(2) السواك خير من فرشاة الأسنان د علي جوهر المرجع السابق العدد 104 رمضان 1406هـ الصفحة-70 .
(3) السواك بين غيرة الشعراء وآراء الأطباء د حسان باشا مجلة الفيصل العدد : 255 رمضان 1418هـ الصفحة 92 .
(4) السواك والإعجاز العلمي في السنة النبوية حسني عبدالحافظ مجلة القافلة جمادى الأولى : 1418هـ ص 21 - 22 .
(5) السواك من صور الإعجاز العلمي عبدالعزيز أحمد مجلة نهج الإسلام العدد 79 - 80 ذي الحجة 1420هـ ص-67 .
(6) السواك مطهرة للفم مرضاة للرب الصيدلاني محمد فتحي الحريري المرجع السابق العدد 43 رمضان 1411هـ ص-87 .
(7) رواه ابن ماجة في الطهارة ، باب 7 حديث رقم 289 ، وأحمد في المسند : 6/121 .
(8) صحيح مسلم ( 252 ) .
(9) نيل الأوطار للشوكاني ( 1/125 ) .
(10) رواه مسلم انظر : الجامع الصغير ( 5432 ) .
(11) صحيح مسلم بشرح النووي ( 2/116 ) سنن أبي داود : 1/13 .
(12) شرح صحيح مسلم للنووي .
(13) رواه الترمذي وابن خزيمة وصححه ، ورواه البخاري معلقاً ، وقال : قال ابن عمر : " يستاك أول النهار وآخره " .
(14) زاد المعاد من هدي خير العباد .
(15) السواك بين الطب والإسلام د محمد نزار الدقر مجلة نهج الإسلام العدد 77 - 78 ، نقلاً عن
" السواك " للدكتور عزت أبو شعر ، دمشق 1974م .(/2)
السياسة الحربية للدولة الإسلامية
إن ما يدعو للبحث في هذا الموضوع أمران:
1. الطمس الفكري المتعمد لواقع السياسة الحربية في الإسلام، والذي يزاوله علماء انهزاميون، إرضاءً لأسيادهم من الحكام الطواغيت، ولأسياد أسيادهم من الكفار المستعمرين.
2. السياسات الحربية الانهزامية التي تمارسها حكومات العار في بلاد المسلمين.
أما الأمر الأول:
فهو الطمس الفكري المتعمد لواقع السياسة الحربية في الإسلام، والذي يزاوله علماء السلطة، والعلماء الانهزاميون، الذين لا يركزون إلا على الجوانب الإنسانية والدفاعية فقط من السياسة الحربية الإسلامية، وكأن هذه السياسة لم تحوِ غير تلك الجوانب، ويغفلون أو يتغافلون عن الجوانب العملية الفعّالة المتعلقة بجوهر السياسة الحربية وحقيقتها، فهم لا يتحدثون عن السياسة الحربية في الإسلام إلا من خلال بعض النصوص، فيعمدون إلى أحاديث محدودة، معروفة، تتناول بعض المعاني العامة، ولا تتناول التفاصيل، مثل حديث: «لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صغيراً، ولا امرأة..» وحديث: «لا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً..» وما شاكلها، فيسلطون عليها الضوء، ويركزون على أكبر مساحة من هذه المعاني البسيطة، التي لا تمس حقائق السياسة الحربية الفاعلة في الدولة الإسلامية، ناسين أو متناسين آيات وأحاديث كثيرة، تغاير تلك المعاني البسيطة العامة التي وردت في تلك الأحاديث.
إنهم بذلك يطمسون حقيقة السياسة الحربية الحيوية التي طبقها الرسول صلّى الله عليه و سلّم ضد الكفار من أعداء الدولة الإسلامية، يفعلون ذلك إرضاءً لأسيادهم من الحكام الطواغيت، ولأسياد أسيادهم من الكفار المستعمرين، فيقبلون بإغضاب ربهم من أجل إرضاء طواغيتهم، فيبيعون بآخرتهم دنيا غيرهم.
وأما الأمر الثاني:
فهو ما نراه من سياساتٍ حربيةٍ انهزاميةٍ، استسلاميةٍ، تخاذليةٍ، تنتهجها حكومات العار في بلاد المسلمين، بحيث بلغت هذه السياسات الحربية الذليلة شأواً بعيداً في التواطؤ مع الأهداف العسكرية الأميركية الساعية للسيطرة على العالم الإسلامي سيطرةً عسكريةً تامةً، فلقد سمحت هذه الدول العميلة العاجزة لأميركا، بأن تقيم قواعد عسكرية ثابتة ومتنقلة لها في أراضي المسلمين، وسمحت للأساطيل الأميركية بأن تجوب المياه، وتستخدم الموانئ والمرافق بلا قيود ولا شروط، ومنحت السماء والأجواء للطائرات والصواريخ الأميركية من غير رقيب ولا حسيب، ولم تكتف بذلك كله، بل وساهمت بالقوات، والعدة، والعتاد، إلى جانب القوات الأميركية الغازية في ضرب المسلمين، واحتلال ديارهم، وإسقاط بعض أنظمة الحكم في بعض دولهم. فكل الدول القائمة في البلاد العربية والإسلامية كيَّفت سياساتها الحربية، وفقاً للرؤية الاستراتيجية العسكرية الأميركية، التي تقوم اليوم على أساس الحروب الوقائية الاستباقية، وعلى أساس استخدام جيوش تلك الدول التابعة لها استخداماً يحقق لها هذه الاستراتيجية.
لذلك لم يكن غريباً من جهة أن تستخدم أميركا قوة باكستان العسكرية الضخمة في ضرب حركة الطالبان الإسلامية في أفغانستان، وفي ضرب الحركات الإسلامية الداعمة لمسلمي كشمير. ومن جهة أخرى، لم يكن غريباً أيضاً أن تعطل أميركا هذه القوة العسكرية الباكستانية الضاربة، وأن تشلُّ قدراتها أمام قوة عدوتها وغريمتها الهند، وكذلك لم يكن عجيباً أن تستخدم أميركا الإمكانيات العسكرية والاستراتيجية الضخمة للدول المجاورة للعراق في مساعدتها لاجتياحه واحتلاله.
وهكذا تمكنت أميركا من أفغانستان، وتمكنت من العراق، تمكنت منهما بفضل سياسات هذه الدول الحربية الخادمة الخائبة التي ساعدت أميركا في تحقيق أهدافها، والتي لولاها لما تمكنت أميركا بتاتاً من الدخول إلى المنطقة والتمركز فيها. من أجل ذلك كان لا بد من إلقاء الضوء على السياسة الحربية الصحيحة للدولة الإسلامية من منظور شرعي صحيح، وكان لا بد من إظهار ما يحاول علماءُ السلطةِ إخفاءه والتستر عليه.
فالسياسة الحربية لأية دولة من الدول هي رعاية شؤون الحرب على وضع من الأوضاع. ورعاية شؤون الحرب، للدويلات المصطنعة القائمة في العالم الإسلامي اليوم، تقوم على وضع تخدم فيه السياسات العسكرية الأميركية، والبريطانية، والفرنسية، الرامية لفرض هيمنتها على العالم أجمع، ومنه العالم الإسلامي، إنها سياسات خادمة، مذعنة لإملاءات الدول الكافرة المستعمرة، وبسبب هذه السياسات ضاعت فلسطين وكشمير، وبسببها فُصلت تيمور الشرقية عن إندونيسيا، وفصلت بنغلاديش عن باكستان من قبل، وسيفصل جنوب السودان عن شماله في المستقبل، إنها سياسات حربية استعمارية ترسمها الدول العدوة للإسلام والمسلمين، بينما يقتصر دور حكام البلاد العربية والإسلامية فيها على التنفيذ والتطبيق فقط.(/1)
فهذه السياسات الحربية الاستسلامية هي التي مكَّنت إسرائيل من الهيمنة على دول المنطقة، وهي التي عظَّمت من دورها في المنطقة، وهي التي أشاعت أجواء اليأس والإحباط والخوف منها، وبدلاً من أن تقوم وسائل إعلام هذه الدول الخائبة بتهديد إسرائيل، وتخويفها، والتلويح بقوة السلاح ضدها، فإنها تقوم بتخويف الشعوب منها، وتحذيرهم من مغبة التفكير في مقاومتها، مع أنهم لو اجتمعوا على غزوها واجتياحها لما صمدت إسرائيل أمامهم إلا قليلاً، ولكنها العمالة، والخيانة، وفقدان الإرادة.
فإذا كانت هذه هي سياسة إدارة الحرب لدى هؤلاء الحكام الرويبضات في مواجهة الأعداء، أي إذا كانت سياسة انبطاحية، استسلامية، خادمة للأعداء، محققة لأهدافهم، فما هي السياسة الحربية الصحيحة؟ إن السياسة الحربية الصحيحة للدولة الإسلامية تقوم على أساس رعاية شؤون الحرب، على وضع يجعل النصر للمسلمين، وإلحاق الهزيمة بأعدائهم، وأصل هذه السياسة يستند إلى الجهاد، الذي هو الطريقة الوحيدة التي تُحمل فيه الدعوة الإسلامية إلى العالم. والجهاد هو قتال الكفار بسبب امتناعهم عن قبول الإسلام، قال تعالى: ?قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ?[التوبة: 29]. لذلك كان الواجب على خليفة المسلمين في كل وقت أن يبذل مجهوده في الخروج للقتال بنفسه، أو بإرسال الجيوش والسرايا من المسلمين للقتال، ثم يثق بجميل وعد الله تعالى له في نصرته بقوله تعالى: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ? [محمد: 7] وينبغي أن يبتدئ الخليفة بترتيب الجيوش في أطراف البلاد لكف من بإزائهم من الكفار، وأن يضمن أن تكون جميع الثغور مشحونة بالجيش الإسلامي دائماً، ويجب أن يقيم كل ما يدفع عن المسلمين، وعن بلاد المسلمين أذى العدو من حصون، أو خنادق، أو أي شيء، من كل نوع من أنواع القوة التي تحمي الدولة الإسلامية من كيد الكفار. فالخليفة يتولى بنفسه قيادة الجيش الفعلية، ويضع السياسات الحربية بنفسه؛ لأنه هو القائد الفعلي للجيش. والدولة الإسلامية في حالة جهاد دائم، وسياستها تبنى على الإعداد الدائم للجهاد، وبهذه السياسة الحربية تمت الفتوحات العظيمة، واكتسحت الجيوش الإسلامية القارات القديمة الثلاثة اكتساحاً مذهلاً، حيث بلغت الصين في آسيا شرقاً، ووصلت إلى أبواب فرنسا وأسوار فينا في أوروبا غرباً، وقطعت الصحراء والأدغال في أفريقيا جنوباً، وما كانت تلك الفتوحات العظيمة لتحصل لولا فرضية الجهاد والقتال، وجعلها في ذروة سنام الإسلام، حتى غدا الجهاد الركن السادس من أركان هذا الدين.
هذه هي السياسة الحربية في الإسلام، والتي يجب أن تبرز فيها الناحية العملية الآنية الفورية لكي تكون فعالة منتجة، لا أن تسيطر عليها الناحية الإعلامية الكلامية المخادعة، كما تفعل الدول العربية الذليلة، والدول القائمة في بلاد المسلمين في هذه الأيام.
وأما الناحية العملية الآنية في سياسة الدولة الإسلامية الحربية فيجب أن تظهر من خلال الأمور الخمسة التالية:
أولاً: معاملة العدو بالمثل:
في هذه الحالة، وهي حالة قيام العدو بانتهاك الأعراف العسكرية المتعارف على تحريمها دولياً، كقتل النساء والأطفال، وهدم البيوت، وتجريف المزروعات كما تفعل إسرائيل اليوم، أو كقيام أميركا وبريطانيا بقصف المدنيين الآمنين في أفغانستان والعراق بقنابلها المسماة بالذكية -على حد زعمهم- فيجب على الدولة الإسلامية، في هذه الحالة، أن تفعل نفس هذا الفعل في اللحظة والتو، وبلا تأخير أو تسويف، قال تعالى: النحل 126] وبمثل هذه المعاملة للعدو، تكون السياسة الحربية للدولة الإسلامية منتقمة، مشفية لما في الصدور، رادعة، زاجرة، مرهبة.
ثانياً: جواز تقطيع الأشجار، وتحريقها، وتخريب العامر ابتداءً، وليس من باب المعاملة بالمثل وحسب:(/2)
ومبرر ذلك كسب المعركة، وحسمها لصالح المسلمين، ولو لم يفعل العدو مثل ذلك، قال تعالى: ?مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ? [الحشر: 5]. وقد أحرق رسول الله صلّى الله عليه و سلّم نخل بني النضير، مع تحققه بأنه سيؤول إليه ليحسم المعركة. فقطْع الشجر، وهدْم الحجر، وتخريب العامر، وقتل البهائم وحرقها، وإتلاف كل ما يملكه العدو، كل ذلك جائز إذا اقتضته السياسة الحربية، ولو كان في أصله محرماً، قال تعالى: ?وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ? [التوبة: 120] وهذا نص عام في كل شيء، ولم يرد ما يخصصه بمعاملة العدو بالمثل فقط، فيبقى على عمومه، ويبقى جواز فعل ذلك ابتداء؛ لكسب المعركة وحسمها إذا اقتضته السياسة الحربية.
ثالثاً: تبني الدولة لسياسات حربية وقائية كلما استدعت الحاجة إليها:
ومن الأدلة التي تؤكد ذلك أن الرسول صلّى الله عليه و سلّم أمر بعض فرسان المسلمين من أحُمس بالذهاب إلى اليمن، وأمرهم بحرق بيتٍ فيه نُصُب يُعبد، يقال له كعبة اليمانية، يسمى ذو الخلصة، وكذلك أمر صلّى الله عليه و سلّم أيضاً أسامة بن زيد بأن يتوجه في حملته إلى بلاد الشام إلى بلدة (أبنى) في فلسطين ليحرقها، وطلب- رضي الله عنه - أيضاً من بعض المسلمين القيام باغتيالات سياسية لبعض الأشخاص الذين أمعنوا في الإساءة إلى الإسلام، وفي إيذاء الرسول صلّى الله عليه و سلّم ككعب بن الأشرف من زعماء اليهود، الذين ناصبوا الرسول صلّى الله عليه و سلّم العداء السافر، ومثل كعب هذا كثيرون في زماننا. فهذه الأعمال الحربية هي جزء لا يتجزأ من السياسة الحربية في الإسلام، لا يجوز إخفاؤها أو تعطيلها؛ لأنها وردت بالأدلة القطعية الثبوت والقطعية الدلالة، وقد فعلها الرسول صلّى الله عليه و سلّم قطعاً، وتعتبر هذه الأعمال الحربية أس الحرب الوقائية التي يجب أن تنتهجها الدولة الإسلامية في حالات معينة. وبمثل هذه الحرب الوقائية تم إيجاد الهيبة للدولة الإسلامية، وتم إيقاع الرعب في قلوب أعدائها.
رابعاً: جواز نقض العهد مع الأعداء بمجرد الخوف والتشكك من خيانة العدو، أونقضه للعهد:
يقول تعالى: ?وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ? [الأنفال: 58] فهذه الآية تجيز للمسلمين استعمال الأسلحة التي تسمى اليوم بأسلحة الدمار الشامل، سواء أكانت نووية، أم كيميائية، أم بيولوجية، أم غير ذلك، فالدول الكبرى الحائزة على تلك الأسلحة تستبيح استعمالها، بل إنها استباحت بالفعل استخدامها، واستخدمتها أميركا في اليابان وفيتنام من قبل، واستعملتها في أفغانستان والعراق اليوم؛ لذلك فإن الدولة الإسلامية يجوز لها استعمالها على الرغم من أنها تهلك البشر، وعلى الرغم من أن الإسلام إنما جاء لإحياء البشرية لا لإفنائها، وإنما أجيز استخدامها لأن من شأنها أن تكون مانعة من تمادي الكفار الأعداء كأميركا، وروسيا، وبريطانيا، وإسرائيل، من التعالي على شعوب ودول العالم، لا سيما الإسلامية منها، ورادعة إياهم من التمادي في العدوان على المسلمين والمستضعفين في الأرض.
خامساً: جواز استخدام الطائرات والمدافع والقنابل والأسلحة الثقيلة في قصف مدن الأعداء في حالات معينة:
هناك حالتان يمكن فيهما استخدام هذه الأسلحة، في قصف المدن والتجمعات السكانية للدولة العدوة، من غير تمييز بين المحاربين والمسالمين. وهاتان الحالتان هما:
الحالة الأولى: إذا كان متعذراً التمييز بين المقاتلين وبين النساء والشيوخ والأطفال، واقتضت الحاجة الحربية حسم المعركة بالسرعة الممكنة، ففي هذه الحالة يجوز قتل غير المقاتلين.
الحالة الثانية: إذا كان من الصعب الوصول إلى المقاتلين من دون قتل الذرية والنساء، ففي هذه الحالة أيضاً يكون قتل غير المقاتلين أو إصابتهم أمراً جائزاً، ولو كانوا من المسلمين وتترس بهم الكفار.
والأدلة على هاتين الحالتين كثيرة: منها نصب الرسول صلّى الله عليه و سلّم المنجنيق على أهل الطائف، ومعلوم أن المنجنيق حين يضرب القذائف النارية لا يميز بين امرأة وطفل وشجر وغيره، ومن الأدلة على ذلك أيضاً قول الرسول صلّى الله عليه و سلّم عندما سئل عن أولاد المشركين هل نقتلهم معهم قال: "نعم فإنهم منهم"، ومنها أيضاً قوله صلّى الله عليه و سلّم: "اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم" وتطبيقاً لهذا الحديث الأخير، قام أبو عامر قائد سرية أوطاس، إحدى سرايا المسلمين التي شكلها الرسول صلّى الله عليه و سلّم، قام بقتل الشاعر المعروف دريد بن الصمة، بعد أن شارف على المائة عام، لا لشيء إلا لأنه علم أنه شارك في مساعدة الكفار في حربهم ضد المسلمين بعقله وحكمته وتدبيره.(/3)
وبهذه السياسات العسكرية الصارمة تتحقق السياسة الحربية للدولة الإسلامية، التي تقوم على أساس رعاية شؤون الحرب، على وضع يجعل النصر حليفاً للمسلمين على وجه محقق، ويجعل الخذلان حليفاً لأعدائهم من الكفار على وجه محقق أيضاً.
هكذا كانت السياسة الحربية في الإسلام، وهكذا يجب أن تكون، لا كما نراها اليوم في دول المسلمين الهزيلة العميلة، سياسات حربية انبطاحية خادمة للسياسة الأميركية والبريطانية، متواطئة معها، مفرِّطة في الدفاع عن حقوق شعوبها، جالبة للهزائم، ومضيعة للبلاد والعباد.
إن اتباع السياسة الحربية الصحيحة في الإسلام، كما بيَّناها، كفيلة بأن تجعل من أية دولة تتبناها، دولة عظمى، تحفظ كرامة المسلمين، وتذود عن حياضهم، وتحمي بيضتهم، وتخيف عدوهم، وتلحق به الهزيمة والخذلان، وتشتت شمل الأعداء إن تجمعوا ضدها، وتقذف في قلوبهم الرعب، وفوق ذلك فإنها ستوحد المسلمين وتمكنهم من القيام بدورهم باقتدار في حمل الرسالة الإسلامية إلى العالم، وفي إزالة جميع الحواجز المادية التي تحول دون إيصال الإسلام إلى ربوع المعمورة.
اللهم ارزقنا دولة إسلامية حقيقية، تتبنى سياسة حربية فعالة، مستمدة من النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، ومتأسية بأفعال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، تلك الأفعال التي أدَّت إلى قيام دولة الإسلام العظمى، تلك الدولة التي تسبَّبت في إسقاط أعظم إمبراطوريات ذلك الزمان، وقصمت ظهرها، وهما: دولتي فارس والروم.
اللهم مكِّنا من إقامة هذه الدولة، واتباع هذه السياسة. ومن نشر الإسلام في جميع بقاع الأرض
أحمد الخطيب(/4)
السياسة في خطبة الجمعة حمدي عبد العزيز*
ترتبط المشاركة السياسية بالمسؤولية الاجتماعية التي تقوم على أساس الموازنة بين الحقوق والواجبات؛ لذلك فهي سمة من سمات النظم السياسية التي تزدهر فيها الحريات، كما أنها لا تعني المعارضة على طول الخط؛ وإنما تعطي الأفراد الحق في الرقابة على المسؤولين، ومحاسبتهم من جهة، وتدعيم الفكر الحكومي بكثير من الآراء الصالحة التي لم تتأثر بتقاليد البيروقراطية بما يفتح الميادين للعمل والخدمات والنشاط من جهة أخرى.
ومن الملاحظ انخفاض درجة المشاركة السياسية لدى الخطباء، وانعدام الجانب السياسي في خطبة الجمعة اللهم إلا من بعض الانفعالات الغاضبة التي تعمق التعصب، أو الاجتهادات الخاصة التي تكون عرضة للخطأ والصواب، أو التصدي للقضايا السياسية والمستجدات الوطنية والإسلامية دونما تعمق أو اطلاع.
ويجد الخطيب نفسه مضطرا للحديث في مختلف المستجدات السياسية لعدة اعتبارات تتعلق بـ:
أولا: أن التحدث في كل قضية تحمل بعدا سياسيا واجب على أساس أن خطبة الجمعة تتطرق إلى مصلحة الناس.
ثانيا: لأن الإسلام لا يعرف هذا الفصل بين الدين والدنيا؛ فهو دين ودولة، نظام ومجتمع، ومنهج حياة، أحكامه تنظم شؤون الناس في الدنيا والآخرة.
ثالثا: لأن الوطن والأمة الإسلامية يموجان بأحداث ساخنة ومضطربة، والعقل المسلم يعاني من تحليلات الإعلام الغربي المهيمن، أو البراجماتيين المتلونين، وينتظر الكلمة الصادقة من خطيب يدرك أمانة الكلمة ومسؤوليتها.
وليس المطلوب من الخطبة التحليل والتعمق في المستجدات السياسية المختلفة؛ وإنما التركيز على بيان القضية، والأخبار الصادقة عنها، والمنهج الشرعي في التعامل معها، أو الحكم عليها؛ فعلى سبيل المثال في قضية التعامل مع الآخر الديني ينبغي بيان ضرورة أن يكون التعامل السياسي معه على أساس من القيم الإسلامية التي تأمر بالقسط والبر معه إذا كان مواطنا في الدولة، وتحرم موالاته في حالة اعتدائه على الأرض الإسلامية كما في الحالة الصهيونية في فلسطين، والحالة الأمريكية في العراق وأفغانستان؛ لأن الموالاة هنا تفقد الإنسان إيمانه؛ ولا تلتقي مع الإسلام.
وهناك قضايا عديدة على هذه الشاكلة تحتاج إلى وقفات في خطبة الجمعة على نفس المنوال، ولعل منها: الحكم في الإسلام، الشورى، الحرية والاستبداد، الهدنة، الحرب، الإرهاب، إضراب الأسرى، إكرام الأسرى في الإسلام، ... إلخ، ومن الأهمية في هذا الإطار أن تتوافر لدى الخطيب الرغبة في الإلمام بهذه القضايا، والوعي بها، فضلا عن البحث فيها داخل الكتب، أو على شبكة الإنترنت.
ومن المراجع المفيدة في هذا الشأن: كتابات الماوردي (سلوك المالك في تدبير الممالك، السياسة الشرعية في أحوال الراعي والرعية)، و (فقه المقاصد) للشاطبي، و(السياسة الشرعية) للقرضاوي، وبعض الموسوعات السياسية مثل: (الموسوعة السياسية الكويتية)، وغيرها والتي يمكن الحصول على قائمة بها من المكتبات العامة.
ولا يكفي الخطيب دراسة هذه الكتب فحسب؛ فيلزم الاطلاع على واقعه من خلال قراءة الصحف، والدراسات، والكتب التي تتناول القضايا المستجدة، وقضايا المسلمين المختلفة حتى يتسنى له الفهم الدقيق بما يعينه على تقديم فكرته وإفادة جمهوره وإقناعه.
* الخطبة والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية:
في بحث عن أثر خطبة الجمعة في مصر طبقا لموقع Islamdoor.com؛ أفاد 78 % من العينة أنهم يتأثرون دائما بما يقوله الخطيب، و71 % أنهم يلتزمون دائما بما يقوله الخطيب، وتم الاتفاق مع أحد الخطباء على أن يخطب عن الربا، وأجرى استفتاء قبل الخطبة وبعدها؛ فكانت النتيجة أن 85 % كانوا يعرفون المفهوم الصحيح للربا، وبعد الخطبة ارتفعت النسبة إلى 97 %.. و33 % كانوا يعرفون عقوبة الربا، وارتفعت إلى 94 %.. و50 % كانوا يفضلون الاستثمار في البنوك الإسلامية وارتفعت إلى 64 %.. و34 % سينصحون الآخرين بترك الربا، و31 % سيقاومون أي عمل ربوي.
وتعكس هذه النتائج دور خطبة الجمعة ليس فقط في المعالجات الإسلامية للقضايا والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية، ولكن أيضا طرح ما يستجد من هذه المشكلات، والمساهمة في حلها وفقا للمرجعية الإسلامية؛ إذ لا يمكن للمنبر أن يتخذ موقفا محايدا منها على اعتبار أن هذا يناقض وظيفة الخطبة؛ فضلا عن وجود تأثيرات سلبية خطيرة نفسيا، واجتماعيا، واقتصاديا.
والتصدي لمثل هذه المشكلات هو من صميم خطبة الجمعة؛ نظرا لأن الخطيب في هذه الحالة يقوم بفريضة (الحسبة) التي تعادل فريضة الجهاد في سبيل الله؛ فالأولى مجالها الداخل، والثانية مجالها الخارج.(/1)
وحتى يحصل الخطيب على دور فعال في مواجهة هذه المشكلات يلزم اطلاعه على الكتابات التأصيلية لمفهوم الحسبة، وعلى أساليب الأصول المنزلة (القرآن والسنة) في علاج تلك المشكلات، فضلا عن مسيرة السلف الصالح في مواجهة المشكلات الاجتماعية، والاطلاع على الدراسات المعاصرة التي تفسر أسبابها، وتطرح حلولا لها، أو توضح كيفية التطرق لها.
* رابطة محلية للخطباء:
ومن المقترح في هذا الإطار إنشاء رابطة لأئمة المساجد في المناطق المختلفة تتولى طرح القضايا، والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن تناولها في خطب الجمعة، والتي تكون ذات صلة بالأحداث التي جرت خلال الأسبوع في المنطقة، أو القرية، أو القطر، أو بلدان المسلمين مثل: الزكاة والربا، الكيل والوزن، الزنا، عقوق الوالدين، قتل البشر لأتفه الأسباب، مشكلات الجيرة و... إلخ.
وهذه الرابطة يمكنها تفعيل الخدمات الاقتصادية والاجتماعية التي تقدمها بعض المساجد، وجمع الزكوات والصدقات، وإنفاقها في المجالات التي تخفف أعباء الأزمة الاقتصادية، فضلا عن أنها سوف تتجاوز نقص المعرفة لدى الخطباء من خلال البدء في تدريس التوجهات الإسلامية فيما يتعلق بعلاج هذه القضايا والمشكلات، على أن يكون تدارس هذه التوجيهات خطوة أولى لدراسة المشكلات المستجدة على أيدي متخصصين يقومون بتدريس منهج ميسر للخطباء؛ يعالج المفاهيم، والقضايا الاقتصادية والاجتماعية بلغة عصرية سهلة بعيدة عن التعقيدات.(/2)
السيجارة في قفص الاتهام
دار ابن خزيمة
يطير فرحاً حينما يمسكها بيده.. ويزداد نشوة حينما يقبلها بفمه.. ! يستوحش لفقدها.. ويأنس لقربها.. أسعد لحظاته حينما يخلو بها.. وأشقى ساعاته حينما يفارقها.. تحدد أصدقائه وأماكن جلوسه.. قد ينحرف بسببها.. قد يرتكب المحرمات لأجلها، بل قد يموت بتأثيرها..؟ إنها السيجارة ! ! ! إذا فلنضعها في قفص الاتهام ! !
عبرة ! !
شاب في الخامسة والعشرين من عمره، ابتلي بشرب الدخان لعدة سنوات... وذات يوم أدخل المستشفى بسبب ألم مفاجئ وهو هبوط في القلب.. ووضع عدة أيام بغرفة العناية المركزة تحت مراقبة الأجهزة الطبية المتطورة، حيث أن الطبيب المشرف على علاجه أصدر أوامره لهيئة التمريض بعدم إدخال الدخان للمذكور لأنه السبب الرئيسي لمرضه، وتفتيش الزوار خوفاً من تسلل الدخان له خفية..
تحسنت صحته وبدأ يستعيد نشاطه.. إلا أنه لم يتقيد أخيراً بتعليمات الأطباء ؛ حيث عاد إلى التدخين، وفي أحد الأيام فُقد هذا الشاب.. بحثوا عنه فوجدوه في أحد الحمامات وقد فارق الحياة ( وبيده سيجارة ) ! !
مكونات السيجارة
تتكون السيجارة من عدة مركبات يصل عددها إلى أكثر من 200 مركب، وأشدها ضرراً، وأعظمها خطراً النيكوتين، حيث يوجد منه من 0.1: 2 مليجرام في كل سيجارة، وأضراره هي:
1- أن النيكوتين يؤثر على أنسجة الجسم.
2– أن جراماً واحداً منه يكفي لقتل عشرة كلاب من الحجم الكبير دفعة واحدة.
3– أن حقنة منه تقدر بسنتيمتر مكعب كافية لقتل حصان قوي في لحظات قليلة.
4- أن 50 مليجرام منه تقلت الإنسان في لحظات إذا حقنت عن طريق الوريد.
التدخين هلاك للدين
حيث يبتعد المدخن عن أماكن الخير والصلاح فتجده يتوارى من الناس من سوء رائحته، بل قد يكون سبباً في ارتكاب بعض المحرمات، ناهيك عن كونه محرماً شرعاً، والله تعالى يقول: ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث .
هلاك للصحة
حيث يؤدي إلى الإصابة بضعف النسل، وضعف في جهاز المناعة، والتهاب الجلد، والسرطان في الرئة، والحنجرة والشفة، والذبحة الصدرية، والسل الرئوي، والبلغم وضيق النفس، وهذا إهلاك للنفس والله تعالى يقول: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً .
يا من يريد دمار صحته ويهوى *** الموت منتحراً بلا سكين
لا تيأسن فإن ذلك واجد *** كل الذي يرجوه بالتدخين
هلاك للمال
حيث يؤدي إنفاق المال في المحرم، بل فيما يضر، وهذا مما سُيسأل عنه يوم القيامة حيث سُيسأل { عن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه }.
ولا عجب في ذلك فالذي يتناول 10 سجائر يومياً ينفق 1000 ريال سنوياً، في حين أنه لا ينفق عُشره صدقة لوجه الله.
ماذا قال العلماء عن التدخين؟
قال ابن باز رحمه الله: "والدخان لا يجوز شربه، ولا بيعه، ولا التجارة فيه كالخمر، والواجب على من كان يشربه أو يتجر فيه البدار بالتوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، والندم على ما مضى، والعزم على أن لا يعود في ذلك".
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "فنصيحتي لإخواني المسلمين الذين ابتلوا بشربه أن يستعينوا بالله عز وجل وعقدوا العزم على تركه، وفي العزيمة الصادقة مع الاستعانة بالله ورجاء ثوابه، والهرب من عقابه، ففي ذلك كله معونة على الإقلاع عنه".
ماذا قال الأطباء عن التدخين؟
يقول الدكتور كليفورد أندرسون: "لقد دلت الإحصاءات التي قامت بها جمعية السرطان الأمريكية أن الانقطاع يفيد، ويقلل خطر الإصابة بالسرطان بمعدل النصف.. ومن المحقق أن الذين لا يدخنون هم أقل الناس تعرضاً للإصابة بهذا المرض".
ويقول الدكتور كنعان الجابي: "لقد مضى على معالجتي للسرطان 25 عاماً فلم يأتني مصاباً بسرطان الحنجرة إلا مدخن".
وجاء في تقرير الكلية الملكية للأطباء بلندن: "إن تدخين السجائر في العصر الحديث يسبب من الوفيات ما كانت تسببه أشد الأوبئة خطراً في العصور السابقة.. وجاء فيه أن 95% من مرضى شرايين الساقين هم من المدخنين".
وجاء في تقرير لأحد من مراكز البحوث الأمريكية: "إن التدخين يؤدي إلى أعلى نسبة وفيات في العالم بالمقارنة للحروب والمجاعات".
معلومات تهمك
1- إن ضحايا التدخين في العالم لا تقل عن مليونين ونصف المليون شخص.
2- إن السجائر التي تورد إلى دول العالم الثالث أكثر ضرراً من غيرها بسبب احتوائها على كمية أكبر من القطران والنيكتين.
3- إن التدخين هو العتبة الأولى في طريق المخدرات.
4- إن المدخن شخص عاجز بالمفهوم الرياضي.
5- إن المدخن شخص غير مرغوب فيه اجتماعياً.
تساؤلات صريحة
1- هل تصنف الدخان من الطيبات؟ أم من الخبائث؟
2- هل تسمي الله حينما تبدأ بشرب الدخان؟ أو تحمده حينما تنتهي؟
3- هل هناك مأكول أو مشروب حينما تنتهي منه تطأه بحذائك؟
4- هل تشرب الدخان في بيت من بيوت الله؟
5- هل حققت من الدخان كسب مادي أو صحي أو اجتماعي؟
6- ما هو موقفك حينما ترى أحد أبنائك أو إخوانك يدخن؟
متى ستقلع عن التدخين؟(/1)
أخي الحبيب.. وبعد هذا كله ألم تفكر في الإقلاع عن التدخين؟ ! ستقول – كعادتك – بلى ! وأقول متى ستقلع عنه إذاً؟ ستقول غداً أو بعد غد، أو بعد ذلك سأحاول الإقلاع عنه... إذاً أنت لم تقتنع بما قرأته آنفاً بل ستستمر على التدخين، ولن تقلع عنه أبداً ! ! ستقول لا ! إنني مقتنع تماماً بما مضى، ولكن صعب علي الخلاص منه وأخشى ألا أستمر على تركه. ! !
إذاً ما الحل أخي الحبيب؟.. هل سنقف معك في طريق مسدود؟ ستقول لا لم يصل الأمر إلى هذا الحد.. إذاً ما العمل؟ ربما تقول: " لعلي أسلك طريقاً آخر أنجو من أضرار التدخين سأتحول إلى الغليون أو الشيشة ونحوها، فعلها أقل ضرراً وأهون خطراً "، وأقول لك ما أنت إلا كالمستجير من الرمضاء بالنار، أما علمت أن ما مضى ذكره من أضرار التدخين ينطبق على الشيشة والغليون وغيرها، ربما ستقول إذاً سأنتقل إلى نوع خفيف من السجائر التي تحتوي على كمية قليلة من النيكوتين والقطران وهذه خدعة كبرى، قد ثبت ضررها وعدم جدواها، وذلك لأن هذا سبب لتدخين أكبر عدد من السجائر، وهذا يؤدي إلى امتصاص المزيد من النيكوتين والقطران، وهذا يحدث بطريقة لا إرادية. فهل نلجأ إلى هذا الحل إذاً ! [من كتاب نفيس في موضوعه بعنوان: لماذا تدخن؟].
إذاً ما الحل؟
ليس هناك حل أيها الأخ الحبيب إلا أن تترك الدخان فوراً وتهجره بلا رجعة فعشمي بك كبير، وهمتك أكبر من أن تعجز عن الفكاك من أسر سيجارة حقيرة، وليس تركه بذاك الأمر الكبير العسير إذا صاحبهُ عزيمة صادقة وهمة عالية وإرادة قوية.
الأمور المعينة على ترك التدخين
1- الاعتماد على الله سبحانه وتعالى والتوكل عليه.
2- الرغبة الصادقة والعزيمة الأكيدة والإرادة القوية في الإقلاع عنه.
3- خطط لطريقة تقلع فيها عن التدخين كأن يكون تدريجياً أو فورياً.
4- أخبر أصدقائك ومن حولك أنك ستقلع أو أقلعت عن التدخين.
5- لا ترتدْ الأماكن التي يكثر فيها التدخين.
6- استعمل السواك أو اللبان " العلك " إذا وجدت حنيناً للتدخين.
7- أكثر من شرب الماء والعصير لتخفيف تركيز النيكوتين بالدم.
8- حاول زيارة طبيب مختص تستشيره.
9- غاز ثاني أكسيد الكربون سينخفض من جسمك بعد يومين من الإقلاع عن التدخين.
10- تذكر أنك الآن أقلعت عن التدخين وأضراره وانظر لنفسك أنك شخص غير مدخن.
ولغير المدخنين همسة !
أخي في الله.. احمد الله سبحانه وتعالى على أن عافاك من هذا البلاء وسلمت من أضراره، ولكن بقي أن تعلم أن أولئك المدخنين كانوا من قبل أناس أصحاء لا يشربون الدخان، بل إن بعضهم يكرهه كرهاً شديداً، ومع لك إلا أنهم وقعوا في ما هم عليه الآن، وما ذاك إلا لأنهم تساهلوا في بعض الأمور التي تؤدي إلى الوقوع في التدخين ومنها:
1- العبث بالدخان.
2- شربه مجاملة أو حياء.
3- شربه بدعوى التجربة.
4- الجلوس في أماكن يشرب فيها الدخان.
5- الاغترار بفعل المشاهير لهذه العادة السيئة.(/2)
السّلفيّة في تونس بين رحيي السّلطة والنّهضة
بقلم: خميس بن علي الماجري*
إنّ من المعلوم بالسّياسة بالضّرورة في تونس أنّ السّلطة هناك بحكم طبيعتها الشّموليّة المنغلقة والمتطرّفة لا تتحمّل المنافسة السّياسيّة كما لا تقبل بتاتا المزايدة الدّينيّة ولذلك تعرّض التّديّن في تونس منذ أن تسلّمت تلك السّلطة البلد من فرنسا إلى عقوبة بشعة وإنتقام شرس تناقص مع الزّمن حتّى بروز الصّفة السّياسيّة للصّحوة الإسلاميّة الأولى منذ 1981 .
لقد عظم حجم كرب المتديّنين و بلغ أشدّه بعد إنتخابات 1989 وشاعت ثقافة الطّعن في الدّين من جهة ، كما شاعت ثقافة الهبوط كانت نتائجها كارثيّة على شعبنا تبيّنها بشاعة الجرائم وآنتشارها وسيادة الخوف والرّعب والضّيق الّذي يعيشه النّاس في البلد إلى درجة أن أصبح ذبح التّونسيّ لأخيه في الشّوارع وفي وضح النّهار أمرا عاديّا ...
لقد إختزلت السّلطة كما هي طبيعة الأنظمة الشّموليّة الإسلام في مسائل العبادات ، بل حتّى العبادات عودي أهلها . فزوّرت دولة " التّجفيف " الدّين تحت حجّة التّحوّلات الإجتماعيّة ، و حاربت الصّحوة دون ذنب ، تحت عنوان " تونسة التّديّن" لأنّها مشرقيّة المرجعيّة والتّوجّه ، وآدّعت أنّ الصّحوة الجديدة ماضويّة ومنغلقة .. وهذا ما يوضّح بكلّ جلاء أنّ السّلطة لها مشكل مع الإسلام ذاته تصوّرا وإلتزاما. وهذه هي المشكلة في حقيقتها : المستهدف هو الإسلام في عقائده وأخلاقه ونظمه ومن يعبّر عنه من تمثّل عامّ في أشخاص ومؤسّسات فضلا عن أفكاره المتحرّرة من الأهواء والشّبهات ، وأنّ اللاّفتات الّتي ترفعها السّلطة من هنا وهناك في تبنّيها للإسلام ، ما هي إلاّ تضليلات ..
ومن ثمّ لا تعجب من خطب المدح الغربيّة لهذه الخطّة ، لما قدّمته من خدمات عظمى لهم ، وآخرها ما جاء على لسان رومسفلت الأمريكي.
إنّ حجم الإستهداف الّذي تعرّض له الخلط بين تجفيف الإسلام في تونس وبين المواجهات الأمنيّة الّتي لحقت الصّحوة لم تعرفه دولة في الأرض، ولو آستعملت السّلطة الجهد كلّه ، أو قل ربعه لمحاربة التّخلّف وتحقيق التّنمية لتفوّقنا على ماليزيا وأندونيسيا ! ولكن أنّى لها ذلك وقد آستأصلت عبر ردم منهجيّ ومنظّم للينابيع المتنوّعة والّتي من أهمّها إستهداف أفضل رجال تونس خلقا وإدارة لكلّ معارك التّخلّف .
إنّ العدوان الّذي لحق بالتّديّن في تونس خرق كلّ الشّرائع والقوانين والقيم والأعراف . وإنّ السّلطة الّتي جعلت بتهوّكها الموضوع الإسلاميّ في قلب المعركة السّياسيّة في تونس وهي تريد أن تبعده عن ذلك ، لتستفزّ التّونسيّين لتجيّش كلّ مسلم في العالم ضدّها ، لأنّها آفتعلت عداوات كانت في غنى عنها مع كلّ مسلمي العالم ، وجلبت لنفسها السّخط من " منظّمات حقوق الإنسان الدّوليّة " ، وأسّست لعنصريّات التّفريق بين النّاس في أرض الخضراء حتّى لكأنّها جعلت من المسلم الملتزم في درجة متخلّفة أمام متساكنه الملحد أو اليهودي أو النّصرانيّ. و ذهبت تخلط الأمور ، فتعدّى مكرها إلى الإسلام ذاته : عقائده ومناهجه وذهبت تتّهم الإسلام أنّه قرين التّطرّف والإرهاب بل هو الّذي يصنع ذلك.. وما تغيير مناهج التّعليم السبّاقة في سنة 1989 إلاّ دليلا صارخا على ما أقول ...
إنّ القيادة العاقلة هي الّتي تحرص دائما على أن لا تصادم شعبها ، خاصّة في أعظم مقدّساتها وثوابتها ، وهي الّتي لا تنسى أبدا أنّ التّحكّم في خصوصيّات الإنسان تزيد في إبعاد الشّقّة بينها وبين شعبها وتزيد في تعميق الرّفض لها ، هذا فضلا عن نفاذ الأمر القدري في كلّ ظالم . وهل هناك ظلم أعظم من منع دولة لآمرأة أحرمت للحجّ بلباس حرصت على التّمسّك به بعد تمام مناسكها ؟؟؟(/1)
إنّ محاصرة الحجاب واللّحية وغيرهما إنّما هي ظواهر الأشياء وسطحها، والجوهري الأساسي لهذه المسائل هو الدّافع الإيديولوجي والثّقافي الّذي أفرز هذه المحاربة وأحكمها . ودليلي على هذا القول هذا الخطاب الكاشف عن حقيقة هذه السّلطة : " ويمثّل إلغاء تعدّد الزّوجات بمقتضى قانون الأحوال الشّخصيّة وإقامة نظام الزّوجة الواحدة تعبيرا آخر عن مبدأ المساواة بين الرّجل والمرأة . وقد أصبح تعدّد الزّوجات ـ الّذي كان هو المظهر أكثر فجاجة وظلما لعدم المساواة بين الزّوجين ـ جنحة يعاقب عليها القانون الجنائيّ وفضلا عن ذلك فإنّ الزّواج الجديد باطل ". من تقرير الحكومة التّونسيّة المقدّم إلى الأمم المتّحدة والمتعلّق بالمعهد الدّولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة بتاريخ 18 ماي 1993... ولا يمكن أن يفهم من هذا النّصّ الواضح الدّلالة الصّارخ العبارة إلاّ ـ في أحسن أحواله ـ تعقيبا على حكم الله تعالى . إنّ خطّة "التّجفيف " كلّها لها باطن ولها ظاهر ، وإنّ ما صدر منها علنا إنّما هي ظواهر الأشياء وسطحها وسقفها ، وقد بيّن هذا النّصّ بما لا يدعو مجالا للشّكّ الدّافع الإيديولوجي لواضع هذه الخطّة ، بل لتعاملها مع كلّ الإسلام عقيدة التّونسيّين منذ أربعة عشر قرنا ...
لقد أخطأ العبقريّ الأمني في مواجهة عقائد النّاس ، وما أفلحت مشاريع سلخ الإسلام من البلد ، وقلع العقيدة من قلوب التّونسيّين ، وطاشت كلّها كفقاقيع الصّابون، وذابت كالثّلج ، فما أفلحت أفلام الإباحة ولا التّشجيع على الفاحشة ولا مسك العصا الغليظة . لقد أبطل الله عزّ وجلّ المشروع الأمني ورمى به في الجحيم . { بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل ممّا تصفون } .
إنّ الاٌعتداء على حقوق الله تعالى في أن يعبد كما رسم في كتابه وسنّة نبيّه والإعتداء على محض حقوق النّاس في الشّكل والمظهر حجابا أو لحية أو لباسا ليعدّ من أعظم عدوان السّلطة على الإسلام ، وهذا وحده كفيل بتوسيع دائرة الغضب الشّعبي التّونسيّ ومزيد إنتشار التّديّن من جديد . وسبحان الله الّذي يغرس الحقّ بفعل المبطلين ، حيث جعل عزّ وجلّ من أسبابه القدريّة أن ينصر هذا الدّين بمكر الفاجر ...
إنّ خطّة تجفيف المنابع بان فشلها من خلال تضخّم ظواهر الإنحراف الأخلاقي البشع الّذي لامس كلّ طبقات الشّعب وأعظمه الذّبح أمام مرأى النّاس ، أومن خلال فساد السّلطة في كلّ ميادينها ، فجاءت رياح صحوة جديدة تريد أن تصحّح المسيرة ، أتمنّى لها أن تؤسّس على علم وتقوى و وتجرّد من أطماع الدّنيا ...
إنّ ما يسمّى بخطّة تجفيف ينابيع التّديّن لئن نجحت إلى حين في إبعاد خصم سياسيّ للسّلطة ، فإنّها كانت منطلق صحوة جديدة مطلوب منها أن تستوعب دروس من سبقها .. إنّني أتمنّى من هذه الدّولة :
ـ أن تتوقّف عن خلطها بين الأمور ، وأن لا تكون مسكونة بالحرابة ضدّ شعبها الأعزل الهارب من جحيم الضّنك والفوضى والفارّ إلى ربّه ليرسم له طريق الخلاص ..
ـ أن تتخلّص من الهوس الأمني ولا تقرأ التزام الشّباب بأنّه ثورة عليها أو خروجا عنها ...
ـ أن لا تنتقم من الصّحوة الجديدة تحت دعوى مقاومة التّطرّف ومحاربة الإرهاب أو غير ذلك من الشّعارات الرّائجة التي تخدم أجندة الغزاة .
ـ أن تعقل الدّولة وتفيق من سكرة إستئصال التّديّن ، وتجفيف الفكر والقيم بهدف حصر الإٌسلام في مرحلة تاريخيّة إنتهت منذ قرون . ولتعلم سلطة التّجفيف أنّها لن تقدر على ذلك المبتغى ، لأنّ ذلك وهم عظيم وطيش وعناد سبق وأن جرّب ذلك في بلاد الإسلام وخاصّة في البلاد الشّيوعيّة فلم يجنوا إلاّ الدّمار . إنّه قد تبيّن لكلّ ذي عينين أنّه لم تنفع جميع الأساليب الّتي إستقوت بها السّلطة في إيقاف تديّن النّاس والشّباب منهم خاصّة .ولقد تبيّن لها أنّ خطّتها كلّها إنهارت على رأسها .قال تعالى: { قد مكر الّذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السّقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون .} 26 سورة النّحل .
لابدّ أن تلغي الدّولة هذا المنهج الجائر ، وتصرف كلّ تلك الجهود الّتي تبذلها لمقاومة شبابها في تنمية البلد ، عبر مصالحة مع تديّن النّاس ورفع يد الدّولة عن التّحكّم في عقائدهم وأفكارهم ومظاهرهم وأزيائهم ومعيشتهم وأرزاقهم وغير ذلك من الحقوق الأساسيّة لكلّ تونسيّ ، وأن يسلكوا منهج الإمام مالك رحمه الله تعالى ـ إن كانوا مالكيّين ـ في رفضه أن تفرض السّلطة السّياسيّة نمطا إسلاميّا معيّنا على النّاس .(/2)
وإنّني على يقين أنّه لو ترفع السّلطة يدها عن تحكّمها في تديّن النّاس وتترك لهم حرّيّتهم في ممارسة حقّهم في التديّن: تعلّما وعملا ونشاطا دعويّا وثقافيّا ...فلن تر من شعبها إلاّ المكافأة بالحسنى لأنّ أبناء الوطن الّذين خاصموها لمّا رأوها تعارك دينهم ، فإن بدّلت السّلطة سياساتها فستراهم خدمة للبلد وسنشهد أنّ جزءا مهمّا من الإشتباك الحاصل اليوم بين الشّعب وبينها سينحلّ بإذن الله تعالى !!!...
________________________________________
إنّ الدّولة الّتي تصادم عقائد النّاس وتلاحق صالحيهم ، وتصنع واقعا متفجّرا ، وتضغط على عقول النّاشئة لا بدّ أن تتهيّأ لفشل ذريع على كلّ المستويات ، ولتعلم أنّها لا يمكن أن تشهد تنمية أو تقدّما وهي تحارب العبّاد !!فكيف تشهد تنمية وهي تفرّق بين شعبها لمجرّد إلإلتزام بالدّين !
________________________________________
إنّ الدّولة الّتي تصادم عقائد النّاس وتلاحق صالحيهم ، وتصنع واقعا متفجّرا ، وتضغط على عقول النّاشئة لا بدّ أن تتهيّأ لفشل ذريع على كلّ المستويات ، ولتعلم أنّها لا يمكن أن تشهد تنمية أو تقدّما وهي تحارب العبّاد !!فكيف تشهد تنمية وهي تفرّق بين شعبها لمجرّد إلإلتزام بالدّين !
و من المعلوم أنّ المسألة الإسلاميّة في تونس تشهد صراعا بين قطبي النّهضة والسّلطة . تقدّم الأولى تحت ضغوط ، إسلاما " مشوّها " وتقدّمه الثّانية "عقيما " ...
وحتّى لا يبقى الإسلام يعاني بين الطّرفين ، لا بدّ من معالجة صحيحة يخلص بها من تجاذبهما السّياسيّ . لقد تعرّض الإسلام في تونس إلى عمليّة آختطاف وتوظيف لصراع سياسيّ مرير بينهما، انتهى بخسارة الجميع شعبا ومعارضة وسلطة ، خسر شعبنا الدّين الحامي، وخسرت السّلطة الممعنة في التّوحّش والفوضى ثقة شعبها ، وصدمت الأمّة في إسلاميّين هبّوا يوما وقالوا إنّهم سيحقّقون طموحات شعبهم .
إنّ الإسلام لا يمكن أن يتحمّل أخطاء النّاس ولو كانوا يعملون له ، ولا يمكن أن يخضع للابتزاز أو للانتهاز من طرف أحد . وعليه فنرفض أن يعدّل من أيّ كان تحت أيّ نوع من الظّروف ، كما نرفض كذلك أن تعاقب السّلطة الإسلام – دين الشّعب – لأنّ فريقا من النّاس راحوا يعارضونها به .
لذلك لابدّ أن يعمل العقلاء عامّة وطلبة العلم منهم خاصّة على تحييد الإسلام من " الرّحي " بين الطّرفين . وأن يعملوا على حفظه من محاولات التّأويل والتّحريف والتّركيب والتّوليف والتّشويش والاحتراف حتّى يبقى صافيا نقيّا كما نزل ، يزيلون عنه ما علق به من تحريف السّلطة ، وتشويه المعارضة . دين عدل بين ظلمين ، ووسط بين تطرّفين ، وهدي بين ضلالتين ، وحقّ بين باطلين ، واستقامة بين اعوجاجين ، وحنيف بين بدعتين ، بسيط بين تعقيدين ، فطريّ بين مركّبين ، و سيّد بين آحتكارين، و مرجع للطّرفين ، وحكم للمتنازعَين..
________________________________________
انّ السّاحة التّونسيّة تعاني أزمة فكريّة غثائيّة حادّة أفقدت توازنات النّاس ، فصار الدّخل ، وثار الدّخن ، وضعفت البصيرة ، وعزّ اليقين ، وقلّ التّوكّل ، وندرت السّنّة ، وفرّخت البدعة ، وعمّ الدّجل ، وآنتشرت الخرافة ، وتكاثرت مظاهر السّحر والشّعوذة.
________________________________________
إنّ أخطر شيء على الأمّة تزييف دينها . ومن نافلة القول التّأكيد على أنّ البلد قد تفشّت فيها الأمّيّة الدّينيّة بمكر من السّلطة وبتفريط من مغامرات النّهضة ، وانّ السّاحة التّونسيّة تعاني أزمة فكريّة غثائيّة حادّة أفقدت توازنات النّاس ، فصار الدّخل ، وثار الدّخن ، وضعفت البصيرة ، وعزّ اليقين ، وقلّ التّوكّل ، وندرت السّنّة ، وفرّخت البدعة ، وعمّ الدّجل ، وآنتشرت الخرافة ، وتكاثرت مظاهر السّحر والشّعوذة ، وعظم الكرب ، وضاق الحال ، وانتشرت الفوضى والفساد في البرّ والبحر، وتوسّعت الجريمة ، وشاع الفقر ، وجاع النّاس وضاعوا ، ورتع المضلّون المضلّلون في البلد وباضوا وفرّخوا وصفّروا ، فتقاطر على كلّ ناعق منهم أعداد كبيرة من ناس الخضراء ، شيبها وشبابها ، ليعقدوا لهم أديانا باطلة ، أو ينتحلوا لهم نحلا محاها الإسلام من الخضراء منذ قرون . وعليه لا بدّ من هبّة جادّة للذّود عن حمى الشّريعة ، وللدّفاع عن شعبنا العزيز الّذي خضع لعمليّة تدمير كامل يشمل كلّ مستويات الحياة والمعاد !!
إنّ البلاد – لا قدّر اللّه - مقبلة على فتن عظيمة لم تعرفها تونس الحديثة من قبل .فتن التّحارب الإسلامي الإسلامي إن لم يتفطّن إلى ذلك المعنيّون . وهذا المكر يعدّ له ويخطّط باللّيل والنّهار من طرف تحالف الآستئصاليّين الفاسدين من الأمن البائر واليسار الانتهازي الفاجر. وعليه فلا نجاة من ذلك على حدّ قول الشّيخ محمّد الطّاهرابن عاشور- رحمه اللّه - إلاّ بتدقيق أوضاعنا الذّهنيّة وبضبط المدلولات الفكريّة وبتخليص معاني الشّريعة من الاشتباه والالتباس .(/3)
وإنّ حركة النّهضة التّونسيّة ، لم ترتق بعد إلى مستوى المحنة الّتي يعانيها شعبنا الأعزل وإلى مستوى التّحوّلات الخطيرة الّتي شهدها مجتمعنا بعدما خلا الجوّ لمشروع التّضليل .ولا يزال القوم يصرّون على عدم التّعاطي مع القضايا بإبعاد العقيدة والتّخلّي عن مطالبها ..
والأمّة في كلّ مكان بمن فيهم الصّحوة الجديدة في تونس تقاوم ، ونهضة المهجر لم تستطع أن تقاوم كمشة من أعداء الشّريعة بل مازالت تراهن على تلك النّخبة العلمانيّة الفاسدة في إصلاح الأمور وكأنّها يئست من شعبها ، وما معاداتها للصّحوة الجديدة وآتّهامها بالإنغلاق مرّة وبالتطرّف أخرى وبالمشرقيّة وبالتّكفير أطوارا ، جريا على ركوب موجة محاربة التّطرّف والإرهاب وآستقواء بالأجنبي للتّدخّل في حلّ مشاكل البلاد .
إنّ الغلوّ في شريعتنا الغرّاء مذموم في كلّ شيء ، ومنه الغلوّ في مسمّى المصالح الذي يعتمد عليه المراهنون على الإصلاح الأمريكي . إنّ الشّيطان الّذي يتناساه السّياسيّون يدخل الفساد على النّاس عامّة من باب التّحسين للأشياء ، وما دخل الشّرك إلاّ من باب الغلوّ في الصّالحين، وما دخلت البدع إلاّ في قالب الحرص على الطّاعة ،وغير ذلك.. فالعصرانيّون الّذين يحلو لهم أن يسمّوا أنفسهم وسطيّين أدمنوا في الرّضا عن أنفسهم وتزكيتهم لمنهجهم المتحلّل . فهم وحدهم المعتدلون وغيرهم يصكّونهم بأحكام سياسيّة إقصائيّة وإستئصاليّة . وهذا ما يكشف عن عصبيّة حزبيّة منغلقة مغرورة بوهم أنّهم دائما على الحقّ وأنّهم الفرقة النّاجية والطّائفة المنصورة وأن من شذّ عنهم شذّ إلى النّار . قال الأستاذ الغنّوشي وهو يخاطب من بقي معه: والمهمّ أن نستيقن أنّنا على الحقّ على طريق خدمة وطننا وامّتنا وديننا . رسالة عيد الفطر تونس نيوز 13 / 11 / 2005 وهذا من قبيل زعيمه القائل :" فدعوتكم أحقّ أن يأتيها النّاس ولا تأتي أحدا ... إذ هي جماع كلّ خير وغيرها لا يسلم من النّقص !!" ص 232 مذكّرات الدّعوة والدّاعية للشّيخ حسن البنّا . و قال القرضاوي وهو يزكّي منهجه الوسطيّ ـ زعم ـ على أنّه هو الإسلام الصّحيح :" الإسلام الصّحيح كما دعا إلى ذلك المجدّدون الأصلاء جمال الدّين والكواكبي ومحمّد عبده ورشيد رضا وإقبال وحسن البنّا " .. من أجل صحوة راشدة للقرضاوي ص101
________________________________________
إنّ الغريب ، أنّ نهضة المهجر التّونسيّة تريد أن تجعل لها شرعيّة أمريكيّة عبر صناعة وتضخيم عدوّ الجميع"، سلفيّة متشدّدة ومتطرّفة مشارقيّة منغلقة . وهذا لعمري مسلك إنتهازيّ ممقوت ومرفوض. لأنّ الخلق العظيم يلزم كلّ مسلم أن يفرح بهذه العودة المحمودة للصّحوة الجديدة في تونس ، وأن ينتصر لها ، وأن يأخذ بيدها
________________________________________
إنّ الغريب ، أنّ نهضة المهجر التّونسيّة تريد أن تجعل لها شرعيّة أمريكيّة عبر صناعة وتضخيم عدوّ الجميع"، سلفيّة متشدّدة ومتطرّفة مشارقيّة منغلقة . وهذا لعمري مسلك إنتهازيّ ممقوت ومرفوض. لأنّ الخلق العظيم يلزم كلّ مسلم أن يفرح بهذه العودة المحمودة للصّحوة الجديدة في تونس ، وأن ينتصر لها ، وأن يأخذ بيدها ، وأن يعينها عملا بقواعد الإسلام المقرّرة بوجوب نصرة المسلم عامّة والمستضعف خاصّة ، والوقوف مع المظلوم ، وعدم التّخلّي عن الأخ في كلّ الأحوال وفي التّعاون على البرّ والتّقوى والإعتصام بحبل الله والإجتماع على الدّين وان لا نتفرّق فيه وأن لا نتحزّب أحزابا ولا نتفرّق جماعات وشيعا ...بل إنّ الخلق العظيم يفرض على نهضة المهجر أن ترتقي إلى تحمّل أخطاء هؤلاء الشّباب وتحمّل الأذى عنهم ـ إن حصل منهم ذلك ولا نعلم أنّ ذلك قد حصل ـ . كان بين إبراهيم بن يزيد النّخعي والحجّاج عداء ، فأمر الحجّاج رئيس شرطته بالقبض على إبراهيم وإيداعه السّجن فأنطلق رئيس الشّرطة إلى منزل إبراهيم بن يزيد التّيمي لا النّخعي خطأ . فقبض عليه وأودعه السّجن، وأذيق في السّجن ألوان العذاب . ولمّا قيل له : لماذا لا تخبرهم بأنّك إبراهيم بن يزيد التّيمي ولست بالنّخعي؟ قال : ما كنت لأرمي به في العذاب وهو بريء لأنقذ نفسي !!!(/4)
إنّ المسلك النّهضوي مسلك مناقض لما يرفعونه من شعارات ومخالف لشرعنا العزيز. فهم يوادّون اليسار الذي حادّنا زمنا طويلا، وحاربنا ، وتحالف مع السّلطة ، ووضع خطّة التّجفيف ، وذبحونا ذبحا بليغا ، ونال من الإسلام نيلا عظيما، وأثخن في شعبنا إلى العظام ، والنّهضة لا تريد أن تزعجهم أبدا وهم يعلمون إنّهم يتمالقون ، ثمّ إنّ العلمانيّين مستعدّون أن ينقلبوا في أيّة لحظة، بمناسبة أو غيرها . لقد والت النّهضة قوما ظلمونا ، ومن أعان ظالما سلّطه الله عليه، ومن رضي البيات في عرين الذّئب فلا عجب إن افترسه يوما.والله تعالى يقول :ولا تركنوا إلى الّذين ظلموا فتمسّكم النّار وهل ثمّة ظلم أعظم من أنّهم يعادون شرع الله تعالى من وكلّ وجوهه ؟؟؟ وطبيعيّ من قوم تخلّوا عن العقيدة أن يوادّوا العلمانيّين و يعادوا الصّحوة الجديدة المؤمنة الّتي تريد حمل الأمانة ، بل تقاضيهم بمفردات الحرب على الإرهاب . وقد نسّوا في خضمّ العفس السّياسي قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم :" القضاة ثلاثة : إثنان في النّار وواحد في الجنّة " ! وقد يقضي القاضي في ربع دينار فيدخل بذلك إلى النّار. فكيف في عقائد النّاس وأسمائهم ! فهل يمكن أن نقول يتركون أهل الأوثان ويقتلون أهل الإيمان لتهمة أنّهم ليسوا نهضويّين !!!
إنّ النّهضة تخلّت عن صحوة بريئة ولم تنتصر لها كما انتصروا للعلمانيّين والشّيوعيّين بل قدّموا إخوانهم قربانا من أجل قبولهم الطّرف الإسلاميّ "الوسطيّ" . لقد أذلّ هؤلاء الوسطيّة الشّرعيّة الصّامدة على الدّين كلّه ، والمقاومة لكلّ انحراف عنه ، المتميّزة بالشّهادة على العالم بالحقّ ، العادلة في أحكامها بالقسط ، المتمسّكة بالشّريعة الكاملة والمهيمنة ، وبذلك تشهد هذه الأمّة على كلّ الأمم لمقاومتها لا لتميّعها ، ولثباتها لا لتلوّنها. { وكذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيدا } لقد تعامل الأستاذ الغنّوشي مع الصّحوة الجديدة بمنهج تبنّيها أوّلا ثمّ محاولة الإلتفاف عليها عبر دعوتها إلى تبنّي فكرها في نصح مغشوش ، حيث دعاها أن تقرأ إلى " مشائخ و مجدّدي" حركته في مقاله منذ البدء كان الدين حركة شباب . بل دعا حركته إلى أن تتحمّل مسؤوليّتها في رعاية هذه الّصحوة ، ولكنّ الأستاذ ـ مع الأسف ـ كان أوّل من خرق تلك الدّعوة حيث عمد ـ غفر الله له ـ إلى طعنها في الظّهر حيث لم يثبت ـ كعادته ـ على تلك المواقف، بل سرعان ما آنقلب عليها فهاجمهم ، وفجأة خاصمهم و" صنع منهم عدوّا للجميع " في مقالات له متعدّدة فجعلهم غولا مرعبا مخيفا فهم بتعبيراته : أصوليّون ،إستئصاليّون ،غلاة ، خوارج ، متشدّدون ، متطرّفون ، مشارقيّون ، غير عقلانيّين ... وهلمّ جرّا وبدأ يدخل كلّ تلك المصطلحات الّتي ترضي الأعداء في تحليلاته السّياسيّة ، ويقحمها قسرا للإبتزاز السّياسي ، فكأنّه يقول ـ مع مكتبه السّياسي ـ فإمّا نحن " الوسطيّون " وإلاّ الآخرون " أعداء الجميع " .
لقد كان في الثّمانينات من أكثر النّاس تحمّسا لترشيح المشارقة إلى قيادة العالم فقد جعل ـ ولا يزال ـ من الخميني والبنّا والمودودي قيادات للأمّة وزعماء الإصلاح في القرن الماضي ، ولم يجعل من بينهم مغربيّا واحدا !!! كما لا يخفى عليك حضرة القارئ الكريم تماهي الغنّوشي في التّرابي وما أبعد الأخير عن المغرب الكبير ...
أمّا اليوم وفي خضمّ الحرب الصّليبيّة على الإسلام العقائدي يركب النّهضويّون هذه الموجة لإرضاء الغازي الأمريكي فآستجابوا لطبيعة المرحلة الجديدة المعركة الكونيّة ضدّ السّلفيّة ، فسقطت نهضة المهجر في تداول العملة أكثر رواجا الّتي يسوّق لها قوى الإحتلال : التّشدّد والتّطرّف والتّكفير لآستباحة كلّ الحرّمات تحت عنوان الحرب على الإرهاب ، فآنطلقوا ينالون من الصّحوة الجديدة طمعا في فتات من مائدة الرّأسمال السّياسي .
إذا أرادت نهضة المهجر أن تكون ، وأن تستعيد ثقة شعبها، وان تسترجع مصداقيّتها ، فلابدّ أن تتخلّص من هذا الخطاب فلقد عدّ السّلف الكلام المذموم أعظم من شهادة الزّور . درء تعارض العقل والنّقل 3 / 384.
إنّ المرء ليعجب من ألتقاء مصالح النّهضة مع السّلطة في مقاومتهما للفكر والتّديّن المشرقيّين وقد جاء ديننا كلّه من الشّرق ، والتّونسيّون من أربعة عشر قرنا يدينون بإسلام مشرقيّ : عقيدة قديمة للأشعريّ الشّامي ، ومذهب مالك المدني ، وقراءة قالون المدنيّ ..ثمّ إنّ المرء ليستغرب من تصريحات من يسمّون أنفسهم الوسطيّين وفقهاء الواقع ، إذ كيف يريدون أن يقفوا سدّا منيعا أمام عالميّة الإسلام .(/5)
إنّ العمل السّياسي لنهضة المهجر، متميّز بخطاب متلوّن و مشحون بعداوة الشّباب المكابد وجريء على الموحّدين، وليّن مع العلمانيّين، وناعم مع الطّغاة . فلقد رأيت منظّر الصّحوة الأولى ينال من الصّحابة ومن الأجيال المفضّلة من أهل السّنّة بالتّنقّص والطّعن . حيث أشار كم مرّة باللّمز والهمز إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه ، وإلى أبي بكرة رضي الله عنه لروايته حديث لن يفلح قوم ولّوا أمرهم إمرأة ، والى خاله الملك المجاهد صهر النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وكاتب وحيه – رضي اللّه عنه-. فآنظر – يا رعاك اللّه – ماذا يقول في خاله الصّحابيّ الجليل :" الوالي المنشقّ معاوية بن أبي سفيان، وقد غلبت عليه - غفر الله له - شهوة الملك وعصبيّة القبيلة، فلم يكتف بأن انتزع الأمر من أهله بل ومضى في الغيّ لا يلوي على شيءٍ حتّى صمّم على توريثه كما يوّرث المتاع لابنه وعشيرته، فجمع في قصّته المشهورة ثلّة من المرشّحين للخلافة من الجيل الثّاني من الصّحابة، وأمام ملأ من النّاس قام أحد أعوانه يخطب بصفاقة... وحينئذ بدأ مسلسل الشّر والفساد، مكرّساً الدكتاتوريّة والوصاية والعصمة، مقصياً الأمّة عن حقّها، مبدّداً طاقتها في جدلٍ عقيم حول الخلافة والاستخلاف ....." . هكذا يعامل الغنّوشي بعض أصحاب النَّبِيّ- صلّى الله عليه وآله وسلّم- ، فيسيء بهم الظّنّ ويطعن فيهم الطّعن العنيف دون إعتماد على دليل قويّ ، بل يحاكمهم بمناهج الغرب . هذا قول الأستاذ في خاله معاوية وذرّيته . في حين أنّ الّرسول صلّى الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذكر بني أمية بخير ، فهم الفاتحون ، والمحطمون لعروش الكافرين ودولهم فقال :" لا يزال هذا الدّين عزيزا منيعا إلى اثني: عشر خليفة كلّهم من قريش ". أخرجه مسلم في الإمارة حديث (1821) وأخرجه البخاري نحوه في الأحكام حديث (7222) وأحمد نحوه (5/87).وذكر النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّ عهد الأمويّين رغم انّه ملكيّ ولكنّه رحمة فقال : " أوّل دينكم نبوّة ورحمة ، ثمّ ملك ورحمة ، ثمّ ملك وجبريّة ، ثمّ ملك عضوض " رواه الدّارمي 2 / 114 .
كما جرّح الأستاذ – هداه اللّه – وتنقّص ممّن قال بمسألة الاستخلاف في الحكم ، وهو بذلك لا يتنقّص من الصّحابة فقط ، الّذين أجمعوا على ذلك ، كما فعل أبو بكر مع عمر ورضي بذلك الأصحاب الكرام ، بل برسول اللّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وهو على رأي كثير من أهل العلم أنّه - صلّى الله عليه وآله وسلّم – أشار في كم من مناسبة وكم من حديث أن يخلفه أعظم أصحابه وأحبّهم من الرّجال إليه ..ويطعن الأستاذ ويتنقّص من فطاحل علماء الأمّة مثل ابن حزم الثّائر والغزالي وابن تيميّة وابن رشد وابن خلدون لأنّهم أجمعوا مع الأمّة على الاستخلاف . انظر الحرّيات العامّة ص163 . قال الأستاذ – هداه اللّه - : " ويشعر المرء بالقرف من استمرار هذا العفن قائماً في تراثنا الدّيني وفكرنا السّياسي، ويضع يده مباشرة على هذه الألغام التي قوّضت حضارة الإسلام وأسلمتنا إلى الانحطاط ، إنّه من غير ثورة شاملة تطيح بهذه السّموم التي لا تزال تجري في دماء الأمّة وتشلّ طاقتها وتجهض انتفاضتها، وتحبط أحلام نهضتها، فلا أمل في انطلاقة متينة قويّة قاصدة منتجة الحضارة من جديد في أمّتنا... فويل لتاريخ الازدهار من ليالي الانحطاط، هل نحن أهل لوراثة الخلافة الرّاشدة ونحن نلقي عليها بمزابل انحطاطنا؟ "الحريّات العامّة" ص162 . وقال : " فقد غدا الاستبداد طابعا مميّزا لها جميعا بل غدا مؤسّسة تعيد إنتاجه في مستويات مختلفة ... من تجربةالحركة ص 218 . وقال ـ وهو يتحدّث عن أخيار النّاس من القرون المفضّلة بنصّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : " فتنكّب عنها الأحفاد لأنّهم لم يكونوا في مستواها وقد أشربوا رحيق الأكاسرة والأباطرة وبقايا العصبيّة القبليّة النّتنة ، فأغشى أبصارهم ظلام القرون ... الحرّيّات العامّة ص163 .
قلت : ليس غريبا أن يقذف الأستاذ الصّحوة الجديدة ، وقد ذكرت لك ـ حضرة القارئ الكريم ـ بعض نصوص تمرّد الرّجل على ثوابت الأمّة ، بل طعن في أفضل ناسها بشهادة الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : " خير النّاس قرني ثمّ الّذين يلونهم ثمّ الّذين يلونهم ثمّ الّذين يلونهم..."(/6)
وقلت : سبحان الله ، كيف يشطّب الأستاذ بجرّة قلم واحدة مجد الأمّة الّتي دحرت الفرس والرّوم والتّتار والصّليبين وعاداها كلّها من أجل مسألة لا وجود لها في شرعنا المطهّر ، وقد جعلها أصلا من أصول الدّين وعقيدة للولاء والبراء ، خالف فيها المسلمين بميزان الهوى الّذي عدّله وضبطه بميزان قيم الغرب الدّيمقراطيّة . فبها حكم على أمّة الوسط العظيمة بالانحطاط والمزابل .. فاللّه المستعان !!! أمّا الحكّام المزوّرون ، والملوك الأحياء الّذين آستخلفوا وورثوا الحكم ولدا عن والد أو عن الإستعمار ، ولم يرفعوا للإسلام راية ، بل كانوا حربا عليه ، فكم من مناسبة يخاطبهم بصفة الملوكيّة والمدح والتّعظيم والإجلال ، فها هو يقول في محمّد السّادس دون أن أعلّق :... وهو ما تنبّه إليه الملك الشّابّ .. أمّا فصيل التّوحيد والإصلاح فقد قاد عمليّة نوعيّة واسعة لتطبيع علاقة الحركة الإسلاميّة في المغرب مع العرش العلويّ الّذي يتميّز عن كلّ أنظمة المنطقة المغاربيّة بحرصه على آستمداد شرعيّته من الإسلام والانتساب إلى العائلة النّبويّة الشّريفة . من مقال له : الخطاب الدّيني في المغرب العربيّ. وقال : " ـ في ملك الأردن ـ : جلالة الملك الحسين ... وحتّى جلالة الملك الحسن الثّاني ... المتوسّط س 1 ع 12 ص 3 بتاريخ 17 /08/ 1993. و يمدحهم كم مرّة أمام العالم على القنوات الفضائيّة، و يحلّ ضيفا عليهم يأكل ممّا يأكلون ويشرب ممّا يشربون ، بل قد يدعى لأداء مناسك الحجّ من طرفهم فلا آغبرّت له ساق ولا شعثت له رأس .
وهل هؤلاء الّذين يمتدحهم وصلوا إلى السّلطة بالإنتخابات الدّيمقراطيّة الّتي يموت عليها ومن أجلها : لقد دافع بآستماتة يائسة و بائسة على مجلس الحكم في العراق وهو المنصّب من طرف الغازي الصّليبي !
وقال في طاغية اليمن وحليفه المهزوم :" فنحن نشهد لعلي عبد اللّه صالح وحليفه الاشتراكي بالسّبق و الرّيادة... المتوسّط س 1 ع 12 ص 3 بتاريخ 17 /08/ 1993. وقال لطاغية الجزائر زروال : إلى الأخ الأمين زروال رئيس الدّولة الجزائريّة .. لقد أغراني بالكتابة إليك نزاهتك ونظافة يدك وعمق وطنيّتك ، وهي عملة نادرة في مستوى النّخبة ... أيّها الأخ الرّئيس ... من رسالة له بتاريخ 08/02/ 1994 . وقال :" أمّا ليبيا فالحالة الثّقافيّة فيها هنا تشبه على نحو ما الحالة الموريطانيّة في أنّ البلدين لم يشهدا قطيعة بين التّراث والحداثة فحتّى الوثيقة المرجعيّة للدّولة الكتاب الأخضر يحتلّ فيها الاسلام موقعا مهمّا ، واللاّفتات في كلّ مكان تعلن أنّ القرآن هو شريعة المجتمع .. الخطاب الدّيني في المغرب العربي.
وقال :" المجدّد القائد العلاّمة المجاهد الشّيخ حسن التّرابي ، وإلى قائد الثورة الإسلاميّة المعاصرة الإمام الخميني ،و... يتمتّع بتأثير معنويّ هائل فيطاع طاعة تامّة ويتصرّف في خمس المال – مجلّة المعرفة س5 ع 2 بتاريخ 12 /02 / 1979، وهكذا يمدح لصوصيّة الخمس وصوفيّة الطّاعة ويجعلها شرعة ومنهاجا وقد غاب عنه أنّ هذه لصوصيّة الاحتراف الدّينيّ يرفضها العقل السّليم وليس فيها نصّ شرعيّ بيّنها اللّه عزّ وجلّ في قوله { يا أيّها الّذين أمنوا إنّ كثيرا من الأحبار والرّهبان ليأكلون أموال النّاس بالباطل ويصدّون عن سبيل اللّه }. التّوبة 34.
ولو رأيت الأستاذ كيف يحترم ماركس ولينين وكاسترو رؤوس الكفر العالمي ، فيقول: " وليس ماركس ولا لينين وكاسترو – مع الآحترام لهم - نحن مع العمل المشترك . وقال في الطّاغوت بوتن :" ألم يصنع الرّئيس الرّوسي بوتن سابقة إذ طلب العضويّة الشّرفيّة في منظمّة المؤتمر الإسلامي . وذلك ضمن قراءة نافذة للمستقبل ، وفي تواضع بعيدا عن طموح مغرور " .. من مقال الغرب والدّيمقراطيّة والإسلام ..... وكيف يبكي آن ماري شمّل المستشرقة الألمانيّة ، وقال فيها ما قال ضدّه في الصّحابة – وهو لا يعلم هل ماتت على الكفر أم على الإسلام ؟ :" علاّمة الإسلاميّات الكبيرة الفقيدة...ولم تكن تعوزها روحيّة وفدائيّة العلماء المجاهدين ..السّيّدة العظيمة كالطّود الأشمّ...الرّاحلة النّاسكة المتبتّلة... فحقيق على المسلمين... أن يمجّدوا ذكراها وأن ينشروا آثارها ومآثرها في العالمين... حركة النّهضة... ترفع تعازيها إلى أسرتها وزملائها و... وواللّه لا أذكر انّه ترضّى عن معاوية مرّة واحدة – وقد عشت معه ردحا من الزّمن – في حين أنّه يترضّى عن الضّال الخميني ويعزّي الإيرانيين في آبنه أحمد ويترحّم عليه ويتضرّع إلى اللّه .... تونس الشّهيدة س 1 ع 22 ص 8 بتاريخ 17 / 3/ 1995.(/7)
وكيف يبكي صديقه القوميّ اليمنيّ جار اللّه العمر ..وكيف يبكي على من جاء بالأمريكان إلى العراق ..... وابن علي رئيس دولتنا ...وأمريكا لها شرف ... وأمريكا صاحبة إصلاح وخطّطت لجعل العراق منارة الشّرق الأوسط تهدي الحائرين إلى أنوار وبركات الدّيمقراطيّة الأمريكيّة ... والشّرف الأمريكيّ. من مقال له بعنوان من دلالات الحدث التّونسي موقع تونس نيوز رقم 1507
إنّ الرّجل فاته الأدب مع الصّحابة جميعا بمجرّد طعنه في أحدهم . ومعاوية ستر من هتكه فقد هتك بيت الصّحابة جميعهم .. ولكنّ الرّجل سبق وأن خانه الأدب مع الأنبياء كذلك في طعنه في بعضهم . واليك الأدلّة
فقد إتّهمهم بالفشل في أمر لم يكلّفهم به اللّه تعالى في الجمع بين الإصلاح العقائدي و السّياسي فقال " وهو تعبير صارخ عن فشل مهمّة الجمع بين الإصلاح العقائدي و السّياسي معا." الحركة الإسلاميّة ومسألة التّغيير ص 25 ..قلت ولعلّ هذه التّقليعة أثر من غرس الخميني القائل : " لقد جاء الأنبياء جميعا من أجل إرساء قواعد العدالة ، لكنّهم لم ينجحوا . حتّى النّبيّ محمّد خاتم الأنبياء الّذي جاء لإصلاح البشريّة لم ينجح في ذلك ".من خطاب ألقاه في ذكرى مولد المهدي في 15 شعبان 1400 هجري .
وقال الغنّوشي : " وموسى أجاب قومه بغضب ...ومات حسيرا .." وقال في سليمان قولا لم أجده حتّى في كتب الإسرائيليّات " وسليمان قتل خيله وجيشه ." نفس المرجع.
وهكذا ينال الأستاذ من الأنبياء عليهم السّلام بنيله من سليمان و موسى ، أسوة بشيخه الرّوحي المجدّد الضّال الخميني ، ويحرّف مهامّهم فيجعلها تحقيق الحرّيّات قال :" إنّ تحقيق وحفظ الحرّيّات العامّة يعدّ الهدف الأساسي من بعثة الرّسل " مقاربات في العلمانيّة والمجتمع المدني ص 21 . أمّا الأمّة والشّعوب المسلمة البسيطة الّتي لم تصب بالدّخن فتقول بقول القرآن المبين ، أنّ الهدف الأساسي من بعثة الرّسل وخلق آدم وإنزال الكتب هو توحيد اللّه تعالى وأن لا يشرك به شيئا قال تعالى {ولقد بعثنا في كلّ أمّة رسولا أن آعبدوا اللّه وآجتنبوا الطّاغوت} . النّحل 36
وآنظر كيف ينال من مخالفيه المتمسّكين بقول جمهور الأمّة في إشارات النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لآستخلاف أبي بكر :" قوّل أدعياء التّسنّن على نبيّهم ، فأوّلوا إنابته لأبي بكر في الصّلاة على أنّه آستخلاف ... الحرّيات العامّة ص 162
ولو رأيته كيف يقسو ـ في حماس طائش ـ على من قال" إنّ المرأة خلقت من ضلع أعوج " تسليما لما ثبت عن النّبيّ المعصوم صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وجعله تأويلا " يكرّس تبعيّة المرأة للرّجل على الصّعيد الاجتماعي وانمحاء شخصيّتها وذوبانها في شخصيّته وتكريس التّميّز والأفضليّة على أساس الجنس ". المرأة بين القرآن وواقع المسلمين ص 15 .ويذهب إلى تأويل النّصوص الحديثيّة النّبويّة حتّى تتلاءم مع نضال الحركة النّسائيّة المعاصرة ،بل حتّى يزايد بها على بورقيبة المعقّد . آنظر إلى نفس المرجع .
ولو سمعته في دروسه المسجديّة العامّة كيف كان يحرّض البنت الصّغيرة أن تضرب أخاها دفاعا عن نفسها متى ضربها ! فما رأيك لو تنشأ البنت التّونسيّة على ضرب الرّجال ! فتصوّر حجم الكوارث الّتي ستحصل في ظلّ نظام إضطهد فيه الرّجال أمام تبجّحه أنّه ساوى بين الجنسين ، بل وحّررها من إستبداد الرّجل .
ولست أدري ماالّذي جرّ الأستاذ إلى إنكار نصوص واضحة الدّلالة ويلوي أعناقها إلاّ للمزايدة على بورقيبة الّذي آجتمعت عليه عقد عظيمة ليدّعي كذبا انّه حرّر المرأة . كما كان ولا يزال يتنقّص من علماء الأمّة السّنّة وينال منهم تماما كما يفعل الشّيعة فقال : " قاموا بصفقة تاريخيّة لهم الشّريعة والحكّام لهم السّلطة . الحركة الإسلاميّة والتّغيير ص 30 . والوفاق التّاريخي بين العلماء والحكّام . نفس المرجع ص 31 ...
كما ذكر أنّهم وظّفوا من طرف الحكّام وجعلوهم أدوات للاستبداد . قال هداه الله : "... متّخذة من الدّين ومؤسّساته وعلمائه مجرّد أدوات تستخدم عند الحاجة ...وكانت محنة الإسلام وعلمائه عظيمة مع هذه الدّولة فآختار بعضهم المعاضدة للحكّام جريا على عادة علماء الإسلام..." ونسي أنّ سادة العلماء إمتحنوا من طرف من يشبهه في فهم الإسلام كالمعتزلة وغيرهم !!!(/8)
وقد ذهب كذلك بعيدا في منهجه السّياسي المتفلّت من الشّريعة ، المزهوّ بالكلام ، حين شبّه الله تعالى بالمخلوق وهو يرمي بالألفاظ العظيمة دون نظر في مدلولاتها أتصيب أم تخطئ ! فقال : " نظام الحكم في تونس ينتمي إلى أعتى الدّكتاتوريّات ذات العلامة المميّزة من مثل تنظيمه انتخابات يضمن فيها نجاحه المتكرّر بالنّسب الخياليّة 99،99 في المائة الّتي لا يمكن أن يحصل عليها حتّى الأنبياء . بل ربّ العزّة ذاته لم يبلغ المؤمنون به قطّ هذه النّسبة . أقلام أون لاين س 1ع 2 أكتوبر2001 .وقد كان بالأمس يقول : ثقتي في الله وبن عليّ !! قارن أخي القارئ بين هذه الأقوال وبين ما قاله في السّلف وفي بعض الصّحابة وفي فشل الأنبياء وفي العلماء الطّراطير المتواطئين وفي تشبيه ربّه بخلقه وغير ذلك كثير والله تعالى هو الهادي إلى سواء السّبيل
أعذرني قارئي الكريم عن هذه النّقول القليلة فما أردت إلاّ أن أشير إلى منهج الرّجل في تطييش الكلام وتنقّصه من الآخرين ، وكثرة تنقّلاته وتلوّنه في دينه ، وعظم تناقضاته ، وفي تحريفه في فهم الشّريعة ، ومن نيله من الأخيار ، ومن تعظيمه للأشرار ، ومن فعل ذلك فقد جعل نفسه عرضة للخصومات . ولقد حذّر السّلف الفاضل من هذه الفتنة . فقد جاء عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى :" من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التّنقّل ." رواه الدّارمي رقم 310 والآجري في الشّريعة ص56 والبغوي في شرح السّنّة 1/217 .
إنّ الّذّي صدر عن نهضة المهجر في حقّ الصّحوة الجديدة ليعدّ حقّا تفلّتا أخلاقيّا ، حيث حكمت على صحوة جديدة بالتّطرّف والإنغلاق والمشرقيّة وغير ذلك ممّا يشينها بما صدر من مظهرهم أو بما جاءهم من بعض المسجونين عنهم في قبور الطّغيان ، فكيف يحاكم عاقل صحوة إعتمادا على أقوال بعض المساجين الّذين قد نجد لهم أعذارا وقد وجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لمن عاداه فقال إنّهم لا يعلمون !!!
لتنته نهضة المهجر ومنظّرها خاصّة عن هذا الخطاب القائم على الكبر والغرور وتنقّص المخالف وتشويهه فضلا عن خطاب الإستقواء باليسار أو مدّ طوق نجاة للسّلطة كي تذبح الصّحوة الجديدة ...
إنّ لسان حال نهضة المهجر بمسلكها " الإبتزازي " الخاطئ مع الصّحوة الجديدة في تونس باتّهامها بالإنغلاق والتّطرّف والمشرقيّة كأنّه يقول: إقبلونا نحن الوسطيّين الذين طوّعنا الإسلام لمحاور العصر و الحداثة ، وإلاّ فإنّ المتطرّفين الحرفيّين المشارقة البدو قادمون وإنّهم سيتنكّرون للمكاسب الحداثيّة لحركة النّهضة وسيهدّدون السّلم الإجتماعي الّذي حافظنا عليه مع جميع المتعايشين .
إنّ العاقل ليستغرب من إدانة نهضة المهجر للصّحوة الجديدة في حين أنّنا لم نر منها بعد إنتاجا فكريّا أو زعيما أو برنامجا أو منافسة ، خاصّة وهي تعاني وتكابد من أجل الإلتزام بالحدّ الأدنى من التّديّن ، إلاّ إذا رضيت نهضة المهجر أن تحاكمها على ذلك .
وإنّ الذي يلفت الإنتباه حقيقة أنّ حركة الّنهضة وهي ضحيّة الإستئصال والقمع تذهب في إستئصال إخوانها المخالفين من أجل القبول بها وحدها ، ومن سعى بالمنع كمن دعا إلى القمع.
وإنّ المرء المتّزن ليعجب من قوم يقبلون بشرعيّة الشّيوعيّين إذا آختارتهم " الدّيمقراطيّة" في حين أنّهم يرفضون إخوانهم دون جرم إقترفوه و لم يطرحوا أنفسهم بعد بديلا أو منافسا لهم !!! فهل يليق أن لا تجد نهضة المهجر ملجأ لحماية نفسها أو طريقة لجلب مكسب حزبيّ لها إلاّ بالتّضحية بالأخوّة الشّرعيّة وجلب الضّرر لشباب طريّ ورفع راية أنّهم الخطر على البلاد وأنّ الجحيم آت !!!
إنّ ما صدر من قيادة نهضة المهجر على الصّحوة الجديدة ليعدّ من قبيل الأحكام السّياسيّة المتسرّعة والغير المبرّرة المخالفة لمنهج العمل السّياسي الشّرعي المصطبغ بالورع والعدل . ولقد شدّد الشّارع العزيز على تغليظ التّحريم في باب الأحكام على الأسماء والأديان ، فمن رضي أن يكون قاضيا فقد ذبح بغير السّكّين ، وفي الصّحيح :" من ولي القضاء أو جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين "الألباني / صحيح الترغيب / رقم2171 .
الخلط بين السّلفيّة والتّطرّف :(/9)
إنّ من نافلة القول أن نؤكّد على أنّ الإسلام يعادي التّطرّف في كلّ صوره وأشكاله ، بل قامت شريعتنا الحنفيّة المهيمنة على : الاعتدال والقصد والوسط والسّماحة والبساطة واليسر ورفع الحرج ودفع الضّرر ومنع الغرر وغير ذلك من الأمور المقرّرة بإجماع الأمّة في كتب الأصول .. وعليه فإذا قصد بالتّطرّف الفهم والتّمثّل المختلّينّ للشّريعة كالجنوح إلى التّشدّد والغلوّ ، فهذا ننكره لأنّه يخالف طبيعة ديننا السّمح ، وإذا جنح كذلك إلى التّساهل والتميّع والذّوبان فهذا إنحراف آخر يفضي إلى الإرجاء الجبري يجب أن ينكر عليه شديد الإنكار . وإذا تقرّر ذلك فإنّ كلاّ منهما يعدّ تبديلا لدين اللّه تعالى و تحريفا له. والإسلام الذي ندين به ربّنا نهانا عن ذلك أشدّ النّهي : {لا تبديل لكلمات الله} . 64 . يونس ما يبدّل القول لديّ . 2 ق .
لا بدّ من تحديد مفهوم التّطرّف ؟ كيف نحكم على المخالف بالتّطرّف ؟ ومن يحكم بذلك ؟ هل هي الحزبيّة السّياسيّة ؟ أم العلم الشّرعيّ ؟ وهل الّذي لا يلتزم بمنهجي لا بدّ ـ لأمر يراد ـ أن أرجمه كرها بالتّطرّف وأصكّه قسرا بالإنغلاق ؟ و هل ثمّة حقيقة تطرّف إسلاميّ في تونس ؟ وما هو حجمه ـ إن وجد ـ في مقابل التّطرّف العلمانيّ السّائد ؟
إنّ الخلط المقصود بين السّلفيّة والتّطرّف ما هو في الحقيقة إلاّ مكر وضعه الغزاة المحتلّون للتّضليل المتعمّد لتحقيق مآربهم وأطماعهم وإشباع أحقادهم بلا حدود تحت لافتة محاربة الإرهاب ، ولا يتبعهم في ذلك المسلك إلاّ " متواطئ " درى أم لم يدر. وإنّ اقتناص الفرص والتّهويل على الصّحوة الجديدة والتّشويش عليها والتّنفير منها أو التّحريض والإثارة من أجل إختطاف بعض المكاسب ولو تحقّقت ، فهي لم تركب سبيل الإستقامة والعدل، وهي بذلك لا تحقّق خيرا ولا بركة ولا تزكية ، ولا يجنى ثمرا لأنّ ما قام على باطل فهو باطل .
كما أنّه لا ينظر إلى الأحكام حتّى يعرف ممّن صدرت وفي حقّ من قيلت، ثمّ لا بدّ من دليل قويّ يستند عليه في الأحكام ، ثمّ لا بدّ من شهادة ورع عدل وإستقلاليّة تامّة لمن يتبوّأ بالحكم على النّاس .إذ " القول لا يصحّ لفضل قائله وإنّما يصحّ بدلالة الدّليل عليه "إبن عبد البرّ في جامع بيان العلم 2 / 118
إنّنا في سنوات الخداع ، وعليه فينبغي أن لا يعطى أيّ آعتبار في مثل هذا الزّمن إلى الرّويبضة . وبالتّالي لا شرعيّة لمن يحكم على المخالف بالتّطرّف دون حجّة إلاّ متطرّف مغال قاعدته كلّ من خالفني فهو ضدّي ، فمن يحاكم من ؟ فلا يحكم مبتدع على متّبع ، ولا حزبيّ على سنّي ، ولا جاهل على متعلّم ، ولا لاحق على سابق ، ولا عفيف على متملّق ، ولا متعالم على عالم ، ولا متشبّع بما لم يعط على من شهد له أهل العلم والفضل ، لأنّ من علم حجّة على من لم يعلم .
إنّ الأصل في الأشياء أن يقابل عظم التّحلّل من الشّريعة في تونس والتّحدّي لها ومؤسّساتها ورجالها بمثله من الجدّ في التّمسّك بالدّفاع عن الدّين كلّه دون تردّد وبكامل الوضوح والشّجاعة . وإنّ المتابع لنهضة المهجر في خطابها وأدائها يلحظ ـ مع الأسف ـ حرصها الشّديد على منهج الرّخاوة في عدم كسر علاقاتها الواهنة مع العلمانيّين والملحدين ، و تكتم الحقّ بل تلويه وتضرب الشّريعة بعضها ببعض ، حتّى أنّ زعيمها لا يدعو المسلمين في دولته القادمة إلى الصّلاة بل يدعو إلى حقّ الرّدّة وعدم تطبيق الحدّ على المرتدّ ،وعلى تولّي المرأة الإمامة العظمى ، وتولّي غير المسلمين المهام ّ العظمى كالقضاء ورئاسة الشّورى ، و يستعين بوسائل الملحدين دون حرج أو وخز ضمير في ذلك .. فإذا كان هذا حالهم ، فليس لهم من حقّ أن يتّهموا غيرهم بالتّشدّد أو الإنغلاق أو غير ذلك من الأحكام الخالية من الورع والّتي يشمّ منها المكر السّياسي .
لقد درج المتحرّرون منذ ظهورهم في بداية القرون الأولى بالطّعن في المتمسّكين بما عليه السّلف الفاضل. ولقد ذكر السّلفي المقاصدي الإمام الشّاطبي أنّ متحرّري زمانه الّذين ركبوا موجة المقاصد دون ضوابط ، كانوا يسمّونه بفقيه السّراويل لأنّه دمغهم بضبط المقاصد الشّرعيّة للسّنّة لا للأهواء ، وما فتئوا ينبزون السّنّيّين بالألقاب النّابية فسمّى الزّنادقة أهل الأثر بالحشويّة ـ أي بقلّة الفقه والفهم ـ ، وسمّى القدريّون أهلَ السّنّة مجبرة ، وسمّى الجهميّة أهلَ السّنّة مشبِّهة ، وسمّى الشّيعة أهلَ الأثر نابتة ـ أي الأحداث الصّغار...آنظر كتاب : عقيدة السّلف، للصّابوني (ت 449 هـ)، ص 304. وآنظر إلى تنزيه أئمّة الشّريعة عن الألقاب الشّنيعة لأبي إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس الشّافعي .
لتغيّر نهضة المهجر خطابها :(/10)
إنّ الحداثيّين الّذين يرجمون من خالفهم بالتّطرّف وبالبداوة والإنغلاق وغير ذلك من النّعوت المتنقّصة ويسيؤون الظّنّ بهم ولا يثقون في من خالفهم من إخوانهم يقدح لا شكّ في مصداقيّتهم ، حيث أنّهم يعطون الحقّ لقوى الهيمنة أن تحقّق أهدافها في ضرب العقائديّين ، وبذلك يتلطّخ الحداثيّون أمام شعوبهم سواء بقبولهم طرفا في الصّراع لتصفية المشرقيّ الوافد المخيف ، أو عندما يقبلون أيّ شكل من أشكال الدّعم من قوى الهيمنة ، أو بتنازلاتهم المذلّة و بانقلاباتهم على مبادئهم ، ليرضوا بالتّدجين والمحاصرة في سقف الخصوم ومربّعهم ، وسيؤكلون كما أكل أشباههم من قبل وستكون دائرة السّوء عليهم بعد أن خذلوا إخوانهم . إنّ هذا النّوع من الخطاب الإستعدائي المخيف الّذي أدمن عليه نهضة المهجر والّذي يتنقّص من مخالفيهم ويزدريهم ، بل ويستحلّ أعراضهم بالأحكام الباطلة ، للقيام بالواجب الدّيمقراطيّ وسط غابة وحوش العلمانيّين ، لينبئ عن غلوّ سياسيّ وتماهي حزبيّ على حساب ثوابت القيم ممّا ألحق بهم خسائر كبيرة نالت من مصداقيّتهم وشرعيّتهم .
وإنّ الخطاب الّذي تمارسه نهضة المهجر القائم على الإزدواجيّة الّذي ورّطها في تناقضات عديدة ، والقائم على وهم المقاصد ، دون ضوابط على حساب قدسيّة النّصّ والتّسليم له هو نفس الخطاب الّذي تمارسه كلّ العائلات السّياسيّة بمن فيهم الحزب الحاكم واليسار المتطرّف بأقدار ، حيث أنّهم يدّعون دون آستثناء أنّهم مسلمون مجتهدون في الشّريعة المرنة المفتوحة والعقلانيّة، وبذلك يكون منهج النّهضة اليوم لا يختلف عنهم تماما في الجرأة على إنتهاك أحكام الشّريعة تحت العناوين المخادعة المتترّسة بالتّيسير تارة وبسماحة الدّين تارة أخرى ، وباعتدالها ووسطيّتها أحيانا أو بالإجتهاد وآختطاف منهج المآلات وغير ذلك من الشّعارات الّتي يقصد بها تهميش الشّريعة و ضرب بعضها ببعض ..
السّلفيّة في تونس بين رحيي السّلطة والنّهضة 2 / 2
... بقلم: خميس بن علي الماجري(1)
إنّ الحركة الإسلاميّة حركة إصلاح أو لا تكون، وإذا تقرّر ذلك فعليها أن تعمل على وحدة المسلمين ولا تأتي بما من شأنه أن يعمّق الخلاف بين المسلمين، فلقد قال إبن مسعود رضي الله عنه : " الخلاف شرّ ".
وإنّ تونس ليراد لها أن تتمزّق بين الإسلاميّين لأنّ هذا ما يريده لها خصومها. فلقد جهّزت السّلطة التّونسيّة لتلك المهمّة ما هو مصنوع من طرفها، ومنها ما هو مخترق فكريّا وتنظيميّا، ومنها من هو موال إلى بدعة الإرجاء الّذين يقدّمون دينا يوافق أهواء الملوك، ومنهم من هو بريء يحتاج إلى أخذ اليد والمساعدة وإنقاذهم ممّا يحاك ضدّهم لأنّهم نشأوا بعد حرب الإستئصال الّتي آنطلقت بعد انقلاب الجنرال إبن علي على سيّده بورقيبة.
وعليه، فلا بدّ أن نعمل جميعا على إعطاء هؤلاء الشّباب حقّ التّعبير عن أنفسهم ونأخذ بأيديهم ونتعاون على البرّ والتّقوى وعلى الإجتماع والائتلاف، ولنقلع مع خطاب الوصاية عليهم وإقصاءهم ولنقطع مع أساليب الفرقة والإختلاف والنّزاع والإشتباك.
إنّ معالجة أسباب العدوان أهمّ وأعظم من معالجة آثاره، ذلك أنّ أعظم ظلم أسّسته السّلطة وحمته ورعته هو عدوانها على الإسلام، دين شعبنا وعقيدته وهوّيته وحصنه الحصين وملاذه الأمين. وعليه فلا يمكن أن يعالج أيّ ملفّ من الملفّات الضّخمة في بلدنا دون رفع هذا الظّلم الأعظم وهو سبب العدوان الأصليّ بين المجتمع وبين السّلطة. وإنّه بدون حلّ حقيقيّ لهذا العدوان المستمرّ من السّلطة بأن تقلع عن ظلمها للإسلام ومؤسّساته ورجاله والملتزمين به، فلن تحلّ الإشتباكات القائمة أبدا. ومع الأسف فقد إعتنى النّاس في البلد بمعالجة الآثار السّطحيّة للعدوان ولم يعتنوا بأسبابه الحقيقيّة !!! ولقد جمعت حركة النّهضة قديما كلّ متديّن رأى بأمّ عينيه إنتهاك السّلطة لعقيدتهم وآعتداء على مقدّراتهم وآفتكاكا لأرزاقهم ورأوا فيها الأمل للحلّ لما كانت ترفعه من شعارات شرعيّة. ولو تركت السّلطة النّاس أحرارا في تديّنهم فهما وعملا ونشاطا علميّا ودعويّا وثقافيّا فستحلّ أجزاء كثيرة وكبيرة من الإشتباك. وإن لم تفعل فإنّ دائرة الغضب اليوم إتّسعت وتجاوزت النّهضة التي قبلت بالإحتواء و التّدجين إلى غيرها من الشّباب الرّافضين للتّنظّم السّياسي والمتمسّكين بالحقوق الإلاهيّة الأبديّة الثّابتة أن لا يعبد إلاّ إيّاه ولا يشرك به شيئا، ولا يتّخذ النّاس بعضهم بعضا أربابا من دون الله.(/11)
في الوقت الذي تتعرّض فيه السّلفيّة إلى حملات تشويهيّة شعواء وشرسة غربيّة، يفاجئنا خطاب النّهضة التّونسيّة بركوب تلك الموجة لينقل شرور نيران تلك "الحرب" فوق أرض الخضراء متساوقا مع منهجه الخاضع لآغتنام الفرص ولو كانت تحت مظلّة مؤامرة أمريكيّة، وهو ما ينمّ عن تحلّل القوم من ثوابت قيم طبيعة هذا الدّين العظيم، وهو ما يبيّن كذلك إصرارهم على التشبّث بمسلكهم المغالي في نفخ ما يتوهّم لهم من مصالح.
وإنّ محاولة نهضة المهجر لنقل تلك الحملة فوق أرضنا المباركة الّتي سلمت من فتن التّحارب الإسلاميّ الإسلاميّ، وقبولها بالتّوظيف الأمريكيّ لما يسمّى بالمعتدلين لا يستفيد منها إلاّ خصوم الشّريعة بجميع أطيافهم والذين قد يتعلّقون بمثل هذا الحبل المددي النّهضويّ فيعدمون به هذه الصّحوة الجديدة في مهدها لا قدّر الله. وتكون النّهضة بذلك قد طعنت الأخوّة الشّرعيّة في عظام قدر كونيّ أحسب أنّ الله عزّ وجلّ أراد من خلاله أن يظهر دينه من جديد ويبطل به مكر التّجفيف.
إنّ معاداة الصّحوة الجديدة في تونس لا يحقّق لحركة النّهضة أوهامها لأنّها آختارت ومنذ زمن بعيد أن تستسلم لشروط من آفتتنت بهم فتراهم أقوياء يملكون كلّ خيوط اللّعبة السّياسيّة في أيّ مكان في العالم.
كما أنّه من الخطإ الفادح أن تضع نهضة المهجر نفسها في موقع الشّبهة، وأن تنوب عن غيرها في حرابة " السّلفيّة التّونسيّة " وأن تلعب في ساحة رسمت لها من طرف غزاة في ظرف دولي أجمع فيه الخاصّ والعامّ ّعلى أنّ قوى الإستكبار والإحتلال إتّفقت على محاربة فكر الحركة الإسلاميّة المقاومة. وإنّ منهج التّخويف المفتعل من الصّحوة الجديدة وآتّهامها لا أظنّ أنّه يجلب الإحترام لحركة النّهضة التّونسيّة فضلا عن قدرتها على إختطاف مكاسب عجزت عنها منذ 26 سنة.
إنّ من المؤسف حقّا أن نر هذه الحركة تنخرط في هذه الحملة الظّالمة والمشبوهة على السّلفيّة في تونس ووصمها بالإطلاقات العالميّة المنبوذة للإيقاع بها وإقصائها، حتّى يخلو للنّهضة التّمثيل الشّرعي والوحيد للإسلام والدّفاع عنه، في حين أنّنا لم نرها منذ أكثر من ربع قرن، تجرؤ على انتقاد العلمانيّين أو تنال من بند من بنود مجلّة الأحوال الشّخصيّة الّتي يفتخرون بها، فضلا عن رفع شعار تطبيق الشّريعة. ولقد أتيحت الفرصة هذه الأيّام لحركة النّهضة أن تنتقد مجلّة الأحوال الشّخصيّة التّونسيّة الّتي تروّج لها السّلطة في العالمين العربي والإسلاميّ على أنّها نموذج تونسيّ للتّقدّم والحداثة عبر آنتهاك الشّريعة الغرّاء، ولكن مع الأسف جارت تلك الحركة الحداثيّين جميعا حتّى لا تبدو متخلّفة ومتحجّرة فتلحق بالسّلفيّة الّتي يحاربها كلّ أعداء الإسلام. وإليك أخي القارئ الإنتهاكات الصّارخة لهذه المجلّة لشريعتنا الكاملة، حتّى يظهر لك مدى آنحراف حركة النّهضة في منهجها المتخاذل في الدّفاع عن الإسلام في حدّه الأدنى : الدّفاع بالكلمة الطّيّبة.
مقدّمة بين يدي مناقشة أعضاء المكتب السّياسي لنهضة المهجر في خصوص مجلّة الأحوال الشّخصيّة التّونسيّة :
مجلّة الأحوال الشّخصيّة التّونسيّة هي لوائح قانونيّة وضعها الحبيب بورقيبة المعقّد ليفرض ثقافة جديدة، ونمط علاقات إجتماعيّة غربيّة غريبة عن تونس المسلمة، ولقد ضبط في هذه المجلّة الحقوق والواجبات بين الرّجل والمرأة مستنسخا القوانين الغربيّة ليفرضها على شعبنا المحافظ لتمزيق الوثاق الإجتماعيّ والأخلاقي ّ والقيميّ. ولا يخفى أنّ تماسك المجتمع وآستقرار الأسرة لا يتحقّقان إلاّ بقواعد عادلة وسليمة وشاملة.
ونحن المسلمين نعتقد أن لا أعدل ولا أسلم ولا أحكم ولا أجمع من مرجعيّة شرعة الله تعالى : { ألا يعلم من خلق وهو اللّطيف الخبير} ؟... { وتمّت كلمة ربّك صدقا وعدلا }... { وإن تطيعوه تهتدوا }... { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }... { ومن أصدق من الله قيلا }...! { إنّ الدّين عند الله الإسلام }... { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه }... {ثمّ جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها، ولا تتّبع أهواء الذين لا يعلمون }...{ وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه، ولا تتّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله }... { أفحكم الجاهليّة يبغون ؟ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ؟ }... { فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرّسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }... { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.}... { فماذا بعد الحقّ إلا الضّلال } ؟ ...(/12)
إنّ العلمانيّين المقدّسين للمواثيق الدّولية والأحكام العولميّة ينكرون علينا حقّ تمسّكنا بالقرآن والسّنّة كمصدرين وحيدين تشريعيين لحياتنا في بلادنا الإسلاميّة. وما زالوا يصرّون على اعتماد توصيات المؤتمرات والاتّفاقيات الدّوليّة مرجعيّة لحقوق المرأة بدل الشّريعة الإسلاميّة ؟ وإنّنا نحن المسلمين نعتبر أنّ مشاكلنا جاءت وكثرت بسبب ابتعادنا عن شريعتنا فهما وتنزيلا، وعليه فإذا أردنا أن نبحث عن حلولٍ لمشاكلنا فلا مناص من الإحتكام إلى مرجعيّتنا القيميّة والأخلاقيّة وإنّ حركة النّهضة التّونسيّة الّتي آرتضت أن تلعب في ملعب كبار رهبان الدّيمقراطيّة وقساوستها فقد اختارت أن لا تزعج العلمانيّين أبدا، ولم تحسن حتّى الوقوف عند خطوط الدّفاع ودوائر ردّ الفعل، وعوض أن نشهد لها مبادرات تحمي حقوق المرأة وفقاً لثوابت الشّريعة الإسلاميّة وتبعاً لمقاصدها، فقد راحت تزايد على المعقّّدين، ففي الوقت الّذي لم أقرأ ولم أسمع أن دعا بورقيبة أن تتولّى المرأة الإمامة العظمى، فقد دعا الغنّوشي متساوقا مع شيخه التّرابي إلى ذلك. كما أنّها ـ أي حركة النّهضة ـ لم توظّف العدد الكبير لإقبال النّساء على الصّحوة مؤشّرا معبّرا عن إرادة واعدة ووعي متقدّم يدفع إلى مراجعة تلك المجلّة وضبطها كلّها على الشّريعة السّمحاء !!!
إنّ أسئلة عديدة يطرحها العقل الحائر الغيّور تبيّن بجلاء عجز النّخبة من الإستفادة من الإمكانيّات الضّخمة الّتي تمتلكها الحركة الإسلاميّة، ولكنّها مع الأسف لم تهتد إليها، تفكيرا فضلا عن تمثّلها، ومن تلك الأسئلة : لماذا لا تعدّ نهضة المهجر دراسة علميّة أكاديميّة ـ وهي في المهجر حيث تسمح لها الظّروف بذلك ـ فتقدّم حلولا للمآسي الّتي جلبتها المجلّة، وفق ثوابتنا والتّأكيد على حماية سيادتنا وعدم تدخّل الأجنبي في خصوصيّاتنا وفرض قوانينه علينا ؟ لماذا لا تدعو تلك الحركة وهي الّتي تدندن حول " الدّيمقراطيّة " وحقّ الشّعوب في الإختيار إلى أن يأخذ الشّعب قراره بنفسه في هذه المجلّة ؟ لماذا تصرّ هذه الدّولة التّونسيّة على فرض قوانينها اللاّشرعيّة عبر قنواتها الغير الشّعبيّة ؟ لماذا هذا الإصرار العنيد على هذه المجلّة المفروضة من طرف رجل شهد الخاصّ والعام أنّه معقّد مخاصم لديننا؟ لماذا يصرّ حزب حاكم على إلزام شعب مسلم بخيارات أقلّيّة علمانيّة ؟ لماذا لا تراجع هذه المجلّة في دوائر خارج أجهزة الدّولة ؟ لماذا لا تبعث لجان مختصّة من رجال الفقه والإجتماع ليصحّحوا المسار ؟ فلقد رفضت شعوبنا المسلمة بتعبيرات مختلفة هذه الإسقاطات للنّفايات الّتي لم تصلح أوضاع غيرنا، فكيف تصلح شأن أمّة عقيدة مقاومة تضرب هويّتها وذاكرتها وعظمتها إلى آلاف قرون التّوحيد.
________________________________________
لقد وقعت حركة النّهضة في دائرة مفرغة منذ ربع قرن، يوم أن آختارت الرّهان على العمل السّياسي فسكتت عن كوارث تلك المجلّة، لتدخل في وفاق على الإبقاء على معاناة التّونسيّين الّذين آكتووا بنار هذه المجلّة وبغيرها.
________________________________________
لقد وقعت حركة النّهضة في دائرة مفرغة منذ ربع قرن، يوم أن آختارت الرّهان على العمل السّياسي فسكتت عن كوارث تلك المجلّة، لتدخل في وفاق على الإبقاء على معاناة التّونسيّين الّذين آكتووا بنار هذه المجلّة وبغيرها، بل لقد حوّلت المرأة إلى ورقة يتنافس حولها أطراف النّخبة المتعالية على هموم الشّعب الرّاهنة لمصائر ملايين الأسر الّتي رحتها تلك القوانين الفاجرة. لقد قبلت النّخبة بما فيها النّهضة ـ ضمن وفاق المصالح ـ ورضيت أن تكون المرأة ضحيّة رحي بصمتهم على الكوارث الّتي حلّت بها.
مناقشة أعضاء المكتب السّياسي لحركة النّهضة في خصوص مجلّة الأحوال الشّخصيّة التّونسيّة :
وممّا جاء في ردود أعضاء المكتب السّياسي لحركة النّهضة في الحوار الّذي أجراه موقع " كلمة " المحسوب على اليسار التّونسيّ ، ليكشف بكلّ جلاء عن حال المهزوم الّذي لا يقدر حتّى على ردّ الفعل ! فهم يقرّون بأنّ هذه الخروقات للشّريعة يمكن آعتبارها " مكاسب " حضاريّة لتونس، وغير مطروح في أجندتهم معارضة هذه المجلّة نهائيا، ولا يتحدثون فيها ولا يتناقشون فيها أصلا في مشروعهم السّياسي. بل إنّ هذه الأشياء كلّها يتحمّلها الفقه الإسلامي الذي هو مرجعية كل هذه الآراء، إن لم يكن في الرّاجح ففي المرجوح، ولا تجد رأيا من هذه الآراء إلاّ وله سند في الفقه الإسلاميّ، بحيث ليست لهم مشكلة مع هذه القضيّة أبدا ...(/13)
وممّا جاء من أقوالهم أيضا :"وتعدّد الزّوجات فيه آراء مختلفة، وعندنا قاعدة شرعيّة تقول: إنّ الحاكم له أن يقيّد المباح وإذا أباح الدّين شيئا من الأشياء ورأى الحاكم أنّ من المصلحة تقييد ذلك ببعض القيود بزمن معيّن أو بشرط معيّن فمسموح له ذلك. ومسألة التّعدّد منزوعة من أذهاننا..." ، هذه بعض أقوالهم ـ هداهم الله ـ. وهذا كلّه يشبه مقولة قديمة قالها الأستاذ الغنّوشي بأنّ المجلّة إجتهاد داخل الشّريعة. وهذا خطأ فاحش، لأنّ الاجتهاد لا بدّ أن يكون منضبطا بالنّصّ لا خارجا عنه فضلا أن يتجاوزه أو يتحدّاه أو يضادّه بأيّ وجه من الوجوه، كما هو الحال في قوانين المجلّة المخالفة للشّريعة والطّاعنة فيها. فلا يمكن أن نصف تلك الخروق بالإجتهاد أصلا فضلا أن نقول إنّها داخل الفقه الإسلاميّ.
وأنا هنا أستسمحك أخي القارئ أن أذكر لك ـ في عجالة ـ تحريفات المجلّة المذكورة للشّريعة حتّى يتبيّن للّذي لم يطّلع عليها وليظهر له الحقّ من الباطل، وليتبيّن فساد منهج نهضة المهجر في تناول القضايا.
نصوص قوانين مجلّة الأحوال الشّخصيّة التّونسيّة :
أ ـ في منع تعدّد الزّوجات : نصّ القانون : " تعدّد الزّوجات ممنوع، كلّ من تزوّج وهو في حالة الزّوجيّة، وقبل فكّ عصمة الزّواج السّابق يعاقب بالسّجن لمدّة عام وبخطيّة قدرها مائتان وأربعون ألف فرنك أو بإحدى العقوبتين..." وهذا مخالف ومحاد لأمر اللّه تعالى المبيح للتّعدّد في نصوص الشّريعة كلّها قرآنا وسنّة وإجماع الصّحابة وعمل الأمّة منذ 1427 عاما .
ــ فمن القرآن، قال تعالى : { فآنكحوا ما طاب لكم من النّساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة } النّساء (3) .
ــ ومن السّنّة : عمل النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، حيث نقل إلينا تواتر تعدّد زواجه
ــ ومن عمل الخلفاء والصّحابة : فقد جاء من هديهم رضي الله عنهم أنّهم عدّدوا.
ــ إجماع الأمّة على هذا الأمر إعتقادا بالشّرعيّة وتطبيقا عمليّا منذ نزل الوحيّ " يحدّد " العدد إلى أربعة، بما في ذلك التّونسيّون داخل الوطن وخارجه ولقد إنتشر هذا الأمر في تونس في الآونة الأخيرة وللّه الحمد.
ولنبيّن أنّ الّسّلطة التّونسيّة الّتي شرعت مالم يأذن به الله تعالى، بل خالفت أمره تعالى مكابرة وعنادا ومحادّة ومشاقّة، قرّرت إلى الأمم المتّحدة ما يفيد التّعالي على الشّريعة وما يستفاد منه إلاّ القدح في حكمة الشّارع والطّّعن فيه والتّباهي بإلغاء التّعدّد وبالمعاقبة عليه أشدّ العقوبة فضلا على اعتبار الزّواج الثّاني باطلا: " ويمثّل إلغاء تعدّد الزّوجات بمقتضى قانون الأحوال الشّخصيّة وإقامة نظام الزّوجة الواحدة تعبيرا آخر عن مبدأ المساواة بين الرّجل والمرأة. وقد أصبح تعدّد الزّوجات ـ الّذي كان هو المظهر أكثر فجاجة وظلما لعدم المساواة بين الزّوجين ـ جنحة يعاقب عليها القانون الجنائيّ وفضلا عن ذلك فإنّ الزّواج الجديد باطل ". من تقرير الحكومة التّونسيّة المقدّم إلى الأمم المتّحدة والمتعلّق بالمعهد الدّولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة بتاريخ 18 ماي 1993
ب ــ : تأبيد تحريم مجلّة الأحوال الشّخصيّة من طلّق زوجته بالثّلاث وتحريمها أن يراجع زوجته : كما حرّمت مجلّة الأحوال الشّخصيّة أن يراجع الزّوج مطلّقته بالثّلاث بعد طلاقها من زوج غيره : جاء في الفصل 19 منها : " يحجّر على الرّجل أن يتزوّج مطلّقته ثلاثا " وهذا معاند لأمر الله المبيح. قال تعالى : { فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجا غيره فإن طلّقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنّا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله }. البقرة (230)
ج ـ مسألة التّبنّي : أباحت المجلّة المذكورة التّبنّي الّذي حرّمه الله عزّ وجلّ بصريح :(/14)
ــ القرآن ، قال تعالى :{ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. أدعوهم لآبائهم هُوَ أَقْسَط عِنْد اللَّه } . فقَوْله تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } هَذَا هُوَ الْمَقْصُود بِالنَّفْيِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْن زَيْد بْن حَارِثَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ " مَوْلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَبَنَّاهُ قَبْل النُّبُوَّة فَكَانَ يُقَال لَهُ زَيْد بْن مُحَمَّد فَأَرَادَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَقْطَع هَذَا الْإِلْحَاق وَهَذِهِ النِّسْبَة. { ذَلِكُمْ قَوْلكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ } يَعْنِي تَبَنِّيكُمْ لَهُمْ قَوْل لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُون اِبْنًا حَقِيقِيًّا فَإِنَّهُ مَخْلُوق مِنْ صُلْب رَجُل آخَر فَمَا يُمْكِن أَنْ يَكُون لَهُ أَبَوَانِ كَمَا لَا يُمْكِن أَنْ يَكُون لِلْبَشَرِ الْوَاحِد قَلْبَانِ { وَاَللَّه يَقُول الْحَقّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيل } قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر{ يَقُول الْحَقّ } أَيْ الْعَدْل وَقَالَ قَتَادَة { وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيل } أَيْ الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم.
وَقَوْله عَزَّ وَجَلَّ : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَط عِنْد اللَّه } هَذَا أَمْر نَاسِخ لِمَا كَانَ فِي اِبْتِدَاء اللإِسْلام مِنْ جَوَاز اِدِّعَاء الْأَبْنَاء الْأَجَانِب وَهُمْ الْأَدْعِيَاء فَأَمَرَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِرَدِّ نَسَبهمْ إِلَى آبَائِهِمْ فِي الْحَقِيقَة وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْعَدْل وَالْقِسْط وَالْبِرّ "... بتصرّف تفسير إبن كثير.
ـ وبعمل النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ـ وبإجماع الأمّة.
لقد فتح شرّ التّبنّي الباب إلى شرور عظيمة أخرى حيث أباحوا للمتبنّى كلّ حقوق الإبن الشّرعيّ فأعطوه أموالا ضبطتها الشّريعة لغيره، كما يطّلع على عورات محرّمة عليه، كما ألزموه بنفس الواجبات، وجعلت المجلّة الحكم الصّادر من حاكم النّاحية نهائيّا ولا رجعة فيه قطعا مع تراجع المتبنّي فضلا عن توبته وندمه!!!
فبعد هذه المخالفات الصّارخة للشّريعة الغرّاء كيف تسمح حركة النّهضة لنفسها أن تقول ما قالت. إذ كيف تكون مسألة التّعدّد منزوعة من ذهن مسلم وقد نزعت من أذهان حركة النّهضة، وهي من مسائل المعلوم من الدّين بالضّرورة تشريعا وإباحة، كيف لا تكون هذه المجلّة مشكلة وقد خالفت الشّريعة بل صادمتها وعاقبت المتمسّك بالحلال والمباح وتسامحت مع المنتهك للحرمات. وصدق من قال : " إنّ الضّعيف يجعل ما عليه أهل القوّة بأنّه هو الحقّ، وإنّ المنهزم لا يمنعه شيء، وأنّ المغلوب المهزوم محكوم بقوانين الأقوياء ". ولذلك عدّ المجدّد شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهّاب ـ رحمه الله تعالى ـ أنّ من مسائل الجاهليّة : " الإستدلال بما عليه أهل القوّة بأنّه هو الحقّ ".
وقد ذهب إبن حزم رحمه الله تعالى من قبل أنّ المغلوب ينسى هويّته وذاكرته بل ينسى حتّى أنسابه وأخباره وعلومه!!! فقال ـ وهو يتحدّث عن اللّغة ـ : " إنّ اللّغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم وآختلاطهم بغيرهم، فإنّما يقيّد لغة الأمّة وعلومها وأخبارها قوّة دولتها، ونشاط أهلها وفراغهم، وأمّا من تلفت دولتهم وغلب عليهم عدوّهم، وآشتغلوا بالخوف والحاجة والذّلّ وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت الخواطر، وربّما كان ذلك سببا لذهاب لغتهم ونسيان أنسابهم وأخبارهم وعلومهم، وهذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل ضرورة " الإحكام في فصول الأحكام. 1 / 32. فهل يوجد في الفقه الإسلاميّ منع المباح بل تحريمه وجعله جريمة " قانونيّة " يعاقب بموجبها المؤمن كـ"مجرم " بالسّجن وبالغرامة ؟ فهل في الفقه الإسلامي مثل هذا الغثاء ومثل هذا الهراء ؟ وكيف يكون تحريم التّعدّد مرجوحا ؟ وهل يجد له " النّهضويّون " سندا في الفقه الإسلاميّ ؟ وكيف لا يكون منع التّعدّد مشكلة وهي وحدها كارثة من الكوارث الّتي فتحت شرّ باب التّجرّؤ على كلّ الشّريعة، و تتنادى اليوم أصوات العلمانيّين المتطرّفين في تونس عالية ودون خجل أو حياء بتسوية المرأة بالرّجل في الإرث. أليست تلك المجلّة جحيما فتح أبواب الفاحشة والخيانات الزّوجيّة وما نتج عليه من تفكّك أسري وتذرّر مجتمعيّ أنتجت مؤسّسات العقوق والبؤس الّتي أحدثتها الدّولة تقليدا للغرب الممزّق عائليّا وآجتماعيّا فهي الّتي تشرّع للأبناء أن يرموا آباءهم وأمّهاتهم إلى مقابر الغدر ومؤسّسات العقوق وتكايا إنكار الجميل. والله المستعان !!!(/15)
ثمّ هل قاعدة " أنّ الحاكم له أن يقيّد المباح وإذا أباح الدّين شيئا من الأشياء ورأى الحاكم أنّ من المصلحة تقييد ذلك ببعض القيود بزمن معيّن أو بشرط معيّن فمسموح له ذلك " وهي القاعدة الّتي يحتجّ بها دائما النّهضويّون تتنزّل على كلّ حاكم ؟ فهل حاكم مثل بورقيبة الّذي تحدّى مشاعر المسلمين وفعل ما فعل في الإسلام والقرآن والنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومؤسّسات تونس الإسلاميّة ورجالها، أو مثل إبن علي الّّذي واصل في نفس خطّ سيّده بأكثر تطرّفا وآستئصالا يبيح لهما الإسلام العزيز ـ في نظر حركة النّهضة ـ أن يجتهدا في شرعه المطهّر ؟ فهل الّذي يرسل مثل ذلك النّصّ ـ المذكور أعلاه ـ إلى الأمم المتّحدة يمكن أن تنزّل عليه تلك القاعدة ؟ ألا يمكن آعتبار توظيف تلك القواعد تحت باب كلمة حقّ يراد بها باطل ؟ {ولو آتّبع الحقّ أهواءهم لفسدت السّماوات والأرض ومن فيهنّ } المؤمنون (71)
________________________________________
خيارات السّلطة التونسية متناقضة ومتحدّية للشّرع المطهّر فقد حرّمت التّعدّد الحلال وأباحت الزّنا المحرّم، حيث جعلت في كلّ مدينة دورا للبغاء العلنيّ المرخّص له من قبل إدارة الدّولة والمحروس بالشّرطة، وجعل الدّعارة مهنة " شريفة " بحكم التّرخيص القانونيّ له تحت قانون "تنظيم مهنة الدّعارة" ثمّ تقبض الدّولة رسوم الضّرائب من تلك القذارات، وهذا سبق تونسيّ لا يوجد له مثيل في بلد العرب والمسلمين.
________________________________________
كان الأولى من نهضة المهجر أن تنتقد خيارات السّلطة المتناقضة المتحدّية للشّرع المطهّر الّتي حرّمت التّعدّد الحلال والّتي أباحت الزّنا المحرّم، حيث جعلت في كلّ مدينة دورا للبغاء العلنيّ المرخّص له من قبل إدارة الدّولة والمحروس بالشّرطة، وجعل الدّعارة مهنة " شريفة " بحكم التّرخيص القانونيّ له تحت قانون "تنظيم مهنة الدّعارة" ثمّ تقبض الدّولة رسوم الضّرائب من تلك القذارات، وهذا سبق تونسيّ لا يوجد له مثيل في بلد العرب والمسلمين!
كان الأولى لحركة النّهضة أن تشنّع بما جاء في هذه المجلّة المذكورة من مخالفات للشّرع العزيز كقتل قيمة الشّرف والدّفاع عن العرض وإماتة الغيرة وزرع الدّيوثة من ذلك: القوانين الّتي تعطي للمرأة الحقّ أن يكون لها عشيقا، فإن خانت زوجها، و ضبطها متّلبّسة بهذه الجريمة، وثأر لدينه و لعرضه فقتل عشيقها يقتل بذلك ولو كانت تلك الخيانة قد حصلت في بيته جهارا نهارا.
ومن المخالفات الواضحة الّتي شرعتها السّلطة التّونسيّة :
ـ إباحة أن تتزوّّج التّونسيّة غير المسلم، تحت عنوان " إلغاء جميع أشكال التّمييز ضدّ المرأة " وقّّعت سلطة التّجفيف على معاهدة نيويورك المتعلّقة بحرّيّة الزّواج.
ـ إسقاط شروط العدالة في شاهدي الزّواج فكلّ آمرئ يستطيع أن يشهد على زواج ما دون نظر إلى عدالته الشّرعيّة، فالسّكران مثلا يحقّ له أن يشهد فضلا أن يكون شيوعيّا ملحدا أو غير ذلك ممّن طعن أهل العلم في شهاداتهم، وأبدلوا الشّاهدين بشاهد واحد ولا بأس أن تكون امرأة ولو بغياب الوليّ، وبتحديد المهر بدينار تونسيّ واحد، وكلّ هذا مخالف لمذاهب أهل السّنّة ومنها مذهب الإمام مالك الّذي يدين به التّونسيّون !
فهل يعقل أن تسكت حركة النّهضة عن كلّ هذه الأمور ولا تجعلها من اهتماماتها بل تقول إنّ الشّريعة تسعها.. وكلّ رأي نجد له سندا من الشّريعة فهو دين ! فهل إلى مثل هذا المستوى يدين هؤلاء ربّهم ويرضون لشعبهم أن يبقى في مثل هذا الحال من البؤس والفاحشة والتّعاسة والمنكر والإبعاد عن الله تعالى. ثمّ تسكت هذه الحركة بل تلبّس على النّاس دينهم بتبرير ذلك الباطل، وهي تدّعي أنّها حركة إسلاميّة وسطيّة، فهل تعني الوسطيّة عند هؤلاء إقرار الخبث في الشّعب المسلم .
إنّ مواقف هذه الحركة لا بدّ أن تتّسم بالوضوح والشّفافيّة والمسؤوليّة والجدّ والشّجاعة،أمّا الغموض والإطلاق والتّلوّن فهو من كتمان الحقّ الّذي لا يستفيد منه إلاّ الباطل. قال الإمام أبو علي بن خليل السّكوني : " وكلّ كلام وإطلاق يوهم الباطل فهو باطل بالإجماع " لحن العوام فيما يتعلّق بعلم الكلام . ص 137
أدعو حركة النّهضة التّونسيّة أن تكفّ عن الخطاب المثقل بالتّشهّي وتتبّع رخص الهزيمة وموافقة الغرض والإغترار بفقه ضغوط الواقع الّذي أنشؤوه ووسّعوا خرقه. لا بدّ أن تتوقّّف عن خطاب : فيه قولان، فيه خلاف، في المسألة فسحة، أو كلّ مسألة يتحمّلها الفقه الإسلامي، إن لم يكن في الرّاجح ففي المرجوح. وله سند في الفقه الإسلامي..فهل المخالفات الصّارخة للكتاب والسّنّة في هذه المجلّة يتحمّلها الفقه الإسلاميّ ؟ ففي أيّ راجح ومرجوح تندرج تلك المخالفات الواضحة للشّريعة الغرّاء ؟(/16)
إنّ الّذي صدر عن المكتب السّياسي لحركة النّهضة في المهجر ليس هو إلاّ أقوال خفيفة طائشة لا يقول بها أحد من أهل العلم لوضوح مصادمتها للنّصوص القطعيّة الثّبوت والدّلالة. والدّين هو الإتّباع للدّليل كما تعلّمنا وليس هو الخاضع للهوى أيّا كان نوعه. قال إمام المقاصد الإمام الشّاطبي رحمه الله تعالى : " العلم الّذي هو العلم المعتبر شرعا ـ أعني الّذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق ـ هو العلم الباعث على العمل، الّذي لا يخلّي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيّد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها " الموافقات 1 / 89 .
إنّ حركة النّهضة أدمنت على كتمان الحقّ، وتمرير الأهواء على النّصّ و التّعسّف في تأويله فضلا عن إبعاده وتخطّيه وتعميته وكتمانه، كما يفعل " المتحرّرون من النّصّ " دائما، وليعلم القارئ الكريم، وهو على علم، أنّ من القواعد المعتمدة عند "المتحرّرين من النّصّ" المتحلّلين منه والّذين يحلو لهم أن يسمّوا أنفسهم " الوسطيّين " أنّ كلّ شيء عندهم جائز، وأنّ الأصل في كلّ شيء عندهم الإباحة وأنّهم لا يتحرّون في دينهم ولا يعتنون بفقه الأحوط والدّليل الأقوى، فكلّ الآراء عندهم دين والنّصوص الصّحيحة عندهم فضلة، حتّى لقد حكى الخطّابي قديما عن أدعياء "وسطيّي" زمنه أنّهم يقولون :"كلّ مسألة ثبت لأحد من العلماء فيها القول بالجواز- شذّ عن الجماعة أو لا – فالمسألة جائزة. الاعتصام 2 / 510. وقال شيخ الإسلام وهو يتحدّث عن منهج الّذين يجعلون الشّريعة على المزاج والعقل فما رأوه شرعا فهو الشّرع لا غيره فقال : " اعتقدوا معاني ثمّ أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها "..مقدّمة في أصول التّفسير ص 81. وهو عين ما قاله ابن أبي العز: "كلّ فريق من أرباب البدع يعرض النّصوص على بدعته وما ظنّه معقولاً، فما وافقه قال: إنّه محكم، وقبله واحتجّ به، وما خالفه قال: إنّه متشابه ثم ردّه وسمّى ردّه تفويضاً، أو حرّفه، وسمّى تحريفه تأويلاً، فلذلك اشتدّ إنكار أهل السّنّة عليهم". شرح الطّحاوية: ص: 399. وقال الإمام الشّاطبي– رحمه اللّه تعالى - :" فكلّ هذه الأمور مذمومة أشدّ الذّمّ لأنّ هذا من عمل الجاهليّة فقد كان النّاس في الجاهليّة يتبعون ما تستحسنه عقولهم وطباعهم فجاء النّبيء صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فردّهم إلى الشّريعة ". الإعتصام1 /93.
________________________________________
قد يعذر المرء بجهله ولكن لا يعذر بعلمه و ظلمه، وأعظم الظّلم تشويه الإسلام بترك بيانه ودفع الشّبهات عنه وكتمانه ومداهنة خصومه وإرضائهم لوهم البحث عن القاسم المشترك معهم عبر العفس في عظم الشّريعة المطهّرة.
________________________________________
قد يعذر المرء بجهله ولكن لا يعذر بعلمه و ظلمه، وأعظم الظّلم تشويه الإسلام بترك بيانه ودفع الشّبهات عنه وكتمانه ومداهنة خصومه وإرضائهم لوهم البحث عن القاسم المشترك معهم عبر العفس في عظم الشّريعة المطهّرة.
إنّ منهج إرضاء النّاس بسخط الله تعالى الّذي آثرته النّهضة، منهج خاطئ بائر لا يحصد إلاّ الخيبة ! وفي الصّحيح " من أرضى الله بسخط النّاس كفاه الله النّاس ومن أسخط الله برضى النّاس وكّله الله إلى النّاس ". وإنّ سبيل إلتماس إرضاء النّاس بإغضاب الله ما هو في الحقيقة إلاّ خذلان وتخلّي إلاهيّ نعوذ بالله من ذلك ! وفي الصّحيح :" من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة النّاس، ومن آلتمس رضا النّاس بسخط الله وكّله الله إلى النّاس " ولتحسن قيادة النّهضة إلى تليين الجناب مع إخوانهم المخالفين، وعوض أن يرحموا اليسار فليجد إخوانهم في الدّين المخالفين لهم كالسّلفيّين ـ مثلا ـ منهم رحمة فهو خير لهم، وليحسنوا إلى إصغاء كلام الله تعالى وليتّبعوا أحسنه وأقواه وأبينه ومحكمه ولا يتعلّقون بالمتشابه، أو بكلّ قول دون البحث عن حجّيّته : { أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم }..{أليس الله بكاف عبده ويخوّفونك بالّذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ؟؟؟ }..{ ودّوا لو تدهن فيدهنون }..{ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتّخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا }.(/17)
" إنَّ من مقتضيات الإيمان الثّقة و اليقين في هذا الدّين والصّبرَ عليه والثّباتَ حتّى الممات مهما عصفت الفتنُ أو ادلهمّت الخطوب، فإنّه بالصّبر واليقين تنال الإمامة في الدّين كما جاء عن إبن القيّم رحمه الله تعالى، ولقد مرّ بالمسلمين شدائد عظيمة ونكبات عديدة، انتهت فيها خلافتها الرّاشدة وسقطت دولتها الممتدّة ونال الأعداء من المسلمين نيلا عظيما، ومع كلِّ هذا فلم يورِث ذلك في نفوس المسلمين شكًّا في عقيدتِهم، ولم تدفعهم إلى التطلّع لما عند أعدائِهم من مبادئ وأساليبِ حياة وأنماط سلوك تُخالف شريعتَهم ويأباها دينُهم، ولم يرَوا الحقَّ إلاّ في دين الله عقيدةً وسلوكًا ونظامَ حياة، وهذا هو معنى الاستعلاء في قولِ الله عزّ وجلّ: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}. آل عمران :139 ، أي: أنّ العزّة والعلوّ بالإيمان والثّبات عليه، لا بالغلبةِ والظّهور."
قال سيّد قطب رحمه الله تعالى في ظلاله في قوله تعالى : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } 145 سورة البقرة. "....ونقف لحظة أمام هذا الجدّ الصّارم، في هذا الخطاب الإلهيّ من الله سبحانه إلى نبيّه الكريم الذي حدّثه منذ لحظة ذلك الحديث الرّفيق الودود.. إنّ الأمر هنا يتعلّق بالإستقامة على هدي الله وتوجيهه ؛ ويتعلّق بقاعدة التّميّز والتّجرّد إلاّ من طاعة الله ونهجه. ومن ثمّ يجيء الخطاب فيه بهذا الحزم والجزم، وبهذه المواجهة والتّحذير.. إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ. إنّ الطّريق واضح، والصّراط مستقيم.. فإمّا العلم الذي جاء من عند الله. وإمّا الهوى في كلّ ما عداه. وليس للمسلم أن يتلقى إلاّ من الله. وليس له أن يدع العلم المستيقن إلى الهوى المتقلّب. وما ليس من عند الله فهو الهوى بلا تردّد. "
إنّ حركة النّهضة التّونسيّة تاهت وفقدت توازناتها وهي تمارس التّلوّن الأهوائي. فلكي لا تفقد ثقة كمشة من اليسار لا يقيم لهم شعبنا وزنا ولا بالا، ولأنّها ترهب الضّجّة والحساسيّة الّتي يثيرها الأصدقاء والحلفاء المؤقّّتين للنّهضة ولو لمجرّد الدّعوة إلى إعادة النّظر في جزئيّة بسيطة من تلك المجلّة، فكيف لو تدعو إلى المطالبة بتطبيق الشّريعة !!!. قال الأستاذ الغنّوشي في جريدة المتوسّط التّونسيّة في 27 /05 /1993 : " فالمطالبة بتطبيق الشّريعة في الأردن أو في اليمن أو الكويت لا يثير من الضّجّة والحساسيّة ما يثيره مجرّد الدّعوة إلى إعادة النّظر في جزئيّة من مجلّة الأحوال الشّخصيّة في تونس ".
نعم لقد تكبّلت حركة النّهضة بوهم قبولها طرفا سياسيّا وبسراب عضويّتها فيما يسمّى " المجتمع المدني"، حتّى صارت عاجزة عن الدّفاع عن جزئيّة إسلاميّة بل حتّى بالتّصريح عن هويّتها الحقيقيّة ولذلك قالوا " نحن لسنا حزبا دينيّا " وبذلك تؤبّد النّهضة مخالفات السّلطة للإسلام وتسوّغ لهذه التّحريفات وتباركها. هذه هي الحقيقة كاملة. ففي الوقت الذي قطعت حركة الإخوان الدّوليّة أشواطا مهمّة في الدّعوة في كلّ مكان ومنذ زمان إلى تطبيق الشّريعة عبر شعار الإسلام هو الحلّ، تبقى حركة النّهضة التّونسيّة وحدها النّشاز والحالة الفريدة الّتي تخشى ضجّة وحساسيّة النّخبة المتهالكة الّتي آختارت أن تخاصم ربّها، ولا تستطيع النّهضة إلاّ أن تستسلم لشروطها المذلّة وترسم مواقفها على أهواء غيرها لا على حسب مرادات الشّرع العزيز. ولا يخفى أنّ هذا المنهج يحدث من الأضرار ما الله وحده به عليم منها :
ـ إرضاء قوم ما رضوا عن ربّهم بل ما آمنوا بعدله وبحاكميّته.
ـ إرضاء قوم غضب الله عليهم.
ـ مصادمة الأصول الشّرعيّة والثّوابت العقديّة بل وأد نصوص الولاء والبراء الّتي لا يصحّ إيمان إلاّ بها.
ـ كتمان الحقّ والتّعمية عن الشّرع.
ـ ترك النّاس في جهل .
ـ إحداث فتنة التّفريق بين المسلمين فيتعلّق النّاس بتلك التّصريحات العلنيّة فيعتقدها البعض فيوالي عليها ويعادي ولا يخفى ما يسبّبه ذلك من فتن عظيمة !!!
إنّ الملاحظ أنّ هذه الحركة لا تريد أن تعالج قضاياها بجدّ فضلا على آعتمادها على الله ثمّ على نفسها، فهي تتواكل ـ في كلّ مرّة ـ على غيرها. فتارة على الجوار، وتارة على اليسار، وتارة على ركوب موجة الإصلاح الأمريكيّ، وبهذا تفهم خذلانها للصّحوة الجديدة.
إنّ مواقف نهضة المهجر المعلنة لا يراد منها إلاّ أن ترضي خصوم العقيدة ولو على حساب إغضاب الموحّدين بفتح باب جحيم معاداة مشاعر المسلمين في كلّ مكان بمخالفاتها لمنهج أهل السّنّة وهي تسلك مناهج التّهوين من الشّريعة ويظهر ذلك من خلال سكوتها عن المخالفات الواضحة لمجلّة الأحوال الشّخصيّة، أو في منهجها الغير الأخلاقي في تقديم السّلفيّة والسّلفيّين في تونس قربانا للإعتراف بهم.(/18)
إنّ هذا الخطاب ليتخبّط في وهم المصالح والمآلات وما هو في الحقيقة إلاّ فكر خاضع لدوّامات أجندة حزب قد يستنفذ أغراضه إن أصرّ على تنكّره لمطالب العقيدة وقبوله بالحلّ التّوافقي مع نخبة العلمانيّين على إبتلاع الشّريعة لوهم مقاومة الإستبداد، وهو لعمري ما يزيد في تعميق الأزمة الحقيقيّة في البلد، وهي العمل بعيدا عن هويّتها وأسباب العدوان، فيغيّبون بذلك أعظم حقّ خلق من أجله الإنسان وهو تحقيق العبوديّة المطلقة من توحيد وعبادة و تشريع ومقاومة للظّلم وعمارة للأرض و توزيع ثروة الله تعالى بين النّاس بالعدل..
إنّ الخطاب الّذي درجت عليه نهضة المهجر لا تستسيغه شعوبنا اللاّهثة على الفكر الثّابت المقاوم لا النّاعم المائع. إنّه الخطاب الّذي يزيّف الوعي ويشوّه الدّين، لأنّه نتاج للفكر الإستسلامي لشروط العلمانيّين وإملاءاتهم. إنّهم سينتهون ـ وقد انتهوا ـ إلى ما انتهى إليه أردوغان حيث رفض مقابلة خالد مشعل، وإلى قبول من على شاكلتهم أن يكونوا في مجالس حكم يعيّن من طرف الغزاة.. أو يتبعون أثر مرشدهم التّرابي حليف قرنق ضدّ إخوانه والّذي انتهى إلى أرذل الفكر، وهو نفسه المنهج الذي جعل السّودانيّين يطردون لاجئي النّهضة التّونسيّيّن من أرضهم كثمن لإعادة علاقاتهم مع السّلطة في تونس..
وهو نفس المنهج الذي ينتهجه عمرو خالد والجفري وطارق رمضان نجوم ابتزاز وانتهاك حرمة النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وآحتقار مسلمي الدّنمارك! أو إلى مثل تصريح الأخ خالد مشعل ـ وفّقه الله وثبّته على ما كان عليه ـ بشأن المسألة الشّيشانيّة الّذي قال فيه : مسألة روسيّة داخليّة، ونحن لا نتدخّل في الشّؤون الدّاخليّة للدّول الأخرى. وهذا موقف فيه ما فيه من القسوة والّتنكّر للحقوق المشروعة للشّعب المسلم في الشّيشان، ممّا جعل زعيم الشّيشان أحمد زكاييف يعلّق على ذلك التّصريح قائلا:"ولم نتوقّع أن يكون هناك أيّ فارق بين حماس وياسر عرفات، لقد وضعوا مصالح الحكومة الرّوسية فوق تلك الخاصّة بالتّضامن الدّيني مع المسلمين الشّيشان ".
والحمد للّه الذي جعل من زمن انكسار المسلمين وانحدارهم منحة تمييز الخبيثَ من الطيِّب والصادِقَ من الكاذب والمؤمنَ من المنافق والهارب من الثّابت...قال إبن القيّم:"... فلولا خلقُ الأضداد وتسليط أعدائه وامتحان أوليائه لم يستخرِج خاصَّ العبوديّة من عبيده، ولم يحصل لهم عبوديّةُ الموالاة فيه والمعاداة فيه والحبِّ فيه والبغض فيه والعطاء له والمنع له"
فهل منهج التّخذيل هذا الّذي تسلكه النّهضة يقرّه شرعنا الحكيم وخلقنا العظيم ؟ أفليس من أصولنا المباركة الّتي يعلمها الأمّيّ العامّيّ أنّ من يخذل مسلما يخذله الله تعالى، وأنّ من ينصر مسلما ينصره الله تعالى ؟ أم أنّ القيم اليوم أصبحت متخلّفة ومن تمسّك بها فهو أصوليّ متطرّف رجعيّ ساذج ؟ وللسّياسة دهاقينها الحداثيّون التّقدّميّون الشّاطرون ؟ إنّه منهج النّخبة الّتي آستعلت على بساطة القيم وسلامتها من التّشويش والتّهويش.وفي الآثار أنّ النّخب الفكريّة والسّياسيّة هم وراء إفساد الدّين. فما أهلك الدّين إلاّ الملوك والرّهبان !!! إنّ هذا المسلك لا يقرّه الشّرع الرّحيم الجامع بين المسلمين والحريص على عدم تفرّقهم وقطيعتهم ، قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى ) فكلّ مسالة حدثت في الإسلام فاختلف النّاس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنّها من مسائل الإسلام. وكلّ مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتّنافر و التّنابز والقطيعة علمنا أنّها ليست من أمر الدّين في شيء و إنّها الّتي عنى الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بتفسير الآية وهي قوله-{إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } فيجب على كلّ ذي دين و عقل أن يتجنّبها. فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من إتّباع الهوى...وهو ظاهر في أنّ الإسلام يدعو إلى الألفة والتّراحم والتّعاطف. فكلّ رأي إلى خلاف ذلك فخارج عن الدّين..الموافقات 4/221 -222.
إنّه حان الوقت أن توضّح حركة النّهضة التّونسيّة موقفها بكلّ صراحة ووضوح فإمّا حركة إسلاميّة تلتزم بمطالب الشّريعة كلّها ـ كما عهدها عليها شعبها في عهد السّبعينات ـ دون لفّ أو دوران وتلوّن ودون تعديل لها وتدخّل فيها، وإمّا أن تنخرط في لعبة النّخبة وتتخلّى عن الدّين الّذي تقدّمه مزيّفا. أمّا مسك العصا من الوسط والتّغطّي برداء الوسطيّة المزيّفة واللّعب على الإزدواجيّة و الغموض و القول : نحن لسنا حزبا دينيّا، نحن حزب مدني ذو خلفية إسلامية ما عاد ينفع !!!(/19)
لقد أعطى مشركو مكّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم السّلطة والثّروة والنّساء مقابل أن يتخلّى عمّا يسمّيه العلمانيّون اليوم الدّولة الدّينيّة، فرفض في كبرياء وشموخ وعزّة منقطعة النّظير أن يستدرج لشروط أعداء الشّريعة وقد أعطوه ما أعطوا، فكيف بمن في موقع حركة النّهضة ولم يعطوا شيئا، بل آفتكّت منهم كلّ شيء تقريبا وأعزّه عقيدتهم فألغوها من نضالاتهم !!!
ولقد تنكّرت مكّة والطّائف لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومات القريبان خديجة وأبو طالب، والصّحابة مشرّدون فيهم من هو في الحبشة وفيهم من هو في مكّة يقتل، ومنهم من ينتظر ومنهم من هو رهينة ومنهم من هو على خوف، ويعرض نفسه صلّى الله عليه وآله وسلّم على القبائل الوافدة إلى الحجّ، فكان ردّهم عليه قبيحا، وكيف لا يكون كذلك وعمّه أبو لهب يسير خلفه يكذّبه ويخذّله، كلّ ذلك لم يلجئ الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يداهن أو يجانب الصّدق في منهجه أو أن يعد النّاس بغير الحقّ ! قال رجل من قبيلة بني عامر بن صعصعة، ويدعى بيحرة بن فراس :" والله لو أنّي أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب،ثمّ قال للنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: " أرأيت إن تابعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟" قال صلّى الله عليه وآله وسلّم :" الأمر للّه يضعه حيث يشاء "، قال الرّجل : " أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك " إبن إسحاق عن الزّهري ـ سيرة إبن هشام 2 / 76
الصّدق هو خطاب الجماعة المسلمة حتّى ولو كانت في أحلك الظّروف، هذا هو الّذي يجلب لها الإحترام و يكسب ثقة المضطهدين و لا يعطي الخصوم فرصة واحدة للطّعن في مصداقيّتها، فضلا عن مرضاة ربّها وما يقدره لها سبحانه وتعالى من توفيق وتأييد وعزّة ونصر إن سلكت سبيل نبيّها ولم تحد عنه، لأنّ ذلك كلّه بيده وحده عزّ وجلّ. و و الله ما غلبنا الخصوم إلا يوم تخلّى الوليّ. قال ابن القيم رحمه الله تعالى :" تالله ما غدا عليك العدو إلا بعد أن تولى عنك الولي فلا تظن أن الشيطان غلب ولكن الحافظ أعرض " الفوائد ص 79.
إنّ حركة النّهضة التّونسيّة، وهي تستحيي من أن تذكر عقيدتها وشرائع دينها، وتؤجّل كلّ ما لا يرضي العلمانيّين ويصادمهم أو ما يشوّش على المشروع السّياسي، حتّى ما عدت تميّز بين خطابها وخطاب حلفائها من اليسار
فتلوّنوا وألجموا بإعاقة أن يقولوا على الله غير الحقّ وأن يؤجّلوا العقيدة وكلّ متعلّقاتها والتي منها حقّ الله تعالى في التّشريع ولذلك لم يتعرّضوا إلى نقد مجلّة الأحوال الشّخصيّة على وهم أنّها تفسد الوفاق السّياسيّ مع العلمانيّين لأنّهم جعلوا أولوّيتهم الكبرى مقاومة الإستبداد على حساب العقيدة!!!
لقد أجّل نهضة المهجر العقيدة في أكثر من مناسبة وهذا وحده، يكشف عن خلل منهجي خطير يطعن في شرعيّتهم لخلل موازينهم ، وكان ذلك سبب مقتلهم لأنّ العقيدة أساس كلّ شيء و من بنى على غير أساس لم يبن شيئا، ومن فعل ذلك فلا تسأل بعد ذلك لماذا يقع القوم في الكوارث ؟ ولا تعجب من إلزامهم الخطإ لمن خالفهم، بل يقاضونهم بالتّشدّد والتّطرّف والأصوليّة ويغرفون من مصطلحات ترضي أعداء الله ورسوله والمؤمنين.
إنّ منهج النّهضة المتناقض المندّد بالسّلفيّة التّونسيّة، والسّاكت عن العلمانيّين العقائديّين، بل المداهن في بيان الشّريعة كاملة والدّفاع عنها لمن أعظم المصادمة للأصول والاعتداء على الثّوابت.
وإنّ إلزام المخالف للنّهضة بالخطإ والإنحراف مخالف للمنهج الشّرعي الرّحيم المحرّض على حسن الظّنّ بإخوان العقيدة وعلى إيجاد العذر لمن وقع منهم في مخالفة شرعيّة واضحة. والدّليل أنّ الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى عن لعن صحابيّ و قد شرب الخمر في حين أنّه لعن من يشربها عموما وعلّل سبب عدم لعنه بقوله إنّه يحبّ اللّه ورسوله...
إنّهم حكموا على مخالفهم بالتّطرّف والتّشدّد وغير ذلك، وهو لعمري مخالف للمنهج الإسلامي القاضي ب " المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم " وأنّ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله. كلّ المسلم على المسلم حرام.... وهو كذلك مخالف لمنهج الشّرع الحكيم الدّاعي إلى جمع كلّ المسلمين والعاملين منهم بالخصوص على الحقّ والسّنّة ضدّ الأعداء الخلّص ولا الإستقواء بهم أو التّقرّب منهم بالنّيل من إخوان العقيدة بأيّ نوع من النّيل... لأنّ من ثوابت أصول الدّين وقطعيّاته ثبات أصل الأخوّة الإيمانيّة ولا يسقط ذلك إلاّ بكفر يقينيّ ولا ينتهك بتأويل أو إحتمال أو وهم أو ظنّ قد يعظم بسب الأهواء السّياسيّة الّتي كثيرا ما تلبّس عليهم أحلام مصالح وهميّة...(/20)
إنّ هذا المسلك الذي يقدّم أولويّات مصالح الوسيلة ـ " أي الجهاز " والذي يرتقي عندهم إلى تسميته ب " الكيان " ـ على أولويّات العقيدة ومقتضياتها خطأ شنيع وضلال بيّن وآنحراف واضح سيرشّح إلى عقبة في طريق البناء الإسلاميّ في تونس لسقوطه ضحيّة الدّخن الفكري والتّهوّك المنهجي فضلا عن مكبّلات مصالح الحزبيّين ومثقلات الذّنوب والمظالم، وملجمات الجمود وعدم التّطوّر والرّكون إلى الحلقة المفرغة المعبّر عنها أحسن تعبير أبديّة الزّعامة الّتي أثقلت القوم.
إنّ المبادئ العظيمة لا تنصر بمواقف هزيلة ومن طلب عظيما قدّم العظائم، والجماعات الضّائعة والفكر الطريّ لا يمكن أن يكون سندا لهدف ضخم ولا حمّالا لواجبات عظيمة.
إنّ أهل الحقّ ليست لذّتهم في كسب مواقف ينقلب عليها غدا، ويتلوّن عليها بعد غد، ولكنّ سعادته في الحقّ الّذي معه، مهما كلّف ممّا يبدو من " خسائر "مرحليّة ومن عنت وقتيّ لأنّ الحقّ الإلاهيّ لابدّ أن يعلن، والوعد الرّبّاني لا بدّ أن يتحقّق...
إنّ الخطاب الموغل في الحزبيّة المفرّط في حقوق الإسلام الّتي من أعظمها الدّفاع عنه وبيانه وعدم كتمانه والصّدق في الخطاب السّياسي والحفاظ على وحدة المسلمين وبراءة ذمّتهم، ليطرح إشكالات عديدة من أهمّها: غاية هؤلاء!!!أي لمن يعمل هؤلاء ؟ وما هي أهداف هؤلاء ؟ و ولاؤهم لمن ؟ هل غاية العاملين في النّهضة للّه أم للحزب ؟ وهل الولاء للإسلام وأهدافه أم للحزب وأهدافه ؟ وهل أهدافهم هي أهداف الإسلام أم أهداف أشخاصه ؟ هذه أسئلة قد تكون حرجة، ولكنّها ضروريّة جدّا لكلّ من يحرص أن يقبل الله عمله، كما يجب أن تطرح على قوم أجّلوا العقيدة في عملهم للإسلام !!!
إنّ حركة نهضة المهجر بمواقفها الضّعيفة هذه يعدّ تنكّرا لذاكرتها وهويّتها وثوابتها وطعنا في مكاسبها التّاريخيّة الّتي لم تحقّقّها إلاّ بدفاعها عن الشّريعة، ورفع راية عقيدتها، وبصلابة مواقفها، وبتبنّيها لآلام شعبها، وبتعبيرها عن آماله، ولم تلق تلك الحظوة بسبب التّنازلات والتّلوّنات والمراوغات...إنّ الإصرار على الثّّوابت الشّرعيّة هو وحده الكفيل للنّجاح والتّوفيق ويكفي ذلك نصرا وعزّة.. وآنظر إلى حماس ما الّذي جعل الشّعب الفلسطيني يختارها !!! فهل شيء آخر غير التّمسّك بالثّوابت والحقوق المشروعة أمام أضخم آلة حرب وتدمير في المنطقة وبدعم حبال النّاس المنقطعة النّظير من العالم .
فهل يمكن أن نقول إنّ منهج النّهضة الضّعيف المتلوّن الخاضع لضغوط الإكراه و الإغراء والرّغب والرّهب لفي أشدّ مأزق وهو تحوّلها عن الثّوابت والقيم من أجل وهم المكاسب، سينتهي بها يوما إلى التّخلّي عن مبادئها. وهل فعلا أنّ حركة النّهضة التّونسيّة قد تخلّت عن سمتها الإسلاميّ وتدحرجت إلى علمنة مقنّعة برداء دينيّ رقيق كشف عنه رئيس مكتبها السّياسي بقوله لسنا حزبا دينيّا فكيف ندعو إلى تطبيق الشّريعة، بل هم لا يدعون في دولتهم الموعودة إلى الصّلاة كما قال الغنّوشي لإحدى القنوات الفضائيّة...
إنّ الله عزّ وجلّ جعل قداسة هذا الدّين فوق كلّ إعتبار، ورفع لواء العقيدة فوق كلّ شيء، فلا قيمة لشيء مهما غلى إذا كانت العقيدة أو شعائر الدّين مهدّدة. وإنّ أعظم شيء يجب أن تعمل له الصّحوة في تونس ـ والّذي تنكّرت له نهضة المهجر ـ أن ترفع مبدأ العقيدة أوّلا عبر حقوق الله أوّلا، وأعظم حقّ له سبحانه وتعالى أن يعبد وحده، ولا يشرك به شيئا، ولا يتّخذ النّاس من دونه أربابا أو أولياء أو أهواء وكلّ ذلك طاغوت يجب أن يكفر به.
----------
(1) أحد المؤسّسين للجماعة الإسلاميّة في تونس سنة 1979 ميلادي والّتي هي الآن حركة النّهضة، للتواصل: mejrikhemis@yahoo.fr(/21)
السّنة النبوية إضاءات ضروريّة
أ. د. عماد الدين خليل 24/1/1426
05/03/2005
[ 1 ]
من بين العديد من الباحثين الغربيين الذين كتبوا عن سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يبدو ليوبولد فايس ( محمد أسد ) أكثرهم اهتماماً واقتراباً من جانب حيوي من أكثر جوانبها أهمية، ذلك هو " السنة ": ما الذي تعنيه، وما مكانها في خارطة التشريع الإسلامي، ومدى التوثيق الذي حظيت به، وما هي طبيعة التعامل التي يجب أن تنظم العلاقة بينها وبين المسلم، وردود الأفعال التي تمخّضت عن هذا التعامل عبر التاريخ.
يعرّف "فايس" السنة بأنها: " المثال الذي أقامه لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أعماله وأقواله. إن حياته العجيبة كانت تمثيلاً حياً وتفسيراً لما جاء في القرآن الكريم، ولا يمكننا أن نتصف القرآن الكريم بأكثر من أن نتّبع الذي قد بلغ الوحي(1).
فهذا التعريف ـ على إيجازه ـ يكاد يلّم بسائر عناصر المصطلح المقصود، فهناك أفعال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأقواله، أي معطياته كافة على مستوى الممارسة والتعليم، وهناك التمثيل الحي لكتاب الله في واقع الحياة من خلال هذه المعطيات التي تمارس دوراً لا يقل أهمية، وهو التفسير الذي يوضّح ويفصّل ما ورد في القرآن الكريم موجزاً، مركزاً .. وهناك ـ أخيراً ـ ما تتضمنه السنة من إلزام باعتبارها القناة، أو الطريق الوحيد المفضي إلى تنفيذ أمر الله كما بلّغه الوحي الأمين، وكما تمثل في كتاب الله.
والسنة بهذا المعنى ليست مجرد حشود من المفردات السلوكية، أو مجموعة متفرقة من التعاليم والإرشادات. إنها وحدة مركبة وبرنامج عمل يتميز بالشمولية والترابط، ويوازي حياة المسلم نفسها بكل تفاصيلها ونبضاتها، بل إنه ـ بعبارة أكثر دقة ـ يتعاشق معها كما تتعاشق الروح مع الجسد البشري، مع جملته العصبية، ودمه، وخلاياه و " كما أن حياة المسلم يجب أن تقوم على التعاون التام المطلق بين ذاته الروحية وذاته الجسدية، فإن هداية النبي - صلى الله عليه وسلم- يجب أن تضمّ الحياة على أنها وحدة مركبة، أي على أنها مجموع أعمق المظاهر الخلقية والعملية والشخصية والاجتماعية، وها هو أعمق معاني السنة "(2).
وإذا كانت السنة على هذا الأساس، هي التعبير المتكامل عن الإسلام، يصبح العمل بها لزماً لكل مسلم يتوخى التعامل مع هذا الدين بالجدّ المطلوب، من أجل أن تتوحد المبادئ والتعاليم، بالممارسة والسلوك، ويلتقي الفكر بالحياة، ويتمكن الإسلام ـ بالتالي ـ من أن يشق طريقه متحققاً في مجرى الواقع، متقدماً بأتباعه إلى الأمام، من خلال برنامج عمل لا يكاد يغفل صغيرة ولا كبيرة. ومن هذا المنطلق يلحظ "فايس" كيف " أن العمل بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو عمل على حفظ كيان الإسلام وعلى تقدمه، وأن ترك السنة هو انحلال الإسلام". كما أنه يجد في السنة " الهيكل الحديدي الذي قام عليه صرح الإسلام". ويتساءل: " إنك إذا أزلت هيكل بناء ما، أفيدهشك أن يتقوّض ذلك البناء كأنه بيت من ورق؟ "(3).
وعلى هذا المستوى، أي على مستوى الإلزام التشريعي والسلوكي والاجتماعي
للسنة، يمضي "فايس" إلى تأكيد حقيقة أن " سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تالية
للقرآن، وهي المصدر الثاني للشرع الإسلامي وللسلوك الشخصي والاجتماعي .. إنها التفسير الوحيد لتعاليم القرآن الكريم، والوسيلة الوحيدة لاجتناب الخلاف في تأويل تلك التعاليم وتطبيقها في الحياة العملية .. إن تفكيرنا يقودنا حتماً إلى أنه ليس ثمة حكم، فيا يتعلق بالتأويل العملي لتعاليم القرآن الكريم، أفضل من الذي أوحيت إليه هذه التعاليم هدى للعالمين. إن التعبير الذي يتردّد اليوم على مسامعنا كثيراً: "لنرجع إلى القرآن الكريم، ولكن يجب ألاّ نجعل من أنفسنا أتباعاً مستعبدين للسنة، ينكشف بكل بساطة عن جهل للإسلام. إن الذين يقولون هذا القول يشبهون رجلاً يريد أن يدخل قصراً ولكنه لا يريد أن يستعمل المفتاح الأصلي الذي يستطيع به وحده أن يفتح الباب"(4).
وذلك ـ بإيجاز ـ هو جوهر الموضوع: إن السنة هي المفتاح الأصلي الذي يمكننا من الدخول إلى عالم الإسلام، وبدونه فإننا سنظل واقفين على الأبواب، ولن تكون سائر الدعاوى التي تنادي بالتحرّر من السنة!! قادرة على أن تجعلنا مسلمين بحق.
[ 2 ]
ولكن ما مدى مصداقية السنة على مستوى التوثيق التاريخي؟؟ وهل أن ما نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من أقوال وأفعال هي نفسها التي تحققت وقيلت في حيته بالفعل، أو قريباً منه؟ وإذا كان القرآن الكريم يحمل ـ وبشكل مطلق ـ مصداقيته كنص إلهي محفوظ، لم ولن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فما مدى حظ السنة من هذا الأمر؟ لا سيما، وأنها تحمل هذا القدر الكبير من الأهمية والإلزام في الحياة الإسلامية؟(/1)
إن "فايس" لا يجعل هذه التنازلات تفلت من بين يديه، وتبقى معلقة في الفضاء .. ونحن ـ كمسلمين نعرف جميعاً الإجابة عليها، تلك التي حرص الأجداد بسلسلة موصولة من الجهد والهمّ والمتابعة على تقديمها موثقة منقحة لأجيال المسلمين. ولكن المطلوب هو مخاطبة العقل الغربي .. العقل العلماني الذي لا يسلّم بسهولة بأمر كهذا.. ومن ثم فإن استنتاجات "فايس" بهذا الصدد تحمل قيمتها؛ لأنها تتحدث بالمفردات نفسها التي يدركها العقل، وقد يقتنع بها أيضاً.
فهو يشير مثلاً إلى" الأثر العظيم الذي تركته شخصية الرسول - صلى الله عليه
وسلم- في أولئك الرجال الذين صحبوه باعتبارها حقيقة من أبرز حقائق التاريخ الإنساني " وأنها " فوق ذلك ثابتة بالوثائق التاريخية " ويتساءل: " هل يمر في خيالنا أن أولئك الرجال الذين كانوا على استعداد لأن يضحوا بأنفسهم وما يملكون في سبيل رسول الله ، كانوا يتلاعبون بكلماته؟ "(5).
ويمضي "فايس" إلى القول بأن " الذين عاشوا في صحبة الرسول - صلى الله عليه
وسلم- رأوا جميعهم في أقواله وأعماله أعظم الأهمية، لا لأن شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - أثّرت فيهم فخلبت ألبابهم فقط، بل لأنهم كانوا أيضاً على اعتقاد جازم بأن ذلك كان أمراً من الله تعالى لتنظيم حياتهم حتى في أدق تفاصيلها. كل ذلك اهتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وإقتداء به. من أجل لك لم يستطيعوا أن يتناولوا الأحاديث بلا اكتراث، بل جربوا أن يتعلموها وأن يحفظوها عن ظهر قلب .. "(6).
وهو ، على ضوء الجهود التوثيقيّة المذهلة التي بذلها رجال الحديث في العصور التالية للصحابة والتابعين، والتي وضعت أصول منهج صارم في التوثيق والبحث العلمي، بطرح تحدّيه إزاء العقل الغربي: أن يدعم انتقاداته العاطفية لمصداقية الأحاديث النبوية بدليل علمي مقنع: " إنه على الرغم من جميع الجهود التي بذلت في سبيل تحدّي الحديث على أنه نظم ما، فإن أولئك النقاد العصريين من الشرقيين والغربيين لم يستطيعوا أن يدعموا انتقادهم العاطفي الخالص بنتائج من البحث العلمي. وأنه من الصعب أن يفعل أحد ذلك، لأن الجامعين لكتب الحديث الأولى وخصوصاً الإمامين البخاري ومسلماً، قد قاموا بكل ما في طاقة البشر عند عرض صحة كل حديث على قواعد التحديث عرضاّ أشد كثيراً من ذلك الذي يلجأ إليه المؤرخون الأوربيون عادة عند النظر في مصادر التاريخ القديم "(7).
ثم يخلص إلى القول بأن " رفض الأحاديث الصحيحة، جملة واحدة أو أقساماً، ليس حتى اليوم إلاّ قضية ذوق، قضية قصرت عن أن تجعل من نفسها بحثاً علمياً خالصاً من الأهواء "(8).
فهي ـ إن ـ الميول والأهواء تسعى لأن تقول كلمتها في واحدة من أشد مرتكزات الإسلام أهمية، حتى إذا ما أُتيح لها أن تفرض كلمتها، قدرت على هدم الإسلام نفسه، بعد أن رأينا ذلك الارتباط الصميم بين السنة وبين الدين الذي ترجمته إلى وقائع وممارسات. ولكنها لن تقدر إذ إن هناك، في الجهة الأخرى للظن والهوى: المنهج، والعلم، والنقد الجاد التي قادت العقل البشري وستقوده دوماً إلى التسليم بمصداقية سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ).
[ 3 ]
سنكتفي بهذا القدر من الحديث عن مسألة التوثيق هذه التي أشبعت بحثاً، ولنتابع "فايس" وهو يتحدث عن طبيعة التعامل مع السنة. عن صيغ هذا التعامل التي تتأرجح بين الآلية التي لا تكاد تتمخض عن شيء وبين التمثل الذي قاد أجيالاً من المسلمين إلى أن يكونوا تعبيراً صادقاً عن كتاب الله، وإلى أن يصنعوا المستحيل بالتالي .. ففي " اللحظة التي ينحط فيها العمل بالسنة إلى عمل آلي، تفقد السنة قيمتها المثقفة فقداناً تاماً، وكذلك كان شأن المسلمين في الأعصر الأخيرة. أما الصحابة والتابعون الذين قاموا بكل مسعى لجعل كل دقيقة في حياتهم موافقة لما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإنهم فعلوا ذلك مع الفهم التام بأنهم أسلموا أنفسهم إلى إرادة هادية تجعل حياتهم مطابقة لروح القرآن الكريم "(9).
[ 4 ]
كيف يتم ذلك التطابق الباهر بين الحياة وتعاليم الله سبحانه؟ يجيب "فايس" بأن " العمل بالسنة يجعل كل شيء في حياتنا اليومية مبنياً على الاقتداء بما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم - وهكذا نكون دائماً، إذا فعلنا أو تركنا ذلك، مجبرين على أن نفكر بأعمال الرسول وأقواله الماثلة لأعمالنا هذه، وعلى هذا تصبح شخصية أعظم رجل متغلغلة إلى حد بعيد في منهاج حياتنا اليومية نفسه، ويكون نفوذه الروحي قد أصبح العامل الحقيقي الذي يعتادنا طول الحياة "(10).
[ 5 ](/2)
والحديث عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقودنا إلى الحديث عن شخص رسول الله نفسه.. النبي، والقائد والمعلم.. عن علاقة المسلمين على مرّ العصور به .. عن محبتهم له .. عن عشقهم لأفعاله وكلماته .. وعن ردود الأفعال الإنسانية، وجدانية وسلوكية، تلك التي تصادت على مدار الزمن، مؤكدة أنه ما من أمة أحبّت رسولها، واقتدت به، كأمة الإسلام ، وأنه ـ أيضاً ـ ما من أمة كهذه الأمة لم تجرفها المحبة الطاغية إلى مواقع الشرك والتأليه والصنمية، وما كانت الاستثناءات بقادرة على أن تغطي على القاعدة ، أبداً .. إنه ليس هناك من رجل ، يقول "فايس" ، " مضى على وفاته أكثر من ألف وثلاثمائة سنة، قد أصاب مثل هذا الحب، ومن قبل هذا العدد من الأفئدة، مثل ذلك إلى من يرقد تحت القبة العظيمة الخضراء. ومع ذلك فإنه لم يدع يوماً إلاّ أنه بشر، ولم ينسب المسلمون إليه الألوهية قط، كما فعل الكثيرون من أتباع الأنبياء الآخرين ( عليهم السلام ) بعد وفاة نبيهم. والحق أن القرآن نفسه يزخر بالآيات التي تؤكد إنسانية محمد - صلى الله عليه وسلم - .. ولا ريب في أن من حوله لم يحبوه مثل هذا الحب إلا لأنه لم يكن سوى بشر فحسب، ولأنه عاش كما يعيش سائر الناس، يتمتع بملذات الوجود البشري ويعاني آلامه. ولقد بقي هذا الحب بعد
وفاته، وهو لا يزال حيّاً في قلوب أتباعه حتى اليوم كنشيد تعدد النغمات "(11).
هذا الموقف الإنساني الملتاع بالمحبة .. هذه الجلود المؤمنة التي تقشعر كلما
وجدت نفسها قبالة الرسول - صلى الله عليه وسلم-) بعقولها ووجدانها، وهو يقودها ويعلمها ويهديها .. هذه العيون التي تدمع كلها لجأت إلى نبي الله، تطلب من يده الحانية أن يكفكف بها دمع العيون ويمسح بها جرح القلب .. وما أغزرها وأعمقها في كل زمن ومكان.
هذه وتلك تحمل أهميتها القصوى ها هنا ونحن نتحدث عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- .. لأنها تعكس، بإقناع يكاد يكون كاملاً، كيف تمكن المسلمون من حماية سنة نبيهم من الضياع ، وكيف قدروا في الوقت نفسه على أن يعيشوها ويتمثلوها، بدرجة أو أخرى، فيتيحوا بذلك للإسلام نفسه أن يتحقق وأن يواصل الطريق ..
