديث النبوية الصحيحة. فالقوي في المجتمع الإسلامي يحمل الضعيف، والغني يأخذ بيد الفقير، فإذا قام البعض بدافع إيمانهم سقط الإثم عن الباقين، وإلا فإن لولي الأمر أن يتدخل ويرتب في أموال الأغنياء ما يسد حاجة الفقراء والضعفاء. وأولى من ذلك إذا طرأ على المسلمين خطر داهم، أو جدت مصلحة عامة ضرورية ولم يكن في بيت المال ما يحققها. فالضرورة تقدر بقدرها.
الترجيح وما أميل إليه:
بعد الإطلاع على أدلة الفريقين (المجيزين والمانعين) فإني أميل إلى ترجيع رأي المجيزين لفرض الضريبة وذلك للأسباب التالية:
1- قوة أدلة المجيزين، وذلك لاعتمادهم على شواهد من القرآن الكريم وما قال بها المفسرون، وكذا نصوص من السنة النبوية الصحيحة، وما استشهدوا به من آثار واردة عن الصحابة والتابعين، ومن المعقول كلها تدل على جواز فرض الضريبة عند الضرورة. فالقاعدة الشرعية تقول "الضرورات تبيح المحظورات"(129).
2- إن رأيهم يتفق مع قواعد الشريعة ومقاصدها العامة، وهي تحقيق مصالح الأمة. وإقامة مجتمع متعاون على الخير. وهذا هو الأصل من فرض الضريبة.
3- ردهم على مخالفيهم المانعين، وتفنيد حججهم بالحجة والمنطق. وبيان ضعف ما اعتمدوا عليه من حديث، وتوضيح معنى بعضه الآخر بأنه لا يصلح للاحتجاج به في هذا المجال، وليس فيما قالوه ما يدل على حظر فرض ضريبة مالية على الناس عند الضرورة لتحقيق مصالح مستجدة أو دفع خطر داهم، شريطة أن تقدر الضرورة بقدرها وتنتهي بزوال الحاجة. والله أعلم.
المبحث الثالث
مسئولية فرض الضريبة
وفيه مطالب
المطلب الأول
من له حق فرض الضريبة
لا شك أن المخول لإدارة شئون الأمة والمسئول عن تحقيق مصالحها هو الذي له حق أمرها ونهيها، وتكليف من شاء بما شاء وفق شروط وضوابط أهمها: تحقيق مصلحة عامة أو دفع مضرة أو مفسدة إذ أن مقاصد الشريعة تتمثل في جلب المصالح ودفع المفاسد، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشير إلى ذلك. فقد حدث أن تعرضت المدينة المنورة لأمر طارئ حيث قدمت إليها وفود من أهل البادية وقت عيد الأضحى وقد بدا عليها الفقر والحاجة، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن نهى أهل المدينة عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام – في حين أنها مباحة – وذلك من أجل التصدق على الجماعة التي دخلت المدينة تشكو الحاجة، ولما غادرت تلك الجماعات المدينة أباح رسول الله ادخارها، روى سلمة بن الأكوع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء. فلما كان في العام المقبل، قالوا: نفعل كما فعلنا في العام الماضي؟ قال: كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد، فأردت أن تعينوا فيه(130). وفي رواية فقال: "إنما نهيتكم من أجل الدافة(131) فكلوا وادخروا وتصدقوا".(/13)
وبهذا يتبين أن الحاكم هو الذي له حق فرض الضريبة في أموال الناس ولكن ضمن حدود ووفق شروط نتبينها في المطلب الثاني.
المطلب الثاني
شروط الحاكم الذي له حق فرض الضريبة
وضع العلماء شروطا عدة لمن يتولى أمر المسلمين وعليهم طاعته. وقد ذكر الإمام الماوردي سبعة شروط معتبرة في الخليفة(132). تضمن سلامته وكفايته وقدرته على تولي المنصب. نثبت منها ما يعنينا في البحث وأهما:
1- العدالة بشروطها الجامعة. فيكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفًا عن المحارم، بعيدًا عن الريبة، مأمونًا في الرضى والغضب، مستعملاً لمروءة مثله في دينه ودنياه. يقول ابن خلدون(133): وأما العدالة فلأنها منصب ديني ينظر في سائر المناصب التي هي شرط فيها فكان أولى باشتراطها فيها، ولا خلاف في انتفاء العدالة فيه بفسق الجوارح من ارتكاب المحظورات وأمثالها.
فالمقصود بالعدالة ما يعبر عنه في الوقت الحاضر بحسن السير والسلوك والامتناع عما يخل بالشرف أو الأمانة(134).
2- العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام. فهو المنفذ لأحكام الله فيجب أن يكون عالمًا أو قادرًا على العلم بها.
يقول ابن خلدون: فلا يكفي من العلم إلا أن يكون مجتهدًا لأن التقليد نقص، والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والاحوال(135).
ولكن هذه الشروط غير متحققة في هذا الزمان، فإذا تعذر هذا الشرط يمكن أن يتحقق عن طريق اعتماد الحاكم على المجتهدين من الأمة وعلمائها، فلا يقطع برأي دونهم، ولا يبرم أمرًا بغير رأيهم، وبهذا تتحقق الغاية من الشرط(136).
3- الكفاءة. أن يكون متصديًا لمصالح الأمة وضبتها، ذا نجدة وشجاعة ذا رأي سديد، وأن يكون جريئًا في إقامة الحدود واقتحام الحروب، وإقامة الأحكام وتدبير المصالح(137).
4- أن يكون من أهل الولاية الكاملة وهذا الوصف يتضمن عدة شروط(138) وهي:
أ- أن يكون مسلمًا: حيث أن هذا الشرط لازم لصحة الولاية. قال تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)(139).
ب- الحرية: لأن نقص فاقدها عن ولاية نفسه تمنع من انعقاد ولايته على غيره، فالعبد تصرفاته محكومة بموافقة سيده.
ج- الذكورة: حيث لا يجوز أن تتولى المرأة العامة باتفاق لقوله عليه السلام: "ما أفلح قوم يلي أمرهم امرأة"(140).
د- البلوغ: لأن الصبي غير مكلف ولا ولاية له على نفسه، فلا يلي أمر غيره، وفي حديث منه رفع القلم عن ثلاث الصبي حتى يبلغ(141).
هـ-العقل: لأن المجنون غير مكلف شرعًا ولا يحسن التصرف ولا ولاية له على نفسه.
5- أن يقيم العدل بين الناس في الحكم(142) حتى ينتفي الظلم ويطمئن كل فرد إلى حقوقه ويقوم بواجباته. فقال تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكوا بالعدل)(143).
المطلب الثالث
الشروط المعتبرة لشرعية الضريبة
1- أن تكون حاجة الدولة للمال حاجة حقيقية وضرورية لا وهمية أو ظنية، وذلك بأن تكون الدولة بحاجة حقيقية للمال، بحيث لا تكون هناك موارد أخرى تستطيع الدولة بها أن تحقق أهدافها، وتؤدي الخدمات للأمة دون فرض الضرائب على الناس، وإن كان عندها من الأموال أو الموارد ما يغطي نفقاتها، أو بإمكانها تدبير شؤون أمرها بطريق غير فرض الضرائب كتخفيض النفقات وترشيد المصروفات للمؤسسات مثلاً فلا يجوز فرضها حينئذ.
وقد تشدد علماء المسلمين وأصحاب الفتوى في هذا الشرط، حيث اشترطوا أن يخلو بيت المال من المال خلوًا تامًا، أو أن الذي فيه لا يكفي لمواجهة ما طرأ على الدولة ولمصلحتها كلها. وما صنعوا ذلك إلا خشية إسراف الحكام في طلب الأموال لحاجة أو لغير حاجة، وإرهاق الرعية بما لا يحتمل من الضرائب المالية.
ويَرْوي لنا التاريخ أمثلة على ذلك من فتاوى أفتى فيها أصحابها لمصلحة الرعية، وضد ترف الحكام، ومن ذلك ما قدمنا ن موقف العالم الجليل العز بن عبد السلام عندما استفتاه الملك المظفر قطز لجمع المال من الناس لحرب التتار، ورأينا كيف كانت فتواه متشددة مراعاة لمصلحة الأمة(144).
وتكرر هذا الموقف مع الإمام النووي رحمه الله عندما طلب منه الظاهر بيبرس أن يوقع مع العلماء على فتوى بجواز فرض الضرائب على الناس لتجهيز الجيش والإنفاق على المقاتلين، وكان علماء الشام قد وقعوا له على ذلك، فامتنع الإمام النووي رحمه الله عن التوقيع، وسأله الملك الظاهر عن سبب امتناعه، فقال الشيخ النووي: أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير زبندقدارس وليس لك مال، ثم منّ الله عليك، وجعلك ملكًا، وسمعت أن عند ألف مملوك، لكل مملوك حياصته من الذهب، وعند مائتان جارية، لكل جارية حق من الحلي، فإن أنفقت ذلك كله، وبقيت مماليكك بالبتون(145) والصوف بدلاً من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي، أفتيتك بأخذ المال من الرعية. فغضب الظاهر من كلامه، وقال له: أخرج من بلدي دمشق، فقال: السمع والطاعة، وخرج إلى نوى.(/14)
فقال الفقهاء للسلطان: إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا، ومن يقتدي بهم، فأعده إلى دمشق فأذن الظاهر برجوعه، ولكن الشيخ رفض، وقال: لا أدخلها والظاهر بها. ومات الظاهر بعد شهر(146).
ومما كتبه النووي إلى الظاهر بيبرس ينصحه، رسالة أوضح له فيها حكم اشرع، قال: ولا يحل أن يؤخذ من الرعية شيء ما دام في بيت المال شيء من نقد، أو متاع، أو أرض، أو ضياع، أو غير ذلك، وهؤلاء علماء المسلمين في بلاد السلطان – أعز الله أنصاره – متفقون على هذا، وبيت المال بحمد الله معمور، زاده الله عمارة وسعة وخيرًا وبركة(147).
وخلاصة القول في هذا الشرط: أن لا يكون في بيت المال ما يكفي لسد الحاجات الطارئة، ولا ينتظر أن يكون شيء من ذلك، وأن يرد الحاكم وحاشيته، وأعوانه ما عندهم من أموال فائضة إلى بيت مال المسلمين، فإن لم تكف فعندها يفتى بجواز فرض الضريبة.
2- يشترط أن يكون فرض الضريبة استثنائيًا دعت إليه المصلحة العامة للدولة وتدبيرًا مؤقتًا حسبما تدعو إليه الضرورة وأن يوظف الإمام على الناس بقدر الحاجة على أن ينتهي هذا الأمر بزوال العلة الداعية وانتهاء الحاجة. إذ أن تصرف الحاكم في فرض الضريبة منوط بالمصلحة فالقاعدة الفقهية تقول: "التصرف على الشرعية منوط بالمصلحة" ولذا فإن نفاذ تصرفات الوالي على الغير تتوقف على وجود الثمرة والمنفعة في ضمن التصرف سواء كانت دينية أو دنيوية، فإن تضمن التصرف منفعة وجب على الغير تنفيذه وإلا فلا، ويترك ذلك التصرف(148).
3- أن توزع أعباء الضريبة على الناس بالعدل، بحيث لا يرهق فريق من الرعية لحساب فريق آخر، ولا يحابي فريق على حساب فريق آخر بغير مسوغ يقتضي ذلك. ولا نعني بالعدل أن يؤخذ من الجميع مقدارًا واحدًا محددًا، فإن المساواة بين المتفاوتين ظلم، فلا يؤخذ بنسبة واحدة من الجميع، بل يجوز لاعتبارات اجتماعية أو اقتصادية أن تختلف النسبة، فيؤخذ من فرد أكثر من غيره نظرًا لحاله.
ولذلك تقتضي قواعد العدالة الضريبية التنويع في أسعار الضرائب، وذلك بتبني نظام النسبة في سعر الضريبة بأن يكون السعر بنسبة ثابتة من الدخل (5%) مثلاً أو أكثر حسب ما تتطلبه المصلحة العامة، ويراه ولي الأمر، بعد دراسة جادة وبصرف النظر عن مقدار الدخل، وبذلك يخضع الدخل الأعلى لسعر أعلى.
ويستفاد هذا المعنى من فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما وضع الضريبة على أهل الذمة على الغني 48 درهمًا تدفع أقساطًا شهرية وعلى متوسطي الحال 24 درهمًا وعلى الفقراء 12 درهمًا تدفع أقساطًا درهم واحد شهريًا(149).
وكذلك عندما انقص سعر الضريبة من عشرة في المائة 10% إلى 5% لاعتبار اقتصادي هام حين أخذ من النبط(150) من الزيت والحنطة نصف العشر لكي يكثروا الحمل منها إلى المدينة المنورة، لحاجتها إليه في حين أنه كان يأخذ من القطنية العشر(151).
ومما يؤكد ذلك ما كتبه الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى أحد عماله يوصيه فيه بالعدل والرحمة في أخذ الخراج من أهل الكوفة قوله "سلام عليك. أما بعد فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور من أحكام، وسنن خبيثة سنتها عليهم عمال السوء، وأن أقوم الدين العدل والإحسان فلا يكونن من شيء أهم إليك من نفسك أن توطئها لطاعة الله فإنه لا قليل مع الإثم وأمرتك أن تطرز عليم أرضهم وأن لا تحمل خرابًا على عامر، ولا عامر على خراب ولا تأخذ من الخراب إلا ما يطيق ولا من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض"(152). ويؤكد أبو يوسف على ضرورة الأخذ بالعدل لأن في العدل زيادة الخراج وعمارة البلاد فيقول "إن العدل وإنصاف المظلوم وتجنب الظلم مع ما في ذلك من الأجر يزيد به الخراج وتكثر به عمارة البلاد. والبركة مع العدل تكون وهي تفقد مع الجور(153).
4- أن يكون التصرف في جباية المال وإنفاقه على الوجه المشروع(154) أي يكون فرض الضريبة لإنفاق المال في مصالح الأمة، لا على المعاصي والشهوات والأهواء من قبل السلطة الحاكمة، ولا لتنفق على ترفيه أسرهم وترفههم، ولا لترضية السائرين في ركابهم.
روي أن رجلاً كان بينه وبين عمر بن الخطاب قرابة، فسأله مالاً، فزجره وأخرجه فكلّم فيه فقيل يا أمير المؤمنين، فلان سألك فزجرته وأخرجته، فقال: إنه سألني من مال الله – ويعني من مال جماعة المسلمين – فما معذرتي عند الله إن لقيته ملكًا خائنًا؟ فلما كان بعد ذلك أعطاه من صلب ماله(155)، ولهذا فلابد أن تفرض للدفاع عن الأمة ضد أي عدوان وتحقيق الأمن الداخلي وإشباع الحاجة إلى الخدمات الصحية من علاج ومستشفيات ومصانع أدوية ونحوه، وإشباع الحاجات التعليمية من مدارس ومعلمين ونحوه.(/15)
5- أن توخذ من فضل المال أو ما يزيد عن حاجة المكلفين الأساسية. ممن كان عنده من المكلفين فضل عن إشباع حاجاته الأساسية أخذت الضريبة من هذا الفضل ومن كان لا فضل عنده شيء بعد هذا الإشباع للحاجات الأساسية فلا يؤخذ منه شيء(156)، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقة عن ظهر غنى"(157). والمعيار الموضوعي للغني هو ملك النصاب ممن بلغ النصاب أو زاد فإنه يعتبر غنيًا تؤخذ منه الضريبة.
والحكمة من اشتراط النصاب في الزكاة وغيرها أن الضريبة تؤخذ من مال الأغنياء مواساة للفقراء أو مشاركة في مصلحة الإسلام والمسلمين فلا بد أن تؤخذ من مال يحتمل المواساة. المغنى لا نأخذ من الفقير ضريبة وهو في حاجة أن يعان لا أن يعين(158).
وفسر بعض فقهاء الحنفية الحاجات الأساسية بقوله: ما يدفع الهلاك عن الإنسان تحقيقًا كالنفقة ودور السكن وآلات الحرب والثياب المحتاج إليها لدفع الحر والبرد(159).
6- مراعاة الناحية الإنسانية التي هي سمة من أهم سمات التشريع الإسلامي، والتي تفتقدها التشريعات الوضعية حتى المعاصرة منها، إذ تعتبر الضرائب من الديون الممتازة التي تتقدم على جميع الديون الأخرى وتتخذ السلطات كافة الإجراءات التي تراها للحصول عليها حتى ولو أدى الأمر إلى الحجز على أثاث منزل الممول وبيعه. في حين نرى أن الإسلام ينهى عن استخدام الأساليب التعسفية في التحصيل ويوصي بأفضل الطرق في الجباية وأسهلها عن الممول، حتى لو اقتضى الأمر ترك بعض المال دون أخذه، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أمر سعاته للزكاة أو الخراج في تقدير الخرص للثمار وأن يخففوا على الناس فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "إذا خرصتم فجذوا، ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث، فدعوا الربع"(160).
كما أن الإسلام يحظر الحجز على الضرورات لاستيفاء الضرائب، بل ويمنع استيفاءها بالقوة، يقول الإمام علي لأحد عماله: إذا قدمت عليهم، فلا تبيعن لهم كسوة شتاء، ولا كسوة صيف، ولا رزقًا يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضرب أحدًا منهم سوطًا واحدًا في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عرضًا في شيء من الخراج، فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو(161).
وكذا فإنه لابد أن تكون ملائمة من جهة المواعيد، بأن يطالب بها المكلف، وقت حصوله على الدخل، أو في وقت مناسب ومعقول كأن يكون بعد حصوله على مرتبه مثلاً، أو بعد جني المحصول، أو بيعه مباشرة، لأن في المطالبة المتأخرة نوعًا من المشقة يعانيها المكلف.
7- أن لا يكون فرض الضريبة من قبل الحاكم منفردًا برأيه، بل لابد من موافقة أهل الشورى والرأي، وذلك بتدارس الأمر جيدًا وتحديد الحاجة إليه، وتقدير الضرورة بقدرها، من قبل مجلس شورى يعقده ولي الأمر مع أهل الرأي والتقوى، أي أعوان الحاكم في السلطة، وهم السلطة التشريعية في الدولة أو ما يسمى في الوقت الحاضر بمجلس الشعب، أو مجلس الأمة، وليس لولي الأمر أن ينفرد برأيه في تقدير الضريبة على الناس ولا ولاته على الأقاليم كذلك، فلقد قال تعالى مخاطبًا نبيه عليه السلام: (وشاورهم في الأمر)(162). ووصف هذه الأمة بقوله جل جلاله: (وأمرهم شورى بينهم)(163).
وبهذا نرى ضرورة مشاركة أولي الأمر أهل الحل والعقد في كل أمور الدولة وسياستها وبخاصة في هذا الجانب، فهم أقدر على معرفة حقيقة حاجة الدولة للمال، وكفاية مواردها أو عجزها، وعندهم من القدرة ما يضعوا نظامًا يتم به توزيع أعباء الضريبة على الرعية بالعدل، ومن ثم مراقبة صرف ما يجبى في مواطنه التي من أجلها فرضت الضريبة.
المطلب الرابع
شروط جباة الضرائب
لا شك أن التعامل مع المال فيه من الخطورة والفتنة الشيء الكبير، وذلك لتعلق الناس به، وميلهم إليه، ورغبتهم في تحصيله وجمعه، واقتنائه، وصدق الله العظيم إذ يقول: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث)(164)، وقال سبحانه: (وتحبون المال حبًا جمًا)(165).(/16)
لهذا فإن من يتولى شؤون المال، جمعه أو إنفاقه، لابد أن يكون من أهل الصلاح والتقوى، أمينًا على أموال الناس، زاهدًا فيما عندهم، قويًا في دينه، له من الكفاءة والأخلاق ما يميزه عن غيره، وهذا ما أشار إليه الإمام أبو يوسف رحمه الله، إذ يقول في كتابه الخراج: "أما العشور فرأيت أن تُوليها قومًا من أهل الصلاح والدين، وتأمرهم أن لا يتعدوا على الناس فيما يعاملونهم به، فلا يظلمونهم به، ولا يأخذوا منهم أكثر مما يجب عليهم، وأن يمتثلوا ما رسمناه لهم، ثم تتفقد بعد ذلك أمرهم، وما يعاملون به من يمر عليهم، وهل تجاوزا ما أمروا به؟ فإذا كانوا قد فعلوا ذلك عزلت وعاقبت، وأخذت بما يصح عند عليهم لمظلوم، أو مأخوذ منه مما يجب عليه، وإن كانوا قد انتهوا إلى ما أمرتهم، وتجنبوا ظلم المسلم والمعاهد، أثبتهم على ذلك الأمر، وأحسنت إليهم، فإنك متى أثبت على حسن السير والأمانة، وعاقبت على الظلم والتعدي لما تأمر به في الرعية، يزيد المحسن في إحسانه، ويرتدع الظالم عن معاودة الظلم والتعدي(166).
وأخيرًا: نظرة في الواقع:
إننا إذا نظرنا إلى واقع الأمة هذه الأيام نجد أنها تعاني في كثير من دولنا العربية والإسلامية مما وظف عليها من ضرائب على التجارات المحلية والخارجية، والمعاملات التي يقدمها المواطن للدولة لنيل حقوقه ومصالحه، وعلى العقارات، والخدمات الصحية، والتعليمية وحتى المرتبات الشهرية لم تسلم.
ومع تقديرنا لما يقع على عاتق الدولة من مسئوليات وحاجتها إلى فرض ضرائب تستعين بها على تقديم الخدمات العامة وتحقيق المصالح إلا أن هذه الضرائب المتعددة والمتنوعة بعضها لا نجد له مبررًا من الوجهة الشرعية، ولذا فإن هذا الكم الهائل من الضرائب بحاجة إلى إعادة نظر وتمحيص في ضوء واقع الناس وإمكاناتهم ومراعاة ذلك ما أمكن فما كان ضروريًا لابد منه لحاجة الدولة فعلى المكلف أن يؤدي هذا الالتزام، ويستحب ثواب ذلك عند الله لأن ما يؤخذ ينفق في مصالح الأمة، وما يمكن الاستغناء عنه أو أنه ليس له ضرورة ملحة فيجب على الدولة أن تقدر الضرورة بقدرها، مراعاة لحال الناس ما أمكن.
أهم نتائج البحث والتوصيات
يمكن إجمال ما جاء في البحث فيما يلي:
1- الضريبة عشر قديم حديث وهي فريضة نقدية تقتطعها الدولة من أموال المواطنين على أساسا نظرية سيادة الدولة. أو التكافل الاجتماعي من أجل تغطية النفقات لتأمين الخدمات العامة في الدولة لمصلحة المواطنين.
2- الضريبة في اصطلاح فقهاء الشريعة حق في مال المسلم غير الزكاة يحدده ولي الأمر في حالات استثنائية لمواجهة ظروف طارئة، وتختلف عن الزكاة في المقدار ووجوه الإنفاق والاستمرارية.
3- أفتى كثير من الفقهاء القدامى والمحدثين بجواز توظيفها على الناس مستدلين لذلك بالكتاب والسنة وعمل الصحابة والمعقول المبني على قواعد الشريعة وأصولها العامة.
4- من الفقهاء من لا يرى جواز توظيفها على الناس، إذ لا حق في المال سوى الزكاة، وبمناقشة والرد عليها تبين رجحان جواز فرض الضرائب في حالات تستوجب ذلك.
5- فرض الضرائب من اختصاصات الدولة الإسلامية يقدره ولي الأمر بمشاورة أهل الحل والعقد في الأمة، أو ما يسمى بالمجالس النيابية، وليس له أن ينفرد بفرضها وتقديرها.
6- يكون فرض الضريبة شرعيًا إذا فرضت بشروط أهمها:
أ- أن تكون حاجة الدولة للمال حاجة حقيقية وضرورية.
ب- أن تكون استثنائية تنتهي بانتهاء الظرف الطارئ.
ج- أن تكون موازنة الدولة عاجزة عن تأمين ما تحتاج لذلك الظرف.
د- وجود مصلحة عامة حقيقية لا وهمية تتحقق من فرض الضريبة.
ه- أن تؤخذ من فائض المال لا ممن ليس عنده إلا ما يسد حاجاته الضرورية.
و- أن تقدر الضريبة تقديرًا يتناسب مع ظروف العامة بعد دراسة مستفيضة من أولي الأمر ومشاورة أهل الاختصاص.
7- يشترط في ولي الأمر الذي له حق فرض الضريبة: العدالة والكفاءة والعلم وكمال الأهلية.
8- جهاز تحصيل الضريبة له مواصفات دينية، أخلاقية، فنية تخصصية.
9- ما يفرض على الناس اليوم من ضرائب يحتاج الأمر فيه إلى إعادة النظر وتحري الدقة من حيث الضرائب وتنوعها وضرورة مراعاة أحوال الناس المعاشية ما أمكن وعدم تكليف الناس فوق طاقتهم وهذا مطلب شرعي لا يجوز تجاهله.
التوصيات
1- الحد من النفقات غير الضرورية والبعد عن الكماليات والترف الزائد لدى فئة كبيرة من الناس.
2- الالتزام بتوجيهات الإسلام في سياسة المال وتطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي ما أمكن.
3- على الدولة الإسلامية أن تتبنى مشروعات تنموية في شتى المجالات الصناعية والزراعية ونحوها واستغلال الثروات الطبيعية لتساعد في زيادة واردات الدولة.
4- أن تهيئ فرص عمل للعاطلين ما أمكن وتشجع على العمل الحلال بأنواعه لزيادة القوة الإنتاجية في الدولة.
هذا وبالله التوفيق
المصادر والمراجع(/17)
فيما يلي قائمة بأسماء المراجع والمصادر التي أفدت منها في هذا البحث، مرتبة حسب الاسم الهجائي للاسم الأخير م المؤلف، وحرصت على أن أضع مع كل مرجع اسم الناشر وبلد النشر وسنة النشر ورقم الطبعة، إلا أن يكون الكتاب خاليًا من ذلك، وقد صدرتها بكتاب البشرية الخالد القرآن الكريم.
- أباظة: إبراهيم دسوقي، الاقتصاد الإسلامي مقوماته ومنهاجه، دار الشعب، 1393هـ.
- إبراهيم بك: أحمد، المعاملات المالية الشعرية، طبعة كراتشي.
- ابن الأثير: مبارك بن محمد الجزري، جامع الأصول من أحاديث الرسول، إدارة البحوث العلمية السعودية.
- ابن الأثير: مبارك بن محمد الجزري، النهاية في غريب الحديث والأثر، المطبعة الخيرية.
- أحمد: إبراهيم فؤاد، الإنفاق العام في الإسلام، دار الاتحاد العربي، القاهرة، سنة 1973م
- أحمد: إبراهيم فؤاد، الموارد المالية في الإسلام، مكتبة الأنجلو المصرية.
- الألوسي: أبو الفضل شهاب الدين محمد الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار إحياء التراث العربي.
- أنس: مالك بن أنس، الموطأ، دار الكتب العلمية، بيروت.
- باز: سليم رستم، شرح المجلة، دار إحياء التراث، الطبعة الثالثة.
- البخاري: محمد بن إسماعيل، الأدب المفرد، تحقيق هشام الدين البرهاني، طبعة وزارة العدل، الإمارات.
- البخاري: محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، طبعة بولاقز
- بهوتي: منصور بن يونس، شرح منتهى الارادات، عالم الكتب.
- البيهقي: أحمد بن الحسين بن علي، السنن الكبرى، دار الفكر.
- الترمزي: أبو عيسى محمد بن عيسى السلمي، الجامع الصحيح، دار إحياء التراث.
- الحاج حسن: حسين، النظم الإسلامية، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت، 1987م.
- الحامد: محمد، نظرات في كتاب اشتراكية الإسلام، مطبعة العلم، دمشق.
- بن حجر: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، المطبعة السلفية،.
- حسب الله: علي، أصول التشريع الإسلامي، طبعة كراتشي، إدارة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، سنة 1987م.
- ابن حزم: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، المحلى، تحقيق أحمد شاكر، طبعة المنيرية.
- حمودة: محمد، المعاملات المالية في الإسلام، مؤسسة الوراق، عمان، 1999م.
- حنبل: أحمد بن حنبل، المسند، طبعة البابي الحلبي.
- الخطيب: عبد الكريم، السياسة المالية في الإسلام وصلتها بالمعاملات المعاصرة، دار المعرفة، بيروت.
- خلاف: عبد الوهاب، علم أصول الفقه، دار القلم، سنة 1956م.
- الخولي: البهي، الثروة في ظل الإسلام، دار النصر للطباعة، 1991م.
- أبو داود: سليمان بن الأشعث، سنن أبي داود، دار الحنان، سنة 1988م.
- دردير: الشرح الصغير، دار المعارف، مصر.
- دسوقي: محمد عرفة، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، طبعة البابي الحلبي.
- ابن أبي الدنيا: بكر، إصلاح المال، تحقيق مصطفى القضاه، دار الوفاء، المنصورة، 1990م.
- الذهبي: محمد بن أحمد عثمان، الكبائر، مطبعة البيان، بيروت.
- الرازي: فخر الدين محمد بن عمر الرازي، التفسير الكبير ومفاتيح الغيب، دار الفكر، سنة 1985م.
- ابن رشد: أحمد بن محمد بن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار الفكر.
- الزرقا: مصطفى، المدخل الفقهي العام.
- زغلول: أمين عبد المعبود، المال واستثماره في ميزان الشريعة، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1986م.
- الزمخشري: جار الله محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الكتاب العربي.
- السرخسي: محمد بن أحمد بن أبي سهل، المبسوط، مطبعة السعادة، مصر.
- ابن سلام: أبو القاسم عبيد، كتاب الأموال، مكتبة الكليات الأزهرية، سنة 1968م.
- السلمي: عز الدين بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، مطبعة دار الشرق للطباعة.
- السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، الأشباه والنظائر، دار الكتب العلمية، سنة 1990م.
- السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، الفتح الكبير في قسم الزيادات إلى الجامع الكبير، ترتيب يوسف النبهاني.
- شحادة: شوقي إسماعيل، التطبيق المعاصر للزكاة، دار الشروق، جدة.
- الشربيني: محمد الشربيني الخطيب، الإقناع في حل ألفاظ بن شجاع، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، سنة 1990م.
- شلتوت: محمود، الفتاوى الكبرى، مطبعة الأزهر.
- شيخ زاده: عبد الرحمن بن محمد بن سليمان، مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر، المطبعة العثمانية 1327هـ.
- صادق: عبد الكريم، النظم الضريبة، مؤسسة شباب ألجامعة.
- الصالح: صبحي، النظم الإسلامية نشأتها وتطويرها، دار العلم للملايين.
- صدقي: عاطف، مبادئ المالية العامة، دار النهضة العربية، ألقاهرة.
- الطبري: محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل أي القران، دار المعارف، طبعة البابي الحلبي.
- ابن عابدين: محمد أمين، رد المحتار علي الدر المختار(الحاشية) طبعة دار الفكر، سنة 1992م.(/18)
- ألعبادي: عبد السلام، الملكية في الشرعية أللإسلامية، مكتبة الأقصى.
- ابن العرب: محمد عبد الله، أحكام القران، طبعة ألبابي الحلبي.
- عطية: عبد الحليم صقر، الازدواج الضريبي في التشريع الإسلامي والتشريع المعاصر،سنة 1989م.
- عطية: محمد كمال، نظرية الحاسبة المالية في الفكر أللإسلامي، الناشر بنك فيصل الإسلامي.
- عليش: محمد، تسهيل منح الجليل بهامش شرح منح الجليل علي مختصر خليل، طبعة دار الباز.
- غادي: ياسين، الأموال والأملاك العامة وحكم الاعتداء عليها، مؤسسة رام 1994م.
- الغزالي: محمد بن محمد بن محمد، المستصفي من علم الأصول، القاهرة، المطبعة، سنة 1344هـ
- الفيروز أبادي: القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة.
- ألقاسمي: محمد جمال الدين ألقاسمي، تفسير ألقاسمي المسي محاسن التأويل دار الفكر بيروت سنة 1398 هجري.
- ابن قدامة: عبد الله بن حمد بن محمد بن قدامة ألمقدسي، المغني، مطابع سجل العرب، نشر مكتبة القاهرة، مطبعة إدارة المنار، سنة 1967م.
- القرشي: باقر شريف، النظام السياسي في الإسلام، دار المعارف، بيروت.
- القرضاوي: يوسف، فقه الزكاة، مؤسسة الرسالة،سنة 1985م.
- القرطبي: أبو عبد الله بن محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الجامع لأحكام القران، دار الكتاب العربي، القاهرة سنة 1967م.
- قطب: إبراهيم محمد، النظم المالية في الإسلام، الهيئة المصرية للكتاب.
- قطب: سيد، في ظلال القران، دار إحياء التراث، سنة 1967م.
- قلعه جي: محمد رواس، موسوعة فقه عمر بن الخطاب، مكتبة الفلاح، الكويت.
- ابن كثير: إسماعيل بن كثير، تفسير القران العظيم، طبعة ألبابي الحلبي، القاهرة.
- كفراوي: عوف محمد، سياسة الإنفاق العام في الإسلام، شباب الجامعة، الإسكندرية.
- المارودي: علي بن محمد بن حبيب، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، دار الكتب العلمية.
- مبارك: محمد المبارك، نظام الإسلام الاقتصادي مبادئ وقواعد عامة ، دار الفكر، طبعة 3.
- مجمع اللغة العربية: المعجم الوجيز.
- المراغي: أحمد مصطفي المراغي، تفسير المراغي، دار إحياء التراث العربي بيروت.
- المصري: عبد السميع، مقومات الاقتصاد الإسلامي.
- المعجم الوسيط: دار الدعوة، استنبول.
- المناوي: فيض القدير شرح الجامع الصغير، المكتبة التجارية، دار المعرفة.
- ألمنذري: عبد العظيم بن عبد القوي، الترغيب والترهيب في الحديث، مصطفي البابي الحلبي.
- ابن منظور: محمد بن مكرم، لسان العرب، دار صابر.
- منفيخي: محمد فريزي، النظام الاقتصادي ألقراني، دار قتيبة، دمشق.
- المودودي: أبو الأعلى، نظرة الإسلام وهدية في السياسة والقانون، دار الفكر، دمشق.
- ابن نجيم: زين العابدين بن إبراهيم بن محمد، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، دار المعرفة.
- النووي: محي الدين يحي بن شرف، شرح صحيح مسلم، دار الكتب العلمية، بيروت.
- الهيثمى: نور الدين علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد منبع الفوائد، مكتبة القدس القاهرة.
- أبو يوسف: يعقوب بن إبراهيم، الخراج، المطبعة السلفية.
----------
(1) الأنعام الآية 71.
(2) طه الآية 123، 124.
(3) البقرة الآية 216.
(4) المعجم والوجيز، ص 379.
(5) ابن المنظور، فصل الضاد، باب الباء، 1/550.
(6) وتعني أن الضريبة تدفع مقابل النفع الذي يعود على الممول من رعاية الدولة للمرافق العامة، بوجب عقد ضمني مبرم بين الدولة والمواطنين.
(7) وتقوم هذه النظرية على أساس أن الدولة تؤدي وظيفتها بقصد إشباع الحاجات الجماعية، وتقليب تحقيق المصالح العامة على المصالح الخاصة، ولما كان أداء هذه الوظائف يستلزم الإنفاق كان للدولة في أن تلزم المستظلين بسمائها – بما لها من حق السيادة – أن يتظافروا جميعًا في النهوض بعبء هذا الإنفاق. القرضاوي، فقه الزكاة 2/1006-1008 ومرجعه محمد حلمي مراد، ميزانية الدولة، ص 73-75.
(8) غازي عاية، الزكاة والضريبة، ص 17، انظر: عبد الهادي النجار، مبادئ الاقتصاد المالي، ص155. - عطية عبد الحليم صقر، الازدواج الضريبي في التشريع المالي الإسلامي والمعاصر، ص 4.
(9) محمد الجمال، موسوعة الاقتصاد الإسلامي، ص 327.
(10) الاقتصاد في الفكر الإسلامي، ص 174.
(11) انظر: فؤاد علي أحمد، الموارد المالية في الإسلام، ص 23.
- سعيد أبو الفتح، الحرية الاقتصادية في الإسلام، ص 143.
- زكريا محمد البيومي، المالية العامة الإسلامية، ص 87.
(12) عاطف صدقي، مبادئ المالية العامة، 1/148،
- محمد عبد المنعم الجمال، موسوعة الاقتصاد الإسلامي، ص 289.
(13) أبو حامد محمد الغزالي، شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل، تحقيق حمد الكبيسي، مطعة الإرشاد، بغداد، 1931م، ص 236، المستصفي، 1/303.
(14) الإمام عبد الله بن عبد الله الجويني، غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق عبد المنعم الديب، ط 2، 1401هـ، ص 275.
(15) النفقات العامة في الإسلام (دراسة مقارنة)، دار الكتاب الجامعي، 1980م، القاهرة.(/19)
(16) د. غازي عناية، المالية العامة والنظام المالي الإسلامي، ص 307.
(17) عرف الكفراوي سياسة الإنفاق العام في الإسلام، ص 267.
(18) الفقه على المذاهب الأربعة – قسم العبادات – مجموعة من علماء الأزهر، طبعة وزارة الأوقاف المصرية، ص 561.
(19) ابن قدامة، المغني، 2/573
- الشربيني، مغني المحتاج، 1/398.
(20) التوبة الآية 103.
(21) البقرة الآية 267.
(22) التفسير الكبير، 4/66.
(23) الركاز: المال المركوز في الأرض مخلوقًا أو موضوعًا فيضم المعدن الخلقي والكنز المدفون، المعجم الوجيز، ص 276. - البركتي: القواعد الفقهية، ص 309.
(24) الأنفال الآية 41.
(25) فتح البشاري بشرح صحيح البخاري، 3/363.
(26) التوبة الآية 29.
(27) الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 186. – أبو يعلي، الأحكام السلطانية، 146.
(28) د. محمد رواس، موسوعة فقه عمر بن الخطاب، ص 295.
(29) محمد بن سلامة أبو عبيد، الأموال، ص 79.
(30) الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 188.
(31) ابن قدامة، المغني، 8/517.
- موسوعة عمر فقه عمر، مرجع سابق، ص 506.
- سعدي جلبي، حاشية علي عناية مع شرح الهداية مع كتاب فتح القدير، 2/170.
(32) مصنف عبد الرزاق، 6/97
- موسوعة فقه عمر بن الخطاب، ص 506.
– الأموال، ص 713.
(33) الأموال ص 706.
(34) الأموال ص 707. – موسوعة فقه عمر، ص 508.
(35) رواه أحمد والنسائي وأبو داود والبيهقي في السنن الكبرى، 4/105، الشوكاني، نيل الأوطار، 4/138، الحاكم في المستدرك، 1/398.
(36) ابن العربي، أحكام القرآن، 2/995.
(37) القرضاوي، فقه الزكاة، 2/998.
(38) التوبة الآية 103.
(39) غازي عناية، الزكاة والضريبة، ص 31، 42.
- القرضاوى، فقةالزكاة، 2/1000.
(40) المعجم الوجيز، ص378،379.
(41) البركتى، قواعد الفقة، ص108.
(42) البقرة الاية 61.
(43) البركتى، قواعد الفقة، ص113.
(44) البركتى، قواعد الفقة، ص108.
(45) غازى عناية، الزكاة الضريبية، ص44، 45
(46) عطية صقر، الازدواج الضريبى، ص18.
- غازى عناية، الزكاة والضريبة، ص44.
– فقه الزكاة، 2/1001.
(47) التوبة الآية 60.
(48) غازي عانية، الزكاة والضريبة، ص 46.
(49) الماوردي، الأحكام السلطانية، 158. ابن عابدين، رد المحتار 2/93، 94. الدرديري، الشرح الصغير 1/657.
(50) الحشر الآية 6-7.
(51) الأنفال الآية 41.
(52) عطية صقر، الازدواج الضريبي، ص 17.
(53) مسند أحمد، 5/278، رواه أبو داود في الملاحم، 5.
- السيوطي، الفتح الكبير، 3/438.
(54) النوائب: جمع نائبة. وهي اسم لما ينوب الفرد من جهة السلطان بحق أو بباطل. ونوائب الرعية: ما يضربه السلطان من حوائج على الرعية كإصلاح القناطر والطرق وغيرها. انظر: محمد عميم البركتي، قواعد الفقه، ص 535.
(55) ابن عابدين، الحاشية، 2/336، 337.
(56) الاعتصام، 2/358.
(57) المقصود بالمال هنا غير مال الزكاة، وإنما ما أخذ من قوله تعالى: (وآتي المال على حبه)، انظر: الجامع لأحكام القرآن، 2/242.
(58) أبو بكر العربي، أحكام القرآن، 1/60.
(59) المستصفي من علم الأصول، 1/426.
- شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيلة ومسالك التعليل، ص 234.
(60) نهاية المحتاج (شرح المناهج)، 7/194.
(61) الحوائص: جمع حياصة، وهي كساء موشى بالذهب يخلعها السلطان على أمرائه وأعوانه في مناسبات خاصة، المعجم الوسيط، 1/206.
(62) أبو المحاسن يوسف بن تغري بردة، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، 7/72، 73 المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر.
(63) شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، دار صادر بيروت، مجلد 7، ص 119.
(64) الفتاوي، رسالة المظالم المشتركة، 30/40، 41، دار الكتاب العلمية.
(65) المحلى، دار الكتب العلمية، 4/281.
(66) سورة البقرة الآية 177.
(67) التفسير الكبير ومفاتيح الغيب، 3/43، 44.
(68) القرطبي، 1/242، القاسمي محاسن التأويل م 2، 3/52، تفسير المراغي 2/56.
(69) أحكام القرآن، 1/60.
(70) الترمذي، الجامع الصحيح، 3/48، 49.
– ابن ماجة في السنن، 1/570.
– البيهقي، السنن الكبرى، 4/84.
(71) الإمام مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، 12/33.
- أبو داود في السنن، 1/522.
(72) بن حجر العسقلاني، مختصر الترغيب والترهيب، ص 85، وقال: تفرد به ثابت بن محمد الزاهد، قال المصنف وهو صدوق روى عنه البخاري وغيره، كما روى الحديث موقوفًا على الإمام علي رضي الله عنه.
انظر: المحلى، ابن حزم، 6/158.
(73) بن حجر العسقلاني، فتح الباري، 6/587.
(74) ابن حجر 6/600. والمقصود بالحديث حديث عبد الرحمن بن أبوبكر عن أهل الصفة. والمخمصة هي الجوع الشديد.
(75) المباركفوري. تحفة الاحوذي بشرح جامع الترمذي، 3/262.
(76) غازي عناية. المالية العامة ص 411.
(77) محمد رواس قلعة جي، موسوعة فقه عمر بن الخطاب، ص 413، 474. مصنف ابن أبي شيبة، 1/137. عباس محمود العقاد، عبقرية عمر، ص 154.(/20)
(78) أبو عبيد، الأموال، ص 495. القرطبي، الجامع 1/241. ابن حزم، المحلي، 6/225.
(79) انظر: ابن حزم، المحلي، 6/225، القرطبي، الجامع، المجلد الأول، ص 241، 242، أبو عبيد، الأموال، ص 495، 496، القرضاوي، فقه الزكاة، 2/983.
(80) النووي، شرح صحيح مسلم، 16/140. ابن حجر، الفتح 10/452.
(81) القرضاوي، فقه الزكاة، 2/1015 وما بعدها.
(82) النساء الآية 5.
(83) النساء الآية 29.
(84) تفسير المنار ط 2، 5/39.
(85) الحجرات الآية 10.
(86) رواه أحمد في 1/197، 198.
(87) التفسير الكبير، مجلد 3/44.
(88) التوبة الآية 60.
(89) البثق: موضوع انبثاق الماء من نهر ونحوه، المعجم الوجيز، ص 36، انظر: المغني، لإبن قدامة، 2/667.
(90) الغزالي، المستصفي، 1/17، علي حسب الله، أصول التشريع الإسلامي، ط كراتشي، ص 272.
(91) علي حسب الله أصول التشريع الإسلامي، ص 274، قواعد الفقه، ص 139، مرجع سابق. عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، ص 207.
(92) الإمام الغزالي، المستصفي، 1/71، الأمدي، الأحكام، 1/157, أصول الخضري، ص 55.
(93) القرضاوي، فقه الزكاة، 2/1077.
(94) محمد عميم البركتي، قواعد الفقه، ص 94.
(95) الآية 177.
(96) د. شوقي إسماعيل شحادة، التطبيق المعاصر للزكاة، دار الشروق، جدة، ط 1، 1397هـ، ص 45، 46.
- د. غازي عناية، المالية العامة والنظام المالي الإسلامي، دار الجيل، ص 420.
(97) الشيخ محمود شلتوت، الفتاوي الكبرى، مطبعة الأزهر، مصر، ص 116 – 118.
(98) د. محمد الجمال، موسوعة الاقتصاد الإسلامي، ص 329.
(99) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ط دار القلم، 1966م، 2/242.
(100) شوقي شحادة، التطبيق المعاصر للزكاة، ص 47.
(101) فيض القدير شرح الجامع الصغير، 2/599.
(102) نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون، دار الفكر، دمشق 1389هـ، ص 321، 313.
- أبو الفتوح، الحرية الاقتصادية في الإسلام، دار الوفاء، المنصورة، ص 147.
(103) روى البخاري نحوه في باب العلم، وفي باب الزكاة، ابن حجر في الفتح 3/261، المطبعة السلفية، رواه الترمذي في باب الزكاة، رقم 619. – في الجامع الصحيح، وقال حسن غريب من هذا الوجه.
(104) الترمذي، الجامع الصحيح، 4/30، حديث رقم 618.
- الحاكم المستدرك، 1/390، وقال صحيح على شرط مسلم.
(105) ابن ماجة في السنن، 1/570، رقم 1789.
- البيهقي في السنن الكبرى، 4/84.
(106) القرضاوي، فقه الزكاة، 2/967.
(107) الإمام أحمد من رواية ابن لهيعة، 4/143، 150.
- المنذري، الترغيب والترهيب، 1/568.
(108) أبو داود في السنن، 2/132، كتاب الإمارة باب السعاية على الصدقة. – الإمام أحمد في مسنده، 4/143.
- والمكس: الضريبة التي يأخذها الماكس وهو العشار، ابن الأثير النهاية في باب غريب الحديث، 4/110، وفي المعجم الوسيط.
- الماكس: من يأخذ المكس من التجار. والمكس: الضريبة يأخذها الماكس ممن يدخلون البلد من التجار، ص 587.
(109) كتاب الكبائر، ص 112، الكبيرة السابعة والعشرون.
(110) القرضاوي، فقه الزكاة، 2/991.
(111) ابن حجر العسقلاني، 3/265.
(112) ابن تيمية، الفتاوي الكبرى، 7/316، كتاب الإيمان.
(113) فيض القدير شرح الجامع الصغير، 5/375، دار المعرفة، 2/599.
- أبو عبيد، الأموال ص 496.
(114) الحديث رواه ابن ماجة في السنن، رقم 1789. قال فيه النووي في المجموع أنه حديث ضعيف جدًا لا يعرف، 5/332، وقبله قال البيهقي في الحديث يرويه أصحابنا في التعاليق، ولست أحفظ فيه إسنادًا السنن، 4/84. واعترض الحافظ العراقي عليه برواية ابن ماجة له في سننه بهذا اللفظ، وذكر ابنه الحافظ أبو زرعة أنه عند ابن ماجة بلفظ في المال حق سوى الزكاة كما هو عند الترمذي، وفي بعض نسخ ابن ماجة ليس في المال حق سوى الزكاة طرح التثريب شرح التقريب، 4/18. ومعنى هذا: أن ليس زيدت في الحديث عن طريق النسخ وشاع الخطأ بعد.
(115) القرضاوي، 2/1093 – 1094.
(116) علي حسب الله، أصول التشريع الإسلامي، ص 282.
(117) القرضاوي، فقه الزكاة، 2/1094.
(118) ابن منظور، لسان العرب، مادة م. ك. س. المعجم الوجيز، ص 587.
(119) الهيثمي، مجمع الزوائد، 3/87 – 88.
(120) أبو داود، السنن، 2/148، باب في السعاية على الصدقة، مؤسسة الكتاب الثقافية.
(121) القرضاوي، فقه الزكاة، 2/1095.
(122) ابن نجيم، البحر الرائق، 2/249, ابن عابدين، حاشية رد المحتار على الدر المختار، 2/310.
(123) القرضاوي، 2/1096.
(124) أبو عبيد القاسم ابن سلام. الأموال ص 495 – 694. القرضاوي، فقه الزكاة 2/967.
(125) القرضاوي، ص 2/970.
(126) الأموال ص 97.
(127) السنن الكبرى 4/84.
(128) الجامع لأحكام القرآن، 2/241، 242.
(129) البركتي، قواعد الفقه ص 89. عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، ص 208.
(130) النووي، شرح صحيح مسلم. 13/133. ابن حجر في الفتح 10/26.(/21)
(131) الدافة: قوم يسيرون جميعًا خفيفًا، ودافة الأعراب: من يريد منهم المصر، والمراد هنا من ورد من ضعفاء الأعراب للمواساة. انظر: الشوكاني، نيل الأوطار، 5/144.
(132) الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 6.
(133) المقدمة، 2/522.
(134) د. محمود حلمي، نظام الحكم الإسلامي مقارنًا بالنظام المعاصر، ص 87.
(135) المقدمة، 2/522، ص 212.
(136) الشهرستاني، المملل والنحل، 1/160. محمد ضياء الدين الريس، النظريات السياسية الإسلامية، ص 243.
(137) الماوردي، ص 65. ابن خلدون، 2/522، ص 212. محمد أبو فارس، النظام السياسي في الإسلام، ص 187.
(138) د. محمود حلمي، ص 89، 90 مرجع سابق.
(139) النساء الآية 141.
(140) الإمام أحمد في المسند، 5/50. النسائي، السنن، 8/227.
(141) ابن حجر في الفتح، 12/120، 121. أحمد، المسند، 6/100.
(142) الشاطبي، الاعتصام، 2/121، مطبعة المنار، عوف الكفراوي، سياسة الإنفاق العام في الإسلام، ص 447.
(143) النساء الآية 58.
(144) انظر: رأي الفقهاء في جواز فرض الضرائب، المطلب الأول من المبحث الثاني، رقم 3/ قسم ج.
(145) ألبت: كساء غليظ من صوف أو وبر. انظر المعجم الوجيز، ص 43 1980.
(146) القرضاوي، فقه الزكاة، 1080/1081. محمد الغزالي، الإسلام المفترى عليه، ط 5، ص 222، 223. السخاوي، ترجمة الإمام النووي، مطبعة جمعية النشر والتأليف بالأزهر، 1935م، ص 40.
(147) ابن العطار، تحفة الطابين في ترجمة الإمام النووي، مؤسسة شباب الجامعة، الاسكندرية، ص 50، 54. عبد الغني الدقر، الإمام النووي، دار القلم، دمشق، 1987م، ص 144، 163.
(148) الزرقا، أحمد الزرقا، شرح القواعد الفقهية ص 247، دار الغرب الإسلامي، 1983. شبير. محمد عثمان. القواعد الكلية والضوابط الفقية ص 352 طبعة دار الفرقان، عمان. إبراهيم محمد خريس، الضرائب في النظام المالي الإسلامي، رسالة ماجستير، ص 111، ومرجعه غياث الأمم للجويني، ص 286.
(149) الشوكاني، نيل الأوطار، 8/68. أبو عبيد، الأموال، ص 56. ابن العربي، أحكام القرآن، 2/908. د. إبراهيم فؤاد أحمد، الإنفاق في الإسلام، ط 1 1993م، ص 196.
(150) قوم من الأعراب سكنوا شمال الجزيرة العربية في البتراء وهم الأنباط. انظر: المعجم الوجيز، ص 600.
(151) أبو عبيد، الأموال، ط 1، ص 712. الطنطاوي، أخبار عمر، المكتب الإسلامي، ص 105.
(152) الخراج، ص 93، أبو عبيد، الأموال، ص 65.
(153) الخراج، ص 120 – 121.
(154) البهي الخولي، الثروة في ظل الإسلام، دار النصر للطباعة، ط 2، 1991م، ص 223.
(155) تاريخ الطبري، المطبعة الحسينية، مصر، 5/19. القرضاوي، فقه الزكاة، 2/1085. ابن سعد، الطبقات الكبرى، ط لندن، 1/219. الطنطاوي، أخبار عمر، ص 299.
(156) عبد النديم زلوم، الأموال في دولة الخلافة. دار العلم للملايين، بيروت، 1979م، ص 142، عوف الكفراوي، سياسة الإنفاق العام في الإسلام، ص 447.
(157) صحيح البخاري، كتاب الزكاة، 2/248.
(158) القرضاوي، 1/149.
(159) ابن عابدين، حاشية، 2/6. ابن نجيم، 6 البحر الرائق، 2/222.
(160) ابن حجر، فتح الباري، 3/347. ابن الأثير، جامع الأصول في أحاديث الرسول، 5/334-335.
(161) أبو عبيد في كتاب الأموال، ص 62.
(162) آل عمران الآية 59.
(163) الشورى الآية 38.
(164) آل عمران الآية 14.
(165) الفجر الآية 20.
(166) كتاب الخراج، ص 142-143.
* جامعة إربد الأهلية - الأردن.(/22)
الضوابط الشرعية للترويح
الكاتب: الشيخ د.عبدالرحمن بن أحمد علوش
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخاتم رسله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك فجزاه الله عن أمة الإسلام خير الجزاء ، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
أما بعد أيها المؤمنون أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما "(/1)
عباد الله إن من المسلمات عند المسلم أن هذا الدين دين شمولي والله سبحانه وتعالى يقول : " ما فرطنا في الكتاب من شيء " ويقول سبحانه : " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له " فحياة المسلم كلها مرتبطة بهذا الدين وليس ثمة أوقات يمكن أن يقول الإنسان هذه لغير الله تعالى ، فكل وقته لله جده وهزله نومه ويقظته حياته كلها لهذا الدين كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه : " إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي " ( 1 ) ونحن قادمون ومقبلون على أوقات يفرغ فيها كثير من الناس وهي أوقات الإجازات والوقت نفيس والمسلم مسؤول عن وقته يوم القيامة " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وماذا عمل فيما علم " (2 ) . ربما يقول البعض ما الذي نصنعه في الإجازات وهي في الغالب تكون أوقات للترويح والاستجمام بعد عناء التعب والكد والعمل . ربما يقول الآخر هل تريدنا أن نبقى دائماً في المسجد لا نخرج منه أبداً . هل تريد منا أن نبقى دائماً في قراءة وتلاوة وذكر ؟ لا ، ليس هذا هو المطلوب . بل هذا الدين دين شمولي يراعي هذه القضايا كلها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لحنظلة رضي الله عنه : " يا حنظلة ساعة وساعة " ( 3 ) وعندما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحبشة وهم يلعبون في المسجد قال : " خذوا يا بني أرفدة حتى تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة " ( 4 ) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابة ويمازحونه وكان الصحابة يتمازحون ويترامون بالبطيخ فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال " ( 5 ) . هذه هي الحياة الإسلامية المتكاملة التي لا يغلب فيها جانب على حساب جانب آخر ولا يطغى جانب على جانب آخر بل الحياة كلها مرتبطة بهذا الدين بيد أن ثمة ضوابط وضعها هذا الدين حتى يكون هناك تميز للمسلم ويتميز ترويحه وهزله عن غيره من غير المسلمين الذين يلعبون ويروحون على أنفسهم ، هناك ضوابط شرعية يراعيها المسلم حتى لا يكون متشبهاً بأعداء الإسلام من اليهود والنصارى فيسير في ركابهم وفي فلكهم وإن هذه الضوابط أيها الأخوة الكرام ينبغي أن تبقى معلماً بارزاً لكل مسلم في الترويح عن النفس وفي الاستجمام وفي السياحة وفي الأمور كلها فمن ذلك اختيار جماعة الترويح إذا أراد الإنسان أن يروح عن نفسه فلا بد أن يختار من يعينونه على الطاعة فالمرء على دين جليسه " ومثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير " ( 6 ) فلا ينبغي للإنسان أن يختار في الترويح من لا يصلي ومن لا يذكر الله تعالى ومن لا يقدر للدين قدره ومن ذلك يا عباد الله أن لا يكون هناك ثمة اختلاط بين الرجال والنساء في أثناء الترويح فإن الاختلاط من أكبر الآفات سيما في الترويح لأن فيه هزل وضحك وإسقاط للتكلف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لأن يطعن أحدكم بمخيط حديد في رأسه خير له من أن يمس جسد امرأة لا تحل له " ( 7 ) ويقول صلى الله عليه وسلم : " ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء " ( 8 ) والميل للنساء ميل فطري لا ينازع فيه أحد إلا من سلبت رجولته ومن لا يتأثر بالنساء فالنساء شقائق الرجال وميل الرجل للمرأة حتى يستمر النسل فينبغي أن يبتعد في أثناء الترويح عن الاختلاط بالنساء الأجنبيات لأن هذا فيه فتنة وفيه حضور للشيطان ونزغاته ومن ذلك عدم التبعية والتقليد لأعداء الإسلام في صور ترويحهم المستورد من العري والتبرج وأفلام العبث والفوضوية الذي ينبغي أن يترفع عنها المسلمون الذين رضوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ومن ذلك اختيار وقت الترويح عندما يريد الإنسان أن يستجم أو أن يروح عن نفسه فلا ينبغي أن يعتدي على الوقت المحرم أوقات العبادات أوقات الذكر أوقات الصلوات لا ينبغي أن يكون الترويح فيها كان النبي صلى الله عليه وسلم كما تقول عائشة رضي الله عنها يضاحكنا ونضاحكه فإذا سمع الأذان فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه ويقول صلى الله عليه وسلم : " كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام " ( 9 )فلا ينبغي أن يكون العبث واللهو واللعب والترويح في أوقات الصلوات سيما وأن فريقاً من الناس لا يحلو لهم الله اللعب والعبث إلا في أوقات الصلوات المفروضة ومن ذلك عدم إهدار أوقات الليل كلها في السمر وفي العبث وفي الأمور المحرمة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا سمر إلا لمصل أو مسافر " ( 10 ) ويقول صلى الله عليه وسلم محذراً من السمر الطويل إلى الفجر في عبث ولهو كما في مسند الإمام أحمد : " ليبيتن أقوام من أمتي على أكل ولهو وغناء ثم يصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير " ( 11 ) فينبغي أن ينتبه العبد المسلم من هذه القضايا سيما في الأفراح التي يمكث بعض الناس إلى الساعة الثامنة أو التاسعة ويسمعون الأذان حي على الصلاة حي على الفلاح وهم في سمرهم وعبثهم وغنائهم ولهوهم(/2)
وبعدهم عن الله سبحانه وتعالى ومن ذلك أن لا يكون الترويح في أوقات متعلقة بحقوق العباد كالعمل الرسمي مثلا أو غيره لأن المؤمن يفي بالعقد " يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ومن ذلك عدم الإفراط في استهلاك الوقت المباح لأنه مسؤول عنه أمام الله يوم القيامة وقد سبق الحديث الآنف الذكر : " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع . . . " فلا يسرف الإنسان كل وقته في العبث وفي اللهو وفي الترويح بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا حنظلة ساعة وساعة " ومن ذلك يا عباد الله من الضوابط الشرعية مراعاة اللباس عند الترويح مراعاة الزي الذي يلبس عند الترويح فينبغي أن يكون ساتراً لا ينبغي أن يكون المؤمن عند الترويح متعرياً متشبها بأعداء الإسلام وقد روي في سنن الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : " إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الجماع وعندما يقضي الرجل حاجته " ( 12 ) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام : " غط فخذك فإن فخذ الرجل من عورته " ( 13 ) وقال لا تنظر إلى فخذ حي أو ميت " فعورة الرجل من السرة إلى الركبة ولا يجوز أن يكشف ما دون السرة أو ما فوق الركبة سواء كان في لعب أو غيره والمرأة المسلمة كلها عورة عندما تكون أمام الأجانب وعندما تكون أمام النساء لا يجوز لها أن تظهر ما بين السرة والركبة كما قال العلماء ذلك كما لا ينبغي للمرأة المسلمة أن تتزيا بالكفار في لباسها عند الترويح وعند الاستجمام وعند اللعب ألا تستورد أزياء من الشرق أو الغرب تظهر الأبطين والفخذين والصدر وغير ذلك من الأمور يا عباد الله التي فيها تشبه بأعداء الإسلام " ومن تشبه بقوم فهو منهم " والمرء مع من أحب يوم القيامة . والمسؤولية على أولياء الأمور ينبغي أن يراعوا النساء في لباسهن لأنه برزت في هذه الأعصار ألبسة مستوردة يراها النساء عبر القنوات وعبر المجلات وعبر اختلاطهن بغيرهن لا ترضي الله سبحانه وتعالى ومن ذلك يا عباد الله مراعاة مكان الترويح إذا أراد الإنسان أن يروح عن نفسه فلا يعتدي على الناس في الطرقات والأماكن العامة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم " ( 15 ) وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من أذية الآخرين في الأماكن العامة فقال : " أياكم والجلوس في الطرقات قالوا يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا قال إن أبيتم إلا ذلك فأعطوا الطريق حقه قيل وما حق الطريق يا رسول الله قال غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ( 16 ) فينبغي أن يراعي الإنسان الأماكن العامة فلا يعتدي عليها ولا ينظر إلى المحرمات فالعين تزني وزناها النظر وأيضاً لا يؤذي الناس في إلحاق الأذى في الأماكن العامة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الملاعن الثلاث البراز في الموارد وقارعة الطريق وتحت ظل الشجر " ( 17 ) فالأماكن التي يرتادها عامة الناس لا ينبغي أن يلحق الإنسان الأذى بها فينبغي أن يكون المسلم محافظاً على حقوق غيره وأن يترك المكان أنظف مما كان بالقدر الذي يتمنى أن يراه سابقاً ومن ذلك سلوك الترويح من المحافظة على ذكر الله ، المحافظة على الصلاة المحافظة على غض البصر عدم الاعتداء على الآخرين عدم انتهاك محارم الله سبحانه وتعالى مراعاة الأخلاق العامة عند المنافسات فلا غش ولا غصب ولا أخذ لأموال الناس بالباطل مراعاة الصحة العامة وهذه من شمولية هذا الدين يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه " ( 18 ) ومن ذلك عدم الإسراف في الانفاق على الترويح فإن الإسراف ممقوت والمبذرين إخوان الشياطين " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً " ولا ينبغي أن ينفق الإنسان على المحرمات لأنه مسؤول عن هذا المال يوم القيامة .
أيها المؤمنون:(/3)
هناك صور من الترويح المحرم ينبغي للمسلم أن يجتنبها وأن يبتعد عنها حتى لا يقع فيما يسخط ربه عز وجل فإن الجنة حفت بالمكاره وإن النار حفت بالشهوات فينبغي أن يراعي المسلم هذه الأمور سيما في زمن كثرت فيه المغريات وكثرت فيه الملهيات وكثرت فيه الصوارف عن ذكر الله تعالى وكثرت فيه المراقص والملاهي في أصقاع الدنيا إلا ما رحم ربك فمن ذلك يا عباد الله أن يبتعد عن كل ما ورد النص بتحريمه من أنواع الملاهي المحرمة كالقمار والميسر الذي قرن بالخمر " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " فلا ينبغي أن يقامر الإنسان أو أن يقع في الميسر كأن يتفق جماعة على دفع مبلغ ما ثم يأخذه المنتصر أو الفائز كما يصنعه بعض الشباب في المسابقات الرياضية فهذا من الميسر المحرم الذي ينبغي أن يبتعد عنه المسلم الذي رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ومن ذلك الشطرنج لورود النص فيه قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه " ( 19 ) وسئل القاسم بن محمد أحد الفقهاء السبعة عن اللعب بالشطرنج فقال : " كل ما ألهى عن ذكر الله فهو ميسر " ( 20 ) ومن ذلك الغناء يا عباد الله بالأدوات الموسيقية المحرمة سواء كان من الرجال أو النساء فهو محرم سواء كان في الأفراح أو غيرها فالنبي صلى الله عليه وسلم قال : " أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدف " ( 21 ) فأجاز الدف فقط في النكاح وحرم الغناء تحريماً عاماً فقال سبحانه : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله " قال عبدالله بن عباس رضي الله عنه : والذي لا إله غيره إنه الغناء " (22 ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليستحلن أقوام من أمتي الحر والحرير والخمر والمعازف " ( 23 ) والاستحلال لا يكون إلا لشيء محرم فأنواع الغناء المقرونة بالمعازف وأدوات الموسيقى لا يجوز استخدامها في الترويح لورود أكثر من ثمانية أدلة صحيحة في تحريم الغناء ومن ذلك يا عباد الله الحلال إذا تلبس بحرام كالسباحة مثلاً فإنها مباحة لكن إذا اقترنت بالعري والاختلاط وكشف العورة فإنها محرمة وكالسياحة مثلاً فإن الأصل أن السياحة مباحة لكن إذا اقترنت بمحرم فإنها محرمة كأن تكون السياحة للبحث عن المراقص والملاهي وصالات الدعارة والرقص وشرب الخمور وغير ذلك مما حرمه الله سبحانه وتعالى وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم ألا فلنتقي الله يا عباد الله ولنراقب ربنا عز وجل فإن الله تعالى يرانا في كل مكان نذهب إليه ، فإن فريقاً من الناس إذا غادر أحدهم سور بلده وذهب إلى بلد آخر نسي ربه عز وجل والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك راقب الله سبحانه وتعالى هنا أو هناك في الداخل أو الخارج واستشعر أن الله يراك وأن معك من لا يفارقك من الملائكة الكرام الكاتبين الذين يكتبون كل شيء " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " .
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم " إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً " اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن بقية أصحاب محمد أجمعين وعن التابعين وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين . اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء هذا الدين ، اللهم من أراد هذا الدين وأهله بسوء فأشغله بنفسه واجعل تدميره في تدبيره . اللهم من كادنا فكده . ومن دبر الدسائس والمكائد لأمة الإسلام فاهتك ستره وافضحه على رؤوس الأشهاد واجعله عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين يا رب العالمين .
اللهم وفق إمامنا بتوفيقك وأيده بتأييدك وهيئ له البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين ووفق جميع أئمة المسلمين لما تحب وترضى . عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه وآلائه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
الهوامش :
( 1 ) رواه أبو داود وصححه الألباني .
( 2 ) رواه الترمذي والبيهقي وحسنه الألباني .
( 3 ) رواه مسلم والترمذي وأحمد .
( 4 ) رواه أبو عبيده في الغريب وصححه الألباني في الصحيحة 4/443 .
( 5 ) السلسلة الصحيحة للألباني 1/797 .
( 6 ) رواه البيهقي وصححه الألباني في الصحيحة .
( 7 ) رواه الطبراني في الكبير وصححه الألباني في صحيح الجامع .
( 8 ) رواه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الألباني .
( 9 ) رواه مسلم .
( 10 ) رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع .(/4)
( 11 ) رواه أحمد وحسنه الألباني .
( 12 ) رواه الترمذي وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة .
( 13 ) رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني .
( 14 ) رواه أبو داود وقال الألباني : حسن صحيح .
( 15 ) رواه الطبراني وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير .
( 16 ) رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني .
( 17 ) رواه أبو داود وحسنه الألباني .
( 18 ) رواه أبو داود وصححه الألباني .
( 19 ) رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الألباني .
( 20 ) مشكاة المصابيح .
( 21 ) رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب .
( 22 ) الأدب المفرد .
( 23 ) رواه البخاري .(/5)
الضّيف الحبيب
د. عبدالعزيز الفوزان 3/9/1426
06/10/2005
يحلّ علينا بساحتنا ضيف حبيب، طالما انتظرته القلوب المؤمنة، وتشوّقت لبلوغه النفوس الزاكية، وتأهّبت له الهمم العالية. ضيف يشرفنا مرة في كل عام، ضيف قد رفع الله شأنه، وأعلى مكانه، وخصه بمزيد من الفضل والكرامة، وجعله موسماً عظيماً لفعل الخيرات، والمسابقة بين المؤمنين في مجال الباقيات الصالحات: (...وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)، ضيف تواترت النصوص والأخبار بفضله، منوهةً بجلالة مكانته وقدره، ومعلنة عن محبة الله تعالى له وتعظيمه لشأنه. ضيف قد يكلفك اليسير، ولكنه يجلب لك الخير الكثير والثواب الجزيل والأجر الكبير، إن أنت عرفت قدره، وأحسنت استقباله وأكرمت وفادته، واستثمرته فيما يقربك إلى الله ويرفع درجاتك عنده.
إنه شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، إنه سيد الشهور وأفضلها على الدوام، إنه شهر القرآن والصيام والقيام، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً وفضيلة، شهر تُفتح فيه أبواب الجنان، وتُغلق فيه أبواب النيران، وتُصفّد فيه الشياطين ومردة الجان.
شهر المغفرة والرحمة والعتق من النار، شهر الصبر والمواساة، شهر التكافل والتراحم، شهر التناصر والتعاون والمساواة، شهر الفتوحات والانتصارات، شهر تُرفع فيه الدرجات، وتُضاعف فيه الحسنات، وتُكفّر فيه السيئات، شهر فيه ليلة واحدة هي خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فهو المحروم.
فهنيئاً لكم أيها المسلمون برمضان، والسعد كل السعد لكم بشهر الصيام والقيام، ويا بشرى لمن تعرض فيه لنفحات الله، وجاهد نفسه في طاعة الله (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا…)[العنكبوت: من الآية69].
ولقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه بقدوم هذا الشهر المبارك، ويبين لهم فضائله، حتى يتهيؤوا له ويغتنموه.
فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: "كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه، يقول: "قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، فيه تُفتح أبواب الجنان، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغلّ فيه مردة الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم" رواه الإمام أحمد والنسائي والبيهقي، وحسنه الألباني.
قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان. قال ابن رجب – رحمه الله-: "وكيف لا يُبشّر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟ وكيف لا يُبشّر المذنب بغلق أبواب النيران؟ وكيف لا يُبشّر العاقل، بوقت يُغلّ فيه الشيطان، ومن أين يشبه هذا الزمان زمان؟
وقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاء رمضان، فُتحت أبواب الجنة، وغُلقت أبواب النار، وصُفّدت الشياطين" وزاد في رواية للترمذي وابن ماجه وغيرهما "وينادي مناد يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة".
فدلت هذه الأحاديث على بعض خصائص هذا الشهر وفضائله ومنها:
أنه تُفتح فيه أبواب الجنة، وتُغلق فيه أبواب النار، وذلك لكثرة ما يُعمل فيه من الخير والأعمال الصالحة التي هي سبب لدخول الجنة، ولقلة ما يقع فيه من المعاصي والمنكرات التي هي سبب لدخول النار، وتُفتح أبواب الجنة أيضاً ترغيباً للعاملين في استباق الخيرات، والمسابقة إلى الباقيات الصالحات، فهذا أوان الجد والاجتهاد، وهذا هو وقت العمل والجهاد. وتُغلق أبواب الجحيم، ترغيباً للعاصين المعرضين بالتوبة والإنابة، وإتباع السيئات بالحسنات، التي تزيل آثار الذنوب من القلوب، وتمحوها من ديوان الحفظة، فإن الحسنات يذهبن السيئات، والخير يرفع الشر، والنور يزيل الظلمة، والمرض يُعالج بضده.
ومن خصائصه أنه تُصفّد فيه الشياطين، أي تُغلّ وتوثق، وتُقيّد بالسلاسل والأصفاد، فلا يصلون فيه إلى ما يصلون إليه في غيره. ولا يتمكنون من إغواء عباد الله كما يتمكنون منهم في غيره.
ولهذا ما إن يطل رمضان بطلعته البهية، حتى يظلل المجتمع الإسلامي كله جو من الطهارة والنظافة، والخشية والإيمان، والإقبال على الخير وحسن الأعمال، وعم انتشار الفضائل والحسنات، وكسدت سوق المنكرات، وأخذ الخجل يعتري أهلها من اقترافها، أو على الأقل من المجاهرة بها وإعلانها.
وهذه رحمة من الله بعباده، ولطف عظيم بهم، حيث أعانهم على أنفسهم، وحماهم من كيد مردة الجن والشياطين.
على أن هناك نفوساً شريرة قد تأصل فيها الشر، وتشرّبت الباطل، واستمرأت الفساد، وأسلمت للشيطان القياد، فأبعدها عن كل خير، وحرمها من كل فضيلة وبرّ، وساقها إلى كل رذيلة وشر. فلا تعرف لهذا الشهر حرمة، ولا تقدر له مكانته وفضله، ولا تعظم شعائر الله، ولا ترجو لله وقاراً!!
بل وصل الحال ببعضهم إلى أن يكون أسبق من الشيطان في الشر والإفساد. كما قال قائلهم:
وكنت امرءاً من جند إبليس فارتقى بي الحال، حتى صار إبليس من جندي(/1)
وقد سمعنا عن أناس لا يبالون بالفطر في رمضان، ولا يتورّعون فيه عن فعل المنكرات والقبائح، بل لربما اجتمع بعض هؤلاء الممسوخين، المطموس على قلوبهم ليالي العشر الأخيرة من رمضان، والتي هي أفضل ليالي الدهر، وفيها ليلة خير من ألف شهر، فيسهرون على شرب الخمر واستماع الغناء، وارتكاب الفواحش والزنا، نسأل الله العافية والسلامة، ونعوذ به من عمى البصيرة ورين القلوب. وقد صدق القائل:
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
وأصحاب هذه الحال، أنواع شتى:
1ـ فمنهم المحارب لله ورسوله، الذي جند نفسه للصد عن سبيل الله، والاستهزاء بآياته، والاستهتار بشعائره وحرماته، والسخرية بالصائمين والصائمات، ووصفهم بالتخلف والرجعية، والتحجر والظلامية. هكذا يزعمون، وبمثل هذا الباطل يتفوهون: (...كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً)[الكهف: من الآية5]، والحقيقة أنهم هم الجهلة الضالون، والمتخلفون الرجعيون، والمحرومون المخذولون.
2ـ ومنهم المنافق ذو الوجهين، الذي يتظاهر بالصلاح والالتزام، ويخادع الناس بمعسول الكلام، وإذا خلا بمحارم الله انتهكها غير هيّاب ولا وجل، وبلا خوف ولا حياء من الله عز وجل: ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُون فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة:9-10]. 3ـ ومنهم المعرض عن شرع الله، لا يتعلمه ولا يعمل به، بل هو مشغول بدنياه عن آخرته، ينفق أوقاته في اللهاث وراء حطام هذه الدنيا وجمع متاعها الزائل، ويرتع كما ترتع البهائم، ويأكل كما تأكل الأنعام، كأنه مخلوق عبثاً، أو متروك سدى.
4ـ ومنهم الماجن الفاسق الذي قطع أنفاسه بالمجون والفجور، واللهو والفساد، فأصبح لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً.
وفي هؤلاء وأمثالهم، يقول الحق تبارك وتعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر:3] ويقول تعالى: (...وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ)[محمد: من الآية12] ، ويقول تعالى: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:37-39]. ومن خصائص هذا الشهر أنه من أعظم أوقات العتق من النار، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: "ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة".
ومن أعظم خصائصه وأجلها أن فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فالعبادة فيها تعدل العبادة في مدة تزيد على ثلاث وثمانين سنة، وفي الحديث الصحيح عن أنس بن مالك – رضي الله عنه - قال: دخل رمضان، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِمها، فقد حُرِم الخير كله، ولا يُحرم خيرها إلا محروم" رواه ابن ماجه.
ليلة واحدة قد لا تزيد عن عشر ساعات، إذا أحييتها في الطاعة والعبادة، فكأنك ظللت تفعل هذه الطاعات مدة تزيد على ثلاث وثمانين سنة، فياله من فضل عظيم، وثواب وافر جزيل، ولا يُحرمه إلا محروم.
ومن خصائص هذا الشهر أنه من أرجى أوقات إجابة الدعاء، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره: "لكل مسلم دعوة مستجابة، يدعو بها في رمضان" وفي رواية صحيحة للبزار "وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة"، وإذا وقعت هذه الدعوة وقت الصيام، وبخاصة قبيل الإفطار، كان ذلك أرجى وأحرى بقبولها، كما قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا تُردّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم" رواه ابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن.
ومن فضائله أنه شهر القرآن، ففيه أُنزل، وفيه تتأكد تلاوته وتدبره، وحفظه وتعاهده، والعناية به والعمل بما فيه، قال الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...)[البقرة: من الآية185]
والمراد بإنزال القرآن فيه: إنزاله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك على النبي – صلى الله عليه وسلم مفرّقاً حسب الوقائع والحوادث. وهذا القول مروي عن ابن عباس وغيره.
وقيل: المراد بإنزال القرآن فيه: ابتداء نزوله على النبي – صلى الله عليه وسلم- وأن أول ما نزل فيه كان في ليلة القدر من رمضان.
ومن خصائص هذا الشهر المبارك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر لها ما تقدم من ذنبه".(/2)
ومن خصائصه أيضاً أن العمرة فيه تعدل حجة، بل تعدل أجر حجة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ؛ إذ ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة" وفي رواية: "تعدل حجة معي" متفق عليه.
ومن خصائصه: إيجاب صيامه على كل من توفرت فيه شروطه، وهي:
الإسلام، والبلوغ، والعقل، والقدرة، والإقامة، والخلوّ من الموانع كالحيض والنفاس.
يقول الله تعالى: (...فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ... )[البقرة: من الآية185]، فصيام رمضان ركن من أركان الإسلام وفريضة من فرائضه العظام. فمن جحد وجوبه، فهو كافر مرتد عن الإسلام بإجماع المسلمين، يُستتاب فإن تاب وإلا قُتل كافراً لا يُغسّل ولا يُكفّن ولا يُصلّى عليه، ولا يُدعى له بالرحمة، ولا يُدفن في مقابر المسلمين.
وإذا كانت هذه بعض خصائص هذا الشهر وفضائله، فجدير بكل مسلم موفّق أن يفرح بقدومه، ويحسن استقباله ويحرص على اغتنام أوقاته ولحظاته، وقد كان السلف الصالح – رحمهم الله- يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان. وذلك لما يعلمون فيه من الخيرات والبركات، وما يعملون فيه من الطاعات والقربات.
هذه بعض فضائل شهر رمضان، أما فضل الصيام من حيث الجملة سواء كان في رمضان أم في غيره، واجباً كان أو مستحباً، فقد جاء فيه أحاديث كثيرة تدل على مكانته عند الله ومحبته له، وجزيل عطائه لمن قام به إيماناً واحتساباً.
فمن فضائله أن الله -عز وجل- فرضه وأوجبه على جميع الأمم، وأتباع الشرائع والملل كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]. ولولا أنه عبادة محبوبة لله، عظيمة القدر، لا غنى للخلق عن التعبّد بها، وعما يترتب عليها من الثواب والجزاء، وما يحصل لهم من المصالح الكثيرة في الدنيا والآخرة ما فرضه الله على جميع الأمم وأتباع الشرائع، فهو من الشعائر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان.
والتشبيه في قوله تعالى: (...كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ...) [البقرة: من الآية183] تنشيط للمؤمنين وتسهيل للصيام عليهم، فإن المسلم إذا عرف أن هذا درب سلكه قبله الصالحون من الأنبياء وأتباعهم، فإنه يفرح بذلك ويستسهل الصيام ولا يستثقله كما أن هذا يشعره بأنه جزء من تلك الشجرة المباركة التي تضرب جذورها في أغوار التاريخ، وينتسب إليها الصالحون على مرّ العصور وكرّ الدهور، فيشعر بالعزة والكرامة، وتستجلب نفسه مشاعر الحمد والثناء على الله والشعور بمنته العظيمة، حيث جعله عضواً في هذه الشجرة المباركة التي ينتسب إليها عباد الله الأطهار والمصطفون الأخيار.
ومن فضائله أنه من أكبر أسباب التقوى وتقوية شجرتها في القلوب.
ومن فضائل الصيام أنه جُنة من النار، فقد روى الإمام أحمد بسند صحيح أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: "الصوم جُنة يستجنّ بها العبد من النار". وفي الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري عن النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من صام يوماً في سبيل الله، باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً" الله أكبر يا له من فضل عظيم وثواب كبير، صيام يوم واحد ابتغاء وجه الله تعالى واحتساباً للأجر والثواب عنده يباعد الله به وجه الصائم عن النار سبعين عاماً، فما بالكم فيمن صام شهر رمضان كله؟ نسأل الله أن يوفقنا لصومه، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه.
ومن فضائل الصيام أنه من أعظم أسباب دخول الجنة يقول النبي – صلى الله عليه وسلم-: "من قال لا إله إلا الله ختم له بها، دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله، ختم له به دخل الجنة" رواه أحمد والأصبهاني وصححه الألباني.
وثبت عن أبي أمامة – رضي الله عنه- أنه قال: قلت: يا رسول الله، دلّني على عمل أدخل به الجنة، قال: عليك بالصوم، فإنه لا مثل له" قال الراوي: وكان أبو أمامة لا يُرى في بيته الدخان نهاراً إلا إذا نزل بهم ضيف. رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان وصححه الحاكم والألباني.
بل أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن في الجنة باباً خاصاً بالصائمين يقال له: الريان، لا يدخل منه أحد غيرهم" والحديث متفق عليه.
ومن فضائل الصيام أيضاً أنه كفارة للذنوب، فإن الحسنات يكفرن السيئات، والصيام من أعظم الحسنات قال الله تعالى: (...إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود:114] "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان".(/3)
وفي الحديث المتفق عليه أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: "من صام رمضان إيماناً واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه" وقوله: إيماناً واحتساباً، أي إيماناً بالله تعالى وبما أوجب من الصيام ورضي بذلك وانقاد له، واحتساباً، أي طلباً للأجر الذي رتبه الله على الصيام؛ فهو لم يصم رياء أو سمعة أو طلباً لعرض من أعراض الدنيا أو عادة وموافقة للناس واستيحاشاً من مخالفتهم والشذوذ عنهم، وهو يزداد أجراً ويعظم عند الله منزلة، إذا كان في رمضان لما لهذا الشهر من الفضائل والخصائص، فاتقوا الله أيها المسلمون، واشكروه على أن بلّغكم رمضان، واغتنموا أوقاته بالصيام والقيام، وكثرة الذكر والصدقة وتلاوة القرآن. اللهم كما بلغتنا رمضان فوفقنا. .
جاء في الصحيحين عن النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به. والصيام جنة، فإذا كان يومُ صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب فإن سابّه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه". وفي رواية لمسلم "كل عمل ابن آدم له يضاعف له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي".
وقد اشتمل هذا الحديث العظيم على فضائل كثيرة للصيام منها:
أن الله اختص الصوم لنفسه من بين سائر الأعمال فقال: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي" وذلك لشرفه عنده، ومحبته له وتحقق الإخلاص فيه أكثر من غيره، فإن الصائم يكون في الوضع الذي لا يراه فيه أحد من الناس، وهو متمكن من الإفطار، فلا يفطر لما يعلم من مراقبة الله له واطلاعه عليه، فيمتنع عن تناول المفطرات خوفاً من عقاب الله ورجاء لثوابه، ومحبته لما يحبه الله، ولهذا قال الله تعالى: "يدع شهوته وطعامه من أجلي".
وتظهر فائدة هذا الاختصاص في وقت أحوج ما يكون فيه العبد إلى مغفرة الله ورحمته، قال سفيان بن عيينة: "إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى إذا لم يبق إلا الصوم، يتحمل الله عنه ما بقي من المظالم، ويدخله الجنة بالصوم".
ومن فضائل الصوم أن الله قال فيه "وأنا أجزي به" فأضاف الجزاء إلى نفسه من غير اعتبار عدد معين، فما ظنكم برب العالمين وأكرم الأكرمين؟! فالعظمة على قدر معظمها؛ فيجازي عبده بأعظم الجزاء وأجزله وأوفاه، فيكون أجر الصائم عظيماً كثيراً بقدر ما وقع في قلبه من الإخلاص والصدق مع الله تعالى.
كما أن الصيام يتضمن أنواع الصبر كلها من الصبر على طاعة الله والصبر عن معصيته، والصبر على أقدار الله المؤلمة من الجوع والعطش، وضعف البدن فكان الصائم من الصابرين، وقد قال الله تعالى: (…إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر: من الآية10].
ومن فضائل الصيام أيضاً "أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، لأنه من آثار الصيام الذي هو قربة إلى الله تعالى مسكاً طيباً محبوباً عند الله، وإن كان مستكرها عند الناس".
ومن فضائله أن الصوم سبب لسعادة العبد في الدارين، لقوله صلى الله عليه وسلم :للصائم فرحتان: فرحة عند الفطر، وفرحة عند لقاء ربه".
أما فرحه عند فطره فهو نموذج للسعادة الحقيقية التي يجدها المؤمن في الدنيا بسبب طاعته وعبادته لمولاه. وهذه الفرحة تأتي من جهتين:
1- أنه يفرح بما مَنّ الله عليه من التوفيق لطاعته وإكمال صيام ذلك اليوم.
2- أنه يفرح بما أباح الله له من تناول المفطرات التي كانت محرمة عليه في النهار، فيتناولها وهو مشتاق لها، ولهذا كان من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم- عند الإفطار: "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت"أخرجه أبو داود مرسلاً وله شواهد يتقوى بها، ورواه أبو داود أيضاً بإسناد حسن أن النبي – صلى الله عليه وسلم- كان إذا أفطر قال: "ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله".
وفي الحديث الصحيح أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيُشفَّعان" رواه أحمد والحاكم.
هذه هي بعض فضائل الصيام، فالله الله بإتمامه وإتقانه، وإياكم والوقوع فيما يفسده أو ينقصه من أنواع المعاصي والمنكرات.
إياكم والغيبة والنميمة، والفحش والكذب، وقول الزور وفعل الزور.
إياكم وسماع اللهو والغناء، والنظر إلى ما حرم الله تعالى؛ فإن غاية الصوم هي تحقيق التقوى، وتربية المسلم على طاعة الله والبعد عن معصيته، وأن يتجرّد لله تعالى من حظوظ نفسه ويُعتق من أوزار أهوائه وشهواته.(/4)
وليس الصيام مجرد الإمساك عن الشراب والطعام، بل هو مع ذلك: إمساك عن كل ما حرم الله، وصوم عن كل ما نهى الله عنه من الأقوال والأفعال.
يقول النبي – صلى الله عليه وسلم- "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" رواه البخاري.
وهذه المعاصي وأمثالها محرمة في كل زمان ومكان، ولكنها في رمضان أشد تحريماً وأعظم إثماً. وهي وإن كان مرتكبها لا يؤمر بإعادة صومه، إلا أنها تنقص أجر الصيام، بل وقد تذهبه بالكلية، ويكون حال صاحبها كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم- "رب صائم حظّه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر" رواه النسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة والألباني(/5)
أحاديث
الطائفة الظاهرة
وتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين
تأليف
الدكتور. حسام الدين بن موسى عفانه
الأستاذ المشارك في الفقه والأصول
كلية الدعوة وأصول الدين
جامعة القدس
الطبعة الأولى بيت المقدس
1423هـ
2002م
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) سورة آل عمران الآية 102 .
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) سورة النساء الآية 1 .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) سورة الأحزاب الآيتان 70-71 .
وبعد
فقد اطلعت على كتاب بعنوان ( حمل الدعوة الإسلامية واجبات وصفات ) ، لكاتبه محمود عبد اللطيف عويضة ، نشرته دار الأمة وهو من منشورات حزب التحرير ، كما جاء على صفحة العنوان الداخلي ، وقرأت الكتاب فوجدت فيه فصلاً بعنوان ( الطائفة الظاهرة ) ، وقد هالني وأفزعني ، تلاعب الكاتب بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وتحريفه الكلم عن مواضعه ، وتعصبه البغيض لحزبه ، حيث إنه قد زعم أن المقصود بالطائفة الظاهرة – التي ورد ذكرها في الأحاديث النبوية – حزب التحرير ، وقد أوَّل النصوص تأويلاً باطلاً لتحقيق ما زعمه وادعاه .
وقد عزمت على بيان فساد ما ذهب إليه الكاتب ، من تلاعبٍ بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، قياماً بواجب الدفاع عن السنة النبوية ، سائلاً المولى عز وجل ، أن يجعلني ممن شملهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ) ، صححه الحافظ ابن عبد البر وحسنه الحافظ العلائي .
وسأذكر أولاً مجموعة عطرة من الأحاديث النبوية الواردة في الطائفة الظاهرة ، ثم أذكر كلام الكاتب الذي حرَّف فيه كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن ثَمَّ أبين فساد كلامه ، وشدة تعصبه لحزبه ، هذا التعصب الذي أعماه عن رؤية الحقيقة الساطعة كالشمس في رابعة النهار .
وينبغي أن يعلم أن التعصب صفة ذميمة ، تحمل الإنسان على اتباع الهوى ، وتدفعه إلى الميل عن جادة الصواب ، وتحجب عينيه عن رؤية الحق ، فيخبط خبط عشواء ، وقد ذمَّ العلماء التعصب وحاربوه، وهذه بعض عباراتهم في ذلك :
قال أبو نُعيم :( قاتل الله التعصب ما أشنع إخساره في الميزان ) ، حلية الأولياء 9/ 11.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من الله ، فهو من عمل الجاهلية ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ] مجموع الفتاوى 11/28 .
وقال الشوكاني :[ والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً ، فبصيرته عمياء وأذنه عن سماع الحق صماء ، يدفع الحق ، وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل ، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق ، غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح ، وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم ، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع ، فإنه صار بها باب الحق مرتجاً ، وطريق الإنصاف مستوعرة ، والأمر لله سبحانه والهداية منه
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضح ] تفسير فتح القدير 2/ 243 .
وقال الشوكاني أيضاً :[ فعليك أيها العامل بالكتاب والسنة ، المبرأ من التعصب والتعسف ، أن تورد عليهم حجج الله ، وتقيم عليهم براهينه ، فإنه ربما انقاد لك منهم ، من لم يستحكم داء التقليد في قلبه ، وأما من قد استحكم في قلبه هذا الداء ، فلو أوردت عليه كل حجة ، وأقمت عليه كل برهان ، لما أعارك إلا أذناً صماء ، وعيناً عمياء ، ولكنك قد قمت بواجب البيان الذي أوجبه عليك القرآن ، والهداية بيد الخلَّاق العليم :( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) ، سورة القصص الآية 56 ] تفسير فتح القدير 4/ 104 .(/1)
وقال العلامة ابن القيم :[ ومنها الدعاء بدعوى الجاهلية ، والتعزي بعزائهم ، كالدعاء إلى القبائل والعصبية لها وللأنساب ، ومثله التعصب للمذاهب والطرائق والمشايخ ، وتفضيل بعضها على بعض ، بالهوى والعصبية ، وكونه منتسباً إليه ، فيدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي عليه ، ويزن الناس به ، كل هذا من دعوى الجاهلية ] زاد المعاد في هدي خير العباد 2/471 .
وقال الزرقاني :[ واعلم أن هناك أفراداً ، بل أقواماً تعصبوا لآرائهم ومذاهبهم ، وزعموا أن من خالف هذه الآراء والمذاهب ، كان مبتدعاً متبعاً لهواه ، ولو كان متأولاً تأويلاً سائغاً ، يتسع له الدليل والبرهان كان رأيهم ومذهبهم هو المقياس والميزان ، أو كأنه الكتاب والسنة والإسلام ، وهكذا استزلهم الشيطان ، وأعماهم الغرور ، ولقد نجم عن هذه الغلطة الشنيعة ، أن تفرق كثير من المسلمين شيعاً وأحزاباً ، وكانوا حرباً على بعضهم وأعداءً ، وغاب عنهم أن الكتاب والسنة والإسلام ، أوسع من مذاهبهم وآرائهم ، وأن مذاهبهم وآرائهم أضيق من الكتاب والسنة والإسلام ، وأن في ميدان الحنيفية السمحة ، متسعاً لحرية الأفكار ، واختلاف الأنظار ، ما دام الجميع معتصماً بحبل من الله ، ثم غاب عنهم أن الله تعالى يقول:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) سورة آل عمران، الآية 103 . ويقول جل ذكره :( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) سورة الأنعام الآية 159 . ويقول تقدست أسماؤه :
( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) سورة آل عمران الآيات 105-106 . لمثل هذا أربأ بنفسي وبك أن نتهم مسلماً بالكفر أو البدعة والهوى ، لمجرد أنه خالفنا في رأي إسلامي نظري ، فإن الترامي بالكفر والبدعة من أشنع الأمور ، ولقد قرر علماؤنا أن الكلمة إذا احتملت الكفر من تسعة وتسعين وجهاً ، ثم احتملت الإيمان من وجه واحد ، حملت على أحسن المحامل ، وهو الإيمان وهذا موضوع مفروغ منه ، ومن التدليل عليه ، لكن يفت في عضدنا غفلة كثير من إخواننا المسلمين ، عن هذا الأدب الإسلامي العظيم الذي يحفظ الوحدة ، ويحمي الأخوة ، ويظهر الإسلام بصورته الحسنة ، ووجهه الجميل من السماحة واليسر ، واتساعه لكافة الاختلافات الفكرية ، والمنازع المذهبية والمصالح البشرية ، ما دامت معتصمة بالكتاب والسنة ، على وجه من الوجوه الصحيحة التي يحتملها النظر السديد ، والتأويل الرشيد ، ولقد حدث مثل هذا الاختلاف على عهد رسول الله بين أصحابه ، فما تنازعوا من أجله ، بل أخذ كل برأيه ، وهو يحترم الآخر ورأيه ، وأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك ، ولم يُعِبْ أحداً منهم على رغم أنه يترتب على بعض هذه الاختلافات أن ترك بعضهم الصلاة في وقتها اجتهاداً منه… ] مناهل العرفان 2/ 27.
وقال الإمام ابن عبد الهادي الحنبلي :( وما تحلى طالب العلم بأحسن من الإنصاف وترك التعصب ) نصب الراية 1/355 ، وانظر أدب الاختلاف لمحمد عوامة ص 83 .
وقال العلامة ابن القيم في نونيته :
وتعرَّ من ثوبين من يلبسهما
ثوب من الجهل المركب فوقه
وتحلَّ بالإنصاف أفخر حلة
واجعل شعارك خشية الرحمن مع ... يلقى الردى بمذمةٍ وهوان
ثوب التعصب بئست الثوبان
زينت بها الأعطاف والكتفان
نصح الرسول فحبذ الأمران
شرح قصيدة ابن القيم 1/ 124 .
وقد جعلت هذه الدراسة في مقدمة وأربعة مباحث وخاتمة :
فالمقدمة ما قرأت .
