(1) أفكار الغرب: إن الرسوم المتحركة المنتجة في الغرب مهما بدت بريئة ولا تخالف الإسلام، إلا أنها لا تخلو من تحيز للثقافة الغربية، هذا التحيز يكون أحياناً خفياً لا ينتبه إليه إلا المتوسمون، يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري: "فقصص توم وجيري تبدو بريئة ولكنها تحوي دائماً صراعاً بين الذكاء والغباء، أما الخير والشر فلا مكان لهما وهذا انعكاس لمنظومة قيمية كامنة وراء المنتج، وكل المنتجات الحضارية تجسد التحيز"(18)، و الرسوم المتحركة في أكثر الأحيان تروج للعبثية وغياب الهدف من وراء الحركة و السلوك، والسعي للوصول للنصر والغلبة ـ في حمي السباق والمنافسة ـ بكل طريق، فـ(الغاية تبرر الوسيلة)، كما تعمل على تحريف القدوة وذلك بإحلال الأبطال الأسطوريين محل القدوة بدلاً من الأئمة المصلحين والقادة الفاتحين، فتجد الأطفال يقلدون الرجل الخارق Super man ، والرجل الوطواط Bat man ، والرجل العنكبوت Spider man ، ونحو ذلك من الشخصيات الوهمية التي لا وجود لها، فتضيع القدوة في خضم القوة الخيالية المجردة من بعدٍ إيماني.
(2) روح التربية الغربية: إننا إن تجاوزنا عن ترويج الرسوم المتحركة للأفكار الغربية، فلا مجال للتجاوز عن نقلها لروح التربية الغربية، يقول الدكتور وهبة الزحيلي: "أما برامج الصغار وبعض برامج الكبار فإنها تبث روح التربية الغربية، وتروج التقاليد الغربية، وترغب بالحفلات والأندية الغربية"(19)، ذلك أنها لا تكتفي بنقلها للمتعة والضحكة والإثارة بل تنقل عادات اللباس من ألوان وطريقة تفصيل وعري وتبرج، وعادات الزينة من قصة شعر وربطة عنق، ومساحيق تجميل، وعادات المعيشة من ديكور وزخرفة، وطريقة أكل وشرب، وثمل ونوم وحديث وتسوق ونزهة، وعادات التعامل من عبارات مجاملة واختلاط، وعناق وقبلات، ومخاصمة وسباب وشتائم، ونحو ذلك من بقية مفردات النسق الثقافي الغربي.
هذا النسق الثقافي المغاير يتكرر أمام الطفل كل يوم فيألفه و يتأثر به، ويطبقه في دائرته الخاصة، حتى إذا ما تكاملت شخصيته لم يجد منه فكاكاً فصار نهجاً معلناً ورأياً أصيلاً لا دخيلاً!! ـ كيف لا؟ وقد عرفه قبل أن يعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا ـ فلا يجد حرجاً في الدفاع عنه والدعوة إليه بل والتضحية من أجله.
ثالثاً: المخرج والعلاج:
لتلافي سلبيات مشاهدة الرسوم المتحركة يجب الاهتمام بالآتي:
[1] تعميق التربية الإسلامية في نفوس الأطفال: فالحق أبلج والباطل لجلج.. ومتى وجد الطفل الفكرة الصحيحة.. وقعت في نفسه موقعاً طيباً.. ذلك أنه وُلد على الفطرة، والإسلام هو دين الفطرة.. والأفكار المنحرفة لا تسود إلا في غياب الفكرة الصحيحة.. "فإذا جرى تقديم منظور إسلامي عن طريق تثقيف الأطفال وتعليمهم عن القيم الإسلامية ودستور الحياة الإسلامي، فإنهم سيكتسبون موقفاً مبنياً على تقييمٍ ناقد لوسائل الإعلام من وجهة نظر إسلامية، ويمكن تقديم هذا النوع من التربية ذات التوجه الإسلامي في الأسرة والمدرسة وكذلك في المرافق الموجودة في المجتمع"(20). "وإذا قدم الآباء للأطفال نموذج دور لسلوك إسلامي منضبط، وأوضحوا للأطفال أن الجرائم والعنف والحياة المنحلة أمور غير مرغوب فيها، فإن الأطفال يكبرون وهم يحملون مواقف إيجابية، ويتحلون بنفسية تحميهم من الآثار السالبة لوسائل الإعلام، إن أفضل السبل لإبطال تأثير التلفزيون هو قيام الآباء والمعلمين بتثقيف الأطفال وتهذيبهم"(21)، "إن الأسرة والمجتمع يمكن أن يسهما في صياغة قالب لموقف عقلي إيجابي وظاهرة نفسية بناءة في الأطفال، ولهذا الدور أبعاد متعددة هي:
أولاً: البعد الأسري: على الآباء وأفراد الأسرة إعلام الأطفال عن القيم الإسلامية بأسلوب يستطيع الأطفال إدراكه، كما يجب إبراز النماذج الاسلامية للأدوار في وقت مناسب بأسلوب لائق.
ثانياً: يجب أن تتخذ ترتيبات من كتب جرى تأليفها من منظور إسلامي، وإذا لم يتم ذلك في المدارس، كما هو الحال في المجتمعات غير الإسلامية، فبالإمكان تنظيم حصص لدروس إسلامية في عطلة نهاية الأسبوع، أو ربما يمكن تنظيم دروس خاصة في البيت بطريقة ناجعة، ويقتضي دعم التلقين الشفوي الذي يمارسه الآباء وأفراد الأسرة بمواد للمطالعة عندما يبلغ الأطفال هذا السن.
ثالثاً: إن ممارسة المعايير المزدوجة أمر بالغ الضرر ومن ثم يجب تفاديه إذ سيعمد الأطفال بطبيعة الحال إلى تقليد الآباء، ومن ثم فإن تعليم الأطفال الأمور التي لا يمارسها الآباء لن يعود بأية فائدة، وعلى الآباء أن يقدموا أنفسهم كنماذج أدوار قابلة للتكيّف"(22).(/3)
[2] تقليل مدة مشاهدة الأطفال للرسوم المتحركة: إن مشاهدة الأطفال للرسوم المتحركة ـ وللتلفاز عموماً ـ ينبغي أن لا يتجاوز متوسطها 3 ساعات أسبوعياً، هذه الفترة المتوسطة تعلم الطفل كيف يختار بين البدائل الموجودة، وتعلمه الاتزان والتخطيط وكيفية الاستفادة من الأوقات. كما أنها ـ إذا أُحسن الاختيار ـ تدفع عنه سلبيات التلفاز والرسوم المتحركة المذكورة آنفاً.
[3] إيجاد البدائل التي تعمق الثقافة الإسلامية: وذلك بدعم شركات إنتاج الرسوم المتحركة التي تخدم الثقافة الاسلامية وتراعي مقومات تربيتها، ولا تصادم غزائز الطفل بل توجهها وجهتها الصحيحة:
فغريزة الخوف يمكن أن توجه إلى خشية الله وتقواه ومراقبته، والحذر من ارتكاب الجريمة، والحياء من الإقدام على المنكرات، وغريزة حب الاستطلاع يمكن أن توجه إلى الوقوف على آثار قدرة الله في السموات والأرض والآفاق، وإلى حكمة الله وتقديره لأمر المخلوقات والكائنات، وغريزة المنافسة: يمكن أن توجه للمسارعة في الفضائل، والمسابقة في تحصيل العلم والمعارف، وشغل الفراغ بالنافع.
وعواطف الطفل يمكن أن توجه نحو حب الانتماء للحضارة الإسلامية بكل خصائصها الدينية وقيمها الأخلاقية ومكوناتها اللغوية والتاريخية. وبغض الكفر والإلحاد.
وغريزة التقليد والبحث عن القدوة يمكن أن توجّه للتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، والأئمة المصلحين، والقادة الفاتحين على مر العصور... وهكذا كل الغرائز توجه إلى وجهتها الصحيحة.. تحقيقاً للإيمان.. واتساقاً مع الفطرة.
خاتمة:
إن تأثير الرسوم المتحركة على الأطفال كبير خطير، ذلك أن لها إيجابيات وسلبيات، تعمل كل واحدة منهن عملها في الطفل، غير أن المسجد والأسرة والمدرسة إن أُحسن استغلالهم.. و تكاملت أدوارهم.. يمكن أن يلعبوا دوراً رائداً في التقليل من خطرها.. والتبصير بأوجه ترشيد استخدامها.. لتكون عنصر نماء، و سلاح بناء.. وسلم ارتقاء إلى كل ما يحبه الله و يرضاه من سبق وريادة.. وإدارة وقيادة.. ومنعة وسيادة.
----------
(1) يقول أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدة المعلم الشهيرة:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلّفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا
(2) وسائل الإعلام والأطفال وجهه نظر إسلامية، د. أبو الحسن صادق، ص 1.
(3) هي مدينة كراتشي الباكستانية.
(4) المرجع السابق، نقلاً عن Jack G. Shaheen, The Arab TV , University of Popular Press, Ohio, 1984, P21
(5) وسائل الإعلام والأطفال، مرجع سابق، ص 16.
(6) في أية مرحلة تبدأ التربية، الأستاذ عبد الهادي أبو طالب، ص 4.
(7) المرجع السابق، ص4.
(8) قضايا الطفل في المجتمعات المعاصرة، د. محمد فاروق النبهان، ص 8.
(9) وسائل الإعلام والأطفال، مرجع سابق.
(10) نظرة إسلامية حول تربية الطفل وحمايته في القرن الواحد والعشرين، د. علي أوزاك، ود. محمد فاروق بيراقدار، ص 20.
(11) وسائل الاعلام والأطفال، مرجع سابق، ص 3.
(12) المرجع السابق، ص 3.
(13) How the world has been controlled مقال مترجم عن الإنجليزية.
(14) وسائل الإعلام والأطفال مرجع سابق، نقلاً عن Jack G Shaheen, The Arab TV, Bowling Green State Popular Press, Ohio, 1984, P 25.
(15) وسائل الإعلام والأطفال رؤية اسلامية، مرجع سابق، ص 5.
(16) المرجع السابق، ص7.
(17) انظر صحيفة Malay Mail عدد 27 مايو عام 1997م.
(18) مجلة الإسلام وفلسطين، العدد 55، حوار مع الدكتور عبد الوهاب المسيري، حاوره ممدوح الشيخ.
(19) قضية الأحداث، د. وهبة الزحيلي، ص 6.
(20) وسائل الإعلام والأطفال، مرجع سابق، ص 14.
(21) المرجع السابق، ص 23.
(22) المرجع السابق، ص 26.(/4)
الرشوة لتحصيل وظيفة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الرشوة والغش والتدليس
التاريخ ... 22/5/1424هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم.
شيخي الفاضل لقد اضطرتني الحياة والبطالة المقنعة والمنتشرة في بلدنا بشكل مهول إلى أن أطلب من شخص يعمل في إدارة أن يبحث لي عن عمل طيب، وفعلاً قام بذلك، وأخبرني أن امتحاناً سيجرى في تاريخ محدد، وأخبرني أنني إن أردت أحد المناصب المتوفرة فيجب أن أدفع نقوداً. وهذا الامتحان يصدر كل سنة، وقد اشتهر بأنه من يريد منصباً فيه عليه أن يدفع أو يدافع عنه شخص مسؤول . وحتى وإن فرضنا أن المرشح نجح فيه بدون وساطة وبمجهوده وهذا نادر جداً. فإنه في الاختبارات البدنية الأخرى التي تستمر أربعة أشهر يقومون بطرده، ويباع مكانه لشخص آخر بدعوى عدم كفاءة المرشح. ولا يفلت من ذلك إلا من رحم الله...، وأغلب المرشحين الذين يذهبون لاجتياز الامتحان الكتابي متأكدون تماماً أنهم إن لم يدفعوا مالاً فلن ينجحوا أبداً إلا إذا حدثت المعجزة. وهم أيضاً مستعدون تحت وطأة القهر أن يدفعوا ويخافون أن يتعرضوا للنصب. لذلك اضطررت أنا أن أدفع مالاً مقابل هذا العمل، وقلبي وعقلي يرفضان ذلك، ولكن ما العمل؟ المجتمع عندنا لا يرحم، وينظرون إلى العاطل عن العمل ولو كان يحمل شهادات عليا مثله مثل المتسكعين، وأحيطك علماً أن جميع الشروط المطلوبة في هذا المنصب متوفرة فيَّ من شهادات وعُمر، حيث يطلبون أن يكون عمر المرشح لا يتجاوز الخامسة والعشرين. وعمري أنا أربعة وعشرون عاماً ونصف بما يعني أنه إن فاتتني هذه الفرصة هذا العام فلن تكون هناك فرصة أخرى لي في العام المقبل، حيث سيكون عمري خمسة وعشرين عاماً ونصف...- وأريد أن أعلم إن حصلت على هذا العمل الطيب، هل الرزق الذي يأتي من ورائه وجهدي حلال أم حرام علي؟ وهل أكون أنا من ظلم المرشحين الآخرين؟ أم المسؤولون الذين طلبوا مني المال. وما موقفي من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-:"من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة".- وما موقفي من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الراشي و المرتشي والرائش في النار".- وقوله -صلى الله عليه وسلم-:"إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة" وتجدر الإشارة إلى أن المناصب المتحدث عنها هنا مناصب الوظيفة العمومية. وأطلب منك شيخي الفاضل أن تتأنى في دراسة مشكلتي هذه، والتي هي مشكلة الآلاف في بلادنا، وإن لم نقل الملايين. ونحن نعلم أن ظاهر النصوص الشرعية يقر بحرمة الرشوة. لكن ما العمل وواقعنا يفرضها بشدة بسبب قلة فرص الشغل؟ والتي ربما كما تعلم سيدي دفعت بالكثيرين في بلادنا إلى الهجرة والموت في البحر باتجاه إسبانيا. وفي انتظار ردكم الذي أطلب من الله -عز وجل- أن يأتي سريعاً.
الجواب
حرم الله الرشوة التي بسببها يمنع صاحب الحق من حقه، وسماها الله في محكم التنزيل سحتاً وباطلاً، فقال –تعالى- عن اليهود:"سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ" [المائدة: من الآية42]، وقال –تعالى-:"وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" [البقرة:188]، ولعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- دافع الرشوة والمدفوعة إليه والواسطة بينهما. انظر ما رواه الإمام أحمد (2399) من حديث ثوبان –رضي الله عنه- والمجتمع الذي تنتشر فيه الرشوة تعم فيه الفوضى والبطالة والمحسوبية، وتعدم أو تندر فيه الأمانة ويفشو فيه الكذب والخيانة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وواجب الحاكم (ولي الأمر) أن يمنع هذا المنكر، ويعاقب المتعاطين له، والمتعاملين فيه، ويقوم بتأمين فرص العمل، والعيش المريح لأفراد الرعية، كل ولي أمر للمسلمين لا يفعل هذا فهو خائن للأمانة ورعيته التي استرعاه الله إياها وسيسأله الله عنها يوم القيامة.
وما دامت شروط الوظيفة متوفرة فيك وحال المجتمع كما ذكرته في سؤالك ولو فاتت عليك هذه فلن يسمح لك النظام بالتقديم للوظيفة مرة أخرى، فإذا كان الأمر كما ذكرت فما فعلته جائز، بشرط أنك بذلت السبب في طلب العمل داخل الوظيفة الحكومية وخارجها من الشركات والأعمال الخاصة ولم تجد، فلا شيء عليك إن شاء الله، ووجه ذلك أن الوظيفة حق عام لمن توفرت فيه شروطها وأنت واحد منهم – والوظيفة المعينة التي تقدمت لها لم تثبت لأحد بعينه فحرم منها بسببك ومن أجلك، ولو كان هذا لكان الفعل حراماً لا يجوز بحال.(/1)
والأحاديث التي ذكرتها لا تنطبق عليك إن شاء الله، وقد رخص السلف بدفع الرشوة إلى الظالم ليرد الحق إلى صاحبه، وأنت صاحب حق مشاع بينك وبين غيرك قد منعت منه، فقد روى سفيان بن عمرو عن أبي الشعثاء قال: لم نجد زمن زياد أحد أمراء بني أمية – شيئاً أنفع لنا من الرشا)، وروي عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أنه كان في الحبشة فرشا بدينارين حتى خُلي سبيله، وقال: إن الإثم عن القابض دون الدافع، وإذا كانت الرشوة المحرمة هي ما يعطى لإبطال حق أو إحقاق باطل فإن أعطي ليتوصل به الإنسان إلى حق أو ليدفع به عن نفسه ظلماً فلا بأس به، والله أعلم.(/2)
الرضى في الجنة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه والتابعين :
استوقفني وأنا أعد إحدى الخطب عن الجنة والتي أسميتها دار النعيم المقيم استوقفني كثرة الحديث عن الرضى مما جعلني أقول لابد أن يفرد للرضى في الجنة حديث خاص .
ماذا أقول عن دار وعد بالرضى فيها قبل دخولها ؟ ومن استمع إلى تلك هاتين الآيتين أوضحتا له الكثير والكثير عن الرضى في الجنة ، ولكن لنستمع إلى تلك الآيتين ونحن مستحضرون أننا مازلنا في الدنيا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : " والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا ً وإن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم " الحج 58 ، 59 .
فبالله عليك أخي أما تشعر بالرضى ؟
يا سبحان الكريم الوهاب رضى الجنة يصلك وأنت في الدنيا ! ، وما خفي كان أعظم .
أنه رضى الله الذي وعد أهل الإيمان بالرضى .
لكن يا تُرى أين وعدهم ؟
وعدهم وهم في الدنيا فأخبر جل وعلا عن النار وأنها تلظى ولكن يا أهل الإيمان أبشروا إنكم بفضل الله سوف تجنبوا تلك النار ، وليس فقط بل ولسوف تحظون بالرضى .
قال تعالى " فأنذرتكم نارا ً تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى * وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى " .
إنه الرضى وعدنا ربنا به ونحن في الدنيا ، فكيف إذا صرنا إليه ؟ ما ظنك به ؟
أرجوك لا تطلق لخيالك الانطلاقة في تلك الرضى فإنه أكبر بكثير مما يدور بالخيل ، وكيف لا وفي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فكل ما خطر على قلبك من الرضى فقل له بل أكبر من ذلك عند ربي .
حتى إذا حقت الحاقة ووقعت الواقعة وقام الناس حفاة عراة غرلا ً ووقفوا ما شاء الله أن يقفوا
وطارت الصحف في الأيدي منشرة .... فيها السرائر والأخبار تطلع
" فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه * فهو في عيشة راضية * في جنة عالية * قطوفها دانية " .
نعم والله يبشر بعيشة راضية وهو في أرض المحشر ، وما ذاك إلا لما قدم في الدنيا " وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية " .
فيرضى عما قدم من عمل بعد أن أخذ كتابه باليمين وبشر بعيشة راضية .
حتى إذا تقدم إمام الأنبياء والمرسلين وخير ولد آدم أجمعين وأهل الجنة خلفه في موكب مهيب فإذ برسول الله صلى الله عليه وسلم يقرع باب الجنة فلا تعجب أخي إن علمت أن الذي يجيب قرع الباب هو خازن الجنة رضوان .
الله أكبر دار الرضى أشتق أسم خازنها من الرضى فأصبح اسمه رضوان .
إي وربي رضوان خازن الجنة من على باب الجنة تراه وتسمع صوته فلكأنها بشرى بما في الجنة من رضى .
حتى إذا تدفق الجموع إلى دار النعيم المقيم حتى يزدحم بهم باب عرضه مسيرة أربعين سنة وتلقتهم الملائكة بالتهنئة وبالتحية ونزلوا منازلهم وقصورهم كل منهم أعرف بمنزلة في الجنة أكثر من معرفته لمنزله في الدنيا تلقتهم الحور العين الخيرات الحسان يغنين بأحسن الأصوات نحن الراضيات فلا نسخط
ما ظن سامعه بصوت أطيب .... الأصوات من حور الجنان حسان
نحن النواعم والخوالد خيرا .... ت كاملات الحسن والإحسان
لسنا نموت ولا نخاف وما لنا .... سخط ولا ضغن من الأضغان
طوبى لمن كن له وكذاك طو .... بى للذي هو حظنا لفظان
فبالله عليك يا أخي أي نعيم هذا الذي فيه الحورية راضية ؟ وما ظنك بسيدها ألا يكون راضيا ؟
، وبينا هم في هذا الرضى إذ أتاهم ما هو أكبر .
فإن سألت أكبر من أي شيء ؟ فالجواب أكبر من كل شيء " ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم " .
في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك ، فيقول هل رضيتم ؟
يا لنعمة الله ! في كل هذا النعيم ورب الكون ومالك الملك يناديهم هل رضيتم ؟
فيقولون وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا ً من خلقك ؟ ، فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك ؟ ، فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا ً .
فاللهم إنا نسألك أن ترضينا وأن ترضى عنا .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
كتبها من يرجو عفو ربه /
أيمن سامي(/1)
الرغبة في الاستمرار
عزيزي القارئ:
مفكرة الإسلام : هل توافق معي على أننا بدون دوافع لا يكون عندنا رغبة في عمل أي شيء ؟
وهل توافق معي أن الزواج علاقة صداقة وثقة واحترام وحب بين الزوجين ؟
إذا كانت الإجابة بنعم فانظر إلى السطر التالي.
لكي نبني جدار الثقة ونتخلص من آثار مشكلة الخيانة الزوجية على الزوجين التحلي بالآتي:
[1] المرونة:
يقول د/ إبراهيم الفقي: [المرونة قوة].
والمرونة: [هي التحكم] فالشخص الأكثر مرونة في أسلوبه يكون تحكمه في الأشياء أكثر.
وتأمل معي هذين المشهدين:
الأول: ذبابة تحاول الخروج من نافذة مغلقة وظلت تحوم وتدور من اليمين إلى اليسار ومن أعلى إلى أسفل إلى أن انتهت طاقتها وماتت.
الثاني: أحد صيادي السمك كان يصطاد وكلما تخرج له سمكة صغيرة احتفظ بها ، وإذا خرجت له سمكة كبيرة كان يلقيها في البحر مرة أخرى ، فسأله أحد الجلوس ما السبب وراء هذا التصرف ؟ فقال: أنا حزين جدًا ولكني مضطر إلى ذلك حيث أن القدر الذي أطهي فيه السمك صغير جدًا لا يتسع إلا للسمك الصغير.
ونرجع مرة أخرى للذبابة فقد كانت تصر على الخروج من النافذة ولم يكن لديها المرونة الكافية لتبحث عن مخرج آخر ، وأصّرت على طريقة واحدة ، وكان بالقرب منها باب مفتوح كبير كان في استطاعتها أن تخرج منه لو أنها حاولت وغيرت طريقها.
أما الصياد فلو كان لديه مرونة كافية لكان راجع قدراته وإمكانياته وفكرن ولوجد حلاً لتلك المشكلة ولما فقد كل هذا السمك الكبير.
والكثير من الناس كذلك يكرر نفس الفعل ويتوقع نتائج مختلفة.
وفي كتابه [عظمة الذات] قال تشارلز جينيس:
[[ تكرار نفس المحاولات التي لا تؤدي إلى النجاح لن يغير من النتيجة مهما تعددت هذه المحاولات ]] , أي تكرار نفس العمل يؤدي إلى نفس النتائج.
أنت أيضًا عزيزي القارئ تحتاج إلى أن تكون مرنًا ومستعدًا لأقلمة نفسك وتغيير خطة حياتك؛ لأنك سوف تواجه تحديات كبيرة في الحياة فمن الممكن أن تفقد عملك مثلاً أو تنفصل عن شريك حياتك ، أو تُشرخ العلاقة بينك وبين شريكك كما في حالة الخيانة الزوجية فعليك بتحصين نفسك بالمرونة الكافية لعمل كل التغيرات اللازمة حتى تقف على قدميك مرة أخرى وتسير في الطريق السليم.
وقد تسأل كيف تتم الموازنة بين التفكير الإيجابي والمرونة وتوقع الفشل ؟
هذا ما نسميه [الفكر الاستراتيجي].
فلو أنك قلت لنفسك أن تفكر بطريقة إيجابية وسيكون كل شيء على ما يرام فإنك ستنهار من أول تحدٍ يقابلك في حياتك؛ لأنك لم تقم بتحصين نفسك ضد العقبات التي من الممكن أن تقابلها ، فلابد أن تتعلم وتكون مستعدًا لتعديل خطتك وتغيير مسارك , فالمرونة والتأقلم يقربونك أكثر من تحقيق أهدافك.
كيف نصل لدرجة مرونة كافية في الحياة الزوجية ؟
1ـ توقع أحسن شيء يمكن أن يحدث وأسوأ شيء يمكن أن يحدث.
2ـ توقع العقبات التي من الممكن أن تواجهك في علاقتك الزوجية وفكر في الحلول لها.
3ـ اجعل ذهنك دائمًا متفتح لأفكار جديدة ، وهذا هو التفكير الإبداعي وهو من المهارات الحياتية التي درسناها في مجال علم النفس ، وهو أنه عند وقوع مشكلة معينة أو خلاف يفكر الشخص في حل سريع لهذا الموقع ولا يضع [العقدة في المنشار] كما يقول المثل.
4ـ ابدأ من اليوم وكن مستعدًا لأي تغيير وقم بتحصين نفسك بالمرونة ستشعر بالتغيير في حياتك وستصل إلى قمة النجاح والسعادة في الحياة الزوجية.
[2] الرغبة في الاستمرار:
هل توافق معي على أننا بدون دوافع لا يكون عندنا رغبة في عمل أي شيء ؟
فعندما يكون لديك دوافع وبواعث نفسية يكون عندك حماسة أكثر وطاقة أكبر ، بعكس ما إذا كانت عزيمتك هابطة فلا يكون عندك طاقة ، ويتجه تركيز اهتمامك نحو السلبيات فقط فإذا توفر لدى الزوجين الرغبة الشديدة والمشتعلة لاستمرار حياتهما الزوجية فستستمر الحياة وستنجح بهذه الدوافع القوية فالرغبة في استمرار الحياة الزوجية هي أول قاعدة لنجاح العلاقة الزوجية إذن سر نجاح الحياة الزوجية هو الرغبة المشتعلة في استمرارها وإنجاحها.
[3] التوقع الإيجابي:
إذا لم تتوقع النجاح في علاقتك الزوجية فستفشل ، فإن كل الناجحين في الحياة عمومًا يجمعهم شيء واحد وهو ترقب النجاح أكثر من أي شيء آخر فالتوقع مثل السيارة بالضبط التي تأخذك إلى المكان الذي تريد الذهاب إليه.
وكما قال الحكيم كونفيشيس: [ما أنت عليه اليوم هو نتيجة كل أفكارك].
وإليك عزيزي القارئ هذا القانون العجيب وهو [قانون الانجذاب] وهذا القانون يقول:
[كل ما تتوقعه بثقة تامة سيحدث في حياتك فعلاً].
[إن العقل كالمغناطيس يجذب إليه الناس والمواقف والظروف لحالات أفكار متشابهة]
ما معنى ذلك ؟
أي عندما نفكر بطريقة إيجابية نجذب إلينا المواقف الإيجابية.
وعندما نفكر بطريقة سلبية فإننا نجذب إلينا المواقف السلبية.
فانتبه عزيزي القارئ كيف تفكر في الشريك الآخر؛ لأنه سيفكر فيك بنفس الطريقة وتجذب إليه أفكارك من نفس نوع الأفكار التي لديك.(/1)
واعلم أن التوقعات السلبية ينتج عنها حظًا سيئًا, وهناك حكمة تقول:
[نحن نتسبب في تكوين وتراكم حاجز الأتربة ثم نشكو من عدم القدرة على الرؤية]
كيف أصل إلى توقعات إيجابية وأتخلص من الشك في الشريك الآخر ؟
1- عندما تقول الزوجة لنفسها أشياء سلبية تنتبه فورًا وتأمر العقل الباطن بالإلغاء بقولها [الغي].
2- عليها بتغيير السلبيات إلى إيجابيات ، فإذا قالت لنفسها: [أنا لا أستطيع أن أثق في الشريك الآخر ثانية، ولن تنجح العلاقة بيننا] عليها بتبديل هذه الرسالة إلى: [أستطيع أن أثق في الشريك الآخر وستنجح العلاقة بيننا].
3- احذري الرسائل السلبية التي يتلقاها عقلك الباطل من صديقاتك وأفراد عائلتك والمحيطين بك ، ولا تسمحي لأي شخص أن يبرمج لك عقلك بتوقعات سلبية.
4- ابدأي يومك بتوقعات إيجابية وقولي لنفسك: [أتوقع أن يكون اليوم ممتازًا وبداية جديدة للعلاقة بيني وبين زوجي إن شاء الله].
5- توقعي الخير من نفسك ، ومن أفراد عائلتك ، ومن الشريك الآخر وإن كانت هناك عقبات.
ابتداءً من اليوم ارتفعي بتوقعاتك، وكوني دائمًا متفاءلة وترنمي حديث رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم المبشر بالخير: [[تفاءلوا بالخير تجدوه]].