والآن وبعد مرور أربعة عشر قرناً على لحاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى، واستقرار جسده الشريف في المدينة فإن " وجوده الروحي لا يزال حيّاً هنا كما كان يوم ذاك .. ولقد كان من أجله وحده أن أصبحت مجموعة القرى التي كانت تُدعى في ما مضى يثرب، مدينة أحبها المسلمون حتى يومنا هذا كما لم تُحب مدنية غيرها في أي مكان آخر من العالم. وليس لها حتى اسم خاص بها. فمنذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً وهي تعرف بمدينة النبي فحسب، وطيلة أكثر من ثلاثة عشر قرناً التقت هنا سيول لا تُحصى من الحب، بحيث اكتسبت مع الأشكال والحركات نوعاً من التشابه العائلي، وجميع الفروق في المظاهر تتّحد في لحن مشترك واحد "(12).
(1) الإسلام على مفترق الطرق، ترجمة د. عمر فروخ، الطبعة السادسة ، دار العلم للملايين ، بيروت ـ 1965 م ، ص 88.
(2) نفسه ، ص 89.
(3) نفسه ، ص 87.
(4) نفسه ، ص 90 ـ 91.
(5) نفسه ، 94.
(6) نفسه ، 95.
(7) نفسه ، ص 92.
(8) نفسه ، ص 97.
(9) نفسه ، ص 106.
(11) نفسه ، ص 109.
(12) نفسه ، ص 297.(/3)
السّنة النبوية إضاءات ضروريّة
أ. د. عماد الدين خليل 24/1/1426
05/03/2005
[ 1 ]
من بين العديد من الباحثين الغربيين الذين كتبوا عن سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يبدو ليوبولد فايس ( محمد أسد ) أكثرهم اهتماماً واقتراباً من جانب حيوي من أكثر جوانبها أهمية، ذلك هو " السنة ": ما الذي تعنيه، وما مكانها في خارطة التشريع الإسلامي، ومدى التوثيق الذي حظيت به، وما هي طبيعة التعامل التي يجب أن تنظم العلاقة بينها وبين المسلم، وردود الأفعال التي تمخّضت عن هذا التعامل عبر التاريخ.
يعرّف "فايس" السنة بأنها: " المثال الذي أقامه لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أعماله وأقواله. إن حياته العجيبة كانت تمثيلاً حياً وتفسيراً لما جاء في القرآن الكريم، ولا يمكننا أن نتصف القرآن الكريم بأكثر من أن نتّبع الذي قد بلغ الوحي(1).
فهذا التعريف ـ على إيجازه ـ يكاد يلّم بسائر عناصر المصطلح المقصود، فهناك أفعال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأقواله، أي معطياته كافة على مستوى الممارسة والتعليم، وهناك التمثيل الحي لكتاب الله في واقع الحياة من خلال هذه المعطيات التي تمارس دوراً لا يقل أهمية، وهو التفسير الذي يوضّح ويفصّل ما ورد في القرآن الكريم موجزاً، مركزاً .. وهناك ـ أخيراً ـ ما تتضمنه السنة من إلزام باعتبارها القناة، أو الطريق الوحيد المفضي إلى تنفيذ أمر الله كما بلّغه الوحي الأمين، وكما تمثل في كتاب الله.
والسنة بهذا المعنى ليست مجرد حشود من المفردات السلوكية، أو مجموعة متفرقة من التعاليم والإرشادات. إنها وحدة مركبة وبرنامج عمل يتميز بالشمولية والترابط، ويوازي حياة المسلم نفسها بكل تفاصيلها ونبضاتها، بل إنه ـ بعبارة أكثر دقة ـ يتعاشق معها كما تتعاشق الروح مع الجسد البشري، مع جملته العصبية، ودمه، وخلاياه و " كما أن حياة المسلم يجب أن تقوم على التعاون التام المطلق بين ذاته الروحية وذاته الجسدية، فإن هداية النبي - صلى الله عليه وسلم- يجب أن تضمّ الحياة على أنها وحدة مركبة، أي على أنها مجموع أعمق المظاهر الخلقية والعملية والشخصية والاجتماعية، وها هو أعمق معاني السنة "(2).
وإذا كانت السنة على هذا الأساس، هي التعبير المتكامل عن الإسلام، يصبح العمل بها لزماً لكل مسلم يتوخى التعامل مع هذا الدين بالجدّ المطلوب، من أجل أن تتوحد المبادئ والتعاليم، بالممارسة والسلوك، ويلتقي الفكر بالحياة، ويتمكن الإسلام ـ بالتالي ـ من أن يشق طريقه متحققاً في مجرى الواقع، متقدماً بأتباعه إلى الأمام، من خلال برنامج عمل لا يكاد يغفل صغيرة ولا كبيرة. ومن هذا المنطلق يلحظ "فايس" كيف " أن العمل بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو عمل على حفظ كيان الإسلام وعلى تقدمه، وأن ترك السنة هو انحلال الإسلام". كما أنه يجد في السنة " الهيكل الحديدي الذي قام عليه صرح الإسلام". ويتساءل: " إنك إذا أزلت هيكل بناء ما، أفيدهشك أن يتقوّض ذلك البناء كأنه بيت من ورق؟ "(3).
وعلى هذا المستوى، أي على مستوى الإلزام التشريعي والسلوكي والاجتماعي
للسنة، يمضي "فايس" إلى تأكيد حقيقة أن " سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تالية
للقرآن، وهي المصدر الثاني للشرع الإسلامي وللسلوك الشخصي والاجتماعي .. إنها التفسير الوحيد لتعاليم القرآن الكريم، والوسيلة الوحيدة لاجتناب الخلاف في تأويل تلك التعاليم وتطبيقها في الحياة العملية .. إن تفكيرنا يقودنا حتماً إلى أنه ليس ثمة حكم، فيا يتعلق بالتأويل العملي لتعاليم القرآن الكريم، أفضل من الذي أوحيت إليه هذه التعاليم هدى للعالمين. إن التعبير الذي يتردّد اليوم على مسامعنا كثيراً: "لنرجع إلى القرآن الكريم، ولكن يجب ألاّ نجعل من أنفسنا أتباعاً مستعبدين للسنة، ينكشف بكل بساطة عن جهل للإسلام. إن الذين يقولون هذا القول يشبهون رجلاً يريد أن يدخل قصراً ولكنه لا يريد أن يستعمل المفتاح الأصلي الذي يستطيع به وحده أن يفتح الباب"(4).
وذلك ـ بإيجاز ـ هو جوهر الموضوع: إن السنة هي المفتاح الأصلي الذي يمكننا من الدخول إلى عالم الإسلام، وبدونه فإننا سنظل واقفين على الأبواب، ولن تكون سائر الدعاوى التي تنادي بالتحرّر من السنة!! قادرة على أن تجعلنا مسلمين بحق.
[ 2 ]
ولكن ما مدى مصداقية السنة على مستوى التوثيق التاريخي؟؟ وهل أن ما نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من أقوال وأفعال هي نفسها التي تحققت وقيلت في حيته بالفعل، أو قريباً منه؟ وإذا كان القرآن الكريم يحمل ـ وبشكل مطلق ـ مصداقيته كنص إلهي محفوظ، لم ولن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فما مدى حظ السنة من هذا الأمر؟ لا سيما، وأنها تحمل هذا القدر الكبير من الأهمية والإلزام في الحياة الإسلامية؟(/1)
إن "فايس" لا يجعل هذه التنازلات تفلت من بين يديه، وتبقى معلقة في الفضاء .. ونحن ـ كمسلمين نعرف جميعاً الإجابة عليها، تلك التي حرص الأجداد بسلسلة موصولة من الجهد والهمّ والمتابعة على تقديمها موثقة منقحة لأجيال المسلمين. ولكن المطلوب هو مخاطبة العقل الغربي .. العقل العلماني الذي لا يسلّم بسهولة بأمر كهذا.. ومن ثم فإن استنتاجات "فايس" بهذا الصدد تحمل قيمتها؛ لأنها تتحدث بالمفردات نفسها التي يدركها العقل، وقد يقتنع بها أيضاً.
فهو يشير مثلاً إلى" الأثر العظيم الذي تركته شخصية الرسول - صلى الله عليه
وسلم- في أولئك الرجال الذين صحبوه باعتبارها حقيقة من أبرز حقائق التاريخ الإنساني " وأنها " فوق ذلك ثابتة بالوثائق التاريخية " ويتساءل: " هل يمر في خيالنا أن أولئك الرجال الذين كانوا على استعداد لأن يضحوا بأنفسهم وما يملكون في سبيل رسول الله ، كانوا يتلاعبون بكلماته؟ "(5).
ويمضي "فايس" إلى القول بأن " الذين عاشوا في صحبة الرسول - صلى الله عليه
وسلم- رأوا جميعهم في أقواله وأعماله أعظم الأهمية، لا لأن شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - أثّرت فيهم فخلبت ألبابهم فقط، بل لأنهم كانوا أيضاً على اعتقاد جازم بأن ذلك كان أمراً من الله تعالى لتنظيم حياتهم حتى في أدق تفاصيلها. كل ذلك اهتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وإقتداء به. من أجل لك لم يستطيعوا أن يتناولوا الأحاديث بلا اكتراث، بل جربوا أن يتعلموها وأن يحفظوها عن ظهر قلب .. "(6).
وهو ، على ضوء الجهود التوثيقيّة المذهلة التي بذلها رجال الحديث في العصور التالية للصحابة والتابعين، والتي وضعت أصول منهج صارم في التوثيق والبحث العلمي، بطرح تحدّيه إزاء العقل الغربي: أن يدعم انتقاداته العاطفية لمصداقية الأحاديث النبوية بدليل علمي مقنع: " إنه على الرغم من جميع الجهود التي بذلت في سبيل تحدّي الحديث على أنه نظم ما، فإن أولئك النقاد العصريين من الشرقيين والغربيين لم يستطيعوا أن يدعموا انتقادهم العاطفي الخالص بنتائج من البحث العلمي. وأنه من الصعب أن يفعل أحد ذلك، لأن الجامعين لكتب الحديث الأولى وخصوصاً الإمامين البخاري ومسلماً، قد قاموا بكل ما في طاقة البشر عند عرض صحة كل حديث على قواعد التحديث عرضاّ أشد كثيراً من ذلك الذي يلجأ إليه المؤرخون الأوربيون عادة عند النظر في مصادر التاريخ القديم "(7).
ثم يخلص إلى القول بأن " رفض الأحاديث الصحيحة، جملة واحدة أو أقساماً، ليس حتى اليوم إلاّ قضية ذوق، قضية قصرت عن أن تجعل من نفسها بحثاً علمياً خالصاً من الأهواء "(8).
فهي ـ إن ـ الميول والأهواء تسعى لأن تقول كلمتها في واحدة من أشد مرتكزات الإسلام أهمية، حتى إذا ما أُتيح لها أن تفرض كلمتها، قدرت على هدم الإسلام نفسه، بعد أن رأينا ذلك الارتباط الصميم بين السنة وبين الدين الذي ترجمته إلى وقائع وممارسات. ولكنها لن تقدر إذ إن هناك، في الجهة الأخرى للظن والهوى: المنهج، والعلم، والنقد الجاد التي قادت العقل البشري وستقوده دوماً إلى التسليم بمصداقية سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ).
[ 3 ]
سنكتفي بهذا القدر من الحديث عن مسألة التوثيق هذه التي أشبعت بحثاً، ولنتابع "فايس" وهو يتحدث عن طبيعة التعامل مع السنة. عن صيغ هذا التعامل التي تتأرجح بين الآلية التي لا تكاد تتمخض عن شيء وبين التمثل الذي قاد أجيالاً من المسلمين إلى أن يكونوا تعبيراً صادقاً عن كتاب الله، وإلى أن يصنعوا المستحيل بالتالي .. ففي " اللحظة التي ينحط فيها العمل بالسنة إلى عمل آلي، تفقد السنة قيمتها المثقفة فقداناً تاماً، وكذلك كان شأن المسلمين في الأعصر الأخيرة. أما الصحابة والتابعون الذين قاموا بكل مسعى لجعل كل دقيقة في حياتهم موافقة لما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإنهم فعلوا ذلك مع الفهم التام بأنهم أسلموا أنفسهم إلى إرادة هادية تجعل حياتهم مطابقة لروح القرآن الكريم "(9).
[ 4 ]
كيف يتم ذلك التطابق الباهر بين الحياة وتعاليم الله سبحانه؟ يجيب "فايس" بأن " العمل بالسنة يجعل كل شيء في حياتنا اليومية مبنياً على الاقتداء بما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم - وهكذا نكون دائماً، إذا فعلنا أو تركنا ذلك، مجبرين على أن نفكر بأعمال الرسول وأقواله الماثلة لأعمالنا هذه، وعلى هذا تصبح شخصية أعظم رجل متغلغلة إلى حد بعيد في منهاج حياتنا اليومية نفسه، ويكون نفوذه الروحي قد أصبح العامل الحقيقي الذي يعتادنا طول الحياة "(10).
[ 5 ](/2)
والحديث عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقودنا إلى الحديث عن شخص رسول الله نفسه.. النبي، والقائد والمعلم.. عن علاقة المسلمين على مرّ العصور به .. عن محبتهم له .. عن عشقهم لأفعاله وكلماته .. وعن ردود الأفعال الإنسانية، وجدانية وسلوكية، تلك التي تصادت على مدار الزمن، مؤكدة أنه ما من أمة أحبّت رسولها، واقتدت به، كأمة الإسلام ، وأنه ـ أيضاً ـ ما من أمة كهذه الأمة لم تجرفها المحبة الطاغية إلى مواقع الشرك والتأليه والصنمية، وما كانت الاستثناءات بقادرة على أن تغطي على القاعدة ، أبداً .. إنه ليس هناك من رجل ، يقول "فايس" ، " مضى على وفاته أكثر من ألف وثلاثمائة سنة، قد أصاب مثل هذا الحب، ومن قبل هذا العدد من الأفئدة، مثل ذلك إلى من يرقد تحت القبة العظيمة الخضراء. ومع ذلك فإنه لم يدع يوماً إلاّ أنه بشر، ولم ينسب المسلمون إليه الألوهية قط، كما فعل الكثيرون من أتباع الأنبياء الآخرين ( عليهم السلام ) بعد وفاة نبيهم. والحق أن القرآن نفسه يزخر بالآيات التي تؤكد إنسانية محمد - صلى الله عليه وسلم - .. ولا ريب في أن من حوله لم يحبوه مثل هذا الحب إلا لأنه لم يكن سوى بشر فحسب، ولأنه عاش كما يعيش سائر الناس، يتمتع بملذات الوجود البشري ويعاني آلامه. ولقد بقي هذا الحب بعد
وفاته، وهو لا يزال حيّاً في قلوب أتباعه حتى اليوم كنشيد تعدد النغمات "(11).
هذا الموقف الإنساني الملتاع بالمحبة .. هذه الجلود المؤمنة التي تقشعر كلما
وجدت نفسها قبالة الرسول - صلى الله عليه وسلم-) بعقولها ووجدانها، وهو يقودها ويعلمها ويهديها .. هذه العيون التي تدمع كلها لجأت إلى نبي الله، تطلب من يده الحانية أن يكفكف بها دمع العيون ويمسح بها جرح القلب .. وما أغزرها وأعمقها في كل زمن ومكان.
هذه وتلك تحمل أهميتها القصوى ها هنا ونحن نتحدث عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- .. لأنها تعكس، بإقناع يكاد يكون كاملاً، كيف تمكن المسلمون من حماية سنة نبيهم من الضياع ، وكيف قدروا في الوقت نفسه على أن يعيشوها ويتمثلوها، بدرجة أو أخرى، فيتيحوا بذلك للإسلام نفسه أن يتحقق وأن يواصل الطريق ..
والآن وبعد مرور أربعة عشر قرناً على لحاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى، واستقرار جسده الشريف في المدينة فإن " وجوده الروحي لا يزال حيّاً هنا كما كان يوم ذاك .. ولقد كان من أجله وحده أن أصبحت مجموعة القرى التي كانت تُدعى في ما مضى يثرب، مدينة أحبها المسلمون حتى يومنا هذا كما لم تُحب مدنية غيرها في أي مكان آخر من العالم. وليس لها حتى اسم خاص بها. فمنذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً وهي تعرف بمدينة النبي فحسب، وطيلة أكثر من ثلاثة عشر قرناً التقت هنا سيول لا تُحصى من الحب، بحيث اكتسبت مع الأشكال والحركات نوعاً من التشابه العائلي، وجميع الفروق في المظاهر تتّحد في لحن مشترك واحد "(12).
________________________________________
(1) الإسلام على مفترق الطرق، ترجمة د. عمر فروخ، الطبعة السادسة ، دار العلم للملايين ، بيروت ـ 1965 م ، ص 88.
(2) نفسه ، ص 89.
(3) نفسه ، ص 87.
(4) نفسه ، ص 90 ـ 91.
(5) نفسه ، 94.
(6) نفسه ، 95.
(7) نفسه ، ص 92.
(8) نفسه ، ص 97.
(9) نفسه ، ص 106.
(11) نفسه ، ص 109.
(12) نفسه ، ص 297.(/3)
السُّنّةُ وَحْيٌ مِن رَّبِّ العَالَمِين فِيْ أُمُوْرِ الدُّنْيَا وَالدِّيْنِ [1/2]
د.الشريف حاتم العوني 10/8/1427
03/09/2006
الحمد الله على أفضاله, والصلاة والسلام على رسول الله وآله.
أما بعد: فإن للسنة النبويّة شأنًا عظيمًا في دين الإسلام, وعند علماء المسلمين:
فلقد أجمع المسلمون, والفقهاء من أتباع المذاهب الأربعة منهم, والسلفُ الصالح كلّهم: على أنّ السنّة النبويّة المصدر التشريعي لدين الإسلام مع القرآن الكريم, وأنّ القرآن والسنة هما أساس هذا الدين, فبحفظها حُفِظ, وببقاء وجودهما بقي موجوداً. وهذا مبنيٌّ ولا شك على اعتقاد عصمة السنّة, وأنها وحيٌ من الله تعالى, كما أن القرآن وحي .
وقد دلّ القرآن الكريم على أن السنة النبوية وحي:
قال الله تعالى: "مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" [النجم: 2-4]. فالضمير في قوله "إِنْ هُوَ" يعود إلى المنطوق منه –صلى الله عليه وسلم، والمعنى: إن منطوق النبيّ –صلى الله عليه وسلم- ليس إلا وحياً يُوحى به إليه من ربّه عز وجل(1).
وقال تعالى: "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" [يونس: 15]. فبيّن ربّنا عز وجل أن رسوله –صلى الله عليه وسلم- لا يتكلّم إلا بالوحي الذي يوحي به إليه.
وقال تعالى: "وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ" [الشورى: 52-53].
فهذا الثناء البالغ على هداية النبيّ –صلى الله عليه وسلم-, وأنها هداية ربَّانيّة: "صِرَاطِ اللَّهِ" ، دليلٌ على عصمة السنة, وأنها وحي من الله تعالى.
وقال تعالى: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً" [الأحزاب:36]. فـ(أَمْراً) نكرةٌ في سياق الشرط, فتعمّ, ويكون المعنى: ما كان ليوجد مؤمنٌ ولا مؤمنة يرى له حقّ الاختيار في أيّ أمرٍ من أموره بعد أمر الله تعالى أو أمر رسوله –صلى الله عليه وسلم-, فإن جعل لنفسه حق الاختيار بعد ذلك فهو عاصٍ لله تعالى ولرسوله –صلى الله عليه وسلم-, وهو بذلك قد ضل الضلال الواضح الذي لا عُذر له فيه .
وأعود وأؤكد أنّ هذه الآية شاملةٌ لكل أوامر رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، بلا استثناء أيّ نوع منها, لدلالة العموم في قوله تعالى: "إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً" فإذا رجعنا إلى سبب نزولها، زاد هذا المعنى تأكيدًا, حيث إنها نزلت في قصّة تزويج زينب بنت جحش من زيد بن حارثة, وَتَأَبِّيْهَا على هذا التزويج, إلى أن نزلت هذه الآية, فأطاعت ورضيت(2). فهذا أمرٌ دنيويٌّ, وهو أمرٌ من خاصّة الإنسان وشؤونه المتعلّقة بحياته الشخصية. ومع ذلك جاء الأمر فيه بالطاعة والتسليم، وعلى هذا الأسلوب الجازم القاطع المُهَدِّد المتوعِّد.
وقال تعالى: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" [النساء: 65]. فهذا نفيٌ للإيمان مؤكَّدٌ بالقسم لكل من لم يُحكِّم النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- في كل(3) نزاع وخلاف يقع بين المسلمين، وأنه لا يَثْبُتُ الوَصْفُ بالإيمان إلا لمن تحاكم إلى النبيّ –صلى الله عليه وسلم- في كل نزاع, ثم لم يضق صدره من حكمه, ثم أن يُسلّم لهذا الحُكْمِ التسليمَ الكامل.
ويدخل في الدلالة على أن السنة وحيٌ من الله تعالى سوى ما سبق:
كل الآيات الآمرة بالطاعة المطلقة للنبي –صلى الله عليه وسلم-, إذ لو لم تكن السنة معصومةً بالوحي, لما أُمر المؤمنون بالطاعة المطلقة لها.
وذلك كقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" [النساء:59]. وكقوله تعالى: "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [آل عمران: 132].
وكقوله تعالى: "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ" [التغابن: 12].(/1)
وهذا الآيات توجب الطاعة (التي هي تصديقٌ وعَمَلٌ) لكل ما صدر عن النبي –عليه الصلاة والسلام- , سواءً أكان وحيًا ابتداءً , أو كان اجتهادًا ابتداءً ثم أُقِرّ (بعدم تصويبه) من ربّنا عز وجل .
وفي هذا المعنى كل الآيات المُثْنِيَةِ على طائعي رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، والتي تَعِدُهُم الجزاءَ الحسن:
كقوله تعالى: "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً" [النساء: 69].
وكقوله تعالى: "يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً" [الأحزاب: 71].
ومن ذلك التحذير من معصية النبيّ –صلى الله عليه وسلم-, من أي معصية لأمره:
كقوله تعالى: "تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ" [النساء: 13-14].
وكقوله تعالى: "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً" [النساء: 115].
وكقوله تعالى: "لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [النور: 63].
وكقوله تعالى: "وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً" [الجن: 23].
ومن ذلك جَعْلُ طاعة الرسول من طاعة الله تعالى, وهذا نصٌّ مؤكدٌ على أن أوامره-صلى الله عليه وسلم- هي أوامر الله تعالى:
قال الله تعالى: "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً" [النساء:80]. ومن التصريح بوجوب اتّباع كل ما يصدر عن النبيّ –صلى الله عليه وسلم-: من الأقوال والأفعال, أمرًا أو نهيًا، ممّا يدل على أن كل ما صدر منه –صلى الله عليه وسلم- معصومٌ بالوحي:
قَوْلُ الله تعالى: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" [الحشر: 7].
وفي فهم فقهاء الصحابة لهذه الآية: ما صحّ أن عبدالله بن مسعود –رضي الله عنه قال: "لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمِّصات, والمتفلّجاتِ للحُسْن: المغيِّراتِ خلق الله. فبلغ ذلك امرأةً من بني أسد, يقال لها: أم يعقوب, وكانت تقرأ القرآن, فأتته, فقالت: ما حديث بلغني عنك، أنك لعنت الواشمات والمستوشمات، والمتنمِّصات، والمتفلّجات للحسن: المغيّرات خلق الله؟ فقال عبدالله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف، فما وجدتُه؟! فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه: قال الله تعالى: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" [الحشر: 7] أخرجه البخاري ومسلم.
ومن ذلك: الحثّ على اتّباع النبيّ –صلى الله عليه وسلم-: بالثناء على المتّبعين، أو بالثناء على سيرته بأنها قدوة حسنة، أو على خُلُقه بأنه خلق عظيم:
قال تعالى: "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [آل عمران:31].
وقال تعالى:"لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" [الأحزاب: 21].
وقال تعالى: "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ" [ن: 4].
وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً" [الأحزاب: 45-46].
ومن ذلك وصف سنة النبيّ –صلى الله عليه وسلم- بالحكمة، وما يوجبه هذا الوصف من التعظيم والإجلال لسنّته –صلى الله عليه وسلم-، الذي يزيد على مجرّد الأمر بالطاعة:
قال الله تعالى: "وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ" [الأحزاب: 34].(/2)
وقال تعالى: "وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [البقرة: 231].
وقال تعالى: "وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً" [النساء:113].
وتنبّه إلى ما جاء في هذه الآيات من وقوع الحكمة متعلقةً بإنزال الله تعالى, مما يعني أنها وحي منه سبحانه.
ومن ذلك تكليف النبيّ –صلى الله عليه وسلم- من قِبل ربِّه عز وجل بأن لا يبلّغ إلا وحيه, وأن لا يتّبع هوىً لأحدٍ من العالمين؛ مما يعني أنّ تبليغ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لا يكون إلا عن الله تعالى مطلقًا:
قال تعالى: "ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" [الجاثية:18].
وقال تعالى: "وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ" [البقرة: 120].
وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً" [الأحزاب: 1- 2].
وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" [المائدة: 67].
وقال تعالى: "فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ" [النمل: 79].
ومن ذلك بيانه -سبحانه وتعالى- أن أعظم وظائف رسوله –صلى الله عليه وسلم- هي بيان القرآن وتوضيحه، فلولا أن هذا البيانَ معصومٌ لما كان فيه بيانٌ للقرآن؛ لأن البيان الخاطئ ليس بيانًا، إنما البيان هو الصواب، ولا يكون صوابًا مطلقًا إلا بوحي:
قال تعالى: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" [النحل: 44].
وكما أوكَلَ الله –عز وجل- إلى رسوله –صلى الله عليه وسلم- بيانَ القرآن بوحيه إليه في هذه الآية، فقد أوضح سبحانه لنبيه أنه هو الذي سيبيّن له القرآن، فقال تعالى: "لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" [القيامة: 16- 17].
والآيات المثبتة أن السنة وحيٌ من الله تعالى كثيرةٌ جدًّا، ووجوه إثباتها وطرائق تناولها لهذا الأمر كثيرةٌ أيضًا.
وما دُمنا نقيمُ هذا الجواب لمن كان لا ينازع في حجّيّة السنّة إجمالًا، وإنما ينازع في حُجّية قِسْمٍ منها، فيصحّ أن نحتجّ عليه بما صحّ من السنة في الدلالة على كونها وحيًا من الله تعالى أيضًا، ومن ذلك:
حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص ا، قال: "كنت أكتب كُلّ شيءٍ أسمعه من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، أُريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كلَّ شيء تسمعه من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-, و رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- بَشَرٌ، يتكلَّم في الغضب والرضا! فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرتُ ذلك لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- ، فقال: اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق [وأشار إلى شفتيه صلى الله عليه وسلم]" (4).
وفي هذا الحديث إقرارٌ بكتابة (كل شيءٍ) يتفوه به النبي –صلى الله عليه وسلم-، بل هو أمرٌ وحثٌّ على ذلك من النبي –صلى الله عليه وسلم-، دون استثناء شيء. وليس هذا فقط، بل مع و صف (كل شيءٍ) نطق به النبي –صلى الله عليه وسلم- بأنه حق. وليس هذا فقط, بل إن هذا الوصف (وهو الحق) مع شموله لـ(كل شيءٍ) نطق به النبيّ –صلى الله عليه وسلم-، فقد جاء الحديث ليؤكّد أنه وصفٌ لا يتخلّف حتى في حالة غضبه –صلى الله عليه وسلم-، وهي أَوْلى الحالات البشريّة التي قد يجتهد فيها الإنسان فيخطئ.
بل في الحديث: أنّ الاستدلال ببشريّة النبيّ –صلى الله عليه وسلم- لزعم أنّ بعض ما يقوله –صلى الله عليه وسلم- ليس بوحي استدلالٌ باطلٌ، لا من جهة نفي البشريّة عنه –صلى الله عليه وسلم-، بل هو بشر –صلى الله عليه وسلم-، لكنه معصومٌ بالوحي عن قول ما سوى الحق, ومعصومٌ اجتهاده عليه الصلاة والسلام عن الإقرار على الخطأ .
وبذلك يكون هذا الحديث من أقوى الأحاديث دلالةً على وجوب اعتقاد عصمة كل ما نطق به النبيّ –صلى الله عليه وسلم-، لكونه وحيًا من الله تعالى : ابتداءً أو مآلًا .(/3)
وفي حديث المقدام بن مَعْدِي كَرِب الكندي –رضي الله عنه- ، قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : "ألا إني أُوْتيتُ القرآن ومثلَه معه، ألا إني أُوْتِيتُ القرآن ومثلَه معه. ألا يوشك رجلٌ ينثني شبعانًا على أريكته، يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فَأَحِلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحَرِّموه ..." (5).
وفي الحديث: نصٌّ على أن السنة مثل القرآن، في أنهما إيتاءٌ من الله عز وجل ، وأنهما وحي مُنزَّل. وفيه أيضًا: أن دعوى الاكتفاء بالقرآن دون النظر إلى السنة، بحجّة الاستغناء بالقرآن عن السنّة = دعوى باطلة؛ لأنها ظنّت السنة ليست وحيًا، والواقع أنها مثل القرآن في ذلك.
ومن لطيف ما يُستَأْنَسُ به في هذا المجال، من أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لا يتكلّم إلا بالوحي: أنّ هذه هي صفته –صلى الله عليه وسلم- التي بشّر بها عيسى –عليه السلام-، كما هو في الإنجيل الذي يعترف به النصارى إلى اليوم !!
فقد جاء في إنجيل يوحنا، وأثناء وداع عيسى عليه السلام للحواريين، ذكر لهم (الفِيرقليط)، وهي كلمةٌ يونانيّة قديمة تعني الذي له حمدٌ كثير، أي (أحمد)، مصداقًا لقوله تعالى عن عيسى -عليه السلام-: "وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ" [الصفّ:6]. وأثناء كلامه –عليه السلام- عن الفيرقليط، والذي حُرّف في الترجمات المعاصرة إلى (المحامي، والمدافع، والمعزّي، والشفيع، والمؤيَّد ... إلى غير ذلك من التحريف والتخبُّط الدالّ على الحيرة ومحاولة طمس الحقيقة )، قال -عليه السلام-: "لا يزال عندي أشياء كثيرةٌ أقولها لكم، ولكنكم لا تُطيقون حَمْلها. فمتى جاء هو، أيْ روحُ الحق، أرشدكم على الحقِّ كُلِّه؛ لأنه لن يتكلّم من عنده، بل يتكلّم بما يسمع"(6).
فهذا وصفه –صلى الله عليه وسلم- في القرآن والإنجيل، أفلا يخجل المعترضون؟!!
وبذلك نخرج بالنتيجة القاطعة التالية: أن سنة النبيّ –صلى الله عليه وسلم- وحي، ومعنى ذلك أنها لازمةُ التصديق .. والطاعة .. بلا استثناء.
ومن سنة النبيّ –صلى الله عليه وسلم-: ما يتعلق بأمور الدنيا من: آداب، ومعاملات، وغيرها ممّا سوى العبادات.
________________________________________
(1) انظر: الإجماع في التفسير: لمحمد بن عبد الرحمن الخضيري (396 – 398).
(2) صَحّ من مرسل مجاهد وقتادة, ويؤيدهما سياق الآيات .
فانظر: تفسير عبد الرزاق (2/117)، وتفسير الطبري (19/113) .
(3) هذا العموم مأخوذٌ من قوله تعالى: "فِيمَا شَجَرَ" فـ(ما) اسمٌ موصول، وهو من ألفاظ العموم.
(4) أخرجه الإمام أحمد (رقم6510، 6802، 6930، 7018،7020)، وأبو داود (رقم3641)، والدارمي (رقم501)، وابن خزيمة (رقم2280)، والحاكم وصححه (1/104 –105، 105 – 106). وهو حديث صحيح.
(5) أخرجه الإمام أحمد ( رقم 17174، 17193،17194،) وأبو داود (رقم 3798، 4594) والترمذي (رقم 2664)، وابن ماجه (رقم 12، 3193)، والدارمي (رقم 606)، وابن حبان (رقم 12) والحاكم وصححه (1/109) من وجوه، وهو حديث صحيح .
(6) إنجيل يوحنا (16/12 – 13) .(/4)
الشاب المسرف على نفسه
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
روي أن رجلاً جاء إلى إبراهيم بن أدهم، فقال له:
- يا أبا إسحاق! إني مسرف على نفسي، فاعرض علي ما يكون لها زاجراً ومستنقذاً لقلبي.
قال: إن قبلت خمس خصال وقدرت عليها لم تضرك معصية، ولم توبقك لذة.
قال: هات: يا أبا إسحاق!
قال: أما الأولى، فإذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل رزقه.
قال: فمن أين آكل وكل ما في الأرض رزقه؟
قال له: يا هذا! أفيحسن أن تأكل رزقه وتعصيه في أرضه؟
قال: لا، هات الثانية.
قال: وإذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئاً من بلاده.
قال الرجل: هذه أعظم من الأولى! يا هذا! إذا كان المشرق والمغرب وما بينهما له فأين أسكن؟
قال: يا هذا! أفيحسن أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه؟
قال: لا، هات الثالثة!
قال: إذا أردت أن تعصيه، وأنت تحب رزقه وفي بلاده، فانظر موضعاً لا يراك فيه مبارزاً له فاعصه فيه.
قال: يا إبراهيم! كيف هذا وهو يطلع على ما في السرائر؟
قال: يا هذا! أفيحسن أن تأكل رزقه وتسكن في بلاده وتعصيه وهو يراك ويرى ما تجاهره به؟
قال: لا، هات الرابعة!
قال: إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فقل له: أخرني حتى أتوب توبةً نصوحاً، وأعمل لله صالحاً.
قال: لا يقبل مني!
قال: يا هذا: فأنت إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب، وتعلم أنه إذا جاء لم يكن له تأخير، فكيف ترجو وجه الخلاص؟
قال: هات الخامسة!
قال: إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة ليأخذوك إلى النار فلا تذهب معهم.
قال: لا يدعونني ولا يقبلون مني.
قال: فكيف ترجو النجاةً إذاً؟
قال له: يا إبراهيم! حسبي! حسبي! أنا استغفر الله وأتوب إليه.
ولزمه في العبادة حتى فرق الموت بينهما.
* مجلة حضارة الإسلام –السنة 6 –العدد1 –ربيع الأول 1385هـ -تموز 1965م(/1)
الشاعر
شعر: أنور العطار
خَلِّياهُ يَنحْ على عَذَباتِهْ ويَصُغْ من دُموعه آياتهُ
ويُرَتلْ ألحانه بخشوع مُستمدّاً من العُلى نَغَماتهْ
لا تُثيرا به كمائنَ صدرٍ رَدَّدَتها الأحزانُ في أبياتِهْ
ورواها فمُ الزَّمانِ بشَجْوٍ فحسبْنا بَناتِهِ من رُواتِهْ
ثم جارَتْ بَغياً وعَقَّتْ أباها غيرَ هَيأبَةٍ أذى سَخَطاتِهْ
فاستطالتْ من غير ذنبٍ عليهِ واستباحتْ بصَرْفِها عَزَماتِهْ
ورَمتهُ في مَهدهِ بالرزايا وجَزتْهُ الأسى على حسناتِهْ
فجرى والأسى وليدَيْنِ حتى أدركَ الكُنْهَ من مَطاوي عظاتهْ
والأسى مَنْهَلُ النفوسِ اللواتي لم يَرُضها الزمانُ في نَكباتِهْ
وتَوارى عن العِيان وأمسى في مُصَلاّهُ يَشتكي عَثراتِهْ
وعِتابُ الأيام شِبهُ صلاةٍ فاتركاهُ مُستغرقاً في صَلاتِهْ
واجثُوَا قيدَ ظِلهِ بسكونٍ وأصيخا لبثّهِ وشَكاتهْ
هَيكلٌ يبعثُ القنوطَ إلى القَلـ ـب بما لاحَ من جَليّ صِفاتهْ
مَنْ يحدّقْ إليه يُبصرْ ملاكاً نُورُهُ ساطعٌ بكلِّ جهاتهْ
باسطاً كَفَّهُ يُناجي مليكاً خاشِعَ الطرف من جلالةِ ذاتهْ
كَتَبَ البؤسُ فوق خَديهِ سطراً تتراءى الآلامُ في كلماته:
للهوى قلبُهُ، وللشجوِ عَينا هُ ، وللعالمينَ كلُّ هباتِهْ
وهو نهبٌ لحادثاتِ الليالي وحلالٌ للدهر قرعُ صَفاتهْ
ينطوي في سبيل أبناءِ دنيا هُ ويلقى من دهرهِ نائباتهْ
بفؤادٍ واهٍ وصدرٍ رحيبٍ وادعٍ، غير صاخبٍ من أذاتِهْ
يَتلقّى بصبرهِ نَزوةَ الدَّهـ ـر ويشكو لربّهِ نَزَواته
شاعرٌ صاغَهُ الإلهُ من البؤ سِ وأبدى الأسى على نظراتهْ
وحَباهُ السِّحرَ الحلالَ فغنّى شاكراً ربَّه على نَفحاته
وسَريُّ النظيم ما كانَ وحياً فالهوى والشعورُ في طيّاته
وسَرِيُّ النظيم ما كانتِ الحِكـ ـمةُ فَيّاضةً على جَنباته
شاعرٌ يمزج المدادَ من الحز ن يذوبِ اللُّجين من عَبَراته
ثم يستنزفُ النجيعَ من القلـ ب فيجري رطباً على صفحاته
يستمدُّ اليراعُ منه مِداداً فهو يُغني عن طرسِهِ ودَواته
عَلَّلَ النفسَ دَهرَهُ بالأماني غير ما ناظرٍ إلى عقباته
كلُّ مَنْ في الوجودِ يَجني مُناه وهو يُقصى عن نيلهِ ثَمراته
يا سماءَ الخيالِ جودي عليهِ وامنحيهِ الإلهامَ في نفثاتهِ
واطبعيهِ على الشعورِ يُخلّدْ لكِ أسمى النظيم في ذِكرياته
مَعبد الحبِّ شِيدَ في قفص القلـ ب مُحاطاً بالظلِّ من قَصَباته
والفؤادُ الناقوسُ يقرعُهُ الوَجْـ ـدُ بأوتارِ حسِّهِ من لَهاته
فيفيضُ الهوى على جانبيه كلما رنَّ من صَدى دقاتِه
يُسمعُ الصخرَ شِعره وشَجاهُ فتَلينُ الصخورُ من أنّاته
ثم تجري على رَويّ القوافي وتحاكي الموزونَ من نبراته
وطيورُ السماءِ تأخذُ عنهُ حينَ يشدو المثير من سَجعاته
يَخلُدُ الشاعرُ الحزين إذا قطّـ رَ أنفاسَهُ على صَفَحاته
يومُهُ مثلُ أمسِهِ في شقاءٍ ولعلَّ الرَّجاء طيَّ غَداتِه
إنْ دَجا الليلُ يَرقُبُ النجم أسيانَ ويُزجي إلى العلى زَفَراته
لا الدجَى نازحٌ ولا الفجرُ يَرثي لشَجيٍّ أدنى الردى خطواته
لو تراهُ –والليلُ ساجٍ صموتٌ- لتفطرتَ من شَجا صَعقاته
سادراً في مجاهل الفكر حَيْرا نَ يُرجِّي نَجاتَهُ من عُداته
مُنشداً في دَياجر الليل آيا تٍ طواها الهواءُ في نَسَماته
... يا فؤادي إذا أجنّكَ ليلٌ وسَئمتَ الحياةَ في ظُلماته
وتَطلَّعتَ للصباحِ وقد ضَل ونورُ العليل في بَسَماته
لا تقلْ: يا ظلامُ سَعَّرتَ نيرا ناً بقلب يذوبُ من آهاته
عَلّ في الليل رحمةَ لوجيعٍ أغرقَته الآلام في سَكَراتِهْ
مُمعنٍ في الكرى يزيدُ التياعاً كلما لجّ!َ في عميقِ سُباته
فإذا ما استفاقَ أبصرَ فجراً حَيّرَ الفكر من سنا لمعاته
إنّ في الفجر روعةً قَسَمتها يَدُ خَلاقِنا على كائناته
عمّتِ العالمينَ لم تبقِ حتى مُعدماً طاحَ في هوى حَسَراته
بهجةُ الكون في الصباح تَجلّى ولذيذُ الحياة في أولياته
بينما الشاعرُ الحزينُ يُناجي ربَّه والصباحُ في بشرياته
غابَ عن عالم الشقاءِ وفاضت رُوحه وانطوى ببُرد نجاته
فاتركاهُ يَنعمْ بنوم طويل عَلّ في الموتِ راحةً من حياتهْ(/1)
الشام
شعر: أمين تقي الدين
حدَّثتُ نفسي، فاستثرتُ هُيامَها هل تستعيدُ بلادُنا أيامَها
يا نفسُ – والدنيا مُنىً ورَغائبٌ - ماذا عليك لو استبحتِ جِسامها؟
إن الشباب –وما جهلتِ غُرورَه- يطوي الحياة مُذهِّباً أحلامها
أدعو المنى، فإذا سعدتُ فغايةٌ أو لا فنفسٌ قد شفيتُ أوامَها
ما لذةُ العيش الحقيقةُ وحدها حسبُ النفوس توهّمتْ أوهامها
تلك البلاد الشاهقاتُ جبالُها قد وطّدت تحت الثرى أقدامها
الراسياتُ أعزَّةً ، الناهضات إلى السماء ، اللابسات غمامها
تتحدَّثُ العظماتُ عن قمَّاتها متلمّسات صخرها ورُغامها
فإذا مشى الوادي بهنَّ حيالها وإذا انبسطن مع السهول أمامها
وقف الزمان لديك يروي مجدَها ومشى إليك جلالُها قُدّامها
تلك البلادُ الشافيات مياهها المطفئات، وما بخلن، ضِرامَها
فوّارة فوق الصخور شرودة بين الرُّبى كالطير رُعتَ نظامها
ماشَيتُها غضبى كما هيّجتَ في بيداءَ شاسعة المدى ضِرغامها
وصحبتها بين الرياض نقيةً تمشي تضاحكَ وَردها وخُزامها
تلك البلادُ الزاهرات نجومُها الكاشفات ، وقد طلعن ، ظلامها
الناظماتُ من السناء قلائداً غُرّاً تسبّحُ بالثناء نظامها
يا حُسنها بجلالها ووئامها لو كان قومي يفهمون وئامها
تلك البلادُ وقد حوى تاريخها صفحاتِ مجد خلّدَتْ أقوامها
الصانعين من التراب عجائباً كَفَلَ الزمان لدى الجمال دوامها
جابوا البحار قريبها وبعيدَها وبغوا السماء فسخروا أجرامها
لبنانُها ملك الجبال وأرْزه مرَّتْ به الإعصار تحني هامها
يا خالداً تُطوى الدهورُ حياله ويظل يملأ ذكره أعوامَها
عوّدتَ مجدكَ أن يلم به أذى ولك الحياة فلا رأيتَ ختامها
تلك البلاد وما ذكرت جمالها إلا لا ذكر رغم حبي ذامَها
علَّ الذي خلق السقام لها إذا أصغى لشكواها شفى أسقامها
الله شرفها فأهبط وحيَه فيها، وعظم بالمسيح مُقامها
عهدي به دينُ المحبة دينُه ما بالها غلب الخصامُ سلامِها!
تلك البلادُ وحبذا أبناؤها بين البنين إذا ذكرت كرامها
عبثاً تفرّقنا المنى فنفوسنا لبلادنا لا تستبيح ذمامها
تلك البلاد وما نسيت نساءها تشقى الرياضُ إذا نسيت حَمامَها
الحاضنات برحمةٍ أطفالها والكافلات من الشقا أيتامها
المطعمات جياعَها ، والكاسيا ت عراتها ، والشافيات سقامها
والله لم تقم البلاد بنهضة حتى تريد السيدات قيامها
نادِ المُنى تقبل عليك سعودُها ودع الزمان محققاً أحلامها
تلك البلاد يعيد مجدَ شبابها من قاد للمجد القديم زمامَها
الشعبُ أعظم قوة غلابة يطأ النجوم بها إذا هو رامها
بلغت من العلياء أرفع ذروة أممٌ رأيت ملوكها خدّامها
وهوت إلى دّرّك الشقاء تحدّراً أمم أطالت في السكون منامها
تلك البلاد ولن تكون عزيزة حتى يهذّب شعبها حُكامها(/1)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذه ليلة الخميس الموافق للرابع والعشرين من الشهر الخامس للعام الثامن عشر بعد الأربعمائة والألف وفي هذا الجامع المبارك جامع شيخ الإسلام [ابن تيميه] في مدينة <الجبيل> نلتقي وإياكم في مثل هذا الموضوع ، الشباب وما أدراك ما الشباب .
الشباب أيها الأحبة الشباب ألم وأمل وأتعرض في هذا الموضوع لاستبانة قام بها بعض الباحثين أعرض لبعض نتائجها من خلال الطرح وكان عدد العينة في هذه الاستبانة مائتين وسبعة وسبعين شابا وأشكر ـ حقيقة ـ كل من شارك في هذا الموضوع وأدعو الله جل وعلا ألا يحرمهم الأجر والثواب في الدنيا والآخرة ثم إن سبب هذا الموضوع إصرار الكثير من الشباب التائبين والغافلين النادمين على توجيه كلمات للشباب الذين غرقوا في وحل الغفلة والشهوات ومستنقع الرذيلة واللذات فكانت هذه الكلمات وإذا قلت الشباب ألم وأمل فألم وأمل كلمتان ليس هناك فرق بينهما في الحروف ولكن هناك بون شاسع جدا بين معناهما فهل أنت أيها الشاب أمل فنعقد عليك الآمال أما أنت ألم فتزيد الآلام آلاما. أيها الشباب أنتم أمل تعلقت به القلوب وأمل تنتظره هذه الأمة فأنتم ثروتها وأنتم سر قوتها وإذا أردتم أن تنظروا للمستقبل كيف يكون فانظروا للشباب اليوم كيف هم ولو نظرت أنت لنفسك بثقة وشجاعة ربما انتقل هذا الأمر وهذا الأمل إلى ألم ومرارة فكيف لو نظرت إلى أصحابك وجلسائك بل كيف لو نظرت إلى مئات وآلاف من شبابنا وحالهم وواقعهم لكني أتمني أن يحرك هذا الألم قلبك الطيب فيعيد الأمل لنفسك بل لنا بل للأمة كلها فهي تنتظرك تنتظر عودتك إلى الجادة لتبني حضارتها وتساهم في نهضتها والمصيبة أن يتعثر الأمل فيصرخ من شدة الألم لكن :
ما زال في الأرض ميدان ومتسع
للخير يدركه من جد في الطلب
ولم يزل في نفوس الناس منطقة
محمية سكنت بالخوف والرعب
ولم تزل نخلة الإسلام باسقة
مليئة بعروق التمر والرطب
ولم تزل واحة الأخلاق مخصبة
فيها مشاتل من تين ومن عنب
أيها الاخوة لو أقسمت بالله أن كل شاب مهما كان بعيدا عن الله فإن فيه خيرا ما حنثت لولا أنه أوتي من سوء فهمه أو غفلة أو شهوة ولا أدل على ذلك من تلك الدمعات التي ينثرها الكثير من الشباب بعد الوقوع بالمعصية وتلك الحسرات التي يطلقها على حاله وحال إخوانه عند الحديث عن واقع الشباب بل وتلك الصيحات والنداءات منهم والتي تنادي أن أمسكوا بأيدينا قبل الوقوع بالهاوية.
مشاعر وعواطف قلب:
أخي الشاب أيها الحبيب الغالي هل رأيت يوما من الأيام أو حتى سمعت في عالم الأحلام عن قلب يتكلم ، نعم إنه قلب المحب يتكلم ويتألم وهذا حديث القلب من المحب للحبيب نعم فأنا المحب وأنت الحبيب أنت الحبيب فأنت الأمل وأنت المستقبل وأنت غراس المجد ونبت الهدى أنت أخي وصديقي وأنيسي ورفيقي لا تظنه نثرا من الأدب ولا شعرا من الطرب إنه حديث القلب بعيدا عن المداهنة والمجاملة والثناء المتصنع لكنه خفقان الجنان الذي يسبق اللسان فيحبس البيان والله العظيم لو كنت أملك الهداية والسعادة لبذلتها لك لكنى أستطيع كغيري فعل السبب من كلمة طيبة ونصح صادق وتوجيه وإرشاد فهاك إياها من قلب المحب فهل قلب الحبيب يسمع ..
يا اخوتي
يا شباب الحق همتكم تسمو
بكم عن دروب الطيش والصخب
أحبكم يا شباب الحق محتسبا
ولن يضيع ربي أجر محتسب
أدعو لكم بصلاح الأمر في زمن
سواد ظلمته يطغى على الشهب
أقول لا تفتحوا باب العقول لمن
يدعو إلى اللهو والتهريج واللعب
لا يجرمنكم شنآن من فسقوا
على سلوك طريق العنف والشغب
أيها الشاب يعجبني فيك الحياء والخجل مهما كان منك فقد جلست مع عشرات الشباب ممن وقعوا في كبائر الجرائم والآثام وقد لاحظت على الجميع بدون استثناء في بداية كل لقاء الاستحياء والتردد والخجل بل وصل الأمر عند بعضهم أن لا يرفع طرفه عن الأرض وهو يتحدث عن ماضيه وكأن لسان حاله يقول
لا تحسبوا أني جمدت عاطفتي
إني لأبكي على حالي وأنتحب
لست الغريب دياراً عن بني وطني
ولا إلى ساقط الأقوام أنتسب
لكنهم رفقة السوء الذين قضوا
أيامهم لعباً وما مثله لعب
رافقتهم آكلاً من جنس ما أكلوا
وقد شربت من الكأس التي شربوا
ياه……………….. ،
قاتل الله من باعوا ضمائرهم
وألبسوني لباس الخوف وانسحبوا
كانوا معي اخوة حتى إذا علموا
أنى فقدت معاني همتي ذهبوا(/1)
فيا أخي الحبيب أعرف أن فيك خيراً كثيراً فاسمح لي أن آخذك بعيداً بمفردك بعيداً عن الجلساء بعيداً عن طيش الشباب وشهوات النفس بعيداً عن وسائل الفساد والضياع بعيداً عن المعاصي بعيداً عن التقليد بعيداً عن كل المؤثرات أريدك أن ترجع معي إلى الوراء إلى زهرة شبابك إلى يوم فتحت عيناك على الدنيا بقلبك الأبيض ونفسك الطاهرة وبراءتك يوم كانت الدنيا صافية في عينيك لا تعرف غشاً ولا كذبا ولا حقدا ولا حسداً لا تعرف التدخين ولا الغناء ولا اللواط ولا الزنا لا تعرف السهر ولا السفر لا تجرؤ على النظر للمحرمات ولا تدرى ما المخدرات أريد أن أجلس معك على انفراد بقلبك الطيب ونظراتك البريئة وفطرة الخير فيك نعم أريد أن أخاطب فيك الشاب البسيط الحيي لألتقي معك لقاء لا يرتبط بالمادة ولا بالمجاملة لقاء الأخ الشفيق بأخيه الرحيم البر به اسمعها مني كلمات وادعة ومشاعر نابعة من القلب فأرجو أن يكون هذا اللقاء لقاء القلب بالقلب يعبر عنه اللسان ببيان رقيق جميل وحس مرهف فأدعو الله جل وعلا أن تصل كلماتي إلى شغاف القلوب وأن تغوص في أعماق الروح فإن في قلبي شفقة مليئة بالحب لك وفى صدري حُرقة يدفعها النصح لك فسماعك لي يملأ نفسي نوراً وقلبي لذة وسروراً فأزداد شوقاً إليك وحزناً عليك فمن يناجيك مناجاتي ومن يرجوك رجائي
لا تعدل المشتاق في أشواقه
حتى يكون حشاك في أحشائه
قبول النصيحة مشكلة أيها الشاب قال [أبو حامد الغزالي] النصيحة سهلة و المشكل قبولها لأنها في مذاق متبع الهوى مر إذ المناهي محبوبة في قلوبهم انتهى كلامه.
والشباب مع النصيحة بين ذكي قد وهبه الله سلامة الفطرة وصفاء القلب وسلامة الوجدان ما يعده لاستماع القول واتباع أحسنه ها أنا أحمد الله في أمره وضعيف قد حيل بينه وبين نفسه فهو لا يرضى إلا عما يعجبه ولا يسمع إلا ما يطربه فَأَكِلُ أمره إلى الله وأستلهمه صواب الرأي فيه حتى يجعل الله له من بعد عسرٍ يسراً.
أخي الشاب قف وتفكر في أي الطريقين أنت تمضي وإلى أي الغايتين أنت تجري فالشاب إن كان جاداً صادقاً مفكراً مثقفاً قوياً مؤمناً رسم لنفسه مستقبلا مشرقا وإن كان لاهيا عابساً غارقاً في الشهوات والمعاصي ورغبات النفس الأمارة كان المستقبل مظلماً مخيفاً والأمر لله من قبل ومن بعد لكنها علامات ودلالات فالله تعالى يقول:
(ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين) والنجدان هما طريقا الخير والشر فأيهما تختار؟؟ أرأيت أخي الشاب أرأيت المسكن الجميل لا يقوم إلا على قواعد وأسس متينة بعد تخطيط وتنظيم هكذا أنت تبني نفسك ومستقبلك تأمل هذه الآية جيداً إذ يقول تعالى:
(أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين)
الشباب وراحة القلب:
إن القلب مهما تلطخ بسواد المعصية فإن فيه رقة ورأفة وحباً وعطفاً قل لي بربك كم من المرات دمعت عيناك لسماع كلمات أغنية فيها من الولع والشوق وهجران الحبيب بل كم من المرات دمعت عيناك وأنت تشاهد الأحداث المؤلمة في فيلم من الأفلام؟؟
إذاً تحركت العواطف ورق القلب ودمعت العين لمجرد كلمات ومشاهد خيالية صورتها عدسة فنان أو كتبتها يد إنسان فهذه العواطف والدموع مزيفة فالوسائل التي اسْتَدَرَّتْها مُمَثَّلَة مُرَكَّبَة فكيف لو انتعش هذا القلب وذاق طعم العواطف والدموع الصادقة كيف لو ذاق حلاوة الإيمان وعرف الحياة الطيبة التي قال الله تعالى عنها (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)...
كيف لو كان هذا الحب لله ؟؟ كيف لو كانت هذه الدمعة من خشية الله ؟؟
أيها الشاب هل ذقت حلاوة الإيمان التي أخبر عنها حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم فقال "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان" هل ذقت طعم الإيمان الذي أخبر عنه قدوتك صلى الله عليه وسلم قدوتك محمد قال "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً نبيا" .
شاب يصرخ فيقول سافرت لكل مكان شاهدت كل القنوات جربت كل شيء .. فراغ وضيق وطيش ويتحسر آخر فيقول أُرْكِبُ الأصدقاء ونتجول في السيارة ذهاباً وإياباً ثم ماذا وإلى متى ؟؟
ويعترف لص من لصوص الليل بمكالمات الحب والغرام ولقاءات الليل ومعاكسات النهار ويقول أسمع أن الزنا دين وكما تدين تدان وأذكر بيت الشعر الذي يقول:
إن الزنا دين إن استقرضته
كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
يقول:
فأنظر لمن حولي بعين الشك والارتياب أفكر في الزواج ولكن ما الذي يضمن لي سلامتها وعفتها هكذا أنا في دوامة وحيرة وتردد.(/2)
ويقول رابع في مقدمة مشكلته التي كتبها أسألكم بالله العلي العظيم أن تعرضوا هذه المشكلة ثم قال: أنا أعيش في قلق وهم وغم ولا أخفيك سرا أني حاولت الانتحار وربي يشهد عليَّ من فوق سابع سماء مرة بشرب كمية من الدواء ولكن الله ستر وأدخلت المستشفى وعوفيت ثم ذكر قصته التي يهتز لها عرش الرحمن إلى أن قال هل يغفر الله لي وما نصيحتك والرجاء الدعاء الدعاء حتى قال في آخرها قدروا ما أعيش فيه من عذاب نفسي.
أيها الاخوة ارحموا الشباب أيها المجتمع رويداً رويداً بالشباب..
أيها الآباء والأمهات عطفاً ورفقاً بالشباب
جسد ناحل ودمع يفيض
وهوى قاتل وقلب مريض
وسقام على التنائي شديد
وهموم وحرقة ومغيض
هذه حال الشباب فالمشاكل تفترسهم: الفراغ ، جلساء السوء ، التدخين ، المخدرات الزنا ، اللواط ، سماع الغناء ، ترك الصلاة ، التهاون بها ، السفر للخارج ، القنوات الفضائية ، السهر ، المجلات الهابطة ، الأفلام الساقطة ، العادة السرية ، تقليد الغرب ، فقدان الشخصية ، الدوران بالشوارع والتضحيد ، الكذب ، السرقة ، المعاكسات ، اللعان وبذاءة اللسان ، الكبر والغرور ، البلوت ولعب الورق ، التشبه بالنساء ، جنس وشهوة وإثارة للغرائز وغيرها من مشاكل الشباب.
معاشر الاخوة لماذا بعض الشباب جعل نفسه كالذباب ـ أكرمكم الله ـ فهو لا يقع إلا على القاذورات فهو من وحل إلى وحل ومن مستنقع إلى مستنقع مرة مع القنوات الفضائية ومرة مع المجلات الهابطة ومرة في المعاكسات ثم الزنا أو اللواط وهكذا فهو غارق في أوحال الفساد والشهوات أيها الشباب قلب تفرق بين هذه المشاكل فإذا مل هذه انتقل إلى تلك كيف حاله كيف حال هذا القلب كيف سيكون قلب في الشهوات منغمس وعقل في اللذات منتكس همته مع السفليات ودينه مستهلك بالمعاصي والمخالفات قبع في سجن الهوى ولم يخرج إلى ساحة الهدى فيا أسير دنياه يا أسير دنياه يا عبد هواه إلى متى إلى أن يفجؤك الموت على غفلة منك ربما وأنت تنتقل من قناة إلى قناة أو وأنت ممسك بسماعة الهاتف أَوَ تَرْضَى أن تموت وأنت تسمع الغناء وأنت تفكر بالزنا ألم تسمع بذلك الطبيب وقد وضع سماعته على صدر المريض الذي يشتكي من قلبه وفجأة انحنى الطبيب على صدر المريض ميتاً!!
كتب أحد شباب الاستبانة عن موقف أثر فيه كثيراً كما يقول وهو عودة أحد زملائه من سفر خارج المملكة للسياحة الخارجية السيئة كذا قال ، قال وعند عودته إلى المطار توفي في الطائرة قبل هبوطها سبحان الله ما أسرع قدوم تلك اللحظات (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم) أينما كنا وعلى أي حال كنا فإنه ملاقينا والله يا أحبة رأيت بعيناي ووقفت قدماي على أحوال شباب خارج هذه البلاد وكأنهم هربوا من عين الله جل وعلا تخيل نفسك أيها الشاب وقد نزل بك الموت ودخلت القبر وظلمته ووحشته أتهرب من عين الله بكى [سفيان الثوري] ليلة حتى الصباح فلما أصبح قيل له أَكُلُّ هذا خوف من الذنوب فأخذ ـ رضي الله عنه ـ حفنة من الأرض وقال الذنوب أهون من هذه وإنما أبكي خوفا من سوء الخاتمة. هذا من أعلام الفقه يخاف الرجل أن تخدعه ذنوبه عند الموت فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنة فإلى متى أخي الحبيب إلى متي وأنت بين هذه القاذورات أين عقلك ؟ أين غيرتك ؟ أين العزيمة ؟ أين الصبر ؟ أين الرجولة ؟ أين دينك ؟
عاتبت قلبي لما
رأيت جسمي نحيلا
فلام قلبي طرفي
وقال كنت الرسولا
فقال طرفي لقلبي
بل كنت أنت الدليلا
فقلت كُفَّا جميعاً
تركتماني قتيلاً
إلا الصلاة والتهاون فيها ؛كان أول أسئلة الاستبانة هل أنت من المحافظين على الصلاة ؟ فكانت الإجابة المؤلمة المُرَّة أن تسعة وثلاثين بالمائة قالوا أحياناً و أربعة بالمائة قالوا لا وستة وخمسين قالوا نعم علماً أن العينة التي أجري عليها البحث فئة تميل إلى اللهو والغفلة لكن لا ننسي أننا في بلاد التوحيد ومنبع الإسلام وبلاد الأمن والإيمان والمساجد وحِلَقٍ العلم والقرآن ولذا فإن النتيجة مؤلمة مبكية لأنها تتعلق بركن من أركان الإسلام وعمود الدين ومن خلال المحادثات واللقاءات مع بعض الشباب تبين لي التفريط العجيب في فريضة الصلاة فبعضهم أقسم أنه لم يدخل المسجد وبعضهم قال لم أُصَلِّ إلا مجاملة أو حياء وبعضهم قال على حسب المزاج وبعضهم يتهاون فيها كثيرا وبعضهم قال إنه لا يمكن أن يترك الصلاة في حال من الأحوال ومهما بلغ من الفساد وأنا هنا لن أسرد لك الأدلة من القرآن والسنة وأقوال سلف الأمة على وجوب صلاة الجماعة فهي معلومة مشهورة لمن أرادها وأعرف أيها الشاب أنك تعرفها لكني أخاطب فيك عقلك فأقول أولاً هل ترضى أن يعلم الناس عنك أنك لا تصلى ؟ إن قلت لا فاعلم أن الله تعالى يعلم .(/3)
ثانيا : أنت تبحث عن السعادة والراحة النفسية وتشتريها بمال الدنيا كلها كما تقول ولو ألقيت نظرة على العيادات النفسية وعلى أماكن قراءة الرقى الشرعية لوجدت عجبا من حالات الاكتئاب والضيق والهموم والغموم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "الصلاة نور" فهي نور للقلوب والله تعالى يقول (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) فهل بعد ترك الصلاة إعراض عن الله جل وعلا فهي الصلة بينك وبين الله جل وعلا ؟؟ سبحان الله أنظر لسؤال في الاستبانة يقول هل أنت سعيد في حياتك فإذا خمسة وخمسون بالمائة يجيبون أحيانا وستة بالمائة يجيبون بلا وهذه الأرقام ليست بعيدة عن أرقام التفريط في الصلاة الآنفة الذكر ، فاعقد المقارنة إنها الصلاة مفتاح السعادة فيها العلاج من حافظ عليها فهو على خير مهما وقع منه.
ثالثا : إن الله تعالى يقول (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين) وهو نص في وجوب صلاة الجماعة ولو كان المقصود إقامتها فقط لاكتفى بقوله في أول الآية (وأقيموا الصلاة) واعلم أن الله لم يعذر المسلم في حال الحرب بتركه للجماعة بل أمره بها في وقت عصيب فقال (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم) والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعذر الأعمى الذي جمع بين فقد البصر وبعد الدار وخوف الطريق وليس له قائد يقوده للمسجد ومع ذلك لم يعذره الله بترك الصلاة" فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أتسمع الآذان قال نعم قال أجب" وفي رواية "لا أجد لك عذرا "فيا أيها الشاب التارك للصلاة أو المتهاون فيها هل تجد لك عذرا بعد هذه الأدلة فإن لم يعذر هؤلاء فما هو عذرك غدا أمام الله في أول سؤال ستسأله يوم القيامة ما هو عذرك وأنت صحيح آمن مطمئن .
رابعا وأخيرا : هل يسرك أيها الشاب أن تموت وأنت تارك للصلاة أو متهاون فيها . يقول أحد المغسلين للموتى جيء بميت يحمله أبوه وإخوانه ودخلنا لغسله فجردناه من ملابسه وأخذنا نقلبه بأيدينا لقد آتاه الله قوة في جسمه وبياضا ناصعا في بشرته وبينما نحن نقلب الجثة وفجأة وبدون مقدمات انقلب لونه كأنه فحمة سوداء فتجمدت يداي وشخصت عيناي خوفا وفزعا يقول فخرجت من مكان التغسيل وأنا خائف فسألت أباه ما شأن هذا الشاب فقال إنه كان لا يصلي يقول الغاسل فقلت لهم خذوا ميتكم فغسلوه فرفض المغسل أن يغسله ورفض إمام المسجد أن يصلي عليه لا إله إلا الله لا يغسل ولا يصلي عليه المسلمون ولا يدفن في مقابر المسلمين هذا حكم الله فيه فأي خاتمة سيئة لهذا الشاب أيها الشاب اسمع قبل ألا يصلى عليك استجب ما دمت في مهل لا يغرنك إمهال الله لك إننا نفرح إذا رأيناك في المسجد ونحزن إذا فقدناك وليس لنا من الأمر شيء (من اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها) لكن إلى متى وأنت تحرم نفسك السعادة والطمأنينة إن أعظم لذة في الدنيا اسمع إن أعظم لذة في الدنيا أن تمشي بقدميك في المسجد واسأل لمصلين المشائين في الظلم يخبروك .. نصف الليل .
أيها الشاب هل من الرجولة أن تفخر أمام أقرانك بالتغرير ببنات المسلمين والإيقاع بهن هل هي شجاعة أن تدغدغ عواطف الغافلات القاصرات بمعسول الكلام وقصص الحب والغرام هل التلصص والتسلل لبيوت المسلمين في الليل أو إخراج الضعيفات من خدورهن بطولة حتى وإن عرضت هي أو بدأت كما يقول البعض فهي امرأة ضعيفة قاصرة أما أنت فرجل ومن العرب الذين يتصفون بالغيرة والشهامة والشجاعة والكرامة وأنت مسلم فيك إيمان وخوف وهناك جنة ونار أليست الحيوانية أن تشبع نهمتك وتقوي شهوتك وإن كان الثمن العار والدمار لحياة ومستقبل فتاة مسلمة كان الأولى أن تخاف على عرضها وأن تدفع عن شرفها بدل تهديدها بالأشرطة المسجلة والصور التي تؤخذ في حالة ضعف واستسلام للهوى إحدى الأخوات ظلت ترفض كل من يتقدم لخطبتها لماذا خوفا من ذلك الخبيث أن يفضحها بعد أن هددها بذلك وعنست وهو يتفرج عليها!!
صرخات موجعة تمزق القلب وتقطع الأحشاء من فتاة أخرى سلبت أثمن ما تملك فأين الغيرة عند هؤلاء سبحان الله كيف يتبلد الإحساس وينتقص القلب يوم يعرض عن الله أين النخوة لحماية أعراض فتيات المسلمين يا لصوص الأعراض ترضون هذا لأخواتكم أترضونه لأزواجكم ألا تخافون أن ينتقم الله منكم والله لا أنسى ذلك الشاب المهموم وقد احمرت عيناه من كثرة البكاء وهو يقول أعيش في عذاب وجحيم منذ شهرين منذ أن تزوجت فسألته عن السبب فقال تبين لي أن الزوجة ليست بكرا وأنها تعلل ذلك بأسباب صحية ولا أدري ماذا أفعل فأنا أعيش في شك واضطراب وكنت أعرف أنه صاحب مغامرات ومعاكسات فقلت في نفسي سبحان الله الجزاء من جنس العمل.(/4)
الشهوة ، شكا الكثير من الشباب من الشهوة وهي ليست عيبا فهي جِبِلَّة في الإنسان لكنها متى انحرفت عن مسارها أصبحت كالسيل الجارف وكالبركان الثائر وقد يقول شاب متى وكيف تنحرف عن مسارها فأقول ألست تترك العنان للتفكير في الشهوة وتسترسل في رسم الصور والتخيلات ألست تخرج للأسواق ومدارس البنات فتأجج نار الشهوة في نفسك بإطلاق البصر هنا وهناك ألست تنظر للمجلات التي تعرض صور النساء بتبرجهن وزينتهن وتتبع أخبار الساقطات وعرضهن بأبهى صورة بل وجعلهن قدوات لخروجهن عن تعاليم الإسلام وآداب الحشمة والعفاف ألست تقلب صفحاتها التي تحمل صور العري والفساد والخلاعة والمجون مما يثير في نفسك الشهوة الجامحة ألست فتى الأحلام وفارس الظلام الذي يرفع سماعة الهاتف لساعات طويلة لتخطط للحياة الوردية والسعادة الأبدية وتلهب المشاعر وكأنك شاعر فتتغزل بالعيون وتبث الشجون فتقع أسيرة الفؤاد وتحملها على الجواد وعلى ضوء القمر يحلو السمر ألست تسمع الغناء بل وتدمن عليه ألم تسمع أنه بَرِيد الزنا وداع من دواعيه لا سيما إذا صحبه كلمات الفحش والعشق وقد أجاب ستون بالمائة من شباب الاستبانة بأنهم يسمعون الغناء دائما وأجاب ثلاثة وعشرون بالمائة أنهم يسمعون الغناء أحيانا واعترف بعضهم بأنه يثير العاطفة والغريزة والميل إلى النساء والتذكير بالعشق والهيام وأنه يشجع على المعاكسات ألست تنظر للقنوات الفضائية بل وتلاحق بجنون لقطات العري والتفسخ حتى يجتمع بركان الشهوة فتخرج كالمجنون لتبحث عن متنفس .
في جريدة المدينة في العدد اثني عشر ألفا وخمسمائة وواحد وعشرين أوضحت رسالة ماجستير أن نسبة عالية من الشباب الخليجي في سن المراهقة يترجمون ما يقدم في القنوات الفضائية من أعمال تمثيلية إباحية وإجرامية إلى وقائع حية في حياتهم ويعود أثر ذلك على أنفسهم وأهلهم وأشارت الدراسة إلى أن نسبة خمسين بالمائة يفكرون فور مشاهدتهم لبرنامج إجرامي أو إباحي بشكل جدي في تطبيق ما شاهدوه بشكل فعلي إلى آخر الكلام هناك وإن كنت متزوجا زهدت بالعفيفة الطاهرة التي بين يديك والتي أحلها الله لك لما تراه من الجمال المزيف بالمساحيق وأدوات التجميل أو المشوه بالعري والتفسخ وربما أنك قرأت في جريدة القبس في العدد ثمانية آلاف وستمائة وإحدى عشر عنوانا يقول القنوات الفضائية اللبنانية تأسر ألباب الخليجيين وذكر فيه قول ذلك التاجر أنه يبكي لمشاهدة القنوات اللبنانية عندما يقارن المذيعات الجميلات بزوجته وأن مشاهدا آخر طلب من مقدمة البرنامج وعلى الهواء مباشرة أن تقبل به زوجة وهكذا تهيج الغرائز وتثار الشهوات حتى لا يبقى للعقل مكان وإذا لم تستح فاصنع ما شئت وقد أجاب سبعة وثلاثون بالمائة أنهم يتابعون القنوات الفضائية دائما وست وثلاثون بالمائة يتابعونها أحيانا إذاً فثلاثة وسبعون من شباب الاستبانة يشاهدون هذه القنوات فمتى نقتنع أيها الاخوة أنها حرب فضائية تستهدف الدين والأخلاق اسمع ماذا قال أحدهم [ماليس روثن ] كتب مقالا في صحيفة [ صنداي تايمز] في شهر كانون الثاني يناير خمسة وتسعين وستمائة وألف يقول فيه سلاح الغرب السري ضد الإسلام ليس سلاح الدبابات وإنما هو سلاح الفضاء والأقمار الصناعية فهل تعلم أيها الشاب أن في دول مجلس التعاون الخليجي حوالي مليون وثلاثة مائة ألف طبق يشاهد قنواتها تقريبا أو أكثر من أربعين بالمائة من سكان الخليج ذكرت هذه الإحصائيات مجلة الأسرة في عددها الخمسين وقالت برامجها غاية في التبذل والضحالة وإثارة الغرائز وقالت العجيب أن يبرر أحد مديري القنوات اللبنانية هذا الموقف بأن المحطة تجارية تستهدف الربح ولذا فهو يعترف بأنهم استعملوا الجنس في محطتهم ،هذا واستغلوا المرأة كعنصر جذاب واستهدفوا منطقة الخليج بالذات وتبالغ الفضائيات العربية في تقليد أفراد التمثيل والغناء والرقص والرياضة وجعلهم القدوة والمثل لأبنائنا إلى آخر الكلام هناك في مجلة الأسرة .
أقف عند هذا الحد بالنسبة لحرب الفضاء حتى لا يصيبكم الدوار بسبب هذا الغثاء ولأن الحديث عن الشباب وليس على القنوات الفضائية وقد سمعنا وقرأنا عبر إعلامنا عن أصوات غيورة تدق أجراس الخطر وتنادي بالارتقاء بوعي المشاهد وذوقه وتحصين دينه وتنشئته إسلاميا فجزى الله خيرا كل صوت وقلم حمل الأمانة بصدق وإخلاص.
أيها الشاب أَبَعْد هذا كله تشتكي الشهوة وتشتكى العادة السرية ، تفكير ومجلات وروايات وهاتف ومعاكسات ومطاردات وغناء وأفلام وقنوات ثم بعد ذلك تشتكي من هيجان الشهوة!! يداك أوكتا وفوك نفخ..(/5)
أتعرف قصة هذا المثل أصله أن رجلا كان في جزيرة فأراد أن يعبر إلى الشاطئ على قربة نفخ فيها فلم يحسن إغلاقها حتى إذا توسط البحر خرج الهواء منها فغرق فلما غشيه الموت استغاث برجل آخر فقال له الرجل يداك أوكتا وفوك نفخ وهو يضرب لمن يجنى على نفسه وأنت أيها الشاب جنيت على نفسك تلاحق أسباب إثارة الغريزة وهيجان الشهوة وأنت تعرف أنك ضعيف لا تصبر ثم تشكو منها عجبا لك أين عقلك كن عاقلا إذا كنت تريد مصلحة نفسك وتريد أن تكون رجلا جادا صابرا مهتما بشئونه ومصالحه الدينية والدنيوية فاقطع التفكير مباشرة واستعذ بالله من الشيطان الرجيم فإن الله تعالى يقول (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون).
هذا أولا ، ثانيا ابتعد عن وسائل الإثارة بل واحرص على وسائل الحصانة واستثمار أوقات فراغك في القراءة وزيارة الأقارب وصلة الرحم وقراءة القرآن وحفظه وممارسة الرياضة وبعض الهوايات المباحة ومصاحبة الصالحين وغيرها مما يعود عليك بالنفع ويرضي الله عنك جاهد نفسك وابتعد عما يغضب الله عليك من وسائل الشهوات ووسائل الفساد أبشر بالخير فإن الله تعالى يقول (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) فقد وعد الله من جاهد نفسه لله أن يهديه.
ثالثا: أما الشهوة فقد جعل الإسلام لها مصرفا شرعيا وهو الزواج ولما وضعنا في طريقه العقبات وردمناه بالسدود والحدود أصبح التفكير بالحرام أسهل من التفكير بالحلال عند بعض الشباب بل لا مانع لديه أن يرتقي المصاعب والمخاطر من أجل الحرام أما الحلال فينهزم أمام أول عقبة تقف في طريقه ولو جد الشاب في طلبه واستعان بالله ودعاه وتبسط في أموره لتيسر أمره ووفقه الله فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول "ثلاثة حق على الله تعالى عونهم" وذكر منهم "والناكح الذي يريد العفاف" أخرجه [أحمد] و[الترمذي] و[النسائي] وحسنه [الألباني] كما في صحيح الجامع وفى لفظ آخر "حق على الله عونه من نكح التماس العفاف عما حرم الله" وأستغلها فرصة لأقول للآباء والأمهات اتقوا الله في أولادكم وبناتكم لا تقولوا هم صغار وقد أحرقتهم الشهوة لا تكونوا عقبة في طريق صلاحهم وسعادتهم فإن في تيسير أمور الزواج وتشجيعهم وحثهم عليه صلاح وسعادة لهم وحفظ من دعاة الرذيلة والمخدرات ووسائلهم والأولاد أمانة في عنق كل أب حتى يزوجهم "وما من عبد يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" كما في الصحيحين. وتأخير الزواج بدون عذر شرعي من الغش لهم فاتق الله أيها الأب في هذه الأمانة.
الشباب والرياضة:
أما الرياضة فقد حث عليها الإسلام فالمؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير وقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم [عائشة] رضى الله تعالى عنها جريا بقدميه وثبت في صحيح [البخاري] أن الصحابة كانوا يتسابقون على الإبل ولها فوائد عظيمة كتنشيط الدورة الدموية وتقوية العضلات الجسدية واللياقة البدنية وتربية العقل وهى وسيلة للتعارف والتآلف لكنها لا تتعارض أبدا مع الهدف الأسمى لكل مسلم ولو سألتك أيها الشاب ما هو هدفك في الحياة لماذا أنت تعيش لماذا خلقك الله وحتى أقرب لك الصورة أكثر فإليك هذا المثال: اللاعبون في الملعب عددهم اثنان وعشرون لاعبا ولمدة ساعة ونصف ما هو هدفهم ماذا يريدون الهدف هو المرمى ولنفرض أن شخصا دخل الملعب وسحب أبواب المرمى من الملعب فما الذي سيحدث سيفسد اللعب ويتخبط اللاعبون فليس هناك هدف يسددون إليه وأصبح اللعب خبط عشواء كل هذا لضياع الهدف إذن فسد اللعب لضياع الهدف وهكذا إذا ضاع الهدف في حياة الشاب تخبط أيضا في حياته وأصبح لا هم له إلا أن يرضي شهواته ونزواته أما الشاب العاقل المسلم فهدفه عبادة الله (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة إذاً باختصار هدفك في الحياة هو رضا الله ، رضا الله هدفك في الحياة.(/6)
أقول هذا الكلام بمناسبة حديث أحد الشباب الرياضيين وقد تبين لي من خلال الحديث معه أنه في العصر يمارس الرياضة وفى المساء أمام التلفاز لمشاهدة المباريات وفي الصباح وفى قاعات الدراسة تحليل لمباراة البارحة ونقاش حاد وصراخ ربما وصل لبذاءة اللسان بل ربما للرفس والطعان وفى الظهر القراءة في الصحف الرياضية هذا هو برنامج صاحبي في اليوم والليلة ويظن نفسه معتدلا إذا نظر لغيره فغيره يسافر من أجل المباراة ويصرف الأموال ليشتري تذاكر السفر ودخول الملعب وغيرها ثم تراه من على المدرجات يقفز ويصرخ وربما بح صوته وتعال وانظر لحرق الأعصاب بل ربما بكى لانهزام فريقه وإن فاز خرج بعد المباراة ليعلن مشاعر الفرح بفوز فريقه دوران وتبحيط وتزوير قلت لصاحبي أصبحت الرياضة غاية وهدفا لا وسيلة فمن أجلها نبكي ونفرح ونحب ونبغض ونشد الرحال ونصرف الأموال ونضيع الأوقات فيا شباب :الرياضة وسيلة لا غاية فمن ذا الذي يرضى أن يموت وهمه كله في الرياضة بل ربما قدمها على طاعة الله وأمره ونهيه أما معتدلا محتسبا أجرك فمارسها كيفما شئت وفي هذا في تعدي الحد في جعلها غاية وهدفا فالله عز وجل قال (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه).
أما التدخين والمخدرات فالكلام عنها يطول لكن يكفي هنا أن أقول إن التدخين مفتاح الفساد نعم هو مفتاح الفساد ومن يريد الإفساد لا يأتي لمن بيده عود سواك وأتعجب كيف تهزمك قطيفة سيجارة فأين الرجولة وأين العزيمة وأين الإصرار والتحدي وأنت تصارع قطيفة سيجارة بل تحرق نفسك ومالك أما المخدرات فيكفيك اسمها أيها الشاب فأعداء الإسلام يعرفون خطر الشباب خاصة إذا صدقوا وتمسكوا بدينهم وعقيدتهم حماس وقوة وحرارة إيمان فكان التركيز عليهم في تخديرهم وشل عقولهم وجهودهم وإنهاك قواهم وهناك المئات من القصص المبكية التي تحكي تفكك الأسر وبيع الأعراض وضياع كثير من الشباب وتمزيق الحياء بسبب هذا الوباء لكنى أقول أيها الشاب أنت الخصم وأنت الحكم ولن ينفعك مثل نفسك وإن لم ترحم نفسك أنت إن لم ترحم نفسك أنت فكيف تطالب الآخرين أن يرحموك فتجرد من العناد وحب الذات وأجب بصراحة لماذا جعلت نفسك هدفا لسهام الأعداء والمنتفعين الذين يروجون لهذه المشاكل والذين لا يريدون إلا دينك ومالك فأنت من شجعهم وأنت من قدم المال لهم ليضروك في صحتك ويفتنوك في دينك وليغتنوا ويفقروك فمن ذا الذي يدفع هذه الأموال إلا أنت ومن الذي يشترى إلا أنت وقل مثل ذلك في علب التدخين والمجلات والأفلام وأشرطة الغناء وغيرها من وسائل اللهو والفساد المحرمة .
وأنتقل لعنصر آخر هو سبب رئيسي في صناعة حياتك إنهم:
رفقاء السوء ، بداية كل شر والنقطة الأولى للانحراف والضياع فكم من الشباب هلكوا بسببهم وكم قادوا أصحابهم إلى المهالك والسجون شعروا أو لم يشعروا بل هم العامل المشترك في كل مشاكل الشباب يقول أحد الشباب أنا شاب في العشرين من عمري نشأت في أسرة متدينة وكنت متمسكا بالإسلام إلى أن قال فذهبت إلى مدينة لمواصلة تعليمي وهناك تعرفت على أصدقاء وكانوا بئس الأصدقاء فعلى أيديهم تعلمت كل أنواع الفساد ومعهم سلكت طريق الغواية والضلال وابتعدت عن طريق الهدى والنور يقول: تركت الصلاة أصبحت مسلما بالاسم فقط وفى هذا الجو المفعم بالإحباط استمرت حياتي مع هؤلاء اللئام وأصبحت أعيش في فراغ قاتل تنقصه السعادة وكنت كلما عزمت على التوبة يلاحقني أصدقاء السوء فأعود إلى الضلال و التشرذم إلى آخر كلامه.
لكن المشكلة عند الكثير من الشباب من هم رفقاء السوء فكل شاب يرى أن أصحابه طيبين أو على الأقل ليس فيهم شر كما يقول البعض ففي الاستبانة سؤال يقول من هو الصديق المثالي من وجهة نظرك اسمعوا الإجابات قال بعضهم هو الإنسان المرح وقال بعضهم هو الذي تتفق طباعه مع طباعي وقال آخر هو الذي يحترمني ويقدرني وقال آخر هو الذي يكون غير متشدد في الدين وقال آخر هو الذي عنده دِش هكذا قال بعض الشباب وهذه هي نظرتهم للصديق المثالي فأقول أيها الشاب من كان ميزان الصداقة لديه هو الهوى والمصلحة الشخصية فكيف سيفرق بين الجليس الصالح والجليس السوء هذه هي المشكلة عند الكثير من الشباب في قضية اختيار الصديق فالميزان عندهم أن تتوافق الطباع أو أن يكون مشهورا أو وسيما أنيقا أو ذا مال وغنى هذه هي المعايير لاختيار الصديق عند غالب الشباب هذا إذا كان هناك اختيار لأن المشاهد أن الواقع يفرض عليك الصديق كالزميل في المدرسة أو في العمل والجار في الحي والقريب ، هذا كله يحدث للشباب في ظل غياب الموجه من والد ناصح أو مدرس صالح فالكثير من الآباء لا يعرف شيئا البتة عن أصحاب أولاده وهذا من تضييع الأمانة والله فإن أخطر شيء على الشاب رفقته يقول أحد الشباب إن أولياء أمورنا هم المسئولون بالدرجة الأولى فأنا لم أر والدي يسألني أين أذهب ومع أي شخص أمشي انتهى كلامه .(/7)
اسمع لهذا الشاب وهو يقول ويروي تجربته بألم وبحسرة فيقول صادقت أحد شياطين الأنس فكانت بداية السقوط حيث شجعني على تعلم ضرب العود كرمكم الله وبالفعل أنقل كلامه بلفظه تماما يقول وبالفعل بدأت التعلم وشرب الدخان بصور متقطعة وأثناء هذه المرحلة كنت أكره المسكرات والمخدرات وأخاف من أهلها وبدأت تتوسع بعد ذلك شبكة أصدقاء السوء أو بمعنى أصح سقط المجتمع وكنت في بداية الأمر كالغريب بينهم أتفحص أشكالهم أتعجب من حالهم ولم أكن أتصور أني سأكون منهم في يوم من الأيام ولكن من أنا أجالسهم ولا أكون منهم يقول وبالفعل تعلمت على أيديهم شتى أنواع المعاصي التي خفت منها وكرهتها في صغري هذا حصل أثناء المرحلة الثانوية إلى آخر قصته التي كتبها بخط يده ثم قال لي بلسانه أقسم بالله لقد حاولت الانتحار عددا من المرات ودخلت العيادات النفسية كثيرا لقد عذبت والدتي معي ثم انخرط بالبكاء ثم قال في رسالته التي كتبها في دفتر صغير كامل لم أكن راضيا عن نفسي وكنت دائم اللوم لها وفى أثناء هذه الحياة القاسية وما كنت أعانيه من ملل هيأ الله لي أحد الاخوة والذي أدين له بالفضل الكبير بعد الله عز وجل في إيقاظي وتنبيهي من هذا الكابوس المزعج المؤلم المدمر الذي لا أستطيع وصفه لأنه يدمي القلب ويدمع العين ويقرب الارتباك ويقول كل ذلك حصل بسبب صديق السوء وعدم التوجيه المطلوب من الأهل ثم قال بقي ندائي الحار والصادق والله على ما أقول شهيد يا إخواني الشباب المعاصي بأنواعها من زنا ولواط ومخدرات وخمور وغناء حبائل الشيطان وأعوانه من الإنس وعند الوقوع في هذه المعاصي أو أحدها يخيل لكم الشيطان اللذة الوهمية التي تحس بها إنك قد انتصرت على همومك وحققت مرادك من السعادة التي تطلبها فتمر الشهور تلو الشهور والسنون تلو السنون فتبدأ المشكلة أو بمعنى أصح الغدر الشيطاني وأعوانه من شياطين الإنس وأصدقاء السوء يقول وقد تتساءلون ما هذه المشكلة وأنا أعذركم على هذا السؤال لأنكم لم تتعمقوا في الدخول في هذه المعاصي صدقوني يا اخوة بحكم جهلكم بها من ناحية وصغر سنكم من ناحية أخري المشكلة هي التعلق بالمعصية وعدم القدرة على الانفكاك منها فتصبح عبدا أسيرا ضعيفا أمام هذه المعصية غير قادر على الهروب منها وقد كنت قبل تتباهى بها وتجاهر وتفاخر أثناء فعلها هذه المرحلة صدقوني بحكم التجربة أقول في هذه المرحلة تحدث النهاية التي كتبتها أنت بنفسك وتتنازعك الهموم من كل جانب والقلق والاضطراب النفسي والعقوبات الدنيوية غير الأخروية نسأل الله أن يتوب علينا إلى آخر كلامه الذي حرصت أخي الشاب أن أنقله بأسلوبه وعباراته لعله أدعى للقبول والاستفادة منه فهذه صرخات وإنذارات من اخوة لك سبقوك في الميدان والله إن هذا الشاب حدثني وهو معي في سيارتي حدثني وهو يبكي في ساعات طويلة كتبوها ما كتبوا هذه المواقف وحياتهم إلا حبا لك وغيرة عليك لتراجع نفسك وتحاسبها ففك أسرها من الهوى وأطلق قيدها من الغفلة أيها الشاب لماذا لا تستفيد من تجارب هؤلاء لماذا تصر وتكابر أنك لا يمكن أن تصل لحال هؤلاء وأن جلساءك طيبين نعم أتمنى يعلم الله أن يحفظك الله وأن يرعاك وإياهم من كل سوء ولكن طريق الشر يبدأ من أول خطوة والسيل من أول قطرة فالنجاة النجاة وربما أنك شاب ما زلت في أول الطريق فكن عاقلا ذكيا واستفد من تجارب الآخرين وليس عيبا أن تسمع النصيحة والتوجيهات من الكبار كأبيك وأخيك فهذا لا يعنى أنك صغير ولا يعنى أنك بدون شخصية كما يردد بعض الشباب لا بل العكس فهذا يعني أنك عاقل متزن فإن العاقل من أضاف إلى رأيه آراء الآخرين واستفاد من نصحهم وتجاربهم.
أيها الشاب اعلم أن الجليس السوء من أكبر أسباب الوقوع في أوحال الشهوات من أكبر أسباب الضياع خاصة من فرط في الصلاة.(/8)
ومن العجائب في الاستبانة أن أربعة وثلاثين من الشباب قالوا إن أصحابهم يفرطون في الصلاة وقال اثنا عشر بالمائة إن أصحابهم أصحاب منكرات كثيرة تاركين للصلاة بل الأعجب من ذلك أن أربعين بالمائة قالوا إن أصحابنا لو طلبوا منا أمرا فيه معصية لله فإنا نلبي طلبه أحيانا وقال خمسة بالمائة لو طلبوا منا فعل أمر فيه معصية لله نفعل هذا الأمر حتى لا يزعل منا فأي مصيبة أن تستجيب لصديق يأمرك بمعصية الله فأرجوك أيها الشاب أعد النظر في صداقاتك وانظر لمن هم على يمينك وشمالك واسأل نفسك هل يرضى الله عنهم عن أفعالهم عن تصرفاتهم هل ترضى أن تحشر معهم يوم القيامة "المرء مع من أحب" كما في الصحيحين هل ينفع الندم يوم القيامة عندما تقول بل هل سمعت هذه الآية في القرآن هل قرأتها يوما من الأيام (يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا) لماذا وهو صاحب الجلسات والسهرات والسفرات والضحكات لماذا وهو صاحب المرح والمزاح فتأتي الإجابة (لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا) نعم لأنه ما أعانني يوما على ذكر الله ما قال لي مرة قف لنصلي الصلاة في وقتها بل كلما انتبهت وتذكرت أو نصحني ناصح سخر مني واستهزأ بي.
يقول أحد العائدين لدار الملاحظة من الشباب إن سبب عودتي أني عدت إلى نفس الشلة ونفس رفقاء السوء لأني إذا خرجت من الدار أجدهم ينتظرونني ويدعونني إلى العودة إلى المشاكل السابقة بعد أن حسنوا لي القبيح وقبحوا لي الحسن فأنسوني توبتي وعزمي على الاستقامة فلذلك عدت إلى الدار بسبب هذه الشلة الفاسدة انتهى كلامه.(/9)
أقول الحمد لله أيها الشاب أنك عدت وأمهلك الله لكن ما حال من لا يستطيع العودة من مات وهو على غَيِّه بل من مات وهو مع رفقة السوء في حادث أو سفر عندها لا ينفع الندم فكن عاقلا واستعرض أصدقائك واحدا واحدا واصحب الأخيار المحافظين على الصلاة ستجد عندهم الابتسامة والمرح والترويح عن النفس في غير ما يغضب الله تعالى فاسأل نفسك لماذا رفضوا مشاهدة القنوات لماذا منعوا أنفسهم من فتنة المعاكسات لماذا حطموا أشرطة الغناء لماذا يترددون للمسجد خمسة مرات في اليوم والليلة لماذا صبروا في حِلَق تحفيظ القرآن اسأل نفسك ما الفرق بينك وبينهم أنت رجل وهم رجال ولك عقل ولهم عقول غير أنهم جاهدوا أنفسهم فمنعوها من الحرام وأطلقت لنفسك العنان فأجبتها (إن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربي) إن الذي أمرهم وأمرك ونهاهم ونهاك هو الله لكنهم قالوا أطعنا وقلت أنت ومن معك عصينا في قلوبهم خوف من الله خوف من عذابه وعقابه وفى قلبك غفلة عن الله وعن عذابه وعقابه فجاهد نفسك أخي الحبيب وامنعها من الحرام من أجل الله امنعها من الحرام إخلاصا لله الذي أنعم عليك من أجل الذي يراك ويطلع عليك من أجل الله القادر على تغيير حالك من صحيح إلى مريض من عاقل إلى مجنون من بصير إلى أعمي من متحرك إلى مشلول من سعيد إلى شقي من غني إلى فقير انظر لأحوال الناس من حولك انظر للمستشفيات انظر لدور النقاهة انظر لأحوال الناس أسأل الله أن يحفظك ويعافيك من كل سوء ، لكنه قادر جل وعلا نعم هو غفور رحيم لكنه شديد العقاب شديد العذاب هو بر رحيم لكنه عزيز ذو انتقام نعم هو يمهل لكنه لا يهمل ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) أيها الشاب إني عليك مشفق ولك محب وناصح فاصبر نفسك مع الصالحين استجب للقرآن وهو يقول (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) كان أمره فرطا قال [ابن كثير] ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا أي شُغِلَ عن الدين وعبادة ربه بالدنيا وكان أمره فُرُطا أي أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع ولا تكن مطيعا له ولا محبا لطريقته ولا تغبطه بما هو فيه كما قال (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) والواقع أن بعض الشباب يغبط اللاعب أو الفنان الفلاني لشهرته بل ربما يحبه وقد يكون مُفَرِّطاً في الصلاة والأخلاق بل قد يكون كافرا فأين من تعلق بما يسمى [مارادونا] أو من تعلق بمن يسمى [مايكل جاكسون] وهما كافران الأول مدمن مخدرات والثاني شاذ جنسيا هكذا قالت وسائل الإعلام فيا لهف نفسي على شباب الإسلام أيرضى أحد أن يحشر مع هؤلاء فالمرء مع من أحب أين نحن من أمر الله وهو يقول (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) فإن كنت عاقلا إن كنت ذا عقل فاحذر من المفرطين الغافلين وأحب الصالحين الناصحين قال عمر بن الخطاب عليك بإخوان الصدق فعش في أكنافهم فإنهم زين في الرخاء وعدة في البلاء وقال [الجوهري] إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله يعنى كلب أصحاب الكهف قال [القرطبي] في تفسيره بعد كلام الجوهري هذا ، قال إذا كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله تعالى بذلك في كتابه جل وعلا فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين المحبين للأولياء والصالحين انتهى كلامه رحمه الله .
أيها الشاب اسأل نفسك هل أصدقاؤك أصدقاء مصالح ثم أسألك أنا هل ذقت طعم الصداقة الحقيقية والاخوة الصادقة قال النبي صلى الله عليه وسلم "من أحب أن يجد طعم الإيمان فليحب المرء لا يحبه إلا لله" كما في مسند [أحمد] و[البزار] وصححه [الحاكم] ووافقه [الذهبي] وقال صلى الله عليه وسلم "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان وذكر منها "وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله" كما في الصحيحين وقال صلى الله عليه وسلم "قال الله عز وجل وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في" وذكر النبي صلى الله عليه وسلم من السبعة الذي يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلى ظله وقال "ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه" كما في البخاري ومسلم والله تعالى يقول (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) وقل لي من تصاحب أخبرك من أنت فـ "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" كما في سنن [أبي داود] و[الترمذي] و[أحمد] وصحح إسناده [النووي] كما في رياض الصالحين فهل تصدق بالقرآن والسنة وتكون ممن قالوا سمعنا وأطعنا أو ممن قالوا سمعنا وعصينا.(/10)
أخيرا أيها الشاب الطيب فتش في نفسك فتش في أصحابك واحذر رفقة السوء فإنهم لا يقر لهم قرار ولا يهدأ لهم بال حتى تكون مثلهم وأداة طيعة في أيديهم إما لكراهتهم امتيازك عنهم بالخير وإما حسدا لك فإن الله تعالى أخبر عن المنافقين فقال (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) وقال [عثمان] رضي الله تعالى عنه ودت الزانية لو زنى النساء كلهن..
فإياك وقطاع الطريق إلى الآخرة الذين يصدون عن ذكر الله اسمع لهذا النصح واستجب وفكر وراجع نفسك كن عاقلا وتنبه ثم انتبه أن تكون من مفاتيح الشر مفاتيح للشر أنبهك أيها الأخ لأمر مهم غفل عنه الكثير من الشباب فبعض الشباب لا يكفيه أن يقع هو بالمعصية ويتحمل ذنبه بل لا يزال بزملائه يشجع هذا على السفر للخارج ويدل ذاك على تلك القناة ويعطى الآخر أرقام ذلك الهاتف ويمدح تلك الأغنية ويهدي شريطها لزميله وهكذا هو في كل جديد في عالم المتعة والشهوة فأصبح مرشدا للفساد وهو لا يشعر فحمل ذلك المسكين وزره وأوزار غيره فكما أن الدال على الخير كفاعله فإن الدال على الشر أشد من فاعله وأشنع فهو أهلك نفسه وغيره أصبح مفتاحا للشر وأنا على يقين أنك لم تقف وتفكر بقول الحق عز وجل (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون) وأنك غفلت عن قول النبي صلى الله عليه وسلم "ويل لمن كان مفتاحا للشر مغلاقا للخير" وأنك لم تتذكر قوله صلى الله عليه وسلم "ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" أنا على يقين أنك غفلت عن هذه الأدلة القوية في خطورة الدلالة والتشجيع على الفساد وأنك ظننته من حديث المجالس والتفاخر بالمغامرات والعنتريات بين الشباب وإلا فلا أحد يتحمل ذنبه فكيف بذنوب الآخرين فاحفظ لسانك واستر على نفسك واحذر أن تكون مفتاحا للشر وأنت لا تعلم فكفاك ذنبك غفر الله لي ولك وللمسلمين أجمعين.
بل إن مجرد الحديث عن معصية فعلتها حتى وإن كان سرا لصديق عزيز بينك وبينه فإن ذلك من المجاهرة بالمعصية كما في حديث [أبي هريرة] يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "كل أمتي معافى إلا المجاهرون وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه" أيها الشاب كن عاقلا فإذا ابتليت بشهوة فإن كان بينك وبين ربك احرص أن يكون ذلك بينك وبين ربك فهو خطأ بشر وضعف نفس وهو أحرى أن يغفر أما الحديث عنه وتشجيع الآخرين عليه أي على الذنب فهو عناد وكبر وصاحبه على خطر عظيم ألا فليتق الله أولئك الذين يصورون جرائمهم والكبائر التي يفعلونها ويحدثون بها الآخرين من زملائهم (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير).
التقليد واتباع كل جديد قصات الشعر القبعات الملابس الغربية النظارات السوداء التميع والتشبه بالنساء المبالغة في التجمل سلوكيات شاذة عن مجتمعنا المسلم نراها في الآونة الأخيرة هنا وهناك فهل هي من إفرازات القنوات الفضائية من فرق البريك دانس أو الهيبز أو البي جاز أو غيرها من فرق الرقص والمجون ومغني الخلاعة والفجور أم هو التقليد الأعمى "ومن تشبه بقوم فهو منهم" كما قال صلى الله عليه وسلم بل قال صلوات الله وسلامه عليه "ليس منا من تشبه بغيرنا لا تتشبهوا باليهود والنصارى" كما في صحيح سنن [الترمذي] وحسنه [الألباني] .
والغريب انتشارها بهذه السرعة بين الشباب بل وصرف الأموال والأوقات في صوالين الحلاقة فما لي أراك بدل أن تنكر على أصحابها وتشمئز من هذه الحركات وتردها بيقينك وعاداتك الطيبة ما لي أراك تحاكيها وكأنها راقت لك عجيب أمرك أليس لك دين ترجع إليه لترى أهذا الفعل حلال أم حرام؟؟
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القزع وقال أهل العلم بل قال صلى الله عليه وسلم "احلقه كله أو دعه كله" وذكر أهل العلم أن جميع أخذ أطراف الشعر من أي جهة من جهة الرأس إنما يدخل في حكم القزع.(/11)
فإن غاب الدين أقول أليس لك عقل لتسأله أتناسب هذه التصرفات مجتمعنا الطاهر أم هي من خوارم المروءة ونقصان الرجولة فلماذا لا تسأل نفسك وتكون عاقلا فإن غاب الدين وغاب العقل أليس لك شخصية مستقلة تعتز بها وتتميز بها عن عالم السفليات وسلوك الساخطين إن الذي يدفع الكثير من شبابنا لمثل هذه الحركات هو الشعور بالنقص نعم انظر لنفسك الشعور بالنقص فالشاب يحب الظهور والبروز والشهرة فلما عجز عنها بصفات الكمال بحث عنها بصفات النقص قاعدة خالف تذكر وهو يظن الناس ينظرون إليه بعين الإعجاب وهم والله العظيم يزدرونه ويسخرون منه وما سمعت لا صالحا ولا طالحا يثني على أحد منهم بل العكس فمتى يعقل شبابنا أن المجتمعات الإسلامية شيء والمجتمعات الكافرة شيء آخر وأن الإسلام هو الاستسلام لله في كل شيء حتى في اللباس والشكل ولا تكن إِمَّعَة تقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت فقد أجاب وللأسف اثنان وسبعون بالمائة من شباب الاستبانة أنهم يعلمون أن الأغاني ومشاهدة القنوات والمجلات لحرام ولكنهم يشاهدونها لأن كثيرا من الناس يسمعونها ويشاهدونها فيا أيها الشاب كن عاقلا ولا تنظر للهالك كيف هلك ولكن انظر للناجي كيف نجا إني أخاف الله لماذا أراك أيها الشاب تنهزم بسهولة أمام كل معصية وشهوة نعم كلنا ذو خطأ وكلنا ذاك الرجل وكل بني آدم خطاء لكن شتان بين شاب كالإسفنج يمتص كل شهوة ويستجيب لكل رغبة ويدفع كل جديد حتى عطل تفكيره وعقله وألغى شخصيته ومبدأه شتان بين هذا وبين شاب يخاف الله ويجاهد نفسه فهو ينتصر عليها مرات وتنتصر عليه مرات ثم اعلم أن هناك شيئا اسمه الخوف من الله غاب عن قاموس كثير من شباب اليوم أيها الشاب هب أنك لا تستحي من نفسك بل هي غرقت وضاعت في وحل الشهوات واللذات وهب أنك لم تعد تستحي من الناس أو اجتهدت في التخفي والتستر عنهم هب أنك أغلقت الباب على نفسك هب أنك سافرت بعيدا عن معارفك كما تقول وهربت لخارج البلاد من قيود وأحكام الشريعة كما يقول البعض ألم تعلم أن الله يراك وأنه معك في كل حال ومكان إنه قريب وعليك رقيب فأين عظمة الله في نفسك أين عظمة الله انظر للكون من حولك انظر في خلق نفسك انظر في تقدير الله جل وعلا أنسيت أنه العليم فيعلم كل شيء وأنه السميع فيسمع كل شيء وأنه القدير فيقدر على كل شيء نعم تستطيع أن تختفي عن أعين الناس ولكنك لا تستطيع أن تختفي عن عين الله .
وإذا خلوت بريبة في ظلمة
والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها
إن الذي خلق الظلام يراني
إنه الخوف من الله الصخرة التي تتهاوى أمامها الشهوات الحصن الحصين بينك وبين الفساد السد المنيع الذي يمنعك من المعاصي في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله قال "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال" انتبه أيها الشاب دعته فهي التي دعته فهو لم يقطع الفيافي ويصرف الأموال من أجلها لم يطاردها في الأسواق ولم يتلاعب بأرقام الهاتف لصيدها بل هي التي دعته وهى امرأة ذات منصب أي أمن العقوبة فهي تستر عليه عند الفضيحة وهي ذات جمال وقلوب الرجال تهفوا إلى الجمال إذن فالأسباب مهيأة والفرصة مواتية فما الذي يردك ما الذي يردك أيها الرجل هيا لكن تأتي الإجابة من قلب تربى على خشية الله من قلب بين جنبيه شيء اسمه الخوف من الله فيصرخ في وجه تلك المرأة فيقول لها بملء فِيه إني أخاف الله مهما بلغت الشهوة ومهما كانت النفس والمغريات إني أخاف الله حصن الإيمان السد المنيع عند الأزمات فقل لنفسك كلما همت بمعصية يا نفس إني أخاف الله عود لسانك على هذه الكلمة ألا تخاف الله ألا تخاف من الموت (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) معاشر الشباب احفظوا هذا الاسم جيدا وتذكروه [علي بن الفُضَيْل بن عياض] شاب مشهور لكن شهرته ليست في عالم الرياضة ولا في عالم الفن له قصة غريبة على مسامع شبابنا في مثل هذا الواقع اسمعوها قال [أبو بكر بن عياش] صليت خلف [فضيل بن عياض] صلاة المغرب وإلى جانبي علي ابنه فقرأ الفضيل (ألهاكم التكاثر) فلما بلغ (لترون الجحيم) سقط علي مغشيا عليه وبقي [الفضيل] لا يقدر أن يجاوز الآية ثم صلى بنا صلاة خائف قال ثم رابطت عند علي فما أفاق إلا في نصف الليل.
وكان علي يوما عند [سفيان بن عيينة] فحدث سفيان بحديث فيه ذكر النار وفى يد علي قرطاس فيه شيء مربوط فشهق شهقة ووقع وسقط القرطاس من يده فالتفت إليه سفيان وقال: لو علمت أنك هنا ما حدثت بهذا لأنه عرف أنه مشهور بالبكاء خوفا من النار وتدبرا للقرآن. قال فما أفاق إلا بعد ما شاء الله قال [محمد بن ناجية] صليت خلف الفضيل فقرأ ؛الحاقة في الصبح فلما بلغ إلى قوله (خذوه فغلوه) غلبه البكاء فسقط ابنه علي مغشيا عليه..(/12)
أعرفتم يا شباب بأي شيء اشتهر علي بن الفضيل بشدة خوفه من الله وخشيته عند سماع القرآن حتى اشتهر بقتيل القرآن نعم سمي قتيل القرآن وكان قتيلا للقرآن فعلا فقد قال [الخطيب] مات علي قبل أبيه بمدة بآية سمعها تقرأ وغشي عليه وتوفي في الحال لا إله إلا الله ما أرق هذه القلوب هكذا تحي القلوب بصلتها بالله جل وعلا لله درك يا ابن الفضيل أي خوف من الله هذا الذي بلغ بك قال [إبراهيم بن بشار] الآية التي مات فيها علي بن الفضيل في الأنعام (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد) قال مع هذا الموضع مات وكنت فيمن صلى عليه رحمه الله . يا شباب هذا هو علي بن الفضيل وهذه هي شهرته وهذا لقبه قتيل القرآن ، القرآن الذي هجره بعض الشباب فربما مر الشهر والشهران والثلاثة لم يقرأ آية في كتاب الله فضلا عن أن يحفظ منه شيئا أو يتدبر الآيات فيبكي لماذا أنت بعيد عن الله كيف بلغت القسوة بنا قسوة قلوبنا بنا إلى هذا الحد ذكر بعض شباب الاستبانة أن من آثار الغناء عليهم نسيان القرآن وهذه نتيجة أكيدة فلا يجتمع كلام الرحمن ورقية الشيطان في قلب ووالله ما أصابك من قسوة في القلب وبعد عن الله إلا بسبب الغناء أقسم بالله إلا بسبب الغناء فهو رقية الشيطان اسأل نفسك بصراحة كم مرة تسمع الغناء في الشهر الواحد وكم مرة قرأت القرآن في هذا الشهر أعلم أن الإجابة مخيفة لكن هل ترضى أن تموت على هذا ؟ هل دمعت عيناك يوما خوفا من الله اسمع لهذه السورة واسأل نفسك هل مر بك هذا الموقف في حياتك فمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله قال "ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه" ذكر الله لوحده لا يعلم به أحد فذكر نعمة الله عليه وتذكر تقصيره في حق ربه وتذكر كثرة ذنوبه ومعاصيه وجرأته على الله فرق قلبه ودمعت عينه فسالت على خده خشية وخوفا من الله فكان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله فيا أيها الشاب جرب حاول اخل بنفسك بغرفة أو ظلمة ليل ناج ربك اعترف بذنبك اشك إليه قسوة قلبك تب واستغفر وردد رب إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت حاول لا تتردد فربما كان هذا الموقف منجيا لك عند الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم فإنك إن خفت الله فالله يقول (ولمن خاف مقام ربه جنتان) أما إن استجبت للنفس الأمارة فالله يقول (فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى) أما إن جاهدت النفس وذكرتها بأنك تخاف الله فأبشر فإن الله يقول (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) أبشر أخي الحبيب إنه الله الذي إذا خفت منه هربت إليه لتشعر بالراحة والسعادة وكلما ابتعدت عن الله كنت عرضة للهموم والأحزان والطفش والضيق فاحذر خداع النفس وغرور الشيطان.
وأخيرا التوبة التوبة أيها الاخوة أبشركم أن سبعة وستين من شباب الاستبانة قالوا نعم نفكر في طريق الاستقامة واثنين وعشرين قالوا نفكر أحيانا في طريق الاستقامة ولم يقل لا نفكر إلا ثلاثة ولم يجب البقية وهم تسعة وعشرون وقال خمسة وتسعون بالمائة من الشباب إن طريق الاستقامة هي طريق السعادة الحقيقية.
فأقول: أيها الشباب ها أنتم بأنفسكم تقولون إن طريق الاستقامة هو طريق السعادة فإلى متى وأنتم تحرمون أنفسكم السعادة والراحة فمن يحول بينكم وبين التوبة ، أخي الحبيب (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) قل بأعلى صوتك قل بلى والله لقد آن قل كفاني ذنوبا وعصيان اعترف وقل
كم ليلة أودعتها مآثما أودعتها
لشهوة أطعتها في مرقد ومضجع
وكم خطى حذذتها بخزية أحدثتها
وتوبة نكثتها لملعب ومرتع
كم تجرأت على رب السماوات العلا
ولم أراقبه ولا صدقت فيما أَدَّعِي(/13)
فرغ قلبك من الشهوات نحترق والله لأننا نراك فيها وفى المعاصي وبُعْد الله عز وجل يقول ربك (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما) انتصر لنفسك ، انتصر على نفسك لا تستجيب لدعاة الرذيلة استعذ بالله من الشيطان الرجيم ارجع إلى ربك تب إليه قم فتوضأ صل ركعتين ابك على ذنوبك وتقصيرك في حق ربك استمع للبشارة للغفور الرحيم وهو يقول لك (إلا من تاب وآمن وعمل عمل صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما) ما أعظمها من بشارة لك أنت أيها الشاب من ربك الرحيم الغفور جل وعلا فكل الذنوب تبدل حسنات فما الذي تنتظره قم فأبدل الانحراف بالاستقامة والأرصفة بالمساجد والملاعب بحلق القرآن والأغاني بالذكر والتسبيح ذق طعم الدموع من أجل الله انكسر بين يدي الله اظهر الخضوع والذل لله استعن بالله والله إنك بحاجة لربك جل وعلا أنت بحاجة لعونه اصدق مع الله ، قف في ظلمة الليل وحيدا وانطرح بين يديه ذليلا وقل أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني أسألك بقوتك وضعفي إلا غفرت لي أسألك بغناك عني وفقري إليك هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك قل لربك أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير قل لربك أنت وحدك تعلم جلوتي وخلوتي أنت وحدك تعلم سري وعلانيتي قل يارب يارب عُبَيْدُك الضعيف بين يديك يارب ها أنا أعود إليك خضعت رقبتي ورَغِمَ أنفي وفاضت عيني وذل قلبي فيارب يارب يا غفور اغفر ذنبي وطهر قلبي وأنت عفو كريم فاعف عني..
القلب محترق والدمع مستبق
والكرب مجتمع والصبر مفترق
كيف القرار على من لا قرار له
مما جناه الهوى والشوق والقلق
يا رب إن كان شيء فيه لي فرج
فامنن علي به ما دام في رمق
كن صادقا في التوبة توكل على الله ولن يردك خائبا ولو بلغت ذنوبك عنان السماء افرح بالتوبة اسمع [لكعب بن مالك] رضى الله تعالى عنه وهو يقول فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني أي بتوبة الله عليه قال كعب فنزعت له ثوبيّ فكسوتهما إياه لبشارته يقول والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أتأمم رسول الله يتلقاني الناس فوجا يهنئوني بالتوبة ويقولون لتهنئك توبة الله عليك إلى أن قال فسلمت على رسول الله قال وهو يبرق وجهه من السرور ويقول "أبشر بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك".
كن صادقا في التوبة وأبشر بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك أيها الشاب هذه مشاعر تائب ذاق حلاوة التوبة من صحابة رسول الله عرف طعمها رغم قربه من الله مشاعر التائب جياشة عباراته صادقة دموعه حارة ففي قلبه حُرقة وفى دمعه أسرار يجد للطاعة حلاوة وللعبادة لذة عرف طعم الحياة وذاق طعم السعادة والراحة بحلاوة الإيمان فما هي إلا ساعة حتى يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور ما هي إلا ساعة ويقال فلان مات ما هي إلا ساعة ويعلم الغافلون أنهم كانوا سادرون لاهون فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أما التائبون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم التائبون ترى أعينهم تفيض مما عرفوا من الحق أيها الشاب ويحك من ذا الذي يصلى عنك بعد الموت من ذا الذي يصوم عنك بعد الموت من ذا الذي يرضي ربك عنك بعد الموت..
ألا تبكي على نفسك وتنبه
قبل رمسك فعندها لا ينفع الندم
تنام ولم تنم عنك المنايا تنبه للمنية يا نؤوم
أيها الشباب: سئل شاب من شباب الاستبانة هل أنت راضٍ عن حالك وواقعك فأجاب تسعة وعشرون بالمائة بـ :لا وأجاب ثمانية وعشرون بالمائة أنهم راضون أحيانا وأجاب ثلاثة وعشرون بالمائة بـ :نعم وقد أجاب ثلاثة وخمسون بـ :نعم أرغب في تغيير حالي وواقعي وثمانية وعشرون بالمائة أرغب في تغيير حالي وواقعي أحيانا وأنا أقول هذه من البشائر ومن علامات الخير فيكم أيها الشباب أن لا يرضى الكثير منكم عن حاله بل ويتمنى تغيير واقعه فأقول أبشر فلا يزال هناك فرصة للتغيير لكن بادر وأسرع فواقعنا يستحي أحدنا من الحديث عنه أمام الآخرين فكيف بالحديث عنه أمام الله فسيسأل الشاب يوم القيامة عن شبابه فيم أبلاه ولا يزال أمامك فرصة للتغيير من واقعك لكن أسرع فالدنيا قليل ولم يبق من القليل إلا القليل فخذ من القليل للكثير فكل عمل تكره الموت من أجله فاتركه ابتعد عنه ثم لا يضرك متى مت فهل فكرت في مصيرك بعد الرحيل هل فكرت كيف حالك في القبر هل فكرت كيف سيكون حالك في الصراط يوم البعث والنشور أجاب واحد وخمسون بالمائة من الشباب نعم وأجاب تسعة وثلاثون بالمائة أحيانا نفكر وأجاب ستة بـ :لا وأقول للذي لم يفكر اعلم أن الموت لا يفكر (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد)
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب
متى حط ذا عن نعشه ذاك يركبُ
نشاهد ذا عين اليقين حقيقةً
عليه مضى طفل وكهل وأشيبُ
ولكن على الران القلوب كأننا
بما قد علمناه يقينا نُكَذِّبُ
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا(/14)
وفى كل يوم واعظ الموت يندبُ
وفى الختام وبعد هذا كله كن شجاعا واتخذ القرار ولا تتردد وكن من الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفى الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم) فلماذا تحرم نفسك ثمرات الاستقامة وثمرات الإصلاح في الدنيا والآخرة.
في النهاية أعتذر إليك أيها الشاب فربما قسوت عليك ولكنه الحب ، فإن صديقك من صدقك وليس من صدقك هي الغيرة يعلم الله
فحبيبك من يغار إذا زللت
ويغلظ في الكلام متى أسأت
يسر إذا اتصفت بكل فضل
ويحزن إن نقصت أو انتقصت
ومن لا يكترث بك لا يبالي
أَحِدْتَ عن الصواب أو اعتدلت
هي كلمات لك بل والله هي كلمات لكل الشباب وخاصة أولئك الذين ظلموا أنفسهم وأسرفوا عليها بالمعاصي والذنوب فإن أصبت فيها فذلك من فضل الله ومنته علي فله الحمد وله الشكر وإن أخطأت فيها أو شيء منها فمن نفسي والشيطان وأعلن الرجوع عنها تائبا ومستغفرا ربي غافر الذنب وقابل التوب.
أيها الأخ يعلم الله أنني أعزي نفسي بكلماتي فكم أنا بحاجة لهذه الكلمات فأعظ بها نفسي أولا وهي لك ثانيا لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
اللهم رد شبابنا إليك ردا جميلا اللهم خذ بأيديهم إلى الحق اللهم اغفر لهم ذنوبهم اللهم استر عيوبهم اللهم ارحمهم برحمتك اللهم ارحم معذبهم يا حي يا قيوم اللهم طهر قلوبهم اللهم خذ بأيديهم اللهم من كان منهم في صلاح واستقامة فزده ثباتا وهداية ومن كان منهم غافلا ضالا فخذ بناصيته لطريق الحق والاستقامة اللهم من أرادهم بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميرا عليه يا قوي يا عزيز اللهم يا رب من عزم على التوبة والرجوع إليك فوفقه وأعنه يا حي يا قيوم برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم احفظ الإسلام والمسلمين اللهم عليك بأعداء الدين اللهم انصر عبادك الصالحين اللهم وفق ولاة أمور المسلمين جميعا لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين اللهم وفق ولاة أمورنا خاصة لما تحبه وترضاه وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة اللهم وفقهم وأعنهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين اللهم احفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين بالأمن والإيمان اللهم اجمع كلمتهم على التوحيد والقرآن لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى أهله وصحبه أجمعين .(/15)
الشباب المسلم والسياحة الغربية .. حقائق وآراء
مع اقتراب الإجازة الصيفية تتوالى عروض الشركات السياحية في الظهور، وتحتل الإعلانات والبرامج السياحية مكانة كبيرة في الإعلام بأنواعه، ويبدأ الكثير من الشباب بالتوافد على هذه الشركات بحثًا عن المتعة والسفر والسياحة.
ومما يلفت الانتباه أن السياحة الخارجية تستحوذ على النصيب الأكبر من السياحة، بل إن السياحة إلى بلاد أوروبا وأمريكا تحتل المكانة العظمى عند كثير من الشباب، ففي دراسة أجريت في السعودية تبين أن إجمالي ما ينفقه المواطنون على السياحة الداخلية نسبة لا تتعدى 17% من إجمالي إنفاقهم الخارجي.
ومن العجب أن ما يقرب من ثلاثة ملايين سعودي ينفقون 30 مليار دولار سنوياً في قضاء إجازاتهم الصيفية خارج السعودية، وهو مبلغ ضخم جدا يمثل نسبة 15% من أرباح صادرات النفط. و هذه المبالغ الخيالية التي تنفق هنا وهناك لا ريب أنها تحتاج إلى وقفة تأمل من الشباب ولاسيما إذا كانت الوجهة لبلاد الغرب وأمريكا.
في السفر والسياحة فوائد جمة
إن في السياحة والسفر كما لا يشك أحد من الفوائد الشيء الكثير، ولكن السفر في الوقت نفسه يشتمل على سلبيات ومضار تقل وتكثر بحسب مكان السفر والغرض منه وما يتعلق بذلك.
يحدثنا الدكتور خالد القريشي (عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض ) عن بعض فوائد السفر فيقول:
1- انفراج الهم والغم: فمما عرف واشتهر بين الناس أن الملازم للمكان الواحد، أو الطعام الواحد قد يصاب بالسأم والملل منه، فتنتابه الرغبة في التجديد، وهذا حال بعض المقيمين، إذ قد يعتريهم ما يُضيّقُ صدورهم، ويغتمون به، فيصابون بالملل والسآمة ويحسون بالرتابة في حياتهم، فإذا سافر الواحد منهم تغيّرت الوجوه من حوله واختلفت المشاهد والأجواء عليه، فحينئذ يذهب همه وينشرح صدره.
2- اكتساب المعيشة: فإن من ضاق عليه رزقه في بلد نُصح بالسفر إلى بلاد أخرى طلباً للرزق، فالله سبحانه وتعالى يقول: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور}. فكم من رجل سافر لاكتساب الرزق ففتح الله عليه.
3- ومنها تحصيل العلم: فقد كان أسلافنا ومن نقتدي بهم من الأنبياء والصالحين، يرتحلون في طلب العلم، ويقطعون المسافات الطويلة أحياناً لأجل سماع حديث واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4- تحصيل الآداب: وذلك لما يُرى من الأدباء ولقاء العلماء والعقلاء الذين لا يردون بلده، فيكتسب من أخلاقهم ويقتدي بهم، فيحصل له من الأدب الشيء الكثير وتسمو طباعه.
5- صحبة الأمجاد: ويشهد لها الحس والواقع، فكم سافر إنسان فلاقى كرام الرجال وأطايبهم، فخالطهم وعاش معهم فاكتسب من آدابهم وأخلاقهم.
6 - استجابة الدعوة: لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده" .
7- زيارة الأحباب من أقارب وأرحام وأصحاب، وهذا من أفضل القربات إلى الله سبحانه وتعالى.
8- رفع الإنسان نفسه من الذل، إذا كان بين قوم لئام: لأنه قد يكون مثلاً: صاحب دين وهم أهل فسق، أو غير ذلك فتسقط منزلته بينهم، وقد يستخفون به، فإذا فارقهم إلى بلد آخر صار في عزٍّ وارتفعت منزلته.
وللضرر والعيوب نصيب
وإذا كانت هذه هي مزايا السفر وفوائده بشكل عام فإن فيه أيضًا عيوبًا وأضرارًا يجملها الدكتور كمال القريشي فيما يلي:
1- الحرمان من لذة الطعام والشراب والنوم، والحرمان من الأهل والأحباب والانقطاع عنهم مما يهيج الشوق والحنين إليهم، فلا يقر للمسافر قرار، ولا يجد في قلبه الراحة، بل يشعر بوحشة الغربة، وحرقة الفراق.
2- أنه يظهر مساوئ الأخلاق: وقد قالوا: لا تعرف صاحبك حتى تعصيه، أو تسافر معه .
3- اختلاط الأمور على المسافر، فقد يظن العدو صديقاً، والصديق عدواً، ونحو ذلك .
4- كثرة النفقات والتكاليف: التي تشق على المرء وترهقه مادياً، كالإنفاق على وسائل المواصلات، أو على الأكل والشرب، أو على السكنى في الفنادق ونحوها.
5- الذل في الغربة: إذ العادة أن المسافر ذليل في دار غربته، لا يعرفه أحد، ولا يعرفون منزلته في أهله وبين قومه، وقد يخفى عليهم كونه من أهل العلم والفضل، أو من أهل الرأي والعقل، أو صاحب منزلة علمية معينة فيستخفون به، ولا تكون له عندهم قيمة.
6- كثرة المخاطر التي يتعرض لها المسافر: سواء من جهة اللصوص، أم الحوادث التي قد يتعرض لها في طريقه، أو الهوام الضارة في أثناء رحلته، وغيرها من الأخطار والصعاب التي تواجه المسافر.
وكما نرى فإن هذه الفوائد والمضار إنما هي في السفر بشكل عام وليس من اللازم أن تتوفر في جميع الأسفار، فقد تحتوي بعض الأسفار على نسبة كبيرة من الفوائد، وقد يكون العكس هو الصحيح فما هو موقف السياحة إلى البلاد الكافرة من هذا الأمر وما هو الحكم الشرعي لهذه السياحة.
عندما تتحول السياحة إلى شر ووبال(/1)
لنتدبر ونفكر بعقل في أمر السياحة إلى تلك البلاد الكافرة، وننظر في حال الشباب الذين ذهبوا إليها، ماذا استفادوا وكم خسروا، وقبل الحكم على الشيء لا بد من معرفة مميزاته وعيوبه وإيجابياته وسلبياته، وإذا كان السفر إلى البلاد الكافرة فيه بعض الفوائد من اطلاع على حضارة معينة وتقدم مادي، فإن هذه الفائدة والتي لا تكاد توجد غيرها، فيه من المضار الشيء الكثير.
وبنظرة سريعة نجد أن غالب أولئك الشباب الذين ذهبوا للسياحة في تلك البلدان قد حصل لهم ما يلي:
- تأثر عقيدتهم التي هي أعظم ما يمتلكه الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وهي سبيل نجاته يوم القيامة، فإن الكفار لا يتركونهم دون أن يوقعوا في نفوسهم كثيرا من الشبهات التي تزعزع إيمانهم وتهز يقينهم بربهم، وهذا أمر مشاهد وملموس.
- ضياع كثير من القيم والأخلاق الفاضلة، فإن من ينظر إلى الفتيان والفتيات في المنتزهات والحدائق والشوارع قد تعروا من ملابسهم، وتبذلوا في كلماتهم، وتركوا الحياء جانباً والعفة خلفهم، لا شك أن ذلك له الأثر السيئ على الشاب، وهو من أسباب موت الغيرة في القلب شيئا فشيئا، فإن النفس إذا تعودت على شيء ألفته ولم تستنكره.
ويعترف كثير من الشباب أنه بسفره إلى تلك البلدان فقد لذة العبادة والطاعة والقرب من الله جل وعلا، خاصة مع فقدان شعائر الدين ا لظاهرة، والتي هو عون للمسلم وسكن لنفسه وراحة لقلبه. كما أنه من الملاحظ أن رهطاً كبيرا من الشباب قد انزلق إلى المحرمات والمنهيات، بل وفي كثير من الأحيان كان هذا السفر سببا في الوقوع في الكبائر والفواحش، وكم من شاب كان محافظا على شعائر دينه فذهب إلى هناك فترك الفرائض وضيع الواجبات وانتهك الحرمات والله المستعان.
هدر للوقت !
لو جلست مع هؤلاء العائدين من بعض تلك البلاد لوجدت غالب حديثهم ينم عن إعجاب بما عند الكفار من التقدم الحضاري، وإن كان على حساب الأخلاق والدين والعرض، فالكثير من هؤلاء الشباب قد عاد منبهرا بما عند هؤلاء من حضارة زائفة زائلة، ويظن أن ذلك كان بسبب تركهم للدين وانطلاقهم كالأنعام ترعى بلا قيود ولا ضوابط.
1- اسأل هؤلاء الشباب ما هي الفائدة الحقيقة التي جنوها من جراء هذا السفر وهذه السياحة، فلن تجد إجابة شافية غير أنه كان إضاعة للوقت الثمين وذهابا للعمر في غير فائدة، خاصة وأن كثيرا من هؤلاء الشباب لا يجعلون سفرهم للعبرة والموعظة والتذكير وإنما يجعلونه لتسريح الأفكار وتقليب الأنظار والانطلاق في الشهوات.
2- لو تفكرت في تلك الأموال التي تنفق هنا وهناك، وتضيع فيما يعود على الكفار بالقوة الاقتصادية والمالية، ويعود على المنفق بالضرر في الدين والدنيا، لعلمت أن هذا السفر قد احتوى الشر والهلاك، فهذا قد استدان ليسافر، وذاك قد أنفق ما جمع طيلة العام، وهكذا دواليك حتى يعود كثير من الشباب مفلسًا لا مال له ولا متاع، ولو كان هذا المال قد أنفقه في تجارة أو في مشروع أو جهز به نفسه أو حتى تبرع به لكان له من وراء ذلك خير كثير .
3- فقدان الأمن والأمان على النفس والمال والعرض فكيف يمكن للمرء أن يأمن في بلاد أقل ما فيها السرقة، وليس للدم عندهم قيمة، فأي لذة في سفر تعتريه المخاطر والحتوف ؟!
السياحة من منظور شرعي
هذه جملة من تلك المفاسد التي تراها في أولئك الشباب العائدين من هذه البلاد الغربية، ولك أن تتساءل الآن ما هو الحكم الشرعي في ذلك، وهل الشريعة الإسلامية تعرضت لهذا الأمر ؟
يؤكد فضيلة الشيخ إبراهيم بن صالح الخضيري (القاضي بالمحكمة الكبرى بالرياض) أن إهدار المال في السياحة والتفاهات كفر بنعمة الله، فإن هذا المال من نعم الله العظيمة ا لتي يبتلي الله بها عباده لينظر أيشركون أم يكفرون وقد قال سبحانه : "وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " ، والشكر يكون بالمحافظة على هذا المال وإنفاقه فيما يعود بالنفع على النفس والآخرين.
ويحذر الشيخ الخضيري الشاب الذي يضيع أمواله في هذه البلاد من عقوبة الله جلا وعلا القائل في كتابه العزيز: "ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعُم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " ويضيف : إن السفر إلى بلاد الكفر محرم في الشريعة الإسلامية إلا لضرورة علاج أو مصلحة للإسلام والمسلمين فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين " رواه أبو داود وغيره .
القرآن والسنة يحذران من البقاء في بلاد الكفار(/2)
أما الدكتور عبد المحسن العسكر (عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فيقول : إن في قصة جرير بن عبد الله البجلي عبرة وعظة، لا بد للمسلم أن يتفكر فيها، فقد ثبت أنه قال : يا رسول الله بايعني واشترِط، فقال صلى الله عليه وسلم : " تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وأن تفارق المشركين" فانظر أيها المسافر كيف ألحق النبي صلى الله عليه وسلم مفارقة المشركين بأركان الإسلام ودعائمه العظام .
ويقول : إن الله جل وعلا ذكر في كتابه التحذير من الإقامة في بلاد الكفر والبقاء فيها فقال: " إن الذي توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جنهم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا "
فهؤلاء مسلمون في مكة بل هم من الصحابة أمرهم الله بالخروج من بلادهم لأنها بلاد كفر وكفار إذ ذاك، فلم يستجيبوا خوفا على أولادهم وأموالهم فحكم الله عليهم بهذا الحكم الشديد " فأولئك مأواهم جهنم " نعم هم في بلادهم ومسقط رؤوسهم وبلاد آبائهم من قبل. فكيف بمن يذهب إليهم وينفق أمواله عليهم فينفع شبابهم ورجالهم ويقوي اقتصادهم ويربح تجارتهم ؟! كل ذلك على حساب نفسه وأهله وإسلامه الذي هو في أمس الحاجة إلى هذا المال.
والجدير بالذكر أن اللجنة الدائمة للإفتاء التابعة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية قد أصدرت فتوى بشأن السفر إلى بلاد الكفر بناء على سؤال وارد إليها عن حكم السفر للسياحة في البلاد الكافرة مع عدم الاختلاط بهم وقد انتهت اللجنة بعد البحث إلى ما يلي:
لا يجوز السفر لبلاد أهل الشرك إلا لمسوغ شرعي وليس قصد الفسحة مسوغاً للسفر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"رواه أبو داود.
ولذلك ننصحك بعدم الذهاب لتلك البلاد ونحوها للغرض المذكور لما في ذلك من التعرض للفتن والإقامة بين أظهر الكفار ، وجاء في هذا المعنى أحاديث أخرى.
وأعضاء اللجنة هم فضيلة الشيخ عبدالله بن قعود وفضيلة الشيخ عبد الله بن غيدان وفضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي ورئيس اللجنة سماحة الشيخ عبد لعزيز بن عبد لله بن باز (رحمه الله) (راجع فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء 2/68/فتوى رقم 4873 من المجلد الثاني )
السفر لقصد شرعي وهدف سام
وكل ما سبق إنما يتضمن السفر للسياحة والنزهة والتفرج، أما إذا كان هناك مسوغ شرعي للسفر، كما لو كان للتجارة مثلا، أو كان للتعلم والفائدة بحيث لا توجد هذه العلوم عند المسلمين، أو كان المقصود العلاج الطبي ونحو ذلك، فإن الشريعة الإسلامية قد أباحته، ولكن بضوابط ويمكن من تتبع كلام العلماء أن نجمل تلك الضوابط والشروط فيما يلي:
1- أن يكون لدى الإنسان علم يدفع به الشبهات، لأن الكفار هناك يوردون شبهات على الناس، تكاد تعصف بهم حتى يصرفوهم عن دينهم.
2- أن يكون عند الإنسان دين يمنعه من الوقوع في الشهوات المحرمة، خاصة وأنهم لا يبالون هناك بما يفعلون، وكل شيء عندهم مباح في الجملة .
3- أن يكون الإنسان محتاجا إلى السفر إلى تلك البلاد، إما لعلاج أو لعلم ليس في بلاده اختصاص فيه، أو للدعوة إلى الله أو لغير ذلك من الأمور التي يحتاج إلى السفر إلى بلاد الكفر من أجلها.
4- القدرة على إظهار الدين وعدم موالاة المشركين. فقد أجمع المسلمون على أن من لم يستطع إظهار دينه هناك حرم عليه السفر(/3)
الشباب المسلم والشباب غير المسلم
يُوْصَفُ الشباب المسلم في الأغلب بأنّه متطرف إرهابي ، مِعْجَالٌ مُتَهَوِّرٌ يتّسم بالامتعاض والتَّقَزُّز من كل شيء حوله، يبدو نَاقِمًا من المجتمع البشريّ ، مُحَاوِلاً الانقضاضَ على من بيده الحلّ والعقد باعتباره إيّاه عدوًّا لدودًا يعترض الطريقَ ويحول دون الوصول إلى المنزل ويمنع من كل ما يهواه مما يتعلّق بالدين والدنيا .
وسائلُ الإعلام التي تَتَحَكَّمُ فيها العصابةُ الصهيونيةُ والمجموعةُ المُتَصَهْيِنَةُ من الْمُتَسَمِّيْنَ بـ "المسيحيين" تلوك ذلك كل وقت ، بكل لغة ، وبأساليب متنوعة ، حتى عاد المجتمعُ الدُّوَلِي والشارع العالميّ يعتقد أن الملوك – على صيغة اسم الفاعل من "اللوك" – من قبل وسائل الإعلام حقيقة ثابتة لاتقبل نقاشًا.
على حين إنّ غيره من الشباب المُنْتَمِيْ إلى شتى الديانات الباطلة في العالم يَتَّسِم بأكثر من هذه الصفات السلبية المتماثلة ؛ ولكنه لايُصَنَّفُ متطرفًا إرهابيًّا ، مِعْجَالاً مُتَهَوِّرًا ، ناقمًا محاربًا لما ولمن حوله . لاشكّ أنّ ذلك التصنيف للشباب المسلم نابع من الظلم والإحجاف بل العصبية المنتنة والحقد الأسود والكراهية المتناهية التي يحملها المجتمع غير المسلم – ولاسيّما المجتمع الغربي الصهيوني المسيحي المتصهين – ضدّ الإسلام وأبنائه .
الشباب غير المسلم هدم المسجد البابري بالهند ، وفَجَّرَ آلافًا من الاضطرابات الطائفية في طول البلاد وعرضها ، وحصد من خلالها أرواح المسلمين ، ونهب ممتلكاتهم ، واغتصب نساءهم ، وضرب شبابهم ضربًا مبرحًا تركه عالة على المجتمع ، وحَوَّلَهم مواطنين من الدرجة الثانية ، وصَيَّرهم ضائعين هائمين ، فقراء يتكففون الناس ؛ ولكنه – الشباب غير المسلم – لم يُوْصَفْ ولامرة واحدة بأنّه متهور ارتجاليّ ناقم من المجتمع ، يمارس الإرهاب ، ويصدر عن التطرف ، ويعتمد الامتعاض والتقزز والاستياء دائمًا من الذين لايَنْتَمُوْنَ إليه ديانةً . بل تكتفي وسائل الإعلام بقولها : إنّه يميني صادر عن إملاءات الحقد والعصبية العمياء ، يرتكب الظلم ولايعمل بالتحمل والتعقّل وإنما يعمل بما لايجيزه الجوار والمواطنة والتعامل الإنساني والروح الوطنية والقوانين الدوليّة . وتعتمد في النطق بهذه الكلمات أيضًا اللينَ والتجمّلَ ، وتتجنّب الخشونةَ والجفاءَ .
إن الشباب المسيحي فعل الأفاعيل اللاإنسانية مع المسلمين في البوسنه والهرسك ؛ وإن الشباب الصهيوني مارس ولا زال يمارس الأفاعيل الوحشية مع الفلسطينيين ؛ ولكنهما لم يُذْكَرا ولا يُذْكَرَانِ بأيّ شيء من السلبيّة ، ولم تتعرض لهما وسائل الإعلام بتشهير أو انتقاد ؛ لأنهما أبناء الله وأحباؤه ! ولأنهما يبقيان بريئين بعد كل ذنب مهما كان شنيعًا ؛ لأنهما من جنس الملائكة !.
إنّ أسلوب وسائل الإعلام ، إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على عدائها السافر للإسلام ، مهما غلّفت تعاملَها بالموضوعيّة والمهنيّة والجديّة ، وزعمت أنها لا تراعي إلاّ حرمةَ المهنة ولاتصدر إلاّ عن المصداقية ؛ لأن المهنة الإعلامية أنبل مهنة يزاولها الإنسان ، والموضوعيّةُ هي شرطُها الأساسيّ ، والمصداقية هي قوامها الأصليّ !.
هل الشباب المسلم أكثر امتعاضًا ونقمة ، وتهوّرًا وارتجالاً ، وتطرفًا وإرهابًا ، ومبادرة إلى اللجوء إلى استخدام القوة ضد معارضه، من الشباب الصهيوني ، والشباب الصليبي ، والشباب الوثني ، والشباب العلماني ، والشباب الغربي ، الذي أفسد نفسه وغيره ، ودَمَّرَ أخلاقَه وأخلاقَ غيره ، وجَرَّدَ نفسه وغيره من كل قيمة من القيم الإنسانية ، وجعل إلهَه هواه من المادة والمعدة ، ووسائل الحياة ، والعري والعار ، والفجور والسفور ، والخُمَار والقِمَار ، والجنس والشهوة ، والمجون والإباحيّة ، والزواج المثلي ، والشذوذ الجنسيّ ، وجَعَلَ الدنيا جحيمًا عليه وعلى غيره لاتُطَاق .
إنّ هذا الكيل بمكيالين هو الذي حَوَّلَ الشبابَ المسلمَ ممتعضًا كارهًا ناقمًا مستاءً من المجتمع حولَه الّذي لايُنْصِفُه ، ويراه بعين عشواء أو عوراء ، ولا يراه بعين مبصرة عيناء . إنّ غيره صالح طيب لاعيب فيه ، مهما أسكر وعربد ، وفسد وأفسد ؛ وإنّه هو فاسد طالح مثال للعيوب وصورة للنقائص ، مهما عَفّ ونزه ، وبقي حبيسَ المطالبة بحقوقه المشروعة .
متى تُغيِّر وسائل الإعلام العالمية مسارها وتُبَدِّلَ إطارَها القديم : من العداء التقليدي للإسلام والمسلمين ، حتى يتشفّى الشباب المسلم من كل نوع من الامتعاض والكراهية ؟!. [التحرير]
(تحريرًا في الساعة 9/ من صباح يوم الخميس : 25/5/1427هـ = 22/6/2006م)(/1)
الشباب بين الاتباع والابتداع
أولا: أهمية الشباب:
1- أهمية مرحلة الشباب في التكوين الفكري وسلامة المنهج.
2- أهمية العناية بالشباب والحرص على توجيههم وتعليمهم وسبب ذلك.
ثانيا: تعريف السنة والبدعة:
1- تعريف السنة لغة.
2- تعريف السنة شرعا.
3- تعريف أهل السنة.
4- تعريف البدعة لغة.
5- تعريف البدعة شرعًا.
ثالثا: الأمر بلزوم السنة والحث عليها والنهي عن البدع والتحذير منها:
1- النصوص من كتاب الله سبحانه وتعالى.
2- النصوص من السنة النبوية.
3- النصوص المنقولة عن السلف الصالح وأتباعهم.
رابعا: من أسباب الوقوع في الابتداع:
1- الخلل في منهج التلقي:
أ- قلّة العلم بالشرع المُنزّل، والاعتماد على غيره.
ب- ترك تلقي العلم الشرعي عن العلماء وترك مجالستهم.
ج- التلقي عن أهل البدع ومخالطتهم والجلوس معهم.
2- الخلل في منهج الاستدلال:
أ- عدم التسليم للنصوص الشرعية وعدم الانقياد لها.
ب- الاستدلال ببعض النصوص دون النظر في غيرها.
ج- الاحتجاج على صحّة ومشروعية البدعة بالعادة والعُرف.
د- الاحتجاج على صحّة ومشروعية البدعة بعمل بعض ذوي العلم والفضل بها.
هـ- الاحتجاج باختلاف العلماء.
و- الاحتجاج بحصول منفعة هذه البدعة بالتجربة.
3- الجهل بكلام العرب وأساليبهم في الخطاب.
4- اتباع الهوى.
5- الغلو والتعصب.
خامسا: أخطار البدع على دين المرء:
1- اتخاذ الشركاء مع الله عز وجل.
2- مخالفة وتكذيب لصريح القرآن.
3- مخالفة وتكذيب لصريح السنة الصحيحة.
4- اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالخيانة.
5- عمل المبتدع مردود.
6- الهلاك والوعيد للمبتدع.
7- المبتدع يحمل أوزار من تبعه.
8- المبتدع يحجب عن الحوض.
أولاً: أهمية الشباب:
1- أهمية مرحلة الشباب في التكوين الفكري وسلامة المنهج:
قال أيوب السختياني: "إن من سعادة الحَدَث والأعجميّ أن يوفقهما الله لعالمٍ مِنْ أهل السنة".
وقال عبد الله بن شوذب: "إن من نعمة الله على الشابّ إذا تنسّك أن يواخي صاحب سنة يحمله عليها".
وقال عمرو بن قيس الملائي: "إذا رأيت الشاب أوّل ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارْجُه، وإذا رأيته مع أهل البدع فايْأس منه؛ فإنّ الشاب على أوّل نشوئه".
وقال أيضًا: "إن الشاب لينشأ فإن آثر أن يجالس أهل العلم كاد أن يَسْلَم، وإن مال إلى غيرهم كاد يَعْطَب".
2- أهمية العناية بالشباب والحرص على توجيههم وتعليمهم وسبب ذلك:
قال مالك بن دينار: "إنما الخير في الشباب".
وقال الحسن البصري: "قدّموا إلينا أحداثكم؛ فإنهم أفرغ قلوبًا، وأحفظ لما سمعوا، فمن أراد الله أن يُتِمّه له أتمّه".
وقال يوسف بن الماجشون: قال لي ابن شهاب الزهري ولابن عمٍّ لي ولآخر معنا: "لا تستحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أعياه الأمر المُعْضل دعا الأحداث فاستشارهم؛ لحِدَّة عقولهم".
وقال أبو بكر بن عياش: كنا عند الأعمش ونحن حوله نكتب الحديث فمرّ به رجلٌ فقال: يا أبا محمد، ما هؤلاء الصبيان حولك؟ فقال: "هؤلاء الذين يحفظون عليك دينك".
وقال هشام بن عروة: كان أبي يقول: "أي بني، كنا صغار قومٍ فأصبحنا كبارهم، وإنكم اليوم صغار قوم ويوشك أن تكونوا كبارهم، فما خير في كبيرٍ ولا علم له؟! فعليكم بالسنة".
وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي: "ما رأيت شابًا قط لا يطلب العلم ولا سيما إذا كانت له حِدّة إلا رحمتُه".
شرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي (1/66).
الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بطة (1/205–206)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي (1/67).
الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بطة (1/205–206)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي (1/67).
الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بطة (1/205 – 206)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي (1/67).
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (1/484، 487).
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (1/484، 487).
المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (2/157) وحلية الأولياء لأبي نعيم (3/364).
المحدّث الفاصل للرامهرمزي (ص 193-194).
المحدّث الفاصل للرامهرمزي (ص 193-194).
جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/370).
ثانياً: تعريف السنة والبدعة:
1- تعريف السنة لغة:
السنة الطريقة والسيرة.
قال الأزهري: "السنة الطريقة المحمودة المستقيمة".
2- تعريف السنة شرعا:
قال الشاطبي: "ويطلق ـ أي: لفظ السنة ـ في مقابلة البدعة؛ فيقال: فلان على سنة إذا عمل على وفق ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم، كان ذلك مما نص عليه في الكتاب أو لا، ويقال: فلان على بدعة إذا عمل على خلاف ذلك".(/1)
قال ابن رجب: "السنة هي الطريق المسلوك؛ فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة، ولهذا كان السلف قديمًا لا يطلقون السنة إلاّ على ما يشمل ذلك كله، وروي ذلك عن الحسن والأوزاعي والفضيل بن عياض".
قال محمد رشيد رضا: "المراد بالسُنة هنا معناها اللغوي، وهي الطريقة المخصوصة للسلوك المتبعة بالفعل في أمر الدين ـ فعلاً وتركًا ـ من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالتعريف فيها للعهد، وليس المراد بها ما اصطلح عليه علماء الحديث من إطلاقها على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وشمائله، ولا ما اصطلح عليه الفقهاء من إطلاقها على ما واظب عليه صلى الله عليه وسلم على غير سبيل الوجوب؛ فإن جميع فرق المبتدعة في الإسلام يأخذون بالسنة بمعنييها الأخيرين على اصطلاحات لهم وقواعد في إثباتها ونفيها وتأويلها وتعارضها..." .
3- تعريف أهل السنة:
قال ابن حزم: "وأهل السنة الذين نذكرهم أهل الحق، ومن عداهم فأهل البدعة؛ فإنهم الصحابة رضي الله عنهم، وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين، ثم أصحاب الحديث ومن اتبعهم من الفقهاء جيلاً فجيلاً إلى يومنا هذا، ومن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها رحمة الله عليهم".
قال ابن الجوزي: "ولا ريب في أن أهل النقل والأثر المتبعين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه هم أهل السنة؛ لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تعريفه لأهل السنة: "هم المتمسكون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان".
وقال: "فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة".
قال عبد الرحمن بن ناصر السعدي: "فأهل السنة المحضة السالمون من البدع الذين تمسكوا بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الأصول كلها، أصول التوحيد والرسالة والقدر ومسائل الإيمان وغيرها، وغيرهم من خوارج ومعتزلة وجهمية وقدرية ورافضة ومرجئة ومن تفرع عنهم كلهم من أهل البدع الاعتقادية".
4- تعريف البدعة لغة:
قال ابن فارس: "الباء والدال والعين أصلان لشيئين:
أحدهما: ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال سابق مثال، والله بديع السموات والأرض.
الثاني: الانقطاع والكلال كقولهم: أبدعت الراحلة إذا كلت وعطبت".
وفي اللسان:"بدع الشيء يبدعه بَدْعًا وابتدعه: أنشأه وبدأه، وبدع الركيّة: استنبطها وأحدثها.
والبدعة: الحدث، وما ابتدع من الدين بعد الإكمال.
ابن السكيت: البدعة كلّ محدثة".
5- تعريف البدعة شرعًا:
قال الشاطبي: "طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصَد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه".
قال ابن رجب: "والمراد بالبدعة ما أحدِث مما لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة شرعًا وإن كان بدعة لغة".
قال السيوطي: "البدعة عبارة عن فعلةٍ تصادم الشريعة بالمخالفة أو توجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان".
قال ابن تيمية: "البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله، وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك، وسواء كان هذا مفعولاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن".
النهاية لابن الأثير (2/409).
تهذيب اللغة (12/301).
الموافقات (4/4).
جامع العلوم والحكم (ص 262).
انظر: مقدمة صيانة الإنسان للسهسواني (ص 7).
الفصل لابن حزم (2/271).
تلبيس إبليس (ص 21)، وعنه مقرّاً له السيوطي في الأمر بالاتباع (ص 88).
مجموع الفتاوى (3/375).
مجموع الفتاوى (3/346).
الفتاوى السعدية (ص 63).
مقاييس اللغة (1/209).
لسان العرب (9/ 351).
الاعتصام (1/37).
جامع العلوم والحكم (ص 265).
الأمر بالاتباع (ص 88).
مجموع الفتاوى (4/ 107-108).
ثالثاً: الأمر بلزوم السنة والحث عليها والنهي عن البدع والتحذير منها:
1- النصوص من كتاب الله سبحانه وتعالى:
1- قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3].
قال ابن عباس: (أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدًا، وقد رضيه فلا يسخطه أبدًا)[1].
2- وقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].(/2)
3- وقال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء: 115].
4- وقال تعالى: {وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
5- وقال تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3].
6- وقال تعالى: {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأمّىَّ} [الأعراف: 156، 157].
7- وقال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20].
8- وقال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
9- وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} [طه: 123].
10- وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
11- وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50].
12- وقال تعالى: {وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} [الزمر: 55].
13- وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الههُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].
14- وقال تعالى: {وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} [الحشر: 7].
2- النصوص من السنة النبوية:
1- عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله))[2].
2- عن أبي شريح الخزاعي قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أبشروا وأبشروا، أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟!)) قالوا: نعم، قال: ((فإن هذا القرآن سببٌ طرفُه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسّكوا به، فإنّكم لن تضلّوا ولن تهلكوا بعده أبدًا))[3].
3- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا خطب: ((أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة))[4].
4- عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودّع فماذا تعهد إلينا؟ قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدًا حبشيًا، فإنه مَنْ يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))[5].
5- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطاً ثم قال: ((هذا سبيل الله))، ثم خطّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله ثم قال: ((هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه))، ثم تلا: {وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153][6].
6- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ لكل عمل شِرة، ولكل شِرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنّتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك))[7].
7- عن أنس رضي الله عنه في قصة الثلاثة الذين جاؤوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم: أصلي الليل أبداً، وقال الآخر: أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا اعتزل النساء فلا أتزوج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: ((أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني))[8].(/3)
3- النصوص المنقولة عن السلف الصالح وأتباعهم:
1- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إياكم وأصحاب الرأي، فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا)[9].
2- وقال أيضاً: (سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله)[10].
3- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إنها ستكون أمور مشتبهات، فعليكم بالتؤدة، فإن الرجل يكون تابعاً في الخير، خير من أن يكون رأساً في الضلالة)[11].
4- وقال ابن مسعود أيضاً: (إنكم أصبحتم على الفطرة، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول)[12].
5- وقال أيضاً: (إياكم وما يحدث الناس من البدع، فإن الدين لا يذهب من القلوب بمرّة، ولكن الشيطان يحدث له بدعاً، حتى يخرج الإيمان من قلبه، ويوشك أن يدع الناس ما ألزمهم الله من فرضه في الصلاة والصيام والحلال والحرام، ويتكلمون في ربهم عز وجل، فمن أدرك ذلك الزمان فليهرب)، قيل: يا أبا عبد الرحمن، فإلى أين؟ قال: (إلى لا أين)، قال: (يهرب بقلبه ودينه، لا يجالس أحداً من أهل البدع)[13].
6- وعنه أيضاً قال: (اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، وكل بدعة ضلالة)[14].
7- وعن عنه أيضاً قال: (كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير، إذا ترك منها شيء قيل: تركت السنة)، قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: (ذلك إذا ذهب علماؤكم، وكثرت جهالكم، وكثرت قراؤكم، وقلّت فقهاؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقّه لغير الدين)[15].
8- وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هوانا على هواكم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن الله لم يجعل في هذه الأهواء شيئاً من الخير، وإنما سمي هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار)[16].
9- وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر، ثم قال لأصحابه: (هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟) قالوا: يا أبا عبد الله، ما نرى بينهما من النور إلا قليلاً، قال: (والذي نفسي بيده، لتظهرن البدع حتى لا يُرى من الحق إلا قدر ما ترون ما بين هذين الحجرين من النور. والله، لتفشونّ البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا: تركت السنة)[17].
10- ودخل ابن مسعود على حذيفة فقال: اعهد إليّ، فقال له: ألم يأتك اليقين؟! قال: بلى وعزّة ربي، قال: (فاعلم أنّ الضلالة حقَّ الضلالة أن تعرف ما كنت تُنكر، وأن تنكر ما كنت تعرفُ، وإياك والتلوُّن، فإن دين الله واحد)[18].
11- وعن سعيد بن المسيب قال: "إذا تكلم الناس في ربهم وفي الملائكة ظهر لهم الشيطان، فقدّمهم إلى عبادة الأوثان"[19].
12- وقال أبو العالية: "وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء"[20].
13- وقال شريح القاضي: "إن السنة قد سبقت قياسكم، فاتبع ولا تبتدع، فإنك لن تضل ما أخذت بالأثر"[21].
14- وعن إبراهيم النخعي قال: "كانوا يكرهون التلون في الدين"[22].
15- وعنه أيضاً: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء} [المائدة:41]، قال: "الخصومات والجدال في الدين"[23].
16- وقال عمر بن عبد العزيز: "السنة إنما سنّها من علم ما جاء في خلافها من الزلل، ولهم كانوا على المنازعة والجدل أقدر منكم"[24].
17- وقال أيضاً: "من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقّل"[25].
18- وعنه أيضاً قال: "إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة"[26].
19- وسأل رجل عمر بن عبد العزيز عن شيء من الأهواء، فقال: "الزم دين الصبي في الكُتَّاب والأعرابي، وَالْه عما سوى ذلك"[27].
20- وقال الشعبي: "إنما الرأي بمنزلة الميتة، إذا احتجت إليها أكلتها"[28].
21- وقال الزهري: "من الله الرسالة، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التسليم"[29].
22- وقال سفيان الثوري: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتاب منها"[30].
23- وسُئل سفيان الثوري عن الكلام فقال: "دع الباطل، أين أنت عن الحق، اتبع السنة، ودع البدعة". وقال: "وجدت الأمر الاتباع"، وقال: "عليكم بما عليه الجمّالون والنساء في البيوت والصبيان في الكُتَّاب من الإقرار والعمل"[31].
24- وقال الأوزاعي: "بلغني أن الله إذا أراد بقومٍ شراً ألزمهم الجدل ومنعهم العمل"[32].
25- وعن الفضيل بن عياض قال: "أدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة، وينهون عن أصحاب البدع"[33].
26- وقال أيضاً: "لا تجالسوا أهل الخصومات؛ فإنهم يخوضون في آيات الله"[34].
27- وعن العوام بن حوشب قال: "إياكم والخصومات في الدين؛ فإنها تحبط الأعمال"[35].(/4)
28- وكان مالك بن أنس يقول: "الكلام في الدين أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه، نحو الكلام في رأي جهم والقدر، وكل ما أشبه ذلك، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في دين الله عز وجل فالسكوت أحبّ إلي؛ لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل"[36].
29- وقال مالك أيضاً: "لو كان الكلام علماً لتكلم فيه الصحابة والتابعون، كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدلّ على باطل"[37].
30- وقال أيضاً: "إياكم والبدع"، قيل: يا أبا عبد الله، وما البدع؟ قال: "أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان"[38].
31- وجاء رجل إلى مالك فسأله عن مسألة، فقال له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا وكذا، فقال الرجل: أرأيت؟ قال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور:63][39].
32- وقال الشافعي: "لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء"[40].
33- وقال أيضاً: "لأن يُبتلى المرء بما نهى الله عنه خلا الشرك بالله خير له من أن يبتليه بالكلام"[41].
34- وقال أيضاً: "ما ارتدى أحدٌ بالكلام فأفلح"[42].
35- وقال أحمد بن حنبل: "إنه لا يفلح صاحب كلام أبداً، ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلاَّ وفي قلبه دَغَل"[43].
36- وقال البغوي: "واتفق علماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدال والخصومات في الصفات، وعلى الزجر عن الخوض في علم الكلام وتعلمه"[44].
37- وقال ابن عبد البر: "أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم"[45].
38- وقال أيضاً: "ونهى السلف رحمهم الله عن الجدال في الله جل ثناؤه في صفاته وأسمائه، وأما الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر؛ لأنه علم يحتاج فيه إلى رد الفروع على الأصول للحاجة إلى ذلك، وليست الاعتقادات كذلك؛ لأن الله عز وجل لا يوصف عند أهل السنة والجماعة إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أجمعت الأمة عليه، وليس كمثله شيء، فيدرك بقياس أو بإمعان نظر، وقد نهينا عن التفكر في الله، وأمرنا بالتفكر في خلقه الدال عليه، وللكلام في ذلك موضع غير هذا، والدين قد وصل العذراء في خدرها والحمد لله"[46].
39- وقال الشاطبي في بيان ذم البدع وأنه عام لا يخص بدعة دون غيرها: "فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أن ما تقدم من الأدلة حجة في عموم الذم من أوجه:
أحدها: أنها جاءت مطلقة عامة على كثرتها لم يقع فيها استثناء ألبتة، ولم يأت فيها ما يقتضي أن منها ما هو هدى، ولا جاء فيها: (كل بدعة ضلالة إلا كذا وكذا) ولا شيء من هذه المعاني، فدل على أن تلك الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية.
الثاني: أنه قد ثبت في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضع كثيرة، وأتي بها شواهد على معان أُصولية أو فروعية، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص، مع تكررها وإعادة تقريرها، فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم.
وقد جاء في الأحاديث المتعددة أن كل بدعة ضلالة، وأن كل محدثة بدعة. وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على أن البدع مذمومة، ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية فيها، فدل ذلك دلالة واضحة على أنها على عمومها وإطلاقها.
الثالث: إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذمها كذلك، وتقبيحها والهروب عنها وعمّن اتسم بشيء منها، ولم يقع منهم في ذلك توقف ولا مثنوية، فهو بحسب الاستقراء إجماع ثابت، فدل على أن كل بدعة ليست بحق، بل هي من الباطل.
الرابع: أن متعقد البدعة يقتضي ذلك بنفسه؛ لأنه من باب مضادة الشارع واطّراح الشرع، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أنه ينقسم إلى حسن وقبيح وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم، إذ لا يصح في معقول استحسان مشاقة الشارع.
وأيضاً لو فرض أنه جاء في النقل استحسان بعض البدع أو استثناء بعضها عن الذم لم يتصور، لأن البدعة طريقة تضاهي المشروعة من غير أن تكون كذلك، وكون الشارع يستحسنها دليل على مشروعيتها، إذ لو قال الشارع: (المحدثة الفلانية حسنة) لصارت مشروعة"[47].
00000000000000
[1] جامع البيان (4/419).
[2] صحيح مسلم: كتاب الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218)، ورواه أبو داود (1905)، وابن ماجه (3074).
[3] رواه ابن حبان في صحيحه (122)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/169): "رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح"، وقد صححه الألباني في صحيح الترغيب (1/93).(/5)
[4] صحيح مسلم: كتاب الجمعة، باب: تخفيف الصلاة (867).
[5] رواه أحمد (4/126)، وأبو داود (5/13)، والترمذي وقال: "حسن صحيح"، وابن ماجه (1/15)، والدارمي (1/57)، والحاكم (1/95) وقال: "صحيح ليس له علة"، وقال الألباني: "سنده صحيح"، ونقل تصحيحه عن الضياء المقدسي في مشكاة المصابيح (165).
[6] رواه الإمام أحمد في المسند (1/435)، والدارمي في السنن (202)، والمروزي في السنة (ص5)، والحاكم في المستدرك (2/318) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، ورواه ابن أبي عاصم في السنة (17)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (127)، واللالكائي في شرح السنة (94)، وقد حسّنه الألباني. انظر: حاشية المشكاة (1/59)، وظلال الجنة مع كتاب السنة (17).
[7] أخرجه أحمد (2/188، 210، 158، 165)، وابن أبي عاصم في السنة (51)، وابن حبان (11)، قال الألباني: "صحيح على شرط الشيخين". انظر: ظلال الجنة مع كتاب السنة (ص28)، وصحيح الترغيب والترهيب (1/98).
[8] رواه البخاري في كتاب النكاح، باب: الترغيب في النكاح (5063)، ومسلم في كتاب النكاح، باب: استحباب النكاح (1401).
[9] سنن الدارقطني: الوصايا (4/146)، وجامع بيان العلم (2/123)، وشرح اعتقاد أهل السنة (1/123).
[10] سنن الدرامي (1/49)، وجامع بيان العلم (2/123)، وشرح اعتقاد أهل السنة (1/123)، والإبانة لابن بطة (1/250) وقال المحقق: "إسناده صحيح".
[11] الإبانة (1/329)، والبدع لابن وضاح (80).
[12] الإبانة (1/329).
[13] شرح اعتقاد أهل السنة (1/121).
[14] الإبانة (1/327، 328).
[15] البدع لابن وضاح (34، 89)، وسنن الدارمي (191، 192)، وشرح اعتقاد أهل السنة (1/91، 92).
[16] البدع لابن وضاح (123).
[17] البدع والنهي عنها (58).
[18] شرح السنة للبغوي (1/216).
[19] الإبانة (1/121، 122).
[20] الإبانة (1/199).
[21] شرح السنة (1/216).
[22] جامع بيان العلم وفضله (2/93).
[23] الشرح والإبانة (141)، وجامع بيان العلم وفضله (2/93)، وتفسير ابن كثير (2/68).
[24] الشرح والإبانة (123).
[25] جامع بيان العلم (2/93)، وشرح السنة للبغوي (1/217).
[26] شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/135)، وجامع بيان العلم وفضله (2/93).
[27] جامع بيان العلم (2/93)، وشرح السنة للبغوي (1/217).
[28] شرح السنة للبغوي (1/216).
[29] شرح السنة (1/217).
[30] شرح السنة للبغوي (1/216).
[31] شرح السنة (1/217).
[32] شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/145)، وجامع بيان العلم وفضله (2/93).
[33] شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/138).
[34] سنن الدارمي (406)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/129)، ولفظه: "لا تجادلوا...".
[35] جامع بيان العلم وفضله (2/93)، وأخرجه اللالكائي (1/29) عن معاوية بن قرة، ومثله الآجري في الشريعة (56).
[36] جامع بيان العلم وفضله (2/95)، وانظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/148، 149).
[37] شرح السنة (1/217).
[38] شرح السنة (1/217).
[39] شرح السنة (1/216).
[40] شرح السنة (1/217).
[41] جامع بيان العلم (2/95)، وشرح السنة (1/217).
[42] شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/146)، وشرح السنة (1/217).
[43] جامع بيان العلم وفضله (2/95).
[44] شرح السنة (1/216).
[45] جامع بيان العلم وفضله (2/95).
[46] جامع بيان العلم وفضله 2/92.
[47] الاعتصام (1/141-142) باختصار.
رابعاً: من أسباب الوقوع في الابتداع:
1- الخلل في منهج التلقي:
أ- قلّة العلم بالشرع المُنزّل، والاعتماد على غيره:
ومن صوره:
• الجهل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وترك التفقه فيه:
"ثم إن من عجيب الأمر أن هؤلاء المتكلمين المدعين لحقائق الأمور العلمية والدينية المخالفين للسنة والجماعة يحتج كل منهم بما يقع له من حديث موضوع، أو مجمل لا يفهم معناه، وكلّما وجد أثراً فيه إجمال نزّله على رأيه"[1].
"وهؤلاء المبتدعون يجهلون حقائق ما جاء به الرسول ويعرضون عنه، ثم يحكمون بموجب جهلهم أن ليس في ذلك من البراهين من جنس ما في كلامهم، ولو أوتوا العقل والفهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لتبيّنوا أنه الجامع لكل خير"[2].
• الاعتماد على الحكايات والرؤى والمنامات:
"وأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المنامات، وأقبلوا وأعرضوا بسببها، فيقولون: رأينا الرجل الصالح فقال لنا: اتركوا كذا، واعملوا كذا، ويتفق مثل هذا كثيراً للمترسمين برسم التصوف، وربما قال بعضهم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي كذا وأمرني بكذا، فيعمل بها ويترك بها، معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة"[3].
• الجهل بآثار السلف وأقوالهم:(/6)
"عامة هؤلاء المختلفين في الكتاب لم يعرفوا القول السديد قول السلف، بل ولا سمعوه ولا وجدوه في كتاب من الكتب التي يتداولونها، لأنهم لا يتداولون الآثار السلفية... ولهذا إنما يذكر أحدهم أقوالاً مبتدعة إما قولين وإما ثلاثة وإما أربعة وإما خمسة، والقول الذي كان عليه السلف ودلّ عليه الكتاب والسنة لا يذكره، لأنه لا يعرفه"[4].
• الاعتماد في تفسير القرآن على العقل واللغة دون الحديث وآثار السلف:
"ولهذا تجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسّرون القرآن برأيهم ومعقولهم وما تأوّلوه من اللغة. ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فلا يعتمدون لا على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم، وإنما يعتمدون على العقل واللغة، وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف، وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعتها رؤوسهم"[5].
• الأخذ بالأحاديث والآثار المنقولة الواهية والمكذوبة:
"وأما أهل الأهواء ونحوهم فيعتمدون على نقلٍ لا يعرف له قائل أصلاً، لا ثقة ولا معتمداً، وأهون شيء عندهم الكذب المختلق، وأعلم من فيهم لا يرجع فيما نقله على عمدة، بل إلى سماعات عن الجاهلين والكذابين، وروايات عن أهل الإفك المبين"[6].
ب- ترك تلقي العلم الشرعي عن العلماء وترك مجالستهم:
قال أبو معاذ البلخي خلف بن سليمان: "كان جهم على معبر ترمذ، وكان رجلاً كوفيّ الأصل فصيح اللسان، لم يكن له علم ولا مجالسة لأهل العلم، كان تكلم كلام المتكلمين وكلّمه السُّمنيّة"[7].
ج- التلقي عن أهل البدع ومخالطتهم والجلوس معهم:
يقول الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
"وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمّح بمجالسة المبتدعة الذين يحرّفون كلام الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة... ومن عرف هذه الشريعة المطهّرة حقّ معرفتها علم أن مجالسة أهل البدع المضلّة فيها من المفسدة أضعاف أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرمات، ولا سيما لمن كان غير راسخ القدم في علم الكتاب والسنة، فإنه ربما ينفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان بأوضح مكان، فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه، فيعمل بذلك مدة عمره، ويلقى الله به معتقداً أنه من الحق، وهو ـ والله ـ من أبطل الباطل وأنكر المنكر"[8].
وقال أبو قلابة الجرميّ التابعي: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لُبّس عليهم"[9].
وقال الشيخ موفق الدين ابن قدامة: "كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع والنظر في كتبهم والاستماع لكلامهم"[10].
وقال أبو الوفاء بن عقيل: "وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمني علماً نافعاً"، فعلّق الذهبي قائلاً: "قلت: كانوا ينهونه عن مجالسة المعتزلة، ويأبى حتى وقع في حبائلهم، وتجاسر على تأويل النصوص، نسأل الله السلامة"[11].
وعن أبي أميّة اللخمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أشراط الساعة ثلاثاً، واحدتهن أن يلتمس العلم عند الأصاغر))[12].
قال ابن المبارك: "الأصاغر أهل البدع"[13].
2- الخلل في منهج الاستدلال:
أ- عدم التسليم للنصوص الشرعية وعدم الانقياد لها:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها، وتفلّتت منهم أن يحفظوها، فقالوا في الدين برأيهم).
قال أبو بكر بن أبي داود: "أهل الرأي هم أهل البدع"[14].
ومن صور عدم التسليم:
• ردّ الأحاديث التي لا توافق بدعهم وأهواءهم:
• بالقدح في رواتها الثقات العدول.
• أو بنفي حجية خبر الآحاد.
• أو بتحريف الأدلة عن مواضعها وصرفها عن ظواهرها بتأويلات فاسدة[15].
• اتباع المتشابه من الأدلة وترك المحكم [16] .
• معارضة النصوص الشرعية بالأهواء (الكشف، الذوق، الرأي، المنامات، المصلحة...)[17].
ب- الاستدلال ببعض النصوص دون النظر في غيرها:
قال وكيع بن الجرّاح: "أهل السنة يروون ما لهم وما عليهم، وأهل البدعة لا يروون إلا ما لهم"[18].
ج- الاحتجاج على صحّة ومشروعية البدعة بالعادة والعُرف:
" فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادات أكثر من اعتادها عامة أو مَنْ قيّدته العامة أو قوم مترئّسون بالجهالة... والاحتجاج بمثل هذه الحجج والجواب عنها معلوم أنه ليس من طريقة أهل العلم، ولكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس حتى من المنتسبين إلى العلم والدين"[19].(/7)
د- الاحتجاج على صحّة ومشروعية البدعة بعمل بعض ذوي العلم والفضل بها:
"ومِنْ هنا يغلظ كثير من الناس، فإنهم يبلغهم أن بعض الأعيان من الصالحين عبدوا عبادة أو دعوا دعاء ووجدوا أثر تلك العبادة وذلك الدعاء، فيجعلون ذلك دليلاً على استحسان تلك العبادة والدعاء، ويجعلون ذلك العمل سنة كأنه قد فعله نبيّ، وهذا غلط"[20].
هـ- الاحتجاج باختلاف العلماء[21].
و- الاحتجاج بحصول منفعة هذه البدعة بالتجربة[22].
3- الجهل بكلام العرب وأساليبهم في الخطاب:
قال الإمام الشافعي: "وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره لأنه لا يعلم مِنْ إيضاح جمل علم الكتاب أحدٌ جَهِل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرّقها. ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها"[23].
قال الشاطبي: "ومنها تخرّصهم على الكلام في القرآن والسنة العربيين مع العُرُوّ عن علم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله، فيفتاتون على الشريعة بما فهموا ويدينون به ويخالفون الراسخين في العلم، وإنما دخلوا في ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسهم واعتقادهم أنه من أهل الاجتهاد والاستنباط، وليسوا كذلك"[24].
4- اتباع الهوى:
قال وكيع بن الجراح: "من طلب الحديث كما جاء فهو صاحب سنة، ومن طلب الحديث ليقوّي هواه فهو صاحب بدعة"[25].
قال البخاري: "يعني أن الإنسان ينبغي أن يلغي رأيه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث ثبت الحديث، ولا يعلل بعلل لا تصح ليقوّي هواه"[26].
"وأصل الضلال اتباع الظن والهوى، كما قال الله تعالى في حق من ذمهم: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23]"[27].
"وكان السلف يسمّون أهل الآراء المخالفة للسنة وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في مسائل العلم الخبرية وأهل مسائل الأحكام العملية، يسمونهم أهل الشبهات والأهواء؛ لأن الرأي المخالف للسنة جهلٌ لا علم، وهوى لا دين، فصاحبه ممن اتبع هواه بغير هدى من الله"[28].
"الشرع قد دلّ على أن الهوى هو المتبع الأول في البدع، وهو المقصود السابق في حقهم، ولذلك تجدهم يتأوّلون كل دليل خالف هواهم، ويتبعون كل شبهة وافقت أغراضهم".
"والأدلة على هذا كثيرة تشير أو تصرّح بأن كل مبتدع إنما يتبع هواه، وإذا اتبع هواه كان مذموماً وآثماً، والأدلة عليه أيضاً كثيرة:
كقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ} [القصص:50].
وقوله: {وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26].
وقوله: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28]"[29].
5- الغلو والتعصب:
قال الشاطبي: "والثالث من أسباب الخلاف: التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق، وهو اتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ وأشباه ذلك، وهو التقليد المذموم، فإن الله ذم ذلك في كتابه، كقوله: {بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف:23]".
"وهذا الوجه هو الذي مال بأكثر المتأخرين من عوام المبتدعة إذا اتفق أن ينضاف إلى شيخ جاهل أو لم يبلغ مبلغ العلماء، فيراه يعمل عملاً فيظنه عبادة فيقتدي به كائناً ما كان ذلك العمل، موافقاً للشرع أو مخالفاً، ويحتج به على من يرشده، فيقول: كان الشيخ فلان من الأولياء، وكان يفعله وهو أولى أن يقتدى به من علماء أهل الظاهر، فهو في الحقيقة راجع إلى تقليد من حسُن ظنه فيه أخطأ أو أصاب، كالذين قلّدوا آباءهم سواء"[30].