وأما المبحث الأول فذكرت فيه الأحاديث الواردة في الطائفة الظاهرة .
وأما المبحث الثاني فبينت فيه تحريف الكاتب للمراد بأحاديث الطائفة الظاهرة .
وأما المبحث الثالث فبينت فيه محل الطائفة الظاهرة حسب الروايات الواردة ، وذكرت أقوال العلماء في ذلك .
وفي المبحث الرابع أبطلتُ دعوى الكاتب في تحريفه لقول النبي صلى الله عليه وسلم
( فطوبى للغرباء ) .
وأما الخاتمة فقد ذكرت فيها منهاج الطائفة الظاهرة .
وختاماً أسأل الله أن يلهمنا أن نسلك طريق الحق والصواب ، وأن يجنبنا التعصب واتباع الهوى ، ويبعدنا عن التكبر والتعالي على عباد الله ، إنه خير مسؤول ، وصلى الله وسلم على الرسول وعلى آله وصحبه أجمعين .
ضحى يوم الأحد الخامس والعشرين من محرم الحرام سنة 1423 هـ وفق السابع من نيسان 2002 م .
كتبه الدكتور حسام الدين بن موسى عفانه
أبوديس / بيت المقدس
المبحث الأول
الأحاديث الواردة في الطائفة الظاهرة(/2)
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة ذكر الطائفة الظاهرة ، التي تبقى في هذه الأمة المحمدية ، متمسكةً بدينها ، وقائمةً على أمر الله ، حتى قيام الساعة ، وهذه مجموعة عطرة من هذه الأحاديث :
1. عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية رضي االله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، والله المعطي وأنا القاسم ، ولا تزال هذه الأمة ظاهرين على من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون ) ، رواه البخاري .
2. وعن المغيرة بن شعبة رضي االله عنه عن النبيصلى الله عليه وسلم قال :( لا يزال ناسٌ من أمتي ظاهرين ، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ) ، رواه البخاري ومسلم .
3. وعن عمير بن هانئ أنه سمع معاوية رضي االله عنه يقول : سمعت النبيصلى الله عليه وسلم يقول :( لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك ) . قال عمير : فقال مالك بن يخامر : قال معاذ : وهم بالشام ، فقال معاوية : هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول وهم بالشام ، رواه البخاري .
4. وقال الإمام البخاري في صحيحه : باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، وهم أهل العلم . ثم ذكر حديث شعبة المتقدم وحديث معاوية وهو :
5. عن حميد قال سمعت معاوية بن أبي سفيان رضي االله عنه يخطب قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسمٌ ويعطي الله ، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله ) .
6. وعن المغيرة بن شعبة رضي االله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( لا يزال من أمتي قوم ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله ) ، رواه البخاري .
7. وعن جابر بن عبد الله رضي االله عنه يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ، قال فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم ، فيقول أميرهم تعال صل لنا ، فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة ) ، رواه مسلم .
8. وعن ثوبان رضي االله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ) ، رواه مسلم .
9. وعن جابر بن سمرة رضي االله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابةٌ من المسلمين حتى تقوم الساعة ) ، رواه مسلم .
10. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ) ، رواه مسلم
11. وعن يزيد بن الأصم قال سمعت معاوية بن أبي سفيان ذكر حديثاً رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم لم أسمعه ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم على منبره حديثاً غيره قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ، ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة ) ، رواه مسلم .
12. وعن عبد الرحمن بن شماسة المهري قال : كنت عند مسلمة بن مخلد وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص فقال عبد الله : لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق ، هم شر من أهل الجاهلية لا يدعون الله بشيء إلا ردَّه عليهم ، فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر ، فقال له مسلمة : يا عقبة اسمع ما يقول عبد الله ، فقال عقبة هو أعلم ، وأما أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك ، فقال عبد الله أجل ، ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك مسُّها مسُّ الحرير فلا تترك نفساً في قلبه مثقال حبة من الإيمان ، إلا قبضته ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة ) ، رواه مسلم .
13. وعن سعد بن أبي وقاص رضي االله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة )، رواه مسلم .(/3)
14. وعن ثوبان رضي االله عنه قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم:( إن الله زوى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، فإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ، فإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة ، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، فإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يُرَد ، وإني أعطيك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من أقطارها ، أو قال من بين أقطارها ، حتى يكون بعضهم يهلك بعض ويسبي بعضهم بعضاً ) قال : قال رسولصلى الله عليه وسلم :( إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين ، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة ، ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين ، وحتى تُعبد الأوثان ، وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذاباً كلهم يزعم أنه نبي ، وأني خاتم النبيين ، لا نبي بعدي ، ولن تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ، لا يضرهم من يخذلهم حتى يأتي أمر الله ) ، رواه ابن حبان ، وأصله في صحيح مسلم .
15. وعن عمران بن حصين رضي االله عنه قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم:( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال ) . رواه الحاكم في المستدرك وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه .
16. وعن عمر بن الخطاب رضي االله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ) . رواه الحاكم في المستدرك ، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
17. عن ثوبان رضي االله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين ، قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ، لا يضرهم من يخذلهم حتى يأتي أمر الله ) رواه الترمذي ثم قال : وهذا حديث حسن صحيح ، سمعت محمد بن إسماعيل يقول سمعت علي بن المديني يقول وذكر هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ) فقال علي : هم أهل الحديث .
18. وعن معاوية بن قرة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا فسد أهل الشام ، فلا خير فيكم ، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة ) رواه الترمذي ثم قال : هذا حديث حسن صحيح.
19. وعن أبي هريرة رضي االله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله لا يضرها من خالفها ) ، رواه ابن ماجة ،
وقال الألباني : حسن صحيح ، صحيح سنن ابن ماجة 1/6 .
وغير ذلك من الأحاديث الواردة في الطائفة الظاهرة .
المبحث الثاني
تحريف المراد بأحاديث الطائفة الظاهرة
تحدث الكاتب المذكور عن حزبه ونشأته وفكره وطريقته وغايته والعقبات التي تعترض طريقه في الصفحتين 50 - 51 .
ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري رضي االله عنه قال :( صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العصر يوماً بنهار ثم قام خطيباً فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه ... ) .
وعن حذيفة رضي االله عنه قال :( قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه ، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه قد علمه أصحابه هؤلاء ... ) رواه أبو داود وابن حبان.
ثم قال الكاتب : فنتساءل : هل أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وهو الحريص على أمته الناصح لها - إلى هذا الحزب في خطبته تلك وهل ذكره عليه الصلاة والسلام بالاسم أو بالصفة ؟
إننا لم نجد فيما اطلعنا عليه من الأحاديث النبوية الشريفة تصريحاً باسم ( حزب التحرير ) ، ولكننا وجدنا عدداً من الأحاديث تذكر ، مجموعة أوصاف لطائفة نحسبها ونرجو أن تكون قد عنت ( حزب التحرير ) لأن هذه الأوصاف نراها تنطبق تماماً على هذا الحزب ، ولم نستطع تطبيقها على أي طائفة أو حزب غيره في الواقع المشاهد . ثم ذكر ما يتعرض له حزب التحرير من مناوأة وخذلان الخاذلين ، وخلاف المخالفين ، وعدم تضرره بهم وقوامته وقيامه على أمر الله سبحانه ، وذكر تمسكه بالحق وظهوره على الدين ، وتحديد مكان وجوده ونشأته ، وأنه سينتصر ويقيم دولة تقاتل الأعداء في آخر الزمان يجعلنا نحسب ونرجو أن تكون هذه الأوصاف دالة بالفعل على
( حزب التحرير ) . ص52 .
ثم ذكر الكاتب مجموعة من الأحاديث التي ورد فيها ذكر الطائفة الظاهرة ومنها :(/4)
1. عن معاوية قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول :( لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) قال عمير فقال مالك بن يخامر قال معاذ : وهم بالشام فقال معاوية : هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول : وهم بالشام .
2. عن أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك . قالوا : يا رسول الله وأين هم ؟ قال : ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس ) .
3. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله لا يضرها من خالفها ) . ثم ذكر مجموعة أخرى من الأحاديث التي ورد فيها ذكر الطائفة الظاهرة وقد سبق ذكرها .
ثم قال الكاتب لا فض فوه :[ فقوله - صلى الله عليه وسلم - طائفة وأمة وعصابة وقوم ، يدل على حزب ولا تدل هذه الألفاظ على أهل الشام كلهم كما فسرها معاوية لدعم موقفه من علي رضي الله عنه .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : قائمة ، قوامة على أمر الله ، يشير إلى قيام الحزب وتمسكه بالإسلام وقوامته على فكر المجتمع وحسه .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، يدل على خذلان الخاذلين له وخلاف المخالفين له وأن الحق مع الحزب وليس مع هؤلاء وأن الخذلان والخلاف لا تلحق الضرر بالحزب كما هو حاصل فعلاً مع ( حزب التحرير ) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يزال ولا تزال حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ، يدل على استمرارية الحزب في سيره وعدم توقفه كما يدل على ذلك قوله في حديث الحاكم : حتى تقوم الساعة ...] .
ثم قال :[ وأخيراً يدل قوله - صلى الله عليه وسلم - : وهم بالشام ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس ، على مكان نشأة الحزب هذا أي ( حزب التحرير ) إذ لم يعرف أن حزباً هذه أوصافه قد نشأ في مدينة القدس وما حولها سوى ( حزب التحرير ) ، ص54- 55.
وبعد هذا الزعم الباطل بأن الطائفة الظاهرة المذكورة في الأحاديث هي حزب التحرير ، وضح الكاتب خطأ العلماء الذين فسروا الطائفة المذكورة بأنهم أهل الحديث ، أو أهل العلم ، أو أهل السنة والجماعة
فقال الكاتب :[ أما قول الإمام أحمد : إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم .
وقول البخاري : هم أهل العلم .
وقول القاضي عياض : هم أهل السنة والجماعة .
وقول علي بن المديني : هم العرب ، فأقوال ظاهرة الخطأ ، فأهل الحديث المشتغلون بعلم الحديث وروايته ، وأهل العلم لا يستطيع أحدٌ الادّعاء بأنهم يقطنون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس فحسب ، إضافة إلى عدم انطباق صفات أخرى على هؤلاء . وأهل السنة والجماعة معلوم بداهة أنهم لا يقطنون فحسب في الشام ، إضافة إلى أنهم ليسوا طائفة أو عصابة كما ورد في الأحاديث ] ص55 .
ثم زعم الكاتب الفطن !! أن العلماء السابقين كأحمد والبخاري والقاضي عياض ، لم يدركوا مناط هذه الأحاديث ، وأنه هو الوحيد الذي أدرك مناط هذه الأحاديث فلذلك حمل هذه الأحاديث على حزب التحرير .
وأقول في الرد على هذه المزاعم :
إن هذا الكلام ينضح بالغرور الفكري الذي أوصل هذا الكاتب إلى هذه النتيجة ، التي تسيء للأمة الإسلامية جمعاء ، ويزعم أن الأمة الإسلامية ما عرفت الطائفة الظاهرة إلا في هذا العصر ومنذ حوالي خمسين عاماً فقط ، أي منذ نشأة حزب التحرير !!!
إن هذا الكاتب يتجاهل واقع أمة الإسلام ، خلال أربعة عشر قرناً من الزمان ، وأن الأمة لم يكن فيها طائفة ظاهرة متمسكة بالإسلام ، حتى جاء حزب التحرير !!! يا لضياع أمة الإسلام ! ويا لهوانها في عين هذا الكاتب المتعصب تعصباً أعمى حال دون رؤيته للحقائق الناصعة .
إن أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الواردة في ذكر الطائفة الظاهرة ، تؤكد لنا أن هذه الطائفة كانت موجودة على مرِّ العصور والأيام ، ولم ينقطع وجودها في أي عصر من العصور .
ودعوى هذا الكاتب تفيد أن هذه الطائفة لم توجد أبداً حتى وجد حزب التحرير ، إنها لفرية كبيرة .
انظر أخي القارئ ثم تدبر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ) رواه مسلم .
وقوله صلى الله عليه وسلم:( لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ) رواه مسلم .
وغير ذلك من الألفاظ ، التي تدل على أن هذه الطائفة موجودة في كل عصر ، ثم يزعم هذا الكاتب أنها لم توجد إلا عندما وجد حزبه
( حزب التحرير ) !!!
وهذا الكلام من أبطل الباطل وأبشعه وهاك بيان بطلانه :(/5)
[ اعلم أن أول صفة تتميز بها الطائفة المنصورة عن الطوائف الضالة الأخرى ، هي صفة الاستمرارية ، أي إن الطائفة المنصورة مستمرة بوجودها ومقوماتها وأصولها ، ودعوتها ومنهجها ورجالها من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ساعتنا هذه ، بل إلى يوم القيامة ودليل هذا قوله تعالى :( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) سورة التوبة الآية 100 ، ففي قوله تعالى :( السابقون الأولون ) إشارة إلى تاريخ بدء هذه الجماعة ... ، وفي قوله تعالى :( والذين اتبعوهم ) ، إشارة إلى استمرارية هذا الوجود وعموميته وعدم انقطاعه ، وأن ثمة رجالاً مستمرون على هذا السبيل ، وأن قوام هذا الاستمرار هو الاتباع ( اتبعوهم ) ... ، ويؤيد هذا ويوضحه قوله - صلى الله عليه وسلم - :( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ) ، ففي قوله - صلى الله عليه وسلم - :( لا تزال ) ، دلالة واضحة وبينة ناصعة على صفة الاستمرارية للطائفة المنصورة ] صفات الطائفة المنصورة ص13-14 .
وتأكيداً لما مضى من أن هذه الطائفة المنصورة ، مستمرة الوجود منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أن عبارة [ لا تزال ] و [ لا يزال ] ، الواردة في أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - تدل على الاستمرارية حيث إن كلمة زال ، ترجع في أصلها إلى زول ، ومنه الزوال وهو الذهاب والاستحالة والاضمحلال ، وقد نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - الزوال بقوله :
[ لا تزال ] ، ومعنى ذلك أنها مستمرة في الوجود وباقية . انظر لسان العرب مادة زول 6/115 . تاج العروس مادة زول 14/319 .
وعندما يقول الكاتب إن هذه الطائفة هي حزب التحرير، فمعنى ذلك أنه منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت الطائفة الظاهرة غير موجودة ، بل منقطعة حتى وجد حزب التحرير ؟!! فوجدت الطائفة الظاهرة ، وهذا تكذيب لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، الذي أخبر وهو الصادق المصدوق أن هذه الطائفة مستمرة في الوجود ، ويأتي هذا المغرور ليقول خلاف ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبحانك إن هذا لبهتان عظيم !!
ومما يؤكد تحريف هذا الكاتب لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن موضعه ، أنني استعرضت الأحاديث التي ورد فيها لفظ [ لا تزال ] فبلغت حوالي 185 حديثاً ، والأحاديث التي ورد فيها لفظ [ لا يزال ] فبلغت حوالي 300 موضع - وهذا الإحصاء من خلال موسوعة أطراف الحديث فقط - فوجدت أن كلاً من اللفظتين تدل على الاستمرارية، ولا تدلان بحال من الأحوال على أن الشيء كان منقطعاً ثم وجد ، وهذه بعض الأحاديث التي تؤكد ذلك :
قوله - صلى الله عليه وسلم - [ لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس ] .
[ لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله ما بوجهه مزعة لحم ] .
[ لا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في المسجد ] .
[ لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب ] .
[ لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور ] .
[ لا تزال مستمسكاً بالإسلام حتى تموت ] .
[ لا تزال نفس ابن آدم معلقة بديْنه حتى يقضى عنه ] .
[ لا تزال جهنم تقول : هل من مزيد ]
[ لا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة ] .
[ لا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه ]
[ لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ] .
[ لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر ] .
[ لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ] .
[ لا يزال الرجل يصدق ويتحرى حتى يكتب صديقاً ] .
[ لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً ] .
[ لا يزال الناس بخير ما عجلَّوا الفطر ] .
[ لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله ] .
[ لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ].
وهذا غيض من فيض من الأحاديث ، التي وردت فيها عبارة ( لا تزال ) وعبارة ( لا يزال ) ، وهما تدلان على الاستمرارية ، وهكذا يجب أن نفهم أحاديث الطائفة الظاهرة ، وأنها موجودة ومستمرة ، لأن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تُشرح وتُفسر حسب ما تدل عليه ألفاظها ، وليس حسب الأهواء الزائغة ولا حسب النظرات الحزبية الضيقة .
وبعد هذا الاستعراض ، يثبت لنا كذب قول الكاتب : [ وقوله - صلى الله عليه وسلم - :
( لا يزال ولا تزال حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) يدل على استمرارية الحزب في سيره وعدم توقفه ... ] ص54 .
وكذلك يظهر لنا الخطأ الشنيع في تخطئة الكاتب لأئمة العلم والدين في بيانهم للطائفة الظاهرة ثم قال الكاتب لا فض فوه :[ وأن عذر هؤلاء أنهم عاشوا قبل أن يدركوا مناط هذه الأحاديث ، وهو حزب التحرير ، وإلا فلربما كان لهم رأي آخر ... ] ص55 .
أي كذب وأي زور هذا ؟!!! وأي غرور قتَّالٍ هذا ؟!!!(/6)
قال الإمام النووي :[ وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة ، فإن هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن ، ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور في الحديث ] شرح النووي على صحيح مسلم 5/95 .
إن هذا الكاتب ، قد ضرب بأقوال الأئمة والعلماء عرض الحائط ، وخطأهم فيما ذهبوا إليه ، وأن رأيه هو الصواب فقط ، والله إن هذا لهو الغرور بعينه ، هؤلاء القوم يرون أنفسهم أنهم حملة الإسلام وأهله ولا يرون غيرهم من المسلمين يساوون شيئاً ، بل لا يعرفون شيئاً حتى ولو كانوا من كبار العلماء .
ولبيان عظم خطأ هذا الكاتب أود أن أبين أقوال العلماء في بيان المقصود بالطائفة الظاهرة التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديثه الكثيرة فمن أقوال العلماء في ذلك :
1. قال الإمام البخاري :[ باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ) وهم أهل العلم ] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 13/358.
2. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني :[ وأخرج الحاكم في علوم الحديث بسند صحيح عن أحمد : إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ؟ ] فتح الباري 13/359.
3. وقال عبد الله بن المبارك :[ هم عندي أصحاب الحديث ] .
4. وقال أحمد بن سنان الثقة الحافظ :[ هم أهل العلم وأصحاب الآثار ] سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/3/136-137 .
5. وقال القاضي عياض :[ إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ، ومن يعتقد مذهب أهل الحديث ] إتحاف الجماعة 1/330 .
6. وقال الإمام الترمذي: [ قال محمد بن إسماعيل - هو البخاري - قال علي بن المديني هم أصحاب الحديث ] سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 5/23 .
7. وقال الإمام النووي :[ وأما هذه الطائفة ، فقال البخاري :هم أهل العلم , وقال أحمد بن حنبل : إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم . قال القاضي عياض : إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ،ومن يعتقد مذهب أهل الحديث . قلت – النووي - : ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين ، منهم شجعان مقاتلون ، ومنهم فقهاء ، ومنهم محدثون ، ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير ، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض ] شرح النووي على صحيح مسلم 5/58-59 .
8. وقال الإمام ابن العربي المالكي :[ وأما الطائفة المنصورة ، فقيل هم أصحاب الحديث ، وقيل هم العباد ، وقيل هم المناضلون على الحق بألسنتهم ، وقيل هم المجاهدون في الثغور بأسنَّتهم ] عارضة الأحوذي 5/34 . وانظر المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 3/763 .
9. وقال القرطبي :[ روى عمران بن حصين قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ) ، قال يزيد بن هارون :[ إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم ؟ قلت : وهذا قول عبد الرزاق في تأويل الآية إنهم أصحاب الحديث ذكره الثعلبي . سمعت شيخنا الأستاذ المقرئ النحوي المحدث ، أبا جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي ، المعروف بابن أبي حجة رحمه الله ، يقول في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام ( لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ) إنهم العلماء قال : وذلك أن الغرب لفظ مشترك ، يطلق على الدلو الكبيرة ، وعلى مغرب الشمس ، ويطلق على فيضة من الدمع . فمعنى لا يزال أهل الغرب ) ، أي لا يزال أهل فيض الدمع من خشية الله عن علم به وبأحكامه ظاهرين الحديث ، قال الله تعالى :( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) .
قلت – القرطبي -: وهذا التأويل يعضده قوله - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة ) وظاهر هذا المساق أن أوله مرتبط بآخره والله أعلم ] تفسير القرطبي 8/296-297.
المبحث الثالث
محل وجود الطائفة الظاهرة
وأما ما زعمه الكاتب من أن هذه الطائفة محصورة في الشام ، وفي بيت المقدس ، وأكناف بيت المقدس ، حيث قال :[ وأخيراً يدل قوله - صلى الله عليه وسلم - وهم بالشام ، ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس على مكان نشأة الحزب ، هذا أي حزب التحرير ، إذ لم يُعرف أن حزباً هذه أوصافه قد نشأ في مدينة القدس وما حولها سوى حزب التحرير ] ص55 .
وأقول قد بينت سابقاً كذب الدعوى العريضة ، التي ادعاها الكاتب من أن الأحاديث الواردة في الطائفة الظاهرة ، تنطبق على حزب التحرير فقط .
وهنا أبين خطأ ادعاء الكاتب أن الطائفة الظاهرة في الشام وفي بيت المقدس وأكناف بيت المقدس فقط ، وهو ما قال ذلك إلا لأن حزبه نشأ في فلسطين ، فأراد أن يحمل الأحاديث على حزبه فأقول :
أولاً : إن قول الكاتب :[ ولا تدل هذه الألفاظ على أهل الشام كلهم كما فسرها معاوية لدعم موقفه من علي ] ص54 .(/7)
إن الكاتب افترى على معاوية فنسب له ما سبق ، والحقيقة خلاف ذلك ، لأن الذي حدد موقع الطائفة في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري - وهو الذي ساقه الكاتب - ، إنما هو معاذ وليس معاوية رضي الله عنهما ، قال الإمام البخاري :[ حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا ابن جابر حدثني عمر بن هانئ أنه سمع معاوية قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول :( لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من كذّبهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ] فقال مالك بن يخامر : سمعت معاذاً يقول : وهم بالشام ، فقال معاوية : هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول وهم بالشام ] صحيح البخاري مع الفتح 13/547 .
وأقول أولاً إن سياق حديث معاوية في صحيح مسلم ، ليس فيه التحديد المذكور ( وهم بالشام ) ، وإنما ورد ذلك في صحيح البخاري .
ثانياً : إن القول بأنهم في الشام ، هو قول معاذ ، وإنما قال معاوية : هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول : وهم بالشام .
وقد روي عن معاوية أنه قال في حديث آخر :[ وإني لأرجو أن تكونوا هم يا أهل الشام ] مجمع الزوائد 7/287 .
ثالثاً : إن قول الكاتب : (… كما فسرها معاوية لدعم موقفه من علي رضي االله عنه )فيه غمز بمعاوية رضي االله عنه هذا الصحابي الجليل ، وهو أحد كتبة الوحي .
رابعاً : ما ورد في حديث أبي أمامة رضي االله عنه قال : قال رسول الله :
( - صلى الله عليه وسلم - لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من جابههم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك قالوا : وأين هم ؟ قال : ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس ) رواه الطبراني وعبد الله بن الإمام أحمد وقال الهيثمي : رجاله ثقات. مجمع الزوائد 7/288 .
الروايات الواردة في محل الطائفة الظاهرة :
أود أن أبين أن ما ذكره الكاتب من انحصار وجود الطائفة الظاهرة في بعض الشام – بيت المقدس وأكنافه – وليس في كل الشام ، ليوافق مكان نشأة حزبه ، إن هذا القول غير مسلَّم ، ولتوضيح ذلك أذكر أولاً ما وقفت عليه من الروايات التي تحدد محل الطائفة الظاهرة ثم أتبع ذلك بذكر كلام أهل العلم فيه فأقول :
محل هذه الطائفة حسب الروايات الواردة :
أولاً : الشام :
ورد في صحيح البخاري في حديث معاوية أن معاذ بن جبل رضي االله عنه قال : هم بالشام . صحيح البخاري مع الفتح 13/547 .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( لا تزال عصابة من أمتي على الحق ظاهرين على الناس ، لا يبالون من خالفهم حتى ينزل عيس بن مريم ) . قال الأوزاعي فحدثت بهذا الحديث قتادة فقال : لا أعلم أولئك إلا أهل الشام . أخرجه ابن عساكر كما في كنز العمال 7/268 .
قال الحافظ ابن كثير :[ ... ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلام وأهله وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها ، ولهذا جاء في الصحيحين :( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ) . وفي صحيح البخاري ( وهم بالشام ) ] تفسير ابن كثير 1/184.
ثانياً : الغرب :
ورد في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي االله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ) .
قال الإمام النووي :[ قوله ( لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ) قال علي بن المديني:المراد بأهل الغرب العرب ، والمراد بالغرب الدلو الكبير لاختصاصهم بها غالباً . وقال آخرون: المراد به الغرب من الأرض ، وقال معاذ :هم بالشام .وجاء في حديث آخر هم ببيت المقدس ، وقيل : هم أهل الشام وما وراء ذلك . قال القاضي : وقيل : المراد بأهل الغرب أهل الشدة والجلد ، وغرب كل شيء حدُّه ] شرح النووي على صحيح مسلم 5/60.(/8)
وقال الحافظ ابن حجر :[ ذكر يعقوب بن شيبة عن علي بن المديني قال : المراد بالغرب ، الدلو أي الغَرَب بفتح المهملتين ، لأنهم أصحابها لا يستقي بها أحدٌ غيرهم ، لكن في حديث معاذ ، وهم أهل الشام ، فالظاهر أن المراد بالغرب البلد ، لأن الشام غربي الحجاز كذا قال ؛ وليس بواضح ، ووقع في بعض طرق الحديث [ المغرب ] بفتح الميم وسكون المعجمة ، وهذا يرد تأويل الغرب بالعرب ،لكن يحتمل أن يكون بعض رواته نقله بالمعنى الذي فهمه ، أن المراد الإقليم لا صفة بعض أهله ،وقيل المراد بالغرب أهل القوة والاجتهاد في الجهاد، يقال في لسانه غَرْبٌ بفتح ثم سكون أي حِدَّةٌ ، ووقع في حديث أبي أمامة عند أحمد أنهم ببيت المقدس ، وأضاف بيت إلى المقدس ، وللطبراني من حديث النهدي نحوه ، وفي حديث أبي هريرة في الأوسط للطبراني : ( يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها ، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله ، لا يضرهم من خذلهم ظاهرين إلى يوم القيامة ) ، قلت : ويمكن الجمع بين الأخبار بأن المراد قوم يكونون ببيت المقدس ، وهي شامية ويسقون بالدلو ، وتكون لهم قوة في جهاد العدو وحدة وجد ] فتح الباري 13/361 .
ثالثاً : بيت المقدس وأكناف بيت المقدس :
ورد في حديث أبي أمامة عند الطبراني قوله - صلى الله عليه وسلم - :( هم ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس ) .
رابعاً : دمشق وبيت المقدس :
عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها ، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله ، لا يضرهم خذلان من خذلهم إلى يوم القيامة ) رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه الوليد بن عبّاد وهو مجهول ، كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/288 .
وبهذا يظهر لنا أن هذه الطائفة ، ليست محصورة في بيت المقدس وأكنافه ، كما زعم الكاتب ونفى أن تكون في الشام كله عندما قال :
( ولا تدل هذه الألفاظ على أهل الشام كلهم ، كما فسرها معاوية لدعم موقفه من علي رضي الله عنه ) ص 54.
أقوال العلماء في محل الطائفة الظاهرة :
قال الشيخ حمود التويجري :[ وقد اختلف في محل هذه الطائفة :
فقال ابن بطال :[ إنها تكون في بيت المقدس ، كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة - رضي الله عنهم - :( قيل : يا رسول الله أين هم ؟ قال :
( ببيت المقدس ) ، وقال معاذ - رضي الله عنهم - : هم بالشام . وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائماً ، بل قد تكون في موضع آخر في بعض الأزمنة . قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى :" ويشهد له الواقع ، وحال أهل الشام وأهل بيت المقدس من أزمنة طويلة لا يعرف فيهم من قام بهذا الأمر بعد شيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه في القرن السابع وأول الثامن ، فإنهم في زمانهم على الحق ، يدعون إليه ، ويناظرون عليه ، ويجاهدون فيه ، وقد يجيء من أمثالهم بَعْدُ بالشام من يقوم مقامهم بالدعوة إلى الحق ، والتمسك بالسنة ، والله على كل شيء قدير .
ومما يؤيد هذا أن أهل الحق والسنة في زمن الأئمة الأربعة وتوافر العلماء في ذلك الزمان وقبله وبعده لم يكونوا في محل واحد ، بل هم في غالب الأمصار ، في الشام منهم أئمة ، وفي الحجاز ، وفي مصر ، وفي العراق واليمن ، وكلهم على الحق يناضلون ويجاهدون أهل البدع ، ولهم المصنفات التي صارت أعلاماً لأهل السنة ، وحجة على كل مبتدع .
فعلى هذا ، فهذه الطائفة قد تجتمع وقد تفترق ، وقد تكون في الشام وقد تكون في غيره ، فإن حديث أبي أمامة وقول معاذ لا يفيد حصرها بالشام ، وإنما يفيد أنها تكون في الشام في بعض الأزمان لا في كلها " .
قلت : الظاهر من حديث أبي أمامة وقول معاذ أن ذلك إشارة إلى محل هذه الطائفة في آخر الزمان عند خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ، ويدل على ذلك ما تقدم ذكره من حديث أبي أمامة الذي رواه ابن ماجة وفيه:( فقالت أم شريك : يا رسول الله ! فأين العرب يومئذ ؟ قال : هم قليل وجلهم يومئذ ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح ... ) .
ويدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داوود والبخاري في تاريخه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن حوالة الأزدي - رضي الله عنهم - ، قال : وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على رأسي - أو على هامتي - ثم قال :( يا ابن حوالة إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك ) ، قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه .(/9)
وفي المسند أيضاً وجامع الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( ستخرج نار من حضرموت أو من نحو بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس قالوا : يا رسول الله ! فما تأمرنا ؟ فقال : عليكم بالشام ) . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
وفي المسند أيضاً وسنن أبي داوود ومستدرك الحاكم عن أبي الدرداء - رضي الله عنهم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى بأرض يقال لها : الغوطة فيها مدينة يقال لها : دمشق . خير منازل المسلمين يومئذ ) ، قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي في تلخيصه .
قال المنذري في " تهذيب السنن " قال يحيى بن معين ، وقد ذكروا عنده أحاديث من ملاحم الروم ، فقال يحيى : ليس من حديث الشاميين شيء أصح من حديث صدقة بن خالد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :( معقل المسلمين أيام الملاحم دمشق ) انتهى .
ففي هذه الأحاديث دليل على أن جل الطائفة المنصورة يكون بالشام في آخر الزمان ، حيث تكون الخلافة هناك ، ولا يزالون هناك ظاهرين على الحق ، حتى يرسل الله الريح الطيبة ، فتقبض كل من في قلبه إيمان كما تقدم في الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
( حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) وقال معاذ : وهم بالشام .
فأما في زماننا وما قبله ، فهذه الطائفة متفرقة في أقطار الأرض ، كما يشهد له الواقع من حال هذه الأمة منذ فتحت الأمصار في عهد الخلفاء الراشدين إلى اليوم وتكثر في بعض الأماكن أحياناً ، ويعظم شأنها ويظهر أمرها ببركة الدعوة إلى الله تعالى وتجديد الدين ] إتحاف الجماعة 1/332-334 .
قال الإمام النووي : ( … ويحتمل أن هذه الطائفة ، مفرقة بين أنواع المؤمنين ، منهم شجعان مقاتلون ، ومنهم فقهاء ، ومنهم محدثون ، ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير ، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين ، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض ] شرح النووي على صحيح مسلم 5/58-59.
وبعد عرض أقوال أهل العلم في الطائفة الظاهرة ، يظهر لنا أن الكاتب حجَّر واسعاً ، وألبس جماعته وحزبه لباساً ليس على مقاسهم ، وما زعمه من أن أوصاف الطائفة الواردة في الأحاديث تنطبق على حزب التحرير دون استثناء ، زعمٌ باطلٌ يرده واقع هذا الحزب وأفكاره .
وما هذه الدعوى العريضة التي لم يقم عليها دليل ولا برهان إلا غرور وكبر وتزكية للنفس والحزب ، بل تعصب مقيت للحزب ، قاتل الله التعصب ماذا يفعل بصاحبه ، قال الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :
( والقرآن يحذر من تزكية النفس، بمعنى مدحها والثناء عليها، كما قال تعالى: ( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم، فلا تزكوا أنفسكم، هو أعلم بمن أتقى ) ، وذم اليهود والنصارى الذين زكوا أنفسهم ، فقال: ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم، بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ) ، وذلك أنهم قالوا، كما حكى عنهم القرآن: ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) ، وردَّ عليهم بقوله: ( بل أنتم بشر ممن خلق، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ولله ملك السموات والأرض وما بينهما، وإليه المصير ).
ولا يجوز لمن يعمل الصالحات ، أن يذكرها بعد الفراغ منها، إلا تحديثاً بنعمة ربه عليه: ( وأما بنعمة ربك فحدث ) ، أو ليرغب غيره فيقتدي به :( من سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها )، أو دفاعاً عن نفسه أمام اتهام ألصق به وهو منه برئ، أو لغير ذلك من الأسباب الباعثة، وهذا مشروع لمن قوي باطنه في المعرفة بالله، وعدم الالتفات إلى ما سواه، وأمن على نفسه من تسلل آفتي العجب والرياء، ولم يكن قصده اكتساب محمدة الناس والمنزلة عندهم، وقلَّ من يسلم من ذلك.. والله المستعان.
فليحذر المسلم من إعجابه بنفسه، وما يقدمه من حسنات وصالحات، واعتقاده أنه وحده المفلح، وغيره من الخاسرين ، أو أنه وجماعته هم "الفرقة الناجية" وكل المسلمين من الهالكين، أو أنهم وحدهم "الطائفة المنصورة " وغيرهم من المخذولين!
إن هذه النظرة إلى النفس ، هي العجب المهلك ، وتلك النظرة إلى المسلمين هي "الاحتقار المردي". وفي الحديث الصحيح: "إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم".
روي الحديث بضم الكاف وبفتحها، ومعنى الضم: أنه هو "أهلكُهم"، بمعنى أسرعهم وأشدهم هلاكا، لغروره بنفسه، وإعجابه بعمله، واحتقاره لغيره.
ومعنى الرواية بالفتح "أهلكَهم": أنه الذي تسبب ـ هو وأمثاله ـ في هلاكهم، بالاستعلاء عليهم، وتيئيسهم من روح الله.(/10)
قال الإمام النووي: "وهذا النهي لمن قال ذلك، عجباً بنفسه، وتصاغراً للناس، وارتفاعاً عليهم، فهذا هو الحرام . وأما من قاله لما يرى في الناس من نقص في أمر دينهم، وقاله تحزناً عليهم، وعلى الدين، فلا بأس به. فكذا فسره العلماء وفصلوه، وممن قاله من الأئمة الأعلام : مالك بن أنس، والخطابي، والحميدي، وآخرون.
وفي الحديث الصحيح الآخر: ( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ) فمن حق المسلم على المسلم ألا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، وكيف يحقر الإنسان أخاه، وهما فرعان من أصل واحد ؟ ) برنامج الشريعة والحياة للقرضاوي / قناة الجزيرة الفضائية / عن شبكة الإنترنت .
ويضاف إلى ما تقدم ، أنه قد وردت في بعض روايات أحاديث الطائفة الظاهرة ، أوصاف تبطل زعم الكاتب أنها تنطبق على حزب التحرير فقط ، وقد ذكرها الكاتب ، ولكنه أوَّلها تأويلاً أعرجاً حتى تؤيد زعمه الباطل :
فمن ذلك ما ورد في الحديث :( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ... إلخ ) رواه مسلم .
وفي الحديث الآخر ( لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم ... إلخ ) .
فهذه الأحاديث ، تثبت أن الطائفة الظاهرة تقاتل على دين الله وتدافع عنه بالقتال ؟
فأين هذا الوصف من واقع حزب التحرير ، الذي لا يؤمن باستخدام الوسائل المادية أبداً ؟
وإنما مبدؤه ورأسماله الفكر والثقافة ، ولا شيء سوى ذلك ، أي الكلام باللسان فقط ؟
وأما ما قاله الكاتب:[ فقوله - صلى الله عليه وسلم - يقاتلون على الحق ، يقاتلون على أمر الله ، جاء القتال … فيقاتلونهم ويرزقهم الله منهم ) ، يدل دلالة صحيحة على أن هذه الطائفة ، سيكون لها دولة تعلن الجهاد والقتال وتنتصر على الأعداء ، وهذه هي الغاية التي يسعى إليها
( حزب التحرير ) منذ نشأته وهي إعادة الخلافة الراشدة ] ص56 .
إن هذا القول تأويل بعيد لا تحتمله النصوص ، لأن الأحاديث أخبرت أنهم يقاتلون لا أنهم سيقاتلون ، وفرق بين الحالتين .
وأما دعواه أن الحزب سيقيم دولة ستقاتل . فهذا أمر لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى . ولا أظن أن الحزب بهذه الأفكار التي يحملها والوسائل التي ينتهجها سيصل إلى إقامة دولة .
فإعادة الخلافة أو إقامة الدولة الإسلامية يحتاج إلى أكثر من الثقافة والفكر الذي حصر الحزب نفسه بهما ، إن سنة الله تعالى وما سلكه الأنبياء عليهم السلام في الدعوة إلى الله يدل على ارتباط القول بالعمل وهكذا كانت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - . انظر أثر الجماعات الإسلامية 1/251 .
المبحث الرابع
بطلان ما ادعاه الكاتب أن الغرباء هم حزب التحرير فقط
وأخيراً ، فقد أبى الكاتب إلا أن يختم كلامه بفرية عظيمة ، افتراها على سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وطعن بها المتمسكين بالإسلام على مرِّ العصور والأيام فقال لا فض فوه :[ بقيت صفة أخيرة لا أحسبها تنطبق إلا على هذه الطائفة الظاهرة على الدين القائمة على أمر الله ، وهي صفة الغربة والاغتراب في مجتمع سيئ تكثر فيه المعاصي ، وينتشر فيه الفساد ، كما هو حال المجتمع في العالم الإسلامي حالياً ، وتقوم هذه الطائفة الغريبة عن المجتمع في حال غربة الإسلام وغروبه بإصلاح فساد الأفكار ، التي يدَّعي أصحابها أنها إسلامية ، وما هي بإسلامية بل هي أفكار كفر ، تسربت إلى المسلمين عبر الغزو الثقافي الغربي كفكرة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحريات وأمثالها ، هذه الصفة أيضاً وردت في الحديث النبوي الشريف ، فقد روى مسلم وأحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء ) .
وروى أحمد والبزار وأبو يعلى بسند رجاله رجال الصحيح عن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :( إن الإيمان بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى يومئذ للغرباء إذا فسد الناس ) .
وفي رواية لأحمد من طريق عبد الرحمن بن سنة بلفظ :( بدأ الإسلام غريباً ثم يعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء قيل : يا رسول الله ومن الغرباء ؟ قال : الذين يصلحون إذا فسد الناس … ) .
فقد وصفت هذه الأحاديث الثلاثة المجتمع أو الناس بالفساد ، ووصفت الإسلام بالغربة والاغتراب ، ووصفت المتمسكين بالدين بأنهم غرباء وبأنهم صالحون ، ولكن هذه الأوصاف لا تكفي للدلالة الواضحة على هذه الطائفة التي أشرنا إليها ، إذ قد يتمسك بأحكام الشرع شخص أو بضعة أشخاص في زمن الفساد ، فيطلق عليه أو عليهم صفة الغربة وصفة الصلاح ، فكيف يصح القول إن الغرباء هم هذه الطائفة ؟(/11)
والجواب على ذلك هو فيما رواه الترمذي وحسنه عن عمرو بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن الدين بدأ غريباً ويرجع غريباً فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي ) . فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على نفي الغربة عن مجرد ناس متمسكين بأحكام الشرع في زمن الفساد إلا أن يكونوا عاملين على إصلاح ما أفسد الناس من الأفكار والأحكام الشرعية كما أشرنا إلى ذلك والمعلوم بداهة أن شخصاً أو بضعة أشخاص متناثرين هنا وهناك لا يقدرون على إصلاح ما فسد في المجتمع إلا أن يكونوا طائفة أي حزباً يتولى هذه المهمة الصعبة فلكي ينطبق على المسلم ما جاء في هذه الأحاديث الأربعة يجب أن يكون ضمن طائفة أو حزب يعمل على إصلاح فساد الأفكار والأحكام في المجتمع وبدون الطائفة أو الحزب فإنه لا يستطيع فعل ذلك قطعاً فوجب صرف الثناء الوارد في هذه الأحاديث إلى كل مسلم ينتمي إلى الطائفة أو الحزب الذي يتولى مهمة إصلاح الفساد في المجتمع .
وحيث إن الأحاديث قد نوهت بالطائفة أو العصابة الظاهرة على الدين القائمة على أمر الله وأنها ستقيم دولة تقاتل الكفار فإن وصف الغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - - والسنة هنا تعني الشريعة أي الدين - ينبغي أن يصرف إلى أعضاء هذه الطائفة أو الحزب الذي واقع أعضائه أنهم فعلاً غرباء في المجتمع المعاصر وعلى ذلك فإن الغرباء الذين لهم طوبى هم أعضاء الطائفة أو الحزب الذي نوهنا به والذي جاء ذكره في العديد من الأحاديث ] ص56-58 .
لقد أعظم الكاتب الفرية على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحرَّف الكلم عن مواضعه وزعم أن وصف الغربة الوارد في الأحاديث ينطبق فقط على حزب التحرير ، سبحانك هذا بهتان عظيم ، وتعصب مقيت .
إن الكاتب ليس أول من زعم هذا الزعم الباطل فقد سبقه إلى هذا غيره انظر الاعتصام للشاطبي 2/114-115 .
وجواباً على هذا الافتراء على السنة النبوية أقول :
أولاً :قد ورد في روايات حديث الغرباء عدة صفات لهؤلاء الغرباء فهم: ( الذين يصلحون عند فساد الناس ) .
( الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي ) .
( الذين يتمسكون بكتاب الله حين يُترك ويعملون بالسنة ... ) .
( الذين يُحْيُون ما أمات الناس من سنتي ) .
( الذين يفرون بدينهم من الفتن ) .
( الذين إذا فسد الناس أصلحوا ) .
( الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله ) .
( وما الغرباء ؟ قال : قوم صالحون قليل ، في ناس سوء كثير ، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ) .
( من الغرباء ؟ قال : الفرَّارون بدينهم ) .
( من الغرباء ؟ قال : الذين يصلحون إذا فسد الناس ولا يمارون في دين الله ) .
( نزَّاع الناس ) .
( النزَّاع من القبائل ) رواه الدارمي ، وهو حديث صحيح ، كما قال الإمام البغوي في شرح السنة 1/119 .
والنزَّاع جمع نزيع ، وهو الغريب الذي نزع عن أهله وعشيرته ، والنزائع من الإبل : الغِراب . شرح السنة 1/119 .
قال الإمام النووي :[ وأما معنى الحديث ، فقال القاضي عياض رحمه الله في قوله ( غريباً ) ، روى ابن أبي أويس عن مالك رحمه الله أن معناه في المدينة ، وأن الإسلام بدأ بها غريباً وسيعود إليها . قال القاضي وظاهر الحديث العموم ، وأن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة ثم انتشر وظهر ، ثم سيلحقه النقص والإخلال ، حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضاً كما بدأ . وجاء في الحديث تفسير الغرباء ، وهم النزاع من القبائل قال الهروي : أراد بذلك المهاجرين الذين هجروا أوطانهم إلى الله تعالى ] شرح النووي على صحيح مسلم 1/334 .
وقال البيهقي :[ ( فطوبى للغرباء ) المهاجرين الذين هجروا أوطانهم في الله عز وجل ] الزهد الكبير 2/118 .
وقال شمس الحق آبادي :[ ( فطوبى للغرباء من أمتي ) يريد المنفردين عن أهل زمانهم ] عون المعبود 11/333 .
وقال المناوي :[ ( فطوبى ) فُعْلى من الطيب ، أي فرحة وقرة عين ، أو سرور وغبطة ، أو الجنة أو شجرة في الجنة ( للغرباء ) ، أي المسلمين المتمسكين ، بحبله المتشبثين بذيله ، الذين كانوا في أول الإسلام ويكونون في آخره ، وإنما خصهم بها لصبرهم على أذى الكفار أولاً وآخراً ولزومهم دين الإسلام ] فيض القدير 2/407 .
وأما نفي الكاتب صفة الغربة عن شخص يتمسك بأحكام الشرع ، أو بضعة أشخاص في زمن الفساد ، وزعمه أنه لا يوصف بالغربة إلا طائفة أو حزب ، فهذا كلام باطل يرده ظاهر الأحاديث .
فالحديث وصف الغرباء ، بأنهم يصلحون ما أفسد الناس .
والحديث وصف الغرباء ، بأنهم يتمسكون بالكتاب والسنة .
والحديث وصف الغرباء ، بأنهم يحيون ما أماته الناس من السنة .
والحديث وصف الغرباء ، بأنهم النزاع من القبائل .
فلا أدري من أين جاء الكاتب بزعمه أن الغرباء لا بد أن يكونوا ضمن حزب ، وليس أي حزب ، وإنما حزب التحرير فقط . أليست هذه هي النظرة الحزبية الضيقة ؟ بلى وربي .(/12)
لا شك أن هذا التأويل للأحاديث ، ما هو إلا من تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا يستحي هذا الكاتب من قوله الباطل هذا ، والذي ينفي به وجود الغرباء المتمسكين بالإسلام ، على مرّ العصور والأيام ،إنه الكبر والتعالي على عباد الله . إنها لمأساة أن يصدر هذا الكلام ، من هذا الحزبي قصير النظر ، الذي لا يرى إلا نفسه وحزبه ، بينما نرى علماء الأمة الراسخين في فهم معاني الحديث ، يشرحون هذا الحديث بأوضح عبارة يقول التوربشتي :
[ معناه - أي الحديث - إن الإسلام لما بدأ في أول وهلة نهض بإقامته والذب عنه أناس قليلون ، من أشياع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونزاع القبائل ، فشردوهم عن البلاد ، ونفروا عن عقر الديار ، يصبح أحدهم معتزلاً مهجوراً ، ويبيت منتبذاً وحداناً كالغرباء ، ثم يعود آخراً إلى ما كان عليه ، لا يكاد يوجد من القائلين إلا الأفراد ، ويحتمل أن يكون المماثلة بين الحالة الأولى والحالة الأخيرة ، لقلة من كانوا يتدينون به في الأول ، وقلة من كانوا يعملون به في الآخر ، فطوبى للغرباء المتمسكين بحبله المتشبثين بذيله ] فتح المنان شرح كتاب الدارمي 9/625-626 .
وقال الإمام الطرطوشي :[ ومعنى هذا الحديث ، أنه لما جاء الله بالإسلام ، فكان الرجل إذا أسلم في قبيلته وحيّه غريباً فيهم مستخفياً بإسلامه ، قد جفاه الأهل والعشيرة ، فهو بينهم ذليل حقير خائف ، يتغصص بجرع الجفاء والأذى ، ثم يعود غريباً لكثرة الأهواء المضلة والمذاهب المختلفة ، حتى يبقى أهل الحقّ غرباء في الناس ، لقلتهم وخوفهم على أنفسهم ] الحوادث والبدع ص32 .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : [ وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ثم يعود غريباً كما بدأ ) ، يحتمل شيئين :أحدهما أنه في أمكنة وأزمنة يعود غريباً بينهم ثم يظهر ، كما كان في أول الأمر غريباً ثم ظهر ، ولهذا قال ( سيعود غريباً كما بدأ ) ، وهو لما بدأ كان غريباً لا يعرف ، ثم ظهر وعرف ،فكذلك يعود حتى لايعرف ، ثم يظهر ويعرف ، فيقل من يعرفه في أثناء الأمر ، كما كان من يعرفه أولا . ويحتمل أنه في آخر الدنيا لا يبقى مسلماً إلا قليل . وهذا إنما يكون بعد الدجال ويأجوج ومأجوج عند قرب الساعة . وحينئذ يبعث الله ريحاً تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ثم تقوم القيامة ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 18/295-296 .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً :[ وكذلك بدأ غريباً ولم يزل يقوى حتى انتشر ، فهكذا يتغرب في كثير من الأمكنة والأزمنة ، ثم يظهر حتى يقيمه الله عز وجل ، كما كان عمر بن عبد العزيز ، لما ولي قد تغرب كثير من الإسلام على كثير من الناس ، حتى كان منهم من لا يعرف تحريم الخمر ، فأظهر الله به في الإسلام ما كان غريباً ] المصدر السابق 18/297 .
وقال شيخ الإسلام أيضاً :[ وقد تكون الغربة في بعض شرائعه وقد يكون ذلك في بعض الأمكنة ، ففي كثير من الأمكنة يخفى عليهم من شرائعه ، ما يصير به غريباً بينهم لا يعرفه منهم إلا الواحد بعد الواحد ، ومع هذا فطوبى لمن تمسك بتلك الشريعة كما أمر الله ورسوله فإن إظهاره والأمر به والإنكار على من خالفه هو بحسب القوة والأعوان ] المصدر السابق 18/298 .
وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية برئاسة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز يرحمه الله [ ما معنى ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ )؟
فأجابت : معنى ( بدأ الإسلام غريباً ) ، غربته بغربة أهله حيث دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام سراً ، فآمن به أبو بكر الصديق وزوجته خديجة ومولاه زيد ، ثم أخذ يعرض الإسلام على من يثق به ، فآمن به من آمن ، حتى زالت الغربة وانتشر الإسلام ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ، وفي آخر الدنيا تعود الغربة ثانية إلى دين الإسلام ، فلا يكون في القبيلة إلا الرجل الواحد على دين الإسلام ] فتاوى اللجنة الدائمة السعودية 4/326 .
وبعد هذا العرض لأقوال أهل العلم في بيان المراد بالغرباء ، يظهر لنا أن وصف الغرباء ، ينطبق على كل متمسك بالكتاب وبالسنة ، ويدعو لإحياء السنة النبوية ، ولا يوجد أي دليل على اشتراط أن يكون ضمن جماعة ، أو حزب ، ولا دليل مطلقاً على أن صفة الغربة محصورة في حزب التحرير بل إن قول الكاتب :[ إن الغرباء الذين لهم طوبى هم أعضاء الطائفة أو الحزب الذي نوهنا به والذي جاء ذكره في العديد من الأحاديث ] ص58 .
إن هذا الكلام من أكذب الكذب ، ومن التأويل الباطل لكلام سيد المرسلين ، وتعدٍ سافرٍ على سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وتعدٍ على أمة الإسلام المنتشرة في أصقاع الأرض ، والتي تزيد على مليار مسلم ، فلم يعدها شيئاً ، وانتقاصٍ من قدْر الأفراد والجماعات العديدة التي تعمل جادة مخلصة ومجاهدة لنصرة الإسلام ، فالكاتب لم يرَ هؤلاء المسلمين شيئاً ورأى فقط أتباع حزبه ، الذين لا يكادون يعدون شيئاً ، إلا كما تعد الشعرة الواحدة في جلد الثور الضخم !!!(/13)
وإن هذا الكلام الذي هذى به الكاتب ، ما هو إلا نتيجة الكبر والغرور، والتعالي والتعصب الحزبي المقيت ، وقصر النظر وسوء الظن بالأمة المسلمة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
إن الغرباء ، هم المتمسكون بالسنة النبوية ، على مرّ العصور والأيام . قال القرطبي :[ إن قرنه - - صلى الله عليه وسلم - - إنما فُضِّل لأنهم كانوا غرباء في إيمانهم ، لكثرة الكفار ، وصبرهم على أذاهم ، وتمسكهم بدينهم ، وإن أواخر هذه الأمة ، إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على طاعة ربهم ، في حين ظهور الشر والفسق ، والهرج والمعاصي والكبائر ، كانوا عند ذلك أيضاً غرباء ، وزكت أعمالهم في ذلك الوقت ، كما زكت أعمال أوائلهم ، ومما يشهد لهذا قوله عليه الصلاة والسلام : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء ] تفسير القرطبي 4/172 .
الخاتمة
منهاج الفرقة الناجية
وأخيراً أختم بذكر منهاج الفرقة الناجية ، والطائفة الظاهرة ، وهو كما يلي :
1. الفرقة الناجية : هي التي تلتزم منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته ، ومنهاج أصحابه من بعده ، وهو القرآن الكريم الذي أنزله الله على رسوله ، وبيَّنه لصحابته في أحاديث الصحيحة ، وأمر المسلمين بالتمسك بهما ، فقال صلى الله عليه وسلم: تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتي ، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض ) صححه الألباني في صحيح الجامع 1/566 .
2. الفرقة الناجية تعود إلى كلام الله ورسوله ، حين التنازع والاختلاف عملاً بقوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) سورة النساء الآية 59 . وقال تعالى :( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) . سورة النساء الآية 65 .
3. الفرقة الناجية لا تقدم كلام أحد على كلام الله ورسوله عملاً بقوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ) سورة الحجرات ، الآية .
وقال ابن عباس : أراهم سيهلكون ! أقول :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : قال أبو بكر وعمر ) رواه أحمد وغيره وصححه أحمد شاكر .
4. الفرقة الناجية تعتبر التوحيد ، وهو إفراد الله بالعبادة ، كالدعاء والاستعانة والاستغاثة وقت الشدة والرخاء والذبح والنذر والتوكل والحكم بما أنزل الله ، وغير ذلك من أنواع العبادة ، هو الأساس الذي تبنى عليه الدولة الإسلامية الصحيحة ؛ ولا بدّ من إبعاد الشرك ومظاهره الموجودة في أكثر البلاد الإسلامية ، لأنه من مقتضيات التوحيد ، ولا يمكن النصر لأي جماعة تهمل التوحيد ، ولا تكافح الشرك بأنواعه ، أسوة بالرسل جميعاً وبرسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
5. الفرقة الناجية : يحيون سنن الرسول صلى الله عليه وسلم في عبادتهم وسلوكهم وحياتهم ، فأصبحوا غرباء بين قومهم ، كما أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :( إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ) رواه مسلم .
وفي رواية :( فطوبى للغرباء : الذين يصلحون إذا فسد الناس ) قال الألباني : رواه أبو عمرو الداني بسند صحيح .
6. الفرقة الناجية : لا تتعصب إلا لكلام الله وكلام رسوله المعصوم ، الذي لا ينطق عن الهوى ؛ أما غيره من البشر ، مهما علت رتبته فقد يخطئ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( كل بني آدم خطاء وخير الخطّائين التوابون ) رواه أحمد وهو حديث حسن .
وقال الإمام مالك :[ ليس أحدٌ بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم .
7. الفرقة الناجية : تحترم الأئمة المجتهدين ، ولا تتعصب لواحد منهم ، بل تأخذ الفقه من القرآن والأحاديث الصحيحة ومن أقوالهم جميعاً إذا وافق الحديث الصحيح ، وهذا موافق لكلامهم حيث أوصوا أتباعهم أن يأخذوا بالحديث الصحيح ويتركوا كل قول يخالفه .
8. الفرقة الناجية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، فهي تنكر الطرق المبتدعة والأحزاب الهدامة التي فرقت الأمة ، وابتدعت في الدين وابتدعت عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
9. الفرقة الناجية : تدعو المسلمين أن يكونوا من المتمسكين بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حتى يكتب لهم النصر وحتى يدخلوا الجنة بفضل الله وشفاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .(/14)
10. الفرقة الناجية : تنكر القوانين الوضعية التي هي من وضع البشر، لمخالفتها حكم الإسلام ، وتدعو إلى تحكيم كتاب الله الذي أنزله الله لسعادة البشر في الدنيا والآخرة ، وهو أعلم سبحانه وتعالى بما يصلح لهم ، وهو ثابت لا تتبدل أحكامه على مدى الأيام ، ولا يتطور حسب الزمان ، وإن سبب شقاء العالم عامة والعالم الإسلامي خاصة وما يلاقيه من متاعب وذل وهوان ومصائب ، تركه الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا عز للمسلمين إلا بالرجوع إلى تعاليم الإسلام ، أفراداً وجماعات وحكومات ، عملاً بقوله تعالى :( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) سورة الرعد الآية 11 .
11. الفرقة الناجية : تدعو المسلمين جميعاً إلى الجهاد في سبيل الله ، وهو واجب على كل مسلم حسب طاقته واستطاعته ، ويكون الجهاد بما يلي :
1.الجهاد باللسان والقلم : بدعوة المسلمين وغيرهم إلى التمسك بالإسلام الصحيح ، والتوحيد الخالي من الشرك ، الذي انتشر في كثير من البلاد الإسلامية ، والذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع بين المسلمين ، فقال :( لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان ) صحيح رواه أبو داود وورد معناه في مسلم .
2. الجهاد بالمال : ويكون بالإنفاق على نشر الإسلام ، وطبع الكتب الداعية إليه على الوجه الصحيح ، ويكون بتوزيع المال على المؤلفة قلوبهم من ضعفاء المسلمين لتثبيتهم ويكون بتصنيع وشراء الأسلحة والمعدات للمجاهدين ، وما يلزمهم من طعام وكساء وغير ذلك .
3. الجهاد بالنفس : ويكون بالقتال والاشتراك في المعارك لنصرة الإسلام ، ولتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى ، وقد أشار الرسول الكريم إلى هذه الأنواع ، فقال :( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ) صحيح رواه أبو داود ) منهاج الفرقة الناجية والطائفة المنصورة ص 6 - 11.
والله الهادي إلى سواء السبيل
قائمة المصادر
القرآن الكريم
إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة / حمود بن عبد الله التويجري / دار الصميعي / الرياض .
أثر الجماعات الإسلامية الميداني خلال القرن العشرين / محمود سالم عبيدات / مكتبة الرسالة الحديثة / ط 1 / عمان .
أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين / محمد عوامة / ط 2 / دار البشائر الإسلامية .
الاعتصام / أبو إسحاق الشاطبي / دار المعرفة / بيروت .
الحوادث والبدع / أبو بكر الطرطوشي / ط 2 / دار ابن الجوزي .
الزهد الكبير / أحمد بن الحسين البيهقي / مؤسسة الكتب الثقافية .
المستدرك على الصحيحين / أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم / دار المعرفة / الطبعة الأولى .
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم / أبو العباس القرطبي / ط 1 / دار ابن كثير ، دار الكلم الطيب .
تاج العروس من جواهر القاموس / محمد مرتضى الزبيدي / تحقيق علي شيري / دار الفكر .
تفسير ابن كثير / الحافظ ابن كثير الدمشقي / ط 1 / دار الكتاب العربي .
تفسير القرطبي / أبو عبد الله محمد الأنصاري القرطبي / دار القلم / الطبعة الثالثة .
تفسير فتح القدير / محمد بن علي الشوكاني / مطبعة مصطفى الحلبي / الطبعة الثانية .
حمل الدعوة الإسلامية واجبات وصفات / محمود عبد اللطيف عويضة / دار الأمة .
زاد المعاد في هدي خير العباد / شمس الدين ابن القيم / ط 12 / مؤسسة الرسالة .
سلسلة الأحاديث الصحيحة / محمد ناصر الدين الألباني / الطبعة الثانية / المكتب الإسلامي .
سنن أبي داود / سليمان بن الأشعث السجستاني / دار الكتب العلمية / الطبعة الأولى / مطبوع مع عون المعبود .
سنن ابن ماجة / أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني / تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي / دار الكتب العلمية .
سنن البيهقي ( السنن الكبرى ) / أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي / دار الفكر .
سنن الترمذي / أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة / تحقيق أحمد محمد شاكر / دار الكتب العلمية
سنن النسائي / أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي / دار الكتب العلمية .
شرح السنة / الحسين ابن مسعود البغوي / ط 2 / المكتب الإسلامي .
شرح النووي على صحيح مسلم / أبو زكريا محيي الدين النووي / دار الخير.
شرح قصيدة ابن القيم / أحمد إبراهيم عيسى / المكتب الإسلامي .
صحيح ابن حبان ( الإحسان ) / علاء الدين علي بن بلبان / تحقيق شعيب الأرناؤوط / مؤسسة الرسالة / الطبعة الأولى .
صحيح ابن خزيمة / محمد بن خزيمة / تحقيق محمد الأعظمي / المكتب الإسلامي .
صحيح البخاري / محمد بن إسماعيل البخاري / تحقيق مصطفى البغا / دار ابن كثير ، اليمامة / ط 3
صحيح الجامع الصغير / محمد ناصر الدين الألباني / ط 2 / المكتب الإسلامي .
صحيح مسلم / مسلم بن الحجاج النيسابوري / تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي / دار إحياء التراث العربي .(/15)
صفات الطائفة الظاهرة / عدنان محمد عرعور / ط 2 / مؤسسة منارة قرطبة .
عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي / أبو بكر ابن العربي المالكي / ط 1 / دار الكتب العلمية .
عون المعبود شرح سنن أبي داود / محمد أشرف بن أمير الصديقي العظيم أبادي / دار الكتب العلمية الطبعة الأولى .
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء / جمعها أحمد الدويش / ط 1 / دار عالم الكتب .
فتح الباري بشرح البخاري / الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني / دار السلام / الرياض .
فتح المنان شرح المسند الجامع / نبيل الغمري / ط 1 / دار البشائر الإسلامية .
فيض القدير شرح الجامع الصغير / محمد عبد الرؤوف المناوي / ط 1 / دار الكتب العلمية .
كنز العمال في سنن الأفعال والأقوال / المتقي الهندي .
لسان العرب / ابن منظور / تعليق علي شيري / دار إحياء التراث العربي / الطبعة الأولى .
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد / نور الدين علي الهيثمي / ط 3 / دار الكتاب العربي .
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية / جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد العاصمي النجدي / مؤسسة الرسالة .
مناهل العرفان في علوم القرآن / محمد الزرقاني / ط1 دار الفكر .
موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف / محمد السعيد زغلول / دار الفكر .
نصب الراية لأحاديث الهداية / جمال الدين الزيلعي / ط 1 / دار المأمون .
فهرس المحتويات
الموضوع ... الصفحة
المقدمة ... 5
المبحث الأول : الأحاديث الواردة في الطائفة الظاهرة ... 13
المبحث الثاني : تحريف المراد بأحاديث الطائفة الظاهرة ... 19
المبحث الثالث : محل وجود الطائفة الظاهرة ... 32
المبحث الرابع : بطلان ما ادّعاه الكاتب أن الغرباء هم حزب التحرير فقط ... 46
الخاتمة منهاج الفرقة الناجية ... 57
قائمة المصادر ... 62
فهرس المحتويات ... 67(/16)
الطائفة المنصورة الغالبة
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
حين يشتد الظلام ويطول الليل تكون الحاجة ماسة إلى قبس من النور يبدده ويزيله.
وحين ينتفش الباطل وينتفخ ويتطاول المبطلون تشتد الحاجة إلى وجود طلائع من الناس تحمل الحق وتعيده إلى نصابه وتصرع الباطل وتدمغه وتزهقه، فيتبين للناس حينئذ الرشد من الغي والهدى من الضلال ويميزون بين الظلمات والنور. والعالم اليوم يمر بحالة استثنائية، اضطربت فيها المعايير واختلت الموازين في مختلف نواحي الحياة فالعالم اليوم بحاجة إلى من ينقذه من وهدته وشقائه بحاجة إلى من يأخذ بيده إلى شاطئ السلامة وبر الأمان حتى لا يغرق في ظلمه وظلامه ويقع في سوء فعاله!!
ولا يملك أحد علاجاً ناجحاً ودواءاً ناجعاً للبشرية مما تعانيه إلا المسلمون، المسلمون وحدهم ، هم القادرون على الإنقاذ والعلاج. لا أعني بالمسلمين مسلمة الدار ممن يأخذون الإسلام أمنيات وأحلاماً ، مسلمون لأنهم في بلاد إسلامية أو لأنهم سلالة المسلمين أو لأنهم يحملون وثائق تثبت إسلامهم، ثم لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه ولا من الشرع والقرآن إلا رسمه. لا أعني بالمسلمين الذين انسلخوا عن دينهم وهويتهم وانصهروا في أعداء الأمة من اليهود والنصارى.
ولكنني أعني الأمة الربانية المؤمنة الواعية المستيقظة المجاهدة، التي خاطبها الله تعالى بقوله: ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ...?[ البقرة: 143] والوسط من الناس: هم الخيار العدول.
هذه الأمة الخيرة العادلة هي التي قال الله فيها مبيناً أسباب رفعتها وخيريتها وشرفها في قوله الكريم: ? كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ...?[ آل عمران:110].
لم تنل هذه الأمة هذه المكافأة ولم تستحق هذا التكريم إلا بسبب معروفها وإحسانها، فهي الداعية إلى الخير،السابقة إلى الإيمان، المؤمنة بالله، تقدم الخير للبشرية، وتخرجها من الظلمات إلى النور ، المجاهدة في سبيل الله الباذلة نفوسها وأموالها في مرضاة الله جل وعلا.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها. والشرط هو أن تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله وذلك بالدعوة لهذا الدين القويم.
الشرع العظيم الذي بعث الله به نبيه الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم ومجاهدة المعاندين الصادين عن سبيل الله من اليهود والنصارى وسائر الكافرين والمشركين.
إن واجب الأمة المسلمة أن تدرك وظيفتها ومهمتها في الحياة، إنها أمة داعية إلى الخير والحق والهدى والنور، لا مدعوة إنها أمة قائدة رائدة لا مقودة ولا تابعة.
يريد الله أن تكون القيادة للخير في هذا العالم لا للشر وعلى هذا ينبغي أن تقوم أمة الإسلام بواجبها في التمسك بهذا الدين وتصديره للآخرين ودعوتهم إليه كما لا ينبغي لها ولا يجوز أن تتلقى أو تتسول من الكافرين مناهجهم وطرائقهم وأنظمتهم وأخلاقهم وباطلهم، إنما واجبها أن تكون دائماً معطاءة، ولديها ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح، والتصور السليم، والنظام السديد، والخلق القويم، والمعرفة والعلم الصحيح هذا واجبها الذي يحتمه عليها مكانها ومكانتها، وتحتمه عليها غاية وجودها .. واجبها أن تكون في الطليعة دائماً وفي مركز القيادة دائماً في القمة لا في السفح
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر(/1)
ليس بالأماني فقط وإنما عملاً وإيماناً وجهاداً ودعوة وكفاحاً لا ادعاءاً واتكالاً . إن واجب الأمة أن تضطلع بمهامها وتنهض برسالتها في التمسك بالإسلام والدعوة إليه وإصلاح الخلل والفساد الذي عم الحياة، وإقامة موازين الحق والخير والعدل في دنيا الناس. ولا شك أن هذا طريق مليء بالمتاعب والمشاق لا يصمد فيه ويسير عليه إلا أهل الصدق والإيمان، ممن آمنوا بالله وامتلأت قلوبهم بعظمته وجلاله واستشعروا معيته تعالى وأنه معهم ناصرهم والمدافع عنهم ، وأن أمور الخلق ونواصيهم بيده. أصحاب الصدق واليقين هؤلاء يمضون في طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة والجهاد. يواجهون الشر في عنفوانه وجبروته، ويواجهون طاغوت الشهوات والشبهات ويواجهون في الأمة هبوط أرواحها وكلل عزائمها، يواجهون الدنيا كلها. لا زاد لهم إلا الإيمان ولا عدة لهم إلا الصبر واليقين ولا سند لهم ولا ناصر إلا الله الجبار المنتقم المحيط بالكافرين.
إن الأمة المنصورة التي يكتب الله لها النصر والتمكين ويمدها بالعون والتسديد هي المتصفة بما وصفها الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والإيمان، هذه الطائفة تكون قائمة ظاهرة معروفة بين البشر بجهادها واعتصامها بدينها واستمساكها به، وقد جاءت أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في وصفها وبيانها وفيها بشارة وتبشير للإسلام والمسلمين بالعاقبة الحسنة والنصر المبين فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يزال أناس من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون".
وعن جابر بين سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يبرح هذا الدين قائماً، يقاتل عليه عصابة من المسلمين، حتى تقوم الساعة". وفيه عن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي ، يقاتلون على الحق، ظاهرين، إلى يوم القيامة". وفيه أيضاً عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك".
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تزال طائفة من أمتي على الدين، ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم؛ إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك."
إن هذه الأحاديث التي تبلغ حد التواتر تذكر مواصفات الطائفة المنصورة الغالبة القاهرة الظافرة ومن أبرز أوصافها:
1- أنها على الحق ملتزمة بالدين الصحيح الذي هو الحق وما عداه باطل وضلال، ملتزمة بدين الله عن علم ومعرفة وبرهان ودليل لا تحيد عنه.
2- أنها قائمة بأمر الله وذلك بحمل راية الدعوة إلى الله ونشر الإسلام والدفاع عنه. قائمة بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باليد واللسان، والقلب، تبذل الغالي والنفيس من أجل إقامة الدين.
3- أنها المجددة للأمة أمر دينها، هذه الطائفة تحيي ما اندرس من الشرع بإقامة سنة رسول الله وإماتة البدع والخرافات التي يلصقها الناس بالإسلام إما جهلاً وإما كيداً. ,إن من أعظم الفرائض التي تعمل على إقامتها وإحيائها هي الجهاد في سبيل الله الذي يتواطأ العالم اليوم عليه لإلغائه.
4- إنها ظاهرة إلى قيام الساعة، فالطائفة المجددة واضحة بينة ظاهرة معروفة ثابتة على الحق لا تهادن أو تساوم
5- إنها صابرة مصابرة ، لا يضرها من خالفها ولا من ناوأها ، عرفوا الحق والتزموا به ولم يلتفتوا إلى خلاف المخالفين. أصحاب هذه الصفات هم الطلائع وهم المنصورون. نسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم.
نعيش اليوم مرحلة علو اليهود وفسادهم وعتوهم فهم الأعداء الألداء وهم اليوم أكثر نفيراً، ملئوا الدنيا صخباً وهديراً وحتى لا نقع فريسة للخوف والهلع بسبب علوهم وفسادهم نجد أن الله عز وجل قد بين لنا حقيقتهم وأبان لنا عن شيء من تاريخهم ومستقبلهم .. فبعد أن ذكر الله خيرية الأمة المسلمة التي تقوم بما أوجبه الله عليها.(/2)
ذكرت الآيات أهل الكتاب مباشرة بالتقريع والتوبيخ داعية لهم إلى الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم واتباعه إن أرادوا النجاة في الدنيا والآخرة. فقال تعالى: ?... َولَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ?[آل عمران:110] ولقد أسلم عدد قليل من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن أكثرهم فاسقون قد ملئوا كبراً وغطرسة وعناداً وكفراً ينتفخون كالليوث وهم قرود، ولقد كان لليهود وجود عسكري واقتصادي في القديم إبان نزول القرآن كما لهم اليوم وجود وحضور، مما يفت في عضد بعض المسلمين، فقد تكفل الله بتهوين شأن هؤلاء اليهود في نفوس المسلمين وإبراز حقيقتهم الضعيفة بسبب كفرهم وجرائمهم، وما كتبه الله عليهم من الذلة والمسكنة فقال جل وعلا: ? لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ?[آل عمران:111-112].
هذا ضمان من الله عز وجل لعباده المؤمنين بأنه سينصرهم في أي معركة يلتقون فيها بأعدائهم اليهود في كل زمان ومكان، ما اعتصموا بدينهم وتوكلوا على ربهم وأخذوا بالأسباب ،? لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى ?: فلن يستطيع اليهود مهما امتلكوا من إمكانات ومهما حشدوا من أمم ودول أن يلحقوا الضرر البالغ بالمسلمين المؤمنين المتمسكين بدينهم وإنما هو أذى عارض يصابون به عند الصدام وألم ذاهب مع الأيام، أما الإبادة والاستئصال فلا.
إن جند الإيمان إذا اشتبكوا مع أعوان الشيطان في قتال فإن الهزيمة مكتوبة على أعداء الله في نهاية المطاف، لا ناصر لهم ولا عاصم من المؤمنين .. لأن الله قد كتب عليهم الذلة فهم في كل أرض يُذّلون. وتاريخ اليهود معروف عبر التاريخ مشردون مطاردون لم يعرفوا الأمن إلا في ظل دولة الإسلام ومع ذلك لم يعاد اليهود أحداً في الأرض عداءهم للمسلمين.
ويبين الله سبب العقاب الذي كتبه على اليهود من الذلة والمسكنة وأنه سبب عام يمكن أن ينطبق على كل من اتصف به ذلك السبب هو العصيان وانتهاك الحرمات والاعتداء على حدود الله ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ? ثلاثة أمور أساسية وقع فيها اليهود فاستمعوا واعقلوا:
1- الكفر بآيات الله إما بإنكارها، أو تحريفها، أو تعطيل العمل بها، وفي المسلمين اليوم من يفعل ذلك.
2- وقتل الأنبياء والعلماء والدعاة
3- والعصيان والاعتداء .. هذه هي الأسباب التي استحقوا بها غضب الله ونقمته وعذابه.
أيها المسلمون احذروا المعاصي وانتهاك الحرمات اجتنبوا كبائر الذنوب والموبقات اتركوا الربا فلا تتعاملوا به وأوقفوا الحرب مع الله. اجتنبوا الشرك وحاربوا الزنا والتفسخ والانحلال، أقيموا الإسلام في قلوبكم وبيوتكم ومجتمعاتكم طبقوا أحكام الله في كل صغيرة وكبيرة واجتنبوا الجبت والطاغوت وقاتلوا أولياء الشيطان، لا تخشوا إلا الله ولا ترجوا إلا إياه فإن كيد الشيطان كان ضعيفاً وإن الباطل كان زهوقاً والعاقبة للمتقين بعد الابتلاء والتمحيص والامتحان: ?وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ?[آل عمران:141].
صحيح البخاري: كتاب المناقب: باب: سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية، فأراهم انشقاق القمر: الحديث رقم: )3441 ) عن المغيرة بن شعبة ، وصحيح مسلم في الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة..، رقم: (1921) .
صحيح مسلم : كتاب الإمارة: باب قوله صلى الله عليه وسلم (لا تزال ظائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم).الحديث رقم: (1922) عن جابر بن سمرة .
مسلم 1/ 137 ، حديث رقم: 156.
صحيح مسلم : كتاب الإمارة: باب قوله صلى الله عليه وسلم (لا تزال ظائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم) :الحديث رقم: (1924) .
مجمع الزوائد: كتاب الفتن - أعاذنا الله منها : باب لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق: الحديث رقم: (12248)عن أبي أمامة ،وقال الهيثمي: رواه عبد الله وجادة عن خط أبيه والطبراني ورجاله ثقات.(/3)
الطابع الدعوي في تضرعات النورسي
أديب إبراهيم الدباغ
وهذه النماذج من تضرعات "النورسي" وأدعيته التي استعرضناها آنفاً، وإنْ كانت تبنئُ عن ذاتية فردية في انبعاثها الأول، غير أنها ـ وبدون تمحل ـ يمكننا اعتبارها ذات طابعٍ دَعَوِيٍّ عام، وبقدر ما هي تضرع ودعاء فهي كذلك ذِكْرٌ وثناء، ودلائل بينات تعزِّزُ مواقع الإيمان لدى المؤمنين، وتنعي على الجاحدين والشّاكّين المترددين ما هم عليه من ظلمة القلب وجفاف الروح، وأمَّا ما تتركه على أنسجة الروح والفكر من آثار مهدئة وشعورٍ عَذْبٍ لذيذٍ فأمرٌ مجرّب يكاد يبلغ درجة التواتر كما هو في مصطلح الحديث.
فَالمُعْتَزَلاتُ، سواء منها تلكم المفروضة عليه، أو تلكم التي كان يروح إليها بإرادته، ساعدته كثيراً، وألقَتْ به على مشارف روحيةٍ عاليةٍ المرتقى، وهيأته لتلكم المكتشفات العلوية لأعمق حقائق الإيمان، فالصمت والسكينة في المُنْعَزَلِ يحفلانِ دائماً بالحكمة، ويساعدان على التأمل، ويرهفان مشاعر القلب البشري، فيهتزُّ بِحِدّةٍ لأدنى ما يَمَسُّهُ من تنزلات عوالم الغيب، حتى إنّه ليَشُمُّ روائح النفوس المُغيّيَةِ ويستلهم منها دروس الإيمان كيما تساعده للعبور من مرحلة "علم اليقين" الذي هو فيه، إلى مرحلة "حق اليقين" الذي صار إليه. وبسبب هذه اليقينية يقول ويكرر: إنَّ رسائل النور ـ ولكونها انعكاسات قرآنية ـ ليست بتصورات عقلية قابلة للخطأ والصواب. ولا هي إلهاماتٌ حَدْسِيةٌ قد تختلط بها الأوهام والخيالات، وإنَّما هي يقينيّات مجرّبة عانى صاحبها للتحقق من صدقها أهوالاً فوق ما يمكن أن تحتمله أصلاب الرجال، ولا حتى أصلاب الجبال [1].
فحزنه المديد المتقد لم يستطع أنْ يَمَسَّ أغواره الإيمانية البهيجة، ولا أن يعكر صَفْوَ أفراح روحه بمكتشفاتها الماورائية المُحَجَّبَةِ.
ففي خلواته ومنافيهِ القصية فوق سفوح الجبال، وحين يبلغ الليل عنفوانه، ويَعُمُّ الهدوء وتشيع السكينة، تأتيه الحكمة في موكب مهيب من الجلال والجمال وتَحُطُّ على لسانه وتستوي على عرش فكره وقلبه، فما من ليلة من لياليه تموت خاويةً جوفاءَ تحت سنابكِ خيولِ النّهارِ البُلْقِ قبل أنْ يضمخها بعبير أذكاره، ويستودعها كنوز مواجيده وتضرعاته، فالثرثرة ولغط الحديث يصيبه بالقرف، ويملأه بالذُّعْرِ، ويحِسُّ وكأنَّه يريد أن يسحق روحه حتى الموت، من اجل ذلك فإنّه قلّما يأذنُ لأحد في الدخول عليه من أولئك الذين يهمهم الاستمتاع بمجالسته ومبادلتهم إياه الحديث، أو من أولئك الذين يتجشمون عناء سفر طويل بنية التبرك بولي من أولياء الله الصالحين.
وحتى أولئك الذين يأتون متعطشين لدروسه فإنه يحيلهم إلى "رسائل النور" باعتبارها النائبة عنه، والمتكلمة بلسانه، فمن أجل الحفاظ على نقاء الحكمة وصيانتها من التلوث بفضول القول اقتصرت لقاءاتُه على قِلّةٍ من خُلّصِ تلامذته، الذين هم في الوقت نفسه بَرِيْدهُ إلى العالم خارج خلوته أو منفاه، ينقلون إليه رسائل محبيه وتلامذته واستفساراتهم وأسئلتهم عن قضايا تشغل بالهم ويريدون أن يعرفوا رأيه فيها، ثم ينقلون ردوده عليها إليهم.
--------------
[1] يقول النورسي في المثنوي العربي النوري ما يأتي: "لكن أقول تحديثاً بالنعمة وأداء للأمانة بأني لا أخدعكم، إنما أكتب ما أشاهد أو أتيقن عين اليقين أو علم اليقين" إفادة مرام ص 312.(/1)
الطاغوت العالمي يتهاوى وأمة الإسلام تبعث فالحقوا بالركب
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة عيد الفطر عام 1424
الطاغوت العالمي يتهاوى وأمة الإسلام تبعث فالحقوا بالركب
الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا .
الله أكبر وله الحمد كله ، وله الملك كله ، وإليه يرجع الأمر كله ، علانيته ، وسره ، لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له وهو على كل شي قدير .
والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وقائد الغر المحجّلين ، محمد بن عبدالله البشير النذير ، المبعوث بالدين الظاهرالمنشور ، والعمل الصالح المبرور ، والجهاد القائم المنصور .
والحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلامضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وإن أصدق الكلام كتاب الله تعالى ، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه سلم ، ، وإن شر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
الحمد لله الذي شرع لنا شرائع الإسلام ، وعلّمنا فرائض الإيمان بصائر للأنام ، وأتم لنا عدة الشهر لنكبّر الله على ما هدانا ، ونعظمّه على ما علّمنا من الخير والفلاح وأولانا ، ولنجاهد لينعم بخيرات هذا الدين العظيم كل العباد ، ويهتدوا لما فيه من الصلاح والرشاد .
أما بعد :
فيا أيها المسلمون ، إن المتأمل في الصورة الكبيرة للمشهد العالمي ، يرى بوضوح أن الإسلام مبعوث قريبا لا محالة ، فهو ينتظر نصرا مؤزرا ، وتمكينا ورفعة يعز الله بهما أمته ، ويعلي كلمته ، ويغيظ أعداءه ، ويظهر دينه ، ويخزي بهما شياطين الإنس و الجن .
ألا تروننا في كل عيد يمر علينا ، والمسلمون يواجهون عدوهم ، بقلوب أشد إيمانا ، وسواعد أمضى قوة ، وإصرار أكبر مما مضى ، ويجنّد الله تعالى لهذا الدين ، رجالا لا يهابون الموت ، يقدمون عليه إقدام ليوث الغاب ، ويزحفون على الأعداء من كل باب ،
هذا .. وعلى هذه البشارة العظيمة ، آيات كثيرة ، أعظمها :
أن أعداء الإسلام يكادون يبلغون غاية مكرهم ، ومنتهى كيدهم ، وأوج طغيانهم ، وقد سلكوا كل سبيل ليصدوا عن سبيل الله ، فاستكملوا سبل الطغيان السبع ، التي لا تكتمل في جمع الباطل إلاّ وتؤذن بقرب نهايته ، وهي كما نراها في واقعنا لاتخفى منها خافية :
** الأولى : السعي لإطفاء نور الله تعالى بأنواع المكر والكيد ،، وقد قال تعالى (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) .
وقال تعالى ( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) ، وها نحن نرى مكرهم الكبار ، لا ينكف الليل ، ولا النهار ، ينفقون فيه الأموال ، ويهلكون من العدد ، والعتاد الثقال .
** الثانية : الافتراء على الله تعالى زاعمين أن الله تعالى أمرهم بإجرامهم في الأرض ، وحربهم للإسلام كما قال تعالى عن أسلافهم (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) .
وقد سمعنا كيف أن بوش وعصابته ، يصرحون أنهم مبعوثون من الله ، وأن السماء تقودهم في حربهم هذه الشاملة على أهل الإسلام .
** الثالثة : قتل الموحدين ، ومطاردة خيار عباد الله المجاهدين ، وسفك دماء المسلمين ، كما قال تعالى عن سلفهم فرعون ( قال سنفتّل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون) .
** الرابعة : رمي التهم الباطلة على أهل الحق والجهاد ، بأنهم المفسدون في الأرض ، الخوارج عن الصراط المستقيم ، كما قال تعالى على لسان فرعون ( إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد ) .
** الخامسة : إكراه أهل الإسلام على قول الكفر ، والرجوع عن الحق ، كما فعل أسلافهم قال تعالى ( إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملّتهم ولن تفلحوا إذا أبدا ) ، وكما فعل الطاغوت في أصحاب الأخدود .
** السادسة : سب دين الإسلام ، والسخرية منه ، والتطاول على نبي الأمّة ، والاستهزاء بشعائر دين الله تعالى الذي ارتضاه ، كما قال قائلهم من كبار قادة الصليبيّة يصف دين الإسلام بأنه دين الشيطان ، وان المسلمين يعبدون صنما ، واتهموا محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه "إرهابي" ، وتابعهم أذنابهم من المنافقين ، فسلّطوا أقلامهم الحاقدة ، وإعلامهم المفسد يفترون على هذا الدين العظيم ، ويسخرون بالقائمين به ، ويصفونهم بأقبح الأوصاف .(/1)
** السابعة : نشر الظلم والفسوق والفحشاء في الأرض ، فيستعبدون عباد الله تعالى ، ويسطون على الشعوب ، ويسرقون ثروات الأمم ، وينشرون فيها العهر والفواحش ، وقد قال تعالى : ( و الكافرون هم الظالمون ) ، وقال : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيه فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) .
وإذا رأيتم هذه السبع العظام ، قد اجتمعت في أمة من اللئام ، فاعلموا أن الله تعالى قد أذن بخراب تلك الديار ، وإهلاك أولئك الأشرار .
ذلك أن الله تعالى قال ( إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهّل الكافرين أملهم رويدا ) ، وقال تعالى ( وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ) وقال تعالى ( وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا ) ، أي : ما من قرية ظالمة إلا سيحل عليها عذاب الله ، فلا يتخلف ذلك قطعا ، ولامبدل لكلمات الله .
غير أن الله تعالى قد أخبر أن هزيمة أعداء هذا الدين الأصليين ، وأشد الناس عداوة له ، من اليهود والصليبيين ، إنما تكون على أيدي من يختارهم من أولياءه المجاهدين ، كما قال تعالى (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .
وإنما يمنحهم الله تعالى أولياءه من المؤمنين هذا الشرف العظيم ، ويبلغهم هذا الفضل العميم :
إذا جمعوا سبع صفات أيضا :
أحدهما : الإيمان واليقين بموعود الله تعالى قال تعالى ( وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) . ( فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون ) ، ( فاستمسك بالذي أوحينا إليك ) .
الثانية : الإخلاص بالقيام لله تعالى ، ابتغاء ما عند الله والدار الآخرة ، والتجرد من شوب الدنيا ، ومن ابتغاء زهرتها ، قال تعالى ( إن تنصروا الله ينصركم ) ، وقال تعالى ( وقاتلوا في سبيل الله ) , (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) , ( فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ) وإنما علم فيها الإخلاص ، وقال : ( وترجون من الله مالا يرجون ) .
الثالثة : الصبر والصدق ، قال تعالى : ( والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) .
الرابعة : التوكل على الله تعالى وحده لا سواه ، قال تعالى ( قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) , وقال ( ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) ، وقال تعالى ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ) .
الخامسة: الإعداد كما أمر الله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) ، وذلك يشمل الإعداد المعنوي والمادي ، ورأس ذلك تقوى الله تعالى ، وطاعته في السر والعلن ، فالله تعالى مع المتقين ، ومع المحسنين ، وقد ذكر الأمرين في آيات الجهاد في قوله تعالى ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ) ، وقال ( والذين جاهدو فينا لنهدينكم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) .
وفي قوله : ( ترهبون به عدو الله وعدوكم ) بيان أن معرفة خطط العدو ، وقوته ، ومقابلة كيده بكيد يدافعه ، فرض على المؤمنين ، كما أن الإعداد المعنوي يشمل وضوح الهدف ، وتكامل المشروع ، وسلامة الخطط .
السادسة : وحدة الصف قال تعالى : ( ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحك ) .
السابعة : مواصلة الجهاد إلى آخر رمق ، والثبات في أحلك الأوقات ، والمحافظة على علو الهمة ، في كل الملمّات ، قال تعالى (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) .
وقال تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ).
هذا وقد مضت سنة الله تعالى أن يقذف في عاقبة الأمر بالحق على بالباطل ، فيدمغه فإذا هو زاهق .(/2)
وانه سبحانه لا يزال يزيد على صف أهل الحق البلاء حتى يمحّصهم فيعدّهم للنصر ، ويزيد أهل الباطل في طغيانهم حتى يمحقهم بالمؤمنين الممَّحصين ، ( وليمحّص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ).
غير أن هذا لايجري في زمن قصير ، ولا بجهاد يسير ، وليس تحديد زمن النصر ، ولا أهله الذين يختارهم الله له ، إلينا ، وليس شيء من ذلك وكل إلينا ، بل هو إلى الله تعالى وحده ، سبحانه ، يتخذ من شاء من الشهداء في سبيله ، ويعز من شاء من جنده ، ويصطفي إليه من شاء من أولياءه ، (وربك يخلق ما يشاء ويختار ماكان لهم الخيرة ) .
والخلاصة أنكم إذا رأيتم الشرور السبعة قد اكتملت في صف شياطين الإنس والجن من أهل الكفر والباطل .
وتلك الصفات الخيّرة السبعة قد استكملها أولياء الله تعالى ، من أتباع الرسل ، فاعلموا أن النصر قريب ، و بزوغ الفجر لن يخفى على مستريب ، وأن الله تعالى سيتجلّى بنصره على عباده ، وسيعقب جهادهم تمكينا ، ويثيبهم على صبرهم نصرا مبينا .
ونحن نرى صورة مشهد الصراع العالمي واضحة للعيان ، لا تحتاج إلى إشارة بالبنان ، فهذا عدو الإسلام الأكبر المعسكر الصليبي المتحالف مع الصهاينة ، قد جاء بكل غرور الطغاة ، بعد انتهاء الحرب الباردة ليحقق حلمه في احتلال جديد لبلادنا ، ونهب خيراتنا ، فحلّت جيوشه في أفغانستان ، والعراق ، إلى جانب احتلال فلسطين الذي لم يزل ، وهيمن على سياسات بلادنا ، حتى انقادت له طوعا أو كرها ، وهو يتطلع إلى تحقيق ثلاثة أهداف هي أخبث ما تكون أهداف الكافرين :
أحدها : فرض عقيدة وأحكام ملته الملحدة المادية الصليبية الصهيونية ، بإحداث تغييرات سياسية وتشريعية وقضائية جديدة يفرضها على الدول ، ليقضي بها على الصحوة الإسلامية ، والروح الجهادية ، وما تبقى من أحكام الشريعة الإسلامية ، ومظاهر الإسلام .
الثانية : تحويل البلاد العربية كلها إلى سوق لإنعاش اقتصاده ، وضمان تفوّقه ، وإلى مرتع لنشر الفحش والفواحش .
الثالثة : جعل سياسات الدول كلها مرتهنة بنظام دولي جديد يهمن عليها ، تحت إرهاب القواعد العسكرية ، وسياسة الحروب الاستباقية الهجومية ضد أي دولة تفكر أن تخرج من قبضة هذا النظام العالمي الجديد .
وهو يجند من أجل تحقيق أهدافه الخبيثة ، سياسات وأجهزة وإعلام الدول ، بل يسخر حتى الهيئات الإسلامية ، ومجالس الفتيا الشرعية الرسميّة ، فقد غدت تسير في ركاب هذا المشروع الصليبي الصهيوني الشيطاني ، وتحاكي نفس ألفاظه ، وتردد كالببغاء نفس عباراته ، وتنفخ في نفس بوقه ، كما رأينا ذلك مؤخرا على وسائل الإعلام ، بالإكراه تارة ، وبالإغراء تارة ، وبالخداع والوعود الزائفة تارة .
فالمعركة إذاً قد وضحت صفوفها المتقاتلة ، وقد بانت راياتها المتقابلة ، بارزة للعيان ، تواجه فيها أهل الجهاد والإيمان ، مع عبدة الصليب وإخوانهم اليهود ، من أهل الكفر والطغيان .
فلايغرنكم سقوط المتساقطين ، ولا شبهات المفتونين ، ولا تخبط المتهوّكين ، فهذا سنة ماضية ، فلايصل إلى نهاية مرحلة المواجهة ، إلا ّمن لم يشرب من نهر فتنة الدنيا من مرض الشهوات ، ولا تلوث قلبه من داء الشبهات ، وهم الأقل عددا ، غير أنهم أشد المؤمنين في التوحيد والإخلاص تجردا ، وأعظمهم في الصبر والاصطبار جلَداً ، ( فمن شرب منه فليس مني ولم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده ، فشربوا منه إلا قليلا منهم ) .
وهذا وسيستمر تمحيص صف المؤمنين ، وظهور قرن المنافقين ، وتهاوي المتشككين ، وتقاعس المثبطين ، إلى أن يأذن الله تعالى بساعة النصر المبين ، فلا تستوحشوا من قلة السالكين ، ولا تغتروا بكثرة الهالكين ، فإن هذا كله جزء من طبيعة المعركة نفسها .
فاعقدوا العزم على مواجهة أهداف الطاغوت الاكبر ، وأولياءه وأنصاره الممكّين لخططه في بلاد المسلمين ، فنحن أيها المسلمون أمة الجهاد ، قد عقد لواءه نبينا صلى الله عليه وسلم ، وقال : ( جعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذل و الصغار على من خالف أمري ) .
نؤمن أن الجهاد هو سبيل عزنا الممهّد بالمكاره والبلاء ، وسقيا شجرة نصرنا المروية بالأشلاء والدماء ، كما نؤمن أنه ذروة سنام هذا الدين العظيم ، وهو باق إلى آخر الدهر ، لا يسقطه خيانة الزعماء ، ولا جزع المنقادين لطواغيت العصر ، الرازحين تحت القهر ، المرقّعين لأئمة الكفر والجور.
فاعدّوا العدّة ، لجهاد طويل ، ما بقي منه أعظم أثرا ، وأشد على الكفار خطرا ، ستصول فيه فرسان الإسلام صولة الأبطال ، فتدكّ فيه معاقل الكفر دكا دكا ، كما تدك الجبال ، وتمضي فيه الأجيال إثر الأجيال .
الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد ، الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا ، ولا إله إلا الله .
الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر
الحمد لله الذي فرض على عباده التقوى ، وجعلها خير زاد ، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمة للعباد ،(/3)
اعلموا عباد الله تعالى أن التقوى اعظما ما أمر الله تعالى به ، قال تعالى ( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ) .
والتقوى هي أن تلتزم طاعة الله تعالى في كل أحوالك ، وتجتنب معصيته في حركاتك وسكناتك وليلك ونهارك ، إيمانا واحتسابا ، وابتغاء وجهه الأعلى وثواب الآخرة ،
التقوى هي أن تجاهد نفسك في ذات الله تعالى كما في الحديث ( أفضل المؤمنين إسلاما من سلم المسلمون من لسانه ويده ، وأفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات الله ، وأفضل المهاجرين من جاهد نفسه وهواه في ذات الله ) خرجه ابن نصر في الصلاة .
وإن هذا الدين العظيم تتداول عليه مراحل القوة والضعف ، غير أن العبد مأمور في كل حال بالتقوى ، فهي وظيفة الوقت ، من أتى به فقد أدى ما عليه .
إن كانّ في مرحلة الغربة ، فكل مسلم مأمور حينئذ بالتقوى ، بأن يتمسك بما أنزل الله تعالى ، حتى لو أصبح غريبا ، لا أن يدفع عن نفسه وحشة الغربة ، بالتنازل عن شيء من دين الله تعالى، أو تحريفه ، أو تغييره ، قال تعالى (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ) .