وإلى اللقاء لنكمل هذه النقاط الخمسة فتابعي معي.(/2)
الرغبة في الصدارة
رؤية دعوية حول حقيقتها ومظاهرها وآثارها
عبد الحكيم بن محمد بلال
لا غرابة في حرص أهل الدنيا على الإمارة والولايات؛ فذلك أمر تعوّده الناس منهم، حتى أفضى الأمر إلى نزاعات وخلافات ومفاسد وفتن كثيرة، وأدى كثير منها إلى سقوط بعض الدول، كسقوط الأندلس وغيرها.
لكن الغريب أن يتسلل هذا الداء إلى داخل التجمعات الدعوية، ويسيطر على بعض النفوس المريضة، شعرت أم لم تشعر، حتى يصير همّ الواحد منهم أن يسود على بضعة أفراد، دون التفكير بتوابع ذلك وخطورته، وأنها أمانة، ويوم القيامة خزي وندامة(1).
التطلع للإمارة في ضوء النصوص الشرعية:
إن الحرص على الإمارة يفسد دين المرء الحريص عليها، ويضيع نصيبه في الآخرة، ويجعله شخصاً غير صالح لهذا المنصب، وتوضيح ذلك كما يلي:
أولاً: تحذير النبي- صلى الله عليه وسلم- من عواقب التطلع إلى الإمارة: قال صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على الشرف والمال لدينه)(2).
فبين أن الفساد الحاصل للعبد من جراء حرصه على المال والشرف: أشد من الفساد الحاصل للغنم التي غاب عنها رعاتها ليلاً، وأُرسل فيها ذئبان جائعان يفترسان ويأكلان، وإذا كان لا ينجو من الغنم إلا القليل منها؛ فإن الحريص على المال والشرف لا يكاد يسلم له دينه.
ثانياً: بيان طرق الناس في طلب الجاه :
للناس في طلب الجاه طريقان :
الطريق الأول: طلبه بالولاية والسلطان وبذل المال، وهو خطير جداً، وفي الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها؛ فإن الله جعل الآخرة لعباده المتواضعين، فقال: ?تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ? [القصص: 83] فنفى عنهم مجرد الإرادة، فضلاً عن العمل والسعي والحرص لأجلها، فإن إرادتهم مصروفة إلى الله ـ عز وجل ـ، وقصدهم الدار الآخرة، وحالهم التواضع مع الله ـ تعالى ـ والانقياد للحق والعمل الصالح، وهم الذين لهم الفلاح والفوز. ودلت الآية على أن الذين يريدون العلو في الأرض والفساد ليس لهم في الآخرة حظ ولا نصيب(3).
الطريق الثاني: طلب الجاه بالأمور الدينية، وهذا أفحش وأخطر؛ لأنه طلب للدنيا بالدين، وتوصل إلى أغراض دنيوية بوسائل جعلها الله ـ تعالى ـ طرقاً للقرب منه ورفعة الدرجات، وهذا هو المقصود بحديثنا هنا.
ثالثاً: النهي عن سؤال الإمارة :
وقد وردت نصوص تنهى عن سؤال الإمارة وتمنيها، وتحذِّر من ذلك، وتبين عاقبته، وتنهى عن تولية من سألها أو حرص عليها. وهي وإن كان يتبادر إلى الذهن أنها واردة في الإمارة الدنيوية ـ إمارة السلطان والوالي ـ إلا أن دلالتها أشمل من ذلك وأوسع، فهي تتناول ما نحن بصدد الحديث عنه. ومن تلك الأحاديث:
أ - قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن بن سمرة: لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها)(4) وفي رواية: (لا يتمنّينّ)، والنهي عن التمني أبلغ من النهي عن الطلب(5).
ب - وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة)(6) فهي محبوبة للنفس في الدنيا، ولكنها (بئست الفاطمة) بعد الموت؛ حين يصير صاحبها للحساب والعقاب. وفي رواية أخرى: (أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل)(7).
ج - وقال-صلى الله عليه وسلم- للرجلين اللذين سألاه الإمارة: (إنا لا نولّي هذا مَنْ سأله، ولا من حرص عليه)(8).
والسبب في عدم توليته الإمارة لمن سألها أنه غير صالح ولا مؤهل لهذا الأمر؛ لأن سؤاله له وحرصه عليه ينبئ عن محذورين عظيمين:
الأول: الحرص على الدنيا وإرادة العلو، وقد تبيّن ما فيه.
الثاني: أن في سؤاله نوع اتكال على نفسه، وعُجباً بقدراتها وغروراً بإمكاناتها، وانقطاعاً عن الاستعانة بالله ـ عز وجل ـ التي لا غنى لعبد عنها طرفة عين، ولا توفيق له إلا بمعونته ـ سبحانه وتعالى ـ (9).
فما أشبه حرص الداعية على رئاسة مركز إسلامي، أو إدارة مكتب دعوي، أو ترؤس لجنة، أو هيئة، أو مجموعة... ما أشبه كل ذلك بما نهى عنه - صلى الله عليه وسلم -، نسأل الله السلامة من الفتنة.
وما أحسن وصف شدّاد بن أوس ـ رضي الله عنه ـ لها بالشهوة الخفية حين قال محذراً: (يا بقايا العرب... يا بقايا العرب... إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء، والشهوة الخفية)، قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال (حب الرئاسة)(10). وصدق والله؛ فإنها مهلكة كالرياء. وعلى كثرة ما ورد من التحذير من حب المال؛ فإنها أشد إهلاكاً منه، والزهد فيها أصعب؛ لأن المال يبذل في حب الرئاسة والشرف.
مظاهر الحرص على الإمارة والظهور(11):
1- العجب بالنفس، وكثرة مدحها، والحرص على وصفها بالألقاب المفخمة كالشيخ، والأستاذ، والداعية، وطالب العلم، ونحوها، وإظهار محاسنها من علم وخُلُق وغيره.(/1)
2- بيان عيوب الآخرين ـ وخاصة الأقران ـ والغيرة منهم عند مدحهم ومحاولة التقليل من شأنهم.
3- الشكوى من عدم نيله لمنصب ما، وكثرة سؤاله عن الأسس والمعايير لتقلّد بعض المناصب.
4- الحرص على تقلّد الأمور التي فيها تصدّر وبروز؛ كالإمامة والخطابة والتدريس والتأليف والقضاء. وهي من فروض الكفاية، لا بد لها ممن يقوم بها، مع مراعاة أحوال القلب، والتجرد من حظوظ النفس؛ كما هو حال السلف.
5- عدم المشاركة بجدية عندما يكون مرؤوساً، والتهرب من التكاليف التي لا بروز له فيها.
6- كثرة النقد بسبب وبغير سبب، ومحاولة التقليل من أهمية المبادرات والمشاريع الصادرة من غيره والعمل على إخفاقها.
7- الإصرار على رأيه، وعدم التنازل عنه، وإن ظهرت له أدلة بطلانه.
8- القرب من السلاطين والولاة ومن بيده القرار في تقليد المناصب، وكثرة الدخول عليهم.
وهذا باب واسع يدخل منه علماء الدنيا لنيل الشرف والجاه، وهو مظنة قوية للفتنة في الدين، كما في الحديث: (من أتى أبواب السلطان افتتن)(12).
9- الجرأة على الفتوى، والحرص عليها، والمسارعة إليها، والإكثار منها.
وقد كان السلف يتدافعونها كثيراً؛ ومن ذلك ما قاله عبد الرحمن بن أبي ليلى: (أدركت عشرين ومئة من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فما كان منهم محدّث إلا ودّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفتٍ إلا ودّ أن أخاه كفاه الفتيا)(13).
آثار ومفاسد التطلع للإمارة: أولاً: مفاسد التطلع إليها والرغبة فيها:
1- فساد النية، وضياع الإخلاص، أو ضعفه، ودنو الهمة، والغفلة عن الله ـ تعالى ـ، وعن الاستعانة به.(14).
2- انصراف الهمّ عن المهمة الأساس، والغاية الكبرى من حياة العبد، وهو تحقيق العبودية لله ـ عز وجل ـ. والاشتغال عن النافع الذي أمر النبي-صلى الله عليه وسلم- بالحرص عليه فقال: (احرص على ما ينفعك)(15) وصرف الوقت والجهد والفكر فيما هو غني عن الاشتغال به، من مراعاة الخلق، ومراءاتهم، والحرص على مدحهم، والفرار من مذمتهم، وهذه بذور النفاق، وأصل الفساد.
3- المداهنة في دين الله ـ تبارك وتعالى ـ، بالسكوت عما يجب قوله والقيام به من الحق، وربما بقول الباطل من تحليل حرام، أو تحريم حلال، أو قول على الله بلا علم.
4- اتباع الهوى، وارتكاب المحارم من الحسد والظلم والبغي والعدوان ونحوه مما يوقع فيه هذا الحرص ـ ويستلزمه أحياناً ـ قال الفضيل بن عياض: (ما من أحد أحب الرئاسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير)(16).
ثانياً: مفاسد الحصول عليها للراغب فيها المتشوِّف لها(17):
1- الحرمان من توفيق الله وعونه وتسديده؛ (فإنك إن أُعطيتها عن مسألة وكلت إليها).
2- تعريض النفس للفتنة في الدين، والتي يترتب عليها غضب الله ـ تعالى ـ إذ ربما يَنْسى مراقبة الله، وتبعات الأمر، ويغفل عن الحساب، فقد يظلم ويبغي؛ ويُشعِرُ بذلك كله وصف النبي: بأنها أمانة وملامة وندامة.
3- تضاعف الأوزار وكثرة الأثقال؛ حيث قد يفتن؛ فيكون سبباً للصد عن سبيل الله ـ تعالى ـ وأشد ما يكون ذلك حين يكون منتسباً لأهل العلم والصلاح، قال ـ عز وجل ـ: ?لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ? [النحل: 25].
4- توقع سوء العاقبة في الدنيا، وحصول بلاء لا يؤجر عليه، قال الذهبي: (فكم من رجل نطق بالحق وأمر بالمعروف، فيسلط الله عليه من يؤذيه لسوء قصده، وحبه للرئاسة الدينية)(18).
5- التبعة والمسؤولية الشديدة يوم القيامة، قال: (ما من أمير إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً لا يفكه إلا العدل، أو يوبقه الجور)(19).
ثالثاً: آثاره على صعيد الجماعة والمجتمع:
الفرد والجماعة كلٌ منهما مؤثر في الآخر متأثر به، فإذا ما وقع الأفراد في مزلق كهذا، فإن الداء عن الجماعة ليس ببعيد؛ إذ سرعان ما تفسد الأخوة، وتَحل الخلافات، ويسهل اختراق الصف الإسلامي، وتحصل الشماتة به وبأهله.
وما أبعد هؤلاء عن تنزّل النصر، وحصول التمكين، مع هذا الاعوجاج والانحراف. بئست الدعوة حينما تكون مغنماً وجاهاً، ينتفع فيها المرء ويتبختر، وبئس الداعية حينما يسعى لاهثاً وراء زخارف الدنيا ومتاعها الفاني؛ فإن حب الظهور والبروز بداية الانحراف والسقوط والإخفاق.
وإذا كان الله ـ عز وجل ـ يعطي الكافر والمؤمن من الدنيا لهوانها عنده، ولكنه ـ سبحانه ـ أغير من أن يتم أمره بالتمكين لهذا الدين في الأرض على يد أناس عندهم شوب في الإخلاص، ويحبون الرئاسة والاستعلاء في الأرض؛ فكيف إذا كانوا يتخذون الدين مطية للدنيا، يبيعون دينهم بعرض قليل؟!(20).
أسباب الرغبة في الزعامة والتطلع للصدارة:(/2)
يُبتلى بهذه الشهوة العلماء والعباد والدعاة والمجاهدون ونحوهم؛ وذلك أنهم منعوا أنفسهم من المعاصي والشهوات، حتى لم يعد لهم فيها مطمع، ولكن نفوس بعضهم تبحث عن بديل ومكافأة لشدة المجاهدة، فتجده في التظاهر بالصلاح والعلم والدعوة... ولذة القبول عند الخلق، وتوقيرهم له واحترامهم وطاعتهم، فيهون عليها ترك المعاصي؛ لأنها وجدت لذة أعظم منها، وهذه مكيدة عظيمة؛ فقد يظن العبد نفسه مخلصاً، وهو في عداد المنافقين(21) ـ والعياذ بالله ـ ولكن يا ترى ما أسباب هذا الأمر في الحقيقة؟ (22).
1- ضعف الإيمان والرغبة فيما عند الله، الذي بسببه يركن هؤلاء إلى الدنيا، ويؤثرونها على الآخرة، وأشد من هذا: فساد النيّة، واتخاذ سبيل العلم والدعوة سُلماً لنيل الأغراض الشخصية، وما لهذا في الآخرة من نصيب، فلْيَنَلْ حظه من الدنيا!!
2- وهناك أخطاء تربوية تسهم في إشعال فتيل حب الزعامة، منها: الإكثار من مدحه والثناء عليه، أو عدم الكشف عن الطاقات الكامنة في المتربي لتوظيفها فيما يناسبها، مما يجعله يسعى لتوظيفها في هلاكه، ومنها: الغفلة عن بذور هذا المرض الأولية التي قد تبدو في سن مبكرة من المراحل التربوية، فتحتاج إلى تهذيب وترشيد ومتابعة؛ لئلا تجمح بصاحبها.
3- التوهم بخدمة الدعوة من خلال المنصب، والظن ـ أحياناً ـ بأن الإصلاح لا يكون إلا من مصدر القوة، وسبب هذا: عدم وضوح المنهج النبوي في الدعوة.
4- طبيعة الشخص نفسه، فقد يكون فيها من الثغرات ما يسبب مثل هذا، كالغيرة من أقرانه الذين نالوا ما يتمناه هو، أو غروره بسبب تفوقه على غيره، أو بروزه في الدعوة أو النسب، أو توليه بعض المسؤوليات والمهام.
5- الظن بأن المنصب تشريف، والغفلة عن كونه تكليفاً ثقيلاً، ومسؤوليةً ضخمة، وعبئاً ثقيلاً، وهذا يتطلب من صاحبه التضحية بوقته وماله ونفسه وراحته لمصلحة الآخرين، وأن التقصير فيه خيانة للأمانة وتضييع للواجب.
علاج الآفة وحلول المشكلة:
بعد تدبر الأسباب يظهر أن العلاج يتطلب خطوات أهمها(23) :
1- تكثيف التربية الإيمانية؛ القائمة على الإخلاص والتجرد لله ـ تبارك وتعالى ـ، والعمل للآخرة، والزهد في الدنيا.
2- التربية على الطاعة وهضم النفس منذ الصغر، والرضا بالموقع الذي يعمل فيه، وأداء واجبه أياً كان نوعه، كما صوّر النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الحال في قوله: (طوبى لعبد آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثٍ رأسه، مغبرةٍ قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفّع)(24).
3- التزام الضوابط الشرعية في المدح، وتجنب مدح أحد الأقران أمام قرينه مطلقاً.
4 - توضيح الأسس الشرعية لاختيار الأمير، وأنه لا يجوز طلب الإمارة، ولا الحرص عليها، وأن من طلبها لا يُوَلاّها، وإن وُلِّيها لم يُعَن عليها.
5- المصارحة والمكاشفة لمن تبدو عليه علامات الحرص، مع إحسان الظن به، فقد يكون متميزاً أو لديه مهارات فطرية، ومن ثَمّ النصيحة الفردية، فقد نصح النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا ذر ـ رضي الله عنه ـ في هذا الأمر خاصة(25).
6- تبيان الآثار المفسدة لنفس العالم والداعية من جرّاء حرصه عليها(26).
7- توضيح تبعاتها في الدنيا والآخرة. ومما ورد في ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة)(27). وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من أمير عشيرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً، لا يفكه إلا العدل، أو يوبقه الجور)(28).
8- الاعتبار بحال السلف الصالح في تواضعهم لله ـ تعالى ـ، وكراهيتهم الشهرة والتصدّر، وكل ما يؤدي إليها، ومحاولة عزل أنفسهم من بعض المواقع كما حصل من أبي بكر، وعبد الرحمن بن عوف، والحسن، وعمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنهم ـ، والأمثلة كثيرة... تركوها لله، لانشغالهم بمرضاته، وتوحّد همّهم وقصدهم، فتكفّل الله لهم بخير الدارين، فعوّضهم الله بشرف التقوى، وهيبة الخلق، قال ـ عز وجل ـ: ?إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وداً? [مريم: 96]، وقال: (وما تواضع أحد لله إلارفعه)(29). وقال: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)(30).
ولا يمكن بحال تحصيل هذه المنزلة لمن كان في قلبه حب المكانة في قلوب الخلق في الدنيا؛ لأن هذا من أعظم الصوارف عن الله ـ تعالى ـ. كتب وهب بن منبه إلى مكحول: (أما بعد: فإنك أصبت بظاهر علمك عند الناس شرفاً ومنزلة، فاطلب بباطن علمك عند الله منزلة وزلفى، واعلم أن إحدى المنزلتين تمنع من الأخرى). والمراد بالعلم الباطن: المودع في القلوب من معرفة الله وخشيته ومحبته ومراقبته، والتوكل عليه والرضى بقضائه والإقبال عليه دون سواه... فمن أغل نفسه بالمحافظة على ما حصل له من منزلة عند الخلق كان ذلك حظه من الدنيا، وانقطع به عن الله(31).(/3)
التوازن بين كراهية الصدارة والشهرة، وبين وجوب قيادة الناس:
لا ينبغي أن يفهم من هذا الموضوع إرادة قتل الطموح، وتفضيل دنو الهمة والقعود والخمول والعجز والكسل والتهرب من المسؤولية، وترك العمل، والتخاذل عن الواجبات، وفروض الكفايات ـ خاصة إذا تعينت على الأكفاء ـ، وترك اغتنام الفرص النافعة في الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ.
وقد جعل ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ الفرق بين الأمرين كالفرق بين تعظيم أمر الله وتعظيم النفس. فالناصح لله المعظم لله يحب نصرة دينه، فلا يضره تمنيه أن يكون ذلك بسببه وأن يكون قدوة في الخير. أما طالب الرياسة فهو ساعٍ في حظوظ دنياه، ولذا ترتب على قصده مفاسد لا حصر لها(32).
والمقصود أن الداعية المخلص يكره التصدر والإمارة والشهرة بطبعه؛ لإخلاصه وبعده عن الرياء، ولكنه في نفس الوقت هو صاحب المبادرة الخيرة، وهو فارس الميدان إذا تعين عليه التصدر؛ وقد حكى الله من دعاء المؤمنين قولهم: ?وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً? [الفرقان: 74] أي: أئمة هدى يقتدى بأفعالهم،وهذا لشدة محبتهم لله، وتعظيمهم لأمره، ونصحهم له، ليكون الدين كله لله، وليكون العباد ممتثلين لأمره.
وقال ـ سبحانه وتعالى ـ قاصاً كلام يوسف ـ عليه السلام: ?قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ? [يوسف: 55]، وليس ذلك حرصاً منه على الولاية، وإنما هو رغبة في النفع العام، وقد عرف من نفسه الكفاية والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه، فقصده إصلاح أموال الناس، وهو جزء من رسالة الداعية إلى الله، الذي يكون همه الأول فعل الخير طلباً لمرضاة الله ـ تعالى ـ، وليس قصده إرواء غليله، وإرضاء شهوته في الزعامة؛ فالضابط فيها هي النية والموازنة بين المصالح والمفاسد العامة.
فبالجملة: هاتان الآيتان توضحان أن المسلم هو الرائد والدليل، بل قد ينبغي له طلب هذه الوظيفة الشريفة، بل قد تتعين عليه للمصلحة. والأدلة والأقوال المحذرة لا تنطبق على داعية تصدّر لإرجاع قومه إلى الحق، حتى لو اشتهر وعرف فلا بأس(33). ويجب التنبيه إلى أن هذا الأمر مزلق؛ لالتباس النية فيه كثيراً، وصعوبة تمحيص القصد، وذلك علمه إلى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور: ?وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ? [ آل عمران: 30]
الكشف عن القدرات: كون بعض الدعاة لا يصلح للإمارة لا يعني إخفاقه وضعفه في كل شيء، بل إن غاية الأمر أنه لم يؤت قدرة في هذا الجانب، وقد يكون لديه من القدرات والإمكانات في العلم والعمل ما يفوق ما عند غيره ممن أُهل للإمارة مثلاً، وهذه سنة الله ـ تعالى ـ في توزيع القدرات، ليحصل التكامل والتوازن، قال ـ تعالى ـ: ?وَهُوَ الَذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ? [الأنعام: 165] فعلى العبد أن يفتش في نفسه عما هو أهل له، ليقوم بحق الله ـ تعالى ـ فيه.
وهكذا كانت نصيحة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر حين قال له: (يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرنّ على اثنين، ولا تَولّيَنّ مال يتيم)(34). ولا يقدح هذا في شيء من منزلة أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ وجلالته وقدره.
الهوامش :
(1) انظر: مجلة البيان، ع 90، ص 111.
(2) رواه أحمد، ج3، ص 456، 460، وانظر: صحيح الجامع، ح/5620، وانظر: رسالة بعنوان: (شرح حديث: (ما ذئبان جائعان? لابن رجب ـ رحمه الله تعالى ـ، فقد أخذت منه كثيراً في هذا الموضوع، وقد لا أشير إليه في بعض المواضع تحاشياً لإثقال الهوامش.
(3) انظر: تفسير السعدي، ص 575. (4) رواه البخاري، ح/7146.
(5) انظر: الفتح، ج13، ص 133. (6) رواه البخاري، ح/7148.
(7) وسندها صحيح. انظر: الفتح، ج13، ص 134. (8) رواه البخاري، ح/7149.
(9) انظر: شرح جوامع الأخبار، للسعدي، ص 105. ضمن المجموعة الكاملة.
(10) شرح حديث أبي ذر، ص 25، وجامع الرسائل، ج1، ص 233، كلاهما لابن تيمية.
(11) انظر: شرح حديث (ما ذئبان جائعان) لابن رجب، وانظر مشكلات وحلول في حقل الدعوة الإسلامية للبلالي، ص 85، 143.
(12) رواه أحمد، ج2، ص 371، 440، وانظر: صحيح الجامع، ح/6124.
(13) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، ج2، ص 1120.
(14) خواطر في الدعوة، محمد العبدة، ج2، ص 23. (15) رواه مسلم، ح/2664.
(16) جامع بيان العلم وفضله، ج1، ص 571.
(17) انظر: آفات على الطريق، السيد محمد نوح، ج2، ص 67، وأخذت منه في مواضع أخرى من هذا الموضوع.
(18) السير، ج 18، ص 191، 192.
(19) رواه أحمد، ج2، ص 231، وانظر: صحيح الجامع، ح/5695.
(20) انظر: خواطر في الدعوة، محمد العبدة، ج2، ص 23.
(21) انظر مختصر منهاج القاصدين، ص 267. وانظر سير أعلام النبلاء، ج18، ص 191،192.(/4)
(22) انظر: مشكلات وحلول، للبلالي، ص 85، 143.
(23) انظر آفات على الطريق، ج1، ص 72، ومشكلات وحلول، ص 86، 144.
(24) رواه البخاري، ح/2887. (25) رواه مسلم، ح/1826.
(26) انظر كلاماً نفيساً حول هذا للآجري في: أخلاق العلماء، ص 100، 121، 122.
(27) رواه البخاري، ح/7150.
(28) رواه أحمد، ج2، ص 231، وانظر: صحيح الجامع، ح/5695.
(29) رواه مسلم، ح/2588. (30) رواه مسلم، ح/2965.
(31) انظر: شرح حديث (ما ذئبان جائعان...)، ص 65. (32) انظر: الروح، ص 560 ـ 562.
(33) انظر: التنازع والتوازن في حياة المسلم، محمد بن حسن بن عقيل بن موسى، ص55، 61.
(34) رواه مسلم، ح/1826.
المصدر مجلة البيان</FONT>(/5)
الرفق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? [ آل عمران : 102 .] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً? [ النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
فإن الله تعالى يقول:?يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين? [ البقرة :153]
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أعطي أحد عطاء خيراً له وأوسع من الصبر" .
إن من خلق الصبر وفروعه الرفق في الأمور، والرفق في معاملة الناس، وترك العنف والقسوة وهذا مظهر من مظاهر خلق الصبر. وكما أوصانا الإسلام بالصبر فقد أوصانا كذلك بالرفق وحثنا عليه، واعتبر المحروم منه محروما من الخير كله.
والرفق في الأمور ، ترك العجلة والخفة فيها، إن العَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويثني ويمدح قبل أن يجرب، ويندم بعدما يحمد ويمدح، ويعزم قبل أن يفكر، والعجل تصحبه الندامة أو تعتزله السلامة ، وكانت العرب تكني عن العجلة "بأم الندامات" .
إن العنف في معاملة الناس يورث العداوات والأحقاد ويدفع إلى الرغبة في الانتقام، متى سنحت الفرصة لتنفيذه ، أما الرفق في معاملة الناس فهو يؤلف بين القلوب، ويمتلك مودتها، من أجل ذلك أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -أمته بالرفق، وحذرها من العنف ، وخص المسئولين من الرعاة بحديث خاص حيث حذرهم من العنف برعاياهم والتشديد عليهم فقد جاء في الصحيحين وغيرهما أحاديث كثيرة في بيان الرفق والتخلق به والنهي عن العنف وممارسته ، ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله".
وفي صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال: "إن الله تعالى رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه".
وفي مسلم أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال لعائشة: "عليك بالرفق، وإياك والعنف، فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه".
وعن جرير بن عبد الله البجلي ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: "من يحرم الرفق يحرم الخير كله".
وفي بعض الآثار ، ما كان الرفق في قوم إلا نفعهم ، ولا كان الخُرقُ في قوم إلا ضرهم. وقال بعض التابعين كنت أسمع عجائز المدينة يقلن إن الرفق في المعيشة خير من بعض التجارة. وجاء عن عروة بن الزبير أنه قال بلغني أنه مكتوب في التوراة ألا أن الرفق رأس الحكمة. والرفق زيادة بركة. فمن أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من خير الدنيا والآخرة.
وجاء عن أنس بن مالك t أنه قال: (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً نفعهم في الدين، ووقر صغيرهم كبيرهم ورزقهم الرفق في معيشتهم، والقصد في نفقاتهم، وبصرهم عيوبهم، فيتوبوا منها، وإذا أراد بهم غير ذلك تركهم هملاً).
إن الرفق من الأخلاق الهامة والضرورية التي نحتاج إليها في حياتنا لأن الرفق في الأمور يصلحها ويعطي أفضل النتائج وأحسن الثمرات.
فالمدرس الرفيق بطلابه الحريص على نفعهم وتعليمهم يكسب ودهم واحترامهم ويفلح في تربيتهم وإفادتهم، وذلك بخلاف المدرس العنيف الغليظ.
ورب الأسرة الرفيق في توجيهه وتعامله مع أهله وأولاده يسود جو الأسرة الحب والاحترام والسكينة والهدوء والتعاون على الخير ، فتنمو في هذه الأجواء الفضائل والمكارم وتختفي النقائص والجرائم. بخلاف رب الأسرة الغليظ العنيف، الذي يملأ بيته بالكراهية والحقد ويسودها جو من القلق والتوتر والآلام.
ومدير الشركة أو المصنع الذي يتعامل مع العاملين بالرفق والحب والاحترام يبادلوه حباً بحب واحتراماً باحترام ، فتنجح الأعمال ويتضاعف الإنتاج ويحافظ الجميع على ممتلكات الشركة أو المصنع من التلف والخراب كما يحافظون على مقتنياتهم الخاصة نتيجة للرفق والحب الذي يلمسونه ويعيشونه.(/1)
والدعاة والمصلحون الذين يتحلون بهذا الخلق فإنهم ينجحون في دعوتهم ويصلون إلى قلوب ونفوس ما كان لهم أن يصلوا إليها لولا الرفق والحلم والأناة، إن مجتمعات كثيرة تفتح قلوبها وبلادها لمن يأتيهم عبر هذا الطريق ، طريق الرفق والأناة ويغرس فيها من المبادئ والتعاليم ما يريد حتى ولو كانت تلك المبادئ ضالة مضلة .. ويكفي أن نعلم كيف استطاع المنصرون أن يؤثروا على مجتمعات وثنية بدائية بهذا الأسلوب حين عجزت الجنرالات أن تصل إليها بقواتها وجيوشها وطائراتها ودباباتها.
أليس من الواجب علينا نحن المسلمين أن نتخلق بهذه الأخلاق وأن نحمل الإسلام للعالمين لننير لهم دروبهم ونغرس فيهم الإيمان بربهم وخالقهم ونوصل لهم الإسلام ، إن الأمور الكبيرة لا يمكن تحقيقها إلا بالرفق والصبر ونستطيع أن ندرك بالرفق مالا ندركه بالعنف .. ألم تر أن الماء على لينه ورقته يقطع الحجر على شدته وقسوته.