"ومن سالكي طريق الإرادة والعبادة والفقر والتصوّف من يجعل شيخه كذلك، بل قد يجعله كالمعصوم، ولا يتلقى سلوكه إلا عنه، ولا يتلقى عن الرسول سلوكه"[31].
[1] مجموع الفتاوى (4/82-83).
[2] درء التعارض (7/381-382).
[3] الاعتصام للشاطبي (1/331)، وانظر: مجموع الفتاوى (19/5).
[4] مجموع الفتاوى (12/309).
[5] مجموع الفتاوى (7/119).
[6] مجموع الفتاوى (27/479). وانظر: الاعتصام للشاطبي (1/287-293).
[7] شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (2/423).
[8] فتح القدير للشوكاني (2/128).
[9] أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (1/137)، والدارمي في السنن (1/90)، والآجري في الشريعة (1/435-436) وغيرهم بإسناد صحيح.
[10] الآداب الشرعية لابن مفلح (1/251).
[11] سير أعلام النبلاء (19/447).
[12] أخرجه ابن المبارك في الزهد (61)، والطبراني في الكبير (22/361-362) وغيرهما، وحسّنه الحافظ عبد الغني المقدسي كما في السلسلة الصحيحة (695).
[13] ذم الكلام وأهله للهروي (5/76).
[14] جامع بيان العلم وفضله (2/1042)، وأثر عمر هذا مروي من وجوهٍ كثيرة يثبت بها.(/8)
[15] انظر: الاعتصام (1/294-301)، ومجموع الفتاوى (17/415).
[16] انظر الإبانة لابن بطة (2/501-الإيمان)، وإعلام الموقعين (2/293-306).
[17] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/687)، ودرء التعارض (5/245)، والنبوات (1/420-421).
[18] رواه الدارقطني في السنن (1/26)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2/18-19).
[19] اقتضاء الصراط المستقيم (2/587-588، 585 –586)، وانظر: الحوادث والبدع للطرطوشي (ص69)، والباعث لأبي شامة (ص84).
[20] اقتضاء الصراط المستقيم (2/700-701).
[21] انظر: مجموع الفتاوى (22/366-367).
[22] اقتضاء الصراط المستقيم (2/695-700)، وسنن أبي داود (3883).
[23] الرسالة (ص50 فقرة 169).
[24] الاعتصام (1/301).
[25] رفع اليدين في الصلاة للبخاري (ص105).
[26] رفع اليدين في الصلاة (ص105).
[27] مجموع الفتاوى (3/384).
[28] إغاثة اللهفان (2/170).
[29] الاعتصام (1/190-191).
[30] الاعتصام (2/688-691).
[31] مجموع الفتاوى (19/272-273).
خامساً: أخطار البدع على دين المرء:
1- اتخاذ الشركاء مع الله عز وجل:
قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].
وقال الشافعي: "من استحسن فقد شرّع".
وقال الشافعي أيضًا: "وإنما الاستحسان تلذُّذ، ولا يقول فيه إلا عالم بالأخبار، عاقل بالتشبه عليها، وإذا كان هذا هكذا كان على العالم أن لا يقول إلا من جهة العلم ـ وجهة العلم الخبر اللازم ـ بالقياس بالدلائل على الصواب، حتى يكون صاحب العلم أبدًا متبعًا خبرًا وطالب الخبر بالقياس، كما يكون متبع البيت بالعيان وطالب قصده بالاستدلال بالأعلام مجتهدًا".
وقال أيضًا: "ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله أن يقول إلا من جهة علمٍ مضى قبله، وجهة العلم بعد الكتاب والسنة والإجماع والآثار، وما وصفتُ من القياس عليها".
ويبين هذا الخطر ويوضحه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لآية التوبة: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، فقد دخل عدي بن حاتم رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية، فقال عدي: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرّم الله فتحلونه؟!)) قال: بلى، قال: ((فتلك عبادتهم)).
2- مخالفة وتكذيب لصريح القرآن:
يقول المولى عز وجل: {مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْء} [الأنعام: 38]، ويقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3].
يقول الشوكاني: "فإذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض نبيه صلى الله عليه وسلم، فما هو الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه، إن كان من الدين في اعتقادهم فهو لم يكمُل عندهم إلا برأيهم، وهذا فيه ردٌّ للقرآن، وإن لم يكن من الدين فأي فائدة بالاشتغال بما ليس من الدين؟!".
3- مخالفة وتكذيب لصريح السنة الصحيحة:
قال صلى الله عليه وسلم: ((ما تركت شيئًا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنه لم يكن نبيٌ قبلي إلا كان حقًا عليه أن يدلّ أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم)).
قال أحمد شاكر: "وهذا معلوم من الدين بالضرورة".
4- اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالخيانة:
يؤثر عن الإمام مالك رحمه الله قوله: "من أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} [المائدة: 67].
قالت عائشة رضي الله عنها لمسروق: (ومن حدّثك أن محمدًا كتم شيئًا مما نزل عليه فقد كذب).
5- عمل المبتدع مردود:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، وفي رواية: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
وهذه خسارة ما بعدها خسارة، يقول الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104].
6- الهلاك والوعيد للمبتدع:
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((إني تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك)).(/9)
وقال ابن مسعود رضي الله عنه حين رأى حِلقًا في المسجد، وعلى كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة، ثم يقول: هللوا مائة، وسبحوا مائة، فقال رضي الله عنه: (عدّوا سيئاتكم. ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تُكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة...).
7- المبتدع يحمل أوزار من تبعه:
يقول تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25].
قال مجاهد: "يحملون وزر من أضلوه، ولا ينقص من إثم المضلّ شيء".
قال ابن كثير: "أي: إنما قدرنا عليهم أن يقولوا ذلك فيتحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين يتبعونهم ويوافقونهم، أي: يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم، وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم، كما جاء في الحديث ((من دعا إلى هدى...)). ثم قال: وقال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13].
وهكذا روى العوفي عن ابن عباس قال: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} إنها كقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ}".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيء)).
8- المبتدع يحجب عن الحوض:
عن سهل بن سعد وأبي سعيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني فرطكم على الحوض من مرّ علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول سحقًا لمن غيرّ بعدي)).
جمع هذه الأخطار الشيخ وجدي غزاوي، وألقاها في خطبة جمعة، قبيل المولد لعام 1422هـ.
هذا القول مشهور ومستفيض عن الشافعي رحمه الله بهذا اللفظ، ولم نجده في مصدر ينسبه إلى الشافعي بسند، وجزم الألباني رحمه الله بنسبته إلى الإمام الشافعي. انظر: السلسلة الضعيفة (2/ 19).
الرسالة (ص507-508).
الرسالة (ص508).
أخرجه الطبري في تفسيره (6/114)، والطبراني في المعجم الكبير (17/92)، وأخرجه الترمذي بنحوه في كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة التوبة (3095).
القول المفيد من الرسائل السلفية (ص38).
أخرجه الشافعي في مسنده (1/14)، وفي الأم (7/289، 299)، والبيهقي في سننه (7/76)، وانظر تعليق أحمد شاكر على الرسالة (ص93-103)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/417)
أخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب: وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (1844) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
تعليقه علىالرسالة للشافعي (ص95).
ذكره ابن حزم في الإحكام مسندًا (6/225).
صحيح البخاري: كتاب التفسير، باب: {ياأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} (4612)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب: معنى قول الله عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (177).
أخرجه مسلم: كتاب الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718).
أخرجه البخاري: كتاب الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (2697)، ومسلم: كتاب الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718).
أخرجه بهذا اللفظ أحمد (4/126)، وابن ماجه: المقدمة، باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين (44) وغيرهما، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (937).
الشرة: النشاط والرغبة. لسان العرب (4/401) [شرر].
أخرجه أحمد (2/188)، وابن أبي عاصم في السنة (51)، وحسن إسناده الألباني في التعليق على السنة.
سنن الدارمي: المقدمة، باب: كراهية أخذ الرأي (1/79).
تفسير القرطبي (10/96).
تفسير ابن كثير (4/484).
أخرجه مسلم: كتاب العلم، باب: من سن سنة حسنة أو سيئة (2674).
فرطكم: الفارط والفَرَط ـ بالتحريك ـ: المتقدم إلى الماء، يتقدم الواردة فيهيئ لهم الأرسان والدلاء، ويملأ الحياض ويستقي لهم. لسان العرب (7/366) [فرط].
أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب: في الحوض (6583، 6584).(/10)
الشباب وأمينة
أخي الشاب هل سمعت عن أمينة ودود ؟؟
بالتأكيد سمعت عنها فقد أصبحت أشهر امرأة في العالم الإسلامي كله.
إنها المرأة التي تحدت العالم الإسلامي أجمع وضربت بكلام العلماء عرض الحائط ونفذت ما في رأسها من أفكار شيطانية وقامت بإمامة المسلمين في صلاة الجمعة في الولايات المتحدة الأمريكية.
نحن لن نتكلم عن حكم امامة المرأة في الصلاة وغيرها فهذا شئ لا خلاف عليه بين العلماء والإجماع على عدم جواز ذلك إجماع مستقر منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم ولم يأت من يخالف ذلك من العلماء المعتبرين وحين انتشرت هذه القصة في العالم الإسلامي سادت موجة كبيرة من الإستنكار والسخرية في أوساط الشباب وتعجب الكثيرون من جرأة هذه المرأة ووقاحتها ولكن العجيب أخي أن هذه المرأة عندها اصرار عجيب على باطلها ,فعندما رفضت جميع المساجد في الولايات المتحدة أن تستضيفها في الصلاة قامت باستئجار قاعة في أحد الكنائس لتؤدي فيها الصلاة .
وقد تتساءل أيها الشاب ما علاقتي أنا كشاب مسلم بهذه الواقعة فالدور هنا على العلماء والدعاة لتوضيحها, وأنا أختلف معك تماما في هذا ولكن لا تفهم أني أطلب منك أن تخطب في الناس لتوضح لهم هذا الأمر وأنت لا تستطيع ذلك كلا ولكن قف معي قليلا مع هذه الحادثة.......
بالله عليك ألا نلمح في هذه القصة مشهدا يستحق التأمل
أعني أن تكون همة هذه المرأة على باطلها بهذه القوة وهمتنا في المقابل على التمسك بالحق بهذا الضعف ؟
بل أكثر من ذلك ألا يلفت انتباهنا ما يشغل عقل تلك المرأة وتفكيرها وكيانها وهي تفعل ما تعلم علم اليقين أنه قد يكون سبب هلاكها, إنها فكرة ... باطلة نعم لا أنكر ولكنها فكرة ملأت عليها كيانها فأخرجت هذا المشهد الذي رأيناه.
في المقابل على الجهة الأخرى ألق معي نظرة سريعة !!!
شباب أمة خير الخلق مشغول بالكليبات والأغاني والرنات الجديدة ومباريات الكرة وخلافها وهذه المرأة تسعى بهمة لتنفيذ ما تعتقد من الباطل ولو أدى ذلك الى تأجير قاعة في كنيسة لتؤدي فيها الصلاة وتحقق أهدافها أما بعض الشباب فقد تكون أقصى همة له في الحق أن يتوقف قليلا عن بعض المعاصي ثم لا يستطيع الثبات لفترة طويلة فينتكس ويعود إلى الذنوب مرة أخرى , هل قارنت بين همتك وهمتها ؟
أيها الأخوة دورنا في هذه الحادثة لا ينحصر في الشجب والإستنكار ولكن يمتد إلى إحداث تغيير حقيقي في واقع هذه الأمة بأن تبدأ بنفسك وتعقد النية على التغير وأن تجعل لحياتك معنى تاركا أثرا حقيقيا على هذه الأرض وتحاول تغييرها إلى الأحسن.
ولك أن تسأل ما علاقة إصلاح نفسي بما حدث في أمريكا ؟
والإجابة أخي أن العلاقة قوية , فما حدث في أمريكا هو إفراز طبيعي لحالة الضعف الذي عليه المسلمين في هذه الأيام وهذه الحالة نحن السبب الرئيسي فيها بسبب غفلتنا عن الله عز وجل وعدم سعينا لتغيير ما بأنفسنا فانطبقت علينا سنن الله الكونية المتمثلة في قوله تعالى ' ان الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ' فطالما أننا لم نغير ما بأنفسنا فكيف يغير الله ما يحدث فينا ؟
أخي الحبيب فليكن هذا الحادث بمثابة دفعة للأمام تعيننا على تغيير واقع امتنا للأفضل..
دفعة لتغيير أنفسنا ومجتمعاتنا والعمل على إصلاحها ولا تقلل من أي مجهود تبذله في ذلك فربما يأتيك الشيطان الآن ويوسوس لك ويقول وماذا تفعل وحدك أمام كل هذا الباطل وهل توبتي هي التي ستصلح حال الأمة ؟
نعم أخي الحبيب فكل مجهود تبذله سيؤثر في الواقع ولو بعد حين وإن لم ترى ثمرته في حياتك
وعليك أن تسرع أخي الحبيب قبل أن تفاجأ بأمينة ودود أخرى تخطب فيك الجمعة في المسجد المجاور لك!!!!
وإلى حين اللقاء لكم منا كل التحية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/1)
الشباب والإجازة ..
هل تحولت الإجازة إلى همّ وقلق حتى نُجهد أنفسنا في البحث عن سبل التخلص منها، وتمضية الأوقات ؟ سؤال جدير بالبحث والمناقشة.
شباب يتحدثون عن إجازاتهم
شباب: إننا الآن في إجازة رسمية، انتهت الامتحانات الجامعية، ولم يعد لنا شيء نفعله، إننا كشباب لا نستطيع الجلوس في المنزل، فهو أمر مزعج ، فلا بد من الخروج إلى أي مكان لتمضية الوقت. نحن لا يربطنا وقت ولا زمن، نجلس إلى ما شاء الله، ولا يقطعنا عن الاجتماع إلا مناسبة عائلية مهمة لا بد من حضورها أو شغل طارئ يعرض لأحدنا .. وقال آخر: إننا هنا نمضي أوقاتنا تارة باللعب وأخرى بالكلام ..، المهم تمضية الوقت فقد أصبح الوقت طويلاً جدًا ومملاً!
وفي مكان بعيد عن الطريق في إحدى البراري ، التقى شبان آخرون وقد أوقدوا الفحم واستعدوا للشواء، وحولهم مجموعات أخرى .. التلفاز يعمل وهم في غفلة عنه ، والأصوات تعالت ...
ما الذي تعنيه لكم الإجازة ؟
الإجازة في الحقيقة أول ما تبدأ تجلب لنا السعادة والسرور، إذ ننطلق دون هم نحمله نحقق ما تصبو إليه نفوسنا من اللهو واللعب والاجتماع والأنس، ولكن لا تلبث بعد قليل أن تكون هما ثقيلاً علينا، إذ كيف نمضي هذا الوقت الطويل دون ملل وسآمة وبلا رتابة وتكلف؟!
وكيف يكون الحال في النهار؟ في النوم طبعًا، إلى الظهر أو إلى العصر أحيانًا، إن السمر لا يصلح إلا في الليل. هذا فضلاً عن الشباب الذين يتسكعون في الأسواق ويزدحمون في الشوارع والمطاعم وينفثون دخانهم في المقاهي...
آراء المختصين
يتحدث الدكتور عمر بن سعود العيد (عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) عن قسمين من الشباب : قسم يظن أن الإجازة هي فترة نوم وكسل وسهر وتفريط، بل إن بعض الشباب يعتقد أن الإجازة فرصة للعكوف على المعاصي والظلمات، فلا يجني الإنسان من ورائها إلا سيئات بعضها فوق بعض وظلمات بعضها فوق بعض ونعوذ بالله أن نكون ممن يملأ أيامه وعمره بالذنوب والمعاصي .
وقسم آخر - وهم قليل- يشعرون بأن الإجازة فرصة للاستفادة المعنوية والمادية والروحية، فقد استعدوا لها قبل مجيئها، وأهلوا أنفسهم لها قبل حلولها، وهؤلاء تجدهم في إجازتهم فرحين مستبشرين بما يجدونه من زيادة في المعرفة والعلم، وبما يحققونه من فوائد جمة لا تتاح لهم في غير الإجازات.
الدكتور سعد البريك (عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) يؤكد أن الإجازة قطعة من العمر وليست خارج الزمن، ويحذر من الوقوع تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ".
كيف تخطط للاستفادة من الإجازة
الدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن الدهش (المستشار بوزارة المعارف وعضو هيئة التدريس بكلية المعلمين) يطرح على الشباب السؤال التالي: كيف تقضي الإجازة الصيفية ؟ اعتبر أن هذا السؤال وجهه إليك صديق ، ترى بماذا ستجيب؟ أرجو أن تقترح إجابة قابلة للنشر لا تزيد عن ثلاثة أسطر.
اسأل نفسك بعد ذلك : ما أهم ثلاثة أعمال أو مشروعات قضيت بها الإجازة الماضية ؟
بعد تأملك في الإجابات السابقة انظر هل تزيد درجة الرضا عن نفسك عن خمسين في المائة؟ إذا كانت كذلك فاعمل على زيادتها قد تكون أقل من خمسين في المائة إذا فأنت تتفق معي على أن الأمر بحاجة إلى مراجعة ومحاسبة.
من هنا يبدأ التخطيط
وإذا كنت فعلاً ممن يبحثون عن الجدية في الاستفادة من وقت الإجازة فإني أعرض عليك طريقة تعينك على التخطيط الصحيح:
أمسك قلمًا وورقة مناسبة، وارسم فيها جدولا مكونا من أربعة حقول، الحقل الأعلى وهو الكبير تضع فيه كل ما تتمنى تحقيقه في حياتك، الحقل الثاني سيكون للطرق والوسائل التي تحقق هذه الأمنيات والتي ستقوم أنت بها، وسيكون الحقل الثالث للطرق والوسائل التي يمكن للآخرين أن يستخدموها لحققوا بها تلك الأمنيات، أما الحقل الأخير فسيكون لبعض الملاحظات والأفكار التي تعينك على تحقيق ما ذكرته أعلاه.
ابدأ أولا بالحقل الكبير، وضع فيه ما تتمنى تحقيقه في حياتك ... أعد النظر في هذه الأمنية وتأمل هل تستحق هذه الأمنية أن تصرف لها حياتك، إن كانت الإجابة بلا فأعد صياغة الأمنية، وإن كانت بنعم فاكتب في الحقل الثاني هذه العبارة "أستطيع بإذن الله تحقيق هذه الأمنية بما يأتي" : (وهنا أرجو أن تكتب ما تستطيع من وسائل وطرق)
اكتب أيضًا في الحقل الثالث الطرق والوسائل التي يمكن للآخرين أن يستخدموها لتحقيق مثل هذه الأمنية.
وهنا أسألك هل هناك فرق بين وسائلك ووسائل الآخرين لتحقيق أمنياتهم؟ إذا لم يكن هناك فرق فأنت رجل عادي، وإن كان هناك فرق فأنت أقرب إلى الإبداع إذا كانت وسائلك أفضل، ومع ذلك يمكنك أن تستفيد من وسائل الآخرين وتضيفها إلى وسائلك. أما إذا كانت وسائلك أقل فإن عليك أن تزيد في همتك، وتستفيد من خبرات الآخرين.(/1)
الحقل الأخير في هذا الجدول ستكتب فيه بعض الأفكار والملاحظات وغير ذلك مما هو متعلق بما كتبته بدقة قبل ذلك.
أخيرا أيها الشاب حتى تكون عمليًا فعالاً ومبدعًا وذكيًا نفذ أكبر قدر من البرامج والمشروعات الصغيرة التي ذكرتها خلال الإجازة.
أفكار للاستفادة من الوقت أيام الإجازات
ويقترح الدكتور عمر العيد بعض الأفكار التي يمكن للشباب الاستفادة منها في قضاء الإجازة مستندًا إلى مبدأ مهم هو قضاء الوقت فيما يرضي الله ويبعد عن سخطه وغضبه، فالأوقات إذا لم تملأ بالطاعات فإنها ستملأ بالمعاصي والمنكرات.
من ذلك زيارة العلماء وطلبة العلم، وصلة الأرحام ومواساتهم وإسداء المعروف لهم ،
وتعلم القرآن وتعليمه لقوله صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه ".
في حين يضيف الدكتور الدهش:
- هل خطر في ذهنك أيها الشاب أن تعد لنزهة خلوية ممتعة ونظيفة مع بعض زملائك، ويوضع لها برنامج سابق يشتمل على ما هو نافع ومفيد من موضوعات هادفة وبرامج رياضية نافعة وزيارات للأماكن التي يعود أثرها على المرء.
- لماذا لا تكون الإجازة فرصة للاستفادة من دورات الحاسب الآلي لزيادة معرفتك واطلاعك عليه؟
- ليكن في وقتك نصيب للقراءة والاطلاع على كتب الأدب الهادفة والتاريخ، فإن فيها أثرا في شحذ الهمة ورفعة النفس وقوة العزيمة والتخلق بأخلاق العرب والمسلمين.
- قد تكون الإجازة فرصة لإعداد ملف عن موضوع معين نشرت عنه بعض الصحف والمجلات ومواقع الإنترنت، فاستغلها ولا تتردد ولا تؤجل، ولتكن هذه أول تجربة لك .(/2)
الشباب والإهتمامات
المحتويات
مقدمة
الهم الرياضي
همُّ الشهوة
همٌّ آخر ونموذج آخر
مجالات الهم الصالح
أولا: إصلاح النفس
ثانياً: تحصيل العلم الشرعي
ثالثاً: الدعوة إلى الله
رابعاً: مآسي المسلمين
ضوابط الاهتمامات الجادة
الضابط الأول :التوازن
الضابط الثاني :التكامل
الضابط الثالث :أن تكون الاهتمامات على مستوى الشاب
خصائص الاهتمامات
مقدمة
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ،من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله أما بعد :
فموضوع الاهتمامات موضوع له حساسيته ، وله أهميته ، ومع هذه الأهمية نجد أننا لا نعتني به ، بل ربما يتساءل البعض : وهل يستحق مثل هذا الموضوع أن يفرد في الحديث عنه؟ وهل يستحق مثل هذا الموضوع أن يفرد بهذه العناية؟
فعندما نبدأ بالإنسان في المراحل الأولى مرحلة الطفولة ،تجد أن الطفل يولد ساذجاً، له اهتمامات قريبة و ساذجة ،فهو في مرحلة من المراحل يهتم باللعبة التي يقتنيها ، فهي كل شيء عنده ، وهي المقياس ، ويرضى ويسخط من أجلها ، ودائمًا يتحدث عن هذه اللعبة ، فإذا كان لديه مبلغ من المال فإنه سيشتري هذه اللعبة ، وإذا زار أحد أقاربه فسيقارن بين لعبته ولعبة الابن الآخر ، وهكذا تصبح هذه هي قضية القضايا عند هذا الطفل ، ثم يتقدم به السن وتتقدم اهتماماته قليلاً لكنها تبقى دائماً محصورة في إطار ضيق ، ثم تبقى الفوارق أيضاً عند هؤلاء الأطفال محدودة ، فلو أخذت شريحةً أو عينةً من مجموعة أطفال ونظرت إلى اهتماماتهم لوجدتها متقاربة .
وعندما يتقدم بهم السن فيصل إلى مرحلة التكليف، فستجد مفرق طريق هنا بين الاهتمامات وكيفيَّتها وضبطها ، ولو ألقيت نظرةً -ولنحرص أن تكون عاجلةً-حول اهتمامات الشباب فستجد أن بعض الشباب قد يكون همه الدنيا وتحصيلها ، فتصبح هي كل شيء عنده، وهي التي تستغرق وقته وجهده وتفكيره، حتى قد يصل إلى الحال التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم : "تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش" ، فهذا وصل إلى حال أصبح أسيراً للدنيا وعبداً لها في طوعها ، فالدينار والدرهم والمال والدنيا هي كل شيء عنده ، يرضى من أجلها ويسخط من أجلها و يضحي من أجلها، وهي الهدف الذي لا يساوم عليه ، وقد تكون هذه الصورة الآن قليلة في محيط الشباب لكنك تجدها في طبقات من هم سناً .
الهم الرياضي
و ننتقل إلى اهتمام آخر أكثر انتشاراً وتأثيراً عند الشباب ألا وهو الرياضة أو الكرة ، فهذا الشاب يهتم بالكرة اهتماماً بالغاً من خلال ممارسة ولعب الكرة ، وتأخذ جزءا كبيراً جداً من وقته من خلال ما يسمى بالمصطلح المعاصر (التشجيع ) ولعلنا نسميه الولاء ، فهو في الواقع ولاء لهذا النادي وما يتعلق به ، ولو كان الشاب اقتصر على قضية الممارسة للرياضة مع ما تأخذه من وقت فقد يهون الأمر عندما نقارنه بالصورة الأخرى وهي صورة الانتماء الرياضي ، فيصير هذا الشاب يشجع نادياً من النوادي ، فهو يهتم بأخبار النادي واللاعبين وتاريخهم ، وربما يقتني صور اللاعبين ويتابع مباريات الفريق أولاً بأول ويهتم لها ، ثم تصبح تستولي على مشاعره كثيراً، كذلك يتأثر من خلال التفكير، فيصبح تفكيره مرتبطاً بهذا النادي؛ فاللون الذي يميز النادي يصبح له قيمته عنده فالقلم الذي يقتنيه يعبر عن شعار هذا النادي ومقتنيات سيارته تمثل شعار هذا النادي؛ فصار هذا اللون يحكم اهتماماته لأنه يذكره بهذا النادي الذي أصبح ينتمي إليه .(/1)
ويستهلك هذا الاهتمام جزءاً من وقته وتفكيره؛ فهذا شاب يشجع نادياً من النوادي وسيخوض مباراة لها أهميتها، فهو قبل المباراة سيقرأ الصحف ويقرأ التحليل والتوقعات عن المباراة، وسيأخذ عليه ذلك الهم جزءا كبيرا من وقته ومن قراءته، ولن يكتفي بصحيفة واحدة بل سيقرأ ماتقع عليه يده من الصحف، ثم يتناقش هذا الموضوع باهتمام مع زملائه، و لك أن تتصور النقاش الذي يسود أجواء الرياضيين فهو في الغالب نقاش غير مؤدب وغير لبق، وهو ينم عن مستوى الثقافة التي يتمتع بها أمثال هذه الطبقة، ثم يذهب إلى الملعب وسيذهب في وقت مبكر حتى يحصل على مكان متقدم، ولا تنس ما سيترك من واجبات لأهله ونفسه نتيجة حرصه على الحضور المبكر لهذه المباراة، فإذا لم يتيسر له الحضور انتقل إلى المرتبة الثانية وهي متابعة المباراة من خلال الشاشة، وعندما يقف أمام الشاشة أو الملعب وتبدأ المباراة فسوف يعيش خلال وقت المباراة كله في جو مشحون وقد استجمع كل مشاعره من خلال النظر والتفكير لأجل متابعة هذه المباراة، وهذه المشاعر لا يمكن أن يستجمعها وهو يقرأ القرآن ولا وهو يصلي ولا وهو يسمع الخير، فضلا عن أن يستجمعها وهو يسمع شرح الأستاذ أوفي أي قضية من قضاياه الجادة، ثم يعيش مشاعر وعواطف متناقضة خلال هذه المباراة، فعندما تكون الهجمة على فريقه يعيش شعور خوف ووجل حتى تتبدد على خير فيرتاح ويستقر، وتعود مرة أخرى ضد الفريق الآخر فيعود إلى الشعور المعاكس تماما، فصار يعيش مدة ساعة ونصف بين هذه المشاعر المتناقضة، لمصلحة من يضيع الإنسان هذا الوقت وهذا الجهد و هذه المشاعر والعواطف؟
لقد خلق الله عز وجل هذه المشاعر والعواطف لحكمة بالغة؛ فإهدارها وتضييعها إهدار لثروة هائلة يجب أن نحافظ عليها ويجب أن نستغلها الاستغلال الشرعي لأجل المصلحة التي خلقها الله عز وجل من أجلها، وانظر ما يعقب نتيجة المباراة فهو لابد أن يصير إلى حالتين: إما أن ينتصر فريقه فيعيش في حالة زهو وفرح تسيطر عليه وتؤثر على حياته كلها في اليوم التالي، أو العكس سينهزم وسيعيش أيضا مشاعر أخرى من السخط والحزن والقلق، ولعلكم تسمعون كثيرا عن حالات طلاق وخصام بين الزوجين نتيجة مثل هذا الجنون الكروي، بل قد يصل الأمر لدى بعض الناس إلى حالة إغماء أو وفاة، ومن أطرف ما مر علي مقال أحب أن تشاركوني فيه كتبته إحدى الفتيات فيه رد على فتاة غيور كتبت مقالا في إحدى الصحف عن علاقة الفتاة بالرياضة وأنها لا تهتم إلا بالرياضة فتقول : كنت أتصفح إحدى الصحف المحلية ولفت نظري ما أشارت إليه إحدى القارئات بأن تشجيع الفتاة للكرة ليس من تخصصها ولا يليق بأنوثتها، ورغم أنني أتفق تماما مع ما ذهبت إليه في رأيها – لاحظ اتفق تماما – إلا أنني أود أن أطرح بعض النقاط والتي أتمنى أن تكون موضع اهتمام هذه القارئة وغيرها؛ فالتشجيع ليس مقتصرا على الشباب فقط حتى نقول بأنه ليس من تخصص الفتاة فلا أعرف من أين استقت هذه الفتاة هذا الرأي؟ فهل تحرم المواطنة من تشجيع منتخب بلدها أليست هي مواطنة تنتمي إلى بلدها هناك؟ وفي أكثر الفنادق رجال يعملون في المطبخ فلماذا لا نقول أن الطبخ ليس من اختصاص النساء فقط؟ فتشجيع الفتاة للكرة لا يقلل من شأن أنوثتها طالما التزمت برقتها وهدوئها، وصحيح أنها لا تمارس هذه الرياضة كالشباب ولكن من حقها أن تشجعها، ومن حقها أن تمارسها أيضا , وماهو المانع أن تكون فيه نواد وفيه مباريات رياضية فيما لا يتعارض مع العقيدة الإسلامية ولا يتعارض مع شريعتنا الإسلامية؟ كرة القدم ليست محتكرة على فئة معينة دون الأخرى ومن يتفق على أنها حكرا على الشباب دون أن يدعموا رأيهم بأدلة تثبت ذلك، وأخيرا أقول بأن التشجيع هواية لدى الشباب والشابات بدليل الفنون التشكيلية والرياضات العالمية وغير ذلك الذي أصبحت فيها الفتاة خير نموذج تؤكد نجاحها في كل المجالات" وتضع الصحيفة بعد ذلك صورة فتاة تلبس برقعاً ومعها مجموعة من الكور.
همُّ الشهوة(/2)
ننتقل إلى صورة أخرى من الاهتمامات وهي صورة ذاك الشاب الذي سيطر عليه هم الشهوة؛ فصارت تحكم تفكيره وحياته فهو يفكر دائما في هذه الشهوة وكيف يقضي شهوته ويصرفها، يجلس أمام الأستاذ في الفصل لكنه يعيش في واد آخر فهو معهم ببدنه دون قلبه، ويتطور الأمر لديه فيخرج القلم ويخرج الكراسة أو الكشكول أو الكتاب، فيتحرك قلمه –ربما دون أن يشعر- فيكتب قصائد حب وغرام، ويكتب عبارات ورموزاً تعبر عن هذا الجحيم الذي يعيش فيه، وتعبر عن هذا الاهتمام الذي سيطر عليه، وقد يتجاوز الأمر فيكتب على كتاب من كتب العلوم الشرعية، فالأستاذ يتحدث عن أسماء الله وصفاته وعن اليوم الآخر وعن هذا القرآن الذي أنزله الله هداية للناس، وصاحبنا يعيش في واد آخر ، وربما تطور الأمر فأصبح يصلي فيقرأ [الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين] والله سبحانه وتعالى يخاطب عبده كما تعلمون إذا قال الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال الرحمن الرحيم، قال: أثنى علي عبدي… مجدني عبدي، هذا بيني وبين عبدي، هذا لعبدي ولعبدي ما سأل، وصاحبنا يعيش في واد آخر وله همٌّ آخر؛ فهو يفكر في هذه الشهوة.
بل قد يتطور الأمر إلى أن يصبح عبدا وأسيرا لهذه الشهوة تحكمه وتسيره، فإن من الناس من يضحي بدينه ، بل قد يقول عبارات الكفر عافانا الله وإياكم لأجل هذه الشهوة التي قد أصبح أسيرا لها.
قال ابن القيم رحمه الله:" فأصحاب العشق الشيطاني لهم من تولى الشيطان والإشراك به بقدر ذلك لما فيهم من الإشراك بالله، ولما فاتهم من الإخلاص له، ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد، ولهذا ترى كثيرا منهم عبدا لذلك المعشوق متيما فيه يصرخ في حضوره ومغيبه أنه عبده؛ فهو أعظم ذكرا له من ربه، وحبه في قلبه أعظم من حب الله فيه ، وكفى به شاهدا بذلك على نفسه ، ((بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره )) ، فلو خير بين رضاه ورضا الله لاختار رضا معشوقه على رضا ربه ، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه ، وتمنيه لقربه أعظم تمنيه لقرب ربه، وهربه من سخطه عليه أشد من هربه من سخط ربه، يُسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعة ربه، فإن فضل من وقته فضلة وكان عنده قليل من الإيمان صرف تلك الفضلة في طاعة ربه، وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه صرف زمانه كله فيها وأهمل أمر الله تعالى، يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس، ويجعل لربه من ماله إن جعل له كل رذيلة وخسيس، فلمعشوقه لبه وقلبه وهمه ووقته وخالص ماله، وربه على الفضلة قد اتخذه وراءه ظهريا، وصار لذكره نسيا، إن قام في خدمته في الصلاة فلسانه يناجيه وقلبه يناجي معشوقه، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق، ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه وتكلفه لفعلها، فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحا بها، ناصحا له فيها، خفيفة على قلبه لا يستثقلها ولا يستطيلها، ولا ريب أن هؤلاء من الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ".
ويضرب لنا ابن الجوزي مثلاً عجيبا في اختلاف اهتمامات الناس وأثرها عليهم فيقول : "همة المؤمن متعلقة بالآخرة، فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة، وكل من شغله شيء فهمته شغله، ألا ترى أنه لو دخل أرباب الصنائع إلى دار معمورة لرأيت البزاز ينظر الفرش ويحرز قيمته، والنجار إلى السقف والبناء إلى الحيطان، والحائك إلى نسج الثياب. والمؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإن رأى مؤلما ذكر العقاب، وإن سمع صوتا فظيعا ذكر نفخة الصور، وإن رأى الناس نياما ذكر الموتى في القبور، وإن رأى لذة ذكر الجنة؛ فهمته متعلقة بما ثم وذلك يشغله عن كل ما ثم…..".
همٌّ آخر ونموذج آخر
و الآن إلى غير هؤلاء: شاب يعيش الظروف نفسها فهو يعيش في نفس البيئة التي يعيشها الشاب الأول الذي يهتم بالرياضة أو الشاب الآخر الذي يهتم بشهوته، وربما يعيش في البيت نفسه الذي يعيش فيه فلان، لكن هذا له همٌّ آخر غير همِّ أولئك، ولسان حاله يقول: يا قوم أنتم في واد وأنا في واد آخر، يا قوم لي همٌّ غير الهم الذي يشغلكم فلم تعد الدنيا هماً لي، ولم تعد الرياضة مجالا أفكر فيه فضلا عن أن أصرف فيه وقتي ومشاعري وأحاسيسي، وأما الشهوة فهي أبعد إلي من ذلك كله؛ لأني أعرف أنها تقودني إلى ما حرم الله عز وجل نعم إنني أصرف شهوتي لكن فيما أباح الله سبحانه وتعالى وأؤجر على ذلك وأتعبد الله بذلك.
إنه يهتم بحفظ كتاب الله عز وجل، فإذا رأى شابا تساءل في ذهنه ماذا يقرأ؟ وإلى أين وصل في حفظ القرآن؟ هل فاقه أم لا؟ بينما ذاك الشاب ينظر إلى هذا الشاب نفسه الذي يقرأ القرآن بنظرة أخرى كما ذكر ابن الجوزي.
مجالات الهم الصالح
أولا: إصلاح النفس(/3)
أول قضية وأهم قضية ينبغي أن تشغلك هي إصلاح نفسك، كيف تزيد من إيمانك وطاعتك لله سبحانه وتعالى؟ وكيف تربي في نفسك الخوف من الله عز وجل ومحبته ورجاءه والتوجه إليه والرغبة والرهبة؟ كيف تربي في نفسك الحرص على الصلاة و على تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى وذكره؟ كيف تحجز نفسك عما حرم الله سبحانه وتعالى؟ كيف تتخلص من داء البخل الذي قد يكون حاجزا بينك وبين الإنفاق في سبيل الله؟ وكيف تتخلص من داء الكسل الذي يكون عائقا بينك وبين عبادة الله سبحانه وتعالى وطاعته وطلب العلم والدعوة... إلى غير ذلك من المجالات التي يجب أن تسلكها والتطلعات التي يجب أن تتطلع إليها، فهذا همٌّ مهم وأساس يجب أن يسيطر عليك؛ فتفكر فيه كثيرا وتتساءل عنه كثيرا، وتثيره مع أقرانك وتقرأ وتسمع وتوظِّف طاقات كثيرة تملكها لأجل تحقيق هذا الهم .
ثانياً: تحصيل العلم الشرعي
همٌّ آخر يجب أن يحتل مكانة بين قائمة اهتماماتك وهو تحصيل العلم الشرعي بدءا بحفظ كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولك أن تتصور ماذا سيأخذ عليك من وقتك ومن تفكيرك؛ فأنت تقرأ آيات الله فتفكر فيها، وتسمع حديثا وتفكر وتستنبط فتدرك فائدة مهمة لهذا الموضوع الذي يعنيك، وتدخل المكتبة فهذا كتاب صدر حديثا، وهذا موضوع جديد وهذه مسألة تستحق البحث إلى غير ذلك.
ثالثاً: الدعوة إلى الله
للدعوة مجالات كثيرة: فهي في البيت وفي المدرسة وفي الحي؛ فجدير بك أن تصبح الدعوة هما تفكر فيه، فترى فلانا من الناس فتفكر كيف تدعوه وكيف تنصحه وكيف تؤثر عليه، وتفكر في البرامج الوسائل التي يمكن أن تدعو بها إلى الله سبحانه وتعالى، وتفكر في أخطائك في الدعوة إلى الله عز وجل، وتفكر في تجارب الآخرين وكيف تستثمرها.
فتأخذ منك الدعوة وقتاً في التفكير والتخطيط، ووقتاً في العمل والتنفيذ، ووقتاً في المراجعة والتقويم.
رابعاً: مآسي المسلمين
همُّ مآسي المسلمين ومشاكلهم يجب أن يأخذ مساحة من اهتماماتك؛ فتفكر في أحوال إخوانك المسلمين وتقرأ وتسمع عن أحوالهم، وتثير هذه القضايا مع إخوانك وتتساءل دوما: كيف السبيل إلى نصرتهم ومساعدتهم؟ كيف السبيل إلى إحياء قضيتهم لدى إخواني المسلمين؟
كل هذه الاهتمامات ينبغي أن تأخذ مساحة من تفكيرنا، وهي طرق واتجاهات تؤدي إلى نتيجة واحدة، لكن يجب أن يسير فيها الشاب بخط متوازن كما سيأتي، وقبل قليل ذكرنا كلام ابن القيم رحمه الله وهو يصور لك حال من كان همه العشق والشهوة فتعال ننقل لك أيضا صورة أخرى من حال ذلك الشاب الذي كان همه الدار الآخرة يقول رحمه الله تعالى : "فالقلب الصحيح هو الذي همه كله في الله وحبه كله له وقصده له وبدنه له وأعماله له ونومه له ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابه، الخلوة به آثر عنده من الخلطة إلا حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له، قرة عينه به وطمأنينته وسكونه إليه، فهو كلما وجد من نفسه التفاتا إلى غيره تلا عليها ]يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية[ فهو يردد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من ربه يوم لقائه؛ فينصبغ القلب بين يدي إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية؛ فتصير العبودية صفة له وذوقا لا تكلفا، فيأتي بها توددا وتحببا وتقربا كما يأتي المحب المقيم في محبة محبوبه بخدمته وقضاء أشغاله، فكلما عرض له أمر من ربه أو نهي أحس من قلبه ناطقا ينطق لبيك وسعديك، إني سامع مطيع ممتثل، ولك عليّ المنة في ذلك، والحمد فيه عائد إليك، وإذا أصابه قدر وجد من قلبه ناطقا يقول: أنا عبدك ومسكينك وفقيرك، وأنا عبدك الفقير العاجز الضعيف المسكين، وأنت ربي العزيز الرحيم، لا صبر لي إن لم تصبرني، ولا قوة لي إن لم تحملني وتقوَّني، لا ملجأ لي منك إلا إليك، ولا مستعان لي إلا بك، ولا انصراف لي عن بابك، ولا مذهب لي عنك.."
ولهذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول:"جعلت قرة عيني في الصلاة"؛ لأنه يناجي فيها إلهه سبحانه وتعالى، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه لربه :"اللهم أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك".
إن هذا الذي يشتاق إلى الله سبحانه وتعالى لن يصبح في قلبه شوق إلى غير الله عز وجل؛ فهما متناقضان لا يجتمعان أبدا؛ لأنه يعلم أن هذا يطرد ذاك، وهذايرفض ذاك،وهذا لا يمكن أبدا أن يجتمع مع ذاك.
إذا هذه مجالات يجب أن يهتم بها الإنسان وتسيطر على شعوره وعلى تفكيره، وانظر إلى حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحال اهتماماتهم، فحين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم خبر الدجال وقال فيه :"يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة ويوم كأيامكم "سألوا فقالوا : يا رسول الله، اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ فما فكر الصحابي في طول هذا اليوم مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يحدثه عن الدجال بل صارت الصلاة تسيطر عليه وعلى همه.(/4)
وهاهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما طعن وأفاق قال :" أصلى المسلمون؟" وأتاه شاب فلما انصرف قال له: ارفع إزارك، وهو يعاني من سكرات الموت.
وقبل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول وهو في مرض موته:"أخرجوا الكفار من جزيرة العرب". " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد". "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم" كان له هم يسيطر عليه، وهكذا يجب أن تكون اهتماماتنا بحيث نرقى إلى هذه المراتب العالية والسامية.
ضوابط الاهتمامات الجادة
الضابط الأول :التوازن
بحيث لا يطغى جانب على جانب؛ فالاهتمامات التي ذكرناها كلها تحتاج إليها سواء إصلاح نفسك أو العلم الشرعي أو الدعوة إلى الله عز وجل أو متابعة مآسي المسلمين إلى غير ذلك، فيجب أن تسير كل هذه الأمور في خط متوازن، وهذا مجرد تصوير نظري، وإلا فأنا أعتبر كل هذه هما واحدا ونتيجة واحدة، فإصلاح النفس لا يتم إلا بالعلم الشرعي وبالدعوة إلى الله عز وجل وبالعناية بمصائب المسلمين، وهكذا تجد كل قضية تقول أختي أختي.
الضابط الثاني :التكامل
إنه لايسوغ أن تجد شابا يهتم بأخبار المسلمين وقضاياهم فتشغل عليه وقته كله، ثم ينسى العلم الشرعي وينسى الدعوة إلى الله عز وجل، أو تجد الآخر الذي أصبح يهتم بالتحصيل العلمي ثم ينسى نفسه فلا يربيها ولا يعتني بإصلاحها ولا يهتم بأخبار المسلمين، وعندما تتحدث معه لا يدري الرجل أهو يعيش في عهد الخلافة العثمانية أم في الحرب العالمية أم في الحرب الباردة أم في النظام الدولي الجديد؟ لا نريده أن يدرك هذه المصطلحات لكن على الأقل أن يعرف واقعة ويعرف أحوال المسلمين وما هم فيه، إنه لا يليق به أن يهتم بالعلم الشرعي ويعتني به، ثم لا ترى له أي جهد في دعوة غيره، وكأن واقع المسلمين لا يعنيه بقليل ولا بكثير.
الضابط الثالث :أن تكون الاهتمامات على مستوى الشاب
قد تجد شاباً في المرحلة الثانوية يهتم بمآسي المسلمين اهتماماً بالغاً، ويسأل عن الأخبار ويعتني بها وتسيطر عليه هذه القضية كلها، وينسى القضايا الأخرى التي هي بالنسبة لحاله قد تكون أهم.
فما عسى شابا في المرحلة الثانوية أو المرحلة المتوسطة يعيش في مدينة أو في قرية من القرى أو يعيش في أي مكان على ظهر هذه البسيطة أن يقدم لقضية من قضايا المسلمين كقضية المسلمين في البوسنة أو الصومال؟
وقل مثل ذلك في شخص يهتم اهتماما علميا لكن هذا الاهتمام فوق مستواه، فهو شاب لا يزال في مراحل مبكرة من عمره، فتجده يهتم بمسألة من المسائل الفرعية ويقرأ فيها كل الكتب المطولات والمختصرات، ويجمع أقوال العلماء في هذه المسألة، وهذا الحديث ما العلة فيه؟ وفلان ماذا قال فيه فلان؟ ويغرق في القضية هذه ويتصور أن هذا هو العلم الذي يجب أن يعتني به ويهتم له.
لكن حين تسأله عن مسألة من مسائل العلم الأساسية فقد لايجيدها، إنه قد يستوعب ماقيل في مسألة يستوعب ما قاله أهل العلم في مسألة تقديم اليدين على الركبتين في الصلاة،أو الإشارة بالسبابة، لكنه لا يستطيع أن يفرق بين الركن والشرط والواجب في الصلاة.
إنني لا أزعم أن هذه القضايا لا ينبغي أن نهتم بها ولا نعتني بها، بل هي من صميم من ديننا ولا يجوز إطلاقا أن نصنفها على أنها قضايا ثانوية، لكن الواجب على الشاب أن يهتم بالقضايا الأساسية التي تتناسب مع منزلته العلمية؛ فيهتم بأساسيات العقيدة، ولا ينشغل بالقضايا الجزئية التي قد لا يضره إن جهلها، وكذلك يهتم بأساسيات الفقه، ولا ينشغل بالقضايا الجزئية التي قد لا يضره إن جهلها، و يهتم بالأساسيات في علوم القرآن و تفسيره دون الإغراق في فروع لما يحن له وقتها بعد.
وفي الميدان الدعوي يأتيك شاب في المرحلة هذه ويسألك عن الجماعات الإسلامية ومشكلات العمل الإسلامي، والقضايا التي لا يجيد التعبير عنها فضلا عن أنه يستوعبها، ألا توافقني أن هذا الشاب كان عليه أن يقصر همه الدعوي على مايحسنه، وعلى التأثير في ميدانه ومحيطه؟
إن هذا كله ليس دعوة لتسطيح الاهتمامات، ولا احتقاراً للشباب وهممهم العالية، لكنه دعوة إلى التدرج، وإلى أن يعتني الإنسان بما يطيق وما يتناسب مع قدراته وإمكاناته، ولئن خانني التعبير فإني أثق بفهم إخواني، وتقديرهم لما أقول.
خصائص الاهتمامات
للاهتمامات خصائص عدة منها:
أولا: الاهتمامات تتحكم في وقت الشخص، وتأخذ كبيراً منه، وكثيراً ماتكون معياراً للأولويات.
ثانيا : الاهتمامات تتحكم في حديث الشخص مع الناس؛ فهو دائماً يثير القضية التي تشغله مع الناس في كل موطن، في موقع العمل، وفي موقع الدراسة، وفي أي مكان يلتقي فيه مع غيره.
ثالثا: الاهتمامات يعتبرها كثير من الأشخاص مقياسا للناس؛ فيقيس الناس من خلال هذه الاهتمامات التي أصبحت تسيطر عليه.(/5)
رابعا: الاهتمامات تتحكم في صداقات المرء وعلاقاته، فيأنس لمن يشاركه هذا الهم، والأرواح جنود مجنده ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، ولهذا فسيختار الجلوس مع فلان لأنه يشاركه هذا الهم، وسيرفض فلانا لأن له همٌّ آخر غير هذا الهم الذي يشغله.
خامسا: التزاحم؛ فتتزاحم هذه الاهتمامات لأن الإنسان لديه مساحة معينة وقدر معين لا يتسع إلا لطاقة محدودة، كالكأس الممتلىء، فما يضاف إليه بعد ذلك فإنه لابد أن يكون على حساب غيره، ولذا تجد الجادين لايجدون وقتاً للانشغال بالاهتمامات التافهة. خامسا: التزاحم؛ فتتزاحم هذه الاهتمامات لأن الإنسان لديه مساحة معينة وقدر معين لا يتسع إلا لطاقة محدودة، كالكأس الممتلىء، فما يضاف إليه بعد ذلك فإنه لابد أن يكون على حساب غيره، ولذا تجد الجادين لايجدون وقتاً للانشغال بالاهتمامات التافهة.
إذا فحين تعرف أنها متزاحمة فلابد أن تراجع حساباتك قبل أن تصرف اهتمامك لأي أمر من الأمور، فهو سيشغل مساحة مهمة أنت تحتاج إليها، فما استحق أن يحوز على اهتمامك فأدخله في القائمة ومالا يستحق فأخرجه منها.
وحين تهتم بأمر ما وتريد أن تتخلص منه، فقلص المساحة التي يأخذها من اهتماماتك، ثم أدخل اهتمامات جديدة وجادة، فستأخذ جهدا من وقتك ومن تفكيرك ومن نظرتك للناس إلى غير ذلك .
ونختم حديثنا بما رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له".رواه الترمذي.
وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك".رواه الترمذي.(/6)
الشباب والعادة السرية.. أحكام وضوابط
تعتبر ممارسة العادة السرية "الاستمناء" واحدة من الظواهر السلبية في حياة بعض الشباب المسلم، والتي نحتاج معها لوقفة جادة توضح ما لهذه العادة من آثار ونتائج سلبية يتجاوز ضررها في الغالب الشخص إلى مجتمعه، وتأتي الخطورة الأكبر لهذه العادة لدى من يعتادون عليها ويعتبرونها الخلاص والحل الوحيد لحفظ النفس من الزنا.
ويصنف هؤلاء بأنهم مدمنون وهم مهددون بالكثير من الأعراض الصحية والنفسية إلى جانب الإثم الذي يوقعون فيه أنفسهم، وممارسة هذه العادة لا يغني النفس أبدا عن الزواج والانسياق وراء الشهوات فنجد من يمارسون هذه العادة بكثرة هم أكثر من يشاهدون الصور والمناظر الخليعة، وهم أكثر من ينساقون وراء المحرمات من اغتصاب ولواط، وهذا تدمير الشخص لنفسه وإضرار لمجتمعه.
وهنا يتضح للعاقل أن أهم وأنجع الحلول تفريغ هذه الطاقة في مكانها الصحيح وذلك بالتحصن والزواج الشرعي، ولقد صدق قول الشاعر حينما قال:
صاحب الشهوة عبد فإذا غلب الشهوة صار السيدا
عجز وندم!!
المشاكل الصحية والنفسية والاجتماعية التي أفرزتها ممارسة هذه العادة في مجتمعاتنا كثيرة، ومنها:
1-العجز الجنسي بشكل عام: حيث عرف من الشباب من يخافون من الإقدام على الزواج وأصبحوا يترددون على العيادات التخصصية بحثا عن علاج لمشكلاتهم الجنسية التي تتمثل في سرعة القذف، وضعف الانتصاب، وقلة الرغبة الجنسية، وأصبح البعض نتيجة لذلك يهرعون إلى المقويات الجنسية، ويغفلون آثارها الجانبية بحثا عما أضاعوه!.
2-سقوط المبادئ والقيم: المنساق خلف هذه العادة ضعيف الشخصية تجره شهوة من شهواته إلى الوقوع في الحرام ولو على حساب السمعة والصحة والدين والمبادئ.
3-الإنهاك والضعف العام: ومن ذلك إرهاق الأجهزة العصبية والعضلية، وآلام الركب والمفاصل. وتقول إحدى الدراسات الطبية: "إن مرة قذف واحدة تعادل مجهود من ركض ركضا متواصلا لمسافة عدة كيلومترات"، وللقياس على ذلك يمكن لمن يريد أن يتصور الأمر بواقعية أن يركض كيلو مترا واحدا ركضا متواصلا وليرَ النتيجة.
4-ضعف الذاكرة: حيث إن من يدمن هذه العادة يلاحظ عليه النسيان وعدم سرعة البديهة، ويؤثر ذلك على إنتاجه ومجهوده الفكري.
5-الشعور بالذنب والندم والحسرة: فرغم الشعور اللذيذ الذي ربما ينتاب الشاب حين القيام بهذه الفعلة والوصول إلى النشوة، إلا أنه سرعان ما تنقلب تلك المشاعر إلى إحساس بالذنب والحسرة.
طرق العلاج :
للانتصار على هذه العادة فإن هناك عدة أمور يجب أن يتشبث بها من ابتلي، حتى تكون له حرزا ووقاية بإذن الله، ومن ذلك اللجوء إلى الله عز وجل والتقرب إليه بالواجبات والنوافل فإن من أقدم على الله حفظه وحفظ جوارحه وعصمه من الشيطان ووساوسه. وأهم الأسباب المعينة هو الزواج إن تيسر وهو سيكون بإذن الله عصمة وحافظا للدين والنفس، لذلك ينصح الدين الحنيف الشباب بالإسراع في الزواج.
ومن أنجع العلاجات الابتعاد عن أماكن اللهو والشهوات والاختلاط، وذلك باتقاء أماكن التجمعات المختلطة كالأسواق وغيرها إلا للضرورة القصوى وإن كان ولا بد فليتحرّ الرجال الأوقات التي يقل فيها وجود النساء في هذه التجمعات مثل الصباح أو بداية العصر وكذلك الأمر بالنسبة للنساء، وإذا حدث وتم مصادفة ما يفتن ليس للمرء أن ينظر إلى هذه الفتنة ويحدّق النظر فيها بل يجب غض البصر فورا لكي يبدل الله هذه الفتنة بلذة إيمان يجدها العبد في قلبه.
ومن أهم مسببات هذه العادة وغيرها من الفواحش مشاهدة الفضائيات حيث بات من الأمور القاطعة لدى الصغير والكبير والجاهل والمثقف مدى الإفساد والانحلال والمحرمات التي تبثها هذه القنوات بدء بالانحرافات العقدية ومرورًا بالإغراءات الجنسية والتي هي محور رسالتنا وانتهاء بدعاوى التحرر والإباحية وخرق حواجز الدين والعفة والحياء.
ومن أسباب السلامة أيضا تجنب الأوضاع التي تذكرك بهذه العادة أو الحاجة إليها، فإذا كان الشيطان يسول لك فعلها في أوقات الفراغ فاشغل نفسك بالمفيد والمباح، وإن كانت النزوة تأتيك في ساعات الوحدة فتجنبها وهكذا..، عندئذ إذا كنت ممن يدمنون عليها وتركتها فإنك ستفتخر بكل يوم قاومتها فيه.
وأخيرا سوف تكون أكثر سعادة و اعتزازا حينما تحسب الأسابيع التي مرت عليك ولم تفعلها وحينما يأتيك ذلك الشعور مرة أخرى طالبا إرضاءه يمكنك أن تقول لنفسك: " لقد قاومته كل هذه المدة الطويلة... أياما وأسابيع وإذا ما أخفقت الآن فسيضيع كل شيء".
الاستمناء من وجهة نظر شرعية :(/1)
هي محرمة بلا شك والأدلة على ذلك قوله تعالى: ( والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ) والعادون هم الذين يتعدون حدود الله تعالى، ويدل على تحريمها أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس) رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان ، وهذه العادة القبيحة تورث اكتئابا وضيقا في الصدر وشعورا بالإثم، ويكره فاعلها أشد الكراهية أن يعلم الذين يعرفونه أنه يمارسها، فهي من الإثم ..
ويدل على تحريمها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) ولو كانت هذه العادة القبيحة مباحة لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليها الشباب ، لأنها أيسر عليهم - لو كانت مباحة - من الصوم، ولكن لما كانت إثما ومعصية اختار لهم النبي صلى الله عليه وسلم الصوم، كما قالت عائشة رضي الله عنها ( ما خُير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما) فدل على أن العادة السرية إثم، ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم إرشاد الشباب إليها، ولقد رخص فيها الإمام أحمد رحمه الله فقط لمن خشي على نفسه الزنا أو الفاحشة وما عدا ذلك فيحرم واختار هذا القول شيخ الإسلام رحمه الله .
وأخير أخي الشاب سواء أكنت مدمنا على العادة السرية أم لم تكن، اعلم أن هناك الكثير من الآخرين ممن يكافحون هذا الإدمان بشتى الوسائل. فلا تكن ممن يثيرهم بنشر الصور العارية ولا تثر الآخرين بأن تكون سببا مباشرا أو غير مباشر في إثارة شهواتهم التي قد تنتهي بهم إلى الإدمان لا سمح الله أو تزيد من إدمانهم. تأكد أن هناك أناسًا هم أكثر حساسية منك تجاه الصور وكل ما يثير الغرائز. اتق الله خالق الكون في نفسك والآخرين ولا تكن سببا في تعاستهم.(/2)
الشباب وثقافة الغرب
كان للتطور المادي الذي شهدته البشرية في العقود الأخيرة نتائج سلبية ومؤلمة في حياة كثير من الشعوب، وخاصة في الفترات الأكثر حيوية وتجدداً من ضمن فئات مجتمعات هذه الشعوب ؛ فئة الشباب.
والسبب في ذلك يعود للتركيز المبالغ فيه الذي مارسته العولمة الإعلامية على هذه الفئة، باعتبارها الفئة ذات الاستهلاك الأكبر للمنتجات التي أفرزها هذا التطور المادي، فضلاً عن كونها الفئة الأسهل اختراقاً من قبل آليات تلك العولمة، لرخاوة قيمها ومبادئها ولحاجاتها الجسدية الملحة وطاقاتها المتفجرة.
وبناءاً عليه استطاعت حضارة المادة أن توقع بأعداد كبيرة من هؤلاء الشباب في شَرَك ألوانها الفاقعة وأنماط سلوكياتها وقيمها، التي لا هدف لها سوى تعظيم أرباح شركاتها. وزيادة انتشار منتجها، حتى لو كان وراء ذلك ليس تدمير ثقافة وقيم المجتمعات التي ينتمي إليها هؤلاء الشباب، بل وتهديد حياتهم بالخطر في كثير من الأحيان.
وكان أن انتشرت في أوساط الشباب الكثير من الأمراض الجنسية ، ليس الإيدز نهايةَ مطافها، فضلاً عن انتشار المخدرات والجريمة.
تمثلت الإشكالية الأساسية في هذا السياق، بإصرار الطرف الذي يمتلك ناصية التطور المادي، باشتراطه مسبقاً أن يصار إلى توطين واستبطان قيمه المذكورة بالتزامن مع استهلاك منتجه، مستأنساً في ذلك بحملة إعلامية وثقافية شرسة، كان أهم أهدافها المعلنة، سلخ فئات الشباب هذه من مجتمعاتها وإلحاقها بتطبيع المستهلكين المعولمين.
الإشكالية الثانية تمثلت بأن هذه الحملة استهلاكية الطابع والمضمون قد تم تحميلها بحمولات سياسية ذات أبعاد خطيرة حيث راحت تصنف كل أشكال الممانعة التي تواجهها وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، على أنها شكل من أشكال الإرهاب، وليس أدل على ذلك سوى الحملة الشعواء التي شنتها الدوائر الغربية على مناهج التعليم والتربية في بعض الدول الإسلامية، التي تستخدم في تنشئة الأجيال الصاعدة، وتحصينها ضد الوقوع في ذلك.
والسؤال الآن: كيف هو حال الشباب المسلم في ظل تبعية عالمية ومناخ ثقافي عالمي، طارد للقيم والثقافات التي تتعارض مع توجهاته ونهجه؟
كان لتطور الحضارة المادية في الغرب، والتوجهات الثقافية التي رافقتها، وقع مختلف في العالم الإسلامي؛ حيث نُظر لمفرزات هذه الحضارة، والسلبية منها خاصة، على أنها تمثل تحدياً خالصاً لا بد من صوغ استجابات معينة لمواجهته.
محاولات النخب المرتبطة بالغرب ثقافياً واقتصاديا، تسهيلَ نشر وتوطين قيم تلك الحضارة، جعل التحدي يأخذ بعدًا أكبر ، لكن العمق الحضاري للأمة والتراث الديني والثقافي المتجذر في التاريخ لا يزال يشكل حائلاً دون الاندماج في تلك القيم الوافدة .
إن الناظر إلى العالم الإٍسلامي قبل ثلاثة عقود من الزمان وكيف كانت الدعوات التغريبية تجد صداً حسناً لدى أبناء هذه الأمة، والناظر إلى حال الأمة حاضراً وكيف أصبحت الأمة محصنة في أجزاء كبيرة منها بجهود علمائها ومخلصيها، سيجد هناك فرقًا واضحًا لمصلحة أبناء هذه الأمة، ومستقبل تنشئتها.
وتشكل عودة الحجاب وظاهرة الالتزام الديني دلالة على انتصار هذا التوجه.
"سلمى" فتاة من عائلة متوسطة وفي العشرينيات من عمرها، تعيش ضمن عائلة ذات توجهات علمانية بعض الشيء ، معرفتها بدينها معرفة سطحية لا تتجاوز ما تعلمته على مقاعد الدرس، وبعد زيارة لها إلى شقيقتها التي تعيش في الولايات المتحدة الأمريكية قررت ارتداء الحجاب والتزام الدين بطريقة أذهلت المحيطين بها عن حقيقة هذا التحول.
تقول سلمى: إنها حين شاهدت المرأة في الغرب وأسلوب حياتها، ونظرة المجتمع لها، أدركت الفرق الهائل بينها وبين المرأة المسلمة، فهي في الغرب إما سلعة، وإما حيوان مستهلك، وإما مدمنة على قارعة الأرصفة، في حين أنها في العالم الإسلامي، أم تحت أقدامها الجنة، ومدرسة عظيمة مؤتمنة على مستقبل الأمة.
أكثر من ذلك فإن سلمى ترى في الإسلام حصنًا وحماية لشابة مثلها، فالإٍسلام كفيل "حسب قولها" بتشذيب الطاقة الكامنة بداخلها وتحويلها إلى قدرة خلاقة ومبدعة في خدمة المجتمع وعمل الخير.
قاسم شاب في بداية العقد الرابع من عمره دفعته حياته السابقة إلى الاطلاع على الكثير من التيارات الفكرية المتعددة وتجريب أنماط حياة مختلفة، لا يختلف عن سلمى بصلته بدينه، حيث العلاقة شكلية، وخاصة في مدى تأثير الدين بسلوكه.
المحيطون بقاسم فوجئوا بتوجهاته الجديدة، حيث بدأت تظهر عليه علامات التدين والالتزام ، والسبب - حسب قول قاسم - أن الإسلام هو الملجأ الذي حماه كشاب من انزلاقات كان من شأنها ليس تشويه أخلاقياته وحسب ، وإنما تحطيم حياته المستقبلية " ، ويضيف قاسم "أنه بات مسؤولاً عن أسرة ، وأنه ليس هناك أفضل من الإسلام قيمة ومعتقداً لهذه الأسرة".(/1)
يمثل كل من قاسم وسلمى نماذج لشباب استفادوا من الصحوة الإسلامية، ومن المناخ الإسلامي الذي انتشر مؤخراً ، وكان له نتائج طيبة ، عبرت عنها بعض التقارير مبينة أن الشباب المسلم هو أقل الشباب في العالم إصابة بالأمراض التي ينشرها الشذوذ الجنسي "الإيدز" على سبيل المثال، وهو أقل الشباب إدماناً على المخدرات والمسكرات.(/2)
(9)
الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي
يواجه المسلمون اليوم مرحلة جديدة من مراحل الغزو الثقافي والتحدي:
والمعروف أن المسلمين مروا بمرحلتين هما: مرحلة الغزو العسكري (الاحتلال) ومرحلة المقاومة (الاستقلال)، ويمرون اليوم بمرحلة (التحرر).
أما المرحلة الأولى فهي المرحلة التي فُرضت عليهم فيها السيطرة الغربية بسطوة نفوذ الاحتلال، وفيها سيطر القانون الوضعي ومنهج التعليم الأجنبي ونظام الاقتصاد الغربي الربوي.
أما المرحلة الثانية فهي المرحلة التي جرت فيها محاولة الموائمة بين الفكر الغربي الوافد (وهو الفكر الرأسمالي الليبرالي الديمقراطي الغربي) وبين الفكر الإسلامي.
أما المرحلة الثالثة التي نعيشها اليوم فهي مرحلة الترشيد والأصالة أو محاولة الوصول إلى التحرر الكامل من نفوذ الفكر الأجنبي وشبهاته وتحدياته، وابتعاث الفكر الإسلامي الأصيل باعتباره هو المصدر الحقيقي لنهضة العالم الإسلامي.
وبعد أن تبين بالتجربة الواقعية التاريخية: أن محاولة اقتباس الفكر الغربي (بشطريه) لم يحقق للمسلمين والعرب النتائج التي كانوا يرجونها من إقامة المجتمع القادر على مقاومة الغزو الأجنبي.
لقد انتهت مرحلة الغزو العسكري والسياسي وبدأت مرحلة الغزو الفكري والحضاري.
وانتقل العالم الإسلامي من الخضوع للاستعمار (البريطاني والفرنسي والهولندي) الغربي إلى مواجهة نوع آخر أشد تحدياً وخطراً هو: الغزو الصهيوني الذي اتخذ من فلسطين رأس جسر في قلب الأمة العربية في محاولة لإقامة كيان بديل ووارث للاستعمار. هذا هو التحدي السياسي والاجتماعي والحضاري، وقد حمل معه تحدياً فكرياً وثقافياً يتمثل في عشرات من المذاهب والنظريات والمفاهيم والدعوات التي تطرح أمام الفكر الإسلامي منهجاً مخالفاً بل معارضاً لمنهجه الأصيل.
لقد كان المصلحون المسلمون في المرحلة الماضية يظنون أنه من الجائز الموائمة بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي، وكان رفاعة الطهطاوي ومَن بعده إلى محمد عبده يظنون أن الفكر الغربي له مصادر إسلامية وأنه انتقل إلى أوربا فتشكل كرة أخرى وأن في استطاعة المسلمين استعادته وصياغته من جديد.
غير أن الفكر الغربي الذي كان يعتمد على بعض مصادر لها طابع الدين أو المثالية أو غيرها من المفاهيم، هذا الفكر قد اختفى وحل بديلاً عنه: فكر مادي خالص يستمد مصدره الأول من المناهج القائمة على الإيمان بالمحسوس وحده وإنكار ما سواه. وبذلك باعد الفكر الغربي بينه وبين الفكر الإسلامي القائم أساساً على وحدة المعرفة الجامعة بين العقل والقلب، والروح والمادة، والعلم والدين، والدنيا والآخرة.
ويرجع هذا التحول في الفكر الغربي إلى خضوعه للفكر الصهيوني التلمودي الذي سيطر عليه بعد الثورة الفرنسية ومن قبلها أيضاً، والذي مهد عن طريق الماسونية إلى قيام أيدلوجية تلمودية استطاعت أن تحتوي الفكر الغربي بشقيه وتسيطر عليه.
ومن هنا فقد اتسعت الشقة التي كان يظن بعض مصلحينا أنها يمكن أن تقيم جسراً أو قنطرة بين الفكر الغربي وبين الفكر الإسلامي.
ولقد كشفت التجارب خلال أكثر من مائة عام أو تزيد أن كل معطيات الفكر الغربي لم تحقق للمسلمين شيئاً في مجال القوة أو البناء أو المقاومة وأنها حرمتهم من أهم موارد الحضارة ومصادرها وهي العلوم التكنيكية وأبقتهم خاضعين للغرب في مجال استيراد حاجياتهم وتصدير خاماتهم، دون أن يكونوا قادرين على استيعاب ثرواتهم ونفطهم ومقدرات حياتهم التي تذخر بها منطقة العلم الإسلامي من دون العلم كله.
وفي ظل التحديات التي واجهت المسلمين باحتضان الاستعمار للغزو الصهيوني كمرحلة أشد خطراً من الاحتلال نفسه؛ إذا أنها تمثل عملية استئصال كامل لأصحاب الأرض، وفرض نفوذ اقتصادي وفكري واجتماعي من شأنه أن يؤثر بالغ الأثر في كيان العالم الإسلامي والأمة العربية نفسها، فقد كان لابد للمسلمين والعرب أن يواجهوا الخطر عن طريق التماس منابع فكرهم وثقافتهم وعقيدتهم؛ فهي وحدها الضوء الكاشف والنور المبين الذي يهديهم إلى منطلق المقاومة والمواجهة والنهضة الحقة.
وهكذا تتميز هذه المرحلة الحاضرة بأنها مرحلة الترشيد والأصالة والتماس منابع الفكر الإسلامي الذي يستطيع أن يدفع المسلمين والعرب إلى القدرة الكاملة لمواجهة الخطر والتغلب عليه، ولا ريب أن تاريخ المسلمين حافل بمثل هذا الموقف، وقد كان المسلمون دائماً أقدر على مواجهة جائحات سبقت كالتتار والصليبيين والفرنجة عن طريق التماس منهجهم الصحيح المستمد من القرآن الكريم، والشريعة الإسلامية، والوحدة الجامعة، ذلك المنهج الذي قدمه لهم الإسلام وأقام عليه حضارتهم الباذجة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ومجتمعهم الواسع خلال أربعة عشر قرناً، ولقد كان المسلمون بمنهجهم هذا مقتدرين على المواجهة والنصر، فإذا ما تخلفوا عنه كان عدوهم أقدر على هزيمتهم والإدالة منهم.(/1)
ولا ريب أن أخطر ما يواجه العرب والمسلمين في هذه المرحلة هو: الغزو الثقافي، وحملة التشكيك وأثاره روح القنوط واليأس في القلوب والعقول.
ولن يتسرب اليأس والقنوط في نفوس المسلمين والعرب إلا من مصدر واحد: هو أنهم يصطنعون المنهج الذي فرض عليهم في مقايسات الأمور وتقدير المواقف وإصدار الأحكام: هذا المنهج الذي ركز عليه الغزو الثقافي والتغريب سنوات وسنوات؛ لكي يحله في النفوس وفي المجتمع مكان المنهج الأصيل الذي أقام عليه المسلمون حياتهم كلها، ولعل هذا هو أخطر سلاح تواجه به الأمم، أن يكون عدوها وخصمها قادراً على أن يخرجها من دائرة فكرها، لتحكم في أمورها منهجاً مغايراً لا يتصل بمزاجها النفسي ولا بذاتيتها ولا بتكوينها الاجتماعي الذي انبنى عليه كيانها منذ أربعة عشر قرناً.
ذلك أن الاستعمار والقوى الخارجية الطامعة في مصادر الثروة في عالم الإسلام، كانت تعرف أن هذه الأمة القرآنية لا يمكن أن تؤتى إلا عن طريق تزييف مفاهيمها وتشكيكها في قيمها وإحلال منهج غريب عنها في مقايسات الأمور وتقدير المواقف وإصدار الأحكام، ولقد كان الغرب والاستعمار يعلمان مدى قدرة هذه الأمة استمداداً من قيمها، على مواجهة أعدائها وعلى الصمود في وجه الغزاة، وقد شكل لها فكرها الإسلامي أسلوباً حاسماً في هذا المحال: هو أسلوب الجهاد القادر على رد العدو، والمرابطة الدائمة، والإعداد بالقوة، واليقظة الكاملة، وقد كانت منطقة العالم الإسلامي ولا تزال وستظل مطمعاً للأمم، ولذلك فقد جهزها الفكر الإسلامي بالقدرة الدائمة على الصمود والأهبة: (ود الذين كفروا لو تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة – وخذوا حذركم).
ومن هناك كان الاستعمار والغزو الأجنبي يرى من أجل إدامة سيطرته على هذه المنطقة الاستراتيجية الخطيرة، وذات الكنوز والثروات الضخمة، أن يحول هذه الأمة عن هذه القيم القادرة على المواجهة؛ حتى يخلق منها أمة مستسلمة ترضى بالهوان وتخضع للغاصب، وترى أنها داخلة في نطاق ما يسمونه الثقافة العالمية أو الوحدة العالمية أو الأممية أو غيرها من دعوات تريد أن تصهر المسلمين والعرب في أتونها وتضعهم في مجال احتوائها.
ونقطة الخطر هنا هي استسلام المسلمين والعرب لمنهج غير منهجهم المستمد من فكرهم وتراثهم وعقائدهم، ومنم هنا فإن أزمة المسلمين والعرب اليوم هي أزمة منهج، وأن أخطر التحديات التي تواجههم وفي مقدمتها الاستعمار والصهيونية هي التماس منهجهم الأصيل.
ولا ريب أن للمسلمين منهج ذاتي أصيل قائم بذاته مختلف تمام الاختلاف عن مناهج الشرق والغرب، ذلك هو المنهج الإنساني الطابع الرباني المصدر، الذي يقوم على الفطرة أساساً ويلتقي مع العقل والعلم، وأبرز مفاهيمه التوحيد والإيمان بالغيب والمسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي، والإيمان بالجزاء واليوم الآخر، وهذا المفهوم في مجموعه كل متكامل، فالإسلام يقوم في رسالته على أساس الترابط بين القيم، ولما كانت رسالته موجهة إلى الإنسان الذي استُخلف في الأرض، ولما كان هذا الإنسان جسم ونفس وعقل وقلب ومادة وروح، فإن المنهج هو جامع كذلك لا تنفصل فيه القيم ولا تنفصل عنده العوالم، فهو أيضاً يجمع بين عالم الغيب وعالم الشهادة.
هذا المنهج هو "السر الحقيقي" وراء المعجزة الكبرى التي أقامت الدولة الإسلامية من الصين إلى فرنسا في أقل من سبعين عاماً؛ لأنه التقى بالفطرة والنفس الإنسانية والعقل الإنساني دون تعارض أو اضطراب.
ومن هنا، وعلى قدر خطر هذا المنهج وأثره في بناء الأمة الإسلامية كانت الحملة عليه وكانت المحاولة الضارية لإثارة الشبهات حوله ومحاولة تدميره وتفتيته وإحلال مفهوم آخر بديل له في نفوس المسلمين وعقولهم عن طريق الفلسفات والمناهج والأيدلوجيات الوافدة.
ومن هنا فقد أقامت القوى الاستعمارية مخططاً للغزو الفكري والثقافي وضعاً بهدف السيطرة على النفس الإسلامية والعقل الإسلامي كمقدمة لإخضاع العالم كله اجتماعياً وحضارياً وكأسلوب لاحتواء الأمة وإدخالها في بوتقة النفوذ الأممي بحيث لا تكون من بعد قادرة على الانبعاث من قيمها ومقوماتها الأساسية.
ولقد بدأ هذا المخطط من وقت مبكر عن طريق التبشير والاستشراق ومدارس الإرساليات وبعض الصحف والمناهج التعليمية والثقافية التي فرضها الاستعمار على العالم الإسلامي.
تضاعف الخطر بعد أن برزت الصهيونية كعنصر جديد له محاولاته الخاصة في تزييف التاريخ وتوهين النفس العربية من أجل إحكام السيطرة ومن ثم تضاعف المخطط وتوسعت أهدافه وبدأت محاولاته تلبس أثواباً جديدة وتبرز في قوالب ذات طابع علمي براق وتخفي من وراءها السم الزعاف بعد أن استطاعت مخططات الغزو الصهيونية السيطرة على الفكر الغربي نفسه وانتزاعه من مجال الدين والأخلاق والحملة عليهما على أساس المذهب المادي الوثني.(/2)
ومن هنا فقد برزت دعوات وعلوم جديدة تحمل طابع المنهج العلمي وهب تخفي من وراءها سموم التلمود وأهدافه في تدمير مقومات الأمم وابتلاعها.
من أبرز هذه الدعوات والمخططات والمذاهب:
أولاً: الدعوة إلى هدم الأديان عن طريق علم الأديان المقارن والقول بأن الأمم بدأت وثنية ثم عرفت التوحيد بعد ذلك.
وهو قول معارض للحقيقة التي جاءت بها الكتب المنزلة والتي تثبتها كل الدلائل التاريخية والكشوف الأثرية، والحقيقة أن البشرية بدأت موحدة وأن آدم أبو البشر كان نبياً وكان موحِداً.
ثانياً: الدعوة إلى هدم الأخلاق عن طريق مذاهب الوجودية والفرويدية وهدم الأسرة عن طريق مذاهب دوركابم وليفي بريل.
وتحاول هذه المذاهب أن تشكك في ثبات القيم الأخلاقية وارتباطها بالإنسان والدعوة إلى أخلاق متطورة تختلف باختلاف البيئات والعصور.
ثالثاً: الدعوة إلى التماس مفهوم واحد للتاريخ: هو التفسير المادي الذي طرحة إنجلز وماركس، وهو مفهوم ناقص؛ لأنه يتجاهل عوامل كثيرة أخرى لها أثرها في توجيه التاريخ.
رابعاً: الدعوة إلى إثارة العصبية والعنصرية وإعلاء الأجناس البيضاء وذلك في محاولة لفرض النفوذ الاستعماري الغربي على الأمم الملونة والقول بوصاية –زائفة- للجنس الأبيض على العالم والبشرية.
خامساً: محاولة إخراج اللغة العربية من مفهومها الذي تختلف به عن اللغات بوصفها لغة القرآن، وفرض مناهج في علم اللغات للتحكم فيها وتصويرها بأنها لغة قومية فحسب، أي لغة أمة، وإذا كان هذا كقانون لكل لغات العالم فإنه يعجز في إقرار ذلك بالنسبة إلى اللغة العربية؛ لأنها إلى جانب أنها لغة أمة فهي لغة فكر وثقافة وحضارة ودين وأنها تتصل بسبعمائة مليون من المسلمين (بالإضافة إلى أهلها العرب)، وهدف الحملة على اللغة العربية هو خلق عامية تقضي على لغة القرآن وتمزق الأمة والفكر جميعاً.
سادساً: الدعوة إلى إحياء الحضارات التي سبقت الإسلام، وإعادة عرض الوثنيات والفلسفات والخرافات والأوهام.
وتلك محاولة ماكرة مضللة ولكنها فاسدة؛ فقد استطاع الإسلام في خلال أربعة عشر قرناً أن يقيم منهجاً عقلياً وروحياً وأن ينشئ مزاجاً نفسياً وذوقاً خالصاً مرتبطاً بالتوحيد والقرآن ومتصلاً بأسباب الإيمان بالله له ضوءه الباهر الذي لا تستطيع هذه الظلمات أن تقهره.
سابعاً: الدعوة إلى ما يسمى الأدب العربي المعاصر، والفكر العربي المعاصر والثقافة العربية المعاصرة، على أن تبدأ هذه الدراسات منذ حملة نابليون وربطها بالإرساليات والنفوذ الأجنبي كأنما هي من معطياته، وهي محاولة ماكرة إلى اجتثاث الفكر عن أصوله والفصل بين حاضر العرب والمسلمين وبين ماضيهم وخلق ثقافة "لقيطة" لا جذور لها، بل إن هناك محاولة مضللة تهدف إلى الحيلولة دون ربط الأدب أو الفكر أو الثقافة بتاريخها القديم وماضيها العريق.
من الحق أن يقال أن اليقظة المعاصرة في الفكر والأدب والثقافة جميعاً بدأت من دائرة القرآن وأن جميع الحركات الوطنية والقومية إنما استمدت قوتها من مصادر الإسلام وأنه لا سبيل إلى بناء أدب حديث أو فكر أو ثقافة منفصلاً عن اللغة العربية والإسلام.
ثامناً: محاولة الإدعاء بأن منطقة البحر الأبيض المتوسط شهدت حضارة واحدة هي التي بدأها الفراعنة والفينيقيون، ونماها الإغريق والرومان، ثم أتمها الأوربيون المعاصرون (وأن دور العرب في هذه الحضارة كان دوراً ثانوياً).
والحقيقة أن هناك حضارتان لكل منهما طابعه المميز هما: حضارة التوحيد وحضارة الوثنية.
وأن الإسلام هو صانع الحضارة التي اتسمت بهذا المفهوم في مواجهة حضارات بدأت بمفاهيم الوثنية وانتهت بمفاهيم المادية وكانت في مختلف مراحلها معارضة للحق والعدل والرحمة والأخلاق، فكانت تضرب واحدة بعد أخرى وتسقط؛ لأنها تعارض سنن الله في الكون.
تاسعاً: محاولة إلقاء بذور الشبهات حول صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في العصر الحديث والإدعاء بأنها شريعة صحراوية، موقوتة بعصرها وبيئتها، وكل الدلائل العلمية والتاريخية تكذب هذا الإدعاء وأقربها مؤتمرات القانون الدولي 1931، 1937، 1952 وكلها إشارات إلى أن الشريعة الإسلامية شريعة مستقلة لها كيانها الخاص وأنها تحمل منهجاً إنسانياً لم تصل إليها البشرية بعد وتجري المحاولة التي يفرضها النفوذ الغربي بالدعوة إلى ما يسمى تطوير الشريعة ووضعها موضع الاحتواء من القانون الوضعي، ولقد كان من أعظم المعطيات التي حققتها الأمة العربية أنها اتخذت من التشريع الإسلامي مصدراً أساسياً للقانون، ونصت على ذلك في دساتيرها وميثاق الوحدة.(/3)
عاشراً: استطاعت القوى الاستعمارية فرض نظام الاقتصاد الغربي على أغلب أجزاء العالم الإسلامي، وهو نظام قائم على أساس الربا ومعارض أصلاً لمنهج الشريعة الإسلامية، ولقد قامت في الأمة العربية محاولات علمية تؤيدها الجهات الرسمية إلى بحث إقامة مصرف إسلامي علمي على غير أساس الربا والعمل على وضع نظام تحرير المسلمين من قيود النظام الاقتصادي الوافد.
حادي عشر: كان من أخطر محاولات النفوذ الاستعماري إيجاد تضارب بين العروبة والإسلام ومحاولة إقامة مفهوم العروبة على أساس النظريات الوافدة والقوميات الأوربية، ولقد تنبه المفكرون العرب والمسلمون إلى هذا التحدي الخطير وكشفوا عن الرابطة العميقة بين العروبة والإسلام، وأشاروا إلى أن الإسلام هو الذي شكل مفهوم العروبة الحق، وأن العرب قبل الإسلام كانوا يؤمنون بالقبلية وأن الإسلام هو الذي شكلهم كأمة ودفعهم إلى الآفاق وكتب لهم أعظم صفحات تاريخهم.
والعروبة ليست عنصرية؛ وإنما هي قيمة ذاتية في مواجهة الخطر الصهيوني، ولكنها مفتوحة بالثقافة والفكر والعقيدة على العالم الإسلامي كله وملتقية معه.
ثاني عشر: تحريف الحقائق بالمبالغة أو الانتقاص كالإدعاء بأن المسلمين لا يتجاوزون الآن 500 مليون، بينما تقرر الإحصائيات المتواضعة أنهم يزيدون على سبعمائة مليون، وقد يصلون إلى ألف مليون، وكما نجد في كتب التاريخ من محاولات لتصوير البلاد العربية بصورة مصغرة أو مهينة أو إثارة الشبهات حول مقدراتها وثرواتها، أو الإدعاء بأنها منقسمة إلى مذاهب ونِحَل تتعارض أو تختلف أو تحول دون قيام وحدة فكر عامة، بينما الحقيقة غير ذلك؛ وأن الخلافات المذهبية الإسلامية هي خلافات في الفروع، أما القيم الأساسية فإنها واحدة بين جميع المسلمين.
ومن هنا فإن علينا أن ننظر في الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي.
في مجال اللغة العربية:
كذلك جرت المحاولات حول اللغة العربية وإثارة الشبهات حول مكانها ودورها الحقيقي في مجال الفكر الإسلامي وكانت المحاولة تعمل على مقارنة اللغة العربية باللغة اللاتينية، وتقول:
إنه ما دامت اللاتينية قد ماتت ودخلت المتحف فلماذا لا تموت اللغة العربية وتتفرع عنها لغات إقليمية. والحق أن وجه المقارنة غير صحيح وغير صادق؛ فقد انتهت اللغة اللاتينية وتحولت لهجاتها إلى لغات، وليس كذلك ما يحدث بالنسبة للغة العربية التي ما زال القرآن يظاهرها ويجعلها ما كتبت منذ أربعة عشر قرناً مقروءاً إلى اليوم، بينما لم يحدث ذلك مطلقاً لأي لغة من اللغات الحية، التي تتغير كل ثلاثة قرون، فامرؤ القيس السابق للإسلام نقرأه نحن الآن ونفهمه بعد أكثر من 1500 سنة، بينما شكسبير لا يفهمه الإنجليز وقد مضى عليه ثلاثمائة عام تقريباً، وهذه الظاهرة في اللغة العربية تجعلها لا تخضع لعلم اللغات الذي يحاول أن يحكم على كل اللغات بظواهر عامة مشتركة. ومن تميز اللغة العربية أيضاً أنها ليست لغة أمة كما يحدث للغات جميعاً؛ ولكنها إلى ذلك لغة فكر وثقافة وعقيدة لسبعمائة مليون مسلم، العرب بينهم مائة مليون على الأكثر، ومن هنا تنكشف فوارق كثيرة بين اللغة العربية لغة القرآن وبين اللغات القديمة كاللاتينية واللغات العامة.
وقد كانت اللغة العربية بطبيعة تركيبها وتميزها بالقدرة على الاشتقاق والتوالد عاملاً هاماً في مكانتها، وقد وصفها أرنست رينان بأنها خلافاً لكل اللغات ظهرت فجأة في غاية الكمال، غنية أي غنى بحيث لم يدخل عليها حتى يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة وأنها ظهرت منذ أول أمرها تامة مستحكمة.
ولقد مضى الإسلام يشق طريقه ومضت معه اللغة العربية، وكان حقاً عليها أن تصل إلى كل مكان وصل إليه، ولكن الاستعمار استطاع منذ أكثر من قرنين أن يوقف نموها ويحول بينهما وبين الحركة، وخاصة في ماليزيا وإندونيسيا وشرق أفريقيا وغربها، وإعلاء شأن اللغات الأجنبية واللغات الإقليمية، ولكنها سوف تستطيع بعد أن تتحرر الأمم من نفوذه الثقافي أن تعاود توسعها فتصل إلى كل مكان فيه مسلم، ليس بوصفها لغة فكر وعبادة فحسب، ولكن على أنها لغة حديث وكتابة وتعامل بإذن الله.
ومن خلال هذا الفهم الصحيح لوضعية اللغة العربية بين اللغات يمكننا أن نواجه كل ما يقال عن تطوير اللغة أو تمصير اللغة أو إعلاء شأن العاميات والإدعاء بأنها لغة خاصة ملك لأصحابها ونفهم أنها كلها محاولات تستهدف:
أولاً: عزل العرب عن الوحدة الكاملة بينهم.
ثانياً: عزل المسلمين عن العرب.
ثالثاً: عزل المسلمين والعرب عن مستوى البيان في القرآن الكريم.(/4)
ولا ريب أن اللغة العربية جديرة بأن تلتقي دائماً في مستوى بيان القرآن وأن يرتفع الناس إليها، ولا ريب أن الدعوة إلى إقامة لغة وسطى بين الفصحى والعامية هي إحدى محاولات الغزو الفكري، وليس لها هدف إلا إنزال اللغة العربية درجة عن كيانها الذي يرتبط ببلاغة القرآن وبذلك تنهدم ركيزة من ركائز الإسلام، وهي حجب المسلمين عن فهم القرآن واستيعابه وهو أمر خطير وهام ويحتاج إلى دوام المحافظة على بلاغة اللغة وروحها؛ فاللغة أساساً هي فكر الأمة، والعربية الفصحى مرتبطة بذاتية الإسلام ومزاجه النفسي والاجتماعي.
في مجال النهضة:
تُثار في مجال النهضة شبهات منها القول بأن الحضارة الغربية تؤخذ كلها (وقد بينا ذلك) ومنها القول بوحدة الثقافة، أو الثقافة العالمية، ذلك أن لكل أمة ثقافتها الخاصة التي تستمدها من مقومات وجودها وعقائدها، فالمعرفة عالمية والعلم عالمي والحضارة عالمية، ولكن الثقافة لا تكون عالمية بحال، وللعرب والمسلمين ثقافتهم المستمدة من القرآن واللغة العربية ولهم تلك الذاتية الخاصة المتميزة المستمدة من التوحيد، ولا ريب أننا في هذا الوقت بالذات إذا قبلنا بالثقافة العالمية فإن دورنا سيكون دور التابع الذليل الخاضع للكيان الضخم الذي تفرضه الثقافة العربية على العالم كله، وهو دور لا نقبله ولا نرضاه؛ لأنه سيقضي على مقوماتنا الخاصة والذاتية، ولقد تقبله أمم ليس لها تاريخ ولا حضارة، أما المسلمون الذين سيطروا بفكرهم وثقافتهم على العالم كله ألف سنة كاملة لا ينازعهم منازع، فإنه من الخزي لهم أن يستوعبوا أو يكونوا تابعين أو يوضعوا في مجال الاحتواء والانصهار.
لقد طرحت الصهيونية العالمية شعار الثقافة كهدف من أهدافها الرامية إلى تدمير ثقافات الأمم وتحطيمها من داخلها وفرض تلك التطورات الفلسفية التي دمرت الفكر الغربي واستوعبته، كالوجودية والفرويدية والماركسية والهيبية.
وهناك فيما يتصل بهذه الدعوة إلى تجزئة الفكر الإسلام ما يستهدف إثارة فكرة "السلام": ونبذ الحروب، والمقاومة السلبية وما إلى ذلك من أفكار نسبت إلى تولستوي وغاندي، وحاول بعض الدعاة ردها إلى الأديان.
والإسلام لا يعرف إلا منهجاً كاملاً فيه السلام وفيه الجهاد، وباب الجهاد والقتال من أكبر أبواب الشريعة الإسلامية وهو دعامة أساسية في إقامة السلام.
ولقد حرص الاستعمار الغربي ولاسيما البريطاني في الهند أن يفرض مفاهيم تحملها جماعات مضللة تصور الإسلام بصورة السلام القائم على الجبن والاستسلام للغاصب وكذلك تمكن الاستعمار الفرنسي في الجزائر وغيرها أن ينحي من دراسات الإسلام باب الجهاد؛ وذلك إيماناً من المستعمرين بأن أخطر صفحة تواجههم في الإسلام هي صفحة الجهاد التي كانت وستظل القوة الحقيقية للمقاومة والدفاع عن النفس، وحتى في السلم تكون استعداداً وتأهباً وحماية للثغور وإثارة الرهبة في نفوس العدو: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).
ولقد بلغ الأمر ببعض الكتاب العرب أن يتابعوا المستشرقين فيما يصورونه من تفرقة بين الإسلام في مكة والإسلام في المدينة وبين آيات القرآن المكي الداعية إلى الترقب والتأهب وبين آيات المدينة التي تحرض المسلمين على القتال. والواقع أنه لا فارق مطلقاً بين مرحلتين من دعوة واحدة يتكاملان، ذلك أن مناهج الدعوات لابد أن تمر بمرحلة بناء الرجال وإعدادهم، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة إقامة الدولة على نفس المنهج الأصيل، والإسلام متكامل ولكن الفكر الغربي الذي يحاول أن يحاكمه لا يؤمن بالتكامل وتفترسه الانشطارية، بالإضافة إلى التعصب وتغليب الهوى على جميع الأبحاث والدراسات التي تتصل بالإسلام.
ومن عجب أن لا يدعو الإسلام إلى الحرب والقتال؛ وإنما يدعو إلى السلام (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)، ولكنه يفرض الحرب في حالة الاضطرار القصوى، ثم لا يلبث أن يوقفها في حسم إذا قبل خصمه الصلح: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله).
وهناك شبهة أخرى تبطل بهذا المجال هي شبهة الانفصال عن الماضي.
فلا يزال الغربيون يرددون القول ولا يملون مطالبين المسلمين بأن ينفصلوا عن ماضيهم كلية ويرون ذلك هو سبيل القوة، وهم في هذا مضلون: (وإن تطع أكثر مَن في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، ولو كان هذا منهجاً صحيحاً مع كل الناس فلن يكون صحيحاً مع المسلمين الذين لهم منهجهم الرباني الماضي الذي هداهم دوماً وكانت هزيمتهم كلما انفصلوا عنه، والأوربيون الناصحون لم يفعلوا في نهضتهم ما ينصحوننا به، فنحن يطلب إلينا الانفصال عن الماضي والماضي متصل خلال أربعة عشر قرناً لم يتوقف اتصاله واستمراره، ونحن ندعى للانفصال عنه وأوربا تعود إلى الماضي وتتبعه من جديد بعد أن انفصلت عنه ألف سنة كاملة، تعود لتربط نفسها بالفكر اليوناني والحضارة الرومانية التي سقطت عام 450م وبدأت النهضة عام 1400 تقريباً.(/5)
والحق أنها دعوة ظالمة ولن تتحقق ولن يقبلها المسلمون والعرب ولن يستطيعوا ذلك لو قبلوا بها، ويقول هاملتون جب في نص له: "إنه ليس في وسع العرب أن يتحرروا من ماضيهم الحافل وسيظل الإسلام أهم صفحة في هذا السجل".
في مجال وحدة الفكر الإسلامي وتكامله:
وكذلك جرت إثارة الشبهات حول وحدة الإسلام ووحدة الفكر الإسلامي. وفي هذا المجال ترددت الدعوى القائلة بأن الإسلام دين: بالمعنى اللاهوتي المعروف في الغرب، وهم في هذا ينقضون الإسلام في أكبر مقوماته؛ فالإسلام دين ونظام مجتمع ومنهج حياة، فإذا فصلت منه الجانب الاجتماعي وقصرته على جانب العقيدة أو العبادة وحده كان ذلك تحريفاً خطيراً لمضامينه وأسسه، ويمكن القول أن الغرب يعرف ذلك ولكنه ينكره من ناحيتين: من ناحية أنه يريد ان يجعل الإسلام خاضعاً لنظرية الفكر الغربي التي تفصل بين الدين والمجتمع وبين الأخلاق والمجتمع. وبين التطلع إلى أن يفقد الإسلام أقوى مقوماته فينهار ويصبح مركباً ذلولاً للحضارة الغربية والاستعمار. والواقع أن الغرب يخشى الإسلام في مفهومه الصحيح؛ لأنه يحول دون نفوذه وسيطرته ويدفع المسلمين إلى مقاومته وتحرير أرضهم منه.
وهذا هو لب التغريب فإذا وصل إلى إقناع المسلمين بأن الإسلام دين لاهوتي فحسب، انفتح الطريق أمام الغزو المادي في مجال الفكر وأمكن إخضاع المسلمين للأيدلوجيات والفلسفات والمذاهب الاجتماعية المختلفة، مما يؤدي إلى تدمير مختلف القيم الأخلاقية والنفسية والروحية التي بناها الإسلام في المسلمين، وبذلك يصبح الفكر الإسلامي صورة هزيلة من الفكر الغربي الذي يمر الآن بأقسى مراحل أزماته واضطرابه بعد أن سقط صريعاً في براثن التلمودية الصهيونية.
وفي الفكر الإسلامي المستمد من الإسلام يقوم منهج تكامل قطاعات الفكر في نسق واحد، فالاجتماع والسياسة والأدب والتربية والاقتصاد هذه وحدات وأجزاء وعناصر من شئ واحد هو الإسلام، وإذا كان الفكر الغربي يجري على الفصل بين العناصر والوحدات والأجزاء فإن الفكر الإسلامي لا يقر هذا الفصل ويرى فيه تدميراً للشخصية الإنسانية وللمجتمع نفسه، يرى فيه قصوراً في النظرة بإعلاء عنصر على عنصر. وفي العصر الحديث يعلو عنصر المادة ويكاد يسيطر على العناصر الأخرى فيصل إلى درجة تشبه درجة القداسة، وكذلك فيما يتصل بالعقل والعلم، أما الإسلام فلا يرى المادة والروح إلا متكاملين، وما العقل والقلب إلا عينان في وجه واحد، والدنيا والآخرة إلا متصلين صلة جذرية، فالحياة كلها تدور حول رسالة وتتصل بإنسان له مسئوليته الفردية إزاء عمله وجزاءه على هذا العمل، وإنسان متصل بمجتمع متفاعل معه، وإنسان له قلب وعقل وروح وجسد لا انفصال بينها.
ومن هذه الوحدة القائمة بين العناصر في الفكر والحياة في الإسلام، والالتقاء بين الأجزاء لا نجد قضية للخلاف بين العلم والدين ولا بين الدين والضمير.
ذلك أن بعض المحاولات جرت لفصل بين الدين والضمير، والقول بأن العمل الأخلاقي يمكن أن يتخذ طريقه دون أن يكون صاحبه عاملاً بأوامر الدين، وتلك دعوة تتردد اليوم بين المسلمين: يقول أحدهم: أنا أفعل الخير ولكني لا أصلي.
والواقع أن الإسلام بحكم أنه منهج متكامل ونظام شامل لا يقر هذا، ولابد لأي عمل أخلاقي أن يتحرك في إطار العقيدة نفسها.
ولابد أن ينبعث من الإيمان بالله أساساً وأن يكون في منزلة الصلاة تماماً، والشبهة هنا هي أن الغربيين حين أرادوا الخروج من الدين وضع فلاسفتهم مناهج أخلاقية حاولوا أن يقولوا أن الناس في حاجة إلى الأخلاق وأن الأخلاق تقوم على فكرة الواجب وأن الناس تستطيع أن تقدم المعونة والمساعدة والإحسان والبر دون أن يكون لذلك صلة بدين ما. ولكن هذا المفهوم لا يقره الإسلام ولا قيمة لأي عمل أخلاقي لا يرتبط بالتوحيد والإيمان الكامل بالإسلام كله. وقد حذر القرآن تحذيراً شديداً من الإيمان ببعض الكتاب، ولا ريب أن هذا المنهج الأخلاقي حين انفصل عن الدين في الغرب لم يلبث طويلاً حتى ضربته حركة الاحتواء التلمودية فظهر منهج المدرسة الاجتماعية الذي حطم مفهوم الأخلاق نهائياً.
أما الإسلام فإن الأخلاق فيه تقوم على أساس الثبات أولاً وتتصل بالعقيدة، فالأخلاق في مفهوم الإسلام تطبيقية وليست نظرية كما هي في الفلسفة اليونانية، وليست أخلاق سعادة؛ ولكنها أخلاق تقوى، لقد كانت الأخلاق اليونانية نظرية خالصة منفصلة عن واقع الحياة، وكانت الفلسفات الهندية والمجوسية منعزلة عن المجتمع، وكلاهما لا يعترف بواقع الحياة، أما مفهوم المجال محاولة لوصف الفكر الإسلامي بالفكر الديني وهو قول ينبع من الانشطارية الغربية، ذلك أن الإسلام لا يفضل الدين عن الأدب أو اللغة أو التشريع أو الاقتصاد أو الاجتماع، والدين هنا بمعنى توجيه العمل لله وأخلاقية العمل ومراقبة الله فيه وتحريره من الهوى والغرض.(/6)
وفي ضوء ما ذكرنا ليس هناك فكر ديني، أو لغة دينية على النحو الذي يفهمه الغربي الذي يفصل بين المفاهيم.
وهكذا تختلف نظرة الفكر الإسلامي عن نظرة الفكر الغربي في أمور كثيرة: وفي مقدمتها البطولة وتقديرها والاحتفاء بها، فالإسلام لا ينظر إلى البطل أو العظيم بقدر ما ينظر إلى عمل البطل، ولذلك فهو حين يحتفي بالبطل يعيد الذكر والتقدير لعمله ويدعو إلى الانتفاع به، وهذا هو السر الحقيقي وراء انصراف الإسلام عن الصور والتماثيل كوسائل لتكريم الأبطال.
ذلك أن تلك الأسماء الكثيرة التي تتردد في الغرب على أنها آلهة وأنصاف آلهة، مما اورده اليونان والرومان وغيرهم، لم تكن في الأصل إلا أبطالاً أعجبت بهم أممهم وتعلقت بهم ثم شاءت بعد ذلك أن ترفعهم من مقامهم الإنساني إلى مقام الآلهة. ثم هي لم تلبث أن انصرفت عن مفهوم التقدير العملي لعمل البطل إلى عبادة البطل نفسه، وبذلك نشأت عبادة جديدة صرفت الناس عن عبادة الله الواحد الأحد، وقد أصبحت عبادة الأبطال وعبادة الجمال وتأليه البطل عبادات تتفق مع طبيعة النفس الغربية التي استمدت مفاهيمها في العصر الحديث من الوثنية اليونانية.
ومن هنا فقد حرص الإسلام على تحرير أهله من عبادة الفرد أو عبادة شئ ما، إلا الله سبحانه وتعالى، ومن هنا كان حرص القرآن على أن يصف أعظم شخصية في المسلمين وهو محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ إنما إلهكم إله واحد)، فالنبي بشر مؤيد بالوحي، يعيش ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويموت أيضاً، أما الله سبحانه وتعالى فإنه الحي الذي لا يموت. ومن هنا حفظ الإسلام مفهوم البطولة عن الانحراف إلى عبادة الفرد وحفظ عبادة الله من الوثنية والشرك. لقد رفع الإسلام عن الفكر البشري القيود وحرر العقل البشري من الأصفاد. ولم يجعل للأحجار والتماثيل والأصنام مكاناً في إيمانه القائم على التوحيد الخالص.
أنور الجندي(/7)
(9)
الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي
يواجه المسلمون اليوم مرحلة جديدة من مراحل الغزو الثقافي والتحدي:
والمعروف أن المسلمين مروا بمرحلتين هما: مرحلة الغزو العسكري (الاحتلال) ومرحلة المقاومة (الاستقلال)، ويمرون اليوم بمرحلة (التحرر).
أما المرحلة الأولى فهي المرحلة التي فُرضت عليهم فيها السيطرة الغربية بسطوة نفوذ الاحتلال، وفيها سيطر القانون الوضعي ومنهج التعليم الأجنبي ونظام الاقتصاد الغربي الربوي.
أما المرحلة الثانية فهي المرحلة التي جرت فيها محاولة الموائمة بين الفكر الغربي الوافد (وهو الفكر الرأسمالي الليبرالي الديمقراطي الغربي) وبين الفكر الإسلامي.
أما المرحلة الثالثة التي نعيشها اليوم فهي مرحلة الترشيد والأصالة أو محاولة الوصول إلى التحرر الكامل من نفوذ الفكر الأجنبي وشبهاته وتحدياته، وابتعاث الفكر الإسلامي الأصيل باعتباره هو المصدر الحقيقي لنهضة العالم الإسلامي.
وبعد أن تبين بالتجربة الواقعية التاريخية: أن محاولة اقتباس الفكر الغربي (بشطريه) لم يحقق للمسلمين والعرب النتائج التي كانوا يرجونها من إقامة المجتمع القادر على مقاومة الغزو الأجنبي.
لقد انتهت مرحلة الغزو العسكري والسياسي وبدأت مرحلة الغزو الفكري والحضاري.
وانتقل العالم الإسلامي من الخضوع للاستعمار (البريطاني والفرنسي والهولندي) الغربي إلى مواجهة نوع آخر أشد تحدياً وخطراً هو: الغزو الصهيوني الذي اتخذ من فلسطين رأس جسر في قلب الأمة العربية في محاولة لإقامة كيان بديل ووارث للاستعمار. هذا هو التحدي السياسي والاجتماعي والحضاري، وقد حمل معه تحدياً فكرياً وثقافياً يتمثل في عشرات من المذاهب والنظريات والمفاهيم والدعوات التي تطرح أمام الفكر الإسلامي منهجاً مخالفاً بل معارضاً لمنهجه الأصيل.
لقد كان المصلحون المسلمون في المرحلة الماضية يظنون أنه من الجائز الموائمة بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي، وكان رفاعة الطهطاوي ومَن بعده إلى محمد عبده يظنون أن الفكر الغربي له مصادر إسلامية وأنه انتقل إلى أوربا فتشكل كرة أخرى وأن في استطاعة المسلمين استعادته وصياغته من جديد.
غير أن الفكر الغربي الذي كان يعتمد على بعض مصادر لها طابع الدين أو المثالية أو غيرها من المفاهيم، هذا الفكر قد اختفى وحل بديلاً عنه: فكر مادي خالص يستمد مصدره الأول من المناهج القائمة على الإيمان بالمحسوس وحده وإنكار ما سواه. وبذلك باعد الفكر الغربي بينه وبين الفكر الإسلامي القائم أساساً على وحدة المعرفة الجامعة بين العقل والقلب، والروح والمادة، والعلم والدين، والدنيا والآخرة.
ويرجع هذا التحول في الفكر الغربي إلى خضوعه للفكر الصهيوني التلمودي الذي سيطر عليه بعد الثورة الفرنسية ومن قبلها أيضاً، والذي مهد عن طريق الماسونية إلى قيام أيدلوجية تلمودية استطاعت أن تحتوي الفكر الغربي بشقيه وتسيطر عليه.
ومن هنا فقد اتسعت الشقة التي كان يظن بعض مصلحينا أنها يمكن أن تقيم جسراً أو قنطرة بين الفكر الغربي وبين الفكر الإسلامي.
ولقد كشفت التجارب خلال أكثر من مائة عام أو تزيد أن كل معطيات الفكر الغربي لم تحقق للمسلمين شيئاً في مجال القوة أو البناء أو المقاومة وأنها حرمتهم من أهم موارد الحضارة ومصادرها وهي العلوم التكنيكية وأبقتهم خاضعين للغرب في مجال استيراد حاجياتهم وتصدير خاماتهم، دون أن يكونوا قادرين على استيعاب ثرواتهم ونفطهم ومقدرات حياتهم التي تذخر بها منطقة العلم الإسلامي من دون العلم كله.
وفي ظل التحديات التي واجهت المسلمين باحتضان الاستعمار للغزو الصهيوني كمرحلة أشد خطراً من الاحتلال نفسه؛ إذا أنها تمثل عملية استئصال كامل لأصحاب الأرض، وفرض نفوذ اقتصادي وفكري واجتماعي من شأنه أن يؤثر بالغ الأثر في كيان العالم الإسلامي والأمة العربية نفسها، فقد كان لابد للمسلمين والعرب أن يواجهوا الخطر عن طريق التماس منابع فكرهم وثقافتهم وعقيدتهم؛ فهي وحدها الضوء الكاشف والنور المبين الذي يهديهم إلى منطلق المقاومة والمواجهة والنهضة الحقة.
وهكذا تتميز هذه المرحلة الحاضرة بأنها مرحلة الترشيد والأصالة والتماس منابع الفكر الإسلامي الذي يستطيع أن يدفع المسلمين والعرب إلى القدرة الكاملة لمواجهة الخطر والتغلب عليه، ولا ريب أن تاريخ المسلمين حافل بمثل هذا الموقف، وقد كان المسلمون دائماً أقدر على مواجهة جائحات سبقت كالتتار والصليبيين والفرنجة عن طريق التماس منهجهم الصحيح المستمد من القرآن الكريم، والشريعة الإسلامية، والوحدة الجامعة، ذلك المنهج الذي قدمه لهم الإسلام وأقام عليه حضارتهم الباذجة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ومجتمعهم الواسع خلال أربعة عشر قرناً، ولقد كان المسلمون بمنهجهم هذا مقتدرين على المواجهة والنصر، فإذا ما تخلفوا عنه كان عدوهم أقدر على هزيمتهم والإدالة منهم.(/1)
ولا ريب أن أخطر ما يواجه العرب والمسلمين في هذه المرحلة هو: الغزو الثقافي، وحملة التشكيك وأثاره روح القنوط واليأس في القلوب والعقول.
ولن يتسرب اليأس والقنوط في نفوس المسلمين والعرب إلا من مصدر واحد: هو أنهم يصطنعون المنهج الذي فرض عليهم في مقايسات الأمور وتقدير المواقف وإصدار الأحكام: هذا المنهج الذي ركز عليه الغزو الثقافي والتغريب سنوات وسنوات؛ لكي يحله في النفوس وفي المجتمع مكان المنهج الأصيل الذي أقام عليه المسلمون حياتهم كلها، ولعل هذا هو أخطر سلاح تواجه به الأمم، أن يكون عدوها وخصمها قادراً على أن يخرجها من دائرة فكرها، لتحكم في أمورها منهجاً مغايراً لا يتصل بمزاجها النفسي ولا بذاتيتها ولا بتكوينها الاجتماعي الذي انبنى عليه كيانها منذ أربعة عشر قرناً.
ذلك أن الاستعمار والقوى الخارجية الطامعة في مصادر الثروة في عالم الإسلام، كانت تعرف أن هذه الأمة القرآنية لا يمكن أن تؤتى إلا عن طريق تزييف مفاهيمها وتشكيكها في قيمها وإحلال منهج غريب عنها في مقايسات الأمور وتقدير المواقف وإصدار الأحكام، ولقد كان الغرب والاستعمار يعلمان مدى قدرة هذه الأمة استمداداً من قيمها، على مواجهة أعدائها وعلى الصمود في وجه الغزاة، وقد شكل لها فكرها الإسلامي أسلوباً حاسماً في هذا المحال: هو أسلوب الجهاد القادر على رد العدو، والمرابطة الدائمة، والإعداد بالقوة، واليقظة الكاملة، وقد كانت منطقة العالم الإسلامي ولا تزال وستظل مطمعاً للأمم، ولذلك فقد جهزها الفكر الإسلامي بالقدرة الدائمة على الصمود والأهبة: (ود الذين كفروا لو تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة – وخذوا حذركم).
ومن هناك كان الاستعمار والغزو الأجنبي يرى من أجل إدامة سيطرته على هذه المنطقة الاستراتيجية الخطيرة، وذات الكنوز والثروات الضخمة، أن يحول هذه الأمة عن هذه القيم القادرة على المواجهة؛ حتى يخلق منها أمة مستسلمة ترضى بالهوان وتخضع للغاصب، وترى أنها داخلة في نطاق ما يسمونه الثقافة العالمية أو الوحدة العالمية أو الأممية أو غيرها من دعوات تريد أن تصهر المسلمين والعرب في أتونها وتضعهم في مجال احتوائها.
ونقطة الخطر هنا هي استسلام المسلمين والعرب لمنهج غير منهجهم المستمد من فكرهم وتراثهم وعقائدهم، ومنم هنا فإن أزمة المسلمين والعرب اليوم هي أزمة منهج، وأن أخطر التحديات التي تواجههم وفي مقدمتها الاستعمار والصهيونية هي التماس منهجهم الأصيل.
ولا ريب أن للمسلمين منهج ذاتي أصيل قائم بذاته مختلف تمام الاختلاف عن مناهج الشرق والغرب، ذلك هو المنهج الإنساني الطابع الرباني المصدر، الذي يقوم على الفطرة أساساً ويلتقي مع العقل والعلم، وأبرز مفاهيمه التوحيد والإيمان بالغيب والمسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي، والإيمان بالجزاء واليوم الآخر، وهذا المفهوم في مجموعه كل متكامل، فالإسلام يقوم في رسالته على أساس الترابط بين القيم، ولما كانت رسالته موجهة إلى الإنسان الذي استُخلف في الأرض، ولما كان هذا الإنسان جسم ونفس وعقل وقلب ومادة وروح، فإن المنهج هو جامع كذلك لا تنفصل فيه القيم ولا تنفصل عنده العوالم، فهو أيضاً يجمع بين عالم الغيب وعالم الشهادة.
هذا المنهج هو "السر الحقيقي" وراء المعجزة الكبرى التي أقامت الدولة الإسلامية من الصين إلى فرنسا في أقل من سبعين عاماً؛ لأنه التقى بالفطرة والنفس الإنسانية والعقل الإنساني دون تعارض أو اضطراب.
ومن هنا، وعلى قدر خطر هذا المنهج وأثره في بناء الأمة الإسلامية كانت الحملة عليه وكانت المحاولة الضارية لإثارة الشبهات حوله ومحاولة تدميره وتفتيته وإحلال مفهوم آخر بديل له في نفوس المسلمين وعقولهم عن طريق الفلسفات والمناهج والأيدلوجيات الوافدة.
ومن هنا فقد أقامت القوى الاستعمارية مخططاً للغزو الفكري والثقافي وضعاً بهدف السيطرة على النفس الإسلامية والعقل الإسلامي كمقدمة لإخضاع العالم كله اجتماعياً وحضارياً وكأسلوب لاحتواء الأمة وإدخالها في بوتقة النفوذ الأممي بحيث لا تكون من بعد قادرة على الانبعاث من قيمها ومقوماتها الأساسية.
ولقد بدأ هذا المخطط من وقت مبكر عن طريق التبشير والاستشراق ومدارس الإرساليات وبعض الصحف والمناهج التعليمية والثقافية التي فرضها الاستعمار على العالم الإسلامي.
تضاعف الخطر بعد أن برزت الصهيونية كعنصر جديد له محاولاته الخاصة في تزييف التاريخ وتوهين النفس العربية من أجل إحكام السيطرة ومن ثم تضاعف المخطط وتوسعت أهدافه وبدأت محاولاته تلبس أثواباً جديدة وتبرز في قوالب ذات طابع علمي براق وتخفي من وراءها السم الزعاف بعد أن استطاعت مخططات الغزو الصهيونية السيطرة على الفكر الغربي نفسه وانتزاعه من مجال الدين والأخلاق والحملة عليهما على أساس المذهب المادي الوثني.(/2)
ومن هنا فقد برزت دعوات وعلوم جديدة تحمل طابع المنهج العلمي وهب تخفي من وراءها سموم التلمود وأهدافه في تدمير مقومات الأمم وابتلاعها.
من أبرز هذه الدعوات والمخططات والمذاهب:
أولاً: الدعوة إلى هدم الأديان عن طريق علم الأديان المقارن والقول بأن الأمم بدأت وثنية ثم عرفت التوحيد بعد ذلك.
وهو قول معارض للحقيقة التي جاءت بها الكتب المنزلة والتي تثبتها كل الدلائل التاريخية والكشوف الأثرية، والحقيقة أن البشرية بدأت موحدة وأن آدم أبو البشر كان نبياً وكان موحِداً.
ثانياً: الدعوة إلى هدم الأخلاق عن طريق مذاهب الوجودية والفرويدية وهدم الأسرة عن طريق مذاهب دوركابم وليفي بريل.
وتحاول هذه المذاهب أن تشكك في ثبات القيم الأخلاقية وارتباطها بالإنسان والدعوة إلى أخلاق متطورة تختلف باختلاف البيئات والعصور.
ثالثاً: الدعوة إلى التماس مفهوم واحد للتاريخ: هو التفسير المادي الذي طرحة إنجلز وماركس، وهو مفهوم ناقص؛ لأنه يتجاهل عوامل كثيرة أخرى لها أثرها في توجيه التاريخ.
رابعاً: الدعوة إلى إثارة العصبية والعنصرية وإعلاء الأجناس البيضاء وذلك في محاولة لفرض النفوذ الاستعماري الغربي على الأمم الملونة والقول بوصاية –زائفة- للجنس الأبيض على العالم والبشرية.
خامساً: محاولة إخراج اللغة العربية من مفهومها الذي تختلف به عن اللغات بوصفها لغة القرآن، وفرض مناهج في علم اللغات للتحكم فيها وتصويرها بأنها لغة قومية فحسب، أي لغة أمة، وإذا كان هذا كقانون لكل لغات العالم فإنه يعجز في إقرار ذلك بالنسبة إلى اللغة العربية؛ لأنها إلى جانب أنها لغة أمة فهي لغة فكر وثقافة وحضارة ودين وأنها تتصل بسبعمائة مليون من المسلمين (بالإضافة إلى أهلها العرب)، وهدف الحملة على اللغة العربية هو خلق عامية تقضي على لغة القرآن وتمزق الأمة والفكر جميعاً.
سادساً: الدعوة إلى إحياء الحضارات التي سبقت الإسلام، وإعادة عرض الوثنيات والفلسفات والخرافات والأوهام.
وتلك محاولة ماكرة مضللة ولكنها فاسدة؛ فقد استطاع الإسلام في خلال أربعة عشر قرناً أن يقيم منهجاً عقلياً وروحياً وأن ينشئ مزاجاً نفسياً وذوقاً خالصاً مرتبطاً بالتوحيد والقرآن ومتصلاً بأسباب الإيمان بالله له ضوءه الباهر الذي لا تستطيع هذه الظلمات أن تقهره.
سابعاً: الدعوة إلى ما يسمى الأدب العربي المعاصر، والفكر العربي المعاصر والثقافة العربية المعاصرة، على أن تبدأ هذه الدراسات منذ حملة نابليون وربطها بالإرساليات والنفوذ الأجنبي كأنما هي من معطياته، وهي محاولة ماكرة إلى اجتثاث الفكر عن أصوله والفصل بين حاضر العرب والمسلمين وبين ماضيهم وخلق ثقافة "لقيطة" لا جذور لها، بل إن هناك محاولة مضللة تهدف إلى الحيلولة دون ربط الأدب أو الفكر أو الثقافة بتاريخها القديم وماضيها العريق.
من الحق أن يقال أن اليقظة المعاصرة في الفكر والأدب والثقافة جميعاً بدأت من دائرة القرآن وأن جميع الحركات الوطنية والقومية إنما استمدت قوتها من مصادر الإسلام وأنه لا سبيل إلى بناء أدب حديث أو فكر أو ثقافة منفصلاً عن اللغة العربية والإسلام.
ثامناً: محاولة الإدعاء بأن منطقة البحر الأبيض المتوسط شهدت حضارة واحدة هي التي بدأها الفراعنة والفينيقيون، ونماها الإغريق والرومان، ثم أتمها الأوربيون المعاصرون (وأن دور العرب في هذه الحضارة كان دوراً ثانوياً).
والحقيقة أن هناك حضارتان لكل منهما طابعه المميز هما: حضارة التوحيد وحضارة الوثنية.
وأن الإسلام هو صانع الحضارة التي اتسمت بهذا المفهوم في مواجهة حضارات بدأت بمفاهيم الوثنية وانتهت بمفاهيم المادية وكانت في مختلف مراحلها معارضة للحق والعدل والرحمة والأخلاق، فكانت تضرب واحدة بعد أخرى وتسقط؛ لأنها تعارض سنن الله في الكون.
تاسعاً: محاولة إلقاء بذور الشبهات حول صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في العصر الحديث والإدعاء بأنها شريعة صحراوية، موقوتة بعصرها وبيئتها، وكل الدلائل العلمية والتاريخية تكذب هذا الإدعاء وأقربها مؤتمرات القانون الدولي 1931، 1937، 1952 وكلها إشارات إلى أن الشريعة الإسلامية شريعة مستقلة لها كيانها الخاص وأنها تحمل منهجاً إنسانياً لم تصل إليها البشرية بعد وتجري المحاولة التي يفرضها النفوذ الغربي بالدعوة إلى ما يسمى تطوير الشريعة ووضعها موضع الاحتواء من القانون الوضعي، ولقد كان من أعظم المعطيات التي حققتها الأمة العربية أنها اتخذت من التشريع الإسلامي مصدراً أساسياً للقانون، ونصت على ذلك في دساتيرها وميثاق الوحدة.(/3)
عاشراً: استطاعت القوى الاستعمارية فرض نظام الاقتصاد الغربي على أغلب أجزاء العالم الإسلامي، وهو نظام قائم على أساس الربا ومعارض أصلاً لمنهج الشريعة الإسلامية، ولقد قامت في الأمة العربية محاولات علمية تؤيدها الجهات الرسمية إلى بحث إقامة مصرف إسلامي علمي على غير أساس الربا والعمل على وضع نظام تحرير المسلمين من قيود النظام الاقتصادي الوافد.
حادي عشر: كان من أخطر محاولات النفوذ الاستعماري إيجاد تضارب بين العروبة والإسلام ومحاولة إقامة مفهوم العروبة على أساس النظريات الوافدة والقوميات الأوربية، ولقد تنبه المفكرون العرب والمسلمون إلى هذا التحدي الخطير وكشفوا عن الرابطة العميقة بين العروبة والإسلام، وأشاروا إلى أن الإسلام هو الذي شكل مفهوم العروبة الحق، وأن العرب قبل الإسلام كانوا يؤمنون بالقبلية وأن الإسلام هو الذي شكلهم كأمة ودفعهم إلى الآفاق وكتب لهم أعظم صفحات تاريخهم.
والعروبة ليست عنصرية؛ وإنما هي قيمة ذاتية في مواجهة الخطر الصهيوني، ولكنها مفتوحة بالثقافة والفكر والعقيدة على العالم الإسلامي كله وملتقية معه.
ثاني عشر: تحريف الحقائق بالمبالغة أو الانتقاص كالإدعاء بأن المسلمين لا يتجاوزون الآن 500 مليون، بينما تقرر الإحصائيات المتواضعة أنهم يزيدون على سبعمائة مليون، وقد يصلون إلى ألف مليون، وكما نجد في كتب التاريخ من محاولات لتصوير البلاد العربية بصورة مصغرة أو مهينة أو إثارة الشبهات حول مقدراتها وثرواتها، أو الإدعاء بأنها منقسمة إلى مذاهب ونِحَل تتعارض أو تختلف أو تحول دون قيام وحدة فكر عامة، بينما الحقيقة غير ذلك؛ وأن الخلافات المذهبية الإسلامية هي خلافات في الفروع، أما القيم الأساسية فإنها واحدة بين جميع المسلمين.
ومن هنا فإن علينا أن ننظر في الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي.
في مجال اللغة العربية:
كذلك جرت المحاولات حول اللغة العربية وإثارة الشبهات حول مكانها ودورها الحقيقي في مجال الفكر الإسلامي وكانت المحاولة تعمل على مقارنة اللغة العربية باللغة اللاتينية، وتقول:
إنه ما دامت اللاتينية قد ماتت ودخلت المتحف فلماذا لا تموت اللغة العربية وتتفرع عنها لغات إقليمية. والحق أن وجه المقارنة غير صحيح وغير صادق؛ فقد انتهت اللغة اللاتينية وتحولت لهجاتها إلى لغات، وليس كذلك ما يحدث بالنسبة للغة العربية التي ما زال القرآن يظاهرها ويجعلها ما كتبت منذ أربعة عشر قرناً مقروءاً إلى اليوم، بينما لم يحدث ذلك مطلقاً لأي لغة من اللغات الحية، التي تتغير كل ثلاثة قرون، فامرؤ القيس السابق للإسلام نقرأه نحن الآن ونفهمه بعد أكثر من 1500 سنة، بينما شكسبير لا يفهمه الإنجليز وقد مضى عليه ثلاثمائة عام تقريباً، وهذه الظاهرة في اللغة العربية تجعلها لا تخضع لعلم اللغات الذي يحاول أن يحكم على كل اللغات بظواهر عامة مشتركة. ومن تميز اللغة العربية أيضاً أنها ليست لغة أمة كما يحدث للغات جميعاً؛ ولكنها إلى ذلك لغة فكر وثقافة وعقيدة لسبعمائة مليون مسلم، العرب بينهم مائة مليون على الأكثر، ومن هنا تنكشف فوارق كثيرة بين اللغة العربية لغة القرآن وبين اللغات القديمة كاللاتينية واللغات العامة.
وقد كانت اللغة العربية بطبيعة تركيبها وتميزها بالقدرة على الاشتقاق والتوالد عاملاً هاماً في مكانتها، وقد وصفها أرنست رينان بأنها خلافاً لكل اللغات ظهرت فجأة في غاية الكمال، غنية أي غنى بحيث لم يدخل عليها حتى يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة وأنها ظهرت منذ أول أمرها تامة مستحكمة.
ولقد مضى الإسلام يشق طريقه ومضت معه اللغة العربية، وكان حقاً عليها أن تصل إلى كل مكان وصل إليه، ولكن الاستعمار استطاع منذ أكثر من قرنين أن يوقف نموها ويحول بينهما وبين الحركة، وخاصة في ماليزيا وإندونيسيا وشرق أفريقيا وغربها، وإعلاء شأن اللغات الأجنبية واللغات الإقليمية، ولكنها سوف تستطيع بعد أن تتحرر الأمم من نفوذه الثقافي أن تعاود توسعها فتصل إلى كل مكان فيه مسلم، ليس بوصفها لغة فكر وعبادة فحسب، ولكن على أنها لغة حديث وكتابة وتعامل بإذن الله.
ومن خلال هذا الفهم الصحيح لوضعية اللغة العربية بين اللغات يمكننا أن نواجه كل ما يقال عن تطوير اللغة أو تمصير اللغة أو إعلاء شأن العاميات والإدعاء بأنها لغة خاصة ملك لأصحابها ونفهم أنها كلها محاولات تستهدف:
أولاً: عزل العرب عن الوحدة الكاملة بينهم.
ثانياً: عزل المسلمين عن العرب.
ثالثاً: عزل المسلمين والعرب عن مستوى البيان في القرآن الكريم.(/4)
ولا ريب أن اللغة العربية جديرة بأن تلتقي دائماً في مستوى بيان القرآن وأن يرتفع الناس إليها، ولا ريب أن الدعوة إلى إقامة لغة وسطى بين الفصحى والعامية هي إحدى محاولات الغزو الفكري، وليس لها هدف إلا إنزال اللغة العربية درجة عن كيانها الذي يرتبط ببلاغة القرآن وبذلك تنهدم ركيزة من ركائز الإسلام، وهي حجب المسلمين عن فهم القرآن واستيعابه وهو أمر خطير وهام ويحتاج إلى دوام المحافظة على بلاغة اللغة وروحها؛ فاللغة أساساً هي فكر الأمة، والعربية الفصحى مرتبطة بذاتية الإسلام ومزاجه النفسي والاجتماعي.
في مجال النهضة:
تُثار في مجال النهضة شبهات منها القول بأن الحضارة الغربية تؤخذ كلها (وقد بينا ذلك) ومنها القول بوحدة الثقافة، أو الثقافة العالمية، ذلك أن لكل أمة ثقافتها الخاصة التي تستمدها من مقومات وجودها وعقائدها، فالمعرفة عالمية والعلم عالمي والحضارة عالمية، ولكن الثقافة لا تكون عالمية بحال، وللعرب والمسلمين ثقافتهم المستمدة من القرآن واللغة العربية ولهم تلك الذاتية الخاصة المتميزة المستمدة من التوحيد، ولا ريب أننا في هذا الوقت بالذات إذا قبلنا بالثقافة العالمية فإن دورنا سيكون دور التابع الذليل الخاضع للكيان الضخم الذي تفرضه الثقافة العربية على العالم كله، وهو دور لا نقبله ولا نرضاه؛ لأنه سيقضي على مقوماتنا الخاصة والذاتية، ولقد تقبله أمم ليس لها تاريخ ولا حضارة، أما المسلمون الذين سيطروا بفكرهم وثقافتهم على العالم كله ألف سنة كاملة لا ينازعهم منازع، فإنه من الخزي لهم أن يستوعبوا أو يكونوا تابعين أو يوضعوا في مجال الاحتواء والانصهار.
لقد طرحت الصهيونية العالمية شعار الثقافة كهدف من أهدافها الرامية إلى تدمير ثقافات الأمم وتحطيمها من داخلها وفرض تلك التطورات الفلسفية التي دمرت الفكر الغربي واستوعبته، كالوجودية والفرويدية والماركسية والهيبية.
وهناك فيما يتصل بهذه الدعوة إلى تجزئة الفكر الإسلام ما يستهدف إثارة فكرة "السلام": ونبذ الحروب، والمقاومة السلبية وما إلى ذلك من أفكار نسبت إلى تولستوي وغاندي، وحاول بعض الدعاة ردها إلى الأديان.
والإسلام لا يعرف إلا منهجاً كاملاً فيه السلام وفيه الجهاد، وباب الجهاد والقتال من أكبر أبواب الشريعة الإسلامية وهو دعامة أساسية في إقامة السلام.
ولقد حرص الاستعمار الغربي ولاسيما البريطاني في الهند أن يفرض مفاهيم تحملها جماعات مضللة تصور الإسلام بصورة السلام القائم على الجبن والاستسلام للغاصب وكذلك تمكن الاستعمار الفرنسي في الجزائر وغيرها أن ينحي من دراسات الإسلام باب الجهاد؛ وذلك إيماناً من المستعمرين بأن أخطر صفحة تواجههم في الإسلام هي صفحة الجهاد التي كانت وستظل القوة الحقيقية للمقاومة والدفاع عن النفس، وحتى في السلم تكون استعداداً وتأهباً وحماية للثغور وإثارة الرهبة في نفوس العدو: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).
ولقد بلغ الأمر ببعض الكتاب العرب أن يتابعوا المستشرقين فيما يصورونه من تفرقة بين الإسلام في مكة والإسلام في المدينة وبين آيات القرآن المكي الداعية إلى الترقب والتأهب وبين آيات المدينة التي تحرض المسلمين على القتال. والواقع أنه لا فارق مطلقاً بين مرحلتين من دعوة واحدة يتكاملان، ذلك أن مناهج الدعوات لابد أن تمر بمرحلة بناء الرجال وإعدادهم، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة إقامة الدولة على نفس المنهج الأصيل، والإسلام متكامل ولكن الفكر الغربي الذي يحاول أن يحاكمه لا يؤمن بالتكامل وتفترسه الانشطارية، بالإضافة إلى التعصب وتغليب الهوى على جميع الأبحاث والدراسات التي تتصل بالإسلام.
ومن عجب أن لا يدعو الإسلام إلى الحرب والقتال؛ وإنما يدعو إلى السلام (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)، ولكنه يفرض الحرب في حالة الاضطرار القصوى، ثم لا يلبث أن يوقفها في حسم إذا قبل خصمه الصلح: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله).
وهناك شبهة أخرى تبطل بهذا المجال هي شبهة الانفصال عن الماضي.
فلا يزال الغربيون يرددون القول ولا يملون مطالبين المسلمين بأن ينفصلوا عن ماضيهم كلية ويرون ذلك هو سبيل القوة، وهم في هذا مضلون: (وإن تطع أكثر مَن في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، ولو كان هذا منهجاً صحيحاً مع كل الناس فلن يكون صحيحاً مع المسلمين الذين لهم منهجهم الرباني الماضي الذي هداهم دوماً وكانت هزيمتهم كلما انفصلوا عنه، والأوربيون الناصحون لم يفعلوا في نهضتهم ما ينصحوننا به، فنحن يطلب إلينا الانفصال عن الماضي والماضي متصل خلال أربعة عشر قرناً لم يتوقف اتصاله واستمراره، ونحن ندعى للانفصال عنه وأوربا تعود إلى الماضي وتتبعه من جديد بعد أن انفصلت عنه ألف سنة كاملة، تعود لتربط نفسها بالفكر اليوناني والحضارة الرومانية التي سقطت عام 450م وبدأت النهضة عام 1400 تقريباً.(/5)
والحق أنها دعوة ظالمة ولن تتحقق ولن يقبلها المسلمون والعرب ولن يستطيعوا ذلك لو قبلوا بها، ويقول هاملتون جب في نص له: "إنه ليس في وسع العرب أن يتحرروا من ماضيهم الحافل وسيظل الإسلام أهم صفحة في هذا السجل".
في مجال وحدة الفكر الإسلامي وتكامله:
وكذلك جرت إثارة الشبهات حول وحدة الإسلام ووحدة الفكر الإسلامي. وفي هذا المجال ترددت الدعوى القائلة بأن الإسلام دين: بالمعنى اللاهوتي المعروف في الغرب، وهم في هذا ينقضون الإسلام في أكبر مقوماته؛ فالإسلام دين ونظام مجتمع ومنهج حياة، فإذا فصلت منه الجانب الاجتماعي وقصرته على جانب العقيدة أو العبادة وحده كان ذلك تحريفاً خطيراً لمضامينه وأسسه، ويمكن القول أن الغرب يعرف ذلك ولكنه ينكره من ناحيتين: من ناحية أنه يريد ان يجعل الإسلام خاضعاً لنظرية الفكر الغربي التي تفصل بين الدين والمجتمع وبين الأخلاق والمجتمع. وبين التطلع إلى أن يفقد الإسلام أقوى مقوماته فينهار ويصبح مركباً ذلولاً للحضارة الغربية والاستعمار. والواقع أن الغرب يخشى الإسلام في مفهومه الصحيح؛ لأنه يحول دون نفوذه وسيطرته ويدفع المسلمين إلى مقاومته وتحرير أرضهم منه.
وهذا هو لب التغريب فإذا وصل إلى إقناع المسلمين بأن الإسلام دين لاهوتي فحسب، انفتح الطريق أمام الغزو المادي في مجال الفكر وأمكن إخضاع المسلمين للأيدلوجيات والفلسفات والمذاهب الاجتماعية المختلفة، مما يؤدي إلى تدمير مختلف القيم الأخلاقية والنفسية والروحية التي بناها الإسلام في المسلمين، وبذلك يصبح الفكر الإسلامي صورة هزيلة من الفكر الغربي الذي يمر الآن بأقسى مراحل أزماته واضطرابه بعد أن سقط صريعاً في براثن التلمودية الصهيونية.
وفي الفكر الإسلامي المستمد من الإسلام يقوم منهج تكامل قطاعات الفكر في نسق واحد، فالاجتماع والسياسة والأدب والتربية والاقتصاد هذه وحدات وأجزاء وعناصر من شئ واحد هو الإسلام، وإذا كان الفكر الغربي يجري على الفصل بين العناصر والوحدات والأجزاء فإن الفكر الإسلامي لا يقر هذا الفصل ويرى فيه تدميراً للشخصية الإنسانية وللمجتمع نفسه، يرى فيه قصوراً في النظرة بإعلاء عنصر على عنصر. وفي العصر الحديث يعلو عنصر المادة ويكاد يسيطر على العناصر الأخرى فيصل إلى درجة تشبه درجة القداسة، وكذلك فيما يتصل بالعقل والعلم، أما الإسلام فلا يرى المادة والروح إلا متكاملين، وما العقل والقلب إلا عينان في وجه واحد، والدنيا والآخرة إلا متصلين صلة جذرية، فالحياة كلها تدور حول رسالة وتتصل بإنسان له مسئوليته الفردية إزاء عمله وجزاءه على هذا العمل، وإنسان متصل بمجتمع متفاعل معه، وإنسان له قلب وعقل وروح وجسد لا انفصال بينها.
ومن هذه الوحدة القائمة بين العناصر في الفكر والحياة في الإسلام، والالتقاء بين الأجزاء لا نجد قضية للخلاف بين العلم والدين ولا بين الدين والضمير.
ذلك أن بعض المحاولات جرت لفصل بين الدين والضمير، والقول بأن العمل الأخلاقي يمكن أن يتخذ طريقه دون أن يكون صاحبه عاملاً بأوامر الدين، وتلك دعوة تتردد اليوم بين المسلمين: يقول أحدهم: أنا أفعل الخير ولكني لا أصلي.
والواقع أن الإسلام بحكم أنه منهج متكامل ونظام شامل لا يقر هذا، ولابد لأي عمل أخلاقي أن يتحرك في إطار العقيدة نفسها.
ولابد أن ينبعث من الإيمان بالله أساساً وأن يكون في منزلة الصلاة تماماً، والشبهة هنا هي أن الغربيين حين أرادوا الخروج من الدين وضع فلاسفتهم مناهج أخلاقية حاولوا أن يقولوا أن الناس في حاجة إلى الأخلاق وأن الأخلاق تقوم على فكرة الواجب وأن الناس تستطيع أن تقدم المعونة والمساعدة والإحسان والبر دون أن يكون لذلك صلة بدين ما. ولكن هذا المفهوم لا يقره الإسلام ولا قيمة لأي عمل أخلاقي لا يرتبط بالتوحيد والإيمان الكامل بالإسلام كله. وقد حذر القرآن تحذيراً شديداً من الإيمان ببعض الكتاب، ولا ريب أن هذا المنهج الأخلاقي حين انفصل عن الدين في الغرب لم يلبث طويلاً حتى ضربته حركة الاحتواء التلمودية فظهر منهج المدرسة الاجتماعية الذي حطم مفهوم الأخلاق نهائياً.
أما الإسلام فإن الأخلاق فيه تقوم على أساس الثبات أولاً وتتصل بالعقيدة، فالأخلاق في مفهوم الإسلام تطبيقية وليست نظرية كما هي في الفلسفة اليونانية، وليست أخلاق سعادة؛ ولكنها أخلاق تقوى، لقد كانت الأخلاق اليونانية نظرية خالصة منفصلة عن واقع الحياة، وكانت الفلسفات الهندية والمجوسية منعزلة عن المجتمع، وكلاهما لا يعترف بواقع الحياة، أما مفهوم المجال محاولة لوصف الفكر الإسلامي بالفكر الديني وهو قول ينبع من الانشطارية الغربية، ذلك أن الإسلام لا يفضل الدين عن الأدب أو اللغة أو التشريع أو الاقتصاد أو الاجتماع، والدين هنا بمعنى توجيه العمل لله وأخلاقية العمل ومراقبة الله فيه وتحريره من الهوى والغرض.(/6)
وفي ضوء ما ذكرنا ليس هناك فكر ديني، أو لغة دينية على النحو الذي يفهمه الغربي الذي يفصل بين المفاهيم.
وهكذا تختلف نظرة الفكر الإسلامي عن نظرة الفكر الغربي في أمور كثيرة: وفي مقدمتها البطولة وتقديرها والاحتفاء بها، فالإسلام لا ينظر إلى البطل أو العظيم بقدر ما ينظر إلى عمل البطل، ولذلك فهو حين يحتفي بالبطل يعيد الذكر والتقدير لعمله ويدعو إلى الانتفاع به، وهذا هو السر الحقيقي وراء انصراف الإسلام عن الصور والتماثيل كوسائل لتكريم الأبطال.
ذلك أن تلك الأسماء الكثيرة التي تتردد في الغرب على أنها آلهة وأنصاف آلهة، مما اورده اليونان والرومان وغيرهم، لم تكن في الأصل إلا أبطالاً أعجبت بهم أممهم وتعلقت بهم ثم شاءت بعد ذلك أن ترفعهم من مقامهم الإنساني إلى مقام الآلهة. ثم هي لم تلبث أن انصرفت عن مفهوم التقدير العملي لعمل البطل إلى عبادة البطل نفسه، وبذلك نشأت عبادة جديدة صرفت الناس عن عبادة الله الواحد الأحد، وقد أصبحت عبادة الأبطال وعبادة الجمال وتأليه البطل عبادات تتفق مع طبيعة النفس الغربية التي استمدت مفاهيمها في العصر الحديث من الوثنية اليونانية.
ومن هنا فقد حرص الإسلام على تحرير أهله من عبادة الفرد أو عبادة شئ ما، إلا الله سبحانه وتعالى، ومن هنا كان حرص القرآن على أن يصف أعظم شخصية في المسلمين وهو محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ إنما إلهكم إله واحد)، فالنبي بشر مؤيد بالوحي، يعيش ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويموت أيضاً، أما الله سبحانه وتعالى فإنه الحي الذي لا يموت. ومن هنا حفظ الإسلام مفهوم البطولة عن الانحراف إلى عبادة الفرد وحفظ عبادة الله من الوثنية والشرك. لقد رفع الإسلام عن الفكر البشري القيود وحرر العقل البشري من الأصفاد. ولم يجعل للأحجار والتماثيل والأصنام مكاناً في إيمانه القائم على التوحيد الخالص.
أنور الجندي(/7)
الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي
يواجه المسلمون اليوم مرحلة جديدة من مراحل الغزو الثقافي والتحدي:
والمعروف أن المسلمين مروا بمرحلتين هما: مرحلة الغزو العسكري (الاحتلال) ومرحلة المقاومة (الاستقلال)، ويمرون اليوم بمرحلة (التحرر).
أما المرحلة الأولى فهي المرحلة التي فُرضت عليهم فيها السيطرة الغربية بسطوة نفوذ الاحتلال، وفيها سيطر القانون الوضعي ومنهج التعليم الأجنبي ونظام الاقتصاد الغربي الربوي.
أما المرحلة الثانية فهي المرحلة التي جرت فيها محاولة الموائمة بين الفكر الغربي الوافد (وهو الفكر الرأسمالي الليبرالي الديمقراطي الغربي) وبين الفكر الإسلامي.
أما المرحلة الثالثة التي نعيشها اليوم فهي مرحلة الترشيد والأصالة أو محاولة الوصول إلى التحرر الكامل من نفوذ الفكر الأجنبي وشبهاته وتحدياته، وابتعاث الفكر الإسلامي الأصيل باعتباره هو المصدر الحقيقي لنهضة العالم الإسلامي.
وبعد أن تبين بالتجربة الواقعية التاريخية: أن محاولة اقتباس الفكر الغربي (بشطريه) لم يحقق للمسلمين والعرب النتائج التي كانوا يرجونها من إقامة المجتمع القادر على مقاومة الغزو الأجنبي.
لقد انتهت مرحلة الغزو العسكري والسياسي وبدأت مرحلة الغزو الفكري والحضاري.
وانتقل العالم الإسلامي من الخضوع للاستعمار (البريطاني والفرنسي والهولندي) الغربي إلى مواجهة نوع آخر أشد تحدياً وخطراً هو: الغزو الصهيوني الذي اتخذ من فلسطين رأس جسر في قلب الأمة العربية في محاولة لإقامة كيان بديل ووارث للاستعمار. هذا هو التحدي السياسي والاجتماعي والحضاري، وقد حمل معه تحدياً فكرياً وثقافياً يتمثل في عشرات من المذاهب والنظريات والمفاهيم والدعوات التي تطرح أمام الفكر الإسلامي منهجاً مخالفاً بل معارضاً لمنهجه الأصيل.
لقد كان المصلحون المسلمون في المرحلة الماضية يظنون أنه من الجائز الموائمة بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي، وكان رفاعة الطهطاوي ومَن بعده إلى محمد عبده يظنون أن الفكر الغربي له مصادر إسلامية وأنه انتقل إلى أوربا فتشكل كرة أخرى وأن في استطاعة المسلمين استعادته وصياغته من جديد.
غير أن الفكر الغربي الذي كان يعتمد على بعض مصادر لها طابع الدين أو المثالية أو غيرها من المفاهيم، هذا الفكر قد اختفى وحل بديلاً عنه: فكر مادي خالص يستمد مصدره الأول من المناهج القائمة على الإيمان بالمحسوس وحده وإنكار ما سواه. وبذلك باعد الفكر الغربي بينه وبين الفكر الإسلامي القائم أساساً على وحدة المعرفة الجامعة بين العقل والقلب، والروح والمادة، والعلم والدين، والدنيا والآخرة.
ويرجع هذا التحول في الفكر الغربي إلى خضوعه للفكر الصهيوني التلمودي الذي سيطر عليه بعد الثورة الفرنسية ومن قبلها أيضاً، والذي مهد عن طريق الماسونية إلى قيام أيدلوجية تلمودية استطاعت أن تحتوي الفكر الغربي بشقيه وتسيطر عليه.
ومن هنا فقد اتسعت الشقة التي كان يظن بعض مصلحينا أنها يمكن أن تقيم جسراً أو قنطرة بين الفكر الغربي وبين الفكر الإسلامي.
ولقد كشفت التجارب خلال أكثر من مائة عام أو تزيد أن كل معطيات الفكر الغربي لم تحقق للمسلمين شيئاً في مجال القوة أو البناء أو المقاومة وأنها حرمتهم من أهم موارد الحضارة ومصادرها وهي العلوم التكنيكية وأبقتهم خاضعين للغرب في مجال استيراد حاجياتهم وتصدير خاماتهم، دون أن يكونوا قادرين على استيعاب ثرواتهم ونفطهم ومقدرات حياتهم التي تذخر بها منطقة العلم الإسلامي من دون العلم كله.
وفي ظل التحديات التي واجهت المسلمين باحتضان الاستعمار للغزو الصهيوني كمرحلة أشد خطراً من الاحتلال نفسه؛ إذا أنها تمثل عملية استئصال كامل لأصحاب الأرض، وفرض نفوذ اقتصادي وفكري واجتماعي من شأنه أن يؤثر بالغ الأثر في كيان العالم الإسلامي والأمة العربية نفسها، فقد كان لابد للمسلمين والعرب أن يواجهوا الخطر عن طريق التماس منابع فكرهم وثقافتهم وعقيدتهم؛ فهي وحدها الضوء الكاشف والنور المبين الذي يهديهم إلى منطلق المقاومة والمواجهة والنهضة الحقة.
وهكذا تتميز هذه المرحلة الحاضرة بأنها مرحلة الترشيد والأصالة والتماس منابع الفكر الإسلامي الذي يستطيع أن يدفع المسلمين والعرب إلى القدرة الكاملة لمواجهة الخطر والتغلب عليه، ولا ريب أن تاريخ المسلمين حافل بمثل هذا الموقف، وقد كان المسلمون دائماً أقدر على مواجهة جائحات سبقت كالتتار والصليبيين والفرنجة عن طريق التماس منهجهم الصحيح المستمد من القرآن الكريم، والشريعة الإسلامية، والوحدة الجامعة، ذلك المنهج الذي قدمه لهم الإسلام وأقام عليه حضارتهم الباذجة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ومجتمعهم الواسع خلال أربعة عشر قرناً، ولقد كان المسلمون بمنهجهم هذا مقتدرين على المواجهة والنصر، فإذا ما تخلفوا عنه كان عدوهم أقدر على هزيمتهم والإدالة منهم.(/1)
ولا ريب أن أخطر ما يواجه العرب والمسلمين في هذه المرحلة هو: الغزو الثقافي، وحملة التشكيك وأثاره روح القنوط واليأس في القلوب والعقول.
ولن يتسرب اليأس والقنوط في نفوس المسلمين والعرب إلا من مصدر واحد: هو أنهم يصطنعون المنهج الذي فرض عليهم في مقايسات الأمور وتقدير المواقف وإصدار الأحكام: هذا المنهج الذي ركز عليه الغزو الثقافي والتغريب سنوات وسنوات؛ لكي يحله في النفوس وفي المجتمع مكان المنهج الأصيل الذي أقام عليه المسلمون حياتهم كلها، ولعل هذا هو أخطر سلاح تواجه به الأمم، أن يكون عدوها وخصمها قادراً على أن يخرجها من دائرة فكرها، لتحكم في أمورها منهجاً مغايراً لا يتصل بمزاجها النفسي ولا بذاتيتها ولا بتكوينها الاجتماعي الذي انبنى عليه كيانها منذ أربعة عشر قرناً.
ذلك أن الاستعمار والقوى الخارجية الطامعة في مصادر الثروة في عالم الإسلام، كانت تعرف أن هذه الأمة القرآنية لا يمكن أن تؤتى إلا عن طريق تزييف مفاهيمها وتشكيكها في قيمها وإحلال منهج غريب عنها في مقايسات الأمور وتقدير المواقف وإصدار الأحكام، ولقد كان الغرب والاستعمار يعلمان مدى قدرة هذه الأمة استمداداً من قيمها، على مواجهة أعدائها وعلى الصمود في وجه الغزاة، وقد شكل لها فكرها الإسلامي أسلوباً حاسماً في هذا المحال: هو أسلوب الجهاد القادر على رد العدو، والمرابطة الدائمة، والإعداد بالقوة، واليقظة الكاملة، وقد كانت منطقة العالم الإسلامي ولا تزال وستظل مطمعاً للأمم، ولذلك فقد جهزها الفكر الإسلامي بالقدرة الدائمة على الصمود والأهبة: (ود الذين كفروا لو تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة – وخذوا حذركم).
ومن هناك كان الاستعمار والغزو الأجنبي يرى من أجل إدامة سيطرته على هذه المنطقة الاستراتيجية الخطيرة، وذات الكنوز والثروات الضخمة، أن يحول هذه الأمة عن هذه القيم القادرة على المواجهة؛ حتى يخلق منها أمة مستسلمة ترضى بالهوان وتخضع للغاصب، وترى أنها داخلة في نطاق ما يسمونه الثقافة العالمية أو الوحدة العالمية أو الأممية أو غيرها من دعوات تريد أن تصهر المسلمين والعرب في أتونها وتضعهم في مجال احتوائها.
ونقطة الخطر هنا هي استسلام المسلمين والعرب لمنهج غير منهجهم المستمد من فكرهم وتراثهم وعقائدهم، ومنم هنا فإن أزمة المسلمين والعرب اليوم هي أزمة منهج، وأن أخطر التحديات التي تواجههم وفي مقدمتها الاستعمار والصهيونية هي التماس منهجهم الأصيل.
ولا ريب أن للمسلمين منهج ذاتي أصيل قائم بذاته مختلف تمام الاختلاف عن مناهج الشرق والغرب، ذلك هو المنهج الإنساني الطابع الرباني المصدر، الذي يقوم على الفطرة أساساً ويلتقي مع العقل والعلم، وأبرز مفاهيمه التوحيد والإيمان بالغيب والمسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي، والإيمان بالجزاء واليوم الآخر، وهذا المفهوم في مجموعه كل متكامل، فالإسلام يقوم في رسالته على أساس الترابط بين القيم، ولما كانت رسالته موجهة إلى الإنسان الذي استُخلف في الأرض، ولما كان هذا الإنسان جسم ونفس وعقل وقلب ومادة وروح، فإن المنهج هو جامع كذلك لا تنفصل فيه القيم ولا تنفصل عنده العوالم، فهو أيضاً يجمع بين عالم الغيب وعالم الشهادة.
هذا المنهج هو "السر الحقيقي" وراء المعجزة الكبرى التي أقامت الدولة الإسلامية من الصين إلى فرنسا في أقل من سبعين عاماً؛ لأنه التقى بالفطرة والنفس الإنسانية والعقل الإنساني دون تعارض أو اضطراب.
ومن هنا، وعلى قدر خطر هذا المنهج وأثره في بناء الأمة الإسلامية كانت الحملة عليه وكانت المحاولة الضارية لإثارة الشبهات حوله ومحاولة تدميره وتفتيته وإحلال مفهوم آخر بديل له في نفوس المسلمين وعقولهم عن طريق الفلسفات والمناهج والأيدلوجيات الوافدة.
ومن هنا فقد أقامت القوى الاستعمارية مخططاً للغزو الفكري والثقافي وضعاً بهدف السيطرة على النفس الإسلامية والعقل الإسلامي كمقدمة لإخضاع العالم كله اجتماعياً وحضارياً وكأسلوب لاحتواء الأمة وإدخالها في بوتقة النفوذ الأممي بحيث لا تكون من بعد قادرة على الانبعاث من قيمها ومقوماتها الأساسية.
ولقد بدأ هذا المخطط من وقت مبكر عن طريق التبشير والاستشراق ومدارس الإرساليات وبعض الصحف والمناهج التعليمية والثقافية التي فرضها الاستعمار على العالم الإسلامي.
تضاعف الخطر بعد أن برزت الصهيونية كعنصر جديد له محاولاته الخاصة في تزييف التاريخ وتوهين النفس العربية من أجل إحكام السيطرة ومن ثم تضاعف المخطط وتوسعت أهدافه وبدأت محاولاته تلبس أثواباً جديدة وتبرز في قوالب ذات طابع علمي براق وتخفي من وراءها السم الزعاف بعد أن استطاعت مخططات الغزو الصهيونية السيطرة على الفكر الغربي نفسه وانتزاعه من مجال الدين والأخلاق والحملة عليهما على أساس المذهب المادي الوثني.(/2)
ومن هنا فقد برزت دعوات وعلوم جديدة تحمل طابع المنهج العلمي وهب تخفي من وراءها سموم التلمود وأهدافه في تدمير مقومات الأمم وابتلاعها.
من أبرز هذه الدعوات والمخططات والمذاهب:
أولاً: الدعوة إلى هدم الأديان عن طريق علم الأديان المقارن والقول بأن الأمم بدأت وثنية ثم عرفت التوحيد بعد ذلك.
وهو قول معارض للحقيقة التي جاءت بها الكتب المنزلة والتي تثبتها كل الدلائل التاريخية والكشوف الأثرية، والحقيقة أن البشرية بدأت موحدة وأن آدم أبو البشر كان نبياً وكان موحِداً.
ثانياً: الدعوة إلى هدم الأخلاق عن طريق مذاهب الوجودية والفرويدية وهدم الأسرة عن طريق مذاهب دوركابم وليفي بريل.
وتحاول هذه المذاهب أن تشكك في ثبات القيم الأخلاقية وارتباطها بالإنسان والدعوة إلى أخلاق متطورة تختلف باختلاف البيئات والعصور.
ثالثاً: الدعوة إلى التماس مفهوم واحد للتاريخ: هو التفسير المادي الذي طرحة إنجلز وماركس، وهو مفهوم ناقص؛ لأنه يتجاهل عوامل كثيرة أخرى لها أثرها في توجيه التاريخ.
رابعاً: الدعوة إلى إثارة العصبية والعنصرية وإعلاء الأجناس البيضاء وذلك في محاولة لفرض النفوذ الاستعماري الغربي على الأمم الملونة والقول بوصاية –زائفة- للجنس الأبيض على العالم والبشرية.
خامساً: محاولة إخراج اللغة العربية من مفهومها الذي تختلف به عن اللغات بوصفها لغة القرآن، وفرض مناهج في علم اللغات للتحكم فيها وتصويرها بأنها لغة قومية فحسب، أي لغة أمة، وإذا كان هذا كقانون لكل لغات العالم فإنه يعجز في إقرار ذلك بالنسبة إلى اللغة العربية؛ لأنها إلى جانب أنها لغة أمة فهي لغة فكر وثقافة وحضارة ودين وأنها تتصل بسبعمائة مليون من المسلمين (بالإضافة إلى أهلها العرب)، وهدف الحملة على اللغة العربية هو خلق عامية تقضي على لغة القرآن وتمزق الأمة والفكر جميعاً.
سادساً: الدعوة إلى إحياء الحضارات التي سبقت الإسلام، وإعادة عرض الوثنيات والفلسفات والخرافات والأوهام.
وتلك محاولة ماكرة مضللة ولكنها فاسدة؛ فقد استطاع الإسلام في خلال أربعة عشر قرناً أن يقيم منهجاً عقلياً وروحياً وأن ينشئ مزاجاً نفسياً وذوقاً خالصاً مرتبطاً بالتوحيد والقرآن ومتصلاً بأسباب الإيمان بالله له ضوءه الباهر الذي لا تستطيع هذه الظلمات أن تقهره.
سابعاً: الدعوة إلى ما يسمى الأدب العربي المعاصر، والفكر العربي المعاصر والثقافة العربية المعاصرة، على أن تبدأ هذه الدراسات منذ حملة نابليون وربطها بالإرساليات والنفوذ الأجنبي كأنما هي من معطياته، وهي محاولة ماكرة إلى اجتثاث الفكر عن أصوله والفصل بين حاضر العرب والمسلمين وبين ماضيهم وخلق ثقافة "لقيطة" لا جذور لها، بل إن هناك محاولة مضللة تهدف إلى الحيلولة دون ربط الأدب أو الفكر أو الثقافة بتاريخها القديم وماضيها العريق.
من الحق أن يقال أن اليقظة المعاصرة في الفكر والأدب والثقافة جميعاً بدأت من دائرة القرآن وأن جميع الحركات الوطنية والقومية إنما استمدت قوتها من مصادر الإسلام وأنه لا سبيل إلى بناء أدب حديث أو فكر أو ثقافة منفصلاً عن اللغة العربية والإسلام.
ثامناً: محاولة الإدعاء بأن منطقة البحر الأبيض المتوسط شهدت حضارة واحدة هي التي بدأها الفراعنة والفينيقيون، ونماها الإغريق والرومان، ثم أتمها الأوربيون المعاصرون (وأن دور العرب في هذه الحضارة كان دوراً ثانوياً).
والحقيقة أن هناك حضارتان لكل منهما طابعه المميز هما: حضارة التوحيد وحضارة الوثنية.
وأن الإسلام هو صانع الحضارة التي اتسمت بهذا المفهوم في مواجهة حضارات بدأت بمفاهيم الوثنية وانتهت بمفاهيم المادية وكانت في مختلف مراحلها معارضة للحق والعدل والرحمة والأخلاق، فكانت تضرب واحدة بعد أخرى وتسقط؛ لأنها تعارض سنن الله في الكون.
تاسعاً: محاولة إلقاء بذور الشبهات حول صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في العصر الحديث والإدعاء بأنها شريعة صحراوية، موقوتة بعصرها وبيئتها، وكل الدلائل العلمية والتاريخية تكذب هذا الإدعاء وأقربها مؤتمرات القانون الدولي 1931، 1937، 1952 وكلها إشارات إلى أن الشريعة الإسلامية شريعة مستقلة لها كيانها الخاص وأنها تحمل منهجاً إنسانياً لم تصل إليها البشرية بعد وتجري المحاولة التي يفرضها النفوذ الغربي بالدعوة إلى ما يسمى تطوير الشريعة ووضعها موضع الاحتواء من القانون الوضعي، ولقد كان من أعظم المعطيات التي حققتها الأمة العربية أنها اتخذت من التشريع الإسلامي مصدراً أساسياً للقانون، ونصت على ذلك في دساتيرها وميثاق الوحدة.(/3)
عاشراً: استطاعت القوى الاستعمارية فرض نظام الاقتصاد الغربي على أغلب أجزاء العالم الإسلامي، وهو نظام قائم على أساس الربا ومعارض أصلاً لمنهج الشريعة الإسلامية، ولقد قامت في الأمة العربية محاولات علمية تؤيدها الجهات الرسمية إلى بحث إقامة مصرف إسلامي علمي على غير أساس الربا والعمل على وضع نظام تحرير المسلمين من قيود النظام الاقتصادي الوافد.
حادي عشر: كان من أخطر محاولات النفوذ الاستعماري إيجاد تضارب بين العروبة والإسلام ومحاولة إقامة مفهوم العروبة على أساس النظريات الوافدة والقوميات الأوربية، ولقد تنبه المفكرون العرب والمسلمون إلى هذا التحدي الخطير وكشفوا عن الرابطة العميقة بين العروبة والإسلام، وأشاروا إلى أن الإسلام هو الذي شكل مفهوم العروبة الحق، وأن العرب قبل الإسلام كانوا يؤمنون بالقبلية وأن الإسلام هو الذي شكلهم كأمة ودفعهم إلى الآفاق وكتب لهم أعظم صفحات تاريخهم.
والعروبة ليست عنصرية؛ وإنما هي قيمة ذاتية في مواجهة الخطر الصهيوني، ولكنها مفتوحة بالثقافة والفكر والعقيدة على العالم الإسلامي كله وملتقية معه.
ثاني عشر: تحريف الحقائق بالمبالغة أو الانتقاص كالإدعاء بأن المسلمين لا يتجاوزون الآن 500 مليون، بينما تقرر الإحصائيات المتواضعة أنهم يزيدون على سبعمائة مليون، وقد يصلون إلى ألف مليون، وكما نجد في كتب التاريخ من محاولات لتصوير البلاد العربية بصورة مصغرة أو مهينة أو إثارة الشبهات حول مقدراتها وثرواتها، أو الإدعاء بأنها منقسمة إلى مذاهب ونِحَل تتعارض أو تختلف أو تحول دون قيام وحدة فكر عامة، بينما الحقيقة غير ذلك؛ وأن الخلافات المذهبية الإسلامية هي خلافات في الفروع، أما القيم الأساسية فإنها واحدة بين جميع المسلمين.
ومن هنا فإن علينا أن ننظر في الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي.
في مجال اللغة العربية:
كذلك جرت المحاولات حول اللغة العربية وإثارة الشبهات حول مكانها ودورها الحقيقي في مجال الفكر الإسلامي وكانت المحاولة تعمل على مقارنة اللغة العربية باللغة اللاتينية، وتقول:
إنه ما دامت اللاتينية قد ماتت ودخلت المتحف فلماذا لا تموت اللغة العربية وتتفرع عنها لغات إقليمية. والحق أن وجه المقارنة غير صحيح وغير صادق؛ فقد انتهت اللغة اللاتينية وتحولت لهجاتها إلى لغات، وليس كذلك ما يحدث بالنسبة للغة العربية التي ما زال القرآن يظاهرها ويجعلها ما كتبت منذ أربعة عشر قرناً مقروءاً إلى اليوم، بينما لم يحدث ذلك مطلقاً لأي لغة من اللغات الحية، التي تتغير كل ثلاثة قرون، فامرؤ القيس السابق للإسلام نقرأه نحن الآن ونفهمه بعد أكثر من 1500 سنة، بينما شكسبير لا يفهمه الإنجليز وقد مضى عليه ثلاثمائة عام تقريباً، وهذه الظاهرة في اللغة العربية تجعلها لا تخضع لعلم اللغات الذي يحاول أن يحكم على كل اللغات بظواهر عامة مشتركة. ومن تميز اللغة العربية أيضاً أنها ليست لغة أمة كما يحدث للغات جميعاً؛ ولكنها إلى ذلك لغة فكر وثقافة وعقيدة لسبعمائة مليون مسلم، العرب بينهم مائة مليون على الأكثر، ومن هنا تنكشف فوارق كثيرة بين اللغة العربية لغة القرآن وبين اللغات القديمة كاللاتينية واللغات العامة.
وقد كانت اللغة العربية بطبيعة تركيبها وتميزها بالقدرة على الاشتقاق والتوالد عاملاً هاماً في مكانتها، وقد وصفها أرنست رينان بأنها خلافاً لكل اللغات ظهرت فجأة في غاية الكمال، غنية أي غنى بحيث لم يدخل عليها حتى يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة وأنها ظهرت منذ أول أمرها تامة مستحكمة.
ولقد مضى الإسلام يشق طريقه ومضت معه اللغة العربية، وكان حقاً عليها أن تصل إلى كل مكان وصل إليه، ولكن الاستعمار استطاع منذ أكثر من قرنين أن يوقف نموها ويحول بينهما وبين الحركة، وخاصة في ماليزيا وإندونيسيا وشرق أفريقيا وغربها، وإعلاء شأن اللغات الأجنبية واللغات الإقليمية، ولكنها سوف تستطيع بعد أن تتحرر الأمم من نفوذه الثقافي أن تعاود توسعها فتصل إلى كل مكان فيه مسلم، ليس بوصفها لغة فكر وعبادة فحسب، ولكن على أنها لغة حديث وكتابة وتعامل بإذن الله.
ومن خلال هذا الفهم الصحيح لوضعية اللغة العربية بين اللغات يمكننا أن نواجه كل ما يقال عن تطوير اللغة أو تمصير اللغة أو إعلاء شأن العاميات والإدعاء بأنها لغة خاصة ملك لأصحابها ونفهم أنها كلها محاولات تستهدف:
أولاً: عزل العرب عن الوحدة الكاملة بينهم.
ثانياً: عزل المسلمين عن العرب.
ثالثاً: عزل المسلمين والعرب عن مستوى البيان في القرآن الكريم.(/4)
ولا ريب أن اللغة العربية جديرة بأن تلتقي دائماً في مستوى بيان القرآن وأن يرتفع الناس إليها، ولا ريب أن الدعوة إلى إقامة لغة وسطى بين الفصحى والعامية هي إحدى محاولات الغزو الفكري، وليس لها هدف إلا إنزال اللغة العربية درجة عن كيانها الذي يرتبط ببلاغة القرآن وبذلك تنهدم ركيزة من ركائز الإسلام، وهي حجب المسلمين عن فهم القرآن واستيعابه وهو أمر خطير وهام ويحتاج إلى دوام المحافظة على بلاغة اللغة وروحها؛ فاللغة أساساً هي فكر الأمة، والعربية الفصحى مرتبطة بذاتية الإسلام ومزاجه النفسي والاجتماعي.
في مجال النهضة:
تُثار في مجال النهضة شبهات منها القول بأن الحضارة الغربية تؤخذ كلها (وقد بينا ذلك) ومنها القول بوحدة الثقافة، أو الثقافة العالمية، ذلك أن لكل أمة ثقافتها الخاصة التي تستمدها من مقومات وجودها وعقائدها، فالمعرفة عالمية والعلم عالمي والحضارة عالمية، ولكن الثقافة لا تكون عالمية بحال، وللعرب والمسلمين ثقافتهم المستمدة من القرآن واللغة العربية ولهم تلك الذاتية الخاصة المتميزة المستمدة من التوحيد، ولا ريب أننا في هذا الوقت بالذات إذا قبلنا بالثقافة العالمية فإن دورنا سيكون دور التابع الذليل الخاضع للكيان الضخم الذي تفرضه الثقافة العربية على العالم كله، وهو دور لا نقبله ولا نرضاه؛ لأنه سيقضي على مقوماتنا الخاصة والذاتية، ولقد تقبله أمم ليس لها تاريخ ولا حضارة، أما المسلمون الذين سيطروا بفكرهم وثقافتهم على العالم كله ألف سنة كاملة لا ينازعهم منازع، فإنه من الخزي لهم أن يستوعبوا أو يكونوا تابعين أو يوضعوا في مجال الاحتواء والانصهار.
لقد طرحت الصهيونية العالمية شعار الثقافة كهدف من أهدافها الرامية إلى تدمير ثقافات الأمم وتحطيمها من داخلها وفرض تلك التطورات الفلسفية التي دمرت الفكر الغربي واستوعبته، كالوجودية والفرويدية والماركسية والهيبية.
وهناك فيما يتصل بهذه الدعوة إلى تجزئة الفكر الإسلام ما يستهدف إثارة فكرة "السلام": ونبذ الحروب، والمقاومة السلبية وما إلى ذلك من أفكار نسبت إلى تولستوي وغاندي، وحاول بعض الدعاة ردها إلى الأديان.
والإسلام لا يعرف إلا منهجاً كاملاً فيه السلام وفيه الجهاد، وباب الجهاد والقتال من أكبر أبواب الشريعة الإسلامية وهو دعامة أساسية في إقامة السلام.
ولقد حرص الاستعمار الغربي ولاسيما البريطاني في الهند أن يفرض مفاهيم تحملها جماعات مضللة تصور الإسلام بصورة السلام القائم على الجبن والاستسلام للغاصب وكذلك تمكن الاستعمار الفرنسي في الجزائر وغيرها أن ينحي من دراسات الإسلام باب الجهاد؛ وذلك إيماناً من المستعمرين بأن أخطر صفحة تواجههم في الإسلام هي صفحة الجهاد التي كانت وستظل القوة الحقيقية للمقاومة والدفاع عن النفس، وحتى في السلم تكون استعداداً وتأهباً وحماية للثغور وإثارة الرهبة في نفوس العدو: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).
ولقد بلغ الأمر ببعض الكتاب العرب أن يتابعوا المستشرقين فيما يصورونه من تفرقة بين الإسلام في مكة والإسلام في المدينة وبين آيات القرآن المكي الداعية إلى الترقب والتأهب وبين آيات المدينة التي تحرض المسلمين على القتال. والواقع أنه لا فارق مطلقاً بين مرحلتين من دعوة واحدة يتكاملان، ذلك أن مناهج الدعوات لابد أن تمر بمرحلة بناء الرجال وإعدادهم، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة إقامة الدولة على نفس المنهج الأصيل، والإسلام متكامل ولكن الفكر الغربي الذي يحاول أن يحاكمه لا يؤمن بالتكامل وتفترسه الانشطارية، بالإضافة إلى التعصب وتغليب الهوى على جميع الأبحاث والدراسات التي تتصل بالإسلام.
ومن عجب أن لا يدعو الإسلام إلى الحرب والقتال؛ وإنما يدعو إلى السلام (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)، ولكنه يفرض الحرب في حالة الاضطرار القصوى، ثم لا يلبث أن يوقفها في حسم إذا قبل خصمه الصلح: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله).
وهناك شبهة أخرى تبطل بهذا المجال هي شبهة الانفصال عن الماضي.
فلا يزال الغربيون يرددون القول ولا يملون مطالبين المسلمين بأن ينفصلوا عن ماضيهم كلية ويرون ذلك هو سبيل القوة، وهم في هذا مضلون: (وإن تطع أكثر مَن في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، ولو كان هذا منهجاً صحيحاً مع كل الناس فلن يكون صحيحاً مع المسلمين الذين لهم منهجهم الرباني الماضي الذي هداهم دوماً وكانت هزيمتهم كلما انفصلوا عنه، والأوربيون الناصحون لم يفعلوا في نهضتهم ما ينصحوننا به، فنحن يطلب إلينا الانفصال عن الماضي والماضي متصل خلال أربعة عشر قرناً لم يتوقف اتصاله واستمراره، ونحن ندعى للانفصال عنه وأوربا تعود إلى الماضي وتتبعه من جديد بعد أن انفصلت عنه ألف سنة كاملة، تعود لتربط نفسها بالفكر اليوناني والحضارة الرومانية التي سقطت عام 450م وبدأت النهضة عام 1400 تقريباً.(/5)
والحق أنها دعوة ظالمة ولن تتحقق ولن يقبلها المسلمون والعرب ولن يستطيعوا ذلك لو قبلوا بها، ويقول هاملتون جب في نص له: "إنه ليس في وسع العرب أن يتحرروا من ماضيهم الحافل وسيظل الإسلام أهم صفحة في هذا السجل".
في مجال وحدة الفكر الإسلامي وتكامله:
وكذلك جرت إثارة الشبهات حول وحدة الإسلام ووحدة الفكر الإسلامي. وفي هذا المجال ترددت الدعوى القائلة بأن الإسلام دين: بالمعنى اللاهوتي المعروف في الغرب، وهم في هذا ينقضون الإسلام في أكبر مقوماته؛ فالإسلام دين ونظام مجتمع ومنهج حياة، فإذا فصلت منه الجانب الاجتماعي وقصرته على جانب العقيدة أو العبادة وحده كان ذلك تحريفاً خطيراً لمضامينه وأسسه، ويمكن القول أن الغرب يعرف ذلك ولكنه ينكره من ناحيتين: من ناحية أنه يريد ان يجعل الإسلام خاضعاً لنظرية الفكر الغربي التي تفصل بين الدين والمجتمع وبين الأخلاق والمجتمع. وبين التطلع إلى أن يفقد الإسلام أقوى مقوماته فينهار ويصبح مركباً ذلولاً للحضارة الغربية والاستعمار. والواقع أن الغرب يخشى الإسلام في مفهومه الصحيح؛ لأنه يحول دون نفوذه وسيطرته ويدفع المسلمين إلى مقاومته وتحرير أرضهم منه.
وهذا هو لب التغريب فإذا وصل إلى إقناع المسلمين بأن الإسلام دين لاهوتي فحسب، انفتح الطريق أمام الغزو المادي في مجال الفكر وأمكن إخضاع المسلمين للأيدلوجيات والفلسفات والمذاهب الاجتماعية المختلفة، مما يؤدي إلى تدمير مختلف القيم الأخلاقية والنفسية والروحية التي بناها الإسلام في المسلمين، وبذلك يصبح الفكر الإسلامي صورة هزيلة من الفكر الغربي الذي يمر الآن بأقسى مراحل أزماته واضطرابه بعد أن سقط صريعاً في براثن التلمودية الصهيونية.