وإن كان في مرحلة الجهاد بأن تيسرت سبله وكان له عليه أعوان ، فكل مسلم مأمور أيضا بالتقوى ، بأن يصبر ، ولا يجزع ، وأن يبقى في صف المؤمنين حتى النصر ، ويتبرأ ويطهر قلبه من ولاء الكافرين ، قال تعالى : ( أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون ) .
وإن كان في مرحلة التمكين الجزئي أو الكلي ، فكل مسلم مأمور أيضا بالتقوى بأن يستعمل ظهور الإيمان وأهله في عز الإسلام وشريعته ، و إقامة العدل ، ونشر العمل الصالح ، وبسط الرحمة في الأرض ، وإشاعة الأمان لأهلها .
فالتقوى هي أعظم أمر في كل حين ، ولهذا قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) .
فطوبى لعبد استصحب التقوى في كل عمره ، حتى أتته منيته ، وهو من متصف بهذه الصفة العظيمة الجليلة .
ألا فاسمعوا وصية نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم : ( اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة ، اصدقوا إذا حدثتم ، وأوفوا إذا وعدتم ، وأدوا إذا ائتمنتم ، واحفظوا فروجكم ، وغضوا أبصاركم ، وكفوا أيديكم ) رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث عبادة رضي الله عنه .
وقال : ( اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، واعدد نفسك في الموتى ، وإياكم ودعوة المظلوم فإنها تستجاب ، ومن استطاع منكم أن يشهد الصلاتين العشاء والصبح ولو حبوا فليفعل ) خرجه الطبراني في الكبير من حديث أبى الدرداء .
فعليكم بتقوى الله في السر والعلن ، اجمعوا همكم كله عليها ، فلا يضر العبد ما ترك مما سوى ذلك ، ولا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه ، فيألم لمصاب إخوانه المسلمين في الأرض كلها كما في الحديث ( المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، يألم المؤمن لما يصيب أهل الإيمان ، كما يألم الرأس لما يصيب الجسد) رواه أحمد من حديث سهل بن سعد .
فاللهم الزمنا كلمة التقوى ، واجعلنا أحق بها وأهلها ، واجمع عليها قلوبنا ، واجعلها خاتمة أعمارنا ، وخير زادنا في القدوم عليك .
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات ، الأحياء منهم والأموات ، واللهم اجمع على التوحيد والجهاد كلمة أهل الإسلام والإيمان ، وانصرهم على أهل الشرك و الكفران ، وانصر المجاهدين في فلسطين ، والعراق ، وأفغانستان ، وفي كل مكان .
اللهم قاتل الصليبين والصهاينة ، وردهم عن بلاد المسلمين ، واخزهم كما أخزيت أسلافهم الأولين ، اللهم منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزم كفرة أهل الكتاب ، الذين يقاتلون أولياءك ، ويكذبون رسلك ، ويصدون عن سبيلك ، اللهم اجعل الدائرة عليهم ، واخزهم ، وانصرنا عليهم ، واشف صدور قوم مؤمنين آمين ، والحمد لله رب العالمين .
ألقاها : الشيخ حامد بن عبدالله العلي(/4)
________________________________________
الطاقات والمواهب في خدمة الدين
رئيسي :فضائل :الأربعاء 19شوال 1425هـ - ا ديسمبر 2004 م
الحمد لله، وبعد،،،
مستلزمات ومقتضيات الاستقامة على شرع الله:
كثير من المسلمين اليوم لا يفقهون ماذا يعني، وماذا يقتضي، وماذا يستلزم وماذا تتطلب استقامتهم على شرع الله؟ إن الاستقامة على شرع الله عز وجل تستلزم أموراً كثيرة، وتتطلب من المسلم الغيور على دينه، وعلى عقيدته، الذي يريد أن يرفع لواء الإسلام عالياً تتطلب منه تكاليف كثيرة . ومن هذه التكليفات التي تقتضيها الاستقامة على شرع الله:
استغلال كل الطاقات والمواهب من أجل نصرة دين الله عز وجل: كثير من المسلمين لديهم طاقات عديدة مادية ومعنوية لكنهم لا يستغلونها لرفع دين الله، ونصرة شرعه سبحانه. ويظهر إخلاص الفرد المسلم وحماسه لهذا الدين بقدر ما يستغله من طاقات نفسه ومواهبه الذاتية من أجل نصرة دين الله، ولعل ذلك يعتبر مقياساً جيداً يستطيع أن يقيس به المسلم ما مدى صدقه؟ وما مدى إخلاصه؟ وما مدى تفانيه لنصرة هذا الدين؟
استغلال الطاقات والمواهب لإعلاء كلمة الله:
لقد آتانا الله قوى كثيرة، وأنعم علينا بمواهب جمة، لكن: هل استغلت هذه الطاقات والمواهب لإعلاء كلمة الله ؟. إن الله سبحانه سمى نفسه القوي، فقال في سورة هود:{...إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ[66]}[سورة هود].
لقد أمر الله المؤمنين بإعداد القوة لملاقاة القوة للأعداء: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ...[60]}[سورة الأنفال]. وهي نكرة في سياق الأمر تفيد العموم.. جميع أنواع القوة ..وانظر أخي:
نماذج لاستغلال المواهب والطاقات في خدمة لدين:
1- داود عليه السلام: لما أعطى الله داود عليه السلام إلانة الحديد، فيم استخدمها ذلك النبي الكريم؟ لقد استخدمها في صناعة الدروع، وملابس الحرب، والعتاد العسكري؛ ليجاهد في سبيل الله عز وجل .
2- سيلمان عليه السلام: وقد أعطى الله سيلمان عليه السلام نعماً كثيرة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ...[16]}[سورة النمل]. ولذلك فها هو يستخدم الهدهد في طاعة الله، وفي إرسال كتب الإنذار والإعذار إلى الكفار؛ لدعوتهم إلى دين الله، وتهديدهم إذا هم مالوا وحادوا عن شرع الله.. وهاهو يستخدم جنوده من الجن، والإنس، والطير في تهديد الكفار، وإرغامهم وحملهم على إتباع الدين،
وها هو يستخدم العفاريت في جلب ما إذا رآه الكفار أسلموا، واستخدم الجن في بناء الصرح الممرد من قوارير، الذي بهر عين ملكة الكفار؛ فأسلمت لما علمت أن ملكها لا يساوي شيئاً بجانب ملك سليمان المؤيد من عند الله عز وجل .
وإن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن . وقال سبحانه:{ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ[36]وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ[37]وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ[38]هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[39]}[سورة ص]. من الجن الذين عصوا سليمان.
{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ...[12]}[سورة سبأ]. أنعم الله عليه بها، ففي أي شيء استخدمها؟ في السفر عليها لطاعة الله، في سبيل الله سبحانه.
{...وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ...[12]}[سورة سبأ]. النحاس المذاب يصنع فيها ما يشاء مما فيه فائدة للدين والبلاد والعباد .
{...وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ...[12]}[سورة سبأ]. سخرهم الله لسليمان.. ماذا يعملون له ؟ المحاريب: المساجد، والأبنية. والجفان التي كالجواب، وهي: الأحواض العظيمة التي يجبى إليها الناس. والقدور الراسيات لعظمها ترسو من ثقلها لينتفع مما فيها المسلمون .
3- ذو القرنين رضي الله عنه: وذو القرنين الذي كان من جنود الإسلام سلطه الله على الشرق والغرب حتى جاب الأرض لا يمر على أمة من الأمم إلا دعاهم إلى الإسلام، فإذا رفضوا؛ جعل بلادهم قاعاً صفصفاً، وسلط عليهم جنوده، فاستباح بلادهم لما عصوا ما أمر الله به أن يطاع..{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا[84]فَأَتْبَعَ سَبَبًا[85]}[سورة الكهف].
ولذلك لما ورد على قوم من الكفار ماذا قال؟ {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا [87]}[سورة الكهف]. من رفض وقاوم شرع الله؛ فسنعذبه بالقتل وغيره {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا[87]وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا[88]}[سورة الكهف].(/1)
ولما ورد على القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً، لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس، ضعفاء، لا حول لهم ولا قوة اشتكوا إليه من ظلم يأجوج ومأجوج، وإغارتهم عليهم، وإفسادهم أموالهم وزروعهم ومواشيهم وأنفسهم، فماذا قالوا: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً[94]}[سورة الكهف]. اكفنا شرهم يا ذا القرنين ونحن نعطيك الأجر، ولكن المسلم الذي يندفع بروح الإسلام، وقوة الإيمان والإخلاص لله سبحانه لا يأخذ أجرة إنما ينتظر الأجر من الله سبحانه، { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ...[95]}[سورة الكهف].
ما أعطاني الله من الإسلام والقوة خير مما ستعطونني ... كما قال سليمان لمن جاءه بهدية بلقيس:{ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ[36]}[سورة النمل].
قال لهم:{... فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا[95]آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ...}[سورة الكهف]. يعني وضع الأساس من الأسفل إلى الأعلى مما ملأ بين الجبلين طولاً وعرضاً، فصار سداً منيعاً . {...حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا[96]}[سورة الكهف].
وقد يقول البعض: لقد كان باستطاعته أن يبني السد هو ومن معه فلماذا استعان بهم؟!
قد يكون محتاجاً إليهم لقوة الأمر وعظمه، ولكنه رجل ذكي قد آتاه الله البصيرة، فهو يريد أن يعلم هؤلاء الناس الذين لا يكادون يفقهون قولاً كيف يصنعون الحديد، كيف يصنعون الصنعة، علمهم حرفياً خطوة بخطوة:{...فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا[95]آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا[96]}[سورة الكهف].
فالمسلم ينفع الناس، ويعلم المساكين ويأخذ بهم حتى يوصلهم إلى مرتبة يستطيعون فيها الاعتماد على أنفسهم، وهكذا توجيه الطاقات، وتوجيه الماديات في الإسلام .. إذن.. لقد كان أنبياء الله والمسلمون الأول يستغلون الطاقات لنصرة الدين، ونفع المسلمين، ونفع البلاد والعباد.
وكذلك كان عند الأفراد المسلمين طاقات فردية قدموها لنصرة الدين، وإعلاء كلمة الله:
1- زيد بن ثابت رضي الله عنه: قال رضي الله عنه: ذُهِبَ بِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُعْجِبَ بِي فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا غُلَامٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً فَأَعْجَبَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: [ يَا زَيْدُ تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي] قَالَ زَيْدٌ فَتَعَلَّمْتُ كِتَابَهُمْ مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ. رواه أحمد وابوداود والترمذي. وفي رواية لأحمد: ' قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [تُحْسِنُ السُّرْيَانِيَّةَ إِنَّهَا تَأْتِينِي كُتُبٌ] قَالَ قُلْتُ: لَا قَالَ فَتَعَلَّمْهَا] فَتَعَلَّمْتُهَا فِي سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا الحديث.
فإذن كان لدى هذا الغلام من الذكاء والفهم الذريع ما تعلم به لغة قوم من الكفار غير لغته؛ ليخدم الدين، وليكون كاتباً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ كتب اليهود المرسلة إليه، ويجيب له عليها .(/2)
2- عيسى العوام رحمه الله: وقد تستغربون المواهب التي قد يبدع فيها البعض، ويبرع فيها فيسخرها لخدمة الدين كيف تكون ! قال ابن شداد رحمه الله في إحدى الوقائع التي كانت بين صلاح الدين والنصارى: ومن نوادر هذه الوقعة ومحاسنها أن عواماً مسلماً كان يجيد العوم، يقال له: عيسى العوام وكان يدخل إلى البلد بالكتب والنفقات على ظهره ليلاً على غرة من العدو ـ البلد المسلمة كانت محاصرة بسفن العدو كانوا ينتظرون المدد ورسائل صلاح الدين التي يخبرهم فيها ماذا سيعملون ويمدهم بالنفقات لدعم الجهاد ـ فكان هذا الغواص المسلم يدخل من تحت سفن الأعداء ثم يخرج بعدها، ويدخل البلدة المسلمة وكان يغوص ويخرج من الجانب الآخر لمراكب العدو، وكان ذات ليلة شد على وسطه ثلاثة أكياس فيها ألف دينار، وكتب للعسكر، وعام في البحر فجرى عليه من أهلكه، ولكن الله قدر أن يموت هذا الرجل وهو جندي في وسط المعركة يخدم الدين، وأبطأ خبره عنا فاستشعر الناس هلاكهم ولما كان بعد أيام بينما الناس على طرف البحر في البلد وإذا البحر قد قذف إليهم ميتاً غريقاً فافتقدوه فوجدوه عيسى العوام . ووجدوا على وسطه الذهب وشمع الكتب وكان الذهب نفقة للمجاهدين . فما رُؤِيَ من أدى الأمانة في حال حياته وقد أداها بعد وفاته إلا هذا الرجل.
فإذن: حتى الغواصين والغطاسين كانوا يستغلون هذه الموهبة لنصرة الدين.
3- ولما دخل رسول الله المدينة توزعت الطاقات، واستغلت المواهب: فهذا بلال يؤذن، وسعد وغيره لحراسة الرسول صلى الله عليه وسلم في مبدأ الأمر . وزيد وغيره لكتابة الوحي والرسائل، وخالد وغيره للقيادة . خالد الذي كان مبدعاً في القيادة استغل طاقته في أي شيء؟ استلم مباشرة الجيوش يقودها في سبيل الله، وحسان، وكعب، وابن رواحة للقيام بالدور الإعلامي المطلوب لخدمة الإسلام .
وابن مسعود صاحب النعلين والمطْهَرة؛ لأنه كان فقيها شديد التعلم كان يسأل رسول الله .. حتى في الأشياء الدقيقة ليتعلم.. وسلمان يدل على فكرة الخندق لما احتاج المسلمون.. ونعيم بن مسعود الثقفي يعرض خدماته لما أسلم..وأبو طلحة يأتي رسول الله بتبرع سخي بستان كبير، يقول: يا رسول الله ضعها حيث أراك الله .
ووضع التجار إمكاناتهم لنصرة الدين: فهذا عثمان رضي الله عنه يحفر بئراً على نفقته، ويجهز جيش العسرة على نفقته، ويفك أزمة المسلمين في وقت شدة بأن تبرع بالدواب التي حملت التجارة له بما عليها للمسلمين .. والملاحظ في السيرة النبوية أن هذا الاستغلال والتوزيع لم يظهر بشكل واضح إلا في المجتمع المدني بعد إرساء القاعدة الصلبة والهجرة إلى المدينة .
الحرص على توفير الكفاءات التي يحتاج إليها المجتمع المسلم، وقبل ذلك توفير الكفاءات الشرعية التي يتربى الناس عليها: وإلا فما الفائدة من الأطباء والمهندسين إذا كانت قلوبهم خاوية على عروشها من الإيمان والعقيدة الصحيحة . وانظر إلى الغثاء المتدفق من أجيال البعثات على بلاد المسلمين ـ كثير منهم ممن جاءوا من الغرب، أو الشرق قد أصبحوا حرباً على الإسلام وأهله ـ فليست القضية مجرد كفاءات علمية، وليست القضية مهارة في الأمور الدنيوية.. قبل ذلك لا بد أن تعمر القلوب بالإيمان، وأن تتربى النفوس، وإلا فإن هذه الطاقات ستستخدم في حرب الإسلام ولو كان أصحابها عبد الله ومحمد وأحمد وعبد الرحمن .
استغلال الكفرة لمواهبهم أسوأ استغلال:
وانظر كيف استغل الكفار الأولون مهاراتهم ومواهبهم أسوأ استغلال:
فهذا فرعون: لما أعطاه الله الملك والمال؛ سخر العباد، واستعلى عليهم، واعتدى على حق الألوهية، فادعى بأنه هو ربهم الأعلى، وبنوا له القصور والأنهار التي تجري من تحتها، وتأمل في هذه الأهرامات الموجودة الآن من الذي بناها؟ ولماذا بنوها؟ وكم أنفق فيها؟ إن الذين بنوها جماعة من الكفرة ممن سخر المساكين في ذلك الزمن، فأقاموها على دمائهم، وعلى أموال الشعوب الفقيرة في ذلك الوقت لماذا ؟! لتكون مقبرة لهم زعموا ! بناء كامل مقبرة لواحد ويدفن معه من الكنوز والأموال التي يحتاج إليها الناس .. كم قتل من الناس فيمن بنوا تلك الأهرامات؟ فالاستغلال السيئ للطاقات وللثروة هو الذي يبدد أموال الناس، ويفقرهم.
وتأمل في حال قارون: لما أعطاه الله المال وأعطاه{... مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ...[76]}[سورة القصص]. استكبر وعلا، وزعم بأن الله يحبه ويرضى عنه وإلا لما أعطاه . فبماذا عاقبه الله بعد ذلك؟ سوء استغلال الأموال؛ يؤدي إلى الهلاك .
التبذير والإسراف يؤدي إلى الهلاك..إنفاق الأموال في مجالات الحرام يؤدي إلى الخراب والهلاك؛ ولذلك يقول نبي من الأنبياء لقومه موبخًا:{ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ[128]}[سورة الشعراء].
هذه المنشآت التي فيها ضرر على المنشآت وأهله، وفيها تبذير للأموال عبث.
نصرة الدين لا تكون بالمواهب المحرمة:(/3)
فلا يحسبن كل إنسان أن هوايته التي يبدع فيها يمكن أن تستخدم لنصرة الدين؛ فإن هناك هوايات ومواهب نشأت في ظل الجاهلية بعيداً عن الإسلام، لا مجال لأصحابها في خدمة الدين، فمثلاً:
هواة لعب الورق والشطرنج هذه هواية ماذا تفيد الإسلام وأهله، ولو كانوا من أبطال العالم في ذلك.
ولا يظنَنَّ بعض السذج أن بعض تلك الأشياء قد تصبح إسلامية بمجرد ذكر من الأذكار يكتب عليها كمن يظن أن ورق اللعب إذا طبع عليه ' لا إله إلا الله ' صار إسلامياً، وكمن يظن أن قطعة الشطرنج إذا استبدل الصليب على رأسها بالهلال صار إسلامياً .
ومن يظن أن الذي يلعب الطاولة إذا قال في بداية لعبه:'بسم الله' صارت اللعبة إسلامية، ومن الذي يظن أن النحاتين الذين ينحتون التماثيل والأصنام إذا نحتوا تمثالاً لعمر بن الخطاب، أو ابن تيمية صار عملهم إسلامياً.. فهذا هراء، وكلام فارغ، وإذا كانت القضية مضمونها جاهلي؛ فلا بد من نسفها تماماً.
وكثير من الأمور التي ينسبونها إلى الفن المعماري الإسلامي، الإسلام منها برئ؛ لأنها ما نشأت تحت راية القرآن والسنة، وإنما نشأت في فترات الترف؛ نتيجة للبذخ والإسراف وتضييع الأموال . فقد تكون الموهبة إذاً منقمة لا منقبة.. فعلى أصحاب الهوايات المحرمة أن يبحثوا عن مجالات أخرى يستفيد الإسلام من جهودهم فيها .
وانظر كيف أغوى الشيطان أناسًا من المسلمين أنعم الله عليهم بالصوت الجميل فاستخدموه للغناء والفسق ومزامير الشيطان بدلاً من استغلاله في قراءة القرآن، ودعوة الناس للصلاة بالأذان .
وأنعم الله على آخرين بذاكرة جيدة استغلوها بحفظ تفاصيل التوافه من الرياضات والأهداف، وأسماء اللاعبين وتواريخ ذلك، وكلمات الأغاني وأشعار المجون، بدلاً من استخدام ذاكراتهم في حفظ كتاب الله والعلم الشرعي .
دعوة لاستغلال الطاقات في طاعة الله:
إن الله سيحاسب الناس على طاقاتهم، فعلى من أنعم الله عليه بطاقة أن يستغلها لطاعة الله . من أنعم الله عليه بشخصية جذابة وقدرة على التداخل مع البشر أن يستغلها في الدخول إلى قلوب الناس وتعميرها بالإسلام، وانظر إلى مصعب بن عمير كيف أنعم الله عليه بتلك الجاذبية مما أدخل فيه أناساً من أهل الشرك، فصاروا قادة للإسلام . ومن أنعم الله بجاه، أو نفوذ، أو سلطان، فعليه أن يستعمله للخير، وفي إحقاق الحق، ومحاربة الباطل، وأن يقرب أهل الخير، ويجعلهم بطانته ومشورتهم كما فعل الراشدون وعمر بن عبد العزيز .
ومن آتاه الله قدرة في الشعر؛ فلينظمه في المنافحة عن الإسلام، وهتك أستار الباطل كما كان حسان يفعل رضي الله عنه . ومن آتاه الله بسطة في الجسم، فليجعلها في طاعة الله، حرباً على أعداء الله، يعين فيها الملهوف والمسكين والفقير من المسلمين . ولما أعطى الله طالوت بسطة في العلم والجسم؛ استعملها في قيادة بني إسرائيل بشرع الله حتى وصلوا إلى نصر الله . وتأمل كيف عوتب موسى صلى الله عليه وسلم واعتبر ذلك خطيئة في حقه لما استخدم قوته الجسدية في ضرب رجل، فوكزه فقضى عليه .
إذن.. إذا كنا نريد أن نكون صادقين في استقامتنا على شرع الله؛ فعلينا باستغلال طاقاتنا ومواهبنا المادية والمعنوية لإعلاء كلمة الله.
من' الطاقات والمواهب في خدمة الدين' كتبه الشيخ/ محمد صالح المنجد(/4)
الطب الإسلامي ليس حفرية في أرض الدراويش
د. أحمد القاضي
________________________________________
هناك العديد من الآراء ووجهات النظر حول: ما هو الطب الإسلامي ؟ أهو علم طبي خاضع تمام الخضوع لمراد الله، أم هو فن العلاج الذي ينتهجه المسلمون في أفضل صورة عندما يكون المسلمون في أفضل أحوالهم؟ أم أنه الطب الأكثر حداثة، المهتدي بالتعاليم الإلهية والمتطابق تمام التطابق معها؟ وأي تلك التعريفات المختصرة سيكون صائبًا؟ إننا نحتاج لوضع بعض المعايير بهدف الوصول إلى فهم مشترك. وطبقًا لما أفهم من روح التعاليم الإسلامية الواردة في القرآن والسنة اقترحت في عام 1981 هذه الخصائص الست الأساسية للطب الإسلامي:
1- ضرورة الخضوع للتعاليم والآداب الإسلامية.
2- ضرورة أن يكون منطقيًّا في الممارسة.
3- ضرورة أن يكون شاملاً في اهتماماته؛ بحيث يعطي اهتمامات متساوية لكل من الجسد والعقل والروح، وللفرد كما للمجتمع.
4- ضرورة أن يكون عالميَّا في تناوله، آخذًا في الاعتبار كافة الموارد، وموجهًا فائدته للجميع.
5- ضرورة أن يكون علميًّا في منهجيته، مؤسسًا استنتاجاته المنطقية على الملاحظات الصحيحة، والإحصائيات الدقيقة والتجريب الأمين.
6- ضرورة أن يكون ممتازًا ومتميزًا، محققًا ما عجزت عن تحقيقه فنون العلاج الأخرى.
منذ خمسة عشر عامًا كانت لدي فرضية نظرية تقول: إن الخصيصة السادسة من تلك الخصائص الست سوف تأخذ مكانها إلى حيز الوجود تلقائيًا إذا تم الالتزام بالخصائص الخمس الأولى، والآن بعد تسعة أعوام من محاولات الالتزام بتلك الخصائص فإن الفرضية تبدو الآن حقيقة. كانت تلك الأفكار التي طرحتها في المؤتمر الدولي الأول للطب الإسلامي الذي عُقد بالكويت في يناير 1981 أفكارًا منطقية على الرغم من أنها كانت أفكارًا نظرية وغير مثبتة، لكننا قمنا بوضع برنامج لعلاج ما يُسمى بالأمراض غير القابلة للعلاج inducrable diseases بدأنا في تطبيقه منذ عام 1986 في كل من بنما سيتي Panama City في فلوريدا ودبي بالإمارات العربية.
وقد شملت قائمة الأمراض التي تعاملنا معها من خلال ذلك البرنامج أمراضًا كانت تُعد غير قابلة للعلاج مثل: بعض حالات السرطان المتأخرة Metastatic Cancers ،وكل الأمراض الانحلالية المزمنة Chronic degenrative diseases في كل من العظام والمفاصل، وأمراض القلب والجهاز الدوري، وأمراض الجهاز العصبي المركزي، وأمراض الكبد كالتهاب الكبد الوبائي المزمن النشط Chronic Active Hepatitis والتشمع الكبدي المبكر Early Chronic Cirrhosis، وأمراض الجهاز التنفسي مثل: المرض الرئوي الانسدادي المزمن Chronic Obstructive Pulmonary، والأمراض المناعية الذاتية Autoimmune diseases مثل الروماتويد Rheumatiod والذئبة الحمراء Lupus Erythematosis والتصلب الجلدي Selerodermaاوغيرها، إضافة إلى الربو الشعبي وأمراض الحساسية، وأخيرًا مجموعة مثيرة من الأطفال الذي يعانون من التخلف العقلي وعدد آخر من الاختلالات الوراثية Genetic Abnormatities .
كان هؤلاء المرضى جميعًا يجمع بينهم شيء مشترك: أنهم قد فشلوا في الاستجابة للعلاج الطبي الحديث، إضافة إلى أن البعض كان بلا علاج من الأساس، هذا البرنامج الذي أتحدث عنه هو برنامج العلاج المناعي متعدد الأساليب Multimodality Immunotherapy program(MIP) ويتضمن العديد من الأساليب العلاجية البديلة، والتي تشمل برنامجًا غذائيًا والعديد من الإضافات الغذائية مثل: الأعشاب الطبية والفيتامينات والمعادن والإنزيمات التي تؤخذ عن طريق الفم أو الحقن في الوريد، مع علاج لارتفاع الحرارة، مع الحقن بالأوزون ومركب Hydrogen Peroxide مع العلاج بالمركبات الخطافية Chelating Therapy وعلاج دموي بالأشعة فوق البنفسجية، والوخز بالإبر الصينية والعلاج الطبيعي والتمارين، وفوق ذلك كله علاج تأهيلي شامل للمشاعر، مع تقديم استشارات حول كيفية التخلص من العواطف السلبية، والتدريب على التغذية الحيوية المرتجعة Biofeedback والتخيل التصويري الموجه Guided Imagery وأساليب تبصيرية أخرى Visualization Techinques، كما يتلقى مرضى السرطان علاجًا باستخدام Tumounrs antigen وكذلك بعض المنتجات الطبيعية ذات التأثير الاختياري المضاد للخلايا السرطانية، ويتضمن البرنامج إحداث تغيير جذري في طريقة المريض في الأكل والتفكير والعيش، ويتطلب –كذلك- التخلص من كل الرواسب الضارة التي ربما نتجت من التعرض الطويل للملوثات البيئية.. وباختصار العيش بطريقة أكثر تلاؤمًا مع التعاليم الدينية، وأكثر ارتباطًا بالحياة الصحية.(/1)
وعلى الرغم من أن البرنامج لا زال في مراحل التطوير، ولا زال بعيدًا عن الوصول (للمال) فإن هناك بعض النتائج التي تبدو مستحيلة -طبقًا للمعايير الطبية الحديثة- لهؤلاء المرضى الذين لم يكن متوقعًا أن تتحسن حالتهم نهائيًا، وفجأة يبدءون في التحسن الجزئي أو الكلي، وتصل معدلات التحسن المبكرة إلى 80% في الأمراض الحميدة، و25-30% في الأمراض الخبيثة التي كان يُظن -حتى هذه اللحظة- أنها مميتة، نحن لا نستطيع الآن التحدث عن معدلات شفاء أو علاج حتى تتم متابعة المرضى لمدى خمسة أو عشرة أعوام على الأقل.
وبين نقطة البداية بمرض مزمن كان يُظن أنه غير قابل للعلاج، وبين نقطة النهاية بتحقق الشفاء الذي كان يُظن أنه مستحيل هناك طريق طويل من الاكتشافات، طريق مليء بمعانٍ جديدة لحقائق قديمة، وطرق مثيرة وجديدة لفهم الصحة والحياة: إنه شيء أشبه بالسير في طريق مفروش بالورود، ترى فيه بعينيك براعم الورود تتفتح من حولك وأنت تسير.
فقد توصلنا لفهم جديدة لأجزاء مشهورة من الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية، فهم جديد للاستجابات المرضية الفسيولوجية المختلفة وآليات العلاج، فهم للروابط بين الأمراض المزمنة والاختلالات المناعية؛ فكل المرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة سواء حميدة أم خبيثة الذين رأيناهم سواء في بنما سيتي Panama City أم في دبي، والذين تم تقييم حالتهم المناعية –وجد أن لديهم درجة ما من النقص والاختلال المناعي، والتي تختلف في تفاصيلها من مريض لآخر، ولكن يبدو أن هناك شكلاً معينًا للاختلالات المناعية أكثر تواجدًا مع أمراض معينة أو مجموعات معينة من الأمراض. وتم فهم العلاقة بين الأمراض المزمنة والمشاعر السلبية البادية؛ حيث إن كل المرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة سواء أكانت حميدة أم مزمنة لديهم كميات زائدة من المشاعر السلبية الظاهرة، وذلك من قبل أن يتم تشخيص أو من قبل أن تظهر عليهم أمراضهم المزمنة، وحينما تظهر عليهم الأمراض المزمنة تزيد مشاعرهم السلبية الظاهرة.
فهم جديد لبعض الآيات القرآنية:
نحن نعرف الآن من دراساتنا المبكرة أن الاستماع إلى القرآن له تأثير مباشر في تقليل التوتر، وتأثير غير مباشر -وربما مباشر- في حفز الجهاز المناعي؛ مما يساهم –بالتحديد- في عملية الشفاء، وكان التأثير القرآني قد تحقق بالاستماع لكلمات القرآن –حتى بدون فهم معانيها- ويزيد التأثر إذا أضيف للاستماع فهم المعنى. وقد بيّنت دراساتنا التالية أن مفاهيم قرآنية معينة ذات تأثير شديد في مساعدة المرضى في التخلص من المشاعر السلبية الظاهرة، وكذلك في التعامل مع التأثر المناعي السلبي الموجودة بصفة دائمة في الأمراض المزمنة، هذا التأثير الشفائي للقرآن ظاهر بجلاء في تأثيره المحفز للجهاز المناعي ويستخدم بصورة روتينية كجزء من البرنامج مع كل مرضانا، يستوي في ذلك المسلمون وغير المسلمين.
كذلك الحديث عن العسل وأن فيه شفاء للناس.. فقد بينت دراساتنا -ودراسات غيرنا أيضا- أن العسل له تأثير محفز للجهاز المناعي، بالإضافة للتأثيرات الشفائية الأخرى. كذلك الحديث عن الحبة السوداء وأن بها شفاء لكل داء إلا الموت، هذه العبارة فيها نقطتان من الغموض ربما لم يُفسرا مبدئيًا: الأولى التأثير الشفائي لكل داء هل تساعد في كل أنواع الأمراض التي لها طبيعة مختلفة وأسباب مختلفة؟، الثانية معنى استثناء الموت؛ إذ إن أي شخص ميت بالفعل لا حاجة به إلى الحبة السوداء، أم أن ذلك يعني شيئًا آخر؟، اللغز الأول تم تفسيره حينما أكدت دراساتنا في عامي 1986 و1987 التأثير المحفز للجهاز المناعي الذي تحدثه الحبة السوداء ومن ثم يمكن أن تساهم في شفاء كل الأمراض: في شفاء حالة جراحية وبتقليل مشكلات ما بعد العمليات، وقد تم حل اللغز الثاني في النهاية -بعد أعوام من الملاحظة- حيث إنه طالما كان هناك جزء باق من الوظيفة أو الحياة في النسيج أو العضو المصاب فهناك فرصة في التحسن أو الشفاء الجزئيين أو الكليين، وفي المقابل إذا كان النسيج أو العضو قد مات نهائيًا مع فقدان كامل لوظيفته فليس هناك ثمة فرصة متاحة في التخطيط أو محاولات علاجية.
ملامح أساسية للتأثير العلاجي للعديد من الأساليب المشار إليها في التعاليم الإسلامية:(/2)
الممارسات الإسلامية المختلفة مثل: الصيام والصلاة والعادات والاتجاهات العاطفية وبعض العناصر الخاصة التي ذكر أن لها تأثيرًا شفائيًّا مثل: القرآن والعسل والحبة السوداء وأشياء أخرى -كلها جميعًا يجمع بينها شيء مشترك هو أن ذلك التأثير يتعامل مع آليات المرض المستترة مثل القنص أو الاختلال المناعي أكثر من تعامله مع الأمراض السطحية، ومن ثم فإن التأثير الشفائي حقيقي وليس مجرد مسكن للأمراض، الملمح الثاني: أن التأثير العلاجي استعادي Restorative في طبيعته بغض النظر عن اتجاه الخلل، وهو ما يعني على سبيل المثال: أنه إذا كان عدد خلايا معين أقل من الطبيعة فإن العلاج يؤدي إلى زيادة عدد الخلايا المتأثرة، وإذا كان عدد نفس الخلايا زائدًا عن الطبيعي فإن العلاج سينتج عنه نقص في عدد الخلايا المتأثرة، إلى جانب ذلك فإن التغير الإصلاحي -أيًّا كان لأعلى أم لأسفل- سوف يعود فقط إلى المستوى الطبيعي أو قريب من الطبيعي، وليس وراء ذلك، وهذه عادة خصيصة مشتركة للأعشاب الطبيعية وسائر الأساليب العلاجية الطبيعية بخلاف المركبات الكمياوية المخلقة التي يكون تأثيرها –دائما- في اتجاه واحد ومتزايدًا مع زيادة الجرعة إلى ما وراء المستوى الطبيعي المرغوب. كما اتضح -أكثر خلال التعامل مع الأمراض المزمنة المقاومة للعلاج- أن المكون المادي الطبيعي في الشخص لا يمكن فصله عن مكوناته العاطفية أو الروحية، إن علاج مثل تلك الحالات المتحدية لن يكون مؤثرًا تأثيرًا كاملاً إذا لم تتم عملية الاستعادة Restorationعلى المستوى الفيزيقي المادي الطبيعي والعاطفي والروحي، والفشل في تصحيح أي اختلال في هذه المستويات الثلاثة ربما يقلل كثيرًا من فاعلية العلاج.
فهم آليات التعامل (التواصل) مع الخلايا المناعية الخاصة بالشخص:
يمكن للخلايا المناعية قراءة عقل صاحبها وتسجيل المركزية فيها، وتستجيب للأشعة الكهرومغناطيسية والنبضات المارة في العقل، أي الأفكار والعواطف ومن ثم يستطيع الفرد التحكم بشدة في وظائف خلاياه المناعية بالتحكم في أفكاره وعواطفه، إن الفرد يمكن أن يكون لدية فكرة عن مستوى أداء الخلايا المناعية تحت تأثير عواطف معينة بملاحظة مستوى أداء المرجحين تحت تأثير نفس العواطف.
التأثير الواسع المدى للعواطف السلبية والإيجابية:
تنقية القلب من أي مشاعر للحقد أو الكره ليس –فقط- طريقًا إلى الجنة ولكنه أيضًا طريق لصحة أفضل ومناعة أفضل، وبالمثل في كل المشاعر السلبية ومقابلاتها الفيزيقية الإيجابية يمكن أن يكون لها تأثير سلبي أو إيجابي على الصحة الفيزيقية، وعلى الأداء العام للفرد في عالمه وما بعده.
فهم المعنى الشامل لكلمة تلوث:
إن التلوث العاطفي والفكري ذوي التأثير المسمم للقلب والعقل يسببان ضررًا بنفس القدر الذي تحدثه الملوثات الكيماوية والفيزيقية في تسميمها للجسم؛ فكل منها يمكن أن يكون له تأثيره الكافي على صحة أداء الشخص الكهربية وشرارة الحياة.
نحن لا نعرف طبيعة الروح كيف تؤثر في الحياة، لكننا رغم ذلك نعرف أن بعض مظاهر الحياة وجود الروح في الجسد، وأحد هذه المظاهر هي الكهربية، فطالما أن في الجسد شحنات كهربائية فذلك يعني أن الشخص لا زال حيًّا، وعندما تترك الكهربية الجسد فإن ذلك يعني أن الشخص ميت، نفس الشيء ينطبق على النباتات: النباتات الحية أي النيئة غير المطهوة وغير المقطعة -تلك النباتات بها قدر محسوس من الكهربية، ومن ثم كان للطعام الحي ذلك التأثير الشفائي -أو على الأقل جزئيًّا- بسبب شحناته الكهربائية التي تؤثر إيجابيًّا بطريقة ما على الشحنات الكهربائية لجسم الإنسان، أما الطعام الميت ربما يكون له قيمة غذائية ولكن ليست ذات تأثير شفائي؛ حيث إنه لا يوجد به كهربية، الجسم كآلة كهربائية محاط بمجال من الطاقة الكهرومغناطيسية، مجال ضوئي غير مرئي سُمي الأورا Aura هذا المجال الضوئي يمكن أن يصور الآن تصويرا كهربائيًا، تصور كيرليان Kirlian Photography ومن ثم يمكن تقديره، ونحن نعرف الآن أن الطعام، وكذلك الحالة العاطفية يمكن أن تؤثر سلبًا أو إيجابًا على الأورا الخاصة بالشخص، وفي المقابل فإن حالة الأورا Aura يمكن أن تؤثر على حالة الجسد أيضا سلبًا أو إيجابًا، بل أكثر من ذلك فإن الأورا الخاصة بشخص ما يمكن أن تؤثر في الأورا الخاصة بشخص آخر من خلال الاتصال المادي الفيزيقي، أو حتى بمجرد الاقتراب، وهذا أيضا يمكن توثيقه من خلال التصوير الكهربائي، وحينما نصل إلى فهم هذه الآلية نستطيع أن نصل إلى تحقيق التأثير الشفائي للاتجاه العاطفي الإيجابي في الأطفال، من خلال نصح آبائهم محققين تحسنًا أو تصحيحًا في الاختلالات الجينية الناتجة عن التشوهات في الكروموزومات دونما الحاجة للهندسة الوراثية، بل فقط من خلال تغيير العوامل البيئية والغذائية.(/3)
من أكثر الملاحظات المثيرة والمحيرة، والتي تمكنا من عملها خلال العام الماضي كان تحسين العديد من الأطفال الذين يعانون من مشكلات وراثية، بعد استخدام بعض الأساليب في إطار البرنامج، لنعط بعض الأمثلة: كان هناك طفل صغير عمره خمس سنوات، يعاني من تخلف عقلي وتم التأكد فعليا من إصابته بمرض متلازم وتشوه في كروموزوم 10كيو+10q وهي حالة لا يمكن التعامل معها مطلقًا؛ فهو لا يتحدث بكلمة واحدة ولا يستجيب لأية أوامر، وخلال ستة أشهر كان يستجيب للأوامر ويقول بعض الكلمات واستمر في التحسن التدريجي، وهناك طفلة عمرها 6 سنوات تعاني من مرض لثلاسيميا ميجور، والذي كان يتطلب نقل دم شهري وهو الآن يُعالج من خلال البرنامج منذ عام تقريبًا، وخلال الأربعة أشهر الأخيرة لم يحتج إلى نقل دم مطلقًا، والعديد من الأطفال الآخرين الذين كانوا يعانون من مشكلات وراثية أخرى قد تحسن حالاتهم بدرجات متفاوتة، في البداية لم نستطع تفسير تلك النتائج غير المتوقعة، ثم فكرنا أنه إذا كانت العوامل البيئية السلبية يمكنها التأثير سلبيًا على الأداء الجيني للخلية كما يحدث في الطفرات فربما تؤثر العوامل البيئية الإيجابية تأثيرا صلاحيا وخططنا للبدء في دراسة جينية طويلة المدى في محاولة لتفسير الوضع، ولنرى كيف يمكن للعوامل العلاجية الطبيعية أن تؤثر في النسخ أو العوامل الأخرى التي ربما تكون داخلة في العملية.
الملاحظات سابقة الذكر هي مجرد ومضات من النور على طول طريق طويل من الاكتشاف ولا زالت هناك مساحات كثيرة من ظلام مجهول، وعلى الرغم من ذلك فإن الطريق يبدو صحيحًا وواعدًا حقًا، إن الالتزام بالتعاليم الدينية يدفع للأمام.
النتيجة: تأسيسًا على الخبرات سالفة الذكر فإن تعريف وفهم الطب الإسلامي المعطى في هذه الورقة يبدو ملائمًا(/4)
الطب النبوي
الختان وقاية .. وتوفير
الدكتور حسان شمسي باشا
جعل الإسلام الختان إحدى سنن الفطرة ، وأكدت ذلك السنة النبوية المطهرة ، ففي الحديث الذي رواه الشيخان: " خمس من الفطرة : الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط "
وروى أبو هريرة مرفوعا : " اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين بالقدوم " متفق عليه .
فماذا يقول الطب الحديث ؟ ولماذا تراجع الغرب عن عدائه للختان ؟
فقد أكدت الإحصائيات العلمية الحديثة أن 60 – 80 % من أطفال الأمريكان يختنون ، ونحن نعلم أن الغالبية العظمى من الأمريكيين من النصارى والنصارى عادة لا يختنون . فماذا حدث في أمريكا ؟
لقد بينت الدراسات العلمية التي بدأت تظهر في أمريكا قبل أكثر من عشر سنوات أن الأطفال المختونين هم أقل عرضة للإصابة بالتهاب المجاري البولية ، وأن غير المختونين أكثر عرضة للإصابة بهذا الالتهاب ب39 ضعف منه عند المختونين .
وفي دراسة حديثة نشرت في مجلة Pediatrics عام 2000 م ، وأجريت على 50.000 طفل ، أظهرت الدراسة أن 86 % من التهابات المجاري البولية عند الأطفال في سنتهم الأولى من العمر قد حدثت عند غير المختونين ، وأن الكلفة الكلية لمعالجة التهابات المجاري البولية بلغت عند الأطفال غير المختونين عشرة أضعاف ما هي عليه عند الأطفال المختونين .
هكذا يحسبون ، وهكذا يقدرون ، والإسلام جاء بتلك الفطرة العجيبة ، والسنة الحميدة ، فاتبعها المسلمون في كل مكان ، اقتداء بهدي نبيهم العظيم صلى الله عليه وسلم قبل أن يكتشف العلم الحديث الحكمة الصحية ، والتوفير الاقتصادي الذي يجنيه المختونون عندما يتبعون ذلك الهدي النبوي الشريف .
وأصدرت المنظمات الصحية لطب الأطفال في أمريكا توصياتها عام 1999 تدعو إلى ختان الأطفال المختونين. كما أن سرطان القضيب نادر الحدوث جدا عند المختونين ، في حين يشاهد عند غير المختونين .
=============
الرضاعة من لبن الأم لحولين كاملين
الدكتور حسان شمسي باشا
يقول الله تعالى في كتابه العزيز :" وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ . لقمان 14 . ويقول تعالى : وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ .
فلماذا حدد القرآن مدة الرضاعة بعامين اثنين ؟ وماذا في الطب من جديد ؟
فقد أقرت مؤخرا منظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونسيف إلى أن الرضاعة الطبيعية يجب أن تستمر لعامين اثنين . وأصدرت دعوتها للأمهات في العالم أجمع أن يتبعن تلك التوجيهات . كما دعا مقال نشر في إحدى المجلات الأمريكية Pediatric Clinics of North America في عدد شهر فبراير 2001 ، دعا النساء في أمريكا إلى اتباع توصيات الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال ، والتي تدعو إلى الاستمرار في الرضاعة الطبيعية لمدة 12 شهرا على الأقل ، و أن الأولى من ذلك اتباع توصيات منظمة الصحة العالمية بالرضاعة لحولين كاملين .
أليس هذا ما جاء في القرآن الكريم قبل أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمن ؟ فالله تعالى يفرض للمولود على أمه أن ترضعه حولين كاملين ، لأنه سبحانه وتعالى يعلم أن هذه الفترة هي المثلى من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل . وتثبت البحوث الطبية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية لنمو الطفل نموا سليما . ولكن نعمة الله على المسلمين لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم ، فقرر ذلك في قرآنه العظيم ، والله رحيم بعباده ، وبخاصة أولئك الأطفال الأبرياء .
وقد أكدت الدراسات الحديثة أن الرضاعة الطبيعية المديدة من لبن الأم تقي من العديد من الالتهابات الجرثومية والفيروسية . كما أن الرضاعة المديدة تقلل من حدوث سرطان الدم عند الأطفال . وكلما طالت مدة الرضاعة الطبيعية ، زادت قوة الوقاية من هذا النوع من السرطان .
وليس هذا فحسب ، بل إن الرضاعة المديدة تقي أيضا من سرطان آخر يصيب الجهاز اللمفاوي في الجسم ويدعى " ليمفوما " .
وفوق هذا وذاك ، فقد أكد البحث الذي نشرته مجلة Pediatric Clinics of North America في شهر فبراير 2001 أن المدارك العقلية عند الطفال الذي رضعوا من ثدي أمهم رضاعة مديدة هي أعلى من الذين لم يرضعوا من ثدي أمهم . وأنه كلما طالت مدة الرضاعة الطبيعية زادت تلك المدارك العقلية في كل سنين الحياة .
==============
العسل ... شفاء للناس
الدكتور حسان شمسي باشا(/1)
فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز : " يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس " سورة النحل . وقد أكدت الأبحاث العلمية الحديثة فوائد العسل في عدد من المجالات ، ومن أحدث هذه الأبحاث ، تلك التي قام بها أستاذ جامعي في جامعة waikato في نيوزيلندة ، يدعى البروفيسور بيتر مولان وقد قضى وزملاؤه في مخابر البحث ثمانية عشر عاما في تجاربهم العلمية على العسل ، وخرجوا بأكثر من خمسة عشر بحثا علميا نشرت في أشهر المجلات الطبية في العالم، و نشر آخرها في شهر أبريل 2001 .
وقلت في نفسي ، يا سبحان الله ، عالم غير مسلم ، وربما لم يعلم بما جاء في القرآن الكريم ، يقضي 18 عاما في البحث العلمي ليثبت فوائد العسل في علاج الجروح والقروح وغيرها ، وتسخر له الإمكانيات المادية للخروج بتلك الأبحاث ، وهي على ما أعتقد من أكثر الأبحاث العلمية التي أجريت على العسل دقة وموضوعية ، وهو الآن يحاضر في الجامعات الأمريكية حول العسل ، ويستمع إليه المتخصصون بدهشة ، بعد أن كانت أمريكا وأوروبا الغربية تتجاهل البحث في العسل . فكانت خلال العشرين سنة الماضية أبحاث قليلة متفرقة هنا وهناك . إلا أن هذا الباحث النيوزلندي قام بخدمات جلى – ربما من حيث لا يدري – لإظهار الإعجاز القرآني في موضوع العسل .
يقول البروفيسور مولان : " إن كل أنواع العسل تعمل في قتل الجراثيم ، رغم أن بعضها قد يكون أكثر فعالية من غيرها ، وإن العسل يقضي على تلك الجراثيم الموجودة في الجروح.
وفي دراسة أخرى قدمت في شهر نوفمبر في مجلة Experimental Biology في أورلاندو في 4 / 4 / 2001 ، استخدم العسل كمصدر للسكريات أثناء التمارين الرياضية في مسابقات ركوب الدراجات. وقد زاد تناول العسل من قدرة التحمل على ركوب الدراجة بنسبة 6 % .وبالطبع فإن هذه الفروق البسيطة لها أهمية كبرى في السباقات الرياضية.
و من أوائل الأحاديث التي استوقفتني في موضوع الطب النبوي حديث رواه البخاري ومسلم فقد جاء رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْقِهِ عَسَلا فَسَقَاهُ ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ إِنِّي سَقَيْتُهُ عَسَلا فَلَمْ يَزِدْهُ إِلا اسْتِطْلاقًا فَقَالَ لَهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ اسْقِهِ عَسَلًا فَقَالَ لَقَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلاقًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ فَسَقَاهُ فَبَرَأَ .
فقد نشرت مجلة B M J الإنجليزية الشهيرة دراسة على 169 طفلا مصابا بالتهاب المعدة والأمعاء . وجد الباحثون أن الإسهال الناجم عن التهاب المعدة والأمعاء استمر 93 ساعة عند الذين لم يعطوا العسل ، في حين شفي الذين أعطوا العسل في وقت أقصر ( 58 ساعة ) .
وهناك أيضا دراسات تشير إلى فائدة العسل في شفاء تخريشات المعدة عند الفئران ، حيث أعطي الخمر للفئران لإحداث تخريشات في معدة الفئران . وتبين أن الفئة التي أعطيت العسل قلت عندها نسبة حدوث التخريشات .
================
وصايا صحية للحجيج
الدكتور حسان شمسي باشا
الحج موسم إسلامي فريد ، يخرج الإنسان فيه عن رتابة الحياة . والدراسات العلمية الحديثة تدعو الإنسان أن يخرج عن نظامه اليومي ولو مرة واحدة في العام ، يغير فيها ظروفه التي اعتاد عليها . وليس كالسفر للحج وسيلة تحقق ذلك للإنسان .
ورغم أن المسؤولين في المملكة يقومون ببذل أقصى جهد لتوفير الرعاية الصحية للحجاج ، وتوفير الأدوية اللازمة ومراكز الإسعاف والمستشفيات ، إلا أن الزحام الشديد أثناء الحج قد يؤخر المساعدة الطبية بعض الوقت ، ولهذا ينصح كل حاج أن تكون معه حقيبة طبية صغيرة يضع فيها الأدوية اللازمة له ، بناء على نصيحة الطبيب المعالج قبل سفره .
وقبل أن يبدأ الحاج في رحلة الحج المباركة عليه أن يطمئن على صحته ، فيقوم بزيارة الطبيب الأخصائي إذا كانت لديه أمراض قديمة أو حديثة يعاني فيها ، كما يجب على كل حاج أن يعرف فصيلة الدم عنده وتسجيل ذلك في جواز السفر . و ينبغي التأكد من الحصول على اللقاحات اللازمة للوقاية من الأمراض المعدية مثل الحمى الشوكية وغيرها . كما يجب على المرضى الذين يتناولون علاجات لأمراضهم الاستمرار في تناول الدواء بانتظام ، وعدم التقصير في ذلك بأي حال من الأحوال ، والإكثار من تناول السوائل – ما لم يكونوا مصابين بمرض يمنع ذلك - . و ينبغي عليهم إعلام الطبيب بذلك .
إن اجتماع الملايين من الناس في مكان واحد لأداء مناسك الحج لا بد إلا أن يؤدي إلى ظروف بيئية صعبة عند بعض الحجيج للأسباب التالية :
1. الزحام الشديد سواء كان في الحرم المكي أو في الحرم النبوي أو في منى أو عرفات
2. الجهد المتواصل في تأدية مناسك الحج .(/2)
3. الحر الشديد في الأماكن المكشوفة .
ولا بد للحاج المسلم من أن يراعي كبر سنه ووضعه الصحي من مرض أو عجز أو عاهة ، فلا يغالي في التواجد في الأماكن المزدحمة بشدة ، ولا يحمل نفسه ما لا تطيق . فالازدحام الشديد يعرض الحجاج للإصابة بالأمراض المعدية ، كما قد يسبب سقوط بعض الحجاج، وخاصة المسنين منهم ، مما يعرضهم للكسور والرضوض .
ولما كان الإسلام دين يسر لا دين عسر ، فلا داعي للزحام ورمي الجمرات بعد الزوال مباشرة ، كما أفتى بذلك سماحة الشيخ المرحوم عبد العزيز بن باز وغيره من العلماء الأفاضل ، إذ يمكن رمي الجمرات في أوقات أقل ازدحاما للحجيج .
ضربة الشمس:
وعلى الحاج الإكثار من شرب المياه والسوائل في كل الأوقات حتى يعوض ما فقده الجسم من العرق الشديد ، نتيجة الجهد المبذول والتعرض للشمس مباشرة ، وخاصة في الجو الحار ، فإذا تعرض الحاج إلى ضربة شمس ، ينبغي وضعه بعيدا عن حرارة الشمس المباشرة ، وتغطية رأسه بالثلج ، وتعويضه بالكثير من السوائل ريثما يتم نقله إلى أقرب مركز إسعاف .
وتعتبر ضربة الشمس من أخطر ما يتعرض له الحجاج ، وخصوصا المسنين منهم .وتنجم عن خلل في وظيفة منظم حرارة الجسم في المخ ، مما يؤدي إلى ارتفاع شديد في الحرارة لما يزيد عن 40 درجة مئوية ، مع صداع شديد ، وجفاف الفم والجلد . وقد يفقد الحاج وعيه ، ويعاني من سرعة التنفس والخفقان ، وقد يصاب بالإسهال أو القيء .
الشمس والعين:
وينبغي على الحاج تجنب الوقوف مدة طويلة تحت أشعة الشمس المباشرة ، وخاصة عند المرضى الذين يشكون من التهابات تحسسية أو رمد ربيعي ، مع ضرورة ارتداء نظارة شمسية سوداء من نوع جيد .
وفي حال دخول جسم غريب داخل العين ينبغي غسل العينين بغزارة بالماء ، وعدم حك العين مباشرة حتى لا ينفذ الجسم الغريب إلى داخل العين ، ومراجعة أقرب مركز صحي . كما ينبغي تذكير الحجاج الذين أجريت له جراحات داخل العين منذ قصير ( أقل من ثلاثة شهور ) قبل الحج بأن عليهم تجنب الإجهاد الشديد ، أو السجود الطويل أثناء الصلاة ، أو حمل أغراض ثقيلة .
الحاج المصاب بارتفاع ضغط الدم :
يوصى المصاب بارتفاع ضغط الدم بالإقلال من تناول الملح بشكل عام ، والإقلال من تناول الدهون . وتناول الأدوية بانتظام ، والتأكد من أن ضغط الدم مسيطر عليه .
الحاج المصاب بأمراض الكلى :
لا بد للحاج المصاب بالتهاب الكلى المزمن من مراعاة النظام الغذائي الموصوف له من قبل الطبيب المعالج . أما بالنسبة للحجاج الذين يعانون من حصيات الكلى ، فعليهم الإكثار من تناول السوائل بكمية تصل إلى 3 ليترات يوميا .
إذا كان مريض الفشل الكلوي المزمن يشكو من أية أعراض الفشل الكلوي مثل فقدان الشهية والغثيان والقيء ، ولديه مضاعفات مثل ارتفاع ضغط الدم أو هبوط القلب ، فلا ينصح بالسفر للحج في هذه الحالات .
أما إذا كانت حالته مستقرة ويجرى له غسيل كلوي ، فينبغي عليه حجز مكان في أقرب مركز لغسيل الكلى بواقع جلستين أو ثلاث أسبوعا أثناء فترة الحج .
أما إذا كان المريض مصابا بقصور بسيط في وظائف الكلى ولا يشكو من أعراض الفشل الكلوي فيمكنه السفر .
الحاج المصاب بمرض السكر :
لا شك أن نظام التغذية هام جدا بالنسبة لمريض السكر . وتزداد هذه الأهمية للحاج المصاب بمرض السكر لأنه يقوم بمجهود ذهني وعضلي أثناء مناسك الحج .
والغاية الأساسية في النظام الغذائي عند مرضى السكر هو تقليل المواد السكرية والدهون بشكل عام ، وخاصة السكر والمربيات والحلويات وأشباهها . والإكثار من تناول الخضراوات والفواكه التي لا تحتوي على كمية عالية من السكريات ، وتناول الخبز بكميات محدودة .
وينصح مريض السكر المصاب بسكر غير مستقر بعدم السفر للحج حتى تتحسن حالته . ويجب على مريض السكر حمل بطاقة ( كرت ) مكتوب باللغتين العربية والإنجليزية ، وفيه تشخيص المرض وعلاجه الذي يستعمله والجرعات المحدودة . ويجب أن يتأكد مريض السكر من وضعه الصحي قبل السفر للحج
وينبغي على مريض السكر بأن يبتعد عن الأماكن المكشوفة وتجنب ضربة الشمس ، وأن يكثر من شرب الماء . وإذا حدث نقص السكر فعليه تناول قطعتين من السكر أو ملعقتين صغيرتين من السكر ، وينقل إلى أقرب مركز صحي .
مريض الجهاز الهضمي في الحج :
ينصح هؤلاء المرضى طوال فترة الحج بتناول الوجبات الخفيفة وخاصة الأطعمة المسلوقة . والامتناع عن المواد المحرقة كالشطة والفلفل وغيرها . وعلى الحاج التأكد من نظافة الأطعمة وعدم فسادها ، وغسل الطعام وطهيه جيدا ، كما ينصح بإضافة الليمون والخل . ويستحسن للحاج قبل السفر أن يجرى له فحص براز قبل السفر ، للتأكد من عدم وجود طفيليات في البراز .
الأمراض المعدية في الحج:
لا شك أن المسافرين بشكل عام والحجاج على وجه الخصوص معرضون للإصابة بمختلف الأمراض المعدية ، وخاصة عند المسنين . وهذا الأمر يعزى لعدة أسباب :(/3)
1. تواجه الحجيج من مختلف أنحاء العالم على اختلاف الثقافات والبيئات والعادات السلوكية غير الصحية من الناحية الغذائية ، وخاصة استعمال أدوات الغير أو البصق على الأرض وغير ذلك .
2. الازدحام الشديد يزيد من احتمال انتقال العدوى وخاصة الأمراض الفيروسية والجرثومية .
3. المشقة الجسمانية والنفسية التي تؤدي إلى إجهاد الحاج ، مما يزيد من احتمال تعرضه للأمراض المعدية المختلفة .
4. تغير المناخ بين البلد الأصلي وطبيعة الجو في المناطق المقدسة في مكة والمدينة .
دوار السفر :
وهو دوار يحدث نتيجة اهتزاز القنوات الهلالية في الأذن الداخلية التي تتحكم في توازن الإنسان . وهو أربعة أنواع : دوار البحر ، ودوار الطائرة ، ودوار القطار ، ودوار السيارة
أما أعراضه فهي الإحساس بالدوخة والغثيان والقيء .
وعلاجه يكون بالراحة ، وأخذ أحد الأدوية المضادة للهستامين مثل : " درامامين " قبل ركون الطائرة أو الباخرة بنصف ساعة .
وفي حالة السفر بالطائرة ، فينصح بمضغ قطعة من اللبان ( العلكة ) أثناء الطيران ، حيث يسبب المضغ فتح قناة " استاكيوس " التي تصل بين الأذن والأنف . وهذا ما يسمح بتساوي الضغط الهوائي على جانبي غشاء طبلة الأذن .
مريض القلب في الحج :
ينبغي أن نتذكر دوما أن في الحج مجهود بدني وعقلي شديد ، لذلك ينبغي على الحاج – وخاصة المسنين منهم – التأكد من سلامة قلبه ، فلا بد له من الكشف الطبي العام للتأكد من عدم وجود ارتفاع في ضغط الدم ، أو إصابة بمرض في القلب .
فإذا ما كان المريض مصابا بذبحة صدرية مستقرة ولا يشكو من أية أعراض ، فعليه أن يتجنب الإجهاد الجسدي ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، ويتجنب الانفعالات النفسية ويتناول أدويته بانتظام ، وعليه أن يحمل معه دوما أقراص النيتروغلسرين يضعها تحت اللسان إن حدث لدية ألم صدري . أما إذا لم يستجب الألم الصدري أو تكرر حدوثه ، فعليه مراجعة أقرب مركز صحي .
أما المرضى المصابون بجلطة حديثة في القلب فلا ينصحون بأداء مناسك الحج ، حيث يحتاج المريض إلى فترة لا تقل عادة عن ستة أسابيع قبل العودة إلى الحياة الطبيعية تماما ، شريطة ألا تكون هناك أية آلام ذبحة صدرية بعد جلطة القلب .
ولا يمنع ارتفاع ضغط الدم المسيطر عليه من أداء فريضة الحج بصورة طبيعية ، مع الالتزام بتناول الدواء والتقليل من الملح والدهون والانفعالات النفسية .
وصايا غذائية :
1. يجب البعد عن تناول المأكولات المكشوفة ، وينصح بتناول المعلبات الجاهزة بعد التأكد من تاريخ صلاحيتها .
2. ينصح دوما بالاعتدال في الطعام ، وعدم إملاء المعدة وتحميلها ما لا طاقة لها به ، ويجب تجنب الأطعمة التي تسبب عسر الهضم مثل المواد الدسمة والأطعمة التي تسبب غازات البطن كالملفوف والزهرة ( القرنبيط ) وغيرها .
3. غسل الخضراوات الطازجة جيدا وإضافة الليمون أو الخل إليها ، وغسل الفواكه بشكل جيد .
4. طهي اللحوم جيدا .
5. استخدام الوجبات الجافة ، والفواكه الطازجة ، والمعلبات ذات الصلاحيات السليمة .
6. تناول المياه المعدنية ، أو المياه الجوفية العميقة .
7. ينصح بتناول سوائل تحتوي على نسبة معقولة من الأملاح لتفادي ضربة الشمس .
8. الاعتدال بتناول المياه الغازية .
9. أخذ الملابس الملائمة للجو لاستعمالها بعد انتهاء الإحرام .
10. اصطحاب مظلة شمسية للوقاية من الشمس .
11. تجنب التعرض لأشعة الشمس مباشرة .
12. مراعاة النظافة الشخصية من غسل اليدين قبل الطعام ، واستخدام الصابون غير المعطر .
نسأل الله تعالى أن يكون موسم الحج لا موسم غفران ورحمة للحجاج فحسب ، بل موسم طمأنينة وصحة وسعادة لكل حاج .
==============
آفاق البحث العلمي
في رمضان
الدكتور حسان شمسي باشا
يهل رمضان على المسلمين في شتى بقاع الدنيا كل عام . ويعتقد الباحثون أن ما يربو على 400 مليون مسلم يصوم هذا الشهر العظيم
وليس كل أولئك الصائمين من الأصحاء ، فهناك الملايين من المرضى الذين يتوقون لصيام شهر رمضان ، ويتحرقون لوعة وأسى إن وجدوا أنفسهم غير قادرين على الصيام .(/4)
ولا بد للطبيب الذي يوصي مريضه بعدم الصيام من معرفة أحدث الأبحاث العلمية التي أجريت في هذا المضمار . وللأسف الشديد ، فما زالت الأبحاث العلمية حول رمضان قليلة جدا ، ففي بحث علمي أجري عام 1997 م لرصد كل ما نشر في المجلات الطبية حول تأثير صيام رمضان ، وجد الباحثون أنه لم يكن هناك سوى 282 بحثا نشر في المجلات الطبية . وقد أجريت تلك الدراسات في عدد من البلدان الإسلامية وأمريكا ، وتصدرت المملكة العربية السعودية القائمة بـ 32 بحثا ، ثم الولايات المتحدة وكندا (16 بحثا )، وتونس (15 بحثا )، والمغرب ( 13 بحثا )، و 9 أبحاث من كل من باكستان وماليزيا . وفي شهر ديسمبر 1997 م عقد في استانبول مؤتمر أقامته منظمة الملك الحسن الثاني للأبحاث الطبية في رمضان ، لدراسة تأثير الصيام على الأمراض المختلفة . وقُدِّم في هذا المؤتمر خمسون بحثا . ومع ذلك تظل تلك الأرقام ضئيلة جدا نظرا للأهمية القصوى لذلك الموضوع بالنسبة للملايين من المرضى المسلمين الذين يتوقون لصيام شهر رمضان . وفي حين أظهرت الدراسات عدم تأثر فحوص الدم المختلفة من سكر الدم ، ووظائف الكلى و شوارد الدم ، ووظائف الكبد بالصيام عند الأصحاء ، فقد كان هناك بعض التباين في نتائج تأثير الصيام على دهون الدم . فقد أشارت بعض الدراسات إلى أن الكولسترول والدهون الثلاثية لا تتأثر بالصيام لا زيادة ولا نقصانا ، إلا أن دراسات أخرى أشارت إلى زيادة معدلاتها في رمضان .
ويعزو الباحثون سبب ذلك لا للصيام ، وإنما للإفراط في تناول الطعام وإتخام المعدة بما لذ وطاب عند الإفطار .
ولم تظهر الدراسات العلمية أي تأثير للصيام على هرمونات الدم . كما أكدت الأبحاث انخفاض حدوث الذبحة الصدرية وارتفاع ضغط الدم ، وهبوط معدلات الانتحار في رمضان ، ولم يشاهد أي ازدياد في نسبة حدوث فشل القلب والسكتة الدماغية أو نوبات نقص سكر الدم خلال شهر رمضان .
وأشارت دراسات أخرى إلى أن معظم المرضى اضطر إلى تغيير نمط تناول الدواء ، بحيث يأخذ الأدوية التي تعطى مرة أو مرتين في اليوم ، كما اختلف موعد تناول الدواء عما هو عليه الحال خارج رمضان .
تأثير دواء Lanzoprazole على قرحة الاثني عشري الحادة في رمضان :
أجرى باحثون من تونس دراسة على 57 مريضا مصابا بقرحة حادة في الاثني عشري أعطي المريض دواء Lanzoprazole 30 ملغ يوميا .
واختار 27 مريضا منهم عدم الصيام ، في حين اختار 30 مريضا متابعة صيام رمضان .
و تبين في نهاية رمضان عدم حدوث أية اختلاطات للقرحة الهضمية في المجموعتين ، ولم يكن هناك اختلاف يذكر في معدل شفاء القرحة في المجموعتين .
واستنتج الباحثون أن إعطاء دواء Lanzoprazole للمرضى المصابين بقرحة الاثني عشري ربما يساعد المرضى المصابين بالقرحة والذين يودون متابعة الصيام .
وهذه بالطبع دراسة صغيرة تحتاج إلى مزيد من الدراسات لتأكيدها .
وتظل النصيحة المثلى للمريض المصاب بالقرحة الحادة هي استشارة الطبيب ، فهو أدرى بالحالة ، وهو الذي يستطيع أن يتخذ القرار الحكيم فيما إذا كان المريض يستطيع الصيام أم لا .
مريض السكر في رمضان :
يقدر الباحثون -كما يقول الدكتور " عزيزي " في بحث قدمه في المؤتمر الثاني عن الصحة ورمضان والذي عقد في شهر ديسمبر 1997 - أن هناك 8 ملايين مسلم مصاب بمرض السكر يصوم شهر رمضان كل عام . وهذا يكفي لدفع الأطباء في العالم الإسلامي إلى معرفة تأثيرات الصيام على مرضى السكر في رمضان معرفة عميقة ، ومن ثم يستطيعون توجيه المرضى السكريين إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم .
و لقد أظهر عدد من الدراسات أن مستوى السكر عند مرضى السكر ينخفض بشكل طفيف في الأيام الأولى من رمضان ثم يعود إلى مستواه الأصلي في اليوم العشرين من شهر رمضان ، ثم يرتفع ارتفاعا خفيفا في آخر شهر رمضان
وقد يتأرجح مستوى السكر بشكل طفيف تبعا لعادات المريض الغذائية وآليات استقلاب سكر الدم .
وتشير الدراسات الحالية إلى أنه لم تحدث أية مشاكل هامة عند صيام المرضى السكريين من النوع الثاني ( الذين يتناولون الحبوب الخافضة لسكر الدم ) ، أما المرضى الذين يتناولون الإنسولين فلا ينصحوا عادة بالصيام . أما في الأشكال الخفيفة من مرض السكر المعتمد على الإنسولين فقد يصر بعض المرضى على الصيام ، وربما يمكن إعطاء هؤلاء جرعة واحدة من الإنسولين المتوسط التأثير قبل السحور ، و قد يعطى جرعة أخرى عند الإفطار. ومع ذلك يجب استشارة الطبيب قبل ذلك .
أما في المرضى الذين يتناولون جرعتين من الحبوب الخافضة لسكر الدم فينبغي تناول الجرعة الأولى عند الإفطار وهي الجرعة التي كانت تؤخذ عند الصباح. أما الجرعة الثانية فتؤخذ عند السحور، ويعطى نصف الجرعة التي كان يأخذها في المساء .
تأثير الرياضة على مرضى السكر في رمضان :(/5)
أظهرت دراسة نشرت في شهر ديسمبر 1997 ، وأجريت على 38 مريضا مصابا بالسكري غير المعتمد على الإنسولين ( أي المرضى الذين يعالجون بالحبوب الخافضة لسكر الدم ) . ولقد قسم المرضى إلى مجموعتين ، فأما الأولى – وشملت 18 مريضا – فقد اختارت القيام بتمارين رياضية خفيفة إلى معتدلة يوميا . وأما المجموعة الثانية فاختارت عدم إجراء أي تمرين رياضي في رمضان .
وبعد ثلاثة أسابيع من الصيام ، تبين حدوث انخفاض وضبط أفضل لمستوى السكر عند الذين كانوا يمارسون النشاط الرياضي منه في المجموعة الثانية . وقد انخفض مستوى الدهون الثلاثية بشكل ملحوظ في المجموعة الأولى أيضا .
واستنتج الباحثون أنه لا مانع من ممارسة نوع من الرياضة البدنية الخفيفة في رمضان عند المرضى السكريين الذي يتناولون الحبوب الخافضة لسكر الدم ، ويحتاج الأمر إلى مزيد من الدراسات ، كما أن قدوم رمضان في فصل الصيف قد يعطي نتائج مختلفة .
هل تتأثر هرمونات الجسم بالصيام ؟
وجد الباحثون أن هرمونات الشدة وهي الكورتيزول والبرولاكتين لا تتأثر بالصيام . أي أن الصيام حالة صحية غير مجهدة للجسم .
وفي بحث قدمه الدكتور فريدون عزيزي في مؤتمر استانبول ، استعرض فيه كافة الدراسات التي أجريت على الهرمونات في رمضان ، فتبين أنه لم تحدث أية تبدلات تذكر في هرمونات الغدة الدرقية . ولم تحدث أية تبدلات تذكر في معدلات هرمون الذكورة التوستسترون ، أو الهرمونات الأنثوية LH , FSH أو البرولاكتين .
واستنتج الباحث أن وظائف الغدد ومستوى هرمونات الغدة النخامية أو الغدة الدرقية أو هرمونات الذكورة والأنوثة لم تتغير خلال صيام رمضان .
ارتفاع دهون الدم في رمضان : قصة لم تكتمل :
وجد بعض الباحثين حدوث ارتفاع في معدل دهون الدم في رمضان .
وفي بحث آخر نشر عام 1991 شرح الدكتور صباح محمد باقر أسباب ارتفاع دهون الدم عند الصيام ، ومن هذه الأسباب اقتصار بعض الصائمين على تناول وجبة واحدة ، عالية السعرات الحرارية عند الإفطار ، وكذلك نوعية الطعام المتناول المفرط بالدهنيات والسكريات ، وعدم القيام بأي نشاط يذكر أثناء الصيام ، والخلود إلى الكسل والراحة .
فإذا ارتفعت الدهون قليلا في نهاية رمضان ، فإنما سبب ذلك بعض الممارسات المغلوطة لبعض الصائمين ، حيث يحرص هؤلاء على تناول كميات كبيرة من الطعام أثناء شهر رمضان . وإذا ما أردنا أن نستفيد من صيام رمضان فلا بد لنا من التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم في هديه عند الإفطار وفي تناول الطعام .
هل يزداد حدوث السكتة الدماغية في رمضان ؟
سؤال طرحة باحثون من جامعة استانبول . فقد قام هؤلاء الباحثون بدراسة 5559 حالة سكتة دماغية حدثت خلال الفترة ما بين 1984 – 1994 وأدخلت مستشفى جامعة استانبول . وكان عمر هؤلاء المرضى يتراوح ما بين 17 – 101 سنة . استنتج الباحثون في نهاية بحثهم أن معدل حدوث السكتة الدماغية لم يختلف في رمضان عنه في الأشهر الأخرى ، كما أن نسبة الوفيات من السكتة الدماغية لم تختلف أيضا في شهر رمضان عنها في بقية الشهور . وقد قدم هذا البحث في المؤتمر العالمي الثاني عن الصحة ورمضان ، والذي عقد في استانبول في شهر ديسمبر 1997 .
وأشارت دراسة أخرى من جامعة سليمان ديميريل وأجريت على 1579 مريضا أصيب بالسكتة الدماغية ( ما بين 1991 – 1995 ) إلى نفس النتيجة السابقة ، وهي عدم حدوث أي اختلاف في معدل حدوث السكتة الدماغية في شهر رمضان عنه في بقية أشهر العام .
رمضان .. والذكاء والتركيز :
في جسم الإنسان هرمون يطلق عليه اسم " هرمون مانع خروج الماء " .
ويفرز هذا الهرمون من الدماغ ، ويعمل على امتصاص الماء في الجسم عن طريق الكلية .
ومن العوامل التي تزيد من إفراز هذا الهرمون عدم شرب الماء وكثرة التعرق .. إلخ .
ومن المعلوم أن الصائم في رمضان يمتنع عن شرب الماء من الفجر وحتى الغروب ، ومن المفترض أن مستوى هذا الهرمون يرتفع في فترة الصيام .
وقد وجد الباحثون في بحثين نشرتهما مجلة اللانست البريطانية ، وأجريا على بعض الحيوانات المخبرية أن هذا الهرمون يزيد من سرعة تعلم تلك الحيوانات وينشط ذاكرتها .
ولا يعرف بالضبط علاقة هذا الهرمون بالذاكرة عند الإنسان ، وربما تشير الأبحاث المستقبلية إلى أن الصيام لا يؤدي إلى ضعف ذهني أو قلة في التركيز كما يظن البعض ، بل ربما يحسن من القدرة على التركيز .
ونود أن نؤكد هنا على أن المقصود بالصيام هو الصيام الصحي وليس صيام الذين يسهرون الليل كله وينامون معظم النهار .
وكنا في بريطانيا نصوم – عندما يأتي رمضان في فصل الصيف – حتى التاسعة أو العاشرة مساء ( وقت الغروب ) ، ونعمل في المستشفيات بنشاط ومثابرة ، وما تأثر تركيز أو محاكمة بالصيام .
هل يستطيع مرضى القلب الصيام ؟(/6)
قدم كاتب هذا المقال بحثا في مؤتمر جمعية أمراض القلب في شهر فبراير عام 1998 وقد قام بإجراء هذا البحث في مستشفى الملك فهد للقوات المسلحة بجدة بالمشاركة مع الدكتور فواز الأخرس والدكتور مجد رستم على 86 مريضا مصابا بأمراض القلب المختلفة من مرض شرايين القلب أو فشل القلب أو آفات صمامات القلب . وكان وضع هؤلاء المرضى الصحي مسيطرا عليه بشكل جيد بالأدوية .
وقد استطاع 86 % من هؤلاء صيام كل شهر رمضان ، و 10 % من المرضى اضطروا إلى الإفطار لعدة أيام في رمضان . ومع نهاية شهر رمضان ، شعر 78 % منهم بتحسن في حالتهم الصحية ، في حين شعر 11 % منهم بازدياد الأعراض التي كانوا يشكون منها. وواظب على تناول الدواء 93 % من المرضى بشكل جيد ، وتبين من الدراسة أنه لم تكن هناك تبدلات تذكر في الفحوص الدموية الكيميائية من سكر الدم أو الكولسترول أو شوارد الدم أو حمض البول أو وظائف الكبد .
واستنتج الباحثون أن معظم المرضى المصابين بأمراض القلب والمستقرين من الناحية الصحية يستطيعون صيام شهر رمضان بدون أية مشاكل تذكر ، شريطة تناولهم لأدويتهم بانتظام . ولا بد من الإشارة إلى ضرورة استشارة الطبيب قبل اتخاذ أي قرار في الصيام .
============
فقه الصحة في رمضان
الدكتور حسان شمسي باشا
جعل الله رمضان شهر رحمة ومغفرة وعتق من النار ، وجعله أيضا موسما للعبادة في صلاة وصيام وتهجد وقراءة للقرآن وفوق هذا ذاك يلتزم فيه المسلم بآداب نبوية في طعامه وشرابه ، فلا يصون بدنه فحسب ، بل ينال في كل ركن من أركان هذا النظام الصحي النبوي الأجر والمثوبة من الله .
1.عجل بالإفطار :
فقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعجيل بالإفطار فقال :
" لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " متفق عليه .
ووراء ذلك فوائد طبية وآثار صحية ونفسية هامة للصائمين . فالصائم في أمس الحاجة إلى ما يذهب شعور الظمأ والجوع . والتأخير في الإفطار يزيد انخفاض سكر الدم ويؤدي إلى الشعور بالهبوط العام، وهو تعذيب نفسي تأباه الشريعة السمحاء .
2. افطر على رطبات أو بضع تمرات وماء :
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر ، فإنه بركة ، فإن لم يجد تمرا فالماء ، فإنه طهور " رواه أبو داود والترمذي . وقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأطعمة دون سواها لفوائدها الصحية الجمة ، وليس فقط لتوفرها في بيئته الصحراوية .
فالصائم يكون بحاجة إلى مصدر سكري سريع الهضم ، يدفع عنه الجوع ، مثلما يكون في حاجة إلى الماء . وأسرع المواد الغذائية امتصاصا المواد التي تحتوي على سكريات أحادية أو ثنائية . ولن تجد أفضل مما جاءت به السنة المطهرة ، حينما يفتتح الصائم إفطاره بالرطب والماء .
3. افطر على مرحلتين :
فمن سنن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يعجل فطره ، ويعجل صلاة المغرب ، حيث كان يقدمها على إكمال طعام فطره . وفي ذلك حكمة بالغة فدخول كمية بسيطة من الطعام للمعدة ثم تركها فترة دون إدخال طعام آخر عليها يعد منبها بسيطا للمعدة والأمعاء . ويزيل في الوقت نفسه الشعور بالنهم والشراهة .
4. تجنب الإفراط في الطعام :
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول : " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فاعلا ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه " رواه الترمذي .
وتناول كميات كبيرة من الطعام يؤدي إلى انتفاخ المعدة ، وحدوث تلبك معدي ومعوي ، وعسر في الهضم ، يتظاهر بحس الانتفاخ والألم تحت الضلوع ، وغازات في البطن ، وتراخ في الحركة .هذا إضافة إلى الشعور بالخمول والكسل والنعاس ، حيث يتجه قسم كبير من الدم إلى الجهاز الهضمي لإتمام عملية الهضم ، على حساب كمية الدم الواردة إلى أعضاء حيوية في الجسم وأهمها المخ.
4. تجنب النوم بعد الإفطار :
فالإفراط في الطعام كما ذكرنا يبعث على الكسل والخمول ويدفع الصائم إلى النوم بعد الإفطار ، مما يحرم المريض من صلاة العشاء والتروايح .
5. لا تدخن في رمضان وفي غير رمضان :
فالتدخين مصيبة تصيب المدخنين ، وقد أفتى كثير من العلماء بتحريم التدخين ، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول : " لا ضرر ولا ضرار " . رواه أحمد .
وفي رمضان فرصة للتوقف عن التدخين والإقلاع عنه إلى غير رجعة .
6. تسحروا فإن في السحور بركة :
فقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحور في حديثه المشهور : " تسحروا فإن في السحور بركة " . متفق عليه .
ولا شك أن وجبة السحور - وإن قلت - مفيدة في منع حدوث الصداع أو الإعياء أثناء النهار ، كما تمنع الشعور بالعطش الشديد .
وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على تأخير السحور " ما تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور " رواه البخاري ومسلم .
وينصح أن تحتوي وجبة السحور على أطعمة سهلة الهضم كاللبن الزبادي والخبز والعسل والفواكه وغيرها .(/7)
وفي الحديث الشريف : إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " متفق عليه .
7. حافظ على السواك في رمضان :
فقد روى البخاري في صحيحه عن عامر بن ربيعة قال : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستاك ، وهو صائم ما لا أحصي ولا أعد " .
وفي السواك فوائد عديدة لسلامة اللثة والأسنان ، وقد أثبت العلم الحديث أن هناك ثمان مواد كيميائية في السواك ، تعمل في تبييض الأسنان وتقوية اللثة ومحاربة الجراثيم والحفاظ على رائحة زكية في الفم .
8. الزم صلاة التراويح :
فمن فوائد الصلاة الصحية أنها مجهود بدني بسيط منتظم الإيقاع ، وبخاصة حركات الركوع والسجود . فإن المصلي يضغط على المعدة والأمعاء ، فيحدث تنشيط لحركاتهما ، وتسريع لعملية الهضم ، فينام المسلم بعدها بعيدا عن الإحساس بالتخمة وعسر الهضم . وفي وضوء المسلم وصلاته في جو رمضان شعور خاص براحة القلب ، وسكينة النفس ، والبعد عن القلق والتوتر العصبي . وفي ذلك شفاء للأمراض الباطنية الناجمة عن أسباب نفسية .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للصائم فرحتان : فرحة حين يفطر ، وفرحة حين يلقى ربه " رواه الترمذي .
9. انجز عملك بإتقان :
فالبعض يشعر بالكسل والتواني أثناء النهار بحجة الصيام . والحقيقة أن الصائم يستطيع بقليل من الصبر إنجاز عمله في رمضان على أحسن وجه .
ومما يروى في تراثنا الأدبي أن أحد الحدادين كان يعمل في ظهيرة يوم حار من أيام شهر رمضان ، وكان جبينه يتصبب عرقا فقيل له : كيف تتمكن من الصوم والحر شديد ، والعمل مضني ؟
فأجاب : من يدرك قدر من يسأله ، يهون عليه ما يبذله .
10. اسأل الله العافية :
فالصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى . ومهما قاسى الصائم من الجوع والعطش أو الصداع ، فإن أجر ذلك عند الله غير محدود ، وتذكر يا أخي أن هناك مرضى يتحسرون على أيام رمضان تمر عليهم وهم لا يستطيعون صومها بسبب العجز أو المرض .
وما أجمل الموقف الذي وقفه ذلك الأعرابي أمام الحجاج في تلك القصة الرائعة . فقد خرج الحجاج ذات يوم قائظ فأحضر له الغذاء فقال : اطلبوا من يتغذى معنا ، فطلبوا فلم يجدوا إلا أعرابيا ، فأتوا به فدار بين الحجاج والأعرابي هذا الحوار .
الحجاج : هلم أيها الأعرابي لنتناول طعام الغذاء .
الأعرابي : قد دعاني من هو أكرم منك فأجبته .
الحجاج : من هو ؟
الأعرابي : الله تبارك وتعالى دعاني إلى الصيام فأنا صائم .
الحجاج : أصوم في مثل هذا اليوم على حره .
الأعرابي : صمت ليوم أشد منه حرا .
الحجاج : أفطر اليوم وصم غدا .
الأعرابي : أو يضمن الأمير أن أعيش إلى الغد .
الحجاج : ليس ذلك إلي ، فعلم ذلك عند الله .
الأعرابي : فكيف تسألني عاجلا بآجل ليس إليه من سبيل .
الحجاج : إنه طعام طيب .
الأعرابي : والله ما طيبه خبازك وطباخك ولكن طيبته العافية .
الحجاج : بالله ما رأيت مثل هذا . جزاك الله خيرا أيها الأعرابي .
وأمر له بجائزة .
=============
السواك .. و الصيام
الدكتور حسان شمسي باشا
في الوقت الذي كان المسلمون يستعملون السواك في تنظيف الأسنان اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، كان الغربيون – كما يقول الأستاذ الدكتور شوكت الشطي – أقل تذوقا للنظافة من الشعوب المتوحشة . فقد كانوا يتمضمضون بالبول لوقاية أسنانهم كما كان شائعا عند نبيلات الرومان . وكانوا يفضلون البول الآتي من أسبانيا !، فإذا لم يتيسر استعاضوا عنه ببول الثيران !!. وقد كان ذلك شائعا حتى القرن السادس عشر .
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح رواه أحمد والنسائي وابن ماجة :
" السواك مطهرة للفم مرضاة للرب "
وفي مسند الإمام أحمد عن التميمي قال : سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن السواك ، فقال : مازال النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا به حتى خشينا أن ينزل عليه فيه وحي" .
والسواك – لغة – يطلق على الفعل وعلى العود الذي يستاك به ، وفي الشرع استعمال عود أو نحوه في الأسنان وما حولها ليذهب الصفرة وغيرها عنها .
واتفق العلماء على أنه سنة لحث الشارع ومواظبته عليه وترغيبه فيه .
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء " رواه الشيخان وفي صحيح مسلم عن شريح بن هانئ قال : سألت عائشة قلت : بأي شيء كان يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته ؟ قالت : بالسواك "
و تعالوا نرى كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي ليله :
يقول ابن عباس في حديث صحيح أخرجه أبو داود : بت ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما استيقظ من منامه أتى طهوره ، فأخذ سواكه فاستاك ثم توضأ ، فأتى مصلاه ، فركع ركعتين ثم رجع إلى فراشه فنام ما شاء الله ثم استيقظ ففعل مثل ذلك ، ثم رجع إلى فراشه فنام ثم استيقظ ففعل مثل ذلك ، كل ذلك يستاك ويصلى ركعتين ، ثم أوتر " .(/8)
ويقال أنه في موقعة الفسطاط التي أدت إلى فتح مصر ، رأى الكفار المسلمين وهم يستاكون ، فظنوا أن المسلمين يشحذون أسنانهم لأكلهم ، ولكن الحقيقة أن المسلمين كانوا يستاكون لينالوا مرضاة ربهم ، ويهبهم النصر .
وإن أحسن أنواع المساويك تلك التي تتخذ من شجر الأراك . فقد كان سواك رسول الله صلى الله عليه وسلم من شجرة الأراك . وتنمو هذه الشجرة في المملكة العربية السعودية وفي طور سيناء والسودان وباكستان وإيران وغيرها .
ويروي عبد القاضي الخولاني في تاريخ داريا عن أنس رضي الله عنه قال :
" عليكم بالسواك فنعم الشيء السواك ، يذهب بالحفر ، ينزع البلغم ، ويجلو البصر ، ويشد اللثة ، ويذهب بالبخر ، ويصلح المعدة ، ويزيد في درجات الجنة ، وتحمده الملائكة ، ويرضي الرب ، ويسخط الشيطان " .
قال القشيري : " عليكم بالسواك فإن في السواك أربعا وعشرين خصلة أفضلها أنه يرضي الرحمن ، يطيب النكهة ، ويشد اللثة ، ويسكن الصداع ، ويذهب وجع الضرس وتصاحبه الملائكة " .
ويعدد أحد الشعراء فوائد السواك ، فيقول :
إن السواك يستحب لسنة ولأنه مما يطيب له الفم
لم تخش من حفر إذا أدمنته وبه يسال من اللهاة البلغم
وقد ذكر الشاعر من فوائد السواك أربعا : فهو سنة ثابتة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وهو يطيب نكهة الفم ، ويحسن صحته ، ويقي من داء الحفر ( وهو التهاب ما حول السن ) وينزع البلغم
السواك في رمضان :
و كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك مرارا في نهار رمضان ، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عامر بن ربيعة قال : "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يستاك وهو صائم"
ويرى الشافعية والحنابلة أن السواك بعد الزوال غير مستحب ، بل قال بعضهم بكراهته لأنه يزيل خلوف الصائم الذي هو أطيب عند الله من ريح المسك .
وهذا القول بالكراهة هو المشهور من مذهب الشافعية . وقد رد كثير من العلماء على القائلين بالكراهة ، وأن السواك مندوب للصائم في أول النهار وآخره .
قال أبو بكر بن العربي : قال علماؤنا : السواك لا يزيل الخلوف والسواك مطهرة للفم ، فلا يكره للصائم كالمضمضة ، وإنما مدح النبي صلى الله عليه وسلم الخلوف نهيا للناس عن تقذر مكالمة الصائمين بسبب الخلوف لا نهيا للصوام عن السواك " .
وقد أوضح ذلك ابن القيم في كتابه " الطب النبوي " فقال :
( ويستحب السواك كل وقت ، ويتأكد : عند الصلاة ، والوضوء ، والانتباه من النوم ، وتغير رائحة الفم . ويستحب للمفطر والصائم في كل وقت لعموم الأحاديث الواردة فيه ، ولحاجة الصائم إليه ، ولأنه مرضاة للرب ، ومرضاته مطلوبة في الصوم أشد من طلبها في الفطر ، ولأنه مطهرة للفم ، والطهور للصائم من أفضل أعماله .
وأجمع الناس على أن الصائم يتمضمض وجوبا ، واستحبابا ، والمضمضة أبلغ من السواك. وليس لله غرض في التقرب إليه بالرائحة الكريهة ، ولا هي من جنس ما شرع التعبد به . وإنما ذكر " طيب الخلوف عند الله يوم القيامة " حثا على الصوم لا حثا على إبقاء الراحة. بل الصائم أحوج إلى السواك من المفطر .
( وأيضا ) : فإن رضوان الله أكبر من استطابته لخلوف فم الصائم .
( وأيضا ) : فإن محبته للسواك أعظم من محبته لبقاء خلوف فم الصائم .
( وأيضا ) : فإن السواك لا يمنع طيب الخلوف – الذي يزيله – عند الله يوم القيامة ، بل يأتي الصائم يوم القيامة وخلوف فمه أطيب من المسك ، علامة على صيامه ولو أزاله بالسواك . كما أن الجريح يأتي يوم القيامة ولون دم جرحه لون الدم ، وريحه ريح المسك. وهو مأمور بإزالته في الدنيا .
( وأيضا ) : فإن الخلوف لا يزول بالسواك . فإن سببه قائم ، وهو خلو المعدة عن الطعام. وإنما يزول أثره ، وهو المنعقد على الأسنان واللثة .
( وأيضا ) : فإن النبي صلى الله عليه وسلم علم أمته ما يستحب لهم في الصيام وما يكره لهم . ولم يجعل السواك من القسم المكروه ، وهو يعلم أنهم يفعلونه ، وقد حضهم عليه بأبلغ ألفاظ العموم والشمول ، وهم يشاهدونه يستاك وهو صائم مرارا كثيرة تفوت الإحصاء ، ويعلم أنهم يقتدون به . ولم يقل لهم يوما من الدهر : لا تستاكوا بعد الزوال . وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع . والله أعلم ) اهـ
والخلاصة أن جمهور العلماء يقول باستحباب السواك للصائم أول النهار و آخره، و أن المشهور من قول الشافعية و الحنابلة عدم استحبابه بعد الزوال حتى لا تتغير الرائحة التي هي أطيب عند الله من ريح المسك.
السواك في الطب الحديث :(/9)
أكد الطب الحديث فوائد السواك ، فقد جاء في بحث للدكتور طارق الخوري والمنشور في مجلة طب الأسنان الوقائي الإكلينكي Clinical Preventive Dentistry عام 1983 : أن أغصان الأراك تحتوي على : مادة الكلور والتي تفيد في إزالة الصبغة والتلوين على الأسنان ، ومادة السيلكا وهي مادة تبيض الأسنان، ومادة صمغية Resins وتعمل على تغطية المينا وحمايته من التسوس . ومادة ثلاثي المثيل أمين وتعمل على التئام جروح اللثة ، ومواد قلوية تعمل على منع التسوس .
وقد استعرض الأستاذ الدكتور محمد علي البار في كتابه القيم (( السواك )) آخر الأبحاث العلمية التي نشرت حول موضوع السواك . ومنها بحث للدكتور عبد الرحيم محمد ( من الرياض ) والدكتور جيمس ترند ( من الولايات المتحدة ) أكدا وجود مواد قاتلة للجراثيم ومواد مضادة للالتهاب
ومضادة للتسوس في أعواد الأراك .و يقول مدير علم الجراثيم في جامعة روستوك الألمانية :
" إن هناك حكما كثيرة ، في استخدام العرب للمسواك بعد بله بالماء لأن استعماله جافا لا ينجح لما يحويه من مادة مضادة للجراثيم ، و لو استعمل جافا فهناك اللعاب الذي يمكنه حل هذه المادة الموجودة فيه .
أما الحكمة الأخرى فهي في تغيير المسواك من حين لآخر ( أي قطع الجزء المستخدم ، واستبداله بجزء آخر ) لأنه يفقده مادته الهامة المقاومة للجراثيم بطول مدة الاستخدام ) .
وقال الدكتور كينت كيوديل أمام المؤتمر الثاني والخمسين للجمعية الدولية لأبحاث الأسنان في أتلانتا الأمريكية : " أنه لوحظ أن الذين يستعملون السواك يتمتعون بأسنان سليمة ، وأن بعض الشركات في بريطانيا والهند تصنع معاجين أسنان تدخل بها مواد مأخوذة من السواك " .
ووجدت جامعة مينوسوتا الأمريكية في أبحاثها أن المسلمين الزنوج الذين يستعملون المسواك سليمي الأسنان واللثة إذا ما قورنوا بمن يستعملون الفرشاة .
وقد أكدت الأبحاث التي أجريت في جامعة الرياض أن بالمسواك مادة السنجرين ، وهي مادة مطهرة وقابضة توقف النزف . وبالمسواك صموغ ونشا وأملاح تجعل للعاب قواما لزجا يساعد على التنظيف .
وقد قام الدكتور عبد الرحيم محمد الأستاذ في كلية طب الأسنان بجامعة الرياض ببحث وجد فيه أنه إذا استخدم رأس السواك لمدة تجاوزت اليوم ، دون تغيير هذا الجزء ، فإن بعض المواد يمكن أن تؤثر على الأنسجة المحيطة بالأسنان ، لذلك يوصى المتسوكون باستخدام السواك لمدة 24 ساعة ، وبعد ذلك يقطع الجزء المستخدم ، ويستخدم جزء جديد .
ما يقوله الطب الحديث في طريقة استخدام السواك :
يجب أن يكون تسويك الأسنان العليا للفك العلوي على حدة ، وكذلك أسنان الفك السفلي ، وأن تكون حركة التنظيف من أعلى إلى أسفل للفك العلوي ومن أسفل إلى أعلى للفك السفلي مارا باللثة لتنشيط الدورة الدموية فيها . وقد أثبتت تجارب الباحثين بأن تكون حركة تنظيف الأسنان موازية لمحور السن الطولي ، أما إن كانت غير ذلك ، كأن تكون أفقية ( أي بالعرض ) لمحور الأسنان الطولي فإنها تسبب أضرارا جسيمة و تآكلا لأنسجة الأسنان وتعرية لجذور الأسنان .
القلح:
و هو أحد المظاهر الرئيسية لعدم تنظيف الأسنان ، فهو عبارة عن رواسب عضوية وغير عضوية وفضلات الأكل والبكتيريا .. وبمرور الزمن تتصلب ، وخاصة إذا أهمل الشخص تنظيف أسنانه .
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( مالي أراكم قلحا ؟ استاكوا )) رواه أحمد .
وقال الأعشى يذم قوما :
قد بنى اللؤم عليهم بيته وفشا فيهم من اللؤم القلح
فمك عنوان شخصيتك :
لا شك أن رائحة الفم تعطي انطباعا خاصا عن نظافة الشخص وعنايته بفمه ، وقد يتجنب الناس من كانت رائحة فمه كريهة ويهربون منه إذا تحدث ، أو يديرون رؤوسهم عنه . وقد يكون لذلك أثر سلبي على العلاقات الزوجية ، مما قد ينذر بانهيارها أو على الأقل اضطرابها .