الرفق يمن والأناة سعادة فاستأن في رفق تلاق نجاحا
إننا نستطيع أيها الأخوة أن نصنع الشيء الكثير لديننا ودنيانا ولأمتنا متى ما كانت لنا همة وتحلينا بالصبر والرفق والتؤدة ولقد أحسن من قال:
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
والحاكم العادل الرفيق بأمته ورعيته وبلاده يحبه شعبه ويتجاوب معه ويسمع له ويطيع ويتعاونون على تشييد الحضارات والمدنية ، وينتشر الأمن ويعم الرخاء أرجاء البلاد. ,وإن من الواجب على الولاة والحكام والرؤساء والزعماء أن يرفقوا بشعوبهم ورعاياهم، ولا يشقوا عليهم، فالرفق بهم كلمة رفيعة في السياسة والتدبير، والعنف معهم يورث الكراهية والتذمر والضجر والخروج عن الطاعة، وفساد أمر الجماعة، ولذلك فقد دعا الرسول الكريم الرفيق بأمته - صلى الله عليه وسلم -على الحكام الظلمة الذين يرهقون الأمة ويشقون عليها فقال: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاُ فرفق بهم فارفق به". ودعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم -مستجاب.
وفي الصحيحين أن عائذ بن عمرو دخل على عبد الله بن زياد فقال: أي بني، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يقول: "إن شر الرعاء الحطمة") ، فإياك أن تكون منهم.
فأبان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أن الرعاة من الولاة والحكام هم الذين يشتدون على الأمة ولا يرفقون بها، بل يمارسون معها الظلم والعسف والعنف، ويسنون لها من الأنظمة والقوانين ما يشق عليها في دينها ودنياها.
إن شر الرعاة من الناس على الناس هو الحطمة الذي لا رفق عنده ، ولا رحمة في قلبه تليّن سياسته وقيادته، فهو يقسو ويشتد على رعيته، ويوسعهم عسفاً وتحطيماً ، ويدفعهم دائماً إلى المآزق والمحرجات، ولا يعاملهم بالرفق والحكمة في الإدارة والسياسة، ولا يجتهد في سبيل رعايتهم وخدمة مصالحهم وينصح لهم ، هذا الصنف من الحكام والولاة محرومون من رحمة الله وجنته كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال: "ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة " .
الخطبة الثانية
إن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والحماقة الخرقاء تسمية الأمور بغير أسمائها وتفسير الأحداث على غير حقيقتها ومصادرة الحقائق وطمس معالمها، وإسناد الأشياء لغير أصحابها وذويها. هذا ما لمسته وأنا أتابع وسائل الإعلام وهي تحتفي بالسابع من يوليو يوم الانتصار .. إنها لم تذكر أسباب الانتصار العظيم بل هي تغش الأمة وتدلس عليها وتسمعها ما تكره.
أيها المؤمنون إن واجبنا أن نتذكر جيداً بأن الظلم والطغيان ومحاربة الدين والتمرد على أحكام الله هو السبب الهام في سقوط الدول وانهيارها، وهو السبب الرئيس في هزيمتها واندثارها، وتحطيم الحضارات وزوالها وهي نتيجة ظلم الإنسان وتكبره وطغيانه. استمعوا إلى قول الله عز وجل وهو ينبهنا ويرشدنا إلى هذه الحقيقة: ? وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ? [ هود: 102]. ويقول جل وعلا: ? وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا? [ الكهف : 56 ] . ويقول: ? وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا(8)فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ? [ الطلاق: 8-9].
إننا جميعاً نعلم حقيقة الوضع في المناطق التي كانت تقع تحت الحكم البلشفي الشيوعي ، عايشناه ولمسناه منذ بدايته وحتى نهايته، فواجبنا أن نأخذ العبرة ونستفيد منها فلا نقع فيها أو نكررها بصورة أخرى، ونسير في الطريق ذاته طريق الفساد والظلم والطغيان فإن العاقبة والنتيجة واحدة ? .. وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ? [هود : 83].(/2)
هذه حقيقة لابد من إدراكها ووعيها جيداً. والحقيقة الأخرى التي لابد أن نتذكرها هي أن النصر ما هو إلا من عند الله ويكذب ويفتري من يقول غير ذلك ، وإلا فما الذي جمع الأمة على اختلاف قبائلها ومشاربها وتنظيماتها وأحزابها ، إنه الله وحده حينما أراد أن ينتقم من أعدائه، ويكذب ويفتري من يقول غير ذلك، ثم إن الذين كانوا سببا للنصر ليسوا سوى ـ أولئك ـ الذين تواروا عن الأنظار وأسدل الستار عليهم وهم المؤمنون الصادقون والمؤمنات الصادقات، بدعواتهم وصلواتهم وبذلهم لأرواحهم وأموالهم، فلماذا لا يذكر هؤلاء ويظهر على المسرح غيرهم ، لعل النظام العالمي الجديد له رغبة ملحة في ذلك ، يخفي العمالقَة ويظهر الأقزام.
ثم ماذا تعني هذه الاحتفالات وما قيمتها إذا لم نأخذ الدروس والعبر من الماضي ونستفيد لحاضرنا ومستقبلنا، نصحح أوضاعنا ونصلح أحوالنا ، نقيم العدل ونزيل الظلم ونبني جميعاً قيم الرحمة والخير في هذه البلاد. نرجو أن يكون ذلك في حس ووجدان الذين يسوسون ويحكمون.
هناك أمر آخر لابد من ذكره بسبب الجرعة الثالثة وما وراءها ، إنني ألاحظ أن الناس وهم يطحنون بالغلاء وارتفاع الأسعار مع البطالة وقلة الدخل سيتحولون إلى متسولين محترفين، أو إلى عصابات و مافيات للسطو والنهب واحتراف السرقات والإجرام وترويج المخدرات، والفساد في الأرض .. أقول بل وأحذر بأن هذا سيحصل وستزداد نسبة الجريمة في المجتمع .. ولا سيما مع ضعف الإيمان وقلة التوجيه بل وانعدامه من وسائل الإعلام المرئي والمسموع الذي يغري بالجرائم ويدعوا إلى الفاحشة ويجفف منابع الخير من النفوس ويطمس البصيرة والبصر بكل فج سامج رخيص، لقد تحول التلفزيون بقنواته إلى وسيلة هدم وتخريب وجاوز حدوده .. لا يوجد في برامجنا سوى الغث الرديء .. أين العقلاء في هذه الأمة أين المثقفون وأين العلماء والمفكرون هل أجدبت البلاد، وهل أفقرت من الخير .. فلا مكان فيها إلا للممثلين والفنانين من الذكور والإناث. إن هذا منكر على الأمة بكل فئاتها أن تنكر هذا المنكر وتطالب المسئولين بوقف هذا الوباء المدمر ، وعلى الأمة ولا سيما رواد المساجد وعمارها أن يتجهوا إلى الله يدعوه مخلصين له في أن يزيل عنا هذا الدمار الذي يحطم النفوس والأخلاق والقيم ويغرس مكانها قيم الجاهلية والعلمانية والإباحية .. وأن يزيل القوى الخفية التي تسيّر وتروج لذلك . تكلموا بألسنتكم و أنكروا بقلوبكم وارفعوا أصواتكم بالإنكار لعلكم ترحمون .
أخرجه البخاري في صحيحه باب الاستعفاف عن المسألة ج2 ص534 رقم الحديث: 1400 ومسلم في صحيحه ج2 باب فضل التعفف والصبر رقم الحديث: 1053
عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله) رواه مسلم
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف )أخرجه البخاري ومسلم .
رواه مسلم في صحيحه باب فضل الرفق ج4 ص 2003 رقم الحديث: 2594
أخرجه مسلم . دون ذكره لفظ (كله) وهو بهذا اللفظ في صحيح سنن ابن ماجة ج1 باب الأدب والاستئذان ص299 رقم الحديث: 2973
حديث ضعيف . ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة ج2 ص251 رقم الحديث: 860
أخرجه مسلم باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم ج3 ص1458 رقم الحديث: 1828
الرعاء : جمع راعي ، والحطمة : هو الذي يشتد على إبله أو بقره أو غنمه فيسوقها سوقاً عنيفاً بغير رحمة ولا حكمة، فيحطم بعضها ببعض ويدوس بعضها بعضاً فيهلكها ويقضي عليها.
أخرجه مسلم باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم ج3 ص1461 رقم الحديث: 1830
أخرجه مسلم باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار ج1 ص126 رقم الحديث: 124
الجرعة الثالثة / يشير الخطيب إلى :
برامج اقتصادية تتبناها الحكومة اليمنية بالتعاون مع البنك الدولي وتقضي تلك البرامج برفع الأسعار في المشتقات النفطية, ورفع الدعم المقدم من قبل الحكومة عن السلع الأساسية . مما سبب في غلاء الأسعار وتدهور العملة.(/3)
الرقص فوق سفينة تغرق ...
...
خالد سعد النجار ...
</TD ...
كثرت في الآونة الأخيرة صيحات الدعاة المخلصين والخبراء المتخصصين عن مواجه المنطقة العربية الإسلامية (الشرق الأوسط) في القرن المقبل عدة أزمات تضاف إلى رصيد الأزمات التي تعانى منها في الوقت الحاضر ولكن تلك الأزمات المقبلة المتوقعة ذات طبيعة خاصة فهي من الخطورة الشديدة بما يجعلها قاصمة الظهر الحقيقية التي يمكن أن تؤدى إلى انهيار الكيان العربي الإسلامي في المنطقة بأسرها ووقتها لن تنفع الشعارات ولا الهتافات ولا المؤتمرات التي تتمخض عن استنكارات وتوصيات .
ولا سبيل للخروج من تلك الأزمات المتوقعة إلا بالاستعانة بالله تعالى ثم بالدراسات الواعية من الخبراء والمتخصصين لإيجاد الحلول المناسبة التي يعقبها البدء في التنفيذ الجاد وأن نعد لكل أمر عدته قبل أن نكون لا في العير ولا في النفير .
أزمة المياه في الوطن العربي :-
تعانى أغلب مناطق الوطن العربي من ظاهرة ندرة المياه لوقوعها جغرافيا في المنطقة الجافة وشبه الجافة من الكرة الأرضية ومع زيادة نمو السكان في الوطن العربي فإن مشكلة الندرة تتفاقم كنتيجة منطقية لتزايد الطلب على المياه لتلبية الاحتياجات المنزلية والصناعية والزراعية كما لا تقتصر المشكلة على مسألة ندرة المياه بل تتعدى إلى نوعية المياه التي تتدنى وتتحول إلى مياه غير صالحه للاستهلاك الآدمي لأسباب متعددة .
وتكاد المشكلة تشمل جميع مصادر المياه في الوطن العربي فالأنهار العربية الكبرى مثل النيل والفرات تنبع من دول غير عربية وتجرى وتصب في بلدان عربية مما يجعل لدول المنبع ميزة جيوبوليتيكية استراتيجية في مواجهه البلدان العربية كما لا تتوفر على المستوى الدولي قوانين كافيه لتقاسم الموارد المائية المشتركة وإن وجدت أعراف وتقاليد غير ملزمة لاقتسام المياه وتبقى الاتفاقيات بين الدول المشتركة في مصدر مائي معين هي أعلى مراتب الالتزام المعترف به دوليا لتقاسم الموارد المائية ، ويتطلب الاستغلال الأمثل للمياه الجوفية ومياه الأمطار استثمارات ضخمة لإقامة التجهيزات والمشروعات اللازمة لهذا الاستغلال ،كما أن مشروعات تحلية المياه تحتاج بالإضافة إلى الاستثمارات الضخمة تكنولوجيا متقدمة .
وقد جاء في تقويم أجرته مجله [ايكونوميست] البريطانية في أوائل عام 1996 ما نصه [ إن الماء في الشرق الأوسط شحيح بدرجة ليس لها مثيل في أي مكان آخر في العالم وأنه يزداد نقصانا ] .
وفي عام 1989 خلص مؤتمر [ الموارد المائية للدول العربية وأهميتها الاستراتيجية ] الذي عقد في عمان بدعوة من الجامعة الأردنية إلى أن أهم خصائص موارد المياه العربية هو قلتها بحيث أنها لا تكفي لتغطيه الاحتياجات الحياتية واحتياجات التنمية التي يطمح إليها العرب في العقود المقبلة وخلص المؤتمر إلى أن الأمن المائي العربي هو بأهمية الأمن السياسي العربي .
وفي تقرير لمركز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن أكد أن المياه وليس النفط ستكون قضية المصادر الطبيعية المسيطرة فالنزاع على مصادر المياه المحدودة والمهددة يمكن أن يؤثر في الروابط بين دول المنطقة وربما يؤدى إلى جيشان لم يعرف له مثيل من قبل .
لذلك أصبح الماء قضيه ملحه تحمل في طياتها إمكانية زعزعه استقرار النظام حيثما تطل بأنيابها ونشوء نزاع بين الدول المتجاورة وقد نقل عن العاهل الأردني السابق الملك حسين قوله [ إنه لن يدخل حرباً مع إسرائيل مرة أخرى إلا بسبب الماء ]
وبالرجوع بأحداث التاريخ إلى الوراء قليلاً نلاحظ وجود بعض التوترات بسبب قضية المياه مما يؤكد أن أزمة المياه المتوقعة ليست من نسج الخيال أو حاله من التشاؤم تنتاب البعض منا بل إن لها إرهاصات ومقدمات تنذر بإمكانية انفجارها في أي وقت .
ففي 26/2/1956 أعلنت إثيوبيا في جريدتها الرسمية [ إثيوبيان هيرالد ] أنها سوف تحتفظ لاستعمالها الخاص مستقبلا بموارد النيل وتصرفاته في الإقليم الإثيوبي - أي حوالي 86% من إيراد النهر بأكمله - وقد وزعت مذكرة رسمية على جميع البعثات الدبلوماسية في القاهرة تضمنت احتفاظها بحقها في استعمال موارد المياه النيلية لصالح شعب إثيوبيا . وقد عادت تلك التصريحات في الظهور سنة 1980 حيث أشار ممثل إثيوبيا في قمة لاجوس أنه [ لا توجد اتفاقيات دوليه حتى الآن بشأن توزيع حصص مياه النيل ] .
وقد وضعت إثيوبيا عام 1981 قائمة بأربعين مشروعاً للري يقع بعضها على حوض النيل الأزرق وحوض السوباط أمام مؤتمر الأمم المتحدة للبلدان الأقل نمواً وأعلنت أنه في حالة عدم توافر اتفاق مع جيرانها في حوض النيل فإنها سوف تحتفظ بحقها في تنفيذ مشروعاتها من جانب واحد .(/1)
وفي حديث للدكتور (زويدى أباتى) المدير العام لتنمية الأودية الإثيوبية دعا إلى توزيع مياه نهر النيل بالتساوي بين الدول التسع المشاركة في حوض نهر النيل وأنه إذا أرادت دوله الاستئثار بنصيب أكبر فإنها يجب أن تدفع تعويضات مناسبة لدول الحوض الأخرى والتي ستتأثر الكميه التي ستحصل عليها من جراء ذلك كما طالب بتوقيع اتفاقيات جديدة بين دول الحوض تقوم على أساس المساواة والعدالة في التوزيع .
أما في حوض نهر دجله والفرات فالأزمة ليست بأقل شأنا من أختها في حوض النيل ففي عام 1981 بدأت تركيا مشروعها الكبير [ مشروع جنوب شرقي الأناضول الكبير ] GAP وهو يضم 13 مشروعاً لأغراض الري وتوليد الطاقة الكهربائية وكان بناء سد أتاتورك - خامس أكبر سد في العالم - على نهر الفرات من أهم المشاريع التي أظهرت حقيقية أزمة المياه في حوض النهر حيث أقدمت تركيا في 13/1/1990 على منع مياه نهر الفرات وحبسها عن العراق وسوريا بغرض تخزين تلك المياه خلف السد وذلك لمدة شهر حتى 13/2/1990 وكان قول الممثل التركي [ لا أحد يقيم سداً مائيا ليستخدمه كمتحف للجميع ] ومضت تركيا في تنفيذ خطتها دون الالتفات للاحتجاجات السورية والعراقية من جراء ذلك العمل .
ويعتقد كثير من المحللين أن وجود شواهد بترولية في سوريا أدى إلى وجود نية تركية قوية لمقايضه البترول بالمياه حيث يقول سليمان ديميريل في افتتاح سد أتاتورك في يوليو 1992 [ إن منابع المياه ملك لتركيا كما أن النفط ملك للعرب وبما أننا لا نقول للعرب أن لنا الحق في نصف نفطكم فلا يجوز لهم أن يطالبوا بما هو لنا] .
وأما في الأراضي المحتلة فالأمر أكثر توتراً وصعوبة حيث كان تأمين مصادر وفيرة من المياه للدولة الصهيونية أحد أهم أهداف الحركة الصهيونية على حساب العرب .
ويلخص د/ سامر مخيمر وهو أحد المتخصصين العرب في جانب المياه - خطه إسرائيل المائية وترتيباتها للاستحواذ على مياه نهر الأردن بقوله (1):
يمكن تقسيم ترتيبات إسرائيل المائية إلى ثلاث مراحل :-
المرحلة الأولى وتمتد في الفترة من 1948 - 1958 حيث شرعت إسرائيل في أعمال خطه زراعية / مائية تركز على ثلاثة أهداف :
أ- إمكانية استيعاب المهاجرين الجدد. ب- إقامة المستوطنات الزراعية .
جـ- إنتاج الغذاء .
وتطلب تحقيق هذه الأهداف تنفيذ مشروعات مائية تتمثل في :-
1- إنشاء شبكات مياه في مختلف المناطق لحصر الموارد الجوفية .
2- إقامة جملة من خطوط الأنابيب المحلية تمتد من الشمال إلى الجنوب .
3- إنشاء قناة لسحب المياه من نهر الأردن باتجاه الصحراء الفلسطينية .
وقد بدأت إسرائيل بين عامي 1948 - 1953 بحفر عدة آلاف من الآبار لتزويد المستوطنات بالمياه لدرجة استنزفت الطبقة المائية الجوفية للشريط الساحلي ثم شرعت بعد ذلك في تنفيذ ما عرف بـ [ خطتي السنوات السبع والسنوات العشر ] وبدأ تنفيذ الأولى فعلاً عام 1953 ثم عدلت إلى الخطة الثانية عام 1956 .
وتضمنت الخطتان استيلاء إسرائيل على 50% من مياه نهر الأردن مع العلم أن كمية المياه التي تنبع من الأراضي التي تحتلها لا تتجاوز 23% من المجموع الكلى لكميات المياه التي يحتويها نهر الأردن وروافده . ويتوازى مع المشروع السابق مشروع [ العوجا- النقب ] الذي تم إقراره عام 1954 ، والذي يشكل حلقة متكاملة مع قناة نقل مياه الأردن وهو يتألف من خطين شرقي وقد نفذ عام 1955 وغربي ونفذ عام 1960 ويهدف إلى تأمين نقل المياه الواردة من مشروع تحويل نهر الأردن والضخ من بحيرة طبرية إلى أرض النقب .
المرحلة الثانية : وتمتد منذ 1958 - 1968 وقد نفذت إسرائيل خلال هذه الفترة أضخم وأكبر مشروعاتها المائية مشروع [ طبريا – النقب ] ( الناقل القطري ) لنقل 300 مليون متر مكعب من المياه سنويا إلى النقب الشمالي وإلى الجنوب .
المرحلة الثالثة : وتمتد منذ 1968 - حتى الآن مرحله الإنتاج والتكنولوجيا الزراعية ولم تواكب هذه المرحلة مشروعات مائية كبرى .
وتشير البيانات إلى أن استهلاك الاسرائيلين في الضفة الغربية يمثل 87.5% من مياهها بينما لا يتجاوز نصيب العرب 12.5% مما يعنى أن معدل استهلاك الفرد الإسرائيلي يبلغ ستة أضعاف المواطن العربي الفلسطيني كما يدفع الفلسطينيون في الضفة الغربية ستة أضعاف ما يدفعه المستوطن اليهودي في مقابل الانتفاع بالمياه حيث يبلغ سعر المتر المكعب من المياه للفلسطينيين في الضفة الغربية 1.3 دولار أما سعر الكميه ذاتها للمستوطن فيبلغ 6, دولار فقط .
أزمة الغذاء في الوطن العربي :-(/2)
مما لاشك فيه أن العالم في الفترات الأخيرة شهد نمواً كبيراً في إنتاج الغذاء والمحاصيل الزراعية إلا أن هناك بعض الحقائق لا يمكن تغافلها عند الحديث عن تلك النهضة ، من أهم هذه الحقائق أن هذا النمو في إنتاج الغذاء جاء من خلال الارتقاء بإنتاجيه الأرض وليس من خلال زيادة المساحة المنزرعة أي من خلال استخدام تكنولوجيات ومدخلات إنتاج أفضل . وهذا النمو في الإنتاج رافقه نمواً مماثلاً تقريباً في عدد السكان ومن ثم ظهر التحسين في مستوى ما يخص الفرد الواحد محدود للغاية .
كما أنه في نطاق محدودية الموارد الطبيعية اللازمة للزراعة [ الأرض والماء ] وصعوبة زيادتها واستمرار الزيادة السكانية سوف يتركز اعتماد العالم مستقبلا على التكنولوجيا للوفاء باحتياجات السكان الجدد ولتحسين مستوى ما يخص الفرد بوجه عام .
وهذه الحقائق تشمل بالطبع العالم العربي فبالرغم من الزيادة المتواضعة في إنتاج الغذاء في الفترات الأخيرة إلا أن الزيادة السكانية قد التهمت كل هذه الزيادات وظل مستوى ما يخص الفرد العربي من الغذاء أقل كثيراً عن المتوسطات العالمية والتي لا يمكن بأي حال قبول أقل منها .
فبالنسبة للقمح كان متوسط ما يخص الفرد العربي 77كجم بينما المتوسط العالمي 101 كجم والسكر 9.7كجم والمتوسط العالمي 19.9كجم وفي جانب اللحوم 16.4كجم والمتوسط العالمي 33.4كجم والأسماك 7 كجم والمتوسط العالمي 18.3كجم والألبان 53كجم أما المتوسط العالمي 95كجم .
ومن ثم لجأت الأقطار العربية قاطبة إلى الاستيراد لسد الفجوة الغذائية الناتجة من زيادة الطلب على الغذاء وضعف الإنتاج المحلى .
وتواجه الزراعة العربية العديد من المخاطر من أهمها
1- تناقص قاعدة الموارد الطبيعية [ الأرض الزراعية والماء]
فلقد تناقص متوسط ما يخص الفرد العربي من المساحة المنزرعة بدرجة كبيرة بسبب الزيادة السكانية والتوسع العمراني مع قله معدلات استصلاح أراضى جديدة . ففي مصر على سبيل المثال : أدى تحويل جانب من الأراضي الزراعية لاستخدامات أخرى غير زراعية إلى تناقص ما يخص الفرد الواحد من الأراضي الزراعية من نحو 2038م2 عام 1907 إلى 1020م2 عام 1957 أي إلى نحو النصف خلال خمسين عام ثم إلى 522م2 عام 1985 أي النصف مرة أخرى خلال 28عام فقط ثم إلى 471م2 عام 1992م ومن حيث النوعية والخصوبة فلا شك أن الأرض تتعرض لكثير من المصادر المسئولة عن تدهور الخصوبة لعل أهمها عوامل التعرية والتدهور الكيماوي .
2- اتفاقيه الجات GATT
إن كلمه الجات هي الحروف الأولى بالإنجليزية لتعبير [ الاتفاقيات العامة على الرسوم الجمركية والتجارة ] General Agreement on traiffs and trade وهى تعود في تاريخها إلى عام 1947 عندما اجتمعت 23 دوله صناعية في جينيف للنظر في تحرير التجارة وفتح الأبواب بين هذه الدول وإلغاء الحواجز فيما بينها وتم التوصل إلى اتفاقيه وقعت في المغرب عام 1994 وبلغ عدد الدول الموقعة 117
وتنص بنود الاتفاقية بالنسبة للزراعة على تخفيض الدعم الداخلي للإنتاج الزراعي في الدول المتقدمة بنسبه 20% خلال 6 سنوات وفي الدول النامية بنسبه 13.3% خلال مدة 10 سنوات وإلغاء دعم التصدير .
والمتوقع أن ترتفع أسعار الصادرات من الدول الزراعية المتقدمة وهذا سوف يؤدى بدورة إلى زيادة تكلفه استيراد الغذاء بالدول الإسلامية النامية . كما أن التخوف قائم من ضعف استفادة الدول الإسلامية النامية من إزالة الحواجز مع لجوء الدول المتقدمة إلى التشديد في مراقبة الجودة والالتزامات بالمواصفات القياسية والحجر الزراعي وهى شروط لا تقدر عليها الدول النامية .
ولقد صدق حقاً من قال [ إن اتفاقيه الجات منتدى الأغنياء ] حيث أن المستفيد الأكبر هي الدول الصناعية والزراعية المتقدمة ، فلقد نشرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التابعة للأمم المتحدة إحصائية توضح أرباح الدول الغنية من الجات وورد بها ما يلي :
أرباح المجموعة الأوربية 61 مليار دولار سنوياً .
الولايات المتحدة 36 مليار دولار سنوياً .
اليابان 27 مليار دولار سنوياً .
الصين 37 مليار دولار سنوياً .
وبصفة عامة يقدر إجمالي مكاسب الدول الغنية بين 200-300 مليار دولار سنويا اعتباراً من سنة 2002م .
وتشير دراسة للمنظمة العربية للتنمية الزراعية إلى أن :
تحرير التجارة العالمية في السلع الزراعية سوف يسبب ارتفاع أسعار الحبوب الغذائية وكذلك انخفاض الإنتاج الحيواني في دول المجموعة الأوربية بسبب إنقاص أو تخفيض الدعم وبالتالي يتوقع ارتفاع الأسعار العالمية للحوم والألبان .. وتقدر خسائر الدول العربية نتيجة لذلك بنحو 664 مليون دولار ( زيادة في قيمة الواردات للدول العربية ) وكذلك تقدر الخسارة في صورة نقص الرفاهية الاجتماعية للدول العربية بمقدار 887 مليون دولار] .(/3)
إلا أنه للأمانة لابد أن نذكر أن هناك فريق من الخبراء يرون بعض الجوانب المشرقة لهذه الاتفاقية والتي تتمثل في تشجيع الاستثمار في الدول النامية وزيادة الحافز الذي يحتم عليها الارتقاء بالإنتاجية لمواجه هذا الارتفاع في الأسعار .
3- ضعف مجال البحوث الزراعية :-
فالبحوث الزراعية هي الأمل الوحيد أمام الزراعة العربية للارتقاء بإنتاجية الأرض الزراعية عن طريق تطوير نوع السلالات المستخدمة والتي تتميز بإنتاجيه عالية أو تحمل أكبر لظروف البيئة أو غيرها من الصفات المرغوبة والتي يطلق عليها عمليه التوسع الرأسي في الزراعة خاصة وأن التوسع في مساحة الأرض المنزرعة أصبح أمل فرصته ضعيفة في كثير من البلدان العربية .
ومجال البحوث الزراعية يعانى في معظم البلدان العربية من العديد من الصعوبات التي تحد من قدرتها على تحقيق تلك الآمال المعلقة عليها ومن أهم هذه الصعوبات ضعف التمويل وعجز العديد منها على مواجهه مشاكل التنمية دون عون خارجي والافتقار إلى إسلوب سليم لإدارة الموارد البشرية والمادية المتاحة ونقص الكوادر البشرية المدربة ويكفي أن نعلم أن عدد الباحثين في مجال البحوث الزراعية في الوطن العربي (19 دوله) هو 6534 وفي الدول المتقدمة (22 دوله) هو 56376 وجمله الإنفاق على البحوث الزراعية في الوطن العربي هو 230 مليون دولار وفي الدول المتقدمة هو 85400 مليون دولار .