وفي الفكر الإسلامي المستمد من الإسلام يقوم منهج تكامل قطاعات الفكر في نسق واحد، فالاجتماع والسياسة والأدب والتربية والاقتصاد هذه وحدات وأجزاء وعناصر من شئ واحد هو الإسلام، وإذا كان الفكر الغربي يجري على الفصل بين العناصر والوحدات والأجزاء فإن الفكر الإسلامي لا يقر هذا الفصل ويرى فيه تدميراً للشخصية الإنسانية وللمجتمع نفسه، يرى فيه قصوراً في النظرة بإعلاء عنصر على عنصر. وفي العصر الحديث يعلو عنصر المادة ويكاد يسيطر على العناصر الأخرى فيصل إلى درجة تشبه درجة القداسة، وكذلك فيما يتصل بالعقل والعلم، أما الإسلام فلا يرى المادة والروح إلا متكاملين، وما العقل والقلب إلا عينان في وجه واحد، والدنيا والآخرة إلا متصلين صلة جذرية، فالحياة كلها تدور حول رسالة وتتصل بإنسان له مسئوليته الفردية إزاء عمله وجزاءه على هذا العمل، وإنسان متصل بمجتمع متفاعل معه، وإنسان له قلب وعقل وروح وجسد لا انفصال بينها.
ومن هذه الوحدة القائمة بين العناصر في الفكر والحياة في الإسلام، والالتقاء بين الأجزاء لا نجد قضية للخلاف بين العلم والدين ولا بين الدين والضمير.
ذلك أن بعض المحاولات جرت لفصل بين الدين والضمير، والقول بأن العمل الأخلاقي يمكن أن يتخذ طريقه دون أن يكون صاحبه عاملاً بأوامر الدين، وتلك دعوة تتردد اليوم بين المسلمين: يقول أحدهم: أنا أفعل الخير ولكني لا أصلي.
والواقع أن الإسلام بحكم أنه منهج متكامل ونظام شامل لا يقر هذا، ولابد لأي عمل أخلاقي أن يتحرك في إطار العقيدة نفسها.
ولابد أن ينبعث من الإيمان بالله أساساً وأن يكون في منزلة الصلاة تماماً، والشبهة هنا هي أن الغربيين حين أرادوا الخروج من الدين وضع فلاسفتهم مناهج أخلاقية حاولوا أن يقولوا أن الناس في حاجة إلى الأخلاق وأن الأخلاق تقوم على فكرة الواجب وأن الناس تستطيع أن تقدم المعونة والمساعدة والإحسان والبر دون أن يكون لذلك صلة بدين ما. ولكن هذا المفهوم لا يقره الإسلام ولا قيمة لأي عمل أخلاقي لا يرتبط بالتوحيد والإيمان الكامل بالإسلام كله. وقد حذر القرآن تحذيراً شديداً من الإيمان ببعض الكتاب، ولا ريب أن هذا المنهج الأخلاقي حين انفصل عن الدين في الغرب لم يلبث طويلاً حتى ضربته حركة الاحتواء التلمودية فظهر منهج المدرسة الاجتماعية الذي حطم مفهوم الأخلاق نهائياً.
أما الإسلام فإن الأخلاق فيه تقوم على أساس الثبات أولاً وتتصل بالعقيدة، فالأخلاق في مفهوم الإسلام تطبيقية وليست نظرية كما هي في الفلسفة اليونانية، وليست أخلاق سعادة؛ ولكنها أخلاق تقوى، لقد كانت الأخلاق اليونانية نظرية خالصة منفصلة عن واقع الحياة، وكانت الفلسفات الهندية والمجوسية منعزلة عن المجتمع، وكلاهما لا يعترف بواقع الحياة، أما مفهوم المجال محاولة لوصف الفكر الإسلامي بالفكر الديني وهو قول ينبع من الانشطارية الغربية، ذلك أن الإسلام لا يفضل الدين عن الأدب أو اللغة أو التشريع أو الاقتصاد أو الاجتماع، والدين هنا بمعنى توجيه العمل لله وأخلاقية العمل ومراقبة الله فيه وتحريره من الهوى والغرض.(/6)
وفي ضوء ما ذكرنا ليس هناك فكر ديني، أو لغة دينية على النحو الذي يفهمه الغربي الذي يفصل بين المفاهيم.
وهكذا تختلف نظرة الفكر الإسلامي عن نظرة الفكر الغربي في أمور كثيرة: وفي مقدمتها البطولة وتقديرها والاحتفاء بها، فالإسلام لا ينظر إلى البطل أو العظيم بقدر ما ينظر إلى عمل البطل، ولذلك فهو حين يحتفي بالبطل يعيد الذكر والتقدير لعمله ويدعو إلى الانتفاع به، وهذا هو السر الحقيقي وراء انصراف الإسلام عن الصور والتماثيل كوسائل لتكريم الأبطال.
ذلك أن تلك الأسماء الكثيرة التي تتردد في الغرب على أنها آلهة وأنصاف آلهة، مما اورده اليونان والرومان وغيرهم، لم تكن في الأصل إلا أبطالاً أعجبت بهم أممهم وتعلقت بهم ثم شاءت بعد ذلك أن ترفعهم من مقامهم الإنساني إلى مقام الآلهة. ثم هي لم تلبث أن انصرفت عن مفهوم التقدير العملي لعمل البطل إلى عبادة البطل نفسه، وبذلك نشأت عبادة جديدة صرفت الناس عن عبادة الله الواحد الأحد، وقد أصبحت عبادة الأبطال وعبادة الجمال وتأليه البطل عبادات تتفق مع طبيعة النفس الغربية التي استمدت مفاهيمها في العصر الحديث من الوثنية اليونانية.
ومن هنا فقد حرص الإسلام على تحرير أهله من عبادة الفرد أو عبادة شئ ما، إلا الله سبحانه وتعالى، ومن هنا كان حرص القرآن على أن يصف أعظم شخصية في المسلمين وهو محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ إنما إلهكم إله واحد)، فالنبي بشر مؤيد بالوحي، يعيش ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويموت أيضاً، أما الله سبحانه وتعالى فإنه الحي الذي لا يموت. ومن هنا حفظ الإسلام مفهوم البطولة عن الانحراف إلى عبادة الفرد وحفظ عبادة الله من الوثنية والشرك. لقد رفع الإسلام عن الفكر البشري القيود وحرر العقل البشري من الأصفاد. ولم يجعل للأحجار والتماثيل والأصنام مكاناً في إيمانه القائم على التوحيد الخالص.(/7)
الشجر .. المأسور
شعر: داود معلا
عيناك مالي أناديها .. iiفتعتذر
حيرانة أم بقايا الصمت iiتمنعها
أشكو إليها فتغضي وهي iiصارخة
قد همت فيها فتلاقيت الهوى iiعجلاً
قولي لهدبك أن يرقى .. فما iiلبثت
عيناك يا قدس شيء ثم iiيجتذبني
هات اعطني ساعة أنسل من iiظمئي
أغوص فيها إلى الدنيا iiفأجمعها
يا زهرة الشرق في أعطافها سرر
ردي إلي حكاياتي فلا بقيت ii..
.. قد كان هدبك قنديلاً يضيء iiلنا
كأنه حينما يومي iiبطرفته
* * *
وهكذا أنت لا شيء يغيرني
أماه هل غضبت عيناك من iiغزلي
شردت وهو شرود الابن حن iiإلى
يا قدس .. كان سوار السور iiملعبنا
فأين يا قدس أهلونا .. iiوساحتنا
لكن جرحك لا يغفو النزيف به
فأنت فينا وفي أطفالنا iiأبداً
فمن زرعت بهم حب الرسول iiوحب
أطفال أمسك مازالت iiسواعدهم
تنتفض أعينهم شوقاً iiلساحته
تميل حول شعاع الشمس iiأعظمهم
تشتد .. فهي على الإيمان iiثابتة
إن تسأل النصر عنهم فهو iiصاحبهم
* * *
يا قدس لا تعتبي إن طار بي iiقلمي
ماذا أرى وهمومي فيك تدفعني
من ذا يصدق أن الليل iiيكرهنا
ونحن كنا حماة الأرض ما iiرفعت
عقيدة هي ماضينا iiوحاضرنا
فما على حلم الماضي جحافلنا iiتنام
* * *
قولوا لمن زرعوا صحراءنا iiلهباً
تعلقوا بحبال الكفر ظنهموا
لا .. والذي هزم الأحزاب iiثم
لا عزة لسوى الإسلام iiراغمة
فنحن والله أصحاب الجهاد iiوفي
وإن أطفالنا كالشهب iiثاقبة
يموت قبل وصول الموت ظالمنا
فأي أرض نرى فيها iiأصابعهم
ذي جولة وعلى التاريخ خاتمنا
* * *
أجدادنا شهداء الأمس iiتتبعهم
هذا المكبر والجرح الكبير iiلظى
ستلتقي حول نار النهر iiأذرعنا
حتى نرى راية الإيمان iiتجمعنا ... تومي إلي حياءً ثم iiتستتر
من أن تبوح وفي أجفانها iiالسهر
في صمتها .. وشموع الليل iiتحتضر
نشوان يحذف من همسي ويختصر
عيناي تسأل في سري iiوتنتظر
فيها فتغرقني .. أهدابها iiالسمر
في غورها فتلاقيني بها iiالدرر
وأصعد القمة الكبرى iiوأنحدر
من النعيم وطابت تلكم iiالسرر
من بعدها ساعة يحظى بها iiالعمر
درب اللقاء .. فكيف النور iiينحسر
سيل من الظل فوق النور iiينهمر
* * *
عما أراك به لا الدهر لا iiالعصر
هل تغفرين إذا ما جئت iiأعتذر
عهد الطفولة هو الطفل iiوالبشر..
وكان فيه يموت الخوف والحذر
غاب اللقاء .. فلا ركب ولا iiسفر
مازال حول ضفاف النهر iiينتظر
وهل يخالف قلب الغيمة iiالمطر
الأرض تحمله الآيات iiوالسور
تمتد نحو ذرى الأقصى وقد iiكبروا
وتبرق النار فيها كلما نظروا
وتستوي في صلاة الليل إن iiسهروا
تعتد .. فهي بسيف الله iiتعتمر
أو تسأل الموت عنهم فهو iiيأتزر
* * *
إلى خيال توالت حوله iiالصور
إلى الجنون .. وأين السمع iiوالبصر
وأن شمس ضحانا كلها iiحفر
يد علينا العصا إلا iiوننتصر
وساعد هو فينا الصارم iiالذكر
بل حاضر .. يصفو iiويعتكر
* * *
والنار من دمنا تغلي وتستعر
أن العزيز الذي بالكفر iiينتصر
تلاها الروم .. والفرس .. والإفرنج والتتر
أنوف من بدلوا عهداً ومن iiغدروا
ظهورنا تلتقي الآساد iiوالنمر
وملء أصلابنا جيش iiومدخر
رعباً ويسقط منه السمع iiوالبصر
تشوى على الجمر والمخزية iiالحمر
يراه من أقبلوا منهم ومن iiدبروا
* * *
أحفادهم .. أفينجو الكافر iiالبطر
يقول هذا دم الأحفاد يا iiعمر
وسوف يقفز من أقدارنا iiالقدر
وينطق الشجر المأسور والحجر(/1)
الشخصية المؤثرة
الكاتب: الشيخ د.علي بن عمر بادحدح
إن نجاح الداعية مرتبط بقدرته التأثيرية في المدعوين،ولا شك أن التأثير لا يأتي عفواً ولا عرضاً،كما أنه قطعاً لا يفرض فرضاً ، بل هو مرتبط بمؤهلات ومواصفات لابد للداعية منها لتكون له شخصيته المؤثرة ومنها :
1- التميز الإيماني والتفوق الروحاني ، الذي يكون الداعية به عظيم الإيمان بالله ، شديد الخوف منه ، صادق التوكل عليه ، دائم المراقبة له ، كثير الإنابة إليه ، لسانه رطب بذكر الله ، وعقله مفكر في ملكوت الله ، وقلبه مستحضر للقاء الله ، مجتهد في الطاعات ، مسابق إلى الخيرات ، صواّم بالنهار قواّم بالليل - مع تحري الإخلاص التام وحسن الظن بالله - ، وهذا عنوان الفرح وسمت الصلاح ومفتاح النجاح ، إذ هو تحقيق لمعنى العبودية الخالصة لله ، وهي التي تجلب التوفيق من الله فإذا بالداعية مسدد.. أن عمل أجاد ، وأن حكم أصاب ، وأن تكلم أفاد.. ومثل هذا ينطبق عليه وصف السلف بأنه " من تذكرك بالله رؤيته ".
2- الزاد العلمي والرصيد الثقافي ، حتى يجد الناس عند الداعية إجابة التساؤلات ، وحلول المشكلات ، إضافة إلى أن ذلك هو العدة التي بها يعلّم الداعية الناس أحكام الشرع ، ويبصرهم بحقائق الواقع ، وبه أيضاً يكون الداعية قادر على الإقناع ، وتفنيد الشبهات ، متقناً في العرض ومبدعاً في التوعية والتوجيه.
3- رجاحة العقل وحسن التدبير ، فلا سذاجة تضيع بها معاني القيادة ، ولا غضب يشوه صورة القدوة ، ولا طيش ولا خفة تطمس معالم الهيبة ، وللداعية في الأوزاعي مثل يحتذى عندما بين ضريبة القدوة بقوله : " كنا نضحك ونمزح. ولما صرنا يقتذى بنا خشينا أن لا يسعنا التبسم " فلابد للداعية من الاتزان والهيبة ، وأن يكون صاحب عقل يرجح إذا اختلفت الآراء ، ويحلل ويدلل إذا فقد الإدراك وغاب التصور ، ويتقن به ترتيب الأولويات ، واختيار الأوقات ، واستغلال الفرص والمناسبات وحسن التخلص من المشكلات ، والقدرة على التكيف مع الأزمات.
4- رحابة الصدر وسعة الخلق وذلك ليستوعب الداعية من حوله من الناس ، فإنه كما أثر " لن تسعوا بأموالكم ولكن تسعوهم بأخلاقكم ".
وللناس مطالب كثيرة ، وتساؤلات عديدة ، تحتاج من الداعية إلى الاحتمال ، لأن الاحتمال – كما قيل – قبر المعايب ، ولأن سعة الأخلاق رابط للناس ، ومؤثر فيهم ، فهذا رجل جاء إلى أبي إسحاق الشيرازي فجالسه ثم قال : " .. فشاهدت من حسن أخلاقه ولطافته وزهده ، ما حبب إلى لزوم صحبته فصحبته إلى أن مات ".
والناس يلتفون حول من يعين محتاجهم ، ويغيث ملهوفهم ، ويتفقد غائبهم ، ويؤثروهم على نفسه ، ويفيض عليهم من حبه ، ويقوي صلته بهم بالأخوة ، ويعمق الامتنان بالإحسان.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم **** فطالما استعبد الإنسان إحسان
5- الجرأة الواعية والثبات الراسخ ، فالناس في الملمات يحجمون ، وتتقدم بالداعية جرأته في الحق مصحوبة بحكمته في التصرف ، فإذا هو المقدم الذي تشخص إليه الأبصار ، وتتعلق به القلوب ، ويصفه الناس بالشجاعة والإقدام ، وعند المصائب يتخاذل البعض ، ويتخلف آخرون ، ويتلون فريق ثالث ، ويبقى الداعية كالطود الشامخ ، وحسبك في ذلك موقف الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في يوم حنين . ثبت فكان بؤرة التجمع ونقطة الانطلاق نحو الانتصار.
6- الاستمرار والابتكار ، فالعمل المنقطع يتبدد أثره ، والعمل المتكرر يبعث الملل ويفقد الحماس ، وتنويع الأساليب باعث على التشويق ، ودليل على الإثراء وكثرة العطاء .
هذه بعض الملامح ، فهل يعي الدعاة أن الضعف في التأثير والتغيير يكون في بعض الأحيان عائداً إلى قصورهم ، وعدم استكمالهم لمعالم الشخصية المؤثرة !(/1)
الشخصية المحبوبة عند الله
د. خالد بن سعود الحليبي 2/11/1425
14/12/2004
إذا أردنا أن نصل إلى تحقيق النجاح في حياتنا كلها، فإننا ينبغي أن نفكر جيداً في المحضن الأول لهذا النجاح؛ وهو هذه النفس التي نحملها بين جوانحنا، فهي التي سوف تتحمل عبء المحاولة بكل أبعادها وتوابعها، ومن هنا كان لا بد من العناية الفائقة بإعدادها، يقول الله تعالى : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [سورة الشمس ] . وهو الموضع الوحيد في القرآن الذي سبقه أحد عشر قسماً من الله العلي العظيم.
إذن فالتعلّل بالقضاء والقدر لدى الفاشلين في القيام بمجرد المحاولة ليس له رصيد شرعي ولا إنساني، فالإنسان هو الذي يقوم بعملية صقل النفس وتجهيزها للقيام بمهام تليق بالجنس البشري الذي استخلفه الله في الأرض، والله تعالى هو الذي يحقق النتائج لمن بذل، يقول الله تعالى: ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين) [سورة العنكبوت: 69] . فالذين حاولوا وجاهدوا أنفسهم هم الذين يحصلون على النتيجة المتوخاة، والمحسن لعمله، هو الذي يستحق أن يكون الله معه.
إن نفسك هي رأس مالك، وشخصيتك هي جناحك الذي بيدك أنت تقويم ريشه، وترتيب أعصابه، وتقوية قوادمه وخوافيه، ثم تحريكه والانطلاق به بكل طاقتك التي أودعت في خلاياك كلها بلا استثناء، وكل ذلك بعون من الله وتأييد، ومَنْ فَقَد تأييد الله وتوكل على نفسه أو على أي مخلوق آخر، وَكَله الله إلى نفسه:
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... ...
فأول ما يقضي عليه اجتهاده
وأما الجناح الآخر فهو بيد الله وحده، لا دخل لك أنت فيه، وهو الوصول إلى النتائج، وبلوغ النجاح المرغوب.
وهنا أود أن أؤكد على أن الله تعالى يحب المتوكلين، ولكنه يكره القاعدين، والفرق بين الفريقين أن الأوائل يعملون ليصلوا وهم يعلمون أن بلوغ الهدف مرهون بأمر الله وقضائه، والآخرون يتعلّلون بالقدر، ولذلك فإنهم لا يعملون شيئاً، ولذلك أيضا فإنهم لا يصلون إلى شيء.
إننا ـ نحن المسلمين ـ مطالبون بالسعي لتحقيق النجاح في كافة مرافق الحياة، الأمر الذي يجعل الأمة كلها تأثم حينما تفشل في صناعة إبرة تحتاج إليها!!
إذن فالنجاح عندنا أمر ضروري شرعاً وعرفاً، وعلينا جميعا أن نحفّز أنفسنا حتى نبلغ ذروته، فالله مدح أول من مدح ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) [الواقعة :10-11]. ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [ آل عمران: 133] (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26] (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [ الحديد: 21 ].
إذن فالشخصية المحبوبة عند الله ليست الشخصية الخانعة الذليلة ، القنوع بالقليل، بل هي: المسابقة، المسارعة، المنافسة، والعمل الذي تتسابق فيه ليس له حدود قياسية معروفة، بل هو مفتوح لا حدود له إلا حدود الشرع المطهر، الذي الحلال فيه هو الأصل، والمحرم هو المستثنى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [ الأعراف: 32 ] .
كل ذلك يعني أن الحياة كلها مفتوحة على مصراعيها أمام المبدعين أن يحوّلوا حياتهم من حياة استهلاكية، لا تخلّف بعدها إلا الرماد، إلى حياة منتجة، معطية، كالغيث أينما وقع نفع وغيّر وبدّل، وأحال القفر ربيعاً أخضر يأخذ بالألباب، لا لتأنس به العيون، وتطرب له القلوب فحسب، وكان ذلك كافيه، ولكن ليمنح الله به الحياة سبب استمرارها .. (... وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ) [الأنبياء:30](/1)
الشرطة التربوية الأمريكية بين حلق الرءوس وقطعها !
كما التهم الامريكي فلسطين - بمخالب صهيوينة - وأفغانستان والعراق في الحلقة الأخيرة من الحرب الصليبية ضد العالم الإسلامي فإنه أصبح على يقين من أن الوجبات التي ازدردها بسرعة من شأنها أن تتحول في أحشائه إلى سم قاتل لو لم يردفها بالتهام الثقافة الإسلامية ثم بعمليات التبشير النشطة بالمسيحية ثم بالتهام البرامج التعليمية الإسلامية ، ولم يدر أنه سم في أحشائه مضاف إلى سم
وأما عن التبشير النشط فقد وجد الساحة مفتوحة أمامه في العراق للتبشير بالخليط الممجوج " المسيصهيوينة "
وفي آخر إجراءاته لالتهام الثقافة أنشأ المحطات الإذاعية والصحف المأجورة ثم أخيرا قام بإنشاء القناة التليفزيونية المسماة " الخرة " بالإفرنجي ، ورصد لها ميزانية تبلغ 400 مليون دولار يصرف منها في العام الأول أكثر من ستين مليونا
وكما جاء بموقع مفكرة الإسلام فإن هدف هذه القناة : مسخ القيم الإسلامية وتغريب العقول العربية وهي ليست إلا امتدادا للحرب الصليبية المعلنة على الإسلام والمسلمين .
هدفها فرض كل ما هو أمريكي بدءا من سباقات السيارات الأمريكية إلى هواة جمع العناكب وتربية الحشرات مرورا بثقافة التعري ..
وتعتبر قناة 'الخرة' بلفرنجي : أكبر مشروع [إعلامي – سياسي- غربي] موجه للعرب منذ إطلاق القسم العربي من هيئة الإذاعة البريطانية 'بي بي سي' عام 1934، و'صوت أمريكا' بالعربية العام 1942 .
وكما يرى المتابعون فأن الغرض من هذا المشروع هو تغيير المفاهيم الإسلامية الأصيلة من مقاومة العدوان ومحاولة لفرض نموذج الحياة الأمريكية على الشعوب العربية .
وتتضح هذه الأهداف جليا في خطابات حول القناة والهدف منها ، حيث قال بوش : ' .. إن هذه الشبكة التي ستنطلق الأسبوع المقبل ستبث الأخبار والأفلام والبرامج الرياضية والترفيهية وبرامج التعليم – الرجاء الانتباه لكلمة برامج التعليم - للملايين من البشر على امتداد الشرق الأوسط '.
وأضاف بوش 'إننا من خلال هذه الجهود نبلغ إلى الشعوب في الشرق الأوسط الحقيقة عن قيم الولايات المتحدة ومبادئها وان الحقيقة دائماً تخدم قضية الحرية' .
وفي السياق ذاته قال رئيس مجلس محافظي القناة كنيث توملينسون في شهادة له أمام الكونجرس في 10 فبراير قال 'إننا سنتحدى أصوات الكراهية والقمع بالحقيقة وأصوات التسامح والاعتدال وسيستمع الناس إلى بحث حر منفتح ليس حول مجرد الصراع في الشرق الأوسط"
قد يظن البعض أن " الخرة بلفرنجي " تمثل توجه الإدارة الأمريكية الحالية ، وهذا غير صحيح فأن " الخرة بلفرنجي " تمثل توجها أمريكيا قديما نحو أمركة العالم ، فالأمريكيون منذ أن ظهروا على وجه التاريخ وهم يرون في أنفسهم قمة النموذج الإنساني وليس هذا فحسب بل يرون أن عليهم دورا عالميا وهو نشر هذه القيم والأخلاق الأمريكية في كافة أرجاء العالم
وفي هذا الصدد قال الرئيس الأمريكي الأسبق تيودور روزفلت [1858 ـ 1919]: 'أمركة العالم هي مصير وقدر أمتنا' .
وبالرغم من مرور مئات السنين على نشأة أمريكا ما زالت العقلية الأمريكية هي ذاتها، فأمريكا تصر على أن أهدافها التوسعية وتدخلها الصارخ في شؤون الدول الأخرى ما هي إلا جزء من حربها المعلنة ضد أشرار العالم، سواء الاتحاد السوفيتي أو 'الإمبراطورية الشريرة' كما أسماها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، أو إيران والعراق وكوريا الشمالية، أو 'محور الشر' كما أسماهم الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش .
لذلك فأن 'الخرة' بلفرنجي " ليست إلا ورقة جديدة من أوراق هذه الأمركة وليست توجها خاصا بهذه الإدارة حيث يتألف مجلس أمنائها من 9 أعضاء بمن فيهم 4 جمهوريين و4 ديمقراطيين، إضافة إلى وزير الخارجية كولن باول بحكم منصبه .
ومن الملفت للنظر أن البرامج التي تعرضها القناة لا تخرج عن حدود الأراضي الأمريكية وكأنه ليس في الدنيا إلا الأمريكان ، فكل البرامج التي عرضتها في الفترة القليلة الماضية لم تعرض إلا ما هو أمريكي حتى وصل بهم الحال أن يعرضوا علينا هواة أكل العناكب والحشرات من الأمريكيين ..
.ومما يبعث على التشاؤم في مستقبل " الخرة " أنها انطلقت في وقت شهدت فيه الآلة الإعلامية الغربية انتكاسة كبرى ، فواحدة من أكبر الهيئات الإعلامية الغربية – هيئة الإذاعة البريطانية – أدينت لأنها أرادت كشف الحقيقة في مبررات العدوان على العراق المزعومة ، فكان نصيبها من ذلك الإدانة والسعي لتفكيكها وفرض قيود عليها وهو أمر وصفه صحفيو الهيئة بأنه أمر لا يحدث إلا في دول العالم الثالث .(/1)
لقد جاءت 'الخرة' بلفرنجي " في هذا الوقت لتؤكد وهم الشعارات الأمريكية وزيف 'الاستقلالية' المزعومة ، ولقد رصد في هذا المضمار إعلامي فلسطيني أداء هذه الفضائية في يومها الأول عندما أجرى مدير عام المحطة موفق حرب مقابلة مع الرئيس الأمريكي جورج بوش ، واللقاء كان فرصة حقيقية لإظهار مدى 'استقلالية' هذه القناة ، فقد بدأ المحاور مقابلته بإعطاء ملاحظة للرئيس الأمريكي أن 'الحرة' بلفرنجي " تمشيا مع التقليد الأمريكي الصحفي العريق ستسأله أسئلة صعبة ولن تتردد في إثارة المواضيع الحساسة.
إلا أنه وفقا لما يقوله الإعلامي الفلسطيني داود كتاب فقد جاء اللقاء عكس ذلك ، فمثلا قال حرب للرئيس الأمريكي ضمن سؤال عن الحرب الأمريكية ضد العراق 'عندما دخلنا إلى العراق' وكأن السائل والمجيب طرف واحد ، مخالفا بذلك الدرس الأول لأي إعلامي حر ومستقل أن لا يقع فيه. فمبدأ استقلالية وحرية الإعلام مبنية على المسافة بين السائل والمجيب وليس التساوي .
أما فيما يخص الأسئلة التي سألها موفق حرب عن أسلحة الدمار الشامل في العراق وليبيا وكوريا فلم يجرؤ السائل بالنطق بسؤال واحد حول أسلحة الدمار الشامل الإسرائيلية ناهيك عن الجدار والقمع الإسرائيلي المستمر للشعب الفلسطيني
إنه وبالرغم من الإمكانيات المادية التي تقف وراء القناة إلا أن الفريق المعين من وزارة الخارجية الأمريكية لمراجعة جهود العلاقات العامة الأمريكية في العالم العربي يشكك في إمكانية أن تؤدى هذه القناة الدور المرسوم لها ، ويتساءل أكاديميو الشرق الأوسط في الإدارة الأمريكية حول مدي تقبل الجمهور المنوي استهدافه من قبل " الخرة بلفرنجي " للقناة وهو الجمهور المرتاب في كل ما يفعله الأمريكيون ، ويتشككون في أنه حتى لو حققت القناة قبولا يشك بعض المتخصصين في إمكانية أن تحدث فرقا إعلاميا يوازي كلفة عامها الأول التي تبلغ 62 مليون دولار ، كما تخشى إدارة الخرة بلفرنجي من فشل المشاريع الإعلامية الأمريكية المشابهة من قبل .
وعلى الصعيد العربي فمن الصعب أن تجد كاتبا أو متابعا أيا كان مشربه يتوقع النجاح لهذه القناة ، فجمع كبير من الكتاب والصحفيين والمعلقين العرب من المحيط إلى الخليج اتفقوا بدون تعمد في توقع فشل قناة 'الخرة' بلفرنجي .
إن الجمهور المستهدف لهذه الفضائية لا يستطيع أن ينسى وهو يشاهد 'الخرة' بلفرنجي " الاحتلال الصهيوني الغاشم في فلسطين ، وإن نسى ذلك فلن ينسي الاحتلال الأمريكي للعراق ... اهـ تقرير المفكرة بتصرف
ومن البديهي أن تستخدم هذه القناة استخداما رئيسيا – كما جاء بأهدافها المعلنة أعلاه - في تمرير المشروع الأمريكي لحلق التربية الإسلامية التي أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية - وفقا لما نقلته الأهرام - في 22\2\2004 واشنطن ـ من هدي توفيق – أن ألن لارسون وكيل الوزارة للشئون الاقتصادية سوف يبدأ جولة تشمل المملكة العربية السعودية ، والأردن ، ومصر، والأراضي الفلسطينية بهدف استطلاع آراء دول منطقة الشرق الأوسط بشأن مبادرة شاملة أعدتها الولايات المتحدة لتحقيق ما يسمى الإصلاح الاقتصادي ، والاجتماعي ، والسياسي ، والتعليمي ، في المنطقة .
وأطلقت الإدارة الأمريكية اسم مبادرة منطقة الشرق الأوسط على خطة الإصلاح الشامل المقترحة ، وحصل الأهرام علي تفاصيلها .
وتقترح واشنطن أيضا عقد قمة شرق أوسطية تكرس لبحث إصلاح العملية التعليمية في دول المنطقة ، وضمان مشاركة دعاة الإصلاح من قيادات المجتمعات المدنية في أعمال القمة ، إلي جانب القيادات السياسية .
وفي حالة إقرار عقد هذه القمة التعليمية ، توجه الدعوة أيضا إلي قيادات القطاع الخاص للمشاركة فيها ، إلي جانب خبراء من الولايات المتحدة ، ودول الاتحاد الأوروبي .
وتهدف هذه القمة ـ من المنظور الأمريكي ـ إلي بحث بواعث القلق إزاء نظم التعليم في دول منطقة الشرق الأوسط الكبري ، والعمل علي مواجهتها .
وتمكينا للمشروع الأمريكي في الاعتداء على التربية الإسلامية تسعي الإدارة الأمريكية حاليا إلي تشجيع مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبري علي تبني الدعوة إلي هذه القمة التعليمية ، علي أن تعقد قبل موعد قمة مجموعة الثماني الكبري المقبلة ، وتتطلع واشنطن إلي تبني قمة الثماني الكبري لبنود مبادرتها .
ومن المتوقع أن تتعاون دول مجموعة الثماني مع الاتحاد الأوروبي ، والولايات المتحدة في مجال تمويل هذه المبادرة لضمان إنجاحها، وتوفير قوة الدفع اللازمة لها بمجرد إقرارها(/2)
ويتحدد المقصود من تعديل هذه البرامج ووفقا لما جاء في برنامج بلا حدود بقناة الجزيرة بتاريخ 18\2\ 2004 - – فيما نقل عن السيدة إيلينا فيررومانسكي مسؤولة ما يسمى ببرنامج مبادرة الشراكة الأميركية الشرق أوسطية في زيارتها لدول الخليج في 24 سبتمبر الماضي 2003 ، حيث قالت : لا توجد فسحة من الآن فصاعدا للكراهية وعدم التسامح والتحريض ونحن نحاول أن نعيش معا وأي منهاج دراسي لا يسير في هذا الاتجاه يجب تغييره وأضافت : ( أنه إذا كانت الحكومات والمجتمعات تريد رؤية مثل هذا التغيير وتود الحصول على نظام تعليمي يوفر المهارات وفرص العمل والمنافسة فإننا سنمد يدنا للمساعدة وأؤكد لكم نعم نود إزالة كل المواد السلبية من النصوص الدينية ) .
وعليه فتكفير الكافر سلبية ، وتفسيق الفاسق سلبية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سلبية ، وجهاد الظالم سلبية ، وقتال الصائل سلبية ، والدفاع عن العرض أو النفس أو المال أو الأرض سلبية ، والحث على العفة والحشمة سلبية ، والغيرة على الدين سلبية ، ولبس الحجاب سلبية ، والمحافظة على السنة والتراث سلبية ، وتحفيظ القرآن سلبية ، وتطبيق الشريعة سلبية إلخ
كل ذلك بشرط واحد بغرض التيسير : إذا جاء من جهة الإسلام ، أما من جهة المسيصهيونية فكل شيء مباح
هكذا أفتي المفتي السيدة صاحبة الفضيلة الأمريكية شيخة الشيوخ وإمامة المجتهدين وقدوة المغضوب عليهم والضالين السيدة إيلينا فيررومانسكي مسؤولة ما يسمى ببرنامج مبادرة الشراكة الأميركية الشرق أوسطية رضي عنها السلف من أعلام محاكم التفتيش التاريخية المجيدة ، كما رضي الرئيس عنها ومن تبعه من الشياطين والسابقين السابقين من مؤسسات البيت الأبيض والكونجرس والدفاع والخارجية والمحافظين الجدد والكنائس الإنجيلية المتصهينة والمخابرات والناتو والاتحاد الأوربي واللوبيات الصهيونية والعملاء المقربين .
إن المفتي إيلينا تقدم لكم – افتراضا - :
( البيان الأول الذي أصدره لكم بصفتي المفتي وقائد الشرطة الأمريكية العالمية التي تتولى تنفيذ الفتوى المذكورة أعلاه لأهميتها الخاصة للسلم العالمي
( على كل من يقتني ببيته أو مكتبه نسخة من كتاب المسلمين " القرآن " أن يمسك الآن وحالا قلما من صناعتنا الأمريكية " فلوماستر " أسود شديد السواد ليطمس به الآيات التي تتحدث عن الموضوعات المذكورة أعلاه وبخاصة الآيات التالية :
آية ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل )
آية ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)
آية ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود )
آية ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء )
آية ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم )
آية ( محمد رسول الله )
آية ( وان احكم بينهم بما أنزل الله)
آية ( وما قتلوه وما صلبوه )
آية ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم )
آية ( أذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا )
آية ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما )
آية ( إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا )
آية ( كنتم خير أمة أخرجت للناس )
ونظرا لعجزنا – نحن المفتي - عن الرجوع مباشرة إلى هذا الكتاب " القرآن " المكتوب بغير لغتنا الأمريكية مع الأسف فسوف نستعين بكبار أئمتكم من أمثال أبوزيد وحنفي والقميء لمساعدتنا في التنقيب داخل هذا الكتاب ، ومساعدتكم في الفهم الصحيح لما سوف نبقيه منه وفقا لأحدث النظريات العالمية والمقبولة أمريكيا في فهم " النص " .
وسوف نصدر لكم البيانات ببقية الآيات المحرمة تباعا
وقد أصدرنا الأمر التربوي الأمريكي العالمي رقم واحد إلى جميع مطابع العالم أن توقف - مؤقتا وإلى صدور قرار جديد منا - توزيع ما لديها من هذا الكتاب " القرآن " ، وأن تعرض علينا ما لديها ، وما تطبعه مستقبلا منه قبل طبعه ، لمراجعته وفقا للقواعد التي قررناها والتي سوف نقررها ، وكل مؤسسة صغيرة أو كبيرة ، حكومية أو أهليه محلية أو عالمية لا تخضع لهذا الأمر سوف تتعرض لعقوبات استثنائية من الحلق والإغلاق والمصادرة والاعتقال بحدائق جوانتانامو الشهيرة وهي متوفرة لدينا في جميع أنحاء العالم ، ويعمل بها شرطة استثنائيون ، ولديها حصانة قانونية استثنائية ، ونفوذ عالمي وإقليمي ومحلي استثنائي
ومن لا يخضع لهذا القرار برادع الحلق وفقا للبند الأول من قرار تشكيل شرطتنا سوف ننتقل إلى التعامل معه برادع القطع وفقا للبند الثاني من هذا القرار
ونضع تحت أيديكم بمكتبنا المذكرة التفسيرية التي يمكنكم الاضطلاع فيها على إجراءات الحلق وهي لا تقل جسمانيا عن سحب الأظافر ، ولا تزيد حياتيا عن السجن مدى الحياة ، وإجراءات القطع لا تقل عن جدع الأنف ولا تزيد – مع الأسف - عن عقوبة الإعدام
صدر بمكتب شرطة المفتي التربوي الأمريكي في 24 سبتمبر 2003 )
ومع المتابعة لم ينشر هذا البيان بقناة " الخرة بلفرنجي " المخصصة أصلا للمشروع الأمريكي لأسباب معروفة !!(/3)
وتتأكد جدية فتوى المفتي إيلينا فيررومانسكي عندما نقرأ بتمعن ما جاء في جريدة الخليج بتاريخ 3 \ 2 \ 2002 ص 24 من مقال الأستاذ باسم شاهين إذ يقول في تلخيصه لأحدث المقالات الصحفية الصادرة في الولايات المتحدة الأمريكية : ( أما صحيفة واشنطن بوست فكانت أكثر صراحة في " مطالبها " التي قالت إنها تشكل أسس تطوير وتحسين العلاقة مع المملكة السعودية ، وتتلخص تلك المطالب في وقف دعم بناء المساجد والمدارس الدينية حول العالم ، وإعادة النظر في أنظمة التعليم المعمول بها في السعودية ) .
ولنقرأ أيضا ما نشرته جريدة الأسبوع التي تصدر بالقاهرة في صفحتها الثالثة بتاريخ 2 \ 12 \ 2002 تحت عنوان " خطة واشنطن لتغيير المناهج التعليمية في مصر والعالم العربي : الخطة تطالب بإفراغ التربية الدينية من مضمونها واقتصارها على تدريس العبادات "
وقد جاء تحت هذا العنوان أن هذه الخطة وضعتها مجموعة من الخبراء السياسيين الأمريكيين البارزين الذين أطلق عليهم ( مجموعة ال 19 ) ووضعتها في تقرير رفعته إلى جهاز الأمن القومي الأمريكي تضمن ما أسموه " مفهوم الجوانب النفسية للإرهاب الإسلامي " ، وانتهت فيه إلى توصيات شاملة تم رفعها إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي وافق عليها . وتذهب الدراسة إلى أن التأثير الأكبر في الدول العربية والإسلامية يأتي من مصر والسعودية تحديدا ، وتقول الدراسة بصدد التربية الدينية ( نحن لن نستطيع أن نغير من فحوى القرآن ، ولكن علينا التدخل لإفراغه من مضمونه )
وترى الدراسة أن القضاء على الآثار النفسية للإرهاب العربي لابد وأن يبدأ من المراحل الأولى من التعليم الأساسي ففي مرحلة التعليم الابتدائي يجب تغيير محتوى المادة الدينية لتصبح بعنوان " الثقافة الدينية " هدفها إعطاء صورة عن الفضائل الأساسية للديانات اليهودية والمسيحية والإسلام ، على أن يمتد هذا التغيير ليشمل موضوعات المطالعة والنصوص الأدبية ، وترى الدراسة ضرورة تغيير مناهج التاريخ بحيث يتم التركيز على تاريخ الثورات العلمية في العالم .
أما بالنسبة للتربية الدينية في التعليم الإعدادي فسيطلق عليها " حوار وتفاهم حضارات العالم " وفي هذا الإطار يجب أن تكون اللغة الدينية مبنية على العقل والمنطق لا على النقل والتبعية للكتاب المقدس ، أو الأحاديث الشريفة .
وأما بالنسبة للمرحلة الثانوية فسوف تكون هي المرحلة الأولى التي تدرس فيها موضوعات دينية خاصة بكل أصحاب ديانة وفي الصف الأول من هذه المرحلة يتعلم الطلاب المفاهيم الأساسية للعبادات ، وفي الصف الثاني يدرسون بعض القصص التاريخية عن بعض الأنبياء ، وفي المرحلة الثالثة تأتي النظرة الفاحصة لبعض الأخطاء الشائعة عن عدوانية الدين الإسلامي.
ثم أشارت الدراسة إلى المناهج الجامعية لتؤكد على عدم وجود أثر فيها على المناهج الدينية ، وتركز الدراسة عموما على ضرورة الاعتماد على مبدأ التأويل واستحداث لغة دينية جديدة . كما تركز على ضرورة أن يأتي ذلك كله في إطار العلاقات الاستراتيجية الأساسية بين الولايات المتحدة والدول العربية وأن يتم التأكيد في هذا الإطار على محاربة الإرهاب الدولي ، ورفض قيام الدولة الدينية في الشرق الأوسط ، وقد رفعت الدراسة إلى الرئيس بوش فصدق عليها ، ولكنه قرر تأجيل إبلاغ الدول العربية بها وإلزامها بالتنفيذ إلى ما بعد ضرب العراق .
وفي 9 نوفمبر الماضي نشرت الشرق الأوسط أن إدارة بوش قررت تخصيص مبلغ 145 مليون دولار لميزانية العام 2004 لتشجيع التعليم العلماني في العالم العربي .
هكذا تقترب الفأس من الرأس وفقا لحلم المستعمرين الأمريكيين .. ناسين تاريخ الاستعمار مع الإسلام في مرحلته الصليبية الأولى ثم في مرحلته الصليبية الثانية ونتائجة المحكومة بالفشل والمحكومة بالمزيد من الكراهية وإن بعد خراب الديار
وإذا كانت شعارات العولمة و قعقعات السلاح التي تصاحب ذلك هي التي تفرض على حلفائها العلمانيين تسارعا حرجا في تجفيف منابع التعليم الديني في البلاد الإسلامية تحت دعاوى العولمة وفتح النوافذ وإزالة الحدود والتفريط في السيادة والترحيب بالغزاة الأمريكيين فإن ذلك لا ينبغي أن ينسينا أن ما يجري اليوم مسبوق بحلقات بدأت مع قعقعات الجيوش الاستعمارية في مرحلته الصليبية الثانية منذ قرنين .
وإذا كان بعض زعماء العرب قد أطلق نظريته في التعامل مع مطامع الغرب التي صاغها في قوله( علينا أن نحلق رءوسنا قبل أن تحلق لنا ) فإن الأحداث في علاقتنا بالمستعمر الغربي وقد اقتحمت عرين التربية الدينية تكون قد تجاوزت مرحلة الحلق إلى مرحلة القطع
أما مرحلة التقصير والحلق فقد بدأت منذ أكثر من قرن وربما تكون قد وصلت إلى نهايتها ونحن الآن في استشراف المرحلة التالية
فهل تصلح النظرية أم تحتاج إلى تعديل يسهل علي الأمريكي المرحلة القادمة في قطع الرءوس ؟!(/4)
أما عن " مرحلة ما قبل الحلق " فعلينا أن نتذكر طرفا مما ذكرناه سابقا – والذكرى تنفع المؤمنين – . ففي نهاية القرن التاسع عشر دعا الدكتور انكلهارد في كتابه الذي ألفه عام 1882 للبحث في تطورات تصفية الدولة العثمانية منذ عهد السلطان محمود الثاني --- وقد كان سفيرا لفرنسا في تركيا ، وترجم الكتاب إلى التركية عام 1912--- دعا إلى تقريب الهيئة الاجتماعية الإسلامية بالهيئة الاجتماعية المسيحية عن طريق تخليص الدولة التركية من القوانين والحدود الشرعية مباشرة كما وقع في العالم المسيحي ، أو من طريق غير مباشر ( بتفسير العقائد الأساسية تفسيرا موسعا ) . أنظر كتاب " موقف العقل " لشيخ الإسلام " مصطفى صبري " ج1 ص 81
وفي سياق " مرحلة الحلق في بداية القرن العشرين" ومع خطوات الاستعمار الفرنسي في الشام صرح القائد الفرنسي الجنرال بيير كليبر بقوله عن المعاهد الفرنسية في لبنان بقوله : ( إن كلية عنطورة في لبنان هي وسط ممتاز للدعاية الفرنسية ) ثم يقول ( وإن مؤسساتنا تعمل دون ملل لتغذية النفوذ الفرنسي ، مثل معهد الدراسات العبرية في القدس ومعهد الدراسات الإسلامية في القاهرة ، والمدرسة الإكليريكية الدومينيكية في الموصل ) ثم قال : ( إن انتشار لغتنا وإشعاع ثقافتنا وأعمالنا الإنسانية ، وعظمة الأفكار والعبقرية الفرنسية هي الأعمال المكملة لنا وسوف لا نهملها أبدا )
وأما عن المدارس الإنجليزية في سياق هذا الحلق فنكتفي بكلمة صريحة أيضا للورد لويد الذي كان مندوبا ساميا لبريطانيا في مصر ، إذ يقول في خطبة ألقاها بكلية فكتوريا بالإسكندرية سنة 1926 عن أثر هذه المدرسة في إبطال أثر ثورة 1919 في نفس أبنائها : ( هؤلاء لا يمضي عليهم وقت طويل حتى يتشبعوا بوجهة النظر البريطانية بفضل العشرة الوثيقة بين المعلمين والتلاميذ ، فيصيروا قادرين أن يفهموا أساليبنا ويعطفوا عليها … و ينتبه الوالدون إلى أن تعليم أولادهم فيها ينمي فيهم من الشعور الإنجليزي ما يكون كافيا للتفاهم بين الشرقي والغربي .. كما كانت الإسكندرية في أيام عظمتها في عهد البطالمة .. ) أي قبل الإسلام !!
وفي سياق مرحلة الحلق فيما يتعلق بالتعليم الديني الأزهري نفسه فنستشهد بكلمة اللورد لويد أيضا التي جاءت عن الأزهر في كتابه الذي ألفه عام 1933 :( لو أمكن تطوير الأزهر لكانت هذه خطوة جليلة الخطر، ولكن إذا بدا أن مثل هذا الأمل غير متيسر تحقيقه فحينئذ يصبح الأمل محصورا في التعليم اللاديني الذي ينافس الأزهر حتى يتاح له الانتشار والنجاح ، وعند ذلك سوف يجد الأزهر نفسه أمام أحد أمرين : إما أن يتطور ، وإما أن يموت ويختفي ) أنظر الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد محمد حسين ج 2 ص 285 ، 308 -309نقلا عن كتاب " القضية العربية في نظر الغرب " للجنرال كايير ترجمة ميشال حجار ، ونقلا عن مجلة المقتطف عدد مايو 1926
ولقد بدأت عملية الحلق فيما يتعلق باستهداف التعليم الديني في الأزهر منذ بداية القرن العشرين وفي هذا الشأن أبدى الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر آنذاك تخوفه في مقال حذر فيه الحكومة من بعض مظاهر يمكن أن تجر مصر إلى العلمانية على مثال تركيا وأشار إلى ما يجري من تحركات تدعو إلى الخوف على الأزهر من خطط العلمانية إزاءه . \ أنظر كتاب " دور الأزهر في السياسة المصرية للدكتور سعيد إسماعيل نشر كتاب الهلال من ص 278- 279 ، 285- 290
وجاء طه حسين مبشرا بالامتزاج بالغرب فدعا في مقالاته وكتابه مستقبل الثقافة في مصر الصادر عام ( 1938) إلى توحيد المرحلة الأولى من التعليم والتي تسبق التخصص وإنهاء الثنائية المتمثلة في التعليم الأزهري والتعليم المدني ، ثم استأنف دعوته في بداية ثورة 1952 في مصر ليدعو إلى تطوير الأزهر بعد إلغاء المحاكم الشرعية ، وسمى تطوير الأزهر " الخطوة الثانية " حيث كانت الخطوة الأولى هي إلغاء المحاكم الشرعية .
و تم التسارع في " حلق " الأزهر من بعد ، في قانون تطوير الأزهر الذي أصدر عام 1961 في عرض مفاجئ في منتصف الليل في جلسة أخيرة من دورة أخيرة لمجلس الأمة ، في عهد شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت ، ثم مرة أخرى بالقانون الصادر عام 1998 في عهد شيخ الأزهر الشيخ محمد سيد طنطاوي .
وفي أثناء ذلك كانت الأصوات العلمانية تتصاعد بين فينة وأخرى للإجهاز على ثنائية التعليم ، أو رباعيته في رأي الدكتور حامد عمار ، في رسالته إلى أحمد بهاء الدين . الأهرام 1\1\1989، والمقصود التخلص من التعليم الديني بالأزهر
وفي سياق " الحلق " في أقطار إسلامية أخرى لابد هنا من إشارات سريعة إلى ما حصل للتربية الإسلامية في المدارس العلمانية تحت نفس العنوان ، وما حصل من قبل من علمنة لجامعة الزيتونة بتونس ، وانتشار الجامعات الأمريكية في مختلف البلاد الإسلامية .(/5)
يقول المنصر جورج بيترز في بحثه بعنوان ( نظرة شاملة عن إرساليات التنصير العاملة وسط المسلمين ) الذي ألقاه بمؤتمر تنصير المسلمين الذي عقد في مدينة جلين آيري بولاية كولورادو في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1978 ، والمنشور ضمن الترجمة الكاملة لأعمال هذا المؤتمر ، ونشرته دار MARC للنشر : ( إنه لحقيقة تاريخية أن مئات المدارس القروية وعديدا من الكليات قد فتحت الأبواب إلى عالم جديد لآلاف الناس ، ومكنتهم من قراءة الإنجيل ، والأدب النصراني ، وهذه الكليات التي كانت وما زالت مراكز لتأثير عظيم في الشرق الأوسط والأدنى هي كلية روبرت باستانبول ، والجامعة الأمريكية في بيروت ، والجامعة الأمريكية في القاهرة )
وقد تبع ذلك انتشار هذه الجامعات بكثافة شديدة في السنوات الخمسة عشرة الأخيرة في مدن الخليج العربي .
وقدمت الأستاذة الدكتورة بنت الشاطئ النظرة التاريخية عن "عملية الحلق " على مدي قرنين في دراستها القيمة المنشورة بجريدة الأهرام بتاريخ 4\2\1993 تحت عنوان " جيل الشتات الفكري والثقافي " : النهضة التعليمية في مصر منذ بداية القرن التاسع عشر ..وأشارت فيها إلى محاولات الهيمنة الأمريكية على فكرنا وثقافتنا وتعليمنا ، بعد ما تم في إعداد جيل الشتات المتنافر ، ممن برئوا من عقدة مقت آبائنا لفكر الفرنجة ورفضهم العنيد لأخلاقها وسلوكها ، وأخذوا يبشرون فينا بتنوير عصري يتنكر لشخصية أمته ويزدري بداوة عربيتنا ، وتخلف شرقيتنا ، وبؤس تقاليدنا ، ويزهو بالانتماء إلى ثقافة الفرنجة ، والولاء لعالم جديد في حضانة الاستعمار الأوربي ، المسخر لتحقيق مآرب الصهيونية ..
وأشارت إلى الأجيال من أبناء الأمة في المشرق والمغرب الذين كانوا قبل ذلك يتعلمون في المدرسة الإسلامية على منهج واحد : كتابهم الأول القرآن ، يستفتحون به وعي إنسانيتهم الناطقة ، ويمنحهم من نوره أول زاد من المعرفة والسلوك ، وبعد حفظه يتعلمون مبادئ العربية والإسلام في كتب موحدة ، ثم يتجهون بعد هذه المرحلة الأساس إلى ما هم ميسرون له من تخصص فروع العلم وميادين العمل ، وكان اتصال الشرق الإسلامي بثقافة الغرب ومدنيته عن طريق بعثات من هؤلاء الطلاب الذين أتموا دراستهم في المدرسة الإسلامية الموحدة ، ورسخت جذورهم في بيئتهم الشرقية بما يحصنهم من التشويه والمسخ .
ثم تابعت ما طرأ على الموقع التعليمي ابتداء من أيام سعيد باشا ( 1854) م بتأثير الإرساليات الأمريكية والإيطالية ، وإذ أنشئت مدارس ملية منها " مدرسة تلمود " للطائفة الإسرائيلية بحارة اليهود بالقاهرة سنة 1861 م .
وفي عهد الخديوي إسماعيل ( 1863-1879) أنشئت اثنتا عشرة مدرسة أهلية في مقابل ثلاث وأربعين مدرسة أجنبية للبنين والبنات مفتوحة للمسلمين ، وفتحت أول مدرسة أجنبية بأسيوط للإرسالية الأمريكية ، ثم انتشرت في أنحاء القطر ، وفتحت أمام خريجيها الوظائف .
وفي السنة الثانية من حكم الخديوي توفيق ( 1879-1892 ) صدر أمره العالي بتشكيل (المجلس العالي بنظارة المعارف ) باشتراك عشرة من السادة الأجانب ، وفتحت في عهده تسع وثمانون مدرسة للإرساليات التبشيرية ، والبعثات العلمانية ، مقابل إحدى وثلاثين مدرسة أهلية ، وسجل الإحصاء لسنة 1884 أن نسبة التلاميذ المصريين في المدارس الأجنبية 52% ، ثم أدخل على المدارس الوطنية تعديلات : قضت بـ "حلق" حصص القرآن الكريم المقررة على السنتين الثالثة والرابعة الابتدائيتين ، وأن تكون دراسة مادة " الأشياء " باللغة الأجنبية ، وفي الجغرافيا : حصة بالعربية وحصة بالأجنبية . وفي المدارس الثانوية تقرر أن تعلم العلوم الجاري تدريسها بالعربية بلغات أجنبية ، ويناط تدريس اللغات الأجنبية بمدرس فرنسي أو إنجليزي !
أما عن الجامعة فتقول الدكتورة بنت الشاطئ ( وبقدر ما حطت الرجعية بكل ثقلها على الجامعة الإسلامية حط الاستعمار بأشد وطأته على جامعتنا الحديثة ، فكانت للأجانب على عهدي بها – والكلام للدكتورة بنت الشاطئ – أكثر كراسي الأستاذية في كلية الحقوق التي يتخرج فيها رجال القضاء والسياسة والتشريع ، وكلية الآداب التي تدرس شخصية الأمة في لغتها وآدابها وتاريخها وفلسفتها وتراثها وآثارها ، وما تلقت وما تتلقى من روافد فكرية وثقافية شرقية وغربية قديمة وحديثة .) ثم تقول : ( وظاهرت هذا الغزو لحصوننا الفكرية مؤسسات ثقافية أجنبية كمؤسسة فرانكلين بأجهزة أعلامها المدربة وعصريتها الخلابة وخزائن مالها الغنية السخية ) .
*****
أما الآن وفي نهاية القرن العشرين وقبل نداءات أولى حروب القرن الواحد والعشرين فقد حلقنا رؤسنا قبل أن تحلق لنا فعلا وإليكم بعض مما حلقناه من رءوسنا أخيرا :
: ما ذكره الأستاذ محمد عبد الرحمن طبل من رجال التعليم والتربية في مصر بمقاله بجريدة الشعب 7\2\1989 بعنوان ( عاجل جدا إلى السيد وزير التعليم ) يقول :(/6)
( تنتهج وزارة التربية والتعليم الآن نهجا لم تنتهجه منذ إنشائها ، وتبتدع سياسة لم يستطع مستر دنلوب الذي هيمن على التعليم أيام الاستعمار الإنجليزي تطبيقها وتنفيذها ، وهو الذي وضع في هذا المركز لينفذ مخططا استعماريا هدفه نشر الإنجليزية وإضعاف اللغة العربية وصرفنا عن عقيدتنا ، والقضاء على هويتنا وإسدال الستار على تاريخنا ) .
ثم يذكر ما حدث من تعديل استهدف " حلق " المادة الإسلامية والعربية في كل من كتاب القراءة للصف الأول ، ولم يقتصر الأمر على ما حلق من الكتاب ولكنه امتد لحلق جزء مما بقي فيه .. بما تقرر بنشرة الإدارة المركزية للتعليم الأساسي بعنوان ( موضوعات لا يمتحن فيها التلاميذ من كتب القراءة بالحلقة الابتدائية ) وكلها آيات قرآنية منها ……إلخ ما جاء بالمقال من قائمة تفصيلية.
وكتب الأستاذ عبد المنعم سليم جبارة بجريدة الشعب بتاريخ 17\1\1989 يقول : ( يتردد على ساحتنا التربوية المصرية أن هناك إجراءات لتنقية كتب اللغة العربية من الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية … وإذا كانت قد اتخذت إجراءات لإقصاء الملامح الإسلامية عن كتب التاريخ بحجة أن ذلك كانت تتطلبه المرحلة ، فقد صاحب ذلك خطوات وإجراءات على ساحة التربية والتعليم في بلاد عربية أخرى رفع فيها مسئولو التربية والتعليم شعارات التحديث والتغيير ، ورموا الآخرين بتهم الجهل والتخلف ، وأعلنوا أن البعد الإسلامي قد غلب على الأبعاد الأخرى في المناهج والكتب ، مما يعوق التطوير ويوجب التعديل والتغيير … )
وقد استقدموا لذلك نفرا من اليونسكو، ليفتوهم بأن الإسلام قد طغى هوية وروحا على العلوم والمناهج ، وأن الأمر كي يستقيم يجب أن يعاد به إلى مكان يكون فيه بغير تأثير . " فحلقت " آيات سورة النساء عن النشوز، من كتب التربية الإسلامية ، و "حلق " ما ورد عن السواك بزعم أنه يثيرالاشمئزاز ويجافي التحديث والأسلوب العصري في التعامل والسلوك …
وقد لفت الأنظار وشد الانتباه ما دار وقيل في افتتاح مدرسة أجهور الابتدائية في محافظة القليوبية ضمن خطة أمريكية لتحويل وافتتاح مئات المدارس الابتدائية من قِبل وزير التعليم ومن قِبل السفير الأمريكي وأحد مديري الوكالات الأمريكية المتخصصة ، وقد حضرا الاحتفال مع السيد الوزير .. ما قيل عن التطوير والتحديث والمساعدة الأمريكية ، والجهود الأمريكية في التحديث والتطوير على الساحة التربوية …
وإذا سلمنا أن ارتفاع شعارات التطوير والتغيير ، على أكثر من ساحة تربوية عربية في وقت واحد لا غرابة فيه ، ولا يثير التساؤل بحكم المشاكل المتراكمة والقضايا المتعددة فإنه لا يمكن أن ننفي عقولنا ونسلم بأن خطوات هنا وهناك تستهدف طمس الهوية واقتلاع جذور الأصالة هي خطوات عفوية ولا رابطة بينها )
وعلى هامش هذه الخطوات التي أشار الأستاذ عبد المنعم سليم جبارة إلى أنها تتخذ في أنحاء مختلفة من العالم العربي ..
نقرأ ما جاء بصحيفة الاتحاد الإماراتية بتاريخ 25\1\1989 من مناقشات بالمجلس الوطني الاتحادي حول مناهج التربية والتعليم حيث جاء في كلمة العضو السيد : سالم المحمود أثناء مناقشته للسيد وزير التربية والتعليم في قوله : ( من خلال اطلاعي وتمحيصي لكتب مادة العلوم نجد أنه قد تم حذف "حلق " الآيات القرآنية ، والاستشهاد بأقوال رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام التي كانت موجودة في المنهج السابق ، والتي تؤكد كثيرا من الحقائق العلمية وتذكر الطالب بنعم الله الوفيرة ، وتظهر حضارتنا الإسلامية العريقة في كثير من المجالات ! ) .
ثم نقرأ ما قاله محرر الجريدة في تلخيصه للجلسة : ( ولقد أورد الدكتور المحمود نماذج عديدة بهذا الشأن ، في مراحل التعليم المختلفة وطرح كثيرا من الأدلة التي تؤيد وجهة نظره ، وتساءل : أليست الآيات القرآنية الكريمة صالحة للتأكيد على الحقائق العلمية ، وهل هناك تعارض بين العلم والقرآن ؟ إن هناك كثيرا من الباحثين يستشهدون بالإعجاز القرآني لإبراز قدرة الله في خلق كل شيء.. وللأسف نحن نقوم بحذف "حلق " الحقائق القرآنية . )
كما نقرأ ما جاء في كلمة السيد العضو على العامري في قوله ( ولكن الذي أثار الانتباه والاستغراب هو أن العديد من المؤشرات تستهدف تفريغ المناهج من المضمون الإسلامي ، وأثير كلام كثير في الصحف حول هذا الموضوع ) .(/7)
ونرجع إلى المناهج في مصر حيث يقول الأستاذ عبد المنعم سليم جبارة : ( إن خطوات الوزير والمساعدات الأمريكية في مجال التطوير والتحديث تعيد إلى الأذهان العديد من التساؤلات التي ترددت في أواخر السبعينات !! حول مؤتمر قيل إنه تم انعقاده في واشنطن ضم ممثلين عن وزارات التربية في أمريكا والكيان اليهودي الغاصب وبعض دول المنطقة بهدف وضع خطة تربوية موحدة ، والالتقاء على مناهج موحدة للتعليم في المنطقة ، وتعيد إلى الأذهان أيضا ما تردد من تساؤلات صاحبت وصول وفد أمريكي يضم خبراء التربية والتعليم إلى مصر في أواخر السبعينات ، للالتقاء مع وفد مصري مماثل شكلته وزارة التعليم حينئذ من خمسين عضوا ، اختيروا من مديريات التربية والتعليم في شتى أنحاء مصر ، حول مباحثات تهدف إلى تطوير وتحديث التعليم في مصر )
ويتحدث الأستاذ فهمي هويدي في مقاله المنشور بجريدة الخليج في 6\ إبريل 1993 بعنوان" فتنة في الأرض وفساد كبير " عما سماه كارثة تعليمية كبرى أُعلن عنها منذ ثلاثة أسابيع – من تاريخ المقال المشار إليه – ولم يكن لها صدى من أي نوع من جانب أي مسئول في وزارة التربية والتعليم لا بالتكذيب ولا بالتصويب ولا بالتحقيق .
ولقد نشر الأهرام دراسة عن تطوير مناهج التعليم ، أعدتها – كما يقول الأستاذ فهمي هويدي – الزميلة مايسة عبد الرحمن ، وجاءت نتائجها التي تبعث على الدهشة والتساؤل عن { اتساع مساحة الحلق } . كان النشر على مدى خمسة أيام متوالية في الفترة من 18 – 24 مارس الماضي ( عام 1993 ) : ومما نشر:
أنه قد اشترك في عملية التطوير ( الحلق ) 29 أستاذا ومستشارا أمريكيا ، بمركز تطوير التعليم في واشنطن .
تقلصت مناهج التاريخ الإسلامي حتى أصبح ما يدرسه الطالب طوال سنوات تعليمه من الابتدائي حتى تخرجه من الجامعة هو 40 صفحة مقررة على الصف الثاني الإعدادي .
قبل التطوير الحالق كان الطالب يدرس التاريخ الإسلامي في مراحل التعليم الثلاث : في الصف الخامس الابتدائي ، والثاني الإعدادي ، والثاني الثانوي ، لكن الأمر اختلف على النحو التالي :
منهج الصف الخامس الابتدائي تحول من التاريخ الإسلامي إلى التاريخ الفرعوني ، وبه ملحق صغير عن مصر الإسلامية وصلاح الدين الأيوبي ، وفي حين بتر الجزء الإسلامي فإن الكتاب ركز على " الإنسان والبيئة " واهتم بالمرحلة الفرعونية .
منهج الصف الثاني الإعدادي : تحول من معالم التاريخ الإسلامي الذي يطوف بمراحل تاريخ الأمة الإسلامية ، إلى أن أصبح يعالج الشق المتعلق بمصر والعالم الإسلامي، ومصر والعالم العربي ، ومحوره هو التاريخ الفرعوني باستثناء فصلين موجزين في آخر الكتاب .
منهج الصف الثاني الثانوي : كان يضم التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ، وباسم التطوير حذف " حلق " التاريخ الإسلامي كله واستبدل بالتاريخ الوسيط لأوربا .
وبصفة عامة فإن دراسة التاريخ الإسلامي أصبحت تقتصر على سنة واحدة ، في مرحلة واحدة هي الإعدادية ، بينما يدرس التاريخ الفرعوني في مراحل التعليم الثلاث { يبدو أن حزب مصر الأم سره باتع إلى درجة ان يباشر نفوذه قبل تشكيله }
فضلا عن ذلك فإن معظم معلومات المنهج الوحيد الذي يدرسه الطالب متضمنا شيئا عن التاريخ الإسلامي أصبحت بعد التطوير الحالق مستمدة مما كتبه المستشرقون [ والعلمانيون ] حيث حذف "حلق " من حادث الهجرة ما كان يشير إلى العناية الإلهية ، وذكر بدلا منه صفحة لراوية أو مؤلف مجهول يقرر فيها أن كل ما نسب إلى الهجرة من معجزات غير صحيح ، وحيث يقرر أن انتشار الإسلام كان بسبب انتصار الرسول في غزواته !!
وحذف "حلق " من الكتاب المعارك التي خاضها الرسول ضد اليهود ، وحذف " حلق" من الكتاب أخبار الأنبياء ماعدا الثلاثة : موسى وعيسى ومحمد – عليهم الصلاة والسلام - وذكر الكتاب أن أخناتون هو أول من نادى بالتوحيد ، وألغى تماما أن أول مخلوق بشري على الأرض كان عارفا بوحدانية الله ، وكذلك الأنبياء بين عصر آدم وعصر أخناتون : كنوح وإدريس عليهما السلام . وفي الوقت ذاته ذكر الكتاب أن الإنسان الأول من أصل مشترك مع القرد وهو محض نظرية .
وفي كتاب التربية الوطنية المقرر على الصف الثاني الثانوي يتحدث الكتاب عن أثر الحضارة الأوربية في المجتمع المصري الحديث في ضعف المساحة التي يشير فيها إلى أثر الحضارة الإسلامية على الغرب
وحلق من الكتاب الصفحات التي أشارت - فيما قبل التطوير - إلى عوامل ركود العالم العربي : في التجزئة السياسية ، والغزو الصليبي ، والمغولي ، وتحول طرق التجارة من الشرق إلى الغرب ، ودور الاستعمار ، واقتصر البحث على عوامل اليقظة التي ركزت على اتصال العالم العربي بالفكر الأوربي ، ثم على ظهور الحركات الإصلاحية الداخلية.(/8)
وفي كتب المعلومات والأنشطة البيئية للفصل الأول الابتدائي : تتضمن الرسوم الإيضاحية والصور إيحاءات تنفر من نموذج الحياة الشرقية ، يظهر ذلك في درس " منزل جدي " بأثاثاته القديمة ، وبالمقابل صورة لغرفة استقبال عصرية أقرب إلى فندق بحيث ينجذب إليها طفل السادسة تلقائيا ، وهكذا صورة ثانية لمدرس يرتدي طربوشا ، وبالمقابل مدرسة رشيقة حاسرة الرأس تدلت خصلات شعرها الناعم على جبهتها ، و ترتدي زيا مكشوف الذراعين ، وصورة ثالثة لمدرسة غطت شعرها بخمار أسود وطمست الثياب معالم جسدها واختفى ذراعاها ولم يظهر لها كف ، والمهم بعد ذلك أنه بكتاب المنهج يطلب من الطفل أن يحدد موضع الشبه والاختلاف بين الصور الثلاث وأن يجيب في النهاية على السؤال : أيهما تفضل ؟ ولماذا ؟
وفي كتاب الثانية الابتدائية يدور محور الدرس الأول حول " بيئتنا بين الماضي والحاضر " وتحت العنوان صورتان : إحداهما لحي سكني يظهر فيه بيت متوسط الارتفاع على الطراز الإسلامي ، وفي ركن الصورة ظهر مسجد وفي الشارع سار اثنان يرتديان الجلاليب ، وفي الصورة الثانية التي نصبت إلى جوارها مباشرة ، ظهرت العمارات العالية وبأسفلها المحلات التجارية وشارع نظيف ، يحاذيه رصيف ويغطيه الأسفلت ، بينما تتخلله خطوط تنظم عبور المشاة ثم يطرح السؤال : ما التغييرات التي تلاحظها بين الصورتين ، وكيف استفادت الأسرة من هذه التغييرات ؟ وهو سؤال يدفع الطفل بالطبع إلى اختيار الصورة الثانية ، وعلى ذلك النمط تمضي الكتب التي تسهم في تشكيل وعي الطفل في السنوات الأولى من التحاقه بسلم التعليم إذ يشوَّه ذلك الوعي ويسممه بحيث يبدو نافرا من بيئته ونموذجه الحضاري ومتعلقا ومبهورا بالنموذج الأوربي .
ويعلق الأستاذ فهمي هويدي على هذه التطويرات " الحالقة "التي حصلت منذ عشرة سنوات في مصر من الناحية التربوية وما تؤدي إليه من تغذية التطرف - عكس ما يقصد إليه في تجفيف المنابع حيث يقول : ( إن التعليم الذي ينتج لنا شبابا ضائعا عديم الانتماء يقدم للتطرف والإرهاب هدية لم يحلم بها يوما ما ، حيث لا يخطر في بال عاقل أن تكون المؤسسة التعليمية هي المصدر الرئيسي للإرهاب ، بتلك الكميات المعتبرة وبالمجان )
ولأنه لا يخطر ذلك على بال فإن الهدف الخفي يطل علينا برأسه وهو ما يعبر عنه الأستاذ فهمي هويدي في قوله : ( عندما يطالع المرء هذه الخريطة في مجملها فإنه يلاحظ من ناحية ذلك الجهد الحثيث المبذول لطمس هوية الطفل ، وتجريح علاقته ببيئته ومجتمعه ، ثم يلاحظ من ناحية ثانية جهدا آخر موازيا لتهوين علاقته عندما يكبر بالإسلام معرفيا وحضاريا).
وفي دراسة أخرى يعرضها الأستاذ محمد يونس بجريدة الأهرام 27\12\1991 لما تم حلقه من التربية الإسلامية نجد التلخيص الآتي :
( إذا ألقينا نظرة سريعة على ما تم حذفه " حلقه " وبخاصة ما يتعلق بالقيم الدينية والثقافة الإسلامية في المناهج الدراسية نجد أن المسألة خطيرة ، فلم يقتصر الأمر على مادة واحدة وإنما شمل العديد من المواد ، كما أن الحذف " الحلق " تراوح ما بين عبارات ونصوص وموضوعات وكتب كاملة .
فمن بين الكتب التي حذفت "حلقت " كما يقول الباحث الإسلامي جواد محمد عواد : مادة تاريخ مصر الإسلامية ، من المرحلة الابتدائية .
أما الموضوعات التي حذفت " حلقت " بالمرحلة الابتدائية والتي تتضمن قيما دينية فمن بينها على سبيل المثال " فاعل خير " بالصف الثاني ، و " الكعبة المشرفة " و" العفو عند المقدرة " بالصف الثالث ، و " الأزهار وقدرة الله " بالصف الثالث" ونساء مبشرات بالجنة " و " على عرفات " بالصف الخامس ، الابتدائي .
وهناك نصوص دينية حذفت " حلقت " من بعض موضوعات المطالعة بالمرحلة الابتدائية مثل حديث " خيركم من علم القرآن وعلمه " في أحد الموضوعات بالصف الأول بالصف الأول وحديث : " تسوكوا فإن السواك مطهرة للفم ، مرضاة للرب " و" بركة الطعام الوضوء قبله وبعده " من موضوع النظافة من الإيمان بالصف الثالث .
في كتب التربية الإسلامية نجد هذا الحذف " الحلق " الذي يصل إلى حد التشويه – كما يقول الباحث الإسلامي جودة محمد عواد – ففي الكتاب المقرر على الصف الأول الثانوي نجد على سبيل المثال : حذفت " حلقت " الشخصيات الإسلامية : عائشة رضي الله عنها ، وأبو حنيفة ومحمد عبده ، وحذف " حلق "حكم الشرع في وجوب حجاب المرأة ، وتم وضع " الخمر والمخدرات " تحت عنوان " الممنوعات " بعد أن كانت تحت عنوان" المحرمات " .. ، كما تم حذف "حلق " الآيات القرآنية التي تتحدث عن طغيان فرعون وفساده . اهـ
يعلق الأستاذ عبد المنعم سليم جبارة على الموقف فيقول : ( إن تطويرا يجافي الهوية منهجا ووجهة ، ويصم الآذان في وجه الرأي الآخر بخبرته وتجربته شاهرا سيفي القرار والسلطان ناعتا الآخرين بشتى النعوت مبتهجا بتصفيق المحيطين ليؤكد على أن التعليم غارق ، إنها المحنة على الساحة المصرية والعربية . )(/9)
نعم ولكنها فوق ذلك : المحنة أمام سؤال رسول الله إيانا : ماذا فعلتم من بعدي ، كيف تركتم لغير المسلمين أن يعبثوا بدينكم في مناهج التعليم ؟؟
تقول الدكتورة بنت الشاطئ : (هكذا هيمن النفوذ الأجنبي على أجهزة التعليم الرسمية ، والمؤسسات الثقافية الكبرى ، وفتحت ثغور وطننا للإرساليات التبشيرية والبعثات العلمانية من كل جنس وملة ، تتلقى أفواجا من أبناء الأمة ، في مرحلة التنشئة والتوجيه لتخرجهم غرباء في وطنهم لسانا وفكرا ووجدانا ومزاجا قد برئوا تماما من عقدة مقت الفرنجة ، وأبدلوا بها عقدة الشعور بالنقص من قوميتهم ، وعز على هؤلاء أن يلتقوا فيما بينهم ، إذ توزعتهم مدارس الليسيه واليسوعيين ، والإنجيلية والأمريكانية والفرير وسان جورج ، والتلمود وفيكتوريا ومدارس البنات الإنجيلية الأمريكية والقلب المقدس وأم الإله ، والراهبات الفرنسيسكان وأم الرسل . فضلا عن أن يلتقوا بإخوة لهم وأقارب وجيران تلاميذ المدرسة الإسلامية ومعاهدها الدينية المحصنين بمناعة ضد بضاعة الفرنجة .
وأزيحت { حلقت } المدرسة الإسلامية عن موضعها الأول في التربية والتثقيف والتوجيه ، وبدا القصد إلى ترسيخ الطبقة الثقافية ، ليقود الحياة الفكرية والاجتماعية والوجدانية للأمة أخلاط المتخرجين في مدارس الفرنجة ، ودونهم طبقة المتخرجين في المدارس المصرية التي عدلت مناهجها في عهد الخديوي توفيق ، ومن دونهم طبقة أبناء المدرسة الإسلامية أشبه بمنبوذين على هامش الحياة الحديثة . ) .
كل ذلك قد جاء في سياق حلق الرأس ، وأما تسليمها لهم من بعد ذلك كله فهو للقطع الذي ربما لم يخطر ببال الزعيم
*****
وعملية القطع تأتي من حيث تأخذ المشكلة التربوية أهميتها القصوى إذ أنها– من وجهة النظر المسيصهيوينة - المفتاح لضرب الوجود المتميز للحضارة الإسلامية ، ثم للإسلام ذاته باعتباره جوهر هذه الحضارة وقلعة المقاومة ضد العولمة الأمريكية
إنه من وجهة النظر الإسلامية فلا نكران لحاجتنا إلى تطوير التربية ومناهجها ولكن بتطهيرها من لا أخلاقية الحضارة الغربية ( المسيصهيونية ) التي جاءت قناة " الخرة بلفرنجي " لضخها في جسد الأمة المحلوق أوالمعطوب ، وبتوجيهها- أي التربية - في اتجاه معاكس تماما لما تضخه قناة الخرة والشرطة التربوية الأمريكية من قيم تلك الحضارة : يرفض ما يأتي منها من قيم وأهداف ، ولكنه ينتهب ما لديها من وسائل العلم والتكنولوجيا المتاحة والمحتكرة والممنوعة على السواء ، - وتلك شريعة تاريخية - لخدمة أهدافنا في المحافظة على الذات ، وتأكيد التميز الحضاري للإسلام وفقا للمنظور الديني ، وخضوعا للدافع الإسلامي واستجابة للصحوة الإسلامية وانبعاث حضارة الإسلام في دورته التاريخية الجديدة .
إنه كما يقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور في كتابه القيم " روح الحضارة الإسلامية " : لولا التكون الفردي المكي ، والتكون الاجتماعي المدني لما كانت الحضارة التي تبدت في دمشق أو بغداد أو القيروان أو قرطبة أو سمرقند .فإذا كان الناس اليوم يحنون إلى عهود ازدهرت بها تلك العواصم .. فأجدر بهم أن يعودوا إلى العامل الأصلي الذي ولد تلك العصور .. ألا وهو العامل التربوي الإسلامي الذي كون الفرد قبل أن يكون المجتمع ، ومهد للثقافة طريقها قبل أن يتناول عناصر المعرفة التي ألفت كيانها .
كان العامل التربوي الإسلامي الذي كون الفرد عقلا ونفسا وخلقا وسلوكا هو العاملَ الأصلي الذي كون الحضارة ، وكون المجتمع الأمثل ومهد للثقافة طريقها..)
إنه على أساس المنهج التربوي وعلى أساس الربط بين العلم والعمل والدين يبنى حجر الزاوية في الدعوة إلى الإسلام ، ومن ثم إلى هوية حضارتنا الذاتية .
إنه إذا بقي الدعاة ينادون بالرجوع إلى الدين وفهمه حق الفهم وتبرئته من البدع والعلمانيون إلى التخلص من الخرافات .. فإنهم في ذلك يكونون كما يقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور ( بمنزلة من يدعو المريض ليصح ، ويدعو المغمى عليه ليفيق .. بدون أن يحاول معرفة ما تسبب في مرضه أو الإغماء عليه ، وبدون أن يعرف ما هو الأجدى في نقله من حال النوم إلى حال اليقظة ، ومن حال الغيبوبة إلى الشعور)
إن حل المشكلة يكمن في الإجابة على السؤال التالي : لماذا تمسك الأوائل بالإسلام ؟ ولماذا أعرض الأواخر عنه ؟
ما زال السؤال قائما بالرغم من كل البحوث التي تدافع عن الإسلام ، والتي تنحي باللائمة على المسلمين .(/10)
والجواب على السؤال هو في الإشارة إلى تربية الفرد كما يقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور : ( هنا تبدو مشكلة الحضارة الإسلامية ، وهنا يبدو الموقف الحكيم الذي وقفه منها ابن خلدون . فالحضارة الإسلامية في عصر ابن خلدون لم تكن صورُ عرض مشكلاتها كما كانت عند الأفغاني أو محمد عبده أو شكيب أرسلان أو محمد إقبال ، فهؤلاء وجدوا أمة مغلوبة ومدنية مضروبة ودولا زائلة ، لقد تناول ابن خلدون المشكلة لا كأعراض ، ولكن بإرجاع الأمر كله إلى مقياس الحق والباطل ، وإلى حسن القصد وسوء القصد ، بحسب ما يكون بين نفوس الأفراد من عقد وأمانة ، وفي سلوكهم من استقامة وإخلاص . لقد أرجع ابن خلدون الحضارة الإسلامية إلى أصلها وأساسها .. وهو العقيدة الدينية ) روح الحضارة الإسلامية نشر المعهد العالي للفكر الإسلامي بواشنطن ص 38-39 – 54 وروح الحضارة ص 70-72
نعم ، إنها العقيدة الدينية ولكن في وضعها الحركي النابع من التربية الفردية حسب المنهج الإسلامي .
وكما يقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور ( إنه من خلال العقيدة الدينية في وضعها داخل منهج الحركة التربوية الفردية اكتسب المسلم خلالا نفسية جديدة ، لم يستفد علما ولا صناعة ولا قوة مادية ولكن الذي اكتسبه من خلال التربية طوَّع له العلم والصناعة والقوة المادية ، فكانت المدارك الدينية وحدها هي التي فتحت أمام نظر المسلم آفاق الكون للتأمل والاعتبار والمعرفة والإيمان ، ولما عرف نواحي الوجود على ما هي عليه بنظره الديني اتجه إلى بحث ما اشتملت عليه تلك النواحي .. فتكونت فيه داعية طلب العلم على اختلاف مواضيعه وفنونه ، فاصطنع العلوم التي هي من التراث الإنساني المشترك ، وابتكر العلوم التي هي من التراث الإسلامي الخاص )
إن الأمر يرجع إلى التربية ، وإلى موقع العقيدة الدينية من مقومات المنهج التربوي ، إن هذا الموقع القائد كان هو الحافز لنهضة المسلم ، ( وكان هو الذي مهد له طريق الاتصال بما أنتجت الحضارة من أفكار ومصانع فبالدين فكر المسلم ،وبالدين تحضر ، وبالدين أنتج آثار حضارته ، وبالدين أقام الدولة الحامية للمجتمع وحضارته فكان وضع الدين على صورته المستقيمة قاضيا بأن يتناول المسلم الحضارة متلقيا ومنشئا ومتصرفا )
ومن هنا فإننا نرى أن ما تم جزئيا أو كليا من إزاحة حلق هذه العقيدة عن موقعها الحركي في كيان الأمة يشير إلى مسئولية المنهج التربوي المضطرب المتعلمن المحلوق ، عن درجة الانحطاط التي تتدحرج إليها الحالة الحضارية في المجتمع الإسلامي المعاصر
كذلك فإن هذه الإزاحة الحلاقة تفسر لنا ما أصاب هذه العقيدة من انكماش صدها عن أن تخلع من روحها على الحضارة ، فأصبحت – كما يقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور - خائرة حائرة جامدة لا تتقدم …
هذه الإزاحة الحلاقة هي ما أصاب العقيدة الدينية بالتراجع والانكماش حتى أصبحت غير فعالة ولا مؤثرة … تعمر بها قلوبهم ، وتشهد عليها ألسنتهم ، ولكنها لا تتجاوز القلوب والحناجر إلى الأعضاء والجوارح …
فكان الذي أصاب العقيدة لم يتناول جوهرها ولكنه أعطب أثرها في الحياة العملية ، وما ذلك إلا للخلل في المنهج التربوي الذي قام – أخيرا – في إزاحة – حلق - العقيدة عن موقع التأثير .
وصار المسلم بذلك مخلا بمبدأ أساسي في كيان الحضارة الإسلامية ألا وهو الربط بين العلم والعمل ثم الربط بينهما وبين الدين .
وتولدت من هنا نظرية تفكيك الدين من الدنيا – في ضمير المسلم المعاصر بعد تفكيكه في الخطط التربوية المعلمنة السابقة والقادمة – حيث ينظر المسلم إلى الدين باعتباره خيرا غير واقع ، والدنيا باعتبارها شرا واقعا ، وأصبح العبد المسلم يحمل بين جنبيه دينا لا يؤثر فيه إلا لماما ، ويعيش في دنيا لا يعرف فيها إلا كل ما يبعد عن الدين . ثم هجمت عليه في حياته العملية مدنيات أجنبية عنه ، فيها العلم وفيها الصناعة وفيها القوة وفيها الحكمة فلم يجد من إرادته الدينية ما يتناول به هذه المدنية كما تناول المدنيات التي احتك بها من قبل ، يوم كانت إرادته الدينية قوية سليمة … فوقف أمامها جامدا ، وكادت الدائرة المغلقة تنطبق عليه في هذا الوضع اليائس عندما تولدت عنده عقدة الشعور بالنقص الذاتي ، وعقدة اليأس من استقامة الحقيقة الدينية في حياته ، وعقدة الإلف بحياة الشر والمهانة ، مع موت الوازع الذي يصد عنها روح الحضارة ص 72- 78
*****(/11)
ألا وإنه لمن المغالطة الخبيثة القول بأننا نحتاج فعلا إلى إصلاح منظومة التعليم والتربية في بلادنا العربية والإسلامية ومن ثم فإنه يجب أن نحلق رءوسنا قبل أن تحلق لنا –– وأن نتلقى بالشكر محاولات التدخل في هذه العملية من الغرب ، وذلك لأن هذا التدخل لا يكتفي بالفتات الذي يقدمه لنا مما نحن بحاجة إليه في الجانب التقني والعلمي ، وإنما يستهدف الإطاحة بما بقي لدينا في الجانب الحضاري والثقافي من هذه المنظومة أساسا ، واستبدال النموذج المسيصهيوني به وتلك هي الخطورة التي تتهدد هويتنا وكرامتنا ووجودنا وقطع رءوسنا فلم تعد المسالة حلقا للرأس ولكن قطعا لها لو كانوا يعلمون
وإذا كان يقال في الهزائم العسكرية ( أكلت يوم أكل الثور الأسود ) فإنه ليقال في معركة الحضارة بنفس درجة المصداقية ( أكلت يوم أكلت التربية ) .
ولكن التربية الإسلامية ليست لحما طريا – كلحم ثور – يسهل أن تزدرده أفواه الغزاة والمستعمرين وسماسرة العولمة الثقافية ، إنها بناء شامخ من القرآن المحفوظ والسنة المطهرة والشخصية الإسلامية ، والحضارة الراسخة التي عمرت ما لم تعمره حضارة من قبل وما تزال قائمة العمد والبنيان
وفي محاولة قطعها تنقطع رءوس الحاقدين ، الذين ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ) الصف 8
وصدق الله العظيم
وكذبت مفتينا إيلينا …..
.(/12)
الشرع ليس مجالا لتعدد الآ رآء الشخصية ...! )
إن أي وسيلة إعلامية مقروءة أو مسموعة أو مرئية إنما هي المنبر الذي يعلم الناس ويوجههم الوجهة الصحيحة السليمة،
أو هكذا يجب أن تكون هذه الوسيلة حتى تعلم الناس أمور دينهم وتزيد من ثقافتهم وتسعى في حل مشاكلهم الإجتماعية، لأنها حلقة وصل بين القارىء والجهة المسؤولة أيا كانت. لذلك تأتي أهمية تلك المنابر الإعلامية فهي الوسيلة المناط بها هذه المسؤوليات والمهام الملقاة على عاتقها مما ذكرته آنفا. حيث نرى في كثير من هذه الوسائل من صحف وغيرها تجعل الشرع مجالا للإجتهادات او الأرآء الشخصية , ومن هذا المنطلق أحببت أن أنوه بأمر هام يتعلق بالأمور الشرعية المقررة في الدين أصلا.فإن هذه المعتقدات الشرعية في ديننا مأخوذة من كتابنا الكريم ومن سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلامجال البتة لأحد من الناس ولايحق له أن يقول رأيه أو يأخذ رأي الآخرين فيها. لأنها من لدن الله سبحانه وتعالى وهي وحي منزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. لهذا يجب التنبه لهذا الأمر وعدم الخوض فيه حتى لا يستهين الإنسان بأي امر من أمور الشرع المطهر دون علم او دراية، فيحصل من وراء ذلك ما يحصل من تجاوزات مؤسفة بحق هذه المسلّمات الشرعية، وحتى أن البعض قد يخوض في هذه المسلّمات لكنه لا يتجرأ على التحدث عن الموضوعات الدنيوية الأخرى التي ليست من اختصاصه، فنجد أحدهم يسأل غيره عن آرائه حول تعدد الزوجات (الزواج بامرأة ثانية...) فتختلفت الآراء فمنهم من يصيب ويرجع ذلك للشرع، ومنهم من يُخطئ ويذكر رأيه المخالف لما شرعه الله تعالى من جواز تعدد الزوجات بشروطه الشرعية المعتبرة والمطلوبة كالعدل ونحوه.ومثل ذلك عندما تؤخذ الآراء حول أمور شرعية أخرى، كأن يُقال مثلا ما رأيك في الربا ؟ أو ما رأيك في الزكاة؟ وما رأيك في إخراج زكاة الفطر نقودا؟ مع أنها مقررة شرعا طعاما من قوت البلد، كما فرضها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا في سائر المسلّمات أو العبادات التي شرعها الله تعالى لنا. ليس لنا الحق في أن نبدي الرأي فيها ونخالف ما أقره الله تعالى وأجازه او حرمه ومنعه هو سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أحببت أن أنبه إلى هذا الأمر الهام والذي أحسب انه سيلقى تفهما وتجاوبا من الجميع بإذن الله تعالى ، كما أدعو الله عز وجل أن يفقهنا في ديننا الحنيف حتى نعبد الله تعالى على علم وبصيرة بإذنه تعالى. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.(/1)
الشرعية الدوليةومناقضتها للشريعة الإسلامية
كلمة في المنهاج (6)
[الكاتب: أبو محمد المقدسي]
في أزمنة الردة المعاصرة والجاهليات الحديثة أمسينا نسمع كثيرا من المصطلحات التي لا يحل للمسلم أن يقبلها أويسلم بها تسليم سائمة الأنعام، فالمسلم يتميز عن غيره بأن له مرجعية معصومة يرد إليها كل نازلة أو مصطلح، فمتى عرض له شيء من ذلك لم يبادر إلى متابعته أوترديده والتغني به كالببغاوات؛ بل يعرف حقيقته وماهيته ثم يعرضه على شرع الله فإن وافقه فبها ونعمت وإلا فليس له إلا الرد..
إذ أن من القواعد الشرعية الأصيلة في ديننا أن؛ (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد).
ومن المصطلحات الحادثة التي تعمل أجهزة الإعلام الدولية العالمية على تكريسها وتابعها في بلادنا على ذلك كثير ممن لا خلاق لهم مصطلح "الشرعية الدولية"، فالجميع ينادي بترسيخ هذا المصطلح؛ "احترام الشرعية الدولية"، "تحريم الخروج على الشرعية الدولية"، و "الإلتزام بقرارات الشرعية الدولية".
فهل هذه "الشرعية الدولية"؛ شرعية في ديننا؟
إن الشرعية الدولية؛ مصطلح يرمي إلى الإحتكام والإلتزام بشرع وضعي وضعته الدول الكبرى الكافرة يحكم علاقات الدول في عالمنا وفقا لتشريعاتهم ومعاييرهم وأعرافهم ومصالحهم هم.
ومعلوم في ديننا حكم التحاكم إلى القوانين الوضعية - محلية كانت أم دولية - وحكم قبولها كتشريع وقانون.
وسميت "شرعية" مضاهاة بالشرع الإلهي ولتعطى صبغة القداسة التي لا يجوز انتهكاها، فالشرعة أو الشريعة هي الطريقة والمنهاج والدين المعظم الذي لا يجوز أن يخالف أو يعارض أو تنتهك حدوده وأوامره... وكذلك يريد هؤلاء المشركون للشرعية الدولية أن تكون... ولذلك تراهم يصفون القرارات التي تخرج من تحت مظلتها بأنها شرعية؛ وكل ما يخالفها أو يعارضها - ولو كان من صميم دين الله وشرعه - فليس بشرعي عندهم.
وكذلك يتعامل معها سائمة الأنعام الذين ينادون باحترامها وتطبيقها، وكذلك يفعلون مع شرعياتهم الدستورية المحلية فالقوانين والقرارات والمعاهدات والحكومات المنبثقة من دساتيرهم شرعية لا مطعن فيها في دينهم الشركي هذا!! أما شرع الله الحق فليس له في حكوماتهم ومحاكمهم وعلاقاتهم وسياساتهم مكان.. {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}؟!
الشرعية الدولية؛ هي القوانين التي وضعتها الدول الكافرة التي أسست "منظمة الأمم المتحدة"، إثر انتصارها في الحرب العالمية الثانية - أمريكا وبريطانيا وروسيا - ومعها بعد ذلك فرنسا والصين، وصاغت قوانينها طبقا لمصالحها ومصالح حلفاءها في تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ، فوضعت ما سمته بـ "ميثاق الأمم المتحدة"؛ لتكون له المرجعية الأولى في كل قضية من قضايا العالم، حيث تستمد "الشرعية الدولية" منه الأحكام والقرارات وتستند إليه في الخلافات والنازعات والإجراءات والتحركات [1] .
وليس عجيبا أن تسلم بهذا الميثاق وتصدق عليه كافة دول العالم المرتدة اليوم وفي مقدمتها الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين، فمن انسلخ عن ملة التوحيد ودين الله لا يستغرب منه هذا؛ وإنما العجيب والغريب أن يثني على هذا الميثاق ويدعو إلى الالتزام به وينادي بتطبيق قراراته واحترام شرعيتها الدولية ويجرم كل من خالفها وخرج عليها؛ أناس ينتسبون إلى الدعوة إلى الله ويدّعون السعي لتحكيم شرع الله!!
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60].
يقول الحافظ ابن كثير تفسيره: (هذه الآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنّة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطّاغوت هاهنا) اهـ.
ويقول ابن القيم في إعلام الموقعين: (من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم، فقد حكم الطّاغوت وتحاكم إليه) اهـ.
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في فتواه حول تحكيم القوانين: (كذَّب الله إيمانهم بقوله {يزعمون}، فكل من تحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد آمن بالطاغوت؛ الإيمان الموجب لكفره بالله) اهـ.
ويقول الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان: (وكلّ تحاكم إلى غير شرع الله فهو تحاكم إلى الطاّغوت) أهـ من تفسير سورة الشّورى.
فلا شرع يحترم ويتحاكم إليه في دين المسلمين إلا شرع الله، ولا مشرع عندهم إلا الله الواحد القهار... وكل احتكام لغير شرع الله فيما لم يأذن به الله؛ فهو التحاكم للطاغوت الذي يناقض ملة التوحيد... فاحترام الشرعية الدولية وميثاقها والتحاكم إليه؛ هو تحاكم للطاغوت ورضى به لا يجادل في ذلك مسلم يعرف دينه.(/1)
بل إن ميثاق "الأمم المتحدة"؛ طاغوت وقانون ليس كأي قانون وضعي عادي وليس هو مجرد وثيقة تأسيسية لمنظمة الأمم المتحدة؛ فقد جعله واضعوه أكبر من ذلك بكثير، إن خبراء القانون الدولي وفقهاؤه يعلنون بوضوح وصراحة؛ أن الميثاق هو أعلى مراتب المعاهدات الدولية، وأعظم قواعد القانون الدولي مكانة! ولذلك نصت المادة (103) من هذا الميثاق نفسه على أنه: (إذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأمم المتحدة وفقاً لأحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي يرتبطون به، فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق).
ومعنى ذلك؛ أنه لا يجوز لأي دولة ملتزمة بهذا الميثاق أن تبرم أي اتفاق دولي أو تختار وتلتزم بشرع بينها وبين دولة أخرى تتعارض أحكامه مع القواعد والأحكام الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، ولو كان شرع الله العزيز الجبار!
فكل من انتسب إلى هذه المنظمة الخبيثة وتعهد بالالتزام بميثاقها وكذا كل من ينادي بالشرعية الدولية والالتزام بها واحترام قراراتها؛ يقر بهذا الكفر البواح صراحة أو بالإلزام شاء أم أبى.
ومعلوم أنه لا يمكن لأي دولة الإنتساب لعضوية الأمم المتحدة حتى تعلن التزامها واحترامها لهذا الميثاق وتسلم له تسليما... إذ أن إجراءات الانضمام للأمم المتحدة تتلخص في أن تقدم الدولة التي ترغب في الانضمام للأمم المتحدة طلباً بذلك إلى الأمين العام للمنظمة الدولية ويكون ذلك الطلب مصحوباً بإعلان قبول الإلتزام بميثاق الأمم المتحدة.
وكذلك الأمر بالنسبة للفصل من الأمم المتحدة، فإن "المادة السادسة" من الميثاق تنص على؛ أنّه يجوز للجمعية العامة أن تفصل عضواً من الأعضاء إذا أمعن في انتهاك مبادئ الميثاق.
طبعا هذا البند قد يطبق على أي أحد إلا الدول الكبرى التي وضعت الأمم المتحدة لرعاية مصالحها أصلا، ولذلك فهي تتمتع بحق الفيتو الذي يضمن لها ذلك، وعلى رأسها أمريكا التي ترعى مصالح حليفتها إسرائيل من خلاله؛ بل إن الميثاق وأممه المتحدة قد أمست شرطيا يحرس مصالح هاتين الدولتين على كل صعيد، ولا يجادل في هذا حتى العميان.
وعلى كل حال؛ فهيئة الأمم المتحدة منظمة خاضعة للنفوذ اليهودي الصليبي منذ تأسيسها، ومن يراجع أقسامها وإداراتها وأسماء القائمين عليها يعرف هذا معرفة اليقين… وهي التي أشرفت على تقسيم فلسطين عام 1947م، وطعن هذه المنظمة وطعن إداراتها ومنظماتها المختلفة في دين الإسلام وشرائع القرآن بيّن واضح مكشوف، واسمها "الأمم المتحدة" من أعظم الأدلة على اتحاد وتناصر وتعاضد وتعاون المائة والتسعة وخمسين دولة المشتركة فيها!! فكل دولة تشارك فيها فهي متحدة مع أمم الكفر الأخرى على اختلاف مللها ونحلها ملتزمة - ولا بد - بميثاقها الكفري.
فالذين يطنطنون ويهرفون بالشرعية الدولية ويدعون إلى الالتزام بها واحترامها وتنفيذ قراراتها والالتزام بها يتعامون عن هذه الحقائق الدامغة والدواهي المدهية.
يقول الله تعالى: {إن الذين ارتدّوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوَّل لهم وأملى لهم * ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزَّل الله سنُطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم}
يقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي في كتابه القيم "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" في تفسير هذه الآيات: (اعلم؛ أن كل مسلم يجب عليه في هذا الزمان تأمّل هذه الآيات من سورة محمد وتدبّرها، والحذر التام مما تضمنته من الوعيد الشديد، لأن كثيراً ممن ينتسبون للمسلمين داخلون بلا شك فيما تضمنته من الوعيد الشديد، لأن عامة الكفار من شرقيين وغربيين كارهون لما نزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهو هذا القرآن وما يبينه به النبي صلى الله عليه وسلم من السنة.
فكل من قال لهؤلاء الكفار الكارهين لما نزل الله؛ سنطيعكم في بعض الأمر، فهو داخل في وعيد الآية، وأحرى من ذلك من يقول لهم؛ سنطيعكم في كل الأمر، كالذين يتبعون القوانين الوضعية مطيعين بذلك للذين كرهوا ما نزّل الله، فإن هؤلاء لاشك أنهم ممن تتوفاهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، وأنّهم اتّبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه وأنّه محبط أعمالهم) أهـ.
أبو محمد المقدسي
شعبان 1423هـ
______________________
1) أنظر "الشرعية الدولية هل لها شرعية إسلامية؟"، للأستاذ عبد العزيز كامل، مجلة البيان العدد 102، صفر 1417 هـ، وقد استفدت منه في كلمتي هذه وجعلتها جوابا على التساؤلات التي أوردها في مقاله(/2)
الشرك في توحيد الألوهية
قال ابن تيمية: "فأما الشرك في الإلهية فهو أن يجعل لله نداً ـ أي: مثلاً ـ في عبادته أو محبته أو خوفه أو رجائه أو إنابته، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، قال تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:48]، وهذا هو الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب لأنهم أشركوا في الإلهية، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ} الآية [البقرة:165]، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الآية [الزمر:3]، وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَاهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَىْء عُجَابٌ} [ص:5]، وقال تعالى: {أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:24]، إلى قوله: {الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:26]"[1].
وقال المقريزي: "فالشرك في الإلهية والعبادة هو الغالب على أهل الإشراك، وهو شرك عبّاد الأصنام، وعبّاد الملائكة، وعبّاد الجن، وعبّاد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات، الذين قالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده، وينالنا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قربٌ وكرامة، كما هو المعهود في الدنيا من حصول الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك وأقاربه وخاصته. والكتب الإلهية كلها من أوّلها إلى آخرها تبطل هذا المذهب وتردّه، وتقبِّح أهله، وتنصّ على أنهم أعداء الله تعالى، وجميع الرسل صلوات الله عليهم متفقون على ذلك من أوّلهم إلى آخرهم، وما أهلك الله تعالى من أهلك من الأمم إلا بسبب هذا الشرك ومن أجله"[2].
أنواع الشرك في الألوهية:
أ- شرك الدعاء .
ب- شرك النية والإرادة والقصد .
ج- شرك الطاعة .
د- شرك المحبة .
هـ- شرك الخوف .
و- الشرك في التوكل .
----------------------------------------
[1] مجموع الفتاوى (1/91).
[2] تجريد التوحيد المفيد (52-53).
شرك الدعاء
قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65].
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره: فإذا ركب هؤلاء المشركون السفينة في البحر، فخافوا الغرق والهلاك فيه {دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ}، يقول: أخلصوا لله عند الشدة التي نزلت بهم التوحيدَ، وأفردوا له الطاعة، وأذعنوا له بالعبودة، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم ولكن بالله الذي خلقهم. {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ}، يقول: فلما خلّصهم مما كانوا فيه وسلّمهم فصاروا إلى البر إذا هم يجعلون مع الله شريكاً في عبادتهم، ويدعون الآلهة والأوثان معه أرباباً"[1].
وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} [يونس:106، 107].
قال ابن جرير: "ولا تدع ـ يا محمد ـ من دون معبودك وخالقك شيئاً لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك في دين ولا دنيا، يعني بذلك الآلهة والأصنام، أي: لا تعبدها راجياً نفعها أو خائفاً ضرها، فإنها لا تنفع ولا تضر، {فَإِن فَعَلْتَ} ذلك فدعوتَها من دون الله {فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ}، يقول: من المشركين بالله الظالمين أنفسهم"[2].
وقال سليمان آل الشيخ: "والآية نص في أن دعاء غير الله والاستغاثة به شرك أكبر، ولهذا قال: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]، لأنه المتفرد بالملك والقهر والعطاء والمنع، ولازم ذلك إفراده بتوحيد الإلهية لأنهما متلازمان، وإفراده بسؤال كشف الضر وجلب الخير، لأنه لا يكشف الضر إلا هو، ولا يجلب الخير إلا هو، {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:4]، فتعيّن أن لا يدعَى لذلك إلا هو، وبطل دعاء مَن سواه ممن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فضلاً عن غيره، وهذا ضدّ ما عليه عبّاد القبور، فإنهم يعتقدون أن الأولياء والطواغيت الذين يسمونهم المجاذيب ينفعون ويضرون، ويمَسّون بالضر ويكشفونه، وأن لهم التصرف المطلق في الملك"[3].(/1)
وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5، 6].
قال سليمان آل الشيخ: "حاصل كلام المفسرين أن الله تعالى حكم بأنه لا أضلّ ممن يدعو من دون الله لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة واستغاثة مَن هذه حالُه، ومعنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضُّلاَّل كلِّهم أبلغ ضلالاً ممن عبد غير الله ودعاه حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كلّ بغية ومرام، ويدعون من دونه من لا يستجيب لهم، ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دام في الدنيا وإلى أن تقوم القيامة"[4].
وقد قرّر العلماء أن دعاء المسألة ودعاء العبادة متلازمان، قال سليمان آل الشيخ: "واعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة ودعاء مسألة، ويراد به في القرآن هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان.
فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، فالمعبود لا بد أن يكون مالكاً للنفع والضر، ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضراً ولا نفعاً كقوله: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:76]، وذلك كثير في القرآن، فهو يدعي للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعي خوفاً ورجاء دعاء العبادة، فعلم أن النوعين متلازمان، فكل دعاء عبادة مستلزم دعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة، وهذا لو لم يرد في دعاء المسألة بخصوصه من القرآن إلا الآيات التي ذكر فيها دعاء العبادة، فكيف وقد ذكر الله في القرآن في غير موضع، قال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55]، وقال تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16] وغير ذلك"[5].
وقد نص العلماء على أن من صرف شيئاً من نوعَي الدعاء لغير الله فهو مشرك.
قال ابن تيمية: "من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكّل عليهم يدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً"[6].
وقال ابن القيم: "ومن أنواعه ـ أي: الشرك ـ طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم"[7].
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "ومن نوع هذا الشرك أن يعتقد الإنسان في غير الله من نجم أو إنسان أو نبي أو صالح أو كاهن أو ساحر أو نبات أو حيوان أو غير ذلك أنه يقدر بذاته على جلب منفعة من دعاه أو استغاث به، أو دفع مضرة"[8].
وقال سليمان آل الشيخ: "فاعلم أن العلماء أجمعوا على أن من صرف شيئاً من نوعي الدعاء لغير الله فهو مشرك ولو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله وصلى وصام؛ إذ شرط الإسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يعبد إلا الله، فمن أتى بالشهادتين وعبد غير الله فما أتى بهما حقيقة وإن تلفظ بهما، كاليهود الذين يقولون: لا إله إلا الله وهم مشركون، ومجرّد التلفّظ بهما لا يكفي في الإسلام بدون العمل بمعناهما واعتقاده إجماعاً"[9].
-----------
[1] جامع البيان (10/159).
[2] جامع البيان (6/618).
[3] تيسير العزيز الحميد (237-238).
[4] تيسير العزيز الحميد (239).
[5] تيسير العزيز الحميد (215-216) بتصرف واختصار.
[6] انظر: الإنصاف (27/108) مع المقنع والشرح الكبير.
[7] مدارج السالكين (1/375).
[8] الدرر السنية (4/7).
[9] تيسير العزيز الحميد (227).
شرك الإرادة والإرادة والقصد
قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود:15، 16].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من عمل صالحاً التماس الدنيا، صوماً أو صلاة أو تهجداً بالليل لا يعمله إلا لالتماس الدنيا، يقول الله: أوفّيه الذي التمَسَ في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعمل التمَاسَ الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين)[1].
وقال ابن القيم: "أما الشرك في الإرادات والنيّات فذلك البحر الذي لا ساحل له وقلّ من ينجو منه، من أراد بعمله غير وجه الله ونوى شيئاً غير التقريب إليه وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته"[2].(/2)
وقد سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن معنى قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} فأجاب بما ملخصه: "ذكر عن السلف من أهل العلم فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه، فمن ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة وإحسان إلى الناس، وترك ظلم ونحو ذلك مما يفعله الإنسان، أو يتركه خالصاً لله لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته، أو حفظ أهله وعياله، أو إدامة النعم عليهم، ولا همّة له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة نصيب.
النوع الثاني وهو أكبر من الأول وأخوف: وهو أن يعمل أعمالاً صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة.
النوع الثالث: أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد به مالاً، مثل أن يحج لمالٍ يأخذه لا لله، أو يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر أيضاً هذا النوع في تفسير هذه الآية، وهؤلاء أعقل من الذين قبلهم؛ لأنهم عملوا لمصلحة يحصلونها، والذين قبلهم عملوا من أجل المدح والجلالة في أعين الناس، ولا يحصل لهم طائل، والنوع الأول أعقل من هؤلاء، لأنهم عملوا لله وحده لا شريك له، لكن لم يطلبوا منه الخير الكثير الدائم وهو الجنة، ولم يهربوا من الشر العظيم وهو النار.
النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصاً في ذلك لله وحده لا شريك له لكنه على عمل يكفّره كفراً يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم.
بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله طالباً ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالاً قاصداً بها الدنيا، مثل أن يحج فرضه لله، ثم يحج بعده لأهل الدنيا، فهو لما غلب عليه منهما"[3].
تنبيه هام:
مما ينبغي التأكيد عليه هنا أنه لا بد من التفريق بين شرك الإرادة المستوجب للشرك الأكبر والخلود في النار، وبين الشرك الأصغر المستوجب لحبوط العمل وإن لم يكن مخرجاً من الملة.
والضابط الفارق في ذلك هو النظر إلى النية والباعث على العمل، فمن كان عمله اتباعاً للهوى مطلقاً وإرادة الدنيا أصلاً كان مشركاً شركاً أكبر، ومن كان الباعث له على العمل حب الله وابتغاء رضوانه والدار الآخرة لكن دخل مع ذلك حب الجاه أو نحو ذلك من أسباب الرياء كان مشركاً شركاً أصغر[4].
-----------
[1] جامع البيان (7/13).
[2] الجواب الكافي (163).
[3] تيسير العزيز الحميد (536-538) باختصار.
[4] ضوابط التكفير للدكتور عبد الله القرني (128).
شرك الطاعة
قال تعالى: {اتخذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً واحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "وتفسيرها الذي لا إشكال فيه هو طاعة العلماء والعباد في معصية الله سبحانه، لا دعاؤهم إياهم، كما فسّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما سأله فقال: لسنا نعبدهم! فذكر له أن عبادتهم طاعتهم في المعصية"[1].
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: ((يا عدّي، اطرح عنك هذا الوثن))، وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ}، قال: ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه))[2].
قال ابن تيمية: "وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحلّ الله يكونون على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدّلوا دين الله فيتّبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤساهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركاً وإن لم يكونوا يصلّون لهم ويسجدون لهم، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء.(/3)
والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً[3]، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما الطاعة في المعروف))[4]، وقال: ((على المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية))[5]" [6].
وقال ابن تيمية أيضاً: "ثم ذلك المحرِّم للحلال والمحلِّل للحرام إن كان مجتهداً قصدُه ابتاع الرسول لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى الله ما استطاع، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه، ولكن من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمّه الله، لا سيما إن اتّبع في ذلك هواه ونصره باللسان واليد، مع علمه بأنه مخالف للرسول، فهذا شرك يستحقّ صاحبه العقوبة عليه"[7].
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بيان فوائد حديث عدي رضي الله عنه: "وفيه تغيّر الأحوال إلى هذه الغاية صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، ويسمونها الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه"[8].
قال سليمان آل الشيخ: "يشير إلى ما يعتقده كثير من الناس فيمن ينتسب إلى الولاية من الضر والنفع والعطاء والمنع، ويسمون ذلك الولاية والسر، ونحو ذلك وهو الشرك.
وقوله: وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، أي: هي التي تسمّى اليوم العلم والفقه المؤلَّف على مذاهب الأئمة ونحوهم، فيطيعونهم في كل ما يطيعونك[9]، سواء وافق حكم الله أم خالفه، بل لا يعبؤون بما خالف ذلك من كتاب وسنة، بل يردون كلام الله وكلام رسوله لأقوال من قلَّدوه، ويصرِّحون بأنه لا يحلّ العمل بكتاب ولا سنة، وأنه لا يجوز تلقي العلم والهدى منهما، وإنما الفقه والهدى عندهم هو ما وجدوه في هذه الكتب، بل أعظم من ذلك وأطمّ رمي كثير منهم كلام الله وكلام رسوله بأنه لا يفيد العلم ولا اليقين في باب معرفة أسماء الله وصفاته وتوحيده، ويسمّونها ظواهر لفظية، ويسمّون ما وضعه الفلاسفة المشركون القواطع العقلية، ثم يقدّمونها في باب الأسماء والصفات والتوحيد على ما جاء من عند الله، ثم يرمون من خرج عن عبادة الأحبار والرهبان إلى طاعة رب العالمين وطاعة رسوله وتحكيم ما أنزل الله في موارد النزاع بالبدعة أو الكفر"[10].
-------------
[1] الدرر السنية (2/70).
[2] أخرجه الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة التوبة (3095) واللفظ له، وابن جرير في تفسيره، والبيهقي (10/116)، وحسنه ابن تيمية في الإيمان (7/67ـمجموع الفتاوى)، كما حسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2471).
[3] كذا العبارة في المجموع وفيها قلب ولعل صوابها: "بتحريم الحرام وتحليل الحلال".
[4] أخرجه البخاري في الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (7145)، ومسلم في الإمارة (1840) من حديث علي رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري بنحوه في الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (7144) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[6] مجموع الفتاوى (7/70).
[7] مجموع الفتاوى (7/71).
[8] كتاب التوحيد، ضمن الجامع الفريد (163).
[9] كذا في المطبوع، ولعله تصحيف.
[10] تيسير العزيز الحميد (553).
شرك المحبة
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءواْ مِنَّا كَذالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:165-167].
قال ابن زيد: "هؤلاء المشركون، أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله، يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، والذين آمنوا أشد حباً لله من حبهم هم لآلهتهم"[1].
قال ابن القيم: "منزلة المحبة: وهي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علَمها شمّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروّح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرِمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدِمه حلّت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه" إلى آخر كلامه[2].(/4)
وقال سليمان آل الشيخ: "واعلم أن المحبة قسمان: مشتركة وخاصة.
فالمشتركة ثلاثة أنواع:
أحدها: محبة طبيعية، كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء ونحو ذلك، وهذه لا تستلزم التعظيم.
الثاني: محبة رحمة وإشفاق، كمحبة الوالد لولده الطفل، وهذه أيضاً لا تستلزم التعظيم.
الثالث: محبة أنس وإلف، وهي محبة المشتركين في صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر لبعضهم بعضاً، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضاً.
فهذه الأنواع الثلاثة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون شركاً في محبة الله، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وكان يحب نساءه، وعائشة أحبّهن إليه، وكان يحبّ أصحابه، وأحبّهم إليه الصديق رضي الله عنه.
القسم الثاني: المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله، ومتى أحبّ العبد بها غيره كان شركاً لا يغفره الله، وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة وإيثاره على غيره، فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلاً، وهي التي سوّى المشركون بين الله تعالى وبين آلهتهم فيها"[3].
----------------
[1] جامع البيان (3/280).
[2] مدارج السالكين (3/6-7).
[3] تيسير العزيز الحميد (467-468).
شرك الخوف
قال تعالى: {إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:175].
قال مجاهد: "يخوّف المؤمنين بالكفار"[1].
قال سليمان آل الشيخ: "الخوف على ثلاثة أقسام:
أحدها: خوف الشر، وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بما يشاء، من مرض أو فقر أو قتل ونحو ذلك، بقدرته ومشيئته، سواء ادَّعى أن ذلك كرامة للمخوف بالشفاعة، أو على سبيل الاستقلال، فهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير الله أصلاً، لأن هذا من لوازم الإلهية، فمن اتخذ مع الله نداً يخافه هذا الخوف فهو مشرك.
وهذا هو الذي كان المشركون يعتقدونه في أصنامهم وآلهتهم، ولهذا يخوفوِّن به أولياء الرحمن، وهذا القسم هو الواقع اليوم من عبّاد القبور، فإنهم يخافون الصالحين، بل الطواغيت، كما يخافون الله بل أشدّ، ولهذا إذا توجّهت على أحدهم اليمين بالله أعطاك ما شئت من الأيمان كاذباً أو صادقاً، فإن كان اليمين بصاحب التربة لم يُقدم على اليمين إن كان كاذباً، وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أخوف عنده من الله، ولا ريب أنّ هذا ما بلغ إليه شرك الأولين، بل جهد أيمانهم اليمين بالله تعالى.
الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير عذر إلا الخوف من الناس، فهذا محرم.
الثالث: خوف وعيد الله الذي توعّد به العصاة، وهو الذي قال الله فيه: {ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14]، وقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان، وإنما يكون محموداً إذا لم يوقع في القنوط واليأس من رَوح الله.
بقي قسم رابع: وهو الخوف الطبيعي، كالخوف من عدو وسبع وهدم وغرق ونحو ذلك، فهذا لا يذم، وهو الذي ذكره الله عن موسى عليه الصلاة والسلام في قوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:21]"[2].
------------
[1] جامع البيان (3/525).
[2] تيسير العزيز الحميد (484-486) بتصرف واختصار.
الشرك في التوكل
قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة:23].
قال سليمان آل الشيخ: "وفي الآية دليل على أن التوكل على الله عبادة، وعلى أنه فرض، وإذا كان كذلك فصرفه لغير الله شرك"[1].
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىا رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].
قال ابن كثير: "أي: لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، ولهذا قال سعيد بن المسيب: التوكل على الله جماع الإيمان"[2].
قال ابن القيم: "التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين، لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين، وعموم التوكل، ووقوعه من المؤمنين والكفار والأبرار والفجار والطير والوحش والبهائم"[3].
وأما التوكل على غير الله فهو قسمان.
قال سليمان آل الشيخ: "أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من النصر والحفظ والرزق والشفاعة، فهذا شرك أكبر، فإن هذه الأمور ونحوها لا يقدر عليها إلا الله تبارك وتعالى.(/5)
والثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة العادية، كمن يتوكّل على أمير أو سلطان، فيما جعله الله بيده من الرزق أو دفع الأذى ونحو ذلك، فهذا شرك خفي.
والوكالة الجائزة هي توكيل الإنسان في فعل مقدور عليه، ولكن ليس له أن يتوكل عليه وإن وكّله، بل يتوكّل على الله، ويعتمد عليه في تيسير ما وكله فيه"[4].
--------------
[1] تيسير العزيز الحميد (497).
[2] تفسير القرآن العظيم (2/452).
[3] مدارج السالكين (2/113-114).
[4] تيسير العزيز الحميد (497-498).(/6)
الشرك
أولا: تمهيد:
1- أهمية التوحيد ومعرفة ما يضاده:
قال ابن أبي العز: "اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ اله غَيْرُهُ} [المؤمنون:23]، وقال هود عليه السلام لقومه: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ اله غَيْرُهُ}... وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)).
ولهذا كان الصحيح أنَّ أوَّل واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك، كما هي أقوالٌ لأرباب الكلام المذموم، بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان... فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة))، وهو أول واجب وآخر واجب".
ولأهمية التوحيد كان لا بد من معرفة ما يضادّه وهو الشرك حتى يحذر منه المرء على توحيده.
قال سليمان آل الشيخ: "لما كان الشرك أعظم ذنب عصي الله به، ولهذا رتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، من إباحة دماء أهله وأموالهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه، نبه المصنف بهذه الترجمة على أنه ينبغي للمؤمن أن يخاف منه ويحذره، ويعرف أسبابه ومبادئه وأنواعه لئلا يقع فيه، ولهذا قال حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه. وذلك أن من لم يعرف إلا الخير قد يأتيه الشر ولا يعرف أنه شر، فإما أن يقع فيه، وإما أن لا ينكرَه كما ينكره الذي عرفه، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية)".
2- هل الأصل في الإنسان التوحيد أم الشرك؟
اتفق أهل الملل الثلاثة ـ اليهود والنصارى والمسلمون ـ على أن الأصل في الإنسان هو التوحيد، والشرك طارئ عليه.
وذلك بناء على أن البشر خلقوا من نفس واحدة وهي نفس آدم عليه السلام كما قال تعالى: {ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء} [النساء:1]. وهذا متفق عليه بين الديانات الثلاثة.
ومما يدل على ذلك:
1- أن الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام كان نبياً يعبد الله وحده لا شريك له، وعلّم أبناءه التوحيد.
قال ابن تيمية: "ولم يكن الشرك أصلاً في الآدميين، بل كان آدم ومن كان على دينه من بنيه على التوحيد لله، لاتباعهم النبوة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ} [يونس:19]، قال ابن عباس: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام). فبتركهم اتباع شريعة الأنبياء وقعوا في الشرك، لا بوقوعهم في الشرك خرجوا عن شريعة الإسلام".
2- أن الله تعالى أخبر في كتابه أن الفطرة التي فطر الناس عليها هي فطرة الإسلام التي هي التوحيد الخالص.
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم30].
وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172].
قال ابن عباس: (مسح ربك ظهر آدم فخرجت كلّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنعمان هذه ـ وأشار بيده ـ، فأخذ مواثيقهم وأشهدهم على أنفسهم: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ}).
وقال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر ـ يا محمد ـ ربَّك إذ استخرج ولد آدم من أصلاب آبائهم، فقرّرهم بتوحيده، وأشهد بعضهم على بعض شهادتهم بذلك وإقرارهم به".
3- بين الله تعالى أن التوحيد هو أصل دعوة الرسل وإليه دعوا أقوامهم.
قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى:13].(/1)
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:24].
قال ابن تيمية: "إن الناس كانوا بعد آدم عليه السلام وقبل نوح عليه السلام على التوحيد والإخلاص، كما كان أبوهم آدم أبو البشر عليه السلام، حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان بدعة من تلقاء أنفسهم، لم ينزل الله بها كتاباً ولا أرسل بها رسولاً، بشبهات زيّنها الشيطان من جهة المقاييس الفاسدة والفلسفة الحائدة، قوم منهم زعموا أن التماثيل طلاسم الكواكب السماوية والدرجات الفلكية والأرواح العلوية، وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الأنبياء والصالحين... فابتعث الله نبيه نوحاً عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وينهاهم عن عبادة ما سواه... وجاءت الرسل بعده تترى، إلى أن عم الأرض دين الصائبة والمشركين، كما كانت النماردة والفراعنة، فبعث الله تعالى إليهم إمام الحنفاء وأساس الملة الخالصة والكلمة الباقية إبراهيم خليل الرحمن فدعا الخلق من الشرك إلى الإخلاص، ونهاهم عن عبادة الكواكب والأصنام".
4- ومن الأدلة في السنة النبوية حديث عياض بن حمار رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمَت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزّل به سلطاناً)).
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟!))، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].
قال ابن تيمية: "فالصواب أنها فطرة الإسلام، وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف:172]، وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة... وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فقال: ((كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟!)) بيّن أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن، وأن العيب حدثٌ طارئ".
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يوضّح كيفية دخول الشرك، فعنه في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23]، قال: (صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ؛ أما وَدّ كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجوف عند سبإ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبَد، حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عبِدَت).
أخرجه البخاري في الإيمان، باب: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة} (25)، ومسلم في الإيمان (22) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
أخرجه أحمد في مسنده (5/233)، وأبو داود في الجنائز، باب: في التلقين (3116)، والحاكم في المستدرك (1/503) من حديث معاذ رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2673).
شرح العقيدة الطحاوية (77-78)، وانظر: مدارج السالكين (3/462).
هي ترجمة: (باب الخوف من الشرك) في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
تيسير العزيز الحميد (114).
الشرك في القديم والحديث (1/181).
مجموع الفتاوي (20/106).
أي: بعرفة.
جامع البيان (6/110).
جامع البيان (6/110).
مجموع الفتاوي (28/603).
أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865).
أي: سليمة من العيوب، مجتمعة الأعضاء. النهاية في غريب الحديث (1/296).
أي: مقطوعة الأطراف، أو واحدها. النهاية في غريب الحديث (1/247).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: {لا تبديل لخلق الله} (4775)، ومسلم في القدر (2658).
مجموع الفتاوى (4/245).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: {وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق} (4920).
ثانيا: تعريف وبيان:
1- معنى الشرك لغة:
قال ابن فارس: "الشين والراء والكاف أصلان، أحدهما يدلّ على مقارنة وخلافِ انفرادٍ، والآخر يدلّ على امتداد واستقامة.
فالأول: الشركة، وهو أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما، يقال: شاركت فلاناً في الشيء إذا صرت شريكَه، وأشركت فلاناً إذا جعلته شريكاً لك".
وقال الجوهري: "الشريك يجمع على شركاء وأشراك، وشاركت فلاناً صرت شريكه، واشتركنا وتشاركنا في كذا، وشركته في البيع والميراث أشركه شركة، والاسم: الشرك".
وقال أيضاً: "والشرك أيضاً الكفر، وقد أشرك فلان بالله فهو مشرك ومشركيّ".(/2)
وقال الفيروز آبادي: "الشِّرك والشُِّركة بكسرهما وضم الثاني بمعنى، وقد اشتركا وتشاركا وشارك أحدهما الآخر، والشِّرك بالكسر وكأمير: المشارك، والجمع أشراك وشركاء".
2- معنى الشرك شرعاً:
قال ابن سعدي: "حقيقة الشرك أن يُعبَد المخلوق كما يعبَد الله، أو يعظَّم كما يعظَّم الله، أو يصرَف له نوع من خصائص الربوبية والإلهية".
وقال الدهلوي: "إن الشرك لا يتوقّف على أن يعدِل الإنسان أحداً بالله، ويساوي بينهما بلا فرق، بل إن حقيقة الشرك أن يأتي الإنسان بخلال وأعمال ـ خصها الله تعالى بذاته العلية، وجعلها شعاراً للعبودية ـ لأحد من الناس، كالسجود لأحد، والذبح باسمه، والنذر له، والاستعانة به في الشدة، والاعتقاد أنه ناظر في كل مكان، وإثبات التصرف له، كل ذلك يثبت به الشرك ويصبح به الإنسان مشركاً".
3- الفرق بين الشرك والكفر:
1- أما من حيث اللغة فإن الشرك بمعنى المقارنة، أي: أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما. أما الكفر فهو بمعنى الستر والتغطية.
قال ابن فارس: "الكاف والفاء والراء أصل صحيح يدل على معنى واحد، وهو الستر والتغطية"، إلى أن قال: "والكفر ضد الإيمان، سُمّي لأنه تغطية الحق، وكذلك كفران النعمة جحودها وسترها".
2- وأما من حيث الاستعمال الشرعي فقد يطلقان بمعنى واحد، قال الله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا} [الكهف:35-38].
وقد يفرق بينهما، قال النووي: "الشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد وهو الكفر بالله تعالى، وقد يفرق بينهما فيخص الشرك بعبادة الأوثان وغيرها من المخلوقات مع اعترافهم بالله تعالى ككفار قريش، فيكون الكفر أعم من الشرك".
مقاييس اللغة (3/265).
الصحاح (4/1593-1594).
الصحاح (4/1593-1594).
القاموس المحيط (2/1251).
تيسير الكريم الرحمن (2/499).
رسالة التوحيد (ص32، 33). وانظر: الشرك في القديم والحديث (1/120).
مقاييس اللغة (5/191).
شرح صحيح مسلم (2/71)، وانظر: حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد (302).
ثالثا: أنواع الشرك:
الشرك ثلاثة أنواع: شرك أكبر، وشرك أصغر، وشرك خفي.
وهذا التقسيم هو أحسن التقاسيم المذكورة لأنواع الشرك.
النوع الأول: الشرك الأكبر:
وهو ثلاثة أنواع، يتعلق كل نوع بأنواع التوحيد الثلاثة.
قال سليمان بن عبد الله آل الشيخ: "فاعلم أن الشرك ينقسم ثلاثة أقسام بالنسبة إلى أنواع التوحيد، وكل منها قد يكون أكبر وأصغر مطلقاً، وقد يكون أكبر بالنسبة إلى ما هو أصغر منه، ويكون أصغر بالنسبة إلى ما هو أكبر منه".
1- الشرك في الربوبية:
قال ابن تيمية: "أما النوع الثاني فالشرك في الربوبية، فإن الرب سبحانه هو المالك المدبر، المعطي المانع، الضار النافع، الخافض الرافع، المعز المذل، فمن شهد أن المعطي أو المانع أو الضار أو النافع أو المعز أو المذل غيره فقد أشرك بربوبيته".
وهذا إما شرك في التعطيل وإما شرك في الأنداد:
أ- شرك التعطيل:
قال سليمان آل الشيخ: "شرك التعطيل: وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]، ومن هذا شرك الفلاسفة القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن معدوماً أصلا، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها يسمونها العقول والنفوس.
ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود، كابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني وابن الفارض، ونحوهم من الملاحدة الذين كسوا الإلحاد حلية الإسلام، ومزجوه بشيء من الحق، حتى راج أمرهم على خفافيش البصائر".
ب- شرك الأنداد:
وهو شرك من جعل مع الله إلهاً آخر ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته.
قال سليمان آل الشيخ: "النوع الثاني: شرك من جعل معه إلهاً آخر ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة، وشرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة.
ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات، ويجعلها مدبّرة لأمر هذا العالم، كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم. ويلتحق به من وجه شرك غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواحَ الأولياء تتصرف بعد الموت، فيقضون الحاجات، ويفرجون الكربات، وينصرون من دعاهم، ويحفظون من التجأ إليهم ولاذ بحماهم، فإن هذه من خصائص الربوبية".
وخلاصة هذا النوع ما يلي:(/3)
أ- الشرك في الربوبية بالتعطيل: وذلك إما بالإلحاد كقول فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} وكالمذهب الشيوعي، وإما بتعطيل الكون عن صانعه كالقول بقدم العالم والقول بوحدة الوجود، وإما بتعطيل الصانع عن أفعاله كشرك منكري إرسال الرسل ومنكري القدر والبعث وغير ذلك.
ب- الشرك في الربوبية بالأنداد: وذلك إما بدعوى تصرف غير الله تعالى في الكون كشرك مشركي قوم إبراهيم الصابئة والمتصوفة القائلين بالغوث والقطب والأوتاد والأبدال المعتقدين فيهم التصرف والتدبير، وإما بإعطاء حق التشريع والتحليل والتحريم لغير الله تعالى كما هو عند النصارى وغيرهم وكما هو في القوانين الوضعية، وإما بدعوى تأثير النجوم والهياكل في الكون كما يعتقده الصابئة من قوم إبراهيم، أو دعوى تأثير الأولياء أو التمائم والأحجبة.
2- الشرك في توحيد الأسماء والصفات:
وهو أيضا إما بالتعطيل وإما بالأنداد:
أ- شرك التعطيل:
وذلك بتعطيل الصانع عن كماله المقدس، كشرك الجهمية الغلاة والقرامطة الذين أنكروا أسماء الله عز وجل وصفاته.
ب- شرك الأنداد:
وهو على وجهين:
الوجه الأول: إثبات صفات الله تعالى للمخلوقين، وذلك بالتمثيل في أسمائه أو صفاته كالشرك في علم الباري المحيط، ويدخل في ذلك التنجيم والعرافة والكهانة، وادعاء علم المغيبات لأحد غير الله، وكالشرك في قدرة الله الكاملة، وذلك بادعاء التصرف للغير في ملكوت الله، وخوف الضرر أو التماس النفع من غير الله، أو بالاستغاثة بغير الله، أو تسمية غيره غوثاً، أو بالسحر والتسحّر.
الوجه الثاني: وصف الله تعالى وتقدس بصفات المخلوقين، كشرك اليهود المغضوب عليهم الذين شبهوا الله بخلقه، فوصفوا الله تعالى بأنه فقير وأن يده مغلولة، وهكذا النصارى في قولهم بالبنوة والأبوة، وما إلى ذلك من صفات المخلوقات.
ويدخل في ذلك كل من شبّه الله بخلقه ومثله بهم من هذه الأمة.
3- الشرك في توحيد الألوهية:
قال ابن تيمية: "فأما الشرك في الإلهية فهو أن يجعل لله نداً ـ أي: مثلاً ـ في عبادته أو محبته أو خوفه أو رجائه أو إنابته، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، قال تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:48]، وهذا هو الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب لأنهم أشركوا في الإلهية، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ} الآية [البقرة:165]، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الآية [الزمر:3]، وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ الهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَىْء عُجَابٌ} [ص:5]، وقال تعالى: {أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:24]، إلى قوله: {الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ الهاً ءاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:26]".
وقال المقريزي: "فالشرك في الإلهية والعبادة هو الغالب على أهل الإشراك، وهو شرك عبّاد الأصنام، وعبّاد الملائكة، وعبّاد الجن، وعبّاد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات، الذين قالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده، وينالنا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قربٌ وكرامة، كما هو المعهود في الدنيا من حصول الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك وأقاربه وخاصته. والكتب الإلهية كلها من أوّلها إلى آخرها تبطل هذا المذهب وتردّه، وتقبِّح أهله، وتنصّ على أنهم أعداء الله تعالى، وجميع الرسل صلوات الله عليهم متفقون على ذلك من أوّلهم إلى آخرهم، وما أهلك الله تعالى من أهلك من الأمم إلا بسبب هذا الشرك ومن أجله".
أنواع الشرك في الألوهية:
أ- شرك الدعوة:
قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65].
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره: فإذا ركب هؤلاء المشركون السفينة في البحر، فخافوا الغرق والهلاك فيه {دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ}، يقول: أخلصوا لله عند الشدة التي نزلت بهم التوحيدَ، وأفردوا له الطاعة، وأذعنوا له بالعبودة، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم ولكن بالله الذي خلقهم. {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ}، يقول: فلما خلّصهم مما كانوا فيه وسلّمهم فصاروا إلى البر إذا هم يجعلون مع الله شريكاً في عبادتهم، ويدعون الآلهة والأوثان معه أرباباً".
وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ B وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} [يونس:106، 107].(/4)
قال ابن جرير: "ولا تدع ـ يا محمد ـ من دون معبودك وخالقك شيئاً لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك في دين ولا دنيا، يعني بذلك الآلهة والأصنام، أي: لا تعبدها راجياً نفعها أو خائفاً ضرها، فإنها لا تنفع ولا تضر، {فَإِن فَعَلْتَ} ذلك فدعوتَها من دون الله {فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ}، يقول: من المشركين بالله الظالمين أنفسهم".
وقال سليمان آل الشيخ: "والآية نص في أن دعاء غير الله والاستغاثة به شرك أكبر، ولهذا قال: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]، لأنه المتفرد بالملك والقهر والعطاء والمنع، ولازم ذلك إفراده بتوحيد الإلهية لأنهما متلازمان، وإفراده بسؤال كشف الضر وجلب الخير، لأنه لا يكشف الضر إلا هو، ولا يجلب الخير إلا هو، {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:4]، فتعيّن أن لا يدعَى لذلك إلا هو، وبطل دعاء مَن سواه ممن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فضلاً عن غيره، وهذا ضدّ ما عليه عبّاد القبور، فإنهم يعتقدون أن الأولياء والطواغيت الذين يسمونهم المجاذيب ينفعون ويضرون، ويمَسّون بالضر ويكشفونه، وأن لهم التصرف المطلق في الملك".
وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ E وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5، 6].
قال سليمان آل الشيخ: "حاصل كلام المفسرين أن الله تعالى حكم بأنه لا أضلّ ممن يدعو من دون الله لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة واستغاثة مَن هذه حالُه، ومعنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضُّلاَّل كلِّهم أبلغ ضلالاً ممن عبد غير الله ودعاه حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كلّ بغية ومرام، ويدعون من دونه من لا يستجيب لهم، ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دام في الدنيا وإلى أن تقوم القيامة".
وقد قرّر العلماء أن دعاء المسألة ودعاء العبادة متلازمان، قال سليمان آل الشيخ: "واعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة ودعاء مسألة، ويراد به في القرآن هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان.
فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، فالمعبود لا بد أن يكون مالكاً للنفع والضر، ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضراً ولا نفعاً كقوله: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:76]، وذلك كثير في القرآن، فهو يدعي للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعي خوفاً ورجاء دعاء العبادة، فعلم أن النوعين متلازمان، فكل دعاء عبادة مستلزم دعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة، وهذا لو لم يرد في دعاء المسألة بخصوصه من القرآن إلا الآيات التي ذكر فيها دعاء العبادة، فكيف وقد ذكر الله في القرآن في غير موضع، قال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55]، وقال تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16] وغير ذلك".
وقد نص العلماء على أن من صرف شيئاً من نوعَي الدعاء لغير الله فهو مشرك.
قال ابن تيمية: "من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكّل عليهم يدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً".
وقال ابن القيم: "ومن أنواعه ـ أي: الشرك ـ طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم".
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "ومن نوع هذا الشرك أن يعتقد الإنسان في غير الله من نجم أو إنسان أو نبي أو صالح أو كاهن أو ساحر أو نبات أو حيوان أو غير ذلك أنه يقدر بذاته على جلب منفعة من دعاه أو استغاث به، أو دفع مضرة".
وقال سليمان آل الشيخ: "فاعلم أن العلماء أجمعوا على أن من صرف شيئاً من نوعي الدعاء لغير الله فهو مشرك ولو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله وصلى وصام؛ إذ شرط الإسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يعبد إلا الله، فمن أتى بالشهادتين وعبد غير الله فما أتى بهما حقيقة وإن تلفظ بهما، كاليهود الذين يقولون: لا إله إلا الله وهم مشركون، ومجرّد التلفّظ بهما لا يكفي في الإسلام بدون العمل بمعناهما واعتقاده إجماعاً".
ب- شرك النية والإرادة والقصد:
قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحياةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود:15، 16].(/5)
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من عمل صالحاً التماس الدنيا، صوماً أو صلاة أو تهجداً بالليل لا يعمله إلا لالتماس الدنيا، يقول الله: أوفّيه الذي التمَسَ في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعمل التمَاسَ الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين).
وقال ابن القيم: "أما الشرك في الإرادات والنيّات فذلك البحر الذي لا ساحل له وقلّ من ينجو منه، من أراد بعمله غير وجه الله ونوى شيئاً غير التقريب إليه وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته".
وقد سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن معنى قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحياةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} فأجاب بما ملخصه: "ذكر عن السلف من أهل العلم فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه، فمن ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة وإحسان إلى الناس، وترك ظلم ونحو ذلك مما يفعله الإنسان، أو يتركه خالصاً لله لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته، أو حفظ أهله وعياله، أو إدامة النعم عليهم، ولا همّة له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة نصيب.
النوع الثاني وهو أكبر من الأول وأخوف: وهو أن يعمل أعمالاً صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة.
النوع الثالث: أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد به مالاً، مثل أن يحج لمالٍ يأخذه لا لله، أو يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر أيضاً هذا النوع في تفسير هذه الآية، وهؤلاء أعقل من الذين قبلهم؛ لأنهم عملوا لمصلحة يحصلونها، والذين قبلهم عملوا من أجل المدح والجلالة في أعين الناس، ولا يحصل لهم طائل، والنوع الأول أعقل من هؤلاء، لأنهم عملوا لله وحده لا شريك له، لكن لم يطلبوا منه الخير الكثير الدائم وهو الجنة، ولم يهربوا من الشر العظيم وهو النار.
النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصاً في ذلك لله وحده لا شريك له لكنه على عمل يكفّره كفراً يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم.
بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله طالباً ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالاً قاصداً بها الدنيا، مثل أن يحج فرضه لله، ثم يحج بعده لأهل الدنيا، فهو لما غلب عليه منهما".
تنبيه هام:
مما ينبغي التأكيد عليه هنا أنه لا بد من التفريق بين شرك الإرادة المستوجب للشرك الأكبر والخلود في النار، وبين الشرك الأصغر المستوجب لحبوط العمل وإن لم يكن مخرجاً من الملة.
والضابط الفارق في ذلك هو النظر إلى النية والباعث على العمل، فمن كان عمله اتباعاً للهوى مطلقاً وإرادة الدنيا أصلاً كان مشركاً شركاً أكبر، ومن كان الباعث له على العمل حب الله وابتغاء رضوانه والدار الآخرة لكن دخل مع ذلك حب الجاه أو نحو ذلك من أسباب الرياء كان مشركاً شركاً أصغر.
ج- شرك الطاعة:
قال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الهاً واحِداً لاَّ اله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "وتفسيرها الذي لا إشكال فيه هو طاعة العلماء والعباد في معصية الله سبحانه، لا دعاؤهم إياهم، كما فسّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما سأله فقال: لسنا نعبدهم! فذكر له أن عبادتهم طاعتهم في المعصية".
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: ((يا عدّي، اطرح عنك هذا الوثن))، وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ}، قال: ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه)).
قال ابن تيمية: "وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحلّ الله يكونون على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدّلوا دين الله فيتّبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤساهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركاً وإن لم يكونوا يصلّون لهم ويسجدون لهم، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء.(/6)
والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما الطاعة في المعروف))، وقال: ((على المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية))" .
وقال ابن تيمية أيضاً: "ثم ذلك المحرِّم للحلال والمحلِّل للحرام إن كان مجتهداً قصدُه ابتاع الرسول لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى الله ما استطاع، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه، ولكن من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمّه الله، لا سيما إن اتّبع في ذلك هواه ونصره باللسان واليد، مع علمه بأنه مخالف للرسول، فهذا شرك يستحقّ صاحبه العقوبة عليه".
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بيان فوائد حديث عدي رضي الله عنه: "وفيه تغيّر الأحوال إلى هذه الغاية صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، ويسمونها الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه".
قال سليمان آل الشيخ: "يشير إلى ما يعتقده كثير من الناس فيمن ينتسب إلى الولاية من الضر والنفع والعطاء والمنع، ويسمون ذلك الولاية والسر، ونحو ذلك وهو الشرك.
وقوله: وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، أي: هي التي تسمّى اليوم العلم والفقه المؤلَّف على مذاهب الأئمة ونحوهم، فيطيعونهم في كل ما يطيعونك، سواء وافق حكم الله أم خالفه، بل لا يعبؤون بما خالف ذلك من كتاب وسنة، بل يردون كلام الله وكلام رسوله لأقوال من قلَّدوه، ويصرِّحون بأنه لا يحلّ العمل بكتاب ولا سنة، وأنه لا يجوز تلقي العلم والهدى منهما، وإنما الفقه والهدى عندهم هو ما وجدوه في هذه الكتب، بل أعظم من ذلك وأطمّ رمي كثير منهم كلام الله وكلام رسوله بأنه لا يفيد العلم ولا اليقين في باب معرفة أسماء الله وصفاته وتوحيده، ويسمّونها ظواهر لفظية، ويسمّون ما وضعه الفلاسفة المشركون القواطع العقلية، ثم يقدّمونها في باب الأسماء والصفات والتوحيد على ما جاء من عند الله، ثم يرمون من خرج عن عبادة الأحبار والرهبان إلى طاعة رب العالمين وطاعة رسوله وتحكيم ما أنزل الله في موارد النزاع بالبدعة أو الكفر".
د- شرك المحبة:
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءواْ مِنَّا كَذالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:165-167].
قال ابن زيد: "هؤلاء المشركون، أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله، يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، والذين آمنوا أشد حباً لله من حبهم هم لآلهتهم".
قال ابن القيم: "منزلة المحبة: وهي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علَمها شمّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروّح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرِمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدِمه حلّت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه" إلى آخر كلامه.
وقال سليمان آل الشيخ: "واعلم أن المحبة قسمان: مشتركة وخاصة.
فالمشتركة ثلاثة أنواع:
أحدها: محبة طبيعية، كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء ونحو ذلك، وهذه لا تستلزم التعظيم.
الثاني: محبة رحمة وإشفاق، كمحبة الوالد لولده الطفل، وهذه أيضاً لا تستلزم التعظيم.
الثالث: محبة أنس وإلف، وهي محبة المشتركين في صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر لبعضهم بعضاً، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضاً.
فهذه الأنواع الثلاثة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون شركاً في محبة الله، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وكان يحب نساءه، وعائشة أحبّهن إليه، وكان يحبّ أصحابه، وأحبّهم إليه الصديق رضي الله عنه.(/7)
القسم الثاني: المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله، ومتى أحبّ العبد بها غيره كان شركاً لا يغفره الله، وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة وإيثاره على غيره، فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلاً، وهي التي سوّى المشركون بين الله تعالى وبين آلهتهم فيها".
هـ- شرك الخوف:
قال تعالى: {إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:175].
قال مجاهد: "يخوّف المؤمنين بالكفار".
قال سليمان آل الشيخ: "الخوف على ثلاثة أقسام:
أحدها: خوف الشر، وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بما يشاء، من مرض أو فقر أو قتل ونحو ذلك، بقدرته ومشيئته، سواء ادَّعى أن ذلك كرامة للمخوف بالشفاعة، أو على سبيل الاستقلال، فهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير الله أصلاً، لأن هذا من لوازم الإلهية، فمن اتخذ مع الله نداً يخافه هذا الخوف فهو مشرك.
وهذا هو الذي كان المشركون يعتقدونه في أصنامهم وآلهتهم، ولهذا يخوفوِّن به أولياء الرحمن، وهذا القسم هو الواقع اليوم من عبّاد القبور، فإنهم يخافون الصالحين، بل الطواغيت، كما يخافون الله بل أشدّ، ولهذا إذا توجّهت على أحدهم اليمين بالله أعطاك ما شئت من الأيمان كاذباً أو صادقاً، فإن كان اليمين بصاحب التربة لم يُقدم على اليمين إن كان كاذباً، وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أخوف عنده من الله، ولا ريب أنّ هذا ما بلغ إليه شرك الأولين، بل جهد أيمانهم اليمين بالله تعالى.
الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير عذر إلا الخوف من الناس، فهذا محرم.
الثالث: خوف وعيد الله الذي توعّد به العصاة، وهو الذي قال الله فيه: {ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14]، وقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان، وإنما يكون محموداً إذا لم يوقع في القنوط واليأس من رَوح الله.
بقي قسم رابع: وهو الخوف الطبيعي، كالخوف من عدو وسبع وهدم وغرق ونحو ذلك، فهذا لا يذم، وهو الذي ذكره الله عن موسى عليه الصلاة والسلام في قوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:21]".
و- الشرك في التوكل:
قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة:23].
قال سليمان آل الشيخ: "وفي الآية دليل على أن التوكل على الله عبادة، وعلى أنه فرض، وإذا كان كذلك فصرفه لغير الله شرك".
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].
قال ابن كثير: "أي: لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، ولهذا قال سعيد بن المسيب: التوكل على الله جماع الإيمان".
قال ابن القيم: "التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين، لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين، وعموم التوكل، ووقوعه من المؤمنين والكفار والأبرار والفجار والطير والوحش والبهائم".
وأما التوكل على غير الله فهو قسمان.
قال سليمان آل الشيخ: "أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من النصر والحفظ والرزق والشفاعة، فهذا شرك أكبر، فإن هذه الأمور ونحوها لا يقدر عليها إلا الله تبارك وتعالى.
والثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة العادية، كمن يتوكّل على أمير أو سلطان، فيما جعله الله بيده من الرزق أو دفع الأذى ونحو ذلك، فهذا شرك خفي.
والوكالة الجائزة هي توكيل الإنسان في فعل مقدور عليه، ولكن ليس له أن يتوكل عليه وإن وكّله، بل يتوكّل على الله، ويعتمد عليه في تيسير ما وكله فيه".
النوع الثاني: الشرك الأصغر:
1- تعريفه:
قال ابن سعدي: "هو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسّل بها إلى الشرك كالغلو في المخلوق الذي لا يبلغ رتبة العبادة، كالحلف بغير الله ويسير الرياء ونحو ذلك".
وقال السلمان: "هو كلّ وسيلة وذريعة يتطرّق بها إلى الشرك الأكبر".
وعرفه بعضهم بأنه تسوية غير الله بالله في هيئة العمل أو أقوال اللسان، فالشرك في هيئة العمل هو الرياء، والشرك في أقوال اللسان هو الألفاظ التي فيها معنى التسوية بين الله وغيره، كقوله: ما شاء الله وشئت، وقوله: اللهم اغفر لي إن شئت، وقوله: عبد الحارث، ونحو ذلك".(/8)
واختار البعض أنه لا يعرف بل يذكر بالأمثلة، لأن تعريفه غير منضبط لكثرة أفراده وتنوعه، وذلك كما صنع ابن القيم.
2- مصدر تسميته بالشرك الأصغر:
جاء في بعض النصوص الشرعية تسمية هذا النوع من الشرك بالشرك الأصغر.
فعن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء)).
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: كنا نعدّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرياء الشرك الأصغر.
3- أنواعه:
للشرك الأصغر أنواع كثيرة، ويمكن حصرها فيما يأتي:
أ- قولي: وهو ما كان باللسان، ويدخل فيه ما يأتي:
1- الحلف بغير الله تعالى:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا يُحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حلف بغير فقد كفر أو أشرك)).
قال ابن تيمية: "والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وقد حكي إجماع الصحابة على ذلك.
وقيل: هي مكروهة كراهة تنزيه، والأول أصح، حتى قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر: (لأن أحلفَ بالله كاذباً أحبّ إليَّ من أن أحلف بغير الله صادقاً)، وذلك لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم من الكذب".
وقال سليمان آل الشيخ: "قوله: ((فقد كفر أو أشرك)) أخذ به طائفة من العلماء فقالوا: يكفر من حلف بغير الله كفرَ شرك، قالوا: ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامه بقول: لا إله إلا الله، فلولا أنه كفرٌ ينقل عن الملة لم يؤمر بذلك.
وقال الجمهور: لا يكفر كفراً ينقل عن الملة، لكنه من الشرك الأصغر، كما نصّ على ذلك ابن عباس وغيره، وأما كونه أمر من حلف باللات والعزى أن يقول: لا إله إلا الله، فلأنّ هذا كفارة له مع استغفاره، كما قال في الحديث الصحيح: ((ومن حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله))، وفي رواية ((فليستغفر))، فهذا كفارة له في كونه تعاطى صورةَ تعظيم الصنم، حيث حلف به، لا أنه لتجديد إسلامه، ولو قُدّر ذلك فهو تجديد لإسلامه لنقصه بذلك لا لكفره، لكن الذي يفعله عبّاد القبور إذا طلبت من أحدهم اليمين بالله أعطاك ما شئت من الإيمان صادقاً أو كاذباً، فإذا طلبت منه اليمين بالشيخ أو تربته أو حياته ونحو ذلك لم يقدِم على اليمين به إن كان كاذباً، فهذا شرك أكبر بلا ريب، لأن المحلوف به عنده أخوف وأجلّ وأعظم من الله، وهذا ما بلغ إليه شرك عبّاد الأصنام، لأن جهد اليمين عندهم هو الحلف بالله كما قال تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ} [النحل:38]".
2- قول: "ما شاء الله وشئت":
عن قُتيلة امرأة من جهينة أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تندّدون وإنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، ويقول أحدهم: ما شاء الله ثم شئت.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئت، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شئت)).
قال سليمان آل الشيخ: قوله: (إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت) هذا نص في أن هذا اللفظ من الشرك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ اليهودي على تسمية هذا اللفظ تنديداً أو شركاً، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأرشد إلى استعمال اللفظ البعيد من الشرك، وقول: ما شاء الله ثم شئت، وإن كان الأولى قول: ما شاء الله وحده كما يدل عليه حديث ابن عباس وغيره. وعلى النهي عن قول: (ما شاء الله وشئت) جمهور العلماء".
وقال أيضاً: "وفي الحديث من الفوائد: معرفة اليهود بالشرك الأصغر، وكثير ممن يدعي الإسلام لا يعرف الشرك الأكبر... وأن الحلف بغير الله من الشرك الأصغر لا يمرق به الإنسان من الإسلام".
3- الاستسقاء بالأنواء:
قال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} [المعارج:82].
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (شكركم، تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما مُطر قوم قط إلا أصبح بعضهم كافراً يقولون: مُطرنا بنوء كذا وكذا).(/9)
وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر السماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)).
قال سليمان آل الشيخ: "والمراد بالكفر هنا هو الأصغر بنسبة ذلك إلى غير الله وكفران نعمته، وإن كان يعتقد أن الله تعالى هو الخالق للمطر المنزل له بدليل قوله في الحديث: ((فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته)) الخ، فلو كان المراد هو الأكبر لقال: أنزل علينا المطر نوء كذا، فأتى بباب السببية ليدل على أنهم نسبوا وجود المطر إلى ما اعتقدوه سبباً".
وقال عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "فإذا قال قائلهم: مطرنا بنجم كذا أو بنوء كذا فلا يخلو إما أن يعتقد أن له تأثيراً في إنزال المطر فهذا شرك وكفر، وهو الذي يعتقده أهل الجاهلية، كاعتقادهم أن دعاء الميت والغائب يجلب لهم نفعاً أو يدفع عنهم ضراً، وأنه يشفع بدعائهم إياه، فهذا هو الشرك الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه وقتال من فعله. وإما أن يقول: مطرنا بنوء كذا مثلاً، لكن مع اعتقاده أن المؤثر هو الله وحده، لكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم، والصحيح: أنه يحرم نسبة ذلك إلى النجم ولو على طريق المجاز، فقد صرح ابن مفلح وجزم في الإنصاف بتحريمه ولو على طريق المجاز، وذلك أن القائل لذلك نسب ما هو من فعل الله تعالى الذي لا يقدر عليه غيره إلى خلق مسخَّر لا ينفع ولا يضر، ولا قدرة له على شيء، فيكون ذلك شركاً أصغر، والله أعلم".
ب- فعلي: وهو ما كان بأعمال الجوارح، ويدخل فيه ما يأتي:
1- التطير:
قال ابن الأثير: "الطيَرة بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن: هي التشاؤم بالشيء. وهي مصدر تطيّر، وأصله فيما يقال: التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع أو دفع ضر".
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطيرة شرك، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل)).
قال ابن تيمية: "وأما الطيرة بأن يكون قد فعل أمراً متوكّلاً على الله أو يعزم عليه، فيسمع كلمة مكروهة: مثل ما يتم، أو ما يفلح، ونحو ذلك فيتطيّر ويترك الأمر، فهذا منهي عنه".
وقال سليمان آل الشيخ: "قوله: ((الطيرة شرك)) صريح في تحريم الطيرة، وأنها من الشرك لما فيها من تعلّق القلب على غير الله".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ردته الطيرة من حاجة فقد أشرك))، قالوا: يا رسول الله، ما كفارة ذلك؟ قال: ((أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك)).
قال سليمان آل الشيخ: "قوله: ((من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك)) وذلك أن التطير هو التشاؤم بالشيء المرئي أو المسموع، فإذا استعملها الإنسان فرجع بها عن سفره وامتنع بها عمّا عزم عليه، فقد قرع باب الشرك بل ولجه وبرئ من التوكل على الله، وفتح على نفسه باب الخوف والتعلق بغير الله، وذلك قاطع له عن مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيصير قلبه متعلقاً بغير الله، وذلك شرك، فيفسد عليه إيمانه، ويبقى هدفًا لسهام الطيرة، ويقيّض له الشيطان من ذلك ما يفسد عليه دينه ودنياه، وكم ممن هلك بذلك وخسر الدنيا والآخرة".
2- إتيان الكهان والعرافين وتصديقهم:
عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أتى عرّافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)).
قال الخطابي: "الكاهن هو الذي يدّعي مطالعة علم الغيب ويخبر الناس عن الكوائن... وكان منهم من يسمّى عرافاً، وهو الذي يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها، كالشيء يُسرق فيعرف المظنون به السرقة".
وقال عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: " وأكثر ما يقع في هذه الأمة ما يخبر به الجن أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة بما يقع في الأرض من الأخبار فيظنه الجاهل كشفاً وكرامة، وقد اغترّ بذلك كثير من الناس، يظنون المخبِر لهم بذلك عن الجن ولياً لله، وهو من أولياء الشيطان".(/10)
قال الشيخ سليمان آل الشيخ: "وظاهر الحديث أنَّ هذا الوعيد مرتّب على مجيئه وسؤاله، سواء صدّقه أو شكّ في خبره، لأن إتيان الكهان منهي عنه كما في حديث معاوية بن الحكم السلمي قلت: يا رسول الله، إن منا رجلاً يأتون الكهان، قال: ((فلا تأتهم))، ولأنه إذا شكّ في خبره فقد شكّ في أنّه لا يعلم الغيب، وذلك موجب للوعيد، بل يجب عليه أن يقطع ويعتقد أنه لا يعلم الغيب إلا الله".
وقال الشيخ أيضاً: "وظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان لاعتقاده أنه يعلم الغيب، وسواء كان ذلك من قبل الشياطين، أو من قبل الإلهام، لا سيما وغالب الكهان في وقت النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين".
وقال عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر، فلا ينقل عن الملة، أم يتوقف فيه، فلا يقال: يخرج عن الملة ولا يخرج؟ وهذا أشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى".
وقال ابن قاسم: "الأحاديث التي فيها الكفر مقيّدة بتصديقه".
وقال ابن عثيمين: "وظاهر الحديث أن مجرّد سؤاله يوجب عدم قبول صلاته أربعين يوماً، ولكنه ليس على إطلاقه، فسؤال العراف ونحوه ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن يسأله سؤالاً مجرّداً فهذا حرام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أتى عرافاً...)) إلخ، فإثبات العقوبة على سؤاله يدل على تحريمه، إذ لا عقوبة إلا على محرّم.
القسم الثاني: أن يسأله فيصدقه، ويعتبر قولَه، فهذا كفر، لأن تصديقه في علم الغيب تكذيب للقرآن.
القسم الثالث: أن يسأله ليختبره: هل هو صادق أو كاذب؟ لا لأجل أن يأخذ بقوله، فهذا لا بأس به، ولا يدخل في الحديث.
القسم الرابع: أن يسأله ليظهر عجزه وكذبه، فيمتحنه في أمُور، وهذا قد يكون واجباً أو مطلوباً".
وقال ابن عثيمين أيضاً: "قوله: ((كفر بما أنزل على محمد)) وجه ذلك: أن ما أنزل على محمد قال الله تعالى فيه: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاواتِ والأرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [النمل:65]، وهذا من أقوى طرق الحصر، لأن فيه النفي والإثبات، فالذي يصدق الكاهن في علم الغيب، وهو يعلم أنه لا يعلم الغيب إلا الله، فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً عن الملة، وإن كان جاهلاً ولا يعتقد أن القرآن فيه كذب فكفره كفر دون كفر".
3- لبس الحلقة والخيط ونحوها:
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "باب: من الشرك لبس الحلقة والخيط وغيرهما لرفع البلاء أو دفعه، وقول الله تعالى: {أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرّهِ} [الزمر:38]".
قال سليمان آل الشيخ: "فهم يعلمون أنّ ذلك لله وحده، وقد دخل في ذلك كلّ من دعا من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين فضلاً عن غيرهم، فلا يقدر أحد على كشف ضر ولا إمساك رحمة، وإذا كان كذلك بطلت عبادتهم من دون الله، وإذا بطلت عبادتهم فبطلان دعوة الآلهة والأصنام أبطل وأبطل، ولبس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه كذلك، فهذا وجه استدلال المصنف بالآية، وإن كانت الترجمة في الشرك الأصغر، فإن السلف يستدلون بما نزل في الأكبر على الأصغر، كما استدل حذيفة وابن عباس وغيرهما، وكذلك من جعل رؤوس الحمر ونحوها في البيت والزرع لدفع العين كما يفعله أشباه المشركين، فإنه يدخل في ذلك".
وقال ابن عثيمين: "ولبس هذه الأشياء قد يكون شركاً أصغر، وقد يكون شركاً أكبر، بحسب اعتقاد لابسها، وكان لبس هذه الأشياء من الشرك لأن كل من أثبت له سبباً لم يجعله الله سبباً شرعياً ولا قدرياً فقد أشرك بالله".
وقال أيضاً: "ولبس الحلقة ونحوها إن اعتقد لابسها أنها مؤثرة بنفسها دون الله فهو مشرك شركاً أكبر في توحيد الربوبية، لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً غيره، وإن اعتقد أنها سبب، ولكنه ليس مؤثراً بنفسه فهو مشرك شركاً أصغر، لأنه اعتقد أن ما ليس بسبب سبب، فقد شارك الله في الحكم لهذا الشيء بأنه سبب، والله تعالى لم يجعله سبباً".
4-تعليق التمائم:
عن زينب امرأة عبد الله، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الرقى والتمائم والتِّوَلة شرك))، قالت: قلت: لم تقول هذا؟ والله لقد كان عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيني، فإذا رقاني سكنت، فقال عبد الله: إنما ذاك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقاها كفّ عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أذهِب البأس، ربَّ الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً)).
قال ابن الأثير: "التمائم جمع تميمة، وهي خرزات كانت العرب تحلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام".
وقال أيضاً: "وإنما جعلها شركاً لأنهم أرادوا بها دفع المقادير المكتوبة عليهم، فطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه".(/11)
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "التمائم: شيء يعلق على الأولاد عن العين، لكن إذا كان المعلَّق من القرآن فرخَّص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخِّص فيه ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه.
والرقى: هي التي تسمّى العزائم، فخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخّص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة.
والتولة: شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبّب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته".
قال عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته:
فقالت طائفة: يجوز ذلك، وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو ظاهر ما روي عن عائشة، وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية، وحملوا الحديث على التمائم التي فيها شرك.
وقالت طائفة: لا يجوز ذلك، وبه قال ابن مسعود وابن عباس، وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر، وبه قال جماعة من التابعين، منهم أصحاب ابن مسعود، وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه، وجزم بها المتأخرون، واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه.
وهذا هو الصحيح لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل:
الأول: عموم النهي ولا مخصّص للعموم.
الثاني: سدّ الذريعة، فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك.
الثالث: أنه إذا علّق فلا بد أن يمتهنه المعلق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك".
قال ابن عثيمين: "قوله: ((شرك)) هل هي شرك أصغر أو أكبر؟
نقول: بحسب ما يريد الإنسان منها، إن اتخذها معتقِداً أن المسبّب هو الله فهي شرك أصغر، وإن اعتقد أنها تفعل بنفسها فهي شرك أكبر".
ج- قلبي:
ومن أمثلته الرياء، عن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء)).
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "فيه مسائل:
الأولى: الخوف من الشرك.
الثانية: أن الرياء من الشرك.
الثالثة: أنه من الشرك الأصغر.
الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين".
قال سليمان آل الشيخ: "ولما كانت النفوس مجبولة على محبة الرياسة والمنزلة في قلوب الخلق إلا من سلم الله، كان هذا أخوف ما يخاف على الصالحين، لقوة الداعي إلى ذلك، والمعصوم من عصمه الله، وهذا بخلاف الداعي إلى الشرك الأكبر، فإنه إما معدوم في قلوب المؤمنين الكاملين، ولهذا يكون الإلقاء في النار أسهل عندهم من الكفر، وإما ضعيف، هذا مع العافية، وأما مع البلاء فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)).
قال سليمان آل الشيخ: "لما كان المرائي قاصداً بعمله الله تعالى وغيره كان قد جعل الله تعالى شريكاً، فإذا كان كذلك فالله تعالى هو الغني على الإطلاق، والشركاء بل جميع الخلق فقراء إليه بكل اعتبار، فلا يليق بكرمه وغناه التام أن يقبل العمل الذي جعل له فيه شريك، فإن كماله تبارك وتعالى وكرمه وغناه يوجب أن لا يقبل ذلك".
وقال ابن عثيمين: "الرياء من الشرك الأصغر، لأن الإنسان قصد بعمله غير الله، وقد يصل إلى الأكبر، وقد مثّل ابن القيم للشرك الأصغر فقال: مثل يسير الرياء، وهذا يدل على أن الرياء كثيره قد يصل إلى الأكبر".
والرياء له صور متعددة:
فقد يكون بالأعمال، كمن يصلي فيطيل القيام، ويطيل الركوع والسجود، ويظهر الخشوع عند رؤية الناس له.
وقد يكون بالأقوال، كالرياء بالوعظ والتذكير وحفظ الأخبار والآثار لأجل المحاورة وإظهار غزارة العلم، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس مع التغافل عنه إذا كان في منزله.
وقد يكون بالزي، كإبقاء أثر السجود على جبهته، ولبس الغليظ من الثياب وخشنها مع تشميرها كثيراً ليقال: عابد زاهد.
وقد يكون بالأصحاب والزائرين، كالذي يتكلّف أن يستزير عالماً أو عابداً ليقال: إن فلاناً قد زار فلاناً.
وقد يكون الرياء لأهل الدنيا، كمن يتبختر ويختال في مشيته وتحريك يديه وتقريب خطاه، أو يأخذ بطرف ثوبه أو يصعّر خده ونحو ذلك.
وقد يكون من جهة البدن، كأن يرائي بإظهار النحول والصفار ليوهم الناسَ أنه جادّ في العبادة كثير الخوف والحزن، أو يرائي بتشعيث الشعر ليظهر أنه مستغرق في همّ الدين لا يتفرّغ لتسريح شعره ونحو ذلك.
حكم العمل إذا خالطه الرياء:
قال ابن رجب: "واعلم أن العمل لغير الله أقسام:(/12)
فتارة يكون رياء محضاً بحيث لا يراد به سوى مراعاة المخلوقين لغرض دنيوي، كحال المنافقين في صلاتهم، كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصلاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءونَ النَّاسَ} [النساء:142]، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة والحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة والتي يتعدى نفعها فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.
وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضاً وحبوطه كحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) ، وروي عن طائفة من السلف، منهم عبادة بن الصامت وأبو الدرداء والحسن وابن المسيب وغيرهم.
فإن خالط نية الجهاد مثلاً نية غير الرياء مثل أخذه أجرة للخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر جهاده ولم يبطل بالكلية.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الغزاة إذا غنموا غنيمة تعجلوا ثلثي أجرهم، فإن لم يغنموا شيئاً تم لهم أجرهم)).
وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نية الرياء، فإن كان خاطرا ودفعه فلا يضر بغير خلاف، فإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري، وأرجو أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن البصري".
النوع الثالث: الشرك الخفي:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي؟)) قال: قلنا: بلى، قال: ((الشرك الخفي؛ أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل)).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيها الناس، اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل))، فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: ((قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفره لما لا نعلم)).
هذه النصوص تدلّ على أن هناك نوعاً آخر من الشرك يسمّى الشرك الخفي، فهل هذا يدخل تحت أحد نوعي الشرك أم هو نوع مستقل بذاته؟ اختلفوا في ذلك، فقيل: يمكن أن يجعل الشرك الخفي نوعاً من الشرك الأصغر، فيكون الشرك حينئذ نوعين: شرك أكبر ويكون في عقائد القلوب، وشرك أصغر ويكون في هيئة الأفعال وأقوال اللسان والإرادات الخفية، ولكن الظاهر من النصوص أن الشرك الخفي قد يكون من الشرك الأكبر، وقد يكون من الشرك الأصغر، وليس له وصف منضبط، بل دائماً يتردّد بين أن يكون من الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر، بل هو كل ما خفي من أنواع الشرك.
ومن أمثلة الشرك الخفي ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} [البقرة:22] قال: (الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاء سوداء، في ظلمة الليل. وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلانة وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلان، فإن هذا كله به شرك).
قال سليمان آل الشيخ: "أي: إن هذه الأمور من الشرك خفيةٌ في الناس، لا يكاد يتفطن لها ولا يعرفها إلا القليل، وضرب المثل لخفائها بما هو أخفى شيء وهو أثر النمل، فإنه خفي، فكيف إذا كان على صفاة؟ فكيف إذا كانت سوداء؟ فكيف إذا كانت في ظلمة الليل؟ وهذا يدل على شدة خفائه على من يدّعي الإسلام وعسر التخلص منه".
وقال ابن عثيمين: "قوله: (هذا كله به شرك) وهو شرك أكبر أو أصغر، حسب ما يكون في قلب الشخص من نوع هذا التشريك".
وعلى هذا فيجب الحذر من هذا النوع من الشرك لكثرة الاشتباه فيه، فربما يظن في أمر من الأمور أنه من الشرك الأصغر وهو في واقع الأمر من الشرك الأكبر، وهكذا العكس، وذلك لخفاء مأخذه، ودقة أمره، وصعوبة معرفته، فيكون مجاله الأمر المشتبه الذي لا يعرفه إلا الحذاق من أهل العلم، وإن كان قد يخفى على غيرهم ممن لم يكمل نظره، وضعف فهمه في أدلة الكتاب والسنة.
انظر: مدارج السالكين (1/368)، وتيسير العزيز الحميد (ص 45)، والدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/69).
تيسير العزيز الحميد (ص43).
مجموع الفتاوى (1/92).
تيسير العزيز الحميد (43).
تيسير العزيز الحميد (43-44).
انظر: الجواب الكافي (ص156، 157). والشرك في القديم والحديث (1/145-146).
الشرك في القديم والحديث (1/146).
انظر: تيسير العزيز الحميد (44)، والشرك في القديم والحديث (1/146-147).
مجموع الفتاوى (1/91).
تجريد التوحيد المفيد (52-53).(/13)
جامع البيان (10/159).
جامع البيان (6/618).
تيسير العزيز الحميد (237-238).
تيسير العزيز الحميد (239).
تيسير العزيز الحميد (215-216) بتصرف واختصار.
انظر: الإنصاف (27/108) مع المقنع والشرح الكبير.
مدارج السالكين (1/375).
الدرر السنية (4/7).
تيسير العزيز الحميد (227).
جامع البيان (7/13).
الجواب الكافي (163).
تيسير العزيز الحميد (536-538) باختصار.
ضوابط التكفير للدكتور عبد الله القرني (128).
الدرر السنية (2/70).
أخرجه الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة التوبة (3095) واللفظ له، وابن جرير في تفسيره، والبيهقي (10/116)، وحسنه ابن تيمية في الإيمان (7/67ـمجموع الفتاوى)، كما حسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2471).
كذا العبارة في المجموع وفيها قلب ولعل صوابها: "بتحريم الحرام وتحليل الحلال".
أخرجه البخاري في الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (7145)، ومسلم في الإمارة (1840) من حديث علي رضي الله عنه.
أخرجه البخاري بنحوه في الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (7144) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
مجموع الفتاوى (7/70).
مجموع الفتاوى (7/71).
كتاب التوحيد، ضمن الجامع الفريد (163).
كذا في المطبوع، ولعله تصحيف.
تيسير العزيز الحميد (553).
جامع البيان (3/280).
مدارج السالكين (3/6-7).
تيسير العزيز الحميد (467-468).
جامع البيان (3/525).
تيسير العزيز الحميد (484-486) بتصرف واختصار.
تيسير العزيز الحميد (497).
تفسير القرآن العظيم (2/452).
مدارج السالكين (2/113-114).
تيسير العزيز الحميد (497-498).
القول السديد (15).
الكواشف الجلية (321).
المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للبريكان (126، 127).
انظر: مدارج السالكين (1/373)، والشرك في القديم والحديث (1/167).
أخرجه أحمد في المسند (5/428، 429)، والبيهقي في الشعب (5/333)، وحسّن الحافظ إسناده في بلوغ المرام (4/355ـ سبل السلام)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (29).
أخرجه ابن قانع في معجم الصحابة (1/34)، والطبراني في الكبير (7/289)، والبيهقي في الشعب (5/337)، وصححه الحاكم في المستدرك (4/365)، والألباني في صحيح الترغيب (32).
أخرجه الترمذي في النذور والإيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله (1535)، والحاكم في المستدرك (4/330)، والبيهقي في الكبرى (10/29)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، والألباني في صحيح الترغيب (2952).
مجموع الفتاوى (1/204).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: {أفرأيتم اللات والعزى} (4860)، ومسلم في الإيمان (1647) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
تيسير العزيز الحميد (ص593).
أخرجه أحمد في المسند (6/371-372)، والنسائي في الأيمان (3773)، والحاكم (4/297)، والبيهقي في الكبرى (3/216)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، والألباني في السلسلة الصحيحة (136).
أخرجه ابن ماجة في الكفارات، باب: النهي أن يقول: ما شاء الله وشئت (2117)، وقال الألباني في الصحيحة (1093): "إسناده حسن"، وذكر له شواهد أخرى بأرقام (136، 137، 139).
هو حديث أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: ((أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)). أخرجه أحمد (1/214)، والبخاري في الأدب المفرد (783)، والنسائي في عمل اليوم والليلة، والطبراني في الكبير (13005)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (139).
تيسير العزيز الحميد (599).
تيسير العزيز الحميد (600-601) ، وانظر: مدارج السالكين (1/373).
جامع البيان (11/662).
جامع البيان (11/662).
أخرجه البخاري في الأذان، باب: يستقبل الإمام الناس إذا سلم (846)، ومسلم في الإيمان (71).
تيسير العزيز الحميد (458).
فتح المجيد (282).
النهاية في غريب الحديث (3/152).
أخرجه أحمد في المسند (1/389)، وأبو داود في الطب، باب: في الطيرة (3910)، والترمذي في السير، باب: ما جاء في الطيرة (1614)، وابن ماجه في الطب، باب: من كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة (3538)، وصححه الترمذي، والحاكم (1/17-18)، وأقره الذهبي، والألباني في السلسلة الصحيحة (429).
مجموع الفتاوى (23/67).
تيسير العزيز الحميد (438).