(( والبخر - كما جاء في لسان العرب - : الرائحة المتغيرة من الفم . وبخر بخرا وهو أبخر )) . وقيل : إن عبد الملك ابن مروان كان أبخر ، فعض يوما على تفاحة ورمى بها إلى زوجته ، فدعت بسكين ، فقال : ما تصنعين بها ؟
قالت : أميط الأذى عنها ، فشق عليه ذلك منها فطلقها .
وحكي أن أبخر تزوج بامرأة ، فلما ضاجعها عافته وتولت عنه بوجهها وأنشدت تقول :
يا حب والرحمن إن فاكا أهلكني فولني قفاكا
إذا غدوت فاتخد مسواكا من عرفط إن لم تجد أراكا
ماهي أسباب رائحة الفم ؟
فقد جاء في موسوعة ( Family Health ) : أنه نادرا ما تكون رائحة الفم الكريهة عرضا لمرض ما . فهي غالبا ما تنجم عن التدخين أو شرب الخمر ، أو أكل الثوم والبصل ، أو إهمال نظافة الفم والأسنان . أما الإمساك وعسر الهضم فلا يسببان عادة رائحة كريهة من الفم .
وتقسم أسباب رائحة الفم الكريهة إلى قسمين :(/10)
الأول : وهي الأسباب الناشئة عن الفم : وأهمها جفاف الفم وهو سبب رئيسي لانبعاث رائحة سيئة من الفم . وقد يحدث جفاف الفم أثناء النوم ، حيث تتحلل بقايا الطعام بفعل البكتيريا ، فتنتج رائحة غير مستحبة عند الاستيقاظ من النوم . كما يلاحظ ذلك عند الذين يتنفسون عن طريق الفم بسبب الإصابة بالزكام .
والجوع سبب آخر من أسباب رائحة الفم الكريهة .. ولكن ريح فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك )) رواه البخاري .
كما أن التدخين يؤدي إلى انبعاث رائحة سيئة من الفم . وبعض الأطعمة كالثوم والبصل تجعل الجسم يتخلص من هذه المواد في صورة مواد طيارة فتخرج مع النفس رائحة غير مستحبة .. ولا غرابة أن ينهى رسول الإنسانية صلى الله عليه وسلم أكل الثوم والبصل عن إيذاء المصلين بالرائحة فقال : (( من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم )) رواه مسلم .
ولا شك أن إهمال العناية بنظافة الفم هو السبب الرئيسي لسوء رائحة الفم ، كما أن قروح الفم وأمراض اللثة ونخر الأسنان قد تسبب رائحة كريهة في الفم .
وأما المجموعة الثانية من الأسباب - وهي غير شائعة - فتشمل : التهابات الجيوب الأنفية ، والتهاب اللوزتين ، وتقيحات الرئة ، وأمراض الكبد والكلى .
ويصف صفي الدين الحلي شخصا يدعى " أبا علي " له رائحة كريهة في الفم فيقول :
لو أن لريح نكهته هبوب لأوشكت الجبال لها تذوب
إذا ما عاب ضرس أبي علي فليس يطيق يقلعه الطبيب
* * *
أسرار الإفطار على تمر
الدكتور حسان شمسي باشا
التمر فاكهة مباركة أوصانا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبدأ بها فطورنا في رمضان. فعن سلمان بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر ، فإنه بركة ، فإن لم يجد تمرا فالماء ، فإنه طهور " رواه أبو داود والترمذي .
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر قبل أن يصلي على رطبات ، فإن لم تكن رطبات فتميرات ، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من الماء " رواه أبو داود والترمذي .
ولا شك أن وراء هذه السنة النبوية المطهرة إرشاد طبي وفوائد صحية ، وحكما نظيمة . فقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأطعمة دون سواها لفوائدها الصحية الجمة ، وليس فقط لتوافرها في بيئته الصحراوية .
فعندما يبدأ الصائم في تناول إفطاره تتنبه الأجهزة ، ويبدأ الجهاز الهضمي في عمله ، وخصوصا المعدة التي تريد التلطف بها ، ومحاولة إيقاظها باللين . والصائم في تلك الحال بحاجة إلى مصدر سكري سريع ، يدفع عنه الجوع ، مثلما يكون في حاجة إلى الماء .
وأسرع المواد الغذائية التي يمكن امتصاصها ووصولها إلى الدم هي المواد السكرية ، وخاصة تلك التي تحتوي على السكريات الأحادية أو الثنائية ( الجلوكوز أو السكروز ) لأن الجسم يستطيع امتصاصها بسهولة وسرعة خلال دقائق معدودة . ولا سيما إذا كانت المعدة والأمعاء خالية كما هي عليه الحال في الصائم .
ولو بحثت عن أفضل ما يحقق هذين الهدفين معا ( القضاء على الكوع والعطش ) فلن تجد أفضل من السنة المظهر ، حينما تحث الصائمين على أن يفتتحوا إفطارهم بمادة سكرية حلوى غنية بالماء مثل الرطب ، أو منقوع التمر في الماء .
وقد أظهرت التحاليل الكيميائية والبيولوجية أن الجزء المأكول من التمر يساوي 85 - 87 % من وزنه . وأنه يحتوي على 20 - 24 % ماء ، 70 - 75 % سكريات ، 2 - 3 % بروتين ، 8,5 % ألياف ، وأثر زهيد جدا من المواد الدهنية .
كما أثبتت التحاليل أيضا أن الرطب يحتوي على 65 - 70 % ماء ، وذلك من وزنه الصافي ،
24 - 58 % مواد سكرية ، 2,1 - 2 % بروتين ، 5,2 % ألياف ، وأثر زهيد من المواد الدهنية .
وكان من أهم نتائج التجارب الكيميائية والفسيولوجية - كما يذكر الدكتور أحمد عبد الرؤوف هشام ، والدكتور علي أحمد الشحات - النتائج التالية :
1.إن تناول الرطب أو التمر عند بدء الإفطار يزود الجسم بنسبة كبيرة من المواد السكرية فتزول أعراض نقص السكر ويتنشط الجسم
2.إن خلو المعدة والأمعاء من الطعام يجعلهما قادرين على امتصاص هذه المواد السكرية البسيطة بسرعة كبيرة .
3.إن احتواء التمر والرطب على المواد السكرية في صورة كيميائية بسيطة يجعل عملية هضمها سهلا جدا ، فإن ثلثي المادة السكرية الموجودة في التمر تكون على صورة كيميائية بسيطة ، وهكذا يرتفع مستوى سكر الدم في وقت وجيز .
4.إن وجود التمر منقوعا بالماء ، واحتواء الرطب على نسبة مرتفعة من الماء ( 65 - 70 % ) يزود الجسم بنسبة لا بأس بها من الماء ، فلا يحتاج لشرب كمية كبيرة من الماء عند الإفطار .
=============
من أسرار عالم النحل
الدكتور حسان شمسي باشا
يقول العالم فترلنك في كتابه ( حياة النحلة ) :(/11)
" لو أن أحدا من عالم آخر هبط إلى الأرض وسأل عن أكمل ما أبدعه منطق الحياة ، لما وسعنا إلا أن نعرض عليه مشط الشمع المتواضع الذي يبنيه النحل " .
ويقول كريس موريسون - رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك - بعد أن يستعرض وظائف الملكة والعاملات في خلية النحل " لا بد أن يكون هناك خالقا أرشدها إلى كل تلك الأعمال العظيمة التي تقوم بها بإتقان بديع " .
وفي حياة النحل أسرار عجيبة اكتشف الإنسان في العصر الحديث بعضا منها ، ومازال هناك الكثير من تلك الأسرار التي أودعها الله في ذلك الكائن الحي الذي أوحي إليه .
قال تعالى :
" وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون " ( سورة النحل : آية 68 - 69 )
ورأيت في رحلة البحث في موضوع النحل والعسل لفتات تجعل المرء يسرح في عالم آخر فيه ملكة وعاملات .. وفيه نظام وانضباط .. وفيه تناغم واتساق .. وكلها مظاهر من عظمة الخالق المبدع الذي جعل من أمة النحل مثالا يحتذى به في التعاون والنظام . الكل يعمل حسب سنه ودوره . المهندسات والبناءات يشيدن قرص النحل . والعاملات يقمن برحلات للكشف عن أماكن الرحيق . والكيميائيات يتأكدن من نضوج العسل وحفظه .
والخادمات يحافظن على نظافة الشوارع والأماكن العامة في الخلية . والحارسات على باب الخلية يراقبن من دخل إليها ومن خرج .. يطردن الدخلاء أو من أراد العبث بأمن الخلية . فمن علم هؤلاء كل هذا ؟ ومن أوحى لهن هذه الأدوار ؟
إنه رب العالمين الذي يقول :
" وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم " ( الأنعام : آية 38 )
هل الملكة تحكم خلية النحل ؟
يقول كتاب Nature : " رغم أن الملكة هي أهم فرد في مجتمع النحل ، إلا أنها لا تحكم خلية النحل على الإطلاق ، غير أنها تنتج هرمونات تحدد مختلف نواحي سلوك النحل . فكيف تتحكم هرمونات الملكة بسلوك الآخرين ؟
إن العاملات وهن يقمن بتنظيف جسد الملكة يحملن هذه الهرمونات ويوزعنها بسرعة على باقي أفراد الخلية من النحل . ويتم ذلك خلال تبادل الطعام فما لفم .
أما عمل الملكة الحقيقي فهو إنتاج البويضات ، فالملكة هي الأنثى الوحيدة المكتملة جنسيا، أما العاملات فلم تكتمل الأعضاء الجنسية لديهن . ولا تقوم الملكة برعاية أبنائها ، ولكنها تعتمد على العاملات اللاتي يحضن صغار النحل ويطعمهن الطعام .
إذن من يحكم خلية النحل ؟ إنهن العاملات أنفسهن . فهن اللواتي يقررن متى وأين يجمعن رحيق الأزهار . وهن اللاتي يقررن متي تستبدل ملكتهن ، وهن اللاتي يحددن متى يهاجرن في حشد كبير لتشكيل خلية جديدة ، فلا خلاف بين العاملات ولا صراع .
¨ هل ذكور النحل كسالى ؟
كانت نظرة الإنسان إلى ذكور النحل نظرة خاطئة . فكان يظن أن هؤلاء الذكور كسالى لا يحبون العمل . فوظيفة ذكر النحل في حياته كلها هو تلقيح الملكة . ولكن هل هو خامل بليد لا يحب العمل ؟
تشير الأدلة العلمية الحديثة إلى غير ذلك ، فما هو بخامل عن العمل .. إنما خلقه الله غير قادر على القيام بما تقوم به العاملات . فليس في أرجله سلل يستطيع جمع رحيق الأزهار فيها . ولسانه قصير لا يقوى معه على امتصاص رحيق الأزهار . فهو في الحقيقة عاجز حتى عن تغذية نفسه ، بل إنه يستجدي الطعام من زميلاته العاملات !!
فالكسل ليس من طباعه ، ولكنه لا يقوى على القيام بما تستطيع العاملات فعله . ولكن الله تعالى أناط به عملا هاما متى أداه مات وذهب إلى عالم الفناء .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له " ( رواه البخاري )
ولا يستطيع سوى عدد قليل من مئات الذكور إنجاز مهمتهم في الحياة ، ألا وهي تلقيح الملكة ، وتتسبب عملية التزاوج هذه في موت الذكر الذي يؤدي إلى تلك المهمة .
والحقيقة أنه لو لم يكن هناك ذكور لما أمكن حدوث الإخصاب ، ولأدى ذلك إلى موت الخلية .
¨ ماذا يعني موت الملكة ؟
عندما تموت الملكة تبدأ شغالات الشمع بناء عدد من الخلايا الملكية وهي ذات شكل مميز شبيه بإصبع القفاز . وتقوم الشغالات بتربية عدة يرقات ملكية في آن واحد بتلقيمها الغذاء الملكي .. وما أن يتم فقس أول بيضة عن ملكة ، حتى تبدأ حملة قتل جماعية تستهدف جميع العذاري الملكات التي لم تنته من تطورها بعد . فالتشريعات في مملكة النحل تقضي بأن لا يبقي في المملكة الواحدة سوى ملكة واحدة فقط .
مشاهد من الزفاف الملكي :
وأول ما تقوم به الملكة الجديدة ضمن استعدادها لرحلة الزفاف ، وهو قتل منافساتها من الملكات . وإذا تصادف أن خرجت ملكتان في آن واحد ، فإنه يحدث بينهما نزال ينتهي بموت إحداهما .(/12)
وبعد أسبوع من الاستعداد والتجهيز ، تبدأ مراسم الزفاف الملكي . فتغادر الملكة الخلية وتحلق فوقها من جهات عديدة ، كي لا تخطئ طريق الرجوع بعد الانتهاء من عملية التلقيح . ثم تقوم ببث عطرها الملكي الجذاب المثير ، وترسل أنغامها الرنانة المغرية .
ويبدأ الطيران ، وتلحق بها الذكور بعزيمة ونشاط . وكلما أوشك أحدهم على اللحاق بها، زادت سرعتها وارتفعت في الفضاء .
ويتساقط بعض الذكور واحدا تلو الآخر حين يعجزون عن اللحاق بها . ولا يبقى معها إلا قلة من الذكور . وهنا تنطلق بأقصى سرعة تستطيعها ، وترتفع لأعلى مسافة يمكنها بلوغها . ويظفر بها أقواها بنية ، وأجلدها على تحمل المشاق . ويتم تلقيحها وتنتهي مراسم الزفاف الملكي بعد 15 - 35 دقيقة من بدئها .
وتعود الملكة العروس جارة خلفها تركة عريسها الفقيد ، الدالة على نجاح الزفاف . إذ ينفصل عضو التذكير ، ومعه جزء من أحشاء الذكر المسكين فور الانتهاء من التلقيح . وينزف ذكر النحل المسكين حتى الموت . بينما تبادر الوصيفات إلى تنظيف الملكة مما علق بها ، وتعم الفرحة أرجاء المملكة ، وتبدأ العاملات بتجهيز عيون شمعية جديدة استعدادا لوضع البويضات فيها . ويقدر العلماء أن الملكة تضع حوالي 200 - 250 ألف بويضة في الموسم الواحد ، وتترك وراءها قرابة مليون بويضة قبل أن تخطفها يد المنون .
¨ ما الحكمة من هذه الرحلة الخطرة التي تقوم بها الملكة ؟ ولماذا يستلزم الزفاف وجود مائتي ذكر ؟
والحقيقة أن أحد الذكور المائتين سيكون أبا لجميع نحل الخلية التي ستظهر خلال سنوات أربع أو خمس قادمة . فلو كان الذكر ضعيفا أو ذا صفات وراثية غير جيدة ، لأدى ذلك لانقراض المملكة خلال شهورها الأولى .
وقد يتساءل البعض : ألا يمكن حصول التلقيح دون موت الذكر البطل ؟
والواقع أن ترك عضو التذكير وبعض أحشائه دليل على حدوث التلقيح ، فإن خرجت الملكة إلى رحلة الزفاف ، ولم تجد الوصيفات هذه الأمارة الواضحة تيقنت من فشل المهمة، وبادرت بالتجهيز لزفاف ملكي جديد .
" صنع الله الذي أتقن كل شيء " ( النمل : آية 88 )
• ما هي وظائف الشغالات ؟
تتباين المهام التي تنجزها النحلة الشغالة منذ ولادتها وحتى موتها . فكلما زاد عمرها وشاخت ، حدث فيها تحولات فزيولوجية دقيقة تتوافق مع العمل الذي يتوجب عليها أداؤه . فبينما تكرس الشغالة النصف الثاني من حياتها لجمع الرحيق وحبوب الطلع ، تعمل الشغالة في الأسابيع الثلاثة الأولى من حياتها ضمن الخلية .
فخلال اليومين الأول والثاني التاليين لخروج النحلة الكاملة ، تقوم الشغالة الفتية بتنظيف خلايا الحضنة بدقة متناهية ، فتخصص كليا للقيام بأعمال النظافة .
وبحلول اليوم الثالث ، تبدأ الشغالة مهمة جديدة هي تغذية الحضنة ، فعندها يحدث تطور ملحوظ في الغدد المغذية التي تفرز الغذاء الملكي الذي يستعمل في تغذية جميع اليرقات الفتية واليرقات الملكية .
وعندما يحل اليوم العاشر ، تتدهور غددها المغذية وتضمر في الوقت الذي تصبح فيه الغدد الشمعية على أتم الاستعداد لأداء وظيفتها .
وبدءا من اليوم الحادي عشر ، تتجه الشغالات نحو مهنة جديدة ، هي مهنة البناء ، فتصنع الشمع وتبني الإطارات وتسد النخاريب التي تخزن العسل .
وهناك وظائف أخرى للشغالات . فمنها مختص بالحراسة تراقب فتحة الخلية وتمنع كل دخيل . ومنها من تقوم بتوفير التهوية ، وتحافظ على درجة حرارة قريبة من 35ْ م خلال الصيف .
وعندما يحل اليوم الحادي والعشرون تكون النحلة الشغالة قد أنجزت جميع المهمات التي أوكلت إليها في الخلية . وعند ذلك تصبح على استعداد لإنجاز أعمال أخرى خارج الخلية حيث تقوم بعمليات جمع الرحيق وغبار الطلع .
عيون النحل :
وللنحل نوعان من العيون :
1. العيون المركبة : وهما اثنتان تقعان على جانبي رأس النحلة ، وتتألف من بضعة آلاف من الوحدات البصرية . وهي سداسية الأضلاع ، وتستخدم العيون المركبة في الرؤية لمسافات بعيدة عندما تكون النحلة خارج الخلية . ولها القدرة على تمييز ذات الألوان التي تميزها عين الإنسان باستثناء اللون الأحمر . إضافة إلى كونها حساسة للأشعة فوق البنفسجية . وتضم العين المركبة في الذكر ضعف عدد الوحدات البصرية التي تؤلف عين الشغالة . ولذلك يلاحظ أن عيني الذكر ضخمتان جدا ، وهذا ما يتيح للذكر إمكانية متابعة الملكة خلال رحلة طيران الزفاف الملكي .
2. العيون البسيطة : وعددها ثلاث تحتل أعلى الرأس ، وتستخدمها النحلة في الرؤية القريبة والإضاءة الخافتة داخل الخلية . فليس لدى النحل نظارات كما يستخدمها الإنسان للبعيد والقريب ، ولكن الله خلق فيها نوعين من العيون التي تستخدمها حسب الحاجة .
" هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه " ( لقمان : آية 11 )
• ماذا تعني النحل وهي ترقص ؟(/13)
ترقص العاملات فوق خلية النحل لتختبر زميلاتها بمكان الأزهار . فالزاوية بين مركز الشكل الذي تتخذه في دوراتها فوق الخلية وبين الخط العمودي هي نفسها الزاوية التي تقع بين الشمس وبين المكان الذي توجد فيه الأزهار ، وتعلم العاملات من هذه الزاوية الطريق الذي يجب أن تتجه به لتصل إلى مكان الطعام .
فإذا كان الطعام على مسافة 300 قدم من خلية النحل أو أقل ، فإن النحلة تقوم برقص دائري . أما إذا كانت المسافة أبعد من ذلك فإنها تتخذ شكل حرف 8 - حرف ثمانية بالإنجليزية - .
فمن علم النحل على علم الهندسة والزوايا ؟ ومن منحها حسن التوجه بلا رادار ؟
إنه الله رب العالمين
يقول الكاتب الفرنسي جان لوي داريفول : " إن النحل يسلك في طيرانه نفس الطرق المعروفة ، ويتجنب بعناية فائقة التحليق فوق المسطحات المائية الواسعة كالبحار والبحيرات، كما يتحاشى اجتياز الجبال " .
ويقول أيضا : " إن للنحلة الواحدة حياة محتمة ومقدرة مسبقة ، تخضع لقواعد محددة تحول دون شيوع الفوضى ، ولها سلوك محكوم كليا منذ أيام حياتها الأولى تبعا للقوانين النافذة والمعمول بها في الخلية .
فسبحان الله تعالى : " الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين "
( السجدة : آية 7 )
- - -
==============
قبسات من الطب النبوي العلاجي
الدكتور حسان شمسي باشا
الطب النبوي مجموع ما ثبت وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم مما له علاقة بالطب ، سواء كان آيات قرآنية أو أحاديث نبوية شريفة ، ويتضمن وصفات داوى بها النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ممن سأله الشفاء ، أو أنه دعا إلى التداوي بها ، كما يتضمن توصيات تتعلق بصحة الإنسان في أحوال حياته من مأكل ومشرب ومسكن ومنكح ، وتشمل تشريعات تتصل بأمور التداوي وأدب الطب في ممارسة المهنة وضمان المتطبب في منظار الشريعة الإسلامية .
وقد أفرد جميع علماء الحديث في كتبهم التي جمعوها من كلام النبوة أبوابا خاصة تحت اسم " باب الطب " ، وكان البادئ منهم في ذلك الإمام مالك في موطئه ، وتبعه في ذلك البخاري فمسلم فأصحاب السنن وغيرهم .
وأول مصنف مستقل عرف لدى المؤرخين في مجال الطب النبوي هي رسالة موجزة للإمام علي الرضا بن موسى الكاظم ( المتوفى عام 203 هـ - 811 م ) ، وقد حققها ونشرها الأخ الأستاذ الدكتور محمد علي البار . ثم ظهر كتاب " الطب النبوي " لعبد الملك بن حبيب الأندلسي ( المتوفى عام 238 هـ - 853 م ) وكان فقيها محدثا لقب بعالم الأندلس ، وهو أول كتاب في الطب النبوي يذكر فيه الأحاديث والأبواب . وقد حقق الكتاب مع تذييله بحاشية قيمة علمية الأخ الصديق الدكتور محمد علي البار .
ويعتبر الموفق عبد اللطيف البغدادي ( المتوفى عام 629 هـ - 1231 م ) أول طبيب قام بشرح طبي لأحاديث الطب النبوي . وكان طبيبا فقيها ونحويا وفيلسوفا ، ومن مؤلفاته
" الطب من الكتاب والسنة " الذي حققه الدكتور عبد المعطي قلعجي .
وألف علماء آخرون كتبا في الطب النبوي ومنهم ابن السني ، وأبو نعيم الأصبهاني ، والتيفاشي ، والكمال بن طرخان ، والإمام الذهبي وغيرهم .
أما الإمام ابن قيم الجوزية فكان من كبار علماء دمشق ، ويعتبر كتابه " الطب النبوي " أشهر الكتب المصنفة في هذا الفن .
ويعتبر كتاب الإمام جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 " المنهج السوي والمنهل الروي في الطب النبوي " من أجمع كتب الطب النبوي ، لأنه حوى معظم ما كتبه السابقون عليه بالإضافة إلى توسعه في علم الحديث .
" تداووا عباد الله " :
حديث صحيح رواه الأربعة .فعن أسامة بن شريك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" تداووا يا عباد الله ، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء ، إلا داء واحدا ، الهرم "
وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء "
وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" لكل داء دواء ، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله تعالى "
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" ما خلق الله من داء إلا وجعل له شفاء،علمه من علمه،وجهله من جهله ، إلا السام "
والسام الموت رواه ابن ماجه
وفي هذه الأحاديث حث على المداواة . وأن الأدوية ما هي إلا وسائل جعلها الله طريقا للشفاء . وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " علمه من علمه ، وجهله من جهله " حث للأطباء المسلمين على البحث والاستقصاء لاكتشاف أدوية لأمراض لم يعرف لها بعد دواء. وقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء بموافقة الدواء للداء ، فلكل دواء مقدار معين يعمل به ، وينبغي ألا يزيد ولا ينقص .
وتعاليم الإسلام كلها تدفع إلى المحافظة على الصحة والارتقاء بها في كافة المجالات ليعيش الإنسان حياة سعيدة طيبة في الدنيا والآخرة .
وإذا كان الإسلام قد أوجب المحافظة على الضرورات الخمس وهي :(/14)
الدين والنفس والعرض والمال والعقل ، فإن ثلاثا من هذه الضرورات تتصل بوجوب المحافظة على صحة البدن ، ألا وهي النفس والعرض والعقل . والطب يحفظ البدن ويدفع عنه غوائل المرض . يقول الإمام الشافعي : " صنعتان لا غنى للناس عنهما : العلماء لأديانهم والأطباء لأبدانهم " . ويقول أيضا : " لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب " .
وقد تداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتداوى آل بيته الكرام ، وزوجاته الطاهرات ، وأصحابه المبجلين رضوان الله عليهم أجمعين . ونصح أمته بكثير من أنواع العلاج الذي كان معهودا في زمنه والذي ثبتت فوائده على مر الأيام . ومنه العسل الذي جعل الله فيه شفاء للناس . قال تعالى : " وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون
ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون " النحل 68-69
وقد جمعت في كتابي " الاستشفاء بالعسل والغذاء الملكي : حقائق وبراهين " العديد من الأبحاث العلمية الموثوقة التي توضح فوائد العسل الاستشفائية في معالجة أمراض الجهاز الهضمي والربو ومداواة القروح والجروح التي لا تلتئم وغيرها من الأمراض .
وتداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحبة السوداء ، وحث على التداوي بها :
" عليكم بالحبة السوداء ، فإن فيها شفاء من كل داء "
وقد ظهرت في السنوات الأخيرة أبحاث علمية تتحدث عن فوائد الحبة السوداء في تقوية جهاز المناعة ، وخواصها المضادة للجراثيم والسرطان ، وتخفيف التهابات المفاصل وغيرها. وقد جمعت ذلك كله في كتابي " الشفاء بالحبة السوداء " .
وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم باستعمال زيت الزيتون فقال :
" كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة "
وأكدت الدراسات الحديثة أن زيت الزيتون هو أفضل أنواع الزيوت ، وأنه يخفض مستوى الكولسترول في الدم ، كما يفيد في الوقاية من مرض شرايين القلب ، ويخفض ضغط الدم المرتفع .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبا علي بن أبي طالب :
" كل الثوم .. فلولا أني أناجي الملك لأكلته "
وقد أثبتت الدراسات العلمية فوائد الثوم في خفض كولسترول الدم ، والوقاية من مرض شرايين القلب التاجية وخفض ضغط الدم . هذا إضافة إلى تأثيراته المضادة للجراثيم والفطور وغيرها .
ولفت الله تعالى النظر إلى نعمة وجود السمك فقال :
" وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا "
وقال عليه الصلاة والسلام من حديث رواه البخاري :
" أما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت "
وما زيت السمك الذي يتحدث عنه خبراء الصحة إلا من كبد الحوت . وتوصي الهيئات الطبية الأمريكية والأوروبية الآن بتناول وجبتين من السمك في الأسبوع لوقاية القلب من حدوث جلطة ( احتشاء ) فيه .
كما أكدت الدراسات العلمية الحديثة أن زيت السمك يخفض مستوى الغليسريدات الثلاثية ( وهي إحدى دهون الدم الهامة ) . كما يمكن أن يساعد في خفض ضغط الدم المرتفع .
وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على تناول التمر فقال :
" من تصبح كل يوم بسبع تمرات عجوة ، لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر "
والتمور غنية بالألياف ، والإكثار من الألياف في الطعام يمنع الإمساك ، ويقلل من حدوث أمراض القولون والمرارة ، وغيرها من الأمراض .
وهناك العديد من الأبحاث الطبية عن السنامكي ( Senna ) وهو السنا الذي ورد ذكره في كثير من الأحاديث النبوية الشريفة . فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" عليكم بالسنا والسنوت ، فإن فيها من كل داء إلا السام ، وهو الموت "
وقد خصص الأخ الأستاذ الدكتور محمد علي البار كتابا عن السنا بعنوان " السنا والسنوت " استعرض فيه استعمالات السنا في الطب الحديث وخصائصه العلاجية .
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم باستخدام الصبر ( Aloe Avera ) وخاصة في أمراض العين " ضمدهما بالصبر " وقد كثرت في الآونة الأخيرة الأبحاث عن فوائد الصبر في الأمراض الجلدية ، ويستخدم الصبر حاليا على نطاق واسع في مستحضرات التجميل . وقد بحث الأخ الأستاذ الدكتور محمد علي البار في كتابه الممتع " ماذا في الأمرّين : الصبر والثفاء " فوائد الصبر العلاجية بإسهاب ، واستعرض فيها أحدث الأبحاث العلمية في هذا المجال .
ووردت أحاديث صحيحة عن استخدام الحناء . وقد حظيت هذه المادة حديثا باهتمام العلماء ، وخاصة أطباء الأمراض الجلدية ، ووصفت لعلاج عدد من النظريات الجلدية وغيرها .
ومن صفات أهل الجنة أنهم يشربون كأسا كان مزاجها زنجبيلا . قال تعالى :
" ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا "
وأظهرت الدراسات العلمية الحديثة أن الزنجبيل دواء فعال جدا في محاربة الغثيان والإقياء وخاصة الإقياء المعند الذي يحدث بعد إعطاء الأدوية المضادة للسرطان ، كما أنه دواء ممتاز لدوار البحر .(/15)
كما وردت أحاديث نبوية في الخل والكافور والتين والشعير والبطيخ واليقطين والرمان والسفرجل وغيرها .
وأما أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام في استخدام السواك فكثيرة جدا ، وقد ظهرت أبحاث عدة توضح خصائصه وفوائده العديدة في صحة الفم والأسنان وما يحتويه من مواد قاتلة للميكروبات ومنشطة للفم واللثة .
=================
ماذا يقول أطباء الغرب عن ..
الرضاعة من لبن الأم ؟
الدكتور حسان شمسي باشا
لبن الأم منحة السماء .. لزائر جديد أطل على وجه الأرض ..
تهيأت لتركيبه مصانع أودعها الله تعالى في جسم الأم ، وفاق بتركيبه كل لبن .. يمر عبره كل ما يحتاج إليه الطفل من وقاية وغذاء .. ويعطي الأم إحساسا يوثق عرى الروابط بينها وبين وليدها .
ورغم ذلك .. وصلت نسبة الإرضاع الطبيعي في أوروبا وأمريكا إلى الحضيض في الخمسينات ، وظن الكثير من الأمهات – بتأثير الدعاية التجارية – أن الإرضاع الاصطناعي أفضل من الإرضاع الطبيعي ، وأن الحليب الاصطناعي يحتوي على عناصر إضافية لا وجود لها في لبن الأم .
واقتدت كثيرات من نسائنا في بلادنا العربية والإسلامية بنساء الغرب ، فانتشر الإرضاع الصناعي ، وأصبح الإرضاع الطبيعي – في وقت من الأوقات – تقليدا من التقاليد القديمة
ومنذ ذلك الحين توالت الأبحاث والدراسات العلمية في أوروبا وأمريكا تؤكد حقيقة واحدة مفادها أن ( لبن الأم هو الأفضل ) .
ولا عجب أن نرى كباء خبراء الطب في العالم ينشرون أبحاثهم ، ويكتبون المقالات العديدة عن فوائد لبن الأم . وتوالت الصيحات من مختلف الأوساط الطبية من جامعات غربية تدعو الأمهات إلى العودة إلى لبن الأم .
تقول الأستاذة الدكتورة ( روش لورنس ) أستاذة أمراض الأطفال بجامعة روتشستر في نيويورك بالولايات المتحدة : " ينبغي أن تعلم النساء أن لبن الأم هو أفضل غذاء للطفل ، وأنه يحتوي على حماية مناعة خاصة ، وحماية ضد الالتهابات الجرثومية غير متوفرة في أي نوع آخر من الغذاء . ورغم تقدم العلوم الطبية ، إلا أنها لم تتمكن بحال من الأحوال من إنتاج لبن يشبه لبن الأم ، وأنه ليس هناك على وجه الأرض محلول بيولوجي يستطيع أن يغني تماما عن لبن الأم " .
ويقول البروفسور بورسدن : " إذا كانت الكائنات الثديية تحتاج إلى لبن أمها وإلى صلة جسدية وثيقة مع أمها لعدة سنين ، فمن الأولى أن يتمتع الطفل البشري بلبن أمه بكل ما فيه من خصائص ومزايا لمدة 4 سنوات " .
وتقول نشرة حديثة أصدرها قسم الصحة والأمن الاجتماعي في بريطانيا : " يظل لبن الأم أفضل حليب حتى السنتين من العمر ، وبإمكان الأم إضافة أنواع الطعام الأخرى منذ الشهر الرابع " .
وصدق الله تعالى حيث يقول: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } ( البقرة آية 233 )
لقد صحا الغرب إلى هذه الحقيقة حديثا ، وبدأت وسائل الإعلام الطبية في أوروبا وأمريكا تنبه النساء إلى ضرورة العودة إلى الإرضاع الطبيعي .
ولقد نشرت مجلة اللانست الطبية البريطانية مقالة رئيسة تسائل فيها المؤلف ( لماذا لا تزداد العودة إلى الإرضاع الطبيعي بسرعة أكبر مما هي عليه الآن ؟ رغم إجماع كل الآراء الطبية على فائدة لبن الأم ، وسموه على الحليب الاصطناعي ) .
ويعزو المؤلف سبب ذلك إلى سيطرة الشركات المنتجة للحليب الاصطناعي على الكثير من المؤسسات التي ترعى شؤون الأطفال ، والدعاية الكبيرة التي تروجها هذه الشركات في إقناع الأمهات – رغم أن ذلك خطأ شنيع وأكذوبة لا حقيقة لها – بأن الحليب الاصطناعي يغني عن لبن الأم .
وفي الوقت الذي يشيع فيه استعمال الحليب الاصطناعي في بلادنا العربية والإسلامية نجد أن الحكومة البريطانية قد أصدرت منذ ثلاث عشرة سنة قرارا بمنع هذه الشركات من ممارسة الدعاية لأصناف الحليب الاصطناعي ، وقد اختفت تماما تلك الدعايات من شاشات التلفزيون ووسائل الإعلام الأخرى في بريطانيا .
ونشرت مجلة اللانست البريطانية مقالا رئيسا جاء فيه :
- إن 95 % من الأمهات قادرات إذا رغبت على إرضاع أطفالهن الإرضاع الطبيعي لمدة 4 – 6 شهور ، وأنه يمكن لهؤلاء الأمهات خلال هذه المدة أن يؤمن كميات كافية من اللبن تكفي لنمو أطفالهن نموا طبيعيا .
- إنه بإمكان بعض الأمهات أن يرضعن أطفالهن لبن الثدي منفردا لمدة اثني عشر شهرا أو أكثر .
- إن الأطفال الذين يتناولون لبن الأم مع الحليب الاصطناعي هم أكثر عرضة لالتهابات المعدة والأمعاء .
وأعرب تقرير منظمة الصحة الدولية عن الأسى لوضع العالم الثالث الذي يقبل استعمال الحليب الاصطناعي في الوقت الذي تتراجع فيه أوروبا وأمريكا عن ذلك .
ويقول المؤلف : " إن استعمال الحليب الاصطناعي في ازدياد مستمر في العالم الثالث مع ما ينطوي عليه ذلك من نتائج خطيرة على صحة الطفل " .
ويتابع المؤلف : " إن الشركات المنتجة للحليب الاصطناعي تتنافس فيما بينها عن طريق ممثلين يمارسون الدعاية لهذه المنتجات بشتى الوسائل " .(/16)
ويحذر المؤلف هذه الشركات المنتجة للحليب الاصطناعي بأن العالم سيصحو عاجلا أم آجلا ويعود إلى لبن الأم . وأن على هذه الشركات ألا تتوقع ازديادا من مبيعاتها من الحليب الاصطناعي .
وتقول الأستاذة ( لورنس ) : " على الرغم من أن العلوم الطبية قد خطت خطوات عظيمة في مجال التغذية إلا أنها لم تستطع أن تقلد إلا جزءا بسيطا من لبن الأم . فهناك أكثر من مئة أنزيم ( خميرة ) في لبن الأم ، كلها غير موجودة في الحليب الاصطناعي .
إن لبن الأم يحتوي على حماية مناعية خاصة ، وحماية ضد الإنتان غير متوفرة في أي نوع آخر من الغذاء " .
وتختم هذه الأستاذة مقالها بالقول : " ليس هناك على وجه الأرض محلول بيولوجي يستطيع أن يغني تماما عن لبن الأم ، ويقوم بتأمين الخلايا الحية والإنزيمات الفعالة ، والحماية المناعية ضد الالتهابات ، والفوائد النفسية " .
وجاء في كتاب ( لبن الأم هو الأفضل – Breast is best - ) للدكتور ستانوي :
" مما لا شك فيه أن سرطان الثدي – وهو أكثر السرطانات شيوعا عند النساء – قد أصبح أكثر شيوعا خلال القرنين السابقين ، ويقدر العلماء أن امرأة من أصل عشرين امرأة في الغرب تموت بسرطان الثدي ، وأن واحدة من أصل أربعة نساء تشكو من مرض من أمراض الثدي في وقت من الأوقات هناك "
فلم هذه الكثرة ، ولماذا تتعرف أثداء النساء لهذه الأمراض ؟ يقول الدكتور ستانوي مجيبا :
" من المحتمل كثيرا أن النساء يعاملن الثدي معاملة غير طبيعية ويخالفن الوظيفة الطبيعية للثدي ، ألا وهي الرضاعة . فإن النساء – يحرمن أثداءهن من وظيفتها الرئيسة ( وهي الرضاعة ) – إنما يدفعن ثمنا باهظا بالأمراض التي يكسبنها من وراء ذلك . وأن الإرضاع الطبيعي هو أهم وسيلة لتنظيم النسل حول العالم كله ، حيث ينقطع الطمث عند معظم النساء اللواتي يرضعن أطفالهن . ومن المعروف أن لسرطان الرحم علاقة وثيقة بسرطان الثدي . وربما كانت دورات الطمث التي تراها المرأة في حياتها ( وتبلغ 450 دورة ) تلعب دورا يؤثر في الرحم . ففي كل شهر يتعرض الثديان والرحم والمبايض لتغيرات فيزيولوجية وتشريحية .. وتكون هذه الأجهزة جاهزة لحدوث تلقيح للبيضة وتشكل الجنين .
ولكن في حياتنا العصرية .. فإن بيضة واحدة أو اثنتين تلقح فقط ( حيث تنجب المرأة ولدا أو اثنين ) خلال كل فترة العمر التي ترى فيها المرأة 450 دورة طمثية . أما الدورات الطمثية الأخرى فتهدر سدى .. وتشعر تغييرات الجسم بالخيبة والمرارة سنة بعد سنة حينما لا تحمل المرأة في عمرها سوى مرة أو مرتين . وربما كان هذا سببا لانتشار أمراض الجهاز التناسلي " .
هذا ما قاله الدكتور ( ستانوي ) في كتابه . وهو بهذا يشير إلى نساء العصر الحديث – حينما يحرصن على ألا ينجبن أكثر من طفل أو طفلين – إنما يعرضن أعضاءهم التناسلية لتلك الأمراض .
ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم " رواه أبو داوود والنسائي –
صحيح الجامع الصغير 2940
ويقول الدكتور ستانوي أيضا : " إن سرطان الثدي والرحم شائعان جدا ، فإن امرأة من أصل كل خمسة نساء تنتهي باستئصال رحمها في وقت من الأوقات . وإن على المرأة أن تبدأ بالحمل خلال سنوات قليلة بعد سن البلوغ ، فقد تبين أن إنجاب المرأة لأول طفل من أطفالها في سن مبكرة تحت العشرين هو أحد أهم وسائل الوقاية من سرطان الثدي . وأن الجهاز التناسلي عند المرأة يبقى لفترة 12 – 15 سنة ( حتى تبلغ المرأة سن الطمث غير قادر على إنجاب أول طفل . وإننا إذا ما قررنا الاستمرار في منع هذا الجهاز من الإنجاب ، فإننا سوف نعرض نساءنا لمشكلات كثيرة ) " .
وأما فيما يتعلق بمدة الإرضاع فيقول الدكتور ستانوي : " قد يكفي الرضيع من الناحية الغذائية أن يرضع لمدة ثمانية أشهر في المجتمع الغربي . إلا أنه من حيث الفائدة للأم ، فإن هناك كل الأسباب التي تدعو الأم لأن تستمر في الرضاع المديد حتى ولو بلغ الطفل سنا يستطيع فيه تناول معظم غذائه من الأطعمة الأخرى . فالتمريض المتكرر لحلمة الثدي يحرض الهرمونات عند الأم لتمنع نزول البيضة من المبيض إلى الرحم عند الأم لعدة شهور.
وفي هذا فإن الرضاع لا يعمل مانعا طبيعيا للحمل فسحب ، بل إنه يمنع التغيرات الحاصلة شهريا في فترة الطمث .. مما يريح الجهاز التناسلي من هذا العناء " .
ألم تقض حكمة الله تعالى بأن تكون مدة الرضاعة عامين اثنين .. ينال فيها الرضيع حظه من الغذاء والمناعة الطبيعية والحنان .. وترتاح خلال تلك المدة أعضاء المرأة من رحم ومبايض …!!
يقول الشهيد سيد قطب ( في ظلال القرآن ) : " والله يفرض للمولود على أمه أن ترضعه حولين كاملين ، لأنه سبحانه يعلم أن هذه الفترة هي المثلي من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) ، وتثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية لنمو الطفل نموا سليما من الوجهة الصحية والنفسية(/17)
ولكن نعمة الله تعالى على الجماعة الإسلامية لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم ، فالرصيد الإنساني من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك يأكله الجهل كل هذا الأمد الطويل ، والله رحيم بعباده وخاصة هؤلاء الأطفال الصغار المحتاجين للعطف والرعاية .
(في ظلال القرآن 1/ 248 )
للمزيد من التفاصيل ، راجع كتابنا : " الرضاعة من لبن الأم " ، وهو من منشورات مكتبة السوداي بجدة
===============
نبات الصَّبر
بين الإعجاز النَّبوي والطِّب الحديث
الدكتور حسان شمسي باشا
الجو حار ملتهب .. وحرارة الشمس تلفح وجوه الناس . ووسط هؤلاء الناس رجل لسعه قيظ الصيف ، وألهب عينيه عجاج الصحراء . العينان حمراوان ملتهبتان .. والجفنان متورمان ومؤلمان .. لا يقوى على فتح عينيه من شدة الألم .
ولكن أين يذهب ذاك الإنسان المؤمن ؟ لا أطباء حوله ولا مستشفيات ، وإنما هناك طبيب الإنسانية جمعاء الذي قال فيه الله عز وجل :
( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم )
فعن نبيه بن وهب قال : " خرجنا مع أبان بن عثمان ، حتى إذا كنا بملل اشتكى عمر بن عبيد الله عينيه ، فلما كنا بالروحاء اشتد وجعه ، فأرسل إلى أبان بن عثمان يسأله ، فأرسل إليه أن أضمدهما بالصبر ، فإن عثمان رضي الله عنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل إذا اشتكى عينيه وهو محرم ضمدهما بالصبر " رواه مسلم في كتاب الحج
فماذا في الصبر يا رسول الله من منافع ؟
وتمر أربعة قرون .. ويأتي ابن سينا الطبيب المسلم فيقول عن الصبر :
" إنه ينفع من قروح العين وجربها وأوجاعها ، ومن حكة المآق .. ويخفف رطوبتها . وله قوة قابضة مجففة للأبدان منومة . والصبر الهندي كثير المنافع ، مجفف بلا لذع ، وفيه قبض يسير " . وقال فيه أبو بكر الرازي : وهو أيضا نافع للعين مجفف للجسد .
وقال في الصبر إسحق بن عمران : " إنه ينفع من ابتداء الماء النازل في العين ، وينقي الرأٍ والمعدة وسائر البدن من الفضول المجتمعة فيها " .
وجاء في تذكرة داود " أن الصبر من الأدوية الشريفة . قيل : لما جلبه الإسكندر من اليمن إلى مصر كتب إليه المعلم أن لا يقيم على هذه الشجرة خادما غير اليونانيين لأن الناس لا يدرون قدرها " .
وقال داود الأنطاكي : والاكتحال به يحد البصر ، ويذهب الجرب والحرقة وغلظ الأجفان
وتمر قرون عديدة ، وتأتي الأبحاث الحديثة من أمريكا ، لتؤكد ما جاء في وصفة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا المحرم المصاب في عينيه .
فقد نشرت مجلة Cuits الأمريكية الشهيرة مقالا عن الصبر عام 1986 جاء فيه :
" لقد تبين من خلال الدراسات السريرية الحديثة أن للصبر دورا في معالجة الالتهابات الجلدية الشعاعية ، وسحجات الجلد السطحية ، وفي تقرح قرنية العين ، وفي قروح الرجلين " . وقد اكتشف العلماء وجود أربع مواد كيميائية فعالة في الصبر ، وهي :
1. برادي كينياز :
وهي مادة تزيل الألم والحكة والاحتقان ، ولها فعل مقبض للشرايين ، مما يخفف الانتفاخ والاحمرار الحاصل مكان الالتهاب . وهذا يفسر لماذا تدخل شركات الأدوية ومستحضرات التجميل مادة الصبر في المستحضرات التي تعالج حرق الشمس .
2. لاكتات المغنيزيوم :
وقد ثبت أن هذه المادة تمنع تشكل الهيستامين ( وهي المادة التي تسبب الحكة في الجلد ) . وهكذا يخفف الصبر من الحكة والالتهاب . وهذا ما يفسر فاعليته في علاج لدغات الحشرات .
3. مضاد البروستا نلاندين :
وهذه المادة تخفف أيضا الألم والالتهاب مثلما تفعل حبوب الأسبرين . وهكذا تعمل هذه المواد الثلاثة معا على تخفيف الألم والتهاب ، وتسكين الحكة والحرقان .
وتأتي الأبحاث العلمية الحديثة بعد أكثر من ألف وأربعمائة عام لتؤكد للعالم أن ما داوى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه كان هو الدواء السليم . فكيف يصنع هذا الرجل الذي يشتكي من عينيه وهو محرم ؟ يشكو من الألم والاحتقان .. وليس هناك مسكنات ولا مضادات حيوية ؟!!
لقد وضع الله تعالى في هذا النبات مزيجا من مواد مسكنة ، وأخرى مهدئة للحكة والالتهاب . نعم ، إن هذا المؤمن المحرم بحاجة إلى ما يسكن ألمه .. ويخفف التهابه .. فاهتدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلهام من الله تعالى إلى علاجه بوضع الصبر ضمادا على عينيه الملتهبتين . ولفته أخرى إلى عمل الصبر الفعال في الوقاية من حرق الشمس . فهذا الحاج المحرم في قيظ الحر ، وقد أصيبت عيناه ، ينتظر دواء يأتي على عينيه بردا وسلاما بإذن الله . وأما المادة الرابعة فهي مادة الانتثراكينون ، ويعزى لها الفعل المسهل للصبر .
الصبر مادة ملطفة للجلد :
وأثبتت الدراسات العلمية الحديثة أن للصبر تأثيرا مرطبا للجلد ، فيلطف الجلد وينعمه .(/18)
روت أم سلمة - رضي الله عنها - " دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة ، وقد جعلت علي صبرا . فقال : ( ماذا يا أم سلمة ) ؟ فقلت : إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب . قال عليه الصلاة والسلام : ( إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل ) يشب الوجه : أي يلونه ويحسنه
ويعزو العلماء ذلك إلى أن الصبر يحبس الماء في الجلد فيرطبه وينعمه . وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال لأم سلمة ( إن يشب الوجه ) .
فمن علم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الخاصة التي يتمتع بها هذا النبات ؟
ونجد الآن في الأسواق مركبات مختلفة من كريمات ومستحضرات دوائية ، وقد دخل في تركيبها مادة الصبر .
الصبر والتهاب المفاصل الرثواني :
التهاب المفاصل الرثواني مرض مؤلم جدا ، قد يؤدي إلى حدوث تشوه في المفاصل ، وإعاقة شديدة في حركتها . ويصيب المفاصل الصغيرة في اليدين والقدمين بشكل خاص . وقد نشرت مجلة النقابة الطبية لأمراض الأقدام بحثا استخدم فيه الصبر موضعيا على مفاصل ملتهبة عند الفئران . وقد أظهرت الدراسات الحديثة أن الصبر فعال في علاج هذا الالتهاب . وهناك تجارب علمية تجرى حاليا على الإنسان . وهكذا نجد الأبحاث العلمية الحديثة تثبت ما جاء في طب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإذا كانت مادة الصبر قد دخلت الموسوعة الصيدلانية الأمريكية عام 1820 ، فقد دخلت موسوعة الرسول عليه الصلاة والسلام الطبية قبل ذلك بألف وثلاثمائة عام .(/19)
الطبيعة الإنسانية في التصور الإسلامي ...
المغرب - ملاك المصطفى
حظى موضوع «الطبيعة الإنسانية» بأهمية بالغة في الحقل التربوي الحديث والمعاصر.فقد سعى كثير من المربين والفلاسفة إلى تحديد الآليات التي تكوّن عناصر الكائن الإنساني الظاهرة منها والباطنة. وقد كان هاجس تفسير طبيعة السلوك الإنساني موضوعًا للدراسة من قبل العلوم النفسية والاجتماعية والأنثربولوجية. غير أن الاهتمام العلمي والفلسفي على اختلاف التوجهات النظرية والأيديولوجية لم يكن اهتمامًا متجانسًا. الشيء الذي يفسر حقيقتين مهمتين: صعوبة ضبط السلوك البشري، ثم استحالة وضع تفسير واحد وموحد للظاهرة الإنسانية التي تتداخل فيها مجموعة معطيات بيولوجية وفيزيولوجية وعقلية وغيرها من آليات التشكيل الإنساني. وتأسيسًا على هذه المعطيات نطرح الأسئلة التالية: ما هي الخصائص الحقيقية التي تميز الفعل الإنساني؟ هل هناك تفسير علمي وديني مقنعان لتصرفات الإنسان ووجوده التاريخي؟ ما هي مظاهر التي تميزه عن غيره من الكائنات؟
لقد حاولت بحوث علمية على اختلاف فروعها اكتشاف هذا اللغز البشري الذي أصبح موضوعًا للدراسة. كما نُظر إلى الإنسان باعتباره شتاتًا من العناصر التي تتحكم في بنيته العضوية والنفسية. ولذلك وجدنا طرائق قددًا في المجال العلمي: فالبيولوجيا نظرت إلى الإنسان كعناصر عضوية هي التي تتحكم في قواه العقلية والعاطفية. والسيكولوجيا نظرت إليه بمثابة خزان من ردود الأفعال نحو مثيرات خارجية أو غرائزية، كما أن علم الاجتماع فسر الإنسان انطلاقًا من بنى اجتماعية تحتية هي التي توجه سلوكه اللغوي والعلائقي مع الآخر، في حين اعتبر علم الأجناس الإنسان عبارة عن حمولة من الموروثات العضوية والعوائدية، إلى غير ذلك من فروع المعرفة العلمية الأخرى.
وقد اتفقت جل هذه العلوم حول مسألة واحدة هي غموض هذا الكائن وغرائبية سلوكاته سواء الغريزية أو المكتسبة. ولذلك اعترفت هذه العلوم بصعوبة امتلاك الخصائص التي تكوّن الفرد وصعوبة التحكم فيها أو توجيهها بشكل مبسط. ويمكن تفسير هذا اللغز والغموض في الظاهرة البشرية بكون الإنسان معجزة إلهية في طبيعة الصنع الخارجي، وفي الآليات الداخلية العصابية والعقلية والنفسية. ولذلك نجد في القرآن الكريم تذكيرًا غير ما مرة بأصل الإنسان وبمراحل الحمل والولادة ثم الموت والبعث. وهذا التحكم الرباني في الإنسان يظهر في قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعام ماتوسوس به نفسه}[ق: 16] ثم إن السؤال التقريري في قوله عز وجل: {ألم نجعل له عينين* ولسانا وشفتين* } [البلد: 8 ـ 9].
يؤكد أن هذه الأعضاء الخلقية هي مصدر التحرك السلوكي. فالعين ليست فقط وسيلة للمشاهدة ولكنها كذلك عقله الذي يرى به وعاطفته التي تحيي إليه اللذة وتشكل مجموعة مواقف عصبية.
في حين يبقى اللسان هو الأداة التي تنقل إلى الآخرين لغة العين من الناحية المرئية والتأملية.
وبذلك نجد أن العين في القرآن الكريم تصبح حجة على صاحبها يوم القيامة: {إنَّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاْ} [الإسراء: 36].
فإذا كانت النظرية العلمية قد اعتبرت الإنسان لغزًا رغم معرفتها بالتشريح العضوي وبالخلايا والجينات، فإنها إنما تقر بعدم القدرة على التحكم في مجموعة عناصر منها:
ـ دواخله النفسية.
ـ ما تحدثه به إحساساته وخواطره الباطنية.
ـ نواياه الحسنة أو القبيحة.
ـ إخلاصه ـ شروده ـ تناقضاته الداخلية.
وهذا العجز عن إدراك مكونات الإنسان في شموليتها خلق شتاتًا في العلوم الإنسانية، وطرح مجموعة أسئلة: هل الفعل الإنساني خيّر أم شرير؟ وما العناصر التي تتحكم في سلوكاته؟ هل هي عصابية؟ غريزية؟ اجتماعية؟. وهذا الاختلاف في تقدير قوى الإنسان وفهم سلوكاته يكشف محدودية العلم وقصور المعرفة الإنسانية. وفي هذه الحالة نطرح هذا السؤال في وقت لا نملك فيه إلا التساؤل: هل يمكن للقرآن الكريم أن يمارس على الإنسان خطابا إقناعيًا ترغيبيًا وترهيبيًا دون معرفة دقيقة بآلياته النفسية؟
قبل البحث في هذه الإشكالية سأعرض لنموذجين علميين أثرا لفترة زمنية طويلة، على الساحة العلمية، وما زالت رواسبهما ظاهرة في بعض النظريات. إنهما علم الاجتماع الماركسي وعلم النفس الفرويدي.
1ـ نظرية فرويد(1):
رأى فرويد أن طبيعة الإنسان يتحكم فيها الجانب الذاتي الحيواني، وأن الأخلاق والدين يجهضان الغريزة الحيوانية في الإنسان. كما أنه يعتبر التطور البشري موازيًا لتطور الغرائز.
إلا أن المعاناة في نظره تعود إلى تلك القيود الأخلاقية التي تمثل عائقًا كبيرًا داخل اللاشعور.
وبذلك ينقسم الإنسان في نظره إلى شخصيتين: شخصية مقنعة حاضرة وشخصية مكبوتة غائبة.
والحضارة عند فرويد تقوم على مبدأ التنازل: تنازل الفرد عن ميولاته ولذائذه التي لا حد لها.(/1)
واعتبر كل تصحيح للسلوك البشري هو مجرد قمع وزجر. وفي معرض حديثه عن الإنسان وقلقه أمام عمليات التنشئة الموجهة يعتبر أن الأنا تتكون في داخلها نزعة مخالفة، تلاحظ، تمنع، تنتقد، تسمى الأنا الأعلى. وهكذا فالأنا قبل أن تستجيب للغرائز تجد نفسها مرغمة على الأخذ بعين الاعتبار ليس فقط المخاطر الخارجية، ولكن أيضًا ما تفرضه الأنا الأعلى(2). ولذلك نجد فرويد يعتبر كل محاولة خارجية لعقلنة الفعل الإنساني سببًا للألم، لأنها تمنع الأنا من ممارسة حقائقها الداخلية الخاصة بها. وتجب الإشارة إلى أن نظرية فرويد قد ارتبطت بالفكر الوجودي، حيث إن فكرة الموت كانت تمثل له ذلك الشقاء الأبدي. ولذلك فقد ربط الطبيعة الإنسانية بالعدوانية وتيمة الموت. إن نظرية فرويد لا تميز بين السلوك الحيواني والإنساني في حين أن هناك فرقًا بينهما. صحيح أن الإنسان تحركه أحيانًا دوافع أقرب إلى البهيمة، ولكن الواضح هو أن الغريزة عند الحيوان جامدة لا تتغير بينما نجد الغريزة الإنسانية قابلة للتغير والتقويم، وهنا يأتي دور التربية والثقافة المدرسية والمجتمعية والأسرية والدينية. ففي القرآن الكريم آيات تحدد مسافتين زمنيتين عند الإنسان:
ـ زمن الغريزة التي تختلف فيها درجة الحيونة.
ـ زمن التصحيح بعد تدخل طرف خارجي.
ومن هذه الآيات:
ـ {إنَّ الإنسان لفي خسر* إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات} [العصر: 2 - 3 ـ]. {واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف ين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} [آل عمران: 103].
ـ {و أنا لمّا سمعنا الهدى آمنّا به} [الجن: 13].
لكن فرويد يريد أن تخرج الغريزة الحيوانية إلى الوجود دون عائق. لهذا فهو يرفض التربية والأخلاق. ففي كتابه (قلق الحضارة) يركز على مصطلحين هما الشقاء والصراع، شقاء الإنسان أمام عدم تحقيق نزواته، ثم صراع الدين والأخلاق مع الغرائز.
2ـ التصور الماركسي للطبيعة الإنسانية:
يؤكد هذا التصور الطابع الاجتماعي للطبيعة الإنسانية، أي أن الذي يحدد قيمة الفرد هو موقعه داخل العلاقات الاجتماعية التي تربطه بالمجتمع الذي يحيا فيه ويمارس فيه كينونته. وهذا الاعتقاد دفع ألتوسير إلى ربط كل فعل تربوي بقوى وعلاقات الإنتاج وبالقوى المسيطرة عليه. ولذلك فهو يرفض المدرسة ويعوضها بالوسط الاجتماعي كمؤسسة بديلة ودون توجيه. على عكس المدرسة التي تؤدلج الفعل التربوي. إن الإنسان في ظل هذا التصور لا قيمة له في غياب النسق الاجتماعي الذي يكمل وحدة الإنسان الجوهرية. وهذه النظرة التشييئية تجعله مجرد مادة أو رقم اقتصادي وبالتالي يتجرد من الفكر والعاطفة والسلوك. إذ إن إكمال وحدة الفرد موكولة للمجتمع وبناه الاقتصادية. وفي هذه الحالة نلاحظ أن التواصل الإنساني يقوم على وحدة الأجسام والبطون وليس على وحدة القلوب وألفة النفوس(3).
3ـ التصور الإسلامي للطبيعة الإنسانية:
لقد عالج الإسلام الطبيعة الإنسانية بفلسفة تربوية نابعة من خطاب قرآني وسنة نبوية. والملاحظ أن الإسلام اهتم في توجهه التربوي بالفرد ثم حاول ضبط هذا الكائن داخل الفئة الاجتماعية. وهذه الأخيرة تعتبر جزءًا من الأمة عامة. ولعل المساجد التي ينظر إليها على أنها مؤسسة تقليدية قد أدت أدوارًا تاريخية في التنشئة على فهم الحقوق والحدود والواجبات. وإذا تأملنا القرآن فإننا نلاحظ تركيزه على مسألة المعرفة: معرفة الله/ معرفة النفس/ معرفة الكون/ معرفة الجنة والنار. ومصدر هذه المعرفة كتاب ناطق وخبر مجتمع عليه (السنة). ففي سورة العلق يقول الحق سبحانه: {اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم* الذي علم بالقلم* علم الإنسان ما لم يعلم}[العلق:1 ـ4] والملاحظ أن هناك خمسة مركبات فعلية: اقرأ ـ اقرأ ـ علم ـ يعلم ـ علم + (خلق).
ثم إن هناك مسافة بين فعل القراءة كمرحلة أولى والعلم كمرحلة أرقى. وجاءت الآية رقم2: {خلق الإنسان من علق} بمثابة حد فاصل بين القراءة والعلم. وهذا دليل على أن المعرفة درجات تبدأ من عملية القراءة إلى غاية العلم بالظواهر. وهذا التقسيم في الآيات من سورة العلق (الآية 1 إلى الآية 5) يعطينا ثلاثة أمور أساسية:
1ـ أن الأمر بالقراءة جاء من قوة إلهية هي التي خلقت هذا الذي يجب أن يقرأ، وهذه الملاحظة تؤكد حكم الله في الصنع (نطفة ـ علقة ـ مضغة ـ عظام ـ لحم) ولذلك ففعل الأمر لم يأت عبثًا، وإنما من خالق، صانع، مصور يعرف مأموره منذ النشأة الأولى.
2ـ أن القراءة تصبح وسيلة لمعرفة شيئين: الذات الإنسانية نفسها، ثم الذات الإلهية التي وراء هذا الخلق.(/2)
3ـ حين تسمح القراءة للإنسان بمعرفة ذاته وربه، فإنها ترقى إلى قراءة أخرى أعمق هي العلم، وبالتالي سيعلم الإنسان مجموعة أشياء كان يجهلها سابقًا {ما لم يعلم} ومنها: كينونته/ وظيفته/ اختلافه عن باقي المخلوقات/ حقوقه/ واجباته/ ربه. ويحتل لفظ (القلم) دلالة بالغة في الآية رقم 4، فهو وسيلة للتدوين والحجة. إنه الذاكرة الثانية بعد العقل، كما أنه جاء كناية عن تنظيم المعرفة والانتقال بها من السماع إلى التدوين حتى يربط الإنسان بالممارسة الدائمة. ثم إن كلمة (علم) تعني (لقن/ كون/ ربى/ صحح/ أنشأ/ ونقل من حالة إلى أخرى)، وهذه المدلولات تؤكد أن الإنسان ليس سلعة مادية أو رقمًا اقتصاديًا في سوق الإنتاج كما يدعي ماركس وأتباعه، وليس نزوة حيوانية كما يعتقد فرويد، وإنما هو:
جسد: وجود أعضاء وظائفية لها ارتباط بالسلوك.
وعقل: تمييزه عن الحيوان.
وعاطفة: وجود دوافع بيولوجية وأخرى خارجية.
وسلوك: وجود مواقف وأفعال وحركات ذات معنى.
وهذه الآيات تتحول مع الدُّربة إلى واقع إنساني يمتلك القدرة العقلية والعاطفية على الاختيار والتمييز والحكم. وحين كرم الله آدم وأمر الملائكة بالسجود له كما في سورة البقرة: {وأذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] والحجر: {وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون* فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين*} [الحجر: 28 ـ 29] إنما هو دليل على قيمة الصورة الخلقية {فتبارك الله أحسن الخالقين}[المؤمنون: 14] والقيمة العقلية. وتظهر الميزة العقلية التي كرم بها الله الإنسان في نقله من ظلمة الأمية إلى نور المعرفة ومن ظلام الجاهلية والبهيمية إلى نور العلم والإيمان. ففي سورة الجن نلاحظ هذا التحول {...إنا سمعنا قرآنا عجبا* يهدي إلى الرشد فآمنا به...} [الجن: 1 - 2] . الجن في السابق طرائق قدد فتحولوا إلى الهدى والتوحد حول الحق. فالإنسان حين يمتلك المعرفة من مصدرها القرآني بالعين والصورة والسمع، والترغيب والترهيب، فإنه سيكتشف حقيقة وجوده ووظائفه. صحيح أن فروع المعرفة العلمية التي تناولت بالتحليل الإنسان كموضوع للدراسة، صحيح أنها أقرت كذلك بالمعرفة، ولكن ما نوع هذه المعرفة؟ ماذا أعطت للإنسان؟ ما علاقتها بالضمير الإنساني الحي؟ فهناك المعرفة اللغوية عند بياجي وتشومسكي ووبسون لابار، وهناك المعرفة الاجتماعية عند دور كايم، والمعرفة النفسية عند واطسن وسكينر وبافلوف، وهناك المعرفة الفلسفية عند ألتوسير وشبنغلر، وهرمان هسه وهايدغر، وهناك المعرفة العلمية المخبرية. ولكن هذه المعارف لم تجب عن تساؤلات الإنسان بما يشبع حاجته النفسية ويحقق له سعادته الدينية والدنيوية، حيث كثرت ظاهرة الانتحار عند كثير من الفلاسفة والعلماء.
وإذا رجعنا إلى السنة النبوية نجد أحاديث كثيرة في هذا السياق. ومعلوم أن السنة جاءت لتبين أو تؤكد حكمًا في القرآن، يقول عليه الصلاة والسلام: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع»(4). هذا الحديث فيه ثلاثة أحكام تربوية وسيكولوجية عميقة:
الأولى معنى الفعل مروا + اضربوا + فرقوا. فهناك تداخل بين مجموعة عمليات تتعلق بالصلاة والتعود عليها ثم المحافظة على أدائها، وهذه العمليات ترتبط بالتدرج في السن. حيث إن المعرفة لها حدود ووظائف عقلية نمائية. وهنا تصبح المعرفة الدينية مشروعًا إنسانيًا كبيرًا هو تطهير البدن والعقل والسلوك. وهذا التطهر ينزع صفة الحيوانية عن الكائن البشري لذلك يقول تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير}[فاطر: 19].
الثانية تتعلق بالمعرفة في جانبيها الدنيوي والديني، فالحديث لا يفصل المعرفة عن السلوك فما قيمة المعرفة إن لم يتغير سلوك صاحبها؟ {كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون} [الصف:3].
الثالثة تتعلق بالتفريق في المضاجع، فالرسول يراعي الاختلاف الجنسي الذي قد يتحول عند الإنسان البهيمي أو الطفل اللامسئول إلى نزعة عدوانية. ولذلك وجب التفريق بين الأطفال في النوم لدرء كل ما يمكن أن يسيء إلى التكريم الذي خص به الله عباده في سورة الإسراء، قال تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر} [الإسراء: 70].
إن المعرفة الإنسانية في الفهم الإسلامي تعتبر تربية، وعلمًا بالحقيقة وسلوكًا مسؤولاً في الحياة. وعليه فإن هناك أنواعًا معرفية في القرآن الكريم هي:
1ـ المعرفة الإخبارية:
وهي التي يسرد لنا فيها القرآن أخبارًا عن الجنة والنار والخلق والكون، بحيث تتجمع عند الإنسان معلومات أولية سيخضعها للعقل والتجربة والمعيشية، وينقسم هذا الإخبار إلى ما كان وما سيكون وما هو كائن.
{وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7].
{ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} [الملك: 5].
{إذا وقعت الواقعة* ليس لوقعتها كاذبة*} [الواقعة: 1 ـ 2].
{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53].(/3)
{ هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب*} [إبراهيم: 52].
2ـ المعرفة المرئية:
وتتعلق بالمشاهدة العينية لبعض الظواهر والكائنات الدالة على الضعف البشري في مقابل القدرة الإلهية. ولكن هذه المشاهدة لا تقف عند حدود المعاينة والتفرج، وإنما تتحول إلى نوع من التأمل والتساؤل. لذلك نجد أغلب الآيات المتعلقة بحاسة النظر تبدأ بسؤال إنكاري أو بأمر:
{أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} [الغاشية: 17].
{فلينظر الإنسان مم خلق} [الطارق: 5].
{ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً} [النمل: 86].
3ـ المعرفة الفيزيائية:
وهي إدراك الإنسان داخل فيزيائية الزمان والمكان والأشياء وهي تتطابق مع الواقع، بحيث إن العقل البشري يوجد بواسطة الأفكار تصورات عن مجموعة حقائق انطلاقًا مما تسميه النظريات الفيزيائية فكرة الموضوع. وهذه المسألة موجودة في القرآن بحيث نجد عوالم وحيوات في الزمان تماثل الواقع والانطباعات الحسية. يقول تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم* يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد*} [الحج: 1 ـ 2] وقوله: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهاراً فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون} [يونس: 24]. والملاحظ أن هناك مفارقة كبيرة بين زمانين معينين
4ـ المعرفة العلمية:
هي أرقى مراحل المعرفة الإنسانية، وفي القرآن هي توصل الإنسان إلى ثوابت تؤكد الربوبية والوحدانية والبعث والإعجاز الإلهي، قال تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها*}[النازعات: 30 ـ 31] أصل الأرض قبل توزيعها إلى بحار ومراعي.
{ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} [الملك: 5].
علم الفلك.
{وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} [النحل: 15].
قانون التوازن.
{وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى} [طه: 53].
5ـ المعرفة الاضطرارية:
ذلك أن الوجود الإنساني مرتبط بضرورات إنسانية تتعلق بالسلوك والمرض والصحة والأمل والرغبة، ولذلك وجدنا في القرآن سيلاً من الآيات جاءت لتجيب عن جملة من الأسئلة الظاهرة والمبطنة في داخل الكائن البشري الباحث عن سبل الاطمئنان النفسي والعضوي:
{يسألونك عن المحيض} [البقرة: 222].
{يسألونك عن اليتامى} [البقرة: 220].
{يسألونك عن الخمر} [البقرة: 219].
وكلها آيات نابعة من الضرورة الحياتية والفضول المعرفي المرتبط بالحاجة التي فرضتها سنة التعايش والحرص على بقاء النوع البشري.
خلاصة:
إن الإسلام قد حدد بعمق مفهوم الطبيعة الإنسانية وشرح آلياتها وفسر عناصرها ومكوناتها. كما أنه نظر إلى الإنسان داخل الفئة الاجتماعية، ثم ضبط الجماعة في الأمة. يقول عليه الصلاة والسلام: «وخالق الناس بخلق حسن»(5) وقال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)(6)، ثم إن الإسلام حين أكد المعرفة، فقد ربطها بالآخرة بحيث يصبح العلم بالشيء فضيلة مزدوجة: أنسنة التصرف البشري وفق التعايش السلمي بعيدًا عن مظاهر العنجهية والحيوانية، ثم إدراك الغاية من الوجود البشري {وللآخرة خير لك من الأولى} [الضحى: 4]. حيث يصبح الإنسان مطالبًا بتخليق سلوكاته وعلاقاته الخاصة والعامة، وتصبح الحاجة إلى التعلم والعلم ضرورة دنيوية وفضيلة أخلاقية، ويبقى الإنسان في التصور الإسلامي هو ذلك الكائن الاجتماعي المكون من جسد وظائفي وعقل تمييزي وحشد من العواطف والإحساسات والرغائب المشروطة بأخلاقيات فاضلة ومعرفة بالذات والله والكون عامة.
الهوامش
1ـ عالم نمساوي (1939ـ1865) قسم الذات الإنسانية إلى الأنا ـ الأنا الأعلى ـ الهو.
2ـ Moise et le monotheisme
3ـ فكرة محمد إقبال، الشاعر الباكستاني.
4ـ حديث رواه الحاكم وأبو داود عن عبدالله بن عمرو بن العاص.
5ـ رواه الترمذي.
6ـ رواه البخاري ومسلم.(/4)
الطرق الصوفية و انتشار البدع
تأليف الدكتور : أحمد عبد الكريم نجيب
أستاذ الحديث النبوي و علومه في كلّية الدراسات الإسلاميّة بسراييفو ، و الأكاديميّة الإسلاميّة بزينتسا
و مدرّس العلوم الشرعيّة في معهد قطر الديني سابقاً
انتشار الطرق الصوفية في البوسنة
عرف عن الحكومة العثمانية تشجيع الطرق الصوفية ، التي وجدت تعاليمها أرضاً خصبةً بين بعض فئات الجيش العثماني كالإنكشارية ، و الجيش الآقنجي (1) ، كما انتشرت بين العامة في أنحاء السلطنة العثمانية ، و كثر الاعتماد على رجالها في الفتوح الإسلامية ، حيث كانوا ينشطون في الدعوة إلى دين الله ، و يتألفون قلوب الشعوب على الإسلام ، و هو ما جعلهم يقبلون عليه ذرا فات و وحداناً ، مما أدى إلى تحول شعوب بكاملها إلى الإسلام و بسرعة أذهلت المؤرخين (2).
و قد ساعد على شيوع الطرق الصوفية ( المعروفة باسم طرق الدراويش في البوسنة ) و انتشار مفاهيمها في أوساط مسلمي البوشناق تفشي الجهل ، و قلة العلم و عدم وجود علماء أكفاء ينشرون الفهم الصحيح و العقيدة السليمة ، من مصدريها ( الكتاب و السنة ) .
و قد صور الكاتب المصري المعروف فهمي هويدي هذا الواقع فقال :
(( إن الطرق الصوفية قد استفحلت في بعض مناطق يوغسلافيا ، و شوَّهت تعاليم الإسلام . و ليس أمام المسلمين هناك قنوات شرعية لتوصيل الدين الصحيح إليهم ، فتصوَّر عامة المسلمين أن الدين هو هذه الطريقة أو تلك ، أما أئمة المساجد فدورهم محدود ، حيث إن الإمام يقول كلمته مرة كل أسبوع ، و الناس يعيشون في عالم آخر يرفض الدين ، و يجرح تعاليمه الأساسية بقية الأسبوع )) (3).
و على قنطرة الجهل بالدين وصلت إلى البوسنة أشهر الطرق الصوفية المعروفة كما نشأت في البوسنة ذاتها فرق ضالة أسسها زنادقة باسم الدين .
فقد ذكر المؤرخ التركي أوليا شلبي أن في سراييفو سبعاً و أربعين تكيَّة ، لخمس طرق صوفية (4).
و هذه الطرق الصوفية الخمس هي (5).
الطريقة القادرية :
المنسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني ( ت561هـ / 1166م ) ، و كان لها نفوذ و أتباع بين أهل الحرف و المهن خاصة .
الطريقة المولوية :
المنسوبة إلى جلال الدين الرومي(6) ( ت672هـ / 1273م في قونية ) ، و قد جاءت دعوتها إلى البوسنة في صورة متطورة لها طقوس تستعمل خلالها المعازف الموسيقية ، و ذكر أنه كان لها دور في استقرار الحكم في البلاد ، و قد نشأ في صفوفهم عدد من شعراء و أدباء البوسنة .
الطريقة الرفاعية :
المنسوبة للشيخ أحمد الرفاعي (7) ( 570هـ/ 1173م ) ، و هي التي جمعت حولها المريدين من فقراء أهل المدن ، و نشرت تعاليمها بينهم .
الطريقة الخلوتية :
المنسوبة إلى يوسف الخلوتي ، و قد كانت ذائعة الانتشار في ولايات الدول العثمانية ، و توطدت في سراييفو حيث أسس فيها زاوية و خانقاه ، سنة 938هـ / 1531م ، و عين فيها شيخاً خلوتياً .
الطريقة النقشبندية :
__________
(1) ... انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك : 181 .
(2) ... المرجع السابق ص : 158، 159 .
و : الدكتور محمد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا من بلغراد إلى سراييفو ، ص : 165 .
(3) : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 143 .
... مسلمو كوسوفو ألبانيون قلباً ، يوغسلافيون قالباً : زيارة ميدانية ( دراسة منشورة في مجلة العربي الكويتية ، العدد 277 ، ديسمبر 1981م ) ، ص: 82 .
(4) ... انظر : الدكتور محمد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص: 175 نقلاً عن أوليا شلبي .
(5) ... انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك : 160 .
(6) ... جلال الدين الرومي : هو محمد بن محمد بن محمد بن حسين بن أحمد الهاشمي المولوي ، كان عالما عارفا بالفقه على مذهب أبي حنيفة ، و عالما بالخلاف ، ثم تجرد ، و هام و ترك الدنيا و التصنيف و الاشتغال بالعلم.
انظر ترجمته في : الجواهر المضية في طبقات الحنفية 1 / 123 – 125 .
(7) ... الشيخ أحمد الرفاعي ، هو : أحمد بن أبي الحسن علي بن أحمد أبو العباس , المغربي البطائحي , العابد الزاهد , شيخ العارفين , قدم أبوه من المغرب , و سكن البطائح , بقرية أم عبيدة , وقد مدحه الإمام الذهبي ، ثم قال : ( و لكن أصحابه فيهم الجيد و الرديء , وقد كثر الزغل فيهم , و تجددت لهم أحوال شيطانية , منذ أخذت التتار العراق من دخول النيران , و ركوب السباع , و اللعب بالحيات , وهذا لا عرفه الشيخ , و لا صلحاء أصحابه , فنعوذ بالله من الشيطان ) . توفي سنة 578 هـ / 1182 م .
انظر ترجمته في : الكامل لابن الأثير 11 / 200 , وفيات الأعيان 1 / 171 , العبر 4 / 233 , سير أعلام النبلاء 21 / 77 .(/1)
المنسوبة إلى الشيخ محمد بهاء الدين النقشبندي (1) ( ت 791 هـ /
1389 م ) ، و قد كان لها وجود محدود في البوسنة مقارنة بسابقاتها .
و معلوم أن لهذه الطرق الخمس انتشار واسع في أنحاء العالم الإسلامي ، و الأقطار العربية باستثناء مناطق الجزيرة العربية ، التي كان وجود الطرق الصوفية فيها محدوداً و خاصة بعد ظهور الدعوة السلفية في نجد و ما حولها .
و إلى جانب الطرق الخمس السالفة الذكر عرف أهل البوسنة ثلاث طرق أخرى ذاع صيتها في البلقان خاصة ، و عرفت بانحرافها الشديد عن جادة الصواب و بعدها عن أصول الدين ، و هذه الطرق هي :
الطريقة البكتاشية :
... و تنسب إلى الحاج ولي بكتاش (2) ( ت 738 هـ / 1377م ) ، أحد تلاميذ إسحاق باشا الشهير .
و تجمع هذه الطريقة معتقدات وثنية ، و أخرى نصرانية ، إلى جانب بعض آراء الفرق الصوفية ، كالتعلق بالأضرحة و القبور (3).
و قد كان انتشارها في البوسنة محدوداً (4) مقارنة بما كان عليه في ألبانيا وكوسوفو مقدونيا ، حيث انتسبت إليها الأغلبية الألبانية من السكان .
و قد تلاشت أفكار هذه الطريقة ، و انتهت من الوجود في البوسنة اليوم ، و لكنها لا تزال موجودة في بعض أنحاء ألبانيا و لها أتباع و مريدون . (5) .
و نظراً لما عرف عن أتباع هذه الطريقة من بعد عن الصراط المستقيم ، و اعتقادهم كثيراً من الأمور المخالفة للعقيدة الإسلامية الصحيحة ، و تشبعها بأفكار وثنية و أخرى نصرانية ، فإنها تعتبر إحدى طرق الزنادقة الخارجين من الملة .
الطريقة القاضيزاديَّة :
و هي طريقة مارقة ظهرت بادئ الأمر في إسطنبول ، ثم انتشرت في أطراف الدولة العثمانية ، و كانت كسابقتها تجمع بين بعض العقائد الإسلامية و بعض عقائد الأديان الأخرى كالنصرانية ، و لذلك كان أتباعها في الغالب من النصارى الذين دخلوا الإسلام حديثاً ، و ظلوا متمسكين ببعض عقائدهم السابقة ، و عباداتهم الشركية ، كالتعلق بالمسيح عليه السلام و أمه ، و تعليق الصلبان ، و تقديس نصب الرهبان و نحو ذلك .
و قد وصف أحد الكتاب الغربيين أتباع هذه الفرقة فقال : (( إن أفراد تلك الطائفة الذين يخلطون خلطاً عجيباً بين النصرانية و الإسلام ، كانوا من الجنود الذين يعيشون على الأطراف القصية للمجر و البوسنة ، و هم يقرأون الكتاب المقدس باللسان السلافي … و تراهم يجنحون إلى تعلم القرآن و اللسان العربي … و يشربون النبيذ في شهر الصيام .. )) (6).
و لا شك أن هذه الفرقة خارجة عن الإسلام ، و لذلك اعتبرها بعض المؤرخين من ( البوتور ) الذين سبقت الإشارة إليهم عند ذكر ظاهرة (الدين
المختلط ) عند البوسنويين في الباب الأول من هذا البحث .
الطريقة الحمزوية :
__________
(1) ... الشيخ محمد بهاء الدين النبقشندي ، هو : محمد بن محمد بن محمد ، خواجه ، قال صاحب " الشقائق النعمانية " 1 / 154 – 155 : ( كان نسبته في الطريق إلى السيد أمير كلال ، و تلقن منه الذكر ! ، و تربى أيضا من روحانية الشيخ عبد الخالق الفجدواني ، سئل النبقشندي عن طريقته : مكتسبة أو موروثة ؟ فقال : ( شرفت بمضمون جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين ) !! . و انظر : كشف الظنون 1 / 488 .
(2) ... الحاج ولي بكتاش : قال عنه صاحب " الشقائق النعمانية " 1 / 16 : ( كان من جملة أصحاب الكرامات ، و أرباب الولايات ، و قبره ببلاد تركمان ، و على قبره قبة ( !! ) و عنده زاوية ، يزار و يتبرك به ( !! ) و تستجاب عنده الدعوات ، و قد انتسب إليه بعض من الملاحدة نسبة كاذبة ، و هو بريء منهم بلا شك ) اهـ.
و ذكر بعض الباحثين ، و هو الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في كتابه " الفكر الصوفي في ضوء الكتاب و السنة " ص 409 : أن هذه الطريقة تنسب إلى خنكار الحاج محمد بكتاش الخرساني النيسابوري المولود ، سنة 646 هـ / 1248 م ، ثم ذكر سفره لنشر طريقته ، حيث سافر إلى النجف بالعراق ، ثم حج البيت و زار ، و سافر بعد ذلك إلى تركيا ، و هناك نشر طريقته .
(3) ... انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك ، ص : 167 .
(4) ... ذكر أوليا شلبي في رحلته السياحية المسماة ( سياحت نامة ) ، ص : 397 : أن في البوسنة زاوية واحدة لأتباع الطريقة البكتاشية في مدينة تشايينتش ، و هو ما يدل على أن انتشار الطريقة كان محدوداً في البوسنة و الهرسك , و انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك ص : 217 و زيادة 341 .
(5) ... انظر : الطرق الصوفية في يوغسلافيا ، ص : 157 و ما بعدها .
(6) ... نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 98 .(/2)
و هي طريقة بوسنوية ، لأن مؤسسها الشيخ حمزة ، بوسنوي الأصل من مدينة زفورنيك البوسنوية ، و يرجح بعض الباحثين أنه من أحفاد الشيخ حمزة أورلوفيتش بالي البوسنوي ( ت 980 هـ / 1573م ) (1)و أنها لم تنتشر في بلد انتشارها في البوسنة ، رغم أن الشيخ حمزة كان قد بدأ دعوته إليها في مدينة بودابست بالمجر ، ثم انتشرت أفكاره و تعاليمه في البلقان و الأناضول ، و وصلت إلى مصر ، حيث استمرت نحو قرنين من الزمن . (2)
و كالطريقتين السابقتين في الذكر ، مثلت الطريقة الحمزوية نوعاً من ( الدين المختلط ) الذي جمع بين عقائد نصرانية ( بوغوميلية ) ، و أخرى إسلامية ، و كان كثير من أتباعها حديثي عهدٍ بالإسلام ، مما سهل تقبلهم و تحمسهم لها و ساعد على انتشارها بينهم ، مع احتفاظهم ببعض معتقداتهم النصرانية (3) .
و كان أول انتشار للحمزوية في البوسنة في منطقة بوسافينة
( posavina ) المحيطة بنهر السافانا شمال البوسنة ، و من هناك انطلقت إلى صربيا ، ثم انتشرت في أنحاء منطقة البلقان كافة . (4)
و ينسب إلى الحمزوية إضافة إلى تأثرها بالنصرانية اعتقاد أتباعها بالمساواة بين الأنبياء ، و عدم تفضيل محمد - صلى الله عليه وسلم - على سائرهم عملاً بقوله تعالى : { لا نفرق بين أحد من رسله } [ البقرة : 285 ] ، و لعل هذا ما برر لهم اتباع نبيي الإسلام و النصرانية في آن واحد ـ بحسب زعمهم ـ و جمعهم بين عقائد متعارضة ، كما ينسب إليهم الميل إلى عقيدة ( وحدة الوجود ) التي يقول بها غلاة المتصوفة .(5)
يضاف إلى ذلك غلوهم في الشيخ حمزة بالي باعتقادهم أنه القطب المغيث ، و وارث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي له الكشف و الاطلاع على الغيب ، و القادر على إسعاد الناس في الدنيا ، و إيصالهم إلى الجنة في الآخرة ، إلى غير ذلك من الاعتقادات المخرجة عن الملة (6) .
و بعد أن ذاع صيت هذه الطريقة تنبهت السلطات العثمانية إلى خطرها ، فأصدر شيخ الإسلام في السلطنة العثمانية سنة 986 هـ / 1579 م أمراً لقاضي البوسنة الشيخ بالي أفندي بن يوسف البوسنوي ( ت : 990 هـ / 1582 م ) (7)، بمقاضاة الحمزويين و محاكمة دعاتهم ، بعد أن صاروا ينشرون مذهب شيخهم الفاسد و يدعون أنهم أهل الطريقة و الحقيقة ، مع ما ينطوي تحت ذلك من نبذ للشريعة ، و طلب للإباحية الواسعة .
فكان ما أرادت السلطات حيث حوكم مشائخ الطريقة ، و أصدر القاضي بالي أفندي بن يوسف حكماً شرعياً بردتهم عن الإسلام و وجوب محاربتهم و قتل من استتيب فلم يتب منهم .
و عملاً بهذه الفتوى خرج علماء البوسنة و رجالها يتقدمهم الشيخ العلاَّمة حسن كافي الآقحصاري و الوزير الأعظم محمد باشاصوقولوفيتش ـ الذي قتله فيما بعد أحد أتباع الطريقة الحمزوية ثأراً لشيخه ـ يتقصون أثر الحمزوية الفارين إلى الجبال فيعملون فيهم القتل ، حتى استأصلوا شأفتهم ، و ألجأووا من نجا منهم إلى التخفي و كتمان عقيدته ، و سيق شيخهم حمزة بالي إلى إسطنبول حيث أعدم فيها مع أحد عشر من أتباعه سنة 980 هـ / 1573 م و بهذا قضي على أخطر طرق الزنادقة ( المدعية للتصوف ) في البوسنة و الهرسك ، و لم تقم لها قائمة بعد ذلك و لم يبق لهم أثر حتى يومنا هذا ، و لولا التاريخ لما عرف ذكرهم ، و الحمد لله (8) .
و لدينا اليوم شاهدان تاريخيان يدلان على اتساع قاعدة التصوف في البوسنة و تأثيره في الشعب البوسنوي بشكل ملحوظ .
أحدهما حضاري معماري ، و الآخر علمي معرفي .
__________
(1) ... كان حمزة منسباً إلى الطريقة البيرامية ، قبل تأسيس فرقته ، و كان خليفة الشيخ حسام الدين الأنقوري خمسة أعوام ، و قد قتل شيخه تحت القلعة بإسطنبول سنة 964هـ / 1557 م ، بعد أن ظهرت منه أمور غير ملائمة للشرع الشريف ، كما قضى بذلك صاري خواجة محمد أفندي ، قاضي أدرنة .
انظر : ترجمته في : الجوهر الأسنى ، للشيخ الخانجي ، ، ص : 85 برقم ( 71 ).
و : الدكتور عمر ناكيجيفيتش : حسن كافي الآقحصاري رائد العلوم الإسلامية و العربية في البوسنة و الهرسك ، ص : 85 .
(2) ... انظر : الدكتور محمد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 165 .
(3) ... انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 144 .
(4) ... انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك ص : 143 .
(5) ... انظر : الدكتور محمد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص: 165 ، و : الأدب البوسنوي باللغات الشرقية ، ص : 202 .
(6) ... انظر : الطرق الصوفية في يوغسلافيا ، ص : 197 .
(7) ... بالي أفندي يوسف ، قاضي البوسنة الشهير ، ولد في سراييفو و أخذ العلم عن علمائها ، ثم صار معلماً للأولاد ، حتى أدخله الوزير الأعظم محمد باشا صوقولوفيتش في جملة المدرسين ، و تقلب في عدة وظائف آخرها القضاء .
انظر ترجمته في : الجوهر الأسنى ، للشيخ محمّد الخانجي ، ص : برقم 39 ، ص: 50 .
(8) ... انظر : الجوهر الأسنى ، للشيخ محمّد الخانجي ، ص : 51 .(/3)
أما الشاهد الحضاري فهو انتشار تكايا الصوفية و زواياهم في أنحاء البوسنة (1) ، حيث زاد عددها في بعض المناطق على عدد المساجد .
و كانت أولى تكايا الصوفية في سراييفو تكية ( إسحاق بيكوفيتش ) لأتباع الطريقة المولوية ، و هي مبنية قبل عام 867 هـ / 1463م .
ثم تلتها تكيَّة ( إسكندر باشا ) لأتباع الطريقة النقشبندية ، و قد بنيت سنة 905 هـ / 1500 م ، و في القرن السابع عشر للميلاد أسست تكيتان كانتا الأشهر بين تكايا الصوفية في البوسنة ، و هما : تكية سنان باشا ، و تكية
البيستريغينا . (2)
و قد ذكر الرحالة التركي إيليا شلبي أنه كان في سراييفو وحدها سبع و أربعون تكية في منتصف القرن السابع عشر الميلادي (3) ، و سبع عشرة تكية في
بلغراد .
أما الشاهد الثاني فهو : اهتمام أهل البوسنة بكتب الصوفية جمعاً و دراسةً و تصنيفاً ، حتى صارت كتبهم هي الأكثر نسبة بين ما حوته المكتبات العامة و الخاصة من مخطوطات .
و للتمثيل على ذلك نشير إلى أن التكايا الصوفية كانت تغص بالكتب و المخطوطات ، ففي تكية سنان باشا بمفردها في سراييفو كان يوجد مئتان و اثنتان و
عشرون مخطوطاً (4)، و ليس غيرها من التكايا بأقل حظاً منها في جمع كتب الصوفية .
و لا يسعنا إغفال دور أعيان البوسنة في خدمة و حفظ تراث الصوفية العلمي ، و العناية بكتبهم ، الأمر الذي نوثقه بإلقاء نظرة على إحدى وقفيات الكتب في البوسنة و هي وقفية درويش باشا الموستاري ، حيث ذكر في وقفيته التي كتبها بيده واحداً و أربعين كتاباً تشمل علوم مختلفة و يظهر من عناوينها عظم اهتمامه بكتب الصوفية ، و ظهور نسبتها بين ما أوقفه من كتب أكثر من تسعة أعشارها في الأوراد و الكرامات و أحوال أهل الطرق(5) .
لا بد من الإشارة هنا إلى أنَّه على الرغم من الدعم الرسمي الذي قدَّمته الدولة العثمانيَّة ، و من بعدها الأنظمة العلمانية التي تسلطت على البوسنة ، فإنَّ قدراً من التصدي للصوفيَّة قد كان موجوداً بين علماء البوسنة .
... و قد كان لخصوم التصوف في البوسنة منطلقان في مقاومته :
... المنطلق الأوَّل : و هو باعتبار الطرق الصوفيَّة طرقاً مبتدعةً في الدين ، و فيها مخالفاتٌ كثيرة للكتاب السنة ، و لما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم ، في العلم و العمل ، التي ربَّما أدَّت بصاحبها إلى المروق من الإسلام .
... و قد عرف بالتصدي للتصوف و الصوفيَّة من هذا المنطلق عددٌ من علماء الإسلام البشانقة ، و من أشهرهم العلاَّمة حسن كافي الآقحصاري ، الذي سبقت الإشارة إلى موقفه من الحمزويين ، حيث حكم بكفرهم ، و دعا إلى مجاهدتهم ، و كان سبَّاقاً إلى ذلك .
لقد صنَّف الشيخ حسن كافي الآقحصاري كتاب : ( روضات الجنات في أصول الاعتقادات ) ، و شرحه فيما بعد في كتاب سمَّاه : ( أزهار الروضات في شرح روضات الجنَّات ) : لنقض أوهام فرقة ( الحمزوية ) ، التي أنكر منكرها بيده حين خرج في تلاميذه لجهادهم ، ثم بقلمه من خلال التأليف و التصنيف ، فعمد إلى الكتابة ، و آثر أن يعتمد على مؤلَّفات السابقين ، في تقرير ما أراد لأنَّ (( التأليف الجديد سيجد صعوبة بالغة في تقبل الناس له ، بل سيجد معارضة شديدة منهم ، حيث كانت كتب المتون القديمة المشهورة قد انتشرت ودُرِّسَت في جميع المدارس ، فجَمَعَ تلك المتون في كتابٍ واحد ، وشرحه شرحاً أضاف به إليها صبغة
جديدة … )) (6) .
و في هذا الكتاب قرَّر الشيخ مسائل العقيدة ابتداءً ، مع الاعتداد – أحياناً – بالأدلَّة العقليَّة ، التي تنقض دعاوى ( الحمزويَّة ) القائمة أصلاً على حجج المعقول ، و لا حظ لها في المنقول .
أمّا من بعد الشيخ حسن كافي فلم يكونوا على نفس المكانة العلمية أو العملية في التصدي للتصوف و الصوفية .
و في العصر الحديث نزع كثيرٌ من البوسنويين إإلى اعتبار التصوف مكمِّلاً للعلوم الشرعيّة الأخرى ، و عدّوا العلم بدونه قشور ، و التصوف المجرَّد من العلم الشرعي ضلال ، و أن الإسلام الحق مضيّعٌ بين تفريط مفرّط ، و إفراط مُفرط .
__________
(1) ... يقول الدكتور نياز شكريتش : كان الصوفية يقومون بأداء عباداتهم و أذكارهم في البداية في أحد أركان الجامع ، و يطلقون على هذا المكان اسم الزاوية ، و مع مرور الأيام انفصلت الزوايا عن المساجد تماماً ، و بالصورة المنفصلة عرفت التكايا في البوسنة ، و هي مبان خاصة تسمى الواحدة منها ( تكية ) أو ( رباط ) . انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك : 181، 182 .
(2) ... انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 143 .
(3) ... انظر : سياحت نامة ، لأويليا شلبي ، ص : 110 .
(4) ... انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 142 .
(5) ... انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك : 290- 296 .
(6) ... انظر : مقدمة الدكتور زهدي عادلوفيتش ، لكتاب نور اليقين ، ص : 56 .(/4)
يقول الأستاذ حسين جوزو : (( غلا الفقهاء من جهةٍ ، و الصوفيَّةُ من جهةٍ أخرى ، فحوَّل علماء الظاهر الإسلام إلى مجرَّد قشور ، بينما أفرط علماء الحقيقة في الجانب الروحي )) (1) .
أما المنطلق الثاني : فهو باعتبار المتصوِّفة و الطرق الصوفية ، حجر عثرة في طريق الدعاة إلى الجهاد ، و المتعطشين إلى إقامة مجتمع إسلامي بين البوشناق ، و تحرير المسلمين من سلطة النصارى التي أخضعتهم أكثر من قرن ، عملت خلاله على مسخ شخصيَّتهم الإسلاميَّة ، و إبعادهم عن دينهم ، و تجريدهم حتى من العادات و التقاليد التي تمت إلى الإسلام بصلة ما .
و من أبرز المتصدِّين للتصوف من هذا المنطلق الرئيس علي عزَّت ، الذي ما لبث يؤكِّد في كتاباته على اعتبار الصوفية مثبِّطة عن الجهاد في سبيل الله ، و مبرِّرة للخنوع و الخضوع الذي كان عليه مسلمو البلقان تحت الحكم الشيوعي .