ويلخص د/ محمد السيد عبد السلام - وهو من كبار المتخصصين في مجال الزراعة - الوضع الحالي في كلمات رائعة رشيقة حيث يقول (2):
[ والآن كل هذه الظروف آخذه في التغيير ، فالموارد الطبيعية الزراعية المطلوبة للمزيد من الاستثمار لم تعد متاحة بل إن المستثمر منها بالنسبة للفرد آخذ في التآكل نتيجة لاستمرار الزيادة السكانية ، والقلق على حالة البيئة آخذ في التصاعد ، وفي فرض محددات جديدة على التنمية الزراعية ومستقبل إمدادات الغذاء على الصعيد العالمي وفي العالم النامي بوجه خاص لا يدعو إلى الاطمئنان ، واستعداد الشمال لمساعدة الجنوب آخذ في التراجع على المستوى الثنائي وعلى مستوى المنظمات الدولية ، والتكنولوجيا الحيوية الحديثة التي تبنى عليها الآمال في مستقبل التنمية الزراعية ليست متاحة مجانا بل محمية وينبغي على من يحتاج إليها أن يدفع الثمن ، ونظم وإجراءات الحماية سوف تتلاشى في ضوء اتفاقية منظمة التجارة العالمية وسوف تتصاعد المنافسة بين الدول والتكتلات الاقتصادية وسوف تكون قدرات العلم والتكنولوجيا السلاح الفاعل في هذه المنافسة وسوف تكون المغانم للأقوياء الذين يملكون سلاح العلم والمغارم لأولئك الذين يفرطون في الاستحواذ على هذا السلاح إنه نظام جديد عاصف وغالباً لا يعرف التسامح تجاه العاجزين يحتم على الدول العربية أن تتحسب له كثيرا لتواجه سلبياته وتستفيد من إمكانياته ولا تكون إحدى ضحاياه ]
أزمة البطالة في الوطن العربي :-
جاءت ثورة النفط عام 1973م لترسم معالم جديدة للمنطقة العربية بالنسبة للأوضاع الاقتصادية ففي الدول العربية النفطية زادت الدخول وارتفع فيها متوسط دخل الفرد بما يقارب دخله في الدول الصناعية المتقدمة وتميزت تلك الفترة بزيادة معدلات الاستثمار ووضعت برامج وخطط طموحه لبناء شبكه البنية الأساسية والتوسع في بناء المدن والمناطق العمرانية الجديدة وكان قلة عدد السكان في تلك البلاد سبب هام في زيادة احتياج تلك الدول للعمالة الخارجية لتحقيق تلك الثورة الهائلة في التنمية فرحبت بالعمالة العربية وغير العربية التي راحت تتدفق إلى هذه البلاد بشكل سريع ، وفي ظل هذا الرواج الاقتصادي اقترب معدل البطالة في تلك الدول إلى الصفر تقريباً .
وأما في الدول العربية الغير نفطية فمعظمها عند مشارف السبعينات كان قد وصل إلى حالة من الإنهاك الاقتصادي الذي سرعان ما أثر في أحوال العمالة وظروف التشغيل إلا أنه بالرغم من ضغوط وصعوبات تلك المرحلة فإن ثمة عوامل مختلفة توافرت وخففت من صعوبة الموقف وظهور البطالة كأزمة تهدد العديد من الأيدي العاملة فكان من هذه الظروف .
1- خروج أعداد كبيرة من فائض العمالة إلى الخارج خاصة للبلاد العربية النفطية التي رحبت بتلك العمالة كما ذكرنا .
2- زيادة حجم المعونات الاقتصادية التي قدمتها البلاد العربية النفطية في تلك الفترة .
3- الموارد الضخمة التي حصلت عليها هذه البلاد في شكل قروض خارجية من أسواق النقد والمال العالمية حيث كان الاقتراض سهلا وميسراً في تلك الفترة وإن كان بتكلفة مرتفعة مؤجله .
4- استمرار التزام كثير من حكومات تلك الدول بتعيين الخريجين من حمله المؤهلات كسباً لتأييد الطبقة الوسطي والحد من المشكلات الاجتماعية والسياسية نتيجة تفاقم البطالة .(/4)
ومع بداية الثمانينات ومرواً بالتسعينات بدأت الأوضاع تأخذ في التغيير وأخذت مشكلة البطالة في الانفجار المدوي حيث مالت أسعار النفط عالمياً للتدهور بشكل حاد مما أثر بشكل مباشر على الدول العربية قاطبة ففي البلاد العربية النفطية انخفضت أحجام دخولها القومية وتبعه انخفاض معدلات نمو الإنفاق الحكومي الاستثماري وبالذات في مجال البنية الأساسية التي كانت قد قاربت على الاستكمال مما حدى بتلك الدول تطبيق سياسات انكماشية ، وكان من ضمنها وقف التعيينات في الأجهزة الحكومية والحد من استقبال العمالة الوافدة .
أما في البلاد العربية الغير نفطية فقد كان لانخفاض أسعار النفط آثار سلبية شديدة من أهمها انخفاض الدخل القومي حيث كان النفط مصدراً من مصادر هذا الدخل في بعض هذه البلاد مثل مصر وسوريا كما انخفضت المساعدات العربية من الدول العربية النفطية وكذلك عادت العمالة إلى أوطانها مما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة وفقدت هذه الدول موردا هاما من موارد الدخل القومي المتمثل في التحويلات النقدية التي كان يرسلها العمال بالخارج ، وصاحب ذلك تفاقم أزمة المديونية الخارجية لهذه البلاد التي نجمت عن الإفراط في الاستدانة الخارجية أدى إلى ارتفاع معدل خدمة الدين .
كل هذه الضغوط قادت تلك الدول إلى إتباع سياسات اقتصادية صارمة كان لها دورا كبيرا في زيادة معدلات البطالة حيث تخلت كثير من هذه الدول عن تعيين الخريجين وتقلص دور الحكومة في النشاط الاقتصادي مما أدى إلى خفض الطاقة الإنتاجية التي تستوعب الأيدي العاملة العاطلة وأضحت البطالة كارثة تهدد الوطن العربي .
ومع قله البيانات والإحصائيات عن حجم البطالة في الوطن العربي نستطيع أن نتلمس حجم المشكلة من التقارير المتاحة . ففي التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 1994م كان قد قدر معدل البطالة في الاقتصاديات العربية بحوالي 10% من قوة العمل العربية التي بلغت عام 1993 حوالي 67.5 مليون عامل مما يعنى أن عدد المتعطلين يصل إلى حوالي 6.8 مليون عاطل أما منظمه العمل العربية فقد قدرت معدل البطالة على مستوى جميع البلاد العربية بقرابة 15.5% من قوة العمل العربية وهو مما يعنى وجود ما يزيد على عشرة ملايين عامل عربي عاطل .
بعد هذا العرض السريع لطبيعة الأزمات التي تواجه المنطقة العربية لا يسعنا إلا أن نقول إن الأمر يتطلب جهوداً كبيرة تشمل كل قطاعات الوطن العربي لمواجهه تلك الأزمات ولكن الملاحظ حتى الآن أن الجهود المبذولة متواضعة إلى حد كبير بالنسبة لحجم المشكلات ، فالحل يبدأ من الإعلام العربي المسئول عن عرض القضية أمام الرأي العام وشحذ همم الشعوب لتحمل المسئولية وعقد الندوات واللقاءات مع الباحثين والعلماء المتخصصين لإيجاد تصور عام لحل مثل هذه المشكلات وتقديم العلماء والخبراء على أنهم هم قدوة المجتمع ومثال كفاح مشرف لكل من أراد الرقى والنهضة فكم في حياه هؤلاء الشرفاء من كفاح ومثابرة وإخلاص نحن أحوج أن نعرفه كي نحتذي به في حياتنا .
ولكن مع الأسف وجدنا قطاع عريض من الإعلام العربي بكافة أجهزته يلهث وراء نجوم الرياضة والفن ويكرس جهده ووقته لعرض صور من حياتهم الخاصة وأعمالهم الفنية وفي جميع المناسبات والأعياد القومية يحشد للمواطن العربي كم هائل من هؤلاء النجوم ليُسألوا عن آمالهم وطموحاتهم والأكلات التي يفضلونها والألوان المحببة لديهم ومعاناتهم في تصوير آخر عمل فني أو آخر مباراة شاركوا فيها .
وأضحى الأمر عاديا أن تفتح جريدة لتقرأ خبر عن تهرب أحد هؤلاء النجوم من عدة ملايين من الضرائب أو تقرأ عن أرباح نجم من آخر شريط كاسيت له بما يوازى ميزانيه وزارة مرموقة .
كل هذه الشهرة والثروة دفعت بالكثير من شبابنا العربي العاطل للزحام على أبواب النوادي وصناع نجوم الفن لعلهم يجدون فيهم موهبة تقودهم للنجومية وطريق الشهرة والثروة السهلة السريعة وأصبح في كل حين يخرج عليك نجم فني أو رياضي جديد حتى فاق عددهم الحصر .
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هل نحن حقاً وفي ظل الوضع الراهن بحاجة إلى كل هذا الحشد من النجوم من الرياضيين والفنانين الذين يقدمون لنا كل هذا الكم الهائل من المباريات والمسلسلات والأفلام والأغاني أم أننا نرقص فوق سفينة تغرق ؟!
--------------------
الهوامش والمصادر :
(1) أزمة المياه في المنطقة العربية / د. سامر مخيمر ، خالد حجازي سلسلة عالم المعرفة الكويتية عدد 209
(2) الأمن الغذائي للوطن العربي / د. محمد السيد عبد السلام . سلسلة عالم المعرفة الكويتية عدد 230
- الاقتصاد السياسي للبطالة / د. رمزي زكى سلسلة عالم المعرفة الكويتية عدد 226
- النظام الاقتصادي العالمي واتفاقيه الجات د. حسين شحاتة
...
وماذا بعد الأخبار ـ رؤية في المسيرة إلى نهضة الأمة ـ
خباب بن مروان الحمد
</TD
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن تولاه وبعد:(/5)
من يتابع وسائل الإعلام وما تعرضه من أخبار فسيجدها في الأغلب تتحدث عن مشاكل المسلمين وقضاياهم المتأزمة؛ فالمسلمون يعيشون في زمن تكالبت فيه الأحداث ، وتتابعت عليهم المخاطر، وأصبحوا كل يوم يترقبوا حدثاً جديداً،أو نازلة خطيرة، والعالم الإسلامي ـ وبالذات ـ يعيش بعد ضربات الحادي عشر من سبتمبر في دوامة أخبار، وتلاحق أحداث بشكل مذهل.
في قلب هذه الأزمات تذكرت كلام القائد الشيوعي الملحد [ لينين] حين قال: عقود تمر على الأمة لا يحصل فيها شيء ثمَّ تمر سنين تحصل فيها عقود، وصدق وهو كذوب فقد صرنا نعاصر سنوات حصلت فيها حوادث أكثر من عشرات السنين، وكان للمسلمين فيها الحظ الأوفر من المآسي الفظيعة ، والأوضاع المؤلمة.
وهكذا تمضي العقود بأيامها ، وتدور الأيام دورتها وتبقى المصائب تتوالى وتترى على المسلمين ، وكان من آخرها حوادث القتل الصهيوني للفلسطينيين وبالأخص قتل قائدين من قادتهم العظام باغتيال الشيخ الوقور/ أحمد ياسين ، والقائد الدكتور/ عبدالعزيز الرنتيسي ، ثمَّ ذلك القصف الإجرامي على رفح وغزة و الإبادات الجماعية التي قتل فيها من لا حول له ولا قوة..... ولا نغفل عمَّا حصل في فَلُّوجَة العراق من تدمير وتخريب وفضائح الأمريكان في سجن أبي غريب وغيره ، ومقتل المئات من أبناء المسلمين في نيجيريا وتايلاند على يد النصارى والوثنيين ، وغيرها من المآسي المبكية.....
في ذلك كله يجد المراقب لموقف المسلمين حيال تلك الأحداث كما هو المعهود من المظاهرات والاحتجاجات التي تشجب الصلف الصليبي/ الصهيوني ، والهتافات الجماهيرية المستنكرة لحمَّامات الدماء التي تجري هنا وهناك في أقاليم المسلمين.
وبعد أن فرغت تلك الشحنات المكبوتة ، وأحرق المتظاهرون الأعلام الأمريكية والإسرائيلية، ومع مرور ثلاثة أيام تنطفئ القضية التي ثِيْرَ لأجلها من عقول الكثير من المسلمين ، وتتلاشى جذوة الحماس التي اشتعلت قليلاً في ضميرهم ، وتُتَنَاسى تلك الفواجع ، إلا إذا كانت حديث مجالس يُتَذَكَّرُ بها ظلم قوم بغوا على آخرين، ويظن الكثير منهم أنّه بذلك ينتهي دورهم ، وتنقضي المسؤولية المناطة بهم.
تساؤل مثير يفرض نفسه :
حين تسأل الكثير من أبناء المسلمين لم جلبت الفضائيات لبيتك؟
يجيبنوك: لأجل مشاهدة الأخبار ومعرفة أحوال الشعوب الإسلامية ، و....الخ.
ومع أني أعتقد حرمة هذه الفضائيات التي لا يرتاب عاقل أنها جلبت الشر والفساد للبيوت والعقول وكان خيرها فيه كملعقة عسل في إناء سم.
إلا أني أعلم أنَّ بعض من كان قصده بجلب الفضائيات لبيته ؛التذرع بحجة مطالعة الأخبار ومعرفة أحوال الأمَّة الإسلامية ، ولا شك أنَّ ذلك نابع من حمل هم، وشعور طيب تجاه الآخرين من إخوانه المسلمين... ولكن ـ وياللأسف ـ فالكثير ممن أدخل تلك الفضائيات إلى بيته أو مكتبه ، لم يكن حاله إلا شهوة السماع للأخبار، ومحبة الاطلاع على التحليلات السياسية ، وقد يأخذ ذلك من وقته ساعات كثيرة، يكون أكثر تلك التحليلات تخمينات وظنونا ، فيها الصواب والخطأ، فيضيع المشاهد لهذه القنوات بعد سماع تلك الأخبار ما بين تلك التحليلات السياسية والتحقيقات الصحفية.
ودعنا ـ أيها الصاحب ـ نتصارح ، فبعد أن نرى تلك الأخبار ، ومجازر المسلمين، والذلَّة والمهانة التي أصابتنا... بعد هذا كله...
هل حرَّك ذلك في قلوبنا شيئاً؟
هل نصرناهم بشيء من أنواع النصرة؟
هل سألنا أنفسنا جادين : كيف نخرج من تلك الأزمات والتيه الذي نعيشه من عشرات السنين؟!!
ثمَّ من تأثر منَّا بتلك الأخبار،هل فكَّر تفكيراً جاداً بالتأثير على من يلتقي به من المسلمين وقيادتهم لعِزِّ الإسلام والمسلمين؟
إنَّ هذه الأسئلة لم يستشعرها ـ والله ـ إلا القليل، فقد كان موقف الأغلبية ممن يتابعون الأخبار، هوالصمت العجيب وعدم العمل لنصرة أولئك المستضعفين ، وقد نجد الفرد منهم يشاهد ذلك لأجل أن يتكلم في المجالس، ويناقش ويحلل ويختلف مع إخوانه وخلَّانه ، وكأنَّه في اتجاه معاكس، فيرفع صوته ، ويرغي ويزبد، ولم يتقن إلا فن الصراخ ،أو يكون موقف كثير ممن يتابع الأخبار إلقاءهم باللائمة على الآخرين دون أن يراجعوا أنفسهم مراجعة صادقة ، ويروا ماذا فعلوا من التقصير في حق الله من الذنوب والمعاصي ، وما فعلوه في حق إخوانهم من التقصير في حقوقهم ، وعدم بذل الجهود المستطاعة لنصرتهم ، أو أن يكون موقف بعضنا البكاء والتأوهات ودعاوى العجز، وكأنَّ لسان حال الكثير منا /السيل الهادر لا تسده عباءتك.
بل رأيت ـ والله ـ من ينظر لتلك المجازر، وهو يأكل ويشرب!! ويضحك ويمزح، ولم تؤثر تلك المرائي في نفسه شيئاً، والله المستعان ...
حقاً ـ وربي ـ إنها لمأساة حين نصاب نحن المسلمين بتبلد إحساس عجيب ، وشعور تجاه أوضاع إخواننا غريب، وقد نرى تلك المجازر ثمَّ إذا أطفأنا التلفاز، وارتحنا دقائق ، تابع البعض منا بعد ذلك الأفلام الخليعة ، والمسلسلات الهابطة، وكأنَّ شيئاً لم يكن!!.(/6)
وكان من الواجب أن يكون المتابعون للأخبار أكثر الناس عملاً، واستشعاراً للمسؤولية وأن تغرس في نفوسهم باعث عمل، ووقود همة، وعزمة إرادة لتغيير الواقع المرير.
ترى.. ألا تستدعي تلك [المواقف الرَّدِّية الضعيفة] من المسلمين تجاه أعدائهم، وقفة مراجعة ، وبحث عن الإشكاليات التي يقع فيها المسلمون، ووصف الدواء العاجل لدفع العدو الصائل الذي أفسد الدين والدنيا معاً؟!!
في هذه المقالة المتواضعة ، سأتحدث عن بعض الأزمات والإشكاليات التي يقع فيها المسلمون بعد سماعهم للأخبار، ونقاط الضعف التي حلَّت في سويداء قلوبنا، وسرنا على خطاها غير مستشعرين خطأ المسيرة ، واعوجاج طرق التفكير، فمن ذلك:
[1] تغليب جانب العاطفة والارتجالية في الأعمال ، والعفوية في مواجهة الأحداث ، وليتها أعمال بطولية تثخن في الأعداء بضوابطها الشرعية ، وإنما هي هتافات وشعارات غلبت على العقل والتفكير المثمر العملي. وهكذا نحن المسلمين ما أن نصاب بمدلهمة من المدلهمات،إلا وانتفضنا انتفاضة المغمى عليه، ثمَّ سكنَّا وخمدنا غافلين عن أسباب تلك المصائب التي عصفت بنا ، ومتناسين للحلول العملية التي نقاوم بها تلك المخاطر بناءً على الأوامر الشرعية ، والاهتداء بسنة خير البرية ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وممن شخَّص هذا المرض من علماء المسلمين الشيخ الراحل/ مصطفى السباعي ـ يرحمه الله ـ حيث ذكر أنَّ المسلمين ينتفضون انتفاضة وقتية لمصيبة حلَّت بهم ثم يخمدون وكأنَّ الأمر لم يكن، ويالله ما أجمل كلماته القلائل التي نطق بها مبيناً هذا المرض الذي دبَّ في هذه الأمَّة حيث كتب: [ لو هدمت الكعبة لما ضجَّ المسلمون اليوم أكثر من ثلاثة أيام ] هكذا علمتني الحياة [صـ91]
وصدق رحمه الله ، فما أشبه الليلة بالبارحة!!
[2] طيبة القلب الزائدة، وإحسان الظن بالعدو ولو قليلاً، وتصديق بعض شعاراتهم ، وهذا شيء لا أبالغ فيه، فكثير من المسلمين كان يظنُّ أنَّ أمريكا أعقل من أن تفعل بهم تلك الجرائمَ الوحشيَّة ، والإهانات النفسية باعتبار أنها راعية لمجلس الأمن ، وقوات حفظ السلام ، وأنها ترفع شعارات العدالة والحرية والديموقراطية [الزائفة]!!
ولذا ظنَّ الكثير منا أنَّ قاتله سيرحمه ولو قليلاً، ويعطيه فرصة شرب الماء قبل الإجهاز عليه ، وهذا ما حدث بالضبط بعد أن قتل الشيخ / أحمد ياسين ـ رحمه الله ـ فقد ظنَّ الكثير من المسلمين أنَّ اليهود قد يصمتون قليلاً ويرفقون بالمساكين الفلسطينيين ليلملموا جراحهم ، ولتجف مآقيهم من البكاء، ومع ذلك فإن اليهود كانوا أمكر وأخبث فقد عاجلوا المجاهدين في فلسطين بضربة نوعية أخرى، فقتلوا الدكتور المجاهد/ عبد العزيز الرنتيسي ـ تقبله الله في الشهداء ـ غيلة ومكراً، ثمَّ أعقبوها بمجازر القصف والتنكيل بإخواننا في غزة وجباليا وغيرها من المدن الفلسطينية الأبية.
وهكذا أعداء الدين ، فهل بقي لنا مجال أن نحسن الظنَّ بالآخر!![ الكافر] أو أن نرفع له لافتات السلام ، ليقابلنا بالود والوئام.
إنهم المفسدون في الأرض ولن يتوقع منهم إلا كل خبث وسوء وإجرام.
هل لمحتم طيبة من حية أو لمستم رقة من عقرب؟!!
وصدق الله [ لا يرقبون في مؤمنٍ إلَّاً ولا ذمة وأولئك هم المعتدون ] التوبة[10]
[3] غلبة الكلام والحديث وقلة العمل ، وأكثر حديثنا كما ذكر أحد المفكرين أننا نتحدث عما لا نريد ولا نتحدث عما نريد ، فكلامنا كثير في سب المحتل الأمريكي ـ الأوربي ـ الإسرائيلي ، والأنظمة العميلة ، ولكنَّ القليل منا من يتحدث عن واجبنا تجاه الأحداث، وهو ـ و للأسف ـ أمر نادر في برمجة تفكيرنا ، ولو طلب من هؤلاء القوم الذين يغلبون الكلام على العمل ، لو طلب منهم القليل لنصرة هذا الدين لوجدت التلكؤ، والتراجع والتقهقر، والحوقلة والاسترجاع، والتفنن في التهرب من المسؤولية والعمل.
فما أشبههم بقصة الرجل العربي الذي كان معه بعض الإبل فجاءه اللصوص وسرقوها منه فلم يقاومهم بشيء، فلما ذهبوا وساروا بإبله ، شتم اللصوص ، ولعنهم.
فسأله أهله عندما رجع إليهم بدون الإبل : ماذا فعلت؟
فقال: [ أوسعتهم شتماً وساروا بالإبل ]!!
فإذا كان كثير من المسلمين أهل كلام وشجب واستنكار، وأنَّهم قوم ينفعلون ولا يفعلون ، ويشجبون ولا يخطِّطُون، وأنَّ معظم أفعالهم [ردود أفعال] لا مواجهة ونزال فلا غرابة أن ينشد اليهود والنصارى ساخرين من المسلمين كما قال حافظ إبراهيم على ألسنتهم مستخفين بالمسلمين:
قد ملأنا البر من أشلائهم فدعوهم يملؤوا الدنيا كلاما
وكل هذا والمسلمون يتفرجون ويتلقون الصفعات المتواليات، وهم يستمعون أو يشاهدون الأخبار عبر الفضائيات وشبكات الإنترنت، وليس لهم من ذلك إلا قعقعات العبارات وفقاعات الكلمات بلا عمل وإرادة لتغيير الواقع المرير.(/7)
لا شكَّ أنَّ هذه المأساة التي يعيشها أبناء الأمَّة الإسلامية المريضة ، ينبغي أن تستدعي أهل العزائم لإحياء قلوب هذا الجيل المسلم ، وإمداده بالشريان الحيوي ، والذي يستقي منه معالم العزة ، وأنوار الرسالة ، حتَّى يتخطى تلك الأعمال العفوية والتي لا ترعب كافراً ولا تنصر ديناً ، وذلك خير من أن نبقى نتحدث عن الأزمات التي تعترضنا في مواجهة الأحداث، أو أخطائنا في طريقة تعاملنا مع تلك الأخبار؟!
إننا بحاجة ـ وخاصة دعاة الإصلاح ، وعلماء الأمة وقادتها الربانيين ـ بعد أن نُشَخِّص تلك الأدواء التي تجثم علينا ؛ أن نصف لها الدواء ، فأمَّتنا بحاجة إلى ذلك الطبيب النطاسي ومبضع الجراح الأمين ، والذي يبحث في جذور المرض وتشعباته ، ويرفع أوهاق الخطر عن جسد هذه الأمة الجريحة بكل ثقة وإتقان ، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم:ـ [ ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له شفاء ] أخرجه البخاري في صحيحه، من حديث أبي هريرة ، في كتاب الطب ، باب ما أنزل الله داءً إلَّا أنزل له شفاء برقم[5678].
ولهذا يتوجب على من يريد الرفعة لهذه الأمة ، أن يبحث في الوسائل المعينة على عزِّها ، والحلول المثمرة لنهضتها ، بعد أن تراكمت عليها تراكمات الذلة ، وعلا عليها أهل الكفر والخيانة ، وأن يفكر التفكير الجاد لتوظيف مشاكل الأمة بما يخدم مصلحتها ، ولعمري فإنَّ هذه صفة الرجل العبقري اللامع الذي ينطلق من دينه العظيم، وفكرته الإصلاحية ورؤاه التنمويَّة للرقي بهذه الأمة إلى العلياء وقد قيل: رحلة العظيم تبدأ بفكرة.
وصدق الإمام حَمْد الخَطَّابي ـ رحمه الله ـ حين قال: [ من صدقت حاجته إلى شيء كثرت مسألته عنه، ودام طلبه له حتى يدركه ويحكمه] معالم السنن للخطَّابي[4/832]
ومن هذا المنطلق فإنني سأركز في هذه الأسطر على جواب سؤال أرى أنه من الأهمية بمكان وهو:
أنَّ المسلمين منذ سبعين سنة وهم يعيشون في انحدار تلو انحدار ، ونكسات يتلوها نكبات ، مع أنَّ البعض قدَّم الدماء والأموال وكل ما يستطيع لنصرة هذه الأمة ، والوضع لم يزدد إلَّا سوءاً ، فالتغول العسكري الغربي يمضي داخل بلاد الإسلام، والنموذج الغربي تلقَّاه الكثير من أبناء جلدتنا بالتبعيَّة المقيتة ، والتقليد الأبله، فكيف السبيل الأمثل لاستعادة القوة، وانفكاك الأزمة ، واسترداد المجد؟؟
وجواباً على ذلك فإنَّ هناك أمورا أسأل الله ـ عزَّ وجلَّ ـ أن تكون معينة على تحقيق ذلك ، ولا أدَّعي فيها الكمال، ولكن لعلَّها تكون مقاربة للصحَّة ، ويبقى النقص لازم فيها:
معالم على طريق النصر، وإضاءات للسائرين في قافلة العز:
[1] ففروا إلى الله:
هذا نداء قرآني جليل ، ينبغي تأمله بعمق وشمولية ، فإنَّ من أولى الأولويات في ذلك:
أـ إفراد الله بالعبودية الكاملة ، وعدم الاستعانة والاستغاثة إلا به ، فتقوية ركائز الإيمان في قلوبنا سبب معين لنصرتنا على أعدائنا، وقد اشترط الله على من يريد أن ينصره ؛ بأن ينصر الله ـ عز وجل ـ[ ولينصرنَّ الله من ينصره] الحج[40].
والمتأمل لحال الكثير من المسلمين يجد العجب العجاب في التفريط بهذا الشأن فكم هم القوم الذين لا يفردون الله بالعبادة والتوحيد وينزلقون في براثن الشرك ؟
وكم هم القوم الذين يشركون حاكمية الله بحاكمية غيره من الطواغيت والأنداد والقوانين الوضعية والمحاكم القانونية الكفرية والتي لا تحكم بما أنزل الله ؟
وكم هم القوم الذين يتعبدون الله بالبدع والضلالات ويلزمون الناس باتباعهم بتلك الخرافات؟
وكم هم القوم الذين يوالون أعداء الله ويعادون أولياء الله بأساليب الأذى والتبكيت؟
إنَّ تقصير الكثير من المنتسبين إلى الإسلام بتلك القضايا المصيرية أمر واضح ، فمتى يترك هؤلاء ذلك الخطل والخلل؟!