أخرجه أحمد في المسند (2/220)، قال الهيثمي في المجمع (5/105): "رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات"، لكن رواه عن ابن لهيعة عبد الله بن وهب كما في جامعه (1/110)، ومن طريقه أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (293)، وحسن الحديث شعيب الأرنؤوط في تحقيقه للمسند (11/623)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1065).
تيسير العزيز الحميد (439).
أخرجه مسلم في السلام (2230).(/14)
أخرجه أحمد في المسند (2/408، 476)، وأبو داود في الطب، باب: في الكاهن (3904)، والترمذي في الطهارة، باب: في كراهية إتيان الحائض (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة، باب: النهي عن إتيان الحائض (339)، والدارمي (1136)، وابن الجارود (107)، والحاكم (1/8)، وقال الترمذي: "وضعف محمد ـ يعني: البخاري ـ هذا الحديث من قبل إسناده"، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيف البغوي وابن سيد الناس والذهبي لهذا الحديث، ووافقهم على ذلك. وله شاهد من حديث جابر أخرجه البزار (9045- كشف الأستار)، وجوده المنذري في الترغيب (3/619)، وقال الهيثمي في المجمع (11715): "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف"، وصححه الألباني في غاية المرام (285).
معالم السنن (4/211-212).
فتح المجيد (255).
أي: حديث ((من أتى عرافاً فسأله...)) الخ.
أخرجه مسلم في المساجد (537).
تيسير العزيز الحميد (406-407).
تيسير العزيز الحميد (409).
فتح المجيد (257).
حاشية كتاب التوحيد (204).
القول المفيد (2/49).
القول المفيد (2/55).
كاب التوحيد، ضمن الجامع الفريد (49).
تيسير العزيز الحميد (154).
القول المفيد (1/159).
القول المفيد (1/162-163).
أخرجه أحمد (1/381)، وأبو داود في الطب، باب: في تعليق التمائم (3883) واللفظ له، وابن ماجه في الطب، باب: تعليق التمائم (3530) بأطول منه، وصححه ابن حبان (13/456)، والحاكم (4/418)، وأقره الذهبي، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3288).
النهاية في غريب الحديث (1/197).
النهاية في غريب الحديث (1/198).
كتاب التوحيد، ضمن الجامع الفريد (55).
قال الشيخ ابن باز: "الرواية بذلك ضعيفة، ولا تدل على هذا، لأن فيها أن ابن عمرو كان يحفظه أولاده الكبار ويكتبه في ألواح ويعلقه في عنق الصغار، فالظاهر أنه كان يعلقه في اللوح ليحفظه الصغير لا على أنه تميمة، والتميمة تكتب في ورقة لا في لوح، وكيفما كان فهو عمل فردي من عبد الله بن عمرو، لا يترك به حديث رسول الله وعمل كبار الصحابة الذين لم يعملوا مثله". من تعليق الشيخ على فتح المجيد (109).
فتح المجيد (109).
القول المفيد (1/179).
أخرجه أحمد في المسند (5/428، 429) والبيهقي في الشعب (5/333)، وحسّن الحافظ إسناده في بلوغ المرام (4/355ـ سبل السلام)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (29).
كتاب التوحيد، ضمن مجموعة التوحيد (162).
تيسير العزيز الحميد (118-119).
أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2985).
تيسير العزيز الحميد (527).
القول المفيد (2/226).
انظر: الشرك في القديم والحديث (1/171-172).
أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2985).
أخرجه مسلم في الإمارة (1906)، ولفظه: ((ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم)).
جامع العلوم والحكم (1/38-41) باختصار.
أخرجه أحمد في المسند (3/30)، وابن ماجه في الزهد، باب: الرياء بالسمعة (4204)، والبيهقي في الشعب (5/334)، وصححه الحاكم في المستدرك (4/329)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (30).
أخرجه أحمد في المسند (4/403)، وابن أبي شيبة في المصنف (6/70)، وأبو يعلي في مسند (1/60)، وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب (36).
الشرك في القديم والحديث (1/179) بتصرف يسير.
أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1/81)، وقال الشيخ سليمان آل الشيخ: "وسنده جيد". تيسير العزيز الحميد (587)، وقال المحقق: "إسناده حسن".
تيسير العزيز الحميد (587).
القول المفيد (2/323).
الشرك في القديم والحديث (1/179-180).
رابعا: الفرق بين أنواع الشرك:
1- الشرك الأكبر لا يغفر الله لصاحبه إلا بالتوبة منه، وأما الأصغر فقد اختلف فيه، فقيل: إنه تحت المشيئة، وقيل: إن صحابه إذا مات فلا بد أن يعاقبه الله عليه، لكن لا يخلَّد في النار. وقد اختلف كلام ابن تيمية في هذه المسألة، فمرة قال: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، ومرة قال: الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر.
2- الشرك الأكبر محبِط لجميع الأعمال، وأما الشرك الأصغر فلا يحبط إلا العمل الذي قارنه على القول الراجح.
3- الشرك الأكبر يخرج من ملة الإسلام، وأما الشرك الأصغر فلا يخرج منها، ولذا فمن أحكامه أن يعاملَ معاملةَ المسلمين فيناكح، وتؤكل ذبيحته، ويرث ويورث، ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين.
4- أن الشرك الأكبر صاحبه خالد مخلَّد في النار، وأما الأصغر فلا يخلّد في النار وإن دخلها كسائر مرتكبي الكبائر.
5- الشرك الأكبر يحلّ الأنفس والأموال، وأما الشرك الأصغر فإن صاحبه مسلم مؤمن ناقص الإيمان، فاسق من حيث الحكم الديني.
6- أما الشرك الخفي فهو قد يكون أصغر وقد يكون أكبر، فيختلف حاله، ويختلف الحكم عليه، لذا لا يحكم عليه إلا إذا تبيّن من أيّ نوع هو.
انظر: القول المفيد (1/110)، والشرك في القديم والحديث (1/176).(/15)
انظر: المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للعبيكان (127، 128) والشرك في القديم الحديث (1/171).
خامسا: تحريم الشرك وبيان أنه أكبر الكبائر:
1- الشرك أعظم الظلم:
قال تعالى: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
قال ابن كثير: "أي: هو أعظم الظلم".
وقال ابن سعدي: "ووجه كونه عظيماً أنه لا أفظع وأبشع ممن سوّى المخلوق من تراب بمالك الرقاب، وسوّى الذي لا يملك من الأمر شيئاً بمن له الأمر كله، وسوّى الناقص الفقير من جميع الوجوه بالربّ الكامل الغني من جميع الوجوه، وسوّى من لم ينعم بمثقال ذرة [من النعم] بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ودنياهم وأخراهم وقلوبهم وأبدانهم إلا منه، ولا يصرف السوء إلا هو، فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟!".
2- الشرك مما نهى الله تعالى عنه وحرّمه:
قال الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} [النساء:36].
وقال سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151].
قال ابن كثير: "يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له، فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضّل على خلقه في جميع الآنات والحالات، فهو المستحقّ منهم أن يوحّدوه ولا يشركوا به شيئاً من مخلوقاته".
وقال ابن سعدي: "يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، وهو الدخول تحت رقّ عبوديته، والانقياد لأوامره ونواهيه، محبة وذلاً وإخلاصاً له، في جميع العبادات الظاهرة والباطنة. وينهي عن الشرك به شيئاً، لا شركاً أصغر ولا أكبر، لا ملَكاً ولا نبياً ولا ولياً ولا غيرهم من المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً".
3- الشرك أكبر الكبائر:
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين))، وكان متكئا فجلس فقال: ((ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور))، فما زال يقولها حتى قلت: لا يسكت.
وعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر قال: ((الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وقول الزور)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)).
قال ابن تيمية: "اعلم ـ رحمك الله ـ أن الشرك بالله أعظم ذنب عُصي الله به، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء:48]، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك))".
وقال حافظ الحكمي: "والمقصود أن الشرك أعظم ما نهى الله عنه، كما أن التوحيد أعظم ما أمر الله به، ولهذا كان أول دعوة الرسل كلهم إلى توحيد الله عز وجل ونفي الشرك، فلم يأمروا بشيء قبل التوحيد، ولم ينهوا عن شيء قبل الشرك، وما ذكر الله تعالى التوحيد مع شيء من الأوامر إلا جعله أوَّلها، ولا ذكر الشرك مع شيء من النواهي إلا جعله أولها".
4- الشرك لا يغفره الله:
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء:48].
قال ابن كثير: "أخبر تعالى أنه لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، ويغفر ما دون ذلك من الذنوب لمن يشاء من عباده".
قال ابن تيمية: "فالشرك لا يغفره الله، وما دون الشرك أمرُه إلى الله إن شاء عاقب عليه، وإن شاء عفا عنه".
وقال سليمان آل الشيخ: "فتبين بهذا أن الشرك أعظم الذنوب، لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره، أي: إلا بالتوبة منه، وما عداه فهو داخل تحت مشيئة الله إن شاء غفره بلا توبة، وإن شاء عذّبه، وهذا يوجب للعبد شدة الخوف من هذا الذنب الذي هذا شأنه عند الله".
قال الشنقيطي: "ذكر الله في هذه الآية الكريمة أنه تعالى لا يغفر الإشراك به، وأنه يغفر غير ذلك لمن يشاء، وأنّ من أشرك به فقد افترى إثماً عظيماً. وذكر في مواضع أخر أن محل كونه لا يغفر الإشراك به إذا لم يتب المشرك من ذلك، فإن تاب غفر له، كقوله: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [مريم:60] الآية، فإن الاستثناء راجع لقوله: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ} [الفرقان:68] وما عطف عليه، لأن معنى الكلّ جُمع في قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً} الآية، وقوله: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:28]".
5- الشرك يحبط الأعمال:(/16)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
وقال عز وجل: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88].
قال ابن كثير: "هذا تشديدٌ لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته".
وقال ابن سعدي: "فإن الشرك محبط للعمل، موجب للخلود في النار، فإذا كان هؤلاء الصفوة الأخيار لو أشركوا ـ وحاشاهم ـ لحبطت أعمالهم، فغيرهم أولى".
6- الشرك يوجب الخلود في النار وتحريم الجنة:
قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار)).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)).
قال القرطبي: "أي: من لم يتّخذ معه شريكاً في الإلهية ولا في الخلق ولا في العبادة، ومن المعلوم من الشرع المجمع عليه عند أهل السنة أن من مات على ذلك فلا بد له من دخول الجنة وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة، وإن مات على الشرك لا يدخل الجنة، ولا يناله من الله رحمة، ويخلد في النار أبد الآباد من غير انقطاع عذاب، ولا تصرم آماد، وهذا معلوم ضروري من الدين مجمع عليه بين المسلمين".
وقال النووي: "فأما دخول المشرك النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق بين الكتابي اليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عناداً وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده ما يكفر بجحده وغير ذلك".
تفسير القرآن العظيم (3/708).
تيسير الكريم الرحمن (648).
تفسير القرآن العظيم (1/468).
تيسير الكريم الرحمن (178).
أخرجه البخاري في الأدب، باب: عقوق الوالدين من الكبائر (5976)، ومسلم في الإيمان (87).
أخرجه البخاري في الأدب، باب: عقوق الوالدين من الكبائر (5977)، ومسلم في الإيمان (88).
أخرجه البخاري في الحدود، باب: رمي المحصنات (6857)، ومسلم في الإيمان (89).
أخرجه البخاري في الأدب، باب قتل الولد خشية أن يأكل معه (6001)، ومسلم في الإيمان (86).
مجموع الفتاوى (1/88).
معارج القبول (1/318).
تفسير القرآن العظيم (1/482).
مجموع الفتاوى (11/663).
التيسير العزيز الحميد (115).
أضواء البيان (1/291).
تفسير القرآن العظيم (2/174).
تيسير الكريم الرحمن (264).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً} (4497).
أخرجه مسلم في الإيمان (93).
المفهم (1/290).
شرح صحيح مسلم (2/97).
سادسا: بيان بطلان الشرك بأوضح الأدلة:
ذكر الله تعالى في القرآن العظيم أمثلةً كثيرة على بطلان الشرك، فمن ذلك:
1- قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مّن شُرَكَاء فِى مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:28].
قال ابن القيم: "هذا دليل قياس احتجّ الله سبحانه به على المشركين، حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء، فأقام عليهم حجّة يعرفون صحّتها من نفوسهم، فقال: هل لكم مما ملكت إيمانكم من عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل؟ أي: هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم، فأنتم وهم في ذلك سواء؟ أتخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها ويستأثرون ببعضها عليكم كما يخاف الشريك شريكه؟ فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم، فلِم عدلتم بي من خَلقي من هو مملوك لي؟ فإن كان هذا الحكم باطلاً في فطركم وعقولكم مع أنه جائز عليكم ممكن في حقّكم، إذ ليس عبيدكم ملكاً لكم حقيقةً، وإنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، وأنتم وهم عباد لي، فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقّي مع أن من جعلتموه لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي؟!".
2- وقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَىْء وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل:25].(/17)
قال ابن القيم عن هذا المثل: "ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان، فالله سبحانه هو المالك لكل شيء، ينفق كيف يشاء على عبيده سراً وجهراً، وليلاً ونهاراً، يمينه ملأى لا يغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار، والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء، فكيف يجعلونها شركاء لي ويعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين؟! هذا قول مجاهد وغيره وهو أشبه بالمراد، فإنه أظهرُ في بطلان الشرك وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة".
3- وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ اله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91].
قال ابن القيم: "فتأمل هذا البرهان بهذا اللفظ الوجيز الظاهر، فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقاً فاعلاً، يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل، وحينئذٍ فلا يرضى تلك الشركة، بل إن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرّده بالملك والإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه، وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بممالكه، إذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه، فلا بد من أحد ثلاثة أمور: إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه، وإما أن يعلو بعضهم على بعض، وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ولا يتصرفون فيه، بل يكون وحده هو الإله، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه، وانتظامُ أمر العالم كله وإحكام أمره من أدلّ دليل على أن مدبره إله واحد وملِك واحد ورب واحد، لا إله للخلق غيره، ولا رب لهم سواه".
4- وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاواتِ وَلاَ فِى الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22، 23].
قال ابن القيم: "فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين مجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك، وسدّ بها عليهم أبلغ سدّ وأحكمه، فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه، وإلا فلو كان لا يرجو منفعة لم يتعلق قلبه به، وحينئذٍ فلا بد أن يكون المعبود مالكاً للأسباب التي ينفع بها عابده، أو شريكاً لمالكها، أو ظهيراً أو وزيراً أو معاوناً له، أو وجيهاً ذا حرمة وقدر يشفع عنده، فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه انتفت أسباب الشرك وانقطعت موادّه، فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات والأرض، فقد يقول المشرك: هي شريكة الملِك الحق، فنفى شركَها له، فيقول المشرك: قد يكون ظهيراً أو وزيراً أو معاوناً، فقال: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ}، ولم يبق إلا الشفاعة، فنفاها عن آلهتهم، وأخبر أنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، فإن لم يأذن للشافع لم يتقدم بالشفاعة بين يديه".
5- وقوله تعالى: {ياأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73].
قال ابن القيم: "فتأمّل هذا المثل الذي أمر الناس كلهم باستماعه، فمن لم يسمعه فقد عصى أمره، كيف تضمّن إبطال الشرك وأسبابه بأوضح برهان في أوجز عبارة وأحسنها وأحلاها، وسجّل على جميع آلهة المشركين أنهم لو اجتمعوا كلهم في صعيد واحد وعاون بعضهم بعضاً بأبلغ المعاونة لعجزوا عن خلق ذباب واحد، ثم بيّن عجزهم وضعفهم عن استنقاذ ما يسلبهم الذباب إياه حين يسقط عليهم، فأي شيء أضعف من هذا الإله المطلوب، ومن عابده الطالب نفعه وحده؟ فهل قدّر القوي العزيز حقاً قدره من أشرك معه آلهة هذا شأنها؟ فأقام سبحانه حجة التوحيد، وبيّن ذلك بأعذب ألفاظٍ وأحسنها، لم يستنكرها غموض، ولم يشنها تطويل، ولم يعبها تقصير".
6- وقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءالِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22].
قال ابن سعدي: "أي: في السموات والأرض {لَفَسَدَتَا} في ذاتهما، وفسد من فيهما من المخلوقات.(/18)
وبيان ذلك أن العالم العلوي والسفلي ـ على ما يرى ـ في أكمل ما يكون من الصلاح والانتظام الذي ما فيه خلل ولا عيب، ولا ممانعة ولا معارضة، فدلّ ذلك على أن مدبّره واحد وربه واحد وإلهه واحد، فلو كان له مدبّران وربّان أو أكثر من ذلك لاختلّ نظامه وتقوّضت أركانه، فإنهما يتمانعان ويتعارضان، وإذا أراد أحدهما تدبير شيء وأراد الآخر عدمه فإنه محال وجود مرادهما معاً، ووجود مراد أحدهما دون الآخر يدلّ على عجز الآخر وعدم اقتداره، واتفاقهما على مرادٍ واحد في جميع الأمور غير ممكن، فإذاً يتعيّن أن القاهر الذي يوجد مراده وحدَه من غير ممانع ولا مدافع هو الله الواحد القهار".
إعلام الموقعين (1/211) بتصرف.
إعلام الموقعين (1/211-212) بتصرف.
مختصر الصواعق (95، 96).
مختصر الصواعق (94).
مختصر الصواعق (97).
تيسير الكريم الرحمن (521).
سابعا: آثار الشرك وأضراره:
1- ضعف تعظيم الربّ تعالى ومحبته في قلب صاحبه:
ذكر العلماء في وصف حال المشركين أنهم يحبون معبوداتهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله، وكثير منهم ـ بل أكثرهم ـ يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد ربَّ العالمين، وإذا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوداتهم غضبوا غضبَ الليث إذا حرَد، وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها، بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئاً رضوا عنه، ولم تتنكر له قلوبهم... فهذه حال من اتخذ من دون الله ولياً، ويزعم أنه يقربه إلى الله.
2- سقوط صاحبه من أوج العزة والكرامة إلى حضيض السفول والقلق والرذيلة:
قال تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
قال ابن القيم: "تأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله وتعلق بغيره، ويجوز لك في هذا التشبيه أمران:
أحدهما: أن تجعله تشبيها مركّبا، ويكون قد شبه من أشرك بالله وعبد معه غيرَه برجل قد تسبّب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يُرجى معه نجاة، فصوّر حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير في الهوى فتمزّق مزقا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة، وعلى هذا لا تنظر إلى كلّ فرد من أفراد المشبه ومقابله من المشبه به.
والثاني: أن يكون من التشبيه المفرّق، فيقابَل كل واحد من أجزاء الممثّل بالممثّل به، وعلى هذا فيكون قد شبّه الإيمان والتوحيد في علوّه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه، فمنها هبط إلى الأرض، وإليها يصعد منها، وشبّه تاركَ الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق الشديد والآلام المتراكمة والطير الذي تخطف أعضاءه وتمزقه كلّ ممزق بالشياطين التي يرسلها الله سبحانه وتعالى عليه وتؤزّه أزّا وتزعجه وتقلقه إلى مظان هلاكه، فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه كما أن لكلّ طير مزعة من لحمه وأعضائه، والريح التي تهوي به في مكان سحيق هو هواه الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء".
3- نجاسة صاحبه:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28].
قال ابن القيم: "ونجاسة الشرك عينية، ولهذا جعل سبحانه الشرك نجَساً بفتح الجيم، ولم يقل: إنما المشركون نجِس بالكسر، فإن النَّجَس عين النجاسة، والنجِس بالكسر المتنجِّس، فأنجس النجاسة الشرك، كما أنه أظلم الظلم".
4- أنه يوجب لصاحبه عذاب الله تعالى في الدنيا والآخرة:
قال تعالى: {لّيُعَذّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} [الأحزاب:73].
قال ابن القيم: "والمقصود أن الشرك لما كان أظلم الظلم وأقبح القبائح وأنكر المنكرات كان أبغض الأشياء إلى الله وأكرهها له وأشدها مقتاً لديه، ورتّب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نجس، ومنعهم من قربان حَرَمِه، وحرّم ذبائحهم ومناكحتهم، وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، وجعلهم أعداءً له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم وأن يتخذوهم عبيداً، وهذا لأن الشرك هضم لحقّ الربوبية، وتنقيص لعظمة الإلهية".
5- أن المتلبّس به يسيء الظن بربّ العالمين ويتنقصه تعالى:
قال تعالى: {وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْء عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْء وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [الفتح:1].(/19)
قال ابن القيم: "فلم يجمع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الإشراك، فإنهم ظنّوا به ظنّ السوء حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظنّ لوحّدوه حقّ توحيده".
وقال أيضاً: "فالشرك ملزوم لتنقّص الربّ سبحانه، والتنقّص لازم له ضرورة، شاء المشرِك أم أبى، ولهذا اقتضى حمدُه سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره، وأن يخلّدَ صاحبَه في العذاب الأليم ويجعله أشقى البرية، فلا تجد مشركاً إلا وهو متنقّص لله سبحانه".
6- أن التلبس به يوقع الفرد والمجتمع في ظلمات متراكمة:
إن أكبر الكبائر الإشراك بالله تعالى، ذلك لأن الشرك ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، وحجب متلاطمة لا يقرّ لها قرار، فهو يجعل الإنسان عبداً للمخلوق، وهو لا يعبد المخلوق إلا جلباً لفائدة أو دفعاً لضرر، فهو في الواقع عبد لمصلحته، وبالتالي هو عبد لنفسه، وعبادة النفس معناها أن الشخص غير صالح ليكون عضواً كريماً عاملاً على الرقي بالجماعة الإنسانية محققاً لسعادتها، بل هو على الضد من ذلك يكون عدواً للإنسانية، هادماً لأركانها، ساعياً في شقائها دون أن يدري؛ إذ إن الشرك يقلب الأوضاع، فيجعل الحقّ باطلاً، والباطل حقاً، والخالق مخلوقاً، والمخلوق خالقاً، وعلى هذا الأساس لا يمكن أن تبنى قواعد الجماعات على أسس سليمة، ذلك لأن العلاقات الإنسانية تكون مبنية على مستلزمات الشرك، وهي الجشع والتربص والحقد والكذب وسفك الدماء والعدوان والاستعباد والإذلال.
كل ذلك يؤدي إلى انفراط نظام العقد الإنساني الذي يتحوّل إلى فوضى لا ضابط لها ولا رابط، يسودها الخوف، ويخيّم عليها القلق، وتتخلّلها الحروب التي لا تنتهي، والتي تسببها الأطماع التي لا تنتهي، وحينئذ تصبح الحياة شقاء لا سعادة فيه، وجحيماً لا يطاق، يعذّب فيه البشر بعضهم بعضاً.
مدارج السالكين (1/368-369).
إعلام الموقعين (1/180).
إغاثة اللهفان (1/98).
إغاثة اللهفان (1/99).
إغاثة اللهفان (1/99).
إغاثة اللهفان (1/101).
انظر: دعوة التوحيد، لمحمد خليل هراس (72-73).
ثامنا: سدّ الذرائع المفضية إلى الشرك:
جاءت الشريعة الإسلامية الغراء بالتدابير الواقية من الوقوع في الشرك، فمن ذلك:
أ- التحذير من الوقوع في الشرك فيما يتعلق بذات الله سبحانه وأسمائه وصفاته:
1- التحذير من الوساوس والشكوك والأوهام:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله عز وجل: إن أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولون: هذا الله خلَق الخلْق، فمن خلق الله؟)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا: هذا الله خلقنا، فمن خلق الله؟)) .
فهذا الشكّ إذا تمكّن في القلب يحصل الشرك في ذاته سبحانه، فحذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في ذلك، وبيّن للناس كيفية اتّقائه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينتَهِ))، وفي رواية: ((فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله))، زاد في رواية: ((ورسله)).
2- التحذير من الكبر الذي هو حق الله تعالى:
عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العز إزاره والكبرياء رداؤه فمن ينازعني عذبته)).
قال النووي: "ومعنى ((ينازعني)): يتخلّق بذلك فيصير بمعنى المشارك، وهذا وعيد شديد في الكبر".
3- التحذير من التشبه بالله تعالى في الاسم الذي لا ينبغي إلا له وحده:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((أخنع الأسماء عند الله رجل تسمَّى بملك الأملاك))، وفي لفظ: ((أغيظ رجل على الله رجل يسمى بملك الأملاك)).
قال النووي: "واعلم أن التسمي بهذا الاسم حرام، وكذلك التسمي بأسماء الله تعالى المختصة به كالرحمن والقدوس والمهيمن وخالق الخلق ونحوها".
ب- التحذير من الوقوع في الشرك في عبادة الله تعالى:
1- الإخبار بوقوع الشرك في آخر الزمان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة))، وكانت صنماً تعبدها دوس في الجاهلية بتبالة.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبَد اللات والعزى))، فقلت: يا رسول الله، إن كنت لأظنّ حين أنزل الله: {هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] أنَّ ذلك تاماً!! قال: ((إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فتوفّي كلّ من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم)).(/20)
وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فرجعت دوس وما حولها من القبائل لعبادة الخلصة وافتتنوا بها، حتى قامت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتجدّد ما اندرس من الدين وعاد الإسلام لجزيرة العرب، فهدمت ذي الخلصة وأزيلت آثارها ولله الحمد.
2- النهي عن الإطراء في مدحه صلى الله عليه وسلم:
عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)).
إذ الغلو في تعظيمه يؤدّي إلى استشعار القلب بالخوف والرهبة منه والرجاء فيه، فيصرف إليه عندئذٍ شيئاً من حقوق الله تعالى.
3- النهي عن البناء على القبور، وعن اتخاذها عيداً ومساجد:
عن عائشة أن أم سلمة رضي الله عنهما ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)).
وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمّ بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، يحذر ما صنعوا.
قال الحافظ: "وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يعظّم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذمّ من يفعل فعلهم".
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصّص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه.
4- النهي عن الصلاة إلى القبور:
عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها)).
قال النووي: "فيه تصريح بالنهي عن الصلاة إلى قبر".
قال ابن القيم: "فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواء".
5- الأمر بتسوية القبور وهدم ما بني عليها:
عن ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوّي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها.
وعن أبي الهيّاج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدع تمثالاً إلا طمستَه، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته.
قال سليمان آل الشيخ: "وقد أجمع العلماء على النهي عن البناء على القبور وتحريمه ووجوب هدمه لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن فيها بوجه من الوجوه، ولا فرق في ذلك بين البناء في مقبرة مسبّلة أو مملوكة إلا أنه في المملوكة أشدّ".
6- التحذير من زيارة القبور للصلاة في المساجد المبنية عليها أو الدعاء عندها وشدّ الرحال إليها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى)).
قال ابن تيمية: "فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة".
وقال أيضاً: "وهذا النهي يعم السفر إلى المساجد والمشاهد، وكل مكان يقصد السفر إلى عينه للتقرب".
7- النهي عن الحلف بغير الله:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف منكم فقال في حلفه: باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله)).
قال ابن تيمية: "وهو صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بغير الله، وعن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، وعن اتخاذ القبور مساجد، واتخاذ قبره عيداً، ونهى عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة، وأمثال ذلك لتحقيق إخلاص الدين لله، وعبادة الله وحده لا شريك له، فهذا كله محافظة على توحيد الله عز وجل وأن يكون الدين كله لله، فلا يعبد غيره، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يدعى إلا هو، ولا يتَّقى إلا هو، ولا يصلى ولا يصام إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به، ولا يحج إلا إلى بيته".
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
أخرجه مسلم في الإيمان (136).
أخرجه مسلم في الإيمان (135).
أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده (3276)، ومسلم في الإيمان (134).
وهي رواية لمسلم (134).
وهي رواية لمسلم (134).
أخرجه مسلم في البر والصلة (2620).
شرح صحيح مسلم (16/173).
أخرجه البخاري في الأدب، باب: أبغض الأسماء إلى الله (6206).
هذا اللفظ عند مسلم في الآداب (2143).(/21)
شرح صحيح مسلم (14/122).
أخرجه البخاري في الفتن، باب: تغيير الزمان حتى تعبد الأوثان (7116)، ومسلم في الفتن (2906).
أخرجه مسلم في الفتن (2907).
الشرك في القديم والحديث (1/600).
أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: قول الله: {واذكر في الكتاب مريم} (3445).
الشرك في القديم والحديث (1/612).
أخرجه البخاري في الصلاة، باب: الصلاة في البيعة (434).
أخرجه البخاري في الصلاة، باب: حدثنا أبو اليمان (435).
فتح الباري (1/634).
أخرجه مسلم في الجنائز (970).
أخرجه مسلم في الجنائز (972).
شرح صحيح مسلم (7/38).
إغاثة اللهفان (1/189).
أخرجه مسلم في الجنائز (968).
أخرجه مسلم في الجنائز (969).
تيسير العزيز الحميد (332).
أخرجه البخاري في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1189). ومسلم في الحج (511).
اقتضاء الصراط المستقيم (2/153).
اقتضاء الصراط المستقيم (2/182).
أخرجه البخاري في الأدب، باب: من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً (6108)، ومسلم في الأيمان (1646).
أخرجه البخاري في الأدب، باب: من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً (6107)، ومسلم في الأيمان (1647).
مجموع الفتاوى (27/350-351).(/22)
الشركات النقية والأسهم المختلطة!
تركي بن محمد اليحيى 1/7/1427
26/07/2006
مصطلح "الأسهم النقية" يراد به أن تكون الشركة خالية من الاستثمارات المحرمة المعلنة أو البارزة في نشاط الشركة أو قوائمها، وذلك أنه لا يمكن أن يشترط على المسلم أن يتتبع جزئيات الشركة وأعمالها اليومية، فهذا متعذر ولا يمكن اشتراطه، فيُكتفي بما يظهر من أعمال الشركة ونشاطاتها وقوائمها.
أما ما يسمى بـ"الشركات المختلطة" فهي الشركات ذات النشاط المباح في الأصل لكنها تتعامل ببعض المعاملات المحرمة كالربا وغيره، وهذه أجازها بعض أهل العلم على اختلافٍ بينهم في ضوابط الجواز، بينما حرمها بعض أهل العلم مهما كانت نسبة الاختلاط فيها.
والذي ظهر لي من خلال بحث المسألة والأقوال والأدلة فيها رجحان القول بالتحريم.
وليس المقصود هنا بحث هذه المسألة، وإنما المراد الحديث عن مسألة مبنية على القول بتحريم الأسهم المختلطة.
وهي أن بعض الشركات "النقية" التي لا تستثمر بالحرام، قد تستثمر في أسهم الشركات المختلطة، وقد يرد على الباحث إشكالٌ حول تأثير هذا الاستثمار على جواز تلك الشركات النقية.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن مثل هذا الاستثمار يؤدي إلى اعتبار تلك الشركات شركات مختلطة ويخرجها عن كونها من الشركات النقية.
وحيث إن هذه المسألة متصلة بأحد مباحث رسالة الدكتوراه التي أقوم بإعدادها فقد كتبت فيها وجهة نظر أحببت أن أطرحها بين يدي إخواني من الباحثين وطلبة العلم، أرجو أن أستفيد من مداخلاتهم حولها.
ولعلي أطرح المسألة من خلال النقاط التالية:
أولاً: لابد أن نحدد الوصف الفقهي لتحريم الأسهم المختلطة، ثم نبني الحكم انطلاقاً من ذلك الوصف، بحيث نعطي حكماً مطرداً لكل مسألة مماثلة، فلا نفرق بين المتماثلات في الحكم أو العكس.
فإذا اعتبرنا تحريم الأسهم المختلطة أمراً قطعياً، أو أن الخلاف فيها خلافٌ شاذ، فيجب أن يكون أثر الاستثمار فيها على الشركات، كأثر الاستثمار بالربا وغيره من المعاملات المحرمة.
أما إذا اعتبرنا أن تحريمها مسألة اجتهادية مختلف فيها وأنه مع كون الراجح هو تحريمها، إلا أنها تظل مسألة اجتهادية، والخلاف فيها له حظ من النظر، فيجب هنا أن نعطيها حكم المعاملات المختلف فيها.
ثانياً: إذا كان محل العقد أو النشاط الغالب في الشركة هو المختلف فيه، فإن الشريك الذي يرى القول بالتحريم يحرم عليه الدخول في الشركة، أو الاستمرار إذا كان داخلاً فيها، لأنه يعتقد حرمة المحل.
أما إن كان محل العقد أو النشاط الغالب في الشركة مما يعتقد الشريك حله وإباحته، فإن المشاركة تجوز له بالاتفاق، فإذا دخلت الشركة في نشاطٍ مختلف فيه لكون الشركاء يعتقدون الإباحة فالحكم هنا مختلف وهو محل البحث.
ثالثاً: المعاملات المختلف فيها كثيرة جداً، والشركاء قد يتفقون أن يكون محل الشركة ونشاطها مما يتفقون على جوازه، ولكن قد يقع من بعضهم من المعاملات ما يرى إباحته هو ويدخلها بتأويل سائغ، بينما قد يكون بعض الشركاء ممن يرى التحريم، فهل تخرج الشركة من كونها نقية إلى أن تكون مختلطة بمجرد أن تدخل في أي عقد مختلف فيه؟، لا سيما إذا كان دخولها في هذا المختلف فيه مبنياً على تأويل سائغ وفتوى معتبرة، فلو كان الأمر كذلك لم يصح من الشركات إلا التي تكون جميع المعاملات فيها جائزة بالإجماع، وهذا متعذّر لكثرة الخلاف في المعاملات، أو التي يكون الشركاء فيها متفقين في جميع مسائل الخلاف، وهذا لا يقول به أحد.
رابعاً: نظراً لاختلاف أقوال العلماء في بعض مسائل المعاملات المالية الاجتهادية، فإن الشركاء إذا كانوا من مذهبين مختلفين، قد يقع من أحدهما معاملة مالية جائزة في مذهبه، لكنها محرمة في مذهب شريكه، فيرد بناءً على هذا مسألة حكم مشاركة المسلم للمسلم إذا كانا من مذهبين مختلفين.
وإذا كانت العلة من اشتراط أن لا يلي الكافر العمل إذا شاركه المسلم، هي في كونه قد يتعامل بالحرام، فإن العلة موجودة هنا، وهي أنه من المحتمل أنَّ من يلي العمل من الشريكين قد يتعامل بما هو عند شريكه محرم.
ورغم ذلك لم أجد من أهل العلم من اشتراط اتحاد المذهب، مما يدل على أنها على الأصل وهو الجواز، بل إن هناك من نصَّ على الجواز في أوسع نوع من أنواع الشركات وهي المفاوضة، كما جاء عند الحنفية: "وتصح المفاوضة(1)بين حنفيِّ وشافعيِّ، وإن تفاوتا تصرفاً في متروك التسمية؛ لتساويهما ملَّةَّ"(2).
المذاهب الأربعة بالاتفاق تصحح الشركة بين مختلفي المذهب، رغم أنه من المعلوم اختلاف المذاهب في كثير من مسائل المعاملات، وأن الشريك لابد أن يقع منه من العقود والمعاملات ما يرى جوازه بينما شريكه يرى التحريم.(/1)
ولو لم نقل بهذا للزم أن يشترط في المضاربة مثلاً أن لا يدفع رب المال ماله لأحد ليتاجر به، إلا إذا حدد له أنواع العقود بدقة، أو كان متفقاً معه في جميع مسائل الخلاف بلا استثناء، حتى ولو كان العامل مسلماً، لا يجري من العقود إلا ما اعتقد جوازه.
خامساً: من الواضح اتفاق الفقهاء من المذاهب الأربعة على التفريق بين أمرين:
الأول: دخول الشركة في الحرام المحض، ولذلك يشترطون لجواز مشاركة الكافر أن لا يلي التصرف؛ لكونه قد يعقد على الحرام المحض.
الثاني: دخول الشركة في المعاملات المختلف فيها إذا كان من يلي عقدها هو من يرى الجواز بناء على مذهبه، أو اجتهاده، أو نحو ذلك، ولذلك لا يشترط أحد منهم أن يتفق الشركاء في المذهب.
ولذلك من المهم التفريق بين الأمرين في مسألتنا، وأقصد التفريق بين الدخول في الشركة التي تتعامل بالحرام المحض، وبين الشركة التي تستثمر في مجالات هي محل خلاف بين أهل العلم.
سادساً: من المهم أن يقال لمن اعتبر الشركات النقية شركات مختلطة إذا ما استثمرت بالأسهم المختلطة: ما ضابط الشركات المختلطة؟
فإن قيل: هي التي تتعامل بالحرام المحض المقطوع بحرمته، أو ما كان القول بجوازه قولاً شاذاً.
قيل: فالأسهم المختلطة ليست من المقطوع بحرمته، وليس القول بالجواز من الأقوال الشاذة التي لا اعتبار لها –رغم أننا نقول برجحان التحريم-.
وإن قيل: بل بالمختلطة تشمل حتى التي تتعامل بالمعاملات المختلف فيها.
قيل: كل الشركات –سواء المساهمة أو غيرها- تتعامل بالمختلف فيه، بل أنتم ذكرتم شركة مكة مثلاً من النقية، رغم الخلاف المشهور في حكم تأجير دور مكة، ورغم كونها تؤجر بعض المحرمات.
وذكرتم نادك من النقية، رغم وجود عقد تأمين صحي عندها وهو محل خلاف.
والتورق مختلف فيه فهل نقول بأن كل الشركات التي لديها تورق مختلطة؟.
وكذلك المرابحة للآمر بالشراء، والتأجير المنتهي بالتمليك وغيرها.
سابعاً: لعلي أمثّل لما أشرت إليه من أنه لابد أن يكون المحل جائزاً أو مطلقاً، وأن يكون المختلف فيه تابعاً، أما إن كان محل الشركة المختلف فيه فإن من يرى التحريم، يحرم عليه الدخول في الشركة.
ومثال ذلك: بيع كلاب الصيد محرمٌ عند الحنابلة، والشافعية، وجائزٌ عند الأحناف.
فلو تشارك حنبليٌ وحنفيٌ شركةً مطلقة، فلا إشكال في الجواز.
وإن تشاركا شركةً محددةً في بيع البهائم مثلاً، فإن محل العقد هنا مباحٌ في الجملة عندهما، مع احتمال أن يبيع الحنفيُ في الصورتين كلاب الصيد أحياناً، فالشركة هنا جائزة أيضاً.
ولو تشاركا على أن يتاجرا ببيع كلاب الصيد بالتحديد، أو بأنها الأغلب على تجارتهما، فهذه هي الصورة الثالثة، والتي يظهر للباحث تحريمها؛ لأن محل العقد محرمّ عند الحنبلي فلا يجوز له الإقدام عليه.
ومثله ما يتعلق بالأسهم المختلطة، فإن الشركة إذا كان محلها المتاجرة في الأسهم المختلطة فإنه يحرم على من يرى تحريم الأسهم المختلطة الدخول في الشركة، أما إن كانت الشركة في الصناعة، أو الزراعة، أو غيرها، ثم استثمرت في الأسهم المختلطة لكونها ترى الجواز ودخلت بتأويل سائغ، فإن الأصل هو الجواز، إلا إن رأى أن القول بجواز المختلطة قولاً شاذاً وأن التحريم مقطوعٌ به.
ثامناً: يتلخص مما سبق أن الشركات النقية إذا استثمرت بالأسهم المختلطة لا تخرج من كونها نقية، وذلك وفق الضوابط التالية:
* أن لا يكون الاستثمار بالمختلط هو محل الشركة، أو النشاط الغالب فيها.
* أن يكون الاستثمار في الأسهم المختلطة مبنياً على تأويل سائغ، واتباعاً لفتوى من يعتد بقوله من أهل العلم.
أسأل الله أن يجنبنا، والمسلمين ما يغضبه، ويسخطه من الأقوال، والأفعال..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
________________________________________
(1) كونهم ينصون على صحة المفاوضة بينهما أبلغ؛ لأن التصرف في المفاوضة عند الأحناف أوسع من العنان، ولذلك يشترطون فيها اتحاد الدين، فلا يصح مشاركة الكافر مفاوضة مطلقاً، وذلك أن التصرف الشركة في المفاوضة مطلق، ويعمل الشريك فيها بالتفويض المطلق في كل أنواع التجارة وبدون علم صاحبه ويتساويات في التصرف وفي العمل وفي المال وفي الربح من كل وجه.
(2) حاشية ابن عابدين (6/471)، والنص هو من شرح تنوير الأبصار الذي عليه الحاشية، وانظر: شرح فتح القدير (6/150).(/2)
الشروط القرآنية للنصر والتمكين
[بقلم :* محمد أسعد بيوض التميمي (الكاتب والباحث والمحلل السياسي الفلسطيني)] بسم الله الرحمن الرحيم
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد:7)
الطائفة المنصورة ما هي وما مواصفاتها القرآنية
إننا نحن المسلمون لا ننتصر لا بكثرة عدد ولاعدة وإنما ننتصر بهذا الدين ( بالقرآن العظيم ) الذي أنزل الله فيه شروطاً للنصر عندما التزمنا بها نصرنا الله مهما كان عددنا قليلاً ومهما كانت قوتنا ضعيفة قال تعالى ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) 249البقره , فبهذه الشروط الربانية انتصرنا في بدر أول معركة في الإسلام ومروراً ( بالقادسية واليرموك وأجنادين وحطين وعين جالوت وبهذه الشروط فتحنا الأندلس والقسطنطينية) وغيرها كثير من المعارك الخالدة في تاريخنا المجيد الطويل المفعم بالانتصارات والعزة والسؤدد والفخار , وبهذه الشروط وقفنا يوماً على قمة القرون نحمل مصابيح الهدى نضيء للبشرية الطريق بنور الإسلام , وبهذه الشروط ارتقينا ذرى العزة والكرامة والمجد وقبضنا على زمام التاريخ بأيدينا , وبهذه الشروط أصبحنا سادة الدنيا وقادة البشرية ننشر الرحمة والعدل والأمن والأمان في الأرض فدخل الناس في دين الله أفواجا دون إكراه , وبهذه الشروط رفعنا راية التوحيد خفاقة من الأندلس غربا إلى حدود الصين شرقا , وعندما تنكرنا لهذه الشروط والمواصفات وأبعد الإسلام بقصد وتخطيط شيطاني عن المعركة بل وحُورب دون هوادة تحت غطاء الحداثة و محاربة الرجعية والظلامية والدعوة إلى القومية والثورية والتقدمية والعلمانية والاشتراكية وعندما أخذ ( علماء السلاطين ) يحرفون كلام الله إرضاء للحكام الظالمين الفاسدين وامتهنوا التجارة بالدين ليشتروا به ثمنا قليلاً وأصبحوا مرجعيتنا وحجتنا بدلاً من القرأن والسنة فكما قال صلى الله عليه وسلم ( تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي ) حلت بنا الهزائم والكوارث وأصابنا الوهن ولحق بنا البوار والخزي والعار والذل والهوان والانحطاط وتاهت بنا السبل وأصبحنا غثاء كغثاء السيل تتداعى علينا الأمم من كل حدب وصوب كما تتداعى ألأكلة إلى قصعتها وتتقاذفنا الدول وتصفعنا بأيديها على وجوهنا وتركلنا بأرجلها على أدبارنا ونحن كالأيتام على مآدب اللئام لا أحد يدفع عنا .
فما هي هذه الشروط التي وضعها الله سبحانه وتعالى حتى يأتي بنصره لنا فنستعيد سيرتنا الأولى و حتى نكون من الطائفة المنصورة التي يمكن الله على أيديها لدينه في الأرض ( وما النصر إلا من عند الله ) :
أولاً : العقيدة الصحيحة القائمة على التوحيد الخالص لله رب العالمين فإذا صحت العقيدة صح العمل وإذا بطلت العقيدة بطل العمل ولن يتقبله الله بل ان من كانت عقيدته باطله ينطبق عليه قول الله تعالى( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا )03+104الكهف وقال تعالى ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين )65الزمر.
والعقيدة الصحيحة هي الخالية من الشرك بتوحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء(/1)
والصفات لله رب العالمين كما جاءت( بالقرآن والسنة) وكما اعتقد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته دون تأويل أو تعطيل أو تحريف أو تشبيه أوتكييف قال تعالى( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) 11 الشورى , و بأن نثبت لله ما أثبته لنفسه في القرآن وما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته وأن لا نشرك بالله شيئاً لانبي ولا ولي ولا صاحب قبر ولا شيخاً ولا (صاحب زمان: المهدي المنتظر ) الذي يدعي من يدعون أنهم من شيعة أ ل البيت وأ ل البيت منهم براء وما هم إلا شيعة عبد الله بن سبأ وصفويون متعصبون حاقدون على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم انه يرفع الكون بيمينه وأن الأعمال تعرض عليه ليلة الاثنين والخميس وأنه يرزق ويشفي وينصر ويستجيب لدعاء العباد ويقضي لهم حاجاتهم التي لا يقدر عليها إلا الله وهي من أساسيات التوحيد أي أنه إله يبت في أعمال العباد نيابة عن الله سبحانه وتعالى , (قاتلهم الله أنى يؤفكون ) , إنها والله عقيدة التلمود (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا )111الآسراء قال تعالى (لله ما في السموات وما في الأرض وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يُحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويُعذب من يشاء والله على كل شيء قدير) 284 البقرة وقال تعالى ( ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كُله فأعبده وتوكل عليه وما ربُك بغافل عما تعملون )123هود وقال تعالى ( يوم ببعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ) 6المجادله , فلا معصوم إلا الأنبياء وأن الحساب والثواب والعقاب والكون والسماوات والأرض بيد الله سبحانه وتعالى فكل من يقول بغير ذلك فهو ليس من المسلمين وقد كذب بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم الذي يقول الله له في كتابه العزيز ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فانهم ظالمون )128ال عمران وقال تعالى ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضراً إلا ما شاء الله و لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) 188الاعراف وقال تعالى ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) 110الكهف .
فكيف بمن يستمدون شرفهم واحترامهم من الانتساب إليه أو غيرهم من البشر .
فمن التوحيد أن تؤمن إيماناً لاريب فيه ولا شك بأن الله هو الرزاق وهو الناصر وهو المجيب وهو القادر على كل شيء وهو الذي يحي ويميت فمن دعا غير الله أو جعل بينه وبين الله واسطة أو وسيلة أوتوسل بصاحب قبر فقد أشرك (إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يُشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً) 48النساء .
إن الشرك لظلم عظيم قا ل تعالى( ويوم نحشُرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون) 22الانعام , ومن صحة العقيده أن تكون العلاقة بين العبد وربه علاقة مباشرة لا تحتاج إلى واسطة قال تعالى( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوابي لعلهم يرشدون ) البقرة186 وكما قال صلى الله عليه وسلم لإبن عباس رضي الله عنه ( إني أعلمك كلمات أحفظ الله يحفظك أحفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم بأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء فلن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وان لو اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف ) وقال تعالى ( قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين )11الزمر .
و من صحة العقيدة أن نؤمن بأن القران الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي بين أيدينا دون نقصان أو زيادة أوتحريف والذي تكفل الله بحفظه قال تعالى( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) 9 الحجر , وأن الوحي قد انقطع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وان الدين قد اكتمل بنزول الآية الكريمة( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )3المائدة ,و قال تعالى ( وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين ) 105 يونس , وقال تعالى ( قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب) 36 الرعد وقال تعالى ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين ) 6 فصلت .(/2)
ثانياً : أن يكون العمل صحيحا خالصاً لوجه الله رب العالمين أي صحيحا من ناحية شرعية وأن لا يكون مخالفا للقرآن والسنة , وأن تكون النية خالصة لله و هي الجهاد والقتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله في الأرض والهدف والغاية هو إرضاء الله سبحانه وتعالى فإما الشهادة وإما الفوز بجنته , وأن لا يكون القتال في سبيل عصبية جاهلية أو قومية أو وطنية أو لتحقيق مأرب دنيوية أو مكتسبات فئوية ضيقة أو من أجل الشهرة أو من أجل الفوز بانتخابات .
فالدفاع عن الأوطان يجب أن يكون بالجهاد في سبيل الله لمنع خضوعها لراية الكفر وتخليصها من حكم الكفار وإبقائها موحدة لله رب العالمين تحت راية التوحيد .
فكل قتال مهما كان هدفه نبيلاً وسامياً لا تكون النية من ورائه هي رفع راية التوحيد والجهاد في سبيل الله فهو لا يعتبر خالصاً لوجه الله رب العالمين فالنية يجب أن تكون لله كما قال صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته لله ورسول فهجرته لله ورسوله ومن كانت هجرته إلى امرأة ينكحها أو دنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه) و قال تعالى ( إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) 111التوبة و قال تعالى ( وليمحص الله الذين أمنوا ويمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) 141-142 أل عمران وقال تعالى (و لو يشاءُ الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قُتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم ) 4 محمد وقال تعالى ( الذين آمنوا يُقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يُقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ) 76 النساء وقال تعالى (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم )31محمد
ثالثا: الاعتقاد اعتقاداً جازماً يقيناً لا شك فيه ولا ريب ولا ظن بأن النصر من عند الله فلا يطلب من غيره لا من نبي ولا من ولي ولا من صاحب قبر ولا معصوم فيجب أن يكون في المعركة استغاثة بالله وحده حتى تتنزل ملائكة الله فالرسول صلى الله عليه وسلم في يوم بدر حتى يُعلمنا أخذ يناجي ربه وهو يرفع يديه إلى السماء حتى بان بياض إبطيه قائلا (رب! إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض ) ويجب في المعركة ذكر الله كثيرا قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) 45 الأنفال (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مُردفين * وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم )9+10الانفال و قال تعالى ( إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذُلكم فمن ذا الذي ينصُركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون )160أل عمران وقال تعالى ( إنما المؤمنون الذين أمنوا بالله ورسُوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفُسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) 15 الحجرات , وقال تعالى ( وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ) 10الانفال وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )7 محمد وقال تعالى ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهُم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليُبلى المؤمنين منه بلاءً حسناً إن الله سميع عليم ) 17الانفال.
ومن استغاث بغير الله فقد أشرك مثل أن يقول يا بدوي و يا دسوقي ويا حسين ويا علي ويا صاحب الزمان اغثني وانصرني , فهؤلاء سيكلهم الله إلى أنفسهم فلن ينصرهم ولن يذهب غيظ قلوبهم قال تعالى( من كان يظن أن لن ينصُره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يُذهبن كيده ما يغيظ ) 15 الحج .
فجميع الهزائم والكوارث التي حلت بالأمة منذ عقود طويلة كانت بسبب أن الحكام كانوا يستغيثون إما بالشرق وإما بالغرب ويستمدون معنوياتهم من ( أم كلثوم وعبد الحليم حافظ والعوالم ) فكانوا يقولون أم كلثوم وعبدالحليم حافظ معكم في المعركة بدلاً من أن يقولوا الله معكم في المعركة فممنوع ذكر الله والاستغاثة به و شعار( الله أكبر ) شعار النصر لأمتنا والذي تستجيب له ملائكة الله بإذن ربها محرم في معظم الجيوش الإسلامية بل واستبدل بشعار شيطاني عبثي ليس له معنى ( بر بحر جو ) و صرخات (هاااعع ) أوكصرخات الوحوش والحيوانات أو كنباح الكلاب لان معظم هذه الجيوش أعدت لصناعة الهزائم وليس لصناعة النصر حتى تبقى إسرائيل في أمان(/3)
رابعاً : الولاء لله ورسوله والمؤمنين والبراءة من المشركين والكافرين والمضلين والملحدين أعداء الإسلام مهما كانت أسمائهم ومسمياتهم وشعاراتهم ونواياهم المعلنة ومهما كانت الروابط التي تربطنا بهم وأواصر القربى التي تجمعنا بهم فأبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم ولكننا نتعبد بلعنه إلى يوم الدين قال تعالى
(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة:4) وقال تعالى (يا أيها الذين أمنوا لا تتخذواعدوي وعدوكم أولياء تُلقون إليهم بالمودة)1الممتحنة
ولا يمكن بأي حال من الاحوال أن يكون هناك تحالف بين من يقاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وبين من يحارب الله ورسوله ويدعو إلى الإلحاد والكفر ويعتبر الاسلام تخلف وظلاميه ورجعيه ويعتبر الكفر تقدميه وثوريه فهل ممكن أن يجتمع المتضادان وهل يستوي الخبيث والطيب وهل ممكن أن يتحالف من كان الله مولاه ومن لا مولى له قال تعالى ( ذلك بأن الله مولى الذين أمنوا وأن الكافرين لامولى لهم) 11محمد
وقال تعالى ( ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركُمهُ جميعاً فيجعلهُ في جهنم أولئك هم الخاسرون ) 37 الانفال.
فالتحالف مع الكفار مهما كانت مسمياتهم وأسمائهم وانتماءاتهم هو اعتراف بالكفر وإقرار به واستخفاف بكتاب الله وإعراض عن ذكر الله قال تعالى ( الذين جعلوا القرآن عضين * فوربك لنسئلنهُم أجمعين * عما كانوا يعملون * فاصدع بما تُؤمر وأعرض عن المشركين) 91- 94الحجر وسواء كانت هذه المسميات وطنية أو قومية أو يسارية أو ثورية أو شيوعية فكل هذه المسميات تلتقي على معاداة الاسلام والحقد على أهله ولو إدعى البعض منهم غير ذلك منافقة للمد الإسلامي فهم يستهزئون بالغيب وبعقيدة التوحيد ويسمون أصحاب عقيدة التوحيد بالغيبيين قال تعالى( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يُرد إلا الحياة الدنيا )29النجم و قال تعالى( يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودُوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) 118ال عمران و قال تعالى ( يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهُم منكم فأولئك هم الظالمون ) 23 التوبة وقال تعالى ( وما كُنتُ متخذ المُضلين عضداً ) 51 الكهف
فالكفار لا يمكن أن يعملوا لمصلحة المسلمين الموحدين لله رب العالمين الذين تتناقض عقائدهم الباطله مع عقيدة التوحيد والذين يتوحدون في حربهم على الإسلام فملة الكفر واحدة قال تعالى ( والذين كفروا بعضُهُم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنه في الأرض وفساد كبير ) 73 الأنفال وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعُوا الذين كفروا يرُدُوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين* بل اللهُ مولاكم وهو خير الناصرين ) 149+150 اّل عمران وقال تعالى ( ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفُسُهم أن سخط اللهُ عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يُؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون ) 80+81 المائدة .
فالتحالف في المعركة وفي غير المعركة أو حتى في الانتخابات سواء كانت برلمانية أو نقابية أو طلابية مع الذين كفروا مدعاة لسخط الله ولن يؤدي هذا التحالف إلى خير بل إلى شر وإلى غضب الله في الدنيا والآخرة قال تعالى ( إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً وإن الظالمين بعضُهُم أولياءُ بعض والله وليُ المتقين ) 19 الجاثية .
فالمجاهدون في سبيل الله حق جهاده ويفقهون حقيقة المعركة وعقيدتهم صحيحة لا يمكن أن يتخذوا الكافرين أولياء ولو كانوا أقرب الناس إليهم .(/4)
فالإسلام يفصل بين الناس على أساس عقائدي وليس على أساس عنصري أو قومي أو على أساس النسب فالعجب كل العجب من بعض من تسمي نفسها أحزاب إسلامية أو حركات إسلامية جهادية وتتحالف مع من يحادون الله ورسوله فكيف سينصر الله هؤلاء , قال تعالى ( إن الذين يحادون الله ورسُوله أولئك في الأذلين *كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز* لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم والأخر يُوادون من حاد الله ورسوله ولو كانُوا آباءهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويُدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ) 19-22 المجادلة .
فالذي يتحالف مع أعداء الله من الذين يسمون أنفسهم بالقوى الوطنية التي تنتمي إلى المسميات والعناوين التي ذكرناها سابقا إنما قد دخل بالضلال المبين وتاهت به السبل ولن يهده الله سواء السبيل قال تعالى ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهُم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)69العنكبوت , فأبو لهب وأبو جهل وعتبة والوليد كانوا يمثلون القوى الوطنية في مكة والتي حاربت الله ورسوله دفاعاً عن نفوذهم وسيطرتهم ومصالحهم ومكتسباتهم فيها فهل تحالف معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حاربهم حرباً لا هوادة فيها وجاهدهم جهاداً كبيراً رغم جميع المغريات التي عرضوها عليه والتي كان رده عليها (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر حتى أهلك دونه) .
ففي القرآن الكريم لا يوجد قوى وطنيه وإنما إسلام وكفر فكل من يعادي الإسلام ويحاربه ويرفض وجوده بين الناس ويستهزئ به انم اهو في ميزان القرآن كمثل أبي جهل وأبي لهب وشارون وأولمرت وبوش وبلير وجميع أعداء الله , فهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة هي انتصار لولاء العقيدة على ولاء الوطن حيث قدم ولاء العقيدة على ولاء الوطن وهذا لا يعني أننا لا نحب الوطن فنحن الموحدون لله رب العالمين أشد الناس حباً للوطن فالرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكرت مكة أمامه كان يقول دعوا القلوب تهدأ .
قال تعالى ( يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكُم من الحق يُخرجون الرسول وإياكُم أن تؤمنوا بالله ربكُم إن كُنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسُرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعلهُ منكُم فقد ضل سواء السبيل) 1 الممتحنة وقال تعالى ( أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسُوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون ) 16 التوبة وقال تعالى ( بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً *الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً ) 138+ 139 النساء .
فمبدأ الولاء والبراء مبدأ أساسي في عقيدة التوحيد (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين أمنوا فإن حزب الله هم الغالبون )55+56المائدة
خامساً: إن من شروط النصر التي وضعها الله سبحانه وتعالى الإعداد بقدر المستطاع فالمجاهدون في سبيل الله مطلوب منهم إعداد القوة لمقاتلة العدو ولكن الله سبحانه وتعالى لم يشترط أن يكون هناك تكافؤ أو توازن بالقوة مع العدو فهذا غير مطلوب وإنما المطلوب هو الإعداد بقدر المستطاع ولو كان حجراً أو سكيناً أو بندقية. قال تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يُوف إليكم وأنتُم لا تظلمون) 60 الأنفال.
وإعداد القوة المستطاعة هو من باب الأخذ بالأسباب وحتى يكون هذا الإعداد دلالة على صدق النية في مقاتلة العدو ومنازلته والجهاد في سبيل الله .(/5)
أما بعض المسلمين الذين يقولون بأن إعداد العدة حرام لأنه لا يجوز استخدام الوسائل المادية لنصرة دين الله لان استخدامها مخالف للقرآن والسنة بحجة ان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستعملها في العصر المكي وهم يعتبرون أنفسهم اليوم في العصر المكي كما يقولون ويدعون , لذلك فإنهم يطلبون من غيرهم أن ينصر الإسلام واستعادة الخلافة وهم قاعدون على الأرائك ينظرون ويثبطون ألأمه ويحبطونها بالتشكيك بكل بادرة أمل وخير تنبعث من وسط الظلام وبكل مجاهد مخلص في هذه الأمة يعمل حقيقة لنصرة الإسلام واستعادة مجد الأمة الضائع ويتهمونه بالعمالة إما لبريطانيا وإما لأمريكا فالتاريخ عندهم تتحكم به المؤامرة التي تحيكها بريطانيا وأمريكا فهم يفسرون الأحداث على قاعدة الصراع البريطاني الأمريكي الذي انتهى منذ عقود طويلة ولكنهم يصرون على استمراره إلى الآن حتى أنهم يعتبرون الصراع في فلسطين بين ( بريطانيا وأمريكا وليس بيننا وبين اليهود ) فهم لا يؤمنون بالجهاد وإنما بالكفاح السياسي وإصدار المناشير الساذجة الركيكة مدعين بأن هذه هي طريق الرسول صلى الله عليه وسلم التي أقام بها دولة الإسلام فهل يوجد في الإسلام مصطلح الكفاح السياسي ومن الغريب أن العصر المكي في عهد النبوة كانت مدته ثلاثة عشر سنة أما العصر المكي لهؤلاء مستمر منذ خمسة عقود حتى الآن وألا يعلم هؤلاء أن العصر المكي موقوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث بدء القرآن يتنزل, فهل يتنزل القرآن من جديد حتى يكون هناك عصر مكي أخر غير عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم !! فمثل هؤلاء كمثل بني إسرائيل الذين قالوا لنبيهم موسى عليه السلام ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) والله سبحانه وتعالى يرد على هؤلاء بقوله ( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عُدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهُم وقيل اقعدوا مع القاعدين * لو خرجوا فيكم ما زادُوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلا لكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهُم والله عليم بالظالمين )46+47 التوبه( يا أيها الذين آمنوا لما تقولن مالا تفعلون كبر مقتا عند الله آن تقولوا ما لا تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيا مرصوص ) 2+3الصف فهم يدعون للخلافة ولا يعملون لها وإنما يطلبون من غيرهم أن يقيمها ثم يقدمها لهم على طبق من ذهب فاحذروا يا أبناء الإسلام من كل مثبط ليبرر عدم أخذه بالأسباب المادية التي أمرنا الله بها .
وكثير من الحكام الدجالين والكذابين في عصرنا الحالي ساقوا الأمة إلى المذبح في كل حروبهم الكاذبة مع الكيان اليهودي وهي ترقص وتغني بالخداع والتضليل والتزييف حيث كانوا يطلقون الشعارات والخطابات النارية التي تتوعد الكيان اليهودي بالثبور وعظائم الأمور , ولكنهم بالحقيقة لم يعدوا العدة لمحاربة العدو ولم يكونوا صادقين في شعاراتهم وخطاباتهم لأن الهدف كان هو تخدير وعي الأمة وتغييب فكرها حتى يقدموها لقمة سائغة لعدوها كما حصل في كارثة عام 1967 فكل من ينادي بمحاربة العدو ومنازلته دون أن يعد العدة بما يستطيع فهو غير صادق النية .
فطلب النصر من الله يكون بعد الأخذ بالأسباب المادية بإعداد القوه المستطاعة فمهما كانت القوة ضعيفة وعددنا قليل وكنا صادقين مع الله فإن الله تكفل بنصر عباده المؤمنين ( ولن تغني عنكم فئتكُم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) 19الانفال , قال تعالى (واذكروا إذ أنتم قليلُُُ مُستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكُم الناس فآواكم وأيدكُم بنصره ورزقكُم من الطيبات لعلكُم تشكُرون ) 26الانفال .
أما إذا كان المؤمنون كثيري العدد والعدة فلا يجوز أن يركن المسلمون لهذا فيقولوا والله إننا لن نغلب اليوم عن قلة كما حصل في معركة حنين عندما أعجبت المسلمون كثرتهم فكانت الهزيمة في بداية المعركة حتى يتعلم المسلمون ويرسخ في عقولهم وضمائرهم بأن النصر من عند الله قال تعالى ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حُنين إذ أعجبتكُم كثرتكُم فلم تغن عنكُم شيئاً وضاقت عليكُم الأرض بما رحُبت ثم وليتم مُدبرين * ثم أنزل اللهُ سكينتهُ على رسُوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاءُ الكافرين ) 25+26 التوبة .(/6)
سادساً: إن من شروط النصر التي يجب أن تتوفر فيمن تكفل الله بنصرهم من الطائفة المنصورة أن يكونوا ممن يحبهم الله و يحبون الله أكثر من أنفسهم ومن ولدهم ومن أموالهم ويتصفون بالعزة والكرامة ومتواضعين مع المؤمنين لا يستكبرون عليهم ولا يخشون أحداً من الناس ولا يهتمون أو يلقون بالاً بما سيقوله أعداء الله عنهم بوصفهم إرهابيين أو متطرفين أو أصوليين أو مجرمين فالهدف عندهم والغاية هو الحصول على مرضاة الله سبحانه وتعالى والفوز بالشهادة أو النصر وهؤلاء قد وصفهم الله سبحانه وتعالى ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكُم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يُحُبهُم ويُحبُونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضلُ الله يُؤتيه من يشاءُ واللهُ واسعُ عليم ) 54 المائدة ومن صفاتهم أيضا ( التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) 112 التوبة .
هذه هي شروط النصر التي وضعها الله سبحانه وتعالى للنصر وهي التي التزم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين من بعدهم وجميع المجاهدين في سبيل الله الذين نصرهم الله .
فعلى كل من يريد أن يصبح من الطائفة المنصورة أن يلتزم بهذه الشروط سواء كان ( فرداً مسلما أو حزباً إسلاميا أو حركة جهادية أو دولة مسلمة ) فهذه ليست وجهة نظرنا فنحن لم نأتي بشيء من عندنا ولا هي شروطنا بل هي شروط رب العالمين التي أنزلها في كتابه العزيز وهي حجة علينا و على المؤمنين و حجة على الأنبياء والمرسلين وعلى المسلمين والناس أجمعين.
ومن باب النصيحة والتذكير وإقامة الحجة فإنني أذكر أخواني في بعض الأحزاب الإسلامية والحركات الإسلامية المقاتلة وخصوصاً في فلسطين أن لديها خلل كبير ببعض هذه الشروط , فبعضها مثلاً يتحالف مع الأحزاب والمنظمات التي تحمل عقيدة الإلحاد والكفر والعداء لله ورسوله ويسمون هذا التحالف ب( تحالف القوى الوطنية والإسلامية ) والمستفيد من هذا التحالف هم الأحزاب والمنظمات الكافرة الملحدة لأنها لا تمثل شيئاً بين أبناء الامة و بين أبناء الشعب الفلسطيني وهي ليست أكثر من أفراد أصواتهم عالية وشعاراتهم عفى عليها الزمن فهم في حالة إنحسار بعد أن إنكشف كذبهم وتضليلهم وسوء نواياهم ضد عقيدة الأمة فلم يكن تحرير فلسطين في يوم من الأيام أكبر همهم بل كان محاربة الإسلام م شغلهم الشاغل ولو كانوا اليوم في حالة مد وانتشار كما كانوا في الخمسينات والستينات من القرن العشرين لما تحالفوا مع الأحزاب والحركات الإسلامية لأنهم يعتبرونها رجعية وظلامية وحليفة للاستعمار ويجب محاربتها كما يقولون في أدبياتهم فهم أصلاً أسسوا من أجل محاربة الإسلام فلولا هذا التحالف لإندثر هؤلاء وبادوا كما باد اتحادهم السوفياتي الإلحادي .
وكيف لحركة جهادية في فلسطين أن تتبع وتوالي دولة رافضية صفوية تتقرب إلى الشيطان بتكفير أبي بكر وعمر وعثمان وجميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين جاهدوا في الله حق جهاده وحملوا راية التوحيد ونشروا الإسلام في الأرض من بعده وهذه الدولة الصفو يه وهي إيران تتقاطع اليوم مع أمريكا الصليبية في عدائها للمجاهدين في أفغانستان والعراق من أهل السنة والجماعة , بالاضافة إلى ذلك إن مذهبها الذي تعتنقه قائم على الشرك الخالص بالله رب العالمين كما وضحنا في بداية الموضوع , فهل هناك شرك أعظم من هذا الشرك , لذلك لم ينصرها الله في حربها على العراق في عقد الثمانينات رغم أن الذي كان يحكم العراق في ذلك الحين حزب البعث العلماني الكافر, فكيف سينتصر من يتحالف مع مثل هؤلاء المشركين الذين الآن يرتكبون المذابح ضد أبناء الشعب الفلسطيني الذي تنتمي له هذه الحركة والذين تم تهجيرهم إلى العراق عام 1948 وضد أهل عقيدة التوحيد من العراقيين لا لذنب إلا لأنهم من أهل السنة والجماعة.(/7)
وهناك خلل خطير آخر لدى بعض هذه الأحزاب والحركات وهو استعمالها لمفاهيم ومصطلحات في خطابها السياسي يتناقض تناقضاً كبيراً مع هذه الشروط القرآنية إلى درجة أنها تستعمل مفاهيم ومصطلحات الحركات والمنظمات العلمانية والماركسية المعادية للإسلام بشكل كامل وعلني فهي أولاً تستعمل مصطلح المقاومة والكفاح والنضال والمقاومين بدلاً من المصطلح القرآني وهو( الجهاد والمجاهدين ) فالجهاد ليس له إلا معنى واحد وهو القتال في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى أما مصطلح المقاومة و الكفاح والنضال فله معاني كثيرة إلا الجهاد في سبيل الله بل قد تعني هذه المصطلحات مماتعني ( الحرب على الإسلام ) الذي يمثل بالنسبة لهم الرجعية وهو بالنسبة لهم أفيون الشعوب ويستعملون أيضا مصطلح ( الأمتين العربية والإسلامية ) بدلاً من مصطلح ( الأمه الإسلامية أمة التوحيد) فلا يوجد في الإسلام أمتين بل أمة واحدة هي أمة الإسلام والتوحيد , قال تعالى( وان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربُكم فاتقون ) 52المؤمنون فالذي اخترع مصطلح الأمتين هم الكفار الذين هدموا دولة الاسلام في مطلع القرن العشرين فأنشأوا القومية العربية والقومية التركية لتكونا بديلا لأمة الاسلام , فإستعمال هذا المصطلح هو إقرار بفعل الكفار ضد أمتنا الواحدةالموحده لله رب العالمين عرباً وعجماً ,وكذلك يستعملون مصطلح الوحدة الوطنية فهم يقدمون الولاء للوطن على الولاء للعقيدة فالذي يحارب عقيدتنا لا يمكن أن يكون من أمتنا , فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما هاجر من مكة الى المدينة قدم ولاء العقيدة على الولاء للوطن ولكن حماية الوطن والدفاع عنه واجب شرعي ويستخدمون أيضا كلمة ( الصهاينة والإسرائيليين ) بدلاً من ( اليهود ) مما يعني تفريغ الصراع في فلسطين من بعده العقائدي , فالماركسيون مثلا يعتبرون أن الصراع في فلسطين إنما هو صراع مع الصهاينة الرأسماليين وليس مع اليهود فالصراع صراع طبقي وليس صراع عقائدي ألا يعلم هؤلاء أن الكيان الغاصب في فلسطين هو كيان يهودي والذين يذبحون أهلنا في فلسطين هم اليهود فكل يهودي جاء إلى فلسطين سواء كان فقيراً أو غنياً رأسماليا أو اشتراكيا عاما أو كناساً فهو عدو لنا .
فأنني أدعو جميع الكتائب المقاتلة في فلسطين بأن تعيد النظر بجميع تحالفاتها وأدبياتها وأفكارها ومناهجها ومصطلحاتها وخطابها السياسي وإعادة صياغتها صياعة جديده لتكون منسجمة مع القرآن والسنة وخصوصاً مع الآيات التي أوردناها والتي تتضمن شروط النصر والتمكين (
الطائفة المنصورة ) حتى لا يحبط عملها( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم) 33محمد .
يا أيها المقاتلون الأشاوس الأبطال يا جند الإسلام يا أحفاد ( أبي بكر وعمر وعلي والحسين وخالد وسعد وأبى عبيده رضوان الله عليهم أجمعين ) في جميع الكتائب المقاتلة في فلسطين وأخص بالذكر( كتائب القسام وألوية الناصر صلاح الدين وكتائب شهداء الأقصى و أحمد أبو الريش) يا من علمتم الدنيا كيف تكون مقارعة العدو ومنازلته لكم القدوة والمثل بالمجاهدين في العراق وأفغانستان فهم مسلحون بأبسط الأسلحة فسلاحهم لا يتعدى بندقية كلاشنكوف ومضاد للدروع وعبوات ناسفه بدائية الصنع وهم حفاة عراة ولكنهم على وشك أن يهزموا الولايات المتحدة الأمريكية أكبر دوله في العالم التي تملك ترسانة من السلاح ليس لها مثيل, ففجر الإسلام يوشك أن يبزغ من جديد على أيديهم لأنهم كما هو واضح من مواقفهم السياسية وشعارات المعركة التي يرفعونها ومفاهيمهم ومصطلحاتهم التي يستخدمونها في خطابهم السياسي وبياناتهم العسكرية وأدبياتهم انهم يأخذون بشروط النصر التي وضعها الله رب العالمين دون أي خلل يذكر وتنطبق عليهم والله أعلم صفات ( الطائفة المنصورة ) , ففقه المعركة لديهم واضح وضوح الشمس فليس لديهم خلط بالمفاهيم ,وألم يأتكم نبأ المجاهدين في الفلوجة الذين هزموا أمريكا وأنزلوها عن عرشها وأجبروها على تغيير إستراتيجيتها بالعراق وبالمنطقة.
وإنني أدعوكم أيها الأبطال أن تتوحدوا تحت قيادة واحدة في ظلال عقيدة التوحيد الخالص لله رب العالمين وأن تكون آيات شروط النصر وصفات الطائفة المنصورة دستوركم ومنهاجكم وليس ما يسميه البعض( ببرنامج المقاومة) الذي ليس له علاقة بشروط النصر وصفات الطائفة المنصورة فهو ليس مرجعيته القرآن والسنة وإنما مرجعيته خليط من برامج منظمات وأحزاب بعضها يعادي الإسلام ويعتبره رجعيه فلا يجوز أن تبقى الأمور على هذا الحال الضبابي الذي لا يرضى عنه الله بناءً على الشروط القرآنيه السابقة .(/8)
فأنتم يا أبناء الارض المباركة أحق الناس بهذه الشروط والصفات فكما يقول الرسول صلى اله عليه وسلم( لاتزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله قالوا أين هم يا رسول الله قال في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس ) ولا يجوز أن يستثمر تضحياتكم وجهادكم وبطولاتكم قيادات تتذوق ارتداء البدلا ت وربطات العنق الأنيقة وكأنهم يقودون شعبا من الأرستقراطيين و ثقافتهم مشوشة عن فقه المعركة والجهاد والولاء والبراء وتخلط الحابل بالنابل وليست على مستوى قيادة المعركة وتبين أن الدنيا و الحكومة والسلطة أكبر همهم ولو كانت هذ الحكومة والسلطة نكرتين وتحت حراب العدو وصورت فوزها بانتخابات وضع شروطها العدو( الكيان الغاصب )على أنها بمثابة تحرير لفلسطين وإقامة للدولة الإسلامية وأنها نصر من الله وفتح مبين وتحول هدفها من تحرير فلسطين إلى التمسك بحكومة ليس لها وجود إلا في السراب وهي بمثابة ضحك على الذقون ومهما كلف الثمن فهذه القيادات صارت تعلن ليل نهارا بأن العدوا ليس له هدف إلا إسقاط الحكومة وما دامت الحكومة موجودة ولو على الورق وفي خيمه فنحن المنتصرون ولو أبيد جميع أبناء الشعب الفلسطيني .
إنها والله لمهزلة !! , فوالله لو كانوا صادقين في نيتهم وجهادهم ما ورطوا أنفسهم في هكذا واقع مثل هذه الورطة التي لا خروج منها إلا بحل الحكومة والسلطة و بالتوبة والعودة إلى صفوف المجاهدين والأخذ بشروط النصر وصفات الطائفة المنصورة حتى يُمكن الله للمجاهدين في الأرض, فالأمر من ناحية شرعيه جدُ لا هزل فيه .
فالمجاهدون في سبيل الله حقاً من أصحاب العقيدة الصحيحة يريدون حرث الآخرة وهي أكبر همهم ولا يضحون إلا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ودفاعاً عن هذه العقيدة وهذا الدين وهدفهم إما النصر وأن تعود فلسطين موحدة لله رب العالمين وإما الشهادة وهذا كله يؤدي بالضرورة إلى أن يعيش المسلمون أحراراً أعزاء في وطنهم آمنين مطمئنين , فيجب أن يكون عملنا صحيحا خالصاً لوجه الله حتى يتقبله الله منا .
فعلى جميع الكتائب المجاهدة في فلسطين والتي لا نشك بإخلاص أفرادها ولا بولائهم لدينهم وحسن سريرتهم وصدق نيتهم بأن تبادر إلى تشكيل ( مجلس شورى ) من القيادات الميدانية تجتمع تحت قيادة واحدة تحت راية ( القرآن والتوحيد)وحتى لا يضيع عملكم أيها الأبطال هباءً منثوراً وحتى يُمكن الله لكم في الأرض, قال تعالى
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55) اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد(/9)
الشريعة الإسلامية شريعة شاملة... كاملة
[الكاتب: الشيخ عمر عبد الرحمن حفظه الله ]
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد...
فيقول رب العزة تبارك وتعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) [الأعراف/158] }.
من الناس من يفهم الإسلام على أنه بعض صلوات يؤديها، وكثيراً ما تكون خالية من الخشوع والخضوع لله.
ومن الناس من يفهم الإسلام على أنه يؤدي مناسك الحج أو يعتمر، وقد يكون في عنقه من كثير من المظالم، فنرى ظالمين طغاة يؤدون الحج والعمرة، ويظنون أنهم بذلك فعلوا ما عليهم من واجبات نحو دينهم.
ومن الناس من يرى الإسلام مظاهراً وأشكالاً وأضواء وأنواراً تعلق، وسرادقاتٍ تنصب، ومقاعد يُدفع فيها بعض المال، ويظن أنه بذلك أدى ما عليه.
أهذا هو دين الإسلام الذي جعله الله خاتم الأديان؟
أهذا هو دين محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعث به ليخرج { النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) [إبراهيم/1] }؟
أهذا هو الذي أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة، وجعل فيه الحل الكامل لأدواء الشعوب ومشاكل الأمم؟
كلا! إن الإسلام ليس كذلك أبداً، إنه دين عالمي، صالح لكل زمان ومكان.
فالذين يفهمون أن الإسلام؛ قاصر على المسجد، وما صرح به بعض المسئولين(1) ؛ من أن مكان الإسلام المسجد، وأنه لا يتجاوزه إلى غيره، وهدد هذا المسؤول وتوعد.
هكذا يفهمون الإسلام، كما قال لي بعضهم؛ "أنه صلاة وصوم، ورجب وشعبان"!
بهذا الفهم السقيم وبهذا القصور؛ يفهم الإسلام وعظمته؛ [. . .] من يسمون أنفسهم بالمسلمين.
إن الإسلام دين له قواعد وأصول شاملة جامعة للناس جميعاً، وانه لا يكون في المسجد فقط، إنما المسجد مركز الإشعاع، وهو الطاقة والقوة التي يستمد منها المسلم انطلاقه، { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) [النور/36-38] }.
فليس الإسلام مكانه المسجد، إنما مكانه كل ميادين الحياة، مكان الإسلام دواوين الحكومة، والوزارات، والمحافظات، و "الأقسام"(2) ، وكل مكان في الحياة ينطلق منه الإسلام، ويُدعى إلى الإسلام بهذه الأماكن كلها.
هذا الفهم القاصر يجب أن يرجع عنه من لا يفهمون الإسلام.
إن الإسلام نظام متكامل للحياة، فيه السياسة والاقتصاد، وفيه الاجتماع والأسرة، فيه الحرب والسلم، ونظام المعاش والمعاد، كل شيء يتضمنه الإسلام ويتكفل به.
حتى قال خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه: (والله لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله).
إن كتاب الله وسنة رسوله تشمل ما يحتاجه الإنسان في حياته كلها، والذين يزعمون؛ أن السياسة منفصلة عن الإسلام؛ أولئك قوم جهال، أضلهم ما هم فيه من جاه حكم وسلطة، وأبعدهم عن الحق.
فالإسلام فيه السياسة، كما فيه قيادة الحرب، كما فيه نظام الاقتصاد، لا فرق بين هذا وذاك.
وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الذي يؤم الناس في المسجد ويعلمهم ويربيهم، وكان هو القائد والسياسي المحنك والرجل الذي لم تعرف البشرية مثله؛ عظمة ورفعة وقوة، فكيف انفصلت السياسة عن الدين؟!
والذين يدرسون الاقتصاد؛ يدرسون اقتصاد الشرق واقتصاد الغرب، يدرسون الشيوعية والرأسمالية، ولا يتحدثون في قليل ولا كثير عن اقتصاد الإسلام، ومن تحدث منهم؛ فإنه يتحدث بكلمات على استحياء، مشيراَ إلى بعض ما في الإسلام في هذا الأمر، ولم يعرف أن للإسلام نظاماً اقتصادياً منفصلاً.
فقد تكلم الإسلام عن الزكاة؛ فأوجبها، وعن الربا؛ فحرمه، ودفع بالمال إلى الأسواق، واستخرج المال من أماكن كنزه حتى تقوم الدورة المالية بوظيفتها.
__________
(1) - هو الطاغوت الهالك أنور السادات لعنه الله.
(2) -الأقسام؛ مراكز الشرطة.(/1)
لا يتحدثون عن نظام الاقتصاد في الإسلام؛ [الذي] يحقق قول الله تعالى؛ { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) [النساء/5] }، فللإسلام نظام اقتصادي متكامل.
• وفيه نظام الدفاع والجندية؛ يحقق قول الله تعالى؛ { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) [التوبة/41] }.
• ونظام ثقافي علمي؛ دعا إليه الوحي في أول آيات الذكر الحكيم؛ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق/1-5] }.
• وفيه نظام للأُسرة؛ ينظم البيت، ويحقق فيه الفضيلة والعفة والطهر والنقاء، وهو ينادي المؤمنين؛ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) [التحريم/6، 7] }.
إنها نار خاصة، لا توقد بالمواد المشتعلة، إنما توقد بالناس!..
بالناس الذين بعدوا عن الإسلام وقصر فهمهم عن الفهم الصحيح للإسلام، وقودها الطغاة والظلمة، وقودها الذين يقفون لشريعة الإسلام بالمرصاد، يؤخرون تطبيقها، بل يؤخرون الكلام فيها، ويتخذون أوقات متباعدة، ويصدون كل من يريد أن يتحدث عن الشريعة الإسلامية.
وقودها الناس الذين 0000 يحققون الديكتاتورية والاستبداد والظلم والطغيان.
وقودها هؤلاء الناس، ومعهم الحجارة... حجارة! لا يساوي هؤلاء الناس إلا تلك الحجارة، تجتمع معهم، فأي مهانة وأي مذلة أشد من هذا؟!
لأنهم يهينون الإسلام، ويهينون شريعته، ويصدون الناس لا عن تطبيقها فحسب، إنما عن مجرد الكلام فيها... {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
• في الإسلام نظام للفرد؛ يحقق طهارته ونظافته في قول الله تعالى؛ {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}؛ من طهرها ونقاها وأبعدها عن الدنس والقذر ووجهها الوجهة الصحيحة، وارتفع بنفسه عن أشواك الطريق، أشواك المطامع والمصالح، أشواك الرجاء فيما عند الناس الذين لا يملكون جلب نفع ودفع ضر.
{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) [الشمس/9-11] }؛ من دنسها وقذرها بالخطايا والمعاصي وبالظلم والتعدي على عباد الله.
للإسلام نظام للعدل والأمانة؛ يبين للحاكم موقفه، وأنه لا يستبد بمحكوميه، ولا يطغى عليهم، وليس الحكم غنيمة، وليس الحكم أُمنية يتطلع إليها ليغترف من خيراتها وأموالها.
إنما الحكم أمانة ومسؤولية، يُسأل عنها أمام الله، فلو عثرت بغلة، لو عثر حيوان في أقصى الأماكن التي يحكمها؛ لسأله الله عن هذا الحيوان، لِمَ لم تعبد له الطريق؟
إن الإسلام نظام يجعل الحاكم مسئولاً يوم القيامة، وأن الحكم أمانة يجب أن يؤديها إلى أهلها، { إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، حَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ، حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ،أخرجه أبو عوانة في مستخرجه برقم (5560) } ؟ و { « كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالأَمِيرُ الَّذِى عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهْىَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ » }أخرجه البخاري برقم (2554)
وهكذا نجد الإسلام يشمل كل ميادين الحياة؛ المعاش والمعاد، الحرب والسلم، الدنيا والآخرة، الاقتصاد والسياسة، فيه نظام للأُسرة والبيت، ونظام للأفراد والجماعات، ونظام للسياسة والاقتصاد، ولم يترك الإسلام ميداناً من ميادين الحياة إلا وبينه، وقال فيه ما ينظم كل شأن من شؤون الحياة.
فكيف بعد هذا يقول قائل ويجرئ متجرأ؛ بأن الإسلام مكانه المسجد؟! وأن الإسلام لا تذكر مبادئه ولا تشرح أصوله إلا في المساجد؟! من الذي قال هذا؟! أافتراءً على الله؟! أشريعة غير شريعة الله؟! { قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) [البقرة/140] }.(/2)
أنتم شهداء فلا تكتموا الشهادة، وقولوا لمن يتعدى على الإسلام؛ أنت ظالم، أنت مخطئ، فقف مكانك، لا تتجاوزه ولا تتعداه، وكيف تتحدث عن الإسلام؟! هل أنت من رجال الإسلام الذين درسوه ووعوا أحكامه وعرفوا أصوله؟!
نحن نعرف أن كل شيء فيه تخصص، فلماذا لا يكون الإسلام كذلك، لماذا نعتبر الإسلام؛ كلأ مباحاً، يتكلم فيه أي إنسان ويهرف بما لا يعرف، ويتجرأ على الله وعلى كتاب الله؟
وهكذا يظن المسؤول؛ أنه حين يقول أن مكان الإسلام المسجد، ويتهدد ويتوعد، يظن؛ أننا نخاف؟! كيف نخاف؟! إننا لا نخاف إلا من مالك السموات والأرض، وخالق هذا الوجود، الذي بيده قبض الأرواح، والذي يحي ويميت، والذي يملك الأجل والرزق، كيف نخاف من مخلوق مهما كان مركزه، ومهما كان مقامه في الوزارة أو في الإمارة أو في أي مكان؟!
فإننا لا نخافه ولا نرهبه، إن القلوب يجب أن تمتلئ من الله وحده، والخوف من ذي الجلال والإكرام؛ تخاف عظمته وهيبته ووقاره، { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) [نوح/13، 14] }.
إنه يهدد ويتوعد، ولابد أن نسمع كلامه ونترك كلام الله، ونترك ديننا، وإلا فهو السجن والمعتقل، وإلا فهو الإيذاء والتعذيب، وإلا فهو أن يُصب العذاب صباً وأن نجد من ألوان العذاب وأصناف الإيذاء ما وجده المسلمون، ووجده آلاف المسلمين في السجون والمعتقلات؛ إنهم ضربوا بالسياط على ظهورهم وسائر أجسامهم، وأحرقوا بالنار وبالصعق الكهربائي، وأطلقت عليهم الكلاب المسعورة المجوعة، وعلقوا من أيديهم وأرجلهم، وهددوا بهتك الأعراض وإحضار نسائهم وأطفالهم ليفعل بهم "كذا" و "كذا"، وهكذا صنع بالآلاف من المسلمين.
ثم نسمع النغمة تعود... نسمع التهديد والوعيد، وأن مكان الإسلام المسجد، وإلا [فسيعود] ما فُعِل في السجون والمعتقلات، وما أصاب المسلمين مما أصابهم ما يستطيع الإنسان أن يقوله، وما لا يستطيع أن يقوله؛ فضيحة وشناراً وعاراً لمن قاموا بهذا الأمر.
إنا لا نخاف إلا الله، مهما كانت السجون والمعتقلات، ومهما كان الإيذاء والتعذيب، فهذا هو طريق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
طريق رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهو يصدع بالدعوة حينما أُمر، { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) [الحجر/94، 95] }، واجه البشرية كلها، واجه الظلم والطغيان، وأصحاب القوة والثروة، وأصحاب الحكم والسلطة، واجههم حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم، لم تأخذه في الله لومة لائم، ولم يمتنع عن قول الحق... لم يمتنع عن قولة حق يجب أن تقال، ولم يقل أخر هذا المبدأ في الإسلام للوقت المناسب، إنما كل ما جاءه من عند الله؛ بلّغه وأدى رسالة ربه، { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) [المائدة/67] }.
وهكذا انطلق الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم بدعوة الحق، لا يخاف أحداً، ولا يداهن في دعوته، ولم يتأخر عن كلمة حق كان ينبغي أن تقال، امتثالاً لأمر ربه؛ { فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) [القلم/8، 9] }، ودوا لو تلين فيلينون، لو تميل فيميلون، ودوا لو تداهن وتتنازل عن بعض مبادئك فيتنازلون، لكن الحق لا تنازل فيه أبداً، الحق واحد لا يتعدد ولا يتجزأ ولا ينقسم، إن الحق لا يمكن أن يتنازل عن أي مبدأ من مبادئه، فإذا تنازل الباطل؛ فإن الحق لا يتنازل أبداً، لأنه ليس كالباطل بلا مبادئ وليس [له] قواعد، إنما الحق هو الذي له هذه الأصول والقواعد والمبادئ، ولا يتنازل الحق عن صغير فيه أو كبير.
وهكذا لا يمكن أن يوجد معبر أو "كُبري"(1) بين الحق والباطل، لا يلتقي الحق والباطل أبداً، لا في أول الطريق، ولا في منتصف الطريق، ولا في نهاية الطريق، ولا يجلس الحق مع الباطل؛ يتفاوضان على مائدة مستديرة أو مستطيلة، فإن هذا قد ينفع في السياسة الملتوية والدبلوماسية المعوجة، لكنه لا ينفع مع الحق أبداً، هذا أسلوب تجاري؛ "أساومك بعشر! لا... بثمانية! فلنتفق على تسع!"، ينفع هذا في التجارة أو في السياسة، لكنه لا ينفع في أمر الإسلام، لا ينفع في الحق أبداً، فالحق لا يتنازل عن شيء من مبادئه.
وصدع النبي صلى الله عليه وسلم بالحق، ولم يخف في الله لومة لائم، ولم يداهن، ولم يلاين أبداً، ولم يرض أي أسلوب ضعيف أو كليل الحد، لم يرض هذه الأساليب الملتوية، إنما لابد أن يكون الحق واضحاً بيناً، لا غموض فيه ولا شبهة ولا التباس.
وهكذا... يخوفوننا بالإيذاء والتعذيب، بالكلاب المسعورة والصعق الكهربائي.
__________
(1) - كبري؛ جسر.(/3)
وخرج المسلمون من السجون وعندهم أمراض مختلفة؛ بعضهم أصيب بالصرع، وبعضهم أصيب بالشلل، وبعضهم أصابه من الأمراض العقلية ما أصابه، وبعضهم أصيب في رجليه أو يديه أو جسمه إصابات بالغة، ولكن كل هذا لا يُرهب المسلمين أبداً، ولا يوقفهم عن قولة الحق، لأنهم يعتقدون إن الذي يملك الرزق هو الله، والذي يملك الأجل هو الله، والذي يملك الضر والنفع هو الله، وأن أي مخلوق - مهما كان؛ وزيراً أو رئيساً - فإنه لا يملك من ذلك شيئاً أبداً.
والشيطان يجسم الخطب، ويضخم أوليائه، فلا تتبعوا الشيطان، { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) [البقرة/168، 169] }، إنه يضخم من أوليائه، ويجسم هيبتهم وعظمتهم وسلطانهم، ويقول لهم؛ "إنهم قادرون على نقلكم من أماكنكم، وعلى أن ينقصوا من مكافأتكم وعلاواتكم، وقادرون على أن يحاربوكم في معاشكم، وقادرون على أن يفرقوا بينكم وبين أولادكم، ثم هم قادرون على أن ينقصوا من أجالكم"!
هذا كلام الشيطان، { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) [آل عمران/175] }، والله لا يستطيع أحد في الوجود من البشر؛ أن يُنقصك "قرشاً" واحداً، والله لا يستطيع أن ينقص أجلك ثانية واحدة، { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) [الأعراف/34، 35] }.
وهكذا... لا تخافوا من لا يملك شيئاً، وخافوا من يملك كل شيء، خافوا رب هذا الوجود، وفاطر السموات والأرض، وكل شيء يملكه ويدبره ويقدره، هذا هو الذي تخافونه، {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
لن يرهبنا أحد بإذن الله، وعليكم أن تستمروا في الدعوة إلى الله، وأن تبلغوا رسالة الله في كل مكان، وأن تبينوا للناس هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير مبالين بتهديد ولا وعيد، وغير مبالين بقول هذا المسؤول؛ (إن مكان الإسلام المسجد)!
لا أيها المسؤول! لا! سنرفض كلامك، ولا نبالي به، ونلقيه وراء ظهورنا... لماذا؟! لأننا لا نفضل كلامك - مهما كان سلطانك وقوتك - على كلام الله أبدا،ً فإن الذي يملك القوة والسلطان هو الله، {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ}، وهم يعلمون؛ {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}.
وهكذا... يجب على المؤمن؛ أن لا يداهن في دينه وأن لا يلاين، وأن يأخذ دينه بعزم ونشاط، وقوة، { خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) [البقرة/63] }.
وهكذا... لا يكن في دينك رخاوة، ولا طراوة، ولا ليونة، ولا ميل، ولا مداهنة، ولا مصانعة، إنما عليك أن تتمسك بدينك وأن تثبت على الحق، وإن الله معك؛ يؤيدك بنصر من عنده.
أيها الإخوة الأجلاء...
لا بد أن نتسلح... لا بالسلاح المعروف! إنما نتسلح بما تسلح به السلف الصالح، لقد تسلحوا بالإيمان، لقد آمنوا أشد الإيمان وأقواه وأمكنه وأخلده...
• أمنوا بالله وبنصره وتأييده، وأن الله ينصر من ينصر دينه، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) [محمد/7، 8] }، { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) [آل عمران/160، 161] }.
• آمنوا بالله، وبأنه واحد لا شريك له، وحينما قالوا؛ "لا إله إلا الله"، قالوها مخلصين له الدين، مستيقنة بها قلوبهم، ثابتة عليها أفئدتهم.
• وآمنوا بالقائد والزعيم والحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وبأنه خاتم النبيين والمرسلين، وأنه جاء بكل خير للإنسانية، كما أنه جنبها كل شر، { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) [الأحزاب/21، 22] }.
• وآمنوا بالكتاب وبقدسيته وعظمته، { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) [المائدة/15، 16] }.
• وآمنوا بالإخوة وبحقوقها، { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) [الحجرات/10](/4)
• وآمنوا بالجزاء وبحقيته وبعدالته، { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) [التوبة/120، 121] }.
هكذا آمنوا... فكان الإيمان هو الأمر الأول فيما يلتزمه المسلم من عدة وسلاح.
**************
وكان الأمر الثاني، هو الجهاد...
الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وآيات القرآنية ناطقة بالأمرين جميعاً، { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) [الحجرات/15] }، آمنوا بالله حين سمعوا منادي الإيمان؛ { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) [آل عمران/193] }، وآمنوا بالجهاد، وبأنه الفرض الذي يقوي الإسلام ويدفع بأهله إلى أن يبلغوا رسالات ربهم.
ويُضرب الرجل.. يُقتل.. فماذا يقول والضربة تنفذ إلى أحشائه؟! يقول: (فزت ورب الكعبة)(1)! ويقول الآخر:
__________
(1) - عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ بَعَثَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَقْوَامًا مِنْ بَنِى سُلَيْمٍ إِلَى بَنِى عَامِرٍ فِى سَبْعِينَ ، فَلَمَّا قَدِمُوا ، قَالَ لَهُمْ خَالِى أَتَقَدَّمُكُمْ ، فَإِنْ أَمَّنُونِى حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِلاَّ كُنْتُمْ مِنِّى قَرِيبًا . فَتَقَدَّمَ ، فَأَمَّنُوهُ ، فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ . ثُمَّ مَالُوا عَلَى بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ فَقَتَلُوهُمْ ، إِلاَّ رَجُلاً أَعْرَجَ صَعِدَ الْجَبَلَ . قَالَ هَمَّامٌ فَأُرَاهُ آخَرَ مَعَهُ ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ ، فَرَضِىَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ ، فَكُنَّا نَقْرَأُ أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا وَأَرْضَانَا . ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ، عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِى لِحْيَانَ وَبَنِى عُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم أخرجه البخاري في صحيحه برقم (2801)(/5)
ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي(1)
__________
(1) - عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عَمْرُو بْنُ أَبِى سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِىُّ - وَهْوَ حَلِيفٌ لِبَنِى زُهْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِى هُرَيْرَةَ - أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِىَّ جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ وَهْوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ ذُكِرُوا لِحَىٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لِحْيَانَ ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَىْ رَجُلٍ ، كُلُّهُمْ رَامٍ ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ . فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ ، وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ فَقَالُوا لَهُمُ انْزِلُوا وَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ ، وَلاَ نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا . قَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لاَ أَنْزِلُ الْيَوْمَ فِى ذِمَّةِ كَافِرٍ ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ . فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِى سَبْعَةٍ ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأَنْصَارِىُّ وَابْنُ دَثِنَةَ وَرَجُلٌ آخَرُ ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَأَوْثَقُوهُمْ فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ ، وَاللَّهِ لاَ أَصْحَبُكُمْ ، إِنَّ فِى هَؤُلاَءِ لأُسْوَةً . يُرِيدُ الْقَتْلَى ، فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَأَبَى فَقَتَلُوهُ ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ ، فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا ، فَأَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ أَنَّ بِنْتَ الْحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ ، فَأَخَذَ ابْنًا لِى وَأَنَا غَافِلَةٌ حِينَ أَتَاهُ قَالَتْ فَوَجَدْتُهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى بِيَدِهِ ، فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فِى وَجْهِى فَقَالَ تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ .
وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِى يَدِهِ ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِى الْحَدِيدِ ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ وَكَانَتْ تَقُولُ إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنَ اللَّهِ رَزَقَهُ خُبَيْبًا ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِى الْحِلِّ ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ ذَرُونِى أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ . فَتَرَكُوهُ ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَوْلاَ أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِى جَزَعٌ لَطَوَّلْتُهَا اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا . وَلَسْتُ أُبَالِى حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا عَلَى أَىِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِى وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ ، فَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِعَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ يَوْمَ أُصِيبَ ، فَأَخْبَرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ وَمَا أُصِيبُوا ، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَىْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَبُعِثَ عَلَى عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ ، فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا أخرجه البخاري في صحيحه برقم (3045)(/6)
لا بد من الإيمان بالله، والجهاد في سبيله، والتضحية بكل ما تملك لإعلاء كلمة الإسلام، فإذا قدمت حب الآباء والأبناء والإخوة والأموال والتجارة والسكن؛ فأنت بذلك خارج عما شرع الله وأوجب، ومن يفعل ذلك فلينتظر جزاء الفاسقين، { قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) [التوبة/24] }.
أيها الإخوة الأجلاء...
انطلقوا بالدعوة إلى الله، وبلغوها للناس في الآفاق، واذهبوا إلى المدن والريف، والعِزَب والكُفُور، وكل مكان، انطلقوا بدعوتكم بدينكم، وبينوه للناس، بينوا هدي رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم، لا تخافوا في الله لومة لائم، ولا ترتعبوا من قول مسئول، لا ترتعبوا ولا تخافوا من تهديدٍ أو وعيد، انطلقوا بالدعوة إلى الله، لا تداهنوا ولا تلاينوا ولا تميلوا ولا تبتعدوا عن قول الحق أبداً، مهما كان التهديد والوعيد، قوموا في الله قومة رجل واحد، وأعملوا لدينكم، وجاهدوا في الله حق جهاده؛ جاهدوا شباباً وشيوخاً، صغاراً وكباراً، جاهدوا في سبيل لتعلوا كلمة الله، { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) [محمد/35] }.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
* * **************
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد...
فيا عباد الله...
أوصي نفسي وأوصيكم؛ بتقوى الله، وأعملوا للإسلام، وجدوا في نشره، فإن أهل الباطل يجدون في نشر باطلهم في الليل والنهار والصباح والمساء، ومعهم قوة، معهم قوة مالية، ومعهم قوة إعلامية، ومعهم قوة لنشر هذا الباطل، فنجد وسائل الإعلام؛ مواخير تنطلق في البيوت لتوقض الغرائز وتحيي الشهوات.
انطلقوا بالحق؛ قولوا الحق وإن كان مراً، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وارفعوا أصواتكم بهذا الحق، وقولوا للظالم؛ "أنت ظالم! فتوقف عن ظلمك"، هذا هو واجبك أيها المسلم.
واجبك أن تقول شهادة الحق، { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) [البقرة/140] }، أنت مسؤول أمام الله عن كتمان الشهادة، هذه شهادة لابد أن تقولها، قل لهذا المسؤول الذي يزعم؛ أن الإسلام مكانه المسجد!
قل له؛ "أنت ظالم بهذا القول، واعزف عن قولك، ابتعد عما تقول، ولا تخرب مساجد الله، لا تخربها بما تضعه عليها من رقابة"، { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) [البقرة/114، 115] }.
لابد أن نرفع أصواتنا بقول الحق، لنقول لـ "رئيس مجلس الشعب"، وهو يمنع أن يتحدث أحد في تطبيق الشريعة الإسلامية.
وهكذا ظهرت الأحزاب على حقيقتها، الأحزاب التي كانت تُتاجر - وما زالت تتاجر - بالدين ظهرت على حقيقتها، كل الأحزاب [قدمت] في [برامجها]؛ [أنها تؤيد] تطبيق الشريعة الإسلامية، وواحد منهم يقول: (إن الشريعة الإسلامية هي المبدأ الوحيد... أو المبدأ الأصيل)! وظهرت برامج الأحزاب، وهي متاجرة بالدين، إن الأحزاب تتاجر بالإسلام؛ لتلقى أكثر أعداد من الأصوت، تتاجر بالإسلام وتقدم في برامجها؛ أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد.
وهكذا ظهر الحق، { لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) [التوبة/48] }، ظهروا على حقيقتهم حينما قام من يدافع الشريعة الإسلامية، فوقف الكل أمامه، وقالوا؛ "إن هذا ليس هو الوقت"! إنهم يحددون أوقاتاً للكلام عن الشريعة الإسلامية! وامتنع رئيس مجلس الشعب عن أن يعطي الكلمة لمن يريد أن يتحدث عن الشريعة الإسلامية.
قولوا لرئيس مجلس الشعب؛ "إن هذا الطريق المظلم الذي تسير فيه، طريق من سبقك من رؤساء مجالس الشعب، هذا الطريق المظلم يؤدي ويودي بك إلى جهنم وبئس القرار، إن كنت تؤمن بالجنة والنار، أم أنت لا تؤمن بشيء؟!"
إن الإنسان يجب أن يعرف دينه ويعرف أعداء الإسلام... ي
عرف أعداء الإسلام الذين يقفون للشريعة الإسلامية بالمرصاد.
ورئيس مجلس الشعب يقول: (إن الدورات السابقة قُطعت وقُطعت برامجها، وان هذه دورة ابتدأت، فلا بد أن نصرف عما قيل)، وأن تقنين الشريعة الإسلامية الذي اجتهد فيه علماء ومتخصصون يريد أن يضرب به عرض الحائط.(/7)
ونقول له؛ ومتى كانت الشريعة الإسلامية تحتاج إلى تقنين؟!
إنها تطبق بغير تقنين، ولقد طبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وطبقها الصحابة والتابعون وتابعوا التابعين، واستمر التطبيق للشريعة الإسلامية أكثر من عشرة قرون، ولم تكن مقننة في مواد، فمن الذي يزعم أن الشريعة الإسلامية تحتاج إلى تقنين؟!
هذا باطل، [وهذه] محاولة للبعد عن تطبيق الشريعة الإسلامية.
ذكروه وذكروا أمثاله بقول الله تعالى في نظامه الإسلامي القضائي... ذكروه بقوله تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) [النساء/65] }.
لم ينزل الكتاب ليقرأ في المآتم، ولم ينزل الكتاب ليتخذ أحجبة، ولم ينزل القران ليقرأ في السرادقات عند الأحزان، { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) [المائدة/48-50] }، احذرهم أن يفتنوك عن "بعض"! ما أنزل الله إليك، فإذا فتنونا عن كل ما أُنزل الله إلينا، وسحبوا الشريعة الإسلامية من كل ميادين الحياة، فماذا يكون الأمر؟ وماذا ننتظر؟ إلا غضب الله وسخطه!
فأسرعوا الخطى قبل أن يأتي غضب الله، ارفعوا أصواتكم؛ بأن الحكم بكتاب الله واجب وضرورة، وأننا نبتعد عن حكم الجاهلية، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
وهكذا نجد من يصد الناس عن سبيل الله، ولا يعطي الكلمة لمن يريد أن يتحدث عن الشريعة الإسلامية، وظهر موقف الأحزاب.. جميع الأحزاب.. وهي تتاجر بدين الله، وهي تكذب على شعبها، تكذب على الأمة، حيث تعد بأنها تأخذ خطوات في تطبيق الشريعة، فإذا هي تمتنع مجتمعة عن أن تتكلم مجرد الكلام في شريعة الله!
اعرفوا أيها الإخوة من يحارب الله ورسوله، وما جزاءه؛ { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) [المجادلة/5، 6] }، { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) [المجادلة/20، 21] }.
وهكذا يجب أن يتعاون كل مسلم، وأن يرفع صوته بأننا نريد أن نطبق الشريعة الإسلامية، وأن القوانين الوضعية أودت بنا إلى حالة من الفساد والفجور والذعر مما نراه، وقد اختطف البنات والنساء هنا وهناك، لأن العقوبات غير رادعة، ولأن الحدود لا تقام، ولو كانت هناك حدود تقام لرأيت الأمن والأمان، والسلم والسلام، ورأيت البعد عن الجريمة في كل مكان، فهذه هي "الأحداث" وها هي "الحوادث" (1) نراها هنا وهناك، فعلينا أن نرفع أصواتنا، وأن نقول لحكامنا أننا نريد أن نُحكم بكتاب الله، لا بقوانين وضعية من صنع البشر، وعلينا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر.
أيها الإخوة...
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) [آل عمران/102] }، { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) [التغابن/16، 17] }.
• اتقوا الله؛ فقولوا الحق، وارفعوا أصواتكم به.
• اتقوا الله؛ فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وأسدوا النصيحة - للحاكم والمحكوم على السواء -
__________
(1) - الأحداث و الحوادث؛ أسماء لصحيفة ومجلة تصدران في مصر(/8)
• اتقوا الله ولا تداهنوا في دينكم أو تلاينوا، واقتدوا برسولكم صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى يقول له: { فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) [القلم/8، 9] }.
• اتقوا الله ولا تخافوا أحداً من الناس، فإن أحداً لا يملك لك رزقاً ولا أجلاً، ولا ضراً ولا نفعاً، خافوا الله وحده، ولماذا تخاف إنساناً؟! { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) [التوبة/13] }، كيف تخشون ناساً وأنتم عمار المساجد؟!
عمار المساجد ينبغي أن لا يخشوا إلا الله، كما قال الله سبحانه وتعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) [التوبة/18] }.
• اتقوا الله وانطلقوا بدينكم، فادعوا إلى الله... ادعوا أهليكم وأسركم، وادعوا جيرانكم وأقاربكم، وادعوا من هنا ومن هناك، فهذا واجب، { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) [فصلت/33] }.
لا تخافوا... لا تضعفوا... لا تهنوا، { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) [آل عمران/139] }، انطلقوا والله معكم، والله يرعاكم، الله يسدد خطاكم، ولن يضيع جهد أبداً، ولن يضيع عمل أبداً، والله يجازي كل امرئ عما بذل في دينه، وعما أنفق من طاقة، فعليكم أن تفعلوا ما أمركم الله به، وأن تبينوا للناس هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، فإنا نجد من يدافع عن الباطل، ومن ينشر الباطل، ومن يقف بجانب الباطل، ثم يتركون الحق لا يقف أحد بجانبه، قفوا بجانب الحق وكونوا من أهل الحق، { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) [محمد/35، 36] }.
ألا وصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، كما أمركم الله إذ قال: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) [الأحزاب/56] }.
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والعصمة من كل ذنب، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضى إلا قضيتها يا أرحم الراحمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدائك.. أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم نجنا من القوم الظالمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فرد كيده في نحره، واشغله بنفسه، واجعل تدميره في تدبيره، وأنزل مقتك وغضبك عليه.
اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، ونستعين بك عليهم، فاكفهم بما شئت، إنك على ما تشاء قدير، اللهم شتت شملهم، اللهم فرق جمعهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم احصهم عدداً، اللهم فرقهم بدداً، اللهم لا تبق منهم أحداً، اللهم اجعلهم للناس آية، اللهم اجعلهم للناس عبرة، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم افضحهم في كل مكان، اللهم افضحهم في عقر دارهم، اللهم أنزل مقتك وغضبك عليهم، اللهم آذهم في أنفسهم، اللهم آذهم في أجسادهم، اللهم آذهم في عيونهم، اللهم آذهم في أسماعهم كما آذوا المسلمين يا رب.(/9)
الشريعة الإسلامية وحدة في الأصول وتيسير في الفروع
أ.د. محمد بن أحمد الصالح 20/12/1425
31/01/2005
الفكر الإسلامي محصلة حضارية بنيت على أركان العقيدة الإسلامية التي جعلها الله دينه الخاتم وبعث خاتم النبيين – صلى الله عليه وسلم -، ونريد أن نقنع المسلم بأنه يعتنق أكمل الأديان وأعدلها، وأن مبادئ هذا الدين وأحكامه ومثله ومقاييسه هي المبادئ السليمة الكفيلة بإسعاد الفرد والمجتمع، كما نعمل على إقناع غير المسلم بهذا المعنى حتى لا يتصور الإسلام دعوة عصبية أو قاصرة عما يكفل الحياة السعيدة للناس، وأن يعرف أن ما جاء به الإسلام إنما هو برنامج عملي إصلاحي للبشرية كافة، قال تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" [الأنبياء: 107]، وقال صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها أمر دينها)، وإذا كانت العبادات قد استقرت وأصبحت توقيفية لا يدخلها التبديل ولا التغيير، فإن أمور المعاملات قابلة للتجديد والتطوير، الذي يعتمد على الاجتهاد الجماعي الذي يقوم على ركنين: اعتماد على الأصول، واتصال بالعصر، أما الاعتماد على الأصل فنحن نعتمد على الشرعية التي تقوم على الثوابت الكبرى، وهي حفظ الضروريات الست: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ العرض، وحفظ العقل، وحفظ المال، والمحافظة على قطعيات الشريعة وأحكامها، وعلى الفرائض وعلى القيم الأخلاقية.
وشريعة الإسلام قد اتسعت في كل عصر ومصر عبر آلية الاجتهاد والتجديد، ولهذا قال فقهاؤنا: إن الفتوى تتغير بتغيير الزمان والمكان والأحوال والأعراف، فهذا أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبي الإمام أبي حنيفة قد خالفوا إمامهم في كم هائل من مسائل الفقه، وقالا: لو رأى إمامنا ما رأينا لغير رأيه بناء على ما طرأ من تغير الزمان والمكان وتطور في مسيرة الحياة.
وهذا الإمام محمد بن إدريس الشافعي أثر عنه المذهب القديم لما كان في العراق، ولما تحول إلى مصر دون مذهبه الجديد بناء على تغير الأحوال والأعراف، وهذا الإمام أحمد _رضي الله عنهم جميعاً_ يؤثر عنه في المسألة أكثر من رواية، إما من باب التيسير أو الاعتماد على نص علمه.
إذن فأعمال الاجتهاد والتجديد ضرورة ملحة لاستيعاب قضايا العصر ومتطلبات الحياة، ومن خلال الثبات على مقاصد الشريعة وقواعدها العامة ومبادئها الكلية مع المرونة في الوسائل ودقة الفهم وإدراك المصلحة.
والتغيير في الأحكام يعني: تعظيم الأصول وتيسير الفروع؛ لأن تعظيم الأصول يندرج تحت قوله تعالى: "بسم الله الرحمن الرحيم الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وبما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون"، وقال عليه الصلاة والسلام (بني الإسلام على خمس إيمان بالله ورسوله والصلوات الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت).
وهذا يقتضي أن من يتصدى للفتوى في قضية الأحكام أن يكون لديه الأهلية في العلم والفهم والإدراك، قال تعالى: "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب" [الزمر:9]، وقال تعالى: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات"، وقال تعالى: "شهد الله أنه لا إله إلا هو الملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم" [آل عمران: 18].
ولكن _ويا للأسف_ نعيش اليوم في عصرنا مع شباب حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام لم يأخذوا العلم عن الثقات ولا عن مصادر العلم الأصيلة، ولم يستمعوا لقول الله تعالى: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"، كما أن هؤلاء لم يرجعوا إلى الراسخين في العلم، وإنما قرأوا جملة من الآيات أو جملة من الأحاديث ثم نصبوا أنفسهم للإفتاء بآراء شاذة ومنحرفة، فاخذوا يكفرون الأمة ويفسقونها ويجهلون العلماء ويسفهونهم ويخوضون في أعراضهم، ويسعى هؤلاء الشباب في تضليل الناس ووصفهم بالابتداع، ويصدرون من الفتاوى ما يؤدي إلى الفتنة والبلبلة والاضطراب، ويخوضون في القضايا الكبرى للأمة ومصالحها العليا، وهذا من الفتن العظيمة ومن الشر المستطير، فيجب على العلماء وأولي الأمر والرأي أن يتصدوا لهؤلاء ويبعدونهم عن الساحة، ليسلم الناس من هذا الهراء، ولا يتصدى للفتوى إلا الراسخون في العلم، ومن وهبهم الله فهماً دقيقاً وفقهاً عميقاً، ولهذا نرى أن الصيغة المثلى في علاج قضايا الأمة وحل مشكلاتها إنما تتحقق بالاجتهاد الجماعي الذي يجمع بين فقهاء الشرع وخبراء العصر؛ لأن الفقهاء يعلمون النصوص ومدلولاتها ومقاصدها، والخبراء يعرفون الواقع ومآلاته وتحدياته، والحكم الشرعي مركب من العلم بالنصوص والعلم بالواقع، فالاجتهاد الجماعي أقرب إلى السداد، وأبعد عن الخلاف في مثل هذه القضايا.
ونحن نعتز بديننا ونفاخر بتراثنا المستخلص من كتاب ربنا وسنة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم.(/1)
وإذن فلابد أن نستفيد من الماضي ونعيش الحاضر ونستشرف المستقبل، ونعمل على علاج قضايا الناس وحل مشكلاتهم، معتمدين على النص الشرعي مع الاستشارة بالعقل، والنظر في المصالح، والعمل على تكثيرها، والقضاء على المفاسد وتقليلها في كل مجالات الحياة، فالأمر بالمعروف هو من الصفات الخيرة في هذه الأمة، قال تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" [آل عمران:110]، وقال تعالى: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون" [آل عمران:104].
ولكن لابد من الحكمة عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنظر في مجريات الأمور وما ينشأ عن هذا الأمر من تحقيق المصالح ودفع المفاسد، ولابد من الموازنة بين الخير والشر، وما يترتب على هذا التصرف من المآل والآثار، فليس كل منكر نراه نحمل عليه سيف التغيير والتبديل إلا بعد ما ننظر إلى ما يترتب عليه من أثر، فإذا كانت المفاسد المترتبة على التغيير أكثر فلا يجوز الإنكار، وإذا كانت المصالح أكبر وأرجح فلابد من الإنكار، فهذا يدركه أهل النظر والوعي وأهل الحكمة وأولي الأمر الذين يقدرون المفاسد ويدركون المصالح.
وهذا يتمثل فيما قاله الإمام سفيان الثوري رحمه الله: لا بد لمن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر أن يتحقق فيه ثلاث: أن يكون عالماً بما يأمر به، عالماً بما ينهى عنه، عدلاً فيما يأمر به، عدلاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه.
ولقد أثر عن الإمام الجليل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية – رضي الله عنه -، أنه مر مع أصحابه على أناس من التتار الذين غزو بلاد الشام وكانوا سكارى، فأراد من كان مع الإمام التغيير عليهم فنهاهم الإمام؛ لأن أمامه مفسدتان: مفسدة شرب الخمر، وهي منكر، غير أنها جريمة قاصرة، والمفسدة الثانية قتل المسلمين وإزهاق أرواحهم وسفك دمائهم، ولهذا قال الإمام الجليل: دعوهم، إنما نهى الله عن الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء إنما تصدهم الخمر عن قتل المسلمين وإراقة دمائهم، ولزوال الدنيا بأسرها أهون على الله من إراقة دم مسلم بغير حق.
ولقد أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد فتح مكة أن يعيد بناء الكعبة على قواعد إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال لعائشة: لولا أن قومك حدثا عهد بالكفر لهدمت الكعبة وأعدتها على قواعد إبراهيم عليه السلام، حيث يشمل الكعبة حجر إسماعيل ، ويكون لها بابان على وجه الأرض.
ومما يؤيد فقه الموازنات والمقارنة بين التصرف وعدمه ما قاله الله تعالى: "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم" [الأنعام: 108]، فسب الأصنام أمر مباح ولكن لما كان يؤدي إلى التعرض للذات العلية صار أمراًً ممنوعاً.
ونحن أمة نعيش ضمن قرية كونية زالت فيها حواجز الزمان والمكان، وليس لنا من سبيل أن ننكفي على أنفسنا أو نتقوقع على ذاتنا، حيث لابد من تبادل المنافع ورعاية المصالح ومد الجسور مع الآخرين والتفاعل الإيجابي من غير أن تذوب شخصيتنا وخصوصية حضارتنا من غير انطواء أي أن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها وممن جاء بها.
والحضارات تتقاسم أقدار من القيم، ولهذا لابد أن نأخذ بالنافع المفيد من اللباب والجوهر، ونعرض عن القشور وما يتنافى مع أخلاقنا وقيمنا، فقد اتصل المسلمون في صدر الإسلام وفي القرون الأولى بالدول المجاورة، وفتحوا نوافذهم على الأمم من حولهم، واستقبلوا الكتب وقاموا بالترجمة، ونشر المسلمون علومهم في شتى المعارف والثقافات حتى وصلوا بهذا عن طريق الأندلس إلى بلاد أوربا كفرنسا وغيرها، ولهذا حدث التفاعل الإيجابي بين المسلمين وغيرهم من اليونان والروم وفارس.
فأمة الإسلام وهي تعيش في هذا المنتدى البشري الذي نبحث فيه عن شراكة إنسانية يتجلى فيها التفاعل وحوار الحضارات والأخذ بالجديد المفيد الذي يقوم على الأخوة الإنسانية والكرامة الآدمية وعلى التبادل العادل للمصالح وعلى الحق والعدل، ولقد قال الخليفة الراشد علي – رضي الله عنه – لواليه على مصر (الناس صنفان أما أخ لك في الإسلام وأما نظير لك في الخلق أخوك في الإنسانية يفرط منه الخطأ والزلل وتغلب عليهم العلل ويؤتي على أيديهم من العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثلما تحب أن يعطيك الله من العفو والصفح، فإنك فوقهم ووالي الأمر فوقك والله فوق من ولاك".(/2)
إذن فهذه قاعدة التفاعل الحضاري نرعى المنافع ونتبادل المصالح لتحقيق السلم والأمن بين الشعوب في ظل موازين لا تختل فيها قيم العدالة أو الكيل بمكيالين وإنما نلتزم العدل، كما قال تعالى: "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون" [الأنعام:152] وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على إلا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" [المائدة:8]، وقال تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" [الممتحنة:8].
ونحن نحتاج إلى معرفة الخلاف فالله وحَّد الأمة على مصدر الكتاب الذي هو القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ويقوم توحيد الأمة واجتماع كلمتها على ما صح من سنة المصطفى – صلى الله عليه وسلم – وعلى وحدة القبلة وعلى وحدة المصير والجزاء المشترك، ولقد كان من رحمة الله أن يجري الخلاف في الأمة في فروع الشريعة، فالقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، ونزل على سبعة أحرف، تيسيراً على الناس ومراعاة للهجاتهم واختلاف ألسنتهم، واشتمل القرآن على العام والخاص، وعلى المطلق والمقيَّد، والمجمل والمفصل، والمبهم والمبين، والناسخ والمنسوخ، وفيه الحقيقة والمجاز على أن القرآن لم تنزل آياته كلها محكمة بل فيها المحكم والمتشابه، قال تعالى: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب" [آل عمران:7].
فالمتشابهات هي التي تحتمل أكثر من وجه في التفسير، وهذا يعني أن الوحدة التي ندعو أمتنا إليها هي وحدة في الأصول وحدة في المقاصد، وحدة في الكليات، وحدة في المصالح، وإن وقع اختلاف في الفروع فهذا لا ينبغي أن يؤدي إلى الهجر والقطيعة أو تدابر أو تشاحن، إنما ينبغي أن يؤدي إلى الرحمة.
فلا ريب أن في الاختلاف في الفروع سعة ورحمة، وقد قال بهذا الصدد أحد الفقهاء السبعة وهو القاسم بن محمد: ما يسرني أن يتَّفق أصحاب رسول الله لأنهم لو اتفقوا صار في هذا ضيق وحرج وفي اختلافهم يسر وسعة ورحمة.
والإمام محمد بن إدريس الشافعي تلقى علومه عن الإمام مالك بن أنس وقد اختلف التلميذ مع أستاذه ولكن الشافعي يحمل الود والإجلال والاحترام والتقدير للإمام مالك ويقول: ما تحت أديم السماء أعلم من الإمام مالك، ولا أصح بعد القرآن الكريم من كتاب الموطأ، ويقول: إذا ذكر العلماء فالإمام مالك النجم بينهم، ويقول : مالك حجة الله على خلقه، وكان الإمام مالك يرعى تلميذه الشافعي، ويقول له يا شافعي أرى أن الله قد ألقى عليك نور العلم فلا تطفئه بظلمة المعاصي ولما رحل الإمام الشافعي إلى بغداد تتلمذ على يده الإمام أحمد بن حنبل وقد جرى خلاف بين هذين الإمامين الجليلين في مسائل عدة، ولكن انظر إلى أدب الخلاف الذي نحتاج إليه بين أهل العلم، قال الإمام أحمد: لولده عبد الله منذ ثلاثين عاماً وأنا أدعو للإمام الشافعي فقال الابن لأبيه: لقد سمعتك تدعو للشافعي كثيراً، فمن هو هذا الشافعي؟ فقال: يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، وبالمقابل فإن الإمام الشافعي لما رحل إلى مصر قال: ما تركت في بغداد أعلم ولا أورع ولا أهدى من أحمد بن حنبل، ثم قال:
قالوا يزورك أحمد وتزوره *** قلت المكارم لا تفارق منزله
إن زارني فبفضله أو زرته فلفضله *** فالفضل في الحالين له
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/3)
الشغف بالغرب والأزمة النفسية للمثقف المسلم (1/2)
03-7-2006
بقلم د. أحمد إدريس الطعان
"...فبحسب الخطاب التغريبي لن نتخلص من عقدة التخلف إلا إذا شعر الأوربي بأننا نرى الأشياء كما يراها ، ونُقوِّم الأشياء كما يُقومها ونحكم على الأِشياء كما يحكم عليها
..."
لقد وقعت معظم البلدان العربية والإسلامية تحت نير الاستعمار الغربي فالجزائر منذ عام 1830م خاصعة للاستعمار الفرنسي ، وتونس منذ عام 1881م ، ومراكش منذ عام 1912م وأما العراق فقد وقعت تحت براثن الاحتلال الإنكليزي سنة 1914م ، وفلسطين عام 1918م ، ومصر 1882م ، والهند 1857م [1] .
ورافق هذا الاحتلال محاولات متواصلة وجهود مكثفة لقطع الشعوب الإسلامية "الغافية" عن ماضيها وتراثها ودينها ولغتها ، وصبغها بصبغات غربية ، وإشاعة الفواحش والمنكرات والعادات الغربية بين أبناء المسلمين، وساعد على ذلك الفقر الشديد الذي تعانيه المجتمعات الإسلامية نتيجة للاستعمار، والحكام والملوك المستبدين الذين صنعهم الاستعمار ووطد سلطانهم لخدمة مصالحه واستفحل نتيجة لذلك الجهل والأمية، وظل التعليم محصوراً في بعض الطبقات الثرية ، والأسر الأرستقراطية .
وقد أدرك المستعمر أن تغيير الفكر، وغسل الأدمغة يجب أن يتم قبل أي مشروع آخر وذلك لتسهيل مهمته في استعباد الشعوب واستغلالها، وجعلها دائماً في دوامة التبعية الحضارية والحاجة إلى الوصاية والانتداب، فكانت دراسات المستشرقين الهائلة التي وُظِّفت لها أموالٌ طائلة وبُذلت من أجلها جهودٌ جبارة، وكانت في معظمها قائمة على التزوير والتحريف والافتراء [2] .
ومن هنا ظلت أعين المسلمين دائماً تنظر إلى النتاج الاستشراقي بالريبة والحذر بل غالباً ما يتعامل معها المسلمون على أنها جهود استعمارية معادية ، والحسن فيها استثناءً نادراً، ولذلك رأى المستعمر أن يصنع لهذه الأمة قادة من أبنائها يربيهم على موائده ، ويعلمهم في معاقله ، ثم يفيض عليهم من إحسانه ، ويمرغهم في إنعامه ، ويغمسهم في ملذاته ، ويسديهم من خيراته ، ثم يضفي عليهم من الشهرة والمجد ما يجعلهم محط الأنظار وقادة الأفكار ، ورواد الإصلاح ، وزعماء التجديد ،وقد كانت هذه نصيحة زويمر للمبشرين : "تبشير المسلمين يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها" [3] .
وهذا ما فعله الغرب المستعمر فأبرز من أبرز وطمس من طمس ، وكان الذين برزوا هم الذين أخلصوا لسادتهم المستعمرين ، وتحقق هؤلاء السادة من عمالتهم ودناءتهم فجعلوهم نجوماً للأمة يَهدُونها إلى التغرُّب ، ويزينون لها التأوْرُب .
وقد تناولت هذه المسألة في مطلبين وخاتمة :
المطلب الأول : الأزمة النفسية والانسلاخ من الذات .
المطلب الثاني : مراجعة نقدية .
ثم خاتمة البحث .
المطلب الأول الأزمة النفسية والانسلاخ من الذات
أولاً : نموذجان من مصر :
إن التغرب هو القنطرة التي عبرت عليها العلمانية إلى الشرق ، وهذا التغرب لم يكن لحظة انبهار ، لأن الانبهار كما أشرنا يزول سريعاً فتبدو الأشياء على حقيقتها ، وإنما كان لحظة عمى وعمهٍ حضاري ، كان لحظة تعاقد تآمري أو على حد تعبير د. محمد عمارة : "عمالة فكرية وحضارية" [4] .
ونريد هنا أن نختار نموذجين لهذا التغرب هما (سلامة موسى) و (طه حسين) ، ولكن قبل ذلك يجب أن أشير إلى أن التغرب كان قد استشرى على كافة المستويات والحقول الفكرية من أدب وفن وفلسفة وتاريخ وحضارة ، واستولى على كثير من عقول النخبة ، وظهر ذلك عبر شكلين :
- الدعوة إلى تبني النموذج الغربي في كل شيء .
- الدعوة إلى القطيعة المعرفية الكاملة مع التراث العربي والحضارة الإسلامية [5] .
ولقد كان سلامة موسى يمثل ذلك إلى أبعد الحدود وتزامنت دعوته إلى التغرب مع إلغاء الخلافة في تركيا ، والقضاء على كل مظاهر الإسلام فيها ، كما تزامن مع صدور كتابين يسيران في نفس الاتجاه التآمري هما كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق سنة 1925م وكتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين 1926م [6] ، وكانت مقالات سلامة موسى في هاتين السنتين جمعت في كتابه "اليوم والغد" [7] . فكيف عبر سلامة موسى عن إخلاصه لسادته الأوربيين ؟
سلامة موسى لا يحمد الله [عز وجل] وإنما "يحمد الأقدار لأن الشعب المصري لا يزال في سُحنته ونزعته أوربياً ، فهو أقرب في هيئة الوجه ونزعة الفكر إلى الإنجليزي والإيطالي ، وكذلك الحال بنظره في سوريا وشمال إفريقيا العربي فإن سكان هذه الأقطار أوربيون سحنةً ونزعة ، فلماذا لا نصطنع جميعاً الثقافة والحضارة الأوربيتين ، ونخلع عنا ما تقمصناه من ثياب آسيا ... هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سراً وجهراً فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب ، وفي كل ما أكتب أحاول أن أغرس في ذهن القارئ تلك النزعات التي اتسمت بها أوربا في العصر الحديث ، وأن أجعل قرائي يولون وجوههم نحو الغرب ، ويتنصلون من الشرق" [8] .(/1)
ويسخر من الرابطة الشرقية والدينية فيقول : "وإذا كانت الرابطة الشرقية سخافة فإن الرابطة الدينية وقاحة" [9] ويرى - كما يرى طه حسين - أن مصر أقرب إلى الغرب ، وعليها أن تتضامن معه وترتبط به فما لها وللهند ولجاوة ، عليها أن تتوجه إلى "السويسريين والإنجليز والنرويجيين هؤلاء النظاف الأذكياء" [10] .
ولا ينسى الرجل أن يكشف عن جهله بحماقة نادرة عندما يزعم أن العرب في الأصل ليسوا شرقيين ، وإنما أصبحوا كذلك "بتوغلهم في آسيا إلى حدود الصين ، وأيضا بعادة التسري وعادة الضرار - تعدد الزوجات - اللتين أجازهما لهم الإسلام ، فدخلهم دم آسيوي وخاصة صيني كثير ، فإن لفظة أَمَة بمعنى جارية هي لفظة صينية وقد دخلت اللغة العربية لكثرة الإماء التي كان يشتريها العرب من الصين" [11] .
هذه العبارة محشوة بالأكاذيب المكشوفة والمضحكة ولا تحتاج إلى رد ، وعلى التزويريين الذين يشيدون بسلامة موسى ويسبحون بحمده أن يخجلوا من أنفسهم لأن كلمة أَمَة وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية قبل أن يختلط العرب بالصين أو غيرهم [12] .
ثم يتابع الرجل صراحته "إن هذا الاعتقاد بأننا شرقيون قد بات عندنا كالمرض ، ولهذا المرض مضاعفات فنحن لا نكره الغربيين فقط ، ولا نتأفف من طغيان حضارتهم فقط ، بل يقوم بذهننا أنه يجب أن نكون على ولاء للثقافة العربية فندرس كتب العرب ، ونحفظ عباراتهم عن ظهر قلب - كما يفعل أدباؤنا المساكين أمثال المازني والرافعي - وندرس ابن الرومي ، ونبحث عن أصل المتنبي ونبحث عن علي ومعاوية ، ونفاضل بينهما، ونتعصب للجاحظ ونحاول أن نثبت أن العرب عرفوا الفنون ... وكل ذلك إنما يدفعه في أنفسنا كراهتنا للغرب، وأنفتنا من جهة ، واعتقادنا أننا شرقيون من جهة أخرى" [13] .
هكذا يصبح الاحتفاظ بالهوية مرض ، والاعتزاز بالذات داء يحتاج إلى علاج عند سلامة موسى ، والعلاج هو القضاء على التعصب المركوز في نفوسنا ، ولكن التعصب "المرض" هو التعصب للعرب أما التعصب للغرب فهو عين العافية ، وروح التحضر .
ويتابع الرجل مخلصاً !! : "إنه ليس علينا للعرب أي ولاء ، وإدمان الدرس لثقافتهم مضيعة للشباب وبعثرة لقواهم ، فيجب أن نعودهم الكتابة بالأسلوب المصري الحديث ، لا بالأسلوب العربي القديم ، ويجب أن يعرفوا أننا أرقى من العرب ، وليس معنى هذا تحريم درس العرب وتاريخهم وثقافتهم ، فإن العرب أمة قديمة ، يجب أن يكون لها أثريون يدرسونها كما يدرسون آشور وبابل" [14] .
المصريون أرقى من العرب لماذا ؟ لأنهم يمتلكون الأهرامات والعرب لا أهرامات لديهم ، ولديهم فراعنة ولا فراعنة عند العرب ، والعرب أمة مندثرة تحتاج إلى أثريين ؟ ثم ماذا ؟ ثم : "إننا نحتاج الآن ما يهيج قلوبنا ، ويملؤها تفاؤلاً بالحياة ، ولن نجد ذلك إلا بارتباطنا بالغرب واصطناع ما عند الغربيين من رقص وألحان وموسيقى ، وأما الشعر العربي فقد سئمنا قوافيه الرتيبة التي تشبه دق الطبل عند السودانيين" [15] .
ويخطر في البال سؤال! أيهما الذي يهيج القلوب ؟ الشعر العربي أم الرقص الغربي ؟ وما صلة الرقص الغربي بالقلوب ؟ لقد أشار رفاعة الطهطاوي أن الرقص الغربي يتعاطونه على أنه لون من ألوان الرياضة والرشاقة والفن تتعاطاه المرأة في الحفلة الواحدة مع أعداد كبيرة من الرجال دون أي حرج فَصِلته بالأعضاء وليس بالقلوب [16]، ولكن يبدو أن سلامة موسى لا يميز بين قلبه الذي يُحتَضَر، وأعضائه الأخرى التي تهيج عندما يشارك الغربيين في رقصهم ومجونهم .
وماذا أيضاً ؟ : إنها اللغة التي يحفظها القرآن ، وتحفظ هي هوية الأمة من الانحلال والذوبان ، إنها بنظر سلامة موسى بدوية عاجزة ، وليست راقية كالإنجليزية "لغة بدوية لا تكاد تكفل الأداء إذا تعرضت لحالة مدنية راقية كتلك التي نعيش بين ظهرانيها الآن ، فها أنا ذا في غرفتي لا أعرف كيف أصف أثاثها بالعربية ، ولكني أستطع إجادة وصفها بالإنجليزية" [17] .
إنها لغة ميتة ، لغة القرون المظلمة ، لغة الشرق السخيف ، إنها كارثة "إن الفصحى في اعتقادي كانت لغة الكتابة فقط ، أي لغة ميتة حتى في زمن ظهور القرآن ، ولكن تعليم العربية في مصر لا يزال في أيدي الشيوخ الذين ينقعون أدمغتهم نقعاً في الثقافة العربية ، أي في ثقافة القرون المظلمة ، فلا رجاء لنا بإصلاح التعليم حتى نمنع هؤلاء الشيوخ منه ، ونسلمه للأفندية الذين ساروا شوطاً بعيداً في الثقافة الحديثة ، ونحن إنما ننزع للغة العرب القديمة لما تأصل في أذهاننا من ذلك الفرض السخيف وهو أننا شرقيون يجب علينا أن نحافظ على كرامة العرب وندافع عن تاريخهم ، وهذا الاعتقاد في شرقيتنا يجر علينا عدداً من الكوارث قد لا يكون الولاء للغة أهونها" [18] .
لا شك أنه يقصد أن أعظمها هو الولاء للإسلام .(/2)
ولكن ما هو البديل عن الفصحى بنظر سلامة موسى ؟ إنها العامية المصرية، ولكن لماذا العامية المصرية وهي بنظر موسى نفسه ليست مصرية أصيلة وإنما هي - متابعة لـ "ولكوكس الإنجليزي - جاءت مع الهكسوس الذين أقاموا في مصر نحو خمسمائة سنة ؟ [19]) .
السبب هو أن الفصحى تجمع مصر بالعرب والمسلمين والشرقيين ورسالته تقوم على سلخ مصر عن العروبة والإسلام ، ولا يمكن ذلك إلا بالتخلص من الفصحى [20] ، والتخلص من الفصحى يعني "أن ننظر إلى لغة النابغة والمتنبي كما ننظر إلى اللغة الروسية أو الإيطالية ، لأنها ليست لغتنا ولسنا نستفيد بدرسها" [21] . والطريق إلى ذلك في مصر هو "إلغاء الأزهر" والاكتفاء بالجامعة المصرية لأنها أداة الثقافة الجديدة النيرة [22] .
لم يكتف سلامة موسى بذلك لأن أسياده يطلبون منه أكثر حتى يمنحوه رضاهم ، فبدأت حدة كلامة تزداد ، وقسوة لهجته تتفاقم حتى طفق يتجاوز الخطوط الحمراء ، وبدا كأنه يدق طبول الحرب على الإسلام والمسلمين في عقر دارهم ، وهو يستغل في ذلك ضعف المسلمين ، وتردي أحوالهم ، ومساندة الإنكليز له ولأمثاله ولنقرأ هذا النص الطويل الذي يعبر عما نقول : " لقد مضى علينا أكثر من 13 سنة [23] ونحن في موقف التردد لا ندري هل نحن شرقيون يجب أن نسير على ما سارت عليه آسيا ؟ أم غربيون يجب أن ننضم إلى أوربا قلباً وقالباً ، نعتاد عادات الأوربيين ونلبس لباسهم ونأكل طعامهم ، ونصطنع أساليبهم في الحكومة والعائلة والاجتماع والصناعة والزراعة ، ولقد شرع نابليون يغرس فينا الحضارة الأوربية ، ويزيل عنا كابوس الشرق ، ثم جاء محمد علي فاعتمد على فرنسا في تمدين البلاد ... ثم استمررنا نتراوح بين الشرق والغرب حتى زمن إسماعيل حين رأى بنافذ بصيرته أنه لا بد لنا من أن نتفرنج ، ونقطع الصلة بيننا وبين آسيا ، ثم جعلنا نلبس الملابس الأوربية ، ووزع بين أعيان البلاد فتيات من الجركس لكي يتحسن اللون ويقارب البشرة الأوربية ... وجاء الإنجليز فساروا بنا شوطاً بعيداً في إدخال الأساليب الأوربية في إدارة الحكومة ، وهانحن أولاء نجد أنفسنا الآن مترددين بين الشرق والغرب ، ولنا حكومة منظمة على الأساليب الأوربية ، ولكن وسط الحكومة أجساماً شرقية مثل وزارة الأوقاف والمحاكم الشرعية تؤخر البلاد، ولنا جامعة تبعث فينا ثقافة العالم المتمدن، ولكن الأزهر يقف إلى جانبها يبث فينا ثقافة القرون المظلمة ، ولنا أفندية قد تفرنجوا، ولكن إلى جانبهم شيوخاً لا يزالون يلبسون الجبب والقفاطين ولا يتورعون من التوضؤ على قوارع الطرق في الأرياف، ولا يزالون يسمون الأقباط واليهود كفاراً كما كان يسميهم عمر بن الخطاب قبل13 سنة، إنهم شيوخ مأفونون ! يعدون التفرنج رذيلة، مع أنه عين الفضيلة" [24] .
لا نحتاج إلى كثير تأمل في النص السابق لنلاحظ ما فيه من عناصر للتفرنج :
- تحسين لون البشرة لكي يصبح أشقر ، أو أبيض !
- اصطناع اللباس الأوربي كالقبعة بدلاً من الجبب والقفاطين !
- الأفندية بدلاً من الشيوخ المأفونين الذين يتوضؤن في الطرق !
- الجامعة المدنية المستنيرة بدلاً من الأزهر المظلم !
- الكف عن تكفير النصارى واليهود كما كان يفعل عمر بن الخطاب قبل 13 سنة . لأن عمر بنظره كان مستبداً والبابا أفضل منه [25] .
وبعد أن انتهى سلامة موسى من حربه المعلنة على الحضارة العربية والإسلامية ينتقل إلى الغزل والغرام بالإنسان الأوربي والإنجليزي "هؤلاء النظاف الأذكياء" [26] "فإن الإنسان الأوربي أرقى إنسان ظهر في العالم للآن ، والحضارة الأوربية على ما فيها من عيوب تعد بالمئات هي آخر درجات التطور الاجتماعي ، ومن البلاهة البالغة أن يظن أحد الشيوخ أن حضارة بغداد أو القاهرة أو الأندلس كانت تبلغ في السمو عشراً أو جزءاً من مائة مما تبلغه الحضارة الأوربية الآن" [27] .(/3)
أعقب هنا بالقول : على العلمانيين أن يكفوا عن اتهام الإسلاميين بالوثوقية المطلقة والتبجيلية البالغة ، والنفي والإقصاء وهم يقرؤون مثل هذا الكلام لأستاذهم التنويري وداعية النهضة . "إن الإنجليز ... أرقى أمة موجودة الآن في العالم ، والخلق الإنجليزي يمتاز عن سائر الأخلاق ، والإنسان الإنجليزي هو أرقى إنسان من حيث الجسم والعقل والخلق" [28] . لقد استشعر - من الشاعرية - سلامة موسى ، ولا غرابة فالغرام والهوى قد يدفع صاحبه إلى الجنون أو الخبل ، لقد كان مجنون ليلى يُقبل الجدران لأن ليلى سكنت وراءها ، ويذوب قلبه عندما تُذكر أمامَه محبوبته ، وهكذا كان حال مجنون إنكلترة أو مجنون أوربا فقد قال : "وقد يكون اصطناع القبعة أكبر ما يقرب بيننا وبين الأجانب ويجعلنا أمة واحدة ، القبعة هي رمز الحضارة يلبسها كل رجل متحضر ... ونحن إذا لبسنا القبعة فلسنا بذلك نلبس لباس أوربا فقط ، بل نصطنع لباساً اتفق المتحضرون على وضعه على رؤوسهم ... فإن للمتحضرين عادات يتعارفون بها ويصطلحون عليها ، واتخاذ القبعة من هذه العادات ... إننا سنبقى في نظر أنفسنا ونظر الأوربيين شرقيين حتى نتخذ القبعة لرجالنا ونسائنا ونعلن انسلاخنا من الشرق" [29] .
إن القبعة - بنظر موسى - تجعل الأحمق عاقلاً "لغرامي بالحضارة الأوربية فإني أحث بني وطني أن يلبسوا القبعة ... لأنها تبعث فينا العقلية الأوربية" [30] .
في هذه الفترة وفي نوفمبر سنة 1925 م تحديداً كان أتاتورك يفرض على الشعب التركي القبعة غطاءً للرأس ويمنع الطربوش [31] ويتحدث بلغة سلامة موسى نفسها "يجب علينا أن نلبس ملابس الشعوب المتحضرة الراقية ، وعلينا أن نبرهن للعالم أننا أمة كبيرة راقية ، ولا نسمح لمن يجهلنا من الشعوب الأخرى بالضحك علينا وعلى موضتنا القديمة البالية ، نريد أن نسير مع التيار والزمن" [32] .
هذا قبس من رسالة سلامة موسى الجريئة ! التي تبعث فينا روح التنوير ، والأمل في الخروج من الظلام ، والرغبة في النهوض ، وتجدد فينا بواعث التقدم [33] .
هذا هو سلامة موسى الذي يمثل في منظور الخطاب العلماني الدعوة إلى التحرير الفكري والعقلي [34] نمطاً فريداً بين المفكرين المحدثين ، وصاحب الفضل في إشاعة الفكر العلمي بين الناس وتعميمه وتطبيقه على الحياة الاجتماعية .
لقد كان معلماً لجيلٍ كامل وقوة اجتماعية دافعة وموجهة ، إنه رائد عظيم ستبقى ذكراه بيننا عطرة ، وسيبقى اسمه شعاراً مضيئاً وملهماً للأجيال [35] . وهكذا نرى كيف يصبح التقليد الأعمى تقدماً ، والخيانة تنويراً ، والاستسلام تحضراً ، والانهزام جرأة وشجاعة .
مع أنه كان يكفي سلامة موسى كنموذج يمثل العمه الحضاري الذي يستورد النموذج الغربي العلماني دون وعي في لحظة العشق والهيام بالأَوْرَبة ، فإن هناك عاشقاً آخر من المسلمين هذه المرة وليس من المسيحيين ، ومن الأزهر بالتحديد الصرح الذي تضع فيه الأمة الإسلامية ثقتها وطموحها في مواجهة الغزو الثقافي والغارة الفكرية ، إنه طه حسين الذي توغل في نفس التيار التغريبي فأعلن أن السبيل "واضحة بينة ، مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء ، وهي واحدة فذة ، ليس لها تعدد ، وهي أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم ، لنكون لهم أنداداً ، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها ، حلوها ومرها ، ما يُحب منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع" [36] .
إنها الوثوقية المطلقة ، ولست أدري أين ذهب الشكك الديكارتي الذي دعا إليه طه حسين في " الشعر الجاهلي " [37] ؟ لماذا لا تكون هناك مسالك أخرى للحضارة تختلف عن المسار الذي سلكته حضارة أوربا ، ثم لماذا ما يُحب وما يُكره ، وما يُحمد وما يُذم ؟ لماذا لا تكون الأولى دون الثانية ؟ أم أن "الما" يكره من أوربا ، و"الما" يعاب منها له مذاق آخر لا بد من تذوقه في نظر عميد الأدب العربي ؟!
ويدعو طه حسين أمته إلى الاستسلام والإذعان ما دامت قد كُبلت بالمعاهدات ، وقٌيدت بالامتيازات ، لأنه ليس أمامنا خيار آخر فقد "التزمنا أمام أوربا أن نذهب مذهباً في الحكم ، ونسير سيرتها في الإدارة ونسلك طريقها في التشريع ... فلو أننا هممنا الآن أن نعود أدراجنا وأن نحيي النظم العتيقة لما وجدنا إلى ذلك سبيلاً ، ولوجدنا أمامنا عقاباً لا تجتاز ولا تذلل ، عقاباً نقيمها نحن لأننا حراص على التقدم والرقي ، وعقاباً تقيمها أوربا لأننا عاهدناها على أن نسايرها ونجاريها في طريق الحضارة الحديثة" [38] .(/4)
عقبات لأن حياتنا المادية أصبحت أوربية خالصة ، ولأن المثل الأعلى للمصري [ لم يعد الإسلام ونبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم وإنما الأوربي في حياته المادية [39] ، وهذا يدل على أننا نسعى لكي نصبح يوماً بعد يوم جزءاً من أوربا لفظاً ومعنى حقيقة وشكلاً [40]، ولذلك فإنه من "السُّخف الذي ليس بعده سُخف اعتبار مصر جزءاً من الشرق واعتبار العقلية المصرية عقلية شرقية كعقلية الهند والصين" [41] .
ولكي نتخلص من هذه العقدة علينا "أن نُشعر الأوربي بأننا نرى الأشياء كما يراها ، ونُقوِّم الأشياء كما يُقومها ونحكم على الأِشياء كما يحكم عليها" [42] .
الأوربي هو المثل الذي يجب أن نترسم خطاه ، ونتلمس رضاه !.
ثانياً : استشراء الداء في العالم الإسلامي :
كان هذا في مصر متزامناً مع ما يحصل في العالم الإسلامي والعربي من دعوات تردد نفس النغمات وكأنها تصدر عن عازف واحد في أبواق متفرقة ، والعازف هو الغرب المستعمر فعلاً ، والأبواق هم صنائعه المتفرقين في البلاد الإسلامية .
لقد عبر سارتر عن هذه الصناعة بصراحة مدهشة عندما قال : "كنا نُحضر أبناء رؤساء القبائل وأبناء الأشراف والأثرياء والسادة من أفريقيا وآسيا ، ونطوف بهم بضعة أيام في لندن وباريس وأمستردام ، فتتغير ملابسهم ، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة ، ويرتدون السترات والسراويل ، ويتعلمون لغتنا وأساليب رقصنا وركوب عرباتنا ، وكنا نزوج بعضهم من أوربا ، ونلقنهم أسلوب الحياة على أثاث جديد ، وطرز جديد من الزينة ، واستهلاك أوربي ، وغذاء أوربي ، كما نضع في أعماق قلوبهم أوربا ، والرغبة في تحويل بلادهم إلى أوربا ، ثم نرسلهم إلى بلادهم حيث يرددون ما نقوله بالحرف تماماً مثل الثقب الذي يتدفق منه الماء في الحوض ، هذه أصواتنا تخرج من أفواههم ، وحينما كنا نصمت كانت ثقوب الأحواض هذه تصمت أيضاً ، وحينما كنا نتحدث كنا نسمع انعكاساً صادقاً وأميناً لأصواتنا من الحلوق التي صنعناها ، ونحن واثقون أن هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم ، وليس هذا فحسب ، بل إنهم سَلبوا حق الكلام من مواطنيهم" [43] .
لقد كان في تركيا ضياء كوك ألب 1875 - م يردد نفس ما يردده سلامة موسى وطه حسين فدعا إلى سلخ تركيا من ماضيها القريب ، وتكوينها تكويناً قومياً خالصاً ، واعتبر تركيا صانعة للحضارة الغربية ومشاركة فيها ، لأنها امتداد لحضارة المتوسط ، ويبدو أنه أول من طرح فكرة "الحضارة المتوسطية" ، أملاً في الانضواء تحتها دون شعور بالنقص والدونية كما نصح جاك بيرك فيما بعد عندما قال : "فإذا قبل العرب الدعوة المتوسطية يتخلصون تماماً من تناقضهم مع التفرنج ، ذلك أنه يصبح سمة طبيعية لا مفروضة عليهم" [44] .
وكما قرر وحسم طه حسين يقرر ويحسم ضياء كوك ألب بقوله : "الحضارة الغربية هي الشارع الوحيد إلى التقدم" [45] . "علينا أن نختار إحدى الطريقين إما أن نقبل الحضارة الغربية أو نظل مستعبَدين" [46] . للغرب طبعاً ! .
إنه طريق سهل لتحقيق حلم طالما انتظره العالم الغربي المسيحي وسعى بكل الوسائل لتحقيقه على مدى قرون عديدة وهو سلخ تركيا من جلدها الإسلامي حتى العظم [47] .
وقد قام أتاتورك 1881 ، 1934م بتحقيق أحلام ضياء كوك ألب وسلامة موسى ، فكان يعتبر نفسه في حالة حرب مع الشعب "انتصرت على العدو وفتحت البلاد ، فهل أستطيع أن أنتصر على الشعب" [48] . ألغى الخلافة في 3 آذار " مارس" 1924م وقال : "بأن الإسلام يخنق الطموح في نفوس أصحابه ، ويقيد فيهم روح المغامرة والاقتحام ، والدولة لا تزال في خطر دائم ما دام الإسلام دينها الرسمي" [49] .
ولكن كانت أخطر خطوة قام بها في اتجاه التغريب هي إلغاؤه للحرف العربي وإحلال الحرف اللاتيني محله في 1 نوفمبر 1928م وذلك ليضمن تخلص العقل التركي من الهيمنة الإسلامية ، وأصبحت الكتب الإسلامية بعيداً عن متناول القراء ، لأن الحروف التي كانوا يقرؤون بها أُلغيت ، وبذلك ستظل الذخائر العلمية مقفلة وينسج عليها العنكبوت ، ولا يطمع في قراءتها إلا بعض الشيوخ المسنين من العلماء [50] . واتخذ أتاتورك خطوات مجنونة لترسيخ العلمنة فأعلنت الجمهورية في 29 أكتوبر في 1928 م وألغيت وزارة الشؤون الدينية ، وحُلَّت المنشآت الدينية ، والمحاكم الشرعية في نفس العام ، واتُّخذت القبعة غطاءً للرأس في نوفمبر 1925م ، وحُلَّت الطرق الدينية في 3 نوفمبر 1925م وتم تغيير التقويم السنوي الهجري في ا جانفي 1926م وتم وضع قانون جزائي جديد تبنى القانون السويسري في أكتوبر 1926م وألغى اعتماد الإسلام كدين رسمي للدولة في 1 أبريل 1928م ، ورفع الأذان بالتركية في 3 فيفري 1932م وانخفضت نسبة المسلمين في تركيا إلى 95 بالمائة بعد تبادل عدد من السكان مع اليونان [51] .(/5)
ومع كل هذا فإن أهم سمة تلفت الانتباه في سلوك الأتراك هي أن رسوخ العقيدة الدينية وعمقها لم تتغيرا ، وما زالا يفعلان فعلهما في مجموعات واسعة من الشعب التركي منذ خمس وعشرين سنة [52] . وبعد هذه الفترة الطويلة من سياسة العلمنة ، ومع كل ذلك أيضاً لا يزال العلمانيون الأتراك يعتبرون ذلك انتصاراً للظلامية على العلم [53] .
أما في الهند فقد ظهر سيد أحمد خان 1817 — 1898م وكان متعاوناً مع الإنجليز وسعى في إخماد ثورة 1857م وكافأته الحكومة الإنجليزية براتب شهري ، وهو مثله مثل طه حسين وسلامة موسى وضياء كوك ألب يردد نفس الكلام الذي عبر عنه سارتر آنفاً ، يقول أحمد خان : "لا بد أن يرغب المسلمون في قبول هذه الحضارة الغربية بكمالها حتى لا تعود الأمم المتحضرة تزدريهم أعينها ، ويعتبروا من الشعوب المتحضرة المثقفة" [54] .
وفي إيران قال تقي زادة : "فلنلق بقنبلة الاستسلام للأوربي في هذه البيئة ولنفجرها والخلاصة : لنصبح أوربيين من قمة الرأس إلى أخمص القدم" [55] .
إنه صوت واحد ينبعث من الغرب عبر أبواق متعددة موزعة في البلاد الإسلامية .
وفي تونس عبر عبد العزيز الثعالبي — قبل اعتداله — عن استسلامه للحضارة الغازية واستلابها لعقله ورشده وذلك عندما دعا إلى تأويل القرآن تأويلاً صحيحاً ويكون ذلك بنظره بمطابقته لمبادئ الثورة الفرنسية حتى يصبح الإنسان المسلم متحضراً راقياً ، ويستشهد لذلك بحال مصر فلولا فرنسا لما رأينا اليوم ما تشهده مصر من نهضة وتقدم [56] .
كان ذلك في الوقت الذي ترتكب فرنسا فيه الفظائع مع الشعب التونسي ولكن الثعالبي لم يكن يرى ذلك لأنه مشغول بالبحث عما يرضي المستعمرين فيحرف آيات الجهاد كما فعل أحمد خان بالهند ، ويتعاطف مع المحتلين ويعتبر التعاون معهم أجدى الوسائل للحضارة والنهوض [57] .
ويكشف جوزيف شاخت عن الشوط الذي قطعته تونس في طريق العلمنة : "وأخيراً قبلت تونس قانون 1956م وأثبتت أنها في مقدمة البلاد التي آمنت بتغيير الفقه الإسلامي فألغيت الأوقاف العامة والمحاكم الشرعية ، وصدرت مجلة الأحكام الشخصية مُسخت فيها أحكام النكاح والطلاق مسخاً شديداً ، حتى لم يعرف شكلها الصحيح ، ومُنع تعدد الزوجات ، واعتُبر جناية تستحق العقوبة ، ومهما زعم أهل الحل والعقد في تونس فإن قانونهم الشخصي يختلف عن القانون التقليدي" [58] .
والرئيس التونسي بورقيبة تواقح تواقحاً شديداً فتهجم على القرآن ، وتفوه بألفاظ أثارت سخط العالم الإسلامي فقال : بأن القرآن متناقض ولم يعد يقبله العقل ، ويضرب مثلاً لذلك - يعبر عن غبائه وجهله - بين آيتين {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} [59] و {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [60] لأنه لم يتعلم في علم الكلام أن كل ما في الكون من تغيير أو تبديل مسجل ومدون كما عَلِمَه الله عز وجل دون أن يمس ذلك اختيارات العباد بأي إلزام أو إكراه ، لم يتعلم أن العلم صفة كاشفة ، وليس صفة ملزمة .
وقال بورقيبة : "إن الرسول محمد [ صلى الله عليه وسلم ] كان إنساناً بسيطاً يسافر كثيراً عبر الصحراء العربية ، ويستمع إلى الخرافات البسيطة السائدة في ذلك الوقت ، وقد نقل تلك الخرافات إلى القرآن مثال ذلك "عصا موسى" - وهذا شيء لا يقبله العقل بعد اكتشاف باستور — وقصة أهل الكهف ، والله يصلي على محمد وهذا تأليه لمحمد" [61] [صلى الله على محمد] .
ـــــــــــــــــــ
الهوامش :
[1] [2] انظر :د . سيد رزق الحجر " مدخل لدراسة الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر " ص 24 فما بعد . وله "" اضمحلال المشروع العلماني للنهضة " ص 8 فما بعد بحث ضمن المؤتمر الدولي السادس للفلسفة الإسلامية — كلية دار العلوم 21 م .
[3] الغارة على العالم الإسلامي ص 8 .
[4] انظر : د . محمد عمارة " الإسلام بين التنوير والتزوير " ص 97 .
[5] انظر : لأستاذنا د. السيد رزق الحجر " اضمحلال المشروع العلماني " ص 6 بحث ضمن كتاب المؤتمر الدولي السادس للفلسفة الإسلامية — كلية دار العلوم 21 م و د . عبد العزيز حمودة " المرايا المقعرة ، نحو نظرية نقدية عربية " ص 31 . عالم المعرفة — الكويت 21 م .
[6] لا تكمن أهمية الكتابين في القيمة العلمية التي يحتويان عليها بقدر ما تكمن في الظروف التي صدر فيها هذان الكتابان حيث تزامن صدورهما مع إلغاء الخلافة وتميزا بالجرأة في مصادمة المسلمات التي استقرت عليها الأمة منذ قرون طويلة . انظر : د . محمد محمد حسين " الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر " 1 / 81 . بالإضافة إلى جهة صدور الكتابين حيث صدرا من عالمين أزهريين متمرسين في العلوم الشرعية .
[7] انظر : د . محمد عمارة " الإسلام بين التنوير والتزوير " ص 96 - 99 .
[8] سلامة موسى " اليوم والغد " 8 - 9 .(/6)
[9] سلامة موسى " اليوم والغد " ص 239 .
[10] السابق ص 238 - 239 و طه حسين " مستقبل الثقافة " 1 / 12 الهيئة المصرية العامة للكتاب — 1993 د.ط .
[11] سلامة موسى " اليوم والغد " ص 248 .
[12] انظر : سورة البقرة أية 221 وسورة النور 32 والأحاديث كثيرة وانظر د . عمارة " الإسلام بين التنوير والتزوير " ص 121 .
[13] سلامة موسى " اليوم والغد " ص 235 .
[14] السابق ص 235 — 236 .
[15] السابق ص 242 .
[16] راجع : رفاعة الطهطاوي " تلخيص الإبريز في تاريخ باريز " .
[17] سلامة موسى " اليوم والغد " ص 237 .
[18] السابق 238 .
[19] انظر : سلامة موسى " اليوم والغد " ص 123 — 131 .
[20] انظر : د . عمارة " الإسلام بين التنوير والتزوير " ص 129.
[21] انظر : سلامة موسى " اليوم والغد " ص 235 .
[22] انظر : السابق ص 229-231 .
[23] الفترة الفاصلة بين كلمات سلامة موسى وحملة نابليون .
[24] سلامة موسى " اليوم والغد "ص 229 - 231 .
[25] انظر : السابق ص 231 .
[26] انظر : السابق ص 239 .
[27] سلامة موسى " اليوم والغد " ص 255 .
[28] السابق ص 58 — 63 .
[29] سلامة موسى " اليوم والغد " ص 254 .
[30] السابق ص 135 — 136 .
[31] انظر : الباحث التركي شريف ماردن مقال ضمن كتاب " أبعاد الدين الاجتماعية " ص 5 تعريب صالح البكاري — الدار التونسية للنشر - سلسلة موافقات — العدد 12 . شريف ماردن : باحث وعالم اجتماع التركي عميد مدرسة العلوم الإدراية وأستاذ بجامعة بوجازيي وقد كان أستاذاً مشاركاً في عدة جامعات أمريكية نشر عدة كتب منها " نشأة تفكير الشباب العثماني 1962 م " الدين والإيديولوجيا 1969 م " باللغة التركية.
[32] كما ينقل عنه الشيخ أبو الحسن الندوي " الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية " ص 52 دار القلم — الكويت — ط 5 م 145 هـ 1985 .
[33] انظر : منى حلمي " في ذكراه " القلم الجريء سلامة موسى " الأهرام عدد 4 أغسطس 1993 م نقلاً عن د. محمد عمارة " الإسلام بين التنوير والتزوير " ص 157 . وانظر : د . فتحي القاسمي " العلمانية وانتشارها شرقاً وغرباً " ص 242 ، 243 ، 234 ، 235 ، 19 ، 2.
[34] انظر : د . نصر حامد أبو زيد " نقد الخطاب الديني " ص 17 .
[35] انظر : د. محمود أمين العالم " الإنسان موقف " ص 55 — 61 . مكتبة الأسرة — القاهرة 21 د . ط .
[36] طه حسين " مستقبل الثقافة في مصر " 1 / 41 . الهيئة المصرية العامة للكتاب — 1993 / د . ط .
[37] انظر : طه حسين " في الشعر الجاهلي " ص 21 . دار المعارف للطباعة والنشر — سوسة — تونس — الطبعة الثالثة — 2 م .
[38] طه حسين " مستقبل الثقافة " 1 / 34 - 35 .
[39] السابق 1 / 3 - 31 .
[40] السابق 1 / 42 .
[41] السابق 1 / 41 .
[42] السابق 1 / 44 .
[43] نقلاً عن د . يحيى هاشم فرغل " العلمانية بين الخرافة والتخريب " ص 27 . هذا الكلام الذي يتكلم به سارتر ينطبق تماماً بالذات على بعض الحكام العرب الذين ما إن تنطق أمريكا بكلمة حتى تجدهم كالخراف التي تجيب أمهاتها بالثغاء يرددون كل ما تقوله دون خجل مثل ضرورة إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل ، ووجوب تنفيذ قرارات الأمم المتحدة عندما تكون ملزمة للعرب ومحاربة الإرهاب وغير ذلك مما تراه أمريكا .
[44] صحيفة الحياة عدد أغسطس 1993 نقلاً عن د . عمارة " الإسلام بين التنوير والتزوير " ص 178 .
[45] نقلاً عن الشيخ الندوي : " الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية " ص 41 .
[46] الشيخ الندوي : " السابق " ص 41 .
[47] راجع لأستاذنا الدكتور سيد رزق الحجر " مدخل لدراسة الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر " ص 219 فما بعد .
[48] الشيخ الندوي : " السابق " ص 55 .
[49] الشيخ الندوي : " السابق " ص 55 .
[50] انظر : السابق : ص 57 .
[51] انظر : للباحث التركي شريف ماردن ص 5 مقال ضمن " كتاب أبعاد الدين الاجتماعية " تعريب صالح البكاري — الدار التونسية للنشر — سلسلة موافقات العدد 12 .
[52] ملاحظة : يعني أن الباحث يتكلم منذ الستينات .
[53] انظر : السابق ص 144 — 146 .
[54] الندوي " الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية " ص 66 .
[55] علي شريعتي ص 6 . ترجمة د . ابراهيم الدسوقي شتا - الزهراء للإعلام العربي — القاهرة — الطبعة الثانية 1413 هـ 1993 م .
[56] انظر : عبد العزيز الثعالبي " روح التحرر في القرآن " ص 117 .
[57] انظر : السابق ص 41 ، 14 — 11 .
[58] عن الندوي " السابق " ص 144 — 145 .
[59] سورة التوبة آية 51 .
[60] سورة الرعد آية 11 .
[61] انظر : جريدة الصباح التونسية 2 و 21 آذار مارس 1974 وانظر صحيفة الشهاب اللبنانية العدد الأول - 15 نيسان 1974 - بيروت . وراجع الندوي " الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية "ص 144 ، 145 والدكتور القرضاوي " التطرف العلماني في مواجهة الإسلام ص 145 ، 146 .(/7)
الشباب
كلمة ( شباب ) تعنى في اصلها اللغوي النماء والقوة ، والشباب جمع شاب ويجمع ايضا على شبان وشببة ، وشباب الشيء اوله يقال لقيت فلانا في شباب النهار أي في اوله 0
متى تبدأ مرحلة الشباب ومتى تنتهي ؟
تبدأ مرحلة الشباب بالبلوغ كما جاء في قول الله تعالى : ( واذا بلغ الاطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم ) " النور : 59 " 0
وفي الحديث عن علي بن ابي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يشب ، وعن المعتوه حتى يعقل " ( اخرجه الترمذي ) وغير ذلك من النصوص الشرعية 0
بالنظر الى تلكم النصوص نجد ان الله ـ سبحانه وتعالى ـ سمى الانسان قبل الاحتلام طفلا وفي حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ الذي طيه " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ـ نجد ان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاطب جماعة باسم الشباب حاثا لهم على الزواج ، ولايكون الزواج الا بعد الاحتلام ، وفي حديث علي ـ رضي الله عنه المتقدم انفا ـ نجد ان النبي صلى الله عليه وسلم ـ جعل بداية الشباب بلوغ الانسان ، وعلى هذا الاساس فان مرحلة الشباب تبدأ بالبلوغ والتحديد المختار لمرحلة الشباب هو : من البلوغ حتى سن الاربعين 0
وسبب هذا الاختيار ان الاصل اللغوي لكلمة الشباب يدل على امرين :
1ـ النماء 2ـ القوة
ونجد في القران الكريم ان سن الاربعين داخلة في هذا المعنى وانها نهاية للنماء كما في قوله تعالى : ( حتى اذا بلغ اشده وبلغ اربعين سنة ) " الاحقاف : 15 " 0
أهمية مرحلة الشباب
تعود أهمية هذه المرحلة الى عدة سمات منها :
1ـ انها بداية التكليف عن على بي ابي طالب ـ رضي الله عنه ـ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يشب وعن المعتوه حتى يعقل " ( اخرجه الترمذي ) 0 ومرحلة الشباب هي المرحلة التي يحصل فيها العلم والقدرة على التكليف الشرعي 0
2ـ انها فترة قوة ، ولكن هذه المرحلة من القوة لا تدوم مع الانسان بل اذا طال به العمر عاد مرة اخرى الى الضعف قال تعالى : ( ومن نعمره ننكسه في الخلق افلا يعقلون ) " يس : 68 " ، وقوله تعالى : (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جطعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ) " الروم : 54 " 0
قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ " يعني جعل بعد ضعف الطفولة قوة الشباب ثم جعل من بعد قوة الشباب ضعف الكبر وشيبه " والقوة في هذه المرحلة في كل شيء : قوة في البدن وقوة في الحواس وقوة على العمل والتكسب وقوة على طلب العلم قال الشافعي :
ولا ينال العلم الا فتي 000 خال من الافكار والشغل
3ـ انها افضل فترات العمر ، وتعود افضليتها لما يجتمع للانسان فيها من القوة والنشاط دون غيرها وراحة الحياة وبهجتها في الدنيا غالبا ماتكون في مرحلة الشباب فهي مرحةل يتطلع الصغير ان يصل اليها ويتمنى الكبير ان يرجع اليها مرحلة بكى عليها الشيوخ وتغني بها الشعراء قال ابوالعتاهية :
بكيت على الشباب بدمع عيني ------- فلم يغن البكاء ولا النحيب
فيا أسفا اسفت على شباب ------- نعاه الشيب والرأس الخضيب
عريت من الشباب وكنت غصنا ------- كما يعرى من الورق القضيب
فيا ليت الشباب يعود يوما ------- لاخبره بما فعل المشيب
4ـ انها اطول مراحل العمر ، اذا كان عمر الانسان في هذه الامة بين الستين والسبعين كما في الحديث الشريف الذي رواه ابو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " اعمار امتي بين الستين الى السبعين واقلهم من يجوز ذلك " ( اخرجه الترمذي ) 0
5ـ سرعة الاستجابة : فان الشباب على مدار التاريخ في جميع الاطوار وفي أي قطر وعلى اختلاف الدعوات هم اكثر الناس تأثرا واسرعهم استجابة ( انهم فتية امنوا بربهم وزدناهم هدى ) " الكهف : 13 " 0
6ـ انهم عماد الامم ، فالشباب هم عماد حضارة الامم وسر نهضتها وحاملو لوائها ، وهم في سن الهمم المتوثبة والجهود المبذولة سن البذل والعطاء 0
أحاديث ورد فيها ذكر الشباب
ـ عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فانه اغض للبصر واحسن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فانه له وجاء " ( متفق عليه ) 0
ـ وقال عليه الصلاة والسلام : " سبعة يظلهم الله بظله يوم لاظل الا ظله : امام عادل وشاب نشأ في طاعة الله ورجل قلبه معلق بالمسجد 000 " ( رواه البخاري ) 0
ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال : " لاتزول قدم ابن ادم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيما افناه ، وعن شبابه فيما ابلاه ، وماله من اين اكتسبه وفيم انفقه ، وعلمه ماذا عمل به " ( رواه البخاري ) 0(/1)
ـ عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أهل الجنة شباب جرد ، مرد كحل ، لاتبلى ثيابهم ، ولايفني شبابهم " ( رواه مسلم ) 0
ـ دخل النبي صلى الله عليه وسلم : " على شاب وهو في سياق الموت فقال له : " كيف تجدك " قال : ارجو الله يارسول الله ، واخاف ذنوبي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لايجتمعان في قلب عبد في مثل هذه الموطن الا اعطاه الله مايرجوه وامنه مما يخافه " ( رواه مسلم ) 0
ـ وقال : " يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة " ( رواه احمد ) 0
ومعنى الصبوة : الهوى والميل عن طريق الحق 0
ـ وقال ايضا : " ما اكرم شاب شيخا لسنه الا قيض الله له من يكرمه عند سنه " ( رواه الترمذي )
فتاوى ورسائل للشباب
جمع وترتيب :
أحمد بن صالح بن فهد الخليف(/2)
الشفاعة ...
يوم القيامة وإن كان يوم المخاوف والأهوال ، إلا أن رحمة الله تعالى تدرك عباده المؤمنين ، وتتجلى تلك الرحمة في إذنه سبحانه لمن شاء من عباده أن يشفعوا في العصاة ممن يرضى الله عنهم ، قال تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } ( البقرة: من الآية 255) ، وقال تعالى : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } ( الأنبياء :28) ) ، فالشفاعة في ذلك اليوم من أعظم الرحمات التي يمتن الله بها على عباده ، ولا سيما في حق العصاة ممن استحقوا دخول النار أو دخلوها ، فكم هي فرحتهم وكم هي سعادتهم عندما يحال بينهم وبين دخول النار ، أو عندما يخرجون منها بعد دخلوهم فيها .
وأعظم الشفاعات التي تجري في ذلك اليوم هي شفاعته صلى الله عليه وسلم في بدء الحساب للفصل بين العباد ، ذلك أن الخلق يطول بهم المقام في ساحة الحساب ، وتدنوا الشمس من رؤوسهم مقدار ميل ، ويبلغ بهم الجهد والعرق مبلغاً عظيماً ، فيجتمع رأيهم حينئذ على طلب الشفاعة من الأنبياء ، ليشفعوا لهم عند ربهم ، فيأتون آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وكلهم يأبى عليهم ، ويذكر لنفسه ذنبا إلا عيسى بن مريم ، فلا يذكر لنفسه ذنبا ولكنه يأبى الشفاعة ويحيل الناس على النبي صلى الله عليه وسلم فيأتونه ، فيقول أنا لها ، أنا لها ، فيشفع صلى الله عليه وسلم إلى ربه ليفصل بين عباده ويريحهم مما هم فيه .
وهذه الشفاعة مما اختص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم وهي المقام المحمود الذي وعده ، وهناك شفاعات أخرى يكرم الله بها نبيه ، ويخصه بها دون سائر الأنبياء ، منها شفاعته صلى الله عليه وسلم في استفتاح باب الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم : ( أنا أول شفيع في الجنة ) رواه مسلم .