فهو يعتبر (( الفلسفة الصوفية و المذاهب الباطنية تمثل بالتأكيد نمطاً من أكثر الأنماط انحرافاً و لذلك يمكن أن نطلق عليها ( نصرنة ) الإسلام ، إنها انتكاسة بالإسلام من رسالة محمد إلى عيسى عليهما السلام )) (2).
كما يجمع بين أهل التصوُّف المذموم و العقلانيين باعتبار دورهم في حصر الإسلام في بعض جوانبه ، في قوله (( لقد أكد المتصوفة باستمرار على الجوانب الدينية - فقط - للإسلام ، بينما أكد العقلانيون على الجانب الآخر ، و كلا الفريقين لم يكن طريقه مع الإسلام ميسراً )) (3) .
و إذا جاز أن يُقال : إنَّ الإسلام جاء ليحض على العبادة و تقويم السلوك ، و ليس لتقديم نظام سياسي ، فإنَّما يجوز ذلك عند من يرى الإسلام مرحلته المكيَّة ، و يجهل أو يتجاهل المرحلة المدنيَّة من تاريخ الدعوة الإسلامية ، حيث شُرع الجهاد و قامت دولة الإسلام ، و هذا يدُلُّ على تطوُّر الإسلام ، لا على جموده الذي يروِّجُ له دعاة فصل الدين عن الدولة فلقد (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء صائماً متنكساً متصوفاً حنيفاً ، و كان في مكة داعياً إلى فكرة دينية ، أما في المدينة ، فقد أصبح داعية إلى الفكرة الإسلامية … فهناك و ليس في مكة بداية و مصدر النظام الإسلامي الاجتماعي كله … لقد بدأ الإسلام صوفياً و أخذ يتطور حتى أصبح
دولة )) (4).
و يجمع الرئيس بين الصوفيَّة و عموم الواقفين في وجه الإسلام فيقول محذراً : (( لقد انشطرت وحدة الإسلام على يد أناس اختزلوا الإسلام إلى دين مجرد أو إلى صوفية … ذلك لأن المسلمين عندما يهملون دورهم في هذا العالم … تصبح الدولة قوة عريانة لا تخدم إلا نفسها ، في حين يبدأ الدين ( الخامل ) يجر المجتمع نحو السلبية و التخلف ، و يشكل الملوك و الأمراء و العلماء الملحدون ، و رجال الكهنوت و الفرق الصوفية ، و الشعراء السكارى الوجه الخارجي للانشطار الداخلي الذي أصاب الإسلام )) (5) .
و قريباً من هذا المذهب يقف الأستاذ حسين جوزو ، حيث يقول : (( لا يمكننا التسليم بقول الصوفيَّة : إن العلم يمكن تحصيله بطريق الكشف … لأنَّه في الوقت الذي كانوا يذكرون فيه الكشف و الكرامات الواقعة على أيدي بعض المشائخ ، و منها إحياء الموتى (!) كان العالم الإسلامي يتعرَّض لصنوف المحن و الشدائد .
ألم يكن غزو المغول و وحشيَّتهم ، و الحروب الصليبيَّة ، و العدوان الإسرائيلي فرصةً مواتية لإظهار حقيقة الكشف و قيمة الكرامات !!
إنَّ ذلك لم يتم بل بقيت الخرافات و الحكايات المختلقة عن الكشف و الكرامات ، مجرَّد روايات لا تزال تروى إلى اليوم في المجتمعات المتخلِّفة )) (6) .
و من هذين المنطلقين وقف عدد من الكتَّاب المسلمين من أبناء البوسنة في وجه المد الصوفي الكاسح ، و لكن جهودهم لم تكن كافية لوقف مده ، أو الحد من انتشاره .
و لا يعني هذا أنه استمرَّ في الانتشار ، بل على العكس من ذلك ، كاد التصوف يتلاشى نهائيَّاً من الوجود في المجتمع البوسنوي ، حيث نفر المسلمون منه كما نفروا من كلِّ ما يمت إلى الإسلام بصلة بتأثير حملات التغريب التي قام بها الشيوعيُّون بين مسلمي يوغسلافيا عامة و مسلمي البوسنة على وجه الخصوص .
__________
(1) ... حسين جوزو : الإسلام و العصر ، ص : 135 .
(2) ... الإسلام بين الشرق و الغرب ص: 287، 288 .
(3) ... المرجع السابق ، ص: 35 .
(4) ... المرجع السابق ، ص : 279 .
(5) ... الإسلام بين الشرق و الغرب ص : 287 .
(6) ... حسين جوزو : الإسلام و العصر ، ص : 153 .(/5)
فلقد اختفت الطرق الصوفيَّة حينما اختفت المدارس الشرعية ، و لوحق مشائخها و مرشدوها عندما لوحق علماء يوغسلافيا و مفكروها ، و حوت السجون الجميع دون تفريق ، أمَّا التكايا و الزوايا فقد آلت إلى حالٍ لا تختلف كثيراً عن الحال التي آلت إليها المساجد و المصلَّيات ، فأغلق الغالب منها ، و حول بعضها إلى مرافق عامة كالمتاحف و اصطبلات الخيول ، أمَّا ما تبقى منها فرُصد روَّاده من المسلمين ، و ضيِّق عليهم حتى حصروا في ثلَّة من المشائخ الرسميين ، و العجزة , و كبار السن .
هذه هي الحال التي كانت عليها الصوفيَّة في البوسنة و الهرسك منذ العهد العثماني ، و حتى نشوب الحرب الأخيرة التي آذنت بعودة جديدة للإسلام ، كان من بين مظاهرها عودة البعض إلى التصوُّف من جديد ، و من هؤلاء طلاَّب علم لقيت بعضهم في دمشق و القاهرة ، و علمت منهم أنَّ المشيخة الإسلاميَّة قد ساعدتهم على الرحلة في طلب العلم و التتلمذ على مشائخ الصوفيَّة في العالم العربي بعد أن شعرت بقوَّة المد السلفي في البوسنة الذي ترفده هيئات خيرية ، و جامعات سلفيَّة في منطقة الخليخ العربي و خارجه .
كما لقيت في دمشق و حلب طائفة من دعاة البوسنة المعاصرين يتتلمذون على بعض مشائخ الصوفيَّة في دمشق ، و يدرسون فيما يدرسون كتاب ( الرسالة القشيريَّة ) في التصوُّف ، و منهم الدكتور شفيق كورديتش أستاذ الحديث النبوي و علومه في الأكاديمية الإسلاميَّة في زينتسا ، و الحافظ خليل مهتيتش مفتي وسط البوسنة السابق ، علماً بأنَّهما و من كان معهما يُحسبون في البوسنة على الاتجاه السلفي ، و قد أوذي بعضهم بهذه الذريعة .
انتشار البدع في حياة مسلمي البوسنة و الهرسك
لا يخلو مجتمعٌ يعاني من الجهل بالدين و البعد عن تعاليمه الحقة ما عاناه و يعانيه المجتمع البوسنوي المسلم من شيوع البدع و انتشار الخرافات بين أفراده ، و كفى للدلالة على ذلك أنَّ من البوشناق من خلطوا بين الأديان في بعض مراحل تاريخهم ، فخرجوا بعقائد لم يسبقوا إليها .
و هذا أخطر بكثير من شيوع البدع التي قد تكون في فروع الدين ، و ليس بالضرورة أن تكون مكفِّرة مخرجةً من الملَّة .
و شأن البوسنة في ذلك شأن سائر ولايات الدولة العثمانيَّة ، فما من بدعةٍ ظهرت في دار الخلافة إلاَّ و كان لها وجود - متفاوتٌ في حجمه - في مختلف أنحاء السلطنة .
و من البدع التي لها وجود ملحوظٌ في البوسنة و الهرسك أكتفي بذكر ما هو لافتٌ واسع الانتشار :
المبالغة في الاهتمام و العناية بالأضرحة و قبور الصالحين ، و بناء القبب عليها و اتخاذها مساجد تنشر في كلِّ مكان ، و يعيَّن عليها قيِّمون ، و تخصَّص لها أوقاف ، و تجبى إليها نذور و قرابين .
و ربَّما كان بناء القباب على القبور بحرصٍ على تنفيذ وصيَّة من صاحب القبَّة نفسه ، و للتمثيل على ذلك تحسن الإشارة إلى وقفيَّة المحسن سنان بيك في بلدة جاينتسة ( Cajnice ) التي جاء فيها : (( أوصى الواقف ابنه سليمان أن يبني له ضريحاً من الحجر من موارد نقوده الموقوفة ، كما أوصى أن يعيَّن في ضريحه حارسٌ و فرَّاش ، و قرَّاءٌ للقرآن ، و مشرف على هؤلاء الموظَّفين )) (1) .
كما (( كان الواقف كثيراً ما يوصي بدفنه بجانب مؤسَّساته الخيريَّة ، مع أهله و أقربائه ثمَّ أصحاب المحلَّة المشهورين .
و بجانب الجوامع الكبيرة كان مؤسسوها يبنون المقابر الخاصَّة على شكل أضرحةٍ تسمى في البوسنة ( تربةً ) ، و هي عبارة عن بناء صغير مكشوفٍ أو مسقوفٍ ، و هندسته في الغالب مأخوذة من فن المعمار العثماني .
و هناك عددٌ غير قليل من هذه الأضرحة في البوسنة حول المساجد و الزوايا ، و غيرها من المؤسَّسات الدينية ، دُفنت فيها شخصيَّات من الطبقات المختلفة .
كما بني عدد من الأضرحة الخشبيَّة المسقوفة التي بناها الناس للأفراد الذين استُشهِدوا في الدفاع عن الإسلام ، أو شيوخ الطرق الصوفيَّة أو مريدوهم أو
العلماء .
و لم تكن تمضي سوى مدَّة قصيرة حتى تشيع بين الناس الحكايات أو الأساطير حول أصحاب هذه الأضرحة ، حتى تصبح موضع الزيارات و الاحتفالات الشعبيَّة التي تقام حول بعضها .
و حسب الروايات المحلِّيَّة فإنَّ كثيراً من الأضرحة القديمة يرجع إنشاؤه إلى أيَّام الفتح العثماني للبوسنة )) (2) .
__________
(1) ... نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك ، ص : 216 .
(2) ... المرجع السابق ، ص : 191.(/6)
و لم يحدَّ من انتشار الأضرحة و الغلو في أصحاب القبور موقف بعض العلماء المتأخرين ، حتى و إن اعتبروا بعض ما يجري عند الأضرحة و المزارات شركاً مخرجاً من الملَّة ، كقول الأستاذ حسين جوزو : (( لا أثر للاختلاف في التسمية ، فقد كانت الأوثان في عصر النبوَّة تسمى لات و عزَّى ، و نحو ذلك ، و تسمى اليوم مزاراً أو ضريحاً أو مرشداً أو تميمة ، أو غير ذلك ، و كلُّها أوثان ، لأنَّ الناس يقصدونها لطلب المدد ، و يسألونها الشفاعة )) (1) .
ربَّما لما عرف عن المشائخ المعارضين لما يجري عند الأضرحة و المزارات من تجاوزات ، و أفعال مخالفة للشرع الحنيف ، من سكوتٍ عن منكرات كانت شائعة في زمانهم ، أو ممالأة للحكم الشيوعي الذي عاصروه .
أو لأنَّ هذه الدعوات جاءت متأخرةً جداً ، و بعد أن فقد كثيرٌ من المسلمين أبسط مظاهر انتمائهم إلى الإسلام ، ممَّا جعل المتعلِّقين بالأضرحة لا يعرفون من الإسلام إلاَّ تعلُّقلهم و استغاثتهم بالأموات ، ظناً منهم أنَّ هذا السلوك هو ما تبقى من الإسلام ، و يجب عليهم أن يتمسَّكوا به مهما اشتدَّت المعارضة لهم أو تعالى النكير عليهم .
عُرف عن أهل البوسنة بالإضافة إلى غلوِّهم في الصالحين ، و اهتمامهم المفرط بأضرحة الأولياء ، تمسُّكهم ببعض المظاهر البدعيَّة في دفن موتاهم ، و من
ذلك (2) :
نقش رموز مختلفةٍ على قبور موتاهم مثل الهلال و النجوم و السيف و القوس ، و في بعض الأحيان أجزاء من جسم الإنسان كالرأس و اليد ، و ما إلى ذلك .
و جود المقابر القديمة للمسلمين بالقرب من مقابر النصارى ، الأمر الذي يستدلُّ به بعض الكتَّاب على أنَّ أصحابها من حديثي العهد بالإسلام كانوا يحرصون على البقاء على مقربة من أقربائهم النصارى حتى بعد الموت .
حرص المسلمين البوشناق على دفن موتاهم حول المساجد .
الوصيَّة بقراءة القرآن ( و خاصَّة أم الكتاب ) لقاء أجرٍ ماديٍ معلوم ، و ثمَّ جعل ثواب القراءة هبةً للميِّت ، و قد كان هذا لدى البشانقة من الكثرة بمكان ، حيث كان يكتب في الوصايا ، و يصرف عليه من الأوقاف التي خلَّفها الميِّت ، أو من أوصى بالقراءة له ، و أمثلة هذا كثيرة في البوسنة ، و منها :
جاء في وقفيَّة درويش بايزيد آغا الموستاري تخصيص أربعة دراهم يوميَّاً لفرَّاش الجامع لقاء قيامه بالتنظيف و قراءة الفاتحة لروح الواقف (3) .
و جاء في وقفيَّة خدا وردي ابن علي المعروف باسم محمد بيك غلام شاهي ، تعيين خمسة قرَّاء يقرأون القرآن لروح الواقف يوميَّاً ، لقاء درهمٍ و نصف لكلِّ واحدٍ منهم ، و درهمين لرئيس القرَّاء يوميَّاً . كما وقف على قراءة القرآن على قبر أخيه ثمانيةً و أربعين درهماً سنويَّاً ، و لقراءة القرآن لروح زوجته شريفة بنت أوكوز مثل ذلك (4) .
و جاء في وقفيَّة الحاج مصطفى آغا كزلر آغا في مدينة يايتسة ( Jajce ) حيث عيَّن قرَّاءاً لتلاوة القرآن الكريم لروح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و لروح الواقف و أقربائه ، و خصًّص له من وقفه ثلاثةً و عشرين درهماً ، كلَّ يوم (5) .
من كبريات البدع ، و أوسعها انتشاراً في البوسنة و الهرسك ما يُعرف عند البشانقة باسم ( الحج الأصغر ) (6) ، حيث يؤُمُّ البوشناق المسلمون بمختلف طبقاتهم الاجتماعية بلدة آيفاتيفيتسا ( Ajvatovica ) ، قرب مدينة آقحصار الشهيرة ، في يومٍ محدَّدٍ من كلّ عام تحت تغطية إعلاميَّة واسعة ، و تشجيعٍ كبيرٍ من المشيخة الإسلاميَّة ، و رئاسة العلماء ، و السلطات الرسميَّة في البلاد .
و في محفل عظيم ينظم في ذلك المكان بحضور عشرات الآلاف ، تختلط المشاعر القوميَّة و الدينية لدى البوشناق ، فبينما يشهد بعضهم هذه المناسبة باعتبارها موسماً من مواسم الخير ، و من مظان البركة و القبول ، يستغل الساسة و رجال الحكم تجمع الناس لإثراء الانتماء القومي البوشناقي ، و الحفاظ على وحدة هذا الشعب الصغير .
__________
(1) ... حسين جوزو : الإسلام و العصر ، ص : 150 .
(2) ... نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك ص : 190 ، 191 .
(3) ... انظر : وقفيَّة إبراهيم باشا ، المحفوظة بمكتبة الغازي خسرو بيك في سراييفو ضمن سجلِّ الوقفيَّات رقم (1) ص : 66 .
(4) ... انظر : وقفية خُدا وردي بن علي ( المحفوظة في مكتبة الغازي خسرو بيك بسراييفو تحت رقم 110 ) .
(5) ... انظر : وقفية الحاج مصطفى آغا كزلر آغا ( المحفوظة في مكتبة الغازي خسرو بيك بسراييفو تحت رقم
263 ) .
(6) ... انظر : مجلَّة الصف ، العددان ( 8 و 19 ) .(/7)
و هكذا يتواتر الساسة ، و رجال المشيخة الإسلاميَّة علماء و مدرِّسين و أئمة مساجد و طلبةً في الكليَّات و المعاهد العليا و المدارس الإسلاميَّة ، من أقطار البوسنة و بلدان مجاورة منها صربيا ، و كرواتيا ، و ألبانيا ، و غيرها ، على حضور هذه المناسبة ، التي يطلقون عليها أسماء من قبيل : يوم الدعاء المقدَّس ، و الاجتماع الديني و يتجرَّأ بعضهم فيسمي المكان ( كعبةً مصغَّرةً ) ، فضلاً عن تسمية المناسبة عند العامَّة بالحج الأصغر ، كما أسلفنا .
و لهذه البدعة أصل من الخرافة لم يوثِّقه أحدٌ من علماء البوسنة ، و هو كما أخبرني به غير واحدٍ ممَّن يشهدون المناسبة ، و منهم الشيخ الحافظ خليل مهتيتش ، أنَّ أهل تلك البلدة قنطوا ذات يومٍ ، و تأخَّر عليهم القطر من السماء ، و لم يرفع عنهم العناء إلا عقب رؤيا رآها أحد الأولياء المعروفين في تلك المنطقة ، و هو أيفاز ديدو ، بعد أن توجَّه إلى الله بالدعاء ليسقي قومه ، ثمَّ صلَّى الفجر و اضطجع ، فرأى فيما يراه النائم أنَّ كبشين ينتطحان في موضع معلوم من القرية و بينهما صخرة عظيمة تتفتت فينبع الماء من تحتها ، ثمَّ أفاق مذعوراً ، و قصد المكان الذي رآه و هو نائم فإذا بالماء يتدفَّق .
و من يومها اتخذ البشانقة المكان عيداً يتجمَّعون فيه مرَّة في العام عند الضحى فيدعون الله ، و يردِّدون أذكاراً خاصَّةً بهذه المناسبة ، حتى أذان الظهر ، حيث يصلِّي من كان منهم من أهل الصلاة ، ثمَّ ينصرفون .
و إلى جانب المشروع من العبادات و الأذكار يتوجَّه جلُّ الحضور إلى القبور بالدعاء و التبرُّك و التوسُّل ، بينما ينزع بعضهم من حجارة الجبل ، و يغترفون من تربته ما يقوون على حمله ، التماساً للبركة و إبراء المرضى ، و قضاء الحوائج .
و يجري ذلك كلُّه اليوم في جوٍّ مشحون باختلاطٍ الرجال بالنساء ، و تبرُّج الفتيات ، ممَّا يجرِّد المناسبة من صفتها الدينيَّة ( المبتدعة ) التي كانت عليها في الأصل .
و قد حاول بعض الدعاة الشبَّان من أبناء البوسنة التصدِّي لهذه البدعة و لكنَّهم أخفقوا ، كما أخفق آخرون تجريدها من الصفة الدينيَّة لتخفيف النكير على ممارسيها (1)، لأنَّ ما استقرَّ في أذهان البوشناق عبر مئات السنين يستحيل أن يتلاشى أمام نكير الأفراد ، أو معارضة من يسمِّيهم خصومهم بالشبَّان المتهوِّرين ، و يتَّهمونهم بالسلفية و التكفير و نحو ذلك .
انتشار البدع و خطره على التمسك يالسنة النبويّة
مما لا ريب فيه أنَّ من آثار شيوع البدع بين المسلمين إماتة السنن و تعطيل العمل بها فيما بينهم .
لذلك يذهب كثير من العلماء إلى تعريف البدعة بأنها ما قابل السنة ، و يقولون : إن البدعة هي خلاف السنة ، فما خالف النصوص فهو بدعة ، باتفاق المسلمين (2) .
و هذا المذهب يكتسب وجاهة خاصة من علاقة التضاد بين السنة و البدعة ، فالفعل الواحد ذاته ، لا يمكن أن يكون بدعة و سنة في وقت واحد .
لأن السنة جاءت بذم البدع ، و دعت إلى الإعراض عنها ، و محاربتها ، و التبرئ منها و من أهلها ، فلا يمكن أن تقوم بدعة قبالة السنة و ؛ لأن القلب لا يتسع إلى الأمر و نقيضه .
فكلما شاعت البدع ، انزوت السنن ، حتى تموت السنن ، و تفشوا البدع (3) ، لأنه ما ظهرت بدعة إلا و ماتت سنة من السنن ، في مقابلها و ما أشيعت إلا بعد أن تخلى الناس عن السنة الصحيحة ، و فسدت نفوسهم ، فكانت البدعة كالعلامة الدالة على ترك طريق السنة (4) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : (( لا يأتي على الناس زمان الإ أحدثوا فيه بدعة ، و أماتوا فيه سنة ، حتى تحيا البدع و تموت السنن )) (5)
__________
(1) ... من الاقتراحات التي تقدَّم بها بعض المعاصرين بهذا الخصوص ؛ اقتراح الشيخ نصرت أفندي ، الذي أيده عدد من الدعاة الشباب أمثال زهدي عادلوفيتش ، و شفيق كرديتش ، بإجراء تغيير داخلي في هذه الظاهرة بجعلها ذات صبغة عسكريَّة جهاديَّة تستغل في تجنيد الشبَّان و تدريبهم على حمل السلاح ، و إعدادهم للجهاد في سبيل الله ، بدلاً من إلغائها بالكلِّيَّة ، لأنَّ ذلك قد يثير فتنةً ، و فرقة بين مسلمي البوشناق .( الباحث ) .
(2) ... انظر : السنة و البدعة ، للحضرمي ، ص : 104 .
(3) ... انظر : مجموع الفتاوى : 20 / 163 .
(4) ... البدعة و المصالح المرسلة ، لتوفيق الواعي ، ص : 210 .
(5) ... أخرجه الطبراني في " الكبير " 10 / 319 ، و ابن وضاح في " البدع " ص 25 – 26 ، و ابن بطة في
" الإبانة " 1 / 176 ( 10 ) ، و اللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " ( 124 و 125 ) من طرق عن عبد المؤمن بن عبيد الله ، عن مهدي بن أبي مهدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - به . و في بعض ألفاظه :
( ما من عام إلا و تظهر فيه بدعة ، و تموت فيه سنة ، حتى تظهر البدع و تموت السنن ) .
قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 1 / 188 : ( رواه الطبراني في الكبير ، و رجاله موثقون ) .
قلت : رجاله كلهم ثقات ، سوى مهدي بن أبي مهدي ، و هو : ابن حرب الهجري ، روى عنه اثنان ، و قال ابن معين : ( لا أعرفه ) . و ذكره ابن حبان في " الثقات " ، و صحح ابن خزيمة حديثه . كما في " تهذيب التهذيب "10 / 324 .
و قال فيه ابن حجر في " التقريب " ( 6928 ) : ( مقبول ) .(/8)
.
و كان محمد بن سيرين يقول : ( ما أحدث رجل بدعة فراجع السنة ) ، و في رواية : ( ما أخذ رجل ببدعة فراجع سنة ) (1) .
و قد يكون اعتماد من قرن بين شيوع البدع ، و موت
السنن على ما روي عن غضيف بن الحارث (2) ، قال : بعث إليَّ عبد الملك بن
مروان (3) فقال : يا أبا أسماء إنا قد جمعنا الناس على أمرين ، قال : و ما هما ؟ قال رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة ، و القصص بعد الصبح و العصر ، فقال : أما إنهما مثل بدعتكم عندي ، و لست مجيبك إلى شيء منهما ، قال : لم ؟ قال : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ما أحدث قوم بدعة ، إلا رفع مثلها من السنة )) (4) . فتمسك بسنة خير من إحداث سنة .
و هذا الحديث لا يسلم من طعن ، فلا حجة فيه ، على أن المعنى المراد منه صحيح تشهد له عمومات الأدلة الشرعية .
و قال حسان بن عطية (5): (( ما ابتدع قوم في دينهم بدعة إلا نزع الله مثلها من السنة ثم لا يردها عليهم إلى يوم القيامة )) (6) .
و إذا أريد للسنة أن تحيا فلا بد في المقابل من إماتة البدعة ، فكما أن هجر السنة يحيي البدع ، لا ريب أن التمسك بالسنة يميتها .
قال شيخ الإسلام : (( إن هجر ما وردت به السنة ، و ملازمة غيره قد يفضي إلى أن يجعل السنة بدعة و المستحب واجباً ))(7) ، و كفى بهذا خطراً على الإسلام ، و جناية على الشريعة .
__________
(1) ... أخرجه الدرامي ( 208 ) في المقدمة ، باب كراهية أخذ الرأي ، و الهروي في " ذم الكلام " ( 756 ) ، من طريق أبي إسحاق الفزاري ، عن ليث ، عن أيوب ، عن ابن سيرين به .
و أورده السيوطي في " الأمر بالاتباع " ص 17 ، و أبو شامة في " الباعث " ص 16 .
قلت : و رجاله ثقات سوى ليث ، و هو ابن أبي سليم " ضعيف " كما سبق .
(2) ... غضيف بن الحارث - رضي الله عنه - ، هو : السكوني الكندي ، و يقال الثمالي ، أبو أسماء الخمصي ، مختلف في صحبته ؛ و الراجح ثبوتها ، و إنما و قع الخلاف بسبب جمع بعضهم بينه و بين غطيف بن الحارث .
انظر ترجمته في : طبقات ابن سعد 7 / 429 ، تاريخ أبي زرعة الدمشقي 388 ، 603 ، 604 ، معجم الطبراني الكبير 18 / 264 ، تهذيب الكمال 23 / 112 ، سير أعلام النبلاء 3 / 453 .
(3) ... عبد الملك بن مروان ، هو : ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية ، الخليفة الفقيه ، أبو الوليد الأموي ، تملك بعد أبيه الشام و مصر ، ثم حارب ابن الزبير الخليفة ، و قتل أخاه مصعباً في و قعة مسكن ، و استولى على العراق و جهز الحجاج لحرب ابن الزبير ، فقتل ابن الزبير سنة 72 هـ / 691 م ، و استوثقت الممالك له . توفي سنة 86 هـ / 705 م .
انظر ترجمته في : طبقات ابن سعد 5 / 223 ، تاريخ بغداد 10 / 388 ، سير أعلام النبلاء 4 / 246 ، ميزان الاعتدال 2 / 664 ، البداية و النهاية 8 / 260 و 9 / 61 .
(4) ... إسناده ضعيف :
أخرجه أحمد في " المسند " 4/105 ، و البزار في " مسنده " ( 1 / 82 – كشف ) ، و الطبراني في " الكبير " 18 / 99 ( 178 ) ، و ابن قانع في " معجم الصحابة " 2 / 316 ( 855 ) ، و ابن بطة في " الإبانة الكبرى " 1 / 176 ( 10 ) ، و اللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " 1 / 90 ( 121 ) من طرق عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني ، عن حبيب بن عبيد ، عن غضيف بن الحارث به .
و صحف اسم ( غضيف ) في المعجم الكبير للطبراني ، و قد نبه على ذلك ابن حجر في " الإصابة "
5 / 276.
قال ابن حجر في " الفتح " 13/ 253 : ( و قد أخرج أحمد بسند جيد ، عن غضيف ..) فذكره .
قلت : و فيه نظر ؛ لما سيأتي .
و نقل المناوي في " فيض القدير " 5 / 412 ، 471 عن المنذري ، قال : ( سنده ضعيف ) .
و قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 1 / 188 : ( رواه أحمد و البزار ، و فيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم و هو منكر الحديث ) .
قلت : و مدار الحديث عليه ، و قال ابن حجر في " التقريب " ( 7974 ) : ( ضعيف ، و كان قد سرق بيته فاختلط ) .
(5) ... حسان بن عطية ، هو : الإمام الحجة أبو بكر المحاربي مولاهم ، الدمشقي ، أحد العباد ، تابعي روى عن أبي أمامة الباهلي ، و ثقه أحمد ، و ابن معين .
انظر ترجمته في : الجرح و التعديل 3 / 236 ، حلية الأولياء 6 / 70 ، سير أعلام النبلاء 5 / 466 ، تهذيب التهذيب 2 / 251 .
(6) ... أثر حسان صحيح :
أخرجه الدارمي ( 99 ) في مقدمة " سننه "، و ابن وضاح في " البدع " ص 44 ، و ابن بطة في " الإبانة الكبرى " ( 228 ) ، و أبو نعيم في " الحلية " 6 / 73 ، و اللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " ( 129 ) ، و الهروي في " ذم الكلام " ( 913 ) من طرق عن الأوزاعي ، عنه .
(7) ... مجموع الفتاوى 22 / 67 .(/9)
و قد حرص سلفنا الكرام على التصدي لكل ما من شأنه أن يفتح الباب أمام إشاعة البدع ، و إماتة السنن ، و كفى مثالاً على ذلك أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان ينهى الإماء عن لبس الجلباب و التقنع به ، و يضرب على ذلك ، فقد روي عن أنس - رضي الله عنه - ، أنه قال : (( رأى عمر أمة لنا مقنعة ، فضربها ، و قال : لا تشبهن
بالحرائر )) (1) .
و قال أنس - رضي الله عنه - أيضاً : (( كن إماء عمر - رضي الله عنه - يخدمننا كاشفات عن شعورهن ، تضطرب ثديُّهن )) (2) .
قال الإمام الطرطوشي رحمه الله (3): فهموا أن مقصود الشرع المحافظة على حدوده ، و أن لا يظن الناس أن الحرة و الأمة في الستر سواء ، فتموت سنة ، و تحيا بدعة . اهـ (4) .
فانظر رحمك الله إلى ورع القوم و قد أخذوا الإسلام غضاً طرياً ، كيف كانوا يخافون على السنة و يخشون عليها من الزيادة و اللبس ، و قف حيث وقفوا فإنك في زمن عزَّت فيه السنن .
جهود علماء البوسنة و دعاة الإسلام فيها في إحياء السنن و التصدي للبدع
إذا أريد للسنة أن تنبعث من جديد في البوسنة و الهرسك ، و أن يعزَّ أهلها ، و يظهروا على من ناوأهم ، و يصدعوا بدعوتهم في وجوه المخالفين ، فلا بد لهم من أن يأتموا بالسلف الصالح - رضي الله عنهم - في التمسك بالسنة و الاعتصام بها ، و التخلي عن البدع و البراءة من أهلها , و قد كان لسلفهم مواقف جليلة في هذا المجال , ومنها :
موقف الشيخ حسن كافي من أهل الأهواء و البدع
عرف الشيخ حسن كافي الآقحصاري رحمه الله تعالى و أتباعه في البوسنة بالتمسك بمنهج السلف الصالح في هذا المجال ، و يحسن هنا أن نشير إلى موقفهم هذا ليكون نبراساً يتأسى به من بعدهم .
لقد أكَّد الشيخ حسن كافي رحمه الله في موقفه من أهل الأهواء و البدع على عدة أمور ، تعتبر بحقٍ معالم رئيسة في ما يعتقده الشيخ في هذا الباب ، و من أبرز هذه المعالم :
البراءة من البدع و أهلها .
تقسيم البدع إلى مكفِّرة و غير مكفرة .
الحكم على الظواهر ، و ترك السرائر إلى الله تعالى .
اعتقاد إمكان اجتماع السنة و البدعة ، و الخير و الشر ، في الشخص الواحد ، و بالتالي فهو يستحق الولاء و البراء معاً بمقدار ما فيه من موجب كلٍّ منهما .
التفريق بين الكرامات ، و بين ما يقع على أيدي أهل البدع من خوارق العادات .
و فيما يلي أقتطف من كلام الشيخ رحمه الله ما يؤكِّد التزامه بهذه القواعد ، و الدعوة إلى التزامها قولاً و عملاً :
يقرر الشيخ رحمه الله أن أهل السنة يحكمون على أهل المعاصي ، و الأهواء و البدع ، بما ظهر من أحوالهم ، و يوكلون سرائرهم إلى من يعلم السرَّ و أخفى ، و يذهب مذهبهم في ذلك .
و في هذا المعنى جاء قول الإمام الطحاوي رحمه الله : (( و نسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ، ما داموا بما جاء به النبيُّ معترفين ، و بكلِّ ما قال و أخبر
مصدِّقين )) ، و قول شارح ( الطحاوية ) الشيخ حسن كافي : (( المراد بأهل القبلة من يدَّعي الإسلام ، و يستقبل الكعبة ، و لم يكذِّب بشيءٍ مما جاء جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، و إن كان من أهل الأهواء ، أو من أهل المعاصي … فنراعي ظواهرهم ، و نكل إلى الله ضمائرهم )) (5) .
__________
(1) ... صحيح :
أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " 2 / 41 عن و كيع ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أنس - رضي الله عنه - به .
قلت : و إسناده صحيح ، رجاله ثقات أعلام ، رجال الشيخين . =
= ... و تابع شعبة : معمر عند عبد الرزاق في " المصنف " 3 / 136 ( 5064 ) ، و له طرق أخرى عند عبد الرزاق و ابن أبي شيبة .
و قال ابن حجر في " الدراية في تخريج أحاديث الهداية " 1 / 224 : ( أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح ) .
و قال البيهقي : ( الآثار عن عمر بذلك صحيحة ) .
و قال ابن المنذر : ( ثبت أن عمر قال لأمة رآها مقنعة : اكشفي رأسك ، و لا تشبهي بالحرائر ، و ضربها بالدرة ) . انظر : إرواء الغليل للألباني 6 / 203 .
(2) ... إسناده جيد :
أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " 2 / 227 من طريق حماد بن سلمة ، حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس ، عن جده أنس - رضي الله عنه - به .
و قال البيهقي : ( الآثار عن عمر بذلك صحيحة ) .
(3) ... الطرطوشي ، هو : محمد بن الوليد بن خلف ، أبو بكر الأندلسي ، الفقيه المحدث ، عالم الإسكندرية ، و طرطوشة : هي آخر مدن المسلمين من شمالي الأندلس ، الإمام الزاهد ، القدوة الفقيه ، شيخ المالكية ، دين ورع ، صاحب رحلة ، توفي بالإسكندرية سنة 520 هـ / 1126 م .
انظر ترجمته في : الصلة لابن بشكوال 2 / 575 ، بغية الملتمس ص 135 – 139 ، معجم البلدان 4 / 30 ، وفيات الأعيان 4 / 262 – 265 ، سير أعلام النبلاء 19 / 490 ، حسن المحاضرة 1 / 452 .
(4) ... الحوادث و البدع ، للطرطوشي ، ص: 114 .
(5) ... نور اليقين في أصول الدين ، ص : 183 .(/10)
... و لكن هذا القول ليس على إطلاقه ، بل هو مُقيَّدٌ بما إذا كانت البدعة غير مكفِّرة ، و لذلك عقَّب على كلامه و كلام الماتن المتقدم ، بقوله :
(( و في قول الشيخ إشارةٌ إلى أنَّ مجرَّد التوجه إلى قبلتنا ، لا يدلُّ على حقيقة الإيمان فإنَّ كثيراً من الناس يتوجهون إلى قبلتنا ، و ليسوا على ديننا ، كالغلاة الذين يدَّعون نبوة علي - رضي الله عنه - ، و كمن يدعي منهم أنه إله ، و كالقدريَّة الذين يزعمون وجود كثيرٍ من الأشياء من غير مشيءة الله ، و كمن يدَّعي الخالقيَّة لكلِّ فاعلٍ مختار ، و كمن يزعم أنَّ صانع العالم جسم على صورة البشر ، و كمن يدعي أنَّ المحبة تزيل التكليف و كمن يقول : إنَّ لله حلولاً و اتحاداً بالأنفس ، و نحو ذلك من أقاويل أهل الضلالة و الإلحاد )) (1) .
و ينكر رحمه الله على غلاة الصوفية و جهالهم ، فساد أحوالهم و فعالهم ، مع زعمهم أنهم أهل كرامة ، و سالكون سبل الولاية ، و هم في غاية البعد عنه ، فيقول رحمه الله :
(( أما الذين يتعبَّدون بالرياضات و الخلوات ، و يتركون الجمع و الجماعات فهم من الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا ، و هم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً ، قد طبع الله على قلوبهم ، و كذلك الذين يُصعقون عند سماع الأنغام الحسنة مبتدعون ضالُّون ، إذ ليس للإنسان أن يستدعي ما ما يكون سبب زوال عقله ، و لم يكن في الصحابة من يفعل ذلك و لو عند سماع القرآن )) (2) .
و كلُّ من ادعى الكرامة ، و لم يسلك سبيل الاستقامة ، فهو دعيٌّ ، لأنه (( لا يصل أحد إلى الله و رضوانه و جنته و كرامته ، إلا بمتابعته الرسول ظاهراً و باطناً فمن لم يكن مصدقاً له فيما أخبر ، و ملتزماً لطاعته فيما أمر ، في الأمور الباطنة التي في القلوب ، و الظاهرة التي على الأبدان ، لم يكن مؤمناً ، فضلاً عن أن يكون وليَّاً و لو طار في الهواء ، و مشى على الماء ، و أنفق من الغيب ، و أخرج الذهب من الجيب ، فإنه من الأحوال الشيطانية ، المبعدة لصاحبها عن الله تعالى ، المقرِّبة من سخطه و عذابه )) (3) .
و هؤلاء المتنكبون عن طريق الهدى ، يجب أن لا يُغترَّ بما قد يجري على أيديهم من أحوال ظاهرها خرق العادة ، فهم إلى الأحوال الشيطانية مستدرجون ، و عن الشريعة الربَّانية زائغون ، و على هذا المعنى يَحمل الشيخ حسن كافي رحمه الله قول عبد الله بن المبارك :
و هل أفسد الدين إلاَّ الملوك و أحبار سوءٍ و رهبانها
فيقرر أن الرهبانية في هذه الأمَّة ، يمثلها أهل الجهالة و الضلالة من المتصوفة ، بقوله :
(( الرهبان هم جهَّال الصوفيَّة ، المعترضون على حقائق الإيمان و الشرع بالأذواق ، و المواجيد ، و الخيالات الفاسدة ، و الكشوفات الباطلة الشيطانية ، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله ، و إبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيِّه … و قد قال أصحاب الذوق : إذا تعارض الذوق و الكشف ، و ظاهر الشرع قدَّمنا الذوق و الكشف . نعوذ بالله أن نكون من الجاهلين ، و العصمة بالله ربِّ
العالمين )) (4) .
... و يُقابل أهل الضلال و البدع ، أهلُ السنة و الجماعة ، و هم الفرقة الناجية و الطائفة المنصورة (5) ، التي لم يُغفل الشيخ ذكرها ، و بيان صفات أهلها ، ليحظى من وفَّقه الله بنهج نهجهم ، و الردّ إلى ما كانوا عليه قبل أن يفترقوا ، و هم : (( الذين اتبعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - و كانوا على ملَّته ، و دانوا بها ، و دعوا سائر الأمم إليها حتى صار إجماعهم حجة من حجج الله ، موجبةً للعلم قطعاً من الصحابة و التابعين و من بعدهم )) (6) .
و كما تجب البراءة من أولئك الأدعياء و بغضهم ، تجب موالاة هؤلاء الأصفياء ، و حبهم .
قال حسن كافي الآقحصاري في شرح نص الطحاويَّة : ( نحب أهل العدل و الأمانة ) :
(( و هم أهل السنة و الجماعة ، و من سلك مسلكهم من المسلمين ، و المتمسكون بالعدل من ولاة أمور الدين ، فمحبتهم من كمال الإيمان و تمام العبوديَّة ، لأنها تتضمن محبة الله و محبة رسوله ، لأن الله يحب المحسنين و يحب التوابين ، و يحب المتطهرين ، و من كمال محبة الله للعبد أن يحب العبد من أحبَّه الله ، فإن المحب يحب ما يحب محبوبه ، و يبغض ما يُبغضه ، و يوالي من يواليه ، و يعادي من يعاديه ، فهو موافق لمحبوبه في كلِّ حال )) (7) .
و قال في شرح نص الطحاوية : ( نُبغض أهل الجور و الخيانة ) :
(( و هم أهل الخلاف و العصيان ، و الجائرون من الولاة ، و الله تعالى لا يحب الخائنين ، و لا يحب المفسدين ، و لا يُحب المستكبرين ، فنحن لا نحبهم ، بل نبغضهم موافقة لله تعالى )) (8) .
__________
(1) ... المرجع السابق ، ص : 183 ، 184 .
(2) ... المرجع السابق ، ص : 264 – 265 .
(3) ... نور اليقين في أصول الدين ، ص : 266 .
(4) ... نور اليقين في أصول الدين ، ص : 153 .
(5) ... المرجع السابق ، ص : 100 و 268 .
(6) ... المرجع السابق ، ص : 106 .
(7) ... المرجع السابق ، ص : 206 ، 207 .
(8) ... المرجع السابق ، ص : 207 .(/11)
و الشيخ الآقحصاري يرى أن الولاية و العداوة ، قد تجتمعان في الشخص الواحد ، و كذلك الحب و الكره ، فيقول :
(( إنَّ العبد قد يجتمع فيه سبب الولاية و سبب العداوة ، و سبب الحب و سبب البُغض ، فيكون محبوباً من وجه ، و مبغوضاً من وجه ، و الحكم
للغالب )) (1) .
... و حيث يتعذَّر على كلِّ أحد التمييز بين الصنفين ، فعلى كاهل أهل العلم ، المهتمين بالكتاب و السنة ، تقع مسؤولية مقارعة أهل الباطل ، و التصدي للمبتدعة ، و لا يقوى على القيام بهذا الواجب الكفائي ، إلا من وفَّقه الله و سدَّده ، ليكون من دُعاة السنَّة الذين من أخصِّ صفاتهم ، العلم و التثبت ، المنافيان للابتداع و التحريف.
يقول الشيخ حسن كافي رحمه الله :
(( و كلَّما بعُد العهد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - و أصحابه ظهرت البدع و كثر التحريف إلا أن الله تعالى قد منَّ على أمته بجعل علمائهم ، كأنبياء بني إسرائيل ، فلا تزال طائفة منهم قائمين على الحق ، كما قال عليه الصلاة و السلام : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ) (2) ، فعيَّنوا طريق الفرقة الناجية ، و بينوا طريق الأمة الهادية ، ليحق الحق ، و يزهق الباطل ، و ليتميز العالم من
الجاهل )) (3) .
و يُعرِّف الشيخ حسن كافي " الولي " فيقول :
(( هو العارف بالله و صفاته ، حسب ما أمكن ، المواظب على الطاعات ، المتجنب للمعاصي و الانهماك في اللذات و الشهوات )) (4) ، و الوليُّ في نظره (( إنما يستحق الولاية و الكرامة باتباعه نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - و اقتدائه به في طاعة الله تعالى على
شريعته )) (5) .
أما أدعياء الكرامة ، و زاعموا الولاية ، فقد عرف عن الشيخ صلابة موقفه ، في التصدي لهم ، و كشف ضلالهم ، و بيان فساد ماهم عليه ، حيث وضع الميزان الشرعي لتقييم ما هم عليه ، بعرضه على الكتاب و السنة ، فقال :
(( الواجب عرضُ أفعالهم و أحوالهم على الشريعة المحمدية ، فما وافقها قُبِل ، و ما خالفها رُدَّ … فلا طريقة إلاَّ طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، و لا حقيقة إلاَّ حقيقته ، و لا شريعة إلا شريعته ، و لا عقيدة إلا عقيدته ، و لا يصل أحد إلى الله و رضوانه ، و جنته و كرامته ، إلا بمتابعة الرسول ظاهراً و باطناً فمن لم يكن مصدقاً له فيما أخبر ، و ملتزماً لطاعته فيما أمر ، في الأمور الباطنة التي في القلوب ، و الظاهرة التي على الأبدان ، لم يكن مؤمناً ، فضلاً عن أن يكون وليَّاً و لو طار في الهواء ، و مشى على الماء ، و أنفق من الغيب ، و أخرج الذهب من الجيب ، فإنه من الأحوال الشيطانية ، المبعدة لصاحبها عن الله تعالى ، المقرِّبة من سخطه و عذابه )) (6) .
و يقول رحمه الله في بيان حال و حكم أدعياء الكرامة و الولاية من غلاة الصوفية و غيرهم :
(( أما الذين يتعبَّدون بالرياضات و الخلوات ، و يتركون الجمع و الجماعات فهم من الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا ، و هم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً ، قد طبع الله على قلوبهم ، و كذلك الذين يُصعقون عند سماع الأنغام الحسنة مبتدعون ضالُّون ، إذ ليس للإنسان أن يستدعي ما ما يكون سبب زوال عقله ، و لم يكن في الصحابة من يفعل ذلك و لو عند سماع القرآن )) (7) .
و الشيخ الآقحصاري يرى أن الولاية و العداوة ، قد تجتمعان في الشخص الواحد ، و كذلك الحب و الكره ، فيقول : (( إنَّ العبد قد يجتمع فيه سبب الولاية و سبب العداوة ، و سبب الحب و سبب البُغض ، فيكون محبوباً من وجه ، و مبغوضاً من وجه ، و الحكم للغالب )) (8) .
و إلى جانب تحذيره رحمه الله من الحوادث و البدع ، فقد كان للشيخ حسن كافي الآقحصاري رحمه الله موقف صلب في مواجهة الفرق الضالة ، و المذاهب البدعيّة ، كفرقة الحمزوية – التي سبق ذكرها و بيان موقفه منها ، و جهاده في القضاء عليها – و الرافضة التي قال عنها :
(( أصل الرفض إنَّما أحدثه منافقٌ زنديق ، قصد إبطال دين الإسلام ، و القدح في الرسول ، كما فعل بولُص (9)
__________
(1) ... المرجع السابق ، ص : 207 .
(2) ... حديث صحيح : تقدم تخريجه .
(3) ... نور اليقين ، ص : 100 ، 101 .
(4) ... المرجع السابق ، ص : 252 .
(5) ... المرجع السابق ، ص : 253 .
(6) ... المرجع السابق ، ص : 265 .
(7) ... المرجع السابق ، ص : 264 – 265 .
(8) ... المرجع السابق ، ص : 207 .
(9) ... بولص ، هو : قس يهودي اسمه الأصلي شاؤول ، ولد في طرسوس ، و نشأ في أورشليم ، كان في أول حياته من أشد أعداء المسيحية ، يكيد لها ، ثم تظاهر بالمسيحية و ادعى الانتساب إليها بقصد التحريف فيها ، فاستطاع أن يصل إلى رتبة كبيرة عندهم ، حتى صار من الرسل الملهمين الذين ينطقون بالوحي ، فأدخل المعتقدات الباطلة في المسيحية ؛ كالتثليث ، و ألوهية المسيح ، و غير ذلك من الخرافات و التحريفات .
انظر : منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1 / 29 ، 6 / 428 ، محاضرات في النصرانية ص 81 ، المسيحية لأحمد شلبي ص 90 .(/12)
بدين النصارى ، و ذلك المنافق هو عبد الله بن سبأ (1)، أراد أن يُفسد دين الإسلام ، و يُلقي الفتنة بين المسلمين ، فأظهر الإسلام و التنسك ، ثم أظهر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، حتى سعى في فتنة عثمان و قَتْلِه ، ثم لما قدم الكوفة ، أظهر الغلو في علي ، ليتمكن بذلك من اعتراضه و بلغ ذلك علياً فطلب قتله ، فهرب ، و خبره معروفٌ في التواريخ ، أخزاه الله تعالى )) (2) .
كما حذر رحمه الله من المقالات الفاسدة و أهلها الذين ابتليت بهم الأمة عبر التاريخ ، و بالغ في التحذير منهم ، و حكم بكفر من قال بخلق القرآن ، و خروجه من الملة (3) ، و كذلك من أتى بغيرها من البدع المكفرة .
تصدي أهل البوسنة و الهرسك للحوادث و البدع و أهلها في العصر الحاضر
لا بدَّ من توحيد الجهود ، و الوقوف صفاً واحداً يجمع الشباب المتحمس لدعوة أهل السنة و الجماعة ، و دعاة المؤسسات الرسمية الذين يعتبرون الحفاظ على الإسلام في تلك البلاد واجبهم الأوَّل ، فيدعوا جميعاً إلى الله على بصيرة .
و إن كان هؤلاء الدعاة الشبان قد عجزوا عن إنكار البدع منفردين ، و الجهر بإنكارها في وجه مخالفيهم من العامَّة و العلماء ( الرسميين ) على حدٍ سواء ، فإنَّ البلاد لم تخل من غيارى على الإسلام يحذِّرون من انتشار البدع و تفشِّيها ، يدرأ عنهم لوم المعارضين ، و تصدي المخالفين ، ما ألقاه الله في قلوب البشانقة من قبولٍ لهم ، و رضاً بما يصدر عنهم .
ومن هؤلاء الرئيس علي عزَّت بيك الذي تقيه مغبَّة الانتقاد و الردّ مكانته الفكرية و الاجتماعيَّة و السياسية الرائدة في البوسنة ، و هو يعتبر البدعة و الخرافة نقيضين للعلم و المعرفة ، و يدعو إلى محاربتهما ، و تسليح المسلمين بالعلم في مواجهتهما فيقول :
(( لقد أقام الإسلام حرباً على الشرك ، و قضى عليه بحركةٍ واحدة في مناطق شاسعةً من العالم ، لأنَّه وضع حداً فاصلاً بيناً بين الإيمان و الخرافة ، و لكنَّ الخرافة وجدت لها مرتعاً في بيوت و قلوب كثيرٍ من المسلمين ، ثمَّ ظهرت في صورة التمائم و الطلاسم ، و ما شابه ذلك ، لتمهد الطريق للتجارة الرابحة بالدين ، لأنَّه إذا لم يقض الدين على الخرافة قضت الخرافة على الدين .
و قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهتم بتعليم المسلمين ، حتى في أيام الحرب الضروس إذ جعل تعليم كلِّ عشرة من المسلمين فدية لأسير من أسرى بدر(4) )) (5) .
ثم يبدي تألُّمه لما آل إليه حال المسلمين اليوم من إعراضٍ عن سنَّة نبيِّهم - صلى الله عليه وسلم - ، و بعدهم عن هديه في كافَّة شؤون حياتهم ، فيقول :
(( نعم ، هناك بين المسلمين أمورٌ كثيرة تقشعرُّ منها الجلود ، و حتى غير المسلمين يدركون و يلاحظون ذلك . لو قام محمد - صلى الله عليه وسلم - من قبره ، و رأى كم بدَّل أتباعه دينه ، لتغيَّر وجهه غضباً ، و لعن كلَّ من شارك في تلك البدع ، كما يقول لوثورب ستودارد (6) )) (7) .
و هذا الصوت الشجاع في مواجهة البدع و التحذير من شررها المستطير ، من رجل عاش للإسلام مجاهداً بكلمته ، و قلمه ، و موقفه ، يحتاج إلى أمرين يؤازرانه كي يساهم في القضاء على البدع و الخرافات قضاءً مبرماً :
أمَّا الأمر الأوَّل فهو اجتماع العلماء البوشناق حوله كما أسلفت ، و التأكيد على ضرورة التصدي للبدع ، باعتبار ذلك واجباً لا مناص منه لمن يريد للسنة أن تحيا و تنبعث من جديد ، بعد ما أماتتها قرون من الغفلة و الجهل الذي لفَّ العالم الإسلامي .
و أما الأمر الثاني فهو اتخاذ مواقف فعليَّة تتجاوز التنظير و الكلام في التصدي للبدع ، بمعارضتها ، و عدم المشاركة في أيٍ منها تحت أي مبرر ، و تقديم البديل عنها ، من السنَّة النبويَّة الصحيحة .
__________
(1) ... عبد الله بن سبأ ، هو : الضال المضل ، رأس الطائفة السبئية ، من غلاة الزنادقة ، أصله من اليمن ، كان يهوديا فأظهر الإسلام ، وطاف ببلاد المسلمين ليفتنهم عن طاعة الأئمة ، دخل دمشق أيام عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، فأخرجوه ، فانصرف إلى مصر ، و جهر ببدعته ، و هو الذي قال بتأليه علي - رضي الله عنه - ، و برجعة النبي ( ، و بأن القرآن جزء من سبعة أجزاء ، مات سنة 40 هـ / 660 م .
انظر ترجمته في : البدء و التاريخ 5 / 129 ، تهذيب تاريخ دمشق لابن بدران 7 / 341 ، ميزان الاعتدال
2 / 426 ، لسان الميزان 4 / 292 – 293 .
(2) ... نور اليقين في أصول الدين ، ص : 251 .
(3) ... انظر : الدكتور عمر ناكيجيفيتش : حسن كافي الأقحصاري رائد العلوم العربية و الإسلامية , ص 179 نقلاً عن نسخة خطية لكتاب : روضات الجنات .
(4) ... تقدم لفظ هذا الأثر و تخريجه .
(5) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزَّت بيك ، ص : 22 .
(6) ... هو صاحب كتاب " حاضر العالم الإسلامي " ، و لم أعثر على هذا الكلام فيه .
(7) ... المرجع السابق ، ص : 23 .(/13)
و في ذلك الخير كلُّ الخير للإسلام و أهله ، حيث (( لا يصلح آخر هذه الأمَّة إلاَّ بما صلح به أوَّلها )) كما قال إمام دار الهجرة رحمه الله (1) .
الفصل الرابع
التأثر بمنهج المدرسة العقلية الحديثة
المدرسة العقليَّة الحديثة في البوسنة و موقفها من السنة النبوية
مكانة العقل في الشريعة الإسلامية :
لم يهمل الإسلام العقل قط ، بل وجهه إلى النظر و التفكير ، و البحث و التدبير . و توجه بالخطاب إلى أهله ، يحثهم على تحكيمه فيما أشكل عليهم .
و وجه الخلق إلى التفكر و التدبر في غير آية من آيات الكتاب العزيز .
قال تعالى : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته و ليتذكر أولو
الألباب } [ ص : 29 ] .
و قال سبحانه : { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } [ محمد :
24 ] .
و وصف عباده المؤمنين به بالمداومة على ذكره و التفكر في خلقه فقال :
{ الذين يذكرون الله قياماً و قعوداً و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض } [ آل عمران : 191 ] .
و دعا سائر الخلق إلى ذلك فقال : { أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات و الأرض و ما بينهم إلا بالحق و أجل مسمى } [ الروم : 8 ] .
و قال أيضاً : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف - و إلى السماء كيف رفعت - و إلى الجبال كيف نصبت - و إلى الأرض كيف سطحت } [ الغاشية : 17-20 ].
و كرم الله العقل أفضل تكريم حيث و جهه إلى طلب العلم ، و رفع قدر العلماء .
... قال تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات } [ المجادلة : 11 ] .
و وصفهم سبحانه بالخشية فقال : { إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ } [ فاطر : 28 ] .
و من هذا المنطلق أقبل المسلمون على علوم الدين و الدنيا ، ينهلون منها و يعلمون ، و يأخذون و يعطون ، حتى علا قدرهم في المعارف كافة ، و أصبحت حواضر البلدان الإسلامية مراكز ثقافية ، و قامت فيها جامعات علمية يؤمها الطلبة من مختلف أنحاء العالم ، و غدت مكتباتها مراجع ينهل منها بنهم كل من عرف قيمة الكتاب ، بعد أن جلبت إلى خزائنها نوادر المخطوطات ، و نفائس المصنفات ، و ترجمت إلى اللسان العربي من مختلف اللغات في عهد بني العباس فمن بعدهم .
نشأة المدرسة العقلية في المشرق الإسلامي :
لا زالت شمس الإسلام تسطع على العالم كله يوم كانت لأبنائه الريادة في المجالات العلمية على تنوعها ، فانطلقت الفتوحات الإسلامية تملأ الأرض نوراً و عدلاً و بلغت أوجها في عهد السلطان محمد الفاتح رحمه الله الذي حاز فضيلة فتح القسطنطينية و التوغل من بعد في عمق البلدان الأوربية عبر بوابة البلقان .
و مع تقدم الزمن دبَّ الضعف في جسد الأمة ، و بدأت ريادة العالم العلمية تنتقل تدريجياً إلى الغرب الأوربي ، يحملها طلاب درسوا في الأندلس و اسطنبول و غيرهما من الحواضر الإسلامية ، و لصوص محترفون سرقوا من العالم الإسلامي نفائس المخطوطات و أمهات الكتب .
و أثناء هذا التحول عني العثمانيون بتسليح الشعوب الخاضعة لهم ، و اهتموا ببسط نفوذهم و الحفاظ على سلطتهم البسيطة ، فيما بدأ الغرب النصراني يبني نهضة ماديَّة تقنية ، و يوحد صفوفه في مواجهة دولة الخلافة المتقهقرة ..
و لا زال الغرب ينمو و يتقدم بتخليه عن ماضيه و خروجه على سلطة الكنيسة و رجالها ، و الشرق الإسلامي يتردى و يتحطم بتنكره لأصوله و تخليه عن دينه و شريعة ربه ، حتى جاءت اللحظة الفاصلة فسقطت الخلافة ، و تداعت الأمم على ديار الإسلام تستولي و تستعمر ، و تشغل معاول التجهيل و التغريب في أبناء المسلمين ، حتى اتسعت الهوَّة بين المسلمين و كلٍ من دينهم ، و الحضارة التي أحرزها عدوُّهم ، فيما كان للغرب الصليبي سبق لا ينكر في المجالات المادية ، و الصناعات التقنية .
و فقدت الأمة الإسلامية استقلالها ، فأمست تابعة مسودة مقودة ، يسيرها أعداؤها كما يشاؤون ، و يعاني أبناؤها من عقدة التخلف و التبعية .
و قد تمخض هذا الواقع عن ظهور ثلةٍ من المفكرين و الكتاب و العلماء الداعين إلى اللحاق بركب الحضارة الغربية ، لتجديد فهم الإسلام ، و تطوير أحكامه بما يتناسب و ظروف الزمن الراهن .
و كان في طليعة هؤلاء العلماء المجددين كلٌ من جمال الدين الأفغاني و محمد عبده ، و تلميذه محمد رشيد رضا ، و آخرون ممَّن كانت لهم الشهرة في أوائل القرن الرابع عشر الهجري .
__________
(1) ... صحيح ثابت عن مالك :
نقله عنه القاضي عياض في " الشفا " 2 / 87 – 88 ، و قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " 1 / 353 : الثابت المنقول عنه – يعني مالك – بأسانيد الثقات في كتب أصحابه كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي ، و غيره – فذكره .
و انظر أيضا : مجموع الفتاوى 27 / 118 ، و الفتاوى الكبرى 4 / 362 ، و اقتضاء الصراط المستقيم 2 / 285 .(/14)
و قد نادى هؤلاء المجددون بإدخال إصلاحات جذرية في علوم الشرع و أحكامه لتواكب العصر ، و كانت باكورة عملهم الدعوة إلى إصلاح الأزهر الشريف بصفته المرجعية العليا لغالبية المسلمين في تلك الفترة .
انتقال فكرة التجديد و دعوة العقلانيين إلى البوسنة :
تأثر بفكر التجديد ، و دعاوى العقلانيين طائفة من الطلاب الذين وفدوا من أقطار الدنيا لطلب العلم الشرعي في الأزهر الشريف ، و عادوا إلى بلادهم يدعون إلى الإصلاح و التجديد ، و كان فيهم بلا ريب عدد لا يستهان به من أبناء البلقان .
و مع سقوط الخلافة العثمانية انقطعت جسور التواصل بين مسلمي البوسنة و إخوانهم في أنحاء العالم الإسلامي ، و فرض عليهم أسلوب جديد في العيش و التفكير المتحرر من الواجبات الدينية و الثوابت العقدية .
و قد ساعد الوضع الجديد هذا على ظهور طائفة من الكتاب المسلمين البوسنويين لا تخفي اعجابها بالحضارة الغربية و تأثرها بدعوات التجديد التي ظهرت في الشرق الإسلامي ، و تدعو إلى مجاراة الغرب المتمدن باسم التطور و الإصلاح الديني و الدنيوي معاً تحت شعار ( التوفيق بين الأخلاق الإسلامية و المادية الغربية الممثلة في العلم و التقنية ) (1).
و من أبرز هؤلاء الكتَّاب :
محمد بيك قبطانوفيتش ( 1255 – 1320 هـ / 1839 -
1902 م ) .
قوت بيك باشاغيتش ( 1287 – 1353 هـ / 1870 -
1934 م ) .
عثمان نوري حاجيتش ( 1286 – 1356 هـ / 1869-
1937 م ) .
أدهم ملابديتش ( 1279 – 1374 هـ / 1862 - 1954 م ) .
محمد جمال الدين تشاوشيفيتش رئيس المشيخة الإسلامية في البوسنة في زمنه .
و إضافة إلى تسخير منابر المساجد التابعة للمشيخة للدعوة إلى التجديد ، أسس هؤلاء الكتاب مجلة ( بهاء ) النصف شهرية سنة 1900م / 1318 هـ ، و شحنوها بمقالاتهم الهادفة إلى مجاراة الغرب ، و الاقتباس من حضارته مع الحفاظ على روح الإسلام و حضارته بعد تطويره و تطويعه لروح العصر ، باعتبار أن البوسنة بلد أوربي ، و ليس شرقياً .
ثم أسست مجلة ( البلاغ ) الناطقة باسم رئاسة العلماء ، و المعبرة عن آراء و اجتهادات دعاة المشيخة الإسلامية ، و جلهم من أتباع المدرسة العقلية الحديثة ، و قد اشتهر بينهم في أواخر القرن الثالث عشر الهجري الأستاذ حسين جوزو الذي يعتبر أحد رواد التجديد في البوسنة .
ثم مجلة ( البحوث الإسلامية ) ، الصادرة عن كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو ، و المهتمة بنشر أبحاث و إسهامات أعضاء هيئة التدريس و خريجي الكلية .
و أخيراً مجلة ( الفكر الإسلامي ) التي صدرت بمبادرة من الدكتور أحمد إسماعيلوفيتش و توقفت عن الصدور مع بداية الحرب الأخيرة في البوسنة .
و قد كانت هذه المجلات مسرحاً فسيحاً لأفكار دعاة التجديد ، و أتباع المدرسة العقلية الحديثة ، تنشر ما يعلنونه من أهداف ، و من ذلك (2):
أ – قبول الحضارة الغربية و التفاعل معها .
ب - العودة إلى المصادر الأصلية للتشريع و هي الكتاب و السنة .
ج – تجديد المفاهيم الإسلامية و تطويرها .
... أمَّا أهدافهم غير المعلنة فكثيرة ، منها خدمة أعداء الإسلام عن سذاجة و حسن نيَّة تارة ، و عن مكرٍ و سوء طويَّةٍ تارةً أخرى ، و قد كشف بعضاً من هذه الأهداف دفاع عددٍ من أعلام مدرسة التجديد عن الاستعمار المتسلِّط على بلدان العالم الإسلامي ، و انتساب عددٍ منهم إلى المحافل الماسونية (3) .
... غير أنَّ ما يعنينا في هذا المقام هو موقف هؤلاء العقلانيين من السنَّة النبويَّة ، حيث عرف عنهم إنكار حجيَّتها ، و الإعراض عنها ، استناداً إلى شبهٍ أوهن من بيت العنكبوت ، كقولهم : إنَّ في التمسُّك بكتاب الله ما يغني عن الالتفات إلى ما في سواه سنَّة كان أو قياساً أو غير ذلك .
__________
(1) ... حركة إصلاح التشريع الإسلامي , ص : 216 .
(2) ... انظر : نصرت عيسانوفيتش : تحديات الفكر الإسلامي الحديث ( مقال نشرته مجلة البلاغ ، في عددها الثالث سنة 1411 هـ / 1990م ) ص: 13 و ما بعدها .
(3) ... انظر مثلاً ما قيل حول الشيخ محمد جمال الدين الأفغاني ، و انتسابه إلى محفل ( كوكب الشرق ) الماسوني الانجليزي في مصر في مؤلَّفات من كشف حقيقته ، مثل :
حقيقة جمال الدين الأفغاني ، و هو كتاب باللغة الفارسية لابن أخت الأفغاني ميرزا لطف الله خان الأسد آبادي ، و قد ترجمه إلى اللغة العربية الدكتور عبدالمنعم حسين الأستاذ بقسم اللغات الشرقية و آدابها بكلية الآداب في جامعة عين شمس .
و : الماسونية و الماسونيون في الوطن العربي ، تأليف حسين عمر حمادة ، ص: 221 و ما بعدها .
و : صوت الماسونية ، تأليف زكي إبراهيم ، ص : 162 و ما بعدها .(/15)
... و أصل هذه المقولة الفاسدة قديم عرفته الأمَّة من أيَّام السلف الصالح رحمهم الله تعالى ، وقد جاء التحذير منها و من أهلها على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث عدَّة تبيِّن خبثهم ، و أنَّهم سيعمُّون على الناس بلبوس العلم ، و مزاعم النصح لدين الله ، و التستر بدعوى الاعتصام بكتاب الله .
و الأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ منها :
... عن أبي رافع مولى رسول الله - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا ألفينَّ أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري ممَّا أمرت به ، أو نهيت عنه . فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه )) (1) .
و معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - ( لا ألفينَّ ) أي : لا أجدنَّ ، و هذه الصيغة تفيد المبالغة في النهي ، ومعنى قوله ( أريكته ) أي : سريره المزخرف ، و هو إشارةٌ إلى أنَّ إنكار الحديث إنَّما يأتي من المترفين الذين شأنهم التنعم و حب الشهوات ، و عدم الالتفات إلى أحكام الشريعة أو علومها .
و عن المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ألا هل عسى رجلٌ يبلغه الحديث عني و هو متكئٌ على أريكته ، فيقول : بيننا و بينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه ، و ما وجدنا فيه حراماً حرَّمناه ، و إنَّ ما حرَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حرَّم الله )) (2) .
... لقد بيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الشريف ، أنَّه سيظهر في أمته من ينكر سنته ، متعللاً باتباع القرآن الكريم ، ثمَّ بين - صلى الله عليه وسلم - أن ما حرَّمه فهو و ما حرَّمه الله في الحكم سواء ، لأنَّه لا ينطق عن الهوى ، مكتفياً بذكر أحد المتقابلين عن ذكر الآخر ، حين أشار إلى ما حرَّم و لم يُشر إلى ما أحلَّ .
... و إخباره - صلى الله عليه وسلم - في هذين الحديثين بظهور منكرة السنة ، قبل ظهوره علمٌ من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - ، و لذلك أوردهما و بوَّب عليهما الإمام البيهقي رحمه الله في كتابه ( دلائل النبوَّة ) ، فقال : باب ما جاء في إخباره - صلى الله عليه وسلم - بشبعان على أريكته يحتال في ردِّ سنَّته بالحوالة على ما في القرآن من الحلال و الحرام دون السنة ، فكان ما أخبر ، و به ابتدع من ابتدع ، و ظهر الضرر (3) .
... و قد تصدى السلف الصالح رضوان الله عليهم لمنكري السنة و حذَّروا منهم فور ظهورهم ، و حكموا بكفرهم .
... فعن عبد الله بن عبَّاس - رضي الله عنه - أنَه قال : (( من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب )) (4) .
... و معنى قوله : ( كفر بالرجم ) ، أي أنكر وجوب رجم الزاني المحصن ، و هو حكم ثبت بالسنَّة ، و سكت عنه القرآن الكريم .
... قال أيوب السختياني (5) : (( إذا حدَّثت الرجل بالسنة ، فقال : دعنا من هذا ، و حدِّثنا من القرآن ، فاعلم أنَّه ضالٌ مضل )) (6) .
... و قال الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله : (( لو أن امرأً قال : لا نأخذ إلاَّ ما وجدنا في القرآن لكان كافراً بإجماع الأمَّة )) (7) .
موقف دعاة المدرسة العقلية الحديثة في البوسنة من أخبار الآحاد :
__________
(1) ... حديث صحيح : تقدم تخريجه .
(2) ... حديث صحيح : تقدم تخريجه .
(3) ... انظر : دلائل النبوَّة ، للإمام البيهقي : 6/549 .
(4) ... إسناده صحيح :
أخرجه النسائي في " السنن الكبرى " 4 / 275 ( 7161 ) في الرجم ، باب : تثبيت الرجم ، و في 6 / 333 ( 11139 ) في التفسير ، سورة المائدة آية ( 15 ) ، و الطبري في " تفسيره " ( 11609 و
11610 ) ، و ابن حبان في " صحيحه " ( 4430 ) ، و الحاكم في " المستدرك " 4 / 359 من طرق عن الحسين بن واقد ، حدثني يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - به .
قلت : و هذا إسناد صحيح ، رجاله كلهم ثقات .
قال الحاكم : ( هذا حديث صحيح الإسناد ، و لم يخرجاه ) .
(5) ... أيوب السختياني ، هو : أيوب بن كيسان السختياني البصري ، أحد أئمة الإسلام الكبار ، و من صغار التابعين ، مولده عام توفي ابن عباس - رضي الله عنه - سنة 68 هـ / 687 م ، و لقي أنس بن مالك ( ، و كان حافظاً ورعاً ، قال عنه الإمام مالك رحمه الله : ( كان أيوب من العالمين العاملين الخاشعين ) ، توفي سنة 131هـ / 749 م .
انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد 7 / 246 – 251 ، حلية الأولياء 3 / 2 – 14 ، تذكرة الحفاظ 1 / 130 ، سير أعلام النبلاء 6 / 15 – 26 ، تهذيب التهذيب 1/ 397 .
(6) ... أثر أيوب ، إسناده صحيح :
أخرجه الحاكم في " معرفة علوم الحديث " ، ص : 65 ، و الخطيب في " الكفاية " ، ص : 49 ، و الهروي في " ذم الكلام " ( 208 ) من طرق عن الأوزاعي ، عن مخلد بن الحسين ، عنه .
قلت : و هذا إسناد صحيح ، رجاله كلهم ثقات أفاضل .
(7) ... الإحكام ، لابن حزم : 2 / 80 .(/16)
الخلاف حول الاحتجاج بأخبار الآحاد في مسائل الاعتقاد قديم قدم الفِرق و النحل الإسلامية ، و هذه المسألة متفرعة من مسألة تقديم العقل على النقل التي عرف بها المعتزلة (1)، الذين حدوه بما لا يعلم كونه صدقاً أو كذباً (2) ، و اتفقوا على عدم الاحتجاج بما جاء في باب العقائد ، و ما خالف العقل منه ، و إن حكم أهل الصنعة الحديثية بصحته (3).
بينما ذهب بعضهم إلى إنكار حجيته في أمور الدين أصوله و فروعه مطلقاً (4)، و عدّ – عند المعتزلة - متساهلاً في ذلك من قبله بشروط كانضمام خبر أخر من أخبار الآحاد إليه ، أو اعتضاده بموافقة ظاهر الكتاب ، أو ظاهر خبرٍ آخر ، آو انتشاره بين الصحابة ، أو عمل بعضهم بمقتضاه (5) .
و على الرغم من أن مدرسة الاعتزال قد اندرست باعتبارها إحدى الفرق التي كان لها شأن أيام العباسين ، إلا أن بعض آرائها تناقلتها الأجيال ، و ظل يتشبث بها البعض حتى يومنا هذا .
و من هذه الآراء إنكار حجية أخبار الآحاد ، و هو ما ارتضته المدرسة العقلية الحديثة في تعاملها مع السنة النبوية ، فردت أحاديث عديدة بدعوى أنها أخبار آحاد ، لا يعتد بها في تقرير مسائل الاعتقاد .
قال الشيخ محمد عبده : (( و أما ما ورد في حديث مريم و عيسى ، من أن الشيطان لم يلمسهما (6)، و حديث إسلام شيطان النبي - صلى الله عليه وسلم - (7)
__________
(1) ... المعتزلة : فرقة كلامية ، رأسها واصل بن عطاء ، و قد سموا بالمعتزلة بعد ان اعتزل واصل مجلس الحسن البصري رحمه الله ، و قوله : ( إن صاحب الكبيرة في منزلة بين الإيمان و الكفر ) . و من مشائخ المعتزلة القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني ( ت : 415 هـ / 1024 م ) ، و أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي ( ت : 303 هـ / 915 م ) ، و أبو الحسين محمد بن علي الطيب البصري ( ت : 436 هـ / 1044 م ) . و أصول دعوة المعتزلة خمسة يتفق بعضها في الاسم مع ما عند أهل السنة و الجماعة ، و يفترق عنه في المضمون ، و هي التوحيد ، و العدل ، و الوعد و الوعيد ، و المنزلة بيمن المنزلتين ، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر .
انظر : الملل و النحل ، للشهرستاني : 1 / 48 و ما بعدها .
(2) ... انظر : شرح الأصول الخمسة ، للقاضي عبد الجبار الهمذاني ( نشر مكتبة وهبة ، القاهرة 1384 هـ /
1965 م ) ، ص : 769 .
(3) ... انظر : الأمين الصادق الأمين : موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية ( الطبعة الأولى ، مكتبة الرشد ، الرياض 1418 هـ / 1998 م ) : 1 / 129 ، 130
(4) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 126 .
(5) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 131 .
(6) ... حديث صحيح ، متفق عليه :
أخرجه البخاري ( 3286 ) في بدء الخلق ، باب : صفة إبليس و جنوده ، و في ( 4548 ) التفسير ، سورة آل عمران ، باب : قوله تعالى { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } ] آل عمران : 36 [ ، و مسلم ( 2366 ) في الفضائل ، باب : فضل عيسى عليه السلام ، و غيرهما من طرق عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
(( كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولادته ؛ إلا مريم و ابنها )) . و في رواية : (( ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان ، فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم و أمه )) ، ثم قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : اقرؤا إن شئتم : { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } ] آل عمران : 36 [ )) .
(7) ... حديث صحيح ثابت :
روي هذا الحديث عن عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم عائشة أم المؤمنين ، و عبد الله بن مسعود ، و شريك بن طارق - رضي الله عنهم - أجمعين :
فأما حديث عائشة رضي الله عنها :
أخرجه مسلم ( 2815 ) في صفات المنافقين و أحكامهم ، باب : تحريش الشيطان ، و بعثه سراياه لفتنة الناس ، و أن مع كل إنسان قرينا ، و لفظه :
(( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها ليلا ، قالت : فغرت عليه ، فجاء فرأى ما أصنع ، فقال : مالك يا عائشة ؟! أغرت ؟ " فقلت : و ما لي لا يغار مثلي على مثلك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أوقد جاءك شيطانك ؟ قالت : يا رسول الله ! أو معي شيطان ؟ قال نعم قلت : و مع كل إنسان ؟ قال : نعم قلت : و معك يا رسول الله ؟! قال : نعم ، و لكن ربي أعانني عليه حتى أسلم )) .
و أما حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : =
= ... أخرجه مسلم ( 2814 ) في صفات المنافقين ، باب : تحريش الشيطان و بعثه سراياه لفتنة الناس ، و أحمد في " مسنده " 1 / 385 و 397 و 401 و 460 ، و غيرهما ، و لفظه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
(( ما منكم من أحد إلا و قد وكل به قرينه من الجن )) ، قالوا : و إياك ، يا رسول الله ؟! قال : (( و إياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير )) .
أما حديث شريك بن طارق - رضي الله عنه - :
أخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " 4 / 239 ، و ابن حبان في " صحيحه " ( 6416 ) ، و البزار
( 2439 ) ، و الطبراني في " الكبير " ( 7222 و 7223 ) من طريقين عن زياد بن علاقة عنه ، و لفظه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
(( ما منكم أحد إلا و له شيطان )) ، قالوا : و لك يا رسول الله ؟! قال : (( و لي ، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم )) .(/17)
، و إزالة حظ الشيطان من قلبه (1) ، فهو من الأخبار الظنية ، لأنه من رواية الآحاد ، و لما كان موضوعها عالم الغيب من قسم العقائد ، و هي لا يؤخذ فيها بالظن ، لقوله تعالى : { إن الظن لا يغني من الحق شيئاً } [ النجم : 28 ] ، فإننا غير مكلفين بالإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا ))(2) .
و ذهب مثل هذا المذهب أتباع المدرسة العقلية الحديثة في البوسنة ، و في مقدمتهم الأستاذ حسين جوزو ، رئيس علماء البوسنة في مطلع القرن الخامس عشر الهجري .
وترتب على إنكار حجية أخبار الآحاد عند حسين جوزو و من وافقه من علماء البوسنة مقالاتٌ فاسدة من أبرزها :
إنكار ما ثبت من خوارق العادات بما فيها معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و عدم الإيمان بإمكانية وقوعها أصلاً ، و رد النصوص الواردة في ذلك .
فهاهو الأستاذ حسين جوزو ينكر معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - جملةً و تفصيلاً ، و يقول : (( بنزول القرآن الكريم تفقد المعجزة المادية أهميتها و القرآن هو معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوحيدة … و لا مبرر لتصديق بعض الروايات الضعيفة التي تنسب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - معجزات غير القرآن ، لأن كل أخبار المعجزات … لا ترتقي إلى درجة الصحة التي تلزمنا بقبولها )) (3) .
و يقول أيضاً : (( إنَّ الإسلام لم يستخدم المعجزة في إثبات نبوَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لأن المعجزة لا أهمية لها في عهد القرآن . لقد انتهى دور تلك المعجزات في زمن الإسلام ، و بدأ عصر الإعجاز العلمي )) (4) .
و يُضيف قائلاً : (( من المعروف أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يستعن بالمعجزات أبداً في دعوته ، و ما جاء من روايات تثبت بعض معجزاته مجرَّد حكايات لا أصل لها )) (5) .
و في مقام آخر يخاطب الشيخ حسين قراءه متهكّماً بمن يؤمن بكرامات الأولياء بقوله :
(( ألم يكن غزو المغول و وحشيَّتهم ، و الحروب الصليبيَّة ، و العدوان الإسرائيلي فرصةً مواتية لإظهار حقيقة الكشف و قيمة الكرامات !!
إنَّ ذلك لم يتم بل بقيت الخرافات و الحكايات المختلقة عن الكشف و الكرامات ، مجرَّد روايات لا تزال تروى إلى اليوم في المجتمعات المتخلِّفة )) (6) .
فهو إذن ينظر إلى الكرامات بعقله المجرّد ، فلا يرى لها أثراً ملموساً في حياة الناس ، و يرى هذا دليلاً كافياً على كونها ضرب من الخيال الذي يتردد في أذهان المتخلّفين .
كما يلاحظ أنه يقرن بين الكشف و الكرامات و كأنهما مسميان لذات الشيء ، و في هذا مغالطة علميّة ، إذ إن الكشف عند من يعتقده نوع من الاطلاع على المغيبات ، و القول به مما ينافي عقيدة أهل السنة ، و لا صلة له بما يثبتونه من كرامات للأولياء ألبتة .
إنكار جملةٍ من علامات قيام الساعة الثابتة بصريح و صحيح السنة النبوية الشريفة ، كمسألة نزول عيسى عليه السلام ، و ظهور مهدي آخر الزمان .
يقول الأستاذ حسين جوزو :
(( هناك عدد كبير من الأحاديث التي تذكر نزول عيسى عليه السلام ثانية إلى الأرض ، و حكمه بالشريعة الإسلامية ، و عملاً بتلك النصوص أصبح الاعتقاد بنزول عيسى عليه السلام حقيقة ، و ورد ذكره في كافة كتب العقيدة )) (7) .
ثم يستدل على إنكار هذه العقيدة بكلام ينسبه للشيخ محمد الخانجي رحمه الله يذكر فيه ما ذكره أهل العلم من علامات قيام الساعة كنزول عيسى عليه السلام ، و قتله الدجال ، و ظهور المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً بعد ما ملئت ظلماً و جوراً .
__________
(1) ... حديث صحيح :
أخرجه مسلم ( 162 ) ( 261 ) في الإيمان ، باب : الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و أحمد 3 / 121 و 149 و 288 ، و أبو يعلى في " مسنده " ( 3374 و 3507 ) ، و ابن حبان في " صحيحه " ( 6334 و
6336 ) ، و غيرهم ، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، قال :
(( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل ، و هو يلعب مع الغلمان ، فأخذه فصرعه ، فشق قلبه ، فاستخرج منه علقة فقال : هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لامه ، ثم أعاده في مكانه ، و جاء الغلمان يسعون إلى أمه – يعني : ظئره – فقالوا : إن محمدا قد قتل ، فاستقبلوه منتقع اللون .
قال أنس - رضي الله عنه - : قد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره - صلى الله عليه وسلم - )) .
(2) ... تفسير المنار ، لمحمد رشيد رضا 3 / 392 .
(3) ... الفتاوى المعاصرة ، لحسين جوزو ، ص : 48 .
(4) ... حسين جوزو : الإسلام و العصر ، ص : 160 .
(5) ... المرجع السابق ، ص : 185 .
(6) ... المرجع السابق : 153 .
(7) ... انظر : الفتاوى المعاصرة لحسين جوزو ، ص : 48 .(/18)
و يستغرب الشيخ الخانجي - فيما ينسبه إليه حسين جوزو - اعتقاد المسلمين بنزول المسيح و ظهور المهدي رغم أن ما ورد في نزول عيسى عليه السلام ـ بما في ذلك حديث رواه البخاري في صحيحه ـ أخبار آحاد ، و ليست من قبيل التواتر ، فلا تصلح لإثبات العقائد (1) .
أما ظهور المهدي فالأدلة عليه أضعف مما ورد في إثبات نزول المسيح عليه السلام ، و ما قصة ظهور المهدي إلا ضلالة من الضلالات و خرافة من الخرافات يجب تحرير العقيدة الإسلامية منها و من آثارها السلبية في حياة المسلمين بحسب رأي الأستاذ حسين جوزو ، الذي لا يخفى تأثره بدعاة المدرسة العقلية الحديثة في مصر فيما ذهب إليه ، حيث ينسب إلى الشيخ محمود شتلوت (2) و محمد عبده ، و الشيخ المراغي (3) ، و رشيد رضا القول بأن عيسى عليه السلام قد توفي وفاة طبيعية و عليه فلا معنى لاعتقاد نزوله في آخر الزمان .
أما عن المهدي فيرى ـ تبعاً لأحمد أمين ـ أن الإيمان بظهوره آخر الزمان عقيدة شيعية انتقلت إلى أهل السنة ، و عليه فمن الواجب إخراجها من عقائد المسلمين (4) .
و يوافق الأستاذ حسين جوزو في نفي ظهور مهديِّ آخر الزمان غير واحدٍ من العلماء و الكتَّاب البوسنويين ، و من أبرزهم الرئيس علي عزَّت القائل : (( و نحن على ثقة بأنه لا يوجد هناك شيء اسمه ( أرض الميعاد ) أو ( زمن المعجزات ) و لا يوجد المهدي الذي ننتظر و عده )) (5).
غير أن ثمة فارق بين دوافع الإنكار لدى كلٍ من الأستاذ حسين جوزو و الرئيس علي عزت ، إذ ينطلق الأول من منطلق علمي بدافع ما يعتبره تنقية الإسلام ممَّا علق به و لا أصل له فيه ، أمَّا الثاني فباعثه على ما قال هو الاصلاح الذي يدعوا إليه ، و يرى أن من واجبه في ذلك تخليص الأمة من المثبطات التي جعلتها تركن إلى الواقع ، و تتعلق بالأوهام ، رافضةً بذل أي جهد – و إن كان بوسعها – بانتظار غائبٍ مرتقب .
و ممن تأثر بهذا الاتجاه العقلي ، فوقع في نفي بعض الأحاديث الدكتور عمر ناكيجفيتش (6) ، عميد كلية الدراسات الإسلامية في يومنا هذا ، حيث أنكر على الشيخ حسن كافي الآقحصاري رحمه الله ذكره بعض ما يكون بين يدي الساعة مما دلَّت عليه السنة الصحيحة ، فقال : ( نجد أن صاحبنا حسن كافي ذكر … بعض علامات يوم القيامة التي تخالف العقل ، و حتى النقل إذا فهمناها بمعنى ظاهري ، و لكن إذا نظرنا إلى معناها المجازي فيمكن فهمها ، غير أن صاحبنا لا يميل المعنى
المجازي … و قد ذكر من بين تلك العلامات خروج يأجوج و مأجوج … و خروج الدجال … و وصف دابة الأرض بأوصاف غريبة ) (7) .
__________
(1) ... أحاديث نزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان كثيرة و صحيحة ، منها ما هو في الصحيحين أو أحدهما ، و قد عدَّها بعض العلماء من قبيل المتواتر كما فعل الشيخ محمد أنور شاه الكشميري ، الذي جمعها في جزءٍ ، عنوانه ( التصريح بما تواتر في نزول المسيح ) .
(2) ... محمود شلتوت : تخرَّج في الأزهر ، و درَّس في القسم العالي بالقاهرة ، ثمَّ عين وكيلاً لكلِّية الشريعة . له عضويَّة في هيئة كبار العلماء بمصر ، و مجمع اللغة العربيَّة بالقاهرة ، تولى مشيخة الأزهر حتى وفاته سنة 1383هـ/ 1963 م . من آثاره : الإسلام عقيدة و شريعة ، و الفتاوى ، و توجيهات الإسلام .
... انظر ترجمته في: المستدرك على معجم المؤلفين ، لكحالة : ص 774 ، الأعلام للزركلي 7 / 173 .
(3) ... الشيخ المراغي ، هو : محمد بن مصطفى بن عبد المنعم المراغي ، مفسرٌ و فقيه ، حنفي المذهب ، يأخذ من المذاهب الأخرى ما يناسب العصر و المصلحة ، و لد بالمراغة من صعيد مصر ، و نشأ بها ، ثمَّ انتقل إلى القاهرة و تتلمذ فيها على الشيخ محمد عبده ، اشتغل بالقضاء ، و تولى مشيخة الأزهر حتى و فاته سنة 1364هـ / 1945 م . من آثاره : بحوثٌ في التشريع الإسلامي ، و تفسير سورة الحجرات .
انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي 7 / 324 ، معجم المؤلفين ، لكحالة : 12 / 34 .
(4) ... انظر : الفتاوى المعاصرة ، لحسين جوزو ، ص : 48-52 .
(5) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .
(6) ... الشيخ عمر ناكيجفيتش : شيخ جليل ، و مربٍ فاضل ، و قد شرُفتُ بالتدريس في كلية الدراسات الإسلامية بسراييفو بعد أن أجازني لذلك ، و هو ممَّن أوذي في الله فاعتقل و عُذب فصبر سنين عددا ، غير أن إقراري بفضله و جلالة قدره ، لا يبرر التغاضي عمَّا أراه من زلله و هفواته ، التي أسأله تعالى أن يغفرها له ، و أن يعذره باجتهاده فيها ، لأننا نحب الرجال ، و لكنا نحب الحق أكثر من الرجال . ( الباحث ) .
(7) ... انظر : الدكتور عمر ناكيجيفيتش : الشيخ حسن كافي الآقحصاري ، ص : 181 .(/19)
و زاد الدكتور عمر - غفر الله له - في الإنكار على الشيخ حسن كافي ، و صرَّح بأنه يأخذ عليه ( ذكره بعض الأشياء التي ليست بعيدة عن القصص و الخرافات مثل توالد الشياطين ، و وصف الدجال ) (1)
تقديم العقل على النقل عند دعاة المدرسة العقلية الحديثة في البوسنة :
عرف عن دعاة المدرسة العقدية الحديثة ، ما عرف عن أسلافهم الأقدمين من تحريف الأدلة من نصوص السنة النبوية عن مواضعها ، كالتحريف في (( وجه دلالة النص و معناه ، بإخراجها عن حقائقها مع الافتراء ، بمعنى صرف الأدلة عن وجوه الاستدلال بها ... و منه في المدرسة العصرانية ضغط النص للواقع )) (2) .
و من أنواع تعدي العقلانيين على السنة ، تحريفها بالطعن فيها (3) و إبطال ثبوتها ، و منه الطعن بحديث الآحاد في أبواب الاعتقاد (4) .
يقول الأستاذ حسين جوزو : (( إن مما يدل على أهمية العقل و العلم في الإسلام أنه إذا تعارضت نصوص القرآن الكريم مع العقل ، أو مع نظرية علمية ،
وجب تقديم العقل ، و تأويل النص )) (5) .
و من الأمثلة على موقفهم هذا ما يلي :
أولاً : قول الأستاذ حسين جوزو : (( الحياة في تطور مستمر ، و متطلباته متطورة أيضاً فإذا كان إخراج ربع العشر كافياً لسد احتياجات مجتمع بدوي متخلف قبل ألف و أربعمائة سنة ، فإن ذلك لا يكفي اليوم ، و عليه فلا أظنني مخطئاً حينما أعيد النظر في نسبه زكاة المال ، و نصاب صدقة الفطر )) (6) .
الخلط في فهم نصوص السنة النبوية عند العقلانيين في البوسنة :
يضطرب دعاة المدرسة العقلية عموماًعندما يواجهون بما يرد عليهم ، أو يفند آراءهم الشاذة ، و أمام عجزهم عن القول برد السنة النبوية بالكامل ، نجدهم يسلمون بصحة ما ووجهوا به ، و يأولونه بأهوائهم تهرباً من القول بمقتضاه و يظهر ذلك جلياً في :
أولاً : رفض فهم السلف الصالح لكثير من الأحاديث النبوية :
يقول حسين جوزو بعد الإشارة إلى فهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لبعض نصوص الشريعة و تطبيقهم لها : (( إن أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و صحابته كان ينظر إليها على أنها ملزمة للأجيال اللاحقة ، و لكن هل يمكن أن يظل الأمر كذلك إلى الأبد ؟ ألم يكن من بينها ما هو خاص بعصرهم ، و مناسب لظروفهم
فقط ؟ )) (7).
... و يقول في موضعٍ آخر : (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطبق قواعد الإسلام و أحكامه في بيئة معيَّنة ، و فترة زمنيَّة محددة ، و لا شك في أنَّ ذلك التطبيق كان ملائماً لتلك البيئة و مستواها الحضاري … و يجب علينا الإقرار بأنَّ تنزيل أحكام الإسلام على الواقع أمرٌ اجتهادي … و كيفيَّة تطبيقها تتغيَّر بحسب ظروف العصر ، و تطور المجتمع )) (8) .
... و انطلاقاً من هذا الفهم لا يستطيع الأستاذ حسين جوزو أن ينظر إلى السنة إلا بعتبارها نموذجاً لتطبيق الإسلام ، لا يلزم الأجيال اللاحقة التقيُّد به ، و أنَّ ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - و صحابته الكرام رضوان الله عليهم من بعده ليس حلاً نهائياً لا يمكن تغييره أو تطويره ، و لكنَّه مجرَّد رأيٍ يمكننا أن نرى غيره مما يتناسب مع العصر الذي نعيشه ، و الحضارة التي نتعامل معها ، و ننتسب إليها (9) .
... و المثال الذي غالباً ما يضربه دعاة التجديد لتغير الأحكام بتغيُّر الظروف و الأزمان هو قضيَّة تعدُّد الزوجات ، الأمر الذي يسعون جاهدين لتحريمه ، و القضاء عليه ، بدعوى عدم صلاحيَّته لهذا الزمان ، و في هذا يقول الشيخ محمد عبده :
(( لا سبيل إلى تربية الأمة مع فشو تعدد الزوجات فيها ، حتى يعيد العلماء النظر في هذه المسألة ، خصوصاً الحنفية منهم الذين بيدهم الأمر ، و على رأيهم الحكم ، فهم لا ينكرون أن الدين أنزل المصلحة الناس و خيرهم و أن من أصوله رفع الضرر و الضرار ، فإذا ترتبت على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله ، فلا شك في وجوب تغيير الحكم ، و تطبيقه على الحال الحاضرة )) (10) .
... و مقتضى كلامه هو أنَّ مسألةً – كمسألة تعدد الزوجات – لا يمكن تطبيقها في زمانٍ كزماننا ، و لا تناسب ظروفنا و مستوى ثقافتنا ، و إن كانت صالحة للتطبيق في العصور الغابرة ، و مقبولةً بحسب فهم الأجيال السابقة .
__________
(1) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 184 .
(2) ... الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد : الردود ، ص: 157، 158 .
(3) ... انظر : الصواعق المرسلة ، لابن القيم : 1/ 217 .
(4) ... انظر : الدكتور بكر أبو زيد : الردود ، ص : 159 .
(5) ... الإسلام و العصر ، ص : 161 .
(6) ... المرجع السابق ، ص : 513 .
(7) ... المرجع السابق ، ص : 14 .
(8) ... المرجع السابق : 29 .
(9) ... انظر : المرجع السابق : 49 و ما بعدها .
(10) ... تفسير المنار : 4 / 349 – 350 .(/20)
... و ما هذه النظرة المتنكرة لفهم السلف لنصوص الشرع ، و تطبيقهم لها ، بل و لعمل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نفسه ، إلاَّ نتيجة لرأي العقلانيين القائل : إنَّ الالتزام بالسنة و العمل بالحديث على منهج السابقين يعني أننا (( حفرنا للحديث قبره ، و وأدناه فيه )) (1) .
... و ينتهي الأستاذ حسين جوزو إلى أنَّ على المسلمين في مرحلة التجديد و النهضة الإسلاميَّة على طريق العودة إلى الإسلام أن لا نقف عند أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - كأفعالٍ ، بل أن ننظر إلى كيفية فعله لها ، و كيفيَّة تطبيقه للقرآن الكريم ، و تعامله مع القضايا الواقعة و الأمور المستجدَّة في عصره ، علماً بأننا لن نجد في شيءٍ من ذلك حلولاً لكثيرٍ من قضايانا المعاصرة ، لأنه كان يحلُّ قضايا عصره و بيئته ، و علينا نحن أن نجد الحلول المناسبة لقضايا عصرنا و مجتمعاتنا (2) .
ثانياً : عدم الدقة في رواية الحديث و فهم معناه الموجب للتسليم و العمل بمقتضاه :
و من ذلك إشارة الشيخ حسين جوزو إلى حديث (( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها )) (3) بقوله : (( لقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيأتي كل مائة عام من يجدد هذا الدين بفهم جديد ، و تطبيق جديد و مناسب )) (4).
... و فضلاً عن عدم ضبط الأستاذ حسين جوزو لمتن الحديث ، يبالغ في الانتصار لمذهبه ، بإدراج ما يخدم توجهه فيه ، بزيادة (( بفهمٍ جديد ، و تطبيق جديد
مناسب )) ، و هو بذلك ينفرد بفهم جديد لمعنى التجديد الوارد في الحديث ، و الذي فسَّره به الشرَّاح السابقون بإحياء ما اندرس من العمل بالكتاب و السنَّة و الأمر بمقتضاهما ، فالمجدد هو الذي يبين السنة من البدعة ، و في عصر التجديد يكثر العلم و يقوى أهله ، و تقمع البدع و يكسر أهلها (5) .
... و استدلاله على أنَّ الإسلام قد ساوى بين الرجل و المرأة ، و أنَّ المساواة بينهما لا تكون إلا بتأهيل المرأة و تسليحها بالعلم ، بقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : (( طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم و مسلمة )) ، و معلوم أنَّ لفظ ( و مسلمة ) مدرجٌ في الحديث ، و ليس منه (6) ، و لو اقتصر من يروون الحديث بهذه الزيادة على ما روي مسنداً حسنا ، لكانوا أبعد عن الشبهة ، و أبلغ في التعبير عن المراد ، حيث قرر أهل العلم أنَّ الخطاب عامٌ يشمل الرجال و النساء ، و إنمَّا يرد بصيغة التذكير للتغليب لا للتخصيص .