ولهذا فإنَّ الإمام ابن تيمية لمَّا رأى تكالب الجيش التتري المغولي على بلاد الإسلام وتقتيله للمسلمين وكثرة الهزائم المتتابعة عليهم ، نظر هذا الإمام بعين البصر والبصيرة أسباب تلك الهزائم فوجد أنَّ من أهمها إصلاح عقائد من تلوث ممن ينتسب للإسلام بدرن الشرك ، وقد حدَّث ـ رحمه الله ـ كيف أنَّه لما هاجم التتار بلاد الشام خرج أهل الشام يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضُرِّهم ، وقال بعض شعرائهم:
ياخائفين من التتر لوذوا بقبر أبي عمر
لوذوا بقبر أبي عمر ينجيكموا من الخطر
فصار ابن تيمية يأمر الناس بإفراد الدعاء لله وإخلاص العبادة له ، قال ـ رحمه الله : [فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً] الاستغاثة [2/276ـ277]
ب ـ الاعتصام بكتاب الله تعالى وسنَّة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه الركن إن خانتك أركان، وتقديم أوامرهما ونواهيهما على أي شيء عارضهما أو صرف النظر عنهما.(/8)
ج ـ تغيير ما بالنفس من معاصٍ وآثام، وحب للفواحش والمنكرات، فإذا أردنا أن ينصرنا الله فلنغير من أنفسنا وهذه قاعدة ربانية ذكرها الله في كتابه بقوله: [ إنَّ الله لا يغير ما بقوم حتَّى يغيروا ما بأنفسهم] الرعد[11]، وعن عبدالله بن عمرـ رضي الله عنه ـ قال:ـ كنت عاشر عشرة من المهاجرين، عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأقبل علينا بوجهه، وقال: [ يامعشر المهاجرين:- خمس خصال إذا ابتليتم بهنَّ وأعوذ بالله أن تدركوهنَّ : لم تظهر الفاحشة في قوم حتَّى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالسنين ، وشدَّة المؤنة ، وجور السلطان، ولا منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولا خفر قوم العهد إلا سلِّط عليهم العدو فأخذ بعض ما في أيديهم ، ومالم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل بأسهم بينهم] أخرجه الحاكم والبيهقي بسندٍ صحيح، ورواه ابن ماجه في سننه وقال محققه في الزوائد : هذا حديث صالح للعمل به / انظر السنن ابن ماجه [2/1333]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ، برقم[106]
فهذه حقيقة ثابتة ، إذا نحن عصينا الله ، وخالفنا أمره سلَّط علينا الأعداء والوباء والضرَّاء [ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم] النور[63]
لهذا ينبغي أن نعلم أنَّ ما أصابنا الله به من هذه الهزائم وهذا الذل من الأمم الكافرة ؛ أنّه مرتبط بضعف تعلقنا بالله وكثرة معاصينا وذنوبنا تجاهه ـ عزَّ وجلَّ ـ فنحن لسنا أفضل من الأمم السابقة حين أنزل الله عليهم العذاب بسبب ذنوبهم ، قال تعالى [ فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكلُ كانوا ظالمين]الأنفال[54]
فما يصيبنا الآن من المصائب والمدلهمات جزء لا يتجزأ من عقوبة الله لنا لتقصيرنا في حقِّه، وليس بيننا وبين الله حسب ولا نسب [ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم] الشورى[30] فلا يحقُّ لنا بعد ذلك أن نتساءل لم لا ينزل الله النصر علينا؟ ونحن مفرطين بأوامره ونواهيه ، وإذا كان سبحانه لم ينزل نصره على العصبة المؤمنة من الصحابة لخطإٍ ارتكبه بعضهم فلم ينالوا جميعا ذلك النصر، وحين تساءلوا عن سبب ذلك، عزاه الله ـ عزَّ وجلَّ ـ لأنفسهم قائلاً : [أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنَّى هذا قل هو من عند أنفسكم]آل عمران[165]
لو عرفنا الله ما شطَّت بنا سبل التضليل أو ذقنا الهوان ،وشاهد ذلك: أنَّ على المسلمين جميعاً التوبة إلى الله توبة نصوحاً حتى يرفع الله عنَّا هذا البلاء ، وقد أثر عن العباس بن عبد المطلب [ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة] ورحم الله أبا الدرداء حيث كان يقول للغزاة: [ أيُّها الناس/ عمل صالح قبل الغزو ، فإنَّما تقاتلون بأعمالكم] أخرجه ابن المبارك في كتاب الجهاد صـ61 رقم[5] وبوَّب له البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه فقال: [باب: عمل صالح قبل القتال ] [6/24] ولله درُّ الفضيل بن عياض حين قال للمجاهدين عندما أرادوا الخروج لقتال عدوهم[عليكم بالتوبة فإنها ترد عنكم ما ترده السيوف].
د ـ صدق اللجوء والتضرع إلى الله ، ودعاء الله بقلب وَجِلٍ ، فنحن عبيد لله ، وهو ـ سبحانه ـ يحب أن يسمع دعاء عبيده في كشف الضر عنهم وهم منطرحين بين يديه ، أمَّا إذا رأى عبيده قد استغنوا عنه ونسوه فإنه سينساهم مقابلة لهم بعملهم السَّيء [نسوا الله فنسيهم] التوبة[67]، وقد أخبر سبحانه عن قوم لما أنزل عليهم بأسه استغنوا عن دعاءه والافتقار بين يديه فلم ينقذهم من تلك النازلة، بسبب كبرهم وقسوة قلوبهم، قال تعالى: [فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزيَّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون] الأنعام[43] وقال تعالى: [ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجُّوا في طغيانهم يعمهون * ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون] المؤمنون[75]
ومن ذلك كثرة الاستغفار فإنَّه من أعظم أسباب القوة قال تعالى على لسان نبي الله هود ـ عليه السلام [ و يا قوم استغفروا ربكم ثمَّ توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوَّة إلى قوتكم ] هود[52] وقال تعالى: [ وأن استغفروا ربكم ثمَّ توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كلَّ ذي فضل فضله]هود[3]
وبهذا الفرار الصادق إلى الله يتميز المسلم الحق عن غيره من أصحاب الرايات الجاهلية بقوة العقيدة ، والتمسك بها ، والذود عن حياضها، فلا رفعة ـ والله ـ لأهل الإسلام ؛ إلَّا بمفاصلتهم للكافرين.(/9)
ومن أجل ذلك فهم أعرف الناس بسبل المجرمين ، والذين يريدون أن يحرفوا جهادهم وكفاحهم لأجل العرى القومية ، أو الوطنية ، وعندئذٍ فأي فرق بين من يدعي الإسلام وبين من يقاتلهم لأجل تلك الرايات العمياء الشوهاء ، فمزيداً من الفطنة يا ـ رجل الإسلام ـ فإياك والمداهنة أو الملاينة أو المسايرة لذوي التوجهات الخاوية ، فلن تكسب ديناً ولا دنيا.
واقتد برسولك محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ [فلقد كان كبار المشركين يعرضون على رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ المال والحكم والمتاع في مقابل شيء واحد ، أن يدع معركة العقيدة وأن يدهن في هذا الأمر !
ولو أجابهم ـ حاشاه ـ إلى شيء مما أرادوا ما بقيت بينهم وبينه معركة على الإطلاق!
إنها قضية عقيدة ومعركة عقيدة ... وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدواً لهم ، فإنه لا يعاديهم لشيء إلا لهذه العقيدة [ إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد] البروج[8] ويخلصوا له وحده الطاعة والخضوع!
وقد يحاول أعداء المؤمنين أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة، راية اقتصادية أو سياسية أوعنصرية، كي يموهوا على المؤمنين حقيقة المعركة، ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة؛ فمن واجب المؤمنين ألَّا يخدعوا،ومن واجبهم أن يدركوا أنَّ هذا تمويه لغرض مُبَيَّت ، وأن الذي يغير راية المعركة إنما يريد أن يخدعهم عن سلاح النصر الحقيقي فيها] مقطع من كلام الأستاذ سيد قطب،في كتابه[معالم على الطريق] صـ201 ـ 202
وعيب ـ وربي ـ كلَّ العيب أن يكون الكفار أشد تمسكاً بدينهم وعقيدتهم من المسلمين ، وتُسَيَّر حروبهم ومعاركهم نصرة لعقيدتهم وقيمهم ، مع أنَّ الله ـ سبحانه ـ أمر المسلمين بالاستمساك بهذا الدين والعضِّ عليه بالنواجذ ومن ذلك قوله تعالى : [فاستمسك بالذي أوحي إليك إنَّه لعلى هدى مستقيم * وإنَّه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون] الزخرف[43 ـ 44]
ولعلِّي أُدَعِّم حجتي هذه بشاهد قوي يوضح هذه الحقيقة التي غابت عن أذهان المسلمين ردحاً من الزمن ، وفترة من الدهر/ مختاراً امبراطورية الشر والفساد [أمريكا] ـ عجَّل الله زوالها، وكفى المسلمين شرَّها ـ فقد صدرـ بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ـ كتاب بعنوان[الدين في القرار الأمريكي] بتأليف/ محمد السماك، يوضح فيه الأيدلوجية العقدية التي ينطلق منها الأمريكيون في قتالهم للمسلمين ، وأنَّ مبنى قراراتهم على النبوءات التوراتية عبر تولي رؤسائهم أنصبة الحكم وتقاليده مروراً بـ [ ليندون جونسون ـ وجيمي كارترـ ورونالد ريجان ـ وجورج بوش الابن] فمثلاً:
ـ الرئيس ليندون جونسون قال في عام 1968م، في خطاب ألقاه في العاشر من أيلول ـ سبتمبر ، أمام منظمة يهودية أمريكية {{ إنَّ لأكثركم ، إن لم يكن لجميعكم، روابط عميقة مع أرض ومع شعب إسرائيل ، كما هو الأمر بالنسبة إليَّ ، ذلك لأنَّ إيماني المسيحي انطلق من إيمانكم.إنَّ القصص التوراتية محبوكة مع ذكريات طفولتي ، كما أنَّ الكفاح الشجاع الذي قام به اليهود المعاصرون من أجل التحرر من الإبادة منغمس في نفوسنا}}صـ41
- الرئيس ريجان حيث يقول في مقابلة صحفية نشرت له في جريدة الواشنطن بوست:ـ{{ إنني أعود إلى النبوءات القديمة المذكورة في العهد القديم، وإلى المؤشرات حول هرمجيدون،فأتساءل بيني وبين نفسي ما إذا كنَّا الجيل الذي سيرى تحقق ذلك. لا أعرف إذا كنت لاحظت معي أيَّاً من هذه النبوءات مؤخراً، ولكن صدِّقني إنَّها ـ أي النبوءات ـ تصف بالتأكيد ما نمرُّ به الآن}}صـ43
- الرئيس رونالد ريجان وافق عام1986م على قصف ليبيا باعتبارها عدواً لله صـ43
- الرئيس جورج بوش الابن وهو رأس الشر والإرهاب قد تربى تربية ملتزمة مع عقيدة الحركة الصهيونية المسيحية ، ففي مناسبة أداء صلاة الفصح يوم الجمعة 18/نيسان ـأبريل 2003م، والتي ترأسها القس فرانكلين جراهام، قال بوش- فضَّ الله فاه- في معرض إشادته بالقس جراهام:ـ{{ لقد غرس في قلبي بذور الإيمان فتوقفت عن تعاطي المسكرات واعتنقت المسيح}} ومن المعلوم أنَّ هذا القس الخبيث قال في نفس هذه المناسبة {{إنَّ الفرق بين الإسلام والمسيحية هو كالفرق بين الظلام والنور}}صـ59 وقال كذلك عن الإسلام {{ إنه دين شيطاني وشرير}}صـ61 وكذلك فإنَّ بوش يجتمع صباح كل يوم ، قبل بدء عمله في البيت الأبيض مع كبار موظفيه ومستشاريه للاستماع إلى موعظة دينية يقدِّمها أحد القساوسة ، تعقبها صلاة ودعاء .. ثمَّ يتوجه الجميع إلى مكاتبهم/ صـ61
ولهذا كلِّه يقول إيكشتاين:{{ إنَّ سياسة الرئيس بوش تنطلق من إيمانه العميق بمسيحيته ، ومن تمييزه بين الشرِّ والخير ، وتصميمه على وجوب الوقوف في وجه الشَّر ومحاربته...وبالتالي فإنَّ مواقفه تعبِّر عن قناعات شخصية وليست مناورة سياسية}}ا.هـ(/10)
مما سبق يتبين أنَّ قرارات هذه الإدارة مبنية على قيمها العقدية، ونظمها الفكرية ، فجدير بأبناء المسلمين أن يكونوا أشدَّ قناعة بدينهم وعقيدتهم من هذه الطغمة الكافرة ، وأن يشتد فرارهم إلى الله وإقبالهم عليه أكثر مما مضى، فنصر الله لا يتنزَّل إلا على أهل الإيمان [إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم] محمد[7] وإنزاله البركات لا يكون إلَّا لأهل الإيمان والتقى: [ولو أنَّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذَّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون] الأعراف[96]
[2] [ وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوة]
يعجبني كلام ذكره الأستاذ/ سيد قطب ـ رحمه الله ـ حيث قال: [ إنَّ البعض ينتظر من هذا الدين مادام منزَّلاً من عند الله أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب ودون أي اعتبار لطبيعة البشر ولطاقاتهم الفطرية] هذا الدين صـ3.
وصدق ؛ فإنَّ كثيراً من المسلمين يظنون أنَّ الله ناصرهم لأنهم مسلمين فحسب ، ولا يخطر ببالهم أنَّ عليهم صناعة أسباب العزة، والأخذ بعوامل القوة ، والَّتي تمكِّن المسلمين من الانتصار على أعدائهم ، أمَّا إذا تقوقع المسلمون على أنفسهم ولم يستفيدوا من خبرة أعدائهم في تقوية أنفسهم ‘ فإنَّهم لن يستطيعوا أن يرعبوا أعدائهم لأنهم علموا منهم الضعف في المواجهة.
ولهذا حثَّ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على إعداد القوة فعن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قرأ قول الله تعالى : [ وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوَّة ومن رباط الخيل] قال ـ عليه السلام ـ [ ألا إنَّ القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي] أخرجه مسلم، برقم[1917] في كتاب الإمارة ـ باب فضل الرمي والحث عليه ـ [3/1522] وبيَّن النَّبي- صلى الله عليه وسلَّم- أنَّ [المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف]أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله برقم[2664]
وطيَّب الله ثرى الشيخ أبي الحسن الندوي حين قال [ وبالاستعداد الروحي ، والاستعداد الصناعي الحربي، والاستقلال التعليمي ينهض العالم الإسلامي، ويؤدي رسالته وينقذ العالم من الانهيار الذي يهدده. فليست القيادة بالهزل ، إنما هي جد الجد، فتحتاج إلى جد واجتهاد، وكفاح وجهاد، واستعداد أي استعداد : كل امرئ يجري إلى يوم الهياج بما استعدا] ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين صـ206
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- أن الجهاد لو سقط للعجز، فإنَّ المسلم لا يعذر بعدم الاستعداد له، ومالا يتمُّ الواجب به فهو واجب/ انظر فتاوى ابن تيمية [28/259]
والمطالع لأحوال المسلمين اليوم يجد أنهم في ذيل الأمم في هذا الأمر، حتى وصل الحال ببعض ضيقي الأفق ، بصد شباب الإسلام عن تعلم العلوم التقنية ، والدخول في الجامعات لدراستها ، وكأنَّ الشاب المستقيم ليس له إلاَّ كلية الشريعة ، أواللغة العربية ، والحقيقة أنَّ هذا فصام نكد بين العلوم الشرعية والعلوم التقنية الطبيعية ، فإنَّ دين الإسلام دعا إلى الأخذ بأسباب القوة التي ترعب الكفار ، وترهبهم ولا إرهاب لهم في عصرنا الحاضر بعد قوَّة الإيمان إلا بالتعلم على تصنيع الأسلحة المواكبة لعصرنا والمثخنة لأعدائنا، فمتى ينتبه دعاة الإسلام لحث طلائع البعث الإسلامي على الانتباه لهذا الأمر وأخذه بعين الرعاية.
ولنستفد من تجربة اليابان فحين رأوا أنهم قد هزموا هزيمة نكراء على يد الأمريكان ، علموا أنَّ من أسباب ذلك: عدم قدرتهم على مواجهة الأمريكان بالسلاح ، لأنهم متخلفون في هذا الميدان ، وقد سبقهم الأمريكان في ذلك بعدة أشواط ، فما كان من اليابانيين إلا أن أرسلوا البعثات للتعلم في بلاد الغرب والنهل من علومهم الطبيعية ، حتى يرجعوا إلى اليابان وينقلوا على أرضها تلك التجارب الغربية الطبيعية فتنهض دولتهم ، وحين بعثت أول بعثة يابانية إلى دول الغرب رجعوا إلى بلادهم متحللين من مبادئهم، ذائبين في الشخصية الغربية، فما كان من اليابانيين إلا أن أحرقوهم جميعاً على مرأى من الناس ليروا عاقبة من تنكر لأمته ووطنه ولم يرعى المسؤولية التي أنيطت به، وبعد ذلك أرسل اليابانيون بعثة أخرى وأرسلوا معها مراقباً، يتابعهم أولاً فأول من ناحية ثباتهم على عقيدتهم ومثلهم الوثنية ، وانهماكهم في استقطاب الأفكار والمعلومات الغربية التكنولوجية وتطبيقها في أرض الواقع حتى يرجعوا لليابان ويفيدوا دولتهم الناشئة ، وتمض الأيام وتكون اليابان بعد سبعين سنة من أكبر منافسي أمريكا وأوربا في مجال التصنيع التقني والذي منه تصنيع الأسلحة الثقيلة ، فهَلَّا يستفيد المسلمون من تجارب غيرهم ،؟! عسى أن يكون قريباً..(/11)
ولنعقد مقارنة بسيطة ، فمن المعلوم قطعياً أنَّ الكفار ضيعوا أسباب نصرة الله المعنوية ، وهي الإيمان بالله والإيمان برسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ ولكنهم أبدعوا وبرعوا في صناعة الصواريخ والمتفجرات وأسباب النصرة المادية.
ونعلم كما قدَّمت قبل قليل أن المسلمين ـ إلا من رحم الله ـ نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وابتعد كثير منهم عن طاعة الله ورسوله، وأسباب النصرة المعنوية التي تكفَّل الله لمن طبقها من المسلمين بالصرة والتأييد، ولو كانت قوتهم العسكرية، وأسبابهم المادية أضعف من الكفار.
وأيضاً فإنَّ المسلمين ضيَّعوا أسباب النصرة المادية فأين هي القنابل الذرية ، والمتفجرات النووية، وأين الأسلحة والعتاد ، فلم يسمع لها صفيراً ولا همساً.
وعليه فإنَّ المنطق العقلي السليم يحكم بالانتصار لمن كانت عنده القوة والأسباب المادية ولو كان مضيعاً للأسباب المعنوية على الذي ضيَّع الأسباب المادية والمعنوية التي تحقق النصر والتمكين.
ولذلك انتصر الكفار على المسلمين الذين ضيعوا أوامر الله فنساهم سبحانه وضيَّعهم ، لذا قال عمر بن الخطَّاب- رضي الله عنه لقائده- [إنَّما ننتصر بمعصية عدونا لله وطاعتنا له فإذا استوينا في المعصية كانت لهم الفضل علينا في القوة] فمتى يستقيم الظل والعود أعوج؟!!
وقد يتساءل البعض كيف يتمُّ لنا الاستعداد وعندهم الآن صواريخ عابرة القارات ، والأسلحة الذكية، والقنابل النووية والكيماوية والجرثومية والذريَّة ، فنحن كما قال الشاعر عن الكفار:
استيقظوا بالجد يوم نمنا *** وبلغوا الفضاء يوم قمنا
والجواب: أن الله ـ عزَّ وجلَّ ـ لم يطلب من عباده المؤمنين مكافئة أعدائهم الكافرين بالعتاد والسلاح ، بل طلب منهم إعداد القوة بشرط أن تكون هذه القوة مرهبة للكفار ومثخنة لهم، ومع الإيمان والصدق والصبر ومعيَّة الله لعباده المجاهدين يتنزل النصر عليهم بالمدد الإلهي ، و من حيث لا يعلمون.
وما حوادث المجاهدين الأفغان وإسقاطهم للدب الروسي الأحمر وقد كان أقوى قوة أرضية تحكم العالم ما كان ذلك إلا دليلاً على أنه لا يشترط في قتال الكفار مكافئتهم بالعدة والعتاد ، ولا ننسى قصة أبطال الفلُّوجة الذين قاوضوا العتاد الأمريكي وأرغموهم على الانسحاب من هذه المدينة مع أنَّ المجاهدين هناك لم تبلغ قوَّتهم المادِّية عشْر معشار قوة جيش التحالف الصليبي ، وهذا أمر معلوم.
إنَّ العدة والعتاد ولو كان قليلاً إذا اصطحب مع الإيمان الحق ، والإرادة الصادقة فإنَّه لا تقف أمامه أيُّ قوَّة ، وقد قال الله [إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين] الأنفال[66]
وحين يتجذر مثل هذا في قلوب الصادقين ، فإنَّهم خلال مناوراتهم الحربية ، وتطلعاتهم المستقبلية لتحرير الأراضي المنكوبة ، سيحاولوا أنْ يفجروا من الحجر ناراً، ولو كانت أساليب بدائية ، فإنَّه كما قيل: الحاجة أم الاختراع ، ومع مرور الزمن تتطور تلك التقنيات البدائية ، وتنمو الأفكار التصنيعية للأسلحة والصواريخ ، وما مقاومة إخواننا في فلسطين الأبيَّة عنَّا ببعيد فقد بدأوا بقتالهم لليهود بالحجر والسكين ، ثمَّ بالمقلاع وقنابل المولوتوف ،إلى العمليات الاستشهادية،إلى حوادث تلغيم الأراضي التي سيمر عليها اليهود بسيَّاراتهم ودبَّاباتهم،إلى صواريخهم المباركة المسمَّاة بصواريخ قسَّام[1] وقسَّام[2]، وصاروخ البتار والذي صنِّع ليكون مضاداً للدبابات ، زادهم الله قوة ومدداً.
وصدق المولى ـ عزَّ وجل ـ إذ قال: [والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإنَّ الله لمع المحسنين]العنكبوت[69]
وفي قراءة سبعيَّة [والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضلَّ أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنَّة عرَّفها لهم] محمد[4ـ5ـ6]
إلَّا أنَّ المأساة الحقيقية في أنفسنا فكثير منّاَ لم تتعمق لديه تلك المبادئ ، أو تجده يعلم ذلك ولكنَّه يتضاءل عند تلك المعاني الرفيعة، ولا يحاول أن يستعلي بنفسه عن دونية الأرض ويحلق في سماء العزِّ والعزم.
يقول بن جوريون في عام 1949م[ كل ما يحيء به العلم الحديث لا يكفي وحده لكسب الحرب. ولن تكون الكلمة الأخيرة ، للدبَّابة ولاللمدفع ولا للطائرة المقاتلة. إنَّما تكون للإنسان الذي يُسخِّر هذه الوسائل لإرادته] بواسطة [درس النَّكبة الثَّانية... لماذا انهزمنا... وكيف ننتصر] للدكتور/ يوسف القرضاوي صـ68 .
وصدق عباس العقاد بقوله: [ كثيراً ما يكون الباطل أهلاً للهزيمة ولكنه لا يجد من هو أهلاً للانتصار عليه] الفصول صـ239بواسطة في البناء الدعوي للشيخ / أحمد الصويان صـ36.(/12)
أخيراً، لا يريد الكفار إلا غفلتنا عن هذه الأسباب المادِّيَّة ليحكموا الطوق علينا بقوة ، ويستولوا على كامل أقطارنا الإسلامية ، وقد بيَّن الله ـ سبحانه ـ ذلك بأحسن بيان فقال: [ ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة] النساء[102] فمتى يستفيق عقلاء القوم ؟!
[3][ ولتسألنّ َعمَّا كنتم تعملون]
إنَّ مما ينبغي على المتطلع لنصرة هذا الدين أن يستشعر المسؤولية الفردية التي كلَّفه الله بها ، فإنَّه محاسب على كل تقصير اقترفه في حق نفسه وأمته.
والمصيبة التي حلَّت بالمسلمين أنَّ كلَّا منهم يلقي اللائمة على الآخر ، ويحاول الكثير منهم أن يختفي من واقع العمل إذا طولب بشيء منه ويظنُّ أنه لم يره أحد ، ولم ينتبه له المسلمين، كالنعامة تغطي وجهها تظنُّ إن لم تر أحداً فإنَّ أحداً لا يراها، والغريب أننا نطالب غيرنا من كبيرنا إلى من هو أدنى منه بأمور عظائم... ونحن المطالبين بذلك نكون من أوائل القاعدين .
فلماذا لا نستشعر بعد ذلك روح المسؤولية ونعلم أننا جميعاً محاسب لدى الله ـ سبحانه ـ فالمسؤولية لا تخصُّ أناساً بعينهم وإن كان يشتد وجوبها على آخرين ويعظم في حقِّهم جرم التهاون بها،إلا أنَّها تعمُّ جميع أطياف المجتمع وأشكاله فالله ـ عز وجل ـ يقول: [ فوربك لنسألنهم أجمعين] الحجر[92] ويقول [ولتسألنَّ عما كنتم تعملون ] النحل [93] ، ويقول: [ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها] النحل [111] ولهذا أمر ـ سبحانه ـ محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالقتال مبيناً له أنَّ المسلم مكلف بذلك ولو ترك معظم المسلمين هذه الفريضة قائلاً :
[فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلَّا نفسك وحرض المؤمنين]النِّساء[84]
تلك هي صفة الطموح، والذي يحمل همَّ الإسلام بصدق وجد، ويعيش ذلك الهم بين قلبه وأضلاعه ، ويستشعر روح المسؤولية ، ويقلل من الكلام والتلاوم ، ويسعى للعمل فالرجل وإن كان صامتاً فإن عقله يفكر في الأسباب المعينة على نصرة الإسلام ، وطرائق الرقي بهذه الأمة إلى القمة السامقة، والريادة الكبرى ، ومن ثمَّ صنع ذلك في أرض الواقع ، وإشعال لهيب المعركة.
لهذا كان من اللازم أن توظف جميع طاقات المسلمين متحركة داخل دائرة العمل الإسلامي وأن لا يستثنى منها أحداً وكل يعمل بأقصى جهده ، وأعظم استطاعته، فهذا خير لنا من أن نبقى متفرجين على مآسينا بلا عمل ولا ترتيب وهو بعينه الذي يفرح أعداء الدين.
وقد عبَّر عن هذا أحد مشاهير الفلاسفة [ايدموند بورك/1729ـ 1797] بقوله:
[ إنَّ كل ما تحتاج إليه قوى الشر لكي تنتصر هو أن يظل أنصار الخير مكتوفي الأيدي ، دون القيام بعمل ما ]اليهود وراء كل جريمة صـ7
وإذا كنا بهذه الطريقة فسيتفرد أهل العلمنة والنفاق بصناعة القرار، ويعيث أهل الفساد في ديارنا بالشر والزندقة !
وجدير إذا الليوث توارت أن يلي ساحها جموع الثعالب
لكن إذا استشعرنا جميعاً المسؤولية وانخرطنا في عمل جاد يقاوم تحركات الكفار، وبذلنا جهدنا في ذلك ، وركبنا الصعب والذلول ، وعلم الله منا صدق النية وصلاحها، ونَصَرْنَا الله عز وجل ولم ننصر أهوائنا وما تمليه علينا رغباتنا ، فإنه ـ سبحانه ـ سيمن علينا بالنصر العظيم والفتح المبين .
وإذا كانت هناك بقية باقية استعصت علينا لأن قدراتنا لاتسمح بمقاومتها، فإنه سبحانه سيتولى ذلك،لأنه علم منا جميعاً أننا بذلنا الجهد في اقتلاع أطناب الفساد ، وقد أخبر عن نفسه المقدسة حين رأى جنده في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عدَّة غزوات وقد بذلوا الغالي والنفيس لقتال أعداء الله ، وبقيت هناك بعض الأمور التي استعصت عليهم ، ولم يكن بمقدورهم التمكن منها، فإنه سبحانه تولى ذلك وأنزل الفتح المبين، قال تعالى [ وأخرى لم تقدروا عليه قد أحاط الله بها وكان الله على كلِّ شيء قديراً] الفتح[21] ومن تأمل قصة أصحاب الغار وكيف أنهم لما انطبقت عليهم الصخرة وكانوا من أعظم الناس إيمانا ً وحاولوا إزاحتها عن الباب ليخرجوا فلم يقدروا ثمَّ دعا كل منهم ربَّه وانطرح بين يديه صادقاً ورفع أكفَّ الضراعة إلى الملك الرحيم العليم القادر وتوسل كل منهم إلى الله بأحسن عمل صالح فعله في حياته كلها، وبعد أن استنفذوا جهدهم وطاقتهم في طلب إزاحة هذه الصخرة ولم يركن كل منهم ويطلب من الآخر أن يعمل وهو ينظر بل تحركوا جميعاً للعمل والدعاء ، وحين رأى الله ـ سبحانه ـ تلك العزائم الصادقة ؛ أمر تلك الصخرة أن تنزاح ليخرج عباده المؤمنين إلى أرض الله الفسيحة.
لأجل ذلك ؛ فينبغي أن نكون جميعاً مفكرين في نصرة هذه الأمة ، ومحاسبين لأنفسنا على تقصيرها في حقِّ الله وحق أمتهم ومن ثمَّ العزم على التغيير، وتطبيق ذلك عمليَّاً.(/13)
وما لم يفكر أبناء الأمة الإسلامية وفرسانها الجادين باستعادة مجدهم وتاريخهم العريق فلن يفكر بذلك أحد غيرهم ، بل سيخطط أعداء هذه الأمة لتحطيم الإسلام وإبادة أهله وقد فعلوا، فالتأوه والحزن لا يصنع شيئاً، ولا يغير واقعاً ، ولله درُّ إبراهيم طوقان حين قال:
أفنيت يا مسكين عمرك بالتأوه والحزن
وقعدت مكتوف اليدين تقول حاربني الزمن
مالم يقم بالعبء أنت فمن يقوم به إذن
كم قلت أمراض البلاد وأنت من أمراضها
والشؤم علتها فهل فتشت عن أعراضها
كتاب الهمة العالية للشيخ/ محمد الحمد ص 50
والغريب أننا مع كثرتنا وافتخارنا بأننا أمة المليار ونصف ، لم نستطع وإلى الآن أن نردع العدو، وأن نكسر شوكته، وأن ننطلق في الآفاق لنشر دعوة الله في أرجاء العالم.