ومن أنواع شفاعته صلى الله عليه وسلم شفاعته في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب ، فقد قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أغنيت عن عمك - يعني أبا طالب - فإنه كان يحوطك - يحميك - ويغضب لك ، قال : ( هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) متفق عليه .
ومن أنواع الشفاعة شفاعته صلى الله عليه وسلم في عصاة المؤمنين ، وهذه المرتبة من الشفاعة يشركه فيها سائر إخوانه من الأنبياء عليهم السلام ، والملائكة ، وصالحي الأمة وشهدائها ، وهي تكون فيمن استحق النار ألا يدخلها ، ومن دخلها أن يخرج منها . وقد تواترت الأدلة في إثبات هذا النوع من الشفاعة ، منها ما ثبت في صحيح البخاري أن المؤمنين الذين اجتازوا الصراط يقفون يجادلون في إخوانهم الذين دخلوا النار فيقولون : ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون ، فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم ، فيُخرجون خلقا كثيرا ، منهم من قد أخذته النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه . ثم يقولون : ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به ، فيقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا ، ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ، ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها خيرا ، فيقول الله عز وجل : شفعت الملائكة ، وشفع النبيون ، وشفع المؤمنون ، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط - أي مع إتيانهم بأصل التوحيد وأركانه - قد عادوا حمما ، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل - جانب - السيل .(/1)
هذه هي الشفاعة رحمة الله لعباده المؤمنين في ذلك اليوم العظيم ، الذي لم يغضب الله قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ، ومع شدة غضبه سبحانه إلا أن رحمته سبقت غضبه فمنَّ على عباده بالشفاعة ، فيا لها من رحمة ويالها من منة ، فينبغي للمسلم أن يحرص على تعاطي الأسباب الموجبة لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأعظم تلك الأسباب توحيد الله سبحانه حقاً ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه ) رواه البخاري ، ومن الأسباب الموجبة لشفاعته صلى الله عليه وسلم ، الدعاء له بالمقام المحمود ، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة ) رواه البخاري ، ومن أسباب شفاعته صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه عشرا في الصباح وعشرا في المساء ، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من صلى علي حين يصبح عشراً وحين يمسي عشراً أدركته شفاعتي يوم القيامة ) رواه الطبراني وحسنه الشيخ لألباني. نسأل المولى عز وجل أن يعيينا على الإيمان والعمل الصالح حتى نلقاه وهو راض عنا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، والحمد لله رب العالمين .(/2)
الشكرُ.. والتوكُّل
د. محمد عمر دولة*
لو تأمَّلْنا صِفاتِ العبدِ الشاكر.. لَوَجَدْنا أنه قويُّ الصِّلةِ بالله عزَّ وجلَّ، كثيرُ الرَّجاءِ في رَحْمَتِه وفَضْلِه، عظيمُ التوكُّلِ عليه؛ لِما يعرفُه مِن كثرةِ نِعَمِ الله عليه؛ فهو يعلمُ مِن الله ما لا يعلمُ الجاحِدُون والمنقطِعُون عن الله!
وانظرْ هذه المعانِي الإيمانية في قولِ يعقوب عليه السلام: (إنَّما أشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى اللهِ وأعْلَمُ مِن اللهِ ما لا تَعْلَمُون).[1] قال ابنُ كثير رحمه الله: "(وأعلَمُ مِن الله ما لا تعلَمُون): أي أرْجُو منه كلَّ خير".[2] وروى الطبري رحمه الله عن قتادة قال: ذُكِرَ لنا أنَّ نَبِيَّ الله يعقوبَ لم ينزلْ به بلاءٌ قَط إلا أتَى حُسْنُ ظنِّه بالله مِن ورائه... وعن الحسن قال: وما ساءَ ظنُّه بالله ساعةً من ليلٍ ولا نهار"![3] ورَحِم الله الشوكاني فقد قال: "(وأعلَم من الله ما لا تعلَمون): أي أعلمُ مِن لُطفِه وإحْسانِه وثَوابِه على المصيبةِ ما لا تعلمونه أنتم... وقيل: أعلم مِن إجابةِ المضطرين إلى الله ما لا تعلمون".[4]
إنَّ حمدَ الله عزَّ وجلَّ يُعِينُ على التوكُّلِ على الله جلَّ جلالُه والإنابةِ إليه والرَّجاءِ في ما عندَه وصِدْقِ الالتِجاء إليه. ولما كان التوكُّلُ على الله عزَّ وجَلَّ عقيدةً قائمةً على حُسْنِ الظنِّ بالله، ومَعرفةً مُستَمَدَّةً من قُوةِ الرجاءِ في فَضلِه ومنِّه وجُودِهِ وإحْسانِه؛[5] فكلما زاد العبدُ من شُكرِ الله بجميعِ المحامدِ؛ زاد قوةً في توكُّلِه واعتمادِه وصدقِ التجائه إلى الله جلَّ جلالُه. ولله درُّ سيد قطب ما أحْسَنَ قولَه: "في هذه الكَلِماتِ يَتَجَلَّي الشُّعُورُ بالأُلُوهِيةِ في هذا القَلْبِ الموصُولِ... وهذه قِيمةُ الإيمانِ بالله ومَعْرِفَتُه سبحانه هذا اللَّوْنَ مِن المعرفةِ: مَعرفةِ التَّجَلِّي والشُّهُودِ ومُلابَسَةِ قُدْرَتِه وَقَدَرِه ومُلامَسَةِ رَحْمَتِه ورِعايَتِه، وإدراك شأنِ الأُلُوهِيةِ مع العبيدِ الصالحين؛ إنَّ هذه الكلماتِ (وأعْلَمُ مِن اللهِ ما لا تَعْلَمُون) تَجْلُو هذه الحقيقةَ بما لا تَملِكُ كلماتُنا أنْ تَجْلُوَها وتَعرِضُ مَذاقاً يَعْرِفُه مَنْ ذاقَ مِثلَه؛ فيُدرِك ماذا تعني هذه الكلماتُ في نفسِ العبدِ الصالحِ يَعقوب".[6]
ورَحِمَ الله القرطبي حيث قال في تفسيرِ قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذُكِر اللهُ وَجِلَتْ قلوبُهم وإذا تُليتْ عليهم آياتُه زادَتْهم إيماناً وعلى ربِّهم يَتَوَكَّلُون)[7] "وَصَفَ الله تعالى المؤمِنِين في هذه الآيةِ بالخوفِ والوَجَلِ عند ذِكْرِه؛ وذلك لِقوَّةِ إيمانِهم، ومُراعاتِهم لِرَبِّهم وكأنهم بين يَدَيْه، ونظيرُ هذه الآية: (وبَشِّرِ المخبِتِين الذين إذا ذُكِر اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهم)،[8] وقال: (وتَطْمَئنُّ قُلوبُهم بِذِكْرِ الله)؛[9] فهذا يرجعُ إلى كَمالِ المعرفةِ وثِقَةِ القلبِ... وقد جَمَعَ اللهُ بين هذين المعنَيَيْن في قولِه: (اللهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحديثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ منه جُلُودُ الذين يَخْشَوْن ربَّهم ثم تَلِينُ جُلُودُهم وقُلُوبُهم إلى ذِكْرِ الله)،[10] أي تَسْكُنُ نُفوسُهم مِن حيث اليقين إلى اللهِ وإنْ كانوا يَخافُون الله؛ فهذه حالةُ العارِفِين بالله".[11]
ومِما يُوضِّحُ علاقةَ الحمدِ بالتوكلِ: أنَّ التوكُّلَ هو اعتمادُ القلبِ على الرحمنِ الرحيمِ، وهو القوةُ الدافعةُ التي تُعينُ على اليقينِ بِنَصْرِ الله وصِدْقِ وَعْدِه؛ ولولا قوةُ إيمانِ الصحابة وكمالُ معرفتِهم بربِّهم ورجائهم في رحمتِه واستمدادهم منه ما كانوا من المتوَكِّلِين الصادِقِين (الذين قالَ لهم الناسُ إنَّ الناسَ قد جَمَعُوا لكم فاخْشَوْهُم فزادَهم إيماناً وقالوا حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيل فانْقَلَبُوا بِنِعْمةٍ مِن اللهِ وفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ واتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ واللهُ ذو فَضْلٍ عَظِيم).[12](/1)
وقد أمَرَ الله عزَّ وجَلَّ بالتوكُّلِ عليه في مَعْرَضِ ذكرِ رحمتِه المقتضيةِ لشكرِه، فقال جلَّ جلالُه: (ولئن سألتَهم مَن خَلقَ السمواتِ والأرضَ ليقولنَّ الله قلْ أفرأيتم ما تدعُون مِن دونِ الله إنْ أرادني الله بِضُرٍّ هل هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّه أو أرادنِي برحمةٍ هل هنَّ مُمْسِكاتُ رحمتِه قلْ حَسْبِيَ الله عليه يتوكَّلُ المتوكِّلُون)،[13] وقال تعالى: (وتَوَكَّلْ على العزيزِ الرَّحِيمِ الذي يراك حين تقومُ وتَقَلُّبَك في الساجِدِين إنه هو السَّميعُ العَلِيم)[14] "أي فَوِّضْ أمرَك إليه؛ فإنهُ العزيزُ الذي لا يُغالَب، الرَّحيمُ الذي لا يخذلُ أولياءَه".[15] ذلك أنَّ "التوكُّل هو اعتمادُ القلبِ على اللهِ تعالى في جَلْبِ المنافِعِ ودَفْعِ المضارِّ مَع ثِقَتِه به وحُسْنِ ظَنِّه بحصولِ مَطْلُوبِه؛ فإنه عزيزٌ رحيمٌ: بِعِزَّتِه يَقدِرُ على إيصالِ الخيرِ ودَفعِ الشرِّ عن عَبدِه، وبرحمتِه به يفعل ذلك".[16]
وليت شعري كيف لا يتوكلُّ العبدُ على ربِّه وهو يرى ألوانَ نعمتِه تُحيطُ به، وشآبيبَ رحمتِه تنزل عليه؟ ولكنَّ الجاحدَ لا يشعرُ بنعمةِ الله عليه، إلا حين يضطرُّ اضطراراً! ثم ما يلبث أن تغلبَ عليه شِقوتُه؛ فيُعرضُ عن شكرِ الله عز وجلَّ، كما قال تبارك وتعالى: (قُلْ أرَأيْتَكُمْ إنْ أتاكُم عذابُ اللهِ أو أتَتْكُم الساعةُ أغَيْرَ اللهِ تَدْعُون إنْ كُنتم صادِقِين بلْ إياه تَدْعُون فيَكشِفُ ما تدْعُون إليه إنْ شاء وتَنْسَوْن ما تُشْرِكُون).[17] وقال جَلَّ جلالُه: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكم مِن ظُلُماتِ البَرِّ والبَحرِ تَدْعُونَه تَضَرُّعاً وخُفْيةً لئن أنْجانا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِن الشاكِرِين قُل الله يُنَجِّيكم مِنها ومِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثم أنتم تُشْرِكُون)،[18]
----------
[1] يوسف 86.
[2] تفسير القرآن العظيم 2/489.
[3] جامع البيان 13/46.
[4] فتح القدير للشوكاني 3/49.
[5] راجع كتاب (يا أصحابَ الهموم؛ توكَّلُوا على الحيِّ القيوم).
[6] في ظلال القرآن لسيد قطب 13/2016.
[7] الأنفال 2.
[8] الحج 34.
[9] الرعد 28.
[10] الزمر 23.
[11] الجامع لأحكام القرآن 7/366.
[12] آل عمران 173-174.
[13] الزمر 38.
[14] الشعراء 217-218.
[15] الجامع لأحكام القرآن 13/144.
[16] تيسير الكريم الرحمن ص 599.
[17] الأنعام 40-41.
[18] الأنعام 63-64.(/2)
الشمائل المحمدية
خلقه في الوفاء :
مما تحلى به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، من الأخلاق الفاضلة ، والشمائل الطيبة، الوفاء بالعهد ، وأداء الحقوق لأصحابها ، وعدم الغدر ، امتثالاً لأمر الله في كتابه العزيز حيث قال {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} (الأنعام 152) . وتخلق الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق الكريم ظاهر بيّن ، سواء في تعامله مع ربه جل وعلا ، أو في تعامله مع أزواجه ، أو أصحابه ، أو حتى مع أعدائه. ففي تعامله مع ربه كان صلى الله عليه وسلم وفياً أميناً ، فقام بالطاعة والعبادة خير قيام ، وقام بتبليغ رسالة ربه بكل أمانة ووفاء ، فبيّن للناس دين الله القويم ، وهداهم إلى صراطه المستقيم ، وفق ما جاءه من الله ، وأمره به ، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (سورة النحل 44) .
وكان وفياً مع زوجاته ، فحفظ لخديجة رضي الله عنها مواقفها العظيمة ، وبذلها السخي ، وعقلها الراجح، وتضحياتها المتعددة ، حتى إنه لم يتزوج عليها في حياتها ، وكان يذكرها بالخير بعد وفاتها ، ويصل أقرباءها، ويحسن إلى صديقاتها، وهذا كله وفاءاً لها رضي الله عنها، وكان وفياً لأقاربه ، فلم ينس مواقف عمه أبي طالب من تربيته وهو في الثامنة من عمره ، ورعايته له ، فكان حريصاً على هدايته قبل موته ، ويستغفر له بعد موته حتى نهي عن ذلك، وكان من وفائه لأصحابه موقفه مع حاطب بن أبي بلتعة مع ما بدر منه حين أفشى سر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام في أشد المواقف خطورة ، حيث كتب إلى قريش يخبرها بمقدم رسول الله وجيشه، فعفى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفاءاً لأهل بدر ، وقال : (إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) رواه البخاري و مسلم، أما وفاؤه لأعدائه فظاهر كما في صلح الحديبة ، حيث كان ملتزماً بالشروط وفياً مع قريش ، فعن أنس رضي الله عنه أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، قال سهيل : أما باسم الله فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ، ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم ، فقال : اكتب من محمد رسول الله ، قالوا : لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك ، ولكن اكتب اسمك ، واسم أبيك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اكتب من محمد بن عبد الله ، فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم ، أن من جاء منكم لم نرده عليكم ، ومن جاءكم منا رددتموه علينا ، فقالوا : يا رسول الله أنكتب هذا ، قال نعم ، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا) رواه مسلم . وتم إرجاع أبي بصير مع مجيئه مسلماً وفاءاً بالعهد. وعن حذيفة بن اليمان قال : ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل ، فأخذنا كفار قريش ، قالوا : إنكم تريدون محمدا ، فقلنا : ما نريده ، ما نريد إلا المدينة ، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ، ولا نقاتل معه ، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فقال : (انصرفا ، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم) رواه مسلم. وعدّ صلى الله عليه وسلم نقض العهد، وإخلاف الوعد من علامات المنافقين، فقال : (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان) رواه البخاري و مسلم. هذا هو وفاء النبي العظيم ، أَنْعِم به من خلق كريم ، تعددت مجالاته، وتنوعت مظاهره، فكان لكل صنف من الناس نصيب من وفاءه صلى الله عليه وسلم ، فهل أنت أخي المسلم لك نصيب من خلق نبيك ورسولك؟ ، اللهم ارزقنا الاتباع وفاءاً لك ولنبيك صلى الله عليه وسلم. ... حياؤه صلى الله عليه وسلم :
الحياء خلق إسلامي رفيع يبعث على تجنب القبائح ، ويرغب الإنسان في فعل الحسن، ويمنع من التقصير في حق أصحاب الحقوق. ويكفي لبيان منزلة هذا الخلق في الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم (إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء) رواه ابن ماجه وصححه الألباني .
والحياء من شعب الإيمان كما ثبت في الحديث الصحيح (الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان) .رواه الجماعة واللفظ للبخاري
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس حياءً وأعظمهم اتصافاً بهذا الخلق الرفيع، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها) متفق عليه. وكان صلى الله عليه وسلم يستحي من الخالق سبحانه وتعالى ومن الخلق.(/1)
أما حياؤه من الخالق جلّ وعلا فهو أكمل الحياء،ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لموسى عليه السلام ليلة المعراج لما طلب منه مرة بعد مرة أن يرجع إلى ربه فيسأله التخفيف من الصلوات قال: ( استحييت من ربي) رواه البخاري. وأما حياؤه من الناس فأدلته كثيرة منها ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، (أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، قال خذي فرصة من مسك فتطهري، بها قالت كيف أتطهر؟ قال تطهري بها قالت كيف؟ قال سبحان الله! تطهري، و استحيا وأعرض عنها، فجذبتْها عائشة رضي الله عنها وقالت تتبعي بها أثر الدم) متفق عليه. فانظر كيف حمله الحياء على الإعراض عن التفصيل في هذا الأمر، حتى تولته أم المؤمنين، لتعلقه بأمور النساء الخاصة.
ومن الأدلة على حيائه كذلك ما رواه الشيخان عن أنس رضي الله عنه في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، فبعد أن أكل الصحابة تفرقوا، وبقي ثلاثة منهم في البيت يتحدثون، والنبي صلى الله عليه وسلم يريد خروجهم، قال أنس رضي الله عنه : ( وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء. وفي رواية، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يستحي منهم أن يقول لهم شيئاً ) وهذا الحديث من أعظم الأدلة على شدة حيائه صلى الله عليه وسلم. فقد حمله الحياء على عدم مواجهة أصحابه بشأن خروجهم، حتى تولى الله تعالى بيان ذلك، إعظاماً لحق نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53].
وبعدُ: ففيما قدمنا قليل من كثير ،من حياء النبي صلى الله عليه وسلم، فحريٌّ بنا أن نتأسى به ، ونقتفي أثره لنكون من السعداء في الدنيا والآخرة ، وفق الله الجميع للاقتداء به عليه الصلاة والسلام.
حسن خلقه وعشرته :
حسن الخلق،ولين الجانب،وطيب العشرة، صفات أجمع العقلاء على حسنها ، وفضل التخلق بها. وقد توافرت الأدلة الشرعية على مدح الأخلاق الحسنة، والحض عليها ، من ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن من أحبكم إلىّ أحسنكم أخلاقاً ) رواه البخاري. وقد كان رسول الله صلى عليه وسلم أحسن الناس سمتاً، وأكملهم خُلُقاً، وأطيبهم عشرة، وقد وصفه سبحانه بذلك فقال {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) فما من خصلة من خصال الخير إلا ولرسول صلى الله عليه وسلم أوفر الحظ والنصيب من التخلق بها ، وقد وصف الصحابة حسن خلقه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسع الناس صدراً ، وأصدق الناس لهجة ، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة) رواه الترمذي . والعريكة هي الطبيعة.ووصفه الله تعالى بلين الجانب لأصحابه فقال { فبما رحمة من الله لنت لهم } (آل عمران159). ففي معاشرته لأصحابه من حسن الخلق ما لا يخفي، فقد كان يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويقبل الهدية ممن جادت بها نفسه و يكافئ عليها. وكان عليه الصلاة والسلام يؤلفهم ولا ينفرهم، ويتفقدهم ويعودهم، ويعطى كلَّ مَنْ جالسه نصيبه من العناية و الاهتمام، حتى يظن جليسه أنه ليس أحدٌ أكرم منه، وكان ولا يواجه أحداً منهم بما يكره. قال أنس رضي الله عنه : ( خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، فما قال لي أف قط، وما قال لي لشيءٍ صنعته لم صنعت هذا، ولا شيء لم أصنعه لِمَ لَمْ تصنع هذا) .رواه الترمذي و أبو داود، وذكر عبد الله بن جرير البجلي رضي الله عنه معاملة النبي صلى الله عليه وسلم له فقال : ( ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي، ولقد شكوت إليه أني لا أثبت على الخيل فضرب بيده في صدري وقال اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً.) رواه ابن ماجة. ومعنى قوله ما حجبني: أي ما منعني الدخول عليه متى ما أردت ذلك. وهذا الذي ذكرناه من حسن خلقه وعشرته قليل من كثير وغيض من فيض مما لا يمكن الإتيان على جميعه في مقال أو كتاب، والله نسأل أن يرزقنا حسن الخلق وحسن العمل . والحمد لله أولا وأخراً .
الإنصاف : في اللغة مصدر قولهم : أنصف ينصف ... ويقال : أنصفه من نفسه، وانتصفت أنا منه ، وتناصف القوم : أي أنصف بعضهم بعضا من نفسه ... وأنصفت الرجل إنصافاً : عاملته بالعدل والقسط .
ويمكن تعريف الإنصاف بأنه : أن تعطي غيرك من الحق مثل الذي تحب أن تأخذه منه لو كنت مكانه ، ويكون ذلك بالأقوال والأفعال ، وفي الرضا والغضب ، مع من نحب ومن نكره .
وللإنصاف أنواع عديدة ، منها :(/2)
? أن ينصف المرء نفسه من نفسه ؛ إذ كيف ينصف الناس من لا ينصف نفسه. ـ أن ينصف المرء خالقه عز وجل ، فلا يرى ربه إلا محسنا ، ولا يرى نفسه إلا مسيئا أو مفرطا أو مقصراً ، فيعطى العبودية حقها ، ولا ينازع ربه صفات إلهتيه ، ولا يشكر على نعمه سواه ، ولا يستعين بها على معاصيه .
? إنصاف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك بالإيمان به ومحبته وتوقيره وطاعته والقيام بحقوقه.
? إنصاف العباد ، بأداء حقوقهم وعدم مطالبة المرء إياهم ما ليس له ..(/3)
القرآن الكريم يقدم المثل الأعلى للإنصاف :إن إنصاف المرء أخاه في النسب أو الدين قد يكون أمراً معقولا تقره الطبائع السليمة والفطر النقية ، أما إنصاف العدو وتبرئة ساحته مع مخالفته لنا في الدين فهذا ما لا يستطيعه إلا من تربى على مائدة الإسلام وتشبع بروح العدل والإنصاف التي جاء بها القرآن ، يقول أبو حيان في تفسير قول الله تعالى :(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً) [النساء:105]،: ويتلخص سبب النزول في (( أن طعمة بن أبيرق سرق درعا في جراب فيه دقيق لقتادة بن النعمان ، وخبأها عند يهودي ، فحلف طعمة مالي بها علم ، فاتبعوا أثر الدقيق إلى دار اليهودي ، فقال اليهودي : دفعها إليَّ طعمة )) . فلما هم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقضاء في هذه المسألة نزلت الآيات الكريمة : (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيما* وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً*وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيما*يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطا*هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً*وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً *وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً*وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيم)[الآيات 105 ـ 113 من سورة النساء ] مبرءة ساحة هذا اليهودي ومنصفة . يقول بعض العلماء المعاصرين معلقا على هذه الواقعة : يالله ! إنه الإسلام وحده في تاريخ البشرية كله .. وغير الإسلام لم يكن ضميره ليتحرك لتبرئة متهم ينتمي إلى قوم بينه وبينهم كل ذلك العداء . ألا إنها القمة السامقة التي لا يقيمها ابتداء إلا الإسلام ، ولا يرقاها إلا المسلمون في كل التاريخ . لقد كانت كل الظروف (( مشجعة )) على اتهام ذلك اليهودي وتبرئة ذلك المنافق الذي ينتمي ولو شكلا إلى الإسلام !. فالعداوة بين المسلمين واليهود قائمة في المدينة ،وكيد اليهود للمسلمين قائم واضح للعيان .إلا أن الإسلام ما جاء ليتستر على انحرافات البشرية أو يتسامح مع شيء منها ! وما جاء ليجاري الجاهليات فيما تقع فيه من انحراف . وإنما جاء لينشئ الإنسان الصالح في الأرض. إنها ليست حادثا عارضا يمر فينسى ، إنها درس هائل في التربية على الأفق الأعلى لا يقدمه إلا الإسلام ، و لا يقدر عليه إلا المسلمون، وإنه لدرس في التطبيق العملي للإنصاف الإلهي والعدل الرباني الذي لم تعرفه أمة في التاريخ ، إلا الأمة التي رباها القرآن الكريم ، تسع آيات كريمة تنزل لكشف ذلك المنافق الذي انضم إلى المشركين بعد فضحه ، ولتبرئة ساحة ذلك اليهودي ، وما كان الإسلام ليتألف قلب المنافق لأنه يحمل اسما مسلما على حساب الإنصاف والعدل الذي يريد إقامتهما في الأرض نبراسا لكل البشرية ... لقد ذهب ابن أبيرق مع الشيطان ، وبقي ذلك الدرس الرباني الخالد درسا وعاه المسلمون وحفظوه ، لتتعلمه البشرية منهم يوم تفيء إلى رشدها وتحب أن تعرف الطريق إلى ما فيه خيرها وسعادتها . ومع أن هؤلاء اليهود هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا إلا أن هذه العداوة لم تمنع القرآن الكريم من إنصافهم إن هم أحسنوا أو أحسن بعضهم ، ومن مظاهر هذا الإنصاف ثناؤه عز وجل على بني إسرائيل ثناء عظيما ، يبلغ بهم ذروة شاهقة من الرضا والتقدير ، كما قال تعالى : ( وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف:159]. وقوله عز وجل من قائل :(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24] ، ثم في معظم الأحيان تبلغ حملته عليهم حداً رهيبا من التقريع والتنديد ، والذم والتوبيخ والسبب في هذا الموقف القرآني هو الإنصاف التام ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، وكل ذي باطل ما يستحقه ، فهو يمدحهم إن أحسنوا وأطاعوا ، وهو يذمهم إن عاندوا وشاقوا ، وقد كان(/4)
من تمام إنصافه عز وجل معهم أنه دائما يستثني منهم القلة الصالحة ـ على ندرتها ـ كما قال تعالى ( وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ )[المائدة: 13]. إنصاف الرسول صلى الله عليه وسلم و الخلفاء الراشدين لأهل الذمة، لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنصاف أهل الذمة والمستأمنين ، ونهى عن ظلهم في أحاديث كثيرة ، فهو القائل صلى الله عليه وسلم : " من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته ، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة " وقال صلى الله عليه وسلم : " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما " . وحرص الخلفاء الراشدون والصحابة على ذلك ، فها هو عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يوصي بأهل الذمة قائلا : " أوصيكم بذمة الله فإنها ذمة نبيكم ورزق عيالكم " . وروى مسلم عن المستورد بن شداد القرشي أنه حدث عن عمرو بن العاص فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " تقوم الساعة والروم أكثر الناس " . فقال عمرو : أبصر ما تقول ، قال أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : لئن قلت ذاك إن فيهم لخصالاً أربعاً : إنهم أحلم الناس عند فتنة ، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة ، وأوشكهم كرة بعد فرة ، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف ، وخامسة حسنة جملية : وأمنعهم من ظلم الملوك " . فانظر إلى إنصاف عمرو وذكره ما يعلمه من الخصال الحسنة للروم ، مع أننا لا نشك في براءته منهم وعداوته لهم . وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة إلى خيبر ليخرص لهم الثمار ، فأرادوا أن يرشوه ، فقال عبد الله : " يا معشر اليهود ، أنتم أبغض الخلق إلي ، قتلتم أنبياء الله ـ عز وجل ـ ، وكذبتم على الله ، وليس يحملني حبي إياه وبغضي إياكم على أن أحيف عليكم . فقال اليهود : بهذا قامت السموات والأرض ". قال الحافظ ابن عبد البر : وفيه أن المؤمن وإن أبغض في الله فلا يحمله بغضه على ظلم من أبغضه " . لقد امتثل عبد الله بن رواحة ـ رضي الله عنه للمنهج الرباني الذي يكفل العدل للناس ، والذي يعطي كل ذي حق حقه من المسلمين وغير المسلمين ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين . قال الله تعالى : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً)[النساء:135]. وقد أقر اليهود صنيع عبد الله بن رواحة لعلمهم أن العدل قد أمر الله ـ عز وجل ـ به الناس جميعا ، لأنه واجب لكل أحد على كل أحد في جميع الأحوال. والظلم لا يباح منه شيء بحال ، ولذا قالوا لعبد الله بن رواحة : ( هذا الحق به تقوم السماء والأرض ) : أي بهذا الحق والعدل قامت السموات فوق الرءوس بغير عمد، والأرض استقرت على الماء تحت الأقدام .
آداب أهل الإنصاف :
التحلي بصفة الإنصاف ، وسلوك درب المنصفين يلزم معه التأدب بآداب خاصة ، وقد التزم بها أهل السنة والجماعة وقدوتهم في ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأهمها :
التجرد وتحري القصد عند الكلام على المخالفين :وذلك أنه قد تلتبس المقاصد عند الكلام عن المخالفين ، فهناك قصد حب الظهور ، وقصد التشفي والانتقام والانتصار للنفس أو للطائفة التي ينتمي إليها الناقد .. وقد حذر ابن تيمية مَن يرد على أهل البدع من التباس المقاصد فقال : " وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم ، وإذا غلط في ذم بدعة أو معصية كان قصده بيان ما فيها من إفساد ليحذر العباد ، كما في نصوص الوعيد وغيرها، وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيراً والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان ، لا للتشفي والانتقام " وقد انتبه ابن القيم ـ رحمه الله ـ إلى هذا الأمر فوضع قاعدة لمن يريد أن يتجرد من الهوى فقال : " وكل أهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم أحسن ما يقدرون عليه من الألفاظ ، ومقالة مخالفيهم أقبح ما يقدرون عليه من الألفاظ ومن رزقه الله بصيرة فهو يكشف بها حقيقة ما تحت الألفاظ من الحق و الباطل ، ولا تغتر باللفظ كما قيل في هذا المعنى: تقول هذا جنى النحل تمدحه وإن تشأ قلت : ذا قيء الزنابير مدحا وذما وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير(/5)
أهمية التبين والتثبت قبل إصدار الأحكام : وذلك امتثالا لقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6]، وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) [النساء:94] والتبين والتثبت من خصائص أهل الإيمان ، قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ : " المؤمن وقاف حتى يتبين " وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ : " ومتى لم يتبين لكم المسألة لم يحل لكم الإنكار على من أفتى أو عمل حتى يتبين لكم خطؤة ، بل الواجب السكوت والتوقف ".
حمل الكلام على أحسن الوجوه ، وإحسان الظن بالمسلمين : فالواجب على المسلم أن يحسن الظن بكلام أخيه المسلم ، وأن يحمل العبارة المحتملة محملاً حسناً فقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على إحسان الظن بالمسلم حين قال وهو يطوف بالكعبة :" ما أطيبك وأطيب ريحك ، وما أعظمك وأعظم حرمتك ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمه منك ، ماله ودمه ، وأن لا يظن به إلا خيراً " .
وقال سعيد بن المسيب : كتب بعض إخواني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك ، ولا تظنن بكلمة خرجت من امريء مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا " .
ألا ينشر سيئات المخالف ويدفن حسناته :
فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم عمر بحسنات حاطب فقال : " وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". فكون حاطب من أهل بدر ترفعه ويُذكر له في مقابل خطئه الفاحش ،ولذا غفر له خطؤه .
النقد يكون للرأي وليس لصاحب الرأي : فالنقد الموضوعي هو الذي يتجه إلى الموضوع ذاته وليس إلى صاحبه . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حدث خطأ من أحد أصحابه أو بعضهم . لا يسميهم غالبا وإنما يقول : (( ما بال أقوام )) ، (( ما بال رجال )) .
الامتناع عن المجادلة المفضية إلى النزاع : وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الجدل المفضي إلى الخصومة فقال : " إن ابغض الرجال إلى الله الألد الخصم " .وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : " لا تمار أخاك فإن المراء لا تفهم حكمته ، ولا تؤمن غائلته .." . وقال مالك بن أنس : " المراء يقسي القلوب ، ويورث الضغائن ".
حمل كلام المخالف على ظاهره وعدم التعرض للنوايا والبواطن :
وقد علمنا ذلك رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حينما قتل أسامة بن زيد الرجل بعد أن قال لا إله إلا الله ، فلما علم صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك عليه ، فقال أسامة : إنما قالها متعوذا . فقال صلى الله عليه وسلم:" هلا شققت عن قلبه ". وهكذا يضع النبي صلى الله عليه وسلم الأسس السليمة للتعامل مع الناس وأول هذه الأسس الإنصاف،بل لقد أسوة لهم في ذلك فها هو في غزوة بدر يسوي الصفوف ويرى سواد بن غزية بارزا فيضربه بقدح في بطنه ويقول :"استو يا سواد"،فيقول سواد يا رسول الله أوجعتني فأقدني ،فيكشف الرسول عن بطنه وهو يقول :"استقد يا سواد"،فيلتزم سواد بطن النبي ويقبله.. فانظر إلى هذا الإنصاف من النبي صلى الله عليه وسلم.
وموقف آخر عجيب يدل على مدى إنصافه،فقد روى ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال :جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دينا كان عليه فاشتد عليه حتى قال له: أحرج عليك إلا قضيتني ،فانتهره أصحابه وقالوا :ويحك ،تدري من تكلم !قال: إني أطلب حقي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"هلا مع صاحب الحق كنتم"، ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها:" إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمرنا فنقضيك "،فقالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله قال فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه فقال: أوفيت أوفى الله لك، فقال :"أولئك خيار الناس إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع".
يا لله!رسول الله يأمر أصحابه أن يكونوا مع صاحب الحق حتى وإن كان هو أحد أطراف القضية،إنه الإنصاف.(/6)
وها هو صلى الله عليه وسلم يوجه الأمة كلها إلى الإنصاف، • فعن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يؤمن أحدكم حتى يجب لأخيه ما يحب لنفسه " ( رواه البخاري ). وعن المعرور قال : لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألناه عن ذلك فقال: إني ساببت رجلا فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم:" أعيرته بأمه ؟، ثم قال إن إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم" . (رواه البخاري ). و عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : " ... فجاءت الغامدية فقالت يا رسول الله ، إني قد زنيت فطهرني ، وإنه ردها . فلما كان الغد قالت : يا رسول الله ، لم تردني ؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزا . فوالله إني لحبلى . قال . : " إما لا فاذهبي حتى تلدي " فلما ولدته أتته بالصبي في خرقة . قالت : هذا قد ولدته قال : " اذهبي فارضعيه حتى تفطميه " . فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز ، فقالت : هذا يا نبي الله ، قد فطمته ، وقد أكل الطعام ، فدفع الصبي إلي رجل من المسلمين ، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها . فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها ، فتنضح الدم على وجه خالد ، فسبها ، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها ، فقال : " مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكٍس لغفر له ). ( رواه مسلم ) فالإنصاف يدفعه صلى الله عليه وسلم للدفاع عن هذه المرأة التي أتت تائبة. وعلى هذا الخلق الكريم تربى العلماء والصالحون من هذه الأمة وهذه قطوف من أقوالهم في هذا الشأن: ( قال عمار بن ياسر ـ رضي الله عنهما :ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، وبذل السلام للعالم والإنفاق من الإقتار). ( وقال ابن القيم أيضا : وجاء في أثر آخر : ( ابن آدم ما أنصفتني ، أخلقك وتعبد غيري ، وأرزقك وتشكر سواي ) .(سمعت عائشة ـ رضي الله عنها ـ عروة ابن الزبير يسب حسان بن ثابت ، وكان ممن خاض في حديث الإفك ... فقالت ـ رضي الله عنها ـ : يا ابن أختي دعه ، فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ) . (رواه البخاري ).• ( وقال عروة : كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول إنه الذي قال : فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء ) ( البخاري ومسلم ).( عن عاصم بن كليب عن أبيه قال انتهينا إلى علي ـ رضي الله عنه ـ فذكر عائشة فقال : خليلة رسول صلى الله عليه وسلم ، يقول الذهبي : هذا يقوله أمير المؤمنين في حق عائشة ما وقع بينهما ) . ( عن عبد الرحمن بن شماسة قال : دخلت على عائشة ، فقالت : ممن أنت ؟ قلت : من أهل مصر ، قالت ، : كيف وجدتم ابن حُديج –وهو قاتل محمد بن أبي بكر أخي عائشة-في غزاتكم هذه ؟ قلت : خير أمير ، ما يقف لرجل منا فرس ولا بعير إلا أبدله مكانه بعيرا، ولا غلام إلا أبدل مكانه غلاما ، وقالت : إنه لا يمنعني قتله أخي أن أحدثكم ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إني سمعته يقول : اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به ، ومن شق عليهم فاشقق عليه).فلم تمنعها كراهية قتل أخيها على يديه من إنصافه بذكر بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم له.(/7)
عن سعيد بن المسيب أن رجلا من أهل الشام يقال له ابن خيبري وجد مع امرأته رجلا فقتله أو قتلهما معا فأشكل على معاوية بن أبي سفيان القضاء فيه فكتب إلى أبي موسى الأشعري يسأل له علي بن أبي طالب عن ذلك فسأل أبو موسى عن ذلك علي بن أبي طالب فقال له علي إن هذا الشيء ما هو بأرضي عزمت عليك لتخبرني فقال له أبو موسى كتب إلي معاوية بن أبي سفيان أن أسألك عن ذلك فقال علي أنا أبو حسن إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته -أي يسلم إلى أولياء المقتول يقتلونه قصاصا-.( رواه مالك ) وفيه : شهادة من معاوية بفقه وعلم علي رغم ما حدث بينهما ) .وجاء رجل فوقع في على وفي عمار رضي الله عنهما ـ عند عائشة ، فقالت : أما علي فلست قائلة لك فيه شيئا ، أما عمار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يخير بين أمرين إلا اختار أرشدهما )( رواه أحمد ). (خطب عمار بن ياسر ـ رضي الله عنهما ـ في أهل العراق ـ قبل واقعة الجمل ـ ليكفهم عن الخروج مع أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقال : " والله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي ". ومعلو م أن عماراً كان في صف علي ـ رضي الله عنهما ـ قال ابن هبيرة : " في هذا الحديث أن عماراً كان صادق اللهجة ، وكان لا تستخفه الخصومة إلى أن ينتقص خصمه ، فإنه شهد لعائشة بالفضل التام مع ما بينهما من الحرب ". قال ابن حجر : مراد عمار بذلك أن الصواب في تلك القصة كان مع علي ، وأن عائشة مع ذلك لم تخرج عن الإسلام ولا أن تكون زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ، فكان ذلك يعد من إنصاف عمار وشدة ورعه وتحريه قول الحق ) . ( قال الإمام الشافعي في الإمام أحمد أحدا أورع ولا أتقى ولا أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل " ). (قال محمد بن سيرين : " ظلم لأحيك أن تذكر منه أسوأ ما رأيت وتكتم خيره " ). ( قال الإمام الذهبي في ترجمة لقتادة بن دعامة : " وكان من أوعية العلم ، وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ ،وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع ، فإنه مدلس معروف بذلك ، وكان يرى القدر ـ نسأل الله العفو ـ ومع هذا يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه ، وبذل وسعه ، والله حكم عدل لطيف بعباده ، ولا يسأل عما يفعل . ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه ، وعلم تحريه للحق واتسع علمه ، وظهر ذكاؤه ، وعرف صلاحه وورعه واتباعه ، ويغفر له زلله ، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه ، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه ونرجو له التوبة من ذلك " ) . فهذه أقوال بعض أهل السنة يتبين بها نتاج التربية النبوية الكريمة التي زرعت الإنصاف في النفوس حتى أنصف كل واحد من نفسه. ... ...
هديهُ صلى الله عليه وسلم في جلوسه واتكائه :
كان صلى الله عليه وسلم يجلس على الأرض ، وعلى الحصير والبساط وقالت قَيّلَة بنت مخرمة : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء قالت فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كالمتخشع في الجلسة ، أرعدت من الفَرَق ، ولما قدم عليه عدي بن حاتم ، دعاه إلى منزله ، فألقت إليه الجارية وسادة يجلس عليها ، فجعلها بينه وبين عدي ، وجلس على الأرض ، قال عدي : فعرفت أنه ليس بملك وكان يستلقي أحياناً ، وربما وضع إحدى رجليه على الأخرى وكان يتكيء على الوسادة وربما اتكأ على يساره ، وربما اتكأ على يمينه ، وكان إذا إحتاج في خروجه توكأ على بعض أصحابه من الضعف
هدية صلى الله عليه وسلم في مشيه
كان صلى الله عليه وسلم إذا مشى ، تكفَّأ تكفؤاً ، وكان أسرع الناس مشيةً ، وأحسنَها وأسكنها قال أبو هريرة : ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه ، وما رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنما الأرضُ تطوي له ، وإنا لنجهد أنفسنا وإنه غير مكترث وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه-
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفّأ تكفؤاً كأنما ينحط من صبب( أي من منحدر ) ، وقال مرّةً: إذا مشى تقّلع ( والتقلّع هو الأرتفاع من الأرض بجملته ، كحال المنحط من المنحدر)وهي مشية أولى العزم والهمة والشجاعة 0 وهي أعدل المشيات وأروحها للأعضاء ، وأبعدها من مشية الهَوَج والمهانة والتماوت بل كان مشية صلى الله عليه وسلم هوناً كما قال الله تعالي : (( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا)) الفرقان /63 0 قال غير واحد من السلف ، السبكينة ووقار من غير تكبّر ولا هي مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه مع هذه المشية كان كأنما ينحط من صبب ، وكأنما الأرض تطوي له صلى الله عليه وسلم.
(( وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشي لم يلتفت )) صحيح الجامع الصغير برقم (4786) عن جابر(/8)
(( وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشى أقلع )) حديث صحيح - صحيح الجامع برقم (4784) وأما مشيه مع أصحابه ، فكانو يمشون بين يديه وهو خلفهم ويقول دعوا ظهري للملائكة )) رواهُ أحمد (13719) وإبن ماجه (226) عن جابر رضي الله عنه - قال : (( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى ، مشى أصحابه أمامه وتركوا ظهره للملائكة )) في صحيح الجامع الصغير برقم (4787) ولهذا جاء في الحديث : وكان يسوق أصحابه 0 وكان يمشي حافياً ومنتعلاً ، وكان يماشي أصحابه فرادي وجماعه ومشي في بعض غزواته فدميت أصبعُهُ ، وسال منه الدم فقال : هل أنت إلا إصبع دمِيت وفي سبيل الله مالَقَيت ( متفق عليه )
ضحك النبي صلى الله عليه وسلم :
محمد عليه الصلاة والسلام يضحك، نعيش معه ضاحكاً، كما عشنا معه وهو باكٍ متأثر خاشع لله – عز وجل-. من الذي أضحكه ؟ إنه الله الواحد الأحد، (وأنه هو أضحك وأبكى) [النجم:43].وماله لا يضحك عليه الصلاة والسلام ودينه رحمة، ومنهجه سعادة، ودستوره فلاح؟. لقد عشنا معه عليه الصلاة والسلام في مواطن التأثر باكياً، تدمع عيناه وينجرح فؤاده، ونعيش معه وهو يهشّ للدعابة، ويضحك للطرفة، ويتفاعل مع أصحابه في مجريات أمورهم وأحاديثهم. إن مدرسة التصوف تملي على منسوبيها ألا يضحكوا، يقول أحدهم: ما ضحكت منذ أربعين سنة. لكن الإمام الأعظم، والقائد الأكمل يضحك في مواطن من حياته. وضحكه ، له مقاصد، ضحك نافع، يربى بالبسمة، ويدرّس بالضحك، ويعلم بالمزحة. فتعالوا ننظر إلى أحاديثه عليه الصلاة والسلام وهو يضحك:
روى أحمد في المسند بسند صحيح، والبيهقي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام، ركب حماراً له يدعى يعفور، رسنُه من ليف، ثم قال: ((اركب يا معاذ))، فقلت: سر يا رسول الله، فقال: ((اركب، فردفته)). من هو الراكب؟، إنه محمد الذي أخرج البشرية من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، يركب الحمار، ويردف خلفه تلميذاً نجيباً من تلامذته. قال معاذ: فردفته، فصرع الحمار بنا. سقط الحمار، وسقط النبي ، وسقط معاذ - فماذا فعل النبي ؟. قال معاذ: (فقام النبي يضحك، وقمت أذكر من نفسي أسفاً.) قام يضحك.. رسالته مليئة بالبسمة، والبشرى، والرحمة لكل إنسان، يفيض على محبيه بشاشة، ويقربهم من السعادة بكل صورها، يقول جرير بن عبد الله: والله ما رآني رسول الله إلا تبسم في وجهي. قال معاذ: فقام النبي يضحك، وقمت أذكر من نفسي أسفاً فعل ذلك الثانية، والثالثة، فركب، وسار بنا الحمار، فأخلف يده، فضرب ظهري بسوط معه أو عصا ثم قال: ((يا معاذ، هل تدري ما حق الله على العباد؟)) فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد؛ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، قال: ثم سار ما شاء الله، ثم أخلف يده، فضرب ظهري، فقال: ((يا معاذ، يا ابن أم معاذ، هل تدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؛ أن يدخلهم الجنة))[اخرحه احمد وروى بعضه البخاري ومسلم].
روى الترمذي، وأبو داود، بأسانيد صحيحة، عن علي بن ربيعة قال: شهدت علياً، وأتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: ((بسم الله))، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال: (سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ).[الزخرف:13-14]. ثم قال: الحمد ثلاث مرات، ثم قال: الله أكبر ثلاث مرات، ثم قال: سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل يا أمير المؤمنين من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت النبي فعل كما فعلت ثم ضحك، فقلت: يا رسول الله، من أي شيء ضحكت؟ قال: ((إن ربك يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلمُ أنه لا يغفر الذنوب غيري))[ابو داوود والترمذي ، وقال : حسن صحيح].(/9)
فالرسول يضحك لأن هذه الأمة تعرف ربها، وتتوجه إليه بالدعاء ليغفر ذنوبها، فيضحك النبي رحمةً لهذه الأمة، وفرحاً لأن الله – عز وجل – يغفر الذنوب لكل من استغفر وتاب. ضحك حتى بدت نواجذه ويضحك، أيضاً كما في صحيح مسلم، فقد روى أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام،" أن آخر أهل الجنة دخولاً الجنة رجل مقبل بوجهه إلى النار، فيقول: أي رب، اصرف وجهي عن النار، فإنه قد قشبني ريحها[آذاني] وأحرقني ذكاؤها [لهبها] فيدعوا الله ما شاء الله أن يدعوه، ثم يقول الله تبارك وتعالى: هل عسيت إن فعلت ذلك أن تسأل غيره؟، فيقول لا أسألك غيره، ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء الله، فيصرف الله وجه عن النار، فإذا أقبل على الجنة ورآها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، قدمني إلى باب الجنة، فيقول الله له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك، لا تسألني غير الذي أعطيتك؟، ويلك: ابن آدم ما أغدرك! فيقول: أي رب، ويدعو الله حتى يقول له: فهل عسيت أن أعطيك ذلك أن تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزتك، يعطي ربه ما شاء الله من عهود ومواثيق، فيقدمه إلى باب الجنة، فإذا قام على باب الجنة، انفهقت [انفتحت] له الجنة، فرأى ما فيها من الخير والسرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، أدخلني الجنة فيقول الله تبارك وتعالى له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت؟، ويلك يا ابن آدم، ما أغدرك! فيقول: أي رب، لا أكون أشقى خلقك، فلا يزال يدعو الله، حتى يضحك الله تبارك وتعالى منه فإذا ضحك الله منه، قال: أدخل الجنة، فإذا دخلها، قال الله له: تمنّه، فيسأل ربه ويتمنى حتى إن الله ليذكّره من كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني، قال الله تعالى: ذلك لك ومثله معه ". قال أبو سعيد: أشهد أني حفظت من رسول الله، قوله: ذلك لك وعشرة أمثاله. قال ابن مسعود: لقد رأيت رسول الله ، ضحك حتى بدت نواجذه[البخاري ومسلم]. هذه عقيدة ربانية ينبغي الإيمان بها، يضحك الربا تبارك وتعالى، وإذا ضحك، أذن لهذا العبد في دخول الجنة، وأعطاه مثل أعظم ملك من ملوك الدنيا، وعشرة أمثاله، وهذا أدنى أهل الجنة منزلة، فما بالك بأعلاهم منزلة!. وإنما ضحك الرسول من طمع العبد، ومن نقضه لميثاقه مع ربه، ومن رحمة أرحم الراحمين. ضحك متعجبا ويضحك الرسول أيضاً يأتيه حبر من أحبار يهود فيقول له: يا أبا القاسم إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر والثرى على إصبع،والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك، فضحك رسول الله تعجباً مما قال الحبر، تصديقاً له، ثم قرأ: (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عمار يشركون) [الزمر:67] [البخاري ومسلم] وإنما ضحك عليه الصلاة والسلام لأمور: منها: أن القرآن صدق ما قاله هذا الحبر من أمور القيامة. ومنها: أن اليهود يعلمون صدق النبي وصدق ما أخبر به، ثم يكذبون على الله، ويكذبون رسوله . ومنها: التعجب من قدرة الباري تبارك وتعالى. ومنها: أن العبد مهما بلغت عبوديته لله تعالى، فإنه لا يستطيع أن يوفي الله – عز وجل – حقه، وغير ذلك من المعاني. يضحك فرحا بانتشار الإسلام(/10)
يذهب النبي فيدخل على أم حرام بنت مِلحان[اتفق العلماء على انها كانت من محارمه]، فتطعمه، فدخل عليها رسول الله ، يوماً فأطعمته، ثم جلست تفلي رأسه، فنام رسول الله ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ((ناس من أمتي، عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج[وسط] البحر، ملوكاً على الأسِرّة، أو مثل الملوك على الأسرة)) – يشك الراوي. يضحك النبي من ذلك لأنه رأى البشرى، رأى تلامذته وأتباعه وكتيبته، سيركبون البحار والمحيطات؛ غزاة في سبيل الله، ينشرون لا إله إلا الله في الآفاق، ويعبرون بها حدود الزمان والمكان. يضحك لأن الإسلام سوف ينتشر ويظهر، وينفذ إلى القفار والصحاري، ويصل إلى عباد البقر والشجر والنار والطوطم والصنم. فقالت المرأة: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك قالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ((ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله))، كما قال في الأولى قالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: ((أنت من الأولين)). فركبت أم حرام بن ملحان البحر في فتح قبرص، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت[البخاري ومسلم]. ماتت هذه المرأة الصالحة، وهي تجاهد في سبيل الله، فكانت شهيدة، ودفنت هناك في أرض غريبة. يضحك ممازحا ومواسيا أبا هريرة ففي هذا السياق، وفي هذا الباب، معنا حديث صحيح متصل، أخرجه الإمام البخاري، في باب: كيف كان عيش النبي وأصحابه، وتخليهم من الدنيا، من كتاب الرقاق، ذكر مجاهد أن أبا هريرة كان يقول: آلله الذي لا إله إلا هو، إن كنتُ لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ ولم يفعل. ثم مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مرّ بي أبو القاسم فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي، وما في وجهي. عرف النبي أنه يحمل سراً من الأسرار، عرف أن له حاجة، فتهلل في وجهه متبسماً. تراه إذا ما جئته متهلّلاً كأنك تُعطيه الذي أنت سائله!! فقال: يا أبا هرّ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق، ومضى، فتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبناً في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلانٌ أو فلانة، قال: أبا هرّ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: - أي أبو هريرة – وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل، ولا مالٍ ولا على أحدٍ، إذا أتته صدقة، بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتت هدية، أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة، أتقوى به، ولم يكن من طاعة الله، وطاعة رسوله بدٌ، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا، فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هرّ، قلت: لبيك يا رسول الله قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل، فيشرب حتى يروي، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح، فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسم، فقال: أبا هرّ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب، فشربت، فما زال يقول: اشرب، حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكاً، قال: فأرني، فأعطيته القدح، فحمد الله، وسمى، وشرب الفضلة.
فالنبي كان يتبسم، لأنه يعلم ما يدور في نفس أبي هريرة، لقد تعرض لأبي بكر وعمر، من أجل أن يشبع فما شبع، ثم تعرض للرسول فأدخله البيت، ورأى اللبن وقلّته، ثم هو يأمره بأن ينادي أهل الصفة، فتتداعى كل هذه المعاني، أمام عينيه ، فيتبسم. ولكنه يريد أن يعلم أبا هريرة، ويعلم الأمة من ورائه مبدأ الإيثار، وتفقد الآخرين، والسؤال عن المساكين، فكان ضحكه ومداعبته، سلوى للمحرومين، وتسلية للمظلومين، وتصبيراً للمعدمين. إن قوماً عاشوا معه، رأوا ابتسامته، وتحيته، ويسره، وسهولته، فتمنوا أن يفقدوا الآباء والأمهات والأبناء والأنفس، ولا يشاك هو بشوكة. إن جيلاً رباه المصطفى على هذه المعالم، وهذه التعاليم، لجديرٌ بأن يفتح المعمورة، وتدين له الدنيا كلها. وإذا قارنا بين هذه الصور المشرقة، وبين صور طغاة الأرض، فترى الواحد منهم عليه من الكبر والجبروت والظلمة، ما يجعله بغيضاً إلى النفوس. لقد رأينا ورأيتم كثيراً من هؤلاء الطغاة ، وقد قيل عنهم: إنه ما رؤى أحدهم متبسماً أبداً، فهؤلاء نحاكمهم إلى المعصوم، ، وهو يضحك، ونأتي بهم ونوقفهم أمام التاريخ، تاريخ محمد ، ونسألهم أن يتقوا الله – عز وجل – في أنفسهم، وفي رعاياهم، فمحمد يضحك.
مزاحه ومداعبته صلى الله عليه وسلم :(/11)
المزاح والمداعبة شئ محبب إلى النفوس ، فهو يبعث على النشاط والإقبال على الأعمال بجد وطاقة ، ولا حرج فيه ما دام منضبطا بضوابط الشرع ، ولا يترتب عليه ضرر ، بل هو مطلوب ومرغوب ، وذلك لأن النفس يعتريها السآمة والملل ، فلا بد من فترات راحة ، وليس أدل على أهمية المزاح والحاجة إليه ، مما كان عليه سيد الخلق وخاتم الرسل ، فقد كان صلى الله عليه وسلم ، يمازح أصحابه ، ويداعب أهله ، وكان يعتني بصغار السن ويجعل لهم جزءاً من وقته ، ويعاملهم بما يطيقون ويفهمون. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : يا ذا الأذنين) رواه أبو داود و الترمذي وصححه الألباني. وأتى رجلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله احملني قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنا حاملوك على ولد ناقة ، قال : وما أصنع بولد الناقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وهل تلد الإبل إلا النوق) . رواه أحمد و أبو داود وصححه الألباني. وعن أنس قال : (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا ، وكان لي أخ يقال له أبو عمير ، وكان إذا جاء قال : يا أبا عمير ما فعل النغير ) رواه البخاري و مسلم . والنغير هو طائر صغير كان يلعب به. وطعن صلى الله عليه وسلم مرة أحد أصحابه بقضيب في يده مداعبة له ، فعن أسيد بن حضير قال : (بينما هو - يعني أسيد - يحدث القوم ، وكان فيه مزاح ، يضحكهم ، فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود ، فقال : أصبرني - أي اجعلني اقتص منك - ، فقال : اصطبر ، قال : إن عليك قميصا ، وليس علي قميص ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه ، فاحتضنه ، وجعل يقبل كشحه - ما بين الخاصرة والضلع - ، قال إنما أردت هذا يا رسول الله) رواه أبو داود ، وصححه الألباني. وكان يبتسم صلى الله عليه وسلم في وجوه أصحابه ، ويسمعهم الكلام الطيب ، ويتقبل شكواهم بصدر رحب وأدب جم ، فعن جرير رضي الله عنه ، قال : (ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ، ولا رآني إلا تبسم في وجهي ، ولقد شكوت إليه إني لا أثبت على الخيل ، فضرب بيده في صدري وقال اللهم ثبته ، واجعله هاديا مهديا) . رواه البخاري. وكان صلى الله عليه وسلم يمزح مع أقاربه ، فيأتي علياً ابن عمه وزوج ابنته ، وهو مضطجع في المسجد ، بعد أن سأل عنه فاطمة رضي الله عنها ، فقالت كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج ، فيقول له : (قم أبا التراب قم أبا التراب) . رواه البخاري و مسلم. أما مزاحه مع أهله ، ومداعبته لزوجاته ، وبناته ، فكان لهم نصيب وافر من خلقه العظيم في هذا الجانب المهم ، فكان يسابق عائشة رضي الله عنها ، ويقر لعبها مع صواحبها فعنها رضي الله عنها قالت : (كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي) . رواه البخاري .
أما بالنسبة للصغار ، واعتنائه صلى الله عليه وسلم بهم، ومداعبته لهم ، فيظهر واضحاً جلياً فيما ورد مع الحسن و الحسين رضي الله عنهما ، فعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال : (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء ، وهو حامل حسنا أو حسينا ، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه ، ثم كبر للصلاة فصلى ، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها ، قال أبي: فرفعت رأسي، وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ساجد ، فرجعت إلى سجودي ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس : يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر ، أو أنه يوحى إليك ، قال : كل ذلك لم يكن ، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته) . رواه أحمد و النسائي وصححه الألباني. ومن خلال ذلك يتبين مجال الفسحة في ديننا العظيم ، وأنه لا تعارض بين الجد والمرح أحياناً ، وكما أن في ديننا الإسلامي غذاء للقلوب والأرواح ، وتوجيهات لما يصلح الأجساد ، ففيه أيضاً ما يروح عن النفوس ، ويبعث فيها الفرح والسرور ، فالحمد لله على نعمة الإسلام.
زهده صلى الله عليه وسلم :(/12)
الزهد في حقيقته هو الإعراض عن الشيء ، ولا يطلق هذا الوصف إلا على من تيسر له أمر من الأمور فأعرض عنه وتركه زهدا فيه , وأما من لم يتيسر له ذلك فلا يقال إنه زهد فيه ، ولذلك قال كثير من السلف : إن عمر بن عبد العزيز كان أزهد من أويس رحمة على الله الجميع ، وقال مالك بن دينار عن نفسه : الناس يقولون مالك زاهد ، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز ، أي إنه هو الزاهد حقيقة فإن الدنيا كانت بين يديه فلم يلتفت إليها. وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا , وأقلهم رغبة فيها ، مكتفياً منها بالبلاغ ، راضياً فيها بحياة الشظف ، ممتثلاً قول ربه عز وجل : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} (طه 131) ، مع أن الدنيا كانت بين يديه ، ومع أنه أكرم الخلق على الله ، ولو شاء لأجرى الله له الجبال ذهباً وفضة .
وقد ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره عن خيثمة أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبياً قبلك , ولا نعطي أحداً من بعدك ، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله , فقال : اجمعوها لي في الاخرة ، فأنزل الله عز وجل في ذلك : {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا } (الفرقان 10) ، وخُيِّر صلى الله عليه وسلم بين أن يكون ملِكاً نبياً أو عبداً رسولاً ، فاختار أن يكون عبداً رسولاً. وأما حياته صلى الله عليه وسلم ومعيشته فعجب من العجب ، يقول أبو ذر رضي الله عنه :كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة ، فاستقبلَنا أحدٌ ، فقال : ( يا أبا ذر : قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا ، تمضي علي ثالثة وعندي منه دينار ، إلا شيئاً أرصده لدين ، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه ، ثم مشى فقال : إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه وقليل ما هم ) . رواه البخاري ، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم : (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا - وفي رواية - كفافا ) ، ودخل عليه عمر رضي الله عنه يوماً ، فإذا هو مضطجع على رمالٍِ وحصيٍر ليس بينه وبينه فراش ، وقد أثر في جنبه ، قال عمر : فرفعت بصري في بيته ، فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر ، فقلت : ادع الله فليوسع على أمتك ، فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله ، فقال : ( أوَفي شك أنت يا ابن الخطاب ، أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا) ، وكان يقول : (ما لي وللدنيا ، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ، ثم راح وتركها ) ، وكان فراشه صلى الله عليه وسلم من الجلد وحشوه من الليف. وأما طعامه فقد كان يمر عليه الهلال ثم الهلال ثم الهلال ، ثلاثة أهلة ، وما توقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار ، وإنما هما الأسودان التمر والماء ، وربما ظل يومه يلتوي من شدة الجوع وما يجد من الدَّقل - وهو رديء التمر - ما يملأ به بطنه ، وما شبع صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى قبض ، ولم يأكل صلى الله عليه وسلم على خِوان - وهو ما يوضع عليه الطعام - حتى مات. ولم يترك صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها صدقة ، قالت عائشة رضي الله عنها :" توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في رفِّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفٍّ لي ، فأكلتُ منه حتى طال عليَّ ". إن ما ذكرناه في هذه العجالة هو شيء يسير من أخبار إمام الزاهدين وسيد العابدين صلى الله عليه وسلم، وغيرها كثير لم يذكر، وستظل هذه الأخبار شواهد صدق على نبوته وزهده وإيثاره ما عند الله عز وجل, وإن فيها دعوة للأمة وللأجيال المؤمنة إلى الزهد في الدنيا والحذر من فتنتها، فلو كانت الدنيا دليل محبة الله لصاحبها، لفاز بها خير الخلق وأكرمهم على الله, فصلوات الله وسلامه على خاتم النبيين وإمام المتقين .
عدل النبي صلى الله عليه وسلم :
العدل خلق كريم وصفة عظيمة جليلة ، محببة إلى النفوس ، تبعث الأمل لدى المظلومين ، ويحسب لها الظالمون ألف حساب ، فالعدل يعيد الأمور إلى نصابها ، وبه تؤدى الحقوق لأصحابها ، به يسعد الناس ، وتستقيم الحياة ، ما وجد العدل في قوم إلا سعدوا ، وما فقد عند آخرين إلا شقوا
العدل خلق العظماء ، وصفة الأتقياء ، ودأب الصالحين ، وطريق الفلاح للمؤمنين في الدنيا ويوم الدين .(/13)
تحلى به الأنبياء والصالحون والقادة والمربون ، وكان أعظمهم في ذلك ،وأكثرهم قدراً ونصيباً سيد العالمين ، وخاتم الرسل أجمعين ، محمد بن عبدالله عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم. فالعدل خلق من أخلاقه ، ضمن شمائله العظيمة ، وصفاته الجليلة ، عدل في تعامله مع ربه جل وعلا ، وعدل في تعامله مع نفسه ، وعدل في تعامله مع الآخرين ، من قريب أوبعيد ، ومن صاحب أو صديق ، ومن موافق أو مخالف ، حتى العدو المكابر، له نصيب من عدله صلى الله عليه وسلم ، وكيف لا يعدل من خوطب بقول واضح مبين، {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (المائدة:8) ، فكان يمتثل أمر الله عز وجل في كل شأن من شؤونه ، مع أصحابه وأعدائه ، آخذاً بالعدل مع الجميع. يعترض عليه القوم ويخطئ في حقه أناس ، فلا يتخلى عن العدل ، بل يعفو ويصفح ، كما في حادثة يرويها أبو سعيد الخدري قال: بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر، الأقرع بن حابس الحنظلي، و عيينة بن بدر الفزاري، و علقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، و زيد الخير الطائي، ثم أحد بني نبهان، فغضبت قريش، فقالوا : أتعطي صناديد نجد وتدعنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم ، فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس ، فقال اتق الله يا محمد ، قال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فمن يطع الله إن عصيته، أيأمنني على أهل الأرض ، ولا تأمنوني ) رواه البخاري و مسلم. ويظهر هذا الخلق العظيم منه صلى الله عليه وسلم في أبهى صورة ، عندما يطلب ممن ظن أنه أخطأ في حقه ، أن يستوفي حقه ، بالقود منه ، فعن أبي سعيد الخدري قال (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم شيئا ، أقبل رجل فأكب عليه ، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه ، فخرج الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تعال فاستقد ، قال : بل قد عفوت يا رسول الله) رواه النسائي . والعدل ملازم للرسول صلى الله عليه وسلم في حله وترحاله ، فهو يكره التميز على أصحابه ، بل يحب العدل والمساواة ، وتحمل المشاق والمتاعب مثلهم ، فعن عبد الله بن مسعود قال (كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، وكان أبو لبابة و علي بن أبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: وكانت عقبة -دور- رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالا : نحن نمشي عنك، فقال : ما أنتما بأقوى مني ، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما) رواه أحمد في مسنده.(/14)
ولم ينشغل صلى الله عليه وسلم بالدولة وقيادتها ، والغزوات وكثرتها ، عن ممارسة العدل في نطاق الأسرة الكريمة ، وبين زوجاته أمهات المؤمنين ، فقد (كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) رواه الترمذي وفيه ضعف ، ومعنى قوله لا تلمني فيما تملك ولا أملك، أي الحب والمودة القلبية ، كما قال أهل العلم. وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها) رواه البخاري و مسلم. فعن أنس قال ( أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم طعاما في قصعة ، فضربت عائشة القصعة بيدها، فألقت ما فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : طعام بطعام ، وإناء بإناء) رواه الترمذي وحسنه ، والحديث في البخاري بلفظ آخر. وفي قضائه بين المتخاصمين كان عادلاً صلى الله عليه وسلم ، بعيداً عن الحيف والظلم ، فعن حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته (فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل) رواه أحمد. وكان صلى الله عليه وسلم لا يرضى تعطيل حدود الله ، التي شرعها سبحانه لإقامة العدل بين الناس ، ولو كان الجاني من أقربائه وأحبابه ، ففي حادثة المرأة المخزومية التي سرقت لم يقبل شفاعة أسامة ، وقال مقالته المشهورة : ( أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) رواه البخاري و مسلم. وكان صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالعدل في الأمور ، وعدم تغليب جانب على حساب آخر ، وإنما الموازنة وإعطاء كل ذي حق حقه ، فقال : (يا عبد الله بن عمرو بلغني أنك تصوم النهار ، وتقوم الليل فلا تفعل ، فإن لجسدك عليك حظا ، ولعينك عليك حظا ، وإن لزوجك عليك حظا) رواه مسلم. وبهذا الخلق العظيم ، والأدب الرفيع ، استطاع صلى الله عليه وسلم ، أن يلفت الأنظار نحوه ، ويحرك المشاعر والأحاسيس إلى مبادئه العظيمة ، ويرسم منهاجاً فريداً لخير أمة أخرجت للناس ، تحمل العدل إلى الناس أجمعين ، وتبدد به ظلمات القهر والظلم . ... ... ... ...(/15)
الشمائل النبوية آثارٌ وأخبارٌ د. محمد عمر دولة*
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسولِ الله الأمين، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، وبعد، فليست الشمائلُ النبوية مجردَ قصصٍ وأخبار، وإنما نفحاتٌ وآثارٌ، وما زال دأبُ الصالحين تتبُّع آثار النبي صلى الله عليه وسلم العِلمية والعَمَلية.
وقد أخرجَ البخاري رحمه الله في كتاب الحج (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: العقيقُ وادٍ مُبارَك) عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم: (قد أناخ بنا سالم يتوخَّى بالمُناخِ الذي كان عبد الله يُنِيخُ يتحرَّى مُعَرَّسَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي).
ذَكرَ العقيقَ فهاجَه تَذكارُهُ ** صَبٌّ عن الأحبابِ شَطَّ مزارُهُ
وهَفَت إلى سَلعٍ نوازعُ قلبِهِ ** فتَضَرَّمَت بين الجوانِحِ نارُهُ
لولا هواهُ لَما ثَنت أعطافَهُ ** بانُ الْحِجازِ ورَنْدُهُ وعَرارُهُ!
ورَحِم الله المحبَّ الطبري ما أحسنَ قولَه في (القِرى لقاصِدِ أُمِّ القرى): "ينبغي لِمَن قَصَدَ آثارَ النُّبوَّةِ أن يَعُمَّ بِصَلاتِهِ الأماكنَ التي هي مَظِنَّةُ صَلاتِهِ صلى الله عليه وسلم فيها؛ رجاءَ أن يَظْفَرَ بِمُصَلَّى النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلم مِن كلِّ مكانٍ:
خليليَّ هذا رَبعُ عَزةَ فاعْقِلا ** قَلُوصَيْكُما ثم انزِلا حيثُ حَلَّتِ
ومُسَّا تراباً طيِّباً مَسَّ ذيلَها ** وبيْتاً وظِلاً حيثُ باتَتْ وظَلَّتِ
ولا تيْأسا أن يعفوَ الله عنْكما** إذا أنتُما صلَّيْتُما حيثُ صَلَّتِ"[1]
فهذه الأرضُ قد وَطئتها أقدامُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفاحَت في أرجائها أنفاسُه الطاهرة, وسار في جَنباتِها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين.
وأستشرفُ الأعلامَ حتى يدلَّنِي ** على طِيبِها مَرُّ الرِّياحِ النَواسِمِ
وما أنسمُ الأرواحَ إلا لأنَّها** تَمُرُّ على تلك الرُّبَى والمعالِمِ!
ورَحِم الله ابنَ دقيق العيد حيث قال:
يا سائراً نحوَ الحجاز مُشمِّراً ** اجْهَدْ فَدَيْتُك فِي الْمَسِير وَفِي السُّرى
إنْ كَلَّتِ النُّجبُ الركائبُ تارةً ** فأعِدْ لَهَا ذِكْرَ الحَبيبِ مُكَرَّرا
قِفْ بالمنازلِ والمَناهِلِ مِن لَدُنْ ** وادي قباءَ إِلَى حِمى أمِّ القُرَى
وتوَخَّ آثارَ النَّبي فَضَعْ بِهَا ** مُتَشرِّفاً خَدَّيكَ فِي عَفْر الثَّرَى
وَإذَا رَأيتَ مَهابِطَ الوحيِ الَّتِي ** نَشَرتْ عَلَى الآفاق نُوراً نَوَّرَا
فاعلَمْ بأنَّكَ مَا رَأيتَ شَبِيهَهَا ** مُذْ كُنتَ فِي ماضيَ الزَّمان ولا يُرى
شَرفاً لأمكنةٍ تَنَزَّلَ بَيْنَها ** جِبْريلُ عن ربِّ السماءِ مُخَبِّرا
فَتَأَثَّرَتْ عنهُ بأحسنِ بَهجةٍ ** أَفدِي الجَمالَ مُؤثَّراً ومُؤَثِّرا
فتردَّدَ الْمُختارُ بَيْنَ بَعِيدِهَا ** وقَرِيبِها مُتَبدِّياً مُتَحَضِّرَا
ولله درُّ ابنِ قدامة حيث قال رحمه الله: "أما المدينة الشريفة، فإذا لاحتْ إليك فتذكَّرْ أنها البلدةُ التي اختارها الله لنبيِّهِ محمد صلى الله عليه وسلم وشرع إليها هجرته وجعل فيها تُربتَه، ثم مثِّلْ في نفسِك مواضعَ أقدامِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عند تردُّدِهِ فيها وتصوَّرْ خشوعَه وسكينتَه؛ فإذا قصدتَ زيارةَ القبرِ فأحْضِرْ قلبَك لتعظيمِهِ والهيبةِ له، ومثِّلْ صُورتَهُ الكريمة في خيالِك، واستحضِرْ عظيمَ مرتبتِهِ في قلبِك، ثم سَلِّمْ عليه، واعلمْ أنه عالِمٌ بحضورِك وتسليمِكَ كما وردَ في الحديث".[2]
ورَحِم الله ابنَ الصباغ حيث قال:
يا ربعَ دارٍ حلََّ فيها أحْمدُ ** والسادةُ الْخُلفاءُ والأبرارُ!
مَن لي بِخَدٍّ في ثَراك مُمَرَّغٍ ** ودُمُوعِ عَينٍ سَحُّها مِدْرارُ!
مَن لِي بِلَمحةِ نظرةٍ يُطفَى بها ** من لَفحِ مَلهُوبِ الجوانحِ نارُ!
من لِي بِمَوردِ عَذبِ ماءٍ بَرْدُه ** يُشفَى به صَبٌّ بَراه أُوارُ!
مَن لِي بأنْ أحظَى بزورةِ مَنْزلٍ ** لِلوَحيِ في جَنَباتِه آثارُ!
وقد كان علماءُ المسلمين وفُضلاؤهم يتحملون عَناءَ الأخطارِ ووَعثاءَ الأسفار، ولا يرغبون بأنفُسِهم عن زيارةِ النبي صلى الله عليه وسلم. كما نقلَ الحطاب عن المازري رحمهما الله: "لقد عُمِلَ مجلسُ شيخِنا أبي الحسن اللَّخْمي بصفاقص[3] وحولَه جمعٌ من أهل العلم مِن تلامذتِه وهم يتكلَّمون على هذه المسألة فأكثروا القول والتنازع فيها: فمن قائلٍ بالإسقاطِ ومِن مُتوقِّفٍ صامتٍ، والشيخُ رحمه الله لا يتكلَّمُ، وكان معنا في المجلسِ الشيخ أبو الطيِّب الواعظ، وكُنا ما أبصَرْناه. فأدخلَ رأسَه في الحلقة، وخاطبَ الشيخَ اللَّخمي، وقال: يا مولاي الشيخ
إنْ كان سَفكُ دمي أقصَى مُرادِهم ** فما غَلَتْ نظرةٌ منهم بِسَفكِ دمي!
فاستَحسنَ اللَّخمي هذه الإشارة".[4](/1)
وما ألطفَ ما رواه ابنُ كثير رحمه الله أنَّ وفداً من العراقيِّين حَجُّوا سنةَ أربعٍ وتسعين وثلاثمائة وكانوا يخافون قُطَّاعَ الطريق، ومعهما قارئان من أحسنِ الناس صَوتاً، "وقد كان أميرُ العراقِ عَزمَ على العَودِ سريعاً إلى بغداد على طريقِهم التي جاؤوا منها، وأنٍ لا يسيروا إلى المدينة النبويَّة؛ خوفاً من الأعراب... فشقَّ ذلك على الناس، فوقفَ هذان الرجلان القارئان على جادَّة الطريقِ التي منها يُعدَلُ إلى المدينة النبويَّة، وقرءا: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الآيات (التوبة 120). فضجَّ الناسُ بالبكاء، وأمالت النوقُ أعناقها نحوهما؛ فمال الناسُ بأجمعهم والأمير إلى المدينة النبويّة، فزاروا وعادوا سالمين إلى بلادهم".[5]
أَحبابَنا هَل لِذاك العَهدِ تَذكارُ ** يُدنِي إلَيكُم إِذا لَم تُدْنِنا الدارُ؟
بِنتُم فَلَم يُغْنِنا مِن أُنْسِكُم سَكَنٌ ** يَوماً وَلا راقَنا مِن بَعْدِكُم جارُ!
تَجري الْمُنَى سانِحاتٍ في خَواطِرِنا** وَما لَها غَيرُ جَمعِ الشََّملِ أَوطارُ
قَد قَطَّع البُعدُ نَجوانا وَما بَرِحَتْ ** في القَلبِ مِنكُم أَحاديثٌ وَأَسرارُ
نَبيتُ في الرَّبعِ نَستَسْقي الغَمامَ لَكُم ** وَقَد سَقَتْ رَبعَكم لِلدََّمعِ أَمطارُ
حَقٌّ عَلَينا وَإِن غِبتُم زَيارتُهُ ** فَهَلْ نَراكُمْ وَأَنتُم فيهِ زُوَّارُ؟
أَمَّا الكَرى فَسَلُوا عَنهُ الخَيالَ إِذا ** وارَتْهُ مِن ظُلُماتِ اللََّيلِ أَستارُ
يَطوفُ مِن حَولِنا حَتى يَعود وَقَد ** أَصابَهُ مِن رَشاشِ الدَمعِ آثارُ!
وليت شعري من لا يَحِنُّ إلى زيارةِ طَيْبة الطيِّبة؛ فإنَّ ذلك من علاماتِ حُبِّ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كما قال القاضي عياض رحمه الله: "ومن إعظامه وإكبارِه إعظامُ جميعِ أسبابِه، وإكرامُ مَشاهِدِه وأَمْكِنَتِه مِن مكَّة والمدينة ومَعاهدِه وما لَمِسَه صلى الله عليه وسلم أو عُرف به... وحُدِّثتُ أن أبا الفضل الفضل الجوهري لما ورد المدية زائراً وقرب من بيوتِها ترجَّلَ ومشى باكياً مُنشِداً:
ولَمَّا رأينا رَسْمَ مَن لَم يَدَعْ لنا** فُؤاداً لِعِرْفانِ الرُّسُومِ ولا لُباًّ!
نزَلْنا عن الأكْوارِ نَمشِي كرامةً** لِمَن بانَ عنه أن نُلِمَّ بِهِ رَكْبا!
... وجَدِيرٌ لِمَواطِنَ عُمِّرَتْ بالوَحيِ والتنْزِيل، وتردَّد بها جبريلُ وميكائيل، وعرَجتْ منها الملائكةُ والرُّوح، وضَجَّت عَرَصاتُها بالتقديسِ والتسبيح، واشتمَلَتْ تُرْبَتُها على جَسَدِ سيِّدِ البشر، وانتَشرَ عنها مِن دينِ الله وسُنَّةِ رسولِه ما انتشَر! مدارِسُ آيات، ومساجِدُ وصَلَوات، ومَشاهِدُ الفضائلِ والخيرات، ومَعاهِدُ البراهينِ والمعجِزات، ومَناسِكُ الدِّين، ومَشاعِرُ المسلمين، ومواقفُ سيِّدِ المرسَلِين، ومُتبوَّأ خاتَمِ النبيِّين! حيثُ انفَجرَت النُّبوَّة، وأين فاضَ عُبابُها، ومَواطِنُ مَهبطِ الرسالة، وأولُ أرضٍ مسَّ جلدَ المصطفى ترابُها: أن تُعظَّم عرصاتها، وتُتنَسَّم نفحاتُها، وتُقبَّلَ رُبُوعُها وجُدُرانُها:
يا دارَ خَيرِ المرسَلِين ومَن به ** هُدِيَ الأنامُ وخُصَّ بالآياتِ
عندي لأجلِك لَوْعةٌ وصَبابةٌ ** وتَشَوُّقٌ مُتوَقِّدُ الجمَراتِ!
وعَلَيَّ عَهْدٌ إنْ مَلأتُ مَحاجِرِي** مِن تِلكُمُ الْجُدُرانِ والعَرَصاتِ!
لأُعَفِّرَنَّ مَصُونَ شَيْبِي بينَها ** مِن كَثرةِ التقبِيلِ والرَّشَفاتِ!
لولا العَوادي والأعادي زُرتُها** أبداً ولو سَحْباً على الوَجَناتِ!
لَكِِنْ سأُهْدِي من حَفِيلِ تحيَّتِي ** لِقَطِينِ تلك الدارِ والْحُجُراتِ
أزْكَى من الْمِسْكِ المفتَّقِ نفحةً** تغشاهُ بالآصالِ والبُكُراتِ"[6]
ولا يخفى أنَّ الشمائلَ ليست قاصِرةً على الحنينِ والأشواق والآثارِ والأخبار، بل تشملُ الإتِّباعَ واكتساب الأخلاق، كما قال الله عزَّ وجلَّ: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (آل عمران 31).. والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آلِه وصحبِه ومَن والاه.
---------------------------
[1] القرى لقاصد أم القرى ص 350.
[2] مختصر منهاج القاصدين ص50.
[3] مدينة من مدن تونس، يُنسَب إليها علي النوري الصفاقصي صاحب (غيث النفع في القراءات السبع).
[4] مواهب الجليل للحطاب 2/497-498. دار الفكر بيروت. ط2. 1398.(/2)
[5] البداية والنهاية لابن كثير 6/406. دار المعرفة بيروت. ط4- 1419هـ. وقد ذكرتُ هذه القصة في (الشمائل حنين وأشواق)، وكرَّرتها هنا في (الشمائل آثارٌ وأخبار)؛ لمناسبة القصة للمقالتين.
[6] الشفا ص260-262.(/3)
الشهداء بروج هادية طارق مصطفى حميدة*
تتحدث سورة البروج عن ظروف صعبة عاشها دعاة التوحيد، في مكة زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وأصحابه رضي الله عنهم، ومن قبلهم المؤمنون السابقون أصحاب قصة الأخدود.
وتحكي عن حالة ظلمة حالكة في ليل بهيم، لا يكاد الواحد يرى موضع قدمه، وتصف كيف اشتد الأذى بالمسلمين حتى نشروا بالمناشير، وحرّقوا في الأخاديد.
وحيث يعم الظلم والظلام، ويلف النفوسَ المؤمنة والمستضعفة مشاعرالحزن والكآبة، حزناً على الذين دفنوا تحت التراب من حملة مشاعل الإيمان، وخوفاً على النفس، وقلقاً على مصير دين الله، مما يلاقيه أتباعه على أيدي أعدائه.
عند ذلك كله يقسم الله تعالى بالسماء ذات البروج، مطمئناً المؤمنين أن دين الله في سماء عالية ذات بروج حصينة، وأن الكفرة من أعداء الدين، ليسوا أكثر من أقزام ينفخون على الشمس ليطفئوها، أو يصعدون "السلالم" لينزلوها. ولهذا يأتي ختام السورة مطمئناً المؤمنين أن هذا القرآن في مأمن، من أن تصل إليه أي يد بإحراق أو إلغاء أو إنقاص، فإنه (قرآن مجيد في لوح محفوظ).
وتبرز هذه السورة عظمة الجريمة بتحريق المؤمنين، وتكشف عن سببها "وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد" . فالكفار لغبائهم يتحرشون بالذين آمنوا بالله (العزيز) الذي تأبى عزته أن يترك عباده لأعدائه، وإن كان يمهلهم أن يتوبوا حتى بعد أن فتنوا المؤمنين والمؤمنات... فيبشر المؤمنين بجنته، وينذر الكفار ناره وبطشته.
ولعل في لفت الأنظار إلى السماء ذات البروج في جو الظلام البهيم، ما يرقى بأبصار المؤمنين إلى السماء لترى البروج الجميلة، فتزول عنها مشاعر الكآبة والحزن والانكسار، كيف لا وقد قال رب العزة "ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين" إن هذه البروج زينة وبهجة للنفوس، وسعادة للقلوب وشرح للصدور، ولكن شريطة أن تجد لها جماعة من الناظرين. فتنشط نفوسهم من جديد لعمل الخير والقيام بأمر الدين.
ويبدو أن هنالك تشبيهاً للشهداء بالبروج، وكأن الآيات تقول للمؤمنين لا تظنوا أن هؤلاء قد غيبهم الثرى وطوتهم القبور، بل هم نجوم وبروج مضيئة ومُثُل عُليا، تستدعي منكم أن تشخصوا بأبصاركم إلى عليائهم، وتتابعوا مسيرهم. وهو ما رأيناه في قصة أصحاب الأخدود الواردة في الحديث حيث كان استشهاد حملة الدين دافعاً إلى الإيمان الجماعي.(/1)
الشهر المحرم
أولاً: تعريف وبيان.
ثانياً: ما ورد في صيامه.
ثالثاً: مسألة: لماذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يكثر الصوم في المحرم مع ما ذكر فيه من الفضل؟!
أولاً: تعريف وبيان:
المحرم أو شهر المحرم هو أول شهور العام، سمِّي بذلك لأن العرب في الجاهلية كانوا يحرِّمون فيه القتال، ويجمع على محرمات ومحارم ومحاريم[1].
وكانت العرب في جاهليتها مع ما كونوا عليه من الضلال والكفر يعظمونه مع باقي الأشهر الحرم، ويحرِّمون القتال فيها، حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يهيجه، إلى أن حدث فيهم النسيء، فكانوا يؤخرون حرمة شهر إلى شهر آخر ليستبيحوا القتال في الأشهر الحرم.
ويضاف إلى الله تعالى فيقال: شهر الله المحرم.
فإن قيل: ما الحكمة في إضافته إلى الله تعالى مع أن الشهور كلها لله؟! فيقال: يحتمل أنه لما كان من الأشهر الحرم التي حرم الله فيها القتال وكان أول شهور السنة أضيف إليه إضافة تخصيص، ولم يصحّ إضافة شهر من الشهور إلى الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا شهر الله المحرم[2].
وقيل: أضيف إلى الله تعالى إعظاماً له[3].
وكانت العرب العاربة تسميه المؤتمِر أخذاً من أمِرَ القوم إذا كثروا، بمعنى أنهم يحرِّمون فيه القتال فيكثرون، وقيل: أخذاً من الائتمار بمعنى أنه يؤمر فيه بترك الحرب، ويجمع على مؤتمرات ومآمر ومآمير[4].
[1] انظر: صبح الأعشى (2/401)، ولسان العرب (2/845) مادة (حرم).
[2] انظره من كلام أبي الفضل العراقي كما في حاشية السيوطي على سنن النسائي (3/206).
[3] انظر: لسان العرب (2/845) مادة (حرم).
[4] انظر: صبح الأعشي (2/405).
ثانياً: ما ورد في صيام المحرم.
1 – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر اللّه المحرّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))[1].
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)) تصريح بأنه أفضل الشهور للصوم"[2].
وقال الشوكاني: "وفيه دليل على أنّ أفضل صيام التّطوّع صوم شهر المحرّم, ولا يعارضه حديث أنس عند التّرمذيّ قال: سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أيّ الصّوم أفضل بعد رمضان؟ قال: ((شعبان لتعظيم رمضان))[3]؛ لأنّ في إسناده صدقة بن موسى وليس بالقويّ"[4].
وحمله ابن رجب على أنّ صيامه أفضل في التّطوّع المطلق بالصّيام بدليل قوله عليه أفضل الصّلاة والسّلام: ((أفضل الصّلاة بعد المكتوبة جوف اللّيل))، قال: "ولا شكّ أنّ الرّواتب أفضل, فمراده بالأفضليّة في الصّلاة والصّوم التّطوّع المطلق, وقال: صوم شعبان أفضل من صوم المحرّم; لأنّه كالرّاتبة مع الفرائض. قال: فظهر أنّ فضل التّطوّع ما كان قريبا من رمضان, قبله أو بعده, وذلك ملتحق بصيام رمضان لقربه منه, وهو أظهر"[5].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "اختلف العلماء رحمهم الله أيهما أفضل: صوم شهر المحرم أم صوم شهر شعبان؟ فقال بعض العلماء: شهر شعبان أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه كله، أو إلا قليلا منه، ولم يحفظ عنه أنه كان يصوم شهر المحرم، لكنه حثَّ على صيامه بقوله: ((إنه أفضل الصيام بعد رمضان))، قالوا: ولأن صوم شعبان ينزَّل منزلة الراتبة قبل الفريضة، وصوم المحرم ينزل منزلة النفل المطلق، ومنزلة الراتبة أفضل من منزلة النفل المطلق، وعلى كل فهذان الشهران يسن صومهما"[6].
2- عن علي رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد فقال: يا رسول الله، أي الشهر تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان؟ فقال: ((إن كنت صائماً بعد شهر رمضان فصم المحرّم، فإنه شهر الله، فيه يوم تاب الله فيه على قوم ويتوب فيه على قوم آخرين))[7].
وبما تقدم يتبين مشروعية صيام شهر محرم واستحبابه، قال الشيخ ابن باز رحمه الله: "شهر محرم مشروع صيامه وشعبان كذلك، وأما عشر ذي الحجة فليس هناك دليل عليه، لكن لو صامها دون اعتقاد أنها خاصة، أو أن لها خصوصية معينة فلا بأس. أما شهر الله المحرم فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم))، فإذا صامه كله فهذا طيب، أو صام التاسع والعاشر والحادي عشر فذلك طيب، وهكذا شعبان فقد كان يصومه صلى الله عليه وسلم"[8].
[1] أخرجه مسلم في الصيام (1163).
[2] شرح صحيح مسلم (8/55).
[3] أخرجه الترمذي في الزكاة (663)، وقال: "هذا حديث غريب، وصدقة بن موسى ليس عندهم بذاك القوي".
[4] نيل الأوطار (4/241 ـ 242).
[5] لطائف المعارف.
[6] الشرح الممتع (6/469).
[7] أخرجه الدارمي (1756)، والترمذي (741) وقال: "حسن غريب"، وفي سنده النعمان بن سعد – الراوي عن علي – لم يرو عنه غير ابن أخته عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي، فهو مجهول، وعبد الرحمن هذا متفق على ضعفه. انظر: الميزان (4/265) والتهذيب (10/453)، ولذا ضعفه الألباني فأورده في ضعيف الترغيب والترهيب (614).(/1)
[8]مجموع فتاوى سماحة الشيخ في الزكاة والصيام، إعداد الطيار (ص 269).
ثالثاً: علة عدم إكثار صلى الله عليه وسلم الصوم في المحرم:
قال النووي: "قد سبق الجواب عن إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان دون المحرم, وذكرنا فيه جوابين:
أحدهما: لعله إنما علم فضله في آخر حياته.
والثاني: لعله كان يعرض فيه أعذار من سفر أو مرض أو غيرهما"[1].
ونقله الحافظ في الفتح ولم يتعقبه[2].
[1] شرح صحيح مسلم (8/55).
[2] فتح الباري (4/215).(/2)
الشهيد ... والفأس
شعر: داود معلا
نادى ترابك حين ضم iiالأعظما
هم بعدك الإعلام فانظر iiحولهم
هم كالصخور .. وكالجمار فما iiيد
قست الحياة على البريء iiفزادها
فأطل ملء الباب تقدح iiعينه
فرأى اليهود وقد تقدمهم iiفتى
وهوى عليه بفأسه iiفأطاحه
وهوت عليه من البنادق ii(صلبة)
أواه يا بلدي وحبك غيمة
ظمئت شفاه بنيك فاعتصرت iiدماً
أطفالنا يا قدس صار iiسلاحهم
زرعوا سواعدهم جذوراً في الثرى
لا يعرفون الليل إلا في السرى
ولدوا لآباءٍ أقل iiقليلهم
ولأمهات حافظات كلما
الله أكبر هذه صيحاتهم
أطفالنا ليسو ربائب سهرة
حتى إذ دار الشراب iiرأيتهم
أطفالنا يا قدس أصغرهم iiيداً
أطفالنا مثل السنابل iiروعة
أطفالنا كبروا وهذا iiيومهم
أمجاذبين الموت من iiأطرافه
سيروا فما الموت الذي iiتلقونه
من كانت الدنيا عصارة iiهمه
حتى إذا قضى إلى iiأوهامه ... لله بعدك .. قد تركت iiاليتما
كم ساعد صلى عليك iiوسلما
تمتد حتى تستحيل iiجهنما
صبراً وكان أشدها أن iiيظلما
شرراً .. وتغلي في مفاصله iiالدما
منهم يقول .. تقدموا .. فتقدما
عجلاً لو اسطاع الكلام iiتكلما
خرقت حشاشة قلبه iiفتبسما
حمراء تنثر في ثراك iiالأنجما
من ساعد يحمي الشفاه من iiالظما
دمهم .. فحق لأرضهم أن تسلما
وسقوا أصابعهم فصارت موسماً
والفجر ناراً والعوائق سلما
يلقى الكثير بصدره iiمترنماً
أرضعنهم لبسوا الشهادة iiمغنما
الله أكبر هذه ملء iiالسما
حمراء تخديراً ورقصاً مجرما
يتحركون كما تحركت iiالدمى
حمل الشهادة عالماً iiومعلماً
وتدفقاً ويداً ... وكفاً iiمحكما
أو يستطيع الدهر أن يتبرما
طلب الشهادة ما أعز iiوأكرما
إلا نعيم لا يزال iiمنعماً
فتحت له في الشر باباً iiمظلماً
مالت عليه فجرعته iiالعلقما(/1)
الشهيد المجهول
شعر: فؤاد الخطيب
يا جِيرةَ البانِ هل من يسأل البانا إن كان فيه صدىً من رَجْع شكوانا
فكم ابدَّلَت الأفنانُ مُصغيةً إليه، وانتفضَ النوّارُ يقظانا
والتفّتِ الوُرْقُ أسراباً مُصفقةً على الكثيب تبثُّ الوجدَ ألحانا
والريحُ تهمسُ في الآذان مُلهمةً والزهرُ ينصبُ للإلهام آذانا
تلك الملاعب أقوتْ وانطوتْ حججٌ أمستْ جَوّى وضحى برحاً وأشجانا
تسرَّبتْ في حنايا الصدر فانعقدتْ هماً تعجُّ به الأنفاسُ نيرانا
هي (الهمومُ) فسلْ عنها الخبيرَ بها إنّ (الهمومَ) تصبُّ الويل ألوانا
بالله لو فعلتْ في الجسم ما فعلت في النفس لم يَعرفِ الإنسانُ إنسانا
وأصبحَ الناسُ غيرَ الناسِ من صُوَرٍ شنعاء تمنحهم شِيباً وولدانا
حتى (الطبيعةُ) تلقاهم فتُنكرهم وإن رأتْ قبلهم جِنّاً وغِيلانا
فليتَّقِ اللهَ قومٌ بين أضلعهم غيظٌ تفجَّرَ أحقاداً وأضغانا
أهوتْ بهم لعنةُ الأجيال تقذفُهم في وجه إبليس صخّاباً ولعاناً
لم تنتقل قدمٌ منهم إلى عملٍ حقٍّ يكون على الإخلاص برهانا
وحولَهم ضجةٌ من كل ذي مَلَقٍ سمجٍ وكل وَقاح لجَّ تبيانا
مستهترين فما يخشون من شطَطٍ مُستَوفزين لجمع السُّحتِ وُحدانا
يمشون في الغَيّ والأهواء ترفعهم كالشِرْكِ يرفع أنصاباً وأوثانا
وكم هنالك دجّالٌ له زبدٌ من فوق شدقَيهِ يخفى الدجْل إيقانا
يُبدي الحماسة إرغاء ، فإن بلغتْ حدَّ التَّشَنُّج ضجَّ القومُ إيمانا
وكم شهدتَ جموعَ الخلق مطبقةً على الطريق مشاةً فيه رُكبانا
تترى المواكب والأبصارُ خاشعةٌ إلى العواقب حتى كان ما كانا
والعفو أقرب ما استدنيتَ من أمل من منعم وسِع الأكوان غفرانا
صبراً على العصبة المزورِّ جانبها من فرط ما احتملت بغياً وعدوانا
وكيف تنقم منها عند محنتها عنفاً تجيش به الألفاظُ أحياناً
ولمحةً شَزْرةً أو لفتةً ثقُلتْ عليك أو خُلقاً وَعراً وخذلانا
فانظرْ إلى النسم العلويّ منطلقاً فوق الجبال يجرُّ الذيلَ نشوانا
فإن هو انحطَّ منها اعتلَّ من كمدٍ وارتدَّ ملتهبَ الأنفاس غَضبانا
فاندسَّ تحت ذيولِ الأيك مختبئاً وانسلَّ بين زوايا الصخر حيرانا
فكيف بالنفس من عَليائها انحدرتْ والنفسُ أصدقُ إحساساً ووجدانا
فإن يكنْ حظ حلفِ الدسّ طنطنةً وكان حظُّ سَريّ النفس حرمانا
فالشمسُ تظهر للعينين قد نقصتْ لدى الكسوف وتأبى الشمسُ نقصانا
يا بنتَ يَعربَ كم من مُوجَع دَنفٍ لم تذكريه فلم يجحدْك نسيانا
يذود عنكِ خفيَّ الختل منغمساً في الهول يحمل ما يُرضيك جَذلانا
كم خاض معركةً خرساء دامية شبَّتْ وأمعن فيه السيفُ إثخانا
فلم يجشَمكِ عبءَ المنّ منتفخاً بالعُجبِ واحتمل الآلام كتمانا
وأنتِ يُلهيكِ عنه الصائحون معاً حباً فتنبينَ إعراضاً وهجرانا
يا ويحَ جنديِّكِ المجهولِ منجدلا على الصّعيد سليبَ الثوب عريانا
قد مات دونكِ لم يمننْ عليك أبداً ولم ينل منكِ عند الموت أكفانا
مهلاً فصحُبكِ والتاريخ يوم غدٍ سيرفعان غِشاء يُسدَل الآنا(/1)
الشهيد وشجرة الزيتون
شعر: داود معلا
لبيك وارتعشت iiتقبلني
وتفيء لي من فيئها iiسكناً
يا شجرة الزيتون أي يد ii..
أهوي إليك فإن وقعت iiعلى
أطوي على تلك الجذور يدي
سيفي يسيل دماً على قدمي
ودموعك الحرى iiتعانقني
إني زحفت إليك iiفابتسمي
شماً تأرجحها الهضاب على
الله أكبر أي iiملحمة
الله أكبر أي زلزلة
هذا النداء .. وأي iiمعركة
لونت بعض ترابها iiبدمي
هذا الضياء وأي بارقة
يا شجرة الزيتون ما iiاقتربت
إلا لأرسم فيك ما iiعجزت
أنا طينة حمراء من iiحمأ ... أوراقها الخضرا iiوتسقيني
وأنا على أبواب تشرين
قبلت راحة كفها iiدوني
هذا التراب فذاك iiيكفيني
وأشدها نحوي فتطويني
والريح تلفح وجه iiسكيني
وهجاً وتسبح في iiشراييني
وتطلعي طلع iiالعرانين
صهوات ربات iiالبراكين
حملت لنا عطر iiالميامين
تمتد من بدر iiوحطين
قامت على قدر iiتناديني
فتحولت شهباً iiتلايني
بالنصر تهتف في iiفلسطين
من صدرك العاري iiسكاكيني
عنه رسومات الملايين
ما الفرق بين الطين iiوالطين(/1)
الشورى .. لا الديمقراطية
قال الله تعالى: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأَمْرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} [الشورى: 380]، وقال تعالى: {فبما رحمة من الله لنِتَ لهم ولو كنتَ فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفرْ لهم وشاورْهم في الأمر فإذا عزمتَ فتوكّلْ على الله إن الله يحب المتوكلين} [آل عمران: 159].
لقد ساءني كثيراً ما رأيت من الآثار السلبية التي تركتها ممارسة الديمقراطية في المجتمعات التي تتعاطها، وأيقنت بمدى الإثم الكبير الواقع على المسلمين الذين يرضَوْن بهذا الواقع الأليم وعدم السعي للتغيير من خلال التوعية والنصح والإرشاد، فالمراقب لأحوال المجتمعات التي تمارس الديمقراطية من أجل اختيار "ممثلين لهم" ـ كما يقولون ـ في مواقع "القرار" يَهوله كم كانت النتيجة سلبية للغاية. فالعائلة الواحدة تمزقت وتقاطعت والقرية قُسِّمت، والمدينة شُلّت... كل ذلك نتيجة الضغط الإعلامي الكثيف الذي يدعوهم لينحازوا إلى هذه الجهة أو تلك معلِّلاً هذه الدعوات بمحاسن مبتكرة مزعومة متغاضياً عن كل المساوىء الظاهرة.
ولقد رأيتُ أن أكتب هذه الكلمات مبيناً عدداً من الآثار السلبية التي تفضح كذب الديمقراطية الزائفة، وأنّها الطريقة المثلى التي تحمل في طياتها السعادة للبشرية، ومُوضِّحاً للطريقة المثلى التي شرعها الله لنا في اختيار القادة والمسؤولين وفي أخذ القرارات والتوجُّهات، خاصة أن بعض المسلمين كلما تقدمت بهم التجارب في هذا المضمار أدركوا أن سراب نعيم الديمقراطية المزعوم يلوّحون به للناس ما دامت تصبّ في مصلحة "السادة الكبار"، أما إذا كان الأمر عكس ذلك فلا ديمقراطية مقبولة عندهم ولا نتائجها لها اعتبار ولو كانوا يتغنَّوْن بها صباحَ مساء. هذا عدا عن أنها تفرض في كثير من الأحيان على الإسلاميين المؤمنين بجدواها تحالفات مشبوهة تجعل القاعدة الإسلامية في حالة إرباك وتشويش فكري وعقائدي مع ضياع مبدأ الولاء والبراء بقصدٍ أو بغير قصد حيث تصبح المصلحة المزعومة هي التي تتحكم في المواقف والتوجُّهات.
* مفهوم الديمقراطية:
فالديمقراطية تقوم على أسس ومبادىء عديدة بالإضافة إلى عمليات التطبيق، التي في معظمها يحمل مخالفات واضحة للشريعة الإسلامية:
1 ـ في التسمية والمبادىء:
الديمقراطية Democracy كلمة مشتقة من كلمتين يونانيتين "Demos" (الشعب) ـ "Kratos" (سلطة). فيكون معناها الحكم الذي تكون فيه السلطة للشعب.
وقد ظهرت فلسفة الديمقراطية كنزعة عدائية للكنيسة في أوروبا بعد الثورة الفرنسية وذلك بسبب اضطهاد الكنيسة للكثير من العلماء والمفكرين فجاءت الديمقراطية ناقمة على كل شيء اسمه "دين" ومن أهم مبادئها:
ـ الشعب مصدر السُلطات ومصدر التشريع.
ـ حرية الاعتقاد مكفولة أياً كان هذا الاعتقاد.
ـ حرية التعبير والإفصاح مكفولة أياً كان هذا التعبير ولو كان مخالفاً لكل المبادىء والآداب والعقائد.
ـ فصل الدين عن الدولة.
ـ حرية تشكيل الأحزاب والتجمعات أياً كانت عقائدها ومبادئها.
ـ الحق عندها ما اجتمعت عليه الأكثرية وإن كان على ضلال.
ـ ليس لشيء عندها قَداسة بل كل شيء خاضع للتصويت.
وبالنظر إلى هذه الأمور مجتمعة نجد بأن الديمقراطية من منظار إسلامي تعني الإباحية بشكلها الكامل فكل شيء عندها مباح ما دامت تجتمع عليه أكثرية الأصوات، وهذا الحكم لا ينافيه أن بعض آلياتها لا يتعارض مع الإسلام بل لا مانع من الاستفادة منها.
2 ـ في التطبيق:
أ ـ مبدأ المساواة في التصويت: فالعالم والمفكر والعبقري والسياسي وغيرهم من أصحاب العلم والفكر يتساوون مع العاميّ والأميّ وحتى المعتوه من الناس: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}؟.
ب ـ مبدأ الترشيح للمنصب وأسلوب الدعاية الذي نراه: إذ غالباً ما يقوم على أساس الوعود الكاذبة وإظهار المحاسن المبتكرة وإخفاء المساوىء الظاهرة وكثيراً ما تلعب الماديات دوراً بارزاً في هذا المجال وفي التأثير على عقول الناس ومبادئهم.
ج ـ ضياع المبادىء: إذ في العملية التطبيقية للديمقراطية يضيع المبدأ عند ممارسيها لأن الهدف الوحيد يصبح عندهم هو تجميع الكمّ الأكبر من عدد الناخبين ولو كان ذلك بتحالفاتٍ مشبوهة أو طرق وأساليب خسيسة أو وعود كاذبة.
د ـ استبدادية الديمقراطية: إذ عند التطبيق تتحول الأكثرية إلى أقلية وذلك لأن الشعب يختار ممثليه وتصبح زمام الأمور في أيديهم من غير أن يحق للشعب إقالتهم أو مناقشتهم ومحاسبتهم فكل أمر يصدر عن هذه الأقلية يصبح تشريعاً واجباً على جميع أفراد الشعب تطبيقه واتِّباعه ولو رفضه الشعب أو أكثره "فهل هناك استبدادية أكبر أو دكتاتورية أعظم من هذا"؟!!!(/1)
وبعد هذه العُجالة حول مفهوم الديمقراطية وتطبيقها وما تحمله من سلبيات على المجتمع وعلى الأمة فلا ينبغي لنا إلا العودة إلى الأصول التي شرعها الله لنا وسار عليها السلف الصالح رضوان الله عليهم فعدلنا عنها نتيجة الغزو الفكري والاستعمار الحضاري والبُعد عن الدين.
فمبدأ الشورى الذي رسمه الله لنا من خلال كتابه الكريم وطبقه النَّبيّ صلى الله عليه وسلّم في ظلّ أصعب الظروف التي مرّت عليه في حياته هو الأصل الواجب اتباعُهُ والعودةُ إليه ودعوة الأمة إلى تطبيقه في جميع شؤون حياتها.
* مفهوم الشورى:
فالمقصود بالشورى عن عرض أمر من الأمور التي تهم الفرد أو المجتمع أو الأمة والتي لم يظهر فيها وجه الصواب بدليله الشرعي من الكتاب والسُنّة أو لم يبيِّن الدليل كيفية تنفيذ هذا الأمر فيُعرَض على أهل الحل والعقد وهم أولو الأمر من وجهاء المسلمين وأعيانهم وعلى رأسهم العلماء والزعماء وذوو الخبرة والاختصاص المتميزون.
فالشورى نظام رباني وضعه الله سبحانه وأمرنا به لأنه الأعلم بهذا الإنسان وبالأساليب التي يحصل من خلالها على حياة سعيدة كريمة. فالحاكم في الإسلام أياً كانت درجة حكمه خاضعٌ لسلطان الله المتمثل بالشريعة الغَرّاء، فهو يحكم بهذه الشريعة على نفسه وعلى رعيته وإن استشارهم في أمرٍ من الأمور وتفحّص آراءهم وقلّب وجهة نظرهم فهو ليس ملزماً أن يأخذ برأي الأكثرية فيتعطّل دوره، بل الواجب عليه أن يأخذ بما ترجَّح عنه أنه الأقرب إلى الصواب والأرجح أن يكون الحق عنده.
فالحاكم في الإسلام مقيَّد بالشريعة الإسلامية فلا رأي لمن كان رأيه مخالفاً لشرع الله ولا مصلحة لمن يرى أن المصلحة في أمر مخالف لتعاليم الإسلام، فالكل يجب أن يكون خاضعاً للكتاب الله وسنّة رسوله. والشورى ركن من أركان ممارسة الحكم أو الإمارة في الإسلام فواجبٌ على الجميع تطبيقها حكاماً كانوا أو محكومين.
والشورى كما بيّنا تختص بالنخبة من أصحاب العلم والاختصاص والتقوى والورع والالتزام وهي بذلك تقطع الطريق على الرِّعاع من الناس الذين تلعب بهم الأهواء ويميلون مع الرغبات وينظرون إلى المصالح الآنيّة والرغبات الشخصية حتى لا يوصلوا إلى مراكز القرار وحكم الناس من هو ليس أهلاً لذلك كما هو حاصل في الذين توصلهم الديمقراطية إلى مناصب رفيعة تحت ضغط التأثير الإعلامي والمادّي والوعود بتحقيق الرغبات والنزوات الشخصية.
وتطبيق الشورى بين المسلمين واحد من العبادات التي أمرهم الله بها، وهل هناك أَدَلّ على هذا من أن الأمر بها أتى بين عبادتَيْ الصلاة والزكاة؟
وقد بينها الله لنا وأمر بها النَّبيّ صلى الله عليه وسلّم في أشدّ مراحل الدعوة وبعد حدث جلل كان له الأثر الكبير على المسلمين. فهذا هو النَّبيّ صلى الله عليه وسلّم يستشير أصحابه في الخروج إلى لقاء العدو أو البقاء في المدينة فأخذ برأي من أشار عليه بالخروج ولكن النتيجة كانت سلبية إذ وقعت الهزيمة في (أُحُد) وقُتل عدد من كبار الصحابة وأُصيب النَّبيّ صلى الله عليه وسلّم. ومع هذا كله فإن المبدأ الرباني أكبر من الحدث الضيق، فالمبدأ فيه تربية للأمة وتنشئتها على أساس متين لذا جاء الأمر بعد الحدث وبعد الخسارة وبعد الشورى: بالتأكيد على مبدأ الشورى وعلى أنه أساس يجب التمسك به والعمل بمقتضاه. وما أجمل الكلمات والتوجيهات التي جاءت عقب كلمة الشورى في الآية الكريمة من سورة آل عمران: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله....{
فبعد تقليب وجهات النظر والتوجُّه لأخذ واحد من الآراء فإذا عزمتَ على المُضيّ في اتجاه معيَّن فتوكل على الله وسِرْ ما دمتَ قاصداً بذلك مرضاة الله ونُصرَة الإسلام والمسلمين وإياك أن تلتفت إلى النتائج لأن الأمر بيد الله يجعل النتيجة حيث يشاء وكيف يشاء.(/2)
الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية
د. محمد عمارة*
الشورى: مصطلح إسلامي خالص وأصيل ... وهو اسم – من "المشاورة" – التي تعني، في اصطلاح العربية: استخراج الرأي ... فهي فعل إيجابي، لا يقف عند حدود "التطوع" بالرأي ... بل يزيد على "التطوع" الى درجة "العمل" على استخراج الرأى/ استخراجاً واستدعائه قصواً ؟
وإذا قلنا: أشار فلان على فلان بالرأي ... فإن معناه – في اصطلاح العربية : أمره به! .. وليس مجرد إبراء الذمة بإلقاء الرأي فقط؟!...
والشورى، في الفكر السياسي الإسلامي، هي فلسفة نظام الحكم ... والإجتماع ... والأسرة ... لأنها تعني إدارة أمر الإجتماع الانساني، الخاص والعام ، بواسطة الائتمار المشترك والجماعي، الذي هو سبيل الانسان للمشاركة في تغيير شئون هذا الاجتماع ... فالشورى، أي الائتمار المشترك، هي السبيل إلى الإمارة، أي القيادة والنظام والسلطة والسلطان إمارة الإنسان في الأسرة ... وفي المجتمع ... وفي الدولة ... أي في تنظيم المجتمع وحكمه، صغيراً كان المجتمع أو كبيراً ...
ولما كان التصور الفلسفي الإسلامي لوجود الإنسان في هذه الحياة، ولوظيفته ومكانته فيها، ولعلاقته بالآخرين، قائم على حقيقة أن هذا الإنسان مخلوق لله سبحانه وتعالى، ومستخلف عنه في عمارة الكون ... كانت مكانة الإنسان في العمران هي مكانة الخليفة عن الله ... فهو ليس سيد الكون حتى تكون حريته مطلقة دون حدود، وشوراه وائتماره وإمارته وسلطته دون ضوابط وأطر ... وفي ذات الوقت، فإن خلافته عن الله سبحانه تعني وتقتضي أن تكون له سلطة وإرادة وحرية وشورى وإمارة تمكنه من النهوض بتكليف العمران لهذا الوجود ... فهو، لهذا ليس الكائن المجبر المسيَّر المهمش بإطلاق ...
إنه في المكانة الوسط ... ليس سيد الكون ... وليس العبد المجرد من الحرية والإرادة والاستقلال والمسئولية ... وإنما هو الخليفة عن سيد الكون، وله في أطار عقد وعهد الاستخلاف السلطات التي تمكنه من النهوض بمهام هذا الاستخلاف.
وانطلاقاً من هذه الفلسفة الاسلامية، في مكانة الانسان في هذا الوجود، يتميز المذهب الاسلامي في "إطار الشورى" ... فبنود عقد وعهد الاستخلاف الإلهي، التي هي قضاء الله الحتمي في كونه ... وكذلك احكامه التي جعلها إطاراً حاكماً لحرية الإنسان وسلطاته ... هي "الوضع الإلهي"، الذي تظهر فيه عبودية وما { المخلوق للخالق، وقضاء الله الذي لا شورى فيه ولاخيار ولا اختيار كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله امراً ان يكون لهم الخبرة من . } أمرهم ومن بعض الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً
هنا، وفيما يتعلق بهذا الإطار الحاكم، نحن أمام " سيادة الله ... وحاكميته "، المتمثلة في قضائه الحتمي، وشرعيته الممثلة لبنود عقد وعهد الاستخلاف ... على الخليفة – الانسان – أن يجعلها الإطار الحاكم لحريته وشوراه ولسلطته وإمارته، ولحركته أثناء قيامه بالوكالة والنيابة والاستخلاف...
وإذا كان الإنسان قد اختار -دون سائر المخلوقات- حمل أمانة الخلافة في عمران هذه إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها { الأرض . فإن الله سبحانه } وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا وتعالى، إعانة منه للإنسان على أداء هذه الأمانة، قد ميزه بالاختيار والحرية، ودعاه إلى أن يمارس "حاكمية إنسانية" و "سلطة بشرية"، هي مُرادة لله سبحانه وتعالى، ومُفّوَّضه منه للإنسان كجزء من استخلافه لهذا الإنسان ... وبعبارة الإمام ابن حزم الأندلسي { 384، 456هـ، 994 – 1064م } : " فإن من حكم الله أن يجعل الحكم لغير الله "، أي أن جعل للإنسان حاكمية السلطة التي ينفذ بها حاكمية شريعة الله، لينهض بالأمانة التي فوضها إليه الله ...
وإذا كان الانفراد بالرأي والسلطة، في أي ميدان من ميادين الرأي والسلطة، هو كلا إن الانسان ليطغى، أن رآه { المقدمة للاستبداد والاستفراد والطغيان وهي سنة قرآنية، صدق عليها تاريخ الانسان والنظم والحضارات ... } استغنى فان المنقذ للانسان وللعمران البشري من هذا الطغيان هو نظام الشورى الاسلامية، الذي يكفل للإنسان –مطلق الإنسان- المشاركة في تدبير شئون العمران، صغيرها وكبيرها، فتنجو دنياه من الطغيان، وذلك دون أن يطغى هذا الإنسان على التدبير الإلهي المتمثل في الشريعة الإلهية، والتي –هي الأخرى- مقوِّم من مقوِّمات العدل في هذا العمران.
ولهذه الحقيقة – من حقائق مكانة الشورى – جعلها الإسلام " فريضة إلهية "، وليست مجرد "حق" من حقوق الإنسان ... أي أنه لا يجوز للإنسان أن يتنازل عنها حتى بالرضا والاختيار إن هو اراد! ... كما عمم الإسلام ميادينها لتشمل سائر ميادين الحياة الإنسانية، العام منها والخاص ... من الأسرة ... إلى المؤسسة الى المجتمع ... إلى الدولة ... إلى الاجتماع الانساني ونظامه الدولي وعلاقاته الدولية!... فهي ليست شأناً من شئون النظام السياسي للدولة لا تتعداه...(/1)
ففي " مجتمع الأسرة " يعتمد الاسلام الشورى فلسفة للتراضي والمشاركة في تدبير شئون الاسرة، لتتأسس عليها المودة والتراضي والانتظام { والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين لمن اراد ان يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس الا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أراد فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن اردتم ان تسترضعو اولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف، واتقوا الله واعلموا ان الله بما تعملون بصير .
وفي شئون الدولة يفرض الاسلام ويوجب ان تكون الشورى شورى الجماعه ، هى الفلسفة والآلية لترتيب الآمور... سواء أكان ذالك فى داخل مؤسسات الدولة، أو فى العلاقة بين هذه المؤسسات وبين جمهور الآمة ،، ففى ادارة مؤسسات الدولة لشئونها يلفت القرأن الكريم انظارنا الى معنى عظيم عندما لايرد فيه- القرآن-مصطلح "ولى الآمر" بصيغة المفرد التى تدل على " الانفراد والاستفراد" وإنما يرد فيه هذا المصطلح، فقط، بصيغة"الجمع"- {أولى الأمر}- الى الجماعية" وتزكية للمشاركة والشورى"يا أيها الذين آمنوا وأطيعوا الله والرسول وأولى الأمر منكم }-النساء59 ..{واذاجاءهم امر من الأمن أوالخوف أذاعوا به ولو ردوه الى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}-النسأء:83-كما يحرص القرآن الكريم على التنبيه على ان يكون {أولو الأمر} من الأمة " حتى تكون السلطة نابعة من الأمة وليست مفروضة عليها من خارج .. حتى لكأنه يشير الى مبدأ "السيادة الوطنيه.. والقوميه.. والحضاريه" للأمم والشعوب والمجتمعات؟؟"
اما فى العلآقه بين الدوله " وبين جمهور "الأمه " فان القرآن يجعل الشورى والمشاركه فى صنع القرار "فريضة إلهية" حتى ولو كانت "الدولة" يقودها رسول الله صلى الله عليه وسلم {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر فاذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين }-آل عمران :159-..فالعزم " اى تنفيذ القرار "هو ثمرة للشورى اى المرحله التاليه لاشتراك الناس في انضاج الرأي وصناعه القرار.هذا القرار الشوري الذي يضعه ولاة الامربالعزم في الممارسه والتنفيذ.وهذا المعني هو الذي جعل مفسري القرآن الكريم يقولون في تفسيرهم لهذه الآيه نقلا عن المفسر الكبير "ابن عطية"(481 – 542 – 1088 – 1148 م)* :"إن الشوري من قواعدالشريعه وعزائم الاحكام ومن لا يستشير اهل العلم والدين فعزله واجب.وهذا مما لاخلاف فيه(1)"فالشورى من قواعد الشريعه ومن عزائم الاحكام.اما اهلها فالامه لانها فريضه علي الامه ينهض بها كفريضه كفائيه_اهل الكفاءة بحسب موضوعاتها وميادينها لذلك جاء في عبارة المفسرين لايآتها الاشارة لاهل "العلم" واهل" الدين" وليس فقط اهل" الدين" وايضا ليس فقط اهل" العلم" دون اهل" الدين".
وكون النهوض بفريضة الشورى من الفرائض الكفائيه التي اذا قام بها البعض سقطت عن الباقين يجعلها اهم وآكد من الفرائض الفردية لأن الاثم في التخلف عن آداء الفريضة الفردية يقف عند الفرد وحده بينما الإثم في التخلف عن اقامة الفريضه الكفائية يلحق الامة باسرها.
ويؤكد هذه الحقيقة حقيقة توجه التكليف الاسلامي بالشورى الي الامه جميعا انها قد جاءت _اي الشورى _في القرآن الكريم صفة من صفات الأمة المؤمنة وليست وقفا علي فريق دون فريق (والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ) _الشورى:38... فهي ليست امتيازا" للاحرار ..الاشراف..الملاك..الفرسان" كما كان حال "الديمقراطيه"عند الاغريق والرومان وهي ليست مجرد"حق"من حقوق الانسان حتي يجوز له التنازل عنه بالرضا والاختيار ..وانما هي فريضة الهية وتكليف سماوي علي الكافة ..وضرورة من ضرورات الاجتماع الانساني صغيرة او كبيرة دائرة هذا الاجتماع .بل لقد بلغ الاسلام في تزكيه الشورى الي الحد الذي جعل "العصمه" للامة ومن ثم للرأي والقرار المؤسس علي شوراها فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم "إن أمتي لا تجتمع علي ضلالة".رواه ابن ماجه.وذلك لتطمئن القلوب الي حكمه الرأي وصواب القرار اذا كانا مؤسسين علي شوري الامة في امورها بواسطة اهل العلم والدين من ابنائها ..(/2)
ولقد جاءت السنة النبوية العملية والقولية البيان النبوى للبلاغ القرآني في الشورى ..وكانت السابقة الدستورية التي تمثل النموذج والاسوة للنظام الاسلامي في المشاركه بصنع القرار ..فحتي المعصوم صلي الله عليه وسلم كان التزامه بالشوري علي النحو الذي يروى ابو هريرة فيقول :"ما رأيت أحداً اكثر مشورة لاصحابه من رسول الله ..."_رواه الترمذي_.. وكان صحابته رضوان الله عليهم حريصين في زمن البعثة علي التمييز بين منطقه"السيادة الالهية وفيها السمع والطاعة و إسلام الوجه لله " وبين منطقة السلطه البشريه" ليمارسوا فيها الشورى المؤسسة والمثمرة لصنع القرار فكانوا يسالون رسول الله صلي الله عليه وسلم في المواطن التي لا تتمايز فيها هاتان المنطقتان بذاتهما فيقولون :يا رسول الله اهو الوحي ؟ ام الرأي و(المشورة ).
فاذا كان المقام من مقامات الرأي والمشورة "السلطه البشريه"شاركوا في انضاج الرأي وصناعة القرار والتزموا به عند العزم علي وضعه في الممارسة والتطبيق , حدث ذلك في مواطن كثيرة من اشهرها تحديد المكان الذي ينزل به جيش المسلمين في موقعة بدر والموقف من مصالحة بعض المشركين في موقعه"الخندق"بل ان الالتزام بثمرات الشوري وقرارتها لم يكن وقفا علي الصحابه وحدهم, وانماشمل رسول الله صلي الله عليه وسلم ايضالانه في غير التبليغ عن الله سبحانه وتعالي "مجتهد" والاجتهاد ابداع بشرى غير معصوم ومن ثم فهو من مواطن الشوري بل هو واحد من مستوياتها العليا ..وفي هذا المعني وعلي ضوء هذه الحقيقة نقرأ حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي يقول فيه لابي بكر الصديق (51 ق هـ، 13 هـ 573-634 م) ولعمر بن الخطاب (40 ق هـ-23هـ584-644م) رضي الله عنهما: " لو إجتمعتما في مشورة ما خالفتكما "- رواه الإمام احمد - ... وفيه تشريع لقاعدة الأكثرية والإقلية في القرارت الشورية، واعتماد رأي الأغلبية عند اتخاذ القرار، حتى ولو كانت الأقلية فيها رئيس الدولة، رسول الله صلى الله عليه وسلم!... ونقرأ –كذلك- حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يقول فيه " لو كنتُ مُؤمَّراً احداً دون مشورة المؤمنين لأمَّرتُ ابن أم عبد " { عبدالله بن مسعود} – رواه الترمذي وابن ماجة والامام احمد ... فتعيين أمير للجيش، هو اجتهاد في الشئون السياسة والعسكرية، ولذلك كانت الشورى هي السبيل لاتخاذ القرار فيه، ولا يجوز لرئيس الدولة الإنفراد بتعيين امراء الجيوش دون مشورة أهل الشورى، حتى ولوكان رئيس الدولة هو رسول الله صلى الله عليه وسلمَ...
وعلي هذه السنة النبوية سارت الخلافة الراشدة ... ففي عهد أبي بكر الصديق، كانت كل الأمور تبرم بالشورى، وجميع القرارات تتأسس على المشاركة الشورية ... حتى القوانين التي يقضي بها بين الناس، إذا لم يرد بها نص في الكتاب او السنة " فعن ميمون بن مهران، قال : " كان ابوبكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى، وان لم يكن في الكتاب، وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ذلك الأمر سنة قضى به، فأن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله فيه قضاء، فيقول ابوبكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به... "
أما عمر بن الخطاب، فهو القائل : " الخلافة شورى" ... و " من بايع عن غير مشوره المسلمين فلا بيعة له، ولا بيعة للذي بايعه" .
ولقد شهد عهد سيدنا عمر بن الخطاب – الذي اتسعت فيه الدولةالإسلامية واكتملت الصورة المعتددة للشوري المؤسسة فكان هنالك مجلس للشوري من سبعين عضوا يجتمع في مكان محدد بأوقات محددة في مسجد المدينة – الذي كان دار الحكومة – والشورىهي التي بنت الحضارة بالمؤسسات الأهلية –مؤسسات الفقهاء والعلماء والمحدثين والمقرين والنحويين واللغويين والأدباء والشعراء والصوفية والتجار والصناع ... تلك التي ارخ لها من " الخطط " في التاريخ الاسلامي – كما أن " الامة " هي التي حولت صناعة الحضارة، بواسطة "الأوقاف" ... فكانت الحضارة الاسلامية صناعة اهلية، اقامتها "الأمة"، ولم يجن عليها انحراف "الدولة" ...
وفي هذه الحضارة الإسلامية، ظلت الامة وفية لفريضة الشورى الإسلامية ... بنت بها مذاهبها الفقهية والكلامية، وطبقتها في مؤسساتها الأهلية، التي اقامت النسيج الاجتماعي على العدل والشورى، بينما كانت "الدولة" – في كثير من الأحيان فريسة للاستفراد والطغيان !...(/3)
لكن "الدولة الحديثة "، التي قامت في المجتمعات الإسلامية عبر القرنين الماضيين، والتي جاءت إلى بلادنا من نمط " الدولة القومية " الأوربية، منذ عهد محمد علي باشا الكبير { 1184 – 1265هـ1770-1849م} قد مثلت نموذج الدولة الشمولية، متعاظمة النفوذ والسلطات، فمدت استبدادها – عندما استبدت – الى مختلف ميادين الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الامر الذي قلب المعادلة، فحل " تعظيم الدولة" محل "تحجيمها "، الأمر الذي أدى الى "تحجيم الأمة" بدلاً من من "تعظيمها" فحدث الخلل في العلاقة بين "الدولة" و "الأمة"، وتراجعت "الأمة" ومذاهب علمائها وسلطات أعلامها، وافترست " الدولة " أغلب حريات الإنسان !... ولقد كانت معركة دولة محمد علي باشا، في العقود الأولى من القرن التاسع عشر الميلادي ضد عمر مكرم { 1168-1237هـ 1755-1822م} ومن ورائه الأزهر ومؤسسات المجتمع الأهلي، التجسيد لهذا التحول والانقلاب في هذا الميدان ... وساعد على استحواذ " الدولة " على ذلك مخاطر الغزو الاستعماري الغربي الحديث، التي استدعت تعظيم سلطان " الدولة " لأنها الأقدر على حراسة الأمن الوطني والقومي والحضاري من ثغرات الاختراق الاستعماري لأوطان عالم الاسلام ...
لذلك، كان من واجبات حركة الإحياء الإسلامي – الحديثة والمعاصرة – إقامة التوازن بين " الامة " و "الدولة"، بجعل الشورى الاسلامية منهاج الحياة لمختلف الميادين، وبلورة إرادة الامة وسلطاتها في " المؤسسات القادرة على تدبير امور المجتمعات التي تعقدت شئونها على نحو لا تجدي معه شورى الأفراد ... وعلى النحوالذي يجعل الشورى شاملة لمؤسسات " الدولة " و " الأمة " جميعاً، فتكون حراسة الأمن الوطني والقومي والحضاري " بالشورى "، وليس " بالاستبداد " قل هذا عن الشورى الاسلامية، في " الفكر " ... و " التطبيق " ... و "التأريخ".
وإذا كانت هذه هي " الشورى الإسلامية " ... الفريضة، التي لابد من تحويلها الى فلسفة حياة للإجتماع والنظام الإسلامي ... فإن هناك قضية برزت من خلال الاحتكاك الحضاري بين الإسلام وامته وبين الفكر الغربي وتجاربه في العصر الحديث ... وهي مشكلة موقف الشورى الاسلامية من الديمقراطية الغربية ... التي تبنتها أحزاب ومدارس فكرية واجتماعية في العديد من البلاد الاسلامية ... وهل بينهما – الشورى ... والديمقراطية – تطابق كامل؟ أم تناقض مطلق؟ أم اوجه للشبه وأوجه للافتراق؟...
وبادئ ذي بدء، فلابد من التأكيد على حق الأمم والشعوب والحضارات في التمايز والاختلاف في النماذج والخيارات السياسية والثقافية والحضارية ... فهذا هو منطق " الليبرالية " في الديمقراطية الغربية ... ومنطق " التعددية " التي هي في الاسلام سنة كونية، وقانون حاكم وسائد في كل عوالم المخلوقات ... فلا حرج ولا ضير إن اختلفت الشورى عن الديمقراطية، او تمايزت الديمقراطية عن الشورى ... المهم هو وفاء كل نموذج بتحقيق المقاصد الانسانية التي تحددها رؤية الانسان للكون في كل حضارة من الحضارات ... وجدارة كل نموذج بتفجير طاقات الخلق والإبداع في هذا الانسان ...
وبعد الاتفاق على هذه " الحقيقة – الأولية "، لابد من التنبيه – في الحديث عن علاقة الشورى الاسلامية بالديمقراطية الغربية – ضرورة التمييز – في هذه الديمقراطية – بين "الفلسفة" وبين " الآليات ... والخبرات ... والمؤسسات "...
فالديمقراطية، نظام سياسي – اجتماعي، غربي النشأة ... عرفته الحضارة الغربية في حقبتها اليونانية القديمة، وطورته نهضتها الحديثة والمعاصرة ... وهو يقيم العلاقة بين أفراد المجتمع والدولة وفق مبدأ المساواة بين المواطنين في حقوق المواطنة وواجباتها، وعلى مشاركتهم الحرة في صنع التشريعات التي تنظم الحياة العامة، وذلك استناداً الى المبدا القائل بأن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر الشرعية ... فالسلطة، في النظام الديمقراطي، هي للشعب، بواسطة الشعب، لتحقيق سيادة الشعب ومقاصده ومصالحه...
هذا عن فلسفة الديمقراطية الغربية ...
أما "النظام النيابي "، الذي ينوب فيه نواب الأمة المنتخبون عن جمهور الأمة، للقيام بمهام سلطات التشريع، والرقابة والمحاسبة لسلطات التنفيذ في " الدولة" فهو من " آليات" الديمقراطية، وتراث مؤسساتها، وبه توسلت تجاربها عندما تعذرت "الديمقراطية المباشرة "، التي تمارس فيها الامة كلها، وبشكل مباشر، هذه المهام والسلطات ... توسلت الديمقراطية الحديثة بهذه " الآلية" الى تحقيق مقاصدها وفلسفاتها ...
وإذا كان البعض يضع الشورى الاسلامية في مقابلة الديمقراطية –سواء بالتسوية التامة بينهما ... أو بالتناقص الكامل بينهما – فإن هذا الموقف ليس بالصحيح إسلامياً ... فليس هناك تطابق بينهما باطلاق ... ولا تناقص بينهما بإطلاق ... وإنما هناك تمايز بين الشورى وبين الديمقراطية، يكشف مساحة الاتفاق ومساحة الاختلاف بينهما.(/4)
فمن حيث الآليات والسبل والنظم والمؤسسات والخبرات "التي تحقق المقاصد والغايات من كل الديمقراطية والشورى، فانها تجارب وخبرات إنسانية ليس فيها "ثوابت مقدسة " ... وهي قد عرفت التطور في التجارب الديمقراطية، ومن ثم فإن تطورها وارد في تجارب الشورى الاسلامية، وفق الزمان والمكان والمصالح والملابسات ... والخبرات التي حققتها تجارب الديمقراطية في تطور الحضارة الغربية، والتي افرزت النظام الدستوري، والتمثيل النيابي عبر الانتخابات، هي خبرات غنية وثروة انسانية، لا نعدو الحقيقة إذا قلنا انها تعتبر خلافة لما عرفته حضارتنا الاسلامية، مبكرا، من اشكال اولية وضنينة في " البيعة" و "المؤسسات"...
أما الجزئية التي تفترق فيها الشورى الإسلامية عن الديمقراطية الغربية، فهي خاصة "بمصدر السيادة في التشريع الابتدائي "...
فالديمقراطية تجعل "السيادة" في التشريع ابتداء للشعب والامة، إما صراحة، وإما في صورة ما أسماه بعض مفكريها بـ " القانون الطبيعي " الذي يمثل بنظرهم- أصول الفطرة الانسانية ... ومن ثم، فإن "السيادة"، وكذلك "السلطة" في الديمقراطية، هما للإنسان ... للشعب والأمة ...
أما في الشورى الإسلامية، فإن " السيادة" في التشريع ابتداء، هي لله، سبحانه وتعالى، تجسدت في " الشريعة" التي هي " وضع إلهي " وليست إفرازاً بشرياً ولا طبيعياً ... وما للإنسان في " التشريع" إلا سلطة البناء على هذه الشريعة الإلهية، والتفصيل لمجملها، والاستنباط من نصوصها وقواعدها واصولها ومبادئها، والتفريع لكلياتها والتقنين لنظرياتها ... وكذلك، لهذا الانسان سلطة الاجتهاد فيما لم ينزل به شرع سماوي، شريطة ان تظل "السلطة البشرية" محكومة بإطار معايير الحلال والحرام الشرعي، أي محكومة بإطار فلسفة الاسلام في التشريع ...
ولذلك كان الله سبحانه وتعالى في التصور الإسلامي، هو " الشارع" لا الانسان... وكان الانسان هو "الفقيه"، لا الله ... فأصول الشريعة ومبادؤها وثوابتها وفلسفتها إلهية، يتمثل فيها "حكم الله وحاكميته "...
أما البناء عليها، تفصيلاً وتنمية وتفريعا وتطويراً واجتهاداً للمستجدات ولمناطق "العفو" التي هي المساحة الأوسع في المتغيرات الدنيوية، فهو فقه وتقنين، تتمثل فيهما سلطات الإنسان، المحكومة بحاكمية الله ... وفي هذا الجانب يتمثل الفارق الجوهري والاختلاف الاساسي بين الشورى الإسلامية وبين الديمقراطية الغربية ...
ولهذا التمايز والاختلاف –بين الشورى والديمقراطية- صلة وثيقة بنظرة كل من الحضارتين –الاسلامية-والغربية- للكون، ولحدود نطاق عمل وتدبير الذات الإلهية ... وحدود تدبير الإنسان، ولمكانته في الكون ... وللعلاقة بين الإنسان وبين الله ...
ففي النظرة اليونانية القديمة، وخاصة عند "ارسطو" { 384-322 ق م } وهي التي مثلت تراث النهضة الغربية الحديثة – نجد أن الله قد خلق العالم، وحركه، ثم تركه يعمل وفق طبائعه وقوانينه والأسباب الذاتية المودعة فيه، دونما تدخل أو رعاية او تدبير إلهي لحركة هذا العالم ... فالعالم هنا، وفي هذه الفلسفة، مستقل بذاته ... بعد الخلق عن تدبير الله، وحاكمية شرائعه السماوية ...
وهذه - النظرة لحدود التدبير الإلهي، وجدناها في النهضة العلمانية الغربية الحديثة تعتمد على المبدأ الانجيلي الذي يجعل مالقيصر لقيصر ومالله لله، فيفصل بين إطار التدبير الإلهي الذي وقف عند "الخلق" وعند خلاص الروح ومملكة السماء – وبين إطار التدبير الإنساني – الذي أعطاه السيادة في تدبير العمران الإنساني، والملكوت الدنيوي، دونما قيود من الحاكمية الإلهية على هذه السيادة والسلطة البشرية فكلما أن العالم في هذه الفلسفة الغربية للديمقراطية – مستقل بذاته عن تدبير خالقه تديره الأسباب والقوى الذاتية المودعة فيه ... فكذلك الانسان في هذه الفلسفة مستقل بذاته، يدير الدولة والمجتمع بالعقل والتجربة، دونما حاكمية إلهية ولا رعاية شرعية سماوية ... فهو "سيد الكون "، الحر والمختار بإطلاق ... ومن هنا كانت له "السيادة" في التشريع، مع "السلطة" في التنفيذ، بتعميم وإطلاق ... بل إن له هذا الاستقلال والحرية المطلقة في العلمانية الشاملة، منظومة للقيم والأخلاق .
هذا عن - البعد الفلسفي للرؤية الكونية ... ونطاق عمل الذات الإلهية ... ومكانة الإنسان في الكون ... وحريته وسيادته، في الاساس الفلسفي للديمقراطية الغربية ... والتي كانت، لذلك، علمانية – في النشأة والتطبيقات ...(/5)
أما في - النظرة الإسلامية، فان الله سبحانه وتعالى، ليس مجرد "خالق" وفقط ... وإنما هو " خالق ... ومدبر " وكما أن خلقه دائم ابدا، فان تدبيره دائم ابدا، وله "حاكمية" في التكوين وفي التشريع معا، ورعاية لكل عوام المخلوقات. ونحن نقرأ، في القرآن الكريم عن نطاق عمل الذات الإلهية ": " الا له الخلق والأمر " ... قال فمن ربكما يا موسى .. قال ربنا الذي اعطى كل شئ خلقه ثم هدى " وإذا كان الله سبحانه وتعالى، قد استخلف الإنسان لعمران هذه الأرض " واذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " ... فإن هذا الاستخلاف قد جعل الانسان –في التصور الإسلامي- بالمرتبة الوسط ... فهو نائب ... ووكيل وحر .. وقادر ... ومستطيع ... ومبدع، لكن في حدود الشريعة الإلهية، التي هي بنود عقد وعهد الاستخلاف ... نعم، إنه ليس الفاني في الذات الإلهية ... لكنه، ايضاً، ليس "سيد الكون" وإنما خليفة لسيد الكون ... وبعبارة الإمام محمد عبده { 1265-1323 هـ 1849-1905م } فإن هذا الإنسان " عبدالله وحده، وسيد لكل شئ بعده ".
إنه - الانسان خلقه الله ... واستخلافه عن الله لا يخرجه من مظلة التدبير الإلهي، بل يجب أن يظل دائماً وابداً في إطار هذه الرعاية وهذا التدبير، حتى أن عبوديته لله هي قمة حريته، لأنها هي التي تحرره من العبودية لكل الطواغيت ... " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له " وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " ولذلك، كانت شهادة أن لا إله الا الله، جامعة لحرية الانسان وتحرره، ولعبوديته لله وحده، حتى لكأنها وجهان لعملة واحدة !..
- تلك هي على وجه الحصر والتحديد، الجزئية الفلسفية التي تتمايز فيها الشورى الإسلامية عن الديمقراطية الغربية ...
أما ما - عدا ذلك، من تأسيس الحكم والسلطة على رضا الأمة وراي الجمهور واتجاه الرأي العام ... وجعل السلطة في اختيار الحكام، وفي مراقبتهم ومحاسبتهم، وفي عزلهم، هي للأمة ... وكذلك لك اختيار الآليات والنظم النيابية لتكوين المؤسسات الممثلة لسلطات التقنين والتنفيذ والرقابة والقضاء ... فإنها على وجه الإجمال مساحة اتفاق بين الديمقراطية الغربية وبين الشورى الإسلامية ..
وكذلك - الحال مع مبدأ ونظام الفصل بين السلطات –سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء ... وهو المبدأ الذي تعارفت عليه الديمقراطية الغربية ... فإنه مما تقبله وتحتاجه الشورى الإسلامية ... بل ربما ذهبت فيه تجربة الحضارة الاسلامية أبعد وأعمق وأفضل مما ذهبت التجارب الديمقراطية الغربية، ذلك أن تمييز سلطة الاجتهاد الفقهي في النظام الشوري الإسلامي عن السلطات الرقابية والتنفيذية والقضائية، يجعل السلطات –في النظام الإسلامي ... اربعاً بدلاً من ثلاث ... كما يجعل سلطة التشريع فوق الدولة، بسبب إلهية الشريعة، الأمر الذي يحرر القانون من سلطان الاستبداد البشري والأهواء البشرية ... وفوق ذلك، يحقق هذا النظام الإسلامي الفصل الحقيقي بين السلطات، ذلك أن التجربة الديمقراطية الغربية، التي آلت فيها سلطة التشريع للبرلمان، قد جعلت –من الناحية العملية- سلطة التشريع وسلطة التنفيذ متماهيتان في الهيئة البرلمانية لحزب الأغلبية الحاكم، الأمر الذي جعل الفصل الحقيقي بين سلطتي التشريع والتنفيذ باهتاً الى حد كبير ... أما استقلال سلطة خاصة بالاجتهاد والتقنين، مع التزامها بحاكمية الشريعة الإلهية، فهو الأقرب الى تحقيق مبدأ فصل السلطات، والأكثر تحقيقا لسيادة القانون على باقي السلطات ...
ولقد - أدرك هذه الحقيقة – حقيقة هذا التمايز بين الشورى الإسلامية وبين الديمقراطية الغربية ... في عصور القانون بكل منهما –العلماء الغربيون الذين خبروا وتخصصوا في الشريعة الإسلامية وفي القانون الروماني، وقارنوا بين الفقه الاسلامي وبين المدونات القانونية في الحضارة الغربية ... أدركوا هذه الحقيقه،ولفتوا إليها الأنظار وسلطوا عليها الأضواء ...
لقد - كتب المستشرق " دافيد دي سانتيلانا " {1845 – 1931م } عن فلسفة التشريع في القانون الوضعي الغربي " إن معنى الفقه والقانون بالنسبة إلينا وإلى الأسلاف : مجموعة من القواعد السائدة التي اقرها الشعب، إما رأساً أو عن طريق ممثلية÷ وسلطانه مستمد من الإرادة والإدراك وأخلاق البشر وعاداتهم ".
- فهو قانون "دنيوي" أي "علماني" خالص الدنيوية ...(/6)
ثم - استطرد " سانتيلانا "، مقارنا هذه الفلسفة العلمانية للقانون في الديمقراطية الغربية، بالفلسفة الإسلامية في التشريع والفقه الإسلامي، فقال " إلا أن التفسير الإسلامي للقانون هو خلاف ذلك ... فالخضوع للقانون الإسلامي هو واجب اجتماعي وفرض ديني في الوقت نفسه، ومن ينتهك حرمته لا يأثم تجاه النظام الاجتماعي فقط، بل يقترف خطيئة دينية ايضاً ... فالنظام القضائي والدين، والقانون والأخلاق، هما شكلان لا ثالث لها لتلك الإرادة التي إستمد منها المجتمع الإسلامي وجوده وتعاليمه، فكل مسألة قانونية إنما هي مسألة ضمير ... والصبغة الأخلاقية تسود القانون ... فالشريعة الإسلامية شريعة دينية تغاير أفكارنا اصلاً ...".
وذات - هذه الحقيقة – حقيقة اختلاف فلسفة الشورى وقانونها الاسلامي عن الديمقراطية وقانونها الوضعي العلماني –يؤكد عليها المستشرق السويسري " مارسيل بوازار " ... فيقول –عن اختلاف المصدر والمقاصد بينهما ... ( ومن المفيد أن نذكر فرقاً جوهرياً بين الشريعة الإسلامية والتشريع الأدبي الحديث ، سواء في مصدريهما المتخالفين، او في اهدافهما النهائية ... فمصدر القانون في الديمقراطية الغربية هو : ارادة الشعب، وهدفه: النظام والعدل داخل المجتمع أما الاسلام، فالقانون صادر عن الله، وبناء عليه يصير الهدف الأساسي الذي ينشده المؤمن هو البحث عن التقرب الى الله، باحترام الوحي والتقيد به ... فالسلطة يجب في الاسلام تفرض عدداً من المعايير الاخلاقية ... بينما تسمح في الطابع الغربي ان يختار الناس المعايير حسب الاحتياجات والرغبات السائدة في عصرهم ...)
هكذا - شهد العلماء الخبراء الغربيون بالتمايز –في البعد الفلسفي- بين الشورى الاسلامية وفقهها وبين الديمقراطية الغربية وقانونها ...
إن - الشورى في حقيقتها- هي اسم من "المشاورة" ... والمشاورة هي استخراج الرأي فهي –في حد ذاتها- أدخل في "الآليات" ... آليات استخراج الرأي ... وهي –بهذا الاعتبار- لايمكن ان تكون نقيضاً لآليات الديمقراطية ... اما التمايز بينهما فإنه يأتي في الموضوع الذي تعمل فيه هذه الآليات ... وفي نطاق عمل هذه الآليات ... فعلى حين لا تعرف الديمقراطية حدودا إلهية لسلطات عمل وإعمال آلياتها، تميز الشورى الإسلامية بين نطاقين من "الأمر" ... أمر هو لله .. أي تدبيره الذي يختص به سبحانه ... "وأمر"، اي تدبير، هو في مقدور الإنسان، وفيه تكون شوراه ... وفي القرآن الكريم عن "الأمر" الأول ( الا له الخلق والأمر ) – وعن " الأمر " الثاني " ( أمره ... وتدبيره ) ... وبحكم خلافة الانسان لله، سبحانه وتعالى، فان " امره ... وتدبيره " أي حاكميته الانسانية محكومة بإطار و ( امر الله وتدبيره ) التي هي حاكمية الله وحدود شريعته الإلهية...
ففي - المرجعية ... وفي الفلسفة ... وفي الحدود ... وفي المقاصد يرد التمايز بين الشورى الاسلامية وبين الديمقراطية الغربية ... وليس في الآليات ... والمؤسسات ... والنظم ... والخبرات ...
ان - الديمقراطية كفكر وضعي وفلسفة دنيوية لاتمد بصرها الى ما هو ابعد من صلاح دنيا الانسان، بالمقاييس الدنيوية لهذا الصلاح ... على حين نجد الشورى كفريضة الهية تربط بين صلاح الدنيا وسعادة الآخرة، فتعطي الصلاح الدنيوي بعدا دينيا، يتمثل في المعيار الديني لهذا الصلاح.
مع - ضرورة التنبيه والتأكيد على أن الاستبداد مفسد للدنيا والآخرة جميعا، ذلك ان " نظام الدين كما يقول حجة الاسلام ابو حامد الغزالي {450-505هـ 1058 – 1111م } لا يحصل الا بنظام الدنيا ... فنظام الدين، بالمعرفة والعبادة لا يتوصل اليهما الا بصحة البدن، وبقاء الحياة، وسلامة قدر الحاجات، من: الكسوة والمسكن والاقوات والامن ... فلا ينتظم الدين الا بتحقيق الامن على هذه المهمات الضرورية ... فنظام الدنيا شرط النظام الدين ".
فحتى - لو وقفت فوائد الديمقراطية عند صلاح الدنيا، فيجب عدم الاستهانة بذلك، وخاصة اذا كان البديل هو الاستبداد، المفسد للفرد والمجموع، وللدين والدنيا جميعا !...
- وأخيراً ... فسواء أكان أمر الشورى الإسلامية، أو أمر الديمقراطية الغربية، فان هناك فارقاً بين " المثال " وبين " الواقع " عند الممارسة والتطبيق ... وإنها لحكمة إلهية أن تظل التطبيقات لكل المبادئ والفلسفات دون " المثال " الذي يصوره الفكر لهذه المبادئ والفلسفات، وذلك حتى يظل السعي الإنساني دائباً ودائماً على طريق الإقتراب "بالواقع" من " المثال " فينفسح الأمل دائماً وأبداً أمام التسابق الإنساني على طريق التقدم والارتقاء ... وإلا فلو حقق الانسان كامل المثال لا نتهي " جدول أعمال " الحياة الإنسانية، وحل القنوط محل التطلع لتحقيق المزيد من الآمال ...(/7)
لقد - كانت تطبيقات الشورى الإسلامية، في تأريخ الأمة والحضارة الإسلامية، ادنى بكثير من جداً من " مثال " هذه الشورى في الفكر الاسلامي ... وكذلك حال التطبيقات الغربية للديمقراطية، لم تمنع هذه الحضارة الديمقراطية من انتاج العنصرية ... والحروب الدينية ... والقومية ... والاستعمارية والنظم الفاشية ... والحروب الكونية التي جعلت هذه المجتمعات الديمقراطية تتفوق على وحشية الإنسان البدائي في الإبادة والتدمير!... ولم تمنعها من أثرة الرأسمالية المتوحشة، التي جعلت وتجعل 20% من البشر _ هم سكان الشمال الديمقراطي –يتأثرون بـ 86% من خيرات العالم، تاركين 14% من ثروات العالم لـ 80% من السكان !! ... ناهيكم عن أن هذه التطبيقات الغربية للديمقراطية لم تمنع من أن تكون التجارة الأولى للدول الديمقراطية هي تجارة السلاح ... تليها تجارة المخدرات ... تليها تجارة الدعارة!! ... ولم تمنعها من ان يكون ماينفق على القطط والكلاب والخمور والترف المستفز اضعاف ما ينفق على الصحة والغذاء والتعليم!..
فلا - الشورى تمثل الوصفة السحرية للتقدم والإصلاح ... ولا الديمقراطية هي الحل السحري لمشكلات المجتمعات المعاصرة ... وإنما الحل هو الكدح الإنساني كي تكون التطبيقات للشورى ... او الديمقراطية – اقرب ما تكون إلى تحقيق إنسانية الإنسان.
الهوامش:
1. القرطبي ( الجامع لأحكام القرآن ) ج2 ص 249، طبعة دار الكتب المصرية – القاهرة.
2. روى البخاري ذلك في البيعة العامة للراشد الثالث عثمان بن عفان.
3. انظر : ( موسوعة السياسة ) المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 1981م.
4. سانتيلانا (القانون والمجتمع) ضمن كتاب (تراث الاسلام) ص 411، 438، 431 ترجمة جريس فتح الله. طبعة بيروت سنة 1972م.
5. لواء احمد عبدالوهاب (الاسلام في الفكر العربي ) نصوص ص 81 – 83 طبعة القاهرة سنة 1993م.
6. الغزالي ( الاقتصاد في الاعتقاد ) ص 135 طبعة مكتبة ومطبعة صبيح – القاهرة بدون تاريخ.
* كاتب إسلامي مصري(/8)
الشورى سبيل هداية
(الشبكة الإسلامية)
قديمًا قالوا: ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، وعلى الجانب الآخر قالوا: من أُعجب برأيه ضل، وقالوا: من استبد برأيه كان من الصواب بعيدًا.
وقال الشاعر:
شاور صديقك في الخفي الْمُشْكِلِ .. .. .. واقبل نصيحة ناصحٍ متفضلِ
فالله قد أوصى بذاك نبيه .. .. .. في قوله شاورهُمُ وتوكَّلِ
إن الشورى هي استنباط المرء الرأي من غيره فيما يعرض له من مشكلات الأمور.
ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس رأيًا فضلاً عن كونه مؤيدًا بالوحي الإلهي فقد أمره الله تعالى بمشاورة أصحابه ليعلم الأمة ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمته من بعده، حيث يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159].
كما وصف الله تبارك وتعالى مجتمع المؤمنين بالعديد من الصفات الكريمة التي كان من أهمها: قيام المجتمع على أساسٍ من الشورى: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:38].
الشورى من قواعد الشريعة:
قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، مَن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه، وقد مدح الله المؤمنين بقوله: {وأمرهم شورى بينهم}. قال أعرابي: ما غُبنتُ قط حتى يُغْبن قومي. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لا أفعل شيئًا حتى أشاورهم.
وقال ابن خُوَيْز مَنْدَادَ: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون وما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها، وكان يقال: ما ندم من استشار، وكان يقال: من أُعجب برأيه ضل.
صفات المستشار:
ينبغي للحازم أن يشاور في أمره ذا الرأي الناصح والعقل الراجح، وقد اشترطوا لأهلية المستشار شروطًا خمسة:
1- عقلٌ كاملٌ، مع تجربة سالفة، قال أبو الأسود الدؤلي:
وما كل ذي لب بمؤتيك نُصْحَه .. ... .. ولا كل مؤت نُصحه بلبيبِ
ولكن إذا ما استجمعا عند صاحب .. ... ..فحق له من طاعة بنصيبِ
وقال بعضهم: شاور من جرب الأمور ؛ فإنه يعطيك من رأيه ما دفع عليه غاليًا وأنت تأخذه مجانًا.
2- أن يكون ذا دين وتقى؛ فقد ورد في الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما: من أراد أمرًا فشاور فيه امرءًا مسلمًا وفقه الله لأرشد أموره.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن أن "المستشار مؤتمن" فإذا كان ذا دين أدى الأمانة كما ينبغي.
3- أن يكون ناصحًا ودودًا؛ فإن النصح والمودة يُصدِّقان الفكرة ويخلصان الرأي،قال القرطبي:وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا وادَّا في المستشير.
4- أن يكون سليم الفكر من هم قاطع وغم شاغل، فإن من عارضت فكره شوائب الهموم لا يسلم له رأي، ولا يستقيم له خاطر.
5- ألا يكون له في الأمر المستشار فيه غرضٌ يتابعه، ولا هوىً يساعده؛ فإن الرأي إذا عارضه الهوى وجاذبته الأغراض فسد.
الرسول يشارو أصحابه:
ولقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في العديد من القضايا والمسائل، فقد استشارهم في أسارى بدر، فأشار أبو بكر بالفداء، وأشار عمر بالقتل، فمال إلى رأي أبي بكر. واستشار أصحابه في الخروج لبدر فأشاروا بما قرت به عينه،كما أشار عليه بعضهم في هذه الغزوة بالنزول قريبا من آبار بدر ومنع المشركين من الماء وهو ما كان له أكبر الأثر في نتيجة المعركة. واستشارهم في أحد واستجاب لرأيهم مع أنه على خلاف رأيه. واستشارهم في غزوة الأحزاب وكان من بركة الاستشارة أن هدى الله سلمان للنصح بحفر الخندق. وفي الحديبية استشار زوجه أم سلمة رضي الله عنها، فأشارت عليه بما هو خير للمسلمين.
الخلفاء يشاورون:
ولقد سار الخلفاء الراشدون على نهج نبيهم صلى الله عليه وسلم، فكانوا لا يستبدون برأي، بل يشاورون أهل الديانة والتقى والخبرة. هذا أبو بكر كان إذا ورد عليه الأمر نظر في كتاب الله، فإن وجد منه ما يقضي به قضى بينهم، وإن علمه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين عن السنة، فإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم.
وهذا عمر يشاور أصحابه وقصة مشاورته المسلمين عند خروجه إلى الشام، وقد وقع الطاعون بها مشهورة معروفة. وهكذا كان عثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين. فهل لك فيهم أسوة؟ وهلاَّ استهديت بآراء ونصائح ذوي الألباب الأتقياء حتى تكون مشورتهم مؤازرة لك وسبيل هداية؟!.(/1)
الشورى في الإسلام
إعداد / باسل علوظي برلين 5/9/1424
30/10/2003
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله...وبعد،
قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}- 159سورة آل عمران.
وقال تعالى: { وَالَّذِين اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ...} 38سورة الشورى.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: "أي لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه".
وروى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزم، فقال: "مشاورة أهل الرأي ثم إتباعهم".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المستشار مؤتمن".
وروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: "لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما". قال الشيخ د/ يوسف القرضاوي حفظه الله في كتابه السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها: "معناه: أنه يرجح رأي الاثنين على رأي الواحد ولو كان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال حفظه الله: "سمي أهل الشورى في الإسلام أهل الحل والعقد فإذا لم يكن لرأيهم وزن فماذا يحلون ويعقدون إذا؟".
والمتأمل لسيرته صلى الله عليه وسلم يجده كثير التشاور مع أصحابه وحتى مع زوجاته عليه السلام، بل كان أصحابه رضي الله عنهم يبادرونه بالرأي والمشورة، فكانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهو الرأي والمشورة أم هو وحي من الله، فإذا قال بل الرأي والمشورة بادروه بآرائهم، وكان عليه السلام يأخذ بآرائهم إذا شاورهم أو بادروه بالمشورة إلا إذا حسم الأمر بالوحي، وكان ينزل عند رأي الجمهور – الأغلبية – حتى وإن كان يرى غيره أفضل منه، وسيأتي مثال مشهور من سيرته على ذلك، وكان عليه السلام أمر الصحابة مرة بعدم تأبير النخل (تلقيحه) فلما تركوه لم يحمل النخل ثمرًا، فعاد وقال لهم: "... أنتم أدرى بأمور دنياكم". وهذا تشريع وليس مجاملة يطيب بها خاطرهم، ولم يكن هذا الحدث عبثا بل جعله الله ليشرع به هذا الموقف المهم.
وفي تفسير قوله تعالى: "وشاورهم في الأمر" يقول شهيد الصحوة الإسلامية سيد قطب – رحمه الله- الذي قال كلمة حق أمام سلطان جائر فقتله، في كتابه المعروف "في ظلال القرآن": يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم – حتى ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولاه، وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه...
أما شكل الشورى والوسيلة التي تتحقق بها، فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها، وكل شكل وكل وسيلة، تتم بها حقيقة الشورى – لا مظهرها – فهي من الإسلام.
وقد نزلت هذه الآية بعد هزيمة المسلمين في "أحد" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يميل إلى البقاء في المدينة ومواجهة من يدخلها عليهم في الداخل، ولكنه نزل على رأي جمهور الصحابة الذين أرادوا الخروج لملاقاة العدو خارج المدينة فنزلت الآية: "فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر" ليقرر مبدأ الشورى في مواجهة أخطر الأخطار التي واجهت استعماله، وليثبت هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة، أيًا كانت الأخطار التي تقع في أثناء التطبيق، وليسقط الحجة الواهية التي تثار لإبطال هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة، كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئة، ولو كان هو انقسام الصف كما وقع في "أحد" والعدو على الأبواب، لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ، ووجود الأمة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق...
ويقول الشيخ د/ يوسف القرضاوي في "الفتاوى المعاصرة":
"ومن القواعد الشرعية المقررة: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن المقاصد الشرعية المطلوبة، إذا تعينت لها وسيلة لتحقيقها، أخذت هذه الوسيلة حكم ذلك المقصد".
ولا يوجد شرعًا ما يمنع اقتباس فكرة نظرية أو حل عملي، من غير المسلمين، فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بفكرة "حفر الخندق" وهو من أساليب الفرس.
ويقول: "أن من حقنا أن نقتبس من غيرنا من الأفكار والأساليب والأنظمة ما يفيدنا.... ما دام لا يعارض نصًا محكمًا، ولا قاعدة شرعية ثابتة. وعلينا أن نحور فيما نقتبسه، ونضيف إليه، ونضفي عليه من روحنا ما يجعله جزءًا منا، ويفقده جنسيته الأولى. (من كتاب الحل الإسلامي فريضة وضرورة).
الخلفاء الراشدون والشورى:(/1)
بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع أهل الحل والعقد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار ومن قريش لتنصيب خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم (وأهل بيته وأبناء عمومته عليه الصلاة والسلام كانوا منشغلين بتكفين جثمانه الشريف صلى الله عليه وسلم) فأخذوا يتناقشون حول كيفية ترشيح الخليفة، أيكون من الأنصار؟ أم من المهاجرين؟ أم واحد من هؤلاء وواحد من هؤلاء؟ حتى استقروا بعد نقاش مستفيض على أبي بكر رضي الله عنه وبايعوه جميعًا ثم خرج يخطب في الناس خطبة توليه الخلافة وقبوله البيعة، فكان مما قال: "أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم...".
وبعد حكم عامين أوصى أبو بكر بالخلافة لعمر رضي الله عنهما – وذلك بعدما استشار كبار الصحابة – ولم تنعقد الخلافة لعمر (رضي الله عنه) بمجرد وصية أبي بكر (رضي الله عنه)، بل كانت هذه الوصية بمثابة ترشيح من أبي بكر لعمر، وكان عمر الفاروق هو المرشح الوحيد الذي اختاره أبو بكر لدرايته به وبإمكانياته وأمانته وجدارته وتوقعه قبول الناس به، فلما مات أبو بكر (رضي الله عنه) أعلن أهل الحل والعقد قبولهم بعمر – مرشح أبي بكر (رضي الله عنه) – لهذا المنصب، فبايعوه ليبايعه عامة الناس من ورائهم، وبهذه البيعة انعقدت الخلافة شرعًا لعمر (رضي الله عنه) وليس بمجرد ترشيح أبي بكر له، فخطب بالناس خطبة شبيهة بخطبة أبي بكر، وكان مما قال فيها: "أيها الناس من رأى في اعوجاجًا فليقومني..."ويرد عليه واحد من الجمهور أمام الناس فيقول: "والله يا ابن الخطاب لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بحد سيوفنا!".
فكان يحض الناس ويشجعهم ويفتح لهم الباب للتدخل لتقويمه وإصلاح خطأه، فلم تكن البشرية آنذاك قد عرفت مجالس الشورى المنتخبة ذات الصلاحية الرسمية لمحاسبة الرئيس إذا ظهر منه اعوجاج عن الدستور المنظم لمصالح البلاد، ولو كانت موجودة وقتها لسارع عمر رضي الله عنه لأسلمتها لحماية دستور الأمة الإسلامية (الشريعة المستقاة من القرآن والسنة الصحيحة..) من استبداد أمير أو حتى سهوه وخطأه غير المتعمد، حتى ولو كان ذلك الأمير هو عمر نفسه رضي الله عنه، فما أحرصه وأغيره على هذه الأمانة العظيمة – هذا الدين الحنيف -، فهو الذي قام بأسلمة نظام الديوان الفارسي وطوعه لخدمة الإسلام والمسلين.
وهو الذي ردت عليه امرأة رأيه وهو فوق المنبر أمام الناس، فلم يجد في نفسه غضاضة، بل قال أمام الملأ: "أصابت امرأة وأخطاء عمر" وتراجع عن رأيه.
وكان عمر رضي الله عنه إذا حزبه أمر لم يجده في الكتاب والسنة، جمع له أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وجعله شورى بينهم!.
ومن شدة حرصه على مصلحة الأمة حين أراد أن يرشح لهم خليفة – ولم يجد واحدًا مميزًا جدًا يعلم أن الأمة ستجتمع عليه- فيسميه ويرشحه للخلافة من بعده، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه فاختار من الصفوة ستة، رشحهم لهذا المنصب، ولم يكتف بذلك بل وسنَّ لهم أول نظام عرفه العالم في انتخاب الرئيس، وذلك قبل ظهور ديموقراطية أوروبا بأكثر من ألف عام، ففي ذلك الوقت ما كانت تعرف البشرية هذه الانتخابات، وكان للفرس ملك (شاه) يدعى كسرى، وكان للروم ملوك هم القياصرة يتوارثون الملك ويستبدون بالشعوب بلا رقيب ولا حسيب ولا دستور ضابط أو مرجعية تحسم الخلاف. وكان للإسلام دستور هو القرآن والسنة ومرجعية وهم العلماء الذين يستنبطون الأحكام من القرآن والسنة وفق منهج بينه لنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى:{ "وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } 83- النساء. الذين يستنبطونه هم العلماء، فأولو الأمر ليسو فقط الأمراء بل هم الأمراء والعلماء، وهي بصيغة الجمع كناية عن أهل الحل والعقد، فلم يقل سبحانه إلى الأمير أو إلى الخليفة بل قال: "وإلى أولي الأمر منهم"، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}59- النساء، ففي الشطر الثاني عند ذكر النزاع لم يذكر ولاة الأمر لأنهم قد يكونون طرفًا في النزاع فإلى من يرد الأمر عندها؟ إلى الله والرسول، ومن يستنبط حكم الله والرسول؟ هم العلماء ومن يفصل في النزاع إذا كان ولي الأمر طرفًا فيه؟ هم القضاة، وهذا وقع في تاريخ الإسلام عدة مرات لما كانت الأمة في عافيتها.(/2)
وجد عمر أن الستة يمكن أن يصيروا ثلاثة مقابل ثلاثة، فحتى يحسم نتيجة الانتخاب بوضوح رشح ابنه عبد الله – ليس لأنه ابنه فجمع الناس يعرفون قدر عبد الله بن عمر – رشحه كعضو في هذا المجلس، ولكن أعطاه حق التصويت فقط ولم يعطه حق الترشيح، فليس لعبد الله بن عمر أن يرشح نفسه بل له فقط أن يعطي صوته لأحد المرشحين إذا تساوت الأصوات، والعبرة هنا ليس بتحديد العدد بل بالفكرة التي أحدثها عمر في الإسلام على أسس الإسلام خدمة لمقاصده، فأقر مبدأ التشاور والترشيح والتصويت والانتخاب، بل وزاد على ذلك أن كلف إحدى القبائل بمحاسبة أعضاء هذا المجلس إذا هم أخفقوا في التوصل إلى حل في مدة ثلاثة أيام، وقال لهم أن يقتلوا كل هؤلاء المرشحين إذا لم يتوصلوا إلى حل ويتفقوا بعد ثلاثة أيام. وأعود فأقول ليست العبرة هنا بالمدة التي حددها عمر رضي الله عنه ولا بنوع العقوبة، بل بالمبدأ الذي أقره، وأقره عليه الصحابة بقبوله وتطبيقه وفق فهمهم لمنهج النبوة الذي كانوا على عهد قريب به، وهو محاسبة أولي الأمر وأهل الحل والعقد بالإضافة إلى موضوع الانتخاب.
إن تطورات الأمور في هذا المجلس أدت إلى أن بقي مرشحان هما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعثمان بن عفان رضي الله عنه، وكانت الكلمة التي تحدد من منهما يكون الخليفة هي كلمة أو لنقل صوت الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وهذا الصحابي لم يرد أن يغامر في هذه المسؤولية ويختار للأمة إلا بعد أن يسألهم ليطمئن أنه اختار لهم من يقبلوه، فذهب يسأل أهل المدينة بيتًا بيتًا، حتى أنه كان يسأل النساء أيضا (علي أو عثمان) وكانت نتيجة هذا الاستفتاء تميل إلى كفة عثمان، ليس رفضًا لعلي رضي الله عنه بل ميلًا إلى سهولة وسخاء عثمان مقارنة بشدة علي – في الحق طبعًا – وعند انقضاء المدة أعلن عبد الرحمن بن عوف بيعة عثمان، وبايعه علي رضي الله عنه ثم بايع سائر الناس، فكم من درس يمكن أن نستنبط من هذه القصة؟؟؟
وفي خلافة عثمان رضي الله عنه رأى عثمان ألا يجمع الناس بين الحج والعمرة في وقت الحج، فقال للناس في الحج: "أتموا الحج وأخلصوه في أشهر الحج، فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل فأن الله قد أوسع في الخير"، فقال له على رضي الله عنه: "عمدت إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورخصة رخص الله للعباد بها في كتابه، تضيق عليهم فيها وتنهي عنها، وكانت لذي الحاجة ولنائي الدار" ثم أهل علي رضي الله عنه بعمرة وحج معًا، فأقبل عثمان بن عفان رضي الله عنه على الناس فقال: "إني لم أنه عنها، إنما كان رأيًا أشرت به، فمن شاء أخذه ومن شاء تركه". فكون عثمان هو الخليفة والأمير لم يمنع عليًا أن يواجهه بالخلاف بالرأي ويصوبه، ولم يتعال عثمان على الحق، فسارع ليبين للناس أن رأيه ليس بلازم للأمة الأخذ به.
وفي فترة خلافة علي رضي الله عنه عارضه رجل في أمر، فقال له علي رضي الله عنه: "أصبت – وأخطأت، وتلا قوله تعالى: "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ" – 76سورة يوسف.
وبعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ولم يكن عثمان قد قدم أي مرشح أو مجموعة مرشحين للخلافة من بعده، ومع توسع الدولة الإسلامية لم يعد سهلًا أن يجتمع أهل الحل والعقد في مكان واحد، وزاد على ذلك الخلاف الذي وقع بن علي رضي الله عنه وبين معاوية رضي الله عنه بداية حول القصاص بدم عثمان رضي الله عنه، فصارت فجوة، وظهر فراغ، أدى إلى فتنة واقتتال بين المسلمين حتى حسم بمقتل أحد الخليفتين وهو علي رضي الله عنه، ومما لا شك فيه بين أهل السنة أن المسلمين لو اتفقوا على علي أو على معاوية رضي الله عنهما لكان خيرًا من الاقتتال فكلاهما من أهل الفضل وإن زاد فضل علي على معاوية رضي الله عنه، فإنه يبقى صحابي جليل له فضله وقدره وجهاده في الإسلام، ولكنها الفتنة التي نريد أن نتعلم منها درسًا حتى لا نقع فيها، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، وعلينا أن نجتهد في ذلك، ونتوكل على الله مع بذل الأسباب.
حصل درس آخر في عهد علي رضي الله عنه في العراق لا يجب أن نفوت الاستفادة منه في هذا المقام، ألا وهو ظهور الخوارج، رغم معارضتهم لعدة مسائل، قال فيهم علي رضي الله عنه: "لهم علينا ثلاث، لا نمنعهم مساجد الله، ونقاسمهم الفيء ما دامت أيديهم في أيدينا، ولا نبدأهم بقتال". فانظر أيها المتدبر إلى هذه القواعد التي استنبطها وسنها علي رضي الله عنه في التعامل الشرعي الحكيم والعادل الذي يرعى مصالح الناس وحقوقهم، حتى مع المعارضة المنظمة، ومن هذا يمكن أن نستنبط ونفهم التالي:
#
المعارضة والمخالفة للخليفة أو للحاكم ليست في حد ذاتها جريمة يعاقب عليها الشرع.
#
المخالفون يتمتعون بكامل حقوقهم في الدولة ويأخذون مالهم إذا أدوا ما عليهم.
#(/3)
المساجد لم تكن أماكن عبادة فقط في ذلك الوقت بل كانت أماكن تجمع للتشاور في المسائل العامة التي تعني الأمة وأماكن لتجييش الجيوش وأماكن للإعلان عن أمور هامة وللتباحث في المسائل العلمية، فلم يحرم أصحاب الرأي الآخر من دخولها فهي وسائل الإعلام والبرلمانات (مجالس الشورى) ومنتديات الحوار الهادف والجاد، ومن حق المعارضة ألا تحرم من هذه الأماكن، وإذا حرمت منها وأغلقت أمامها هذه الأبواب فستكون لهم حجة لاستخدام أبواب ممنوعة وعاقبتها وخيمة على الأمة الإسلامية لما يمكن أن يلحق بالأمة عن تفكك وانقسام، ولو حفظ أئمة الأمويين والعباسين هذه الحقوق للمسلمين لما تعرض أئمة مثل الإمام أحمد بن حنبل والإمام ابن تيمية وغيرهم للسجن والضرب والنفي لمخالفتهم في الرأي مع أنهم كانوا على الحق، وهذا ما بعد ذلك.
#
أنهم لا يقاتلون ولا يسجنون ما داموا منضبطين بضوابط الخلاف يناقشون بالدليل والحجة، ويستوضحون ويوضحون آراءهم، فليس الصواب دائمًا مع الخليفة أو الأمير فهم في اعتقاد أهل السنة ليسوا معصومين، فكيف يتضح الصواب والخطأ إذا لم يفتح المجال للحوار والنقاش والاستدلال والتناظر، ومعروف أن هذا كان سائدًا في عهد الصحابة وفي عهد الخلفاء الراشدين، ورغم تناقصه في الفترة التي سمها الرسول صلى الله عليه وسلم (ملكًا عاضًا) إلا أن التاريخ لم يخل من شواهد مشرقة في هذا الجانب، فكان الشافعي رحمه الله يناظر العلماء في المسائل العلمية، وكان الأوزاعي وابن عساكر وغيرهم يناصحون الأمراء أمام الناس، وما كان الخلفاء يقتلون أو يسجنون أو ينفون كل من يخالفهم أو يناصحهم، ولكن الأحرى بالأمة أن تضبط هذا الأمر حتى لا يبقى عرضة لهوى الحاكم فإن لم يتق الله فالويل لكل من تسول له نفسه معارضته أو مناصحته أمام الناس، فيعدها خروجًا عن طاعته أو دعوة إلى فتنة لشق الصف فيطبق عليهم عقوبة ما ألصق بهم من تهم، وأحيانًا يصدر الحكم غيابيًا مع أن المتهم موجود ويمكن استدعاؤه واستجوابه في مجلس القضاء.
وهناك مسألة التحكيم المشهورة!!! فما هي؟... وما الفائدة التي تستفاد منها؟
في الفتنة التي وقعت بين الإمامين علي ومعاوية رضي الله عنهما، اتفق الفريقان على التحكيم، ولو قبل الطرفان بنتيجة التحكيم مهما كانت لكان هذا سببًا لتجنب الفتنة.
وهنا عاد الخوارج ليزيدوا المشكلة ويؤججوا نارها ويرفضوا التحكيم بحجة قالوها: "لا حكم إلا لله"، وهي مقولة حق في حد ذاتها، لكنهم استدلوا بها للتضليل وليرفضوا بذلك تحكيم البشر في النزاع، وهو خلاف ما قرره القرآن في أكثر من موضع، منها التحكيم بين الزوجين إن وقع بينهما شقاق، فالحكم لله ولكن من الذي يستنبط هذه الأحكام وينزلها باجتهاده على الحوادث؟ أليسوا هم الفقهاء؟ ليحلوا بها الخلاف ويحسموا بها القرارات! أليسوا هم أهل الحل والعقد؟ ولهذا رد عليهم علي رضي الله عنه بقولته المشهورة: "كلمة حق أريد بها باطل".