ثالثاً : التقليل من شأن السنة النبوية :
... و ذلك باعتبار أنَّ الحديث النبوي عبارةٌ عن اجتهاداتٍ بشرية من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و ليس وحياً غير متلوٍ كما يقول كثيرٌ من العلماء .
فهاهو الأستاذ حسين جوزو يتساءل : هل كانت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - من اجتهاده البشري ؟ أم أنَّها وحيٌ ربَّاني ؟
__________
(1) ... حسين جوزو : الإسلام و العصر : 31 .
(2) ... المرجع السابق ، ص : 50 و ما بعدها .
(3) ... صحيح : تقدم تخريجه .
(4) ... الإسلام و العصر ، ص : 14 .
(5) ... انظر : عون المعبود : 11/ 386 .
(6) ... انظر : حسين جوزو : الإسلام و العصر ، ص : 476 .
قال السخاوي في " المقاصد الحسنة " ص 277 : ( قد ألحق بعض المصنفين بآخر هذا الحديث " و مسلمة " وليس لها ذكر في شيء من طرقه ، و إن كان معناها صحيحا ) .
قلت : و الحديث بدون هذه الزيادة روي عن عدد من الصحابة ، من طرق كثيرة لا يخلو إسناد منها من ضعف ، فقد نقل المناوي في " فيض القدير " 4 / 267 عن السيوطي قوله : ( جمعت له خمسين طريقا ) .
قلت : و بانضمام هذه الطرق بعضها إلى بعض يرتقي الحديث إلى درجة الحسن إن شاء الله تعالى ، و قد حسنه بعض الأئمة ، و صححه غيرهم ، أذكر عنهم طرفا من ذلك :
قال الذهبي في " تلخيص العلل المتناهية " ( 26 ) : ( روي عن علي و ابن مسعود و ابن عمر و ابن عباس و جابر و أنس و أبي سعيد - - رضي الله عنهم - ، و بعض طرقه أولى من بعض ، و بعضها صالح ، و الله أعلم ) .
و قال المزي فيما نقله عنه الزركشي و وافقه في " اللآلئ المنثورة " ص 43 : ( روي من طرق تبلغ رتبة الحسن ) .
و قال العراقي فيما نقله السخاوي في " المقاصد " ص 276 : ( قد صحح بعض الأئمة بعض طرقه ، كما بينته في تخريج الإحياء ) .
و حسنه السيوطي في " الدرر المنتثرة " ص 130 . بل نقل عنه المناوي في " الفيض " 4 / 267 قوله : ( و حكمت بصحته لغيره ، و لم أصحح حديثا لم أسبق إلى تصحيحه سواه ) .
قلت : و في ذلك نظر ، لما نقلناه عن العراقي قبل .
و نقل ابن عراق في " تنزيه الشريعة " 1/258 عن الحافظ العراقي الشافعي قوله :(حديث حسن غريب). =
= ... و قال الزرقاني في " مختصر المقاصد " ( 614 ) : ( حسن ، و قيل : صحيح ) .(/21)
ثم يجيب على تساؤله هذا بالقول : (( إنَّ إدعاء أن السنَّة نوعٌ من الوحي زعمٌ لا دليل عليه ، حتى في قوله تعالى : { و ما ينطق عن الهوى - إن هو إلاَّ وحيٌ يوحى } [ النجم : 2 ، 4 ] ، فالذي ينطق به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو القرآن الكريم الموحى إليه و لا ريب أن المقصود في الآية هو القرآن الذي كان يتلوه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و بيِّنه للناس الذين اتبعوه بافترائه من عند نفسه … و الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع الحديث إلى منزلة الوحي ، بل كان يرى أنَّ القرآن من الله ، و أنَّ الحديث من البشر ، و لو لم يكن الأمر كذلك لأمر بتدوين السنَّة كما أمر بكتابة القرآن الكريم )) (1) .
موقف دعاة السنة في البوسنة من المدرسة العقلية الحديثة :
لقد أخرج الله تعالى من أبناء البوسنة أنفسهم من ينقض دعاوى الشيخ حسين جوزو و أترابه ، و يبين فسادها في ضوء القرآن الكريم الذي يزعم العقلانيُّون أن لا وحي غيره .
و من هؤلاء الأفاضل الأستاذ مصطفى كاراليتش الذي تولى إحقاق الحق في هذه المسألة في بحث نُشر في العدد الثاني و الأربعين من مجلَّة ( الفكر الإسلامي ) ، الصادر في شهر ( 6 ) سنة 1982م ، و ضمَّنه مسألتين هامتين على صلة بمسألة حجية السنة التي تناولها المؤلف في الجزء السابق و هما :
مسألة كون السنة وحياً غير متلو ، و ذكر الخلاف في ذلك مرجحاً كونها وحياً من عند الله تعالى القائل : { و ما ينطق عن الهوى - إن هو إلا وحيٌ
يوحى } [ النجم : 2 ، 4 ] و راداً على من زعم أنَّها مجرَّد اجتهادات بشرية لا يؤخذ بها في الأحكام الشرعيَّة .
أما المسألة الثانية ففيها زيادة تفصيل و بيانٍ لسابقتها ، حيث سار المؤلف على منهج الإمام ابن قتيبة في كتاب ( تأويل مختلف الحديث ) فقسَّم السنة إلى ثلاثة
أقسام (2) .
و لا أعرف أحداً من البوسنويين كتب في مثل هذه المسائل ، راداً أقوال العقلانيين و مثبتاً أقوال العلماء الراسخين ، رغم خطورة ذلك تحت الحكم الشيوعي سوى الأستاذ مصطفى كاراليتش جزاه الله خيراً .
أما بعد انقضاء الحرب الأخيرة ، فقد كثر الدعاة إلى الكتاب و السنة ، و أجرى الله على أيديهم الخير الكثير ، فكانوا شوكة في حلوق العقلانيين ، يغصون بها كلما ارتفعت عقيرتهم بدعوى فاسدة ، أو رأي غير سديد .
__________
(1) ... حسين جوزو : الإسلام و العصر : 266 و ما بعدها .
(2) ... قال ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث " ص 132 – 134 : ( السنن عندنا ثلاث : سنة أتاه بها جبريل عليه السلام عن الله تعالى ، كقوله : لا تنكح المرأة على عمتها ... و السنة الثانية : سنة أباح الله له أن يسنها و أمره باستعمال رأيه فيها ، فله أن يترخص فيها لمن شاء على حسب العلة و العذر ، كتحريمه الحرير على الرجال ، و إذنه لعبد الرحمن بن عوف فيه لعلة كانت به ... و السنة الثالثة : ما سنه لنا تأديباً ، فإن نحن فعلناه كانت الفضيلة في ذلك ، و إن نحن تركناه فلا جناح علينا إن شاء الله ، كأمره في العمة بالتحلي ، و كنهيه عن لحوم الجلالة ، و كسب الحجام ) .(/22)
الطريق إلى الشخصية المؤثرة
الكاتب: الشيخ د.علي بن عمر بادحدح
المحتويات:• المحطة الأولى: التميز الإيماني والتفوق الروحاني .• المحطة الثانية : الزاد العلمي والرصيد الثقافي .• المحطة الثالثة : رجاحة العقل وحسن الأسلوب .• المحطة الرابعة : رحابة الصدر وسعة الخلق . • المحطة الخامسة : الجرأة الواعية والثبات الراسخ .• المحطة السادسة : الاستمرار والابتكار .• المحطة السابعة : الاستغناء والعطاء . • المحطة الثامنة : التدرج والمراعاة .
الطريق إلى الشخصية المؤثرة :
المقدمة:
نحمد الله - جل وعلا - أن هيأ هذا اللقاء الذي نصل به ما سلف لنا من لقاءات في سلسلة الدروس العامة التي نسأل الله - جل وعلا - أن ينفعنا بها وأن يجعلها في موازين حسناتنا ، وأن يجعلها عوناً لنا على طاعته ، إنه - سبحانه وتعإلى - ولي ذلك والقادر عليه . ونحن كثيراً ما نسمع في أوساطنا أن فلاناً من الناس له قبول إذا تكلم وله استجابة إذا وجَّه وأرشد ، وكثيراً ما نسمع ما يتناقله الناس فيقولون إن فلاناً لكلامه أثر السحر في النفوس أو أنه يستطيع أن يغير في الأفكار ويقوِّم في السلوك ونحو ذلك ، فيقولون حينئذ: إن فلاناً مؤثر أو إن له شخصية مؤثرة ,ولا شك أن هذا التأثير مهم جداً ينبغي أن نعلم ابتداء أن التأثير نوعان :الأول : إيجابي .والثاني سلبي . وحديثنا إنما هو عن التأثير الإيجابي ، ونعني به ما يحتاج الناس إليه من تعليم لجاهل أو توضيح وتبيين لمخطأ أو ردع لعاصي أو نحو ذلك مما يوجه به الناس إلى طريق الخير والاصلاح بإذن الله - عز وجل - ونحن إذاً نتحدث عن التوجيه والتعليم والدعوة والإرشاد وكيف يمكن أن تكون مؤثراً كما نحب وكما نرغب أن نراه في واقع حياتنا ، وابتداءً فإن عناصر التأثير يمكن جمعها في ثلاثة أمور أساسية :أولاً : الميل العاطفي والقبول النفسي .ثانياً : الإقناع العقلي والحجة العلمية .ثالثاً : القدوة الحية والنموذج المتحرك .
العنصر الأول : الميل العاطفي والقبول النفسي إن الناس لا يقبلون الا ممن أحبوه ومالوا إليه وانسوا به، فلذلك لا بد من هذا الميل النفسي والقبول العاطفي الذي هو المدخل الرئيس الذي يقع به القبول والتلقي والإستجابة والتأثير ، ولكن المحبة والميل وحده لا يكفي ، فقد يكون المرء محباً لآخر ، ولكنه لا يستجيب له ؛ لأنه لم يقتنع بما وجهه إليه أو لم يرالحق فيما نبهه عليه .
العنصر الثاني : الاقناع العقلي والحجة العملية لا بد أن يضم إلى العاطفه العقل ، ومن هنا نحتاج أيضاً إلى الإقناع العقلي والحجاج العلمي، وهذا امر مهم جداً لأن الحجة والبرهان لهما سلطان أيما سلطان ، وأيضاً ينبغي أن نعرف أن الأمرين متلازمان ، فلو كان هناك ميل بلا إقناع لا تحصل الاستجابه ولو كان هناك إقناع وإقامة حجة لكان هناك نفرة ونوع من الانقباض، فكذلك لا يحصل هذا .
العنصر الثالث : القدوة الحية والنموذج المتحرك ثم يأتي العامل الثالث وهو القدوة الحية والنموذج المتحرك فهو عامل يدعم العاملين الاولين فهو يزيد العاطفه والميل تأججاً ويزيد إحكام القناعة العقلية ويجمع بهذه الأطراف فيقع حينئذ التأثير المطلوب ونعلم أثر القوة ونشير في ذلك إلى قول ابن القيم في فوائده رحمه الله عليه قال " علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم ، فكلما قالت أقوالهم للناس هلموا قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم ، فلو كان ما دعوا إليه حقاً كان أول المستجيب له أي ؟ هم، فهم في الصورة أدلاّء وفي الحقيقه قطاع طرق " ثم - أيها الإخوة - نحن جميعاً نحرص على حصول هذا التأثير ؛ لأن كثيراً من الناس يشكون بأن هناك خطباً ومحاضرات ودروساً وأمراً بمعروف ونهياً عن منكر ، ويرون أن التأثر والإستجابة دون هذا كله وأقل منه ، فنحن نحرص على هذا التأثير ووقعه على النحو المطلوب لأمور كثيرة .
من فوائد التأثيرالأثر الأول : حصول الأجر والمثوبة لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم ) وقال عليه الصلاة والسلام : ( من دل على خيرٍ فله مثل أجر فاعله ) ويقع هذا الأجر عندما يقع الإمتثال الفعلي والإستجابة العملية .
الأثر الثاني : سبب لنزول الرحمة وكذلك - أيها الإخوة - لأن انتشار الخير في الصورة العملية بالاستجابة والتأثر هو سبب من أسباب تنزل رحمة الله ورضي الله - سبحانه وتعإلى - على هذه الأمة التي ربما سارت وقتاً طويلاً في غير مرضاته سبحانه وتعإلى .
الأثر الثالث : مغالبة وتحجيم : مغالبة لأهل الباطل وتحجيماً لآثار الفساد، فالباطل صيته عالي ووسائله كثيرة وحججه متنوعة وأساليبه متباينة، وما يزال يفعل في العقول و العواطف فعله، وإذا لم يحصل في ذلك ما يقابله من الحق والخير فان الامر يكون في أعظم صور الخطوره التي تحتاج إلى أن ننتبه لها.(/1)
من أضرار عدم حصول التأثيرالضرر الأول : منع إنتشار المفاهيم الخاطئة ثم من جهة أخرى عندما لا يحصل التأثير نجد هناك بعض المفاهيم الخاطئة، وبعض الناس على سبيل المثال يحكمون بفساد الناس والمجتمعات على وجه القطع والعموم، فإذا به أحدهم يقول هؤلاء لا خير فيهم وهؤلاء لا يستجيبون، لماذا ؟ يقول : لأنني وعظتهم وأثبت لهم وأقمت الحجة عليهم ، ثم مع ذلك لم يستجيبوا، نقول قد يكون فيك الخطأ لا فيهم، وفي أسلوبك لا في تقبلهم، ومن هنا ندرك خطورة عدم حصول الأثر لأنه يفضي ببعض الناس إلى قول خاطيء ، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم : ( من قال هلك الناس هو أهلكهم ) . أي أشعرهم هلاكاً أو أهلكَهم أي حكم عليهم بالهلاك من غير بينّة .
الضرر الثاني : الإحباط واليأس هذا الذي يدعو ويذكِّر ولا يتصور بعض التصورات المطلوبة ، فلا يقع حينئذٍ له استجابه يقع في نفسه إحباط ربما تسلل إلى قلبه اليأس فقنِط من الناس واعتزلهم ، حينئذٍ تقل الأصوات الداعية إلى الخير وتضعف الأعمال التي تدعو إلى الإصلاح لماذا ؟ لأن فاعليها أو القائمين بها توقفوا من أثر عدم رد الفعل وقد يكون هناك خطأ عندهم ، هذه المقدمة أحببت أن أجعلها بين يدي لب هذا الموضوع في المحطات التي نقف فيها للوصول في هذا الطريق إلى الشخصية المؤثرة ، وهناك ثمان محطات أذكرها ثم أذكر ما تيسر مما عددته فيها.
المحطة الأولى : التميز الإيماني والتفوق الروحاني .المحطة الثانية : الزاد العلمي والرصيد الثقافي .المحطة الثالثة : رجاحة العقل وحسن الأسلوب .المحطة الرابعة : رحابة الصدر وسعة الخلق . المحطة الخامسة : الجرأة الواعية والثبات الراسخ .المحطة السادسة : الاستمرار والابتكار .المحطة السابعة : الاستغناء والعطاء . المحطة الثامنة : التدرج والمراعاة . ونقف عند كل واحدة من هذه المحطات على هذه الطريق علّ الله عز وجل أن يبصرنا بعيوب أنفسنا وأن يرزقنا أخذ الأسباب التي تجعل لأقوالنا وتوجيهاتنا قبولاً ، فيحصل لنا وللناس الخير لأننا لا نريد أن نأمر بالخير فلا يستجاب فيقع بيننا وبين الناس نفرة أو يقع بيننا وبينهم تنابز بالألقاب والأحكام ، وإنما هدف المؤمن الحق أن يجذب الناس معه إلى ما رأى من خير وصلاح بإذنه - سبحانه وتعإلى - .المحطة الأولى : التميز الايماني والتفوق الروحاني لا بد أن ندرك - أيها الأحبة - أننا عندما نتحدث عن إصلاح إسلامي وعن دعوة إيمانية، فلا بد أن ندرك أن أول أساسياتها حسن الصلة بالله عز وجل . فلكي تكون شخصيتك شخصية مؤثرة ؛ لابد أن تكون عظيم الإيمان بالله ، شديد الخوف منه ، صادق التوكل عليه ، دائم المراقبة له ، كثير الإنابة إليه، لسانك رطباً بذكر الله، عقلك تفكر في ملكوت الله، قلبك مستحظر للقاء الله ، مجتهد في الطاعات مسابق إلى الخيرات، قائمٌ بالليل، صائمٌ بالنهار، متحرٍّ للإخلاص وحسن الظن بالله عز وجل، فإن جمعت بعض هذه الأوصاف أو أكثرها فذلك هو سر القبول الأول، فقد ورد في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل ، فقال يا جبريل : إني أحب فلاناً فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ) . إن القبول - أيها الإخوة - ليس بوضوح البرهان ولا بفصاحة اللسان ، وإنما بسر الأسرار وهو الإخلاص لله - عز وجل - والعبودية له سبحانه وتعإلى ؛ فإن سلفنا الصالح لما أخلصوا لله ، ولما أخضعوا رقابهم لله ، ولما ملئت قلوبهم من خشيه الله ، كان سمتهم يذكِّر بالآخرة ، وكان رؤية الواحد منهم موعظة مؤثرة ، وكان أحدهم ربما لا يتكلم الا بالكلمات الوجيزة ، فإذا بها تفتح مغاليق القلوب وترد إلى سواء الطريق ، وإذا بها تكسر الحواجز التي تحول بين الناس وبين التأثر والإقبال على الخير .
وقد وصف ابن مسعود - رضي الله عنه - صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( من كان مستناً فليستن بمن كان قد مات ؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئكم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أبر هذه الأمة قلوباً ، وأقلّها تكلفاً ، وإن الواحد منهم ليقول الكلمة يهدي الله بها الفئام من الناس ) . أي الجماعات الكثيرة . إنها كلمات تخرج من أعماق القلوب قد مزجت بمرارة الإخلاص ... قد خلطت بقصد النية الصالحة لله - عز وجل - وبرغبة الخير للناس ، فلذلك تؤتي ثمارها .ونحن نعلم أن الصحابة - رضوان الله عليهم - والسلف ما أثرت عنهم المقالات الطويلة ولا الخطب الطويلة ، وإنما كانت كلماتهم موجزة ، لكنها كانت في الوقت نفسه مؤثرة ، وهذا هو السر العظيم الذي يلقيه الله - عز وجل - لكل من كان له عابداً .. سئل الحسن : ما بال أهل الليل على وجوههم نور ؟ فقال : " خلوا إلى ربهم فألبسهم من نوره " .(/2)
وهكذا - أيها الأحبة - ينبغي أن يعلم الدعاة والمصلحون أن أساس القبول إنما هو في هذا المجال الأساسي والركن الركين ، ولذلك إن تحقق المرء بهذا ؛ فإنه قد حاز عنوان الفلاح وشمس الصلاح ، وحاز أيضاً مفتاح النجاح ؛ لأنه تحقق في معنى العبودية لله - عز وجل - .وهي - أي العبودية - جالبة التوفيق ، فإذا الداعية – حينئذ - مسدَّد ، إن عمل أجاد ، وإن حكم أصاب ، وإن تكلّم أفاد ، ومثل هذا هو الذي ذكره سلف الأمة في الصالحين المصلحين الذين تذكرك بالله رؤيتهم .
ولا بد أن ندرك أهمية هذا الأمر ، وأن نعرف ما كان عليه هدى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشأن العظيم ، وليس هذا مجال البسط ، فنحن نعلم من ذلك الكثير الكثير ، وأنتم تعلمون أيضاً ، ولكننا نورد الأمثلة والتي إنما هي للإشارة إلى ما وراءها من غيرها .. فقد كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يقوم الليل حتى تتفطر قدماه ، فتقول له عائشه رضي الله عنها : لم تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! فيقول : أفلا أكون عبداً شكوراً . ونعلم قول عائشة رضي الله عنه في وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - في العشر الأواخر إذا دخلت شد مئزره ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله . وكان - صلى الله عليه وسلم - أعظم المؤمنين خشية ، وهو القائل : ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ) . وهو الذي كان يخرج في ظلمات الليل من المدينه يزور أهل البقيع يودعهم وداع المفارق ، ويدعو لهم ، وكان - صلى الله عليه وسلم - أرفع الناس قدراً في التعلق بالله ، وترفعاً عن الدنيا ، وقد قال لأبي ذر - رضي الله عنه - متمثلا فيما ينبغي أن يكون عليه ارتباط العبد بالله ، والبعد عن التعلق بالدنيا : " والله ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهباً تمضي عليه ثلاثة أيام وعندي مئة دينار الا شيئا أرصده لدين الا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا " . وجويرية بنت الحارث أم المؤمنين - رضي الله عنها - تقول : ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً ، أي من أعمال الخير . وهذا كله يدلنا على أن القبول ينبغي أن يؤسس على تميز في هذا الجانب الإيماني المهم .
المحطة الثانية : الزاد العلمي والرصيد الثقافي فإن أثر الإيمان في النفس من صلاح وخشية ، لا بد أن يعضده عند التأثير كما قلت الجانب الآخر وهو الحجة والبرهان والدليل والتعليم والإرشاد المبني على العلم بكتاب الله وبسنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولذلك كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يشفي علة كل سائل ، ويروي غلة كل ظمآن بما كان عنده إجابة عن التساؤلات وحلول للمشكلات ، وهو عدتك التي تعلم بها الناس وتبين لهم أحكام الشرع وتبحرهم بحقائق الواقع ، وتكتسب به القدرة على الإقناع وتفنيد الشبهات، فإن عند الناس كثيراً من الأقوال الخاطئة والمفاهيم الخاطئة تحتاج إلى العلم الذي يُدحض بنور القران والسنة ظلمات الجهل والشك الذي يحيط بالناس .
فلذلك وبهذا العلم أيضاً تكون متفنناً في العرض ومبدعاً في التوعية والتعليم ، وهذا العلم رصيد لا بد منه وزاد لا يمكن الإستغناء عنه ، وهو أحد المعالم المهمة التي تكسب الداعية تأثيراً في الناس ؛ لأن الناس - كما قلت - تمر بهم العوارض فيحتاجون إلى حكم الله عز وجل فيسئلون فيجدون الجواب الشرعي الصحيح الذي يجعلهم يتعلقون بهذا الداعية أكثر ، ويتعلقون بتصوره تعلقاً أكبر وتجعلهم يستفيدون من هذا العلم ويشعرون بحاجتهم إليه فيقبلون بمزيد من الإقبال عليه حتى يستفيدوا وينتفعوا . وصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بيّن النبي - عليه الصلاة والسلام - تميُّزهم في كثير من العلوم حتى يبين أن هذا التميز له أثره ، فقد خص ابن عباس - رضي الله عنه - بدعوته العظيمة لما قال له النبي - عليه الصلاة والسلام - بعد ان ضمه إلى صدره : ( اللهم علمه الكتاب ) . ونحن نعلم الحديث المشهور : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) . فالفقه في الدين خيرٌ كله، ومن خيريته أنه يكون له أثره في تعليم الناس وإرشادهم ، وكذلك نعلم من الصحابة علم الحلال والحرام عند معاذ بن جبل ، والقراءة والتلاوة عند أبي بن كعب ، والفرائض والمواريث عند زيد بن ثابت ، والقضاء والحكم عند علي بن أبي طالب ، وغير ذلك مما اشتهر به الصحابه - رضوان الله عليهم - وقد قال القائل في وصفهم : " قد كان أحدهم مثل الإخاذ يرتوي منه الرجل والرجلان ـ يعني مجرى الماء الصغير ـ ومنهم من هو أكثر من ذلك ومنهم كالغدير يقبل عليه القوم ثم يصدرون عنه وهو ما يزال ثراً يعطى منهم ابن عباس رضي الله عنه " . وهذا كما قلت أمر واضح و التمثيل له لا يحتاج إلى مزيد مقال .(/3)
المحطة الثالثة : رجاحة العقل وحسن الأسلوب وهذا من أوسع الأبواب وأهمها رجاحة العقل فلا سذاجة تضيع بها معاني الريادة ، فلا يمكن أن يكون المؤثر ساذجاً ليس عنده ذلك الاتزان والاتصاف برجاحة العقل ولا غضب يشوِّه صورة القدوة ولا طيش ولا خفة تطمس معالم الهيئة ، ولنا أمثلة كثيرة في من سلف من علماء هذه الأمة الذين وضعوا لنا نماذج في مواقفهم من خلال ما كانوا يتصفون به من رجاحة عقل وحسن أسلوب ، وصاحب العقل هو المقدم في الترجيح عند اختلاف الآراء وهو المحلل والمدلل إذا فقد أملاك الناس للتصورات ، وهو الذي يحسن ترتيب الأولويات واختيار الأوقات واستغلال الفرص والمناسبات وحسن التخلص من المشكلات والقدرة على التكيف مع الأزمات.
كل ذلك مفتاحه رجاحة العقل وحسن الأسلوب، ولذلك فهذا أثره في قوة الحجة العقلية والذكاء المتوقد الذي أذكر بعض أمثلته كما ذكر شارح الطحاوية وغيره أيضاً، أن أبا حنيفة - رحمه الله كان يجادل قوماً من الملاحدة فقال لهم : ما تقولون في رجل يقول لكم اني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال مملؤة من الأثقال قد احتوتها في لجة البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة وهي من بينها أي من بين هذه الأمواج تجري مستوية ليس لها ملاح يجري بها ، ولا متعهد يدفعها ، فهل يجوز ذلك في العقل ، قالوا لا يقول بذلك عاقل ، فقال : يا سبحان الله ان لم يجد في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهِّود ولا مُجري فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أعمالها وسعة أطرافها وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ ! فبهت القوم ، أي بهذه الإقناع العقلي والحجة البينة .
وقديماً قال الأعرابي : " البعرة تدل على البعير والأثر يدل المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج أفلا تدل على اللطيف الخبير ؟! " . إن الذكاء والفطنة - لا شك - أنه من أعظم ما يلفت النظر ، ويسلب العقول ، ويقنع المستمع بهذا كله ، ثم من رجاحة العقل حسن الأسلوب .
نماذج من الأساليب الحسنة1 ـ أسلوب المقارنة لأن هذا الأسلوب يبين الشيء ونقيضه، فبتدو حسنات المحسن وسيئات المسيء ، وحينئذ يعرف الإنسان ما هو فيه من خطأ ، وما يترتب عليه من آثار وخيمة ، ويعرف ما فاته من خير ، وما فاته فيما يترتب عليه من آثار حسنة ، ولذلك كان هذا من نهج القرآن ، كما في قوله تعإلى : { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون } . هذا في النور والحياة وذاك في الظلمة والممات ، وكذلك يقول الله جل وعلا : { أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خيٌر أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نا رجهنم } . ولذلك لا بد أن ندرك خيرات الإصلاح ، وأن نعرف ويلات الفساد ، والنبي - عليه الصلاة والسلام - استخدم هذا الأسلوب في المثل الذي بينّه لنا لما قال : ( مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ) . حتى كما يقول القائل وبضدها تتميز الأشياء ، وقال - عليه الصلاة والسلام - في حديث أبي موسى المتفق عليه : ( مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت ) . ويقول الله - جل وعلا - في محكم كتابه : { من عمل صالحاً من ذكر أو انثى فلنحيينه حياة طيبة } . في مقابل ذلك يقول الله جل وعلا : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامه أعمى } . عندما نخاطب الناس بالدعوة إلى الخير علِّمهم أن الخير خيرٌ لهم في دنياهم وخيرٌ لهم في أخراهم ، وإنهم يجدون بذلك طمأنينة القلب وسعادة النفس والبركة في الأوقات والزيادة في الأموال ؛ فإن الله - عز وجل - قد جعل آثار في هذه الحياة الدنيا .. { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً ـ يرسل السماء عليكم مدراراً * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً ) .
ولذلك عندما تدعو الإنسان الذي قد أسرف على نفسه في المعاصي ، وفُتن بأهل الشهوات أو بأهل الكفر ؛ فإنك تدعوه إلى شيء من المقارنة عند مؤمن سكنت نفسه وتعلق قلبه بالله فلا يتشتت ولا يتشكك ، عند مؤمن تعلق قلبه بالآخرة فليس خارجاً في أودية الدنيا يجري وراءها ويلهث كما يلهث الكلب ، عند مؤمن قد عف نفسه وابتعد عن الآثام والشهوات المحرمة فعصمه الله - عز وجل - بإذنه من الأمراض والأدواء والأسقام ، عند مؤمن عف نفسه عن أهوال الناس وعن الأموال المحرمة تبارك الله له في ماله وفي ولده وفي رزقه ، وانظر في المقابل بعد ذلك إلى قوم هو أي هذا المتسمع؟ ربما فتن بهم أو فعل بعض أفعالهم انظر إلى ما عندهم من حيرة أو قلق وإلى ما في مجتمعاتهم من تفسخ وانحلال وإلى ما شاع في بيئاتهم من عدوان وإجرام وإلى ما وقع في نفوسهم من انطماس لمعاني الإنسانية وانهيار معاني الأسرة ، هذه المقارنة - لا شك - أنها أسلوب يدل على رجاحة العقل ويقضي بالمرء أن يفكر في معالي الأمور .(/4)
2 ـ التقرير وكذلك أسلوب آخر وهو أسلوب التقرير وهو من الأساليب المهمة التي تدل على الفطنة والذكاء ورجاحة العقل، الله - جل وعلا – يقول : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ـ أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون ـ أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون } ، إلى آخر الآيات حتى قال جل وعلا : { أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون } . هذا التقرير خُلقوا من غير شيء كلهم يقولون لا، خلقوا السماوات والارض كلهم يقرون بلا، إذاً بهذه المقرَّرات والمسلَّمات نصل إلى إثبات ما وراءها مما كان ينكره الناس أو لا يعرفون حقيقته أو يجهلون مزيته ، ولذلك أيضاً يقص الله علينا خبر إبراهيم الخليل - عليه السلام - داعية من الرسل والأنبياء يميِّز بالحصافة ورجاحة العقل ، فالله سبحانه وتعإلى يقص علينا خبره بقوله : { واتل عليهم نبأ ابراهيم * إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون* قال افرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدوٌ لي الا رب العالمين * الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين ) إلى آخر الايات، فاستخدام ما هو مقرَّر عندهم ، قررهم هل يسمعونكم إذ تدعون ؟ فيجيبون : لا ! ، هل ينفعونكم أو يضرون ؟ سيجيبون : لا ! ، إذاً ما دمتم قد عرفتم ذلك فاعرفوا ما وراءه من الحق ، ولذلك استخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الأسلوب ، فكان أعظم أسلوب في الإقناع العقلي والإشباع العاطفي في الوقت نفسه . جاء رجل إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال : يا رسول الله إن امرأتي جاءت بهذا أي بغلام أسود - كأنه ينكر أن يكون منه - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل لك من إبل ؟ قال : نعم ، قال : ما لونها ؟ قال : حمرٌ يا رسول الله ، قال : فهل فيها من أورق ؟ قال : نعم قال : فكيف جاء هذا الأورق من هذه الإبل الحمر ؟ قال : يا رسول الله لعله نزعه عرق ، قال : فلعله . أي فلعل هذا أيضاً نزعه عرق . قرره بشيء يعرفه وبحقيقة يدركها ثم اثبت له ما وراء ذلك ، فسلم واقتنع ورضي ، وزال من نفسه ذلك الشك ومحيت تلك الريبة .
وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الامام أحمد - في قصة الشاب من الأنصار الذي جاء إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - يستئذنه في الزنا ، وما أعظم هذا عندما تتصور أن هذا جاء إلى رسول الله يستئذنه في ارتكاب الفاحشه ، فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ما نهره ولا قال هذه شهوات آثمة ولا ولا ، وإنما قال له بأسلوب هين لين : أترضاه لأمك ؟ قال : لا، قال : ولا الناس يرضونه لأمهاتهم ، أترضاه لإبنتك ؟ أترضاه لأختك ؟ أترضاه لخالتك ؟ في كل ذلك يقول : لا ، ثم ضرب النبي - عليه الصلاة والسلام - على صدره ودعا له أن يطهر الله قلبه ، فشفاه الله من هذا ببركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام .
وبهذا الأسلوب التقريري الذي يقيم الحجة على الإنسان من غير ما مراوغة ، وكذلك استخدام الصحابة بل نساء الصحابة هذا الأسلوب ، وفي ذلك مثلٌ عظيمٌ في قصة أم سليم - رضي الله عنها- لما كان ابنها مريضاً ثم توفاه الله - عز وجل - فجاء زوجها فتصنعت له وتحسنت حتى غشيها ، ثم بعد ذلك ، قالت له أرأيت قوماً أخذوا من قوم عارية ثم جاء أصحابها فطلبوها فيهم أيردونها لهم ؟ قال : نعم، قالت : فإن الله قد استرد عاريته فاحتسب ابنك ، فمهدت بهذا التقريب وبهذا الأسلوب . فإذاً لا بد أن يكون هناك هذه الأساليب .(/5)
3 ـ التسليم والإبطال: أسلوب التسليم والإبطال تسلم بالأمر الذي لا يسلم لا لشيء ولا لكونه حقاً ، ولكن لأن لا تخرج إلى مهاترات جانبية ، وقضايا هامشية ، ونزاعات فرعية ، وتترك الجوهر الذي ينبغي أن تصل إليه ؛ فإن أهل الباطل يأتونك بأمور عارضة ، وبقايا صغيرة حتى تنصرف عن إثبات الأصل الأصيل والركن الركين لا بد أن تفطن أن الأصول هي التي إذا قررت قادت الناس إلى قبول الفروع وهكذا ، لذلك تجد في قصة إبراهيم الخليل - عليه السلام - لما قال الله عز وجل : { ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربيَ الذي يحيي ويميت قال أنا أحي وأميت } . ما توقف إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - عند هذا وقال كيف تحي وتميت ورد وهذا ليس بإحياء ، لم يحصل ذلك منه بل تجاوز هذه النقطة وسار معه حتى تنقطع به حجته ، قال : أنا أحي وأميت ، { قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر } . والأمر ليس للمعاندة وإنما انظر إلى أثر هذه المناظرة في الناس الذين يسمعون وينظرون ويبصرون ، وكذلك في قصة موسى عليه السلام التي ذكر الله عز وجل في صورة الشعراء كلما جاء فرعون بمخرج قص موسى في طريقه في اثبات الربوبية والألوهية لله وإبطالها عن فرعون : { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } . ما رد عن فريته أو ادعاءه أو اتهامه له بالجنون ، بل كلما انصرف إلى صارف ما زال موسى - عليه السلام - يقرر هذه الحقيقة وهذا من رجاحة العقل ، أما ضعيف العقل فكلما قيل له أمر رد عليه ، وكلما فتحت له قضية ناقشها وهذا يجعله يتوه ويدور ويضيع في هذه الحلقات المفرغة ، ويقول بعد ذلك : إن الناس لم يستجيبوا وهو الذي شوَّش على نفسه وشوش على غيره ، ولم يحصل من وراء ذلك شيء .
4 ـ الإسرار لا الإشهار وهذا أسلوب اتبعه النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكره سلف الأمة فقال قائلهم وهو الفضيل بن عياض رحمه الله عليه : "المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويفضح " . فلا شك أن العاقل اللبيب لا يمكن ان يتوقع من الناس ان يقبلوا منه وهو يشهر بهم ويفضحهم على رؤوس الاشهاد ، إن النتيجة شبه الحتمية في مثل هذا الموقف أن ذلك المخطئ سيصر على خطأه ، بل سيجاهر به ، بل سيحارب وينافح ليبقى عليه ، والأمر لو كان على غير ذلك لكان له أثره كما قال الشافعي رحمة الله عليه : " من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه " . وكذلك فعل الصحابة - رضوان الله عليهم - لما طلب بعضهم من أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أن يكلم عثمان في بعض الأمور ، ثم قالوا له ألا تكلمه ، فرد عليهم رداً فيه درساً وعبرة قال : " ألا ترون أن لا أكلمه الا أن أسمعكم " . هل لا بد أن أنصحه أمامكم ؟ هل لا بد ان أعلن بأنني اليوم أنصح فلاناً أو سأعظ فلاناً ؟ ، ذاك بيني وبين الله وسرٌ بيني وبينه ليكون أدعى إلى القبول .
5 ـ التلميح دون التصريح وهو نهج النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان يقول : ( ما بال أقوام يفعلون كذا ) يكني ويعرض حتى لا يحدد الأشخاص وما فائدة التحديد إن الناس يريدون أن يعرفوا الأمر وبطلانه ودليل ذلك البطلان ؛ فإن فعله زيد أو عبيد فقد عرفوا الحكم وعرفوا الدليل ، وهذه المعرفة تغنيهم عن الفاعل لهذا الأمر في أكثر الأحوال ، وفي بعضها حالات معينه قد يكون هناك ما يستدعي ذلك ، لكن الأشهر والأكثر هو أن هذا النهج هو الذي كان نهج النبي عليه الصلاة والسلام على غرار قول القائل : " إياك أعني واسمعي يا جارة " ، فالمقصود هو المنكر بغض النظر عن فاعله ، ومن خلال هذا التعريض والإسرار يمكن أن يعرف الباطل من طريق لا يحصل به غضب المخطئ ولا تعصبه لفعله ولا إصراره عليه ، والتصريح في أكثر الأحوال يهتك حجاب الهيبة ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف ويهيج على الأحرار . ولذلك من لطائف ما ذكر ابن حجر - رحمه الله عليه - في ما أورده من الأحاديث في تعليقه على أحاديث كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة في آخر كتاب البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله الصحابة فأكثروا الاسئلة ، فرقى المنبر فقال : سلوني سلوني وهو يتكلم تكلُّم المغضِب ، فقام رجل من القوم فقال يا رسول الله : أين مدخلي، فقال : النار ) علق ابن حجر قال ولم يعرف له اسم قال : " ولعلهم ستروا عليه، وهذا رضي حكم النبي - عليه الصلاة والسلام - بأنه من أهل النار ومع ذلك ستروا عليه ولم يشهروا به " . فكيف قد وقع في خطأ ، أو زلت به قدم ، أو وقعت له غفلة ؟ كيف يمكن أن نشهر به أو أن نحكم عليه أو أن نصمه عياذاً بالله بفسق أو بتبديع أو بكفر من غير حجة ولا بينة ومن غير أخذ طريق الإصلاح الذي دلنا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك أيضاً نعرف من هذا حوادث كثيرة .(/6)
6 ـ أسلوب الرفق لا العنف ورد في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها : ( ما دخل الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع منه الا شانه ) ، أو كما في معنى الحديث . ونعلم جميعاً قصة الأعرابي الذي بال في المسجد فأراد الصحابة أن ينهروه ، فقال النبي : لا تزربوه ، وفي رواية : لا تقطعوا على الأعرابي بولته ، وهذا تعليم من النبي - عليه الصلاة والسلام - لضبط الصحابة ، وكبح جماحهم ، ولإعطائهم صفة الإتزان ، ثم لما قضى الإعرابي قال للصحابه ولم يقل للاعرابي : اهريقوا على بول الأعرابي ذنوباً من الماء ، هم الذين يغسلون بولته حتى يعلمهم كيف تكون التؤده وحسن التصرف ، ثم قال له : إن هذه المساجد بيوت الله لا تصلح أو لا يصح فيها شيئاً من الأذى .
وهكذا نجد بعض الناس عندهم حمية زائفة تجده يريد أن يقول .. يريد أن ينهي عن المنكر أو يأمر بمعروف أو أن يبين غيرته أو أن يؤثر في الناس ، فكلما وقع خطأ صغير هاج وماج وأرغى وأزبد وأقام الدنيا ولم يقعدها ، وليس الأمر كذلك ولا أثر في غالب الأحوال من وراء ذلك، وبعض الناس غيرته مدفوعة فإذا وقع أمر وأراد أن يتلطف جاءه من يقول له ويحك ألا ترى هذه المنكرات ، وأنت أصم أخرس أو أنت كذا ، يقول : أريد أن أقول بالحسنى أريد أن أسر بالنصيحة فيأتيه من يقول : أنت متميّع أنت متكاسل .. أنت متهاون .. فما يزال يدفع حتى يخرج عن هذا الاتزان والأسلوب ونحو ذلك .
أيضاً هناك إستدلالات خاطئة تقع في هذا، فعندما يكون امرؤ يعني يأخذ بهذه الأساليب ورجاحة العقل ويلتمس الطرق الناجعة المؤثرة ، يستدل بعض الناس على أنه لم يقم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد قلنا ما قال أسامة أترون أني لا أكلمه الا ان أعلمكم ؛ فإن هذا أمر يحتاج إلى هذه الإرشادات أو الإلماحات التي ذكرتها .
المحطة الرابعة : رحابة الصدر وسعة الخلق وذلك ليستوعب الداعية الناجح من حوله من الناس ؛ فإنه كما أثر : ( لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن تسعونهم بأخلاقكم ) . ولا بد أن تعرف أن للناس مطالب كثيرة وتساؤلات عديدة تحتاج منك إلى الإحتمال وكما قيل الإحتمال قبر المعايب،وسعة الأخلاق هي التي تربط الناس وتؤثر فيهم،وقد جاء من ذلك من هديه عليه الصلاة والسلام وإرشاداته الكثيرة مما يصعب حصره ويصعب حتى ذكر بعضه وإنما نذكر في عجالات سريعة . فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مثالاً لهذا الأمر في رحابة صدره وسعة خلقه ، فهذا أنس يخبرنا أنه خدم النبي - عليه الصلاة والسلام - عشر سنين ، وطبيعة الخدمة والخادم أن يُؤمر وان يُنهى وأن يُعاتب وأن يُلام وأن يُعاقب وأن يُزجر، قال : " فما قال لي قط أفٍ قط ـ طوال عشر سنين - وما قال لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء لم أفعله هلاّ فعلته " .
فتأمل كيف كان يوجهه ؟ وبأي أسلوب كان يأمر ؟ إنه أسلوب الموعظة المؤثرة من غير ما هذه الزوايا الحادة والأوامر الصارمة ، وبذلك الأسلوب العظيم الذي كان له - صلى الله عليه وسلم - وفي الصحيح عن أنس : أن أعرابياً جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وعليه بردٌ نجراني غليظ الحاشية فجذبه أي جذب الأعرابي النبي - عليه الصلاة والسلام - من برده حتى أثرت حاشية البرد في النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول له : مر لي بعطاء ، يعني يريد أن يأخذ عطاء أو استجداء ويأتي بهذا الأسلوب فماذا فعل النبي - عليه الصلاة والسلام - ؟ تبسم في وجهه وأعطاه . لو أن أحدنا وقع له هذا لما كان منه الا أن أحاط يده ، وربما رد عليه رداً يجعله أكثر نفوراً ، وهكذا ينبغي أن نجد من آثار هذه الرحابة والسعة في التأثر والشفقة ، الداعية الناصح الواعظ لا بد أن يكون شفيقاً يتقطع قلبه حزناً على معصية العاملين وإعراض المعرضين ، لا يفرح كما يظن بعض الناس : " هؤلاء عصاه زجرتهم فلم يتعظوا أهلكهم الله " ، و كما يقول بعض النا س أيضاً باللهجة العامية : " في ستين داهية " ونحو ذلك . كل هذا لا يمتثل هذه المعلم المهم في جذب الناس .
والله – سبحانه وتعالى – قد خاطب النبي - عليه الصلاة والسلام - ووصفه في القرآن فقال : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } ، أي مهلك نفسك ومقطعها لا لشيء إلا لأنك تريد هداية الناس ، وقال جل وعلا : { فلا تذهب نفسك حسرات عليهم } ، نهاه الله لما رأى شدة حزنه وإشفاقه على أولئك . وفي الحديث الصحيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : " كأني انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكى نبياً من الانبياء ضربه قومه فأدموا وجهه ويقول وهو يمسح الدم عن وجهه : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " .(/7)
هذه هي الشخصية التي تستوعب الناس .. تستقطبهم تجذبهم كما يجذب المغناطيس برادة الحديد، ولذلك أيضاً نجد الشفقة في حديثه عليه الصلاة والسلام : ( لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ) . وفي حديث عائشة رضي الله عنها : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل يحب أن يعمل به خشية أن يفرض على الناس .
فما بالنا نجد بعض الناس يحنث ويشدد على الناس ، ويلزمهم بما لا يلزمهم أو بما لم يُلزمهم به الشرع !! هذا أسلوب يدلنا على رحمة في القلب وشفقة في النفس تجعل المرء الناجح محباً ومشفقاً على المنصوح فيقع لذلك أثره العظيم المهم . ولذلك أيضاً نذكر المثل الذي ورد في حديث جابر قال : غزونا مع النبي - عليه الصلاة والسلام - غزاة قِبَل نجد ، ثم جئنا إلى وادٍ كثير العضاة فنزلنا فيه أي من شدة التعب ، وجعل الناس يستظلون بالشجر ، واستظل رسول الله بشجرة فنمنا نومة فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعونا وعنده أعرابي ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : إن هذا الرجل اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده نصله ، فقال من يمنعك مني، فقلت : الله ثلاثاً فسقط السيف من يده ، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم .
كل هذا يدل على النفسية التي ينبغي أن نتصف بها إذا أردنا أن نؤثِّر في الناس ، لا بد أن ندرك ذلك ،وقد قال بعض السلف في وصف بعض العلماء والأئمة ، وهو أبو إسحاق الشيرازي قال : " صحبته فشاهدت من حسن أخلاقه ولطافته وزهده ما حبّب اليّ لزوم صحبته فصحبته إلى أن مات " . والناس يلتفون حول من يعين محتاجهم ويغيث ملهوفهم - كما سنذكر أيضاً - فهذا المعلم مهم جداً .. سعة الصدر .. تقبّل الأخطاء .. تجاوز عن التسرُّع ، ولا تكون سريع الغضب تموج في محاجَّتك ، وإنما ينبغي أن نقف على هذا المعلم الذي أشرت إليه .
المحطة الخامسة : الجرأة الواعية والثبات الراسخ الناس - أيها الإخوة - في الملمات يجمحون ويتقدم الداعية الناصح الواعظ ، تتقدم به جرأته في الحق مصحوبة بحكمته في التعرف ، فإذا هو حينئذ محط الأبصار ومتعلق القلوب ، يصفه الناس بالشجاعة والإقدام ، وعندما تحل المصائب وتقع الأزمات ينفرط عقد الناس ويتخاذل كثيرون فيثبت حينئذ هذا الداعية الناصح المتصل بالله - عز وجل - ويكون ثباته بمثابة استقطاب للناس ، وتأثير فيهم وردعهم عن نكوصهم وتثبيتهم على إيمانهم، ولذلك هذا أمر مهم جداً أن يكون الداعية أو هذا الناصح متميزاً بهذه الجرأه لكنها جرأة وليست جرأة متهورة ولذلك ثباته لا يعتريه تلون ولا تراجع .(/8)
فانظر على سيبل المثال في سيرة المصطفى - عليه الصلاة والسلام- ما ورد في حديث أنس أن الناس فزعوا يوماً في المدينة على صوت صارخ في الليل، ماذا يصنع الناس في مثل هذا الموقف كل واحد يتلصص بالنظر فينظر هل تحرك غيره فاذا رأى أن هذا تحرك وهذا تحرك وهذا ينتظر هذا وهذا ينتظر هذا، فتجمعوا ليزيل بعضهم خوف بعض ، أما أن يتقدم أحدهم فهذا غالباً ما يكون متصفاً به المقدام منهم، قال : " سمع الناس صوت صارخ قال : فخرجنا ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم راجع من قبل الصوت على فرس عرِيِّ لأبي طلحة ـ أي من غير سرج - وهو يقول للناس : لن تراعوا ، لن تراعوا " . يوم حنين يوم هاج الناس وماجوا وارتد أولهم على آخرهم وانفرط العقد ، كان النبي - عليه الصلاة والسلام - على بغلة ـ والبغلة لا تجري ولا تسرع وليس مناسبة للفرار - فثبت النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو يقول : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ، ونادى العباس : هلموا هلموا فكان ثباته هو بؤرة التجمع . وعلي يقول : " كنا إذا حمي الوطيس واحمرَّت الحدق نتِّقي برسول الله - صلى الله عليه وسلم-" ، في المقدمة وليس في المؤخرة . وعائشة - رضي الله عنها - بينت لنا مثل هذه الأوصاف في مواضع شتى ، ويحتاج الناس إلى هذه الجرأة عند المواقف الحاسمة والملمات العصيبة . وانظر - رعاك الله - إلى موقف ابي بكر - رضي الله عنه- عندما مات المصطفى - صلى الله عليه وسلم- فطاشت العقول لهول المصيبة ، حتى قال عمر : من قال أن محمداً قد مات ضربته بسيفي هذا ، والله ما مات رسول الله وإنما ذهب إلى لقاء ربه كما فعل موسى عليه الصلاة والسلام ، وذُهل الناس واضطربوا ، فجاء أبو بكر - رضي الله عنه- طود إيمان شامخ وصاحب يقين راسخ ، فقال : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " ، وقرأ : { وما محمدٌ الا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } ، قال عمر رضي الله عنه : والله لكأني ما سمعتها إلا يومئذ . فقد كان أبو بكر أعظم حباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة أجمعين ، وكان أشدهم قرباً له ، ولكنه كان في الوقت نفسه أعظمهم إيماناً فكان هذا الموقف الذي يحكيه بعض الصحابة في وصفه قائلاً : " كنا عند موت الرسول - عليه الصلاة والسلام - كغنم في ليلة مطيرة شاتية ، حتى جمعنا الله بأبي بكر رضي الله عنه " . ونعلم قصة الفتنة والمحنة وخلق القرآن وما حصل فيها من فتنة الناس ، ومن موت بعض العلماء ، ومن إجابة بعضهم وغير ذلك ، حتى ثبت الإمام أحمد - رحمة الله عليه- حتى قال القائلون : " أبو بكر يوم الردة وأحمد يوم المحنة " . ثبت وحده ويُروى أن بعض أصحابه جاء له يدعوه إلى التخلص يا أبا عبد الله إن لك أبناء وإن لك كذا، وإن في الرخصة مندوحة، فقال له : " إن كان هذا عقلك فقد استرحت " .
وثبت - رحمة الله عليه- وهنا جاء الاستقطاب ، وهكذا كانت شخصيات الأئمة والعلماء والدعاة والمصلحين ، هذا ابن تيمية - رحمة الله عليه ورضي الله عنه - أيضاً، وقف هذا الموقف الشجاع الجريء في موقفه في تحريض المؤمنين على قتال التتار ومجاهدتهم، ولما حلّت به بعض النكبات والمصائب قال : " ما يفعل أعدائي بي ؟ أنا جنتي في صدري ، إن سجني خلوة ونفي سياحة وقتلي شهادة " . هذه الجرأة الواعية والثبات الراسخ لا شك أنه في مثل هذه المواقف قد بلغت القلوب الحناجر وانحدجت الأبصار وذهلت العقول، أما الانسان الذي يريد للناس أن يتأثروا به وهو على غير هذه المراتب العليا والصفات المثلى فذلك أمر بعيد، الأمر في هذا طويل والأمثلة كثيرة وهذه الأمثلة في الحقيقة لها أثر عظيم في تذكير الناس بالقدوات وتأثيرهم عند الملمات .
في أحد لما حصل ما حصل مر بعض الصحابة بأنصاري يتشحط في دمه يتخبط في دمه على وشك الموت، قال هذا الصحابي للأنصاري أما شهدت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات ، في هذا الموقف ماذا عساه أن يقول وهو في عداد الأموات تقريباً ؟ قال : " إن كان محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات فقد بلّغ فموتوا على مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " . جرأة وثبات في المواقف العصيبة، وهكذا كما قلت أمثلة كعبد الله بن حذافه السهمي وأمثلة أخرى كثيرة يطول ذكرها .(/9)
المحطة السادسة : الإستمرار والإبتكار تريد أن تؤثر في الناس بمجرد أن تعقد لهم أسبوعاً تعظهم فيه .. لا نثقل عليهم في المحاضرات والدروس في الصباح والمساء ، ثم نقول أو يقول القائل لم يستجيبوا أو نحني عليهم باللائمة هؤلاء قوم لا يسمعون لا يستجيبون لا ينتفعون ، ليست المسالة موعظة واحدة وحسب وإنما استمرار : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } ، وتنويع في الأساليب : { إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً } ، وقد قال الله - عز وجل - في قصة نوح : { ثم إني أعلنت وأسررت لهم إسراراً } ، نوّع في أساليب الدعوة ، وغيَّر وابتكر واستمر ألف سنة إلا خمسين عاماً ، أما أن نريد التأثير في الناس ونحن نقتصد من أوقاتنا ، ومن بعض جهودنا النزر اليسير ، ثم نقول ليس هناك تأثير هذا - لا شك - أنه أمر ليس مقبول ، لذلك العمل المنقطع يتبدد أثره والعمل المتكرر على نفس المنوال يبعث الملل ويُفقد الحماس ، أما تنويع الأساليب فهو باعث على التشويق ، ودليل على الإثراء ، وفيه تحريك للنفس وتنويع الأساليب والمداخل .
بعض الناس له مدخل بالدرس العلمي ، ويعظهم بالموعظة الإيمانية ويعظهم بالتربية السلوكية ، ويعظهم كذا ويعظهم كذا فلا بد من هذا كله ، فانظر إلى أثر الإستمرار الذي يقع به التغير . وأضرب مثلاً لما سبق أن أشرت إليه، الإمام أحمد لما ثبت في المحنة ، بعد ذلك في فترة من الفترات منع أن يشهد مع الناس الصلاة وأن يتحدث إليهم، لم ينقطع لم يعتكف لم يترك بعد ذلك الإستمرار وإنما استمر حتى سبحان الله خليفة وبعده خليفة حتى أذن الله عز وجل أن يبارك في أثر جهده بهذا الإستمرار، وجاء بعد ذلك المتوكل واستجاب للسنة ومكَّن للإمام أحمد من أن يغيّر ما كان في الباطل ، وكانت بعد ذلك الصورة المغايرة لما كان قبل ذلك من الإعراض عن هدي الرسول - عليه الصلاة والسلام - وسنته .
وهكذا ينبغي أن ننوع كما نوّع النبي - عليه الصلاة والسلام - فقد ضرب الأمثال ، وقصّ القصص ، وصور بالأساليب الإيضاحية كما خط خطاً مستقيماً وعلى جانبيه خطوطاً مائلة ونوَّع في الأمثلة .كما في حديث الجدي الأسك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم : من يشتري هذا بدرهمين ؟ ثم قال : من يشتريه بدرهم ؟ قالوا : يا رسول الله والله لو كان دون ذلك لما اشتريناه ، فقال : لهوان الدنيا على الله أهون من هذا على أحدكم . وهكذا نجد التنويع في أساليب كلام النبي - عليه الصلاة والسلام - ونجد الإبتكار فيها ، وكذلك نحن نمت إلى عصر تنوعت فيه الظروف واختلفت فيه مجريات الحياه فينبغي أن ننوع ، وأن نستمر مع هذا التجديد الذي يحصل به الكثير من الفوائد التي نحتاج إليها .
المحطة السابعة : الإستغناء والعطاء أن تستغني عما في أيدي الناس وتعطيهم مما عندك هذا هو أحد مفاتيح التأثير العظمى ، ونعلم أن القصص القرآني في دعوة الأنبياء قد جاء فيه قول الرسل والأنبياء في أن دعواهم لا يرجون من وراءها مالاً ولا أجراً منهم ، فقال الله - عز وجل - على لسان الأنبياء في ذلك قولاً واحداً : { وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري الا على رب العالمين } .
إذا علم الناس أنك تنظر إلى أموالهم أو أنك تنظر إلى شفاعتهم أو أنك تنظر لبنائهم ؛ فإنهم في الغالب لا يقبلون منك ولا يتأثرون بك ، لا بد أن تكون عندك غنية بالله - عز وجل- وغنية في عطاء الله عز وجل عما يتعلق بأيدي الناس، وقد كان النبي - عليه الصلاة والسلام - ما سئل شيئاً الا أعطاه. أعط الناس من وقتك واعطهم من بسط وجهك واعطهم من ثاقب رأيك، واعطهم من سعيك في حلول مشكلاتهم واعطهم حتى من أموالك ومن بذلك وإحسانك ؛ فإن هذا لا شك أنه يؤسر القلوب، هذا صفوان بن أمية يقول : " ما كان أحدٌ أبغض اليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يعطيني ويعطيني حتى ما أحد أحب لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم " . وقد ورد في الصحيح من حديث أنس أن النبي عليه الصلاة والسلام : ( ما سئل شيئاً الا أعطاه ) وجاء أعرابي فسئله فأعطاه النبي - عليه الصلاة والسلام - غنماً بين جبيلين ، فذهب الأعرابي إلى قومه، فقال : يا قوم اسلموا فإن محمداً يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر .
وقد جعل الله - عز وجل - سهماً وقسماً من أقسام أموال الزكاة للمؤلفة قلوبهم ، وبعض الناس إذا جئت تتألف الناس قال لم هذه الدنِيَّة في الدين؟ ولم هذا التميع ؟، سبحان الله ! هذاالتألف من الدين, مع أن الشدة لها موضعها والحزم له موضعه ، لكن لا بد أن ندرك هذه الآثار كما أخبرنا الله - عز وجل - في قصص الرسل والأنبياء .
المحطة الثامنة والأخيرة : التدرج والمراعاة بعض الناس يريد أن يكون الأمر على قول القائل :(/10)
ما بين غمضة عين وانتباهتها **** يبدل الله من حال إلى حال يريد أن يعظ الناس بالموعظة في الصباح فلا يأتي الظهر الا وقد استجابوا عن بكرة أبيهم ، لا بد أن يكون هناك أسلوب في التدرج وإذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع . لا بد أن يكون هناك مراعاة لأحوال الناس لعقولهم لمداركهم لظروفهم لبيئاتهم.. " حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله " . وفي حديثه لعائشة - رضي الله عنها - قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( لولا أن قومك حديثوا عهد ـ قال عروة أي بكفر - لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باباً يدخل منه الناس وباباً يخرجون منه ) . إذا ترك النبي عليه الصلاة والسلام ذلك لماذا ؟ لمراعاة أحوال الناس حتى لا يسبق عندهم هذا الفعل فيبقى عندهم إعراضاً أو مواجهة له أو عدم قبول له أو نفرة منه فلا بد من هذه المراعاة .
ومن هذه المراعاة تلمُّس حاجات الناس وعدم المشقة عليهم ، لما علم النبي - عليه الصلاة والسلام - بقصة معاذ كان يصلي مع النبي - عليه الصلاة والسلا -م ثم يذهب فيصلي بقومه ، فقال أحد الناس له حاجه فخرج من الصلاة مما يطول بهم معاذ ، فقام النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو مغضَب : ( إن منكم منفِّرين فإذا صلى أحدكم بالناس فليوجز فإذا صلى وحده فليطوِّل ) ( وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الطفل فيوجز في صلاته ) لا تشقُّوا على الناس وتفتنهم وتريدوا بعد ذلك أن يتأثروا بك ويستجيبوا لك ، ولذلك كان النبي - عليه الصلاة والسلام - كما قال عبد الله ابن مسعود : " يتخولنا بالموعظه مخافة السآمة علينا " . هذا أيضاً من مراعاة حال الناس في أوقاتهم، يأتي بعض الناس يُلقي الموعظة الطويلة في الوقت الشديد على الناس من حيث إرهاق يعانون منه أو تعب أو ارتباطهم بأعمالهم أو نحو ذلك ، ومن هذه المراعاة أيضاً - كما قلت - النظر إلى عقول الناس وإدراكهم للأمور ، وكما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه : " ما أنت بمحدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " . لا بد من مراعاة ظروف الزمان والمكان، النبي - عليه الصلاة والسلام - لما بعث معاذ قال له : ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب ) . ظروفهم بيئتهم خلفيتهم مختلفة فأعطاه أسلوباً معيناً وتدرجاً معيناً ، وكذلك إجابات النبي - عليه الصلاة والسلام - للسائلين تدل على مراعاة الحالة ، يأتي أحدهم ويقول أوصني يقول : لا تغضب ، الآخر يقول : أوصني ، يقول : لا يزال لسانك رطباً بذكر الله ، أحدهم يسأل أي العمل أفضل فيجيبه بإجابة والثاني يجيبه بإجابة وما من شيء الا أنه راعى حال هذا السائل فوقع الأثر ، وقد صح في مسند الإمام أحمد : أن رجلاً جاء يسأل النبي - عليه الصلاة والسلام - عن القبلة للصائم فمنعه ، ثم جاء آخر فأجاز له ، فلما سُئل عن ذلك ، قال : " ذاك شاب لا يملك إربه وهذا شيخٌ ليس له إرب " ، فهذا فرق وتفريق بين أحوال الناس وكذلك تنويع الذي أشرت إليه أيضاً فيه مراعاة للناس . كان ابن عباس يفسِّر القرآن فإذا رأى أنه قد طال الأمر بهم، قال أحمضوا بالشعر فيُأتي بالشعر فيغير هذا .
ومن أيضاً هذا التدرج والمراعاة، ترتيب الأولويات فلا تأتي للناس بالأمور التي ليست لها أولوية فتشغلهم بها بل تدرَّج في هذا، وكذلك مراعاة الظرف حتى لا يسبق الفهم شيءٌ خاطئ فالنبي عليه الصلاة والسلام أتاه حكيم بن حزام فسأله فأعطاه ثم أتاه فسأله فأعطاه، ثم قال له : يا حكيم إن هذا المال خضرة حلو من أعطيه من غير استشراف بورك له فيه ومن سأله باستشراف نفسه لم يبارك له فيه ) لو أن النبي عليه الصلاة والسلام، قال له هذا القول من أول مرة لظن أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لا يريد أن يعطيه ، لكنه أعطاه ثم أعطاه ثم بين له ذلك ، فعرف أن هذه نصيحة لا تتعلق بذلك الأمر، نعم فهذه المراعاة مطلوبة ومتنوعة - كما قلت - في الوقت ، في اختيار الموضوع المناسب ونحو ذلك ، فكما قال بعضهم تمثيلاً على هذا أي على عدم الأخذ بالمراعاة أن يأتي الانسان أو المتحدث إلى قوم عندهم مجاعة فيعظهم بالزهد في الدنيا، ويأتي آخر إلى قوم عندهم ثراء ونعمة فيحدثهم عن التحدث بنعمة الله وحب الله لإظهار النعمة التي أنعم بها على عبده ، وهذا لا شك أنه من غير المراعاة المطلوبة لهذه الأحوال .(/11)
وكما قلت – أيضاً - المراعاة يدخل فيها ترتيب الأولويات والتدرج هذا سيما لمن يوجه باستمرار كخطيب الجمعة أو الذي يلقي الدروس و يرتبط بأهل حيه وجيرانه أنه يأخذهم شيئاً فشيئاً للأمور المهمة العظيمة فيعينهم عليها ويشجعهم ويرغبهم فيها ثم ماوراءها مرتِّباً هذه الاولويات بحسب احتياج الناس وبحسب ما ينبغي أن يأخذهم به فيما يراه من مصلحتهم ، وكذلك هذا الأمر كان معروفاً معهوداً ، وكان هو الذي يتواصى به الصحابه - رضوان الله عليهم - بل قد ورد في مسند الإمام أحمد أن عائشة - رضي الله عنها - قد جاءت إلى قاضي أهل مكه وحذرته ونبهته إلى عدم الأخذ بمثل هذا، وقالت له : " إياك وإملال الناس وتقنيطهم " بمعنى عدم مراعاة أحوالهم بأن يقنطهم من رحمة الله أو نحو ذلك من الأمور .
فهذه كما قلت بعض المحطات في الطريق إلى الشخصية المؤثرة ، بل إن التميز الإيماني وتثنيةً بالزاد العلمي وتثليثاً برجاحة العقل ومروراً برحابة الصدر واستكمالاً بالجرأة الواعية وتتميماً بالإستمرار والإبتكار .وقبل الختام أيضاً بالإستغناء والعطاء وختماً بالتدرج والمراعاة ، وأحسب أن في هذه المحطات بعض المعالم المهمة التي لو أخذنا بها وأخذ بها كل باغ للخير وناصح للناس فإن القبول بإذن الله عز وجل سيكون له عند الناس وهذا سيجعل التأثير العملي الإيجابي في واقع الحياة ملموساً ملحوظاً وله أثره الذي قد أشرت إليه .
نسأل الله - عز وجل - أن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى وأن يجري الخير على أيدينا وأن يجري الحق على ألسنتنا وأن يجعلنا ممن يستمعون الحق فيتبعون أحسنه ويستمعون الباطل فيبتعدون عنه ، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، ونسأله - سبحانه وتعالى -مزيد التوفيق والسداد بعون الله - عز وجل - والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(/12)
الطريق إلى الله
إجمال في بيان الطريق إلي الله
يقول الله وتعالي في سورة الزمر - تلك السورة التي أخرج النسائي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يقرؤها كل ليلة: (قل يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم) وقد ورد أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية: (قل يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) وجاء رجل - كما ورد في مسند الإمام أحمد - إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم: شيخ كبير يد¹عم علي عصا له فقال: يا رسول الله، إن لي غدرات وفجرات فهل يغفر لي؟ فقال صلي الله عليه وسلم: (ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟) قال: بلي وأشهد أنك رسول الله . قال صلي الله عليه وسلم: قد غفر لك غدراتك وفجراتك
. إن الله سبحانه وتعالي في هذه الآية الكريمة يفتح أبواب مغفرته ورحمته علي مصارعها، إنه يرجي عباده حتى لا ييأس أحد من رحمته . (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) (قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) والجو الإسلامي كله مفعم بفتح أبواب المغفرة والرحمة . . فالحج المبرور مثلاً يخرج الإنسان من ذنوبه، حتي يصبح في البراءة منها، كيوم ولدته أمه . ومن صام رمضان إيماناً وإحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، والإسلام يجب ما قبله . وهذه الآيات الكريمة من سورة الزمر، تبدأ ببيان رحمة الله الواسعة، ومغفرته الشامله، ثم تأخذ في رسم الطريق لذلك، فيقول الله سبحانه: (وأنيبوا إلي ربكم، وأسلموا له، من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون) والطريق إذن إلي مغفرة الله ورحمته إنما هو التوبة الخالصة النصوح، وهي الإنابة إلي الله سبحانه، أي التوبه في أسمي درجاتها، وإسلام الوجه لله سبحانه . (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم، من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) وأحسن ما أنزل إلينا من ربنا هو القرآن الكريم - إنه: (يهدي للتي هي أقوم) وهو مهيمن علي غيره، مبين للحق فيما يختلف فيه أهل الكتب السماوية . ثم يتلو ذلك آيات ثلاث تبين موقف الإنسان الذي لم يتب، أو الذي تاب ولم يتبع: (أن تقول نفس يا حسرتي علي ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين . أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين) أو تقول حين تري العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين) وكل ذلك لا يجدي، والرد عليه حاسم من قبل الله سبحانه الحكيم العليم: (بلي: قد جاءتك آياتي فكذبت بها وإستكبرت وكنت من الكافرين) ويبين الله حالة هؤلاء يوم القيامة:
(ويوم القيامة تري الذين كذبوا علي الله وجوههم مسودة، أليس في جهنم مثوي للمتكبرين) . لا شك أن فيها مثوي للمتكبرين، مثوي يختلف ويتفاوت بإختلاف درجاتهم في الكبرياء والمعاصي وتفاوتهم فيها . ويختم الله سبحانه هذه الآيات التي ترسم المنهج وتبين المآل والمصير، ببيان مآ ومصير الذين تابوا واتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم، فيقول سبحانه: (وينجي اله الذين إتقوا بمفازتهم، لا يمسهم السوء، ولا هم يحزنون) . لا يأس يقول الله تعالي: (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد) إن من علامات صدق الإيمان الثقة المطلقة في الله سبحانه وتعالي، في رحمته، في رأفته، في عدالته، في لطفه، في عنايته بالمؤمن، ورعايته له . الثقة برحمة الله وفرجه حتي ولو كانت كل الشواهد تدل علي أن لا أمل، ولو كانت كل الظروف تشعر بالضيق . والآية الكريمة التي نحن بصددها تشرح ذلك في إيجاز واضح، وفي جمال بليغ، إنه سبحانه ينزل الغيث في الوقت الذي يظن المحتاجون أن لا أمل في قطرة ماء وينشر رحمته في الأجواء اليائسة القانطة، فينقلب الجدب خضرة يانعة، ويصير القحط روضات وجنات، وذلك أن من صفاته سبحانه أنه ولي للمؤمن، حميد في جميع تصرفاته . إنه يتولي برحمته من حقق العبودية، وأفعاله سبحانه جميدةدائماً لأنه سبحانه حميد .(/1)
وهذ الصورة من الإيمان الواثق بفرج الله ورحمته هي التي عبر عنها سيدنا يعقوب عليه السلام قائلاً لبنيه: (يا بني إذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه، ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلاالقوم الكافرون) وهي التي تجعل المؤمنين يلجئون إلي الله دائماً بالدعاء والتضرع فيستجيب الله لهم كلما أخلصوا وجههم له: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم) (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي) والله الرحيم هو الذي يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، وصلة الله سبحانه وتعالي بالإنسان صلة رحمة ورأفة . ورحمته سبحانه وتعالي تتجلي في كل ما أسداه سبحانه لعباده من هذه النعم المادية التي لا تحصي: (وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها) ولكنها تتجلي في أجمل مظاهرها في قواعد الهداية التي أحبها الله لعباده، والتي يدور عليها درجة سموهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وهي نعمة منبثقة رأساً من رحمة الله يقول سبحانه: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)
ويقول صلوات الله وسلامه عليه: (إنما أنا رحمة مهداه) ورحمة الله في الهداية أجلي عند أولي الألباب من رحمته في النعم المادية، وذلك أن رحمته في الهداية نتيجتها لمن يتبعوها الأمن والطمأنينة والرضاء والسكينة . وهذه الأكمور هي السعادة التي يسعي لها من وفقهم الله للسير علي هداه . وهداية الله إذا تبعها الأفراد سعدوا في دنياهم وأخراهم، وإذا تبعها الجماعات أمنوا علي دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وعاشوا أعزة بالله وبدينهم . وهداية الله للأفراد ليست آراء تخطئ وتصيب، وليست قوانين تظهر التجربة الخطأ فيها والصواب . وإنما هي العصمة الكاملة، لأنها تنزيل من حكيم خبير . ولقد ضمن الله سبحانه وتعالي لكل من يلتزمها أن يشملع برعايته، فلا يقع في غمرة الحزن والخوف، وإنما يسير في نور من توفيق الله، وفي أمن من حمايته: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشري في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) وبعد: فإن الله سبحانه وتعالي
سمي نفسه بالرحمن، وبالرحيم، وأمرنا أن نستفتح أعمالنا ب(بسم الله الرحمن الرحيم) . وإن من رحمة الإنسان بنفسه أن يلجأ إلي رحمة الله الكبري، وهي هديه سبحانه، فيستظل في ظل دوحتها النضرة وهي القرآن الكريم . فينعم من وراء ذلك بمرضاة الله وبحمايته . (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل علي الله فهو حسبه) . التجئ إلي الله يقول الله تعالي: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلي الله، والله هو الغني الحميد) إن من أجمل ما يفسر هذه الآية الكريمة الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم، والذي كان أبو إدريس الخولاني رضي الله عنه يرويه كثيراً، وكان حينما يرويه يجثو رضي الله عنه علي ركبتيه إحتراماً وتقديساً للحديث، ثم يبدأ في ذكره .
عن رسول الله صلي الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تبارك وتعالي أنه قال: يا عبادي: إني حرمت الظلم علي نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا يا عبادي: كلكم ضال إلا من هديته، فإستهدوني أهدكم . يا عبادي: كلكم جائع إلا من أطعمته، فإستطعموني أطعمكم . يا عبادي: كلكم عار إلا من كسوته، فإستكسوني أكسكم . يا عبادي: إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فإستغفروني أغفر لكم . يا عبادي: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا علي أتقي قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً . يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا علي أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً . يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المحيط إذا دخل البحر . يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فيحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه(/2)
. وما من شك في أن الإنسان - في كل أحواله - فقير إلي الله . إنه فقير إلي الله فقراً مطلقاً في الناحية المادية علي إختلاف أنواعها . (فلينظر الإنسان إلي طعامه، إنا صببنا الماء صباً، ثم شققنا الأرض شقاً، فأنبتنا فيها حباً، وعنباً وقضباً، وزيتوناً ونخلاً، وحدائق غلباً، وفاكهةً وأباً، متعاً لكم ولأنعامكم) (أفرأيتم ما تحرثون، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون، لو نشاء لجعلناه حطاماً) (أفرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون، لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون) والإنسان فقير إلي الله في هدايته الروحية: وإننا لنردد كل يوم مرات عديدة (إهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين) والذين أنعم الله عليهم هم الذين إتبعوا هديه، وعملوا به وإلتزموه . وهدي الله سبحانه وتعالي يتضمنه القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة . وإذا كان فقر الإنسان إلي الله في الجانب المادي فقراً مطلقاً فإن فقره إلي الله في الجانب الروحي فقر مطلق أيضاً . وبعد: فيقول صاحب كتاب التحبير: (وإغناء الله عباده علي قسمين): فمنهم من يغنيه بتنمية أمواله وهم العوام - وهو غني مجازي - ومنهم من يغنيه بتصفية أحواله وهم الخواص - وهو الغني الحقيقي - لأن إحتياج الخلق إلي همة صاحب الحال، أكثر من إحتياجهم إلي لقمة صاحب المال . إن الله يحب التوابين يقول
الرسول صلي الله عليه وسلم: (أنا نبي التوبة) والواقع أن الطريق إلي الحق الذي أرسل الله به رسولة إنما يبدأ بالتوبة الخالصة النصوح . ولقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يعيش في جو من التوبة مستمر، ولقد روي عنه أنه كان يقول ما معناه: (يا أيها الناس توبوا إلي الله وإستغفروه، فإني أتوب إليه وزستغفره في اليوم مائة مرة) وما كانت توبة رسول الله صلي الله عليه وسلم عن ذنب، وحاشاه صلي الله عليه وسلم وهو المعصوم . وما كانت توبته صلي الله عيه وسلم عن غفلة، كلا وحاشاه صلوات الله وسلامه عليه، وإنما كانت توبته توبة عبادة، وتوبة عبودية . ومن أجل ذلك كان يكثر منها عبادة وعبودية، وكان يكثر منها ليكون في داخل الإطار الذي رسمه الله سبحانه وتعالي بقوله: (إن الله يحب التوابين) والتوابون: هم الذين يكثرون من التوبة . وللتوبة الصادقة خصائص: أنها أولا تخرج حظ الشيطان من القلب، فيصبح طاهراً بريئاً من كل دنس، وهذا هو المغزي العميق من وراء الجدل والمماراه في حادث شق الصدر، وما من شك في أن المغزي الذي نأخذه من حادث شق الصدر واستخراج حظ الشيطان منه هو الطهارة الكاملة للصدر . ونشأ رسول الله صلي الله عليه وسلم منذ بواكير حياته مطهراً نقياً، وأول خصائص الوبة إذاً إنما هي الطهارة والبراءة التامة . وإذا أخذنا شق الصدر بالنسبة للرسول صلي الله عليه وسلم بمثابة التوبة بالنسبة
لنا فإننا نقول: إن من خصائص التوبة حينما تتكرر في صدق وإخلاص أن تملأ القلب سكينة، لأن الإنسان بالتوبة الصادقة يلقي بنفسه في الرحاب الإلهي فيسكن إلي الله وكفي بالله هادياً وكفى بالله نصيراً . إن التوبة - وهي نوع من اللجوء إلي الله، والتضرع إليه، والإنابة - يسلم الأمر إلي الله . وفي التوبة تسليم، وفي التوبة توحيد، وفي التوبة توكل علي الله، فيمتلئ القلب سكينة . وإذا كانت الأحاديث النبوية الشريفة تقول عن شق الصدر في المرة الأولي: (إن الملكين إستخرجا حظ الشيطان من القلب الشريف) فإنها تقول عن شق الصدر في المرة الثانية: (إن الملكين ملآ قلبه الشريف سكينة) وتتكرر التوبة فتصل إلي ما عبرت عنه الأحاديث الشريفة عن شق الصدر الشريف في المرة الثالثة وذلك أن الملكين ملآ القلب الشريف حكمة . وكذلك الأمر في التوبة إذا دامت . . ثم أنها إذا تكررت إنتهت بحب الله للعبد المكثر من التوبة (إن الله يحب التوابين)(/3)
الطريق إلى رمضان.. يبدأ برجب ... العنوان
غذاء الروح ... الموضوع
كيف نستغل شهر رجب في تهيئة النفس للاجتهاد في الطاعة والعبادة في رمضان؟
السؤال
فريق الاستشارات الإيمانية ... المستشار
الرد
تقول الأستاذة وسام كمال من فريق الاستشارات الإيمانية بمصر:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام علي النبي المصطفي الذي نشتاق إليه ولم نره، أما بعد...
أشكرك يا سيدتي على سؤالك الهام، الذي قد يتوقف عليه مصير أمة بأسرها؛ فها نحن نعاني من كافة أمراض العصر، ونقف في نهاية طريق مظلم بين الأمم.
فهل ينصلح الحال؟
سؤال لابد وأن نختار إجابته بأعمالنا لا بأقوالنا، وأن نتخذ قرارا بتغيير واقعنا. هل نفعل هذا في رجب، هل يمكننا أن نقف على أسباب خروج كل منا عن الصراط المستقيم ؟
هذه أيام مباركات، نتمنى على أنفسنا لو أعطيناها حقها من الذكر والتلاوة والعبادة والتدبر، فالمؤمن يجب أن يكون - كما ورد في الأثر- "كيس فطن"، فهل يليق بنا أن نضيع من أيدينا أياما كتلك؛ أياما منحنا الله فيها البركة كي نقوى على أنفسنا ونصحح مسارنا؛ ونسارع في عمل الخيرات، وإنقاذ أنفسنا من تهلكة محققة؛ إن لم نتنبه إلى ما قد ولى، ونفكر في لقاء الله، وقد دعانا سبحانه إلى المبادرة فقال: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:133).
وقبل أن نشير – أختي الكريم- إلي ما يمكن أن نجتهد به؛ دعينا نذكر بعضنا بشهر رجب :
* شهر رجب من الأشهر الحرم الأربعة : رجب، ذو القعدة، ذو الحجة، المحرم؛ التي قال الله فيها: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ، فَلا تَظْلِموا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم} (سورة التوبة : 36). والعمل الصالح فيهن له ثوابُه العظيم وأجره الكبير.
* كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر ما يصوم في شعبان، فلما سئل عن ذلك قال: إنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان؛ وهو ما يحوي إشارة ضمنية إلى فضل شهر رجب.
* وقعت العديد من الانتصارات في شهر رجب مثل: غزوة تبوك، تحرير المسجد الأقصى من أيدي الصليبين على يد صلاح الدين (عام 583هـ ـ 1187م).
* حادثة الإسراء والمعراج.
* شهر رجب هو أحد الشهور العربية الإسلامية الهجرية القمرية.
* كلمة "رجب" من مادة الترحيب بمعنى التعظيم، ولعل السِّر في هذه التسمية هو ما كانوا يَخصون به هذا الشهر من تعظيم وتوقير.
هذا عن فضل رجب؛ لكن هناك فضل أكبر وهو الاستعداد لرمضان، إذ أن النفس البشرية ليست آلة تضغط على زر الصلاح فيها فتستقيم، إنما تحتاج التربية النفسية والسلوكية إلي وقت من الزمن للتدريب والتهذيب وحسن الإعداد، فالزمن جزء من العلاج كما يقول المربون. وعليه فإنه من الصعب أن نظل على المعصية حتى يأتي شهر رمضان، ونقول سنقف مرة واحدة! ولكننا نحتاج حتما إلي وقفة "تحضيرية" تشمل:
* مراجعة النفس وتدبر أحوالها.
* التوبة، واتخاذ خطوات عملية للبعد عن المعاصي التي نرتكبها. ونوصيك في هذا بمطالعة هذه الاستشارات :
1. كيف نزيد من رصيد الإيمان؟
2. التوبة تجب ما قبلها
3. مكفرات الذنوب.
* ذكر الله في الغدو والآصال.
* تلاوة القرآن الكريم.
* الإحسان في العمل.
* الإكثار من الصوم، فالصوم عبادة روحية ترتقي خلق الإنسان وبدنه. والصيام في الأشهر الحرم مندوب، كما ورد في حديث الباهلي الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم "صم من الحرم واترك" كما رواه أبو داود.
1. صيام التطوع وفضله.
2. فضل الصيام.
* التواصل مع صحبة صالحة تعين على التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
* كثرة الدعاء إلى الله بأن يبلغنا رمضان ويبارك لنا في رجب وشعبان.
* تعهد إلى الله بأن تبدأ معه صفحة جديدة؛ وأن تكون العبد الذي يريده.
هدانا الله إلى طريقه، وأنعم علينا بفضل طاعته. آمين(/1)
الطريق إلى قلب الزوج"
كثير من الأزواج إذا جاعت بطونهم طاشت عقولهم وأحلامهم، وهنالك يتصرف هؤلاء الرجال تصرفات تعرفها نساؤهم جيداً، لا داعي لإزعاج بنات حواء بذكرها هنا، كما أن بعضهن لا يُجدْن فقه توصيل الأخبار إلى الزوج، ولذلك آثار سلبية على السعادة الزوجية.
أتقني "فقه" الطعام
يحسن بك أختي الزوجة أن تدركي أن إتقان فقه إطعام زوجك من أيسر الطرق إلى قلبه.. ومن الأقوال الشعبية التي تغنت بها بنات حواء: "أقرب طريق إلى قلب الرجل معدته"، وهي مقولة تصدق في كثير من الرجال. وقديماً أوصت أم إياس الأعرابية الخبيرة ابنتها ليلة زفافها، فكان مما جاء في وصيتها: "... وأما الخامسة والسادسة فالتعاهد لموضع طعامه ومنامه".
فاحرصي أختي الزوجة على أن يكون طعام زوجك جاهزاً عند عودته من العمل أو من السفر، كما يحسن بك أن تتقني صناعة الطعام، "فإن الله كتب الإحسان على كل شيء"، ومن توجيهات النبي {: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".
وكثير من الزوجات لا تبادر بعرض الطعام على زوجها، فلا تقدمه له إلا إذا ألحَّ في طلبه، وبعضهن يسرفن في عرض الطعام إسرافاً قد يؤدي إلى ملل الزوج وضجره.. وبعضهن يتباطأن في الإجابة عندما يطلب أزواجهن الطعام.. فانتبهي أختي الزوجة إلى ذلك كله، فاعتدلي في عرض الطعام على زوجك، وكوني نابهة تستشعرين وقت جوعه، وأجيدي قراءة إحساسه، لأنه يسعد بذلك، ويعتبرك ساعتها فاهمة له استشعاراً وإحساساً، وذلك يسعده كثيراً.. أما إذا طلب منك تجهيز الطعام، فاحرصي على سرعة الإعداد والإنجاز، واحذري الإهمال أو الإمهال حتى تنتهي من قراءة ما في يدك أو مشاهدة برنامج تفضلينه على شاشة التلفاز.
استقبليه بالأخبار السارة
زوجات كثيرات لا يتقنَّ هذا الفن، إذ يأتي الزوج من عمله أو سفره، فتستقبله زوجته قبل أن يجلس في بيته بأخبار مزعجة، تكدر صفوه إن كان في صفاء نفسي، وتزيد همه وغمه إن كان مهموماً مغتماً.
والزوجة الصالحة الفطنة تستقبل زوجها بالأخبار السارة التي تسعده، أخبار سعيدة تتعلق بالأولاد والأقارب والجيران والأحباب وفي سائر شؤون الحاة ودوائرها التي تهمه.. فاحرصي أختي المسلمة المتزوجة على ذلك، كي تكوني سكناً لزوجك، وآية من آيات الرحمن: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21) (الروم)، وبذا تكونين لزوجك واحة راحة وبشرى وسكينة وطمأنينة وسعادة.
إن الزوجة الحصيفة لا يليق بها أن تفجر في وجه زوجها المتعب أخباراً تجلب الهم والغم والحزن والكدر والتعب، وإلا صارت مصدر قلق وإزعاج لا ملاذ استقرار وهدوء. وحتى إن كانت هناك أحداث مؤلمة وحقائق وأخبار مزعجة، فلا يليق بها أن تكدر بها زوجها بمجرد دخوله البيت، فتبادره: ابنك ضرب ابنتك، وبنتك رسبت في الاختبار، وفلان الذي له عندنا دين اتصل وطلبه، وهدد برفع دعوى أمام المحكمة.. اصبري عليه حتى يستريح، ويتناول طعامه، ويستجم ويستقرّ، ثم تخيَّري أنسب الأوقات، لتخففي من الوقع والآلام.
واحرصي أختاه على التدرج في إخباره إن كان الخبر مؤلماً، فإذا كان المتوفَّى عزيزاً عليه فاسأليه أولاً: هل كان فلان صديقك يعاني مرضاً؟ ثم تدرجي من ذلك لإخباره بأنه كان مريضاً.. فربما استنتج هو الخبر من سياق حديثك، وتلقاه تدريجياً بدلاً من فجيعة المفاجأة.. ولا تجعلي من الحدث التافه كارثة، ومن الألم الهين مصيبة، ومن المرض اليسير شبح الموت المثير!!
وانظري أختي الزوجة إلى هذا النموذج الراقي، تلك الصحابية العظيمة "أم سُلَيْم" امرأة أبي طلحة رضي الله عنها لما مات ابنها، وجاء أبوه، استقبلته بحكمة ورقة وصبر وحنان، ولندع ابنها أنس بن مالك، رضي الله عنه يروي الموقف.
قال: "مات ابن لأبي طلحة من أم سُلَيْمْ، فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه، حتى أكون أنا أحدثه، فجاء فقربت إليه عشاء، فأكل وشرب، ثم تصنعت أي تزينت وتجملت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها، فلما أن رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. فقالت: فاحتسب ابنك. قال: فغضب، ثم قال: أتركتني حتى إذا تلطختُ ثم أخبرتني بابني؟ فانطلق حتى أتى رسول الله {، فأخبره بما كان. فقال رسول الله {: "بارك الله لكما في ليلتكما". فحملت.
قال: وكان رسول الله { في سفر وهي معه.. وكان رسول الله { إذا أتى المدينة من سفر لا يطرُقُها طُرُوقاً أي لا يأتيها ليلاً فدنوا من المدينة، فضربها المخاض، فاحتبس عليها أبوطلحة، وانطلق رسول الله {، قال: يقول أبوطلحة: إنك لتعلم يا رب أنه يعجبني أن أخرج مع رسول الله { إذا خرج، وأدخل معه إذا دخل، وقد احتبست بما ترى.(/1)
تقول أم سُليم: يا أبا طلحة، ما أجد الذي كنت أجد، انطلقْ، فانطلقنا، وضربها المخاض حين قدما، فولدت غلاماً، فقالت لي أمي: يا أنس، لا يُرضعه أحد حتى تغدو به على رسول الله {، فلما أصبح احتملته فانطلقت به إلى رسول الله {، وبعث معه أبوطلحة بتمرات. فقال {: "أمعه شيء؟" قال: نعم، تمرات. فأخذها النبي { فمضغها، ثم أخذها مِنْ فيه، فجعلها في فِي الصبي، ثم حنَّكه وسمَّاه عبدالله" (متفق عليه).
فقال رجل من الأنصار: فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأوا القرآن، يعني من أولاد عبدالله المولود.
فاحرصي أختي الزوجة على أن تكوني لزوجك ملاذ شوق سعيد مريح لا بيت شوك تعيس متعب، احرصي على أن تكوني بيت سكينة وطمأنينة نفسية لا بيت قلق واضطراب قلبي.. كوني صدراً حنوناً حانياً لا صخراً شديداً قاسياً.(/2)
الطريق الروحي إلى مكة (1/3)
معالي الشيخ:صالح بن عبدالرحمن الحصين * 22/10/1424
16/12/2003
كان الصبي (ليوبولدفايس) تحت إصرار والده يواظب على دراسة النصوص الدينية ساعات طويلة كل يوم، وهكذا وجد نفسه وهو في سن الثالثة عشرة يقرأ العبرية ويتحدثها بإتقان، درس التوراة في نصوصها الأصلية وأصبح عالماً بالتلمود وتفسيره، ثم انغمس في دراسة التفسير المعقد للتوراة المسمى (ترجوم) فدرسه وكأنما يهيئ نفسه لمنصب ديني.
كان إنجازه المدهش يعد بتحقيق حلم جده الحاخام الأرثوذكسي النمساوي بأن تتصل بحفيده سلسلة من أجداده الحاخامات، ولكن هذا الحلم لم يتحقق، فبالرغم من نبوغه في دراسة الدين أو ربما بسببه نمت لديه مشاعر سلبية تجاه جوانب كثيرة من العقيدة اليهودية، لقد رفض عقله ما بدا من أن الرب في النصوص التوراتية والتلمودية مشغول فوق العادة بمصير أمة معينة ، وهم اليهود بالطبع. لقد أبرزت النصوص الرب لا كخالق وحافظ لكل خلقه من البشر؛ بل كرب قبلي يسخر كل المخلوقات لخدمة الشعب المختار.
لم يؤد إحباطه من الديانة اليهودية في ذلك الوقت إلى البحث عن معتقدات روحية أخرى، فتحت تأثير البيئة اللا أدرية التي يعيش فيها وجد نفسه يندفع ككثير من أقرانه إلى رفض الواقع الديني وكل مؤسساته، وما كان يتطلع إليه لم يكن يختلف كثيراً عما يتطلع إليه باقي أبناء جيله، وهو خوض المغامرات المثيرة.
في تلك المرحلة من عمر (ليوبولدفايس) اشتعلت الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) وبعد انتهاء الحرب -وعلى مدى عامين- درس بلا نظام تاريخ الفن والفلسفة في (جامعة فينا) ولكن ما كان مشغوفاً بالتوصل إليه هو جوانب محببة إلى نفسه من الحياة، كان مشغوفاً أن يصل بنفسه إلى مثل روحية حقيقية كان يوقن أنها موجودة؛ لكنه لم يصل إليها بعد!.
كانت العقود الأولى للقرن العشرين تتسم بالخواء الروحي للأجيال الأوروبية، أصبحت كل القيم الأخلاقية متداعية تحت وطأة التداعيات المرعبة للسنوات التي استغرقتها الحرب العالمية الأولى في الوقت الذي لم تبد فيه أي روحية جديدة في أي أفق، كانت مشاعر عدم الإحساس بالأمن متفشية بين الجميع، إحساس داخلي بالكارثة الاجتماعية والفكرية أصاب الجميع بالشك في استمرارية أفكار البشر وفي كل مساعيهم وأهدافهم، كان القلق الروحي لدى الشباب لا يجد مستقراً لإقدامه الوجلة، ومع غياب أي مقاييس يقينية أخلاقية لم يكن ممكناً لأي فرد إعطاء إجابات مقنعة عن أسئلة كثيرة كانت تؤرق وتحير كل جيل الشباب.
كانت علوم التحليل النفسي (وهي جانب من دراسات الشاب ليوبولدفايس) تشكل في ذلك الوقت ثورة فكرية عظمى، وقد أحس فعلاً أن تلك العلوم فتحت مزاليج أبواب معرفة الإنسان بذاته، كان اكتشاف الدوافع الكامنة في اللاوعي قد فتح أبواباً واسعة تتيح فهماً أوسع للذات، وما أكثر الليالي التي قضاها في مقاهي (فينا) يستمع إلى مناقشات ساخنة ومثيرة بين رواد التحليل النفسي المبكرين من أمثال (الفريد ادلر) و (هرمان سيتكل).
إلا أن الحيرة والقلق والتشويش حلت عليه من جديد، بسبب عجرفة العلم الجديد وتعاليه ومحاولته أن يحل ألغاز الذات البشرية عن طريق تحويلها إلى سلاسل من ردود الأفعال العصبية.
لقد نما قلقه وتزايد وجعل إتمام دراسته الجامعية يبدو مستحيلاً؛ فقرر أن يترك الدراسة، ويجرب نفسه في الصحافة.
كان أول طريق النجاح في هذه التجربة تعيينه في وظيفة محرر في وكالة الأنباء (يونايتد تلجرام)، وبفضل تمكنه من عدة لغات لم يكن صعباً عليه أن يصبح بعد وقت قصير نائباً لرئيس تحرير قطاع أخبار الصحافة الاسكندنافية بالرغم من أن سنه كانت دون الثانية والعشرين، فانفتح له الطريق في برلين إلى عالم أرحب (مقهى دين فيستن) و(رومانشية) ملتقى الكتاب والمفكرين البارزين ومشاهير الصحفيين والفنانين، فكانوا يمثلون له (البيت الفكري) وربطته بهم علاقات صداقة توافرت فيها الندية.
كان في ذلك الوقت سعيداً بما هو أكثر من النجاح في حياته العملية، ولكنه لم يكن يشعر بالرضا والإشباع ولم يكن يدري بالتحديد ما الذي يسعى إليه وما الذي يتوق إلى تحقيقه.
كان مثله مثل كثير من شباب جيله، فمع أن أياً منهم لم يكن تعساً إلا أن قليلاً منهم كان سعيداً بوعي وإدراك.
* * *
لو قال له أحد في ذلك الوقت: إن أول معرفة له مباشرة الإسلام ستصبح نقطة تحول عظمى في حياته؛ لعد ذلك القول مزحة، ليس بالطبع لأنه محصن ضد إغراءات الشرق التي تربط ذهن الأوربي برومانتيكية ألف ليلة وليلة، ولكنه كان أبعد ما يكون عن أن يتوقع أن تؤدي تلك الرحلة إلى أي مغامرات روحية.(/1)
كل ما كان يدور في ذهنه عن تلك الرحلة كان يتعامل معه برؤية غربية، فقد كان رهانه محصوراً في تحقيق أعمق في المشاعر والإدراك من خلال البيئة الثقافية الوحيدة التي نشأ فيها، وهي البيئة الأوروبية، لم يكن إلا شاباً أوربياً نشأ على الاعتقاد بأن الإسلام وكل رموزه ليس إلا محاولة التفافية حول التاريخ الإنساني، محاولة لا تحظى حتى بالاحترام من الناحية الروحية والأخلاقية، ومن ثم لا يستحق الذكر، فضلاً عن أن يوازن بالدينين الوحيدين اللذين يرى الغرب أنهما يستحقان الاهتمام والبحث (اليهودية والمسيحية)، كان يلف تفكيره الفكر الضبابي القاتم والانحياز الغربي ضد كل ما هو إسلامي، أو كما يعبر عن نفسه:"لو تعاملت بعدل مع ذاتي لأقررت أني أيضاً كنت غارقاً حتى أذني في تلك الرؤية الذاتية الأوروبية والعقلية المتعالية التي اتسم بها الغرب على مدى تاريخه". [ 104].