إنها الغثائية التي أخبر عنها النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- فانطبقت علينا حين رضينا بالدون وأحببنا الدنيا ، وصرنا نرضى بالحياة أي حياة ، ولو كانت حياة هزيمة ووهن ، وأصبحت كثرتنا لا تصنع شيئاً فصرنا كما قال الشاعر:
يثقلون الأرض من كثرتهم ثم لا يغنون في أمر جلل
وقد عبَّر عن ذلك الدكتور / عبد الودود شلبي حيث قال: [لقد سقط [[المجدار]]، ومشت سكة الأجنبي في حقل الإسلام، وتداعت الأمم على المسلمين، كما تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بأكثر من ألف وأربعمائة عام] أفيقوا قبل أن تدفعوا الجزية للأستاذ/ عبدالودود شلبي صـ 29.
ولا ريب فإنها معادلة صائبة حين نقول: غثائية جماعية = تداعي الأمم.
[4] [ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً]:
إنَّ من أخطر ما أصيب به المسلمون في كثير من أعمالهم أن صار معظمها [ ردود أفعال] ما أن تشتعل في قلوبنا إلا وانقطعت من جديد ، لأننا غالباً نتحرك بلا هدف ولا تخطيط ، فالأحداث تسيرنا وتفرض نفسها علينا وكثير منَّا لا يُكَيِّفُهَا حسب خطة عمل ، أو يوظفها لصالحنا.
لذا أضحت أفعالنا وقتية ، وتحركاتنا آنية ، ولا شكَّ أنَّ هذا خلاف العمل المتكامل ، وقد كان كثير من علماء الإدارة يوصون بكلمة قصيرة لكن معناها عميق وهي [ابدأ والنهاية في ذهنك].
إن النجاح الحقيقي أن يعرف الإنسان هدفه في الحياة ، وهدفه من العمل الذي يريد تحقيقه ، ثم يسعى لذلك مرتباً لكل مرحلة منهجية يسير عليها، ومعالم يستنير بها ، فلا يكن حاله كحال الكثير يعمل متحمساً في البداية ثم ينقطع في آخر الشوط فلم يفلح ولم يصلح وقد نهى الله عن ذلك بقوله: [ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا] النحل[92] لذا كان من أهمِّ الأمور التي وصَّانا بها علماؤنا أن يكون للإنسان في ما يريد فعله عزمة بداية ، وعزمة نهاية ، فتكونُ شرارة توقد البداية ، وعزم ثانٍ لتستمر للنهاية ، قال الإمام ابن رجب ـ رحمه الله ـ في شرحه لحديث شداد بن أوس ـ رضي الله عنه العزم نوعان:
أحدهما: عزم المريد على الدخول في الطريق، وهو من البدايات.
والثاني: العزم على الاستمرار على الطاعات بعد الدخول فيها ، وعلى الانتقال من حال كامل ، إلى حال أكمل منه ، وهو من النهايات... وعون الله على قدر قوة عزيمته وضعفها ، فمن صمَّم على إرادة الخير أعانه الله وثبَّته، كما قيل:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي بتحقيق/ طلعت الحُلواني ج1/ صـ344
ومن هنا فإنَّ على مريد التمكين لهذا الدين أن يواصل سيره فلا يكلَّ ولا يملَّ ، وينكب لمشروعه النُّصروي لهذه الأمَّة انكباباً ينحني له الظهر ولو كانت بدايته مضنية، ولا ضير فقد نقل الإمام الشوكاني- رحمه الله- في أدب الطلب عن أفلاطون كلمة رائعة سبقها بقوله: [وما أحسن ما حكاه بعض أهل العلم عن أفلاطون فإنه قال:الفضائل مرَّة الأوائل حلوة العواقب،والرذائل حلوة الأوائل مرَّة العواقب]أدب الطلب ومنتهى الأرب/ صـ 186
فلنأخذها قاعدة وأصلا بأنَّ العمل الإصلاحي العظيم سيكون شاقَّاً في بدايته إلَّا أنَّ ثمرته ستكون يانعة مورقة ولابدَّ لذلك ؛ نفس تضيء وهمَّة تتوقد ، وليكن لسان الحال كما قيل:
إنَّ عليَّ أن أسعى وليس عليَّ إدراك النجاح
[5] [يا أيُّها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون] :
كثير من المسلمين ـ وفي تقديري ـ لا ينقصهم الوعي بقدر ما تنقصهم امتلاك الإرادة ، والعزيمة والإصرار في تحويل المكتوب في القرطاس إلى واقع حي ، ومن هذا المنطلق فإننا نحتاج إلى أن نفعل ما نقول وما نكتب، فما احترق لسان بقوله نار ، وما اغتنى إنسان بقوله ألف دينار ، والحلول التي كتبها كثير منا في الإصلاح ، ومواجهة الأعداء صحيحة، لكنَّها عملياً ليست ملموسة في أرض الواقع ؛ ولأضرب مثلاً:
أ ـ فكثير من الكتاب والعلماء والمثقفين ذكروا أن من أسباب هزائمنا المتوالية، انعدام الهدف ، وعدم وجود خطة استراتيجية لمقاومة الطغاة المعتدين ، فهل بدئ بترتيب شيء من هذا الكلام؟(/14)
ب ـ وكثير من العلماء والمفكرين يذكر أن من أسباب هزائمنا عدم الاعتصام بالكتاب والسنة ، ثم نجد البعض منهم مفرط بهذا الأمر، فينشغل بالبدع والخرافات ، وتقديم العقليات ، والمصالح الموهومة على النصوص الشرعية.
ج ـ وكثير ممن يحترق لأمته من أهل الدين والصلاح يقول: إنَّ من أعظم أسباب انتصارنا[وحدة الصف، وجمع الكلمة ، ورأب الصدع ، واتفاق المسلمين] ومع ذلك تجده في مواطن عدة يكون مفتاحاً للتفرق المذموم، ومضياعاً لسنة الاجتماع، ومفرطاً بأدنى الحقوق مثل حقوق المسلم على أخيه المسلم، مشهراً بعيوب من قام بنصرة دين الله ، ومجرماً لهم لاختلاف وجهة نظره مع وجهة نظرهم.
وهذه نماذج توضح أننا نمتلك رصيداً طيباً من الوعي ، إلا أنه يغاير ذلك تطبيق ما وعيناه في أرض الواقع.
إنَّ داء الكلام بلا عمل وتطبيق ، أمر قدْ حذَّر الله منه ومقت فاعليه قائلاً في محكم التنزيل [ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون]الصف[2] ولهذا فلا يستغرب أن تجد من يكثر الكلام أو النقد الآثم والجدل المذموم أن لا يحسن إلا ذلك، فلا يكون إلا ثرثاراً مهذاراً وليس لديه تجاه تلك النوازل إلا توسيع دوائر الفرقة ، والقدح في أولياء الله المؤمنين والمدافعين عن حياض الأمة وكرامتها فهو كما قيل : جعجعة لا نرى لها طعن إلا إثارة الفتن، وصدق معروف الكرخي حين قال: [ إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل ، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شراً أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل] رواه أبونُعَيْم في حلية الأولياء[8/361] ، وقال الحسن[ إنَّ هؤلاء مَلُّوا العبادة ووجدوا الكلام أسهل عليهم وقلَّ ورعهم فتحدثوا] وقال الأوزاعي: [ إنَّ المؤمن يقول قليلاً ويعمل كثيراً وإنَّ المنافق يتكلم كثيراً ويعمل قليلاً] كيف أخدم الإسلام للقاسم صـ28
وما أحسن ما قاله عثمان بن عفَّان- رضي الله عنه- موصياً قوماً لقيهم [أنتم إلى إمام فعَّال؛أحوج منكم إلى إمام قوَّال] تثبيت أفئدة المؤمنين بذكر مبشِّرات النصر والتمكين/ لسيِّد عفَّاني صـ515
فبان الآن أنَّ من يتقن فنَّ الكلام فحسب مع الجدل الذي لا فائدة فيه، ليس ذلك من سيما أهل الإصلاح وَرُوَّاد التغيير، وإنما هو سيما أهل الكسل والثرثرة [ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون] التوبة[87]
والسبب في ذلك ضعف الإرادة ، وحبُّ الذات والأنانية الَّتي سيطرت على توجهاتنا ، فصار كلٌ يدَّعي أنَّ منهجه هو الصواب ، وماعداه يضرب به عرض الحائط ولا يبالي.
وقد صوَّر حالتنا هذه الشاعر بقوله:
كلٌّ يقول أنا الَّذي.....فإذا الَّذي ليس الَّذي.....يا ويل من لم يعدل
وقد نامت عدَّة مشاريع على الرفوف ولم تنشر في أرض الواقع بسبب الأنانيَّة وحبُّ التصدر والحديث ، وعشق الرياسة!! فمتى ينتبه دعاة الإسلام لهذا الخلل، ويحاولوا إصلاحه؟
[6] [أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمَّن يمشي سوياً على صراط مستقيم]:
من أكبر أسباب هزائمنا انعدام المنهج التخطيطي لدى الكثير من الكوادر القيادية المسلمة ، ومن يقارن حالنا بحال أعدائنا يجد الفرق الهائل والبون الشاسع بيننا وبينهم من ناحية الخطة والتنظيم الحركي والعسكري ، ولذا انتصر كثير منهم علينا لأننا في الحقيقة واجهناهم بلا خطة ولا تنظيم، وصدق من قال:
درجنا على فوضى أضاعت جهودنا وغالوا بترتيب الجهود وأقدموا
وقد يرجع الحقُّ المشوش خائباً وينتصر البطلان وهو منظَّم
فمن اللازم علينا في فترتنا الراهنة أن يعد الكثير منَّا خطة استراتيجية لمقاومة الاحتلال الصهيو/ صليبي ،ولا يتمُّ ذلك إلا بالتأني والدراسة العميقة وقوة التخطيط، وذكاء الترتيب ، وهندسة الأفكار، وبعد النظرة ، وشمول الفكرة، وأن لا نهتم بالسرعة في العمل بقدر ما يهمنا قوة إيماننا وفكرتنا و التخطيط لأعمالنا ومحاولة تفقيطها وتقسيمها على دوائر العمل والتحضير ، فكثير منا نحن الإسلاميين ، لا ينقصه الزكاء ـ إن شاء الله ـ مع أهمية تعاهده ، بقدر ما ينقصنا الذكاء في العمل ، والبراعة في التخطيط ؛ حتى ننجح في عملية المقاومة.
لكن يحتاج ذلك منَّا إلى سرعة في تفعيله ، ومبادرة حكيمة في رسمه ، فالأوقات تمضي ، وهاهو ابن الجوزي يوصينا قائلاً [ واعلم أنَّك في ميدان سباق، والأوقات تنتهب.ولا تخلد إلى كسل ، فما فات مافات إلا بالكسل، ولا نال من نال إلا بالجد والعزم، وإنَّ الهمَّة لتغلي في القلوب غليان ما في القدور] صيد الخاطر/صـ286
وأختم هذه الفقرة بكلام بديع ذكره الأستاذ المفكر/ وحيد الدين خان في خواطره قائلاً: [إنَّه من الممكن أن تبني مستقبلاً خيالياً للأمَّة بفيضانات الشعارات والخطب والقصائد الحماسية ، ولكن لا يمكن تعمير مستقبل حقيقي للأمَّة بدون جهد حقيقي للأمَّة بدون جهد مخطط طويل الأجل.(/15)
إنّ َتعمير الأمَّة كزرع البلوط ، حيث يجب عليك أن تنتظر قرناً كاملاً بعد زرع بذرة البلوط حتَّى تصبح شجرة مكتملة عملاقة.
وإذا كنَّا نريد أن تصبح أمتنا قوية راسخة فلابد أن نخلق في أنفسنا عزيمة الجهد المخطط الطويل الأمد.
أمَّا الذين يريدون أن يصلوا إلى الهدف النهائي بمجرد بدء الهدف، فيجب أن يعرفوا أنَّ جهدهم هذا ليس سوى وثبة نهايتها الموت والفناء، ولا شيء غير ذلك] خواطر وعبر/ صـ7
[7] [وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القول فدمَّرناها تدميرا]:
إنَّ من أهمِّ لوازم الجماعة المسلمة التي تريد أن تحقق النصر لأمتها وتكون خير أمَّة أخرجت للناس أن تبتعد كل البعد عن دواعي الترف، والحياة المخملية ، والركون إلى الرفاهية ، وقدْ وصَّى بذلك الخليفة الراشد: عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- بعض عمَّاله العرب وهم في بلاد العجم: [ إياكم والتنعم وزي العجم، وعليكم بالشمس فإنها حمَّام العرب، وتمعددوا ، واخشوشنوا ، واخشوشبوا،واخلولقوا] انظر/اقتضاء الصراط المستقيم/لابن تيمية ـ رحمه الله ـ
ولهذا لمَّا تربى الرعيل الأول وجيل الصحابة الأفضل على حياة الخشونة ، والانقشاع من حياة الأثرة والأُبَّهَة فتحوا البلدان ومصَّروا الأمصار ، لأنهم لم يتعلقوا بزخرف الدنيا الفاني، ولا نعيمها الزائل ، فلله درُّهم.
قال أبو أمامة- رضي الله عنه- [ لقد فتح الفتوح قوم ما كانت حلية سيوفهم الذهب ولا الفضة إنَّما كانت حليتهم القلابي ، والآنك ، والحديد] أخرجه البخاري برقم [ 2909]
ليس المروءة أن تعيش منَعَّماً وتظل معتكفاً على الأقداح
ماللرجال وللتنعم إنما خلقوا ليوم كريهة وكفاح
قال الشيخ المجاهد عبدالله عزَّام ـ رحمه الله ـ [ لقد رأيت أنَّ أخطر داء يودي بحياة الأمم هو داء الترف الذي يقتل النخوة.. ويقضي على الرجولة.. ويخمد الغيرة .. ويكبت المروءة]انظرـ عبدالله عزَّام/ لمحمد العامر/ ص119.
ويكفي أن بطر العيش من أسباب هلاك الأمم ، قال تعالى : [ وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً ] القصص[58]
فمن الأهمية بمكان أنت يعي جيل النصر المنشود هذا الأمر كامل الوعي ، وأن يحذر منه ، فكم حذَّر منه أهل العلم والجهاد ، وعلموا أنَّه من أكبر العوائق عن المطالب العلى ، وأنَّه مفتِّر للهمَّة ، مثقل للعزيمة ، فكيف يكون من بُلِيَ به ناصراً لدينه ، وهل تسترد الأمجاد والدول بخِرِّيْجِي القصور والفنادق، أم بخرِّيجي المعارك والخنادق؟! ولذلك نصر الله رسوله ، وأنجز وعده حين ذاق مرارة الجوع ، وقد أخبر ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ عن نفسه بشيء من تلك المعيشة فقال: [لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أوذيت في الَّله وما أوذي أحد ، ولقد أتت عليَّ ثلاثون ـ من بين يوم وليلة ـ وما لي طعام يأكله ذو كبد إلَّا شيء يواريه إبط بلال] أخرجه أحمد 3/120، والترمذي برقم2472، وابن ماجه برقم151، وابن حبَّان 14/ برقم6560، وهو حديث صحيح.
[8] [ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم] :
لا أظنُّ أنَّ مسلماً يختلف معي في أهمية أن يكون المسلمون صفَّاً واحداً قبالة أعدائهم ، غير مختلفي القلوب والمنهج ، فوحدة الصف ، وجمع الكلمة ، من أهمِّ الأمور المعينة على نصر الله ، وقد جاء في صفة الزمرة الأولى التي تدخل الجنَّة أنهم [لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، قلوبهم قلب واحد ] أخرجه البخاري[4/143]
لهذا فلا المنهج الإلهي ولا القانون البشري أوضحا أنَّ الأمة المختلفة والمتناحرة والضعيفة من الداخل تستطيع أن تتغلب على الخطر الذي يداهمها من الخارج ، فإنَّ ذلك أمر مستحيل و[ في المنطق الرياضي تنابز القوى الإيجابية تكون المحصِّلة فيها صفراً{، فكذلك في المنطق الإسلامي تكون المحصِّلة فيها صفراً [ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم] الأنفال[46] مابين القوسين مقطع من كلام الدكتور منير الغضبان في مجلَّة البيان عدد[201] صـ55
ومما يحزن له المسلم في هذا العصر حين يرى ذلك التفرق والاختلاف المذموم بين كثير من فئات الحركات الإسلامية ، وتشكيك كلِّ حركة بالأخرى، وفرض كلِّ حركة على أتباعها نوعاً من الوصاية الفكرية ، فلا تجدهم يقرؤون إلا لمنظري الحركة ، وعلمائها ، ولو علموا أن أحداً من أتباعهم يقرأ لغيرهم لشنُّوا عليهم حملة عارمة لا هوادة فيها، وذنبه لأنه اطَّلع على غير كتب حركته فقط ، وقد يكون هذا الشخص غير موافق على ما طُرِحَ فيها ولكنّهَ يريد أن يقرأ للآخرين ويعرف توجهاتهم ، ومنطلقات أفكارهم ، فالله المستعان!
وقد صدق أحد الشعراء حين قال مشخِّصاً اختلاف كثير من أتباع الجماعات الإسلامية ، وتفرقهم وتعصبهم:
وما شكواي أو شكواك إلا لفوضى في المجامع وانقسام
ترى كلاً له أمل وسعي وما لاثنين حولك من وئام
لكل جماعة فينا إمام ولكنَّ الجميع بلا إمام(/16)
وبعد أن رأى الكفار هذا التفرق الذي يدبُّ في أمتنا ، ويفرق بين صفوفها استولوا على كثير من أقطارها لانعدام الوحدة الإسلامية ، وهذا ديدنهم في كل حين ، حين يروا أهل الإسلام قد اختلفوا وتشرذموا فرقاً وأحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون ، فإنهم سيلتهمون بلاد الإسلام ، وقد نبه إلى هذا الملمح الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بقوله: [ وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها، حتَّى تجد المنتسب إلى الشافعي يتعصَّب لمذهبه على مذهب أبي حنيفة حتى يخرج عن الدين ، والمنتسب إلى أحمد يتعصَّب لمذهبه على مذهب هذا أو هذا ، وكلُّ هذا من التفرق والاختلاف الذي نهى الله ورسوله عنه] ا . هـ مجموع الفتاوى[22/254]
فمن الفطنة إذاً أن نردم الشقاقات بين أنفسنا وأن نتلاقى لقاءً إيمانياً أخوياً ، ولِنُفَّوِّتَ على أعدائنا فرصة الفرحة بوقوع الخلافات بين الإسلاميين أو تثميرها واستغلالها لصالحهم.
لكن لا يمنع ذلك الاختلاف في وجهات النظر ، ولا يمنع إذا وقع أحداً من أهل العلم بخطإٍ أن يبين خطئه ، ففرق بين تبيين الخطأ للناس مع وجود الرابطة الأخوية التي تجمع بين الراد والمردود عليه ، وبين من إذا أخطأ أحد العلماء أو المجاهدين أو الدعاة أن يكون ذلك بداية للانشطار والتطاحن الفكري، والذي يكون أكثره ليس لله بل لحظوظ النفس ورغباتها، أو للحزبية المقيتة المُنْتَّسَبِ إليها.
ومن جميل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في هذا المقام: [وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتَّبعوا أمر الله ـ تعالى ـ في قوله: [فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا] النساء[59] وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة ، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية ، مع بقاء الألفة والعصمة ، وأخوة الدين .
نعم من خالف الكتاب المستبين ، والسنَّة المستفيضة ،أو ما أجمع عليه سلف الأمَّة خلافاً لا يعذر فيه ، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع] مجموع الفتاوى لابن تيمية[24/172]
ومن أكبر ما يجمع الناس، ويوحد صفوفهم، بعد الإيمان بالله ـ تعالى ـ وإخلاص العبودية له،هو الجهاد في سبيل الله ، فإنه المصدر الرئيس للرابطة الإيمانية والوحدة الإسلامية ، وتركه والتخلف عنه ينسحب أثره على القاعدين بالسلبية القاتلة فيكثر جدلهم وتفرقهم وتكثر الكتل الحزبية والتجمعات المتفرقة، بسبب القعود عن تلك الفريضة العظيمة.
قال العلَّامة الشيخ ابن تيمية- طيَّب الله ثراه [فإذا ترك الناس الجهاد في سبيل الله فقد يبتليهم بأن يوقع بينهم العداوة حتى تقع بينهم الفتنة كما هو الواقع؛ فإنَّ الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبيل الله جمع الله قلوبهم وألَّف بينهم ، وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم ، وإذا لم ينفروا في سبيل الله عذَّبهم الله بأن يلبسهم شيعاً، ويذيق بعضهم بأس بعض] مجموع الفتاوى[15/44ـ45]
وصدق ـ رحمه الله ـ فالواقع خير شاهد على ذلك ؛ ورحم الله من قال:
وكونوا حائطاً لا صدع فيه وصفَّاً لا يرقَّع بالكسالى
[9] [فاصبر إنَّ العاقبة للمتقين]:
المتطلب لعزَّة هذه الأمَّة الخيِّرة ينبغي عليه أن يعلم إنَّه إذا عمل لإعلاء كلمة الله ، ونصرة دينه بأنَّ طريق النصر والتمكين مملوء بالأشواك، ومتشعب الأودية ، ويحتاج لصبر جميل وطويل، فعلى الساعي لذلك أن لا يفرق من كلام المنهزمين والمخذلين والمرجفين ، فإنَّ هؤلاء قد قطعوا على أنفسه عهداً للتصدي لأهل الإيمان ، ونذروا أنفسهم لمثل هذه الهمم الدنية ، فلا على من نذر نفسه للهمم العلية أن يستمع لحال هؤلاء المتحذلقين المتفيهقين، وليأخذ بقول الله [ ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون] الحجر[65]
وما أجمل قول القائل:
لابد للسؤدد من أرماح
ومن عديد يتَّقي بالراح
ومن سفيه دائم النباح
فالفطن هو من يعرض عن هؤلاء ، لأنَّهم يتمنون أن يلقي بطرفه إليهم ، ويساجلهم ويعارضهم، وقد نبَّه الله نبيه محمداً ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ فقال له: [ فذرهم وما يفترون] الأنعام[112]
ولا يخش المرء على نفسه منهم، فمن كان مؤمناً بالله ، فإنَّه مؤمن بقوله تعالى: [إنَّ الله يدافع عن الذين آمنوا] الحج[38] فالله ـ عزَّ وجلَّ ـ هو الذي بيده الأمر والحكم، وهو الناصر لعباده ، ومبطل لكيد الكفرة والمجرمين ، ومن أروع ما كتب في ذلك ؛ ما رقمه الإمام الشوكاني ـ رحمه الله ـ بقوله: [ومن رام أن ينصر باطلاً ، أو يدفع حقَّاً فهو مركوس ، من غير فرق بين رئيس ومرؤوس [وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل] وعند عزائم الشيطان يندفع كيد الرحمن] أدب الطلب ومنتهى الأرب/ صـ250(/17)
ولعمر الله لن يجد العبد طعم النصر إلا إذا أصابته مطارق الابتلاء و تجرع مرارة الأذى فصبر وصابر، فإنَّ دين الله لا يقوم إلا على أكتاف أولي الصبر والعزمات ، وحتماً فإنَّ العاقبة للمتقين.
قال الإمام: ابن تيمية: [وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع وكلَّ وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا ، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام ، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وأن العاقبة للتقوى ، وأن مايصيبه فهو بذنوبه فليصبر، إن وعد الله حق، و ليستغفر بحمد ربه بالعشي والإبكار] مجموع الفتاوى[18/295]
فعلى أبناء الجيل المسلم أن يتواصوا بالصبر والمصابرة والمرابطة ، وأن لا يزحزحهم عن هدفهم بهرج المفارق، ولا قلة المرافق، وأن يحذروا كل الحذر من التعجل في طلب النصر ، والتسرع في قطف الثمرة فليس بشرط أن نرى النصر بأعيننا ولكن لنغرس في نفوسنا العمل لنيله وطلبه ، وقد قال الله لرسوله-عليه الصلاة والسلام- [ وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك] الرعد[40] فالنصر لا يأتي مباشرة إلا إذا سبقته عدة مراحل كانت معينة على تحصيله ، وبمجموع هذه المراحل تتكون عندنا محصلة النصر.
لكن علينا أن نربي أبناءنا وأحفادنا لهذا الأمر، ليواصلوا المسار بعدنا،فما نحن إلا معالم يهدي أولها لآخرها:
قد هدانا السبيل من سبقونا وعلينا هداية الآتينا
فالمتوجب أن لا نستبق الخطى والمراحل، وأن نفقه لكل مرحلة فقهها الواقعي وخطتها المنهجية ، وأن نعي واجب الوقت المخصص لها ، وقد قال الله تعالى: [ وأتوا البيوت من أبوابها]البقرة[189] فإذا كان ـ سبحانه ـ قد أمرنا إذا دخلنا البيوت أن نأتيها من أبوابها المعروفة فلا نتسلقها ولا نتسورها.......فهكذا أمور الحياة جميعاً، وخاصة الوسائل المعينة للارتقاء بهذه الأمة وسيادتها، فإنها لا تأتي خبط عشواء، وإنما بقوة إيمان، وحسن تدبير ، وقوة سياسة.
فليس يزيح الكفر رمْيٌ مسدد إذا هو لم يؤنس برأي مسدد
- إنها- يا صاحبي- أمور لا تحتمل التأخير فكفانا والله تأخراً وتسويفاً عن فعل الصالحات ، والمهم أن نعمل لخدمة هذا الدين ونصرته ، ولا ضير أن يكون عملنا في بدايته بطيئاً فنحن نريد بطئاً ولكن أكيد المفعول .
[10] [ولا تيأسوا من روح الله إنَّه لا ييأس من روح الله إلا القوم الخاسرون]:
وعلينا كذلك ألا نقنط ولا نيأس فإنَّ اليأس من صفة المستعجلين في طلب النصر، وأعظم من ذلك أنه من صفات الكفار كما قال ـ جلَّ جلاله ـ [إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون] يوسف[87]
و نصر الله لابد أن يأتي وليس على الله بصعب أن ينزل الظفر والفوز على المسلمين ، ولكن لله حكم من تأخير النصر، ومن أعظمها أن يريد أن يبتلي عباده ليرى قوة إيمانهم ، وشدة ثباتهم على ذلك فإذا حصل هذا فإنَّ نصر الله آت [ ولويشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض] محمد[4]
ويرحم الله ابن القيم حين قال:
والله ناصر دينه وكتابه ورسوله في سائر الأزمان
لكن بمحنة دينه من دينه ذا حكمه مذ كانت الفئتان
والمهم أن لا نيأس ، فاليأس لا يصنع شيئاً ، وهو من صفات العاجزين البائسين ، وكيف نريد من نفس يائسة قانطة أن تنصر دين الله وهي منهزمة في داخلها، ومتحطمة بإرادتها، فلن يكون النصر حينئذ ، فلنرمي بأغلال اليأس من فوق قلوبنا ولنقرأ [فإنَّ مع العسر يسراً* إنَّ مع العسر يسراً] الشرح[5]
والليل إن تشتد ظلمته فإنَّ الفجر لاح
إن كان ليلك أسوداً فالليل في عيني صباح
لو كان فجرك غائباً فالفجر في الآفاق لاح
تلك عشرة كاملة أرى إن تحققت في واقع المسلمين بصدق وعزم، فإنَّهم سيجنون بعدها العزَّ والفلاح والسؤدد ، في دينهم ودنياهم ـ بعون الله ـ
وأما من كان ضعيف الهمة ، ساقط العزيمة، ولم يهتم إلا بدنياه فإنَّ همته لا تدله إلا على أراذل الأمور ، وضعيف التجارب ، ولسانه:
دع المقادير تجري في أعنَّتها ولا تبيتن إلا خالي البال
ويعجبني كلام ذكره الأستاذ: سيد قطب- رحمه الله- حين قال: [إنَّ الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحا، ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير...فماله والنوم؟ وماله والراحة؟ وماله والفراش الدافئ ، والعيش الهادئ والمنام المريح؟!]
ولقد عرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حقيقة الأمر وقدَّره ، فقال لخديجة ـ رضي الله عنها ـ وهي تدعوه أن يطمئن وينام: [مضى عهد النوم يا خديجة] أجل مضى عهد النوم ، وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق!] في ظلال القرآن[6/3744].