فهو يرد عليهم حجتهم ويدحضها ولم يستخدم سلطته في قمعهم، ليس جبنًا ولا ضعفًا ولكنها عين القوة التي تعلمها من بيت النبوة على منهاج النبوة: "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" ولا يعاقب أحدا بذنب لم يقترفه، فما داموا لم يحملوا السلاح، ولم يدعوا الناس لشق الصف، فلا يقاتلهم ما داموا ملتزمين بمنهج الحوار فلا سجن ولا نفي.
ولكن عندما خرجوا عن الضوابط الشرعية قاتلهم، وهذا عندما خرجوا عن القانون وخالفوه وليس عندما ظن أنهم سيخرجون عن القانون ويخالفوه، و إلا لا يعتبر كل من ناصح أو خالف الأمير صاحب فتنة لأن نصيحته أو مخالفته يمكن أن تؤدي يومًا ما – بقصد أو بدون قصد – إلى فتنة!!! فسبحان الله الذي قال: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ...".}
وحسب قاعدة سد الذرائع في الفقه الإسلامي، هل نمنع كل الآراء المخالفة، ونكمم الأفواه بحجة تجنب الفتنة المحتمل وقوعها ظنًا؟؟ أم نحاور أهل الآراء المخالفة لنفيدهم أو نستفيد منهم ولا نعاقب إلا من يرتكب ذنبًا، فيحمل علينا السلاح أو يسعى حقيقة بشكل ملموس لشق الصف والإفساد، ونسد بذلك ذريعة تكميم الأفواه والاستبداد، بحيث نضمن مجالًا من الحرية للناصحين بصدق وللمخالفين بحق، نشجعهم على ذلك كما فعل عمر اهتداء منه وتأسيًا بمنهج النبوة الذي تشربه من ينبوعه الصافي!!!
وعندما أراد معاوية رضي الله عنه استخلاف ابنه يزيد من بعده تصدى له فقهاء الصحابة ومنهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير فردوا عليه: "أتريد أن تجعلها هرقلية؟ ولن نبايع إلا أن تترك الأمر للمسلمين، أو تفعل كما فعل أبو بكر بترشيح رجل كفى ليس من أهله وولده، أو كما فعل عمر بترشيح نفر من الصفوة كلهم أكفاء وتركهم يختارون واحدا من بينهم".(/4)
ولكن معاوية لم يتراجع بالفعل عن قراره هذا – وهو قرار خاطئ لا محالة – فلو سكت جميع الصحابة لكان ذلك بمثابة إقرار للباطل، ومعاذ الله أن تجمع هذه الأمة على ضلالة، فما كان من أهل المدينة إلا أن بايعوا عبد الله بن الزبير خليفة، لأنهم لم يعترفوا ولم يقبلوا بطريقة استخلاف معاوية ليزيد،، وبقي عبد الله بن الزبير خليفة في المدينة ومكة نحو تسع سنين لا يخضعون ولا يعترفون بخلافة يزيد، حتى أرسل يزيد إليهم جيشًا بقيادة الحجاج – الظالم – فقتل عبد الله عند الكعبة بعدما حاصره فيها، فانظروا أيها الإخوة إلى العاقبة الوخيمة إذا ترك المسلمون التحاكم عند التنازع في الأمر إلى كتاب الله وسنة رسوله، وآثروا التحاكم إلى القوة والبطش والسيف الذي نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعمله ونشهره في صدور إخواننا، فقال عليه السلام: "إذا التقى مسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار"، فما أحوجنا إلى التحاور والتشاور والتحاكم حتى لا نقع فيما نهينا عنه من التخاصم والتدابر والتهاجر، وما قد ينجم عن ذلك من اقتتال والعياذ بالله!
كلمة أخيرة: في الحديث الصحيح المعروف الذي يرويه حذيفة رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تكون النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكًا عارضًا ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكًا جبريًا فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت". – رواه أحمد في مسنده وصححه الحافظ العراقي ووافقه الألباني.
والإجماع على أننا في مرحلة الملك الجبري، ولن يكون بعده حل وسط، إنما خلافة على منهاج النبوة، وقد تكون بوسائل جديدة كما فعل الخلفاء الراشدون باستحداث وسائل لم تكن على عهده صلى الله عليه وسلم ، المهم أن تكون على منهاج النبوة بموافقتها قواعد الإسلام وأصوله، وعدم معارضتها لنصوصه قطعية الثبوت والدلالة وتحقيقها لمقاصد الشريعة.
هذا والله أعلم، فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي، ومن رد علي بتصويب علمي وتجنب التجريح والتسفيه، فأسأل الله العلي القدير أن يثيبه عني وعن المسلمين خيرا.(/5)
الشورى
يقول تعالى:?وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ? [آل عمران159 ].
جاءت صيغة طلب المشاورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بلفظ الأمر: وشاورهم، والأمر يقتضي الوجوب، ومع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المعروف بحرصه على العدل، في كل ما يصدر عنه سواء قبل البعثة أو بعدها، فهو ذلك الرجل الذي عزف عن الدنيا، ولم يمل إلى هواه أدنى ميل، مع كل ذلك فإن الله سبحانه يأمره بالشورى في ما لم ينزل فيه وحي في أمر الحكم وتدبير شئون الأمة بتشاور مع المؤمنين، وذلك لما في التشاور من الفوائد الآتية :
1- للمصلحة العامة المترتبة على المشاورة، حتى تصبح المسئولية جماعية ورأي يُستخلص من رأي بعد التشاور، وبهذا يتم التعاون والتضامن في الرأي والتنفيذ.
2- في التشاور إبعاد لأي نقد يصور من بعض الأفراد عند التنفيذ، ذلك أن شئون الحياة تختلف فيها نزعات الناس ورغباتهم، لكنهم عند التشاور يصدرون جميعاً عن رأي واحد.
وهو الأقرب لحل المشكلة، وبذلك يحصل الرضا النفسي عند الجميع وتُسكت الألسنة التي دأبها الانتقاد والطعن والتشكيك .
وبذلك تستفيد الأمة ما يأتي :
أ ـ نضوج الرأي .
ب ـ الاتفاق عليه .
ج ـ مع الالتزام به وتحمل المسئولية في تنفيذه، ويظل الترابط والتعاون بين الحاكم والمحكوم قوياً والثقة تامة.
3- وهناك أيضاً فائدة جليلة ، وهي : إذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد سلك مسلك الشورى مع المؤمنين، فإنه أحرى بمن يأتي بعده أن يلتزم بمبدأ الشورى، ذلك أن غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحوج ما يكون إلى المشورة لقصور رأيه ، واحتمال خطئه احتمالاً كبيراً .
4- عندما يشرع الله سبحانه الشورى لعباده ، ويجعل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو أول من يطبقها، فإن معنى ذلك ، أن الله سبحانه يريد حماية الناس من تسلط من يحكم رقاب المسلمين بالاستبداد في الرأي، وارتكاب الهوى، وإصدار الأحكام دون الرجوع إلى أهل الرأي والمشورة .
5- والتشاور حينما يحصل بين الحاكم وأهل الشورى، إنما يكون فيما لا نص فيه من كتاب وسنة ، وليست العصمة قائمة للمتشاورين عن الخطأ، فكما يحتمل خطأ الحاكم، يحتمل كذلك خطأ أهل الشورى، لأنهم بشر ، لكن احتمال الخطأ منهم، أقل بدرجات ومراحل من احتمال الخطأ من فرد واحد، إذن فالشورى أقرب إلى الأمان وأبعد عن الخطأ، كما أن فيها حماية للانقسام والتمزق داخل الصف الإيماني .
6- والشورى كذلك ليست حقاً محضاً للحاكم إن شاء منحها للمؤمنين وإن شاء حرمهم إياها، بل هي واجبة عليه بأمر الله عز وجل: ?وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ? [آل عمران:159]، ولأن الشورى نفسها تضبط تصرفات الحاكم فيما لا يحق له ولا يخول له الشرع أن يتصرف فيه مثل العبث بأموال المسلمين، وتولية الظالمين وغير الأكفاء على رقاب المسلمين ونحو ذلك ثم إن القرآن الكريم لم يكتف بصيغة الأمر في الشورى والتي سبقت الإشارة إليها بل هناك صيغة أخرى ، تأملوا في قوله تعالى: ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ? الحجرات:10]، هذه الآية جاءت بصيغة الخبر عن أخوة المؤمنين فالله سبحانه وتعالى لم يقل: كونوا إخوة، ذلك أن صيغة الخبر أقوى في الدلالة من صيغة الأمر، وأدعى إلى مبادرة الامتثال من المؤمنين، لأن فيها الإخبار عن طبيعة المؤمنين التي لا يتخلون عنها ولا تفارقهم، فهي جزء من كيانهم، ومثل هذه قول الله تعالى: ? وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ?[ الشورى: 38] ، ضمن الآيات الواردة في سورة الشورى في قوله تعالى: ? َمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ َالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ َالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ?[ الشورى: 36-39].
فإذا كانت الصلاة والزكاة واجتناب الفواحش صفات من صفات المؤمنين لا تنفك عنهم، فإن الشورى كذلك صفة للمؤمنين لا تنفك عنهم، لأن المؤمن أبعد ما يكون عن الظلم ومظانه من احتكار الرأي والاستبداد به وارتكاب الهوى وعدم الرجوع إلى رأي أهل الاختصاص من أهل العلم والحنكة والدربة والروية وحصافة الرأي.(/1)
وهذه الصفات الكريمة التي اشتملت عليها هذه الآيات، عندما نتأملها نجد أنها أشد لصوقاً بالحاكم المسلم، وإن كانت عامة لكل مسلم.
وكما قلنا فإن أهل الشورى هم العارفون بكتاب الله تعالى، المتفقهون في دينه، من أهل التقوى والصلاح والخبرة في الشورى العامة والخاصة.
وحكم الشورى هو حكم الإسلام الذي لم يعرف غيره ، أما أنواع الحكم التي ظهرت في أوروبا، وتخبطت فيها الشعوب وتصارعت فهي باطلة لا تأتي بخير وذلك مثل:
1- الديمقراطية : حكم العامة أو الشعب ، وسيادة من ينتمون إلى النسبة العددية الكبرى في المجتمع أي أن الشعب مطلق العنان لا يتقيد بنظام رباني ، وإنما يكون كل شيء في الدولة تابعاً لهواه.
2- الأرستقراطية: نظام حكم النبلاء والأشراف، أو المتميزين في المجتمع من أصحاب الطبقة العليا، إما لشرف الأسرة أو كثرة المال أو نحوهما.
3- الأوتوقراطية: نظام الحكم المطلق غير المحدد وغير المقيد بأي عهد أو ميثاق.
4- الثيوقراطية : نظام الحكم الذي يعترف بالله كحاكم مدني أعلى، تفسر قانونه سلطة روحانية خاصة مكونة من رجلي الأكليروس (الكهنوت).
5- إن المجتمع المسلم يضم أفراداً مؤمنين بالله يصدرون في كل شيء عن حكمه وشرعه لا عن هوى وعصبية.
والمجتمع الأوربي مجتمع لم يعرف التوحيد، بل هو قائم على الوثنية القائمة في صورة الثالوث لذلك يتباينا كل التباين في صيغة الحكم وأنماط الحياة كلها.
راجعه: عبد الحميد أحمد مرشد.(/2)
الشيخ فتح الله كولن وسكونية العقل المسلم
بقلم: أديب إبراهيم الدباغ
-1-
يأسى "الشيخ فتح الله كولن" لهذه السكونية التي تسكن عقل المسلم وتمنعه من الانطلاق في دنيا الله بما يحمله من إيمان وإسلام، وهو يرى في هذه السكونية نوعاً من الموت الفكري يجب على العقل المسلم أن ينأى بنفسه عنه.
فالسكونية في عالم مضطرب ومتحرك لا يتوقف أبداً هي نوع من الانتحار الإيماني، وشلل يُعجِزُ صاحِبهُ عن ملاحقة ما يستجدُّ في العالم من توجُّهات فكرية وروحية.
وقلب الشيخ مفعم بالأسى من أجل الجنس البشري المتلهف لسماع كلمة الحق من أفواه أهل الحق، ولكن هذه السكونية الكسول هي التي أقعدت المسلمين ومنعتهم من السير بكلمة الحق شرقاً وغرباً ليَسْمَعَهَا العالمُ كلُّه.
فالسكونية حالة بائسة مرفوضة من قبل الكون والحياة المبنيين على الحركة والتحول، لأنها على النقيض منهما، فمناكفة الكون، ومعاندة الحياة، تعودان بأشدّ الضرر على صاحب العقل السكوني، حيث يتجاوزه ركب التجديد ويخلفه وراءه منكفئاً على آلام سكونيته بخوائه الفكري وجوعه الروحي.
-2-
إنَّ مسؤولية المسلم الأخلاقية والأدبية تُحَتِّمُ عليه – كما يقول الشيخ – أَنْ ينزع عنه ثوب السكونية. وأن يغادر أرائك الراحة والكسل المطمئن إلى غير رجعة، وأن يستبدل بهما شيئاً عظيماً من القلق والتوتر الروحي إلى آخر مداه، وأن يضرب في الأرض حيثما تقوده قدماه، مفتشاً عن الإنسان الذي تضنيه قضية الحياة وغاية الوجود، ويعذبه تردده بين الشك واليقين، وأن يسارع إلى مدّ يد الإنقاذ إلى أولئك الساقطين في هوة اليأس، والهاربين من وجه الله إلى غير وجه، والرافضين للحياة، والغائصين في مهاوي العبثية والرغبة في الانتحار، وكأنَّ لسان حالهم يقول: لماذا نظلَّ أحياءً فوق هذه الأرض إذا كان القبر قد فغر فاهه لابتلاعنا في آخر المطاف...؟!
-3-
إنَّ التحولات الإيمانية الكبرى، لايقوى عليها إلاّ أصحاب الأرواح العظيمة القلقة المؤرقة، التي يقلقها ويؤرقها ثقل المسؤولية التي شرفهم الله تعالى بتقليدهم إياها.
والشيخ "فتح الله" يرى أن جوهر "الحضارة الإسلامية" يكمن في هذا القلق الروحي والأرق الفكري، الباعثان على التغيير على الأرض وفي الوجدان، والمحفزان على الانعتاق من سجن "المكانية" الثقيل، والتحرر من خناقها على الذهن، والانفكاك من غِلِّها الذي تغلُّ به المسلم وتجعله يخلد الى عتيق فهمه، ويطمئن الى قديم علمه، بينما يلحُّ عليه في الأعماق نازع ينزع به نحو ارتقاء عقلي أعلى، وسمو قلبي أرفع.
-4-
وإنَّ مِمَّا يثلج صدر "الشيخ"، ويدخل على قلبه الحبور، رؤيته لِثُلَّةٍ من المؤمنين وهم يضربون في معارج الرقي الروحي، ويشكلون بعروجهم هذا مفخرةً لجنس الإنسان، وإكليل مجدٍ فوق جبين البشرية، ولسان حالهم يقول: "خَلُّوا سبيلنا ودعونا نضرب في الأرض، حاملين ذلك القبس القرآنيّ إلى أقاصي العالم"، هؤلاء المؤمنون البسطاء في عظمتهم، الأقوياء في ضعفهم، الأغنياء في فقرهم، إنهم أرسخ قدماً في دنيا الحق، وأشدُّ توقاً إلى عالم الخلود، لا يقبلون عنه بديلاً ولا يرضون سواه وموئلاً وملاذاً.
وهؤلاء – كما يؤمل الشيخ – هم القوة التي ستوطد أركان الحقيقة الإيمانية على ظهر الأرض، يحركهم شوق عظيم لا يقاوم، ويُوْرِي زِنَادَ أفكارهم بوارق من عالم الغيب، إنّ فيهم شيئاً إِلهياً لا يني يزور أرواحهم ليديم شعلة الروح ذاكية قوية ليكون بإمكانهم أن يغزوا قلب الليل بقوة وشجاعة.
-5-
والعجب كل العجب من هذا الكوكب الأرضي، كيف لا يتلاشى ويتمزق من الغيظ شظايا في الفضاء وهو يرى غدر الإنسان وإدباره عن ربّه وخالقه، فإذا أقفرت الأرض من العارفين الساجدين فأنها تفقد معنى وجودها ومغزى خلقها، لا بل تفقد الحياة التي تمدها بأسباب البقاء، لأنّ الإيمان حياة، بل هو قلب الحياة، وروح الوجود، ومن دون هذا الإيمان سينتابُ الأرضَ هلعٌ رهيب يقصيها عن أمومتها لنا، واحتضانها لنا، فتتركنا في هوة أتراحنا وعذاباتنا نتجرع مرارة اختفاء إنسانية الإنسان فوق هذه الأرض، لأنّ الإنسان عنصر روحي في قالب ماديّ فإذا فقد جوهره الروحي صارت حياته خلواً من الحياة، وصار قالبه الإنساني خلواً من الإنسانية.
وَإنَّ مِمَّا يؤنس الأرض ويطمئنها على مصيرها، إحساسها بأنّ على ظهرها عبقريات قرآنية تجوب آفاقها، وتبحث في أرجائها عن الإنسان التائه في شعاب "اللاّدينية" المهلكة حيث يجد من أبطال المحبّة – كما يسميهم الاستاذ – مَنْ يحنو عليه ويأخذ بيده الى الطريق القرآني المشرق بالنور والأمل والسلام.
-6-(/1)
وإذا ما ماجت الروح، وطفحت الأشواق، وتعالى الوجد، واشتدّت وتيرة الإيمان، وارتفع لهب العقل، فلا شيء يمكن عندئذٍ أن يسع المؤمن، ويحدَّ من انسيابه في عروق الأرض وشرايينها، فيأتي الحضارات يدقّ أبوابها، والمدنيات فيَفُكّ الغازها، والبلدان والأقوام والشعوب فيخالط وجدانها، ويأتي العقول من أبوابها، والارواح من منافذها.
أعطني –يا صديقي- ألفاً من الفتيان السائرين في الصدق على قدم أبي بكر، والصُّلبين في الحق صلابة عمر، والعاشقين للقرآن عشق عثمان، والمقدمين في الملمات إقدام عليّ "رضي الله عنهم أجمعين" أفتح لك قلب العالم، وأُنِرْ لك ظلام الدنيا، وآتيك بالتاريخ طوعاً أو كرهاً، وأزلزل الأفكار، وأقلب المفاهيم، وأجعل الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء، وأصل ما بين قلب الكون والانسان، وبين روح الإنسان وروح الله. "لذلك نؤمن بضرورة توجيه العالم الاسلامي جميعاً إلى التجدد بكل أجزائه في فهم الإيمان، وتلقيات الإسلام. وشعور الإحسان، والعشق والشوق، والمنطق وطريقة التفكير، وأسلوب الإفادة عن نفسه، بمؤسساته ونظمه التي تكسبه هذه الأحوال"[1] بمثل هؤلاء "السامعين بوجدانهم أناشيد "الماورائية" تناديهم الى الله"[2] يمكن للعقل المسلم أن يتحرر من سكونيته، ويخرج من شرنقته.
ملاحظة مهمة: الأفكار الواردة في هذا المقال يجد القارئ أصولها في كتب الأستاذ فتح الله المترجمة للعربية وهي: النور الخالد، أضواء قرآنية، الموازين، طرق الإرشاد في الفكر والحياة، روح الجهاد وحقيقته في الاسلام، ترانيم روح وأشجان قلب، ونحن نقيم صرح الروح...
[1] فتح الله كولن، ونحن نقيم صرح الروح، ترجمة عوني لطفي أوغلو، دار النيل للطباعة والنشر
[2] المصدر نفسه(/2)
الشيخ أمجد الزهاوي
وليد الأعظمي
ولد الشيخ أمجد بن محمد سعيد الزهاوي سنة 1883م ونشأ في أسرة علمية ذات مكانة دينية واجتماعية مرموقة في محلة جديد حسن باشا في دار ملاصقة لجامع السراي (القشلة) وكان لجده رحمه الله مجلس يتردد عليه العلماء والوجهاء وكثيراً ما كان الشيخ أمجد يدخل المجلس وهو صبي صغير وكان جده يحبه كثيراً حتى إنه كان يردد على الدوام:
ابن ابننا من ابننا أحب الابن قشر والحفيد لب
ويعد الشيخ أمجد من العلماء المرموقين في العراق والعالم الإسلامي وقد نهل من منابع العلم وتلقاه على أيدي أعلامه وجهابذته، ساعده في ذلك ذكاؤه الحاد فقد كان سريع الحفظ وقوي الذاكرة يتذكر أرقام الصفحات والمواضيع والأسماء التي يستشهد بمضامينها وساعدته البيئة العلمية التي نشأ فيها فهو ابن مفتي العراق وحفيد المفتي، وفتح عينيه على ديوان جده محمد فيضي الزهاوي الذي كان يغص بالعلماء وطلاب العلم، وكذلك حال مجلس أبيه.
وكان الشيخ أمجد يرتاد المكتبات منذ شبابه وكان يذهب كل يوم إلى مكتبة جامع عثمان أفندي، في سوق الصاغة ببغداد وعين رئيساً لمجلس التمييز الشرعي حتى أحيل إلى التقاعد، وكان للشيخ وقفات طويلة مع قضية الأمة – فلسطين – فقد لازمها منذ بدايتها وحتى وفاته – رحمه الله – وحضر جميع المؤتمرات التي عقدت من أجلها ومما يروى عن الشيخ بهذا الخصوص أن أحد الساسة العراقيين كان يخطب يائساً مما وصلت إليه الأمور في فلسطين والعالم العربي من ذل وهوان فتمنى الموت، فقال له الشيخ:
(أخي المؤمن لا تتمنَّ الموت بل تمنَّ أن تعمل صالحاً لما بعد الموت كي تنال الدرجة العالية في الآخرة فنحن لم نخلق لنأكل ونتمتع بل نعيش لنعمر الأرض بالعمل الصالح وقد فتح الله لنا أسمى الأعمال الصالحة وهو الجهاد في سبيل الله والمؤمن لا ييئس من روح الله فهيا لتحرير الأرض المقدسة).
وأكثر ما أثار استغراب الشيخ أمجد الزهاوي في حياته هو ركون الكثير من علماء عصره إلى التأليف والشرح وترك الدعوة إلى الإسلام وعدم اهتمامهم بمصالح المسلمين ومما قاله في واحدة من خطبه في جامع أبي حنيفة النعمان في الأعظمية:
(مما يؤلمني أني قضيت أكثر عمري أعمل في أمور فقهية وقد غفلنا عن أمر عظيم جداً وهو تبليغ هذه الدعوة المباركة إلى الناس لذا أطلب منكم أيها الشباب أن ترفعوا راية الدعوة إلى الله تعالى خفاقة عالية).
ومما قاله لرجال الدعوة والعمل الصالح:
(إنكم اليوم تقومون بعمل كبير جداً ربما يوازي ما قام به الأئمة الأربعة – أبو حنيفة ومالك وابن حنبل والشافعي – لأنهم عملوا للإسلام واجتهدوا وكان الإسلام دولة وقوة ومنعة.. أما أنتم اليوم فتعملون للإسلام وليس للإسلام دولة ولا قوة وأزيد على ذلك بأنني لو كنت قاضياً وأتاني شاهد وعلمت بأنه يقطع الليل والنهار بالعبادة ولا يعمل للإسلام لرددت شهادته).
وقام الشيخ أمجد رحمه الله بجمع التبرعات من أجل الجزائر التي كانت تخوض حرباً شرسة ضد الاستعمار والاحتلال الفرنسي، والتقى الشيخ أمجد بالمجاهد الكبير عبد الكريم الخطابي قائد الثورة ضد الاحتلال الفرنسي والإسباني في المغرب وكان الشيخ رحمه الله يركز في خطبه على الدعوة ووحدة الصف وعلى البذل والعطاء والسخاء والإنفاق في سبيل الله تعالى، ومن أقوال الشيخ الشهيرة وحكمه الرائعة قوله:
(نحن أصحاب دعوة ربانية يجب أن نصدع بها في كل مكان فإن لم نغير فلابد أن نؤثر).
ومن حكمه أيضاً:
(إن العمل للإسلام يجب أن يتوج بالنجاح فإذا رأيت عملك ليس كذلك فهذا يعني أن طريقة العمل خاطئة، مع صحة الهدف، وهناك خطأ في العمل وليس في الهدف).
و(الوهن بفقد الثقة بالله تعالى، يدفع إلى تقليد العدو ومحبته).
ومن أشهر الدعاوى التي ترافع فيها محامياً دون مقابل حسبة لله تعالى ثلاث:
أولها الدعوة ضد الحركة البهائية الهدامة في العراق.
والثانية للدفاع عن الشيخ ضاري الزوبعي قاتل الكولونيل لجمن سنة 1920.
والدفاع عن ناظم الزهاوي سنة 1946 للدفاع عن الآراء الصحفية الحرة النزيهة.
وذلك بعد اعتزاله القضاء ثم التدريس في مدرسة السليمانية ودار العلوم في الأعظمية وكلية الحقوق حيث كان يدرس الأحوال الشخصية والوصايا والفرائض وطبع له كتاب بهذا العنوان وفتاواه أشهر من نار على علم وكذلك طلابه الذين نشروا العلم الشرعي في كل مكان.
ومن المناصب التي تقلدها الشيخ تكليفاً لا تشريفاً:
- رئاسة جمعية الآداب الإسلامية سنة 1947.
- ورئيساً لجمعية إنقاذ فلسطين حتى إلغائها.
- ورئيساً لجمعية التربية الإسلامية منذ تأسيسها سنة 1949 حتى توفاه الله تعالى.
- ورئيساً للجنة الجزائر إبان حرب التحرير.
وسافر إلى الهند وباكستان وإندونيسيا وجنوب شرقي أسيا داعياً لقضية فلسطين.
وكان عفيفاً ورعاً رقيقاً في نصحه ووعظه، شديداً في الحق، ناصحاً ومرشداً ومفكراً ومذكراً ومنذر.(/1)
توفي، رحمه الله تعالى، يوم الجمعة 14/ شعبان 1387هـ الموافق 17/ تشرين الثاني 1967 ودفن في مقبرة الإمام الأعظم فنعاه بعض أحبائه قائلاً:
وترسم درب الجهاد iiالطويل يطل على العالم الأوسع
وتسرع يا أمجد في الخطوب تشير إلى النور بالإصبع
فتنفق ما ملكته iiيداك وتهتف: يا كائنات iiاشبعي
ويعطف قلبك iiللبائسين ... وللجائع المترب المقطع
...(/2)
الشيخ صلاح أبو إسماعيل
محمد المجذوب
كثيرون جداً أولئك الذين يريدون أن يقرؤوا سيرة هذا الرجل في مختلف أرجاء العالم الإسلامي، وليس مرد تلك الإرادة إلى آثار علمية كثيرة قدمها إلى أمته أو كشف جديد أضافه إلى حقول المعرفة البشرية، وليس هو واحداً من أولئك الانقلابيين الذين يستولون بالحديد والنار على أزمة شعوبهم، ومن ثم على وسائل إعلامها، فيملئون الدنيا صراخاً بمآثرهم وعجائب عبقرياتهم، ويقرعون الأسماع صباح مساء بالحديث عن مواهبهم التي أحالت الصحارى جناناً، والهزائم انتصارات، والتخلف تقدماً وازدهاراً..
أجل.. لا لشيء من هذا أو ذاك يريد المسلمون المعنيون بشئون دينهم وأحوال أمتهم أن يقفوا على بعض التفاصيل من سيرة هذا الرجل، ولكن لسبب آخر من حقه أن يجتذب أنظارهم وأفكارهم، لأنه بات في أيامهم هذه من التحف النادرة التي قلما يقعون عليها في واقعهم، مع أنها من الخصائص الأولى لهذه الأمة التي ميزها الله بالخيرية، المتمثلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله.
ولعل معظم هؤلاء الكثيرين قد فوجئوا لأول مرة باسم هذا الرجل يوم ألقى بقذيفته المدوية أمام المحكمة المنعقدة لمحاكمة من يسمونهم " جماعة الجهاد " في القاهرة، فانطلق صداها يتردد في الصحف والإذاعات العالمية، ثم لم يتوقف دويها حتى اليوم.. وحق لهم أن يفاجَئوا، وحق لوسائل الإعلام العالمية أن تردد ذلك الصدى، لأنه كان نذيراً بأنه لا يزال بين علماء الإسلام من يؤثر مرضاة الله على النفس والحياة والمنصب، فيعلن شهادة الحق في أحرج المواقف، يرسلها مجلجلة ناصعة لا تخاف في الله لومة لائم، حفاظاً على قلبه من أن يخالطه الإثم الذي أوعد الله به كاتمي الشهادة..
وإنها لعمر الحق لبطولة تفوق سائر البطولات التي ألف الناس أن يمجدوها ويقيموا لها الأنصاب والمعالم.. وبخاصة بعد أن خرست أصوات الصادقين وطغت ضوضاء المنافقين، وأصبحت فنون البلاء موكلة بالألسن، فهي تتهيب أن تهمس بكلمة الحق خشية أن تقطع أو تنزع..
وبهذه الروح، وبهذه النظرة إلى موقف الرجل في ذلك اليوم التاريخي، قصدت إلى زيارته في داره بحي الدقي من القاهرة، وكان الحوار الذي أفضى إلى هذه الصفحات.
إنه الشيخ صلاح أبو إسماعيل من علماء الأزهر الغالي على قلوب المسلمين، وعضو مجلس الشعب الذي عرفه من أشد المنافحين عن شريعة الله والصادعين بالكلمة التي ترضي الله وتسخط كل عدو له..
يقول إنه ولد في بهرمس ـ مركز إمبابة ـ محافظة الجيزة بمصر، يوم السابع عشر من مارس عام 1927، في بيت معروف بحفاوته بالعلم والعلماء، فجده الأعلى كان إماماً للخديوي إسماعيل، وأنجب ولدين تخرجا في الأزهر، ثم كانا عضوين في مجلس النواب.
فالبيت بيئة وجاهة وعلم ويسار، ويصفه الشيخ بأنه كان منتدى لأهل العلم، يعمرونه بزياراتهم ويعمرون مجالسه بمحاوراتهم ونقاشهم وأسمارهم وفتاواهم، كما كان مرتاداً لذوي الحاجات، يمكثون في مضافته الأيام حتى تقضى مصالحهم. وقد الناس لهذا البيت مودته أثناء الضائقة التي اجتاحته ـ فيما اجتاحت من مصر ـ خلال الثلاثينات، فلا ينجح مرشح في دائرته الانتخابية إلا بتأييد من أهله.
وقد توفي والد الشيخ بعد تخرجه في جامعة القاهرة وهو في ميعة الشباب، وحبست الوالدة نفسها عليه وعلى أخته فحاطتهما بأحسن الرعاية والتربية، فكان لها بهذا وغيره ـ يقول الشيخ ـ أبلغ الأثر في حياتهما.
تلك هي البيئة التي نشأ فيها الشيخ، فلا بد أنها تركت أثرها عميقاً في نفسه وخلقه وسلوكه، فهناك الجو العلمي الذي يواجه من خلاله وجوه كبار العلماء يترددون على ذلك البيت، وهناك " المكتبة الحافلة بنوادر المطبوعات والمخطوطات " وهناك الأفواج من الضيفان تتوافد على شيوخه تلتمس الحلول لمشكلاتها والفصل في خلافاتها، ولا يستبعد أن تستشفع بهم لإنجاز مصالحها لدى الجهات الرسمية عن طريق علاقاتهم بالمقام الخديوي والمجلس النيابي..
والغريب أن يمتد أثر هذا الجو في حياة الشيخ صلاح نفسه إلى حد التكرار لهذه الصور الأخيرة، التي شهدت مثلها في منزله، حيث رأيت أصحاب المصالح يحتلون بهو الاستقبال، فيستمع من هذا إلى قضيته الجديدة، ويراجع ذاك في ما انتهى إليه بشأن مشكلته القديمة، ويتصل من أجل الثالث بالمرجع الحكومي المختص بموضوعه، ولا ينفك خلال ذلك متكلماً بالهاتفين أو مسجلاً في مذكرته اليومية مطالب هؤلاء وأولئك، حتى إذا حان موعد التحرك لمتابعة هذه الحاجات نهض ليقود سيارته وفيها ملؤها من هؤلاء.... ثم لا يزال يجول بهم بين هذه الدائرة وتلك وبين هذا الرئيس وذاك، حتى يستنفدوا إمكاناته وقد نهكه النصب. وأخذ طريقه في زحام السيارات إلى منزله ليتنفس الصعداء، وليستأنف بعد ذلك متاعبه في خدمة المراجعين، الذين لا يرى أحدهم سوى مشكلته وحدها..(/1)
ويحدثنا فضيلته عن دراسته فيقول إنه بدأها في مدارس التعليم العام، إذ التحق بمدرسة محمد علي الابتدائية في ميدان السيدة زينب بالقاهرة، ومنها نال الشهادة الأولى، ولكن القدر الحكيم حال دون متابعة المنهج العام هذا، لأن والده وجده قد اتفقا على تحويله إلى الدراسة الأزهرية، حفاظاً على طابع البيت، ورعاية المكتبة العلمية الكبيرة التي لا بد لها من متخصص ينتفع بها وينفع، وهكذا عهدا به إلى مقرئ يحفظه القرآن الكريم، ويلقنه أحكام تجويده. وبذلك أضيف إلى سنيه الدراسية ست سنوات، فقد كان أمامه تسع سنوات أخرى للحصول على المؤهل الجامعي، فارتفعت المدة إلى خمس عشرة سنة في نطاق التعليم الأزهري..
ويصف الشيخ رحلته الدراسية بأنها كانت موفقة بفضل الله ، إذ اجتاز أقسامها الأربعة الابتدائي فالثانوي فالكلية فمعهد التربية العالي للمعلمين، بنجاح مستمر دون توقف، وكان قد أفرز بنهاية امتحان الثانوية العامة إلى كلية دار العلوم، ومع أنها الكلية المفضلة بنظر الطلاب، لما لخريجها من الحظوة لدى وزارة التربية والتعليم. فقد آثر عليها كلية اللغة العربية ـ شعبة الشريعة الإسلامية بالأزهر ـ وفيها تخرج عام 1954 وهو العام الذي واجه فيه الاعتقال للمرة الأولى عقيب الحل الذي فرضه جمال عبد الناصر على جماعة الإخوان المسلمين... وكان لهذا الاعتقال أثره النفسي في نتيجة امتحانه للشهادة العالية بعد ذلك، فلم يتجاوز درجة " مقبول " وهو الذي لم ينزل عن مستوى التفوق طوال حياته الدراسية، وبهذا حيل دون قبوله في الدراسات العليا، فاضطر إلى التحول لكلية التربية للمعلمين، حيث حصل على الأولية في دبلومها العالي للتربية وعلم النفس ومن ثم عين مدرساً للدين والعربية في مدارس المتفوقين والمدارس النموذجية. وقد أحب علمه فلم يفكر بتغييره قط. إلا أن اشتعال الجو الإرهابي الناصري في منتصف الستينات على الإخوان المسلمين اضطره إلى قبول عرض بالنقلة من التدريس إلى أن يكون مديراً لمكتب شيخ الأزهر.
ويذكر الشيخ من الأحداث التي رافقت رحلته الدراسية، أثر الأزمة التي مرت بها بلاده أثناء الثلاثينات كما أسلفنا، فقد كان نصيب بيتهم منها أن ذهبت بالأخضر واليابس من ممتلكاتهم، وأبهظت كواهلهم بالديون الفادحة، ولكن شاء الله أن يحدث له مورداً من الرزق الحلال في هذه الغمرة من العسر، وذلك حين اكتشف في نفسه، أو اكتشف فيه آخرون، ذاك الصوت الرخيم الذي يصلح لترتيل كتاب الله ، فإذا هو واحد من مقرئي الإذاعة المشهورين.. ومن هذا الباب تدفقت عليه نعم الله بوفرة كادت تشغله عن مواصلة دراسته، وهو المكب عليها بكل طاقته. إلا أنه استطاع أخيراً التوفيق بين الدراسة والحاجة، فاكتفى من حصص الإذاعة بما يساعده على المضي في سبيله.
وسألنا فضيلته عن آثاره العلمية سواء منها ما كان منشوراً أو معداً للنشر أو في حيز المشروعات المتوقعة.. فكان جوابه:
" إن العمل الذي بدأت به في نطاق التعليم عقيب التخرج، مضافاً إليه تبعات الدعوة في المحافل والمساجد ووسائل الإعلام، كل ذلك قد استأثر بوقته فلم يستطع التفرغ لسواه إلا قليلاً، ومن خلال هذا القليل أقدرني الله على الكتابات التالية:
1 ـ حلقات إذاعية في تفسير القرآن العظيم لتلفاز " أبي ظبي " وقد وصلت حتى الآن إلى آخر سورة الحجر وأول سورة النحل، وبلغ رقمها نهاية المئة الخامسة..
2 ـ تفسير سورة يوسف في ثلاثين حلقة لتلفاز دولة البحرين.
3 ـ مئات الحلقات لتلفاز قطر في إطار البرامج الدينية.
4 ـ عشرات المشاركات في الحلقات الدينية لتلفاز سلطنة عمان.
5 ـ ثلاثين حلقة في التفسير لتلفاز المملكة العربية السعودية، وقد أهديت إلى مؤسسات التلفزة في دول الخليج " المصحف المفسر" .
6 ـ موضوعات متعددة سجلتها لإذاعة الكويت على نحو فريد، انتظم كل منها ثلاثين حلقة، أحدها بعنوان " أسلوب الإسلام في بناء الإنسان " وآخر باسم " العدل في الإسلام " ثم " الإسلام والقتال " و " اليهود في القرآن " وقد أخبرني معالي الشيخ يوسف جاسم الحجي أن " جمعية الشيخ عبد الله " التي يراسلها قد تولت طباعة حلقات هذا الموضوع..
هذا بالنسبة إلى وسائل الإعلام المسموعة والمرئية. أما في ميدان الصحافة فقد أسهمت بنصيب كبير من الكتابات في نطاق الدفاع عن الإسلام وإبراز حقائقه، من ذلك ردودي على أحمد حسن الزيات وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن الشرقاوي.. وشاركت طوال سنين في مجلة " لواء الإسلام " سواء في ندوتها الشهرية أو مقالاتها الدورية.. وكذلك المحاضرات فقد قدر الله لي فيها حظاً غير قليل ألقيت كثيراً منها في مصر، وبعضها في السودان وقطر والبحرين والإمارات والكويت، ثم في الهند وإندونيسية وسنغافورة، ثم في إنجلترة وأمريكة، وقد أكرم الله كلمتي بالقبول، وأن تكون سبباً في هداية خلق كثير إلى نور الإسلام..(/2)
يقول أبو غسان: لا جرم أن قارئاً لم يطلع على آثار الشيخ التي يشير إليها سيستغرب وفرتها، ولكنه لو اطلع على شهادته المرتجلة في قضية الجهاد، وقد استغرقت أكثر من إحدى عشرة ساعة على امتداد جلستين، ثم ردوده المتلاحقة على تقرير لجنة الأزهر الذي ملأ خمسين صفحة فولسكاب حول هذه الشهادة على الرغم من أعبائه التي تحاصره من كل صوب، والتي تنوء بها العصبة أولو القوة، أقول: لو اطلع القارئ على هذا كله لزال اسغرابه، ولاستيقن أنه تلقاء رجل معان من قبل الله ، والله يؤتي فضله من يشاء..
وأما من حيث التأليف فيقول الشيخ: إن لدي أصولاً لخمسة عشر كتاباً تنتظر مني التفرغ الكافي لإخراجها، وإنما يحول دون ذلك مشاغلي في متطلبات المهمة الانتخابية، فالدفاع عن حقوق الله في المجلس التشريعي، ثم العمل لمصالح الناخبين في المكاتب الرسمية، كل ذلك يقيدني عن ذلك التفرغ المنشود، ولعل الله يسهل الطريق إلى ذلك فهو الذي يخلق ما يشاء ويختار.
ويتم الشيخ حديثه في موضوع الإذاعة والتأليف فيقول: ومما هو جدير بالذكر أن الإعلام المصري الذي قدمت من خلاله الكثير من الأعمال الدينية في الإذاعة والتلفاز على مدى سنين، قد أدار لي ظهر المجن منذ دخلت مجلس الشعب، وارتفع صوتي بالدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، فقد صدرت الأوامر بمنع التعامل معي في الإعلام المصري منذ العام 1978، بل إن التلفاز المصري لا يسمح أن أشارك في أي لأي دولة ترتبط معه باتفاق إعلامي.. ولكن رحمة الله لا تنتظر أوامرهم وأصبحت تلك الدول هي التي تطلبني مباشرة، وذلك الفضل من الله ، وما كان عطاء ربك محظوراً..
وسرعان ما ردتني هذه الكلمات إلى حديث كتبه المغفور له الإمام محمد أبو زهرة ذات يوم، وفيه يقول:إن بعض الفضلاء قد سأل مدير التلفاز المصري عن السبب في استبعاد أبي زهرة عنه ، فكان جوابه: لأني لا أستريح إليه !.. وما كان أبلغ رد الإمام على ذلك الجواب العجيب حين قال:.. لقد نسي هذا المدير أن تلفاز مصر ليس ملكاً له ولا هو غرفة من منزله ليستقبل فيها من يشاء ويقصي عنها من يشاء.
وأقول: إن في رد الإمام أبي زهرة رحمه الله منطقاً لا يفقهه أولو الأهواء..
وعن أهم الأحداث التي عاصرها وتأثر بها فضيلته، وأبعد الرجال أثراً في تكوينه الفكري، تأتي إجابته تصويراً للواقع المأسوي الذي عايشه، وتحليلاً للعوامل التي ساقت إلى الأحداث المسئول عنها.
يقول: إن من أهم الأحداث تأثيراً في نفسه وتفكيره ما يراه من شعارات إسلامية ترفعها بعض الدول في حين ترى واقعاً حافلاً بشتى المتناقضات لتلك الشعارات، والمفكر الذي سبق أن وثق بتلك المبادئ سرعان ما يعتريه التمزق النفسي عندما تفاجئه أجهزة الدولة بالحساب العسير على التزامه إياها وبذلك يدرك الحقيقة وهي أنه يعيش في وجود مزيف لا صلة بين مقدماته وعواقبه، فينتهي إلى أحد الأمرين.. إما أن يتعامل مع الشعارات الجميلة على حذر فينال نصيبه الحتم من البلاء, وإما أن يكون تعامله مع الواقع القبيح على علاته فيتخلى عن مقتضيات إيمانه، وأحلى الأمرين مر..
ومن هذه المقدمة الفكرية ينطلق الشيخ إلى الكلام عن صلته بالإخوان المسلمين، والأحداث التي واجهتها الجماعة على أيدي الطغيان، الذي هو قمة ذلك التناقض.
لقد عرف الطريق إلى مركز الجماعة من أيام الدراسة الابتدائية، إذ كان مسكن أسرته في الحلمية بنفس الحي الذي يقوم فيه المركز، وقد اجتذبته أحاديث المرشد العام الأستاذ حسن البنا، فثابر على حضورها مساء كل ثلاثاء، دون أن يسجل انتماءه إلى الجماعة، على الرغم من وثيق ارتباطه بأفكارها وتقديره لإمامها، وإنما منعه من ذلك ـ فيما يقول ـ نسبته الأزهرية، التي كانت تلقي في روعه أن الأزهر هو المرشح أبداً لإمامة الدعوة، فليس لمثله أن ينحاز إلى سواه من المؤسسات العاملة للإسلام... وهكذا ظل منقسم الرأي بين الأزهر والإخوان، فهو في أعماق مشاعره إخواني، ومن حيث الانتماء أزهري.. وقد استمر في هذا التنازع حتى وقع القدر باستشهاد الإمام البنا واحتجاب الجماعة رسمياً عن الساحة، ثم جاء دور البلاء فكان النكال الرهيب الذي صب على أقطابها وشبابها، ولا سيما أولئك الأبطال الذين خاضوا ملاحم الجهاد للدفاع عن الأرض المقدسة، ويقول الشيخ: لقد رأيت من ذلك ما يثير الدهشة ويحير الألباب، إذ كيف يلقي مستحقو التكريم مثل هذا العذاب الأليم !. وأدركت باقتناع تام أن وراء المحن أعداء الإسلام وخالب الاستعمار، الذي لم يزل جاثماً على صدر الكنانة.(/3)
ويتابع الشيخ: لقد كان لتلك الأحداث الشاذة أثر بعيد في إعداد النفوس لقبول ثورة الضباط عام 1952، فلما استوت على سوقها، وقضت على جميع الأحزاب السياسية، إلا أن جماعة الإخوان الذين فسحت لهم مجال الدعوة إلى نشاطهم، بادرت إلى تجديد اتصالي بهم وفي صدري أمل قوي بأن العهد الجديد سيفضي حتماً إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وتحقيق المجتمع المثالي الذي يحلم به الإخوان، وذات مساء، وفي أعقاب الحديث الأسبوعي، أعلن عن حديث خاص للمرحوم الدكتور عبد القادر عودة وكيل الجماعة آنذاك يلقيه يوم الخميس في المركز العام.. وحضرت ذلك الاجتماع وكان تقديري السابق أن الدكتور عودة كاتب ومفكر أكثر منه متحدثاً، ومع ذلك فقد استهواني حديثه ذاك وترك في نفسي من التأثير ما جعلني أعتقد أن تغيير الفكر أساس لتغيير السلوك.. وكان مما قاله يومئذ:
" نحن في بلد يحكمه نظام دستوري، أساسه سلطة الأغلبية، فإذا استطعنا أن نحشد الأكثرية تحت شعار " لا حكم إلا بالقرآن " فذلك هو السبيل الدستوري لتطبيق الشريعة الإسلامية...".
بهذه الكلمات الموجزات تحققت أن الأزهر يعلم ويفقه وينشر دعاته ووعاظه وخطباءه في كل مكان، ولكنه لا يهتم بمبدأ تجميع الأغلبية للمناداة بالمطلب الواحد الذي هو تطبيق النظام الإسلامي الحاكم، على حين يصب الإخوان الرأي العام في قوالب دستورية أخذاً بالأسباب الموصلة إلى ذلك الهدف، دون التفات إلى أهواء الناس، بل التزاماً بقول الله تعالى: [إنما كان قول المؤمنون إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون]سورة النور51.
في هذه الليلة فقط أحسست أن ما مضى من عمر اتصالي بجماعة الإخوان المسلمين لم أكن فيه إلا سلبياً أسمع ولا أرى داعياً للانتماء إلى هذه الجماعة، على الرغم من إعجابي الكبير بروحانية الإمام الشهيد أما الآن فقد تحولت طاقتي كلها للعمل على دعوة الناس للانتظام في سلك الجماعة. ووفقني الله فأحدثت في مركز إمبابة الجيزة أكثر من عشرين شعبة، وانتخبني إخواني رئيساً بمركز الجهاد بهرمس، واختارني إخواني في كلية اللغة العربية بالأزهر مسئولاً عن نشاط الجماعة فيها..
ثم يقول فضيلة الشيخ: في هذا الجو المواتي لمسيرة الدعوة انفجرت صاعقة جمال عبد الناصر في صفوف الجماعة.. وكأنه قد فرغ لهم بعد تخلص من الأحزاب الأخرى، فسلط علهم ضروب الإرهاب فملأ بهم السجون والمعتقلات، ووكل بهم عيونه وأجهزته في كل موقع، ثم لم يكتف بهذا فأصدر قراره بمنع المعتقلين، منذ يوليو 1952 إلى يوم صدور دستوره، من ترشيح أنفسهم لعضوية السلطة التشريعية، ثم عزل من لم يشمله الاعتقال عن طريق اللجان المكلفة فحص طلبات الترشيح.. وبذلك عزله مرتين أولاهما بالقانون والثانية بأساليب المباحث. وقد ترتب على ذلك شطب اسمي من دفاتر الناخبين في بلدتي وعزلي سياسياً، وكل ذنبي أني أنادي بتطبيق شريعة الله !. وقد زعمت مباحث الطاغية أنها لا تحارب الإخوان كدعوة بل كتنظيم، والواقع أنها إنما تحاربهم تنظيماً ودعوة، ولا أدل على ذلك من أن تطبيق الشريعة ظل أملاً يراود الجماهير حتى الساعة دون أن تستجيب له هذه الثورة، التي ما زالت تتجربه وتدأب في تقويضه ومطاردة دعاته. وحسبنا أن نتذكر أنها ضربت الإخوان عام 54 وضربت القضاء الشرعي عام 56 ودمرت الأزهر باسم تطويره عام 61 واغتصبت أوقاف الأزهر ومساجده عندما قررت التحول الاشتراكي، ثم ضربت الإخوان أخيراً تزلقاً إلى روسية بقرار أصدره الطاغوت من موسكو عام 65 يقضي باعتقال كل من سبق احتجازه من الإخوان، ثم ضربت كل تجمع إسلامي بعد ذلك تحت مختلف العناوين والشعارات، ومن ثم قبضت يدها فمنعت رواتب العاملين في بعض المعاهد الأزهرية، ولم تبن معهداً أزهرياً واحداً، بل ولم ترع ما بناه الشعب من مئات المعاهد الدينية، اللهم إلا على طريقة ذر الرماد في العيون.
وتتلاحق ذكريات الشيخ دون ترتيب حتى تطل به على تجاربه النفسية في المعتقل الأول الذي واجهه سنة 1954 عقيب حل جماعة الإخوان..(/4)
لقد تداولته سجون إمبابة بمحافظة الجيزة والسجن الحربي وغياهب العامرية.. فأحدث كل منها في نفسه جراحات لا تندمل، وكان أكبر ما يعانيه منها ذكر والدته وشقيقته اللتين لبثتا وحيدتين في المنزل، حتى أدركه الله ببعض العزاء حين قيض له أحد الحرس الطيبين ينقل إليهما بعض رسائله المختلسة، تذكرهما بما لقيه أولو العزم من الرسل، وما عاناه إمامهم، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم، في شعب أبي طالب وما تحمله من عدوان السفهاء، وما سبق ذلك من المحن التي ابتلي بها يوسف منذ قذف في الجب، حتى سنوات السجن السبع.. رجاء أن تسري عنهما من وحشة الوحدة وثقل الفراق.. ومع ذلك فقد وقع ما كان يحذر، إذ أصيبت الوالدة بمرض السكر الذي ما زال يتفاقم بها لقيت وجه ربها.. على أن رحمة الله لم تتخل عنه قط ، فعلى الرغم من نعومة النشأة التي اكتنفته معظم حياته، قد استطاع أخيراً أن يروض نفسه على قبول الواقع تأسياً بما يراه من عظيم البلاء ، الذي يواجهه إخوانه على أيدي مخلوقين ينتسبون بهويتهم إلى الإسلام وهو منهم براء، واهتداءً بمضمون الحديث النبوي القائل " أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل " ثم هبت عليه وعلى إخوانه النفحات الإلهية فأحالت ظلمات السجن في معتقل العامرية نوعاً من رياض الجنة.. إذ كان في ذلك السجن ما يزيد على الألف من قادة الجماعة، فما لبثوا أن نظموا للمعتقلين برامج ثقافية ملأت فراغهم ووفرت لهم زاداً كريماً من الثقافة الإسلامية، عن طريق محاضرات يلقيها منهم متخصصون في مختلف الفنون.. وقد استمر هذا الخير طوال المدة التي قضوها بعد مرحلة التعذيب، التي توقفت على أثر صدور الأحكام التي أملاها الطاغوت على المحاكم الصورية..
س: لو تفضلتم فحدثتمونا عن أعمق الرجال تأثيراً في تكوينكم الفكري والروحي..
ج: لا أعلم ـ بعد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وآله ـ وخلفائه الراشدين ثم بعد شيوخ أسرتي ـ أحداً أعمق أثراً في تفكيري وتصوري الإسلامي من ثلاثة رجال.
أما أحدهم فهو الإمام حسن البنا تغمده الله برحمته، وقد سبقت الإشارة إلى بعض أثره في رؤيتي الفكرية والروحية، ويأتي بعده خليفته الأول الأستاذ حسن الهضيبي ذو الشخصية الصلبة الباهرة والنظرة العميقة، والإخلاص الذي جعله خير عوض عن الفقيد الشهيد، ثم نائبه المفكر العالم الدكتور عبد القادر عودة الذي أسلفت الإشارة إلى أثره الفكري في انتزاعي من التردد بين الأزهر والإخوان..
وإذا كان الإنسان ابن بيئته حقاً فلا عجب أن تمنح هذه البيئة فضيلة الشيخ كل الزاد الروحي والعقلي الذي جعل منه ذلك البطل المنافح الذي نهض بعبء الواجب بعد أن ناءت بحمله كواهل العلماء، الذين أسكتهم الرعب وحب الدنيا عن الصدع بكلمة الحق.. ورحم الله شوقي لقوله:
رتب الشجاعة في الرجال قليلة وأجلهن شجاعة الآراء
وقد بقي من السؤال ما يتعلق بالأعمال التي وليها حتى الآن زيادة على ما سبق ذكره منها..
قال الشيخ: لقد استغرقني عملي في التدريس ما بين العامين 1955، 1972، ثم نقلت كما قدمت إلى مكتب شيخ الأزهر لأكون مديراً له مدة عشرة أشهر، أيام كان الإمام الأكبر هو الدكتور محمد محمد الفحام، وقد أتاح لي ذلك العمل فرصة الاطلاع على العجائب. لقد كنت ألوم الأزهر وأتهمه بالسلبية والصمت إلى أن واجهت واقعه المذهل بنفسي، وهو أن الأزهر لا يحظى شيء من عمله بالنشر إلا ما يطلب منه، أما ما يمثل راية الحق وما يتفاعل به داخله فلا سبيل له إلى النور.. وكذلك اكتشفت أن رجاله ليسوا سواء، لأن منهم المجاهدين بحق ومنهم دون ذلك السلبيون الذين يعدون أياماً ليقبضوا راتباً...
وأنا الآن باحث فني في مجمع البحوث الإسلامية، وعضو في مجلس الشعب...
والحوار مع مثل الشيخ لا ينبغي أن يغفل جانب العمل السياسي بنظر الوسط الخاص بعلماء الإسلام، فالدعاية الشيطانية التي حملها بعض أذناب الغرب في هذا الصدد تحاول عزلهم عن ميدان الحكم، ليخلو الجو للجهلة الكبار، الذين لا يعرفون من غاية للسياسة إلا ترديد ما قرأوه وما سمعوه من أفكار التلموديين والصلبيين، وما يملى عليهم من وراء الستار، مع الغفلة المطبقة عن حقائق الإسلام.
والشيخ حين يتحدث عن السياسة فحديث المجرب الذي اكتوى بنارها، وعارك تقلباتها، واكتشف الخبئ من ألاعيبها، وبخاصة في ظل ذلك الكابوس الساداتي الذي لم يتورع عن استخدام كل الوسائل لخنق كل صوت حر داخل المجلس وخارجه حتى في بيوت الله ، التي أراد إخضاع منابرها لموحيات كامب ديفيد، وألزم كل تجمع يريد الاشتغال بالسياسة أن يقر اتفاقيته.. أولاً حتى كادت الساحة أن تخلو من المجاهرين بكلمة الحق. إلا بعض المغامرين من النواب، وفي مقدمتهم هذا الشيخ الذي كان وجوده بينهم فرصة مباركة لإطلاق كلمة الإسلام المظلوم، في كل مناسبة صلحت للتذكير بشريعة الله ، فكان شاهد الحق على المتنكرين لها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.(/5)
وما أحوجنا هذه الأيام إلى استعادة ذلك الماضي الرهيب الذي كان الباب الخلفي لكل الفواجع التي أعقبت اتفاقيتي كامب ديفيد، من غزو إسرائيل لبنان، إلى مذابح صبرا وشاتيلا، إلى المجزرة الكبرى التي ينزلها اليوم القتلة الأقربون في الشمال اللبناني، فتكتسح بلهيبها الآلاف من أولئك المساكين الذين شاء لهم الاستعمار والخيانة أن يتيهوا في الأرض لاجئين ومشردين.
س: ممارستكم للسياسة البرلمانية ظاهرة تكاد تكون جديدة في مصر بالنسبة إلى علماء الإسلام فكيف وجدتم هذه التجربة.. وهل من شأنها تشجيع العلماء على اقتحام هذه الحلبة ؟.
ج: اشتغال العلماء بالدعوة لا بد منه لتوعية الجماهير، ولكن أثره لا يمتد إلى صنع القوانين، التي نرجو لها أن تكون قوالب للشريعة الإسلامية، وهذه القوانين لا تصنع إلا في صميم السلطة التشريعية، وقد لا يرى معظم الناس ارتباط الرخاء بالإيمان وارتباط النعيم الأخروي بالإيمان، بل هناك من لا يرى ارتباط الإسلام بالحياة، ولذلك كان اعتقادي راسخاً أن على علماء الإسلام أن يقتحموا هذا الميدان.. أما كيف وجدت هذه التجربة، فإني أسوق ما يأتي على سبيل المثال:
أ ـ خضت المعركة الانتخابية في المرتين الأولى والثانية سنة 1976، 1979 تحت شعار " أعطني صوتك لنصلح الدنيا بالدين " وقلت لجماهير الناخبين: لو أن شيوخ الإسلام بعثوا من قبورهم، وانضموا إلى المعاصرين، وملأوا الدنيا خطابة ومناداة بتطبيق الشريعة الإسلامية، ما استطاعوا غير تعبئة الرأي العام، وللرأي العام قوته وأثره، ولكن لا سبيل إلى تغيير القوانين الوضعية لتكون شرعية إلا عن طريق مجلس الشعب، الذي له وحده سلطة التشريع، واستجاب الناخبون بما يشبه الإجماع المنقطع النظير وبحماسة متدفقة على الرغم من موقف السلطات التي كانت تستهدف إسقاطي في الانتخابات بتخطيط ظالم.
ب ـ ودخلت مجلس الشعب، وقلت: " هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر " وكنت أتصور المجتمع المسلم بعد أن نص دستوره على قداسة الإسلام، واعترف أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع في مصر، فيكفي أن أتقدم بمشروعات القوانين الإسلامية، وأدعو المجلس إلى الموافقة عليها.. فتقدمت بمشروعات قوانين تغطي النواحي الجنائية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية وإجراءات التقاضي، وأحيلت إلى اللجان المختصة، وألقيت بين يديها كلمات، قابلها المجلس بالاستحسان البالغ، وكان قد حدد لكل كلمة زمن لا تتعداه، ولكن المهندس سيد مرعي رئيس مجلس الشعب أعلن أن وقت الكلام قد انتهى، ففوجئ المجلس بهذا التنبيه، وقرر الأعضاء بالإجماع منحي الوقت اللازم استثناءً من القاعدة فكان هذا قرار مجلس وهو ثابت في المضابط ، واستبشرت خيراً، وقلت هذه فاتحة تبشر بتحقيق الأمل، جمعت بعدها ثلاثمائة وأربعين توقيعاً من أعضاء المجلس البالغ " 360 " وكان هؤلاء العشرون بين غائب ومسيحي وإن كنت قد بينت في كلمتي،أنه لا ضمان لحقوق غير المسلمين إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقاً صحيحاً.
فماذا جرى بعد هذه المقدمات الرائعة ؟.
ج: لعبت الثورة في مصر بأجهزتها المختلفة دوراً خطيراً، جعل إرادة الأعضاء تابعة لإرادة القيادة الحزبية، ولو في هذه الأمور التي ترتبط بالإسلام، وسرعان ما تراجع هؤلاء الأعضاء عن التأييد باسم الالتزام الديني، ومع ذلك لم أيأس ومضيت في محاولاتي حتى قرر ما يقرب من ثلاثمائة عضو القيام بعمرة وزيارة في طريق عودتهم من الخرطوم للقاهرة في يناير 1979، بعد انتهاء أعمال المؤتمر المشترك لمجلسي الشعب المصري والسوداني، فانتهزت الفرصة وبايعتهم هناك وبايعوني في الحرمين الشريفين، على أن تكون أصواتهم لشرع الله ، لا يغلبهم على ذلك انتماء حزبي.. وتمت البيعة قاطعة واضحة، فما كان من الرئيس أنور السادات، بعد أن ظفر بموافقة هذا المجلس باستثناء خمسة عشر عضواً ـ كنت أحدهم ـ على اتفاقيتي كامب ديفيد، ما كان منه إلا أن أصدر قراراً بحل مجلس الشعب بعد استفتاء ملفق، وأسقط معظم هؤلاء الذين تعاهدنا معهم في الحرمين الشريفين.
د: لجأت إلى سياسة الاستجواب، وهو اتهام لا بد فيه من حشد الأدلة الدامغة لإلجام الخصم وتعرية موقفه أمام الرأي العام، وكان استجوابي لرئيس الوزراء عن تصريح السادات بألا سياسة في الدين ولا دين في السياسة. وقد حشدت في هذا الاستجواب البينات القاطعة على كمال السياسة الإسلامية وتفوقها على كل نظام في تأمين العدالة والوحدة والأمن لإصناف البشر على اختلاف معتقداتهم، وبلغت صفحاته العشرين، قدمته إلى رئيس مجلس الشعب ليدرجه في أعمال أقرب جلسة. غير أنه جبن عن مجرد تقديمه، فذهبت به إلى القصر الجمهوري حيث قدمته بنفسي إلى الدكتور زكريا البري ـ وزير الأوقاف آنذاك ـ ليبلغه إلى رئيس الجمهورية، وضمنته كذلك التنديد بقول السادات: إن قدوته مصطفى كمال أتاتورك.. ثم كان ما كان من تصادم مع الحزب الوطني والغالبية المؤيدة للحكومة بالحق والباطل.(/6)
وهناك استجواب آخر وجهته إلى جمال الناظر وزير الساحة والطيران المدني عن تقريره الخمر في المدرسة الفندقية التابعة لوزارته في بلد دينه الرسمي الإسلام، والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.
وكان لي استجواب كذلك ذد عربدة الإعلام، ومن قبل كان لي استجواب ضد الأستاذ عبد المنعم الصاوي وزير الإعلام عن تصريحه في أمريكا بأن الشريعة الإسلامية لن تطبق في مصر.
وكان لي استجواب موجه إلى الدكتور عبد المنعم النمر عن تفريطه كوزير للأوقاف في استرداد نحو ثلاثة وسبعين ألف فدان، كانت البقية الباقية من أراضي الأوقاف المغتصبة من الأزهر والمساجد عام 1961 إبان التحول الاشتراكي، وقد قضى فيها القضاء بحكم نهائي وباتٍ بردها لوزارة الأوقاف سنة 1973، وفرط وزراء الأوقاف المتعاقبون في المطالبة بتنفيذ هذا الحكم.
وكان لي استجواب موجه إلى وزير العدل حين خالف المفتي الشيخ جاد الحق علي جاد الحق آنذاك قرار مجمع البحوث الإسلامية، الذي يقضي بأن ثبوت هلال رمضان في بلد يوجب على جميع البلاد الإسلامية المشتركة مع بلد الرؤية في جزء ولو يسيراً من الليل أن تصوم، وقد ثبت الهلال عاماً من الأعوام في العراق والكويت واليمن، فلم يعتمد المفتي هذا الثبوت.
وكذلك شهدت قبة مجلس الشعب معاركي ضد قانون السادات للأحوال الشخصية، وهي معارك خضتها ضد الثلاثة الكبار محمد عبد الرحمن بيصار شيخ الأزهر السابق، وجاد الحق علي جاد الحق مفتي مصر السابق، وعبد المنعم النمر وزير الأوقاف سنة 1979.. هذه الاستجوابات وغيرها من المواقف البرلمانية، كانت تحتاج إلى مستمعين يقدسون الإسلام، وإلى أعضاء يعرفون للقرآن حرمته وللسنة حجتها، ولا يغلبهم على انتمائهم للإسلام انتماؤهم الحزبي.. ولكنني لم أجد في مجلس الشعب إلا أعضاء يأتمرون بأمر الحكومة، ولا يأتمرون بأوامر الله ، ومن هنا أقرر أنه يجب على العلماء أن يرشحوا أنفسهم لعضوية مجلس الشعب باعبار أن الهيئة التشريعية هي المجال الدستوري الوحيد لتغيير القوانين، وإصلاح السلطة القضائية والتنفيذية، والحكم بما أنزل الله .
ولا بد أن أشير إلى أن سلطة الرقابة التي وضعها الدستور في يد عضو مجلس الشعب كفيلة بإصلاح الأداة الحاكمة، لو كانت هذه السلطة في يد عضو صالح. ولا أنسى أن استجوابي للأستاذ عبد المنعم الصاوي بسبب قولته في أمريكة: " لن تطبق الشريعة الإسلامية في مصر" كان سبباً في إخراجه من الوزارة اتقاء للحرج البالغ الذي كانت ستتعرض له الدولة لو نظر هذا الاستجواب، ومما هو جدير بالذكر أن الاستجواب يسقط إذا أخرج من الحكم الوزير المستجوب، كذلك أذكر أن المرحوم المستشار أحمد سميح طلعت الذي كان وزيراً للعدل، أنذرته في يناير 1977، بأنه إذا لم يقدم ما عند وزارة العدل من تشريعات إسلامية خلال خمسة أشهر، فإني سأستجوبه فلما استجوبته، أجرى تعديل وزاري لم يخرج بمقتضاه من الوزارة سوى وزير العدل ليسقط الاستجواب، وقد لقيني رحمه الله وأخبرني بالخلفيات التي وراء خروجه من الوزارة، وهي تدل على اتجاهات غير إسلامية، ولا مجال لتفصيل القول فيها الآن، وآخر ما أذكره من أمثلة ذلك، وقد سبقت بعض الإشارة إليه،
أن المعاهد الدينية الأزهرية كانت قد أهملت من قبل الدولة، وبدأت الشكوى من المعاهد الموجودة في دائرتي، وهي ثلاثون معهداً دينياً أزهرياً، منها خمسة تئن من الإهمال، فلما اتصلت بإدارة المعاهد الأزهرية علمت أن الإهمال قد انتظم مئتي معهد على مستوى الجمهورية المصرية، فأعلنت في جريدة " الأهالي " أنني سأقدم استجواباً لرئيس الوزراء الدكتور فؤاد محي الدين باعتباره الوزير الذي يسأل دستورياً عن الأزهر، إلى جانب وضعه كرئيس للوزراء، وما إن أعلن هذا الاستجواب في جريدة الأهالي يوم 19 / 10 / 1983 حتى نشرت الأهرام يوم 25 / 10 ما يفيد أن اللجنة الوزارية قد اتجهت إلى تحقيق الكثير من المطالب التي طالت مساعينا وراءها. وليس هذا التجاوب سوى الأثر الناطق بأثر الرقابة على الدولة. إذا استخدمها نائب حر لا يخشى في الله لومة لائم.
س: كان لمواقفكم المشرفة في قضية تحكيم الشريعة المطهرة رد فعل عميق في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، فيرجى تزويد قراء هذا الكتاب بالمعلومات التالية حول الموضوع:
أـ هل تجدون لصوتكم في هذا الصدد صداه المنشود في أوساط المسئولين ؟
ب ـ هل تأملون أن يكون لهذا المطلب الشعبي العام استجابة في أوساط المسئولين ؟
ج ـ هل تعتقدون أن للسياسة الدولية علاقة بتأخير الاستجابة حتى اليوم ؟
د ـ هل تتوقعون أن يكون لخطوة السودان في هذا المجال تأثيرها الإيجابي في مصر ؟(/7)
ج: أ: قبل دخولي مجلس الشعب لم يكن هناك نص دستوري على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للقوانين، ولم تكن هناك لجان لتقنين الشريعة الإسلامية، وكان صوتي ينطلق في مجلس الشعب فيجد الصدى ولا يجد القرار، ثم تجمعت عوامل أدت إلى النص في المادة الثانية من الدستور أن الإسلام دين الدولة الرسمي، وهذا ليس بجديد، ولكن الجديد هو النص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وجزى الله الزملاء الذين أبلوا في هذا بلاء حسناً خير جزاء.
ولجنة تقنين الشريعة الإسلامية في مجلس الشعب على الرغم من كل ما صادفها من عقبات قد أنجزت عملها تماماً، بل وأتمت طباعته في التشريعات الاقتصادية والاجتماعية والمدنية والجنائية، وفي التقاضي ولم يبق سوى التطبيق. وهذا يؤكد علينا ضرورة المضي في هذا الطريق، ويؤكد على العلماء ضرورة الإقدام لطلب عضوية مجلس الشعب لإرغام المسئولين على الاستجابة المنشودة.
ب ـ نعم آمل أن يكون لهذا المطلب الشعبي العام استجابة قريبة، ولن يموت حق وراءه مطالب والشعب كله يطالب، وإن كبتله قوانين الطوارئ للعام الثالث على التوالي، وإن حيل بين طلائعه والدعوة والجهاد، وإن زج بأبطاله في السجون والمعتقلات.. والظلام الكثيف يبدده النور الخفيف فكيف بالنور الوهاج، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
ص: ج ـ لا شك أن عالمنا العربي والإسلامي، وقد مني بالاستعمار الزاحف عليه من الخارج بعد أن أصيب بالتمزق الذي بعثر صفوفه، وفرق كلمته داخل الدوائر العربية والإسلامية، قد أصبح في وضع دولي تبخرت منه العزة الإسلامية، لأن الذين ينسون الله ينسيهم الله أنفسهم، فالذين يدورون في فلك الغرب، والذين يدورون في فلك الشرق، إنما يدورون جميعاً في أفلاك قوى عالمية لم تتفق إلا على محاربة الإسلام، وهذا هو السر في تأخير الاستجابة حتى اليوم للمطلب الشعبي على مستوى العالم الإسلامي المتمثل في تطبيق الشريعة الإسلامية.. و [إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم].
د ـ خطوة السودان في مجال تطبيق الشريعة الإسلامية لها تأثيرها الإيجابي في شعب مصر، ومصر بلد الأزهر، ولولا التعتيم الإعلامي الكثيف على اتجاه السودان نحو تطبيق الشريعة الإسلامية لوجدنا الأثر فعالاً، ولكن هناك قوانين الطوارئ. والقوانين المقيدة للدعوة في المساجد، والمباحث والمخابرات وتثاقل المسئولين و.. [عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين]
س: يلاحظ أن بادرة السودان بالنسبة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية تكاد تكون مقصورة على السلبيات إذ تقوم على منع المخالفات لروح الإسلام ومعاقبة مقترفيها، ولم تتعرض للنواحي الإيجابية التي من شأنها تقديم الحلول الحاسمة لمشكلات المجتمع في نطاق الاقتصاد والتعليم والعدالة الاجتماعية وما إلى ذلك، فما رأيكم في هذا ؟ وما توقعاتكم بشأنه ؟.
ج: الحكم على الشيء فرع من تصوره، والمبادرة السودانية بالنسبة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية لم تتضح ملامحها عندي، ولكنني أقول إن إذعان الشعب والدولة لله يجب أن يكون متكاملاً، وأعتقد أنه سينمو وسيتكامل ما دامت روح الإيمان والإذعان مهيمنة، وهذا هو العنصر الذي انفصل عن التصديق، فقد كان الكفار يعرفون صدق الرسول كما يعرفون أبناءهم، ولكنهم مع التصديق القلبي كانوا يكتمون الحق ويجحدون بآيات الله ، فإذا وجد الإذعان والانقياد لرب العالمين، فإن المستقبل كله خير بإذن الله ، وما أروع قول الشاعر:
إن الهلال إذا رأيت نموه أيقنت أنه سيصير بدراً كاملاً
م: التمزق الذي ينتاب العرب هذه الأيام قد بلغ أشده بالمحن الضخمة التي زلزلت كيانهم وأطمعت بهم أعدائهم، فما السبيل إلى إصلاح هذه الكوارث ؟.
ص: لا بد من وضع خطة تشارك فيها جميع القوى وتتكاتف بدءاً من منبر المسجد إلى ميكروفون الإذاعة إلى شاشة التلفزيون، إلى الكلمة المكتوبة في الجرائد اليومية، إلى الاتصالات النشيطة بين الحكام والدول. ولا بد أن يجري ذلك على نهج إسلامي بأمل لا يعرف اليأس، وهمة لا تعرف الملل والكلال، لا بد أن يعرف الناس أن الوحدة إيمان وأن الفرقة كفر، على حد تعبير القرآن الكريم في سورة " آل عمران " [يا أيها الذين أمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين] ـ أي بعد وحدتكم متفرقين ـ [وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم] آل عمران 100 ، 101.
م: ما الكلمة التي توجهونها إلى الجيل الإسلامي الجديد ؟(/8)
ص: الكلام في هذا المضمار كثير، ولكنني أكتفي بقول ربي جل علاه [فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً ! قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ، وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى] سورة طه 123، 127.
وأطالب الجيل الإسلامي الجديد بالدراسة العميقة لدينه والاستيعاب الواعي لأحداث عصره، والفهم الكامل للتاريخ الإسلامي، كل ذلك سيوحي إن شاء بخطط الإصلاح للقلوب المؤمنة والأرواح الموقنة و [الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور].(/9)
الشيخ مصطفى التريكي
الشبكة ـ طرابلس
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على الصادق الأمين ، سيدنا محمد النور الذاتي ، والسر الساري في سائر الأسماء ، والصفات وعلى آله وصحبه وسلم .
الاسم واللقب: فضيلة الشيخ العلامة سيدي مصطفى عبد السلام مصطفى التريكي
ميلاده: بمدينة مصراته 1929
نسبه: من جهة الأب والأم معا ؛ قبيلة الشحوم- أولاد بن حسن ولد حموده – ولد سيدي عبد السلام الأسمر.
المراحل التعليمية
أ / ليبيا
- حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ علي بن حسن المنتصر بزاوية البي بمدينة مصراته برواية قالون عن نافع وذلك في سنة 1946 م.
- تلقى العلوم الشرعية في مبادئ الفقه والنحو على يد الشيخ محمد السهولي.
- وبزاوية سيدي أحمد زروق بمدينة مصراته تلقى علوم النحو والصرف والبلاغة والفقه والفرائض وغيرها من العلوم الشرعية حتى سنة 1948م.
- انتقل إلى زاوية سيدي عبد السلام الأسمر بزليتن سنة 1948م وتلقى فيها العلوم على يد الشيخين الكبيرين (منصور ابوزبيدة الفيتوري – أبوبكر حمير) منها تحصل على الشهادة الأهلية وهي ألعى شهادة بالزاوية الأسمرية.
ب / مصر
جامعة الأزهر الشريف سنة 1951م
- التحق بمعهد البعوث الإسلامية (بالسنة الرابعة) بعد امتحان المعادلة.
- التحق بكلية الشريعة (بالسنة الثانية) بعد امتحان المعادلة تحصل على الشهادة العليا والتي تعتبر أعلى الشهادات بالأزهر الشريف في ذلك الوقت (ليسانس).
- تخصص في القضاء, وتلقى العلم في المجال القضائي على يد علماء أجلاء وعلى رأسهم:
- فضيلة الشيخ / محمود شلتوت- علم التفسير.
الدكتور / مصطفى الحفناوي – القانون الدولي العام.
ومنها تحصل على الشهادة العلمية (الأستاذية) من كلية الشريعة وهي أعلى شهادة في الأزهر الشريف في ذلك الوقت.
- التحق بمعهد الدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة، ودرس فيه علوم منها علم المقارنة بين الشريعة والقانون على يد مجموعة من العلماء العظام وكان على رأسهم:
- الدكتور عبد الرزاق السنهوري في مادة مقارنة علم القانون بالفقه الإسلامي.
- فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة في مادة الشريعة الإسلامية (وكيل كلية الحقوق في جامعة القاهرة سنة 1958م)
- في سنة 1954 انتخب رئيسا للنادي الثقافي لطلبة ليبيا بالقاهرة وفي هذه السنة وحد بين طلبة برقة وطرابلس وبين الأزهريين والجامعيين في النادي.
الوظائف:
- عين قاضيا من الدرجة الأولى بمدينة الخمس بمرسوم ولائي في 12 فبراير 1958م واستقال في 24 فبراير 1958م قبل أداء اليمين وذلك عندما تم توحيد بين القضاء الشرعي والمدني.
- عين مدرسا بمعهد أحمد باشا الديني بمدينة طرابلس حتى سنة 1960 م.
- عين رئيسا لبعثة الحجيج الليبية ، وذلك في سنة 1960م وكان معه كلا من الشيخ محمد المدني الشويرف والشيخ عيسى الفاخري من مدينة اجدابيا بولاية برقة واستمر في هذا الأمر حتى سنة 1980 م.
- مديرا للوعظ والإرشاد، وإدارة المساجد بالبيضاء.
- رئيس تحرير مجلة الهدي الإسلامي سنة 1961م.
- أستاذ وعميد كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية بالبيضاء وذلك سنة 1962م حتى سنة 1972م وفي هذه الأثناء أنتدب مدة مديرا عاما للجامعة الإسلامية بالبيضاء.
- مدرسا بجماعة الفاتح (كلية التربية) سنة 1972م
- رئيسا لمجموعة من المشايخ الذين أوكل إليهم إعادة تأهيل ثلاثين شيخا بمعهد أحمد باشا الديني بمدينة طرابلس وذلك ابتداء من سنة 1972م حتى سنة 1976م بقرار من مجلس قيادة الثورة ، لمدة أربعة سنوات وكان من ضمن المشايخ الذين تم تأهيلهم.
الشيخ أحمد قدور- الشيخ سالم الماقولي-الشيخ عبد القراضي.
- درس مادة الحضارة الإسلامية بجميع كليات جامعة الفاتح.
- درس طلبة الدراسات العليا (الماجستير) في علم الفرائض.
- ظل مدرسا للجامعة حتى تقاعد في سنة 1993 م.
المهام الدينية:
- سنة 1965 م ترأس وفد طلابي من جامعة البيضاء لزيارة جمهورية مصر العربية وفلسطين.
- 1965 م كان ممثلا لليبيا في مؤتمر الرابطة الإسلامية بمكة المكرمة ضمن وفد مكون من (المفتي – شيخ الجامعة – شيخ الزوايا).
- 1966م ترأس الوفد المكلف بحضور المؤتمر الإسلامي بالقدس الشريف ومنها زار الأماكن المقدسة (الخليل – بيت لحم – وغيرها) وألقى بها بعض الدروس والمحاضرات وكان هذا بعد عام النكبة.
- 1967 م ترأس وفدا للمؤتمر الإسلامي في باكستان وكان هذا المؤتمر لاختيار المخطوطات الإسلامية.
- وزار الأماكن الإسلامية التالية : (لاهور – كراتشي – إسلام أباد – كما زار تاج محل بالهند الذي يعتبر من عجائب الدنيا السبع).
- 1968 م كان ممثلا لليبيا في المغرب في ذكرى مرور 14 قرن على نزول القرآن الكريم وكان ضيفا على الملك (الملك الحسن الثاني رحمه الله) وألقى الدروس الحسنية بشهر رمضان المبارك.
- 1978م ترأس وفد جامعة الفاتح لزيارة جامعة لاغوس بنيجيريا وكان معه الشيخ محمد المقوز.(/1)
- 1979- 1980 م ألقى محاضرات بالمركز الإسلامي في لوس أنجلس ولاية كلفونيا وكما زار هيئة الأمم المتحدة ونيويورك وواشنطن.
- 1981-1982م ألقى دروسا بالرباط – الدار البيضاء – مراكش ومدينة فاس بالمغرب الشقيق.
- وكان هذا ضمن السنة التي تعطي لمدرسي الجامعة.
- كرمته جامعة الفاتح لأقدميته بالتدريس بزيارة الحرمين الشريفين.
- درس بالحرمين الشريفين (المسجد الحرام – المسجد النبوي الشريف) لمدة 20 عاما في أيام الحج بعد حصوله على إذن بالتدريس من شيخ الحرمين الشريفين الشيخ عبد الله بن حميد.
- ألقى دروسا مسجلة بالإذاعتين المرئية والمسموعة في شؤون الحج وفقه العبادات.
- درس صحيح البخاري وعلم التوحيد والفقه والتفسير في مسجد بن نابي بمدينة طرابلس.
- درس لمدة طويلة بجامع الناقة بالمدينة القديمة بطرابلس الذي أسسه جوهر الصقلي في عهد الدولة الفاطمية.
- ألقى محاضرات بمسجد أسمة بن زيد بمدينة طرابلس بشهر رمضان المبارك.
- كان مشاركا في المناسبات والاحتفالات الدينية و الاجتماعية وافتتاح المساجد في جميع أنحاء البلاد.
- وبزاوية سيدي أحمد زروق بمدينة مصراته تلقى علوم النحو والصرف والبلاغة والفقه والفرائض وغيرها من العلوم الشرعية حتى سنة 1948م.
- انتقل إلى زاوية سيدي عبد السلام الأسمر بزليتن سنة 1948م وتلقى فيها العلوم على يد الشيخين الكبيرين (منصور ابوزبيدة الفيتوري – أبوبكر حمير) منها تحصل على الشهادة الأهلية وهي ألعى شهادة بالزاوية الأسمرية.
ب / مصر
جامعة الأزهر الشريف سنة 1951م
- التحق بمعهد البعوث الإسلامية (بالسنة الرابعة) بعد امتحان المعادلة.
- التحق بكلية الشريعة (بالسنة الثانية) بعد امتحان المعادلة تحصل على الشهادة العليا والتي تعتبر أعلى الشهادات بالأزهر الشريف في ذلك الوقت (ليسانس).
- تخصص في القضاء, وتلقى العلم في المجال القضائي على يد علماء أجلاء وعلى رأسهم:
- فضيلة الشيخ / محمود شلتوت- علم التفسير.
الدكتور / مصطفى الحفناوي – القانون الدولي العام.
ومنها تحصل على الشهادة العلمية (الأستاذية) من كلية الشريعة وهي أعلى شهادة في الأزهر الشريف في ذلك الوقت.
- التحق بمعهد الدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة، ودرس فيه علوم منها علم المقارنة بين الشريعة والقانون على يد مجموعة من العلماء العظام وكان على رأسهم:
- الدكتور عبد الرزاق السنهوري في مادة مقارنة علم القانون بالفقه الإسلامي.
- فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة في مادة الشريعة الإسلامية (وكيل كلية الحقوق في جامعة القاهرة سنة 1958م)
- في سنة 1954 انتخب رئيسا للنادي الثقافي لطلبة ليبيا بالقاهرة وفي هذه السنة وحد بين طلبة برقة وطرابلس وبين الأزهريين والجامعيين في النادي.
الوظائف:
- عين قاضيا من الدرجة الأولى بمدينة الخمس بمرسوم ولائي في 12 فبراير 1958م واستقال في 24 فبراير 1958م قبل أداء اليمين وذلك عندما تم توحيد بين القضاء الشرعي والمدني.
- عين مدرسا بمعهد أحمد باشا الديني بمدينة طرابلس حتى سنة 1960 م.
- عين رئيسا لبعثة الحجيج الليبية ، وذلك في سنة 1960م وكان معه كلا من الشيخ محمد المدني الشويرف والشيخ عيسى الفاخري من مدينة اجدابيا بولاية برقة واستمر في هذا الأمر حتى سنة 1980 م.
- مديرا للوعظ والإرشاد، وإدارة المساجد بالبيضاء.
- رئيس تحرير مجلة الهدي الإسلامي سنة 1961م.
- أستاذ وعميد كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية بالبيضاء وذلك سنة 1962م حتى سنة 1972م وفي هذه الأثناء أنتدب مدة مديرا عاما للجامعة الإسلامية بالبيضاء.
- مدرسا بجماعة الفاتح (كلية التربية) سنة 1972م
- رئيسا لمجموعة من المشايخ الذين أوكل إليهم إعادة تأهيل ثلاثين شيخا بمعهد أحمد باشا الديني بمدينة طرابلس وذلك ابتداء من سنة 1972م حتى سنة 1976م بقرار من مجلس قيادة الثورة ، لمدة أربعة سنوات وكان من ضمن المشايخ الذين تم تأهيلهم.
الشيخ أحمد قدور
الشيخ سالم الماقولي
الشيخ عبد القراضي.
- درس مادة الحضارة الإسلامية بجميع كليات جامعة الفاتح.
- درس طلبة الدراسات العليا (الماجستير) في علم الفرائض.
- ظل مدرسا للجامعة حتى تقاعد في سنة 1993 م.
المهام الدينية:
- سنة 1965 م ترأس وفد طلابي من جامعة البيضاء لزيارة جمهورية مصر العربية وفلسطين.
- 1965 م كان ممثلا لليبيا في مؤتمر الرابطة الإسلامية بمكة المكرمة ضمن وفد مكون من (المفتي – شيخ الجامعة – شيخ الزوايا).
- 1966م ترأس الوفد المكلف بحضور المؤتمر الإسلامي بالقدس الشريف ومنها زار الأماكن المقدسة (الخليل – بيت لحم – وغيرها) وألقى بها بعض الدروس والمحاضرات وكان هذا بعد عام النكبة.
- 1967 م ترأس وفدا للمؤتمر الإسلامي في باكستان وكان هذا المؤتمر لاختيار المخطوطات الإسلامية.
- و زار الأماكن الإسلامية التالية : (لاهور – كراتشي – اسلام أباد – كما زار تاج محل بالهند الذي يعتبر من عجائب الدنيا السبع).(/2)
- 1968 م كان ممثلا لليبيا في المغرب في ذكرى مرور 14 قرن على نزول القرآن الكريم وكان ضيفا على الملك (الملك الحسن الثاني رحمه الله) وألقى الدروس الحسنية بشهر رمضان المبارك.
- 1978م ترأس وفد جامعة الفاتح لزيارة جامعة لاغوس بنيجيريا وكان معه الشيخ الشيخ محمد المقوز.
- 1979- 1980 م ألقى محاضرات بالمركز الإسلامي في لوس أنجلس ولاية كلفونيا وكما زار هيئة الأمم المتحدة ونيورك وواشنطن.
- 1981-1982م ألقى دروسا بالرباط – الدار البيضاء – مراكش ومدينة فاس بالمغرب الشقيق. وألقى عدة دروس بالحرمين الشريفين- ألقى دروس مسجلة بالإذاعتين المرئية والمسموعة- يشارك في العديد من المناسبات الإجتماعية والدينية ولازال يلقى بعض الدروس بجامع الناقة وبن نابي بطرابلس.(/3)
الشيشان
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
قومي انْظِري الشيشان في ميدِانهمْ
بَذْلٌ يَطُولُ وهِمَّةٌ لم تَبْخَل
صَبْرٌ عَلى تِلكَ القَوارِع معجِزٌ
صبرٌ على كَيْدٍ أشدٍَّ و أثَْقلِ
دولٌ تُجَمَّع مكْرَها في سَاحِها
كَيْداً يَدُورُ وفِتْنَةً لم تَنْطَلِ
ما بَين بَسْمةِ غادر و منافقٍ
ودوىِّ إعْصار الطغاةِ وطيسَلِ (1)
تتلألأ الساحات من دَمِهِم هُدىً
نوراً يَشُقُّ من الظلام و يَجْتلي
وعلى الذُّرا شَمَمُ النفوسِ وصيحَةٌ
دَوَّتْ لتوقِظَ من غُفَاةٍ عذَّلِ
غَنَّيتُ دارك والجهادَ ولمْ أزَلْ
أرْوي جهادَ المؤمِن المتوكَّل
*
*
*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ملحمة الإسلام من فلسطين إلى لقاء المؤمنين .
(1) الطيسل : السراب ، الريح ، الغبار ، المظلم من الليالي .(/1)
الشيطان يتخلى عن أسلحته ...
06-02-2006
قد حذرنا الله سبحانه وتعالى من الشيطان الرجيم، وبين أنه عدو لنا مبين قال سبحانه : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) ) . يس
وأصل العداوة بيننا وبين الشيطان، أن الله سبحانه فضل آدم وكرمه عليه قال سبحانه : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (62) ) . الإسراء
لذا فإن الشيطان يعمل جاهداً من أجل إضلال بني آدم، ولا يجد باباً يدخل منه لإغوائهم إلا ولجه، فهو يحاصر الإنسان من كل جهاته، يأتيه من قبل الحسنات، ويأتيه من قبل السيئات، يأتيه من قبل الحرص، ومن قبل الخوف، ومن قبل الأهواء والشبهات، قال تعالى : (ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) ) . الأعراف
وقد جاء في تفسير هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ثم لآتينهم من بين أيديهم - أشككهم في آخرتهم-ومن خلفهم - أرغبهم في دنياهم - وعن أيمانهم- أشبه عليهم أمر دينهم - وعن شمائلهم - أشهي لهم المعاصي . وعن قتادة رحمه الله تعالى قال : أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ومن خلفهم من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها وعن أيمانهم من قبل حسناتهم بطّأهم عنها وعن شمائلهم زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها... آتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله .
وتتجلى هذه الصورة المظلمة بوضوح لكل ذي عقل، فإن حقد الشيطان على آدم وذريته، واعتقاده أنهم سبب غوايته يجعله يسلك كل طريق مستطاع من أجل النيل من ذرية آدم، كيف لا وهو قد أقسم بالله مؤكداً حرصه على إضلال ذرية آدم انتقاماً منهم، قال سبحانه : (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) ) .ص
ورغم ما يكيده الشيطان من عداء لبني آدم، إلا أن الله سبحانه لم يجعل له سلطاناً على أوليائه ، فمهما حاول الشيطان يائساً لصد أهل الإيمان عن الطريق القويم، فلن يستطيع إلى ذلك سبيلاً ، قال سبحانه : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) ) . النحل
فقد عصم الله سبحانه عباده المؤمنين من كيد الشيطان، فلا يستطيع أن يصل إليهم، ولكن أهل الغي والهوى يتسلط عليهم الشيطان كأنهم كرة يحركها كيف شاء قال سبحانه : (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (100) ) . النحل
فإن الشيطان يتسلط على الإنسان بقدر معاصيه، فكلما كثرت ذنوبك يا ابن آدم ، كلما تمكن الشيطان منك، فإن المسؤول عن تسلط الشيطان عليك هو أنت، نعم أنت، فما كان له أن يتسلط عليك إلا ببعدك عن جادة الحق، وإتباعك لأهوائه وشهواته، فهو لم يجبرك على المعصية، فليست زمام أمورك بيده، بل كل ما هنالك أنه دعاك إلى فخاخه ومكائده فاستجبت له، لذا فهو يتبرأ منك يوم القيامة ، قال سبحانه : (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) ) . إبراهيم
قال الحسن : يقف إبليس يوم القيامة خطيبا في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعا يقول : إن الله وعدكم وعد الحق . يعني البعث والجنة والنار وثواب المطيع وعقاب العاصي فصدقكم وعده , ووعدتكم أن لا بعث ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب فأخلفتكم .(/1)
ومن اجل هذه الوظيفة الخبيثة التي ألزمها إبليس نفسه، وهي إغواء بني آدم يسلك كل طريق تحقق له مأربه، وتمكنه من الاستيلاء على قلوب وعقول الناس، ولا يتوانى إبليس لعنه الله من استخدام أي وسيلة تمكنه من ذلك، فهو ينشر فخاخه هنا وهناك، ويرمي بسهامه في كل ناحية، ومن أسلحة إبليس الفتاكة التي يتصيد بها الإنسان الخمر قال سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) ) . المائدة
فالخمر رجس من عمل الشيطان، فهي سلاح من سلاحه، ومكيدة من مكائده، فهو يستعمل الخمر كشباك له يتصيد بها الناس ليوقع بينهم العداوة والبغضاء، ويصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة ،قال سبحانه : (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (91) ) . المائدة
قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية : أعلم الله تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بيننا بسبب الخمر وغيره , فحذرنا منها , ونهانا عنها . روي أن قبيلتين من الأنصار شربوا الخمر وانتشوا , فعبث بعضهم ببعض , فلما صحوا رأى بعضهم في وجه بعض آثار ما فعلوا , وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن , فجعل بعضهم يقول : لو كان أخي بي رحيما ما فعل بي هذا , فحدثت بينهم الضغائن ; فأنزل الله : ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء ) . أ هـ
فالشيطان يا عباد الله لا يريد الخمر لذاتها، بل يريدها لما ينتج عنها من مصائب عظيمة تقع على هذه الآمة، الشيطان يريد لهذه الأمة أن يعادي بعضها بعضاً،ويبغض بعضها بعضاً، فهو لا يريدها أن تكون طائعة لله ، قائمة على أمره ، مقيمة للصلاة ، منشغلة بذكر الله سبحانه ، بل يريدها أمة كافرة فاسدة فاسقة، متبعة لأهوائها وغيها، معرضة عن سبيل ربها ،لذا فهو يستعمل الوسائل الممكنة، والأسلحة الفتاكة، لينال مناه ،يستعمل الخمر التي تذهب بالعقول، ليوقع بين الناس العداوة والبغضاء ، ويصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة ، لأن هذه الأمور لا تقع إلا ممن غاب عقله وضاع ، أما العاقل اللبيب، فلا يقع في مثل هذه الأمور لما فيها من إفساد للعباد والبلاد ، ولكن يا عباد الله انظروا يرحمكم الله ، كيف تفشت هذه الأمور في المسلمين حتى دون تعاطيهم للخمر ، أصبح كثير من المسلمين يعادي بعضهم بعضاً ، ويلعن بعضهم بعضاً ، أصبح كثير منهم غافلين عن الصلاة ، معرضين عن ذكر الله ، حتى دون تناول الخمر ، فانظروا كيف لم يعد الشيطان بحاجة إلى أسلحته لينال من الناس مبتغاه ، بل وقع الناس في مكائده حتى دون أن يستعمل شباكه فلا حول ولا قوة إلا بالله .
قد أصبح الشيطان دون سلاحه يرميك يا هذا في فخاخه
ويسري فيك أعظم مكره من نفثه ونفخه ونفاخه
وأنت هائم تجنى الشنا كميت لا يشكو من جراحه
وترجو السلامة من غيرحسن كأنك غير متبع لسفاحه
تالله لا نجاة في نهجه ولا خير فيه أوفراخه
فعد إلى الله وابتغي الهدى قبل أن تشاركه بصراخه
بقلم: ابراهيم بن عبد العزيز بركات(/2)
الشيعة الخطر القادم
الحمد لله القائل في كتابه العزيز: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ).سورة الأنبياء آية (18).
وقال سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).سورة الصف آية (9).
الشيعة خنجر مسموم في ظهر أمة الإسلام
الشيعة الخطر القادم الذي يريد إبادة أهل السنة
ـ إن أعداء الإسلام في كل مكان من الرافضة وممن هم على شاكلتهم لا يزالون مستمرين في الكيد والتخطيط للنيل من أهل السنة والجماعة، يحملهم على ذلك الكره والحسد والحقد الدفين على أهل الدين الحق. فتنوعت أساليب كيدهم ومكرهم فلم يسلم من شرهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا المسلمون في القرون المفضلة، ولم يسلم منهم حجاج بيت الله الحرام في الشهر الحرام فضلاً عن أن يسلم غيرهم من المسلمين.
ـ يكرهون أهل مصر كرها شديدا. وهذه مقتطفات من الكتب الصحيحة والمعتمدة عند الشيعة التى تبين كيف ينظر الشيعة لمصر وللمصريين عموماً:
* "أبناء مصر لُعنوا على لسان داود عليه السّلام، فجعل الله منهم القردة والخنازير."
(بحار الأنوار: 60/208 تفسير القمّي: ص596)
* "انتحوا مصر لا تطلبوا المكث فيها لأنه يورث الدياثة". (بحار الأنوار: 60/211)
يعني حتى من ذهب لمصر للسياحة وأقام فيها فترة فعلى غيرته السلام ! وهو سيكتسب هذه الصفة من أهل مصر.
* "بئس البلاد مصر" (بحار الأنوار:60/210 تفسير العياشي: 1/305 البرهان: 1/457)
* "ما غضب الله على بني إسرائيل إلا أدخلهم مصر، ولا رضي عنهم إلا أخرجهم منها إلى غيرها". (بحار الأنوار: 60/ 208-209 قرب الإسناد: ص 220، تفسير العياشي: 1/304
البرهان: 1/456). وقد عقَّبَ المجلسي على هذه النصوص بقوله: " إن مصر صارت من شر البلاد في تلك الأزمنة، لأن أهلها صاروا من أشقى الناس وأكفرهم".
هذه بعض الأقوال من صحاح كتبهم وهناك غيرها في ذم مصر وأهلها.
قاتلكم الله أيها المجرمون أهذه نظرتكم لأهل مصر الشرفاء؟!
* خصومة مزعومة
إن الخصومة التي تظهر للناس على سطح السياسة الدولية بين الأمريكان وإيران، أو حزب الله، هي خصومة خادعة ومكر خبيث، الهدف منها القضاء على كيان أهل السنة واستئصال تاريخهم الذي بدأ بناؤه في العهد الراشدي، الذي يبغضه من يدعون الإسلام ومحبة أهل البيت. هذا العهد الذي قضى على الدولة الفارسية، وأقام الحضارة الإسلامية التي أوقدت نار الحقد في قلوب المهزومين، الذين كانوا يتربعون على عرش إمبراطورية مترامية الأطراف.
وقد كشر المخطط الشيعي ضد أهل السنة في العالم الإسلامي، ومنه الدول العربية، من عام 1979م، الذي قامت فيه أول حكومة أعلنت تصدير سياستها للسيطرة على العالم الإسلامي، وبدأت بإحداث الاضطرابات في مواسم الحج، واستضافة كثير من شباب أهل السنة للدراسة في مدينة "قم" ليعودوا إلى بلدانهم آياتٍ وحُجَجاً يحدثون فيها فتنا واضطرابا بين أهل السنة، وقد حصل ذلك فعلا وانخدع بهم، في حينه كثير من أهل السنة في الدول العربية وغيرها، ومنهم بعض العلماء والدعاة وأيدتهم بعض الصحف الإسلامية ظنا أن الخلافة الإسلامية التي ستجمع المسلمين في كل الأقطار الإسلامية في ظل رايتها قد آذنت بالرجوع إلى هذه الأمة. ثم اكتشف المتفائلون أن ما كانوا يظنونه ماء ليس سرابا بقيعة فقط، بل هو مشروع لتصدير مذهب بالقوة إلى المسلمين الذين استمروا في السير على مذهب أهل السنة والجماعة المستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي طبقه الجيل المباشر لتلقي الهدى الرباني من القدوة الحسنة للأمة، رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد احتضنت الدولة الإيرانية بعض المراجع الشيعية من العراق وغيرها. ودرب أفرادَها الحرسُ الإيراني منتظرة اليوم الذي تسلمها أمريكا السلطة في العراق، فكانت الهجمة الأمريكية التي تواطأت معها الزُّمَر الشيعية، هي الفرصة السانحة لتنفيذ الخطة الإيرانية الأمريكية على العراق في الحرب الأخيرة، فتدفقت الكتائب الشيعية المدربة في إيران – وعلى رأسها – ما يسمى "فيلق بدر" ومدربوه الإيرانيون بعد الغزو الأمريكي مباشرة إلى العراق، على مرأى ومسمع من الجيش الأمريكي الذي اصطف وراءه لهدم المدن السنية على رءوس أهلها.
ولتغطية الخداع الشيعي الأمريكي المعتدِيَ على أهل السنة في العراق، رفعت أمريكا وإيران عنوان الخلاف والشقاق بينهما، وكانت أمريكا تصرح بأن إيران ترسل السلاح والمقاتلين إلى العراق، وهي - أمريكا – تشكو من اجتياز المقاتلين الإيرانيين الحدود الشرقية للعراق، وتجمع جيشها و"فيلق بدر" للهجوم على أهل السنة في الغرب والوسط!(/1)
وها هي اليوم أمريكا تهدد إيران في وسائل الإعلام، ثم يصطف جيشها مع الجيش الموالي لإيران، ضد أهل السنة في سامراء، ثم يعلن كلا الطرفين قبول التفاوض مع الآخر بطلب في الشأن العراقي من الربيب الإيراني زعيم "فيلق بدر".
وهاهي فضائياتهم في كل من إيران والعراق ولبنان، بل وفي بعض الدول الغربية، تبث لكل تلك الفئات عقائدهم وأفكارهم وسياساتهم، وموضوعاتهم موجهة توجيها ذكيا ونشيطا إلى شبابنا وشاباتنا منطلقين في ذلك من أساس يدعونه، وهو منهم براء، ونحن أولى به منهم، وهو الولاء لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يرفعون رايته مع إهانة لصفوة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهدفهم من ذلك تكثير سوادهم لينقضوا على أهل السنة في العالم وليس في العراق فقط. وإن أول البلدان التي ستنال قسطها من عدوانهم إذا تمكنوا هي الدول المجاورة – وبالأخص دول الخليج – التي بها من المغريات الدينية والاقتصادية ما لا يوجد في غيرها.
ـ إن الأمريكان واليهود والبريطانيين وبعض الدول الغربية، يعلمون علم اليقين أن العقبة الكأداء أمام تحقيق أهدافهم هم أهل السنة وليس الشيعة؛ لأن الشيعة قد تعاونوا مع المعتدين على البلدان الإسلامية من قديم الزمن، كما هي الحال مع التتار، وهم اليوم قد تعاونوا معهم في أفغانستان وركبوا دباباتهم عندما احتلوا العراق، ولا تخدعنا تصريحات خلافاتهم المعلنة فالنار تحت الرماد.
ـ أما حزب الله في لبنان فمهمته بالتنسيق مع اليهود هو حماية حدود اليهود من تسلل أي مجاهدين، ومنع أي عمليات تهدد إسرائيل.
** الشيعة والمجوس واليهود
كان مقتل عمر رضي الله عنه انتقاماً لما فعله بدولة كسرى؟
أو ليس الذي قتل عمر هو أبو لؤلؤة فيروز الفارسي المجوسي؟! ولذلك صنع له الشيعة مشهداً فيه قبر وهمي في مدينة كاشان بإيران وأطلقوا عليه (مرقد بابا شجاع الدين) وهذا المشهد يُزار وتلقى فيه الأموال والتبرعات نظير ما قدم لهم.
** تظاهر اليهودي ابن السوداء عبدالله بن سبأ بالإسلام وطعن في صحابة الرسول، صلى الله عليه وسلم، ونادى بأحقية علي، رضي الله عنه، بالخلافة وأن النبي عليه السلام أوصى بها إليه، في قصة غدير خم، ووصل به الأمر أن قال بألوهية علي.!!
والسؤال: كيف انطلت هذه الخزعبلات على بعض المسلمين على الرغم من أن العلاقة بين علي وبقية الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم، كانت من أقوى وأصدق الروابط؟ ثم لماذا بايعهم جميعاً وكان لهم نعم العون والنصير؟ ولماذا قبل أن يزوج ابنته أم كلثوم لعمر، رضي الله عنه، ولماذا سمّى أبناءه بأبي بكر وعمر وعثمان؟
هذه من الأسئلة التي أحرجت الأئمة ولم يفلحوا في الرد عليها بردود مقنعة، فقالوا إن علي، رضي الله عنه، لم يطالب بالخلافة حرصاً منه على وحدة المسلمين، وأما تزويجه لعمر؛ فقد قيل إن عمر إنما تزوج جنية، وأما المبايعة فقد كانت تقيّة!!.
وذلك يتعارض مع شجاعة علي وقوته في الحق، ثم لو كان ذلك حقاً فإن صحابة رسول الله لن يسكتوا على ذلك وكتاب الله وسنّة نبيه بين أيديهم.
لذا كان لا بد من صرف الناس عن هذين المصدرين فظهر القول بتحريف القرآن وردّة الصحابة إلا بضعة نفر منهم حتى يقطعوا الطريق على المسلمين، ولذلك كان أكثر الصحابة قرباً من الرسول وأكثرهم رواية عنه للحديث أكثرهم حقداً وعداوة عند الشيعة.
فقالوا بعصمة الأئمة الإثني عشر المتعاقبين لكي يطمأن الناس إليهم ويأخذوا الدين عنهم وحدهم دون تردد ودون سؤال.
**عقيدة الشيعة في الأئمة الإثنى عشر:
سبب تسميتهم بالشيعة الاثنا عشرية
نسبة إلى الإثني عشر إماماً الذين يتخذهم الرافضة أئمة لهم، وهم على النحو التالي:-
1- علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الذي يلقبونه بالمرتضى.
2- الحسن بن علي رضي الله عنهما ويلقبونه بالمجتبي
3- الحسين بن علي رضي الله عنهما ويلقبونه بالشهيد.
4- علي زين العابدين بن الحسين (80-122هـ ) ويلقبونه بالسَّجَّاد.
5- محمد الباقر بن علي زين العابدين ( ت 114 هـ ) ويلقبونه بالباقر.
6- جعفر الصادق بن محمد الباقر ( ت 148هـ ) ويلقبونه بالصادق.
7- موسى الكاظم بن جعفر الصادق ( ت 183هـ ) ويلقبونه بالكاظم.
8- علي الرضا بن موسى الكاظم ( ت 203 هـ ) ويلقبونه بالرضي.
9- محمد الجواد بن علي الرضا ( 195-226هـ ) ويلقبونه بالتقي.
10- علي الهادي بن محمد الجواد ( 212-254هـ ) ويلقبونه بالنقي.
11- الحسن العسكري بن علي الهادي ( 232-260هـ ) ويلقبونه بالزكي.
12- محمد المهدي بن الحسن العسكري ( لا يعلم متى ولد -ويقولون انه لم يمت ولكن انه غاب في السرداب )
ويلقبونه بالحجة القائم المنتظر ونحن أهل السنة نلقبه بالمهدي الخرافة؛ لأنه لما مات الحسن العسكري،الذي هو من نسل الحسين ولم يكن له عقب، كانوا بين ثلاثة أمور:(/2)
إما أن يتنازلوا عن هذا الشرط، فيجعلونها في غيره وهذا ما قالت به طائفة من الشيعة, وإما أن يسلموا بانقطاع الإمامة بعد الحسن العسكري لانقطاع الولد،
وإما أن يختلقوا ولدًا للحسن يقوم مقامه فكانت الثالثة.
ولذلك اختلف الشيعة بعد الحسن العسكري إلى عشرين فرقة, منهم 'الاثنا عشرية' التي قالت: إن لله حجة من ولد الحسن العسكري هو المهدي المنتظر, وليس للعباد أن يبحثوا في أمور الله، ويقضوا بلا علم، ويطلبوا آثار ما ستر عنهم، وليس علينا البحث عن أمره.
وزعموا أن الإمام الثاني عشر قد دخل سرداباً في دار أبيه بسُرَّ مَنْ رَأى ولم يعد، وقد اختلفوا في سنه وقت اختفائه فقيل أربع سنوات وقيل ثماني سنوات، غير أن معظم الباحثين يذهبون إلى أنه غير موجود أصلاَ وأنه من اختراعات الشيعة ويطلقون عليه لقب (المعدوم أو الموهوم ).
واستند الشيعة في التدليل على وجود المهدي بأدلة عقلية منها ضرورة وجود إمام في الأرض،عنده جميع علم الشريعة، يرجع الناس إليه في أحكام الدين، وضرورة كونه معصومًا، وأن يكون من أولاد الحسين بن علي، وهو ما لا يتوافر إلا في محمد بن الحسن العسكري، [وهو الإمام المهدي المنتظر]. وزعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للحسين: 'هذا إمام، ابن إمام، أخو إمام، أبو أئمة تسعة، تاسعهم قائمهم، اسمه كاسمي، وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلاً، كما ملأت جورًا'.
وقالوا: هذا الحديث مشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توارثته الشيعة خلفًا عن سلف. وهذا الحديث لا ينسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فرقة واحدة من فرق الشيعة التي بلغت قريبًا من السبعين، كلها تكذب هذا الحديث.
ويعتقد الشيعة 'الاثنا عشرية' أن الإمام لما بلغ خمس سنين قبض أبوه الإمام الحسن العسكري, ولما تحرك العباسيون لإلقاء القبض عليه، غيّبه الله عز وجل سبعين عامًا، التي هي 'الغيبة الصغرى'. وخلال هذه الفترة كان الإمام يتصل بشيعته ومواليه من خلال نواب أربعة، إلى أن توفي النائب الرابع، فترك الإمام قاعدة عامة عندما سئل: لمن الرجوع بعدك؟ فحدد الشروط بقوله:ارجعوا إلى رواة حديثنا. فقالوا من هم؟ قال: 'فأما من كان من الفقهاء، حافظًا لدينه، صائنا لنفسه، مخالفًا لهواه، مطيعًا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه'.
ـ وعندهم أسطورة حول 'الغيبة الكبرى'، وهي الخروج من السرداب، حيث يقف الشيعة عند الغروب بباب السرداب في سامراء يلبسون الأكفان ويضعون لهم بغلة ويشهرون السيوف ترقبًا وانتظارًا لخروج صاحب الزمان من السرداب الذي مكث فيه قرون عديدة.
ولم يخرج حتى الآن ـ بحسب المعتقد الشيعي ـ لأنه خائف!!، ولذلك من ألقابه عندهم الخائف, رغم أنه الإمام الذي ينتظرونه باعتباره مخلصًا لهم من الظلم والطغيان. وقد تعدى عمره الألف سنه!!! وصار سردابه الذي ادعوا اختفاؤه فيه مورداً جيّداً للمال.
وقالوا: إن ظهور الإمام إنما هو بأحد أمور إما بكثرة أعوانه وأنصاره، أو قوتهم ونجدتهم، أو قلة أعدائه، أو ضعفهم وجورهم، فإذا غلب في ظنه السلامة، وقوي عنده بلوغ الغرض والظفر بالإرب، تعين عليه فرض الظهور.
وعدوا العامة بخروج المهدي بعد ستة أشهر من غيبته،وذلك بوعد الله، و لم يخرج، فقالوا: بعد ست سنوات، وذلك بوعد الله، فلم يخرج، وعندما شعر العامة أن الله لا ينفذ وعده؟!! قالوا بعقيدة البداء، وأن الله قد يحكم بأمر، فيبدو له الحكم الأصوب فيغير حكمه، وجعلوا ذلك من أصول الدين.
وما أسهل الضحك علي العامة، فقد نسبوا الخطأ إليهم فسكتوا وبكوا.
قالوا لهم: من ذكر اسم المهدي أو ذكر مكانه، فقد عرضه لخطر القتل إذا ظهر، فعند ذلك يبدو لله أن الأفضل تأخير ظهور المهدي. ولا لذكر الاسم!! حتي إنك إذا نظرت في "الكافي " وجدت الكليني يكتب اسم المهدي مفرق الحروف هكذا " م ح م د ". الكثير انطلي عليه الأمر، والبعض ظل متشككا. فقالوا للمتشككين: إنه لن يظهر حتى تيأسوا من ظهوره تمامًا، فجعلوا يأسهم علامة علي قرب ظهوره، فسكنوا.
ولماذا إثنا عشر إماماً؟ على عدد أسباط بني إسرائيل، ولذلك قال الكليني: إن آخرهم وهو المهدي سيحكم بحكم داوود وسليمان عليهما السلام.
* قال بن بابويه رئيس المحدثين عندهم – إن منكر الإمام الغائب – أشد كفرا من إبليس
(إكمال الدين. صفحة 13).
** غلوهم في علي والأئمة
ولا شك أن الشيعة غلوا في أئمتهم غلوا شديدا حتى رووا عن على بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال: " والله لقد كنت مع إبراهيم في النار وأنا الذي جعلتها بردا وسلما وكنت مع نوح في السفينة وأنجيته من الغرق وكنت مع موسى فعلمته التوراة وكنت مع عيسى فأنطقته في المهد وعلمته الإنجيل وكنت مع يوسف في الجب فأنجيته من كيد اخوته وكنت مع سليمان على البساط وسخرت له الريح " (الأنوار النعمانية الجزء الأول صفحة 31).
*وروى الكليني عن جعفر بن محمد أنه قال: " عندنا علم ما كان وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة " ( الجزء الأول صفحة 239).(/3)
يقول الخميني: "إن لأئمتنا مقاما ساميا وخلافة تكوينية تخضع لها جميع ذرات هذا الكون…" ويقول كذلك: "وينبغي العلم أن لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل« (الحكومة الإسلامية ص 52).
**ومع قولهم بعصمة الأئمة ظهر بينهم تناقض واضح وحرج شديد إزاء مواقف حقيقية تكشف بطلان تلك العصمة المزعومة:
فمن ذلك الصلح الذي وقع بين الحسن ومعاوية رضي الله عنها وموقف الحسين رضي الله عنه المخالف لهما، فهل كان تنازل الحسن الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام (إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين) مع قوته وتمكنه من الحرب (حقاً) أم كان خروج الحسين مع ضعفه وتجرده من القوة (حقاً)؟ وكيف يتناقضان ويكونان معصومين في نفس الوقت!!؟
ولذلك يمنع الشيعة مثل هذه الأسئلة ويحرمون مجرد طرحها!! إذ يقال لهم:
لماذا أخذتم بفعل الحسين وتركتم فعل الحسن رضي الله عنهما؟
ولماذا اعتمدتم الإمامة في ذرية الحسين دون الحسن رضي الله عنهما مع أن المهدي سيكون من ذرية الحسن رضي الله عنه!!؟
والجواب الذي يخفونه في أنفسهم: لأن الحسين تزوج من شهبانو ابنة الإمبراطور الفارسي يزدجرد، وهذا هو السبب في حصر أئمة الشيعة ابتداءا من الإمام الرابع في سلالة الحسين رضي الله عنه!!
* فكرة التقيّة
عند تعدد أقوال الأئمة وتعارضها فالقول المعتمد عند الشيعة هو ما خالف السنة؛ فقد روى عن علي بن أسباط قال: قلت للرضا عليه السلام: يحدث الأمر لا أجد بداً من معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيه من أستفتيه من مواليك؟ قال: أحضِر فقيه البلد (من السنّة) فاستفته في أمرك، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإن الحق فيه.
ـ متى تنتهي العداوة بين الشيعة وأهل السنة؟
يقول الشيعة: لن تنتهي إلا بمحو دينكم من الوجود وقتلكم كما قال الخميني لأحد الأئمة حين دخل طهران قادما من المنفى قال: آن الأوان لتنفيذ وصايا الأئمة صلوات الله عليهم، سنسفك دماء النواصب أهل السنة، نقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم، ولا نترك أحداً منهم يفلت من العقاب، وستكون أموالهم خالصة لشيعة أهل البيت، وسنمحو مكة والمدينة من وجه الأرض؛ لأن هاتين المدينتين صارتا معقل الوهابيين، ولا بد أن تكون كربلاء أرض الله المباركة المقدسة، قبلة للناس في الصلاة وسنحقق بذلك حلم الأئمة عليهم السلام، وكما روى المجلسي عن المنتظر أنه قال (ما بقي بيننا وبين العرب إلا الذبح).
وهذا الذي جعل الخميني يترحم على نصيرالدين الطوسي وابن العلقمي حين تحالفا مع هولاكو وذبحوا المسلمين بعد إسقاطهم بغداد!!
ويروي الكليني (صفحة 239) عن محمد بن علي الباقر – أن الناس كلهم أولاد بغايا ما خلا شيعتنا. ويروي عن جعفر بن محمد الصادق – أنه قال – إن الشيطان ليجيء حتى يقعد من المرأة كما يقعد الرجل منها ويحدث كما يحدث وينكح كما ينكح – قال السائل، بأي شيء يعرف ذلك " بأي شيء نعرف هل الذي نكح هذه المرأة هو الشيطان أم الإنسان (أي زوجها) كيف نعرف من الذي نكح هذه المرأة؟" قال: بحبنا وبغضنا – فمن أحبنا كان نطفة العبد ومن أبغضنا كان نطفة الشيطان. (الكافي، الجزء الخامس، صفحة 502.
*استحلال دماء وأموال أهل السنة:
عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: ما تقول في قتل السني؟ قال: حلال الدم، ولكني اتقي عليه فإن قدرت أن تقلب عليه حائطا أو تغرقه في ماء لكي لا يشهد به عليك فافعل، قلت: فما ترى في ماله؟ قال توه ماقدرت عليه. علل الشرائع وفي الأنوار النعمانية الجزء الثاني صفحة 308.
ويروي الطوسي عن ابن عبد الله جعفر أنه قال: خذ مال الناصب حيث وجدته وادفع إلينا الخمس في تهذيب الأحكام الجزء الرابع صفحة 122
وقال الخميني: " والأقوى إلحاق الناصب (أي السني) بأهل الحرب في إباحة ما اغتنمنا منه وتعلق الخمس به " طبعا قوله من أهل الحرب معناها ليست إباحة ماله فقط بل أيضا النفس. وقال: بل الظاهر جواز أخذ ماله أين وجد وبأي نحو كان ووجوب إخراج خمسة هذا ما قاله في تحرير الوسيلة الجزء الأول صفحة 352.
وروي المجلسي أيضا عن جعفر بن محمد أنه قال: ما بقي بيننا وبين العرب إلا الذبح وأومأ بيده إلى حلقه وهذا في بحار الأنوار جزء 52 صفحة 349.
يقول الشيعي: لا يستطيع الواحد منّا أن يناقش عالماً ولا أن يسأل عن دليل، فكل الذي تسمعه من الأدلة هو: عن أبي عبدالله وقال أبو عبدالله، فالشيعة في قلق من كثرة الفرق ومن تناقضها وتخالفها في الأصول، فقد فاق عددها 300 فرقة.
مصيبتنا شيئان: الخمس والمتعة، فالمال والنساء من أعظم الفتن، فأما المال فمتوفر حتى أصبح فقهاؤنا من أثرياء العالم وأما المتعة فمن أعجبته فتاة أو امرأة استمتع بها ولو كانت ذات زوج والشيعي لا يخرج من هؤلاء الثلاثة:
1- إما رجل يعرف الحق لكنه صاحب شهوة فعنده المال والنساء يستمتع بهما كيفما شاء.
2- أو رجل عاقل عرف الحق لكنه خائف على نفسه فهو يظهر خلاف ما يبطن، وما أكثرهم.(/4)
3- أو رجل أحمق مغفل يصدق كل ما يسمع فهذا إمعة لا رأي له.
قتلوا السيد حسين الموسوي رحمه الله صاحب كتاب (لله... ثم للتاريخ)!!.
ـ وكيف يكون هناك وحدة بين الإسلام وبين روافض الإسلام!.. بين أنصار الله وشيعة الشيطان؟ إن الوحدة لا تكون على حساب عقيدتنا وديننا. فإنه لما عبد بنو اسرائيل العجل وجاءهم موسى وأخذ بلحية أخيه اعتذر له هارون قائلا: (يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي اني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي). و كان رأي هارون أن يترك بني إسرائيل على ما هم عليه وخشية أن يفرق بين بني إسرائيل، فعاتبه موسى أشد العتب؛ فان تفريق الناس بالتوحيد خير من بقائهم على الشرك مجتمعين.
** سب الصحابة
إن الرافضة يضطهدون السنة في بلادهم ويستبيحون دماءهم من أيام القرامطة إلى أيامنا الحالية في إيران. ويسبونهم. ولو أن شتائمهم كانت موجهة إلينا فحسب، لكان هينا. ولكن لعناتهم موجهة إلى أهل بيت رسول الله وأزواجه أمهات المؤمنين وإلى أصهاره وأصحابه ومن تبع سنته.
ويعترف الرافضة أن أول من بدأ سب الصحابة (رضوان الله عليهم) هو بن سبأ اليهودي مؤسس مذهبهم. فليس لنا أن نعفو عنهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله اختارني واختار لي أصحاباً. فجعل لي منهم وزراء وأنصاراً وأصهاراً فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منهم يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً).
ورد في صحيح مسلم عن حادثة الإفك أن عائشة رضي الله عنها قالت:
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَ أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلا خَيْرًا وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلا خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلا مَعِي فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ مِنْ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ..... فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ......لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ.
وهذا الحديث يدل على دخول أمهات المؤمنين في أهل البيت، ويدل على وجوب قتل من سب أمهات المؤمنين. وأن كل من يدافع عمن يسب أمهات المؤمنين هو منافق. ومن يقذف الطّاهرة الطّيبة أم المؤمنين زوجة رسول رب العالمين - صلى الله عليه وسلّم - في الدّنيا و الآخرة كما صحّ ذلك عنه، فهو من حزب عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، ولسان حال رسول الله – صلى الله عليه و سلم – يقول: يا معشر المسلمين من يعذرني فيمن آذاني في أهلي! والله يقول { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبينا }.
** لماذا يسمون بالرافضة؟
هم من اخترع هذا الاسم لطائفتهم. وقصة ذلك أنهم جاءوا إلى زيد بن علي بن الحسين، فقالوا: تبرأ من أبي بكر حتى نكون معك، فقال: هما صاحبا جدي بل أتولاهما، قالوا: إذاً نرفضك، فسموا أنفسهم رافضة وسمي من بايعه ووافقه زيدية. (انظر مقدمة ابن خلدون). و هذه التسمية ذكرها شيخهم المجلسي في كتابه (البحار) وذكر أربعة أحاديث من أحاديثهم.
وأورد الكليني في الروضة من الكافي أن أبا بصير قال لأبي عبد الله (.. جعلت فداك فإنا قد نبزنا نبزاً انكسرت له ظهورنا وماتت له أفئدتنا واستحلت له الولاة دماءنا في حديث رواه لهم فقهاؤهم، قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: الرافضة؟ قال: قلت: نعم، قال لا والله ما هم سموكم ولكن الله سماكم به.....) جـ8 (مقامات الشيعة وفضائلهم) ص (28).
ونحن نسميهم بذلك لرفضهم الإسلام فقد روى علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أن رسول الله (عليه الصلاة و السلام) قال: "يظهر في أمتي في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة يرفضون الإسلام" أخرجه أحمد.
*لماذا تعاديهم؟؟
فإن قيل: هؤلاء الشيعة يشهدون بالشهادتين ويصلون ويحجون فكيف نكفرهم؟
نقول: المرتدون الذين حاربهم أبو بكر الصديق واستباح دماءهم كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلون ويصومون ويحجون...ولم ينفعهم ذلك كله لما رفضوا دفع الزكاة لخليفة المسلمين. (والرافضة ينكرون الزكاة ويدفعون الخمس لأئمتهم فقط).(/5)
وبعض هؤلاء ساوى بين مسيلمة الكذاب وبين رسول الله فحل دمه وخرج من دين الإسلام فكيف بمن يرفع أئمته إلى مرتبة الله عز و جل؟! و يدعي أن الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل، وباب أنّ الأئمة يعلمون ما كان وما يكون، و أنّ الأئمة يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيارهم. وهذا خلاف قول الله تعالى: {إنّ الله عنده عِلم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرضٍ تموت إنّ الله عليم خبير}.
و قد أخرج الشيخان أن رسول الله قال في الخوارج (أينما لقيتموهم فاقتلوهم لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) مع كونهم أكثر الناس عبادة حتى أن الصحابة يحقرون صلاتهم عندهم، فلم تنفعهم (لا إله إلا الله) ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لمّا ظهر منهم تكفير الصحابة.
ـ أحد علماء الشيعة الرافضة نعمة الله الجزائري في كتابه الأنوار النعمانية: (إننا لم نجتمع معهم - أي مع أهل السنة - على الله ولا على نبي ولا على إمام، وذلك أنهم يقولون: إن ربهم هو الذي كان محمداً نبيه، وخليفته بعده أبو بكر، ونحن - أي الرافضة - لا نؤمن بهذا الرب ولا بذلك النبي.
ـ فإن قيل: أليس الأجدر أن نحارب اليهود بدلاً من أن نحارب من يشهد أن لا إله إلا الله؟
نفول: مؤسس هذه الديانة هو بن سبأ اليهودي وهؤلاء الرافضة كانوا دوماً عبر التاريخ حلفاءً لليهود والصليبيين وكل أعداء هذه الأمة، فهل تكفي لا إله إلا الله؟!
نخشى اليوم ألف مرة وفي كل ثغر وأرض ورباط.. وقد تعرت صدورنا أمام أعدائنا وانكشفت ظهورنا لكل غادر وخائن.. بل صار بيننا دعاة يدعوننا لأن نستعين بالمشركين الذين لا يزيدوننا إلا خبالاً وبأن نترك ظهورنا لكل فاجر وفاسق وزنديق.
ـ لقد حارب صلاح الدين الأيوبي الرافضة قبل النصارى بل قضى على الدولة العبيدية (الفاطمية) قبل حربه للصليبيين ولولا ذلك لاستحال عليه تحرير القدس. و بفضل الله ثم بفضل صلاح الدين الأيوبي لا يوجد رافضي واحد في بلاد شمال افريقيا بعد أن رضخت تحت الشعوذة الرافضية سنين طويلة.
فبوجود الدولة العبيدية وجدت الدولة الصليبية في فلسطين وبوجود الدولة الرافضية في إيران اليوم تمزق المسلمون ووجدت الدولة اليهودية في فلسطين.
فإن كانت هذه الفرقة والتمزق مؤلمين لنا، فإن في وجود اليهود والرافضة في قلب العالم الإسلامي، وفي تعالي أصوات جاهلة لا تقرأ ولا تعرف التاريخ وتنادي بالوحدة مع الرافضة، طامة عظيمة تمد في عمر مأساة العالم الإسلامي وتعرقل سبيل وحدته ونهضته كأمة خير تعطي للبشرية ما أخذه أعوان الشياطين، توحد ربها ولا تشرك به شيئاً.
ـ هذه شهادة من التاريخ تشهد كيف أن الرافضة كانت سبباً في إخفاق المسلمين في مواصلة فتوحاتهم؛ إذ يذكر المؤرخون أن دار الخلافة في اسطنبول اضطرت لسحب جيوشها الفاتحة التي كانت على مشارف فيينا عاصمة النمسا بسبب هجوم إيران الرافضية عليها... فكم من خير أفسدته أيادي آثمة جاثمة على صدورنا يخدعوننا.
** هل يجوز لنا أن نكتم هذا تفادياً للمشاكل؟
معاذ الله! كيف نفعل ذلك وقد قال الله : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (سورة البقرة 174- 175) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (159)}.
وروي في الحديث: "إذا ظهرت البدع وسبّ أصحابي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله و الملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً". و: "مَا مِنْ رَجُلٍ يَحْفَظُ عِلْمًا فَيَكْتُمُهُ إِلا أُتِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنَ النَّارِ". (رواه الترمذي و أبو داوود و ابن ماجة و أحمد).
*هل من فرصة للتقريب؟
كيف يمكن التقريب مع من يؤمن بتحريف كتاب الله يزعم بتنزل كتب إلهية على أئمته بعد القرآن الكريم، يرى الإمامة أعلى من النبوة، والأئمة عنده كالأنبياء أو أفضل ويفسر عبادة الله وحده التي هي رسالة الرسل كلهم بغير معناها الحقيقي ويزعم أنها طاعة الأئمة وأن الشرك بالله طاعة غيرهم معهم، ويكفر خيار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلعن زوجاته أمهات المؤمنين ويحكم بردة جميع الصحابة إلا ثلاثة أو أربعة أو سبعة على اختلاف رواياتهم، ويشذ عن جماعة المسلمين بعقائد في الإمامة والعصمة والتقية ويقول بالرجعة والغيبة والبداء؟!(/6)
كيف نتقارب وهم يشككون في هذا المصحف الذي بين أيدينا؛ ذلك ثابت في كتبهم وسورة الولاية التي زعموا أنها من القرآن تفضحهم وتبين كذب إدعائهم. أنصدق العظيم الذي تكفل بحفظ كتابه: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. أم نصدقهم ونرمي كتاب الله وراء ظهورنا؟
جعلوا الصحابة كلهم مرتدين وكفاراً، ولم يستثنوا منهم إلا قلة كأبي ذر، وبلال، والمقداد،وسلمان رضي الله عنهم. فإذا سبوا هولاء وكفروهم، فمن الذي نقل إلينا الشرع والقرآن والسنة إلا أولئك، وكما قال بعض السلف: هم يريدون أن يجرحوا شهودنا. فإذا اعتقدنا ذلك في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والعياذ بالله- فكيف نثق بما نقلوه إلينا، وكيف نصدقهم فيما قالوه؟
كيف نتقارب مع الذين يتهمون أمنا- عائشة رضي الله عنها وعن أبيها- بالزنا وحاشاها أن تفعل ذلك-. والله برأها من فوق سبع سموات، وأنزل فيها آيات تتلى إلى يوم القيامة، وهم أبوا إلا تكذيب القرآن، والمكذب بالقرآن كافر.
**إذا كان الشيعة يؤمنون بتحريف القرآن فلن يؤمنو لكم أبداً. ألم تسمع قول الله تعالى: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}... فلماذا إضاعة الوقت في الحوار معهم؟
افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَافْتَرَقَتْ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَ سَبْعِينَ فِرْقَةً فَإِحْدَى وَ سَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ. قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ الْجَمَاعَةُ.
(أخرجها ابن ماجة و الترمذي وأبو داوود و أحمد والدارمي وكثير غيرهم).
و نحن التابعون بإحسان ممن قال الله عنهم:
{ و َالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَ لِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (59: 10)
و نحن الذين ينتهجون المنهج الوسيط فلا نبغض صحابة رسول الله كما يفعل الشيعة، ولا نعبد قبورهم من دون الله. وإنما نحن على سنة رسول الله و منهج السلف الصالح.
**مناظرة بين الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه و أحد الرافضة
هذه مناظرة بين الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه مع أحد الرافضة وتوجد منها نسختان: النسخة الأولى نسخة تركيا في خزانة شهيد علي باشا باستنبول ضمن مجموع رقمه 2764 حوى عدة رسائل في العقيدة والحديث هذه الرسالة الحادية عشرة منه. النسخة الثانية نسخة الظاهرية ضمن مجاميعها في المجموع رقم 111 وهي الرسالة التاسعة عشر منه.
نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم
حدثنا علي بن صالح قال: جاء رجل من الرافضة إلى جعفر بن محمد الصادق كرم الله وجهه، فقال:السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه السلام فقال الرجل:
1- يابن رسول الله من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال جعفر الصادق رحمة الله عليه: أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
2- قال: وما الحجة في ذلك؟
قال: قوله عز وجل (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن 'ن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها){التوبة 40} فمن يكون أفضل من اثنين الله ثالثهما؟ وهل يكون أحد أفضل من أبي بكر إلا النبي صلى الله عليه وسلم؟!
3- قال له الرافضي: فإن علي بن أبي طالب عليه السلام بات على فراش النبي صلى الله عليه وسلم غير جزع ولا فزع.
فقال له جعفر: وكذلك أبو بكر كان مع النبي صلى الله عليه وسلم غير جزع ولا فزع.
4- قال له الرحل: فإن الله تعالى يقول بخلاف ما تقول!.
قال له جعفر: وما قال؟
قال: قال الله تعالى (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) فلم يكن ذلك الجزع خوفاً؟
قال له جعفر: لا ! لأن الحزن غير الجزع والفزع، كان حزن أبي بكر أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدان بدين الله فكان حزن على دين الله وعلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن حزنه على نفسه كيف وقد ألسعته أكثر من مئة حية.
5- قال الرافضي: فإن الله تعالى قال: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون){المائدة 55} نزل في علي حين تصدق بخاتمه وهو راكع فقال النبي صلى الله عليه وسلم (الحمد لله الذي جعلها في وفي أهل بيتي)(/7)
فقال له جعفر: الآية التي قبلها في السورة أعظم، قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه){المائدة 54}. وكان الارتداد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ارتدت العرب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتمع الكفار بنهاوند وقالوا: الرجل الذين كانوا ينصرون به - يعنون النبي - قد مات، حتى قال عمر رضي الله عنه: اقبل منهم الصلاة، ودع لهم الزكاة، فقال: لو منعوني عقالا مما كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ولو اجتمع علي عدد الحجر والمدر والشوك والشجر والجن ولإنس لقاتلتهم وحدي.
وكانت هذه الآية أفضل لأبي بكر.
6- قال له الرافضي: فإن الله تعالى قال: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية) نزلت في علي عليه السلام كان معه أربعة دنانير فأنفق ديناراً بالليل وديناراً بالنهار وديناراً سراً وديناراً علانية فنزلت فيه هذه الآية.
فقال له جعفر عليه السلام: لأبي بكر رضي الله عنه أفضل من هذه في القرآن، قال الله تعالى (والليل إذا يغشى) قسم الله، (والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى) أبو بكر (فسنيسره لليسرى) أبو بكر (وسيجنبها الأتقى) أبو بكر (الذي يؤتي ماله يتزكى) أبو بكر (وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى) أبو بكر، أنفق ماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين ألفاً حتى تجلل بالعباء، فهبط جبريل عليه السلام فقال الله العلي الأعلى يقرئك السلام، ويقول: اقرأ على أبي بكر مني السلام، وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا، أم ساخط؟ فقال: أسخط على ربي عز وجل؟! أنا عن ربي راض، أنا عن ربي راض، أنا عن ربي راض. ووعده الله أن يرضيه.
7- قال الرافضي: فإن الله تعالى يقول (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله) { التوبة 19} نزلت في علي عليه السلام.
فقال له جعفر عليه السلام: لأبي بكر مثلها في القرآن، قال الله تعالى (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى){ الحديد 10} وكان أبو بكر أول من أنفق ماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من قاتل، وأول من جاهد. وقد جاء المشركون فضربوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى دمي، وبلغ أبي بكر الخبر فأقبل يعدو في طرق مكة يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟ فتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا أبا بكر فضربوه، حتى ما تبين أنفه من وجهه.
وكان أول من جاهد في الله، وأول من قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من أنفق ماله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نفعني مال كمال أبي بكر).
8- قال الرافضي فإن علياً لم يشرك بالله طرفة عين.
قال له جعفر: فإن الله أثنى على أبي بكر ثناءً يغني عن كل شئ، قال الله تعالى (والذي جاء بالصدق) محمد صلى الله عليه وسلم، (وصدق به){الزمر33} أبو بكر.
وكلهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم كذبت وقال أبو بكر: صدقت، فنزلت فيه هذه الآية: آية التصديق خاصة، فهو التقي النقي المرضي الرضي، العدل المعدل الوفي.
9- قال الرافضي: فإن حب علي فرض في كتاب الله ؛ قال الله تعالى (قل لا أسألكم عليه إلا المودة في القربى) قال جعفر: لأبي بكر مثلها، قال الله تعالى (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا انك غفور رحيم){الحشر10}
فأبو بكر هو السابق بالإيمان، فالاستغفار له واجب ومحبته فرض وبغضه كفر.
10- قال الرافضي: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما)
قال له جعفر: لأبي بكر عند الله أفضل من ذلك؛ عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وليس عنده غيري، إذ طلع أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة وشبابهما -في الظاهرية شبابهم- فيما مضى من سالف الدهر في الأولين وما بقي في غابره من الآخرين، إلا النبيين والمرسلين.لا تخبرهما يا علي ما داما حيين) فما أخبرت به أحداً حتى ماتا.
11- قال الرافضي: فأيهما أفضل فاطمة بنت رسول الله أم عائشة بنت أبي بكر؟
فقال له جعفر: عائشة بنت أبي بكر زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في الجنة، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدة نساء أهل الجنة. الطاعن على زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنه الله، والباغض لابنة رسول الله خذله الله.
12- فقال الرافضي: عائشة قاتلت علياً، وهي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(/8)
فقال به جعفر: نعم، ويلك قال الله تعالى (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) {الأحزاب 53}
13- قال له الرافضي: توجد خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي في القرآن؟
قال نعم، وفي التوراة والإنجيل.قال الله تعالى (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات) {الأنعام165}
وقال تعالى (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض){النمل62}
وقال تعالى (ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم){النور55}
14- قال الرافضي: يابن رسول الله، فأين خلافتهم في التوراة والإنجيل؟
قال له جعفر: (محمد رسول الله والذين معه) أبو بكر، (أشداء على الكفار) عمر بن الخطاب، (رحماء بينهم) عثمان بن عفان، (تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً) علي بن أبي طالب (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) أصحاب محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، (ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل).
قال: ما معنى في التوراة والإنجيل؟ قال: محمد رسول الله والخلفاء من بعده أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم لكزه في صدره !، قال: ويلك ! قال الله تعالى (كزرع أخرج شطأه فآزره) أبو بكر (فأستغلظ) عمر (فاستوى على سوقه) عثمان (يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) علي بن أبي طالب (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً) أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، ويلك !، حدثني أبي عن جدي عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنا أول من تنشق الأرض عنه ولا فخر، ويعطيني الله من الكرامة ما لم يعط نبي قبلي، ثم ينادي قرّب الخلفاء من بعدك فأقول: يا رب ومن الخلفاء؟ فيقول: عبد الله بن عثمان أبو بكر الصديق، فأول من ينشق عنه الأرض بعدي أبو بكر، فيوقف بين يدي الله، فيحاسب حساباً يسيراً، فيكسى حلتين خضراوتين ثم يوقف أمام العرش. ثم ينادي منادٍ أين عمر بن الخطاب؟ فيجئ عمر وأوداجه تشخب دماً فيقول من فعل بك هذا؟ فيقول: عبد المغيرة بن شعبة، فيوقف بين يدي الله ويحاسب حساباً يسيراً ويكسى حلتين خضراوتين، ويوقف أمام العرش.
ثم يؤتى عثمان بن عفان وأوداجه تشخب دماً فيقال من فعل بك هذا؟ فيقول: فلان بن فلان، فيوقف بين يدي الله فيحاسب حساباً يسيراً ويكسى حلتين خضراوتين، ثم يوقف أمام العرش. ثم يدعى علي بن أبي طالب فيأتي وأوداجه تشخب دماً فيقال من فعل بك هذا؟ فيقول: عبدالرحمن بن ملجم، فيوقف بين يدي الله ويحاسب حساباً يسيراً ويكسى حلتين خضراوتين، ويوقف أمام العرش.
قال الرجل: يابن رسول الله، هذا في القرآن؟ قال نعم قال الله تعالى (وجئ بالنبيين والشهداء) أبو بكر وعمر وعثمان وعلي (وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون)
فقال الرافضي: يابن رسول الله، أيقبل الله توبتي مما كنت عليه من التفريق بين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟
قال: نعم، باب التوبة مفتوح فأكثر من الاستغفار لهم.أما انك لو مت وأنت مخالفهم مت على غير فطرة الإسلام وكانت حسناتك مثل أعمال الكفار هباءً منثوراً.
فتاب الرجل ورجع عن مقالته وأناب.
**كيف يربي الرافضة أبناءهم؟
أولاً: تقوم الحوزات والحسينيات بالإضافة إلى جهود الأسرة بدور كبير في ترسيخ وزرع عقائدهم الباطلة وزرع الكراهية في نفوس أبنائهم للصحابة رضوان الله عليهم وخاصة أبو بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين ….
ومن وسائلهم في ذلك أنهم قد يشتري أحدهم لعبة لطفله وعندما يفرح بها يقول له بأن هذه هدية من علي ويقصدون علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ليربونه على الغلو في علي، ثم يخفي عنه هذه اللعبة أو الهدية ويقول للطفل: إن الذي أخذها أبو بكر أو عمر أو عثمان فيطلبون من الطفل سب من قالوا أنه أخذ لعبته ليربونه على بغض الصحابة.
قال أحد الشيعة الذين اهتدوا إلى مذهب أهل السنة بأنهم كانوا يقيمون احتفالاً في أسطح بعض منازلهم فيأتون بحمار … وشاة … فيشيرون للأطفال بأن الحمار هو عمر بن الخطاب … وأن هذه الشاة أو العنز هي عائشة رضي الله عنهما …
ويشرع الأطفال في ضرب الحمار و الشاة مع سب عمر وعائشة وشتمهم.
ثانياً: يقوم علمائهم وطواغيتهم بتوصية الأبناء بعدم الإقتراب من أهل السنة وأنهم خطر عليهم وقد يضرونهم، كما يتم داخل تلك الحوزات والحسينيات تشويه صورة العلماء والمعلمين من أهل السنة والتشنيع عليهم بالاشاعات، للتنفير منهم ولمنع التأثر بهم خلال مراحل الدراسة المختلفة … ولذلك لا يدخل الطفل الشيعي أو الطفلة الشيعية المدرسة إلاّ وقد تشبع ببغض كل ما هو سني، بل قد تتعجب – أخي القارئ – إذا علمت أن أكثر الأطفال لا يعرفون أهل السنة إلاّ بالكفار، فأكثرهم لا يعرفون النصارى واليهود… بل يعرفون أن هناك كفاراً يسمون أهل السنة.(/9)
الشيعة
إن الخصومة التي تظهر للناس على سطح السياسة الدولية بين الأمريكان وإيران، أو حزب الله، هي خصومة خادعة ومكر خبيث، الهدف منها القضاء على كيان أهل السنة واستئصال تاريخهم الذي بدأ بناؤه في العهد الراشدي، الذي يبغضه من يدعون الإسلام ومحبة أهل البيت. هذا العهد الذي قضى على الدولة الفارسية، وأقام الحضارة الإسلامية التي أوقدت نار الحقد في قلوب المهزومين، الذين كانوا يتربعون على عرش إمبراطورية مترامية الأطراف.
وقد كشر المخطط الشيعي ضد أهل السنة في العالم الإسلامي، ومنه الدول العربية، من عام 1979م، الذي قامت فيه أول حكومة أعلنت تصدير سياستها للسيطرة على العالم الإسلامي، وبدأت بإحداث الاضطرابات في مواسم الحج، واستضافة كثير من شباب أهل السنة للدراسة في مدينة "قم" ليعودوا إلى بلدانهم آياتٍ وحُجَجاً يحدثون فيها فتنا واضطرابا بين أهل السنة، وقد حصل ذلك فعلا وانخدع بهم، في حينه كثير من أهل السنة في الدول العربية وغيرها، ومنهم بعض العلماء والدعاة وأيدتهم بعض الصحف الإسلامية ظنا أن الخلافة الإسلامية التي ستجمع المسلمين في كل الأقطار الإسلامية في ظل رايتها قد آذنت بالرجوع إلى هذه الأمة. ثم اكتشف المتفائلون أن ما كانوا يظنونه ماء ليس سرابا بقيعة فقط، بل هو مشروع لتصدير مذهب بالقوة إلى المسلمين الذين استمروا في السير على مذهب أهل السنة والجماعة المستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي طبقه الجيل المباشر لتلقي الهدى الرباني من القدوة الحسنة للأمة، رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد احتضنت الدولة الإيرانية بعض المراجع الشيعية من العراق وغيرها. ودرب أفرادَها الحرسُ الإيراني منتظرة اليوم الذي تسلمها أمريكا السلطة في العراق، فكانت الهجمة الأمريكية التي تواطأت معها الزُّمَر الشيعية في أمريكا وبريطانيا، هي الفرصة السانحة لتنفيذ الخطة الإيرانية الأمريكية على العراق في الحرب الأخيرة، فتدفقت الكتائب الشيعية المدربة في إيران – وعلى رأسها – ما يسمى "فيلق بدر" ومدربوه الإيرانيون بعد الغزو الأمريكي مباشرة إلى العراق، على مرأى ومسمع من الجيش الأمريكي الذي اصطف وراءه لهدم المدن السنية على رءوس أهلها.
ولتغطية الخداع الشيعي الأمريكي المعتدِيَ على أهل السنة في العراق، رفعت أمريكا وإيران عنوان الخلاف والشقاق بينهما، وكانت أمريكا تصرح بأن إيران ترسل السلاح والمقاتلين إلى العراق، وهي - أمريكا – تشكو من اجتياز المقاتلين الإيرانيين الحدود الشرقية للعراق، وتجمع جيشها و"فيلق بدر" للهجوم على أهل السنة في الغرب والوسط!
وها هي اليوم أمريكا تهدد السلطة الإيرانية في وسائل الإعلام وتشكو من تدخلها في العراق، ويصطف جيشها مع الجيش الموالي لإيران، ضد أهل السنة في سامراء، ثم يعلن كلا الطرفين قبول التفاوض مع الآخر بطلب في الشأن العراقي من الربيب الإيراني زعيم "فيلق بدر"
وهاهي فضائياتهم في كل من إيران والعراق ولبنان، بل وفي بعض الدول الغربية، تبث لكل تلك الفئات عقائدهم وأفكارهم وسياساتهم، وموضوعاتهم موجهة توجيها ذكيا ونشيطا إلى شبابنا وشاباتنا منطلقين في ذلك من أساس يدعونه، وهو منهم براء، ونحن أولى به منهم، وهو الولاء لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يرفعون رايته مع إهانة لصفوة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهدفهم من ذلك تكثير سوادهم لينقضوا على أهل السنة في العالم وليس في العراق فقط. وإن أول البلدان التي ستنال قسطها من عدوانهم إذا تمكنوا هي الدول المجاورة – وبالأخص دول الخليج – التي بها من المغريات الدينية والاقتصادية ما لا يوجد في غيرها.
إن الأمريكان واليهود والبريطانيين وبعض الدول الغربية، يعلمون علم اليقين أن العقبة الكأداء أمام تحقيق أهدافهم هم أهل السنة وليس الشيعة؛ لأن الشيعة قد تعاونوا مع المعتدين على البلدان الإسلامية من قديم الزمن، كما هي الحال مع التتار، وهم اليوم قد تعاونوا معهم في أفغانستان وركبوا دباباتهم عندما احتلوا العراق، ولا تخدعنا تصريحات خلافاتهم المعلنة فالنار تحت الرماد.
أما حزب الله في لبنان فمهمته بالتنسيق مع اليهود هو حماية حدود اليهود من تسلل أي مجاهدين، ومنع أي عمليات تهدد إسرائيل.
والمسئولون الرسميون قد يضطرون إلى السكوت لأسباب سياسية ودبلوماسية ...ولكننا نحن الدعاة لا يجوز لنا السكوت على خطر نسمعه بآذاننا ونراه بأعيننا، ولا ينبغي أن نخفي الحقائق ؛ خشية من وقوعنا فيما وقع فيه أهل الكتاب قبلنا الذين نهاهم تعالى عن ذلك نهيا صريحا فصيحا في الكتاب العربي المبين:
((وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) [البقرة]
فهل سينتبه أهل السنة للخطر المحدق بهم من قبل العدو اليهودي والصليبي ومن يواليه عليهم؟(/1)
عقائد الشيعة المنحرفة
* القول بتحريف القرآن :
قول الشيعة أن القرآن مبدل زيد فيه ما ليس منه ونقص منه كثير وبدل منه كثير
قال نعمة الله الجزائري (فالوا عنه: كان من أعاظم علمائنا المتأخرين وأفاخم فضلائنا المتبحرين واحد عصره ، في العربية والأدب والفقه والحديث !) : الأخبار مستفيضة بل متواترة تدل بصريحها على وقوع التحريف في القرآن كلاماً ومادة وإعرابا. (الأنوار النعمانية الجزء الثاني 357 ).
هذا قاله النوري الطبرسي (إمام أئمة الحديث والرجال في عصره في الأعصار المتأخرة ومن أعاظم علماء الشيعة وكبار رجالهم في هذا القرن) في كتابه المسمى ( فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب صفحة 27 وما بعدها):
أولا: سورة الولاية التي يدعي الشيعة أن الصحابة حذفوها من كتاب الله تبارك وتعالى، وهي تقول:
" يأيها الذين آمنوا آمنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب يوم عظيم نورا في بعضهما من بعض وأنا السميع العليم* إن الذين يوفون بعهد الله ورسوله في آيات لهم جنات النعيم والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم* ظلموا أنفسهم وعصوا وصية الرسول أولئك يسقون من حميم"
إلى قوله " يأيها الرسول بلغ إنذاري فسوف يعلمون* قد خسر الذين كانوا عن آياتي وحكمي معرضون* إن الله لذو مغفرة وأجر عظيم وإن عليا من المتقين* ولنوفينه حقه يوم الدين* ما نحن عن ظلمه بغافلين* وكرمناه على أهلك أجمعين فإنه وذريته لصابرون وإن عدوهم إمام المجرمين* قل للذين كفروا بعدما آمنوا طلبتم زينة الحياة الدنيا واستعجلتم بها ونسيتم ما وعدكم الله ورسوله* ونقضتم العهود من بعد توكيدها وقد ضربنا لكم الأمثال لعلكم تهتدون". إلى آخر هذه الترهات.
ثانيا: آية الكرسي عند النوري الطبرسي
" الله لا إله إلا هو لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب والشهادة فلا يظهر على غيبه أحدا من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم"
ثالثا: " كنتم خير أمة أخرجت للناس " فقال أبو عبد الله – جعفر الصادق رضي الله عنه – " خير أمة " يقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام – فقال كيف أقرئها إذاً ، قال:" كنتم خير أئمة " .
رابعا: سورة الانشراح:" ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك بعلي صهرك "
*هذه بعض صور التحريفات وفي فهرس كامل في كل سورة من سور القرآن ذكر النوري الطبرسي – ما زعم أنه من التحريف .
*القول بكفر من عدا الشيعة كل من عدا الشيعة فهو كافر بل لم يتوقف الأمر على ذلك بل كل من عدا الشيعة كافر وولد زنا .
قال بن بابويه رئيس المحدثين عندهم – إن منكر الإمام الغائب – أشد كفرا من إبليس – الذي ينكر الإمام الغائب أشد كفرا من إبليس - وهذا قاله في إكمال الدين . صفة 13.
ويروي الكليني في الكافي عن محمد بن علي الباقر – أن الناس كلهم أولاد بغايا ما خلا شيعتنا – وهذا في الروضة من الكافي . صفحة 239 .
ويروي الكليني في الكافي عن جعفر بن محمد الصادق – أنه قال – إن الشيطان ليجيء حتى يقعد من المرأة كما يقعد الرجل منها ويحدث كما يحدث وينكح كما ينكح – قال السائل ، بأي شئ يعرف ذلك " بأي شي نعرف بأن الشيطان نكح هذه المرآة أو الإنسان أي زوجها هو الذي نكحها كيف نعرف من الذي نكح هذه المرآة " قال : بحبنا وبغضنا – فمن أحبنا كان نطفة العبد ومن أبغضنا كان نطفة الشيطان . وهذا ما قاله في الجزء الخامس من الكافي صفحة 502.
* وقال محدث الشيعة في زمنه / نعمة الله الجزائري : إنا لا نجتمع معهم – أي السنة على إله ولا على نبي ولا على إمام وذلك أنهم يقولون أن ربهم الذي كان محمد نبيه وخليفته بعده أبو بكر – ونحن نقول لا نقول بذلك الرب ولا بذلك النبي بل نقول إن الرب الذي خلق خليفة نبيه أبو بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا – هذا قاله في الأنوار النعمانية في الجزء الثاني صفحة 278.
وهذه أيضا قالها محمد التيجاني –المعاصر قال : الرب الذي يرضى أن يكون أبو بكر هو الخليفة بعد رسول الله ما نريد هذا الرب.
*استحلال دماء وأموال أهل السنة :
فعن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام : ما تقول في قتل الناصب؟ قال: حلال الدم، ولكني اتقي عليك فإن قدرت أن تقلب عليه حائطا أو تغرقه في ماء لكي لا يشهد به عليك فافعل ، قلت : فما ترى في ماله ؟ قال توه ماقدرت عليه . علل الشرائع وفي الأنوار النعمانية الجزء الثاني صفحة 308.
ويروي الطوسي عن ابن عبد الله جعفر أنه قال : خذ مال الناصب حيث وجدته وادفع إلينا الخمس في تهذيب الأحكام الجزء الرابع صفحة 122(/2)
وقال الخميني : " والأقوى إلحاق الناصب بأهل الحرب في إباحة ما اغتنما منه وتعلق الخمس به " طبعا قوله من أهل الحرب معناها ليست إباحة ماله فقط بل أيضا النفس ولكن ما ذكرها هنا بل الظاهر جواز أخذ ماله أين وجد وبأي نحو كان ووجوب إخراج خمسة هذا ما قاله في تحرير الوسيلة الجزء الأول صفحة 352.
وروى الكليني عن جعفر بن محمد أنه قال : قال أبي ، أي محمد الباقر : أما ترضون أن تصلوا ويصلوا فيقبل منكم ولا يقبل منهم، أما ترضون أن تزكوا ويزكوا فيقبل منكم ولا يقبل منهم، أما ترضون ان تحجوا ويحجوا فيقبل الله جل ذكره منكم ولا يقبل منهم والله ما تقبل الصلاة إلا منكم ولا الزكاة إلا منكم ولا الحج إلا منكم فاتقوا الله عزوجل فإنكم في هدنة .
فهم يرون الأمر هدنة فقط متى انتهت هذه الهدنة انتهى كل شيء - وهذا قاله في الروضة من الكافي صفحة 198
وروي المجلسي أيضا عن جعفر بن محمد أنه قال : ما بقي بيننا وبين العرب إلا الذبح وأومأ بيده إلى حلقه وهذا في بحار الأنوار جزء 52 صفحة 349.
**عقيدة الشيعة في الأئمة الإثنى عشر:
أسماء الأئمة كما يعتقد بهم الاثنى عشرية :
علي بن أبي طالب، الحسن بن علي، الحسين بن علي، علي بن الحسين،
محمد بن علي (الباقر)، جعفر بن محمد (الصادق)، موسى بن جعفر(الكاظم)
على (الرضا)، محمد الجواد، علي الهادي، الحسن بن علي(العسكري)
محمد المهدي المنتظر – وله ألقاب كثيرة منها – الغائب – المنتظر – الخائف , وهو طفل مات وعمره أربع سنوات وزعموا أنه دخل في سرداب من أكثر من ألف سنة وسوف يخرج بعد ذلك لقتل أهل السنة وعفاب الصحابة بعد إخراجهم من قبورهم.
لا شك أن الشيعة غلوا في أئمتهم غلوا شديدا حتى رووا عن على بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه قال : " والله لقد كنت مع إبراهيم في النار وأنا الذي جعلتها بردا وسلما وكنت مع نوح في السفينة وأنجيته من الغرق وكنت مع موسى فعلمته التوراة وكنت مع عيسى فأنطقته في المهد وعلمته الإنجيل وكنت مع يوسف في الجب فأنجيته من كيد اخوته وكنت مع سليمان على البساط وسخرت له الريح " (الأنوار النعمانية الجزء الأول صفحة 31 ).
*وروى الكليني في كتاب الكافي( وهو أعظم كتب الشيعة وأجلها عندهم) عن جعفر بن محمد أنه قال " عندنا علم ما كان وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة " وهذا في الجزء الأول صفحة 239.
*ويقول الكليني أيضاً : عن أبي بصير قال :" دخلت على أبي عبد الله: قال فنكس ساعة في الأرض ثم قال ، إنه لعلم وما هو بذاك ثم قال يا أبا محمد ، وإن عندنا الجامعة وما يدريهم ما الجامعة ، قال قلت جعلت فداك وما الجامعة ، قال : صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإملائه من فلق فيه وخط على يمينه فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرشة في الخدش
ثم قال و إنا عندنا الجسر وما يدريهم ما الجسر – قال قلت وما الجسر قال ، وعاء من آدم ، فيه علم النبيين والوصيين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل – قال قلت إن هذا لهو العلم قال إنه لعلم وليس بذاك ، ثم سكت ساعة ثم قال وإن عندنا لمصحف فاطمة – عليها السلام ، وما يدريهم ما مصحف فاطمة ، قال قلت وما مصحف فاطمة قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات ، والله وما هو بذاك قال قلت هذا والله العلم ، قال : إنه لعلم وما هو بذاك ثم سكت ساعة ثم قال : إنا عندنا علم والله العلم – قال إنه لعلم وليس بذاك قال قلت: جعلت فداك فأي العلم قال : ما يحدث بالليل والنهار الأمر من بعد الأمر والشيء من بعد الشيء إلى يوم القيامة . (الكافي الجزء الأول صفحة 239)
< أما قوله يعني ثلاث أضعاف مصحفكم فجاء في روايات أخرى أن عدد آياته سبعة عشر ألف آية وكلنا يعلم أن عدد آيات القرآن ستة آلاف وقليل ولو ضربنا في ثلاثة لكان العدد كما ذكرت >
يقول الخميني » إن لأئمتنا مقاما ساميا وخلافة تكوينية تخضع لها جميع ذرات هذا الكون… وينبغي العلم أن لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل« (الحكومة الإسلامية ص 52).
وروي الكليني أيضاً في الكافي عن أبي بصير أنه سئل جعفر بن محمد رأي الصادق ،أنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى وتبرأوا الأعمى والأبرص ؟ قال نعم . الكافي الجزء الأول صفحة 470.
* قال أبو عبد الله » لا يموت الإمام حتى يعلم من يكون من بعده فيوصي إليه« (الكافي 1/217 كتاب الحجة باب أن الإمام يعرف الإمام الذي بعده).
وهذا يناقضه الخلاف الذي نقله الكليني بين محمد بن الحنفية وعلي بن الحسين حول من الأحق بالإمامة حتى دعا أحدهما الأخر إلى المباهلة عند الحجر الأسود فأنطق الله الحجر الأسود فتكلم بلسان فصيح أن الإمامة من بعد الحسين تكون لابنه علي. (الكافي1/348 بحار الأنوار 42/77 و46/111 الاحتجاج2/316 إعلام الورى258 بصائر الدرجات502 دلائل الإمامة 89). فكيف احتاج من يعلمان الغيب إلى مساعدة الحجر ليحكم بينهما؟
*الأحد اسم الله وعلي(/3)
السبت اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم والأحد أمير المؤمنين عليه السلام والاثنان الحسن والحسين عليهما السلام والثلاثاء علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد عليهم السلام، والأربعاء موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وأنا، والخميس ابني الحسين عليه السلام والجمعة ابن ابني وإليه تجتمع عصابة الحق« (مفاتيح الجنان86).
*علم الأئمة الغيب
قولهم بأن الأئمة يعلمون الغيب غير أن الحسن لم يكن يعلم بوجود السم الذي وضعه له معاوية فمات. فإما أن يكون عالما بالسم فيكون منتحرا. وعلي خرج إلى صلاة الفجر ولم يكن يعلم باختباء ابن ملجم له ومن ثم قتله.
والحسين خرج إلى الكوفة ظانا أن له أنصارا وإذا بهم خونة.
معتقدات الشيعة التي خالفوا بها أهل السنة
المسألة الأولى : القول بالرجعة :
والله تبارك وتعالى كذب القول بالرجعة في كتابه العزيز في ذكره حال الكافرين". قال ربي ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " المؤمنون 100.
فالرجعة قد كذبها في كتابه العزيز سبحانه وتعالى ولكن نجد أن الشيعة يقولون بالرجعة .
يروي الكليني في الكافي عن جعفر بن محمد – الذي هو الصادق – رضي الله عنه ، أنه قال " إن الله قال للملائكة الزموا قبر الحسين حتى تروه قد خرج فانصروه وأبكوا عليه وعلى ما فاتكم من نصرته فإنكم قد خصصتم بنصره والبكاء عليه ثم ماذا يقول فبكت الملائكة تعديا وحزنا على ما فاتهم على نصرته فإذا خرج يكونون من أنصاره – فإذا خرج ، إذاً سيعود إلى الدنيا مرة ثانية ، فإذا خرج يكونون من أنصاره وذلك عند خروج المهدي المنتظر. فإنهم يروون أيضا أنهم إذا خرج المهدي المنتظر خرج معه جميع الأئمة السابقين – هذه الرواية أخرجها الكليني في الكافي الجزء الأول صفحة 284.
هذا القول بالرجعة – فهذه مسألة عقائدية عظيمة جدا تخالف كما ترون كتاب الله تبارك وتعالى .
*القول بردة جمهور الصحابة "
روى الكليني في الكافي عن محمد بن علي الذي هو الباقر أنه قال – كان الناس أهل ردة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة وهذه في الروضة من الكافي صفحة 246 .
وفيه أيضاً عن محمد بن علي رضي الله عنه أنه قال – المهاجرون والأنصار ذهبوا إلا ثلاثة – وهذه في الجزء الثاني صفحة 244.
وروى الكليني في الكافي كذلك عن محمد بن جعفر أنه قال : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم – من أدعى إمامتنا من الله ليست له ، ومن جحد إماما من الله ، ومن زعم أن لأبي بكر وعمر نصيب في الإسلام – لا يكلمه الله ولا يزكيه وله عذاب أليم - وهذه الرواية في الكافي الجزء الأول صفحة 373.
*مسألة الغيبة:
الشيعة يقولون بأن ولد الحسن العسكري ولد وغاب وما زلنا ننتظره وهذا ما يسمى بالغيبة، فمن أين أخذوا هذه العقيدة ، ومن أين جاءوا بها .
في كتاب < تثبيت دلائل النبوة > أن المجوس يدعون أن لهم منتظراً حيا باقيا من ولد (بشتاسس) يقال له ( أبشاوثن) ، وأنه في حصن عظيم بين خراسان والصين .
والغيبة عند الشيعة أمر لا خلاف فيه بينهم حتى قال قائلهم كثير عزة الشاعر المشهور مع أنه من الكيسانية الذين يؤمنون بعلي والحسن والحسين ومحمد بن الحنفية قال :
ألا إن الأئمة من قريش ولات الحق أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبر وسبط غيبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت يقود الخيول يقدمها اللواء
تغيب ولا يرى عنا زمانا بربوة عند عسل وماء
وهم يدعون أن عنده أولاداً وذرية في الجزيرة الخضراء ولكن أين الجزيرة الخضراء ؟ العلم عند الله .
وقال رجب البرسي – في مشارق أنوار اليقين صفحة 86 : إن عائشة جمعت أربعين دينارا من خيانة وفرقتها على مبغضي على .
قال : بالسند عن جعفر الصادق: تدرون مات النبي أو قتل ، إن الله يقول ) أفإن مات أو قتل ( فسما قبل الموت إنهما سقتاه قبل الموت السم. يقصد عائشة وحفصة .
روى الكليني في الكافي في الجزء الرابع صفحة 580 عن أبي عبد الله قال : لرجل لم يزر قبر علي بأس ما صنعت لو لا إنك من شيعتنا ما نظرت إليك ، ألا تزور من يزوره الأنبياء . وروى الكليني في الكافي الجزء الأول صفحة 464 عن أبي عبد الله قال: لم يرضع الحسين من فاطمة ولا من أنثى ! كان يؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم فيضع إبهامه في فيه فيمص منها ما يكفيه لليومين والثلاثة ، فنبت لحم الحسين من لحم رسول الله صلى لله عليه وآله وسلم ودمه .(/4)
لماذا الحسين؟ لا يذكرون الحسن إلا قليلا ، ولماذا الإمامة في أولا د الحسين ولم تكن في أولاد الحسن أبدا ؟ الإمامة كما تعلمون في أولا د الحسين ، وكل شيء لأولاد الحسين وأكثر الأحاديث مدحا للحسين ، لماذا؟ كل هذا الأمر لأن زوجة الحسين هي شهربانو بنت يزدجرد وابنها على بن الحسين فيقول الشيعة : اجتمعت الشجرة الهاشمية مع الشجرة الساتانية ، فلذلك هم يحبون الحسين وأبناء الحسين لأن أبناء الحسين أخوالهم المجوس ، شهربانو بنت يزدجرد .
**ألا تتفقون معي أن من يدين بهذه الأشياء ومن يقول هذا القول أنه ليس من المسلمين ، ألا يحق لنا بعد هذا أن نقول أن من دان بهذه الأمور أنه غير مسلم ، لأن هذه الأمور ليست من دين الإسلام وأنه لا يحق لنا أن نقول مذهب الشيعة بل نقول دين الشيعة .
الذي يدين بهذا لا يقال عنه مسلم بل هذا دين آخر غير الإسلام لا نعرفه أبدا ، الذي نعرفه من دين الإسلام يخالف هذا كله ، فنحن لا نكفر الشيعة بأعيانهم لا يهمنا هذا الأمر ولكن الذي يهمنا أن من يقول هذا الكلام لا شك أنه ليس بمسلم.
من يعتقد هذا الاعتقاد لا شك أنه ليس من دين الله تبارك وتعالى في شيءئ وانظروا واسمعوا أقوال أهل العلم فيمن يدين بهذا الدين :
قال الإمام مالك : الذي يشتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ليس له نصيب في الإسلام ،. وقال أيضا : من يغتاظ من الصحابة فهو كافر بدليل آية الفتح ) محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فأزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ( ثم ماذا قال ) ليغيظ بهم ( لم يقل ليغيظ بهم "ربهم " محمد رسول الله والذين معه " ليغيظ بهم الكفار " ليغيظ بهم الكفار . وهذا في كتاب السنة للخلال الجزء الثاني 557 .
وقال الإمام أحمد : من يشتم أبا بكر وعمر وعائشة ، ما أراهم على الإسلام - وهذا في كتاب السنة للخلال صفحة 558
وقال : من شتم صحابيا أخاف عليه الكفر مثل الروافض ، لا نأمن أن يكون مرق من الدين - وهذا أيضا في كتاب السنة وقال الإمام أبو زرعة : إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعلم أنه زنديق - كتاب الفرق بين الفرق صفحة 356
وقال القاضي عياض ، نقطع بتكفير غلاة الرافضة في قولهم إن الأئمة أفضل من الأنبياء . كلام القاضي عياض في الإلماع .
وقال الإمام الشوكاني :إن أصل دعوة الروافض كياد الدين ومخالفة الإسلام وبهذا يتبين أن كل رافض خبيث يصير كافر بتكفيره لصحابي واحد فكيف بمن يكفر كل الصحابة واستثنى أفرادا يسيره . هذا قاله في نثر الجوهر على حديث أبي ذر .
وقال ابن باز : الرافضة الذين يسمون الإمامية والجعفرية والخمينية اليوم كفار خارجون عن ملة الإسلام .(/5)
الشّيخ إبراهيم أطفيش والمنهاج
رغداء محمّد أديب زيدان/سوريا
wahab1957@hotmail.com
تعتبر الصّحف من أهمّ وسائل التوعية والتثقيف في المجتمع, وكما وصفها المحقق الكبير محب الدّين الخطيب() هي" من أعظم القوى الّتي تزجي التّيار الفكريّ في العالم, وهي القوّة الأولى الّتي يمكنها أن تقف في وجه التّيار تدفعه وتغيّر مجراه"().
وقد ظهرت في عالمنا العربي والإسلاميّ صحف ومجلّات كثيرة وهامّة, منها مجلّة كانت من المجلّات الّتي حملت لواء التوعيّة والتثقيف وكشف الحقائق وهي مجلّة المنهاج.
أصدر الشّيخ إبراهيم أطفيش مجلّة المنهاج لتكون وسيلته لخدمة العروبة والإسلام, هذا الشيخ المجاهد الّذي ولد ببلدة بني يزقن, إحدى قرى وادي ميزاب, في الجزائر, وذلك سنة 1886م, في بيت علم وفهم, حيث نشأ على حب العلم ورفض الظلم, وقد سافر إلى تونس للدّراسة, وكان له فيها نشاط مميز في محاربة الإستعمار الفرنسي, فانضمّ إلى حزب الحرّ الدّستوري() الّذي كان يتزعمه المجاهد عبد العزيز الثّعالبي().
وكان الشّيخ إبراهيم أطفيش يعتبر الزعيم الأوفر شعبية بين أبناء جلدته في تونس, لذلك فقد عمدت السلطة الاستعمارية الفرنسية هناك إلى طرده, و" أصدرت قراراً بإبعاده عن تونس بتهمة التواطؤ مع الحزب الدستوري التونسي, وحشر أنفه في الأمور التونسية البحتة وهو الجزائري الجنسية" (). ولم ينتبه هؤلاء المستعمرون إلى حقيقة قائمة في فكر الشّيخ إبراهيم, وفي فكر كلّ عربيّ ومسلم حرّ, وهي وحدة البلاد العربية والإسلاميّة, هذه الرابطة الّتي أرّقت ـ ومازالت تؤّرق ـ المستعمرين, ولا يعرفون الطريق لإزالتها من العقول والنفوس, ومازلنا نلمس سعيهم الحثيث لإلغائها ومحاربتها, بكل الطرق الّتي تخطر على بالهم.
وقد تلّقى الشّيخ إبراهيم هذا القرار بصدر رحب, فهو يؤمن أن بلاد الإسلام واحدة, وهذا لن يمنعه من مواصلة عمله, بل بالعكس سيفتح هذا الإنتقال له أبواباً جديدة, وسيتعرّف على إخوان يتعاون معهم في خدمة العروبة والإسلام, وقد تلّقى تهنئة طريفة من صديقه الصّحفي الكبير إبراهيم أبي اليقظان(), عبارة عن قصيدة جاء فيها:
راموا الإساءة جفوة وسفالة لكنهم قد أحسنوا إحسانا
قد أبعدوه عن المهانة والشقا وإلى السعادة والعلا فعلانا
ونفوه من رقّ إلى حريّة ومن الممات إلى الحياة عيانا
حسب المشاغب إنّ هذا كلّه نفي فطار لأجله جذلانا
لكن تناسى أنّ نفي النفي إثبات فتاه لطيشه ولهانا
وفي القاهرة عمل الشّيخ إبراهيم على إصدار مجلّة المنهاج(). وقد استقبله إخوانه في القاهرة بالإجلال والإحترام, فهذا السّيّد محب الدّين الخطيب يقول:"هبط صديقنا الأستاذ العلامّة الشّيخ إبراهيم أطفيش وادي النّيل مهاجراً إليه من وطنه الجزائر من قبل أن يولد الفتح(), واكتسبنا صداقته من السّنة الأولى الّتي اتّخذ فيها الوطن المصريّ وطناً ثانياً له. فكنّا نحن وجميع أفاضل المصريين نعجب بصدقه وصلابة دينه, واستعداده للمشاركة في كلّ خير. فما قامت لخير الإسلام جماعة من ذلك الحين, ولا أرسل المنادون إلى الفلاح صوتهم في أمر, إلّا كان أبو إسحاق أطفيش في مقدّمة المعينين على ذلك. ومقالاته المتعدّدة في هذه الصّحيفة الفتح وفي أختها الزّهراء(), شاهد على فضله, ودليل على حسن بلائه, في سبيل وحدة المسلمين, جزاه اللّه خيراً "().
باشر الشّيخ إبراهيم عمله في المنهاج بعد سنتين من نفيه إلى القاهرة من تونس, وظهر العدد الأوّل منها في أوّل محرّم سنة 1344 / 1925().وكان يطبعها في المطبعة السّلفيّة بالقاهرة(), وقد سمّاها المنهاج "عنواناً ليعبّر من خلاله عن منهجها الإسلاميّ الواضح, واتجاهها الوطنيّ الصّريح, وقد أوضح ذلك من الآية الّتي كانت تتصدر الغلاف (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاًْ)(), وهي مجلّة علميّة, سياسيّة, اجتماعيّة, نصف شهريّة, ولكنّها كانت تصدر شهريّاً لما اعتراها من عوائق ماليّة, وعراقيل إداريّة"().
أشتهرت هذه المجلّة بصدق لهجتها, وسلفيّة منهجها, وعربيّة نزعتها(), وكانت تهتمّ بأحوال المغرب العربيّ, وتبيّن للمسلمين ما يفعله المستعمرون في تلك البلاد, من أعمال النّهب والسّطو على تراث ومقدّرات تلك البلاد, ومن أعمال التّبشير ومحاربة العروبة والإسلام. وقد كانت وسيلة هامّة لتعريف أهل المشرق العربيّ بأحوال أهل المغرب.