ولكن بعد أربع سنوات كان ينطق بشهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ويتسمى باسم (محمد أسد).
بالرغم من أن حياته تفيض بالمغامرات والمفاجاءات والمصادفات فلم يكن إسلامه نتيجة لأي من ذلك بل كان نتيجة لسنوات عدة من التجول في العالم الإسلامي، والاختلاط بشعوبه، والتعمق في ثقافته، وإطلاعه الواسع على تراثه بعد إجادته للغة العربية والفارسية.
كان في الأعوام المبكرة من شبابه بعد ما أصابه الإحباط وخيبة الأمل في العقيدة اليهودية التي ينتمي إليها قد اتجه تفكيره إلى المسيحية بعد أن وجد أن المفهوم المسيحي للإله يتميز عن المفهوم التوراتي؛ لأنه لم يقصر اهتمام الإله على مجموعة معينة من البشر ترى أنها وحدها شعب الله المختار، وعلى الرغم من ذلك كان هناك جانب من الفكر المسيحي قلل في رأيه إمكانية تعميمه وصلاحيته لكل البشر، ألا وهو التمييز بين الروح والبدن. أي بين عالم الروح وعالم الشؤون الدنيوية، وبسبب تنائي المسيحية المبكر عن كل المحاولات التي تهدف إلى تأكيد أهمية المقاصد الدنيوية، كفت من قرون طويلة في أن تكون دافعاً أخلاقياً للحضارة الغربية، إن رسوخ الموقف التاريخي العتيق للكنيسة في التفريق بين ما للرب وما لقيصر؛ نتج عنه ترك الجانب الاجتماعي والاقتصادي يعاني فراغاً دينياً، وترتب على ذلك غياب الأخلاق في الممارسات الغربية السياسية والاقتصادية مع باقي دول العالم، ومثل ذلك إخفاقاً لتحقيق ما هدفت إليه رسالة المسيح أو أي دين آخر.
فالهدف الجوهري لأي دين هو تعليم البشر كيف يدركون ويشعرون، بل كيف يعيشون معيشة صحيحة وينظمون العلاقات المتبادلة بطريقة سوية عادلة، وإن إحساس الرجل الغربي أن الدين قد خذله جعله يفقد إيمانه الحقيقي بالمسيحية خلال قرون، وبفقدانه لإيمانه فَقَدَ اقتناعه بأن الكون والوجود تعبير عن قوة خلق واحدة، وبفقدان تلك القناعة عاش في خواء روحي وأخلاقي.
كان اقتناعه في شبابه المبكر أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده قد تبلور إلى اقتناع فكري بأن عبادة التقدم المادي ليست إلا بديلاً وهمياً للإيمان السابق بالقيم المجردة، وأن الإيمان الزائف بالمادة جعل الغربيين يعتقدون بأنهم سيقهرون المصاعب التي تواجههم حالياً، كانت جميع النظم الاقتصادية التي خرجت من معطف المادة علاجاً مزيفاً وخادعاً ولا تصلح لعلاج البؤس الروحي للغرب، كان التقدم المادي بإمكانه في أفضل الحالات شفاء بعض أعراض المرض إلا أن من المستحيل أن يعالج سبب المرض.
كانت أول علاقة له بفكرة الإسلام وهو يقضي أيام رحلته الأولى في القدس عندما رأى مجموعة من الناس يصلون صلاة الجماعة يقول: "أصابتني الحيرة حين شاهدت صلاة تتضمن حركات آلية، فسألت الإمام هل تعتقد حقاً أن الله ينتظر منك أن تظهر له إيمانك بتكرار الركوع والسجود؟ ألا يكون من الأفضل أن تنظر إلى داخلك وتصلي إلى ربك بقلبك وأنت ساكن؟ أجاب: بأي وسيلة أخرى تعتقد أننا يمكن أن نعبد الله؟ ألم يخلق الروح والجسد معاً؟ وبما أنه خلقنا جسداً وروحاً ألا يجب أن نصلي بالجسد والروح؟ ثم مضى يشرح المعنى من حركات الصلاة، أيقنت بعد ذلك بسنوات أن ذلك الشرح البسيط قد فتح لي أول باب للإسلام" [120].(/2)
بعد هذه الحادثة بشهور كان يدخل الجامع الأموي في دمشق ويرى الناس يصلون، ويصف هذا المشهد "اصطف مئات المصلين في صفوف طويلة منتظمة خلف الإمام، ركعوا وسجدوا كلهم في توحد مثل الجنود، كان المكان يسوده الصمت يسمع المرء صوت الإمام من أعماق المسجد الجامع يتلو آيات القرآن الكريم، وحين يركع أو يسجد يتبعه كل المصلين كرجل واحد، أدركت في تلك اللحظة مدى قرب الله منهم وقربهم منه بدا لي أن صلاتهم لا تنفصل عن حياتهم اليومية بل كانت جزءاً منها، لا تعينهم صلاتهم على نسيان الحياة بل تعمقها أكثر بذكرهم لله، قلت لصديقي ومضيفي ونحن ننصرف من الجامع: ما أغرب ذلك وأعظمه! إنكم تشعرون أن الله قريب منكم، أتمنى أن يملأني أنا أيضاً ذلك الشعور، رد صاحبي: ما الذي يمكن أن نحسه غير ذلك والله يقول في كتابه العزيز: )ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد )" [166].
ويقول بعد ذلك:"تركت تلك الشهور الأولى التي عشتها في بلد عربي قطاراً طويلاً من الانعكاسات والانطباعات، لقد واجهت مغزى الحياة وجهاً لوجه وكان ذلك جديداً تماماً على حياتي، الأنفاس البشرية الدافئة تتدفق من مجرى دم أولئك الناس إلى أفكارهم بلا تمزقات روحية مؤلمة من عدم الاطمئنان والخوف والطمع والإحباط الذي جعل من الحياة الأوروبية حياة قبيحة وسيئة لا تعد بأي شيء " [131].
"أحسست بضرورة فهم روح تلك الشعوب المسلمة لأني وجدت لديهم تلاحماً عضوياً بين الفكر والحواس، ذلك التلاحم الذي فقدناه نحن الأوربيين، واعتقدت أنه من خلال فهم أقرب وأفضل لحياتهم يمكن أن أكتشف الحلقة المفقودة التي تسبب معاناة الغربيين وهي تأكل التكامل الداخلي للشخصية الأوروبية، لقد اكتشفت كنه ذلك الشيء الذي جعلنا نحن أهل الغرب ننأى عن الحرية الحقة بشروطها الموضوعية التي يتمتع بها المسلمون حتى في عصور انهيارهم الاجتماعي والسياسي" [132].
"ما كنت أشعر به في البداية لا يعدو أكثر من تعاطف مع شكل الحياة العربية والأمان المعنوي الذي أحسبه فيما بينهم تحوّل بطريقة لا أدركها إلى ما يشبه المسألة الذاتية، زاد وعيي برغبة طاغية في معرفة كنه ذلك الشيء الذي يكمن في أسس الأمن المعنوي، والنفسي وجعل حياة العرب تختلف كلياً عن حياة الأوربيين، ارتبطت تلك الرغبة بشكل غامض بمشكلاتي الشخصية الدفينة، بدأت أبحث عن مداخل تتيح لي فهماً أفضل للشخصية العربية والأفكار التي شكلتهم وصاغتهم وجعلتهم يختلفون روحياً عن الأوروبيين، بدأت أقرأ كثيراً بتركيز في تاريخهم وثقافتهم ودينهم، وفي غمرة اهتمامي أحسست بأني قد توصلت إلى اكتشاف ما يحرك قلوبهم ويشغل فكرهم ويحدد لهم اتجاههم، أحسست أيضاً بضرورة اكتشاف القوى الخفية التي تحركني أنا ذاتي وتشكل دوافعي وتشغل فكري وتعدني أن تهديني السبيل" [132]".
"قضيت كل وقتي في دمشق أقرأ من الكتب كل ما له علاقة بالإسلام، كانت لغتي العربية تسعفني في تبادل الحديث؛ إلا أنها كانت أضعف من أن تمكنني من قراءة القرآن الكريم، لذا لجأت إلى ترجمة لمعاني القرآن الكريم، أما ما عدا القرآن الكريم فقد اعتمدت فيه على أعمال المستشرقين الأوروبيين.
ومهما كانت ضآلة ما عرفت إلا أنه كان أشبه برفع ستار، بدأت في معرفة عالم من الأفكار كنت غافلاً عنه وجاهلاً به حتى ذلك الوقت، لم يبدُ لي الإسلام ديناً بالمعنى المتعارف عليه بين الناس لكلمة دين؛ بل بدا لي أسلوباً للحياة، ليس نظاماً لاهوتياً بقدر ما هو سلوك فرد، ومجتمع يرتكز على الوعي بوجود إله واحد، لم أجد في أي آية من آيات القرآن الكريم أي إشارة إلى احتياج البشر إلى الخلاص الروحي ولا يوجد ذكر لخطيئة أولى موروثة تقف حائلاً بين المرء وقدره الذي قدره الله له، ولا يبقى لابن آدم إلا عمله الذي سعى إليه، ولا يوجد حاجة إلى الترهب والزهد لفتح أبواب خفية لتحقيق الخلاص، الخلاص حق مكفول للبشر بالولادة، والخطيئة لا تعني إلا ابتعاد الناس عن الفطرة التي خلقهم الله عليها، لم أجد أي أثر على الثنائية في الطبيعة البشرية فالبدن والروح يعملان في المنظور الإسلامي كوحدة واحدة لا ينفصل أحدهما عن الآخر.(/3)
أدهشني في البداية اهتمام القرآن الكريم ليس بالجوانب الروحية فقط بل بجوانب أخرى غير مهمة من الأمور الدنيوية، ولكن مع مرور الوقت بدأت أدرك أن البشر وحدة متكاملة من بدن وروح، وقد أكد الإسلام ذلك، لا يوجد وجه من وجوه الحياة يمكن أن نعده مهمشاً؛ بل إن كل جوانب حياة البشر تأتي في صلب اهتمامات الدين، لم يدع القرآن الكريم المسلمين ينسون أن الحياة الدنيا ليست إلا مرحلة في طريق البشر نحو تحقيق وجود أسمى وأبقى وأن الهدف النهائي ذو سمة روحية، ويرى أن الرخاء المادي لا ضرر منه إلا أنه ليس غاية في حد ذاته، لذلك لا بد أن تُقنن شهية الإنسان وشهواته وتتم السيطرة عليها بوعي أخلاقي من الفرد، هذا الوعي لا يوجه إلى الله فقط؛ بل يوجه أيضاً إلى البشر فيما بينهم، لا من أجل الكمال الديني وحده بل من أجل خلق حالة اجتماعية تؤدي إلى تطور وعي للمجتمع بأكمله حتى يتمكن من أن يحيا حياة كاملة.
نظرت إلى كل تلك الجوانب الفكرية والأخلاقية بتقدير وإجلال، كان منهجه في تناول مشكلات الروح أعمق كثيراً من تلك التي وجدتها في التوراة، هذا عدا أنه لم يأت لبشر دون بشر ولا لأمة بذاتها دون غيرها، كما أن منهجه في مسألة البدن بعكس منهج الإنجيل منهج إيجابي لا يتجاهل البدن، البدن والروح معاً يكونان البشر كتوأمين متلازمين، سألت: ألا يمكن أن يكون ذلك المنهج هو السبب الكامن وراء الإحساس بالأمن والتوازن الفكري والنفسي الذي يميز العرب والمسلمين" [166-168].
الطريق الروحي إلى مكة (2/3)
معالي الشيخ:صالح بن عبدالرحمن الحصين * 28/10/1424
22/12/2003
بعد أن غادر سوريا بقي شهوراً في تركيا في طريق عودته إلى أوربا لتنتهي رحلته الأولى إلى العالم الإسلامي.
"بدأت انطباعاتي عن تركيا تفقد حيويتها وأنا في القطار المتوجه إلى فينا وما ظل راسخاً هو الثمانية عشر شهراً التي قضيتها في البلاد العربية، صدمني إدراكي أني أتطلع إلى المشاهد الأوروبية التي اعتدتها بعيني من هو غريب عنها، بدا الناس في نظري في غاية القبح وحركاتهم خالية من الرقة، ولا علاقة مباشرة بين حركاتهم وما يدرونه ويشعرون به، أدركت فجأة أنه على الرغم من المظاهر التي تنبئ بأنهم يعرفون ما يريدون إلا أنهم لا يعرفون أنهم يحيون في عالم الإدعاء والتظاهر، اتضح لي أن حياتي بين العرب غيرت منهجي ورؤيتي لما كنت أعده مهماً وضرورياً للحياة، تذكرت بشيء من الدهشة أن أوربيين آخرين قد مروا بتجارب حياتية مع العرب وعايشوهم أزماناً طويلة فكيف لم تعترهم دهشة الاكتشاف كما اعترتني، أم أن ذلك قد وقع لهم أيضاً؟ هل اهتز أحدهم من أعماقه كما حدث لي " [178-179].
"توقفت بضعة أسابيع في فينا واحتفلت بتصالحي مع أبي الذي سامحني على ترك دراستي الجامعية ومغادرتي منزل الأسرة بتلك الطريقة الفجة، على أي حال كنت مراسلاً لجريدة (فرانكفوتر ذيتونج) وهو اسم يلقى التقدير والتبجيل في وسط أوربا في ذلك الوقت، وهكذا حققت في نظره مصداقية ما زعمت له قبل ذلك من أني سأحقق ما أصبو إليه وأصل إلى القمة" [179].
"رحلت بعد ذلك من فينا مباشرة إلى فرانكفورت لأقدم نفسي شخصياً إلى الصحفية التي كنت أمثلها في الخارج على مدى عام، كنت في طريقي إليها وأنا أشد ثقة بنفسي فالرسائل التي كنت أتلقاها من فرانكفورت أظهرت لي أن مقالاتي كانت تلقى كل التقدير والترحيب" [180].
"أن أكون عضواً عاملاً في مثل تلك الصحيفة كان مصدر فخر واعتزاز لشاب في مثل سني، وعلى الرغم من أن مقالاتي عن الشرق الأوسط قوبلت باهتمام شديد من قبل جميع المحررين إلا أن نصري الكامل تحقق في اليوم الذي كلفت فيه أن أكتب مقالاً افتتاحياً بالصحيفة عن مشكلة الشرق الأوسط" [182].
"كان من نتائج عملي في جريدة (فرانكفوتر ذيتونج) النضج المبكر لتفكيري الواعي، كما نتجت عنه رؤية ذهنية أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، فبدأت في مزج خبرتي بالشرق بعالم الغرب الذي أصبحت جزءاً منه من جديد، منذ عدة شهور مضت اكتشفت العلاقة بين الاطمئنان النفسي والعاطفي السائد في نفوس العرب وعقيدة الإسلام التي يؤمنون بها، كما بدأ يتبلور في ذهني أن نقص التكامل النفسي الداخلي للأوروبيين وحالة الفوضى اللاأخلاقية التي تسيطر عليهم قد تكون ناتجة من عدم وجود إيمان ديني قد تكونت الحضارة الغربية في غيابه، لم ينكر المجتمع الغربي الإله إلا أنه لم يترك له مكاناً في أنساقه الفكرية" [182].
بعد عودته إلى أوروبا من رحلته كان يحس بالملل إحساس من أجبر على التوقف قبل التوصل إلى كشف عظيم سيميط عن نفسه الحجب لو أتيح له مزيد من الوقت.
كان يتوق إلى العودة إلى الشرق مرة أخرى، وقد تحقق له ما أراد إذ إن رئيس تحرير الجريدة الدكتور هنري سيمون –الذي كان في ذلك الوقت مشهوراً في أرجاء العالم- قد رأى فيه مراسلاً صحفياً واعداً فوافق بحماس على عودته إلى الشرق الأوسط بسرعة.
* * *(/4)
عاد إلى الشرق ليقضي عامين آخرين بين مصر وبلاد الشام والعراق وإيران وأفغانستان، عاد من أوروبا وفي ذهنه صورة عن عالم الغرب ظلت تزداد في ذهنه مع الأيام رسوخاً وثباتاً، عبّر عن هذه الصورة فيما يأتي: "لاحقاً إن الإنسان الغربي قد أسلم نفسه لعبادة الدجال، لقد فقد منذ وقت طويل براءته، وفقد كل تماسك داخلي مع الطبيعة، لقد أصبحت الحياة في نظره لغزاً، إنه مرتاب شكوك ولذا فهو منفصل عن أخيه، ينفرد بنفسه، ولكي لا يهلك في وحدته هذه فإن عليه أن يسيطر على الحياة بالوسائل الخارجية، وحقيقة كونه على قيد الحياة لم تعد وحدها قادرة على أن تشعره بالأمن الداخلي، ولذا فإن عليه أن يكافح دائماً وبألم في سبيل هذا الأمن من لحظة إلى أخرى، وبسبب من أنه فقد كل توجيه ديني وقرر الاستغناء عنه فإن عليه أن يخترع لنفسه باستمرار حلفاء ميكانيكيين، من هنا نما عنده الميل المحموم إلى التقنية والتمكن من قوانينها ووسائلها، إنه يخترع كل يوم آلات جديدة ويعطي كلاً منها بعض روحه كيما تنافح في سبيل وجوده، وهي تفعل ذلك حقاً، ولكنها في الوقت نفسه تخلق له حاجات جديدة، ومخاوف جديدة وظمأ لا يُروى إلى حلفاء جدد آخرين أكثر اصطناعية، وتضيع روحه في ضوضاء الآلة الخانقة التي تزداد مع الأيام قوة وغرابة، وتفقد الآلة غرضها الأصلي – أي أن تصون وتغني الحياة الإنسانية- وتتطور إلى صنم بذاته، صنم فولاذ، ويبدو أن كهنة هذا المعبود والمبشرين به غير مدركين أن سرعة التقدم التقني الحديث ليست نتيجة لنمو المعرفة الإيجابي فحسب؛ بل لليأس الروحي أيضاً. وأن الانتصارات المادية العظمى التي يعلن الإنسان الغربي أنه بها يستحق السيادة على الطبيعة هي في صميمها ذات صفة دفاعية؛ فخلف واجهتها البراقة يكمن الخوف من الغيب، إن الحضارة الغربية لم تستطع حتى الآن أن تقيم توازناً بين حاجات الإنسان الجسيمة والاجتماعية وبين أشواقه الروحية، لقد تخلت عن آداب دياناتها السابقة دون أن تتمكن أن تخرج من نفسها أي نظام أخلاقي آخر – مهما كان نظرياً- يخضع نفسه للعقل، بالرغم من كل ما حققته من تقدم ثقافي؛ فإنها لم تستطع حتى الآن التغلب على استعداد الإنسان الأحمق للسقوط فريسة لأي هتاف عدائي أو نداء للحرب مهما كان سخيفاً باطلاً يخترعه الحاذقون من الزعماء.. الأمم الغربية وصلت إلى درجة أصبحت معها الإمكانات العلمية غير المحدودة تصاحب الفوضى العملية، وإذا كان الغربي يفتقر إلى توجيه ديني حاذق فإنه لا يستطيع أن يفيد أخلاقياً من ضياء المعرفة الذي تسكبه علومه وهي لا شك عظيمة، إن الغربيين – في عمى وعجرفة- يعتقدون عن اقتناع أن حضارتهم هي التي ستنير العالم وتحقق السعادة، وأن كل المشاكل البشرية يمكن حلها في المصانع والمعامل وعلى مكاتب المحللين الاقتصاديين والإحصائيين، إنهم بحق يعبدون الدجال" [373].
في هذه الرحلة الثانية أمكنة أن يتقن اللغة العربية ولذلك فبدل أن ينظر إلى الإسلام بعين غيره من المستشرقين ومترجمي القرآن غير المسلمين صار في إمكانه أن ينظر إلى الإسلام في تراثه الثقافي كما هو، لم يعد على اعتقاده السابق استحالة أن يتفهم الأوروبي بوعي العقلية الإسلامية، أيقن أنه لو تحرر المرء تماماً من عاداته التي نشأ عليها ومناهجها الفكرية وتقبل مفهوم أنها ليست بالضرورة الأساليب الصحيحة في الحياة لأمكن أن يفهم ما يبدو غريباً في نظرة عن الإسلام، كانت فكرته عن الإسلام تتطور وتنمو طوال هذه الرحلة الثانية التي أمكنه فيها أن يختلط بالشعوب ويناقش العلماء، يتصل بالزعماء.
"كان التفكير في الإسلام يشغل ذهني إن الأمر بدا لي في ذلك الوقت رحلة لاستكشاف ما أجهله من تلك المناطق، كان كل يوم يمر يضيف إلى معارف جديدة، ويطرح أسئلة جديدة لأجد إجاباتها تأتي من الخارج جميعها أيقظت شيئاً ما كان نائماً في أعماقي، وكلما نمت معارفي عن الإسلام كنت أشعر مرة بعد أخرى أن الحقائق الجوهرية التي كانت كامنة في أعماقي من دون أن أعي وجودها بدأت تنكشف تدريجياً ويتأكد تطابقها مع الإسلام" [255].
كان اليقين ينمو في داخلة بأنه يقترب من إجابة نهائية عن أسئلته، بتفهمه لحياة المسلمين كان يقترب يومياً من فهم أفضل للإسلام؛ وكان الإسلام دائماً مسيطراً على ذهنه " لا يوجد في العالم بأجمعه ما يبعث في نفسي مثل تلك الراحة التي شعرت بها والتي أصبحت غير موجودة في الغرب ومهددة الآن بالضياع والاختفاء من الشرق، تلك الراحة وذلك الرضا اللذان يعبران عن التوافق الساحر بين الذات الإنسانية والعالم الذي يحيط بها" [238].
بهذه الروح من التسامح تجاه الآخر استطاع بسهولة أن يتخلص من انخداع الرجل الغربي وإساءته فهم الإسلام بسبب ما يراه من تخلف وانحطاط في العالم الإسلامي.(/5)
"الآراء الشائعة في الغرب عن الإسلام [تتلخص] فيما يأتي: (انحطاط المسلمين ناتج عن الإسلام، وأنه بمجرد تحررهم من العقيدة الإسلامية وتبني مفاهيم الغرب وأساليب حياتهم وفكرهم؛ فإن ذلك سيكون أفضل لهم وللعالم)، إلا أن ما وجدته من مفاهيم وما توصلت إلى فهمه من مبادئ الإسلام وقيمه أقنعني أن ما يردده الغرب ليس إلا مفهوماً مشوهاً للإسلام... اتضح لي أن تخلف المسلمين لم يكن ناتجاً عن الإسلام، ولكن لإخفاقهم في أن يحيوا كما أمرهم الإسلام.. لقد كان الإسلام هو ما حمل المسلمين الأوائل إلى ذراً فكرية وثقافية سامية" [243-244].
"وفر الإسلام باختصار حافزاً قوياً إلى التقدم المعرفي والثقافي والحضاري الذي أبدع واحدة من أروع صفحات التاريخ الإنساني، وقد وفر ذلك الحافز مواقف إيجابية عندما حدد في وضوح: "نعم للعقل ولا لظلام الجهل، نعم للعمل والسعي ولا للتقاعد والنكوص. نعم للحياة ولا للزهد والرهبنة". ولذلك لم يكن عجباً أن يكتسب الإسلام أتباعاً في طفرات هائلة بمجرد أن جاوز حدود بلاد العرب، فقد وجدت الشعوب التي نشأت في أحضان مسيحية القديس بولس والقديس أوجستين... ديناً لا يقر عقيدة ومفهوم الخطيئة الأولى .. ويؤكد كرامة الحياة البشرية، ولذلك دخلوا في دين الله أفواجاً، جميع ذلك يفسر كيفية انتصار الإسلام وانتشاره الواسع والسريع في بداياته التاريخية ويفند مزاعم من روجوا أنه انتشر بحد السيف[246].
وكان ذكاؤه الحاد ونفاذ بصيرته، ونهمه إلى الاطلاع على التراث الفكري للمسلمين، يعمق معرفته بالإسلام فيبصره على حقيقته " كانت صرة نهائية متكاملة عن الإسلام تتبلور في ذهني ، كان يدهشني في أوقات كثيرة أنها تتكون داخلي بما يشبه الارتشاح العقلي والفكري، أي أنها تتم من دون وعي وإرادة مني، كانت الأفكار تتجمع ويضمها ذهني بعضها إلى بعض في عملية تنظيم ومنهجة لكل الشذرات من المعلومات التي عرفتها عن الإسلام . رأيت في ذهني عملاً عمرانياً متكاملاً تتضح معالمه رويداً رويداً بكل ما تحتويه من عناصر الاكتمال، وتناغم الأجزاء والمكونات مع الكل المتكامل في توازن لا يخل جزء من بآخر، توازن مقتصد بلا خلل، ويشعر المرء أن منظور الإسلام ومسلماته كلها في موضعها الملائم الصحيح من الوجود" [381].(/6)
"كانت أهم صفة بارزة لحضارة الإسلام وهي الصفة التي انفردت بها عن الحضارات البشرية السابقة أو اللاحقة أنها منبثقة من إرادة حرة لشعوبها، لم تكن مثل حضارات سابقة وليدة قهر وضغط وإكراه وتصارع إرادات وصراع مصالح، ولكنها كانت جزءاً وكلاً من رغبة حقيقية أصيلة لدى جميع المسلمين مستمدة من إيمانهم بالله وما حثهم عليه من إعمال فكر وعمل، لقد كانت تعاقداً اجتماعياً أصيلاً لا مجرد كلام أجوف يدافع به جيل تالٍ عن امتيازات خاصة بهم... لقد تحققت أن ذلك العقد الاجتماعي الوحيد المسجل تاريخياً تحقق فقط على مدى زمني قصير جداً، أو على الأصح أنه على مدى زمني قصير تحقق العقد على نطاق واسع، ولكن بعد أقل من مائة سنة من وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم- بدأ الشكل النقي الأصيل للإسلام يدب فيه الفساد، وفي القرون التالية بدأ المنهج القويم يزاح إلى الخلفية .. لقد حاول المفكرون الإسلاميون أن يحفظوا نقاء العقيدة؛ إلا أن من أتوا بعدهم كانوا أقل قدرة من سابقيهم، وتقاعسوا عن الاجتهاد... وتوقفوا عن التفكير المبدع والاجتهاد الخلاق... كانت القوة الدافعة الأولى للإسلام كافية لوضعه في قمة سامية من الرقي الحضاري والفكري.. وهذا ما دفع المؤرخين إلى وصف تلك المرحلة بالعصر الذهبي للإسلام، إلا أن القوة الدافعة قد ماتت لنقص الغذاء الروحي الدافع لها وركدت الحضارة الإسلامية عصراً بعد عصر لافتقاد القوة الخلاقة المبدعة، لم يكن لدي أوهام عن الحالة المعاصرة للعالم الإسلامي، بينتْ الأعوام الأربعة التي قضيتها في مجتمعات إسلامية أن الإسلام مازال حياً وأن الأمة الإسلامية متمسكة به بقبول صامت لمنهجه وتعاليمه؛ إلا أن المسلمين كانوا مشلولين غير قادرين على تحويل إيمانهم إلى أفعال مثمرة، إلا أن ما شغلني أكثر من إخفاق المسلمين المعاصرين في تحقيق منهج الإسلام الإمكانيات المتضمنة في المنهج ذاته، كان يكفيني أن أعرف أنه خلال مدى زمني قصير .. كانت هناك محاولة ناجحة لتطبيق هذا المنهج، وما أمكن تحقيقه في وقت ما؛ يمكن تحقيقه لاحقاً، ما كان يهمني- كما فكرت في داخلي- أن المسلمين شردوا عن التعليمات الأصلية للدين... ما الذي حدث وجعلهم يبتعدون عن المثاليات التي علمهم إياها الرسول – صلى الله عليه وسلم- منذ ثلاثة عشر قرناً مضت ما دامت تلك التعليمات لا تزال متاحة لهم إن أرادوا الاستماع إلى ما تحمله من رسالة سامية؟ بدا لي كلما فكرت أننا نحن في عصرنا الحالي نحتاج إلى تعاليم تلك الرسالة أكثر من هؤلاء الذين عاشوا في عصر محمد – صلى الله عليه وسلم-، لقد عاشوا في بيئات وظروف أبسط كثيراً مما نعيش فيه الآن، ولذلك كانت مشكلاتهم أقل بكثير من مشكلاتنا... العالم الذي كنت أحيا فيه – كله- كان يتخبط لغياب أي رؤية عامة لما هو خير وما هو شر... لقد أحسست بيقين تام.. أن مجتمعنا المعاصر يحتاج إلى أسس فكرية عقائدية توفر شكلاً من أشكال التعاقد بين أفراده، وأنه يحتاج إلى إيمان يجعله يدرك خواء التقدم المادي من أجل التقدم ذاته، وفي الوقت نفسه يعطي للحياة نصيبها. إن ذلك سيدلنا ويرشدنا إلى كيفية تحقيق التوازن بين احتياجاتنا الروحية والبدنية، وإن ذلك سينقذنا من كارثة محققة نتجه إليها بأقصى سرعة... في تلك الفترة من حياتي شغلت فكري مشكلة الإسلام كما لم يشغل ذهني شيء آخر من قبل، قد تجاوزت مرحلة الاستغراق الفكري والاهتمام العقلي بدين وثقافة غربيين، لقد تحول اهتمامي إلى بحث محموم عن الحقيقة" [380-386].
لقد صار في إمكانه أن يميز بين ما هو الإسلام وما هو غريب عنه في تصورات المسلمين وسلوكهم في رحلته الأولى رأى حلقة ذكر يقيمها الصوفية في أحد مساجد " سكوتاري" في تركيا ويصفها بهذه العبارات " كانوا يقفون في محيط واحد فاستداروا في نصف دورة ليقابل كل واحد منهم الآخر أزواجاً، كانوا يعقدون أذرعهم على صدورهم وينحنون انحناءة شديدة وهم يستديرون بجذوعهم في نصف دائرة .. في اللحظة التالية[كانوا] يقذفون أذرعهم في الاتجاه المعاكس الكف اليمنى ترتفع والكف اليسرى تنزل إلى الجانب، وتخرج من حلوقهم مع كل نصف انحناءه واستدارة أصوات مثل غناء هامس "هو" ثم يطرحون رؤوسهم للخلف مغمضين أعينهم ويجتاح ملامحهم تقلص ناعم، ثم تتصاعد وتتسارع إيقاعات الحركة وترتفع الجلاليب لتكون دائرة متسعة حول كل درويش مثل دوامات البحار... تحولت الدائرة إلى دوامات، اجتاحهم الانهماك، وشفاههم تكرز بلا نهاية(هو، هو)" [251].(/7)
وفي الرحلة الثانية يتذكر حلقة الذكر هذه ويعلق عليها "اتضحت في ذهني معاني لم تبد لي عندما شاهدت حلقة الذكر [في سكوتاري]، كان ذلك الطقس الديني لتلك الجماعة- وهي واحدة من جماعات كثيرة شاهدتها في مختلف البلاد الإسلامية – لا يتفق مع صورة الإسلام التي كانت تتبلور في ذهني.. تبين لي أن تلك الممارسات والطقوس دخيلة على الإسلام من جهات ومصادر غير إسلامية، لقد شابت تأملات المتصوفة وأفكارهم أفكار روحية هندية ومسيحية، مما أضفى على بعض ذلك التصوف مفاهيم غربية عن الرسالة التي جاء بها النبي –صلى الله عليه وسلم-، أكدت رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم- أن السببية العقلية هي السبيل للإيمان الصحيح بينما تبتعد التأملات الصوفية وما يترتب عليها [من سلوك] عن ذلك المضمون، والإسلام قبل أي شيء مفهوم عقلاني لا عاطفي ولا انفعالي، الانفعالات مهما تكن جياشة معرضة للاختلاف والتباين باختلاف رغبات الأفراد وتباين مخاوفهم بعكس السببية العقلية، كما أن الانفعالية غير معصومة بأي حال" [253].
كتب بعد ذلك بسنوات " (لقد بدا لي الإسلام مثل تكوين هندسي محكم البناء) كل أجزائه قد صيغت ليكمل بعضها البعض وليدعم بعضها بعضاً، ليس فيها شيء زائد عن الحاجة وليس فيها ما ينقص عنها، وناتج ذلك كله توازن مطلق وبناء محكم، ربما كان شعوري بأن كل ما في الإسلام من تعاليم وضع موضعه الصحيح هو ما كان له أعظم الأثر علي، لقد سعيت بجد إلى أن أتعلم عن الإسلام كل ما أستطيع أن أتعلمه، درست القرآن وأحاديث النبي، درست لغة الإسلام وتاريخه وقدراً كبيراً مما كتب عن الإسلام، وما كتب ضده، أقمت ست سنوات تقريباً في نجد والحجاز ومعظمها في مكة والمدينة بغرض أن اتصل مباشرة بيئة الإسلام الأصلية، وبما أن المدينتين كانتا مكان اجتماع المسلمين من مختلف الأقطار فقد تمكنت من الاطلاع على مختلف الآراء الدينية والاجتماعية السائدة حالياً في العالم الإسلامي، وكل هذه الدراسات والمقارنات خلقت لدي اعتقاداً راسخاً أن الإسلام كظاهرة روحية واجتماعية لا يزال أقوى قوة دافعة عرفها البشر رغم كل مظاهر التخلف التي خلفها ابتعاد السلمين عن الإسلام.
الطريق الروحي إلى مكة (2/3)
معالي الشيخ:صالح بن عبدالرحمن الحصين * 28/10/1424
22/12/2003
بعد أن غادر سوريا بقي شهوراً في تركيا في طريق عودته إلى أوربا لتنتهي رحلته الأولى إلى العالم الإسلامي.
"بدأت انطباعاتي عن تركيا تفقد حيويتها وأنا في القطار المتوجه إلى فينا وما ظل راسخاً هو الثمانية عشر شهراً التي قضيتها في البلاد العربية، صدمني إدراكي أني أتطلع إلى المشاهد الأوروبية التي اعتدتها بعيني من هو غريب عنها، بدا الناس في نظري في غاية القبح وحركاتهم خالية من الرقة، ولا علاقة مباشرة بين حركاتهم وما يدرونه ويشعرون به، أدركت فجأة أنه على الرغم من المظاهر التي تنبئ بأنهم يعرفون ما يريدون إلا أنهم لا يعرفون أنهم يحيون في عالم الإدعاء والتظاهر، اتضح لي أن حياتي بين العرب غيرت منهجي ورؤيتي لما كنت أعده مهماً وضرورياً للحياة، تذكرت بشيء من الدهشة أن أوربيين آخرين قد مروا بتجارب حياتية مع العرب وعايشوهم أزماناً طويلة فكيف لم تعترهم دهشة الاكتشاف كما اعترتني، أم أن ذلك قد وقع لهم أيضاً؟ هل اهتز أحدهم من أعماقه كما حدث لي " [178-179].
"توقفت بضعة أسابيع في فينا واحتفلت بتصالحي مع أبي الذي سامحني على ترك دراستي الجامعية ومغادرتي منزل الأسرة بتلك الطريقة الفجة، على أي حال كنت مراسلاً لجريدة (فرانكفوتر ذيتونج) وهو اسم يلقى التقدير والتبجيل في وسط أوربا في ذلك الوقت، وهكذا حققت في نظره مصداقية ما زعمت له قبل ذلك من أني سأحقق ما أصبو إليه وأصل إلى القمة" [179].
"رحلت بعد ذلك من فينا مباشرة إلى فرانكفورت لأقدم نفسي شخصياً إلى الصحفية التي كنت أمثلها في الخارج على مدى عام، كنت في طريقي إليها وأنا أشد ثقة بنفسي فالرسائل التي كنت أتلقاها من فرانكفورت أظهرت لي أن مقالاتي كانت تلقى كل التقدير والترحيب" [180].
"أن أكون عضواً عاملاً في مثل تلك الصحيفة كان مصدر فخر واعتزاز لشاب في مثل سني، وعلى الرغم من أن مقالاتي عن الشرق الأوسط قوبلت باهتمام شديد من قبل جميع المحررين إلا أن نصري الكامل تحقق في اليوم الذي كلفت فيه أن أكتب مقالاً افتتاحياً بالصحيفة عن مشكلة الشرق الأوسط" [182].(/8)
"كان من نتائج عملي في جريدة (فرانكفوتر ذيتونج) النضج المبكر لتفكيري الواعي، كما نتجت عنه رؤية ذهنية أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، فبدأت في مزج خبرتي بالشرق بعالم الغرب الذي أصبحت جزءاً منه من جديد، منذ عدة شهور مضت اكتشفت العلاقة بين الاطمئنان النفسي والعاطفي السائد في نفوس العرب وعقيدة الإسلام التي يؤمنون بها، كما بدأ يتبلور في ذهني أن نقص التكامل النفسي الداخلي للأوروبيين وحالة الفوضى اللاأخلاقية التي تسيطر عليهم قد تكون ناتجة من عدم وجود إيمان ديني قد تكونت الحضارة الغربية في غيابه، لم ينكر المجتمع الغربي الإله إلا أنه لم يترك له مكاناً في أنساقه الفكرية" [182].
بعد عودته إلى أوروبا من رحلته كان يحس بالملل إحساس من أجبر على التوقف قبل التوصل إلى كشف عظيم سيميط عن نفسه الحجب لو أتيح له مزيد من الوقت.
كان يتوق إلى العودة إلى الشرق مرة أخرى، وقد تحقق له ما أراد إذ إن رئيس تحرير الجريدة الدكتور هنري سيمون –الذي كان في ذلك الوقت مشهوراً في أرجاء العالم- قد رأى فيه مراسلاً صحفياً واعداً فوافق بحماس على عودته إلى الشرق الأوسط بسرعة.
* * *
عاد إلى الشرق ليقضي عامين آخرين بين مصر وبلاد الشام والعراق وإيران وأفغانستان، عاد من أوروبا وفي ذهنه صورة عن عالم الغرب ظلت تزداد في ذهنه مع الأيام رسوخاً وثباتاً، عبّر عن هذه الصورة فيما يأتي: "لاحقاً إن الإنسان الغربي قد أسلم نفسه لعبادة الدجال، لقد فقد منذ وقت طويل براءته، وفقد كل تماسك داخلي مع الطبيعة، لقد أصبحت الحياة في نظره لغزاً، إنه مرتاب شكوك ولذا فهو منفصل عن أخيه، ينفرد بنفسه، ولكي لا يهلك في وحدته هذه فإن عليه أن يسيطر على الحياة بالوسائل الخارجية، وحقيقة كونه على قيد الحياة لم تعد وحدها قادرة على أن تشعره بالأمن الداخلي، ولذا فإن عليه أن يكافح دائماً وبألم في سبيل هذا الأمن من لحظة إلى أخرى، وبسبب من أنه فقد كل توجيه ديني وقرر الاستغناء عنه فإن عليه أن يخترع لنفسه باستمرار حلفاء ميكانيكيين، من هنا نما عنده الميل المحموم إلى التقنية والتمكن من قوانينها ووسائلها، إنه يخترع كل يوم آلات جديدة ويعطي كلاً منها بعض روحه كيما تنافح في سبيل وجوده، وهي تفعل ذلك حقاً، ولكنها في الوقت نفسه تخلق له حاجات جديدة، ومخاوف جديدة وظمأ لا يُروى إلى حلفاء جدد آخرين أكثر اصطناعية، وتضيع روحه في ضوضاء الآلة الخانقة التي تزداد مع الأيام قوة وغرابة، وتفقد الآلة غرضها الأصلي – أي أن تصون وتغني الحياة الإنسانية- وتتطور إلى صنم بذاته، صنم فولاذ، ويبدو أن كهنة هذا المعبود والمبشرين به غير مدركين أن سرعة التقدم التقني الحديث ليست نتيجة لنمو المعرفة الإيجابي فحسب؛ بل لليأس الروحي أيضاً. وأن الانتصارات المادية العظمى التي يعلن الإنسان الغربي أنه بها يستحق السيادة على الطبيعة هي في صميمها ذات صفة دفاعية؛ فخلف واجهتها البراقة يكمن الخوف من الغيب، إن الحضارة الغربية لم تستطع حتى الآن أن تقيم توازناً بين حاجات الإنسان الجسيمة والاجتماعية وبين أشواقه الروحية، لقد تخلت عن آداب دياناتها السابقة دون أن تتمكن أن تخرج من نفسها أي نظام أخلاقي آخر – مهما كان نظرياً- يخضع نفسه للعقل، بالرغم من كل ما حققته من تقدم ثقافي؛ فإنها لم تستطع حتى الآن التغلب على استعداد الإنسان الأحمق للسقوط فريسة لأي هتاف عدائي أو نداء للحرب مهما كان سخيفاً باطلاً يخترعه الحاذقون من الزعماء.. الأمم الغربية وصلت إلى درجة أصبحت معها الإمكانات العلمية غير المحدودة تصاحب الفوضى العملية، وإذا كان الغربي يفتقر إلى توجيه ديني حاذق فإنه لا يستطيع أن يفيد أخلاقياً من ضياء المعرفة الذي تسكبه علومه وهي لا شك عظيمة، إن الغربيين – في عمى وعجرفة- يعتقدون عن اقتناع أن حضارتهم هي التي ستنير العالم وتحقق السعادة، وأن كل المشاكل البشرية يمكن حلها في المصانع والمعامل وعلى مكاتب المحللين الاقتصاديين والإحصائيين، إنهم بحق يعبدون الدجال" [373].
في هذه الرحلة الثانية أمكنة أن يتقن اللغة العربية ولذلك فبدل أن ينظر إلى الإسلام بعين غيره من المستشرقين ومترجمي القرآن غير المسلمين صار في إمكانه أن ينظر إلى الإسلام في تراثه الثقافي كما هو، لم يعد على اعتقاده السابق استحالة أن يتفهم الأوروبي بوعي العقلية الإسلامية، أيقن أنه لو تحرر المرء تماماً من عاداته التي نشأ عليها ومناهجها الفكرية وتقبل مفهوم أنها ليست بالضرورة الأساليب الصحيحة في الحياة لأمكن أن يفهم ما يبدو غريباً في نظرة عن الإسلام، كانت فكرته عن الإسلام تتطور وتنمو طوال هذه الرحلة الثانية التي أمكنه فيها أن يختلط بالشعوب ويناقش العلماء، يتصل بالزعماء.(/9)
"كان التفكير في الإسلام يشغل ذهني إن الأمر بدا لي في ذلك الوقت رحلة لاستكشاف ما أجهله من تلك المناطق، كان كل يوم يمر يضيف إلى معارف جديدة، ويطرح أسئلة جديدة لأجد إجاباتها تأتي من الخارج جميعها أيقظت شيئاً ما كان نائماً في أعماقي، وكلما نمت معارفي عن الإسلام كنت أشعر مرة بعد أخرى أن الحقائق الجوهرية التي كانت كامنة في أعماقي من دون أن أعي وجودها بدأت تنكشف تدريجياً ويتأكد تطابقها مع الإسلام" [255].
كان اليقين ينمو في داخلة بأنه يقترب من إجابة نهائية عن أسئلته، بتفهمه لحياة المسلمين كان يقترب يومياً من فهم أفضل للإسلام؛ وكان الإسلام دائماً مسيطراً على ذهنه " لا يوجد في العالم بأجمعه ما يبعث في نفسي مثل تلك الراحة التي شعرت بها والتي أصبحت غير موجودة في الغرب ومهددة الآن بالضياع والاختفاء من الشرق، تلك الراحة وذلك الرضا اللذان يعبران عن التوافق الساحر بين الذات الإنسانية والعالم الذي يحيط بها" [238].
بهذه الروح من التسامح تجاه الآخر استطاع بسهولة أن يتخلص من انخداع الرجل الغربي وإساءته فهم الإسلام بسبب ما يراه من تخلف وانحطاط في العالم الإسلامي.
"الآراء الشائعة في الغرب عن الإسلام [تتلخص] فيما يأتي: (انحطاط المسلمين ناتج عن الإسلام، وأنه بمجرد تحررهم من العقيدة الإسلامية وتبني مفاهيم الغرب وأساليب حياتهم وفكرهم؛ فإن ذلك سيكون أفضل لهم وللعالم)، إلا أن ما وجدته من مفاهيم وما توصلت إلى فهمه من مبادئ الإسلام وقيمه أقنعني أن ما يردده الغرب ليس إلا مفهوماً مشوهاً للإسلام... اتضح لي أن تخلف المسلمين لم يكن ناتجاً عن الإسلام، ولكن لإخفاقهم في أن يحيوا كما أمرهم الإسلام.. لقد كان الإسلام هو ما حمل المسلمين الأوائل إلى ذراً فكرية وثقافية سامية" [243-244].
"وفر الإسلام باختصار حافزاً قوياً إلى التقدم المعرفي والثقافي والحضاري الذي أبدع واحدة من أروع صفحات التاريخ الإنساني، وقد وفر ذلك الحافز مواقف إيجابية عندما حدد في وضوح: "نعم للعقل ولا لظلام الجهل، نعم للعمل والسعي ولا للتقاعد والنكوص. نعم للحياة ولا للزهد والرهبنة". ولذلك لم يكن عجباً أن يكتسب الإسلام أتباعاً في طفرات هائلة بمجرد أن جاوز حدود بلاد العرب، فقد وجدت الشعوب التي نشأت في أحضان مسيحية القديس بولس والقديس أوجستين... ديناً لا يقر عقيدة ومفهوم الخطيئة الأولى .. ويؤكد كرامة الحياة البشرية، ولذلك دخلوا في دين الله أفواجاً، جميع ذلك يفسر كيفية انتصار الإسلام وانتشاره الواسع والسريع في بداياته التاريخية ويفند مزاعم من روجوا أنه انتشر بحد السيف[246].
وكان ذكاؤه الحاد ونفاذ بصيرته، ونهمه إلى الاطلاع على التراث الفكري للمسلمين، يعمق معرفته بالإسلام فيبصره على حقيقته " كانت صرة نهائية متكاملة عن الإسلام تتبلور في ذهني ، كان يدهشني في أوقات كثيرة أنها تتكون داخلي بما يشبه الارتشاح العقلي والفكري، أي أنها تتم من دون وعي وإرادة مني، كانت الأفكار تتجمع ويضمها ذهني بعضها إلى بعض في عملية تنظيم ومنهجة لكل الشذرات من المعلومات التي عرفتها عن الإسلام . رأيت في ذهني عملاً عمرانياً متكاملاً تتضح معالمه رويداً رويداً بكل ما تحتويه من عناصر الاكتمال، وتناغم الأجزاء والمكونات مع الكل المتكامل في توازن لا يخل جزء من بآخر، توازن مقتصد بلا خلل، ويشعر المرء أن منظور الإسلام ومسلماته كلها في موضعها الملائم الصحيح من الوجود" [381].(/10)
"كانت أهم صفة بارزة لحضارة الإسلام وهي الصفة التي انفردت بها عن الحضارات البشرية السابقة أو اللاحقة أنها منبثقة من إرادة حرة لشعوبها، لم تكن مثل حضارات سابقة وليدة قهر وضغط وإكراه وتصارع إرادات وصراع مصالح، ولكنها كانت جزءاً وكلاً من رغبة حقيقية أصيلة لدى جميع المسلمين مستمدة من إيمانهم بالله وما حثهم عليه من إعمال فكر وعمل، لقد كانت تعاقداً اجتماعياً أصيلاً لا مجرد كلام أجوف يدافع به جيل تالٍ عن امتيازات خاصة بهم... لقد تحققت أن ذلك العقد الاجتماعي الوحيد المسجل تاريخياً تحقق فقط على مدى زمني قصير جداً، أو على الأصح أنه على مدى زمني قصير تحقق العقد على نطاق واسع، ولكن بعد أقل من مائة سنة من وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم- بدأ الشكل النقي الأصيل للإسلام يدب فيه الفساد، وفي القرون التالية بدأ المنهج القويم يزاح إلى الخلفية .. لقد حاول المفكرون الإسلاميون أن يحفظوا نقاء العقيدة؛ إلا أن من أتوا بعدهم كانوا أقل قدرة من سابقيهم، وتقاعسوا عن الاجتهاد... وتوقفوا عن التفكير المبدع والاجتهاد الخلاق... كانت القوة الدافعة الأولى للإسلام كافية لوضعه في قمة سامية من الرقي الحضاري والفكري.. وهذا ما دفع المؤرخين إلى وصف تلك المرحلة بالعصر الذهبي للإسلام، إلا أن القوة الدافعة قد ماتت لنقص الغذاء الروحي الدافع لها وركدت الحضارة الإسلامية عصراً بعد عصر لافتقاد القوة الخلاقة المبدعة، لم يكن لدي أوهام عن الحالة المعاصرة للعالم الإسلامي، بينتْ الأعوام الأربعة التي قضيتها في مجتمعات إسلامية أن الإسلام مازال حياً وأن الأمة الإسلامية متمسكة به بقبول صامت لمنهجه وتعاليمه؛ إلا أن المسلمين كانوا مشلولين غير قادرين على تحويل إيمانهم إلى أفعال مثمرة، إلا أن ما شغلني أكثر من إخفاق المسلمين المعاصرين في تحقيق منهج الإسلام الإمكانيات المتضمنة في المنهج ذاته، كان يكفيني أن أعرف أنه خلال مدى زمني قصير .. كانت هناك محاولة ناجحة لتطبيق هذا المنهج، وما أمكن تحقيقه في وقت ما؛ يمكن تحقيقه لاحقاً، ما كان يهمني- كما فكرت في داخلي- أن المسلمين شردوا عن التعليمات الأصلية للدين... ما الذي حدث وجعلهم يبتعدون عن المثاليات التي علمهم إياها الرسول – صلى الله عليه وسلم- منذ ثلاثة عشر قرناً مضت ما دامت تلك التعليمات لا تزال متاحة لهم إن أرادوا الاستماع إلى ما تحمله من رسالة سامية؟ بدا لي كلما فكرت أننا نحن في عصرنا الحالي نحتاج إلى تعاليم تلك الرسالة أكثر من هؤلاء الذين عاشوا في عصر محمد – صلى الله عليه وسلم-، لقد عاشوا في بيئات وظروف أبسط كثيراً مما نعيش فيه الآن، ولذلك كانت مشكلاتهم أقل بكثير من مشكلاتنا... العالم الذي كنت أحيا فيه – كله- كان يتخبط لغياب أي رؤية عامة لما هو خير وما هو شر... لقد أحسست بيقين تام.. أن مجتمعنا المعاصر يحتاج إلى أسس فكرية عقائدية توفر شكلاً من أشكال التعاقد بين أفراده، وأنه يحتاج إلى إيمان يجعله يدرك خواء التقدم المادي من أجل التقدم ذاته، وفي الوقت نفسه يعطي للحياة نصيبها. إن ذلك سيدلنا ويرشدنا إلى كيفية تحقيق التوازن بين احتياجاتنا الروحية والبدنية، وإن ذلك سينقذنا من كارثة محققة نتجه إليها بأقصى سرعة... في تلك الفترة من حياتي شغلت فكري مشكلة الإسلام كما لم يشغل ذهني شيء آخر من قبل، قد تجاوزت مرحلة الاستغراق الفكري والاهتمام العقلي بدين وثقافة غربيين، لقد تحول اهتمامي إلى بحث محموم عن الحقيقة" [380-386].
لقد صار في إمكانه أن يميز بين ما هو الإسلام وما هو غريب عنه في تصورات المسلمين وسلوكهم في رحلته الأولى رأى حلقة ذكر يقيمها الصوفية في أحد مساجد " سكوتاري" في تركيا ويصفها بهذه العبارات " كانوا يقفون في محيط واحد فاستداروا في نصف دورة ليقابل كل واحد منهم الآخر أزواجاً، كانوا يعقدون أذرعهم على صدورهم وينحنون انحناءة شديدة وهم يستديرون بجذوعهم في نصف دائرة .. في اللحظة التالية[كانوا] يقذفون أذرعهم في الاتجاه المعاكس الكف اليمنى ترتفع والكف اليسرى تنزل إلى الجانب، وتخرج من حلوقهم مع كل نصف انحناءه واستدارة أصوات مثل غناء هامس "هو" ثم يطرحون رؤوسهم للخلف مغمضين أعينهم ويجتاح ملامحهم تقلص ناعم، ثم تتصاعد وتتسارع إيقاعات الحركة وترتفع الجلاليب لتكون دائرة متسعة حول كل درويش مثل دوامات البحار... تحولت الدائرة إلى دوامات، اجتاحهم الانهماك، وشفاههم تكرز بلا نهاية(هو، هو)" [251].(/11)
وفي الرحلة الثانية يتذكر حلقة الذكر هذه ويعلق عليها "اتضحت في ذهني معاني لم تبد لي عندما شاهدت حلقة الذكر [في سكوتاري]، كان ذلك الطقس الديني لتلك الجماعة- وهي واحدة من جماعات كثيرة شاهدتها في مختلف البلاد الإسلامية – لا يتفق مع صورة الإسلام التي كانت تتبلور في ذهني.. تبين لي أن تلك الممارسات والطقوس دخيلة على الإسلام من جهات ومصادر غير إسلامية، لقد شابت تأملات المتصوفة وأفكارهم أفكار روحية هندية ومسيحية، مما أضفى على بعض ذلك التصوف مفاهيم غربية عن الرسالة التي جاء بها النبي –صلى الله عليه وسلم-، أكدت رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم- أن السببية العقلية هي السبيل للإيمان الصحيح بينما تبتعد التأملات الصوفية وما يترتب عليها [من سلوك] عن ذلك المضمون، والإسلام قبل أي شيء مفهوم عقلاني لا عاطفي ولا انفعالي، الانفعالات مهما تكن جياشة معرضة للاختلاف والتباين باختلاف رغبات الأفراد وتباين مخاوفهم بعكس السببية العقلية، كما أن الانفعالية غير معصومة بأي حال" [253].
كتب بعد ذلك بسنوات " (لقد بدا لي الإسلام مثل تكوين هندسي محكم البناء) كل أجزائه قد صيغت ليكمل بعضها البعض وليدعم بعضها بعضاً، ليس فيها شيء زائد عن الحاجة وليس فيها ما ينقص عنها، وناتج ذلك كله توازن مطلق وبناء محكم، ربما كان شعوري بأن كل ما في الإسلام من تعاليم وضع موضعه الصحيح هو ما كان له أعظم الأثر علي، لقد سعيت بجد إلى أن أتعلم عن الإسلام كل ما أستطيع أن أتعلمه، درست القرآن وأحاديث النبي، درست لغة الإسلام وتاريخه وقدراً كبيراً مما كتب عن الإسلام، وما كتب ضده، أقمت ست سنوات تقريباً في نجد والحجاز ومعظمها في مكة والمدينة بغرض أن اتصل مباشرة بيئة الإسلام الأصلية، وبما أن المدينتين كانتا مكان اجتماع المسلمين من مختلف الأقطار فقد تمكنت من الاطلاع على مختلف الآراء الدينية والاجتماعية السائدة حالياً في العالم الإسلامي، وكل هذه الدراسات والمقارنات خلقت لدي اعتقاداً راسخاً أن الإسلام كظاهرة روحية واجتماعية لا يزال أقوى قوة دافعة عرفها البشر رغم كل مظاهر التخلف التي خلفها ابتعاد المسلمين عن الإسلام(/12)
الطريق القويم الذي من سلكه كان من أهل الفلاح
لقد سئل الشيخ ابن عثيمين-رحمهاالله و اسكنه فسيح جناته- عن الطريق القويم الذي يسلكه المؤمن في حياته ليكون من أهل الفلاح في الدنيا و الآخرة فأجاب :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد فقد سألتني بارك الله فيك أن أضع لك منهجا تسير عليه في حياتك وإني لأسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا لما فيه الهدى والرشاد والصواب والسداد وأن يجعلنا هداة مهتدين صالحين مصلحين فأقول :
أولاً : مع الله عز وجل :
1- احرص على أن تكون دائما مع الله عز وجل مستحضراً عظمته متفكراً في آياته الكونية مثل خلق السموات والأرض وما أودع فيهما من بالغ حكمته وباهر قدرته وعظيم رحمته ومنته وآياته الشرعية التي بعث بها رسله ولا سيما خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.
2- أن يكون قلبك مملوءاً بمحبة الله تعالى لما يغذوك به من النعم ويدفع عنك من النقم ولا سيما نعمة الإسلام والاستقامة عليه حتى يكون أحب شيء إليك .
3- أن يكون قلبك مملوءاً بتعظيم الله عز وجل حتى يكون في نفسك أعظم شيء . وباجتماع محبة الله تعالى وتعظيمه في قلبك تستقيم على طاعته قائما بما أمر به لمحبتك إياه تاركاً لما نهى عنه لتعظيمك له .
4- أن تكون مخلصا له جل وعلا في عباداتك متوكلاً عليه في جميع أحوالك لتحقق بذلك مقام (إياك نعبد وإياك نستعين). وتستحضر بقلبك أنك إنما تقوم بما أمر امتثالا لأمره وتترك ما نهى عنه امتثالا لنهيه فإنك بذلك تجد للعبادة طعما لا تدركه مع الغفلة وتجد في الأمور عونا منه لا يحصل لك مع الاعتماد على نفسك.
ثانياً : مع رسول الله صلى الله عليه وسلم :
1- أن تقدم محبته على محبة كل مخلوق وهديه وسنته على كل هدي وسنة .
2- أن تتخذه إماما لك في عباداتك وأخلاقك بحيث تستحضر عند فعل العبادة أنك متبع له وكأنه أمامك تترسم خطاه وتنهج نهجه. وكذلك في مخالقة الناس أنك متخلق بأخلاقه التي قال الله له عنها (وإنك لعلى خلق عظيم). ومتى التزمت بهذا فستكون حريصاً غاية الحرص على العلم بشريعته وأخلاقه.
3- أن تكون داعياً لسنته ناصراً لها مدافعاً عنها فإن الله تعالى سينصرك بقدر نصرك لشريعته.
ثالثاً : عملك اليومي غير المفروضات :
1- إذا قمت من الليل فاذكر الله تعالى وادع بما شئت فان الدعاء في هذا الموطن حري بالإجابة واقرأ قول الله تعالى (إن في خلق السموات والأرض) حتى تختم سورة آل عمران وهي عشر آيات.
2- صل ما كتب لك في آخر الليل واختم صلاتك بالوتر.
3- حافظ على ما تيسر لك من أذكار الصباح. قل مائة مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
4- صل ركعتي الضحى .
5- حافظ على أذكار المساء ما تيسر لك منها .
رابعاً : طريقة طلب العلم :
1- احرص على حفظ كتاب الله تعالى واجعل لك كل يوم شيئا معينا تحافظ على قراءته ولتكن قراءتك بتدبر وتفهم.وإذا عنّت لك فائدة أثناء القراءة فقيدها.
2- احرص على حفظ ما تيسر من صحيح سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ذلك حفظ عمدة الأحكام.
3- احرص على التركيز والثبات بحيث لا تأخذ العلم نتفاً من هذا شيء ومن هذا شيء لأن هذا يضيع وقتك ويشتت ذهنك.
4- ابدأ بصغار الكتب وتأملها جيدا ثم انتقل إلى ما فوقها حتى تحصل على العلم شيئا فشيئا على وجه يرسخ في قلبك وتطمئن إليه نفسك.
5- احرص على معرفة أصول المسائل وقواعدها وقيد كل شيء يمر بك من هذا القبيل فقد قيل " من حرم الأصول حرم الوصول".
6- ناقش المسائل مع شيخك أو من تثق به علماً وديناً من أقرانك ولو بأن تقدر في ذهنك أن أحداً يناقشك فيها إذا لم تمكن المناقشة مع من سَمّينا .
هذا وأسأل الله تعالى أن يعلمك ما ينفعك وينفعك بما علمك ويزيدك علماً ويجعلك من عباده الصالحين وحزبه المفلحين .... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
_________
كتبه محمد الصالح العثيمين رحمة الله - في 3 رجب سنة 1412(/1)
الطائف
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
رفْرِفيِ بالحَنين يا جَنَّة الطّا
ئف ، بالشَّوق ، رَفْرِفي بالودادِ
واصعَدِي للعُلا على قِمَم المجْـ
ــدِ ذراها غنيَّة الإِمدادِ
قِمَمٌ تَجْتَلي الهُدَى فَتراها
في سِبَاقٍ إِلى العُلا وطِرادِ
والهُدَى يَرْفَع " الهَدَا " (1) والأَماني
حَالِياتٌ على الرُّبى والوادي
قِمَمٌ شَقَّت الغُيومَ وغابَتْ
في فَضَاءٍ نَدِيّة الأَبْعادِ
زيَّنتْها الغُيوم بالحلْي في تَا
جٍ ، عَلى مِعصَمٍ وفي أَجْيَادِ
ثمَّ صَبَّتْ تلك السحائبُ غَيْثاً
فَروتْ أَنفساً وغُلَّةَ صَادي
يَا جِبالَ الشِّفاءِ هاتي شِفاءً
وانْثُري مِنْ يَدَيْكِ طِيْب الوفادِ
*
*
*
ومُروجٌ ! كَأَنَّها سَاحَةُ الخيْـ
ــرِ نَماءً ووفْرة مِنْ زَادِ
وورودٌ تموجُ بالحُسْن و العِطْـ
ـرِ وتَغْنَى بِسَاحةٍ وامْتدادِ
يَا لَسِحْر الوُرودِ والفُلِّ والنَّوْ
رِ وَطيبِ الَشَّذا وطيبِ الرّفادِ
والزُّهور التي تنفَّسَ عنها الـ
ـفَجْرُ حسناً بَينَ الرُّبى والنّجادِ
والنّدَى والظلالُ والنّسْمَة الحلْـ
ـوةُ بَينَ الغُصُونِ لِيْنُ ارتيادِ
وغِراسُ الرُّمّان والعِنَبُ الحُلـ
ـوُ وفَيضُ الثّمار مِلءُ الأَيَادي
*
*
*
يالَغرْس الرُّمَّانِ والنَّوْرُ فيه
حُمْرَةُ الشَّوقِ والحَنينُ البادي
فَتَرى الأرضَ والمروجُ عليها
كُسِيَتْ بالحُليِّ والأَبرادِ
وجِنانٌ من الجَمالِ وظِلُّ
وارفٌ ناعِمٌ حنين النّادي
كُلُّ ما فيك آيةُ من جَمَالٍ
مُنْيَةُ الشَّوْقِ لَهْفَةُ القُصَّادِ
كَلُّ يومٍ على ربُوعِك عيدُ
يالَطِيبِ الأَعْراسِ والأَعْيادِ
نِعَمُ الله فوقَ أرضك فَيضٌ
فاسجدي واخْشعي لربّ العِبادِ
يالعِزِّ الإِيمان يُعطي إباءً
من خُشوعٍ وعِزَّةً مِن ودادِ
*
*
*
الرياض
25/1/1419هـ
21/5/1998م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان عبر وعبرات .
(1) جبال " الهدا " قرب الطائف ، على طريق من مكة إلى الطائف .(/1)
الطفولة والحجر
في أرض المسجد الأقصى
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
يا للطفولة مُزِّقَتْ أحشاؤها ... ... وتناثَرتْ عَبَقاً وفوحَ قَرَنْفُل
لله درُّ عزيمةٍ طارتْ بأشوا ... ... قِ الطفولة بالحصى و الجَنْدَلِ
عزَّ السلاحُ ! فهبَّ كلُّ فتىً رمى ... ... بدويِّ صَخْرٍ في الربوع مُجَلجِل
وكأنّما الأكبادُ تطلق دونَها ... ... شُعَلاً تضيء بعزمها المُتَهلِّلِ
يا للنِّسَاءِ وقد خَرَجْنَ تفَجُّعاً ... ... ما مِنْ مُغيثٍ حولهنَّ معوَّلِ
لهفي على تلك الأرامِلِ واليتا ... ... مى ، ليس مِنْ مأوىً لهم أو مَحْمَلِ
لهفي على تلك المنازلِ أصبَحَتْ ... ... نَهْبَ الرياح على ركامٍ أهْيَل
لهفي ! وتُصْطاد الرِّجال كأنهم ... ... نهبُ الرصاص وصيدُ كلِّ مُجَهَّل
لهفي على تلك الدماءِ تفَجَّرتْ ... ... غضَباً لكلِّ جريَمةٍ و تهوُّلِ
ستظلُّ أَحجار الطُّفولة لعنةً ... ... تَنْصبُّ فوق مهرّج وممّثل
ستظلّ ترمي الجاهلين بلعنةٍ ... ... والنائمين و مَنْ يظلُّ بمعزِلِ
**** ... ** ... ****
لهفي على تلك المنازِل هُدِّمت ... ... والناسُ بين مُشَرَّدٍ و مقَتَّل
ضاقت بهم سُبُل النجاةِ و أطبقَتْ ... ... عُصَبٌ تسُدُّ مِن الدروب وتبتلي
يا للنساء وقد خرجْنَ تفَجُّعاً ... ... هل من مُغيثٍ للحمى ومعوَّلِ
يمدَدْنَ أيديَهُنّ في عرضْ الفضا ... ... ء على رجاء خائب وتوسُّل
ضاع الصّدى في كلّ أفق ضائع ... ... بين الغيوم تلبَّدَتْ لمْ تَنْجَلِ
لم يبقَ إلا نظرةُ الطِّفلِ التي ... ... تاه السؤالُ بها و إن لم تسألِ
عيناه تائهتان : أين وعودهمْ ؟! ... ... أين الشعاراتُ التي لم تنْزِلِ
ماجَتْ على عينيه دمْعَةُ حَيْرَةٍ ... ... وندتْ على شفتيه أنَّهُ مُذهَلِ
حتى إذا هاج الأسى و تفجّرت ... ... أحزانه فيقول : يا عَينُ اهملي !
فكأنني قد ضِعتُ بين مُزَمِّر ... ... غَنّى هواه لنا وبين مُطَبِّل
يا أُمّتي ! كمْ من دماءٍ قد صَبَبْـ ... ... ـتِ ومِنْ صريعٍ في الديار مُجَدَّلِ
كم جُدْتِ بالكفّ السخيّ على ميا ... ... دينِ النّزالِ وَجَمْعِها ! لمْ تَبْخَلي
قد جدتِ بالمال الوفير و بالدما ... ... ءِ ، بكلّ غُصنٍ من شبابِك مُخْضَلِ
كم مِن نسائك قد خَلَعْنَ قلائداً ... ... زانت ، وجُدْن بكلِّ غالِ من حلي
وطُفولةٍ هَبَّتْ تواثَبُ في الحمى ... ... وثباً إِلى الميدان ! لمْ تتمَهَّلِ
جَعَلوا مِنَ الحَجر الأصَمِّ ملاحماً ... ... دَوّت ! ومن عَزْمٍ هُدى المتأمِّل
فكأنهُ العملاقُ هَبَّ و دُونَهُ الـ ... ... أقزامُ في هَلَعٍ وطولِ تَمَلْملِ
بَطَلٌ تُعَزُّ به البطولةُ و الفدا ... ... بصفائِهِ فكأنّه في جَحْفلِ
دَفَعَتْه فِطْرتُه النقيّة فانْثَنى ... ... بَطلاً يَجُول وعزمةً لم تبْخَلِ
يا أُمّتي ! مَهْلا ! بَذَلْتِ مَعَ السِّنـ ... ... ـين تطول ! أيْن جنى العطاءِ المجْزِلِ
**** ... ** ... ****(/1)
الطفولة والعناية بها في ظلال القرآن والسنة
(1/2) أ. د. عمر يوسف حمزة*
الحمد لله رب العالمين، الذي أرسل الرسل مبشرين ومنذرين وجعلهم الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة في السلوك الفاضل والخلق النبيل، وجعل لهم أزواجاً وذرية، القائل في محكم كتابه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً}([1])، والصلاة والسلام على رسول الله الكريم الذي أكمل الله به الدين وأتم به النعمة وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وبعد،،،
فمما لا شك فيه أن الأولاد في الأسرة نعمة عظيمة، وهبة من الله سبحانه القائل في كتابه الكريم: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}([2])، فالأسرة بدون الأولاد أشبه بشجرة تساقطت أوراقها وهجرتها البلابل المغردة، ولا غرو في أن يحرص كل زوجين على أن ينجبا لينعما ببهجة الأطفال والآمال المعقودة عليهم إذا ما بلغوا مبلغ الرجال وكم من زوجين فرق بينهما العقم على الرغم مما قد يكون بينهما من حب ووئام، وقد بين القرآن الكريم أن الأبناء زينة الحياة الدنيا ومتاعها، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}([3])، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "المال والبنون حرث الدنيا والأعمال الصالحة حرث الآخرة ، وقد يجمعها لأقوام"([4]).
وأخبرنا المولى تعالى أن بعض الأنبياء توجه إليه بالدعاء في أن يرزقه الولد وألا يدعه فرداً بلا خلف، فقال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}([5])، وقد أثنى الله على نبيه زكريا عليه السلام حيث قال: { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}([6]) والنداء هنا بمعنى الدعاء. وفي علة إخفائه لذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: ليبعد عن الرياء، قاله ابن جريج.
والثاني: لئلا يقول الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يسأل الولد عند الكبر، قاله مقاتل.
والثالث: لئلا يعاديه بنو عمه، ويظنوا أنه كره أن يلوا مكانه بعده، ذكره أبو سليمان الدمشقي([7]).
فالولد نعمة ومتعة من متع هذه الحياة، وهم كما قال عنهم الأحنف بن قيس: "ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة"([8]). وما دام الأولاد نعمة ومتعة وزينة، فإن الإسلام رتب لهؤلاء الأبناء حقوقاً من قِبَل الآباء، وهي حقوق تقضي بها الفطرة السوية، ولكن الإسلام مع هذا وضع الضوابط والقواعد التي تحافظ عليها، وتحول دون التفريط فيها أو إساءة القيام بها([9]).
ويهتم هذا البحث بتلك الحقوق، بعنوان: (الطفولة والعناية بها في ظلال القرآن والسنة)، وينتظم البحث في مقدمة وتمهيد يلقي ضوءاً على أهمية الأسرة ورسالتها المقدسة ثم بيان حقوق الطفولة في فصلين.
يتناول الفصل الأول: الحقوق قبل الولادة، ويشتمل على مبحثين؛ المبحث الأول: حقوق الأطفال، والثاني: حق الحياة للجنين.
أمّا الفصل الثاني: حقوق الأطفال بعد الولادة حتى البلوغ، وتحته مباحث تتناول حق النسب، وحق اختيار الاسم الحسن، وحق الرضاع والحضانة، وحق التربية، وحق النفقة، كما ذيلت البحث بخاتمة تشتمل على أهم النتائج التي توصل إليها البحث.
! تمهيد: أهمية الأسرة في الإسلام:
يعتبر الفرد هو اللبنة الأولى والخلية في بناء المجتمع الإسلامي، ومن أجل ذلك كانت عناية الإسلام بالأسرة واهتمامه بها باعتبارها المحضن الطبيعي الذي يقوم على رعايته، وليس هناك أجدر ولا أحق من الأسرة مكاناً لهذه الرعاية، وقد أثبتت الإحصاءات العلمية أن أهم الفترات في حياة الطفل هي السنوات الأولى من عمره، وأن طفل الأسرة المستقرة المتوافقة غير طفل الأم العاملة المرهقة المتشتتة، كما أن نتائج التفكك الأسري في الغرب كان سبباً للتشرد والانحراف وسوء الأخلاق، والأسرة في نظر الإسلام هي أساس المجتمع وخليته الأولى، هي ذات كيان دائم يراد له السمعة الطيبة والوئام والاستقرار([10])، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}([11]).
ومن هنا كانت العناية بتقوية الأسرة من أهم ما يجب على المصلحين رعايته وأخذ الطريق إليه، ولا يكون ذلك إلا بتوخي المبادئ القوية التي يشاد عليها صرح الأسرة وتضمن لها البقاء والنماء قوية مثمرة.
وقد اهتم الإسلام بتنمية الشعور الفطري الذي ينشأ من خلال الرابطة الأسرية وعمل على المحافظة على هذه الآصرة وتقويتها بالأمور الآتية:(/1)
[1] حرص الإسلام على أن يسود الصفاء والمحبة في محيط الأسرة فحدّد دائرة معينة من الأقارب حرّم فيها الزواج سمواً بهذه القرابة ووقاية لهذه القلوب المتآلفة من شواهد الخصومة والبغضاء التي تنشأ من خلال الممارسات اليومية فقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}([12]).
[2] قرر حق التوارث بنظام فريد واضح ذكره القرآن الكريم يحفظ لكل ذي قرابة حقه دون نقص أو زيادة.
[3] قرر الإسلام حق النفقات للأصول على الفروع، والفروع على الأصول صيانة للحرمات وكفاية للحاجات وإغلاقاً لباب الحرج، وهذا أمر مذكور في محله في كتب الفقه بالتفصيل.
[4] قرر حق الحضانة والرضاعة اهتماماً بالأطفال وحفاظاً على الرابطة الأسرية كي تمتد وتزدهر فلا تنقطع ولا تتوقف.
[5] أوجب صلة الأرحام وقرر استمرارها بالبر والزيارة والتعهد والرعاية فقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى}([13]) وجعل قطيعتها من خصال الكافرين ومن الفساد الذي نهى عنه الإسلام قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}([14]).
[6] ومراعاة للمشاعر الإنسانية قرر حق العتق لمن ملكه قريبه فقال e: "من ملك ذا رحم فهو حر"([15]).
! مقاصد الإسلام في بناء الأسرة:
يهدف الإسلام في بناء الأسرة إلى أن يحقق بإشباع الغريزة عن طريق الزواج المقاصد الحسنة والأهداف العليا للإنسان في هذه الحياة وتتلخص هذه المقاصد في الأمور الآتية:
[1] إشباع الغريزة الجنسية بالطريق المشروع على نحو يصون العفة ويحفظ الأعراض ويحقق الإحصان ويضمن بقاء النوع الإنساني ويبعده عن شبح الانقراض.
[2] المحافظة على صفاء النسل ونقائه وصيانة الأنساب من الاختلاط وصيانة المجتمع من التحلل والفساد.
[3] العمل على إيجاد الجو الصالح والمناخ الملائم والتربة الخصبة لضمان النشأة السوية للكائن الإنساني ، والحقيقة أن علاقة الرجل بالمرأة ونظرة كل منهما للآخر وإشباع كل منهما لغريزته والنتيجة المترتبة على هذه العلاقة لا سبيل لإشباعها إلا بأحد أمرين:
أ - إما بالطريق المشروع الذي يؤدي إلى نقاء النسل والمحافظة على الأعراض والأنساب والقيم والأخلاق والمبادئ والأعراق .. الخ.
ب - وإما بالطريق المعوج المنحرف المؤدي إلى الزنا والسفاح والذي يقود سالكيه إلى إيلاد اللقطاء والأبناء غير الشرعيين وما يتبع ذلك من النشأة غير السوية واختلاط الأنساب والعقد النفسية والانحراف الأخلاقي المؤدي إلى انتشار الأمراض المستعصية كما يعرض المجتمع للتفكك والانهيار([16]).
الفصل الأول
الحقوق قبل الولادة
المبحث الأول: حقوق الأطفال
الحقوق جمع حق، والحق في اللغة له عدة معانٍ منها: أنه اسم من أسماء الله تعالى، والأمر الثابت الذي لا شك فيه، والنصيب الواجب للفرد والجماعة([17]).
ويراد بالكلمة شرعاً: (علاقة شرعية تؤدي لاختصاص بسلطة أو مطالبة بأداء أو تكليف بشيء، مع امتثال شخص آخر على جهة الوجوب أو الندب([18]).
والأطفال جمع طفل. والطفل: الصغير من كل شيء. والطفل: المولود من حين يولد إلى أن يحتلم.
وهو للمفرد المذكر وجمعه أطفال، ومؤنثه: طفلة وطفلتان وطفلات على القياس.
ويستوي فيه ـ أيضاً ـ المذكر والمؤنث، والمفرد والمثنى والجمع([19]). وقصره بعضهم على المولود قبل التمييز([20]).
وقد ورد لفظ الطفل ـ مفرداً أو مجموعاً ـ في أربعة مواضع من القرآن الكريم كلها بهذا المعنى.
قال تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} ([21])، وقال تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} ([22])، وقال تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} ([23])، وقال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ}([24]).
! المقصود بحقوق الأطفال:
ونقصد بـ (حقوق الأطفال) تلك الحقوق التي رتبها الشارع على الوالدين للأطفال من قبل أن يولدوا وحين استقرارهم في بطون أمهاتهم أجنة، وبعد أن يولدوا حتى يصلوا إلى سن البلوغ، وإلى أن يستقلوا بحياتهم بعد انتهاء دراساتهم والحصول على مصدر رزقهم.(/2)
وإذا كان الفقهاء قديماً قد حددوا سن البلوغ الشرعي بالنسبة للذكور([25])، فذلك لأنه مظنة القدرة على التكسب، وفي ظل الظروف الحالية وتعقد أمور الحياة، وكذلك امتداد سنوات التعليم إلى نهاية المرحلة الجامعية مما لا يترك مجالاً للأفراد في أن يعملوا، بالإضافة إلى أهمية التعليم وضرورته لخطط التنمية في مجتمعاتنا، كل ذلك يدعونا إلى القول باستمرار الرعاية الأسرية للأولاد إلى ما بعد سن التخرج والحصول على المؤهل المناسب للعمل، بل والحصول على العمل ذاته.
أولاً: حق الطفل على الوالدين في الاختيار السليم عند الزواج:
إن حقوق الأطفال ـ كما أشرنا ـ تبدأ من قبل أن يولدوا، ونقصد بها الحقوق المتعلقة بمعايير حسن اختيار الزوجين لبعضهما عند الزواج، فالإسلام كما رغب في الزواج في كثير من نصوص القرآن والسنة([26]). وحث عليه، ونفّر من العزوبة وشدد النكير على المتصفين بها، فإنه لم يترك الأمر على علاته أو عواهنه، وإنما وضع الضوابط الدقيقة والمعايير السليمة التي تضمن للناس ـ إن هم تمسكوا بها ـ تكوين أسر قوية متماسكة البنيان، تكتسب على مر الأيام صلابة ومنعة تعينها على الصمود أمام تيارات الحياة العاتية، وسنحاول الآن تقديم لمحة عن المعايير السليمة والأسس القويمة التي وضعها الإسلام لاختيار كل من الزوجين للآخر([27]).
! مقياس اختيار الزوجة:
مما لا شك فيه أن العوامل التي تدعو إلى رغبة الرجل في المرأة، وتغري بالارتباط بها من الكثرة بمكان، فمنها ما يتعلق بالمرأة ذاتها شكلاً ومضموناً، ومنها ما يتعلق ببيئتها التي نشأت في أحضانها، كأفراد أسرتها وذوي قرباها، ومن يرتادون هذه البيئة كالأصدقاء والخلان. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه العوامل، وذلك بحسب الغالب الأعم من طباع الناس ورغباتهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تنكح المرأة لأربع لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)([28])، ولا بأس في أن يحرص راغب الزواج على أن تحظى فتاته بالنصيب الأوفر من تلك الصفات واضعاً نصب عينه أن أهم هذه المعايير هو معيار الدين، وأنه قدر توفيقه لذلك بقدر ما يكون استقراره وسعادة أسرته، عن عبد الله ابن عمر بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنّ الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة)([29]). وجماع هذه الصفات جاءت موضحة في جواب الرسول صلى الله عليه وسلم ، لمن سأله: أي النساء خير؟ فقال: (خير النساء التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا ماله بما يكره)([30]) ، ويروى في هذا أن أبا الأسود الدؤلي "ت 69هـ" امتن على بنيه باختيار أمهم ذات خلق وعفة فقال لهم: "لقد أحسنت إليكم صغاراً وكباراً، وقبل أن تولدوا، فقالوا: وكيف أحسنت إلينا قبل أن نولد؟ قال: أخذت لكم من الأمهات من لا تسبون بها"([31]).
! مقياس اختيار الزوج:
وكما طلب الإسلام أوصافاً في الزوجة تعين على دوام العشرة وتوفير السعادة، اشترط في الزوج أن يكون قادراً على تكليف الزواج مقدراً تبعاته مهيئاً له، وهذا المعنى هو الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء)([32]). أي أنه لما كان أغلب الشباب لا يملكون ما يبدأون به حياتهم الزوجية وجّه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الاستعداد لهذه المرحلة بقوله فمن استطاع فليبادر وإلاّ فليضبط نفسه ويقوي عزيمته ويستعين بالصيام على ذلك، ولهذا قال النووي في تفسير (الباءة): "اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد أصلهما أن المراد معناها اللغوي، وهو الجماع، فتقديره: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه ـ وهي مؤن النكاح ـ فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء، وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشباب الذين هم مظنة شهوة النساء ولا ينفكون عنها"([33]). وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم الصفات التي يجب أن تتوفر في الزوج بقوله: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فأنكحوه إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) قالوا: يا رسول الله.. وإن كان فيه؟ فقال: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات)([34]). وقال e لبني بياضة: (أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه)([35]) وكان حجّاماً.(/3)
قال الإمام ابن القيم([36]): وزوّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش القرشية من زيد بن حارثة مولاه، وزوّج فاطمة بنت قيس الفهرية من أسامة ابنه، وتزوج بلال بن رباح بأخت عبد الرحمن بن عوف، وقد قال الله تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} ([37]) فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم باعتبار الدين في الكفاءة أصلاً وكمالاً فلا تزوج مسلمة بكافر ولا عفيفة بفاجر، ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمراً وراء ذلك فإنه حرم على المسلم نكاح الزاني الخبيث ولم يعتبر نسباً ولا صناعة ولا غنى ولا حرفة، ولذا كان اشتراط الدين في الزواج وسيلة لدعمه واستقراره ليؤتي ثمرته المرجوة منه.
! الفحص الطبي للزوجين:
وفي ضوء معطيات علم الوراثة الحديث وما أكدته الدراسات العلمية والطبية المتقدمة من انتقال الأمراض الوراثية والعيوب الخلقية([38]) إلى النسل، بالإضافة إلى انتشار أمراض نقص المناعة (الإيدز)، وكذلك ما أكده علم الوراثة من أن زواج الأقارب من الاحتمالات القوية لحدوث بعض الأمراض الوراثية، مثل التخلف العقلي بسبب العوامل الوراثية المتنحية([39])، أصبح من الضروري إصدار تشريعات تتعلق بضرورة الفحص الوراثي أو الطبي للمقبلين على الزواج بوصفه إجراءً وقائياً وعلاجياً.
إننا حينما نرجع إلى قواعد الشريعة نجد فيها ما يرشد إلى ضرورة الاطمئنان إلى صحة الزوجين وخلوهما من الأمراض الوراثية والتناسلية حتى تكون الذرية صالحة، وقوية، وقد قال صلى الله عليه وسلم : (لا ضرر ولا ضرار)([40])، فإنّ هذا الحديث داخل في أصل قطعي في المعنى، لأن الضرر والضرار مبثوث منعهما في الشريعة كلها، في جزئياتها وقواعدها الكلية. كالتعدي على النفوس والأعراض والأموال، ومنع الظلم عامة، وكل ما هو في المعنى ضرار أو إضرار فهو معني في غاية العموم في الشريعة لا ريب فيه([41]).
وقد تكلّم الفقهاء في العيوب التي تبيح التفريق بين الزوجين، ومما لا شك فيه أن التفريق للعيب هو في جوهره تفريق للضرر، بيد أن هذا الضرر قد يلحق الرجل وحده أو المرأة وحدها، أو هما معاً.
والرأي الراجح أن العيوب سواءً أكانت بالرجل أم بالمرأة، حدثت قبل العقد أو بعده، وإذا كانت عيوباً مستحكمة تحول دون علاقة طبيعية نفسياً ومادياً فإنها تبيح حق طلب التفريق([42]).
فإذا جاز ذلك بعد الزواج وقيام العشرة فمن باب أولى اشتراط الكشف الطبي قبل عقد الزواج دفعاً للأضرار المادية والمعنوية الناتجة عن التفريق.
إنّ السلامة من العيوب اعتبرها بعض الفقهاء([43]) من شروط الكفاءة التي توجب رد النكاح، وتثبت للزوجة حق الخيار، وذلك أن يكون الرجل سليماً من العيوب الجسمية المستحكمة التي لا يمكن العشرة معها إلا بعذر، فمن به جنون أو جذام أو برص لا يكافئ من ليس بها ذلك. وإن اتحد النوع، وكان ما بها أقبح، لأن الإنسان يعاف من غيره ما لا يعافه من نفسه، أمَّا العيوب التي لا تثبت الخيار كعمى وقطع أطراف وتشوه صورة فلا تؤثر، وهذا معتبر في الزوجين دون الآباء، فابن الأبرص كفء لمن أبوها سليم([44]).
المبحث الثاني: حق الحياة للجنين
الجنين في اللغة: الولد مادام في بطن أمه، وسمي جنيناً لاستتاره فيه وجمعه أجنة وأجنن([45]).
وعند علماء الطب: ثمرة الحمل في الرحم حتى نهاية الأسبوع الثامن، وبعده يدعى بالحمل([46])والاصطلاح الفقهي لا يختلف عن المعنى اللغوي.
وعند بعض الباحثين هو: بويضة المرأة الملقحة بالحيوان المنوي للرجل عند لحظة التلقيح إلى أن تتم الولادة الطبيعية([47]).
يقول الله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}([48]).
قال العلامة ابن عاشور([49]): والأجنة: جمع جنين، وهو نسل الحيوان ما دام في الرحم، وهو فعيل بمعنى مفعول لأنه مستور في ظلمات ثلاث. وفي {بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} صفة كاشفة إذ الجنين لا يقال إلا على ما في بطن أمه. وفائدة هذا الكشف أن فيه تذكيراً باختلاف أطوار الأجنة من وقت العلوق إلى الولادة، وإشارة إلى إحاطة علم الله تعالى بتلك الأطوار.
ويقول الله تعالى: { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}([50]).
ويقول جل شأنه: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}([51]).
ومعنى قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} أي خلقناه بنفخ الروح فيه خلقاً آخر([52]).
وحق الحياة للجنين يتعلق به أمران أو حقان هما:(/4)
أولاً: حق الرعاية الصحية والغذائية للجنين:
إنّ رعاية الطفل الصحية في الدول المتقدمة تبدأ ـ منذ المرحلة الجنينية ـ وذلك رعاية الحامل صحياً وغذائياً ونفسياً، نظراً لأن الحامل تتعرض لتغييرات فسيولوجية كبيرة في شهور الحمل، وقد تتعرض لمخاطر الحمل، ومضاعفاته، الأمر الذي يتطلب من الأم الالتزام ببرنامج وقائي وعلاجي يمكن تلخيصه في النقاط التالية:
[1] الاهتمام بالتغذية المتوازنة من حيث الكم والنوع.
[2] متابعة سير الحمل لدى الطبيب المختص لعمل الفحوصات والتحليلات اللازمة لتشخيص أي مرض وعلاجه فوراً خوفاً من المضاعفات([53]).
[3] اتباع العادات الصحية وذلك بالامتناع عن التدخين والبعد عن أماكنه، وعدم تناول الأدوية والعقاقير إلا بأمر الطبيب المختص، وعدم التصوير بالأشعة، وتجنب الحالات العصبية والابتعاد عن المشاجرات، وعدم رفع الأشياء الثقيلة مع ممارسة رياضية خفيفة لتجنب زيادة الوزن.
[4] على الأم أنْ تجهز نفسها جسدياً أو فكرياً أوعاطفياً وعليها أنْ تأخذ قسطاً وافراً من النوم وعليها أن تحمي نفسها من الأمراض المعدية([54]).
وينبغي على الأب إحاطة الأم الحامل بالرعاية النفسية المناسبة وبمشاعر الحنان والعطف والاهتمام.
وقد أكّدت الدراسات الحديثة أن كثيراً من الحالات التي يولد الطفل فيها ضعيفاً أو متخلفاً أو مشوهاً تعود جذورها في الأصل إلى وضعية الحامل السيئة، وأن كثيراً من العاهات الجنينية تعود إلى عوامل بيئية سيئة، وكان بالإمكان تلافيها، ويأتي في مقدمة ذلك إصابة الحامل ببعض الأمراض الحادة أو بسبب تناولها بعض العقاقير الطبية، أو حبوب منع الحمل، أو المشروبات الكحولية، أو التدخين، أو تعرضها لحالات انفعالات عنيفة، أو بفعل سوء التغذية([55]).
ثانياً: حق الحماية للجنين (تحريم الإجهاض):
الإجهاض في اللغة: أجهضت الحامل: أي ألقت ولدها لغير تمام([56]). وأما تعريف الإجهاض عند الفقهاء فهو قريب من معناه اللغوي: فالإجهاض هو إلقاء المرأة جنينها ميتاً سواء أتم خلقه أم لم يتم نفخت فيه الروح أم لم تنفخ بفعلها أو بفعل غيرها([57]).
والجنين هو كل ما طرحته المرأة مما يعلم أنه ولد. ويرى مالك مسؤولية الجاني عن كل ما ألقته المرأة مما يعلم أنه حمل سواء كان تام الخلقة أو كان مضغة أو علقة أو دماً. ويرى أشهب من فقهاء المالكية أن لا مسؤولية عن طرح الدم وإنما المسؤولية عن طرح العلقة والمضغة، بينما يرى ابن القاسم المالكي أيضاً مسؤولية الجاني عن الدم المجتمع الذي إذا صب عليه الماء الحار لا يذوب، لا الدم المجتمع الذي إذا صب عليه الماء الحار يذوب لأن هذا لا شيء فيه([58]).
ويرى أبو حنيفة والشافعي مسؤولية الجاني عما تطرحه المرأة إذا استبان بعض خلقه، فإذا ألقت مضغة لم يتبين فيها شيء من خلقه فشهد ثقات بأنه مبدأ خلق آدمي لو بقي لتصور فالجاني مسؤول أيضاً([59]).
ويرى الحنابلة مسؤولية الجاني إن أسقطت المرأة ما فيه صورة آدمي، فإن أسقطت ما ليس فيه صورة آدمي فلا مسؤولية حيث لا دليل على أنه جنين وإذا ألقت مضغة فشهد ثقات أن فيه صورة خفية كان الجاني مسؤولاً جنائياً([60]).
والرأي الذي يجب العمل به اليوم بعد تقدم الوسائل الطبية أنه إذا أمكن طبياً القطع بوجود الجنين وموته بفعل الجاني فإن العقوبة تجب على الجاني، وهذا الرأي لا يخالف في شيء رأي الأئمة الأربعة لأنهم منعوا العقاب للشك، فإذا زال الشك وأمكن القطع وجبت العقوبة، ولا يكفي انفصال الجنين لمسؤولية الجاني بل يجب أنْ يثبت أنّ الانفصال جاء نتيجة لفعل الجاني، وأن علاقة السببية قائمة بين فعل الجاني وانفصال الجنين([61]).
وتتفق كلمتا الشريعة والقانون على حرمة الإجهاض، وأنّ الاعتداء عليه في هذه الحالة يشكل جناية على مخلوق لم يَرَ نور الحياة، وفي إسباغ صفة الحماية الجنائية على الجنين منذ لحظة الإخصاب([62]).
ولا يجوز إسقاط الجنين قبل نفخ الروح فيه حتى ولو كان نطفة أو دماً متجمداً([63]). وهذا ما عليه عدد من العلماء المعاصرين([64]).
! عقوبة الإجهاض في الشريعة الإسلامية:
اتفق الفقهاء على وجوب الديِّة كاملة والكفارة فيمن أسقط جنيناً حياً (وهو أن يكون لستة أشهر فصاعداً) ثم مات لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}([65]).(/5)
وخلاصة القول: إنّ الإجهاض حرام من حيث المبدأ لأنّ الماء بعد ما وقع في الرحم يأخذ في مبادئ التخلق ويترقى إلى الكمال ويسير إلى التمام "وقد أكد العلم الحديث أنّ الجنين يتكون نتيجة لامتزاج نطفة الرجل ببيضة المرأة"([66]). وأنّ النطف تحتاج خمس ساعات تقريباً كي تصل إلى البيضة مكونة نواة الإنسان وفي اليوم السابع من التلقيح تنفرز في جدار الرحم، فمآلها الحياة، ولكن قبل نفخ الروح ولاسيما خلال الأربعين يوماً الأولى يجوز الإجهاض لضرورة أو لحاجة ملحة مثل أن يصل الأطباء إلى مرحلة اليقين أو الظن الغالب المؤكد بأن الجنين مشوه تشويهاً كاملاً([67]).
الفصل الثاني
حقوق الأطفال بعد الولادة حتى البلوغ
المبحث الأول: حق النسب
معنى النسب في اللغة: يطلق النسب في اللغة على عدة معانٍ منها ما يأتي:
[1] النسب بمعنى القرابة ويختص بجهة الآباء، فيقال انتسب إلى أبيه وأجداده، كما يقال: استنسِب لنا، أي: اذكر لنا آباءك وأجدادك، ويقولون: رجل نسيب أي ذو حسب ونسب إلى آباء كرام([68]).
[2] وبمعنى الطريق المستقيم، يقال النسيب أيضاً، إذا كان معبداً حيث لا يشعر سالكه بانقطاعه، وسماه في اللسان نسيباً، وقال: هو الطريق الواضح المستقيم، وقيل: ما وجد من أثر الطريق([69]).
[3] وبمعنى الشدة والقوة، يقال أنسبت الريح، إذا اشتدت، وبمعنى التشبب في الشعر، فيقال له: نسيب أيضاً([70]).
يقول ابن فارس: إنّ كلمة "نسب" ترجع في الأصل إلى معنى واحد، وهو اتصال شيء بشيء([71]).
فإذا دققنا النظر في تلك المعاني، وجدناها فعلاً ترجع إلى هذا الأصل، فالنسب ما هو إلا اتصال الابن بأبيه وأجداده، كما هو اتصال درجات القرابة، وكذلك النسيب زوج الأخت، متصل بالأسرة عن طريق زوجته والريح المشتدة متصلة دون تقطع، كما يسمع لها الصوت المتصل.
وكذلك الطريق المستقيم، متصل بعضه ببعض، لا يشعر سالكه بانقطاعه وعلى هذا فإذا أطلقت كلمة النسب، فإنها تشمل أنواع النسب كلها، وهي ثلاثة:
[ أ ] صلب: وهو النسب بين الآباء والأبناء خاصة، علواً وسفولاً.
[ب] عصبة (عصابة): هو بين الرجل وبين قرابة أبيه فقط، كالأعمام وبنيهم([72]).
[ج] رحم: وهم أقرباء الرجل من طرف أمه وعمته وجدته لأبيه وأمه([73]).
! تعريف النسب اصطلاحاً :
أما تعريفه اصطلاحاً فلم يتجاوز أغلب الفقهاء في تعريفهم له المعنى اللغوي، جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية أن النسب: حالة حكمية إضافية بين شخص وآخر من حيث أن الشخص انفصل عن رحم امرأة هي في عصمة زواج شرعي أو ملك صحيح ثابتين أو مشبهين الثابت للذي يكون الحبل من مائه([74]).