وهكذا والله نريدها من كل رجل مسلم أن يقول [ لقد مضى عهد النوم وبدأ عهد العمل الشاق لنصرة هذا الدين](/18)
وقد أحسن الإمام ابن القيم حين قال: [ لمَّا كثر المدعون للمحبة طولبوا بالإقامة البينة على صحَّة الدعوى ، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخليُّ حرقة الشجي ، فتنوع المدَّعون في الشهود ، فقيل : لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة [ قل إن كنتم تحبُّون الله فاتبعوني يحببكم الله ] آل عمران[31] فتأخر الخلق كلَّهم ، وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البيِّنة بتزكية [ يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم] المائدة[54]] ا.هـ مدارج السالكين[3/9] ط/ الفقي
وإذا تولينا عن نصرة ركائب الإيمان وفرسان التجديد، فإنَّ الله سيستبدل بنا أمة غيرنا تكون هي المهيئة لذلك النصر وتذوق طعم العزة ومجد الفتوحات [وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثمَّ لا يكونوا أمثالكم] محمد [38]
والله ـ سبحانه ـ يوضحها ـ حقيقة ناصعة حيث يقول [ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم] ثمَّ ذكر أوصافهم [ يحبهم ويحبونه ] [أذلة على المؤمنين] [أعزة على الكافرين] [يجاهدون في سبيل الله ] [ ولا يخافون لومة لائم ] ثمَّ بين ـ عزَّ وجل ـ أنه [ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم]المائدة[54]
أي ورب إنها سنَّة في الأرض كونية لا تتبدل ولا تتغير، وقد قيل:
لئن لم يكن في الأرض أوس وخزرج فلله أوس قادمون وخزرج
لكن علينا أن لا نمني أنفسنا بالنصر والتغني بأمجاده ، قبل أن يأتينا وأن ننطلق في هذا الوجود بكل همَّة عليَّة، وعزمة عمرية ، لنشر دين الله والتصدي للمردة المحتلين وليكون عملنا أكثر من كلامنا وشكاوينا ، فوالله إننا في هذه الأيام نتوق إلى ألسن بكم وأيد وضاح ، ونحن في وقت معامع وصولات ، وقعقعات وجولات ، ولسنا في وقت الآهات والحسرات ، فلنخرج من عزلتنا وانكفاءنا على أنفسنا إلى مواطن العز والإباء ، ومصانع الرجال، فالعزلة في وقتنا هذا ما هي إلا عمل البطالين أو الجبناء ، وقد قيل : إيقاد شمعة خير من لعن الظلام.
وقد روى التابعي الفقيه الشعبي أن رجالاً خرجوا من الكوفة ونزلوا قريباً يتعبدون ، فبلغ ذلك عبدالله بن مسعود ، فأتاهم ففرحوا بمجيئه إليهم ، فقال لهم [ماحملكم على ما صنعتم ؟ قالوا: [أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد ، فقال عبدالله: لو أنَّ الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان سيقاتل العدو؟ وما أنا ببارح حتى ترجعوا] الزهد لابن المبارك/ صـ390
فرحم الله الفقيه ابن مسعود، ونحن نقول : لو أنَّ الناس انكفؤوا على عزلتهم،أو مشاريعهم الخاصة من زواج ووظيفة وعبادة، فمن سيقاتل العدو وينازل الطغاة المعتدين ، وخاصة أنَّ عندهم الشيء الكبير من المخططات الخبيثة؛ للاستيلاء على أكبر قدر يمكن على المنطقة الإسلامية ،فإن علموا منَّا ضعفاً وتقوقعاً على أنفسنا فإَّن العدو لن يرحمنا بل سيلتهمنا لقمة سائغة ولات حين مناص.
آن الأوان لأن نخاطر بالدم من لم يخاطر بالدما لم يسلم
فمزيداً من التفكير الجاد العملي العميق، وإجالة النظر في كتب التاريخ ، والاستفادة من تجارب الماضين واللاحقين، وقد قيل رحلة العظيم تبدأ بفكرة ، ونحن في وقت صعب ، ومنحنى خطير ، وأمة الإسلام تلتهب حريقاً، وتضطرم ناراً، فإن كنا من أبناءها الصادقين فلنبذل لها الكثير، ولنجاهد بأيدينا وأموالنا وألسنتنا وتفكيرنا وبكل شيء نقدر عليه ، فإنَّه:
ذروة الدين جهاد في الصميم فلنجاهد أو لتلفظنا الحياة
ورحم الله ابن القيم حين كتب: [ وجزى الله من أعان على الإسلام ولو بشطر كلمة خيراً]أعلام الموقعين[4/216ـ217] فأدرك يا ابن الإسلام أمتك ، وأسرج حصانك ، وشد السير، وصح في الآفاق صيحة ذلك الداعية العراقي ألا أيُّها الجيل السَّري[ إنَّ العالم الإسلامي يحترق فمن استطاع أن يطفئ الحريق ولو بدلو من الماء فليفعل] فياأهل السنَّة لبُّوا لبيك اللهم لبيك.
وأخيراً
[ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون* وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إنَّ الله مع الصابرين] الأنفال[46]
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،،،،
والحمد لله رب العالمين(/19)
الرقص فوق سفينة تغرق
خالد سعد النجار
كثرت في الآونة الأخيرة صيحات الدعاة المخلصين والخبراء المتخصصين عن مواجه المنطقة العربية الإسلامية (الشرق الأوسط) في القرن المقبل عدة أزمات تضاف إلى رصيد الأزمات التي تعانى منها في الوقت الحاضر ولكن تلك الأزمات المقبلة المتوقعة ذات طبيعة خاصة فهي من الخطورة الشديدة بما يجعلها قاصمة الظهر الحقيقية التي يمكن أن تؤدى إلى انهيار الكيان العربي الإسلامي في المنطقة بأسرها ووقتها لن تنفع الشعارات ولا الهتافات ولا المؤتمرات التي تتمخض عن استنكارات وتوصيات .
ولا سبيل للخروج من تلك الأزمات المتوقعة إلا بالاستعانة بالله تعالى ثم بالدراسات الواعية من الخبراء والمتخصصين لإيجاد الحلول المناسبة التي يعقبها البدء في التنفيذ الجاد وأن نعد لكل أمر عدته قبل أن نكون لا في العير ولا في النفير .
أزمة المياه في الوطن العربي :-
تعانى أغلب مناطق الوطن العربي من ظاهرة ندرة المياه لوقوعها جغرافيا في المنطقة الجافة وشبه الجافة من الكرة الأرضية ومع زيادة نمو السكان في الوطن العربي فإن مشكلة الندرة تتفاقم كنتيجة منطقية لتزايد الطلب على المياه لتلبية الاحتياجات المنزلية والصناعية والزراعية كما لا تقتصر المشكلة على مسألة ندرة المياه بل تتعدى إلى نوعية المياه التي تتدنى وتتحول إلى مياه غير صالحه للاستهلاك الآدمي لأسباب متعددة .
وتكاد المشكلة تشمل جميع مصادر المياه في الوطن العربي فالأنهار العربية الكبرى مثل النيل والفرات تنبع من دول غير عربية وتجرى وتصب في بلدان عربية مما يجعل لدول المنبع ميزة جيوبوليتيكية استراتيجية في مواجهه البلدان العربية كما لا تتوفر على المستوى الدولي قوانين كافيه لتقاسم الموارد المائية المشتركة وإن وجدت أعراف وتقاليد غير ملزمة لاقتسام المياه وتبقى الاتفاقيات بين الدول المشتركة في مصدر مائي معين هي أعلى مراتب الالتزام المعترف به دوليا لتقاسم الموارد المائية ، ويتطلب الاستغلال الأمثل للمياه الجوفية ومياه الأمطار استثمارات ضخمة لإقامة التجهيزات والمشروعات اللازمة لهذا الاستغلال ،كما أن مشروعات تحلية المياه تحتاج بالإضافة إلى الاستثمارات الضخمة تكنولوجيا متقدمة .
وقد جاء في تقويم أجرته مجله [ايكونوميست] البريطانية في أوائل عام 1996 ما نصه [ إن الماء في الشرق الأوسط شحيح بدرجة ليس لها مثيل في أي مكان آخر في العالم وأنه يزداد نقصانا ] .
وفي عام 1989 خلص مؤتمر [ الموارد المائية للدول العربية وأهميتها الاستراتيجية ] الذي عقد في عمان بدعوة من الجامعة الأردنية إلى أن أهم خصائص موارد المياه العربية هو قلتها بحيث أنها لا تكفي لتغطيه الاحتياجات الحياتية واحتياجات التنمية التي يطمح إليها العرب في العقود المقبلة وخلص المؤتمر إلى أن الأمن المائي العربي هو بأهمية الأمن السياسي العربي .
وفي تقرير لمركز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن أكد أن المياه وليس النفط ستكون قضية المصادر الطبيعية المسيطرة فالنزاع على مصادر المياه المحدودة والمهددة يمكن أن يؤثر في الروابط بين دول المنطقة وربما يؤدى إلى جيشان لم يعرف له مثيل من قبل .
لذلك أصبح الماء قضيه ملحه تحمل في طياتها إمكانية زعزعه استقرار النظام حيثما تطل بأنيابها ونشوء نزاع بين الدول المتجاورة وقد نقل عن العاهل الأردني السابق الملك حسين قوله [ إنه لن يدخل حرباً مع إسرائيل مرة أخرى إلا بسبب الماء ]
وبالرجوع بأحداث التاريخ إلى الوراء قليلاً نلاحظ وجود بعض التوترات بسبب قضية المياه مما يؤكد أن أزمة المياه المتوقعة ليست من نسج الخيال أو حاله من التشاؤم تنتاب البعض منا بل إن لها إرهاصات ومقدمات تنذر بإمكانية انفجارها في أي وقت .
ففي 26/2/1956 أعلنت إثيوبيا في جريدتها الرسمية [ إثيوبيان هيرالد ] أنها سوف تحتفظ لاستعمالها الخاص مستقبلا بموارد النيل وتصرفاته في الإقليم الإثيوبي - أي حوالي 86% من إيراد النهر بأكمله - وقد وزعت مذكرة رسمية على جميع البعثات الدبلوماسية في القاهرة تضمنت احتفاظها بحقها في استعمال موارد المياه النيلية لصالح شعب إثيوبيا . وقد عادت تلك التصريحات في الظهور سنة 1980 حيث أشار ممثل إثيوبيا في قمة لاجوس أنه [ لا توجد اتفاقيات دوليه حتى الآن بشأن توزيع حصص مياه النيل ] .
وقد وضعت إثيوبيا عام 1981 قائمة بأربعين مشروعاً للري يقع بعضها على حوض النيل الأزرق وحوض السوباط أمام مؤتمر الأمم المتحدة للبلدان الأقل نمواً وأعلنت أنه في حالة عدم توافر اتفاق مع جيرانها في حوض النيل فإنها سوف تحتفظ بحقها في تنفيذ مشروعاتها من جانب واحد .(/1)
وفي حديث للدكتور (زويدى أباتى) المدير العام لتنمية الأودية الإثيوبية دعا إلى توزيع مياه نهر النيل بالتساوي بين الدول التسع المشاركة في حوض نهر النيل وأنه إذا أرادت دوله الاستئثار بنصيب أكبر فإنها يجب أن تدفع تعويضات مناسبة لدول الحوض الأخرى والتي ستتأثر الكميه التي ستحصل عليها من جراء ذلك كما طالب بتوقيع اتفاقيات جديدة بين دول الحوض تقوم على أساس المساواة والعدالة في التوزيع .
أما في حوض نهر دجله والفرات فالأزمة ليست بأقل شأنا من أختها في حوض النيل ففي عام 1981 بدأت تركيا مشروعها الكبير [ مشروع جنوب شرقي الأناضول الكبير ] GAP وهو يضم 13 مشروعاً لأغراض الري وتوليد الطاقة الكهربائية وكان بناء سد أتاتورك - خامس أكبر سد في العالم - على نهر الفرات من أهم المشاريع التي أظهرت حقيقية أزمة المياه في حوض النهر حيث أقدمت تركيا في 13/1/1990 على منع مياه نهر الفرات وحبسها عن العراق وسوريا بغرض تخزين تلك المياه خلف السد وذلك لمدة شهر حتى 13/2/1990 وكان قول الممثل التركي [ لا أحد يقيم سداً مائيا ليستخدمه كمتحف للجميع ] ومضت تركيا في تنفيذ خطتها دون الالتفات للاحتجاجات السورية والعراقية من جراء ذلك العمل .
ويعتقد كثير من المحللين أن وجود شواهد بترولية في سوريا أدى إلى وجود نية تركية قوية لمقايضه البترول بالمياه حيث يقول سليمان ديميريل في افتتاح سد أتاتورك في يوليو 1992 [ إن منابع المياه ملك لتركيا كما أن النفط ملك للعرب وبما أننا لا نقول للعرب أن لنا الحق في نصف نفطكم فلا يجوز لهم أن يطالبوا بما هو لنا] .
وأما في الأراضي المحتلة فالأمر أكثر توتراً وصعوبة حيث كان تأمين مصادر وفيرة من المياه للدولة الصهيونية أحد أهم أهداف الحركة الصهيونية على حساب العرب .
ويلخص د/ سامر مخيمر وهو أحد المتخصصين العرب في جانب المياه - خطه إسرائيل المائية وترتيباتها للاستحواذ على مياه نهر الأردن بقوله (1):
يمكن تقسيم ترتيبات إسرائيل المائية إلى ثلاث مراحل :-
المرحلة الأولى وتمتد في الفترة من 1948 - 1958 حيث شرعت إسرائيل في أعمال خطه زراعية / مائية تركز على ثلاثة أهداف :
أ- إمكانية استيعاب المهاجرين الجدد. ب- إقامة المستوطنات الزراعية .
جـ- إنتاج الغذاء .
وتطلب تحقيق هذه الأهداف تنفيذ مشروعات مائية تتمثل في :-
1- إنشاء شبكات مياه في مختلف المناطق لحصر الموارد الجوفية .
2- إقامة جملة من خطوط الأنابيب المحلية تمتد من الشمال إلى الجنوب .
3- إنشاء قناة لسحب المياه من نهر الأردن باتجاه الصحراء الفلسطينية .
وقد بدأت إسرائيل بين عامي 1948 - 1953 بحفر عدة آلاف من الآبار لتزويد المستوطنات بالمياه لدرجة استنزفت الطبقة المائية الجوفية للشريط الساحلي ثم شرعت بعد ذلك في تنفيذ ما عرف بـ [ خطتي السنوات السبع والسنوات العشر ] وبدأ تنفيذ الأولى فعلاً عام 1953 ثم عدلت إلى الخطة الثانية عام 1956 .
وتضمنت الخطتان استيلاء إسرائيل على 50% من مياه نهر الأردن مع العلم أن كمية المياه التي تنبع من الأراضي التي تحتلها لا تتجاوز 23% من المجموع الكلى لكميات المياه التي يحتويها نهر الأردن وروافده . ويتوازى مع المشروع السابق مشروع [ العوجا- النقب ] الذي تم إقراره عام 1954 ، والذي يشكل حلقة متكاملة مع قناة نقل مياه الأردن وهو يتألف من خطين شرقي وقد نفذ عام 1955 وغربي ونفذ عام 1960 ويهدف إلى تأمين نقل المياه الواردة من مشروع تحويل نهر الأردن والضخ من بحيرة طبرية إلى أرض النقب .
المرحلة الثانية : وتمتد منذ 1958 - 1968 وقد نفذت إسرائيل خلال هذه الفترة أضخم وأكبر مشروعاتها المائية مشروع [ طبريا – النقب ] ( الناقل القطري ) لنقل 300 مليون متر مكعب من المياه سنويا إلى النقب الشمالي وإلى الجنوب .
المرحلة الثالثة : وتمتد منذ 1968 - حتى الآن مرحله الإنتاج والتكنولوجيا الزراعية ولم تواكب هذه المرحلة مشروعات مائية كبرى .
وتشير البيانات إلى أن استهلاك الاسرائيلين في الضفة الغربية يمثل 87.5% من مياهها بينما لا يتجاوز نصيب العرب 12.5% مما يعنى أن معدل استهلاك الفرد الإسرائيلي يبلغ ستة أضعاف المواطن العربي الفلسطيني كما يدفع الفلسطينيون في الضفة الغربية ستة أضعاف ما يدفعه المستوطن اليهودي في مقابل الانتفاع بالمياه حيث يبلغ سعر المتر المكعب من المياه للفلسطينيين في الضفة الغربية 1.3 دولار أما سعر الكميه ذاتها للمستوطن فيبلغ 6, دولار فقط .
أزمة الغذاء في الوطن العربي :-(/2)
مما لاشك فيه أن العالم في الفترات الأخيرة شهد نمواً كبيراً في إنتاج الغذاء والمحاصيل الزراعية إلا أن هناك بعض الحقائق لا يمكن تغافلها عند الحديث عن تلك النهضة ، من أهم هذه الحقائق أن هذا النمو في إنتاج الغذاء جاء من خلال الارتقاء بإنتاجيه الأرض وليس من خلال زيادة المساحة المنزرعة أي من خلال استخدام تكنولوجيات ومدخلات إنتاج أفضل . وهذا النمو في الإنتاج رافقه نمواً مماثلاً تقريباً في عدد السكان ومن ثم ظهر التحسين في مستوى ما يخص الفرد الواحد محدود للغاية .
كما أنه في نطاق محدودية الموارد الطبيعية اللازمة للزراعة [ الأرض والماء ] وصعوبة زيادتها واستمرار الزيادة السكانية سوف يتركز اعتماد العالم مستقبلا على التكنولوجيا للوفاء باحتياجات السكان الجدد ولتحسين مستوى ما يخص الفرد بوجه عام .
وهذه الحقائق تشمل بالطبع العالم العربي فبالرغم من الزيادة المتواضعة في إنتاج الغذاء في الفترات الأخيرة إلا أن الزيادة السكانية قد التهمت كل هذه الزيادات وظل مستوى ما يخص الفرد العربي من الغذاء أقل كثيراً عن المتوسطات العالمية والتي لا يمكن بأي حال قبول أقل منها .
فبالنسبة للقمح كان متوسط ما يخص الفرد العربي 77كجم بينما المتوسط العالمي 101 كجم والسكر 9.7كجم والمتوسط العالمي 19.9كجم وفي جانب اللحوم 16.4كجم والمتوسط العالمي 33.4كجم والأسماك 7 كجم والمتوسط العالمي 18.3كجم والألبان 53كجم أما المتوسط العالمي 95كجم .
ومن ثم لجأت الأقطار العربية قاطبة إلى الاستيراد لسد الفجوة الغذائية الناتجة من زيادة الطلب على الغذاء وضعف الإنتاج المحلى .
وتواجه الزراعة العربية العديد من المخاطر من أهمها
1- تناقص قاعدة الموارد الطبيعية [ الأرض الزراعية والماء]
فلقد تناقص متوسط ما يخص الفرد العربي من المساحة المنزرعة بدرجة كبيرة بسبب الزيادة السكانية والتوسع العمراني مع قله معدلات استصلاح أراضى جديدة . ففي مصر على سبيل المثال : أدى تحويل جانب من الأراضي الزراعية لاستخدامات أخرى غير زراعية إلى تناقص ما يخص الفرد الواحد من الأراضي الزراعية من نحو 2038م2 عام 1907 إلى 1020م2 عام 1957 أي إلى نحو النصف خلال خمسين عام ثم إلى 522م2 عام 1985 أي النصف مرة أخرى خلال 28عام فقط ثم إلى 471م2 عام 1992م ومن حيث النوعية والخصوبة فلا شك أن الأرض تتعرض لكثير من المصادر المسئولة عن تدهور الخصوبة لعل أهمها عوامل التعرية والتدهور الكيماوي .
2- اتفاقيه الجات GATT
إن كلمه الجات هي الحروف الأولى بالإنجليزية لتعبير [ الاتفاقيات العامة على الرسوم الجمركية والتجارة ] General Agreement on traiffs and trade وهى تعود في تاريخها إلى عام 1947 عندما اجتمعت 23 دوله صناعية في جينيف للنظر في تحرير التجارة وفتح الأبواب بين هذه الدول وإلغاء الحواجز فيما بينها وتم التوصل إلى اتفاقيه وقعت في المغرب عام 1994 وبلغ عدد الدول الموقعة 117
وتنص بنود الاتفاقية بالنسبة للزراعة على تخفيض الدعم الداخلي للإنتاج الزراعي في الدول المتقدمة بنسبه 20% خلال 6 سنوات وفي الدول النامية بنسبه 13.3% خلال مدة 10 سنوات وإلغاء دعم التصدير .
والمتوقع أن ترتفع أسعار الصادرات من الدول الزراعية المتقدمة وهذا سوف يؤدى بدورة إلى زيادة تكلفه استيراد الغذاء بالدول الإسلامية النامية . كما أن التخوف قائم من ضعف استفادة الدول الإسلامية النامية من إزالة الحواجز مع لجوء الدول المتقدمة إلى التشديد في مراقبة الجودة والالتزامات بالمواصفات القياسية والحجر الزراعي وهى شروط لا تقدر عليها الدول النامية .
ولقد صدق حقاً من قال [ إن اتفاقيه الجات منتدى الأغنياء ] حيث أن المستفيد الأكبر هي الدول الصناعية والزراعية المتقدمة ، فلقد نشرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التابعة للأمم المتحدة إحصائية توضح أرباح الدول الغنية من الجات وورد بها ما يلي :
أرباح المجموعة الأوربية 61 مليار دولار سنوياً .
الولايات المتحدة 36 مليار دولار سنوياً .
اليابان 27 مليار دولار سنوياً .
الصين 37 مليار دولار سنوياً .
وبصفة عامة يقدر إجمالي مكاسب الدول الغنية بين 200-300 مليار دولار سنويا اعتباراً من سنة 2002م .
وتشير دراسة للمنظمة العربية للتنمية الزراعية إلى أن :
تحرير التجارة العالمية في السلع الزراعية سوف يسبب ارتفاع أسعار الحبوب الغذائية وكذلك انخفاض الإنتاج الحيواني في دول المجموعة الأوربية بسبب إنقاص أو تخفيض الدعم وبالتالي يتوقع ارتفاع الأسعار العالمية للحوم والألبان .. وتقدر خسائر الدول العربية نتيجة لذلك بنحو 664 مليون دولار ( زيادة في قيمة الواردات للدول العربية ) وكذلك تقدر الخسارة في صورة نقص الرفاهية الاجتماعية للدول العربية بمقدار 887 مليون دولار] .(/3)
إلا أنه للأمانة لابد أن نذكر أن هناك فريق من الخبراء يرون بعض الجوانب المشرقة لهذه الاتفاقية والتي تتمثل في تشجيع الاستثمار في الدول النامية وزيادة الحافز الذي يحتم عليها الارتقاء بالإنتاجية لمواجه هذا الارتفاع في الأسعار .
3- ضعف مجال البحوث الزراعية :-
فالبحوث الزراعية هي الأمل الوحيد أمام الزراعة العربية للارتقاء بإنتاجية الأرض الزراعية عن طريق تطوير نوع السلالات المستخدمة والتي تتميز بإنتاجيه عالية أو تحمل أكبر لظروف البيئة أو غيرها من الصفات المرغوبة والتي يطلق عليها عمليه التوسع الرأسي في الزراعة خاصة وأن التوسع في مساحة الأرض المنزرعة أصبح أمل فرصته ضعيفة في كثير من البلدان العربية .
ومجال البحوث الزراعية يعانى في معظم البلدان العربية من العديد من الصعوبات التي تحد من قدرتها على تحقيق تلك الآمال المعلقة عليها ومن أهم هذه الصعوبات ضعف التمويل وعجز العديد منها على مواجهه مشاكل التنمية دون عون خارجي والافتقار إلى إسلوب سليم لإدارة الموارد البشرية والمادية المتاحة ونقص الكوادر البشرية المدربة ويكفي أن نعلم أن عدد الباحثين في مجال البحوث الزراعية في الوطن العربي (19 دوله) هو 6534 وفي الدول المتقدمة (22 دوله) هو 56376 وجمله الإنفاق على البحوث الزراعية في الوطن العربي هو 230 مليون دولار وفي الدول المتقدمة هو 85400 مليون دولار .
ويلخص د/ محمد السيد عبد السلام - وهو من كبار المتخصصين في مجال الزراعة - الوضع الحالي في كلمات رائعة رشيقة حيث يقول (2):
[ والآن كل هذه الظروف آخذه في التغيير ، فالموارد الطبيعية الزراعية المطلوبة للمزيد من الاستثمار لم تعد متاحة بل إن المستثمر منها بالنسبة للفرد آخذ في التآكل نتيجة لاستمرار الزيادة السكانية ، والقلق على حالة البيئة آخذ في التصاعد ، وفي فرض محددات جديدة على التنمية الزراعية ومستقبل إمدادات الغذاء على الصعيد العالمي وفي العالم النامي بوجه خاص لا يدعو إلى الاطمئنان ، واستعداد الشمال لمساعدة الجنوب آخذ في التراجع على المستوى الثنائي وعلى مستوى المنظمات الدولية ، والتكنولوجيا الحيوية الحديثة التي تبنى عليها الآمال في مستقبل التنمية الزراعية ليست متاحة مجانا بل محمية وينبغي على من يحتاج إليها أن يدفع الثمن ، ونظم وإجراءات الحماية سوف تتلاشى في ضوء اتفاقية منظمة التجارة العالمية وسوف تتصاعد المنافسة بين الدول والتكتلات الاقتصادية وسوف تكون قدرات العلم والتكنولوجيا السلاح الفاعل في هذه المنافسة وسوف تكون المغانم للأقوياء الذين يملكون سلاح العلم والمغارم لأولئك الذين يفرطون في الاستحواذ على هذا السلاح إنه نظام جديد عاصف وغالباً لا يعرف التسامح تجاه العاجزين يحتم على الدول العربية أن تتحسب له كثيرا لتواجه سلبياته وتستفيد من إمكانياته ولا تكون إحدى ضحاياه ]
أزمة البطالة في الوطن العربي :-
جاءت ثورة النفط عام 1973م لترسم معالم جديدة للمنطقة العربية بالنسبة للأوضاع الاقتصادية ففي الدول العربية النفطية زادت الدخول وارتفع فيها متوسط دخل الفرد بما يقارب دخله في الدول الصناعية المتقدمة وتميزت تلك الفترة بزيادة معدلات الاستثمار ووضعت برامج وخطط طموحه لبناء شبكه البنية الأساسية والتوسع في بناء المدن والمناطق العمرانية الجديدة وكان قلة عدد السكان في تلك البلاد سبب هام في زيادة احتياج تلك الدول للعمالة الخارجية لتحقيق تلك الثورة الهائلة في التنمية فرحبت بالعمالة العربية وغير العربية التي راحت تتدفق إلى هذه البلاد بشكل سريع ، وفي ظل هذا الرواج الاقتصادي اقترب معدل البطالة في تلك الدول إلى الصفر تقريباً .
وأما في الدول العربية الغير نفطية فمعظمها عند مشارف السبعينات كان قد وصل إلى حالة من الإنهاك الاقتصادي الذي سرعان ما أثر في أحوال العمالة وظروف التشغيل إلا أنه بالرغم من ضغوط وصعوبات تلك المرحلة فإن ثمة عوامل مختلفة توافرت وخففت من صعوبة الموقف وظهور البطالة كأزمة تهدد العديد من الأيدي العاملة فكان من هذه الظروف .
1- خروج أعداد كبيرة من فائض العمالة إلى الخارج خاصة للبلاد العربية النفطية التي رحبت بتلك العمالة كما ذكرنا .
2- زيادة حجم المعونات الاقتصادية التي قدمتها البلاد العربية النفطية في تلك الفترة .
3- الموارد الضخمة التي حصلت عليها هذه البلاد في شكل قروض خارجية من أسواق النقد والمال العالمية حيث كان الاقتراض سهلا وميسراً في تلك الفترة وإن كان بتكلفة مرتفعة مؤجله .
4- استمرار التزام كثير من حكومات تلك الدول بتعيين الخريجين من حمله المؤهلات كسباً لتأييد الطبقة الوسطي والحد من المشكلات الاجتماعية والسياسية نتيجة تفاقم البطالة .(/4)
ومع بداية الثمانينات ومرواً بالتسعينات بدأت الأوضاع تأخذ في التغيير وأخذت مشكلة البطالة في الانفجار المدوي حيث مالت أسعار النفط عالمياً للتدهور بشكل حاد مما أثر بشكل مباشر على الدول العربية قاطبة ففي البلاد العربية النفطية انخفضت أحجام دخولها القومية وتبعه انخفاض معدلات نمو الإنفاق الحكومي الاستثماري وبالذات في مجال البنية الأساسية التي كانت قد قاربت على الاستكمال مما حدى بتلك الدول تطبيق سياسات انكماشية ، وكان من ضمنها وقف التعيينات في الأجهزة الحكومية والحد من استقبال العمالة الوافدة .
أما في البلاد العربية الغير نفطية فقد كان لانخفاض أسعار النفط آثار سلبية شديدة من أهمها انخفاض الدخل القومي حيث كان النفط مصدراً من مصادر هذا الدخل في بعض هذه البلاد مثل مصر وسوريا كما انخفضت المساعدات العربية من الدول العربية النفطية وكذلك عادت العمالة إلى أوطانها مما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة وفقدت هذه الدول موردا هاما من موارد الدخل القومي المتمثل في التحويلات النقدية التي كان يرسلها العمال بالخارج ، وصاحب ذلك تفاقم أزمة المديونية الخارجية لهذه البلاد التي نجمت عن الإفراط في الاستدانة الخارجية أدى إلى ارتفاع معدل خدمة الدين .
كل هذه الضغوط قادت تلك الدول إلى إتباع سياسات اقتصادية صارمة كان لها دورا كبيرا في زيادة معدلات البطالة حيث تخلت كثير من هذه الدول عن تعيين الخريجين وتقلص دور الحكومة في النشاط الاقتصادي مما أدى إلى خفض الطاقة الإنتاجية التي تستوعب الأيدي العاملة العاطلة وأضحت البطالة كارثة تهدد الوطن العربي .