وقد قسّم أبو اسحاق أطفيش المنهاج إلى ثلاثة أقسام: القسم العلمي, والقسم السياسيّ, والقسم الإجتماعيّ. ولكنّ موضوعاتها كانت تتداخل بشكل يصعب فيها الفصل بين هذه الأقسام, وهذا ـ طبعاً, إن دلّ على شيء ـ فإنّه يدلّ على فكر الشّيخ إبراهيم, والّذي كان يؤمن بحاجة الأمّة العربيّة والإسلاميّة إلى نهضة عامّة, ترتبط فيها هذه المجالات مع بعضها ارتباطاً وثيقاً.(/1)
نشر الشّيخ إبراهيم في منهاجه مقالات ومواضيع هامّة لكتّاب كبار, أغنوا المجلّة بكتاباتهم وأفكارهم وأشعارهم, وأكّدوا فكرتها العربيّة والإسلاميّة, وكان على رأسهم السّيّد محب الدّين الخطيب الّذي كان من أكثر المتعاونين مع الشّيخ إبراهيم في نشاطه العلميّ والنهضوي. ومنهم المجاهد الليبي سليمان الباروني(), الّذي كان يكنّ له الشّيخ إبراهيم الإحترام الكبير لجهاده وصبره. ومنهم أحمد زكي باشا, شيخ العروبة(), وغيرهم من الكتّاب الّذين كانوا يحملون رسالة النهضة والحضارة, ونصرة العروبة والإسلام().
وقد تعاون هؤلاء مع الشّيخ إبراهيم أطفيش لما لمسوه من صدقه واهتمامه بقضايا الأمّة العربيّة والإسلاميّة, ولم يمنعهم من ذلك أي مانع مما نراه اليوم في حياتنا الثّقافيّة والعامّة, من طائفيّة بغيضة, أو تنافس على الظهور والشّهرة, أو سعي وراء المكسب والمغنم حتّى ولو كان على حساب المبادئ والمصداقيّة.
وعندما مرّ السّيّد إبراهيم أطفيش بأزمة ماليّة منعته من الاستمرار في إصدار الصّحيفة, لم يرى أفضل من السّيّد محب الدّين الخطيب ليتنازل له عن ترخيص الصّحيفة ضماناً لمسيرتها, وتحمّل السّيّد محب الدّين هذه المسؤوليّة وتولّى إصدار هذه الصّحيفة, فكان بذلك عوناً لصديقه إبراهيم أطفيش, في خدمة الوطن العربيّ والإسلاميّ().
وهكذا تحوّلت ابتداءً من أوّل محرّم 1348 هـ, أي ابتداءً من سنتها الخامسة, إلى جريدة أسبوعيّة, تحتوي على ست عشرة صفحة من الحجم المتوسط (25 × 32), وجاء في صفحتها الأولى: "المنهاج صحيفة دينيّة إسلاميّة, صاحب امتيازها أبو اسحاق أطفيش". ويبدو أنّ الإشراف الفعلي أصبح لمحب الدّين الخطيب, إداريّاً وأدبيّاً وفنيّاً, إذ لم نر لأبي اسحاق مشاركة كتابيّة في المنهاج في مرحلتها هذه, الّتي استمرّت مدّة سنتين تقريباً().
استلم السّيّد محب الدّين هذه المجلّة لأنّه أراد مساعدة صديقه من جهة, ولأنّه كان يعتبر هذه المجلّة مجلّة ذات اتجاه وطنيّ إسلاميّ, فكان يعتبرها من المجلّات الإسلاميّة الهامّة, وقد استمر السّيّد محب الدّين في نشر كلّ ما يهمّ المسلمين في العالم الإسلاميّ, وخصوصاً موضوعات التّبشير والإستشراق, وغير ذلك من الموضوعات الّتي كانت تشغل بال المسلمين في تلك الأيّام. غير أن الصّعوبات الّتي واجهت المجلّة كانت كبيرة, ولم تستطع الصّمود أمامها, فتوقّفت عن الصّدور سنة1350هـ.
لقد كانت مجلّة المنهاج وسيلة من وسائل الشّيخ إبراهيم أطفيش لخدمة العروبة والإسلام, والدفاع عنهما ضدّ كلّ من يحاول المساس بهما, لذلك فقد ظلّ يتحسّر على توقّفها كلّما جرت حادثة, أو نُشر مقال يستوجب منه الردّ وإبداء الرأي(). ولكنّه لم يترك العمل والجدّ والنضال لخدمة أمّته ودينه, فكان له نشاطات كثيرة, ومشاركات كثيرة في الجمعيات والتجمّعات الّتي توافق فكره وايمانه, لا مجال للتوسّع في الحديث عنها في هذه العجالة, ولعلي أعود إليها فيما بعد بإذنه تعالى, فمثل هذه النشاطات, ومثل هؤلاء الرجال العاملين يستحقّون الدّراسة والإقتداء. رحم الله الشّيخ إبراهيم أطفيش, وأسكنه فسيح جنّاته, إنّه سميع عليم.
(1) ـ محب الّدين الخطيب, ( 1303 - 1389 / 1886 - 1969), من كبار الكتاب الإسلاميين . ولد في دمشق . وتعلم بها وبالاستانة وشارك في إنشاء جمعية النهضة العربية, عمل في تحرير المؤيد. وعندما أعلنت في مكة الثورة العربية عام 1916م قصدها وحرر جريدة القبلة وحكم عليه الاتراك بالإعدام غيابياً. ولما جلا العثمانيون عن دمشق، عاد إليها 1918م, وتولى إدارة جريدة العاصمة. وفر بعد دخول الفرنسيين فاستقر في القاهرة وعمل محرراً في الأهرام . وأصدر مجلتيه الزهراء و الفتح وكان من أوائل مؤسسي جمعية الشبان المسلمين. وتولى تحرير مجلة الأزهر ست سنوات, وأنشأ المطبعة السلفية ومكتبتها ، فأشرف على نشر عدد كبير من كتب التراث وغيرها. ونشر من تأليفه "اتجاه الموجات البشرية في جزيرة العرب" و "تاريخ مدينة الزهراء بالأندلس" و "ذكرى موقعة حطين" و "الأزهر، ماضيه وحاضره والحاجة إلى إصلاحه" و "الرعيل الأول في الاسلام" و "الحديقة" وغيرها؛ انظر, محمّد مطيع الحافظ ونزار أباظة, تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري, دمشق, دار الفكر, 1406 / 1986, 2, 847وما بعدها.
(2) ـ محب الدّين الخطيب, "الوقوف في وجه التّيار", في الفتح, 403(ربيع الأوّل, 1353), 1.(/2)
(3) ـ حزب الحرّ الدستوري, وهو الحزب الذي تولى في فترة العشرينات و بداية الثلاثينات من القرن العشرين قيادة العمل الوطني في تونس, أعلن الحزب الحرّ التونسي تأسيسه رسمياً في 14 مارس 1920، وأخذ ينادي بالحياة الدستورية وسيلة لتخليص البلاد من الإستعمار. وسرعان ما أصبح يدعى الحزب الحرّ الدستوري التونسي، وهي تسمية تتلاءم أكثر مع برنامجه وتستند إلى سابقة تاريخية هي دستور سنة 1861 الذي طالب الحزب بإحيائه. وكان برئاسة عبد العزيز الثعالبي؛ مصطفى عاشور, تونس النضال حتى الاستقلال, http://www.islamonline.net/Arabic/history/1422/10/article25.shtml
(4) ـ عبد العزيز الثعالبي, (1293 – 1363/ 1876 - 1944). عالم، أديب، كاتب، خطيب، سياسي، صحافي. أصله من الجزائر وولد بتونس الخضراء، وأصدر جريدة سبيل الرشاد، ودخل حزب تونس الفتاة، وجاهر بطلب الحرية لبلاده، فسجنه الفرنسيون، وقد حل الفرنسيون حزبه (تونس الفتاة) فعمل في الخفاء مع بقايا من أعضائه بالدعاية والمنشورات، وسافر إلى باريس بعد الحرب العالمية الاولى فطبع كتاب تونس الشهيدة بالفرنسية، واتهم بالتآمر على أمن الجمهورية الفرنسية، فاعتقل ونقل سجيناً إلى تونس، وأخلي سبيله، فرأس حزب الدستور، ثم غادر تونس متنقلاً بين مصر وسورية والعراق والحجاز والهند، ثم عاد إلى تونس فناوأه بعض رجال حزبه، فابتعد عن الشؤون العامة الى أن توفي بتونس في شوال. من آثاره: حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وروح القرآن؛ عمر رضا كحّالة, معجم المؤلفين, بيروت, دار إحياء التّراث العربيّ, د.ت, 5, 240.
(5) ـ محمّد صالح الجابري, النّشاط العلمي والفكري للمهاجرين الجزائريين بتونس (1900 ـ 1962م), طرابلس الغرب, الدّار العربيّة للكتاب, 1983, 272.
(6) ـ إبراهيم أبو اليقظان, ولد بمدينة القرارة ولاية غرداية (وادي ميزاب) بالجزائر يوم 29صفر 1306هـ الموافق 5 نوفمبر 1888م, سافر إلى تونس لطلب العلم, كان عضواً بارزاً في الحزب الحرّ الدستوري التونسي. أصدر ثماني جرائد ما بين 1926 و 1938م و هي: وادي ميزاب، ميزاب، المغرب، النور، البستان، النبراس، الأمة، الفرقان, وفي سنة 1931م أسّس المطبعة العربية، توفي في القرارة يوم الجمعة 29 صفر 1393/30 مارس 1973م.ترك للمكتبة العربية و الإسلامية كثيراً من المؤلّفات والمقالات منها: سليمان الباروني باشا في أطوار حياته, وإرشاد الحائرين والجزائر بين عهدين الاستغلال و الاستقلال, وديوان شعر, وغيرها؛ انظر, موقع أبي اليقظان http://www.aboulyakdan.com/
(7) ـ محمّد ناصر, الشّيخ إبراهيم اطفيش في جهاده الإسلاميّ, القرارة, جمعيّة التّراث, 1411/ 1991, 15.
(8) ـ الفتح, أسسها محب الدّين الخطيب بتاريخ 22 ذي الحجة من عام 1345هـ, الموافق لأيّار من عام 1926م. وهي تعدّ من أعظم المجلّات الإسلاميّة الّتي ظهرت في ذلك الوقت, وقد استمرّت في الصّدور إلى آخر سنة 1367هـ, الموافق لتشرين الثّاني من عام 1948م, وقد لاقت نجاحاً كبيراً, واهتماماً بالغاً من كافّة فئات المثقّفين والشّباب في كلّ البلاد الّتي كانت تصل إليها وتُوّزع فيها؛ انظر, محب الدّين الخطيب, "ذكريات شاهد عيان ", في الفتح, 861 (ذو القعدة , 1367), 265 .
(9) ـ أصدر السّيّد محب الدّين الزّهراء لخدمة العروبة والأدب العربيّ. وصدر العدد الأوّل منها في 15محرّم 1343هـ الموافق لـ 15 آب 1924م, واستمرّت في الظهور خمس سنوات , اُضطرّ بعدها السّيّد محب الدّين للتّوقّف عن إصدارها ؛ انظر, محب الدّين الخطيب, "الافتتاحيّة", في الزّهراء, 1(15 محرّم , 1343), 1.
(10) ـ محب الدّين الخطيب, "السّيّد إبراهيم أطفيش", في الفتح, 551 (ربيع الأوّل, 1356), 19.
(11) ـ محمّد ناصر, الشّيخ إبراهيم اطفيش في جهاده الإسلاميّ, 122.
(12) ـ المطبعة السلفيّة, أسسها السّيّد محب الدّين في سنة 1909م. وكانت في البداية مكتبة صغيرة, أسسها مع صديقه عبد الفتاح قتلان, ثمّ أغلقها عندما التحق بالشّريف حسين, وعندما عاد مرةً أخرى إلى مصر فارّاً من الفرنسيين في دمشق, أعاد افتتاح المكتبة والمطبعة معاً, وذلك بعد عام 1920م؛ انظر, محب الدّين الخطيب, حياته بقلمه, دمشق, مطبوعات جمعيّة التّمدن الإسلاميّ, 1399/ 1979, 52 .
(13) ـ المائدة, 48.
(14) ـ محمّد ناصر, الشّيخ إبراهيم أطفيش في جهاده الإسلاميّ, 122.
(15) ـ المصدر نفسه, 121.(/3)
(16) ـ سليمان الباروني (1287 - 1359 /1870 - 1940) , سياسي، مؤرخ، شاعر. ولد في كاباو من بلاد طرابلس الغرب، وتعلم في تونس والجزائر ومصر، استقّر في مصر، ثم اختير نائباً عن طرابلس إلى أن احتلها الطليان، فعاد إليها مجاهداً، وواصل مقاومة المحتلين مدة، ثم انصرف إلى تونس، ثم رحل إلى أوربا، وحج وذهب إلى مسقط، ثم إلى عمان، فجعله سلطان مسقط مستشاراً لحكومته، وتوفي في بومباي. من آثاره: الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الإباضية، وديوان شعر؛ انظر, عمر رضا كحّالة, معجم المؤلّفين, 4, 268.
(17) ـ أحمد زكي باشا, ولد أحمد زكى باشا الملقب بشيخ العروبة في الإسكندرية عام 1867م، ثم نال إجازة الحقوق عام 1887م ليتجه بعدها إلى الترجمة وإحياء التراث العربي, ولعل أبرز أعماله التى يدين له العرب جميعاً بالفضل، اختصاره حروف الطباعة العربية من 950 حرفاً إلى 132 حرفاً، ثم إدخاله علامات الترقيم إلى الكتابة العربية لأول مرة، وكان ذلك عام 1912م. ترك لنا شيخ العروبة الخزانة الزكية وبها أكثر من ثمانية عشر ألف كتاب, توفاه الله تعالى في 2 يوليو 1934 أثر نزلة برد حادة؛ انظر, محمد عبد الحليم غنيم, شيخ العروبة أحمد زكى باشا, مأخوذ عن www.arabworldbooks.com/articles42.htm
(18) ـ محمّد ناصر, الشّيخ إبراهيم أطفيش في جهاده الإسلاميّ, 125 ـ 126.
(19) ـ المصدر نفسه, 138.
(20) ـ محمّد ناصر, الشّيخ إبراهيم أطفيش في جهاده الإسلاميّ, 138 ـ 139.
(21) ـ المصدر نفسه, 141.(/4)
الشُّكرُ سعادةٌ نَفسِية
د. محمد عمر دولة*
يا لسعادة الشاكرين! فإنهم يعيشُون في اطمِئنانٍ ونعيمٍ ويقين!
فلو نَظرتَ إلى العَبدِ الشاكرِ؛ ألْفَيتَه رجلاً مُطمَئنَّ القَلبِ قَرِيرَ العينِ، فهو راضٍ عن ربِّه تَمامَ الرِّضا؛ لِما يراه مِن نِعَمِ الله تَتْرَى عليه صباحاً وعَشياً؛ مما يملأ قلبَه حبّاً لله ورجاءً فيه ويقيناً في رحمتِه واطمئناناً إلى لطفِه وفضلِه وطمعاً في جُودِه وكَرَمِه. فقد قال عز وجل: (وإذ تأذَّنَ ربُّكم لئن شكرتم لأزيدنَّكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديدٌ).[1] قال القرطبي رحمه الله: "الشاكر مُعرَّضٌ للمزيدِ كما قال (لئن شكرتم لأزيدنكم)".[2] "والآية نصٌّ في أنَّ الشكرَ سببُ المزيد"،[3] وقال جعفر الصادق: "إذا سمعتَ النعمةَ نعمةَ الشكرِ؛ فتأهَّبْ للمزيد (ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) أي جحدتم حقي، وقيل: نعمي؛ وعد بالعذاب على الكفر كما وَعدَ بالزيادة على الشكر".[4]
بينما الجاحِدُ.. لا يهدأ له بالٌ.. ولا يرتاحُ له قلبٌ ولا ذِهنٌ؛ لأنَّه يشعرُ بألَمِ المعصيةِ وعُقدةِ الذنبِ ووَخزِ الضميرِ؛ ولأنه كذلك يرى نفسَه أهلاً لأن يُنعِمَ الله عليه بأكثرَ من هذه النعم! فكلُّ ذلك يُنغِّصُ عليه حياتَه ويُفسِد عليه سَعادتَه، ويُشعره دائماً بقلةِ ما هو فيهِ وانعِدامِ السعادة والهناء. ولو أُعطِيَ الدنيا كلَّها لم يُرضِه ذلك؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع)! [5]
وكذلك مَن يجحد نِعَمَ الله عليه؛ يُحْرَم نعمةَ الطمأنينة ولذةَ الشعورِ بالسعادة الحقةِ التي لا تكتمل إلا برضوانِ اللهِ عن العبدِ وإقبالِ العبدِ على ربِّه بالمحبة والرضا والذل والطاعة؛ ولله درُّ ابن القيم ما أصدقَ قولَه: "في القَلبِ شَعَثٌ لا يَلُمُّه إلا الإقبالُ على اللهِ، وفيهِ وٍحْشَةٌ لا يُزِيلُها إلا الأُنْسُ به في خَلْوتِه، وفيه حُزنٌ لا يُذْهِبُهُ إلا السُّرُورُ بمعرفتِه وصِدْقُ مُعامَلَتِه، وفيه قَلَقٌ لا يُسَكِّنُه إلا الاجتِماعُ عليه والفِرارُ منه إليه، وفيه نِيرانُ حَسَراتٍ لا يُطْفِئها إلا الرِّضا بأمْرِه ونَهْيِه وقضائه، ومُعانَقةُ الصبرِ على ذلك إلى وَقتِ لقائه، وفيهِ طلبٌ شديدٌ لا يَقِفُ دون أنْ يكونَ هو وحدَه مَطْلُوبَه، وفيه فاقَةٌ لا يَسُدُّها إلا مَحَبتُه والإنابةُ إليه ودوامُ ذِكْرِه وصِدْقُ الإخلاصِ له؛ ولو أُعْطِيَ الدنيا وما فيها لم تُسَدَّ تلك الفاقةُ مِنه أبدا".[6]
وتأمَّلْ سَعادةَ إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن الذي كان (شاكراً لأنعُمِه) وهو يُبَيِّنُ عَلاقتَه بربِّه وصِلَتَه الوثيقةَ باللهِ وحدَه: (فإنهم عَدوٌّ لي إلا ربَّ العالَمِين الذي خلَقَنِي فهو يَهدين والذي هو يُطعِمني ويَسقين وإذا مَرضتُ فهو يَشفِين والذين يُميتُنِي ثم يُحيِين)؛[7] فهو "يعيشُ بكيانِه كلِّه مع ربِّه، ويتطلعُ إليه في ثِقةٍ، ويتوجهُ إليه في حُبٍّ".[8]
وقد امتنَّ الله عز وجلَّ على الشاكرين بأنه قد أسعدَهم بنعمةِ الأمنِ والنصرِ والرزقِ، فقال جلَّ جلالُه: (واذكُرُوا إذْ أنتم قليلٌ مُستَضْعَفُون في الأرضِ تخافون أن يتَخَطَّفَكم الناسُ فآواكم وأيَّكم بنَصْرِه ورزقَكم من الطيِّباتِ لعلَّكم تشكرون).[9]
فالشاكر يعيش في بحبوحة من السعادة وواحة من الرضا وفي نعيم دائم لا ينقطع؛ من تذكُّرِ آلاءِ الله الكثيرة ونعمائه الوفيرة؛فكلما تذكر منها نعمة ماضية أو وهبه الله نعمة حاضرة؛ شكر الله عليها وسأله دوامَها وبركتَها وحُسنَ الانتِفاع بها.
ولله درُّ ابن القيم؛ حيث أدرك عظمة هذه السعادة النفسية التي يتفيأ ظلالَها العبدُ الشاكرُ لربِّه المعترفُ بفضلِه؛ حيث ربط بين الشكر وبين الرضا، فقال رحمه الله: "منزلة الشكر من أعلى المنازل، وهي فوق منزلة الرضا وزيادة؛ فالرضا مندرجٌ في الشكر؛ إذ يستحيل وجود الشكر بدونه".[10]
وتدبَّرْ قولَ نبيِّ الله سليمان عليه السلام حين عَبَّر عن هذه السعادة النفسية خيرَ تعبيرٍ وقد أنعم الله عليه وجاءه بعرشِ بلقيس قبلَ أن يرتد إليه طَرفُه: (هذا من فضلِ ربِّي ليَبلُوَنِي أأشكُرُ أم أكفُر ومَن شَكَرَ فإنما يَشكُرُ لِنفسِه ومَن كفرَ فإنَّ ربِّي غنِيٌّ كريم).[11] وقولَ الله عزَّ وجَلَّ: (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكرْ لله وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ومَن كَفرَ فإنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ).[12](/1)
وقال الطبري رحمه الله: "ومن يشكر الله على نعمه عنده فإنما يشكر لنفسه لأن الله يجزل له على شكره إياه الثواب وينقذه به من الهلكة. (ومن كفر فإن الله غني حميد) يقول: ومن كفر نعمة الله عليه إلى نفسِه أساء؛ لأنَّ الله مُعاقِبُه على كُفرانِه إياه والله غنِيٌّ عن شُكرِه إياه على نِعَمِه لا حاجة به إليه؛ لأن شُكرَه إياه لا يزيد في سُلطانِه ولا ينقصُ كفرانُه إياه مِن مُلكِه".[13] وقال القرطبي رحمه الله: "(ومَن شَكَرَ فإنما يَشكُر لِنَفسِه): أي لا يرجع نفعُ ذلك إلا إلى نفسِه؛ حيث استوجَبَ بِشُكرِه تَمامَ النعمةِ ودوامَها والمزيدَ منها. والشكرُ قَيدُ النعمةِ الموجودةِ، وبه تُنالُ النعمةُ المفقودةُ".[14]
وقال ابن كثير رحمه الله: "قال تعالى (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه) أي إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين لقوله تعالى (ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون)".[15] وقال الشوكاني: "بَيَّنَ سبحانه أنَّ الشُّكرَ لا ينتفعُ به إلا الشاكرُ، فقال: (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه)؛ لأن نفع ذلك راجع إليه وفائدته حاصلة له؛ إذ به تستبقى النعمة وبسببه يستجلب المزيد لها من الله سبحانه (ومن كفر فإن الله غني حميد): أي من جعل كفر النعم مكان شكرها؛ فإن الله (غنِيٌّ) غير محتاج إليه (حميد) مستحق للحمد من خلقِه لإنعامه عليهم بنعمه التي لا يحاط بقدرها ولا يحصر عددها؛ وإن لم يحمده أحدٌ من خلقه؛ فإنَّ كلَّ مَوجودٍ ناطِقٌ بحمدِه بلسانِ الحال".[16]
ومَن قرأ كتابَ الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الروحِ العارِفةِ بالله المعترفةِ بفضلِه ورحمتِه؛ كان أسعدَ الناسِ قلباً وأقواهم يقيناً وأعظمهم ثناءً وحمداً؛ ولله دَرُّ صاحبِ الظِّلالِ حينَ قال: "مِنْ رَحمةِ الله أنْ تُحِسَّ بِرَحمةِ الله؛ فرحمةُ اللهِ تَضُمُّك وتَغْمُرُك وتَفِيضُ عَلَيْك؛ ولَكِنْ شُعُورُك بِوُجودِها هو الرَّحمةُ، ورَجاؤك فيها وتَطَلُّعُك إليها هو الرَّحمةُ، وثِقَتُك بها وتَوَقُّعُها في كلِّ أمْرٍ هو الرَّحمة... ورَحمةُ اللهِ لا تَعِزُّ على طالبٍ في أيِّ مكانٍ وفي أيِّ حالٍ؛ وَجَدَها إبراهيمُ عليه السلام في النارِ، ووَجَدَها يوسف عليه السلام في الْجُبِّ كما وَجَدَها في السِّجن. ووَجَدَها يونسُ عليه السلام في بطنِ الْحُوتِ في ظُلُماتٍ ثلاث. وَوَجَدَها موسى عليه السلام في اليَمِّ وهو طِفْلٌ مُجَرَّدٌ مِنْ كلِّ قُوةٍ ومِن كلِّ حِراسةٍ، كما وَجَدَها في قَصرٍ فرعون وهو عَدُوٌّ له مُتَرَبِّصٌ به ويَبحثُ عنه. ووَجَدَها أصْحابُ الكهفِ في الكهفِ حين افْتَقَدُوها في القُصُورِ والدُّورِ، فقال بعضُهم لِبَعضٍ: (فَأْوُوا إلى الكَهفِ يَنْشُرْ لكم رَبُّكم مِن رَحْمَتِه)،[17] ووَجَدَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وصاحبُه في الغارِ والقومُ يتبعونَهما ويَقُصُّون الآثار، ووَجَدَها كلُّ مَن آوَى إليها يائساً مِن كلِّ مَنْ سِواها؛ مُنقطِعاً مِن كلِّ شُبْهَةٍ في قُوةٍ ومِن كلِّ مَظِنَّةٍ في رَحمةٍ؛ قاصِداً بابَ اللهِ وَحْدَه دُونَ الأبواب".[18]
----------
[1] إبراهيم 7.
[2] الجامع لأحكام القرآن 7/280.
[3] الجامع لأحكام القرآن 9/343.
[4] الجامع لأحكام القرآن 9/343.
[5] صحيح البخاري 2/532، وصحيح مسلم 2/717.
[6] مدارج السالكين لابن القيم 3/164.
[7] الشعراء 77-81.
[8] في ظلال القرآن 19/2603.
[9] الأنفال 26.
[10] مدارج السالكين 2/242. دار الفكر، ط 1412 هـ.
[11] النمل 40.
[12] لقمان 12.
[13] جامع البيان للطبري 21/68.
[14] الجامع لأحكام القرآن 13/216.
[15] تفسير القرآن العظيم 3/445.
[16] فتح القدير 4/237.
[17] الكهف 16.
[18] في ظلال القرآن 22/2923.(/2)
الصبحُ موعدنا؟!..
شعر: زهير أحمد المزوّق
الليلُ، في عينيك، والأرقُ والدّمعُ والتسهيد والزّهقُ
ومخالبُ الأحزانِ، في كبدِ حرّى، ونَزْفُ جراحها شفقُ
هي غربةٌ تركتكَ في قلقٍ فالروحُ بالأشواق تحترقُ
تهفو إلى عشٍّ قد انقطعتْ بالسّالكين لحضنهِ الطّرقُ
عبثَ الجرادُ به .. فخرَّبهُ حتى عدا.. وكأنهُ مِزَقُ
فالحقلُ.. لا قمحٌ ولا ثمرٌ والروضُ ، لا فلٌّ ولا عبقُ
أما حساسينُ الضحى، فلقد كادت بحبل الصَمتِ تختنقُ
يا بلبلاً .. في بوحِهِ شجنٌ يُغري الدّموعَ، فتمطرُ الحدقُ
وتثورُ في الأضلاع عاصفةٌ فإذا الفؤادُ بدمعه شَرِقُ
رفقاً بقلبك .. من لواعجهِ أو ليسَ بعد العتمة الفلقُ؟
غنّيتَ للغدِ.. إنّه أملٌ نهفو إليه، إليه ننطلقُ
إنْ شاء ربُّك أنْ يُفرّجها فالبحر – حين يشاءُ - ينفلقُ
فترى الجراد، وقد طغى، خبرا يروي حكاية إفكهِ الغرقُ
الصبحُ موعدُنا.. وألمحهُ من شُرفةِ الآلام ينبثقُ !(/1)
الصبر خير عطاء*
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
صح عن أبي سعيد الخدري: أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده، قال: ((ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يصبر يصبره الله، وما أعطي أحد من عطاء خيراً وأوسع من الصبر)).
وكم في قوله: ((وما أعطي أحد من عطاء خيراً وأوسع من الصبر)) من دروس، إن هذه الكلمة عليها نور النبوة، وهي من الكلم الجوامع.
وينبغي أن تكون منهجاً للمسلم في حياته إذا انتابه أمر لم يجد له مخرجاً، فإذا تساءل ماذا أعمل؟ فتحت له هذه الكلمة كنوز الدنيا والآخرة، وتدله على الطريق في ظلمة الليل البهيم، ولو فقه كثير من الناس هذه الكلمة وما ترمي إليه، لتجاوزوا المعضلات، ولتهاوت أمامهم أعظم وأعتى العقبات.
إنني أتعجب من أولئك الذين يبحثون عن الحلول لمشكلاتهم، فتستغرقهم اللحظة الحاضرة، فيقدمون على حلول لم تنضج ولم يحن وقتها، فيضيفون إلى مصائبهم مصائب أخرى، ويعظم الأمر إذا كانت القضية تتعلق بأمور المسلمين، فيدخلون الأمة في متاهة لا تعرف نهايتها، ونفق لا يدري أين طرفه؟
لو أدركوا حقيقة هذه الكلمة لعلموا أن أعظم الأعمال التي يجب أن يقوموا بها من أجل حلّ تلك المعضلات هو الصبر، فالصبر عطاء من الله، وما أعظم آثاره، ولذلك كان _صلى الله عليه وسلم_ يمرّ بآل ياسر -رضي الله عنهم- وهم يُعذبون فيقول لهم: ((صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)) ولو لم يكن الصبر عملاً عظيماً لما أوصاهم به وحثهم عليه.
وكان يوصي صحابته الكرام بذلك عند كل ملمة وبلية، ويبين لهم أن الداء في العجلة وترك الصبر.
ولو لم يكن الصبر عظيماً، ودواء لكثير من الداء لما جاء ذكره في القرآن في أكثر من تسعين موضعاً.
والصبر الذي نتحدث عنه هو الصبر الإيجابي؛ لا الصبر السلبي، وفرق بينهما، كما بين المشرق والمغرب.
إن الصبر السلبي هو الدعة والسكون والخمول وترك العمل، أما الصبر الإيجابي فهو الأخذ بالأسباب المشروعة، مع طول النفس وترك الاستعجال وحسن الظن بالله والثقة بوعده "فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون" [الروم: 60].
قيل لبعض العقلاء وقد نزلت به نازلة:
صبراً أبا أيوب صبر مبرحٍ
إن الذي عقد الذي انعقدت
صبراً فإن الصبر يعقب راحة ... ... فإذا عجزت عن الخطوب فمن لها
به عقد المكاره فيك يملك حلها
فلعلها أن تنجلي iiولعلها
فأجاب:
صبرتني ووعظتني فأنا iiلها
سيحلها من كان صاحب عقدها ... ... وستنجي بل لا أقول iiلعلها
كرماً به أن كان يملك حلها
وفي قوله _صلى الله عليه وسلم_: "ومن يصبر يصبره الله" بيان لخطأ ما عليه كثير من الناس من قناعتهم باستحالة تغيير الطبائع، وما جبل عليه الإنسان، بينما النصوص الكثيرة، ومنها هذا الحديث، والواقع المشاهد يؤكد خطأ هذا الاعتقاد، وفساد هذا القول، وقد قال _صلى الله عليه وسلم_: ((إنما الحلم بالتحلم والعلم بالتعلم)).
والحقيقة أنه بالعزم والإصرار والصبر وحسن التدريب مع صدق النية والاستعانة بالله يغير الله من حال إلى حال، وكم من رجل كان معروفاً بالحمق أصبح من أحلم الناس، وآخر كان معروفاً بالبخل والشح أصبح من أسخى الناس.
والنفس كالطفل إن تهملْه شبّ على* حبّ الرضاع وإن تهملْه ينفطم
وفي قول الأشج بن عبد قيس للنبي _صلى الله عليه وسلم_ لما أخبره أن فيه خصلتين يحبهما الله ((الحلم والأناة)) قال: يا رسول الله: أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟(1) فأجابه النبي _صلى الله عليه وسلم_ بأنه جبل عليهما، ففي قوله، وإقرار النبي _صلى الله عليه وسلم_ له على سؤاله، إجابته عليه تدل على أن الإنسان قد يتخلق بخلق لم يكن فيه، بل قد جبل على غيره، ورحم الله ابن القيم الذي قال: لو وقف رجل أمام جبل وعزم على إزالته لأزاله.
_____________________
*هذه المقالة مستلة من جملة شرح الشيخ –حفظه الله- لصحيح مسلم بتصرف يسير [المكتب العلمي].
(1) سنن أبي داود حديث رقم (4548) كتاب الآداب باب في قبلة الرجل(/1)
الصبر على الابتلاء
تناول الدرس أهمية الصبر وأوجه ذكره في القرآن والعقبات التي تواجه الدعاة وكيفية الصبر عليها، وذكر صورا من أوجه إنكار المنكر، وحث على الصبر على الدعوة وبين طبيعتها ونماذج من ابتلاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لنتأسى بهم .
قال الإمام أحمد : إن الله ما عظّم شيئا في كتابه كما عظّم الصبر فقد ذكر في أكثر من تسعين موضعاً ، فمنها ما ذكر الله من مضاعفة الأجر للصابرين كما في قوله: [أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ[54]] سورة القصص ، ومنها ما ذكر فيه من توفيتهم أجرهم بغير حساب : [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[10]] ، ومنها ما ذكر من الاستعانة بالصبر على ما يواجه الإنسان: [ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[45]] سورة البقرة، وكما في الوصية به في قوله تعالى : [ وَالْعَصْرِ[1]إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ[2]إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[3]] سورة العصر.
فهذا الأمر لا يتم للإنسان حقيقة الإيمان إلا به ، فهو حق علىكل مسلم ، ولكن عندما نتحدث عن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر تكون الحاجة من الصبر أعظم من ذلك ، وانظروا في وصية لقمان لابنه:] وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [17][ سورة لقمان ، فلعل في التعقيب بالصبر بعد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إشارة إلى أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر هو أحوج من غيره إلى الصبر ؛ وإن كان كل من دعا إلى الله، و آمن بالله لابد أن يبتلى : ]الم[1]أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2][العنكبوت، ويقول الله: ]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا[31] [ سورة الفرقان .
فكل نبي وصاحب دعوة له أعداء من المجرمين ، كما أن الآمر بالمعروف والناهى عن المنكر يصدم الناس في شهواتهم التي يتهافتون عليها كما مثل النبي r تهافتهم بتهافت الذباب والفراش على النار ولكنه r قال ] ولكنني آخذ بحججكم عن النار [ ، وهذا العمل يقوم به من بعده r من العلماء والدعاة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، فلو أبيح أي نوع من أنواع الفساد للناس لرأيتهم يتهافتون عليه، فإذا اجتمعت مع هذه الشهوة شهوات أخرى ؛ كأن يكون الرجل ذا منصب أو يكون ذا مال وجاه ؛ فإن ردّه بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يكون أكبر ، فيستعظم ويتكبر أن ينتقده أحد ويقول له اتق الله وهو صاحب المرتبة والجاه والسلطان , فهذا حال من أخبر الله تعالى عنهم : ] وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ[206][ سورة البقرة, فإذا كان هذا في زمن كثر فيه الفساد, و اشتدت غربة الدين, وضعف فيه سلطان أهل الحق ؛فإن الأمر يكون أشد ولهذا فهم من أحوج الناس لكل ما تحتمله هذه الكلمة من مظاهر الصبر
من مظاهر الصبر
1-الصبر على أذى النفس : فهذه النفس الأمارة بالسوء تقول :يا عبد الله الناس مرتاحون, و لا يعادون خلق الله, وفي وظائف مرفهة, و أجور عالية, وأنت في هذا العمل الدعوي.
ولهذا لابد أن تقمعها ,وأن تقول: أيتها النفس لا تتكلمي؛ فإنني أعمل عمل الأنبياء الذين لم يتقاضوا عليه أجرا حيث قالوا لقومهم ] وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ[164][ الشعراء.
2- الصبرعلى أذى الأهل : فالداعية قد يقاوم نفسه؛ ولكنه قد ينهزم أمام أهله من الزوجة أو الأبناء ؛ فيقولون له اترك هذا العمل, أو انتقل إلى آخر, وهذا من البلايا, فقد ابتلى الله تعالى نوح عليه السلام بامرأته وابنه, وابتلى لوطا بامرأته , وابتلى إبراهيم بأبيه .(/1)
3- الصبر على الابتلاء الحاصل في العمل على نفسه: فهذه الأمة مكرمة ومفضلة ؛ولكنها لابد أن تأخذ عقوبتها إذا عصت الله, وإن كانت عقوبتها أخف من غيرها تكريماً لمحمد r واستجابة لدعائه كما جاء عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ] لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r أَعُوذُ بِوَجْهِكَ قَالَ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِكَ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r هَذَا أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَر [ رواه البخاري والترمذي وأحمد ، وعن عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ الْعَالِيَةِ حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلًا ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا فَقَال r : [سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا [ رواه مسلم وأحمد .
وإن أحرص ما يحرص عليه الشيطان أن يوقع الفتنة بين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر, وبين العلماء وبين الدعاة , وهل تظن أن الشيطان يريد أن يوقع العداوة بين من يشربون الخمر, ويلعبون القمار؛ مع أن من ضروراتهما حصول العداوة؛ و لكن أحرص ما يكون الشيطان على هذه الحالة؛ كما جاء عن الزبير بن العوام قال : قال r : [دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ [ رواه الترمذي وأحمد .
ثم إن من نذر نفسه للعمل الدعوي ليتوقع العداوة من كل أحد ؛ سواء بفصل أو نقل أو طرد أو إشاعة أو افتراء ؛كما يقال لرجال الحسبة : ما يخافون الله يأخذون الراتب بالحديث وشرب القهوة وبلا عمل , فاللوم لاحق على أهل الخير فلا حيله لهم إلا الصبر والاحتساب عند الله سبحانه وتعالى.
فكل هذه العقبات يجدها الداعية الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر في طريقه أينما اتجه, والله تعالى يقول : ]الم[1] أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2][العنكبوت من الفتنة و الابتلاء , وهذه سنة ربانية ؛حتى قال بعض العلماء : إن من لم يؤذَ ويبتلَ ويتحمل الأذى فإن إيمانه لا يعد إيماناً في الحقيقة؛ وإن كان هو مسلم, والله خلقنا وتعبدنا بأن نقيم هذا الدين , وأن ندعوا إليه يقول الله : ]قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[108] [ يوسف , فكل من اتبع النبي r فهو داعٍ إلى الله آمرٌ بالمعروف و ناهٍ عن المنكر .
صور من الإنكار في هذه الأمة
1- كان عمر رضى الله عنه يتفقد أحوال الرعية في الليل , فسمع امرأة تقول شعراً وهى لا تظن أن أحد سيسمعها :
كيف السبيل إلى خمر فأشربها و كيف السبيل إلى نصر بن حجاج
وفي اليوم الثاني سأل عمر : من نصر بن حجاج ؟ فقيل له : رجل فيه جمال وتعجَب به من ضَعُف إيمانها من النساء , فنفاه من المدينة إلى الكوفة , فإذا كان هذا في نصر صاحب الجمال الطبيعي فكيف فيما يعرض في وسائل الأعلام من مثيرات الشهوات .(/2)
2-كان الصحابة أعظم القائمين بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر , بل كانوا يبدءون بأنفسهم ,فقد جاء عمر رضى الله تعالى عنه يوما إلى سوق الإبل, ولفت نظره أن إبلاً سمينة معروضة للبيع أثمن من غيرها , ففكر كيف كل هذه الإبل ترعى من المدينة , فسأل لمن هذه الإبل , قالوا : هذه لعبد الله بن عمر، فسأل عمر ولده :لِمَ يا عبد الله بن عمر هذه الإبل أثمن من غيرها ؟ قال : والله يا أمير المؤمنين إن هذه الإبل اشتريتها من مالي ورعيتها مع المسلمين, قال : لا ,كان الناس يقولون: أسقي إبل ابن أمير المؤمنين , رد إبل ابن أمير المؤمنين , فلأنك ابن عمر شربت إبلك أكثر ورعت أكثر فكانت أسمن من غيرها, لا يا عبد الله لك رأس مالك, والربح لبيت مال المسلمين قال : سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين, فانظروا كيف الحساسية بالبدء بالنفس عند إنكار المنكر, ولذلك لما جاء رسول كسرى إلى المدينة يريد أن يرى قصورها , فلم يرَ إلا مبانٍ عادية جدا, ووجد عمر نائماً في ظل الشجرة متوسداً حجرا , أهذا عمر الذي دوخ العالم ؟لماذا أوقع الله هيبته في قلوب العالمين ؟ إنه بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ]كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [110][ آل عمران , جاء عن أبي الدرداء رضى الله عنه أنه قال : من يشترى منى تركة آل عاد بدرهمين يا أهل دمشق يا أهل دمشق ما لي أراكم تبنون مالا تسكنون وتجمعون مالا تأكلون يا أهل دمشق أنه قد بلغنا أن عاد قد بنوا لبنة من ذهب و لبنة من فضة .
فلنصبر على ذلك ,ولنحتسب عند الله في كل ما يصبنا من الأذى؛ لأن العاقبة للمتقين ]وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[105][ سورة الأنبياء .
هل كان أحد يظن أن هذا الرجل الشيخ محمد بن عبد الوهاب يذهب من قرية إلى قرية ,كلٌّ يطرده ؛ فيقبله محمد بن سعود ويتحالف معه, فكم هي قرية الدرعية بالنسبة للدولة العثمانية والعالم, ولكن لما بدأت بالتوحيد الخالص لله وبالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أظهرها ونشرها وأبقى لها الذكر الحسن إلى هذا اليوم .
وعادةً يكون انبلاج الفجر عند اشتداد الظلمة, وإذا رأيت الحق يحارب فاستبشر بأن النصر قريب ؛لأن الحق دين الله ؛ وهو مُتكفِّل به, ولن يُضيع عباده الصالحين أبدا ,كذلك لابد أن نعلم أن هذا الدين سيقوم , فإن لم يقم على يديك فعلى يدي غيرك ,وإن لم تقم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فسيخرج الله من أبناء المترفين وأبناء المجرمين أنفسهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ]وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[38][ سورة محمد .
هذا دين الله لا يستطيع أحد أن يضره؛ ولكن هي فترات ابتلاء وامتحان لابد أن تمر كما ابتلى النبي r وهل أحد أكرم وأحظى عند الله من محمد r يحاصر في الشعب هو وبنو هاشم إلى حد أنهم أكلوا ما يدب على الأرض من الجوع, وماذا كان يوم أحد ويوم الأحزاب من الفتن والأهوال التي ذللت قلوب المؤمنين؛ ولكن في النهاية كان ذلك النصر المبين , فالصبر هو أساس النصر, والإنسان لا يدرى متى يموت فيصبر إذا على هذه الساعة يحفظها ويتقي الله فيها ]لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ[186][ سورة آل عمران ،فالمؤمنون يمتحنون ويؤذون و يصبرون, وقد لا يرون شيئا من النصر ، فهذا مصعب بن عمر رضى الله عنه ذاك الفتى الذي كان مترفا في مكة ذهب إلى المدينة, ودعى إلى الله ,وأسلم الأنصار حتى ما بقى بيت في المدينة إلا ودخله الإسلام ,وتلي فيه القرآن يُقتل يوم أحد رضى الله عنه، ولما أردوا أن يكفنوه لم يجدوا إلا رداءه , فإن غطوا رأسه بدت رجلاه , وإن غطوا رجليه بدا رأسه.
وبلادنا مستهدفة من الكفار ليس لأجل الثروة , ولالأجل الأمن , وإنما لأجل هذا الدين ]وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [120] [ سورة البقرة , لا يريدوننا أن نبقى مسلمين , فكل الحروب مهما اختلفت و تنوعت كلها من أجل هذه العقيدة وبالذات أنها ولله الحمد عقيدة نقية سلفية واضحة ، ولذلك فالمحافظة على هذه العقيدة ، وذب المنكرات التي تحيط بها من البدع والضلالات هو أوجب الواجبات.
من شريط الصبر على الابتلاء، للشيخ سفر الحوا(/3)
الصبر على المحن
سلاح المؤمن
من صالح أحمد البوريني/عمان
عضو رابطة الأدب الإسلامي
saleh_alborini@yahoo.com
يمتحن المؤمنون في هذا الزمان وفي كل زمان بأنواع من الابتلاءات والمحن على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول ، وتلك سنة إلهية ماضية ، قال تعالى : (( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون )) [ العنكبوت : 2 ] ، وقال عز وجل : (( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور )) [ تبارك : 2 ] ، وقد يكون الابتلاء بالرخاء وقد يكون بالشدة . وما يعنينا هنا هو وقوع الابتلاء بالشدائد والمحن وموقف المؤمن منها .
الصبر مظهر الرضا :
ولما كان الابتلاء بالمحن من سنة الله تعالى ، فقد لزم أن يعرف المؤمن ذلك وأن يفهم حقيقته ، وحين يفقه المؤمنون سنن الله تعالى فإنهم يحسنون التعامل معها ، ويتمثل فقه المؤمنين لسنة الابتلاء بالمحن في الرضا بقضاء الله تعالى والخضوع لأمره ، ومظهر هذا الرضا والخضوع هو الصبر ؛ هذا الخلق العظيم الذي يمثل موقف المؤمنين تجاه المحن والابتلاءات ، ويجسد فلسفة المؤمن في التعامل مع أكدار الحياة وجراحها ومنغصاتها التي لا تنتهي . وعلى أساس هذا الفهم السليم فإن المؤمن يكون راضيا بقضاء ربه عز وجل متسلحا بالصبر في كل أحواله ولا سيما في الشدائد والمحن وفقا لما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) 1 .
الرضا حظ المؤمن :
وحين يؤمن العبد أن له على كل مصيبة أو محنة مهما صغرت أجرا إذا صبر ، ويستيقن أن صبره لا يذهب هباء منثورا وإنما يكون مذخورا له عند ربه محفوظا له في ميزانه يوم القيامة ، وأن ( عظم الجزاء مع عظم البلاء وأن من رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط ) 2 ، وأنه ( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) 3 ، فإن ذلك الإيمان يغمره بالرضا ويفيض عليه من السكينة ما يخفف من آلامه ويسكن من جراحه . ولذلك ترى المؤمن في المحن والشدائد متذرعا بالصبر ، ميالا إلى التحمل والثبات محتفظا بتوازنه ورباطة جأشه ، يترجم ذلك كله بما يناسب الحال من الكلمات والعبارات التي تعكس استسلامه لأمر الله تعالى ورضاه بقضائه ، فتراه يكثر من قول ( الحمد لله ) و ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) وما شابه ذلك من الأقوال التي تثقل بها الموازين وتذهب قلق الأهل والمحبين .
مواقف متنوعة :
وفي زماننا كثيرة هي المحن التي تتطلب فهم درس الصبر فهما سليما ؛ يعين على الثبات ، ويساعد على تجاوز العثرات ، والوقوف في وجه التحديات والصعوبات التي تعترض المسلمين في حياتهم الخاصة والعامة ، وتقف في طريق الدعوة ، وتعمل على إجهاض الصحوة .
وثمة مواقف وأحوال يلزم فيها الصبر ، سلاحا للمؤمن ، وزادا على طريقه لتحصيل مرضاة ربه عز وجل ، فإذا افتقده فيها أدركه الجزع وخالط قلبه الفزع ؛ فلا تراه إلا ضعيفا مهزوزا مهزوما . ومن تلك المواقف والأحوال ما يلي :
الصبر على الفقر والحاجة :
إذ يكون الفقير المحتاج بين موقفين ؛ أولهما أن يلجأ إلى سؤال الناس، وطلب المعونة من الخلق ، والثاني أن يتصبر على حاله ممتنعا عن سؤال الخلق ، ومحتالا بما أمكن من الجهد وطرق أبواب العمل ، حتى يأتي الفرج ويبدل العسر يسرا . ولا شك أن موقف التصبر في هذه المحنة خير من موقف السؤال وعرض الحال ، ولذلك جاء توجيه النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف مؤكدا على قيمة الصبر وحسن عاقبته ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسا من الأنصار سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده ، فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده : ( ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم ، ومن يستعفف يعفه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يتصبر يصبره الله ، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر ) 4 . وقوله يتصبر يفيد أن تحصيله الصبر لم يكن بسهولة ، وإنما بشيء من المعاناة والتحمل ، لأنه لم يكن صابرا إلا بتكلف مؤونة الصبر وتحمل مشقته .
الصبر في السراء والضراء :
ومن الطبيعي أن يصبغ الإيمان حياة المؤمن بصبغة الصبر ، وأن يكون المؤمن صابرا ، ولكن المؤمنين يتفاوتون في ذلك بقدر حظهم من الإيمان ، فكلما ارتفع مستوى الإيمان وازداد رسوخ اليقين كان العبد أكثر صبرا ، فارتفاع مستوى الإيمان يعني ارتفاع مستوى الصبر .(/1)
وفي معرض بيان الحق جل وعلا لوجوه البر امتدح الصابرين في البأساء والضراء بالصدق والتقوى فقال (( .. والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )) [ البقرة : 177 ] ، وقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم شكر المؤمن على السراء وصبره على الضراء بقوله : ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) 5 .
مصيبة الموت :
والمصائب تتفاوت أيضا في الشدة ، وليس ثمة مصيبة أشد وقعا على الإنسان من موت قريب أو عزيز ؛ فإن مصيبة الموت تهز الإنسان هزا عميقا ، وتفجعه بفراق الأحباب ، ولذلك كان الصبر حينها لازما وضروريا للمؤمن ، وكان غيابه مؤديا في كثير من الأحيان للوقوع في المحظور من القول أو الفعل المحرم ، أو موجبا للشرك أو للكفر والعياذ بالله ؛ كالنياحة التي حرمها الشرع ، وإطلاق ألفاظ السخط والسخرية على القدر ، وعدم الرضا بقضاء الله عز وجل .
وقد بشر الله سبحانه من يصبر على موت عزيز عليه بأن له الجنة حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يقول الله تعالى : ما لعبدى المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة ) 6 .
مصيبة العمى :
ومن أشق المصائب على الإنسان في صحته فقد بصره . لذلك وعد الله عز وجل من صبر على هذه المصيبة أن يجزيه الله الجنة ، وقد ورد هذا الوعد الإلهي الصادق في الحديث القدسي الذي رواه أنس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يقول الله تعالى : إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة ) 7 .
الصبر حين الغضب :
ومن المواقف التي يلزم فيها الصبر موقف الغضب ، فحين تستبد بالنفس سورة الغضب الشيطاني الجامح ؛ تفلت من عقال الضبط ، وتستجيب لدواعي الهوى والعناد والتعصب ونزغات الشيطان ، فتخرج عن حد الالتزام بالشرع ، وفي هذه المواقف تمتحن رجولة الرجال وكفاءة الأبطال ؛ فأما من وفق للسيطرة على نزعات النفس ودفع نزغات الشيطان ؛ فهو الرجل القوي الشديد الأمكن ، ولو ظهر أنه من أوساط الناس جسديا وعضليا . وأما من فقد السيطرة على نفسه فهو الأضعف ولو بدا قوي الجسم شديد البنية ، وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس الشديد بالصرعة ، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) 8 .
ومن أنصع الأمثلة العملية على الصبر الذي تتجلى فيه القدرة على ضبط الانفعال ، وحسن قيادة النفس ، وتعزيتها بعبر السابقين ؛ قصة قسمة الغنائم عقب انتصار المسلمين في غزوة حنين ؛ إذ تألف النبي صلى الله عليه وسلم قلوب بعض الناس ، طمعا في إسلامهم ، فأعطاهم عطاء أكثر من غيرهم ، فقال أحد المسلمين : ( والله إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله ) ، فوصل ذلك القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فظهر عليه الغضب واعتصره الحزن والألم ، ولكنه صبّر نفسه ، وهو الرؤوف بالمؤمنين الرحيم بهم ، وكظم غيظه وقال : ( ومن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ) !! ثم قال متأسيا بأخيه موسى عليه السلام : ( رحم الله موسى أوذي بأكثر من هذا فصبر ) 9 .
الصبر على مشاق الدعوة والجهاد :
ومن أعظم المواقف التي تتطلب صبرا عاليا ، ومقاومة شديدة ، وضبطا للنفس لا يقدر عليه إلا أهل اليقين الصامدون في خندق العقيدة ، والثابتون على طريق المبدأ ، مواقف الدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيله . ذلك أن إقامة الخلْق على العبودية لله عز وجل تكلفهم أن يخرجوا على هوى أنفسهم، وينعتقوا من أسر عاداتهم ، وما ورثوه عن آبائهم ، وما ألفوه في حياتهم من الطقوس والتقاليد الجاهلية ، وهذا ما يشق على النفوس ويستحيل على كثير من الناس أن يستجيبوا له ، فتراهم يغلقون على أنفسهم أبواب الاستجابة للدعوة ، ويتخذون من الدعاة موقف الضدية والمعاداة ، ويقطعون عليهم طريق التبليغ ، ويجتهدون في إيذائهم ومقاومة دعوتهم بما استطاعوا من وسائل الضغط والعنف والحرب الهوجاء .
ومن أمثلة ذلك ما صورته لنا عبارات هذا الحديث الشريف الذي يقول فيه الصحابي الجليل خباب رضي الله عنه : شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( قد كان من قبلكم يؤخذ بالرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه . والله ليتمن الله هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون ) 10 .
الهوامش :
1. رواه مسلم عن صهيب بن سنان في كتاب الزهد ، باب المؤمن أمره كله خير،( 2999 ).
2. صحيح سنن الترمذي ( 2/285 ) .(/2)
3. رواه البخاري في المرضى ، باب ما جاء في كفارة المرض (10/91 ). ومسلم في البر ، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض ( 2573 ) .
4. رواه البخاري في الزكاة ، باب الاستعفاف عن المسألة ( 3/265 ) ، ومسلم في الزكاة ، باب فضل التعفف والصبر ( 1053 ).
5. رواه مسلم وسبق توثيقه .
6. رواه البخاري في كتاب الرقاق ، باب العمل الذي يبتغى به وجه الله تعالى ( 11/207 ) .
7. رواه البخاري في كتاب المرضى ، باب فضل من ذهب بصره ( 10/100 ).
8. رواه البخاري في الأدب ، باب الحذر من الغضب (10/431 ) .ومسلم في البر ، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب ( 2609 ) .
9. رواه البخاري في أبواب الخمس وفي الأنبياء وفي الدعوات وفي الأدب ، باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه ( 8/ 44 ، 45 ) ، ورواه مسلم في الزكاة ، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم (1062) .
10. رواه البخاري في كتاب علامات النبوة ( 7/126 ) .(/3)
الصبر ومجالاته
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? [ آل عمران : 102] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً? [النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ? [البقرة: 153]
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (ما أعطي أحد عطاء خيراً له وأوسع من الصبر). ومنزلة الصبر من الإيمان
وبالصبر يتمكن الإنسان بطمأنينة وثبات أن يضع الأشياء في مواضعها ، ويتصرف في الأمور بعقل وروية واتزان،وينفذ ما يريد من تصرف في الزمن المناسب وبالطريقة المناسبة، وإذا عدم الصبر فإن الإنسان يندفع إلى التسرع والعجلة فيضع الأشياء في غير مواضعها، ويتصرف برعونة وطيش.
وللصبر مجالات كثيرة في حياة الإنسان:
فمن الصبر ضبط النفس عن الضجر والجزع عند حلول المصائب والمكاره.
ومن الصبر ضبط النفس عن السأم والملل، لدى القيام بأعمال تتطلب الدأب والمثابرة خلال مدة زمنية مناسبة، قد يراها المستعجل طويلة، وما نهضت الأمم الضعيفة إلا بالصبر والمصابرة وما تفوق المتفوقون في ميادين الحياة العملية والعلمية إلا بالعمل الدؤوب والصبر، وما انتصرت الجيوش في الميادين إلا بتحمل المشاق والمكاره والصبر عليها .. ولقد صدق القائل : لأستسهلن الصعب..
ومن الصبر ضبط النفس عن الغضب والطيش، لدى مثيرات عوامل الغضب في النفس مما يدفع بالإنسان إلى تصرفات طائشة لا حكمة فيها ولا اتزان في الأقوال أو في الأفعال.
ومن الصبر ضبط النفس عن الخوف لدى مثيرات الخوف في النفس، حتى لا يجبن الإنسان في المواضع التي تحسن فيها الشجاعة وتكون خيراً، ويقع فيها الجبن ويكون شراً، ومن أمثلة ذلك في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - و أصحابه الكرام رضوان الله عليهم ما حدث في أعقاب غزوة أحد حين رأى المشركون أنهم لم يحققوا شيئاً ذا بال ، أرادوا أن يقودا حملة إعلامية وحرباً نفسية على المؤمنين بقصد تخويفهم والفت من قواهم، حيث بعث قائد المشركين برسالة إعلامية مفادها أن المشركين قد جمعوا قوة ضاربة ليستأصلوا بها النبي والمؤمنين وهول ذلك المنافقون .. فلما بلغ الخبر الرسول والمؤمنين لم تضعف معنوياتهم أو تهن وإنما كان موقفاً إيمانياُ رائعاً ذكره الله في كتابه الكريم وصور لنا ذلك بقوله: ? الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173)فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ? [آل عمرآن:173-174] إن انتفاش الباطل وتبجحه لا يزيد المؤمن إلا عزماً وتصميماً على الثبات والصبر والجهاد.
إن الشيطان يحاول أن يجعل أولياءه مصدر خوف ورعب ، وأن يخلع عليهم لباس القوة والقدرة، ويوقع في قلوبهم أنهم قوة لا تقهر .. ليحقق بذلك الشر والفساد في الأرض، فتنهار النفوس الضعيفة ويسيطر الباطل فلا يرتفع لهم صوت بالإنكار ، ولا يفكر أحد في مقاومتهم في دفع فسادهم.
ومن الصبر ضبط النفس عن الطمع لدى مثيرات الطمع فيها، حتى لا يندفع الإنسان وراء الطمع في أمر يقبح الطمع فيه من ذلك:
من يكذب كذبة تبلغ الآفاق ليتقاض على كذبه دراهم
وكمن يشهد زوراً أو بهتاناً فيغير الحقائق من أجل حفنة دولارات.
وكمن يتآمر على دينيه وأمن بلاده من أجل منصب رخيص.
ومن الصبر ضبط النفس لتحمل المتاعب والمشقات والآلام الجسدية والنفسية ، كلما كان في هذا التحمل خير عاجل أو آجل.
-
إن الصبر دليل على قوة الإرادة وكمال العقل والبعد عن الطيش والرعونة، وهو دليل على النضج وتعبير عن الحكمة في معالجة الأمور ومشكلات الحياة. هذا بالإضافة إلى أن الصبر في مستواه الرفيع ثمرة من ثمرات الإيمان بالله والتسليم بقضاءه وقدره، وتدبرُ حكمته سبحانه في تصريف الأمور وامتحان عباده في هذه الحياة.(/1)
والصبر مع ذلك خلق نفسي عظيم يواجه به المرء الابتلاءات والفتن والمحن في هذه الحياة الدنيا ولذا يقول الله جل وعلا: ? أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ? [آل عمرآن:142].
وإذا ما تحدثنا عن الصبر عند المصائب وكل ما يجلب الآلام ويورث المتاعب والأكدار. فإننا نجد الإسلام يوجه المؤمنين إلى التسليم والرضا بقضاء الله وقدره، ويبين لهم أن حكمة الله في الابتلاء تقضي بأن يكون الابتلاء بالمكاره والمؤلمات، وأن ما يأتي به القضاء والقدر مما لا كسب للإنسان فيه ولا مسؤولية عليه به، هو خير في حقيقة أمره وإن كان ظاهره مكروهاً وموجعاً، وإن كان في عرف الناس مصيبة من المصائب.
ويبين الله للمؤمنين أن ما يصيبهم من حسنة وخير فمن فضل الله وواسع رحمته وجوده، وما يصيبهم من سيئات فبسبب من أنفسهم ووعد الله الصابرين بالأجر العظيم ، والثواب الجزيل ، إذا صبروا رضاء بقضاء الله وقدره وطاعة له وابتغاء مرضاته: ? الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156)أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ ? [البقرة:156-157]
وامتدح الله عباده المؤمنين الذين يعبدونه وحده ويسلمون وجوههم لخالقهم جل وعلا في استسلام وإخبات وخوف وصبر على المصائب المقدرة مع ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كما قال سبحانه: ? ...فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ(34)الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِ الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ? [الحج:34-35] .
وأصل الإخبات في اللغة مأخوذ من الخبت وهي الأرض المنخفضة السهلة.
وأخذ لفظ الإخبات وحمل على معنى التواضع والخشوع والطمأنينة .. فمن كان مخبتاً لربه أي: متواضعاً خاشعاً مطمأناً، كان من صفاته أنه إذا ذكر الله وجل قلبه، وإذا ابتلاه الله بمصيبة صبر على ما ابتلاه الله به، ومن كان مخبتاً لربه كان لابد أن يكون مقيماً للصلاة المفروضة مؤدياً للزكاة قائماً بحق الله.
ومما ينبغي أن يعلمه المؤمن أن المصائب مكفرات للذنوب، وحين يعلم أن الله يثيبه ويكفر عنه من ذنوبه وخطاياه بالمصائب التي يصيبه بها، يجد نفسه مندفعاً لتحمل المصائب ، بصبر ورضى عن الله.
ولقد جاءت أحاديث كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبين ما للمصائب من أثر عظيم في تكفير الذنوب والخطايا نذكر بعضاً منها:
ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ، ولا أذى ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها ، إلا كفر الله بها من خطاياه ..)
وفي الصحيحين أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك، فقلت يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً، قال: "أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم" ، قلت : ذلك أن لك أجرين، قال: "أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته، وحطت عنه ذنوبه كما تحط الشجرة ورقها).
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (إن أعظم الجزاء مع عظمة البلاء، وأن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط).
وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة).
وفي مسند الإمام أحمد والبيهقي في شعب الإيمان عن الحسين بن علي رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها، فيحدث لذلك استرجاعاً إلا وجد الله تبارك وتعالى له عند ذلك ، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها).
فقانون الصبر على المصائب والآلام التي تنزل بالمسلم يرجع إلى عنصرين – تكفير الخطايا والسيئات والثاني: منح الأجر عليها، وهذا من فضل الله وكرمه ورحمته بعباده.
وحين يعلم المؤمن أن صبره على المصائب والآلام مكفر لسيئاته، ورافع لدرجاته، وأنه يحدث له مع كل شعور بألم أجر عند الله تعالى، يناله ثواباً عظيماً وكرامة عنده في دار الجزاء. فإنه يصبر ويتحمل ويحتسب الأجر عند الله فلا يضجر ولا يتمنى نزول الموت تخلصاً من المصائب وهرباً من الحياة وفراراً من مسؤولية الابتلاء، لكنه يرى أن طول أجله فرصة له ليزيد من الخير والحسنات إن كان من المحسنين أو يتوب ويصلح ويصحح مساره إن كان من المسيئين المقصرين في جنب الله.(/2)
كذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين عن تمني الموت ، فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(لا يتمنى أحدكم الموت، إما محسناً فلعله يزداد ، وإما مسيئاً فلعله يستعتب).
إن هذه التوجيهات الإسلامية من شأنها أنها ترفع معنويات المسلمين في الحياة ، وتشد عزائمهم ، وتنفي السأم والضجر عن نفوسهم وقلوبهم، وتضع بينهم وبين اليأس والقنوط سداً . الذي يدفع بغير المؤمنين إلى الجنون أو الانتحار، أو ارتكاب جرائم بشعة، أو إلى الإدمان على المسكرات والمخدرات وكل ذلك شر وبلاء.
والمؤمنون بحمد الله في عافية من ذلك كله. ومن جميل ما قيل في هذا المعنى من شعر الحكمة:
إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطنت المكاره واثمأنت ... وأرست في مكانتها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضر وجهاً ... ولا أغنى بحيلة الأريب
أتاك على قنوط منك غوث ... يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت ... فموصول بها الفرج القريب
القضاء في بلادنا يحتاج إلى إصلاح
والقضاء في بلادنا يحتاج إلى استقلال
والقضاء في بلادنا يحتاج إلى احترام
والقضاء في بلادنا يحتاج إلى حماية
أما أنه يحتاج إلى إصلاح فيتم ذلك بتولية الأكفاء الأقوياء الأمناء النصحاء، الذين لا يجورون ولا يرتشون ولا يخافون وعلى ربهم يتوكلون.
وأما استقلاله فإنه ينبغي أن يكون كذلك لا سلطة لأحد عليه ولا تأثير لجهة عليه ولا منة لأحد عليه ولن يكون ذلك الا إذا استقل مالياً وإدارياً، وابتعد القضاء عن الهيمنة والخصخصة .. أو الانتقائية في تنفيذ الأحكام فإذا قتل أو سرق أو قذف الضعيف أقيمت عليه الأحكام ونفذت الحدود وإن ارتكب ذلك الشرفاء والوجهاء وأصحاب النفوذ . خرس القضاء وتجمدت الأحكام والمحاكم وهذا شيء عجاب.
وأما احترام القضاء فينبغي على الجميع أن يسلم بالحكم بعد صدوره ولا سيما إن كانت المسألة في حكم شرعي مقدر كإقامة الحدود على أصحاب الجرائم.. فإنه لا يحل ولا يجوز لأي فرد أو جهة أن يسخر من الأحكام أو ينتقدها أو ينتقص منها لأنها لم تعجبه ويشن حملات إعلامية بدعوى الحرية والديمقراطية، فلأمرما جدع قصير أنفه. من حق المحكوم عليه أن يتظلم وأن يستأنف إن كان قد وقع عليه حيف أو شطط ، أما هذا الشغب والهراء وأما الحملات الإعلامية على القضاء محلياً ودولياً فذلك خلل ينال من كرامتنا واستقلالنا وينال من ديننا وحريتنا، فلسنا عبيداً لليهود والأمريكان ولن نعطي الدنية في ديننا ، إنهم يحاكمون رؤسائهم ومسئوليهم ويصدرون عليهم أحكاماً جائرة فلا يعترض عليهم ولا يوجه إليهم لوم وتسكت الأقلام المأجورة محلياً ودولياً فلا تنتقد ولا تعترض وإنما تبارك وتنوه بالعدالة.
وأما حماية القضاء فيتم ذلك بحماية الأحكام الشرعية، فلا تبدل أو تغير بسبب ضغوط خارجية أو داخلية هذا أولاً
ثانياً بتنفيذ الأحكام وعدم نسخها أو تغييرها بالرشوة أو التهديد اتباعاً للأهواء والرغبات.
وأخيراً لا بد من حماية القضاة الذين يحكمون بالحق ، والحكومة مطالبة ومسئولة مسئولية كاملة ، عن حمايتهم وإنزال العقوبات الشديدة والرادعة فيمن يعتدي عليهم جسدياً أومعنوياً. وعلى الشعب أن يشكل حماية أخرى تكون رديفاً للحماية الرسمية حتى يكون للقضاء في بلادنا معنى وحتى نقيم العدل ونرفض الظلم ونقضي على الفساد بواسطة القضاء العادل النزيه الذي تتوفر له الضمانات والحقوق ويحظى بالاحترام والتقدير والأمان.
أخرجه البخاري في صحيحه باب الاستعفاف عن المسألة ج2 ص534 رقم الحديث: 1400 ومسلم في صحيحه ج2 باب فضل التعفف والصبر رقم الحديث: 1053
عن أبي سعيد الخدري أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى إذا نفد ما عنده قال ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطى الله أحدا من عطاء أوسع من الصبر) .
أخرجه البخاري في صحيحه باب ما جاء في كفارة المرض وقول الله تعالى من يعمل سوءا يجز به ج5 ص2137 رقم الحديث:5318
أنظر صحيح البخاري ج5 ص 2138 باب شدة المرض رقم الحديث: 532 وصحيح مسلم ج4 ص 1991 باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها رقم الحديث: 2571
حسنه الألباني في صحيح ابن ماجة ج2 ص 373 رقم الحديث: 3256عن أنس بن مالك .
صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ج5 ص349 رقم الحديث: 2280.
أنظر ما ذكره الخطيب .
أنظر صحيح البخاري ج6 باب ما يكره من التمني ص 2644 رقم الحديث: 6808(/3)
الصحابة الكرام
الصحابة هم الذين نقلوا السنة النبوية بل حتى القرآن الكريم. فالأمانة الكبرى التي أرسلها الله المؤمن والمهيمن بوساطة جبريل الأمين إلى أفضل الخلق قاطبة وأكثرهم أمناً.. إلى الأمين محمد صلى الله عليه و سلم.. ثم كان الصحابة هم الذين نقلوا إلينا هذه الأمانة الكبرى كما هي تماماً. لذا، نرى القرآن الكريم والسنة النبوية تتحدثان عنهم بكل ثناء، [1] بل مدحهم وأثنى عليهم بالإنجيل والتوراة كذلك. [2]
عاشوا حياة مستقيمة، لم يكونوا مثال البطولة في بدر ومؤتة واليرموك فقط، بل كانوا في كل صفحة من صفحات حياتهم مثالاً يحتذى، إذ نظموا حياتهم وعيروها لحساب الدار الآخرة، وكانت كل خطوة من خطواتهم في سبيل نيل الرضا الإلهي. وعن طريق هؤلاء الذين ضربوا المثل الأعلى في الطهر والاستقامة وصلت إلينا السنة النبوية، لذا كان علينا أن نتطرق إلى الصحابة قليلاً، ثم إلى التابعين العظام الذين تبعوهم بأحسان.
1- الصحابة وطبقات الصحابة
يُعد الحافظ ابن حجر أفضل من قدم تعريفاً للصحابة ولمن نستطيع إطلاق كلمة الصحابة. فالصحابي حسب تعريفه هو الشخص المؤمن الذي رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم ونال صحبته ولو قليلاً واستمع إليه ومات على الإيمان وعلى العهد.[3]
ومع أن هناك من اشترط للصحابي صحبة الرسول صلى الله عليه و سلم مدة عام أو عامين، إلا أن جمهور العلماء متفقون على أن من لقي رسول الله صلى الله عليه و سلم وتسنى له صحبته ولو قليلاً، واستفاد من ذلك الجو الروحاني ومات على الإيمان وعلى العهد فهو صحابي. أما الكافر فلو رأى الرسول صلى الله عليه و سلم، ألف مرة فلا يُعد صحابياً.
لا شك أن الصحابة ليسوا سواء، فهناك طبقات لهم، إذ لا يمكن أن يوضع في الكفة نفسها من آمن به وصحبه منذ البداية وجاهد معه، ومن آمن به بعد الهجرة ثم من بعد الفتح، وقد تناول القرآن والسنة هذا الموضوع من هذا المنطق أيضاً. فالقرآن يتكلم عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} (التوبة: 100). ثم يتكلم عن الذين أنفقوا قبل الفتح وقاتلوا والذين أنفقوا بعده وقاتلوا وأنهما لا يستويان: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} (الحديد: 10).
ويمكن ملاحظة فرق الدرجات هذا في أقوال الرسول صلى الله عليه و سلم. فمثلاً عندما قام خالد بن الوليد بمضايقة عمّار بن ياسر غضب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال: «لا تؤذوا أصحابي.»[4] وعندما آذى عمر أبا بكر قطب الرسول صلى الله عليه و سلم حاجبيه وقال لعمر: «هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ إني قلت: يا أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعاً فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدقتَ.»[5]
وأفضل من صنف الصحابة هو الحاكم النيسابوري صاحب كتاب المستدرك، فهو يرى أن الصحابة ينقسمون إلى اثنتي عشرة درجة:
1. ... قوم تقدم إسلامهم بمكة كالخلفاء الأربعة.
2. ... الصحابة الذين أسلموا قبل تشاور أهل مكة في دار الندوة.
3. ... مهاجرة الحبشة.
4. ... أصحاب العَقَبة الأولى.
5. ... أصحاب العَقَبة الثانية وأكثرهم من الأنصار.
6. ... أول المهاجرين الذين وصلوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم بقباء قبل أن يدخل المدينة.
7. ... أهل بدر.
8. ... الذين هاجروا بين بدر والحُديبية.
9. ... أهل بيعة الرضوان في الحُديبية.
10. ... من هاجر بين الحُديبية وفتح مكة كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص.
11. ... مسلمة الفتح الذين أسلموا بعد فتح مكة.
12. ... صبيان وأطفال رأوا النبي صلى الله عليه و سلم يوم الفتح وفي حجة الوداع وغيرهما.[6]
2- المنزلة الرفيعة للصحابة(/1)
هناك اتفاق أو إجماع بأن الصحابة أفضل الناس بعد الأنبياء. فالأنبياء هم أصحاب الفضائل الكبرى، وليس في وسع أحد الوصول إلى مرتبتهم. ثم يأتي بعدهم الصحابة، ومع ذلك يمكن القول أن هناك صحابة يصلون في بعض الفضائل إلى مرتبة أنبياء بني إسرائيل وليس في جميع الفضائل. أكرر القول بأن بعض الصحابة قد يصلون في بعض الفضائل -وليس في كلها- إلى مرتبة بعض الأنبياء. وقد يقترب بعض الأولياء والأصفياء أمثال الشيخ الكيلاني والإمام الرباني ومحمد بهاء الدين النقشبندي في بعض الفضائل من بعض الصحابة على قاعدة “رجحان المرجوح على الراجح”، ولكن علماء الجمهور العظام أمثال أبي حنيفة والإمام الشافعي من الذين تنورت عقولهم وقلوبهم وأصبح كلامهم حجة في الدين يرون أن الفضيلة المطلقة تعود بعد الأنبياء إلى الصحابة الكرام[7] يقول الإمام الرباني السرهندي “فإنما حصل للأصحاب في أول صحبة خير البشر عليه وعلى آله الصلاة والسلام بطريق اندراج النهاية في البداية قلما يحصل لكُمَّل الأولياء في النهاية، ولهذا كان الوحشي قاتل حمزة رضى الله عنه أفضل من أويس القرني الذي هو خير التابعين لنيله صحبة النبي صلى الله عليه و سلم مرة واحدة. سئل عبد الله بن المبارك: أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: والله لَلغبار الذي دخل أنف فرس معاوية مع رسول الله صلى الله عليه و سلم خير من عمر بن عبد العزيز كذا مرة. فينبغي أن يتأمل في أنه إذا كان بداية جماعة بحيث اندرجت فيها نهاية غيرهم ماذا تكون نهايتهم، وكيف يسعها إدراك الآخرين؟”[8]
3- العوامل التي علت بمنزلة الصحابة
ما سبب المنزلة السامية للصحابة الكرام؟ أ- العلاقة بالرسالة
السبب الأول يعود إلى وجود علاقة بين الصحابة وبين نبوة ورسالة رسول الله صلى الله عليه و سلم. وبوفاة الرسول صلى الله عليه و سلم انسد باب النبوة، لذا لم يبق هناك سوى علاقة الولاية بين الرسول صلى الله عليه و سلم والأولياء الذين جاءوا من بعده. وبدرجة سمو النبوة على الولاية سمت مرتبة الصحابة على مرتبة الأولياء.
ب- موضوع الانصباغ
والثاني هو موضوع الانصباغ. فتواجد شخص في حضور شخص عظيم بضعة دقائق قد يفيده أكثر من قراءة مؤلفات ذلك الشخص العظيم لعدة ساعات. فالتواجد في المجلس شخصياً والاستفادة من الصحبة بشكل مباشر وقريب لاسيما إن كان هذا مجلس الرسول صلى الله عليه و سلم.. مثل هذه الصحبة لا تغني أي قراءة في كتاب ذلك، لأن الإنسان المحظوظ بتلك الصحبة يسمع الرسول صلى الله عليه و سلم ويرى حركات يده ونظرات عينيه ويحس بالجو الروحي المشع في مجلسه. ولن يستطيع أحد أن يصل إلى هذا الجو من قراءة الكتاب. صحيح أن كل شخص يستطيع أن يقرأ حول صلاة الرسول صلى الله عليه و سلم وكيف كان يقف للصلاة وكيف كان يركع ويسجد، ولكن لا يوجد كتاب يستطيع أن ينقل الجو الحقيقي لصلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم وزفرات صدره في أثنائها والخشوع الذي كان يأخذ بالباب مشاهديه. لن يستطيع أي كتاب أن ينقل هذا الجو أبداً، لذا فالذي لا يفهم معنى الانصباغ في جو هذه الصحبة لن يستطيع فهم الصحابة ولن يستطيع إدراك عظمتهم. فلبلوغ مرتبة الصحابة يجب تجاوز المكان والرجوع في الزمن 1400 سنة إلى الوراء والحضور في مجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم قائلاً له: فديتك يا رسول الله بأبي وأمي.
ج- ديمومة اتباع الحق
والثالث أن حياتهم خلت من الكذب حتى في المزاح. ويصعب فهم هذا في يومنا الذي يختلط بعض الكذب بكلام أصدق الناس. كانوا آنذاك حديثي العهد بالإسلام.. أسلموا فانتقلوا من الكذب إلى الصدق، ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق، ومن الظلام إلى النور، ولكي يصلوا إلى الجمال الذي وُعدوا به فقد ضحوا بأموالهم وأنفسهم عن طيب خاطر، وما كانوا على استعداد أن يفرطوا بهذه المنزلة التي حصلوا عليها بسعر غالٍ جداً. وهؤلاء الذين تحلقوا حول مقام الصدق لرسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا بعيدين عن مقام الكذب الذي كان مقام مسليمة الكذاب، وما كانوا يرضون لأنفسهم أبداً السقوط إلى تلك الهوة السحيقة.
أجل، لقد قطع الصحابة علاقتهم بدنيا الكذب وابتعدوا عنها وعن جميع المظاهر اللاأخلاقيه بسرعة على عزم أكيد بألا يرجعوا إليها مرة أخرى مهما كان الثمن.
وأظن أنه يصعب في أيامنا الحالية -التي راج فيها الكذب وسرى إلى السياسة واختلطت الأخلاق السيئة بالأخلاق الحميدة- فهم وإحساس هذا على الوجه الصحيح، لذا فمن الصعب فهم الصحابة وفهم عظمتهم الفهم الصحيح، وهذا قد يؤدي إلى خطأ كبير وهو خطأ حسبان الصحابة رجالاً مثلنا، أي عدم التمييز بين النجوم المتلألئة في السماء واليراع في الأرض.
د- الحيوية التي أوجدها الوحي(/2)
والعامل الرابع هو نزول موائد الوحي في عهد النبوة أمام الصحابة تترى، ففي كل يوم كانت هناك رسائل جديدة من مالك السموات والأرض ومن مليكهما، وكان الصحابة يتطهرون كل يوم بهذه الرسائل ويغتسلون بها. ففي يوم يشرع الأذان وفي يوم آخر تشرع إقامة الصلاة، وفي يوم آخر يشرع النكاح ويحدد بأربع نساء ويعلق بشرط، وفي يوم آخر يحرم الخمر وتلقى الأقداح على الأرض. هذه بعض الرسائل السماوية، فقد كانت هناك إشارات مبهمة أو صريحة يرونها في هذه الرسائل تتعلق بهم فمثلاً عندما يذكر الوحي: {محمد رسول الله} (الفتح: 29) ثم يذكر {والذين معه} كانت العيون تتجه إلى أبي بكر، وعندما ينزل الوحي {أشداء على الكفار} تتجه العيون إلى عمر بن الخطاب، وعندما يذكر الوحي {رحماء بينهم} تتجه الأنظار إلى عثمان بن عفان، وعند ذكر {من المؤمنين رجال صدَقوا ما عاهدوا الله عليه} (الأحزاب: 23) خطرت على القلوب بطولة أنس بن النضر واتجه نظر أنس بن مالك إلى قبر عمه أنس بن النضر. ويستدعي الرسول صلى الله عليه و سلم أُبيّ بن كعب ليقول له إن الله تعالى أمره أن يقرأ عليه سورة البينة التي تبدأ بالأية: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة} (البينة: 1) فسأله أُبيّ بن كعب مذهولاً: وهل ذكر أسمي يا رسول الله؟ فقال له الرسول صلى الله عليه و سلم: «نعم.»[9] وعندما تنزل الآية {فلما قضى زيد منها وَطَراً} (الأحزاب: 37) كان يرد اسم زيد في الوحي وهو من أوائل المسلمين.
أجل، كان الله تعالى يذكرهم، وكانوا يذكرون الله تعالى.. كانوا على اتصال دائم بالله تعالى اتصالاً يليق بجلاله وعظمته بوساطة الرسول صلى الله عليه و سلم الذي لو رأينا ظله في أحلامنا طرنا من السعادة أياماً. هكذا انسابت أيام حياتهم وفي ظل مثل هذه العلاقة والفهم والوعي والإدراك والبصيرة، وكان هذا هو مستوى الذين نقلوا إلينا السنة، فقد كان من المحال أن يمر الكذب على خاطر أحد منهم. وقد توثق القرآن والسنة وتم إرساؤهما على أساس متين وقوي من قبل مثل هؤلاء الصحابة بحيث استحال إجراء أي تغيير أو تبديل فيهما.
هـ- أخوتهم في المحن والشدائد
أسلم الصحابة ووقفوا بجانب الدعوة الإسلامية في أيامها الصعبة والحالكة. صحيح أن الوقوف اليوم أيضاً بجانب الإسلام يعد صعباً إلا أن تلك الأيام كانت أصعب وأحلك، وكان الإسلام آنذاك وحيداً وغريباً، ولكن الصحابة الكرام وقفوا بجانب دين الله وبجانب رسوله في تلك الأيام الحالكات، وينقل ابن عربي في كتابه “محاضرة الأبرار” كلام أبي بكر رضى الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجرّاح رضى الله عنه لينقله إلى علي بن أبي طالب رضى الله عنه الذي كان يصور حالهم في تلك الأيام إذ يقول معناه: “يا علي! عندما كنتَ أنت صغيراً لا تعقل بعدُ لم نكن نحن نجرؤ على الخروج إلا بعد أن نأخذ الموت بنظر اعتبارنا عدة مرات، وكنا عندما نخرج نتوقع على الدوام سيفاً يمرق فوق رؤوسنا، وما كان أحد ليجرأ على قول لا إله إلا الله إلا وقد أخذ في حسبانه أن خنجراً حاداً سيخترق جسده.”[10]
هذه هي الدرجة العالية التي بلغها هؤلاء الصحابة في الإسلام، لذا انفتحت أعين قلوبهم لعالم الحقائق في هبة واحدة. فعن أنس قال: إن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل المسجد والحارث بن مالك نائم فحركه برجله، قال: «ارفع رأسك»، فرفع رأسه فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه و سلم: «كيف أصبحت يا حارث بن مالك؟» قال: أصبحت يا رسول الله مؤمناً حقاً. قال: «إن لكل حقٍ حقيقة، فما حقيقة ما تقول؟» قال: عزفت عن الدنيا، وأظمأت نهاري وأسهرت ليلي وكأني أنظر إلى عرش ربي فكأني أنظر إلى أهل الجنة فيها يتزاورون وإلى أهل النار يتعاوون. فقال له النبي صلى الله عليه و سلم: «أنت امرؤ نوّر الله قلبَهُ، عرفتَ فالزم.»[11]
كان هذا هو مقدار قربهم من الله تعالى، لذا أصبح الله تعالى -كما ورد في حديث قدسي- بصرهم الذي يبصرون به وسمعهم الذي يسمعون به وألسنتهم التي ينطقون بها، وأيديهم التي يبطشون بها.[12]
4- الصحابة في القرآن(/3)
يقول الإمام ابن حزم مثل كثير من الأئمة والمجتهدين إن جميع الصحابة من أهل الجنة.[13] ووجود العشرة المبشرين بالجنة بينهم وهم على قيد الحياة يدل على حيازتهم على نسبة وعلى حصة معينة من الجنة، وهناك أدلة عديدة تؤيد هذا الرأي في القرآن وفي السنة. ففي القرآن مثلاً نجد هذه الآيات في أواخر سورة الفتح {محمد رسول الله}، فأكبر حقيقة بعد الإيمان بالله هي حقيقة أن محمداً صلى الله عليه و سلم هو الرسول الذي أرسله للناس كافة. {والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يُعجب الزراعَ ليغيظ بهم الكفّار وعد الله الذي آمنوا وعملوا الصالحاتِ منهم مغفرةً وأجراً عظيماً} (الفتح: 29).
فما هو هذا الأجر العظيم الذي وعدهم الله تعالى؟ لا يصرح القرآن بماهية هذا الأجر لأنه يريد أن يكون لهم مفاجأة في فردوس فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.[14]
عن أنس رضى الله عنه: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت: يا رسول الله! قد عرفتَ منزلة حارثة مني، فإن يكُ في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع. فقال: «ويحكِ أَوَ هبلتِ؟ أَوَ جنةٌ واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة وإنه لفي جنة الفردوس.»[15]
كان هذا صحابياًّ شاباًّ من عامة الصحابة آمن فيما بعد، فإذا كان يحوز الفردوس -وهو أرفع درجات الجنة- فما بالك بكبار الصحابة الذين نقلوا إلينا السنة النبوية والحقيقة الأحمدية، وما بالك بمن يسند إليهم الكذب أو يراهم من أهل النار! ترى إلام يقود هذا الرأى؟
يقول القرآن الكريم أيضاً: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} (التوبة: 100). وسيقول الله تعالى لكل نفس منهم: {يا أيتها النفس المطمئنة ` اِرجعي إلى ربك راضية مرضية ` فادخلي في عبادي ` وادخلي جنتي} (الفجر: 27-30). أجل، إن الله تعالى راضٍ عنهم ولو لم يرض عنهم البعض، وهم وإن استكثروا عليهم الجنة إلا أن الله {وأَعَدّ لهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} (التوبة: 100).
ترك المهاجرون ديارهم وبيوتهم وأوطانهم وهاجروا.. وقبل ذلك تركوا رغباتهم النفسية وهجروها.. هاجروا من المعصية إلى الطاعة، ومن رغبات النفس إلى صفاء الروح ومن مكة إلى المدينة. أما الأنصار فهم الأبرار الذين فتحوا لهم قلوبهم وصدورهم وبيوتهم، ولكي ندرك مدى احتضانهم لإخوانهم المهاجرين يكفي قراءة هذه الحادثة:
آخى رسول الله صلى الله عليه و سلم بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، فأخذ سعد أخاه عبد الرحمن إلى بيته وكانت له امرأتان فعرض عليه أن يناصفه أهلَهُ ومالَه فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دُلَّوني على السوق. فأتى السوقَ فربح شيئاً من أقِطٍ وشيئاً من سَمْنٍ.[16] أجل، كان هذا هو نوع ونمط احتضانهم لإخوانهم.
ومثال آخر نراه في قصة الصحابي أبي هريرة رضى الله عنه الذي جاء من دَوْس وأسلم ولازم الرسول صلى الله عليه و سلم يستمع إليه لكي ينقل لنا السنة فيما بعد، كان يصوم نهاره ويقوم ليله،[17] وكان جائعاً أكثر أوقاته، وقد يبلغ به الجوع درجة كبيرة، فيبدأ يتلوى من الألم ومن ينظر إليه يحسبه مجنوناً، إذ يقول رضى الله عنه: “لقد رأيتني أُصرَع بين منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين حجرة عائشة فيقول الناس: إنه لَمجنون، وما بي جنون، وما بي إلا الجوع.”[18] ولم يكن أبو هريرة وحده يقاسي الفقر والجوع، بل كان هناك آخرون، ففي رواية عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: أتى رجل رسولَ الله صلى الله عليه و سلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد، فأرسلَ إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «ألا رجل يُضيّف هذه الليلة يرحمه الله؟» فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيف رسول الله، لا تدّخريه شيئاً. فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصِّبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالَيْ فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. ففعلتْ ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: «لقد عجب الله عز و جل -أو- ضحك من فلان وفلانة فأنزل الله عز و جل: {ويُؤْثرون على أنفسهم ولو كان بهم خَصاصة} (الحشر: 9).»[19]
أجل، لقد أحرزوا مستوى سامياً لا يخطر على خيال إنسان هذا العصر. كانت قلوبهم نقية طاهرة، ونفوسهم خالية من العوج، لذا أعلن الله تعالى عن رضاه عنهم وهم لا يزالون على قيد الحياة. فقد كانوا مؤمنين بحق، والله يحب المؤمنين ويرضى عنهم لذا، قال عنهم: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً} (الفتح: 18).(/4)
لم يتراجع الصحابة الكرام عن عهدهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولا عن بيعتهم التي بايعوه ولا عن عهدهم مع الله تعالى، بل صدقوا ما عاهدوا الله عليه وبرهنوا على صدقهم هذا في كل حادثة وأمر، والقرآن الكريم يمدحهم ويخلد صدقهم هذا فيقول: {من المؤمنين رجال صدَقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً} (الأحزاب: 23).
أجل، لقد عاهدوا على أن يبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله وفي سبيل الحصول على جنته وعلى رضوانه، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه فاستشهد قسم منهم في المعارك ولم يتراجعوا ولم يهربوا في القتال. فها هو حمزة يستشهد في معركة أُحد ويرقى إلى مرتبة سيد الشهداء. وها هو أنس بن النضر يستشهد في أحد أيضاً ويلقى ربه. وها هو عبد الله بن جحش ومصعب بن عمير وعشرات غيرهم استشهدوا في بدر وفي أُحد. استشهد هؤلاء وبقي وراءهم آخرون ينتظرون دورهم في الشهادة ويبحثون عنها، منهم أبو عقيل.. انتظر الشهادة في أُحد ثم انتظرها في فتح مكة، ثم انتظرها في معركة مؤتة، وأخيراً لقيها في معركة اليمامة.
لم يغيروا عهدهم الذي قطعوها على أنفسهم مع الله تعالى، ولم يتغيروا.. كانوا في اليوم الأخير من حياتهم مثل أول يوم عهدهم.. لم تغيرهم الدنيا ولم تفتنهم، ولم تلههم الشهوات، بل بقوا رجالاً صناديد حتى تمزقت أستار الظلام من قبل قافلة النور.
5- الصحابة في الأحاديث الشريفة
لقد خلد القرآن الكريم ذكرى الصحابة -الذين كانوا القنوات الطاهرة التي نقلت إلينا السنة- بثنائه عليهم. والآن لنطلع على الأحاديث الشريفة في حق الصحابة الكرام وكيف أثنت عليهم:
أ- جاء في رواية وردت في صحيح البخاري وصحيح مسلم وغيرهما من كتب الأحاديث الصحيحة عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه -وهو من شباب الصحابة الذين وقفوا أنفسهم لحفظ الحديث مثل أبي هريرة رضى الله عنه- جاء في هذه الرواية: «لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً، ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه.»[20]
ذلك لأنهم دافعوا عن الإسلام في أحلك وفي أصعب أيامه، لذا فأي قدح في حقهم لا يليق بأي مسلم، لذا فلا نستطيع نحن صرف أي كلام غير مناسب في حق الصحابة مثلما فعل منتسبو بعض المذاهب الباطلة بالأمس أو مثلما يفعل الآن بعض المستشرقين الذين أصبحت عداوة الإسلام دينهم، وبعض مقلديهم من المسلمين المساكين الذين أذهلهم التقدم المادي للغرب فأصبح هؤلاء المستشرفين قبلتهم ومحرابهم.
ب- يروي الترمذي عن عبد الله بن مغفَّل رضى الله عنه: «اللهَ اللهَ في أصحابي، اللهَ اللهَ في أصحابي. لا تتخذوهم غَرَضاً بعدي، فمن أحبهم فَبحبي أحَبّهُمْ ومن أبْغَضَهم فببغضي أبْغضَهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه.»[21]
ج- وعن الإمام مسلم أيضاً:
«النجومُ أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجومُ أتى السماءَ ما تُوعَدُ. وأنا أمنةٌ لأصحابي فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعَدون، وأصحابي أمَنةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمّتي ما يُوعدون.»[22]
فكما تنتثر النجوم عند قيام الساعة كحبات المسبحة، كذلك يعد الرسول صلى الله عليه و سلم رأس المسبحة بالنسبة لأصحابه، وأصحابه رأس المسبحة بالنسبة لأمته، لذا كان الرسول صلى الله عليه و سلم ضرورياً لانتظام صحابته، وصحابته يشكلون ضرورة لنظام أمته بأوليائها وأصفيائها وأبرارها.
د- يقول الرسول صلى الله عليه و سلم في حديث رواه البخاري ومسلم وأصحاب الكتب الصحاح للحديث: «خير الناس قَرْني ثم الذين يلونهم ثم الذي يلونهم ثم يتخلف من بعدهم خلف تسبق شهادة أحدهم يمينهُ، ويمينُهُ شهادته.»[23] ثم جاء عصر الكذب، عصر خلف الوعد حيث تسبق الشهادة اليمينَ ويسبقُ اليمين الشهادة.
أما عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين فقد كان عصراً بعيداً عن الكذب ومبرأ منه، وبعد عصر تابعي التابعين ظهر الكذب فظهرت فرق المعتزلة والمرجئة والمشبّهة ثم انتشر الكذب، واليوم ساد الكذب بين المستشرقين الذين أسندوا الكذب إلى الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، وتابعهم في هذا بعض المنذهلين بالغرب من المسلمين.
هـ- يقول ابن مسعود رضى الله عنه -الذي قال في حقه عمر بن الخطاب لأهل الكوفة بأنه آثرهم على نفسه عندما أرسل لهم هذا الصحابي[24]-: “إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه و سلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه و سلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه.”[25] اختار له أصحاباً أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجرّاح وغيرهم.(/5)
و- كما ينقل أبو نعيم في كتابه الحلية عن عبد الله بن عمر: “من كان مُستناًّ فليستَنّ بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم كانوا خير هذه الأمة، أبرّها قلوباً، أعمقها علماً وأقلها تكلّفاً، قومٌ اختارهم الله لصحبةِ نبيه صلى الله عليه و سلم ونقلِ دينه، فتشبهو بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم كانوا على الهُدى المستقيم والله رب الكعبة.”[26]
ز- ويروي صاحب الحلية أيضاً عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: “أنتم أكثر صياماً وأكثر صلاةً وأكثر اجتهاداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم كانوا خيراً منكم.” قالوا: لِمَ يا أبا عبد الرحمن؟ قال: “هم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة.”[27]
6- المكثرون من الصحابة
أكثر من تعرض لهجوم المستشرقين وهجوم تابعيهم ومقلديهم هم الصحابة المكثرون من رواية الحديث وعلى رأسهم أبو هريرة رضى الله عنه.
لقد انتقل الدين إلينا بوساطة الصحابة الكرام، لذا فأي تعرض لهم يعد تعرضاً لديننا. ولكون الأمانة في عهدتنا الآن لذا، يتحتم علينا حفظ هذه الأمانة أي حفظ ديننا من أي هجوم أو تعرض. لقد أدى الصحابة الكرام مهمتهم على أتم وجه، وانقضت حياتهم في عهد كان بعيداً عن كل طعن وتشهير. والحقيقة أنهم لا يحتاجون إلى من يدافع عنهم، ولكننا نريد البرهنة على تهافت هذا العذر، لأن الهدف من الهجوم على هؤلاء الصحابة هو النيل من ديننا في الأساس.
لقد انقضت العصور الأولى للتاريخ الإسلامي في نقاء وطهر، ولكن ما إن دخلت التيارات الفلسفية والتفكير الأجنبي بين المسلمين حتى ظهرت المذاهب الباطلة أمثال الجبرية والمرجئة والمعتزلة والمشبهة، وسلك أصحاب هذه المذاهب طريق اختراع الأحاديث لتأييد أهوائهم ومسالكهم، وكذلك الهجوم على الصحابة الذين رووا أحاديث رأوها مخالفة لمشاربهم الباطلة. لذا، نرى بعض أئمة المعتزلة كالنظّام وبعض أئمة الشيعة كأبي إسحاق وهم يهاجمون بعض أعمدة رواة الحديث من كبار الصحابة أمثال أبي هريرة رضى الله عنه الذين قضوا حياتهم -كأي صحابي آخر- في شرف واستقامة وأصبحوا من مفاخرنا. لذا، فلأهمية هذا الموضوع فسنتناول بتعريف قصير لهؤلاء الصحابة بادئين بأبي هريرة وابن عباس وابن عمر وابن مسعود رضى الله عنه جميعاً.
أ- أبو هريرة رضى الله عنه
هو من قبيلة دَوْس اليمنية، أسلم في بداية السنة السابعة للهجرة وهاجر إلى المدينة ونال شرف البقاء بجانب رسول الله صلى الله عليه و سلم أربع سنوات. فعندما أسلم طُفيل بن عمرو رئيس قبيلة دوس رجع إلى قبيلته وكأنه شعلة من نور فأسلم على يديه الكثير من أفراد قبيلته، وكان أبو هريرة منهم حيث هاجر إلى المدينة بعد إسلامه.[28]
عندما وصل أبو هريرة رضى الله عنه إلى المدينة كان رسول الله صلى الله عليه و سلم على أبواب خيبر، فأسرع أبو هريرة والتحق بجيش الرسول صلى الله عليه و سلم في خيبر. سأله الرسول صلى الله عليه و سلم عن اسمه فقال: عبد الشمس. فأخبره الرسول صلى الله عليه و سلم بأن الإنسان لا يكون عبداً للشمس ولا للقمر بل يكون عبداً لله، لذا سماه عبد الرحمن. ولكنه عُرف على الأكثر باسم أبي هريرة، ذلك لأن الرسول صلى الله عليه و سلم رآه مرة وفي حجره قطة صغيرة فقال له: «يا أبا هريرة!» حيث عرف بهذا الاسم فيما بعد. وكان يفضل أن يدعوه الناس أبا هرّ لأنه كان فقيراً معدماً لايملك شيئاً، كما أن الرسول صلى الله عليه و سلم دعاه مرة وهو في إحدى لحظاته السعيدة بأبي هرّ. وتفضيله أن يخاطبه الناس باسمه هذا دليل على مدى ارتباطه برسول الله صلى الله عليه و سلم وحبه له.[29]
أسلم أبو هريرة ولكن كانت لديه مشكلة يعدها مشكلة كبيرة، وهي أن أمه لم تكن قد أسلمت بعد، كان يحس بدَيْن كبير نحو والدته التي ربته وهو يتيم، فكان يتمنى اهتدائها للإسلام ويحاول ذلك لكي يوفيها جزءاً من دينها عليه، لذا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وطلب منه أن يدعو الله لكي يهديها إلى الإسلام وإلى نطق شهادة لا إله إلا الله.(/6)
ففي رواية عنه: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أكره. فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا أبكي. قلت يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «اللهم اهدِ أم أبي هريرةَ» فخرجتُ مسبتشراً بدعوة نبي الله صلى الله عليه و سلم. فلما جئتُ فَصِرْتُ إلى الباب فإذا هو مجافٌ (أي مغلق) فسمعتْ أمي خَشْفَ (أي صوت) قدميّ فقالت: مكانَك! يا أبا هريرة! وسمعت خضخضة الماء. قال: فاغتسلتْ ولبست درعها وعَجِلَتْ عن خمارها ففتحتِ البابَ. ثم قالت: يا أبا هريرة! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه. قال: فرجعْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتيته وأنا أبكي من الفرح. قال قلت: يا رسول الله! أبشر قد استجابَ الله دعوتَكَ وهدى أم أبي هريرة. فحمدالله وأثنى عليه خيراً. قال: قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «اللهم حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هذا -يعني أبا هريرة- وأمّهُ إلى عبادك المؤمنين وَحَبّبْ إليهم المؤمنين.»[30] أجل، إن المؤمنين يحبون أبا هريرة، أما من لا يحبه فندع حكم ذلك للقارئ.
لازم أبو هريرة رضى الله عنه النبي صلى الله عليه و سلم ليلاً ونهاراً. كان من دهاة الحفظ عن ظهر قلب. في الليل كان ينام ثلثه ويتعبد الله في ثلثه ويصرف الثلث الأخير في تذكر الأحاديث التي سمعها ويكررها في قلبه. وأصبح في الوقت نفسه عالماً وفقيهاً وحافظاً للحديث، دعا مرة في المسجد فقال: اللهم إني أسألك علماً لا يُنسى. فسمعه الرسول صلى الله عليه و سلم وقال: «آمين.»[31]
ولا شك أن لدعاء الرسول صلى الله عليه و سلم له بالحفظ كان له أثر في قوة حفظه، وفي أحد الأيام قال أبو هريرة قلت لرسول الله صلى الله عليه و سلم: يا رسول الله صلى الله عليه و سلم إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه. قال: «ابسط رداءك» فبسطته، فغرف بيديه ثم قال: «ضُمَّه.» فضممته فما نسيت شيئاً بعده.[32]
وعندما قيل له إنه يكثر من رواية الأحاديث قال: “إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل من أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه و سلم بشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون.”[33]
كانت هذه هي الحقيقة.. لازم رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يفارقه. كان يبقى جائعاً لعدة أيام، وكان يصوم صوم الوصال، أي أنه عندما لايجد شيئاً يفطر عليه يجدد صيامه، وهكذا كان يواصل صومه لثلاثة أو أربعة أيام.[34] كان يتلوى أحياناً من الجوع ويتقلب على الأرض من الألم فيحسبه الناظر أن به صرعاً،[35] وكان أحياناً يقول لمن يراه أو يمر به استقرأتُك ويأتي هذا بمعنى: هل تقرأ لي القرآن؟ لم يكن أحد -في أكثر الأحيان- يفهم له سوى جعفر الطيار، لذا كان بعضهم يقرأ له بعض الآيات ثم ينصرف عنه، بينما فهم جعفر الطيار مرامه من هذا السؤال فأخذه إلى بيته وأطعمه.[36]
وكما كان جعفر رضى الله عنه يُطعم أبا هريرة، كان الرسول صلى الله عليه و سلم يطعمه أيضاً كلما تيسر له ذلك. لم ينس أبو هريرة رضى الله عنه شيئاً سمعه من الرسول صلى الله عليه و سلم، نقل كل ما سمعه منه إلينا ليخلد أقواله إلى يوم القيامة، وكان أبو هريرة يقول: لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا ثم يتلو: {إن الذين يكتمون ما أنزلناه من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ` إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} (البقرة: 159-160).[37]
لولا هذا لما روى أي رواية عن الرسول صلى الله عليه و سلم ويكفي لهذا الصحابي النقي الصحيفة والخفيف الدم والذي كان صاحب نكة أيضا مكوثه أربع سنوات مع شخص عظيم مثل رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي كان يحب أصحاب السلوك العالي وعدم استغراب أحد قربه هذا منه صلى الله عليه و سلم.. يكفيه هذا للدلالة على مدى علوه على ما اعتقد، ولا يدرك معنى هذا إلا الشخص الذي جرّب أن يكون قريباً من شخص عظيم.
لم يكن للصحابة الكرام موقف سلبي من أبي هريرة كما يدعي البعض. فعندما روى عنه أبو أيوب الأنصاري رضى الله عنه -الذي كان من أوائل من بايع رسول الله صلى الله عليه و سلم في العَقَبة والذي نال شرف استضافته في بيته والضيف العزيز لمدينة إسطنبول-[38] قال أبو الشعثاء: قدمت المدينة فإذا أبو أيوب يحدث عن أبي هريرة رضى الله عنه فقلت: تحدث عن أبي هريرة وأنت صاحب منزلة عند رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ فقال: لأن أحدث عن أبي هريرة أحب إلي من أن أحدث عن النبي صلى الله عليه و سلم.[39](/7)
لم يكن أبو أيوب الأنصاري وحده هو الذي روى الحديث عنه، بل روى عنه أيضاً عبد الله بن عمر وحبر الأمة عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله الأنصاري وأنس بن مالك وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة الأجلاء الذين يعدون أعمدة الحديث. كما روى عنه من التابعين العظام العديد من الأئمة الذين لهم اليد الطولى في الحديث أمثال الحسن البصري وزيد بن أسلم، وصهره سعيد بن المسيب، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن يسار، وسليمان بن يسار، والشعبي، وهَمّام بن مُنَبِّه، ومحمد بن المنكدر المعروف بالبكاء، وغيرهم، من مئات الأعلام.[40]
1- عمر بن الخطاب وأبو هريرة رضى الله عنها
كان عمر بن الخطاب يحبه جداً، لذا عينه والياً على البحرين ثم عزله وأرسل غيره مكانه، وقد يكون سبب العزل اشتغال أبي هريرة بالتجارة وكسبه رأسمالاً بقدر رأسمال شخص فقير في أيامنا الحالية، غير أن الولاة والإداريين والخلفاء آنذاك لم يكونوا يملكون شيئاً.. فكثير من الولاة كانوا يذهبون إلى الولايات التي تم تعيينهم فيها وهم لا يملكون سوى قربة مملوءة بالماء ويرجعون أيضاً كما ذهبوا. ومن شذ عن هذه القاعدة كان كثيراً ما يعزل. ولم يجمع أبو هريرة رأسماله الصغير هذا عن طريق الرشوة أو عن طريق سوء استغلال سلطته، وعندما تبين لعمر بن الخطاب رضى الله عنه هذا الأمر ثم دعاه ليستعمله فأبى فقال: لقد طلب العمل من كان خيرا منك، قال: إنه يوسف نبي الله بن نبي الله وأنا أبو هريرة بن أميمة، وأخشى ثلاثا: أن أقول بغير علم أو أقضي بغير حكم ويضرب ظهري ويشتم عرضي و ينزع مالي.[41]
ولم يعزل عمر بن الخطاب أبا هريرة وحده، بل قام أيضاً بعزل سعد بن أبي وقّاص وهو من بين العشرة المبشرة بالجنة وعمير بن سعد الذي كان من متقدمي الصحابة من وظائفهم. حتى أن أهل الكوفة عندما شكوا سعد بن أبي وقّاص إلى عمر قالوا إنه لا يحسن يصلي، فاستدعاه عمر وحقق معه، وقد حزن سعد بن أبي وقّاص وقال: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أَخْرِم عنها. أصلي صلاة العشاء فأركد في الأولَيَيْنِ وأخِفّ في الأخْرَيينِ.[42] ثم قال مستعرضاً تاريخ إسلامه: إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، والله إن كنا لَنغزو مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ما لنا طعام إلا ورق الحُبْلة،[43] وهذا السَمُر حتى إن أحدنا لَيضع كما تضع الشاة ما له خِلْطٌ، ثم أصبحت بنو أسد تُعزّرُني[44] على الدين، لقد خبتُ إذاً وضل عملي.[45]
أجل، قال سعد بن أبي وقّاص هذا ورفض العودة مرة ثانية إلى الكوفة،[46] لذا، فلم يكن أبو هريرة رضى الله عنه هو الشخص الوحيد الذي تم عزله والذي لم يرغب في الرجوع إلى إمارته مرة أخرى.
2- علي وأبو هريرة رضى الله عنها
لم يكن لا علي ولا عثمان رضى الله عنه ضد أبي هريرة رضى الله عنه كما ادعى البعض. صحيح أن أبا هريرة عندما يحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله: “قال خليلي، وسمعت خليلي” اعترض عليه علي بن أبي طالب قائلاً له: متى كان خليلك؟[47]
بدا هذا الاعتراض من علي رضى الله عنه بكل ما في قلبه من صفاء وإخلاص، لأنه لم يجده ملائماً مع أنه لا يستغرب من أي شخص أن يصف شخصاً حبيباً إلى قلبه بأنه كان “خليله.” ولكن شخصاً مثل علي رضى الله عنه الذي نشأ في حجر النبوة والذي كان أسبق السابقين إلى الإسلام يستطيع قول هذا لأبي هريرة رضى الله عنه، فبين الأنداد والأمثال يمكن جريان مثل هذا الحديث أو العتاب، ولكن لا يحق لأحد أدنى منهم أن يتفوه بمثل هذا الكلام في حقهم. ثم إن عليّا رضى الله عنه لم يقل هذا الكلام بقصد الطعن في أبي هريرة رضى الله عنه، لذا فتفسير مثل هذا الكلام كطعن فيه يعني عدم معرفة ما هو الطعن وما هو ليس بطعن.
3- الأمويون وأبو هريرة رضى الله عنه
لم يكن أبو هريرة رضى الله عنه معارضاً لعلي رضى الله عنه ومداهنا وحليفاً لبني أمية كما ادعى البعض، فعندما ظهرت الفتن ذكر أبو هريرة رضى الله عنه الحديث التالي ونشره في جميع أنحاء البلاد: «ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن تشرَّف لها تستشرِفْه، فمن وَجد فيها ملجأ أو مَعاذا فلْيَعُذْ به.»[48](/8)
كان هذا اجتهاده.. لعله كان من الواجب عليه الانضمام إلى صف علي رضى الله عنه لإخماد الفتنة، ولعل حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكن يعني تلك الفتنة، ولكنه استخرج هذا المعنى من هذا الحديث. كذا لم يشترك في الحوادث التي جرت في عهد علي رضى الله عنه وفضل الجلوس في بيته، ولو لم يملك صلابة في الإيمان وخشية من الله تعالى ما تصرف هكذا، ولو كان من أنصار الأمويين ومن المعجبين بمعاوية لما كان هناك أي سبب يحول بينه وبين الاشتراك بجيش الأمويين. والذين ادعوا العكس أمثال “غولتسهر (Goldziher)” وأحمد أمين وأبي ريّة وعلي عبد الرزاق من الذين حاولوا قلب الحقائق كانوا يعتمدون كمصدر على كتاب “العقد الفريد” الذي هو كتاب أدبي وليس كتاباً في الحديث. لذا، فالواجب أولاً أن يتعلم هؤلاء كيف يراجعون المصادر عند قيامهم ببحوثهم.، والغريب أن هؤلاء ادعوا أن ابن كثير ذكر في كتابه البداية والنهاية أن أبا هريرة التزم جانب معاوية رضى الله عنه ضد علي رضى الله عنه، بينما يذكر ابن كثير عكس هذا تماماً في كتابه هذا، فلم يكن أبو هريرة كما يقول ابن كثير من أنصار الأمويين بل كان على العكس تماماً مشكلة كبيرة بالنسبة إليهم.[49] إذ وقف أمام مروان والد عبد الملك وروى له حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم: «هلكة أمتي على يدي غِلْمةٍ سفهاء من قريش.» فقال مروان: لعنة الله عليهم غِلْمةً. فقال أبو هريرة: لو شئتُ أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلتُ. ويقول الراوي -وهو عمرو بن يحيى-: فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام فإذا رآهم غلماناً أحداثاً قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم.[50] وكان يسير في الدروب وهو يدعو الله: “اللهم لا تدركني سنة ستين” أي يدعو الله أن لا يريه حكم الغلمان.[51] واشتهر دعاؤه هذا بين الناس حتى أن الكثيرين ممن رأوا أبا هريرة بدأوا يدعون بدعائه هذا. وقد استجاب الله لدعاء أبي هريرة فتوفاه سنة 59 للهجرة وفي سنة ستين للهجرة انتقل الحكم إلى غلام من الغلمان إذ تولى يزيد الحكم.
4- عائشة رضى الله عنها وأبو هريرة
أما ادعاء البعض بقيام أمنا عائشة رضى الله عنها بنقد ومعارضة أبي هريرة فادعاء يشبه الاستشهاد المبتور بالآيات مثل {لا تقربوا الصلاة} (النساء: 43) أو {فويل للمصلين} (الماعون: 4). فأمنا عائشة رضى الله عنها كانت تصلي في غرفتها فسمعت أبا هريرة رضى الله عنه في المسجد الملاصق لغرفتها وهو يروي الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه و سلم وبعدما أنهت صلاتها ذهبت لترى أبا هريرة، ولكنها لم تره لأنه كان قد انصرف، فقالت لعروة بن الزبير: ألا يعجبك أبو هريرة! جاء فجلس إلى جنب حُجرتي يحدث عن النبي صلى الله عليه و سلم يُسمعني ذلك وكنت أسبّح[52] فقام قبل أن أقضي سُبْحتي ولو أدركته لَردَدتُ عليه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكن يَسْرُدُ الحديث كسردكم.[53]
والظاهر أنها كانت تريد الإشارة إلى وجوب الاقتصاد في رواية الأحاديث وعدم سردها الواحد تلو الآخر لكي يبقى أثر كل حديث من هذه الأحاديث المباركة في ذاكرة المستمعين ويُنقش فيها.
5- أبو حنيفة وأبو هريرة
يقال أن أبا حنيفة قال بأنه لا يعد كلام ثلاثة من الصحابة حجة منهم أبو هريرة.
لا يمكن صدور مثل هذا الكلام عن مثل هذا الإمام الكبير، إذ لا يليق ذلك به أبداً. ولو صدر منه مثل هذا الكلام لما قال العلامة الكمال بن الهُمام صاحب “الفتح القدير” الذي يعد من كبار أئمة المذهب الحنفي: إن أبا هريرة من كبار الفقهاء. أجل، إن عالماً كبيراً مثل ابن الهُمام لم يكن ليقول مثل هذا الكلام في حق أبي هريرة لو أن إمام مذهبه قال عنه أنه لا يقبل كلامه حجة. ثم لا يقول لنا أحد أين قال أبو حنيفة مثل هذا الكلام.
روى أبو هريرة أكثر من خمسة آلاف حديث، ولو جمعت هذه الأحاديث في كتاب لكان حجمه أكبر من حجم القرآن بمرة ونصف، وكما نعلم هناك العديد من الناس ممن حفظوا القرآن الكريم في ستة أشهر، لذا فاتهام صحابي ذكي ذي ذاكرة قوية مثل أبي هريرة رضى الله عنه بأنه لم يكن باستطاعته حفظ كل هذه الأحاديث في ظرف أربع سنوات قضاها ملازماً للرسول صلى الله عليه و سلم إنما هو اتهام لصحابي كبير وذكي بالحمق. ثم إن الأحاديث التي رواها لم تكن جميعها مما سمعها عن الرسول صلى الله عليه و سلم، بل روى الكثير من الأحاديث التي سمعها عن أبي بكر وعمر وفضل وأُبيّ بن كعب وعائشة رضى الله عنه أجمعين.
ثم إن أبا هريرة امتحن حتى في عهده فقد أمر مروان كاتبه أن يسجل سراً مئات من الأحاديث التي كان يرويها أبو هريرة رضى الله عنه، وبعد مرور سنة كاملة طلب مروان من أبي هريرة أن يحدثه بتلك الأحاديث، فبدأ أبو هريرة بعد قراءة البسملة بسرد تلك الأحاديث فوجدها متطابقة مع الأحاديث التي سبق وأن استكتبها كلمةً كلمةً وحرفاً حرفاً.[54] لذا، فكما خجل متهمو أبي هريرة بالأمس فسيكون الخجل نصيب متهميه اليوم وغداً أيضاً.(/9)
ب- حبر الأمة عبد الله بن عباس رضى الله عنه
ولد قبل الهجرة بأربع أو خمس سنوات، وعندما التحق الرسول صلى الله عليه و سلم بالرفيق الأعلى كان عمره يتراوح بين 14- 15 سنة، وهذا يعني أنه في سنواته الأربعة أو الخمسة الأخيرة كان في عمر يستطيع فيه فهم ما يسمعه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، وقد فهم واستوعب الشيء الكثير في هذه السنوات، فقد دعا له الرسول صلى الله عليه و سلم قائلاً: «اللهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل»،[55] وقد بلغ في العلم وهو في تلك السن مبلغاً لقّب معه بحبر الأمة وبحر وترجمان القرآن.[56]
كان مليحاً جميل الوجه بليغاً يسحر قلوب سامعيه، ذا قامة طويلة تقرب من مترين -مثل والده- حلو الشمائل يمثل السلالة الهاشمية أصدق تمثيل،[57] وكان ذا ذاكرة قوية بحيث أنه استطاع أن يحفظ ثمانين بيتاً من شعر عمر بن أبي ربيعة الذي كان مطلعه:
أمِنْ آلِ نُعْمٍ أنت غادٍ فمُبْكِرٌ غداة غدٍ أم رائح فمُهَجِّرٌ
حفظ ثمانين بيتاً من هذا الشعر من سماعه له مرة واحدة فقط.[58] وإلى جانب التفسير والفقه والحديث كان ضليعاً في الأدب والشعر ولاسيما الشعر الجاهلي، ويورد ابن جرير الطبري في تفسيره في تفسير كل آية تقريباً بيتاً من الشعر الجاهلي أورده ابن عباس.
كان محط الأنظار في عهد أبي بكر الصديق رضى الله عنه، أما في عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقد أختير على الرغم من صغر سنه إلى “مجلس الشورى” الذي كان يتكون من كبار شيوخ الصحابة. وعندما استغرب بعض شيوخ الصحابة اشتراكه مع صغر سنه -مع أن لهم أبناء مثله- قرأ عمر بن الخطاب رضى الله عنه سورة النصر في مجلس الشورى وسأل الحاضرين عن معناها، فقالوا إن معناها أنه إذا جاء نصر الله والفتح وأقبل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فعلينا أن نسبح بحمد الله ونشكره. ولكن عمر بن الخطاب رضى الله عنه لم يعجبه هذا فسأل ابن عباس عن معنى الآية فقال: “هو أجل رسول الله أعلمه له، قال {إذا جاء نصر الله والفتح} (النصر: 3) وذلك علامة أجلك، {فسبِّحْ بحمد ربك واستغفره إنه كان توّاباً} (النصر: 3).” فقال عمر رضى الله عنه: “ما أعلم منها إلا ما تقول.”[59]
اشتهر ابن عباس بفراسته وكياسته وفطنته، وهو من نفس الشجرة المباركة التي جاء منها الرسول صلى الله عليه و سلم، وكان يفخر بهذا وله الحق في ذلك فكان يقول: “لقد نشأنا في بيت النبوة.” وكان صاحب كمالات، وعندما كان يدخل إلى مجلس يقوم الجالسون احتراماً وتوقيراً له فكان ينزعج من هذا كثيراً، فكان يقول للأنصار جملة أصبحت مثالاً لقاعدة في النحو وهي “بالإيواء والنصر إلا جلستم” أي أعزم عليكم بما قمتم من إيواء ونصر للنبي صلى الله عليه و سلم وللمهاجرين أن تجلسوا.
وعلى الرغم من ذلك كان ابن عباس يمسك بركاب جواد زيد بن ثابت رضى الله عنه عندما يمتطي جواده فينزعج زيد بن ثابت رضى الله عنه ويقول: لا تفعل يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم، فيقول ابن عباس رضى الله عنه: “هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا.” فيسرع زيد بن ثابت ويقبّل يد ابن عباس قائلاً: “وهكذا أُمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا .”[60]
هناك نافذة في الحياة الاجتماعية يتراءى منها كل شيء، ويشاهد من خلالها الشيء الكثير، فالشخص العظيم يكون متواضعاً، يحاول أن يخفي عظمته، أما الشخص القزم فيحاول أن يتطاول ويبدو عظيماً فيتكبر، فالتواضع علامة عند العظام على عظمتهم، والغرور علامة الصغر عند الصغار، وكان ابن عباس عظيماً ومتواضعاً بدرجة عظمته.
كان له طلاب في كل ساحة من ساحات العلم. وقد ذكر بعض كبار أئمة التابعين أمثال سعيد بن جبير ومجاهد بن جَبْر وعكرمة بأنهم مدينون بعلمهم إليه. وبلغ عدد الأحاديث التي رواها هذا الصحابي الذي نشأ بالقرب من الرسول صلى الله عليه و سلم 1600 حديثاً. لذا، ألا يُعد إثارة الشبهات حول الأحاديث التي رواها والزعم بأنها أحاديث مختلفة أخذها من كعب الأحبار.. ألا يُعد هذا الزعم تهويناً من الدعاء الذي دعا الرسول صلى الله عليه و سلم له وإهانة للأمة ولأئمة التابعين الذين لقبوه بحبر الأمة والبحر وترجمان القرآن؟
كان ابن عباس يكره أن يقوم له الناس، ولكن عندما دفن قام الكثيرون له من عالم الغيب، إذ يذكر سعيد بن جبير بأنه عندما دُفن تُليت هذه الآية على شفير القبر ولم يَدْرِ أحد من تلاها {يا أيتها النفس المطمئنة ` اِرجعي إلى ربك راضية مرضية ` فادخلي في عبادي ` وادخلي جنتي} (الفجر: 27-30).[61]
ج- عبد الله بن عمر رضى الله عنه(/10)
يزعم المستشرقون خطأ أن عبد الله بن عمر كان التلميذ الآخر لكعب الأحبار، فقد كان لعمر بن الخطاب رضى الله عنه تسعة أبناء هم: عبد الرحمن وعبد الرحمن الأوسط وعبد الرحمن الأصغر وعبد الله وزيد الأكبر وزيد الأصغر وعبيد الله وعاصم وعياض. ولكن أطلق اسم “ابن عمر” لعبد الله فقط لأنه كان أكثر جدارة بهذا الاسم من باقي إخوته. لذا، فعندما يذكر ابن عمر لا يخطر على البال ولا يُقصد إلا عبد الله.
صحيح أنه ليس من حدّنا أن نقوم نحن بإجراء تفاضل بين الصحابة الكرام، غير أننا نستطيع أن نقول إن عبد الله بن عمر ربما فاق والده في بعض جوانب عبادته وتقواه وطاعته والتزامه الشديد بالسنة واتباعه لها. كان شخصاً فريداً في اتباعه العميق للسنة إلى درجة يصعب إدراكها، إذ يروي أنس بن سرين قال: كنت مع ابن عمر بعرفات فلما كان حين راح رحت معه حتى أتى الإِمامَ فصلى معه الأولى والعصر، ثم وقف معه وأنا وأصحاب النيل حتى أفاض الإمام فأفضنا معه حتى انتهينا إلى المضيق دون المأْزِمَيْن فأناخ وأنخنا ونحن نحسب أنه يريد أن يصلي، فقال غلامه الذي يمسك راحلته: إنه ليس يريد الصلاة، ولكنه ذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم لما انتهى إلى هذا المكان قضى حاجته، فهو يحب أن يقضي حاجته.[62]
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يشرب الماء على ثلاث دفعات،[63] لذا، لم يشاهد أحد ابن عمر وهو يشرب الماء إلا على ثلاث دفعات. هكذا كانت درجة ارتباطه بالسنة النبوية، وهكذا كانت حساسيته في هذا الموضوع، بل ربما اعتبره البعض حتى في ذلك العهد مبالغاً في هذا الأمر، لذا فهل من الممكن أن يقوم مثل هذا الشخص برواية أي حديث للرسول صلى الله عليه و سلم خلاف الحقيقة؟ أيمكن هذا؟
ولد في السنوات الأولى لظهور الإسلام وشاهد التعذيب الذي تعرض له والده إذ يقول: لما أسلم أبي عمر قال: أي قريش أنقلُ للحديث؟ فقيل له: جَميل بن معمر الجُمحي. قال: فغدا عليه. قال عبد الله بن عمر رضى الله عنه فغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كل ما رأيت، حتى جاءه فقال له: أعلمتَ يا جميل أني قد أسلمتُ ودخلت في دين محمد؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتّبعه عمر واتبعتُ أبي حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش -وهم في أنديتهم حول الكعبة- ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ. ويقول عمر من خلفه: كذب، ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم، وطَلِح (أي أعيا) فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم. فبينما هم على ذلك إذ أقبل العاص بن وائل السهمي وأنقذ عمر من أيديهم.[64]
عندما هاجر النبي صلى الله عليه و سلم والمسلمون إلى المدينة كان في سن الحادية عشرة تقريباً. وفي معركة بدر عرض مع أقرانه على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ يتطاول ويقف على أطراف أصابعه لكي يبدو كبيراً، غير أن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يقبل اشتراكه في القتال لصغر سنه، لأن الرسول صلى الله عليه و سلم كان يسأل عن العمر ولا يكتفي بالنظر إلى الطول. وعرض نفسه أيضاً في معركة أُحد ولم يُقبل كذلك، فرجع هو وأقرانه وعيونهم تفيض من الدمع وقلوبهم مملوءة بالحزن، وعندما وصل إلى الخامسة عشرة عُدّ راشداً وسمح له الرسول صلى الله عليه و سلم بالاشتراك في معركة الخندق.[65]
ينقل ابن خَلِّكان في كتابه وفيات الأعيان هذه الحادثة عن الإمام الشعبي:
لقد رأيت عجباً، كنا بفناء الكعبة أنا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان، فقال القوم بعدما فرغوا من صلاتهم: ليقم رجل رجل منكم فليأخذ الركن اليماني وليسأل الله حاجته فإنه يعطى من ساعته، قم يا عبد الله بن الزبير فإنك أول مولود ولد في الهجرة، فقام وأخذ بالركن اليماني، ثم قال: اللهم إنك عظيم تُرجى لكل عظيم، أسألك بحرمة عرشك وحرمة وجهك وحرمة نبيك عليه الصلاة والسلام، أن لا تميتني حتى توليني الحجاز ويسلّم عليّ بالخلافة. وجاء حتى جلس، فقال: قم يا مصعب. فقام حتى أخذ الركن اليماني فقال: اللهم إنك رب كل شيء وإليك يصير كل شيء أسألك بقدرتك على كل شيء أن لا تميتني من الدنيا حتى توليني العراق وتزوجني سكينة بنت الحسين وجاء حتى جلس، فقال: قم يا عبد الملك. فقام وأخذ بالركن اليماني وقال: اللهم رب السموات السبع ورب الأرض ذات القفر، أسألك بما سألك عبادك المطيعون لأمرك، وأسألك بحرمة وجهك، وأسألك بحقك على جميع خلقك، وبحق الطائفين حول بيتك أن لا تميتني من الدنيا حتى توليني شرق الأرض وغربها ولا ينازعني أحد إلا أتيت برأسه، ثم جاء حتى جلس فقال: قم يا عبد الله بن عمر، فقام حتى أخذ بالركن اليماني، ثم قال: اللهم إنك رحمن رحيم، أسألك برحمتك التي سبقت غضبك، وأسألك بقدرتك على جميع خلقك، أن لا تميتني من الدنيا حتى توجب لي الجنة.(/11)
قال الشعبي: فما ذهبت عيناي من الدنيا حتى رأيت لكل رجل ما سأل، وبُشِّرَ عبد الله بن عمر بالجنة ورؤيت له.[66]
لم يكن ابن عمر معارضاً لآل البيت في أي وقت من الأوقات وبأي حال من الأحوال، ولم يلتزم جانب الأمويين، بل كان الحَجّاج على الأخص يخشى منه ويوجس منه خيفة. وفي إحدى المرات أطال الحَجّاج خطبته (لعله كان يريد تبرير وتسويغ إجراآته الظالمة) حتى كادت أن تفوت صلاة الظهر، فقام ابن عمر من مكانه وقال: أيها الرجل الصلاةَ فاقعد، إن الشمس لا تنتظرك (كررها ثلاثا). فقال للجماعة في الرابعة: أرأيتم إن نهضتُ أتنهضون؟ قالوا: نعم. فنهض فقال: الصلاةَ، فإني لا أرى لك فيها حاجة. فنزل الحجاج فصلى ثم دعا به فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: إنما نجيء للصلاة فإذا حضرت الصلاة فصلّ بالصلاة لوقتها ثم بَقْبِقْ بعد ذلك ما شئت من بقبقة.[67]
فاغتاظ منه الحَجّاج ولكنه أسرّ غيظه. وفي موسم من مواسم الحج وبينما هذا الصحابي الجليل محرم في الحرم الشريف قام أحد رجال الحجاج بطعنه في رجله برمح مسموم، وأدى جرح هذا الرمح المسموم إلى استشهاد هذا الرجل العظيم.[68]
د- عبد الله بن مسعود رضى الله عنه
وعبد الله بن مسعود أحد الصحابة الذين رووا أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو من السابقين الأولين. كان غلاما يافعا يرعى غنما لعُقبة بن أبي مُعيط،[69] وعندما تعرف على سيد الخلق وراعيها لازمه ولم يفارقه. وكان كثير من الناس يحسبونه من آل بيت النبي صلى الله عليه و سلم وذلك لكثرة تردده على بيت النبي صلى الله عليه و سلم.[70] وكان يلقب بـ“صاحب النَعْلَيْن والوِساد والمِطْهرة” لأنه كان في الأسفار ينقل نعلي رسول الله صلى الله عليه و سلم ووساده وقربة مائه.[71] كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعوه بـ“ابن أم عبد” وكان يقول: «من أحب أن يقرأ القرآن غَضاًّ كما أُنزِلَ فليقرأه على قراءة ابن أم عبد.»[72]
ويروي أنه قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم: «اقرأ عليّ.» فقلت: آقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «فإني أُحب أن أسمعه من غيري.» فقرأت سورة النساء حتى بلغت {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} (النساء: 41). قال: «أمسِكْ» فإذا عيناه تَذرِفان.[73]
كان ابن مسعود نحيفاً ضامر البنية، وفي يوم أمره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يصعد شجرة فيأتيه بشيء منها فنظر أصحابه إلى حموشة ساقيه فضحكوا منها. فقال النبي صلى الله عليه و سلم: «مم تضحكون؟» قالوا: يا نبي الله من رقة ساقيه. فقال: «والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحد.»[74] وعندما أرسله عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى الكوفة معلماً ومحاسباً كتب إليهم: “إني والله الذي لا إله إلا هو آثرتكم به على نفسي فخذوا منه.”[75]
بقي ابن مسعود رضى الله عنه في الكوفة في عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه. وفي الجو العلمي الذي أشاعه في الكوفة نشأ علماء أجلاء أمثال علقمة بن قيس -الذي قال أبو حنيفة في حقه: إنه ليس بدون ابن عمر في الفقه-[76] والأسود بن يزيد النخعي وإبراهيم بن يزيد النخعي وغيرهم من كبار علماء وأئمة التابعين. وقد استقى علقمة أكثر علمه من ابن مسعود، وقد سأله أحدهم مرة: من أين استقيت هذا؟ فقال: عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود، فقال السائل: بخ بخ!!
بقي ابن مسعود في الكوفة بعضاً من عهد عثمان رضى الله عنه، ثم استدعي إلى المدينة للتحقيق معه حول شكاية كيدية. كان قد تقدم في العمر، لذا فضل البقاء في المدينة ولم يرجع إلى الكوفة. وفي أحد الأيام جاءه رجل مسرعاً وقال له: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في منامي وكنتَ أنت جالساً بجانبه فالتفتَ إليك، وقال بأنك قد قاسيت بعده كثيراً، وقد آن لك أن تأتيه. فقلتَ: أجل، يا رسول الله! لن أفارق المدينة بعد الآن.
بعد مضي عدة أيام مرض ابن مسعود رضى الله عنه الذي كان من أوائل المسلمين والذي كان من أبرز طلاب مدرسة رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاءه عثمان بن عفان رضى الله عنه -الذي لازم رسول الله صلى الله عليه و سلم وصلى معه إلى القبلتين وشهد معه معظم المشاهد- عائدا وقال له:
- ما تشتكي؟
- ذنوبي.
- فما تشتهي؟
- رحمة ربي.
- ألا آمر لك بطبيب؟
- الطبيب أمرضني.
- ألا آمر لك بعطائك؟ -وكان قد تركه سنتين-
- لا حاجة لي فيه
- يكون لبناتك من بعدك.
- أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أَمَرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: «من قرأ الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً»،[77] وتوفي ابن مسعود رضى الله عنه.
وقد روى ابن مسعود رضى الله عنه 800 حديثاً بعد ملازمة لرسول الله صلى الله عليه و سلم دامت ثلاث وعشرين سنة.. والآن ما رأيكم فيمن يطعن في مثل هذا الصحابي الجليل؟(/12)
بعد أن أعطينا بعض المعلومات عن هؤلاء الصحابة الأربعة الكبار، سنعطي معلومات مختصرة جداً عن عائشة الصديقة وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك رضى الله عنه باعتبارهم من الصحابة الذين رووا أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه و سلم لكي ننتقل بعد ذلك إلى التابعين العظام.
هـ- عائشة الصديقة رضى الله عنها
فتحت عينيها في بيت النبوة، إذ دخلت بيت النبي صلى الله عليه و سلم بعد الهجرة بقليل وقضت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عشرة أعوام. وقد تعلمت أمنا عائشة رضى الله عنها التي كانت مثال الذكاء والفطنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كل ما يتعلق من أمور تخص عالم النساء وأمورهن، ونقلت إليهن ما تعلمته دون أي تقصير. وعالم النساء مدين إلى الزوجات الطاهرات لرسول الله صلى الله عليه و سلم بالشيء الكثير ولاسيما لأمنا عائشة رضى الله عنها التي جاء في حقها حديث ضعيف من ناحية السند وهو حديث: «خذوا شطر دينكم عن هذه الحُميراء.»[78]
ولا يوجد هناك أي مانع ولا أي استبعاد أو استغراب لقيامها برواية أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه و سلم لأنها كانت امرأة ذكية فطنة، ولها قابلية الاجتهاد. وكانت تميل إلى تحقيق كل شيء وتستقصى وتستفسر عنه. ولكون كثير من المحققين العظام كتبوا كل شيء عنها فإني أحيل القراء إليهم.
و- أبو سعيد الخدري (سعد بن مالك) رضى الله عنه
عد في زمانه أعلم العلماء ومرجع العلم في المدينة.. كان والد هذا الصحابي الفقير من أوائل الأنصار.. وبعد أن استشهد والده في معركة أُحد بقي وحده ولازم رسول الله صلى الله عليه و سلم.[79] كان يقضي أيامه -مثله في ذلك مثل أبي هريرة رضى الله عنه- في الصفة ويتابع الوحي النازل ويتدارسه ويعيش في فيض النبوة الأحمدية. عاش كأي صحابي آخر في رشد واستقامة ورأينا فيه هو مثل رأينا في أي صحابي جليل.
ز- جابر بن عبد الله رضى الله عنه
هو ابن الصحابي الكبير عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري الذي شهد بيعة العَقَبة الثانية ثم كان من الشهداء الكرام لمعركة أُحد والذي واجهه الله كفاحاً -أي دون وجود حجاب بينهما- بعد استشهاده.[80] بعد بيعة العَقَبة الثانية لم يسمح له والده بالاشتراك في معركة بدر وأُحد لأن الرسول صلى الله عليه و سلم أذن له حين ذَكر أن أباه أمره بالمقام في المدينة على إخوته[81] غير أنه بدأ بملازمة الرسول صلى الله عليه و سلم في الحضر والسفر بعد معركة أُحد وكان من المقربين إليه،[82] لذا، فحفظه وروايته لكثير من الأحاديث النبوية شيء طبيعي وليس هناك ما يُستغرب في هذا الموضوع.
لذا، نرى الناس يتحلقون حوله عندما ذهب إلى الشام ومصر لكي يسمعوا منه أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم، كما كانت له حلقة دراسة في المسجد النبوي في المدينة. وظهر من بين طلابه علماء كبار أمثال عمرو بن دينار ومجاهد وعطاء بن أبي رباح.[83]
ح- أنس بن مالك رضى الله عنه
خدم رسول الله صلى الله عليه و سلم عشر سنوات كاملة.[84] ولأنه استطاع حفظ القرآن الكريم بأكمله في ستة أشهر، لذا كان باستطاعته حفظ ما يقارب عشرين ضعفاً من القرآن طوال هذه السنوات، غير أننا نرى أن مجموع الأحاديث الموجودة لدينا والتي حواها “كنز العمال” هو 46624 حديثاً فقط، علماً بأن ذكر الأسانيد هو الذي يزيد من حجم كتب الأحاديث.
الخلاصة:لم تكن غايتنا هنا تناول حياة هؤلاء الصحابة بالشرح أو التغني بفضائلهم، بل الإشارة إلى فساد عقلية من حاول الافتراء عليهم وكيل التهم جزافاً لهم. وجهدنا هنا كان جهد المقل، وعلى أي حال فإن نية المؤمن خير من عمله.. وقد أردنا بعلمنا المتواضع هذا أن ننال شفاعتهم، ورحمة الله وسعت كل شيء.
________________________________________
[1] انظر هذه الآيات: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} (الفتح: 18)؛ {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير} (الأنفال: 72)؛ {للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ` والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويُؤْثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ` والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} (الحشر: 8-10)؛ وانظر أيضاً: البخاري، فضائل الصحابة، 5؛ مسلم، فضائل الصحابة، 214؛ الترمذي، المناقب، 56-57(/13)
[2] انظر هذه الآية: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة. ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً} (الفتح: 29).
[3] «الإصابة» لابن حجر 1/7
[4] «المسند» للإمام أحمد، 4/89-90 ؛ «أسد الغابة» لابن الأثير 4/132
[5] البخاري، تفسير سورة (7) 3؛ « السنن الكبرى» للبيهقي 10/236
[6] «معرفة علوم الحديث» للحاكم ص22-24؛ «الباعث الحثيث» لأحمد محمد شاكر ص137
[7] «شرح كتاب الفقه الأكبر» لعلي القاري ص206؛ «شرح العقيدة الطحاوية» لابن العز 3/689 ؛ «علوم الحديث» لابن الصلاح ص294؛ «الكفاية» للخطيب البغدادي ص46
[8] «المكتوبات» للإمام الرباني 1/70 (المكتوب رقم 58)
[9] البخاري، تفسير سورة (98) 1-3؛ مسلم، فضائل الصحابة، 121-122؛ الترمذي، المناقب، 320؛ «المسند» للإمام أحمد 3/130، 137، 185
[10] «محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار» لابن عربي 2/179
[11] «كنز العمال» للهندي 13/ 353؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 1/57
[12] البخاري، الرقاق، 38
[13] «الإصابة» لابن حجر 1/10؛ «الفصل في الملل والأهواء والنحل» لابن حزم 3/119
[14] انظر: البخاري، التوحيد، 35؛ مسلم، الإيمان، 312؛ الترمذي، الجنة، 15؛ ابن ماجة، الزهد، 39؛ الدارمي، الرقائق، 98، 105؛ «المسند» للإمام أحمد 2/313، 370
[15] البخاري، الرقاق، 51؛ الترمذي، تفسير سورة (23) 3
[16] البخاري، النكاح، 7، البيوع، 1، 49؛ الترمذي، البر، 22
[17] «البداية والنهاية» لابن كثير 8/118-120؛ «سير أعلام النبلاء» للذهبي 2/609
[18] «صفة الصفوة» للجوزي 1/292-293؛ «حلية الأولياء» لأبي نعيم 1/378
[19] البخاري، تفسير سورة (59) 6؛ مسلم، الأشربة، 172-174
[20] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 5؛ مسلم، فضائل الصحابة، 221؛ الترمذي، المناقب، 58
[21] الترمذي، المناقب، 58؛ «المسند» للإمام أحمد 5/57
[22] مسلم، فضائل الصحابة، 207؛ «المسند» للإمام أحمد 4/399
[23] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 1؛ مسلم، فضائل الصحابة، 212
[24] «أسد الغابة» لابن الأثير 3/388؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/291
[25] «المسند» للإمام أحمد 1/379؛ «حلية الأولياء» لأبي نعيم 1/375
[26] «حلية الأولياء» لأبي نعيم 1/305
[27] «حلية الأولياء» لأبي نعيم 1/136
[28] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/ 328؛ «الإصابة» لابن حجر 4/202-210؛ «سير أعلام النبلاء» للذهبي 1/345-346
[29] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/202-210
[30] مسلم، فضائل الصحابة، 158؛ «المسند» للإمام أحمد 2/320؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/328
[31] «المستدرك» للحاكم 3/508
[32] البخاري، العلم، 42؛ مسلم، فضائل الصحابة، 160؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/329-330
[33] البخاري، العلم، 42؛ مسلم، فضائل الصحابة، 159؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/330
[34] «حلية الأولياء» لأبي نعيم 1/378؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 8/118
[35] البخاري، الاعتصام، 16؛ الترمذي، الزهد، 39
[36] البخاري، الأطعمة، 32؛ فضائل أصحاب النبي، 10
[37] البخاري، العلم، 42؛ مسلم، فضائل الصحابة، 160
[38] ذلك لأن ضريح هذا الصحابي الجليل موجود في إسطنبول. (المترجم)
[39] «المستدرك» للحاكم 3/512؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 8/117
[40] «الإصابة» لابن حجر 4/205؛ «تهذيب التهذيب» لابن حجر 12/289-290
[41] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/335-336؛ «أسد الغابة» لابن الأثير 6/321؛ «الإصابة» لابن حجر 4/210
[42] البخاري، الأذان، 95؛ مسلم، الصلاة، 158-160، الزهد، 12
[43] الحُبْلة: ثمر السمر يشبه اللوبياء. (المترجم)
[44] أي توبخني.
[45] البخاري، فضائل الصحابة، 15، الرقاق، 17؛ مسلم، الزهد، 12؛ «أسد الغابة» لابن الأثير 2/366
[46] نقلاً عن «رجال حول الرسول» لخالد محمد خالد ص128
[47] «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة ص43، 44
[48] البخاري، الفتن، 9؛ مسلم، الفتن، 10
[49] «البداية والنهاية» لابن كثير 8/116
[50] البخاري، الفتن، 3؛ مسلم، الفتن، 74؛ «المسند» للإمام أحمد 2/288
[51] «البداية والنهاية» لابن كثير 8/122
[52] أسبّح: أي أصلي نافلة.
[53] البخاري، المناقب، 23؛ مسلم، فضائل الصحابة، 160
[54] «المستدرك» للحاكم 3/509-510
[55] البخاري، الوضوء، 10؛ مسلم، فضائل الصحابة؛ «المسند» للإمام أحمد 1/266
[56] انظر: «المستدرك» للحاكم 3/537؛ «أسد الغابة» لابن الأثير 3/291
[57] «سير أعلام النبلاء» للذهبي 3/333، 336، 351؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 8/332-333
[58] «شرح الكامل» للمرصفي 7/165-166
[59] البخاري، تفسير سورة (110) 3؛ الترمذي، تفسير سورة (110) 1
[60] «الإصابة» لابن حجر 2/332(/14)
[61] «المستدرك» للحاكم 3/543-544؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/285
[62] «المسند» للإمام أحمد 2/131
[63] البخاري، الأشربة، 26؛ مسلم، الأشربة، 122، 123
[64] «السيرة النبوية» لابن هشام 1/373-374؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/102-103
[65] البخاري، المغازي، 6؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/143
[66] «وفيات الأعيان» لابن خلكان 3/30
[67] «أسد الغابة» لابن الأثير 3/344؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/159
[68] «أسد الغابة» لابن الأثير 3/344؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/187
[69] «أسد الغابة» لابن الأثير 3/385؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 3/150
[70] البخاري، المناقب، 27؛ مسلم، فضائل الصحابة، 110؛ الترمذي، المناقب، 37
[71] البخاري، فضائل الصحابة، 27؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 3/153
[72] ابن ماجة، المقدمة، 11؛ «المسند» للإمام أحمد 1/7؛ «المستدرك» للحاكم 3/318
[73] البخاري، تفسير سورة (4) 9؛ مسلم، صلاة المسافرين، 247؛ الترمذي، تفسيرسورة (4) 11
[74] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 3/155
[75] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 3/157
[76] «عقود الجواهر المنيفة» للزبيدي 1/102
[77] «البداية والنهاية» لابن كثير 7/183
[78] «البداية والنهاية» لابن كثير 8/100؛ «الأسرار المرفوعة» لعلي القاري ص116؛ «كشف الخفاء» للعجلوني 1/374؛ «الفوائد المجموعة» للشوكاني ص399؛ «الفردوس» للديلمي 2/165
[79] «أسد الغابة» لابن الأثير 2/365؛ «الإصابة» لابن حجر 2/35
[80] الترمذي، تفسير سورة (3) 18؛ ابن ماجة، المقدمة، 13، الجهاد، 16
[81] «البداية والنهاية» لابن كثير 3/65
[82] «أسد الغابة» لابن الأثير 1/307
[83] «الإصابة» لابن حجر 1/213
[84] البخاري، الأدب، 39؛ مسلم، الفضائل، 51؛ «الإصابة» لابن حجر 1/71؛ «أسد الغابة» لابن الأثير 1/152(/15)
الصحابي الزاهد عمر بن سعد رضي الله عنه
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
عمير بن سعد أحد ولاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على "حمص" وقد مكث حولاً لا يأتي خبرُه عمرَ، فقال عمر لكاتبه:
"اكتب إلى عمير: إذا جاءك كتابي هذا فأقبل، وأقبل بما جبيت من فيء المسلمين".
وأخذ عمير جرابه فجعل فيه زاده وقصعته وعلق أداوته(1) وأخذ غزته(2)، ثم أقبل يمشي من (حمص) حتى دخل (المدينة). قال: فقدم وقد شحب لونه، واغبرّ وجهه، وطال شعره، فدخل على عمر وقال:
السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فقال عمر: ما شأنك؟!
قال عمير: ما ترى من شأني: ألست تراني صحيح البدن، معي الدنيا أجرها بقرونها.
قال: وما معك؟
فظن عمر أنه جاء بمال –فقال:
معي جرابي أجعل فيه زادي، وقصعتي آكل فيها وأغسل فيها رأسي وثيابي، وأداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي، وغزتي أتوكأ عليها وأجاهد بها عدواً إن اعترض، فو الله ما الدنيا إلا تبع لمتاعي.
قال عمر: فجئت تمشي؟!
قال: نعم!
قال: أما كان لك أحد يتبرع لك بدابة تركبها؟!
قال: ما فعلوا وما سألتهم ذلك.
قال عمر: فأين بعثتك؟ وأيَّ شيء صنعت؟
قال: وما سؤالك يا أمير المؤمنين؟!
قال عمر: سبحان الله!
فقال عمير: أما لولا أني أخشى أن أغمك ما أخبرتك، بعثتني حتى أتيت البلد، فجمعت صلحاء أهلها، فوليتهم جباية فيئهم، حتى إذا جمعوه وضعته مواضعه، ولو نالك منه شيء لأتيتك به.
قال: فما جئتنا بشيء.
قال: لا.
قال عمر: جددوا لعمير عهداً.
- واستأذن عميرٌ عمرَ للرجوع إلى منزله، وكان بينه وبين المدينة أميال فقال عمر حين انصرف عمير لأحد رجاله:
- انطلق إلى عمير بمائة دينار، فإن رأيت حاله شديدة فادفع إليه المال.
وانطلق الرجل فإذا هو بعمير جالس يغلي قميصه إلى جانب الحائط. فقال عمير:
- انزل رحمك الله!
فنزل، ثم سأله:
- من أين جئت؟
قال: من المدينة.
قال: فكيف تركت أمير المؤمنين؟
قال: صالحاً.
قال: فكيف تركت المسلمين؟
قال: صالحين. قال: أليس يقيم الحدود؟
قال: بلى.. ضرب ابناً له أتى فاحشة، فمات من ضربه.
فقال عمير: اللهم أعن عمر، فأني لا أعلمه إلا شديداً حبه لك.
ونزل الرجل ضيفاً على عمير ثلاثة أيام، وليس لهم إلا قرصة شعير، كانوا يخصونه بها ويطوون، حتى أتاهم الجهد. فقال له عمير:
- إنك قد أجعتنا. فإن رأيت أن تتحول عنا فافعل.
وأخرج الرجل رسول عمر إلى عمير حينذاك الدنانير، ودفعها إليه وقال:
- بعث بها إليك أمير المؤمنين، فاستعن بها.
فصاح عمير: لا حاجة لي فيها... ردها...
فقالت له امرأته: إن احتجت إليها، وإلا فضعها مواضعها.
فقال عمير: والله مالي شيء أجعلها فيه.
فشقت امرأته أسفل درعها، فأعطته خرقة، فجعلها فيها، ثم خرج، فقسمها بين أبناء الشهداء والفقراء.
* وحين كان عمير والياً على (حمص) كتب عمر بن الخطاب إلى أهلها:
- اكتبوا لي فقراءكم.
فكتبوا إليه أسماء الفقراء وذكروا فيهم (عمير بن سعد)، فلما قرأ عمر اسمه قال:
"من عمير بن سعد؟!"
فقالوا أميرنا!
فقال: "أو فقيرٌ هو؟!"
فقالوا: ليس أهل بيت أفقر منه!!...
فقال عمر: فأين عطاؤه؟
فقالوا: يخرجه كله لا يمسك منه شيئاً.
فوجَّهَ إليه عمر بمائة دينار، فأخرجها كلها إلى الفقراء، فقالت له امرأته:
"لو كنت حبست لنا منها ديناراً واحداً!"
فقال: "لو ذكرتني فعلت".
* وكان عمر يصف عميراً بأنه: نسيج وحده.
قال عمر يوماً لأصحابه: "ليتمنَّ كل رجل منكم أمنية"..
فقال رجل: "وددت يا أمير المؤمنين أن عندي مالاً، فأعتق لوجه الله كذا وكذا".
وقال آخر: "وددت يا أمير المؤمنين أن لي مالاً فأنفقه في سبيل الله".
وقال آخر: "وددت لو أن لي قوةً فأمتح بدلو زمزم لحجاج بيت الله".
فقال عمر: "وددت أن لي رجلاً مثل عمير بن سعد، أستعين به في أعمال المسلمين".
رضي الله عن عمير بن سعد وأرضاه.
* مجلة حضارة الإسلام -السنة 16-العدد 4-جمادى 1395 –حزيران 1975
(1) أداوة: إناء صغير يحمل فيه الماء.
(2) الغزة: أطول من العصا وأقصر من الرمح، في أسفلها زج كزج الرمح، يتوكأ عليها الشيخ الكبير.(/1)
الصحافة في بلاد المسلمين هل تعكس آمال الأمة؟
الكاتب: الشيخ د.محمد بن موسى الشريف
الصحافة وسيلة مهمة من وسائل الإعلام ، لها مكانه رفيعة وانتشار واسع ، فالناس يقبلون عليها إقبالاً منقطع النظير ، وهي وسيلة حديثة نسبياً لم يكن للعرب عهد بها ، إذ أنها انتقلت إليهم من ديار الغرب ، وقد انتشرت في بعض البلاد العربية والإسلامية أواخر القرن التاسع عشر الميلادي – الثالث عشر الهجري – على أيدي أناس كان أكثرهم من النصارى وبعضهم من اليهود وعاونهم في ذلك بعض المسلمين ، وكان أكثر انتشارها في بلاد مصر والشام – سورية ولبنان .
لكن هذه الصحافة الوليدة لم تعكس آمال الأمة وتطلعاتها في الأغلب بل كانت عوناً للمستخربين المستعمرين وممهدة لهم في مساعيهم الحثيثة للسيطرة على ديار الإسلام ، وبعض الصحف كانت ترحب صراحة بالمستعمر وفكره وتقاليده وعاداته حميدها وخبيثها ، ضارها ونافعها ، وكانت بهذا تلقي في روع الأمة الرضى بالاستخراب – الاستعمار – والركون إليه ، وعدم مجاهدته ، وكانت بعض الصحف توهم الأمة أنه لا بد لها من الاستخراب ولا انفكاك لها عنه ، فهي بهذا كله كانت بوقاً لأولئك ، ومنفذة لأغراضهم عن قصد في أكثر الأحيان ومن غير قصد ، هذا عدا عن نشر كثير مما يضاد عقيدة الأمة وأخلاقها وثوابتها الشرعية والخلقية ، حيث كانت تدعو جهاراً إلى السفور وخلطة الرجال بالنساء على وجه مخل بالشرع ، معيب ، وكانت تزين للناس كثيراً من المنكرات ، فكانت الصحافة إذاً منبراً يفعل في الناس الأفاعيل ، وكلامي هذا لا يعني أنه لم تكن هناك صحافة مقبولة في ميزان الشرع لكنها كانت قطرة من بحر .
ثم ظلت الصحافة هكذا تراوح مكانها حتى أشرقت شمس الصحوة المباركة ، وعمت فضائلها الدنيا ، فظهرت صحف ومجلات وملاحق تنصر الإسلام وأهله في القارات الخمس ، وتبرز محاسن الدين ، وترد على الكافرين والمغرضين وأهل الأهواء ، فما أحسن هذا وما أجمله ، وهو من جملة المبشرات باقتراب النصر إن شاء الله تعالى .
وينبغي على الصحافة إن أرادت أن تكتسي بثوب الشرع ، وتتجمل بالفضائل ، وتحمل مشاعل الهداية والرشاد ، ينبغي عليها أن تصنع الآتي :
1- أن تكون معبرة عن توجهات أكثر البلاد الإسلامية التي أعلنت أنها تعتمد الشرع المطهر دستوراً للحكم ونظاماً له ، فمهما تنوعت مناشط الصحافة واجتهد القائمون عليها في إخراجها بشتى الصور فإنه لا ينبغي إلا أن تكون خاضعة لسلطان الشرع المطهر في كل ما يأتي وما تذر ، فلا تنشر الصور الخليعة ، ولا الأخبار الماجنة ، ولا تسمح لمنافق أو كافر أن يبث سمومه على صفحاتها ، وهذا للأسف ما نفتقده في كثير من صحفنا ومجلاتنا فهي تنشر سموماً عظيمة ، ومهيجات مثيرة ، ومفاسد عظيمة في صفوف الأمة ، وكأن القائمين عليها لا يرجون لله وقاراً ، ولا يخافون يوم المثول بين يديه سبحانه ، وقد صدق عليهم قول الله تعالى : (( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون )).
2- أن تكون الصحافة مدافعة عن قضايا الأمة ، منبهة إلى مواطن الضعف فيها ، مشيدة بمواقع القوة ومشجعة لها ومثنية عليها ، وأذكر أني قرأت أكثر من مرة في صحيفة سيارة مقالات مترجمة للوقائع للجهادية الاستشهادية في فلسطين وأثرها على اليهود الملاعين ، وهذه المقالات خطها كتاب غربيون لا تُدرى نحلتهم ، ومن قرأها تأثر سلباً ، وذلك لأنها كتبت بأسلوب متعاطف مع اليهود متأثر بما جرى عليهم ، فكيف تنشر مثل هذه المقالات المترجمة في صحف عربية إسلامية ، إن هذا الشيء عجيب ؛ وكيف أجاز رئيس التحرير هذا الذي يُعد وقوفاً في خندق أعداء الأمة ؟!
3- أن تستكتب الصحافة خيار الأمة ومَن تعلم أنهم أصلح من غيرهم كلٌّ في تخصصه ومجال عمله ، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يشرك الصحابة الأقدر على خوض معاركة الإعلامية فحسان بن ثابت شاعره ، وثابت بن قيس خطيبه ، وزيد بن ثابت كاتبه إلى الملوك ومترجمه ، فقد كان صاحب اللغات المتعددة ، رضي الله عنهم جميعاً .
4- أن تنشر الأخبار بلا تضخيم ولا تهوين ، لأنهها إن ضخمت يأَّست ، وإن هَوّنت كَسّلت ، بل ينبغي عليها أن تعطي الخبر حقه حتى لا تضلل الأمة ، وعليها أن تبتعد عن الشائعات المغرضة وتتحرى مصادر الأخبار لئلا تساهم في ترويج الكذب وإشاعته في الأمة .(/1)
والعجيب أن كثيراً من الصحف والمجلات اليوم تنشر أخباراً عن قوة دولة العدو الصهيوني وأنه لا قِبلَ للعرب جميعاً بها ، وأنا إذا دخلنا حرباً معهم فنحن مهزومون لا محالة في موازين القوى العسكرية ، وأنهم يملكون القنابل النووية والدبابات التي لا تحطم ومقاتلات F16 أكثر مما تمتلك الدول العربية !! فهذا الكلام أولاً غير دقيق ، وعلى فرض دقته فهو موهن للغاية ، وأين سلاح الإيمان وعظمة وقوة جيش الإسلام إن تمسك بالقرآن ؟ وأين ذكر الأخبار المشجعة للأمة من جهاد الإخوة في فلسطين وإبراز ذلك على أنه ميزان قوي لا قبل للعدو به ؟! لقد سئمنا من تكرار ذكر ما يسمونه حقيقة التفوق الصهيوني ، وترداد ذلك على مسامعنا ليل نهار ، فإن هذا لا يخدم إلا أولئك الملاعين ولا يحقق إلا أغراضهم .
5- أن تشارك الصحافة الأمة أحزانها وأفراحها ، فليس من المقبول ولا المعقول أن تكون الأمة واقعة في مصائب وبلايا وابتلاءات متعددة والصحافة بمنأى عن ذلك كأن الأمر لا يعنيها ، وتكتفي بإيراد الخبر في صفحاتها الأولى ثم تبقي الصفحات الأخيرة للفن والرياضة ، وكأن هذا بمعزل عن ذاك ، لا يصح هذا في ميزان العقول بل ينبغي أن تكون الصحيفة أو المجلة مسخرة للهدف الأسمى وهو نصرة الأمة بكل ما تستطيعه وعلى جميع صفحاتها ، ألم تسمعوا بأن قناة من القنوات التي تعد في صف القنوات الإسلامية قد قررت قطع جميع الأخبار الرياضية تضامناً مع الفلسطينيين وتعزيزاً لصفهم وإبرازاً لجهادهم ، وإظهاراً لحجم البلاء النازل عليهم؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ))؟
6- ألاّ تخلو الصحافة من الترويح والترفية المشروعين ، فديننا فيه توسعة ولله الحمد ، ولقد احتل المزاح والدعابة قدراً مناسباً في السيرة العطرة الشريفة .ٍ
وأخيراً أقول :
ليس معنى إيرادي النقاط السابقة أن تكون الصحافة ذات قوالب جامدة أو تسير على نهج واحد لا تنوع فيه ولا تغيير ، بل يمكن للصحافة أن تكون مميزة للغاية لو راعت ما ذكرته آنفاً مع الأخذ بفنون الصحافة الحديثة التي لا تخالف لنا شرعاً ، ولا تؤذي منا عقلاً ، ولا تحطم منا نفساً وعزماً ، وممكن للصحافة أن تضرب المثل في العالم كله على روعة الجمع بين ذكر الخبر وحسن العرض وتنوع المادة وثرائها .
ولا ينبغي للصحفيين والقائمين على المنتجات الإعلامية أن ينسوا أن هناك عدداً كبيراً من الجادين في هذه الأمة المباركة ممن يود التعامل مع صحافة جادة وهادفة ومتنوعة ، وساعتئذ سيكون لمطبوعاتهم الصحفية القدر الأكبر من التوزيع والنشر، ولا يلتفتوا إلى دعاوى وأفكار من نشر الفن الفاحش والمنكرات في وسائل إعلامه بدعوى التدرج في تربية الأمة وإنقاذها من براثن القنوات الإباحية ، فالأمة لا يُتدرج بها بالرقص والعُري ، ولا تصح هذه الدعوى شرعاً ولا عقلاً ، بل هذا من جملة تلبيس الشيطان وحزبه على هذا الرجل وأمثاله ، والله الموف(/2)
الصحافة وصناعة الكراهة
عبد الرحيم السلمي
عضو مكتب الدعوة والإرشاد بجدة
تؤدي الصحافة في هذا العصر دورا حيويا في صناعة التفكير لدى الناس، لسهولة اللغة، وبساطة العرض الذي يكون في مقالاتها وتحقيقاتها.
وأي صحافة في أي بلد يجب أن تكون ممثلة للشعب ، تنطق بمصالحه ، وتعالج مشكلاته ، وتناقش قضاياه بأمانه وإنصاف وموضوعية.
ولكن المشكلة الكبرى إذا سيطرت على الصحافة مجموعة معينة ذات فكر محدد لا يمثل الشعب ، ولا يهمه من القضايا إلا ما يخدم فكره ويوصل إلى أهدافه الخاصة .
وهذا بالتحديد ما تعاني منه الصحافة في السعودية ،فقد سيطر عليها تحت جنح الظلام (مجموعة فكرية) معينة تهمش قضايا البلد المصلحيّة وتجعل من القضايا الجانبية بل والضارة في كثير من الأحيان أمورا مهمه لا لشيء إلا لأنها تخدم أفكارهم الخاصة .
إن المتابع للشأن الصحفي يفجأه هذا التناقض المريع بين صحافة بلادنا وأساس الشرعيّة الذي قامت عليه الدولة .
فالفكر الأساسي الذي قامت عليه الدولة هو الفكر الإسلامي السلفي ،وهذا ما يردده حكامها في كل مناسبة ،وهو ما يعرفه من درس نشأة الدولة وأساس الشرعية فيها.
فهذه الدولة لم تقم على سواعد العلمانيين ،ولم توحّد على أساس ليبرالي مناف لكمال هذا الدين وشموله ولا يشكل هؤلاء أغلبية في بلادنا بل هم أقلية محدودة تريد أن تنقل الناس إلى وضع معين مخالف لحقيقة الإسلام وروحه . والحقيقة التاريخية يعرفها كل أحد وهي أن أرومة هذه البلاد هو دينها الذي لا يمكن التنازل على تحت أي سبب كائنا ما كان .
ومع ذلك تطالعنا الصحافة هذه الأيام بسيل جارف من المقالات التي تصف بالإرهاب وتفريخه كل عمل دعوي إسلامي مثل المناهج الدينيّة ، وحلقات التحفيظ ، والجمعيات الخيرية ، والمخيمات الدعوية ، والتسجيلات الإسلامية وغيرها من الأنشطة الدعوية المباركة التي تملأ البلاد طولا وعرضا .
إن تصوير هذه المشاريع العظيمة التي انتفع الناس منها بأنها تولد الإرهاب وتغيّب البسمة وتصادم التحديث إلى آخر الهذيان في صحافتنا هو صناعة للكراهة وترسيخ للعداوة وبذر للفرقة ، وإفساد للقلوب وتشويه للنوايا .
لقد أزعجنا هؤلاء الكتاب في الكلام حول موضوع الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين وأنه يصنع الكراهة مع (الآخر) ، وصوروا أنفسهم بأصحاب القلوب النظيفة من الحقد والكراهة ، وأنها طاهره من البغضاء والعداوة مع الآخر ، ولكن المقالات الأخيرة وضحّت أ ن مطالبتهم بنبذ الكراهة هي في مجال التعامل مع الكفّار والمنافقين ، أما في مجال التعامل مع الدعاة الى الله تعالى ، والمصلحين ، والمجاهدين ، فقد ظهر بعض ما تخفي صدورهم من الكراهة .
إنني لا ألوم هؤلاء الكتاب لأن كل اناء بما فيه ينضح ، وهو فكر دخيل معروف لدينا من قديم ، ولكنني ألوم العلماء وطلاب العلم على سكوتهم وعدم الوقوف بحزم مع هذه النماذج المنحرفة .
أعتقد أنه لابد من مطالبة الدولة- على أقل تقدير –بالسماح لصحف اسلامية مستقلة توضح الحق وتبين فساد الباطل من باب تكافؤ الفرص .
أما أن يبقى هؤلاء المنحرفون يكتبون ما يحلو لهم ويصورون للناس الباطل في صورة الحق فهذا مالا يجوز السكوت عليه .
ولو أن الدولة أجرت تحقيقا مستقلا ومنصفا في توجه الصحافة ومدى خدمة القضايا الوطنية لتوصلت الى أن التحيز لفكر معين سمة بارزة في عامة الصحافة سواء في المقالات ، أو المقابلات ، أو التحقيقات الصحفية ، بل حتى في صياغة الأخبار المحلية وطريقة عرض الصور ، ومتابعة الشؤون الثقافية والفكرية .
ولعل مؤتمر الحوار الوطني شاهد عيان في هذا الصدد ، عندما همشت قضايا المرأة الحقيقية والمصلحية مثل العنوسة ، والفقر ، و التحرش الجنسي ، وغيرها ، وأبرزت أخبار هامشية وضعت في غير سياقها لاعطاء انطباع معين حول المشاركين والتوصيات التي شعروا أنها لاتخدم فكرهم الخاص بشكل كبير .
وهكذا المقابلات مع محمد علوي المالكي ، وحسن الصفار ، وحسين بن اسماعيل المكرمي الإسماعيلي وتصويرهم بأنهم مظلومون مفترى عليهم مع أن الأول فيه فتوى موثقة لأقواله الداعية للشرك والوثنية ، والشعية والإسماعيلية من دعاة الشرك دون مواربة أو استحياء
فالصحافة تسير في اتجاه مناقض للهيئات الشرعية والعلمية الأكاديمية ، بل تسعى لإقناع المواطن بأن علماء البلاد وطلبة العلم وأساتذة الجامعات من الإسلاميين متشددون لا يصلحون للفتوى والتوجيه .(/1)
ولا يجوزلمتحذلق أن يقول : إن هذا من حرية الرأي والتعبير ، لأن حرية الرأي مضبوطة بعدم الطعن والذم لمشاريع الآخرين بغرض التشويه ، وهذه الحرية مضبوطة بعدم الدخول في القضايا الشرعية بدون علم ، وأيضا مضبوطة بعدم وجود أجندة خاصة وتكتل لتحقيق هذه الإجندة ، وأيضا لابد في حرية الرأي من تكافأ الفرص بالسماح لطلاب العلم بصحافة حرة تبين الحقيقة . والصحافة تجاوزت كل الضوابط والحدود المعروفة ، نعم هي حرية لكنها لطرف واحد يريد تشويه مقومات البلد الأساسية وهي الدعوة والقضاء والإفتاء ومؤسسات العلم الشرعي وغيرها ، ويريد تطبيق قائمة من الأفكار والأوضاع الإجتماعية ولو بتمزيق وحدته وصنع الكراهة فيه .
ان السكوت عن العبث الفكري الصحفي مصيبة كبيرة لأن المتابعين لها كثير وما تغرسه في الشعور الباطن في الناس يشكل خطورة متناهية ومن أبرز ماتغرسه الصحافة في مشاعر الناس الكراهة والبغضاء للصالحين . فهل يتكلم العلماء وطلاب العلم مع المسؤولين في هذه الأزمة بوضوح تام ؟(/2)
الصحوة التي أحرقت قلوبا ..
د حبيب بن معلا
</TD
هناك مرض نفسي عند بعض الصحافيين والكتاب اسمه (متلازمة الصحوة)؛ فتجد الواحد منهم ينسب كل مصيبة يمر بها على الصعيدين الأممي والشخصي إلى (الصحوة ) ، وتجده يهذي ب(الصحوة ) و(الصحويين ) في كل حين يقظة ومناما؛فلو ثار بركان في أقصى الشرق قال : هذا من (الصحوة ) وبدأ يرصد الظواهر المصدقة لكلامه ويستشهد بخطرات أخدانه ممن يحمل الفيروس ذاته ، ولو خسر في سوق الأسهم لنسب ذلك إلى (الصحوة)، بل لو خسر فريقه في كرة القدم لثارت ثائرته وجعل السبب الوحيد لهذه الخسارة (التيار الصحوي).
فما الذي ياترى سبب هذه الفوضى العقلية وجعل هؤلاء يتخوضون في الناس تصنيفا وعبثا وينعون على الأمة أن تصحو بعد غفوة ؟؟؟ ثم هل هؤلاء يفهمون معنى الصحوة أم يهرفون بمالا يعرفون؟؟ثم ما معالم هذا الكائن الخرافي الذي يسمونه (الصحوة ) وينسبون إليه كل مصائب الدنيا ؟؟ ولماذا هذا الموقف الحاقد الموتور من هذه العودة الفطرية من جماهير الأمة للإسلام؟؟ كل هذه الأسئلة كانت تخطر في ذهني مع كل إطلالة على صحافتنا اليومية ونظرة في كتابات كثير ممن سوغ له انحرافه أن تكون له زاوية يصب فيها قيحه كل حين مصادما الأمة في أعز ماتملك ..ولم أكن أملك إجابة لكل هذا فكتبت هذه المقالة لنفكر معا حتى نجد إجابات شافيات ..
بادئ ذي بدء لابد أن نتحدث في مفهوم هذه (الصحوة).. إن الصحوة تعني بكل وضوح وبعيدا عن أي معنى انكفائي أو تحزبي : ( عودة المسلمين إلى دينهم) أو بالمعنى الإنساني : (ظاهرة العودة العالمية للتراث الروحي ) ، وهي موجودة في جميع الديانات بعد سيطرة المادية الملحدة لعشرات السنين عاد الناس إلى تراثهم الروحي كل أمة وفق تراثها ؛ فالمسلمون عادوا إلى الكتاب والسنة ، واليهود عادوا إلى تلمودهم الوثني ، والنصارى إلى صلبانهم النتنة، والرافضة إلى قبورهم الدارسة ، وهكذا ..
فالأمر لا يعدو أن يكون عملية تصحيحية للمسار ؛ فبعد أن جرب المسلمون القوميات الإقليمية والتيارات الإلحادية والماديات المنحرفة .. وبعد أن كانت المساجد مهجورة إلا من كبار السن والمرضى وبعد أن كان قصارى أمل الكهل والشاب عندنا أن يذهب إلى لبنان أو إيران أو الحبشة ليلغ في المحرمات وبعد أن كان الغناء والطرب يصم الآذان وينشر الرذيلة وبعد أن كان المسلم الحق يبحث في كل بنوك الدنيا عن مصرفية إسلامية بعيدة عن الربا فلا يجد وبعد أن كان الناظر يبحث في بعض العواصم المسلمة فلا يجد محجبة على الإطلاق ، وبعد أن .. وبعد أن.. وبعد أن .. عاد المسلمون إلى دينهم وامتلأت المساجد من جديد ونبضت العروق الطاهرة بدماء جديدة وصار الفاسق ينكفئ بفسقه ولا يظهره حياء من الناس وظهرت الدعوة المباركة لأسلمة الاقتصاد والفكر والثقافة والأدب والحياة وفق منهاج الله تعالى وكثرت نماذج عودة المخالفين لدين الله تعالى من الفنانين وغيرهم إلى الكتاب والسنة وانتشر الخير وكثر الحجاج والمعتمرون بعد أن كاد بيت الله يهجر... بل ظهر التميز في جانب العلوم التطبيقية والتجريبية البحتة ، ورأينا متفوقين في الطب والحاسوب والفيزياء والفلك والهندسة وغيرها ممن يعالن بانتمائه لدينه الحق وأمته المباركة ووطنه الطاهر بعيدا عن الخونة الذين ظنوا العلوم المادية المعاصرة ملازمة للمروق من الدين وخيانة الوطن..
هذه هي الصحوة .. ليست الصحوة حزبا سياسيا ولا جماعة معينة بل هي عودة فطرية لهذا الدين العظيم من هذه الجماهير المتعطشة للهدى والحق ، وكل الذين باركوا هذه الصحوة ودعموها إنما كانوا يريدون الخير لهذه الأمة ولا يفهمون الصحوة كما فهمها مرضى الصحافة النفسيون ..
إن من أكبر الذين أسهموا في هذه الصحوة المباركة بأعمالهم الجليلة : فهد بن عبدالعزيز (سقى الله قبره شآبيب الرضوان).. ولو نظرنا لعمل واحد من أعماله وهو : توسعة الحرمين لعلمنا أن من أسباب عودة كثير من المسلمين لدينهم تسهيل الوصول إلى تلك الديار الطاهرة فأقبل الناس عليها وعادوا بنفوس راضية تحب الدين وتنصر الملة ..
هذه هي الصحوة .. هي إقبال وصدق وطهر ، وكل الذين يهاجمونها إما غير مدركين لما يقولون أو تحترق قلوبهم من هذه الصحوة التي حرمتهم من المعالنة بالموبقات والفواحش..
إننا نرى ظلما فادحا يمارسه بعض مرضى الصحافة على الأمة بأسرها حين ينسبون عملا تخريبيا أو شذوذا تكفيريا إلى هذه الصحوة الفطرية التي تشمل كل بيت .. والعجيب الغريب أن القنوات المشبوهة والصحف المهاجرة وبعض الصحافة المحلية وبعض المسلسلات التافهة التي يراد لها أن تكون انعكاسا لمجتمعنا كلها تُجمع على حرب هذا التدين الفطري في المجتمع وتقف ضده ..
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..(/1)