ويلاحظ أنّ هذا التعريف شامل لثبوت النسب في الزواج الشرعي الصحيح وفي الملكية كما هو شامل لثبوته في الوطء بشبهة، وهذا ما يفهم من قوله: "أو مشبهين الثابت"([75]).
! صيانة الإسلام للنسب:
صانت الشريعة الإسلامية الأنساب من الضياع والعبث والكذب والتزييف، ولم تترك الشريعة النسب لأهواء أصحابه يدعونه أو ينفونه([76])، وهو من الحقوق الشرعية المترتبة على عقد الزواج ويتعلق به عدة حقوق.
[1] حق الله، لأنه يحقق مصالح عامة للمجتمع تتمثل في أنّ النسب من الروابط الوثيقة التي تربط مجموعة الأسر ببعضها، والأسرة أساس المجتمع.
[2] وفيه للأب، لأنه يترتب على ثبوت نسب الولد ثبوت الولاية عليه، وحق الإرث والإنفاق.
[3] وفيه حق للأم، لأن من حقها صيانة الولد من الضياع، ودفع التهمة عنها، وثبوت حق الرضاع والحضانة والإرث.
[4] وحق الولد، لدفع التعيير عن نفسه، وثبوت حقوق النفقة والرضاع والسكن والإرث وغير ذلك([77]).
لم يقتصر حفاظ الإسلام على الأنساب القادمة، بل حافظ على الأنساب التي تنحدر منها، لنعرف أصلنا، وأصل غيرنا، ليكون التلاقي والتراحم والتعاون، ولذلك يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}([78]).
وقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)([79]).
ومن هذين النصين ـ الآية والحديث ـ نعرف أنّ الإسلام يريد أنْ يحافظ على الأنساب حتى يتميز صحيحها من باطلها، لأنّ دخول الشك عليها يميت الداعي النفسي الباعث على الذب عنه وحياطته، والقيام عليه بما به بقاؤه([80]).
المبحث الثاني: حق اختيار الاسم الحسن(/6)
من حق الطفل على والديه أنْ يختارا له الاسم الحسن، فلا يطلق عليه من الأسماء ما ينفر أو يكون سبيلاً للسخرية منه([81]). وخير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وما شابههما من الأسماء المعبدة لله تعالى وكذلك أسماء الأنبياء؛ وذلك لتأخذ الأمة الإسلامية طابعها الخاص والمميز في أسمائها، لتحمل أعلام العبودية والرحمة، وتتشرف بالانتساب إلى رسول الله e، وتعمق معاني الخير في جوانب الحياة، وكان من العادة النبوية: أنْ يسمّي الولد باسم حسن، وقال e: (إنّ أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله، وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة)([82]).
وقد اتفق الفقهاء على تحريم كل اسم معبد لغير الله، والثابت من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يغير الأسماء المنفرة والمكروهة إلى الأسماء الحسنة. وذلك لما في الاسم الجميل من تأثير كبير على شخصية الإنسان وعلى سلوكه طوال فترة حياته([83]).
وقد ورد في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية وقال: (إنما أنت جميلة، وبره سمّاها جويرية)([84]) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لشخص: ما اسمك؟ فقال: أصرم. فقال: "بلى أنت زرعة"([85]) وقال آخر: حزن، قال: "أنت سهل"([86])، وسمّى حرباً: سلماً" وسمّى المضطجع: المنبعث"([87])؛ وقد غيّر النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأسماء غير ما ذكرنا([88])؛ وأمر الأمة بتحسين الأسماء([89]). وفي هذا تنبيه على أنّ الأفعال ينبغي أنْ تكون مناسبة للأسماء، لأنّ الأسماء قوالب الأفعال ودالة عليها.
لا جرم اقتضت الحكمة الربانية أنْ يكون بينهما ارتباط وتناسب، وأنْ لا يكون أحدهما أجنبياً من الآخر، بحيث أنْ لا يكون بينهما تعلق بوجه من الوجوه. لأنّ الحكمة تأبى ذلك، والواقع المشاهد غير ذلك، وتأثير الأسماء في المسميات، والمسميات في الأسماء ظاهر وبائن وإلى هذا المعنى أشار القائل:
وقُل إنْ أبصرت عيناك ذا لقب***** إلا ومعناه إنْ فكرت في لقبه
وكان إياس بن معاوية([90])إذا رأى شخصاً. قال: ينبغي أنْ يكون اسمه كذا وقلما يخطئ في ذلك، ولما كانت الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ أشرف الخلق وأكملهم، وأخلاقهم وأعمالهم أشرف الأخلاق والأعمال، وأسماؤهم أشرف الأسماء، فلهذا الوجه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتسمي بأسمائهم، وفي سنن النسائي: (تسموا بأسماء الأنبياء)([91]).
المبحث الثالث: حقوق متعلقة بآداب الشريعة عند استقبال المولود
ومنها ما يلي:
[أ] المساواة في الفرح عند استقبال المولود بين الذكر والأنثى خلافاً لعادات الجاهلية، قال جلَّ شأنه: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} ([92]).
[ب] استحباب التأذين في أذنه اليمنى والإقامة في أذنه اليسرى: وردت بذلك الأحاديث كما في مستدرك الحاكم عن أبي رافع قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة) ([93])، وعن الحسن بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى، رفعت عنه أم الصبيان)([94]) وسر التأذين، والله أعلم: أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها.
وفيه معنى آخر وهو أن تكون دعوته إلى الله وإلى دينه الإسلام وإلى عبادته سابقة دعوة الشيطان، كما كانت فطرة الله التي فطر الناس عليها سابقة على تغيير الشيطان لها، ونقله عنها ولغير ذلك من الحكم([95]).
[ج] استحباب تحنيكه بتمرة أو حلاوة والدعاء له بالبركة: جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "وُلِدَ لي غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم ، فسمّاه إبراهيم وحنكه بتمرة"([96]). وعن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالصبيان فيدعو لهم بالبركة ويحنكهم"([97]).
[د] العقيقة: هي الذبيحة التي تذبح للمولود، وأصل العق: الشق والقطع، وقيل للذبيحة عقيقة لأنه يشق حَلْقها ويقال عقيقة للشعر الذي يخرج على رأس المولود من بطن أمه.
عن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق، ويسمى) رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي([98]).
وقال صلى الله عليه وسلم : (في الغلام عقيقة، فأريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى)([99])، والجمهور على أنها سنة، وعند الظاهرية واجبة([100]).
المبحث الرابع: حق الختان
الختان: ويطلق على العملية التي تُجْرَىَ لعضو التناسل، كما يطلق على موضع القطع من هذا العضو في الذكر والأنثى، وهو من الحقوق التي يطالب الآباء والأمهات أن يقوموا بها لأبنائهم.(/7)
ويرى الحنفية أن الختان غير واجب للذكر أو للأنثى "وهو سنة للرجل مكرمة للمرأة، إذ جماع المختونة ألذ، وقيل: سنة فيهما، غير أنه لو تركه يجبر عليه إلا من خشية الهلاك، ولو تركته هي لا "([101]).
ويرى المالكية أنه سنة مؤكدة بالنسبة للذكر، ومندوب أي أفضل للأنثى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن تخفض الإناث: (أخفضي ولا تنهكي)، أي: لا تجوري في قطع اللحمة الناتئة بين الشفرين فوق الفرج، فإنه يضعف بريق الوجه ولذة الجماع([102]).
ويرى الشافعية أنه واجب في الذكور والإناث على القول الصحيح عندهم وأن على الولي الأب القيام بذلك في حال الصغر([103]). وعند الحنابلة كالشافعية يجب الختان([104]).
وذكر ابن القيم أنه يجب على الولي أن يختن الصبي قبل البلوغ، فإنَّ ذلك مما لا يتم الواجب إلا به([105]).
([1]) سورة الرعد، الآية (38).
([2]) سورة الشورى، الآيتان (49، 50).
([3]) سورة الكهف، الآية (46) .
([4]) مختصر تفسير الخازن، للشيخ عبد الغني الدقر، 2/974.
([5]) سورة الأنبياء، الآية (89).
([6]) سورة مريم، الآية (3).
([7]) زاد المسير، 5/206 ـ 207. وانظر: الدعاء المستجاب، د. عمر يوسف، ص 34.
([8]) راجع: زهر الآداب لأبي إسحاق القيرواني، تحقيق د. زكي مبارك، 1/63.
([9]) راجع: حقوق الأولاد قبل الوالدين، بحث أعده د. عبد الحميد الأنصاري، بحولية كلية الشريعة، جامعة قطر، العدد الثاني عشر 1415هـ، ص 311.
([10]) راجع: بحوث في الثقافة الإسلامية، ص 499.
([11]) سورة النساء، الآية (23).
([12]) سورة النساء، الآية (23).
([13]) سورة النساء، الآية (36).
([14]) سورة محمد، الآية (22).
([15]) أخرجه أبو داود، 8/407، والترمذي، 5/48، وابن ماجه، 2/8431.
([16]) انظر: الإسلام عقيدة وشريعة، الشيخ شلتوت، ص 148. والإسلام وبناء المجتمع، د.أحمد العسال، ص 145 ـ 146.
([17]) المعجم الوسيط، طبعة إدارة إحياء التراث الإسلامي، قطر، 1985م، 1/188.
([18]) الحق في الشريعة الإسلامية: د . محمد طموم، المكتبة المحمودية التجارية بالقاهرة، ص 38.
([19]) لسان العرب لابن منظور، 12/95 وما بعدها .
([20]) المصباح المنير، للفيومي، ص 143.
([21]) سورة الحج، الآية (5).
([22]) سورة النور، الآية (31).
([23]) سورة غافر، الآية (67).
([24]) سورة النور، الآية (59).
([25]) البلوغ في الاصطلاح: عرّفه بعض الفقهاء بأنه: "انتهاء حد الصغر"، وعرّفه بضعهم بأنه: "قوة تحدث في الصبي يخرج بها عن حالة الطفولة إلى حالة الرجولة". انظر: الطحاوي: حاشية الطحاوي على الدر المختار، 4/87، ابن عابدين: حاشية ابن عابدين على الدر المختار، 9/269.
([26]) انظر: سورة النور، الآية (32)، وسورة النحل، الآية (72)، وسورة الفرقان، الآية (74).
([27]) انظر: الأسرة المسلمة، أسس ومبادئ، ص 46.
([28]) ترب الرجل: إذا افتقر، أي لصق بالتراب، وأترب: إذا استغنى، وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب ولوقوع الأمر به، والمراد بها الحث والتحريض. انظر: النهاية: 1/184. وغريب الحديث لأبي عبيد: 2/93. =والحديث أخرجه البخاري في كتاب النكاح، 9/132، ومسلم في كتاب الرضاع، 2/1086.
([29]) أخرجه مسلم في صحيحه، 2/1090. وانظر: شرح النووي على مسلم، 10/56. ومسند أحمد، 2/168. والترغيب والترهيب للحافظ المنذري، وكتاب أحكام النساء لابن الجوزي، ص 414.
([30]) أخرجه النسائي والحاكم وأحمد، وحسّنه الألباني لشواهده: راجع صحيح الألباني، 4/453.
([31]) من قضايا الأسرة في التشريع الإسلامي: د. محمد الدسوقي، ص 21. والمرأة في الشعر الجاهلي: د . أحمد الحوفي، ص 118. والزواج في الشريعة الإسلامية، علي حسب الله، ص 17.
([32]) أخرجه البخاري في كتاب النكاح. انظر فتح الباري، 9/112. وأخرجه مسلم في كتاب النكاح، 2/1019. وأحمد في مسنده، 1/378. والدارمي في سننه، 2/132. والمراد بالباءة: النكاح، والوجاء: رض الأنثيين من الفحل، فكأنه أراد الصوم يقطع شهوة النكاح، كما يفعل الوجاء، انظر: النهاية لابن الأثير، 1/160. والجزء الخامس، ص 152. وترتيب القاموس المحيط، 1/337. وكتاب أحكام النساء لابن الجوزي، ص 302.
([33]) انظر: فتح الباري، 9/108.
([34]) أخرجه الترمذي، 4/42 ـ 43، وحسّنه الألباني، راجع: إرواء الغليل للألباني، المكتب الإسلامي، 6/266.
([35]) أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، 4/2102.
([36]) زاد المعاد، 4/22.
([37]) سورة النور، الآية (26).
([38]) انظر: طبيبك الخاص: د. عبد الرحمن نور الدين، مقال: "رحلة داخل الأرحام"، العدد ديسمبر 1993م، دار الهلال، ص 11. وانظر: حقوق الأولاد قبل الوالدين، مرجع سابق، ص 316.(/8)
([39]) انظر: طبيبك الخاص: د. سامية التمتامي، مقال: "الوراثة البشرية والتخلف العقلي"، العدد فبراير 1991م، وكذلك مقال: "زواج الأقارب يسبب الأمراض الوراثية"، د. =عمر فرج. طبيبك الخاص، عدد أبريل 1994م، "الوراثة والإنسان"، د. محمد الربعي، ص 64، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1986م (يساوي احتمال ولادة طفل مصاب بمرض وراثي لأولاد العم أو الخال من 6 ـ 8% في مقابل احتمال 3ـ4% لظهور مثل ذلك المرض في المجتمع ككل) .
([40]) هذا الحديث مروي عن أكثر من صحابي رضي الله عنه ، عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وغيرهم. انظر: مسند أحمد، 1/313. وسنن ابن ماجة، 2/2341. وسنن الدارقطني، 4/228. ونصب الراية، 4/385. وموطأ الإمام مالك، 2/745. ومصباح الزجاجة، 3/48. والهداية، 108 ـ14. ومتن الحديث بالنظر إلى تعدد مخارجه حسن، وقد حكم بحسنه النووي (الأربعين بشرح ابن دقيق العيد: 77) ورمز لحسنه أيضاً السيوطي في الجامع الصغير مع الشرح: 6/431. وانظر: الإتحاف بتخريج أحاديث الأشراف، 3/1116 .
([41]) انظر: الموافقات، 3/9. والمقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف العالم، ص 54. وجامع العلوم والحكم لابن رجب، ص 267.
([42]) من قضايا الأسرة، مرجع سابق، ص 175. وانظر: أحكام الزواج في الفقه الإسلامي، د. عبد الرحمن الصابوني، ص 271، فقد أشار لأول مرة إلى ضرورة الفحص الطبي سنة 1964م وتضمنه قانون الأحوال الشخصية السوري.
([43]) راجع الشرح الصغير للشيخ أحمد الدردير، 1/398. حاشية على كفاية الطالب الرباني للشيخ الصعيدي العدوي، 2/37. نهاية المحتاج للرملي، 6/256. مغني المحتاج للخطيب الشربيني، 3/165. سبل السلام للصنعاني، 3/1008.
([44]) انظر: مواهب الجليل، طبعة السعادة بالقاهرة، 4/4. والبهجة شرح التحفة للتسولي، 1/302.
([45]) لسان العرب، 1/515.
([46]) المعجم الوسيط، 1/141.
([47]) الحماية الجنائية في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، د. عبد العزيز محمد محسن، ص 16.
([48]) سورة النجم، الآية (32).
([49]) تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور، 7/124. وقارنه بتفسير الكشاف للزمخشري، 4/426. وتفسير بن كثير، 7/462. وفتح القدير للشوكاني، 5/1148.
([50]) سورة آل عمران، الآية (6).
([51]) سورة المؤمنون، الآيات (12ـ14).
([52]) تفسير غريب القرآن لابن قتيبة، ص 296. وقارنه بتفسير ابن حيان: البحر المحيط، 6/392. وتفسير القرطبي، 12/102.
([53]) انظر: طبيبك الخاص، "متابعة الحمل ضرورة لصحة طفلك"، د. إبراهيم، عام 1990م. وانظر: "طفلك حتى الخامسة"، سنية النقاش عثمان، دار العلم للملايين، بيروت، 1985م، ص 32.
([54]) انظر: المصدر السابق.
([55]) آراء حديثة في تفسير نمو الطفل وتربيته، د. نوري جعفر، ص 10.
([56]) المعجم الوسيط، 2/143. لسان العرب، 1/523.
([57]) موقف الشرع من إجهاض الجنين، ص 315.
([58]) شرح الزرقاني وحاشية الشيباني، 8/31، بداية المجتهد، 2/348.
([59]) حاشية ابن عابدين، 5/519. نهاية المحتاج، 7/362.
([60]) المغني لابن قدامة، 9/519.
([61])) التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي: عبد القادر عودة، 2/294.
([62]) الحماية الجنائية للجنين، عمر عبد العزيز محسن، ص 30.
([63]) انظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين، 3/176).
([64]) من هؤلاء: الشيخ محمود شلتوت في الفتاوى، ص 292، حيث قال: "وإذن تكون المسألة ذات اتفاق بينهم ـ أي الأطباء والفقهاء ـ على حرمة الإسقاط في أي وقت من أوقات الحمل).
([65]) سورة النساء، الآية (92).
([66]) البار: 197، 205. وأطفال تحت الطلب، ص 30. والطب محراب الإيمان، 2/47. والطب النبوي والعلم الحديث، 3/331.
([67]) انظر: بحث د. علي محمد يوسف المحمدي: "موقف الشرع من إجهاض الجنين المشوه"، حولية كلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية، العدد الحادي عشر، عام 1414هـ ـ 1993م، ص 324.
([68]) معجم مقاييس اللغة لابن فارس، 5/423. ودستور العلماء، 3/398.
([69]) لسان العرب، 6/4440. ومختار الصحاح، ص 656، والمغرب في ترتيب المعرب، لناصر الطرزي سنة 616هـ، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ص 449.
([70]) معجم مقاييس اللغة، 5/424. وذكر بعض الفقهاء أن من شبب بالنساء لا تقبل شهادته. انظر: الإنصاف للماوردي، 12/51. وشرائع الإسلام، 4/128.
([71]) معجم مقاييس اللغة، 5/424. وأحكام النسب في الشريعة الإسلامية، ص 11.
([72]) اللسان، 4/18. ومختار الصحاح، ص 435. وعصبة الرجل: بنوه وقرابته لأبيه، سموا بذلك لأنهم عصبوا به، أي: أحاطوا به والأب والابن والعم جانب والآخر جانب. انظر: تفسير الطبري، 1/26. وتفسير أبي السعود، 6/26.
([73]) مختار الصحاح، ص 238، وفيه الرحم: القرابة، واللسان، 3/1613.
([74]) راجع: الموسوعة الكويتية، ص 18.
([75]) وقد وردت تعاريف أخرى. انظر: شرح النيل، 6/406. ومفتاح الكرامة، 6/8.(/9)
([76]) أحكام الأولاد في الإسلام: زكريا البري، ص 11.
([77]) حقوق الأولاد في الشريعة الإسلامية والقانون، د. بدران أبو العينين، ص 6. وانظر: الأحوال الشخصية "حقوق الأولاد والأقارب" محمد الحسيني حنفي، ص 10.
([78]) سورة الحجرات، الآية (13).
([79]) الحديث أخرجه الترمذي في سننه، انظر: تحفة الأحوذي، 6/113. ومسند أحمد، 2/374. ومستدرك الحاكم، 4/161. عن أبي هريرة، قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه"، وله شاهد من حديث العلاء بن خارجة. وقال المنذري في "الترغيب والترهيب"، 3/223: "رواه الطبراني من حديث العلاء بن خارجه بإسناد لا بأس به". وله شاهد آخر أخرجه الخطيب في "الموضح"، 2/215. وأخرجه الطيالسي، 2/35 من حديث ابن عباس. وصحّحه الحاكم في المستدرك، 4/161.
([80]) الموسوعة الكويتية، ص 15.
([81]) من قضايا الأسرة، مرجع سابق، ص 97.
([82]) أخرجه أبو داود في سننه برقم 4948. وأحمد في المسند، 5/194. وانظر: ضعيف الجامع حيث ضعّفه الألباني، وأورده ابن قيم الجوزية في "تحفة المودود بأحكام المولود"، حديث رقم 115، ص 81 . وانظر: سفر السعادة للفيروزآبادي، ص 163. وهذا الحديث له شواهد كثيرة تقويه وتجعله صالحاً للاستدلال، منها: مسند أبي يعلى، 13/11 ـ 113، حديث رقم 7168. النسائي باب ما يستحب من شيَّة الخيل، 6/218. البيهقي، السنن الكبرى، 3/37.
([83]) صلاح أحمد الطنوبي: "تربية الطفل في الإسلام"، مجلة التربية، تصدر عن اللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم، دولة قطر، يونيو 1994م، ص 195.
([84]) أخرجه مسلم في الآداب، باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن، حديث رقم 140، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غيّر اسم عاصية، وقال: "أنت جميلة"، وأبو داود في الأدب، باب في تغيير الاسم القبيح، حديث رقم 2954.
([85]) أخرجه أبو داود في الأدب، حديث رقم 2954.
([86]) انظر: سنن أبي داود، كتاب الأدب.
([87]) انظر: تحفة المودود بأحكام المولود، ص 43.
([88]) انظر: سفر السعادة للفيروزآبادي، ص 164 بتحقيقنا.
([89]) انظر: صحيح البخاري في الأدب، باب تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه، 4/80. ومسلم في الآداب، 17ـ18ـ 19. وابن ماجه في الأدب باب تغيير الأسماء، 3732.
([90]) هو إياس بن معاوية بن قرة المزني (أبو واثلة)، كان قاضياً على البصرة، مشتهراً بالفطنة، ويضرب المثل بذكائه، ولد سنة 66هـ، وتوفي سنة 122هـ، وكانت وفاته بواسط. انظر: الأعلام للزركلي، 1/376.
([91]) والحديث مخرَّج في: سنن أبي داود، باب في تغيير الأسماء، برقم 4950. البيهقي، في السنن الكبرى، كتاب الخيل، باب ما يستحب من شيَّة الخيل، برقم 4406، 3/37. سنن =النسائي، باب ما يستحب من شيَّة الخيل، برقم 3565، 6/ 218، مسند أحمد، 4/345.
([92]) سورة النساء، الآية (11).
([93]) أخرجه أبو داود والترمذي وقالا: "حديث صحيح". انظر: صحيح سنن أبي داود للألباني، مكتب التربية العربي لدول الخليج العربي 1989م، ورمز له بـ: (حسن)، 3/961.
([94]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وأورده ابن القيم في تحفة المودود، 25. وأم الصبيان هي التابعة من الجن.
([95]) تحفة المودود بأحكام المولود، ص 26.
([96]) مختصر صحيح مسلم للمنذري بتحقيق الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1977م، ص 371.
([97]) صحيح سنن أبي داود، 3/961، ورمز له بـ: (صحيح) والتحنيك: أن يضع التمرة ونحوه في حنك المولود حتى ينزل إلى جوفه منه شيء، وينبغي أن يكون المحنك من أهل الخير ممن ترجى بركته. انظر: سبل السلام، 4/194.
([98]) أخرجه أبو داود في كتاب الأضاحي، باب في العقيقة،حديث رقم 2838، 3/106. وانظر: سبل السلام، 4/192.
([99]) صحيح سنن النسائي للألباني، 3/884.
([100]) سبل السلام، 4/1427.
([101]) فتح القدير، 1/63.
([102]) بلغة السالك (الشرح الصغير)، 1/312. والحديث في سنن أبي داود، 5/422.
([103]) روضة الطالبين، 1/180 ـ 182.
([104]) الفروع، 1/133 ـ 134.
([105]) تحفة المودود، مرجع سابق، ص 126. وانظر: فتاوى معاصرة، د. القرضاوي، ص 384.(/10)
الطلعة البهيّة لكتاب الدولة الأموية
أحمد الكرغلي
صدر مؤخراً عن مكتبة الصحابة بالشارقة كتابا تاريخيا جديدا للدكتور علي محمد الصلابي بعنوان (الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار)، وهو عبارة عن دراسة تاريخية علمية ذات طابع تحليلي مسهب تأتي امتدادا لما سبق من كُتب المؤلف** – حفظه الله - التي درست العهد النبوي وعهد الخلافة الراشدة، والتي منها كتاب السيرة النبوية وقائع وأحداث، وكتاب أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى بن أبي طالب، والحسن بن علي.
في صدر هذا الكتاب يتحدث المؤلف – حفظه الله - عن الجذور التاريخية للأسرة الأموية، وموقف بني أمية من الدعوة الإسلامية، وعن الأمويين الذين أسلموا منذ بداية الدعوة الإسلامية، وعن شخصية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وعصره، وعن إسلام أبي سفيان والد معاوية رضي الله عنه، وعن هند بنت عتبة بن ربيعة أم سيدنا معاوية، وعن قصة إسلام معاوية رضي الله عنه وبعض فضائله، وعن الأحاديث الباطلة التي لا تصح في شأن سيدنا معاوية سواء التي جاءت على سبيل المدح أو التي جاءت على سبيل الذم.
دور بني أمية في العهد النبوي :
بعد ذلك يتطرق المؤلف – حفظه الله – في هذا الباب إلى الحديث عن دور بني أميه في العهد النبوي، ثم عن دورهم في عهد الخلافة، ثم إلى ولاية سيدنا معاوية على دمشق وبعلبك والبلقان في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ثم جهود معاوية رضي الله عنه على جبهة الشام، وعن تكوين أسطول إسلامي في البحر، وعن أعمال سيدنا معاوية في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنهما، فيوضح فتوحاته في عهده، وإصراره في الطلب من عثمان السماح له بالغزو البحري، وعن فتحه لقبرص، كما يتطرق المؤلف – حفظه الله - في هذا الكتاب إلى حقيقة الخلاف بين أبي ذر ومعاوية، ويرد المؤلف عن الشبهات التي ألصقت بعثمان رضي الله عنه كاتهامه بإعطاء أقاربه من بيت المال، وتعيينه لأقاربه في مناصب الدولة على حساب المسلمين، كما يتحدث عن أسباب فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه مثل طبيعة التحول الاجتماعي في عهده، واستعداد المجتمع لقبول الشائعات، وخروج كبار الصحابة من المدينة، والعصبية الجاهلية، وتوقف الفتوحات بسبب موانع طبيعية أو بشرية، والمفهوم الخاطيء للورع، ووجود طائفة من الحاقدين، والتدبير المحكم ضد عثمان رضي الله عنه، ودور عبد الله بن سبأ في تحريك الفتنة، وموقف سيدنا معاوية بن أبي سفيان في الفتنة، وعن مقتل عثمان وموقف الصحابة منه، وعن اختلاف الصحابة في الطريقة التي يأخذ بها القصاص من قتلة عثمان، ومعركة صفين، ودوافع سيدنا معاوية في عدم بيعه سيدنا علي، وعن تجهيز أمير المؤمنين علي لغزو الشام، وخروج معاوية إلى صفين، وبداية المناوشات بين الطرفين، والموادعة بينهما ومحاولات الصلح ثم نشوب القتال ثم الدعوة إلى التحكيم، كما يتطرق المؤلف في هذا الكتاب إلى مقتل عمّار بن ياسر رضي الله وأثره على المسلمين، وعن المعاملة الكريمة أثناء الحرب والمواجهة، ومعاملة الأسرى عند أمير المؤمنين علي، وعن التحكيم، وموقف أهل السنة والجماعة من تلك الحروب، وعن استشهاد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
المشروع الإصلاحي للحسن بن علي :
ثم ينتقل المؤلف – حفظه الله - للحديث عن المشروع الإصلاحي الكبير في عهد الحسن بن علي والذي توّج بوحدة الأمة وذلك عندما تنازل الحسن بالخلافة، وتطرق المؤلف إلى فقه مقاصد الشريعة وفقه المصالح والمفاسد الذي تميز به الحسن بن علي والذي بنى عليه مشروعه الإصلاحي العظيم والذي ترتب عليه دخول الأمة الإسلامية في مراحل جديدة تمّ فيها بيعة معاوية رضي الله عنه من كافة الصحابة الأحياء وأبناء الأمة، كما تحدث المؤلف عن عاصمة الدولة الأموية وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في فضائل أهل الشام، وعن أهل الحل والعقد في عهد معاوية رضي الله عنه، وعن الشورى، وحرية التعبير وعن سياسته الداخلية، من الإحسان إلى كبار الشخصيات من شيوخ الصحابة.
معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه :(/1)
تطرق المؤلف بعد ذلك إلى حياة سيدنا معاوية بن أبي سفيان وحرصه على مباشرة الأمور بنفسه وتوطين الأمن في خلافته، وعن الدواوين المركزية التابعة له، كديوان الرسائل، وديوان الخاتم، وديوان البريد، والحرس، والشرطة، وإتباعه سياسة الشدة واللين، وسياسة المنفعة المتبادلة بين بني أمية ورعيتهم، وعن اهتمامه بجهاز الاستخبارات، وبناء الجيش الإسلامي وتطويره وعن فقهه في سياسة الموازنات بين القبائل، والعشائر، وأعيان المجتمع وعن سياسته مع الأسرة الأموية، وعن حياته في المجتمع واهتماماته العلمية والتاريخية والشعرية واللغوية والعلوم التجريبية، وعلاقته بالخوارج، ووسائله في تحجيم دورهم وإضعافهم، والنظام المالي في عهده، ومصادر دخل الدولة، كالزكاة، والجزية، والخراج، والعشور، والصوافي، والغنائم، وعن النفقات العامة، كالنفقات العسكرية، والإدارية، والاجتماعية واهتمامه بالزراعة والتجارة الداخلية والخارجية، والحرف والصناعات، وعن القضاء ومصادر الأحكام القضائية في العهد الأموي، وعن مؤسسة الشرطة في عهد معاوية رضي الله عنه، وجهاز الحسبة، ونظام المراقبة.
حركة الفتوحات في عهد سيدنا معاوية رضي الله عنه :
ثم انتقل المؤلف – حفظه الله - بالحديث إلى حركة الفتوحات في عهد سيدنا معاوية، حيث قاد حركة الجهاد ضد الدولة البيزنطية فاستطاع أن يضيق الخناق على الدولة البيزنطية بالحملات المستمرة براً وبحراً وقد أرهق البيزنطيين وأذاقهم ألوان الضنك والخوف وأنزل بهم خسائر فادحة بالرغم من كل ذلك لم يستطع اقتحام القسطنطينية بسبب عوامل عديدة، ثم تحدث المؤلف عن دخول معاوية في علاقات سلمية مع الدولة البيزنطية وكيف تم تبادل المراسلات والخبرات، والسفراء فيما بين الدولتين الأموية والبيزنطية وكيف واصل سيدنا معاوية رضي الله عنه فتوحاته في الشمال الإفريقي، وبرز اسم عقبة بن نافع في تلك الفتوحات وقيامه ببناء مدينة القيروان بتونس اليوم وكان ذلك في عهد معاوية رضي الله عنه، وكيف أصبحت القيروان في تلك الفترة مركز الإشعاع الحضاري الإسلامي بالمغرب وعاصمتها العلمية، ثم تطرق المؤلف إلى فتوحات سيدنا معاوية في الجناح الشرقي للدولة الأموية في خراسان وسجستان وما وراء النهر.
فضائل الدولة الأموية :
يتحدث المؤلف – حفظه الله - هنا عن فضائل الدولة الأموية في عهد سيدنا معاوية وعبد الملك وبنيه الوليد وسليمان الفتوحات الواسعة التي تمت على أيديهم والتي امتدت ديار الإسلام نتيجة ذلك بين الصين في الشرق وبلاد الأندلس وجنوبي فرنسا في الغرب، حيث كان الخلفاء يرسلون أبناءهم إلى الجهاد ويشهدون القتال وكان الصحابة وكبار التابعين من ضمن تلك الجيوش، كما تحدث المؤلف أيضا في هذا الصدد عن الكيفية التي أشرفت بها الدولة على حركة الفتوحات الإسلامية وكيف تفاعل معها المجتمع الإسلامي بكافة ألوانه من العلماء والفقهاء والتجار والزهاد والعباد وكيف تحركت تلك الجيوش في المشارق والمغارب، ويقول المؤلف في هذا الصدد : " كان الفاتحون لتلك الشعوب المترامية الأطراف قد جاؤوها بالعدل والإحسان ومطالب الروح ومطالب البدن، وجاءوا إليهم بدين الإسلام الذي يقرّر الإنسانية بمعناها الصحيح في هذه الأرض لذلك كان الإسلام سريع المدخل إلى نفوسهم، لطيف التخلل في الأفكار، قوي التأثير على الألباب والعقول ".
ترشيح معاوية رضي الله عنه لأبنه يزيد :
ثم ينتقل المؤلف – حفظه الله - إلى الحديث عن فكرة ولاية العهد والخطوات التي اتبعها سيدنا معاوية رضي الله عنه لبيعة يزيد، واعتراض عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهم عن تلك البيعة وعن أسباب ترشيح معاوية لابنه يزيد، كالحفاظ على وحدة الأمة، وقوة العصبية القبلية، ومحبة معاوية لابنه وقناعته به، وعن الانتقادات التي وجهت لسيدنا معاوية بشأن البيعة ليزيد، وعن المآخذ على فكرة ولاية العهد في عهد معاوية وعن الأيام الأخيرة من حياته.
عهد يزيد بن معاوية واستشهاد الحسين بن علي رضي الله عنه :
كما تطرق المؤلف بعد حديثه عن عهد سيدنا معاوية، إلى الحديث عن عهد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان وأهم صفاته وبيعته وموقف الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير منها والأسباب التي أدت إلى خروج الحسين، وعزم الحسين على الذهاب إلى الكوفة ونصائح الصحابة والتابعين ورأيهم في ذهابه إليها، وعن أحداث معركة كربلاء واستشهاد الحسين بن علي، وعن وقعة الحرّة ودواعي فشل أهل المدينة في تلك المعركة، وعن حركة ابن الزبير في عهد يزيد، ومقاومته للحكم الأموي، وأسباب خروجه عليهم، وحصار الكعبة وضربها بالمنجينف واحتراقها ووفاة يزيد بن معاوية المفاجيء، وعن خلافة معاوية بن يزيد ومدة حكمه وتنازله عن الخلافة وتركه للأمر شورى.
خلافة عبد الله بن الزبير :(/2)
وفي هذا الصدد يتحدث المؤلف – حفظه الله - عن خلافة عبد الله بن الزبير، وشيء من سيرته وصفاته وبيعة الناس له بالخلافة، وعن خروج مروان بن عبد الحكم على ابن الزبير، ومعركة مرج راهط في حسم الصراع لصالح بني أمية، وعن ضم مصر للدولة الأموية، وعن تولي عبد الملك الزعامة الأموية بعد وفاة أبيه مروان وكيف استطاع القضاء على الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير، وعن أهم أسباب سقوط خلافة ابن الزبير، ثم عهد عبد الملك بن مروان، وصراعه مع الخوارج، ودور المهلب بن أبي صفرة في القضاء على الخوارج الأزارقة، وجهود عبد الملك في توحيد الدولة والقضاء على الثورات الداخلية، وعن النظام الإداري في عهده، وعن دوره في تعريب الدواوين، والخطوط العامة لسياسته في إدارة شؤون الدولة، كالمشاورة، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب ومتابعة أخبار والولاة، وحفظ التوازن القبلي، وتسامحه مع أهل الكتاب واحترام وتقدير الشخصيات البارزة في المجتمع، كما وترجم المؤلف – حفظه الله - لأهم ولاة عبد الملك كالحجّاج بن يوسف الثقفي، والنظام المالي في عهده، ودور عبد الملك في إحداث دور ضرب العملة، وتعريب النقد، والفتوحات في عهده وعهد ولديه الوليد وسليمان، ثم تحدث المؤلف عن عقد عبد الملك لولاية العهد ثم لأبنه الوليد ثم سليمان وموقف العالم الجليل سعيد بن المسيب من ذلك وما تعرض له من الابتلاء بسبب ذلك، ثم تحدث المؤلف – حفظه الله- عن وصية عبد الملك لابنه الوليد عند موته ووصيته لبنيه ثم عهد الوليد بن عبد الملك وعهد سليمان بن عبد الملك وعن سياسته العامة، ومفهوم الشورى عنده وسياسته في اختيار الولاة وعلاقته بالعلماء وتقريبه لعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة.
الإصلاحي والمجدد الكبير عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:
تحدث المؤلف في هذا الباب بإسهاب كبير عن عهد الإصلاحي الكبير والمجدد الشهير عمر بن عبد العزيز، فأسهب في الحديث عن حياته وسيرته وطلبه للعلم وعن أهم أعماله في عهد الوليد وسليمان وعن خلافته وبيعته ومنهجه في إدارة الدولة، واهتمامه بالشورى والعدل وسياسته في رد المظالم وعزله لجميع الولاة الظالمين، ورفع المظالم عن الموالي وأهل الذمة وإقامة العدل لأهل سمرقند وعن الحريات في دولته، كالحرية الفكرية والعقدية والسياسية والشخصية، وحرية التجارة والكسب، ثم تطرق المؤلف- رحمه الله - إلى أهم صفات الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، كشدة خوفه من الله تعالى، وزهده، وتواضعه وورعه، وحلمه وصفحه وعفوه، وصبره، وحزمه، وعدله وتضرعه ودعاؤه واستجابة الله له، كما تحدث المؤلف أيضا عن معالم التجديد عند عمر بن عبد العزيز، كالشورى، والأمانة في الحكم وتوكيل الأمناء، وإحياؤه مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومبدأ العدل، ثم تحدث المؤلف عن شروط المجدد، كأن يكون معروفاً بصفاء العقيدة وسلامة المنهج وأن يكون عالماً مجتهداً، وأن يشمل تجديده ميدان الفكر والسلوك وأن يعم نفعه أهل زمانه، ثم تحدث المؤلف عن موقف عمر ابن عبد العزيز من الصحابة والخلاف بينهم وموقفه من أهل البيت، وعن حياته الاجتماعية، واهتمامه بأولاده وأسرته ومنهجه في تربيته لأولاده كاختيار المعلم والمؤدب الصالح، وتحديد المنهج العلمي وتحديد طريقة التأديب والتعليم، كما أفرد المؤلف – حفظه الله - مبحثاً كاملا لإصلاحاته المالية وسياسته الحكيمة في ذلك وحرصه على ترسيخ قيم الحق والعدل ورفع الظلم.
بداية الانهيار والانحدار للدولة الأموية :
في هذا الباب تحدث المؤلف – حفظه الله - عن عهد يزيد بن عبد الملك وهشام، وعهد الوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد، وإبراهيم بن الوليد، واعتبر المؤلف وفاة هشام، بداية الانحدار والضعف للدولة الأموية، ثم تعرض المؤلف للدعوة العباسية وجذورها التاريخية ومشروعها الذي قدمته لأتباعها في المرحلة السرية والعلنية، وهيكلها التنظيمي والبعد التخطيطي وقراءة الواقع عند زعمائها، وفقهها الحركي المستمد من ابن عباس ومتى أعلنت الثورة العباسية، كما تحدث المؤلف عن الخليفة الأموي الأخير مروان بن محمد وجهوده في القضاء على الثورات التي اندلعت في عهده، وعن انتصار العباسيين على الأمويين في معركة الزاب، ثم أفرد المؤلف مبحثاً مستقلا لأسباب سقوط الدولة الأموية وناقشها من خلال سنن الله في حركة المجتمعات وبناء الدول وسقوطها.
خاتمة :
في نهاية الكتاب قام المؤلف – حفظه الله - بدراسة علمية دقيقة لبعض الكتب التي ساهمت في تشويه تاريخ صدر الإسلام كالإمامية والسياسة المنسوب زوراً لابن قتيبة، وكتاب الأغاني للأصفهاني وتاريخ اليعقوبي، ومروج الذهب للمسعودي، كما حذر المؤلف – حفظه الله - من بعض المستشرقين ومن حذا حذوهم وسار على نهجهم، الذين عملوا على تشويه التاريخ الإسلامي وطمس حقائقه الجلية والناصعة.
ahmed37@hotmail.com(/3)
* الاسم الكامل للكتاب : (الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار)، وقد قمت مستعينا بما ورد في مقدمة المؤلف بعرض وتلخيص أهم ما أشتمل عليه هذا الكتاب من أبواب وفصول ومباحث ومواضيع حرصا مني على أن يطلع القارئ الكريم على هذا الكتاب القيم الذي بذل فيه المؤلف كعادته جهدا كبيرا ومتميزا، إذ يتعذر بطبيعة الحال عرض جميع أجزاء الكتاب الذي يبلغ عدد صفحاته (782) صفحة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار ضرورة أن يبتعد التلخيص عن الإسهاب الممل والاختصار والمخل.
** هو الشيخ علي محمد الصَّلاَّبيِّ ولد في مدينة بنغازي عام 1963م، حصل على درجة الإجازة العالية (الليسانس) من كلية الدعوة وأصول الدين من جامعة المدينة المنورة بتقدير ممتاز وكان الأول على دفعته عام 1992/1993م، نال درجة الماجستير من جامعة أم درمان الإسلامية كلية أصول الدين قسم التفسير وعلوم القرآن عام 1417هـ/1996م، نال درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية بمؤلفه فقه التمكين في القرآن الكريم من جامعة أم درمان الإسلامية بالسودان عام 1999م، صدرت له كتب عديدة تصل إلى 21 مؤلفا هي:
الوسطية في القرآن الكريم، صفحات من تاريخ ليبيا الإسلامي والشمال الإفريقي، الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، فاتح القسطنطينية السلطان محمد الفاتح، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، الدولة العبيدية (الفاطمية)، الحركة السنوسية في ليبيا، صفحات من تاريخ ليبيا الإسلامي والشمال الأفريقي، فقه التمكين في القرآن الكريم، العقيدة السلفية في صفات رب البرية، فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة، الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبي بكر الصديق، فصل الخطاب في سيرة عمر بن الخطاب، تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان، أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب، سيرة أمير المؤمنين خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي بن أبي طالب، معاوية بن أبي سفيان شخصيته وعصره، عمر بن عبد العزيز معالم التجديد والإصلاح الراشدي على منهاج النبوة.(/4)
الطهارة من الحدث الأكبر لقراءة القرأن غيباً
السؤال :
هل تجب الطهارة من الحَدَث الأكبر لقراءة القرآن الكريم غيباً عن ظهر قلب ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
لا تجب الطهارة لقراءة القرآن الكريم عن ظهر قلب ، لعموم الأدلّة باستثناء الجنابة ، فإنّ رَفعها واجب قبل القراءة .
روى أحمد و الحُمَيدي كلٌّ في مسنده و أبو داود و النسائي كلٌّ في سننه عن عبد الله بن سلِمة ( بكسر اللام ) قال : أتيت علياً أنا و رجلان ، فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرأ القرآن و يأكل معنا اللحم و لم يكن يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة . قال الخطابي : معناه غير الجنابة .
و روى هذا الحديث أبو ماجة و الترمذي مختصراً بنحوه . و اختُلفَ في إسناده فضعَّفَه بعض أهل العلم ، و صححه الترمذي و ابن حبّان ، و قال ابن حجر في ( الفتح ) : ( الحق أنه من قبيل الحَسَن يصلح للحجة ) ، و هذا هو الظاهر ، و الله أعلم .
جاء في ( عون المعبود ) : و الحديث يدل على جواز القراءة للمحدث بالحدث الأصغر و هو مجمع عليه لم نر فيه خلافا ، و على عدم الجواز للجنب ... قال الخطابي : في الحديث من الفقه أن الجنب لا يقرأ القرآن و كذلك الحائض لا تقرأ لأن حدثها أغلظ من حدث الجنابة . و قال مالك في الجنب إنه لا يقرأ الآية و نحوها , و قد حكي أنه قال تقرأ الحائض و لا يقرأ الجنب لأن الحائض إن لم تقرأ نسيت القرآن لأن أيام الحيض تتطاول و مدة الجنابة لا تطول ، و روي عن ابن المسيب و عكرمة أنهما كانا لا يريان بأسا بقراءة الجنب القرآن و أكثر العلماء على تحريمه. اهـ .
قلتُ : و ذهاب بعض العلماء إلى قياس الحيض و النفاس على الجنابة في الحكم ، و حظْرِهم على المتلبّسة بهما قراءة القرآن الكريم ، غير مسلّم ، بل الظاهر أنّ حكمهما مختلف لوجود الفارق بين الحالتين ، إذ يُفرَّقُ بين الجنابة و بين الحدث الأكبر الحاصل بالحيض و النفاس ، بكون رفع الجنابة مقدوراً عليه في كلّ وقت ، بخلاف ما يعرِض للمرأة من شئون النساء التي لا ترتفع إلا لأجل الله أعلم به .
و لِمَا ثبت في الصحيحين ، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لعائشة لما حاضت في الحج : ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري ) و معلوم أنّ الحاج يقرأ القرآن ، و لم يستثنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فدل ذلك على جواز القراءة لها ، و قال مثل ذلك لأسماء بنت عميس لمّا ولدت محمد بن أبي بكر في الميقات في حجة الوداع ، فدل هذا على أن الحائض والنفساء لهما قراءة القرآن ، لكن من غير مسٍ للمصحف .(/1)
الطيبون للطيبات
قال عبد من عباد الله الصالحين وإسمه ثابت بن ابراهيم:
ذات يوم بينما كنت أمر بإحدى شوارع الكوفة بالعراق فرايت حديقة اسقطت تفاحة وكان الجوع قد اشتد بي فاخدتها واكلت نصفها وتذكرت انها ليست حلال لي فأخذت نصفها الآخر وذهبت إلى البستاني أقول له: أرجوا أن تسامحني فيما أكلت وهذا النصف الآخر فخده
فقال لي البستاني: أنها ليست ملكي وأنا لا أملك السماح
قلت له : ملك من؟
فقال لي: إن صاحبها بينه وبينك مسيرة يوم وليلة
قال ثابت: سرت على قدميا حتى بلغت بيت صاحب الحديقة فطرقت الباب وألقيت عليه السلام وجلست معه وقصصت عليه الحدث فقال لي: لا أسامحك إلا بشرط
قلت: فما هو الشرط؟
قال: أن تتزوج إبنتي
قلت: سبحان الله أكل نصف تفاحة وأتزوج
ثم قال لي الرجل: وقبل أن تتزوجها فإنني أحيطك علما أن إبنتي صماء، بكماء، عمياء، مقعدة
قلت: لا إله إلا الله وإذا لم أتزوجها لا أنال سماح؟
قال: لا سماح إلا إذا تزوجتها
قلت: أحضر شاهدين وقد تزوجتها على بركة الله ورسوله أقوم على خدمتها وأسافر فيها مع الله
وتم عقد الزواج وجاء الرجل بإبنته وأدخلها حجرة ثم قال لي:يافولان أدخل عليها بارك الله لكما في ليلتكما
ولما فتحت الباب عليها دخلت وأنا أتوقع حدث جسيما، بكماء، صماء، عمياء، مقعدة
دخلت وأنا أقول: حسبي الله ونعم الوكيل
فلما دخلت ألقيت عليهاالسلام وأنا أعلم أنها صماء لا تسمع قلت إذا لم تسمع فإن الملائكة سترد عليّ السلام
فلما ألقيت عليها السلام قامت واقفة وردت عليّ السلام
قال: فنظرت إليها فوجدتها قطعة قمر
سألتها: أخبريني يرحمك الله لماذا كذب أبوكِ عليّ
قالت: والله ماكذب أبي
لقد قال لك إنني عمياء، نعم أنا عمياء عن النظر إلى ماحرم الله
صماء، لا أسمع مايغضب الله
بكماء، لا أقول ما يغضب الله
مقعدة، لاأمشي بقدميا إلا إلى بيت الله رب العالمين
ودخل بها ثابت بن ابراهيم وأنجب منها مولودا ملأ طباق الأرض علما
أنجب منها رجلا إجتهد في إثنتين وثمانين ألف مسألة في شريعة الإسلام
أنجب منها رجلا ضل خمسين عاما يصلي الفجر بوضوء العشاء
أنجب منها الإمام أبا حنيفة النعمان بن ثابت
وأعتقد أن إمامنا الجليل صاحب المذهب الحنفي غني عن التعريف تجف الاقلام إذ ذكرت سيرته العطرة
فسبحان الله الأرض الطيبة يخرج نباتها بإذن ربها طيب
صدق الله تعالى حين قال: الطيبون لطيبات.
لله ذر هذا الأب الذي لم يفكر لحظة واحدة في المال أو النسب أو السلطة
ولكن صدّق قول أصدق البشر صلى الله عليه وسلم حين قال:اذ جاءكم من ترضون دينه فزوجوه.
فمذ متى تقاس الرجال بالمال والجاه ؟؟؟ الرجل دين وأدب وخلق وأمانة وعلم
قال أبو ناصر السعدي:
لا يعجبنك أثواب على رجل ***** دع عنك أثوابه وأنظر إلى الأدب
العود لو لم تفح منه روائحه ***** لم يفرق الناس بين العود والحطب
وليس يسود المرأ إلا نفسه ***** وان عد آباء كراما ذوي حسب
فلله ذر هذا الأب الذي عرف أن الحياة ليست مالا ولا جاها وإنما السعادة أن نحيا لله ونحب في الله ونبتغي الحياة في مرضات الله ونرجوا الموت في سبيل الله
لله ذر هذا الأب الذي زوج إبنته بأغلى مهر...مهر لا يفنى ولا يزول
أناس فقهت الحياة فعرفت كيف تعيشها
فهنيئا لهم بحياة أخرى احلى واجمل حيث العين الجارية و السرر المرفوعة والأكواب الموضوعة والنمارق المصفوفة والزرابية المبثوثة.(/1)
الظاهرة الإنسانية والمنهج الغربي
15-6-2006
بقلم عبدالله بن محمد السهلي
"...تقدّمُ الغربِ في العلوم الطبيعية سائغ لتعاملهم مع الجماد والآلة المتحررة من الثقافة والفكر، خلافاً للظاهرة الإنسانية التي هي نسيج مترابط من الجوانب النفسية والعقدية والاجتماعية..."
إن المتأمل في الفكر الغربي المعاصر فيما يتعلق بالنتاج البشري في العلوم الاجتماعية والإنسانية يجد أنها وإن حققت شيئاً من النجاحات على أرض الواقع بالنسبة لمجتمعاتهم الغربية ، إلا أن ثمة إشكالاً كبيراً في نقلها إلى المجتمعات الإسلامية والعربية ، ويمكن إجماله في علاقة الأصول الفلسفية للعلوم بنتائجها وتطبيقاتها في شتى مجالات العلوم الإنسانية التربوية والإدارية والاقتصادية .
إذ لا يمكن بحال الفصل بين النظرية والتطبيق لأن الأخير ماهو إلا شجرة تمتد بجذورها في أعماق النظرية . وإن هذا الأمر بالذات غائب أو مغيب عند كثير من المفكرين والتربويين والاقتصاديين ولذا لابد من تقريره كمقدمة لهذه المقالة .
ومن خلالها يمكن أن نتعرف على أسباب كثير من الجدل حول أهلية بعض العلوم الوافدة في مثل ما يسمى بالبرمجة اللغوية العصبية ، أو غيرها من التطبيقات التربوية التي أكلنا وشربنا عليها ردحاً من الدهر ، خذ على سبيل المثال البرجماتية الأمريكية وتأمل الطرح التربوي في العالم الإسلامي والعربي تجد ما هو إلا صدى لتطبيقاتها بل تجاوز هذا مجال التربية إلى الاقتصاد والأدب والإدارة .
ولعل من أبرز إشكالاتنا وجدلنا بل ومعالجتنا لكثير من مشاكل المجتمع أننا نقع في فخ مناقشة التطبيقات أوالظواهر في المشكلات ، ونغفل ونتجاهل - بل نجهل بمعنى أدق - معالجة ومناقشة الأصول سواء في الجدل حول أهلية العلوم أو معالجة مشكلاتنا المعاصرة ، فتجدنا نتناول الظواهر والتطبيقات لتتفرع بنا الأمور وتأخذنا بنيات الطريق وإن وجدنا علاج فهو كالمهدئات اليسيرة للحرارة أو الصداع الذي يشكو منه مريض السرطان ، إننا مالم نصل إلى أس المشكلة وجذورها فلا تنتظر قطع أو استئصال ظواهرها .
ولذا لابد من تقرير أمور متعلقة بالنتاج البشري الغربي سيما في المجالات الإنسانية الاجتماعية وهو أن الغرب المتمثل في أوربا وأمريكا مر بثلاث حلقات متعاقبة زمانياً ، الحلقة الأولى هي سيادة النص الشرعي - الوحي - وهذا هو الأصل وفيها جاءت النصرانية كديانة مؤقتة ليست خالدة ، ولأن الله عز وجل لم يقدر لها الخلود لم يقدر لها الحفظ ، وكل الرسالات قبل الإسلام كانت محددة زماناً وأحياناً زماناً ومكاناً ، ولكن النصارى أرادوا لها الخلود وأن تحكم النصرانية الحياة في الوقت الذي لم تكن مؤهلة لذلك ولم يكن السقف المعرفي لرجالات الدين النصرانى سوى اجتهادات بشرية صرفة صادمت بها العلماء واختلفت مع المفكرين سيما علماء الطبيعة .
ثم ظهرت الثورة الفرنسية وأعقبها التقدم الملحوظ في جوانب العلوم الطبيعية مما أدى إلى دخول أوربا باستثناء المجمعات الكنسية إلى دخول في حلقة ضياع النص ، حيث فرخت وعششت العلمانية اللادينية كردة فعل لهيمنة الكنيسة وانزلقت المجتمعات الغربية في مستنقع الرذيلة والانحلال في الجانب الأخلاقي . أما الجانب القيمي العقدي فقد سرت فيه موجة الإلحاد .
يقول العالم الألماني نتشه : "لقد آن للإنسان أن يفعل كل شيء لقد مات الإله ووجد السوبرمان" .
بعد هذا الفراغ العقدي في حلقة ضياع النص، دخلت أوربا و الغرب بشكل عام في حلقة تلمس البدائل في نسقٍ علماني ، وازدهرت الفلسفات الوضعية التي تحاول الإجابة عن الأسئلة والقضايا الكبرى في ظل تغييب وإقصاء الدين عن المساهمة في صياغة فلسفة الوجود ، جاءت هذه الفلسفات بتعاقب زمني كل فلسفة ردة فعل لما سبقها { كلما دخلت أمة لعنت أختها } ، هذه اللادينية التي فصلت الدين عن الحياة أدت إلى انطلاق العلماء والمفكرين بدون قيود وبدون ضوابط في جميع الميادين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ولذا يمكن القول إن هذه العلوم خرجت من عباءة الفلسفة .
نتيجة لهذا الأمر تسارع إيقاع التغييرات الاجتماعية والاقتصادية على شكل الحياة المدنية بصورة فيها جوانب إيجابية فيما يتعلق بالعلوم الطبيعية صاحبها تقدم مضطرد للدول الغربية مما جعل الغرب برمته يربط بين التقدم في العلوم الطبيعية وبين العلمانية ممتطياً في ذلك الفلسفة الوضعية الطبيعية التي تتبنى حتمية قوانين الكون وجبرية العالم ، وما العلم - في نظرها - إلا أداة لكشف هذه القوانين وتفسيرها ومن ثم التحكم بها ، سواء في ذلك العلوم الطبيعية أو الإنسانية .(/1)
وتقدّمُ الغربِ في العلوم الطبيعية سائغ لتعاملهم مع الجماد والآلة المتحررة من الثقافة والفكر، خلافاً للظاهرة الإنسانية التي هي نسيج مترابط من الجوانب النفسية والعقدية والاجتماعية والتي حاول فيها الغرب تطبيق المنهج التجريبي التحليلي الذي لا يفرق بين الإنسان والآلة يزعمون فيه القدرة على ضبط المتغيرات وتحييدها وإخضاع الإنسان للتجربة - متجرداً من كرامته - والخروج بالنتائج وتفسيرها ومن ثم التنبؤ والتحكم به وبمعنى أدق السيطرة على الإنسان .
هذه المنهجية الغربية في العلوم الإنسانية تم نقلها بحذافيرها إلى العالم الإسلامي والغربي وما زال الأكاديميون التربويون منذ ما يزيد على عقدين يلوكونها ويجترون منهجيتها وتمتشق في التنظير لها الأقلام وتسّود الصحف دون أدنى نظرأوتفكير !!
لقد أصاب محمد إقبال كبد الحقيقة عندما قال :
أرى التفكير أدركه خمولٌ ... ولم تعد العزائمُ في اشتعالِ
ومن أدرك هذه الحقيقة من الأكاديميين جانب الصواب في تلمس الحلول لها سيما فيما يسمى بأسلمة العلوم التي يكون فيها الأساس المنهج الغربي وغاية عملهم أن هذا لدينا في الإسلام !! وهذا جاء به القرآن ! ثم تلوا أعناق النصوص لتتعانق أقوال ديكارت وسارتر مع أقوال السلف زعموا . وصرنا مع هؤلاء الأكاديميين التربويين بين أمرين أحلاهما مر بين صنفٍ مغفل يجتر ما تلقاه على موائد الغرب وصنفٍ عرف الداء وأخطأ الدواء ليصدق في هذين الصنفين قول الأول :
إن كنت لا تدرِ فتلك مصيبةٌ ... وكنت تدري فالمصيبةُ أعظ(/2)
الظل
لا زلنا أخي الحبيب في رحلتنا مع الجنة ولا زلنا في أولها.
نحن الآن في الجنة بعد الدخول من الباب ثم نظرنا حولنا فوجدنا بريقاً عظيماً, فإذا هو بريق البيوت المبنية من الذهب والفضة, مضافاً إليه بريق أرض الجنة المفروشة باللؤلؤ والياقوت والمرجان, كل هذا يلمع تحت نور وجه الله عز وجل.
ثم يلفت انتباهنا ظلاً عظيماً لا ترى آخره .....
أتعرف ما هو هذا الظل ؟؟
إنه ظل شجرة أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: [[إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها]], وفي رواية: [[ الركب الجواد المضمر السريع ]]
أنا أتخيل منظرها البديع ونور وجه الرحمن يتخلل بين أوراقها ليسقط على الأرض كخيوط من الأشعة فيعطي شكلاً بديعاً كذلك الظل الكبير لا سيما عند انعكاسه على ساق الشجرة الذي يلمع تحت هذا الضوء المبهر.
أتعرف لماذا يلمع ساق الشجرة ؟؟
لأنه من الذهب الخالص.
قال صلى الله عليه وسلم: [[ ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب ]]
كما أن هذه الأشجار العظيمة ممتلئة من آخرها بالثمار اللذيذة التي تشبه ثمار الدنيا في الشكل فقط ولا تشبهها في الطعم ولا في الرائحة يقول تعالى [ كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون ]
والمفاجأة أخي الحبيب أن هذه الثمار لا تبذل أي جهد لكي تأخذها من على الشجرة فيكفي أن تمد يديك إليها فينزل إليك الغصن إلى مكانك ثم تنقطع الثمرة وتسقط في يديك لتأكل منها كيف تشاء .
يقول ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى [ ودانية عليها ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ]:
[إذا هم أن يتناول من ثمارها تدلت له حتى يتناول ما يريده].
وكما قلنا فطعمها ليس كطعم الثمار في الدنيا .
فأنت في الدنيا مهما بلغت درجة حبك لفاكهة معينة إذا أكلت منها أكثر من ثمرة بصورة متتالية ستصاب بالملل بالتأكيد, ولكن في الجنة مع كل قضمه تأكلها طعم مختلف ولذة أكثر .
كما أن كل ثمرة تسقط في يديك يخرج مكانها ثمرة في الحال, لأن ثمار الجنة لا تنتهي ولا تنضب أبداً .
أقرأ قوله تعالى [ وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ] .
ويقول تعالى أيضاً عن ثمار الجنة وأشجارها [ وفاكهة مما يشتهون ] وقال أيضاً [ وفاكهة مما يتخيرون ] .
إذا قدر الله لي ولك الدخول إليها بإذن الله تعالى قم بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام على مائدة من الفواكه من أشجارك الخاصة التي زرعتها في الدنيا وهنيئاً لك خير الضيوف.
ونختم أخي الحبيب جولتنا هذه المرة بموقف طريف حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أعرابي بسيط ولكن خفيف الظل.
فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يوماً يحدث وعنده رجل من البادية: [أن رجل من أهل الجنة أستأذن ربه في الزرع فقال له أولست فيما شئت؟ قال بلى! ولكن أحب أن أزرع.
فبذر فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده مثل الجبال فيقول الله: دونك يا بن آدم فإنه لا يشبعك شيء] فقال الأعرابي: والله لا تجده إلا قرشياً أو أنصارياً, فإنهم أصحاب زرع, وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع, فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ] [ صحيح البخاري ]
وقبل أن نختم أخي الحبيب نأتي إلى أهم جزء في حديثنا؛ وهو كيف أحصل على كل هذه الأشجار والثمار في الجنة؟
الجواب سهل وبسيط:
اقرأ معي هذه الأحاديث ….
[ من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة ]
[لقيت ابراهيم عليه السلام ليلة أسري بي فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام, وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة, عذبة الماء, وأنها قيعان، غراسها: سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر ]
فإذا أردت نخلاً كثيراً وثماراً أكثر؛ فأكثر من هذه الأذكار التي ذكرناها.
وإلى لقاء آخر في رحلتنا المباركة إلى جنة رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/1)
الظلم ظلمات يوم القيامة
دار القاسم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإن ظاهرةً انتشرت في بعض الناس ذكرها القرآن الكريم والسنة النبوبة المطهرة، إما على سبيل الذم، أو على سبيل بيان سوء عاقبة من فعلها.
إنها ظاهرة الظلم، وما أدراك ما الظلم، الذي حرمه الله - سبحانه وتعالى- على نفسه وحرمه على الناس، فقال سبحانه وتعالى فيما رواه رسول الله عليه وسلم في الحديث القدسي: ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا ) [ رواه مسلم] .
وعن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ( :اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) [ رواء مسلم] .
والظلم: هو وضع الشيء في غير محله باتفاق أئمة اللغة.
وهو ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ظلم الإنسان لربه، وذلك بكفره بالله تعالى، قال تعالى: ? وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون ?[ البقرة:254] . ويكون بالشرك في عبادته وذلك بصرف بعض عبادته لغيره سبحانه وتعالى، قال عز وجل: ? إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ?[ لقمان:13]
النوع الثاني: ظلم الإنسان نفسه، وذلك باتباع الشهوات وإهمال الواجبات، وتلويث نفسه بآثار أنواع الذنوب والجرائم والسيئات، من معاصٍ لله ورسوله. قال جل شأنه: ? وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ?[ النحل:33]
النوع الثالث: ظلم الإنسان لغيره من عباد الله ومخلوقاته، وذلك بأكل أموال الناس بالباطل، وظلمهم بالضرب والشتم والتعدي والاستطالة على الضعفاء، والظلم يقع غالباً بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار.
صور من ظلم الإنسان لغيره من عباد الله ومخلوقاته:
غصب الأرض: عن عائشة - رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ( من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أراضين) [ متفق عليه] .
مماطلة من له عليه حق: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ : ( مطل الغني ظلم )[ متفق عليه] .
منع أجر الأجير: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ( قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة...،...، ورجل أستأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره )[ رواه البخاري] .
وأذكر هنا قصة ذكرها أحد المشايخ في كلمة له في أحد المساجد بمكة، قال: « كان رجل يعمل عند كفيله فلم يعطه راتب الشهر الأول والثاني والثالث، وهو يتردد إليه ويلح وأنه في حاجة إلى النقود، وله والدان وزوجة وأبناء في بلده وأنهم في حاجة ماسة، فلم يستجب له وكأن في أذنيه وقراً- والعياذ بالله- فقال له المظلوم: حسبي الله بيني وبينك، والله سأدعو عليك، فقال له: اذهب وادعو علي عند الكعبة.(/1)
الظلم حقيقته والتحذير منه
الصفحة 1 لـ 2
الحلقة الأولى
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه ، وبعد : فإن الناظر اليوم في أكثر بلدان المسلمين وأحوالهم ليحزنه ما ظهر في هذا الزمان من نبذ لشريعة الله عز وجل وتحاكم إلى القوانين الوضعية التي تقنن الظلم وتهدر قيمة الإنسان ، وتحطم القيم والأخلاق وتجعل الناس مستعبدين لحفنة من شياطين الإنس الذين كرهوا ما أنزل الله تعالى فظلموا وبغوا في الأرض بغير الحق ، وكثرت من جراء ذلك المظالم بين الناس ؛ حيث لا رادع من دين ولا سلطان ، وبغى الناس بعضهم على بعض وامتلأت المحاكم ودور القضاء من خصومات الناس ومظالمهم . ولم يقف هذا الداء العضال عند عامة المسلمين وسلاطينهم فحسب ، بل تعداهم إلى بعض أهل الخير والدعوة فيهم ، فظهرت صور من البغي والظلم بين بعض الدعاة والصّلاّح ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وفي هذه الدراسة إن شاء الله تعالى ذكرٌ لبعض صور الظلم الشائعة في هذا الزمان ؛ لعل في ذكرها نصيحة وعظة لنفسي وإخواني المسلمين .
وأبدأ الموضوع بمقدمة مهمة تتضمن تعريف الظلم وحقيقته وما ورد في ذمه من بعض الآيات والأحاديث والآثار .
كما تتضمن بيان أقسام الظلم وما يتفرع عن كل قسم من بعض الصور والمظاهر .
تعريف الظلم وحقيقته :
(( الظلم عند أهل اللغة وكثير من العلماء : وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة وإما بعدول عن وقته أو مكانه ، ومن هذا يقال : ظلمت السقاءَ ، إذا تناولته في غير وقته ويسمى ذلك اللبن ظليماً . وظلمت الأرض : حفرتها ولم تكن موضعاً للحفر ، وتلك الأرض يقال لها : المظلومة ، والتراب الذي يخرج منها ظليم) (1)اهـ .
وفي القاموس المحيط : ( الظلم بالضم : وضع الشيء في غير موضعه ) (2)
وفي ضوء هذه التعريفات يتبين لنا أن كل ذنب عُصي الله به سواء كان ذلك الذنب شركاً بالله عز وجل أو دون ذلك من سائر المعاصي ومظالم العباد ، داخل في مسمى الظلم ؛ لأنه وضع للشيء في غير موضعه الذي يرضاه الله عز وجل مع التفريق بين ظلم أكبر وظلم دون ظلم ؛ كما سيتبين في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى .
والظلم مصدر ظَلَمَ ، والذي يفهم من لفظ الظلم وجود ظالم صدر منه الظلم ، ومظلوم وقع عليه الظلم ، فمن هو الظالم ومن هو المظلوم في ضوء الكتاب والسنة ؟
إنه هذا الإنسان المسكين ؛ فهو الظالم والمظلوم ؛ حيث ظلم نفسه وأوبقها ، وظلم عباد الله عز وجل فأساء إليهم وأساء إلى نفسه وظلمها بما يعرضها له من العقوبات في الدنيا والآخرة .قال الله عز وجل : (( وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أََنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )) [البقرة : 57] .
وقال سبحانه : (( سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ )) [الأعراف : 177] .
وقال تعالى : (( إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) [يونس : 44] .
والآيات الواردة في ذم الظلم وأهله كثيرة جداً ومتنوعة ، ويمكن تقسيمها إلى
المجموعات الآتية :
1- ما ورد في وصف الشرك والكفر بالظلم والمشركين والكافرين بالظالمين
ومنها قوله تعالى : (( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان : 13] وقوله تعالى : (( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) [البقرة : 254] .
2- ما ورد في ذكر خيبة الظالمين ومقت الله لهم وعدم هدايتهم وتوفيقهم يقول
تعالى : ((إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ )) [الأنعام : 21] , (( فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ))[المؤمنون : 41] .
3- ما ورد في ذكر إهلاك الله تعالى للظالمين في الدنيا وما أعده لهم من النكال والعذاب في الآخرة . يقول تعالى : (( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ )) [هود : 102] .
وقوله تعالى : (( وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ )) [سبأ : 42] .
4- ما ورد في وصف ما دون الشرك من المعاصي بالظلم سواء ما كان منها بين العبد وربه أو ما كان ظلماً للعباد ومنها قوله تعالى : (( وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)) [الطلاق : 1] .
وقوله تعالى : (( إنَّ الَذِينَ يَاًكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إنَّمَا يَاًكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً )) [النساء : 10] .
5- ما ورد في تنزيه الله تعالى نفسه عن الظلم ، وأمره سبحانه بالعدل ، ومحبته للمقسطين يقول تعالى : (( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ)) [غافر : 31] ، وقوله تعالى : (( وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ)) [الحجرات : 9] .
أما الأحاديث الواردة في ذم الظلم وسوء عاقبة الظالمين فكثيرة جداً أقتصر(/1)
منها هنا على بعض الأحاديث التي وردت في ذم الظلم وسوء عاقبة الظالمين بعامة .ويلاحظ أن معظم هذه الأحاديث كانت تتوجه إلى صورة واحدة من صور الظلم ألا وهو ظلم العباد والاعتداء على حقوقهم .
ومن هذه الأحاديث العامة ما يلي :
الحديث الأول:
عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- : قال الله تبارك وتعالى : (( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرماً ؛ فلا تظالموا ... )) الحديث القدسي (3) وكان أبو إدريس الخولاني رحمه الله تعالى إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه.
الحديث الثاني :
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)) (4).
الحديث الثالث :
عن أبي معبد مولى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال : (( ... واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب)) (5) .
الحديث الرابع :
عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ : (( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ )) [ هود : 102] (7) .
وبعد هذه الأحاديث أذكر جملة من مواقف السلف رحمهم الله تعالى من الظلم ، وخوفهم الشديد من سوء عاقبته في الدنيا والآخرة :
* قال الواقدي : حدثني أبو بكر بن أبي سَبْرة ، عن عبد المجيد بن سُهيل ، عن عوف بن الحارث : سمعت عائشة تقول : دعتني أم حبيبة عند موتها ، فقالت : قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر ، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك ، فقلت : غفر الله لك كله وحلّلك الله من ذلك ، فقالت : سررتِني سرك الله . وأرسلت إلى أم سلمة ، فقالت : لها مثل ذلك (8) .
* وعن أبي الدر داء قال : (( إياك ودعوات المظلوم ؛ فإنهن يصعدن إلى الله كأنهن شرارات من نار)) (9) .
* وقال ميمون بن مهران : (( الظالم والمعين على الظلم والمحب له سواء)) (10) .
* وقال الشافعي رحمه الله تعالى : ( بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد) (11) .
أقسام الظلم :
يتفاوت الظلم من حيث شدته وعظمه وشناعته ومن حيث الجهة التي وقع عليها ، مع أن من صدر منه الظلم هو في حقيقته ما ظلم إلا نفسه ؛ لأنه أوبق نفسه بظلمه لها بالمعاصي ومظالم العباد .
وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم- حديث اختلف العلماء في صحته ؛ فمنهم من ضعفه ومنهم من صححه ، لكنه يُستأنس به في هذا المجال وبخاصة أنه صحيح المعنى ، وقد اعتمده كثير من السلف في ذكر أنواع الظلم وصوره . ونص الحديث : عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : (( الظلم ثلاثة : فظلم لا يغفره الله ، وظلم يغفره ، وظلم لا يتركه ؛ فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك ، قال الله : (( إن الشرك لظلم عظيم )) ، وأما الظلم الذي يغفره فظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم ، وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم بعضاً حتى يدير لبعضهم من بعض)) (12)
وفي ضوء هذا الحديث وما ذكره العلماء حول أنواع الظلم فإنه يمكن تقسيم الظلم إلى قسمين كبيرين يندرج تحتهما أنواع الظلم الثلاثة المذكورة في الحديث ،
وهذان القسمان هما :
1- الظلم الأكبر: وهو ظلم العبد نفسه بالكفر والإشراك بالله عز وجل.
2- الظلم الأصغر: وهو ما دون الشرك، وهو نوعان:
(أ) ظلم النفس بالمعاصي فيما بينها وبين الله عز وجل.
(ب) ظلم النفس بمظالم العباد والتعدي على حقوقهم.
والكلام الآن حول هذه الأنواع الثلاثة :
1- ظلم النفس بالظلم الأعظم ؛ وهو الإشراك بالله عز وجل .
2- ظلم النفس بظلم العباد .
3- ظلم النفس بالمعاصي فيما بينها وبين ربها عز وجل . (13)
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (( والظلم عند الله عز وجل يوم القيامة له دواوين ثلاثة : ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك به ، فإن الله لا يغفر أن يشرك به ، وديوان لا يترك الله تعالى منه شيئاً ، وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً؛ فإن الله تعالى يستوفيه كله، وديوان لا يعبأ الله به ، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عز وجل فإن هذا الديوان أخف الدواوين وأسرعها محواً؛ فإنه يمحى بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ونحو ذلك، بخلاف ديوان الشرك ؛ فإنه لا يمحى إلا بالتوحيد ، وديوان المظالم لا يمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها واستحلالهم منها ، ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله عز وجل حرّم الجنة على أهله ، فلا تدخل الجنةَ نفسٌ مشركة ، وإنما يدخلها أهل التوحيد ؛ فإن التوحيد هو مفتاح بابها ، فمن لم يكن معه مفتاح لم يُفتح له بابها ، وكذلك إن أتى بمفتاح لا أسنان له لم يمكن الفتح به) (14)(/2)
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى : (( فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ )) [الأنعام : 81 ، 82] .
قال الله تعالى فاصلاً بين الفريقين : (( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا)) أي : يخلطوا (( إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)) الأمن من المخاوف ، والعذاب والشقاء، والهداية إلى الصراط المستقيم . فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقاً ، لا بشرك ، ولا بمعاصي ، حصل لهم الأمن التام ، والهداية التامة ، وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده ، ولكنهم يعملون السيئات ، حصل لهم أصل الهداية ، وأصل الأمن ، وإن لم يحصل لهم كمالها . ومفهوم الآية الكريمة : أن الذين لم يحصل لهم الأمران ، لم يحصل لهم هداية ، ولا أمن بل حظهم الضلال والشقاء) (15) .
والحاصل مما سبق أن من كان ظلمه من جنس الظلم الأعظم والذي هو الشرك بالله عز وجل والكفر به سبحانه ومات منه بلا توبة فقد خاب الخيبة الأبدية ، وحرم مغفرة الله عز وجل وجنته، ومأواه جهنم خالداً فيها وبئس مثوى الظالمين .ومن كان ظلمه دون ذلك فإنه يسلم من الخلود في النار بما معه من الإيمان .
ولكن إن كان ظلمه هذا متعلقاً بحقوق العباد ومات دون أن يرد الحقوق إلى أهلها فإن أمامه القصاص يوم القيامة بالحسنات والسيئات، وقد يتعرض بسبب ذلك للعذاب والتطهير.
وإن كان ظلمه لنفسه بمعاصي بينه وبين الله عز وجل ومات منها بلا توبة ، فإن كانت من الصغائر فإنها تكفرها الصلاة والقيام والحج وغيرها، إذا اجتنبت الكبائر وإن كانت من الكبائر فإن صاحبها تحت المشيئة إن شاء الله عاقبه بها ، وإن شاء عفا عنه بنحو الأسباب التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى (16) ومن ذا الذي يقطع بمغفرة الله عز وجل ؟ ومن ذا الذي يطيق ولو لحظة واحدة في نار جهنم ؟
وبعد هذه المقدمة عن الظلم وأقسامه نفصل القول إن شاء الله تعالى في ذكر جملة من الصور المختلفة لكل قسم من أقسام الظلم ، وبخاصة ما ظهر منها وشاع في زماننا اليوم لعلنا نحذرها أو نتخلص منها إن وجدنا أنفسنا قد تلبسنا بها .
الحلقة الثانية
تقدم الحديث في الحلقة السابقة عن الظلم وحقيقته ، وما ورد في ذمه وسوء عاقبته وعاقبة أهله من الآيات والأحاديث والآثار ، كما سبق التعرف على أقسامه الرئيسة . وفيهذه الحلقة سنتعرف إن شاء الله تعالى على بعض صور الظلم المختلفة لكل قسم ، وبخاصة ما يتعلق منها بمظالم العباد .
القسم الأول : ظلم النفس بالظلم الأعظم :
وهو الكفر بالله تعالى والإشراك به سبحانه : قال الله تعالى: (( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) [البقرة : 254] .
وقال عز وجل : (( إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )) [لقمان : 13] ، وهذا النوع من الظلم لا يغفره الله عز وجل لو مات صاحبه بلا توبة ، وهو مخلد في النار . وكونه أعظم الظلم ؛ لأنه وضعٌ للعبادة في غير موضعها، وصرفها عن الله عز وجل الخالق الرازق رب العالمين إلى مخلوق ضعيف لا يملك نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً .
ومن صور هذا الظلم العظيم ما يلي :
أ - الشرك في الربوبية : وهو اعتقاد أن غير الله عز وجل يخلق أو يرزق أو يدبر شيئاً في هذا الكون من دون الله عز وجل أو مع الله عز وجل تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً كشرك أهل التعطيل والفلاسفة ومن يقولون بقدم العالم ، وكشرك النصارى الذين يقولون : إن الله سبحانه ثالث ثلاثة، وكشرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة ... إلخ .
ب - الشرك في الألوهية :
وهو اعتقاد شريك لله تعالى في الإلهية والطاعة والعبادة ، وهو شرك الجاهليين في القديم والحديث ، وهذا النوع من الشرك له صور كثيرة لا تخرج في مجملها عن الأنواع الآتية :
* الشرك في العبادة والنسك :
ومنها الخوف والرجاء والنذر والذبح والركوع والسجود والدعاء، وغير ذلك مما يصرفه المشركون إلى أوليائهم من الأحياء والأموات .
* الشرك في الطاعة والإتباع :
قال الله تعالى : (( وَإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ )) [الأنعام : 121] .
وقال تعالى : (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ )) [التوبة : 31] .
وقد جاء في تفسير الآية أنهم أطاعوهم في تحليل ما حرم الله تعالى ، وتحريم ما أحل الله تعالى فكانوا بذلك متخذين أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله تعالى ، وأوضح مثال لذلك في زماننا ، ما يقوم به الطواغيت المشرعون من دون الله تعالى من وضع دساتير يظلمون بها عباد الله ويحكمون بها في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وفيها ما يضاد شرع الله عز وجل فمن رضي بها وأطاعهم فيها بعلم فقد أشرك ، واتخذهم أرباباً من دون الله عز وجل .(/3)
ج - الشرك في الولاية والمحبة :
وذلك بعدم البراءة من الشرك وأهله ، أو محبتهم محبة قلبية لدينهم ، أو نصرتهم على المسلمين ، كل ذلك مما يوقع في الشرك الأكبر والظلم الأعظم ، قال الله تعالى : (( قُلْ أََغَيْرَ اللَّهِ أََتَّخِذُ وَلِياً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأََرْضِ )) [الأنعام : 14] .
وقال تعالى عن اليهود والنصارى : (( وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ )) [المائدة : 51] .
د - ومن صور الظلم الأعظم الوقوع في ناقض من نواقض الإسلام التي ذكرها العلماء في كتبهم ، والتي لا تخرج في جملتها عن أن تكون تكذيباً بخبر الله عز وجل وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، أو رداً لأمر الله سبحانه وأمر رسوله . وراجع إن شئت ما كتبه الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى عن بعض هذه النواقض . في رسالة مطبوعة بهذا الشأن .
القسم الثاني : ظلم النفس بوقوعها في مظالم العباد :
وهذا النوع من الظلم أخف من سابقه في كونه لا يخلد صاحبه في النار لو دخلها ، ولكن الخطير فيه إثمه وعقوبته التي لا تزول إلا برد المظالم إلى أهلها ، أو استباحتهم منها وإلا كان القصاص يوم القيامة بالحسنات والسيئات وليس بالدينار والدرهم، وكفى بهذا حاجزاً عن الظلم ، وكفى به رادعاً وواعظاً للعبد المسلم في أن يتخفف من حقوق العباد ، ويخرج من هذه الدنيا سالماً لا يطلبه أحد من العباد بمظلمة في دين أو نفس أو مال أو عرض . وهذه الأمور لا تكاد تخرج مظالم العباد عنها .
وظلم الناس إنما ينشأ من الإضرار بهم في دينهم أو دنياهم ويكون ذلك بأمرين :
1- إما بمنعهم حقوقهم .
2-أو بفعل ما يضر بهم .
وهذا ما يشير إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بقوله : (وإضرار العبد في دينه ودنياه هو ظلم الناس ؛ فالظلم للغير يستحق صاحبه العقوبة في الدنيا لا محالة لكف ظلم الناس بعضهم عن بعض ، ثم هو نوعان :
أحدهما : منع ما يجب لهم من الحقوق ، وهو التفريط .
الثاني : فعل ما يضر بهم وهو العدوان .
وتحصل لدينا من هذه القاعدة أن ظلم الناس يصدق على أي إضرار يقع عليهم فيإحدى ضرورياتهم الخمس : (الدين ، أو النفس ، أو العقل ، أو العرض ، أو المال) سواءً بمنع ما يجب لهم من الحقوق أو فعل ما يضر بهم . ومن الأمثلة الواضحة في ذلك ظلم الوالدين أو الأولاد أو الأزواج والزوجات بمنع ما يجب لهم من الحقوق أو فعل ما يضر بهم في دينهم ودنياهم .
وبعد هذه المقدمة التي لا بد منها في الحديث عن مظالم العباد نتعرف الآن على بعض الصور لهذه المظالم على سبيل الاختصار .
أ- من صور ظلم العباد في دينهم :
* التسبب في صرف الناس عن دينهم وعقيدتهم وأخلاقهم ، سواءً بإثارة الشبهات التي ينحرف بها العبد عن عقيدته الصافية فيقع في الكفر أو البدعة ، أو بإثارة الشهوات التي توقع العبد في الرذيلة والفسق والفجور . فهذا كله من الظلم العظيم للناس في دينهم وأخلاقهم ، وممن يتولى كِبَرَ هذا النوع من الظلم الأصناف الآتية من الناس :
* الذين يسنون الأنظمة الجائرة والفاجرة التي تمكن للمفسدين في الأرض من نشر فسادهم والسماح لهم بل ومنحهم الإذن بما يخوّلهم تشييد صروحهم الإعلامية التي يفسدون من خلالها عقيدة الأمة وأخلاقها ، سواءً بكلمة مقروءة أو مسموعة أو مرئية . وهذا من أعظم الظلم .
* الناشرون الذين يبثون من خلال كتبهم ومجلاتهم وأشرطتهم كل ما من شأنه إثارة الشبهات والانحراف في أفكار الناس ، أو إثارة الشهوات والانحلال سواء بالكتابات الهابطة أو الصور الساقطة ، وكل هذا من ظلم العباد في دينهم .
* الإعلاميون الذين تصدروا أماكن التوجيه في الوسائل الإعلامية المختلفة من تلفاز وإذاعة وقنوات ، فنسوا دينهم ونسوا يوم الحساب ؛ فوجهوا سمومهم إلى دين الأمة وأخلاقها بما يبثونه من شبهات ومغالطات ، وبما يبثونه من أفلام قذرة وأغان خليعة تثير الشهوات وتقتل الغيرة والفضيلة . وكل هذا أيضاً من ظلم العباد في دينهم .
* التجار الذين لا يهمهم دين ولا خلق وإنما همهم الدينار والدرهم ، ولا يهمهم المصدر الذي يجلب لهم المال أمن حلال هو أو من حرام .فراحوا يتاجرون بما فيه إفساد للدين ونشر للرذيلة وقتل للفضيلة ؛ وذلك بما نراه اليوم من تجارة الكتب الهدامة التي تضلل الناس وتحرفهم عن دينهم أو التي تنشر أسباب الخنا والفجور من كتب الغرام وعرض صور النساء الفاجرات على غلاف المجلات وفي ثناياها ، كما يلحق بهذا من يتاجر ببيع الوسائل المروّجة لذلك ، وغير خافٍ على أحد ما ينشر في هذه الوسائل اليوم من شر وفساد ، وكل ذلك من ظلم العباد في دينهم .(/4)
* أولئك الآباء أو الأبناء ، الذين يسعون لملء بيوتهم من هذه الوسائل المدمرة للدين والأخلاق، فيخربون بيوتهم بأيديهم ويظلمون أنفسهم ومن تحت أيديهم بما يسببونه لهم من الانحراف والفساد والضياع بجلب الكتب والمجلات وأجهزة الفساد إلى أهليهم ، فيحملون أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم .
* الذين يسهمون في الدلالة على الشر وأهله ، والصد عن سبيل الله ، والتنفير من أهل الخير وتشويه سمعتهم عند الناس .
* كما يدخل في ظلم الناس في دينهم كل من أسهم في ذلك بندوة أو محاضرة أو مقالة أو كتاب أو مسرحية ... مما فيه تضليل للناس أو إفساد لأخلاقهم . قال الله تعالى : (( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ )) [النحل : 25] .
* من يُقَصّر من العلماء وطلبة العلم في تعليم الأمة أمر دينها فيتركها في لهوها وفسادها لا تؤمر ولا تنهى ، أو تركها حائرة فيما ينزل عليها من النوازل دون هدايتها إلى وجه الحق في ذلك ، كما أن من الظلم المبين كتم الحق عنها أو لبسه بالباطل .
* كما يلحق بمن سبق أولئك الذين يُقَصّرون في تعليم أبنائهم أو آبائهم أو زوجاتهم فروض العين وما ينجون به من عذاب الله تعالى ؛ فترك هؤلاء على جهلهم مع القدرة على تعليمهم يعد ظلماً في دينهم .
ب - من صور ظلم العباد في النفس والعقل :
* التعدي على كل نفس معصومة بقتل أو ضرب أو سجن أو تعذيب ... إلخ . ويدخل في ذلك كل من باشر الاعتداء بنفسه أو أمر به أو أعان عليه أو أشار به أو فرح به أو شمت أو قعد عن نصرة المعتدى عليه وهو يقدر على ذلك . قال : ((من ضَرَبَ بسوط ظلماً اقتُصّ منه يوم القيامة)) .
وقال : (( لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة ، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة
القرناء)) [1][3].
فإذا كان هذا حال العجماوات فيما بينها فكيف الحال بما يقوم به اليوم طواغيت الأرض وأعوانهم من سجن وتعذيب وتشريد لصفوة عباد الله تعالى . إنه والله الظلم المبين .
ووقوع القتل العمد الصريح للمعصوم قد يكون قليلاً ، لكن الذي يقع كثيراً هو القتل بشبهة أو تأويل ؛ وهذا يكثر أيام الفتن والقتال بين طوائف المسلمين أعاذنا الله من ذلك وهذا هو الذي حَذِرَهُ جماعة من السلف واعتزلوا فيه الطوائف المتقاتلة وتذكروا قوله : (( لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) [1][4]. * القعود عن إنقاذ من يتعرض لهلاك كالغريق والحريق والجريح مع إمكانية إنقاذه.
* ترويج المخدرات والخمور والدخان والإغراء بتناولها ، ومعلوم ما في ذلك من الأضرار المعلومة
* التطبب في الناس بجهل وشعوذة ونحوها مما ينشأ عنه موت المريض أو استفحال مرضه .
* الإسهام في بيع المطعومات التي تضر بصحة الناس كالميتة والخنزير ومشتقاتهما أو بيع المغشوش من الأطعمة والأشربة الضارة بالصحة والعقل .
ج - من صور ظلم العباد في أعراضهم :
* كل ما سبق ذكره في الاعتداء على الدين ، من شأنه هتك الأعراض وإشاعة الفاحشة بين الناس ، ومحاربة الشريعة الغراء التي من مقاصدها حفظ الأعراض .
* قذف المحصن من المسلمين والمسلمات دون بينة شرعية ؛ مما يلحق الأذى والعار بالمقذوف ، ولا يخفى ما جاء من الآيات والأحاديث في النهي عن ذلك .
* المتاجرة في الملبوسات والأزياء النسائية المحرمة التي تصف الجسد أو تكشف بعضه تشبهاً بالكافرات ، ويدخل في ذلك من يشتري مثل هذه الأزياء لأهله ويأذن لهم بالخروج فيها والتبرج بها ، كما أن المرأة المتبرجة تعد هي الأخرى ظالمة للناس بتعريضهم للفتنة .
* التجارة بفتح المؤسسات السياحية المتخصصة بتسهيل السفر إلى بلاد الكفر بقصد ارتياد أماكن الفجور .
* الاعتداء على أعراض العباد بالغيبة والنميمة والفحش والسخرية والاستهزاء ، والكذب عليهم ، ويشتد الإثم في ذلك عندما توجه هذه الآفات إلى أهل الخير من العلماء والدعاة والمصلحين .
د - من صور ظلم العباد في أموالهم :
* الاعتداء على أموال المعصومين سواء بسرقة أو إتلاف أو بالتحايل والخداع ، وسواء كان المسروق عيناً أو نقداً . ويدخل في ذلك السرقة من الأموال العامة للمسلمين كبيت المال والصدقات وغنائم المجاهدين . قال الله عز وجل : (( وَمَن يَغْلُلْ يَاًتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ )) [آل عمران : 161] .
وقال : (( إن رجالاً يخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة )) ويلحق بذلك كل من استُؤمن على مال لحفظه أو استثماره ثم خان صاحب المال أو فرط في حفظه وتنميته ، ويشتد الإثم إذا كان الاعتداء أو التفريط في حفظ المال العام والأوقاف وأموال اليتامى .(/5)
* الاستيلاء على أموال المعصومين بالغصب والقوة ؛ ويتضح هذا جلياً في ظلم الأرض والعقار حيث يُستولى على الأراضي وتغير المنارات ، وفي هذا جاء الوعيد الشديد ؛ حيث قال : (( من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوّقه الله يوم القيامة من سبع أرضين)) .
* التسبب في قطع حق المسلم من مال أو غيره إما بشهادة زور أو يمين كاذبة أو وجاهة ... إلخ . قال : (( من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار ، وحرم عليه الجنة . فقال رجل : وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله ؟ فقال : (وإن كان قضيباً من أراك)) .
* أخذ الرشاوي من الناس ومنعهم حقوقهم إلا بها ، وهذا من أكل المال بالباطل ، ويدخل في أكل المال بالباطل التعامل بالقمار والميسر .
* السماح بإنشاء البنوك الربوية أو المساهمة في إنشائها ، وتنمية المال من خلالها ، ويلحق بذلك كل من تعامل بالربا فرداً كان أو مؤسسة ، فكل ذلك من أكل المال بالباطل ،ومن التعاون على الإثم والعدوان .
* ومما يدخل في ظلم الناس في أموالهم ما يقع بينهم من البيوع المحرمة التي يتضرر فيها أحد المتبايعين أو كلاهما ، وهي كثيرة ومتنوعة منها بيوع الغرر أو بيع ما لا يملك أو بيع النجش ...
* إنكار المدين ما عليه من الحق للدائن أو المماطلة بالوفاء مع القدرة على ذلك فهذا من الظلم البين لقوله : ((مطل الغني ظلم)) .
* منع الزكاة وعدم إيصالها لمستحقيها ، وأخذ كرائم أموال الناس عند جباية الزكاة منهم لقوله : (( وإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم .. )) .
وبعد هذه الجولة السريعة المختصرة في إيراد بعضٍ من صور الظلم يبقى سؤال مهم لا بد من الإجابة عليه لتكمل الفائدة ويعم النفع ، وليكون مخرجاً لمن أراد التخلص من تبعات العباد قبل يوم الفصل والحساب ، وهو : هل من سبيل إلى التوبة من حقوق العباد ؟ والجواب : نعم ، فباب التوبة مفتوح للتائبين الصادقين ، ومن ذا الذي يحول بين العبد والتوبة والله عز وجل يقول : ((إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)) [الزمر : 53] .
لكن التوبة من حقوق العباد أصعب بكثير من تلك الذنوب التي بين العبد وربه وليس للمخلوق فيها حق ؛ ذلك أن حق الله عز وجل مبني على المسامحة ، وحق المخلوق مبني على المشاحّة ؛ لذا فإن التوبة من حقوق العباد يُشترَط لها شرط إضافي على شروط التوبة المعروفة ألا وهو : التحلل من أصحاب الحقوق ، سواء برد المظالم إلى أهلها أو مسامحة أهل الحقوق لمن ظلمهم وتنازلهم عن حقوقهم عليهم ، ومن هنا تأتي صعوبة التوبة من حقوق العباد ومشقتها . والموفق من جنبه الله تعالى الوقوع في الظلم أصلاً ، أما من وقع منه الظلم للعباد في دين أو نفس أو عرض أو مال فإنه يحتاج إلى عزيمة قوية وزهد في الدنيا ورغبة في الآخرة يدفعه إلى رد الحقوق إلى أهلها والتحلل منهم قبل يوم الفصل والقضاء.
وفيما يلي عرض سريع لما ذكره العلماء عن كيفية التوبة من ظلم العباد في ضرورياتهم الأساسية التي جاءت الشريعة للحفاظ عليها وحمايتها من المعتدين :
أولاً : التوبة من ظلم العباد في دِينهم :
من كان له دور في إضلال الناس في عقيدتهم أو شريعتهم أو أخلاقهم فإن من تمام توبته أن يقلع بنفسه عن ضلاله وإضلاله ، وأن يندم على ما فعل ، ثم لا بد له بعد ذلك أن يبذل جهده ووسعه في إصلاح ما أفسد ، وأن يعلن توبته للناس ويبين لهم ضلال ما كان عليه لقوله تعالى : (( إلاَّ الَذِينَ تَابُوا وَأََصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أََتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأََنَا التَّوَّابُ الرَّحِيم )) [البقرة : 160] وبدون ذلك فإن التوبة غير تامة . ويذكر أهل السّيَر دائماً فيهذا المقام توبة أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى وكيف أنه بين للناس ضلال ما كان عليه وأنه رجع إلى مذهب السلف وما كان يقول به أحمد بن حنبل .
ثانياً : التوبة من ظلم العباد في أبدانهم وأنفسهم :
ما كان من هذه المظالم مما هو دون القتل كضرب أو جرح ونحوهما فالتوبة تكون بالندم على الفعل واستغفار الله عز وجل وهذا مما يتعلق بحق الله عز وجل ، ويبقى حق المظلوم فلا يسقط إلا بأن يعفو عن الظالم أو يأخذ بالقصاص منه ؛ فحينئذ تبرأ ذمة الظالم ؛ وبدون ذلك يبقى الحق معلقاً إلى يوم القصاص يوم القيامة . أما جريمة القتل فالتوبة منها شاقة لموت المقتول وفوات نفسه دون أن يستدرك ظلامته ولذلك يرى بعض العلماء أن لا توبة له ولا بد من القصاص يوم القيامة . ويرى طائفة من العلماء أن الحق يسقط إذا سلم نفسه للقصاص في الدنيا وصدق في توبته مع الله عز وجل ، ومن هنا نرى عظم جرم الاعتداء على النفس بالقتل ، وأن القصاص ينتظر المعتدي يوم القيامة (بالحسنات والسيئات) حتى ولو اقتُص منه في الدنيا على أحد القولين .
ثالثاً : التوبة من ظلم العباد في أعراضهم :(/6)