ومع قله البيانات والإحصائيات عن حجم البطالة في الوطن العربي نستطيع أن نتلمس حجم المشكلة من التقارير المتاحة . ففي التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 1994م كان قد قدر معدل البطالة في الاقتصاديات العربية بحوالي 10% من قوة العمل العربية التي بلغت عام 1993 حوالي 67.5 مليون عامل مما يعنى أن عدد المتعطلين يصل إلى حوالي 6.8 مليون عاطل أما منظمه العمل العربية فقد قدرت معدل البطالة على مستوى جميع البلاد العربية بقرابة 15.5% من قوة العمل العربية وهو مما يعنى وجود ما يزيد على عشرة ملايين عامل عربي عاطل .
بعد هذا العرض السريع لطبيعة الأزمات التي تواجه المنطقة العربية لا يسعنا إلا أن نقول إن الأمر يتطلب جهوداً كبيرة تشمل كل قطاعات الوطن العربي لمواجهه تلك الأزمات ولكن الملاحظ حتى الآن أن الجهود المبذولة متواضعة إلى حد كبير بالنسبة لحجم المشكلات ، فالحل يبدأ من الإعلام العربي المسئول عن عرض القضية أمام الرأي العام وشحذ همم الشعوب لتحمل المسئولية وعقد الندوات واللقاءات مع الباحثين والعلماء المتخصصين لإيجاد تصور عام لحل مثل هذه المشكلات وتقديم العلماء والخبراء على أنهم هم قدوة المجتمع ومثال كفاح مشرف لكل من أراد الرقى والنهضة فكم في حياه هؤلاء الشرفاء من كفاح ومثابرة وإخلاص نحن أحوج أن نعرفه كي نحتذي به في حياتنا .
ولكن مع الأسف وجدنا قطاع عريض من الإعلام العربي بكافة أجهزته يلهث وراء نجوم الرياضة والفن ويكرس جهده ووقته لعرض صور من حياتهم الخاصة وأعمالهم الفنية وفي جميع المناسبات والأعياد القومية يحشد للمواطن العربي كم هائل من هؤلاء النجوم ليُسألوا عن آمالهم وطموحاتهم والأكلات التي يفضلونها والألوان المحببة لديهم ومعاناتهم في تصوير آخر عمل فني أو آخر مباراة شاركوا فيها .
وأضحى الأمر عاديا أن تفتح جريدة لتقرأ خبر عن تهرب أحد هؤلاء النجوم من عدة ملايين من الضرائب أو تقرأ عن أرباح نجم من آخر شريط كاسيت له بما يوازى ميزانيه وزارة مرموقة .
كل هذه الشهرة والثروة دفعت بالكثير من شبابنا العربي العاطل للزحام على أبواب النوادي وصناع نجوم الفن لعلهم يجدون فيهم موهبة تقودهم للنجومية وطريق الشهرة والثروة السهلة السريعة وأصبح في كل حين يخرج عليك نجم فني أو رياضي جديد حتى فاق عددهم الحصر .
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هل نحن حقاً وفي ظل الوضع الراهن بحاجة إلى كل هذا الحشد من النجوم من الرياضيين والفنانين الذين يقدمون لنا كل هذا الكم الهائل من المباريات والمسلسلات والأفلام والأغاني أم أننا نرقص فوق سفينة تغرق ؟!
--------------------
الهوامش والمصادر :
(1) أزمة المياه في المنطقة العربية / د. سامر مخيمر ، خالد حجازي سلسلة عالم المعرفة الكويتية عدد 209
(2) الأمن الغذائي للوطن العربي / د. محمد السيد عبد السلام . سلسلة عالم المعرفة الكويتية عدد 230
- الاقتصاد السياسي للبطالة / د. رمزي زكى سلسلة عالم المعرفة الكويتية عدد 226
- النظام الاقتصادي العالمي واتفاقيه الجات د. حسين شحاتة(/5)
الرقي الإنساني في الخطاب النبوي
جمال المعاند -إسبانيا
- الخطاب النبوي كثير العيون ، سلس المتون ، ألفاظه نور لا يزيدها تقادم العهد إلا تألقا ، ومعانيه جني ينثر كما تنثر أزهار الربيع ، والحديث عن جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم يحتاج لمطولات كي تفي أبعاض معانيه .
- وفي جهد مقل لمحاولة جمع باقة من أزاهير خميلة النبوة لتفوح في أجواء حياتنا عطرا وشذى نبويا تتنسمه أرواحنا التواقة إليه ، ولتزين أماكن في العقول والقلوب ، في وقت فتن فيه بعض أبناء جلدتنا بمدنية طغت على كثير من العقول والقلوب في العالم ، واقتحمت قلاع المبادئ والمثل عن طريق هؤلاء المفتونين ، وما ذاك إلا ضعف في دينهم وغشاوة على أعينهم ، وأحد مظاهر الوهن في الطرح الإسلامي .
- ومع تطور البشرية في العلوم التقنية ، وتراكم الخبرات الإنسانية ومنها العلاقات الإنسانية فقد قننت بعض التشريعات لتصبح أعرافا دولية ، وهي عند جل المثقفين على تباين اثنياتهم واختلاف مشاربهم تعتبر بدهية في رأيهم .
- ومما جاء به صلى الله عليه وسلم ونطق به لسانه في ( العبودية لله ) ليكون الإنسان حرا مما عداه .
- إن النفس البشرية هي نقطة ارتكاز ومركز الوجود الإنساني ، وقلما إنسان اختارت له الأقدار أن يصل إلى قمة أو أن يرتقي لعلي إلا وداخل نفسه شيء من الزهو قد يصل به إلى حد الكبر وعتبة العجب – والنفس بطبيعتها تواقة لذلك – إلا محمدا صلى الله عليه وسلم وإخوانه الذين اصطفاهم الله من الأنبياء والمرسلين ، ومن استطاع إلزام نفسه السير على هدية . قال عليه الصلاة والسلام:" إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد "(1) مخاطبا بذلك أصحابه رضوان الله عليهم .
- والعبودية في شرعة المصطفى شرف ، ومقام مستقر لا حال مؤقت يمليه موقف عاطفي ، وهذا ما حدا بالشاعر المسلم ليفخر بهذه العبودية قائلا :
مما زادني شرفا وتيها وكدته بأخمصي أطأ الثريا
وقوعي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
- والعبودية بمضمونها الشامل ، وعلى رأس هذا المضمون العبودية لله سبحانه التي لا تقبل التكبر ولا إسفاف التعجرف .
- وشاخصة نبوية أخرى في طريق العبودية والتكبر على من يخرج عليها قوله صلى الله عليه وسلم : " يحشر المتكبرون يوم القيامة في صور الذر يغشاهم الذل من كل مكان " (2) .
- ومما جاء به صلى الله عليه وسلم ونطق به لسانه في (الأخوة الإنسانية) قوله:
" اللهم إني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن العباد كلهم إخوة " (3) وقوله " الإنسان أخو ا؟لإنسان أحب أم كره " (4).
- إنها إنسانية وواقعية لا تحارب التمييز الاجتماعي وحسب ، بل تستأصله من جذوره في النفس البشرية يتمثل فيها التواضع وخفض الجناح والرحمة والعفو والأخوة بين بني البشر .
- فلا تمايز البتة إلا في واحدة هي ( التقوى ) . ففي حجة الوداع وآخر عهد الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم ، وقف ليعلن للناس عودة النفس البشرية إلى الفطرة بعد أن اغتالتها وساوس الشياطين ، وارتضت بها الأنفس الأمارة بالسوء ، وأعطتها الجاهلية أقدام رسوخ قال صلى الله عليه وسلم : " إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب . إن أكرمكم عند الله أتقاكم . ليس لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى ، ألا اللهم فاشهد ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب " (5) .
- لم تدرك البشرية هذه المعاني والمبادئ إلا بعد ما يزيد على أربعة عشر قرنا من تاريخ صدورها عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم . وأعلنتها تحت عنوان حقوق الإنسان بوثيقة صادرة عن الأمم المتحدة عام 1948م ، ومن الغريب أن البشرية ما زالت تعاني من عدم تطبيق بنود هذه الوثيقة إلا في حيز ضيق جدا .
- ومما جاء به ونطق به لسانه في جانب ( الرحمة الإنسانية ) قوله صلى الله عليه وسلم : " الراحمون يرحمهم الله ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " (6) وقوله " من لا يرحم الناس لا يرحمه الله ، ولا تنزع الرحمة إلا من شقي " (7) وقوله " خاب عبد وخسر لم يجعل الله تعالى في قلبه رحمة للبشر"(8) .
- إنها نفس الرسول محمد صلى عليه وسلم التي فاضت بهذه المعاني إشفاقا ورحمة ، وهي سمة يعدها علماء النفس من صفات الشخصية السليمة المتوازنة ، وعلامة تمدن إنساني وحضارة إنسانية.
- وكلمة المسلمين الواردة في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم تعني جميع بني آدم ولم تخصص المسلمين من دون الخلق تنبئ عن عظمة وإنسانية رسول الإنسانية .
- وقد رسم لنا أمير الشعراء أحمد شوقي صورة ذلك بقوله :
فإذا رحمت فأنت أم أو أب وهذان في الدنيا هم الرحماء
وينداح عطفه ورأفته ورحمته صلى الله عليه وسلم إلى حد لم تصل إليه البشرية لحد الآن .(/1)
- فقصته مع أهل الطائف – إبان العهد المكي – مشهورة ، حيث صد ورد وأوذي حتى أدميت قدماه من الحجارة التي ألقيت عليه ، وطلب منه – حينئذ –الملك أن يطبق عليهم الأخشبين ( الجبلين) ورفض ذلك وقال :" عسى الله أن خرج من أصلابهم من يوحد الله " .
- ومما جاء به صلى الله عليه وسلم " النساء شقائق الرجال " (9) وبهذا القول أنصف الإسلام المرأة وحقق لها المثلية مع الرجل وجعلها نصف المجتمع من حيث الأهمية والمهمة الملقى على عاتقها في سلامة المجتمع وصحته وحفظ كيانه وتقدمه . واليوم تفخر البشرية بأنها أعلنت في عام سبعة وخمسين وتسعمائة وألف وثيقة القضاء على التمييز ضد المرأة ، ولو تتبع منصف مسيرة حقوق المرأة عبر التاريخ لوجد أن عتبة الاعتراف بها كإنسان جاء على لسان محمد صلى الله عليه وسلم .
- وشرع محمد عليه السلام هو أول شرع أعطى المرأة نصيبا من الميراث وما يثيره بعض المشككين حول إعطائها نصف الرجل فهي حالة من ست حالات ، أما شهادة المرأة نصف شهادة الرجل فقد أجمع العلماء أنها في الشؤون المالية ، وتغافل المشككون أن ثمة حالات في الشهادة لا تقبل فيها إلا شهادة المرأة كرضاع فتكفي فيه شهادة امرأة واحدة .
- والنزاعات أمور يفرضها الواقع للكائنات الحية جميعا ، وبين بني البشر لم يسلم منها جيل فهي تضارب مصالح وقصور نفسي تزيده وساوس الشياطين حدة وضراوة ، فتعارف الناس على مبدأ حق الدفاع عن النفس إذا تجاوز الطرف المقابل حدوده ، فكان الجهاد الإسلامي لرد صولة من أعمى بصائرهم الحسد والحقد فولت لهم أنفسهم وازّتهم الشياطين وأطمعتهم بالنيل من الإسلام وأمنه أو تنكبوا لحكمة العقل فمنعوا حرية الدعوة وتصدوا لها للحيلولة دون انتشارها ، وبرغم ذلك كله فإن الهدي النبوي بنوره يضيء الطريق لتتضح مهمة المجاهدين ولا تختلط الانفعالات وردود الأفعال مع الحق ، وترسم الحدود والفواصل فلا يهلك الحرث والنسل ، وفي مثل هذه الأحوال التي يحمى فيها الوطيس لا ينسى النبي صيانة المرأة والحفاظ عليها وعدم العدوان عليها فكان يوصي قادة السرايا بذلك يؤكده قوله صلى الله عليه وسلم : " انطلقوا بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ... " (10) وحدث أن النبي صلى اله عليه وسلم : " رأى امرأة مقتولة في بعض مغازيه فأنكر قتل النساء والصبيان " (11) وعن عكرمة أنه صلى الله عليه وسلم :" رأى امرأة مقتولة بالطائف فقال :" ألم أنه عن قتل النساء ، من صاحبها " فقال رجل : يا رسول الله أردفتها فأرادت أن تصرعني فتقتلني فقتلتها فأمر بها أن توارى "(12).
- ومما جاء به صلى الله عليه وسلم ونطق به لسانه في ( الحفاظ على البيئة والرفق بالحيوان ) : لقد كان لهذا الأمر حضور في التوجيه النبوي ، الذي تنبه له الناس في العصر الحاضر ، يقول عليه الصلاة والسلام : " الإيمان بضع وسبعون بابا أدناها إماطة الأذى عن الطريق و أرفعها قول : لا إله إلا الله " (13) .
- وللرفق بالحيوان إشارات جمة في أقوال رسول الله صلى عليه نذكر منها قوله في الحيوانات المركوبة " اركبوها سالمة ودعوها سالمة ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرقات والأسواق فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله منه "(14) وقال في عموم المخلوقات ذات الحياة : " في كل كبد رطبة أجر " وقال :" دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض "
ومن أقوال المنصفين من غير المسلمين :
- يقول المستشرق الأمريكي سنكس في كتابه : ديانة العرب : ظهر محمد بعد المسيح بخمسمائة وسبعين سنة وكانت وظيفته ترقية عقول البشرية .
- ويقول المستشرق النمساوي شبراك : حق للإنسانية أن تفخر بانتساب رجل لها مثل محمد .
- وإننا لنتمثل قول الشاعر :
هديتنا لسبيل الحق نسلكه مسكتنا حبل هدي غير منصرم
أنت الإمام الذي نرجو شفاعته وأنت قدوتنا في حالك الظلم
المراجع :
1-رواه ابن سعد في الطبقات
2-رواه الإمام أحمد في مسنده
3-رواه أبو داود
4-رواه الإمام أحمد في مسنده
5-نفس المصدر السابق
6-رواه البخاري في صحيحه
7-رواه الترمذي
8-مسند أبي نعيم
9-رواه الترمذي وأبو داود والإمام أحمد
10.ذكره أبو داود في سننه
11.رواه الجماعة إلا النسائي
12.رواه أبو داود في مراسيله
13. رواه الترمذي في سننه وقال حديث حسن صحيح
14-رواه الإمام أحمد في مسند(/2)
الرقية الشرعية - منهج تطبيقي-
أخي المريض :
أعلم أن الله - عز وجل - حين ابتلاك بهذا المرض- ورضيت بقضاء الله وقدره - كان ذلك دلالة حب من الله عز وجل- لك ليطهرك ويمحص ذنوبك، ومؤشراً لمحاسبة نفسك ، ويذكرك بحقيقة الدنيا الفانية فلا تتمادى فيها وعليك بالأسباب الشرعية لعلاجك.
عن أنس - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنَّ عظم الجزاء من عظم البلاء ، وأن الله - تعالى - إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط " أخرجه الترمذي في سننه ( 2398 ) .
من أسباب دفع البلاء :
1 - اليقين وحسن الظن بالله - عز وجل - وألاّ يقول : أجرب كلام الله بل يتقين بأن فيه الشفاء فهو الأصل في العلاج - قال تعالى - : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ).
2 - استشعار عظمة الخالق والالتجاء إليه والتعلق به و دعاؤه و التوبة إليه فهو الشافي وحده، فإن أصابك عارض فالرقية على النفس أفضل من رقية غيرك عليك.
3 - حفظ العبد ربه بامتثال أوامره كالمحافظة على الصلوات جماعة في المسجد ، واجتناب نواهيه كترك النظر المحرم والابتعاد عن الشاشات الهابطة التي أضرت بعض الأسر وتسببت في شقائها ، وترك استماع الأغاني والذي انتشر في حفلات الزواج . قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" احفظ الله يحفظك " ( صحيح الجامع / 7957 ) .
4 - الإكثار من الأوراد والأذكار المستمدة من القرآن والسنة المطهرة ، وذكر الله على كل حال كأذكار الصباح والمساء والورد اليومي وأذكار النوم ما بعد الصلاة . قال تعالى ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكى ونحشره يوم القيامة أعمى ) ومن الأذكار التي تحفظك من شياطين الجن والإنس - بإذن الله - " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير " في كل يوم مئة مرة .
5 - المداومة على الأعمال الصالحة فهي تقوي الإيمان ، وقد سئل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : ( أدومها وإن قل ) رواه البخاري ومن الأعمال الصالحة :
أ - المداومة على قراءة وحفظ ما تيسر من القرآن ، وتدبر آياته ، والمكث في المسجد .
ب - المداومة على السنن التطوعية كالسنن الرواتب وقيام الليل وصلاة الضحى .
ج - بر الوالدين ، وصلة الأرحام حتى وإن قطعوا .
د - صيام التطوع كصيام أيام البيض والاثنين والخميس ، وأيام العشر من ذي الحجة .
هـ - استغلال الوقت بما هو مفيد ، كطلب العلم الشرعي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وخير معين الصحبة الصالحة .
و - الإحسان إلى الناس والصدقة عن - أبي أمامة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( داووا مرضاكم بالصدقة ) ( صحيح الجامع / 3358 ) .
( المرض الغالب على الناس ) - العين - :
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين " . رواه البخاري .
قال فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين : العين يتبعها شيطان من شياطين الجن فتؤثر في المعين ـ بإذن الله الكوني القدري ـ لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( العين حق ، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين ) ( صحيح الجامع / 4147 ) .
أمثلة على العين :
بعض أمراض السرطان أو الجلطة أو الربو أو الشلل أو العقم أو السكر أو الضغط أو عدم انتظام الدورة الشهرية للنساء أو الأمراض النفسية كالاكتئاب وأمراض التوحد والوسواس .
منهج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العلاج :
الجمع بين الأصل الدوائي وهي الرقية الشرعية ، والسبب الدوائي وهي الأمور المادية الطبية . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " عليكم بالشفائين : القرآن والعسل ) أخرجه ابن ماجه في السنن ( 2 / 1142 ) بإسناد صحيح .
قواعد في الرقية :
1 - القراءة بنية الشفاء لهذا المريض ، فالقرآن لو نزل على جبال لصدعها أفلا يشفي جسماً من لحم ودم . قال ابن القيم : " فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة ، حتى لو طالت المدة " ، قال- تعالى ـ : ( سيجعل الله بعد عسر يسراً ) .
2 - القراءة بنية الدعوة لهذا المريض باستشعار الآيات وللمتلبس (الجان ) بالهداية : فنجد التأثير العجيب بدون مخاطبة .
3 - طريقة الاتهام : إعمالاً لحديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم - : ( من تتهمون ؟ ) ( صحيح الجامع / 556) .
وقد يتذكر المريض وصفاً معيناً في حادثة أو موقفاً معيناً له ارتباط بمرضه أو رؤيا يراها ، حتى لو كثر العائنون حيث أن هذه الأدلة ظنية لا يقطع بها ولكنه يستأنس بها مع إحسان الظن بالجميع .(/1)
قال فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين : " ليس في الاتهام فتح لباب العداوة والبغضاء كما يظن البعض فإن العين لا يخطر ضررها ببال العائن فالاتهام لإنسان ما ليس جزماً بأنه العائن إنما هو إعمال للحديث ، وتكون من أسباب الألفة والمحبة لنفع المسلم وإزالة الضرر عنه ، فيؤخذ من الأثر المفيد من عرقه أو ريقه أو شئ مما مس كاليدين ولو بدون علمه ويصب على المعين فإنه يبرأ وهو نافع - بإذن الله تعالى -... ) والشرب أبلغ كما دلت عليه التجربة.
4 - القراءة التصويرية : فلا يكفي مجرد القراءة ولكن لا بد من تصور معاني الآيات والتأثر بها كطريقة شيخ الإسلام ابن تيمية كيف تصور تصوراً علاجياً لمريض النزيف حيث شبه الأرض بالإنسان ( الأرض في بلعها للماء والإنسان بتوقف النزيف ، وأن هذا النزيف بلعته تلك الأرض ، وأن مصدر النزيف أقلع وأن النزيف غاض وأن الأمر انتهى . ( كتاب : زاد المعاد - ج 4 - 358 ) .
علامة الإنسان المصاب بعين :
غالباً الأعراض إن لم تكن مرضاً عضوياً: ( صداع - صفرة في الوجه - كثرة التعرق والتبول - ضعف الشهية - تنمل أو حرارة أو برودة في الأطراف - خفقان في القلب - ألم متنقل أسفل الظهر والكتفين - حزن وضيق في الصدر - أرق في الليل - انفعالات شديدة من خوف وغضب غير طبيعي ) وقد توجد هذه العلامات أو بعضها حسب قوة العين وكثرة العائنين .
الآيات والأوراد التي تقرأ على المعيون : القرآن كله شفاء :
وإليك بعض الآيات : سورة الفاتحة - آية الكرسي - ( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) - خواتيم البقرة - ( ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ) - ( فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير ) - ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين ) - سورة الإخلاص والمعوذتين - ( يا قومنا أجيبوا داعي الله وأمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ) .
( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً ) - ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ) - ( وإذا مرضت فهو يشفين ) - ( ويشف صدور قوم مؤمنين ) - ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) - سورة الانشراح - ( وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ) - ( حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ) سبع مرات - سورة الزلزلة - ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ) - ( وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت ) ..
ومن الأدعية : ( أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ) سبع مرات - ( أعيذك بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة وكل عين لامة ) ثلاث مرات ( اللهم رب الناس اذهب البأس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما ) ثلاث مرات - ( اللهم أذهب عنه حرها وبردها ووصبها)
وختاماً .. لابد من اليقين وحسن الظن بالله والتوبة إليه فالقرآن الكريم هو أصل دوائي في علاج الأمراض الروحية والعضوية والنفسية ، وقد تمت الرقية على كثير من الأمراض وبخاصة المستعصية منها وتم الشفاء بفضل من الله ومنّه . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
المراجع :
1 - قواعد الرقية الشرعية . الشيخ / عبد الله بن محمد السدحان .
2 - كيف تعالج مريضك بالرقية الشرعية . ( دراسة شرعية تأصيلية ) الشيخ / عبد الله بن محمد السدحان .
هذا الموضوع ( الرقية الشرعية منهج تطبيقي) من إعداد هيئة الرياض.
http://www.heartsactions.com المصدر :(/2)
الركن السادس من أركان الإسلام
عبدالملك القاسم
دار القاسم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن من أهم المهمات وأفضل القربات التناصح والتوجيه إلى الخير والتواصي بالحق والصبر عليه، والتحذير مما يخالفه ويغضب الله عز وجل ويباعد من رحمته.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منزلته عظيمة، وقد عده العلماء الركن السادس من أركان الإسلام، وقدمه الله عز وجل على الإيمان كما في قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ . وقدمه الله عز وجل في سورة التوبة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .
وفي هذا التقديم إيضاح لعظم شأن هذا الواجب وبيان لأهميته في حياة الأفراد والمجتمعات والشعوب. وبتحقيقة والقيام به تصلح الأمة ويكثر فيها الخير ويضمحل الشر ويقل المنكر. وبإضاعته تكون العواقب الوخيمة والكوارث العظيمة والشرور الكثيرة، وتتفرق الأمة وتقسو القلوب أو تموت، وتظهر الرذائل وتنتشر، ويظهر صوت الباطل، ويفشو المنكر.
ومن فضل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ما يلي:
أولأ: أنه من مهام وأعمال الرسل عليهم السلام، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ .
ثانيا: أنه من صفات المؤمنين كما قال تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ، على عكس أهل الشر و الفساد الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .
ثالثا: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصال الصالحين، قال تعالى: لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ .
رابعا: من خيرية هذه الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ .
خامسا: التمكين في الأرض، قال تعالى: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ .
سادسا: أنه من أسباب النصر، قال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ .
سابعا: عظم فضل القيام به كما قال تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً . و قوله : { من دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا } [رواه مسلم].
ثامنا: أنه من أسباب تكفير الذنوب كما قال عليه الصلاة والسلام: { فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر } [رواه أحمد].
تاسعا: في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفظ للضرورات الخمس في الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفضائل غير ما ذكرنا. وإذ ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعطلت رايتة ظهر الفساد في البر والبحر وترتب على تركة أمور عظيمة منها:
1- وقوع الهلاك والعذاب، قال الله عز وجل: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ .(/1)
وعن حذيفة مرفوعا: { والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابأ منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم } [متفق عليه].
ولما قالت أم المؤمنين زينت رضي الله عنها: "أنهلك وفينا الصالحون؟" قال لها الرسول : { نعم، إذا كثر الخبث } [رواه ا لبخاري].
2- عدم إجابة الدعاء، وقد وردت أحاديث في ذلك منها حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا: { مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم } [رواه أحمد].
3- انتفاء خيرية الأمة، قال : { والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم } [رواه أبوداود].
4- تسط الفساق والفجار والكفار، وتزيين المعاصي، وشيوع المنكر واستمراؤه.
5- ظهور الجهل، واندثار العلم، وتخبط الأمة في ظلمة حالكة لا فجر لها. ويكفي عذاب الله عز وجل لمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتسلط الأعداء والمنافقين عليه، وضعف شوكته وقلة هيبته.
أخى المسلم:
قال العلامة الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله: "فلو قدر أن رجلا يصوم النهار ويقوم الليل ويزهد في الدنيا كلها، وهو مع هذا لا يغضب لله، ولا يتمعر وجهه، ولا يحمر، فلا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، فهذا الرجل من أبغض الناس عند الله، وأقلهم دينا، وأصحاب الكبائر أحسن عند الله منه".
خطوات الإنكار و الأمر:
أولا: التعريف، فإن الجاهل يقوم على الشيء لا يظنه منكرا، فيجب إيضاحه له، ويؤمر بالمعروف ويبين له عظم أجره وجزيل ثواب من قام به، ويكون ذلك بحسن أدب ولين ورفق.
ثانيا: الوعظ وذلك بالتخويف من عذاب الله عز وجل وعقابه وذكر آثار الذنوب والمعاصي، ويكون ذلك بشفقة ورحمة له.
ثالثا: الرفع إلى أهل الحسبة إذا ظهر عناده وإ صراره.
رابعا: التكرار وعدم اليأس فإن الأنبياء والمرسلين أمروا بالمعروف وأعظمه التوحيد، وحذروا عن المنكر وأعظمه الشرك، سنوات طويلة دون كلل أو ملل.
خامسا: إهداء الكتاب والشريط النافع.
سادسا: لمن كان له ولاية كزوجة وأبناء، فله الهجر والزجر والضرب.
سابعا. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستوجب من الشخص الرفق والحلم، وسعة الصدر والصبر، وعدم الانتصار للنفس، ورحمة الناس، والإشفاق عليهم، وكل ذلك مدعاة إلى الحرص وبذل النفس.
أخي المسلم:
درجات تغيير المنكر ذكرها الرسول بقوله: { من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان } [رواه مسلم].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: "ومن لم يكن في قلبه بغض ما يبغضة الله ورسوله من المنكر الذي حرمه من الكفر والفسوق والعصيان، لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله عليه، فإن لم يكن مبغضا لشيء من المحرمات أصلا لم يكن معه إيمان أصلا".
وقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: "فالله الله إخواني، تمسكوا بأصل دينكم أوله وآخره أسه ورأسه، وهو "شهادة أن لا إله إلا الله " واعرفوا معناها وأحبوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم ولو كانوا بعيدين، واكفروا بالطواغيت، وعادوهم وأبغضوا من أحبهم، أو جادل عنهم أو لم يكفرهم، أو قال ما علي منهم، أو قال: ما كلفني الله بهم، فقد كذب هذا على الله وافترى، بل كلفه الله بهم وفرض عليه الكفر بهم والبراءة منهم ولو كانوا إخوانه أو أولاده".
أخي المسلم:
شاع في بعض أوساط الناس الغفلة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتبروا ذلك تدخلا في شئون الغير، وهذا من قلة الفهم ونقص الإيمان، فعن أبي بكر قال: يا أيها الناس! إنكم لتقرؤون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: { إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه } [رواه أبوداود].
وتأمل في سفينة المجتمع كما صورها الرسول بقوله: { مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصلر بعضهم أعلاها و بعضهم أسفلها، و كان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا و لم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم و ما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا و نجوا جميعا }.
ومع الأسف الشديد ظهرت في بعض المجتمعات ظاهرة خطيرة وهي الاستهزاء بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولمزهم وغمزهم، والله عز وجل قد توعد الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بعذاب أليم.
وننبه الأحبة الكرام إلى خطورة الأمر، قال في حاشية ابن عابدين: إن من قال:"فضولي" لمن يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكرفهو مرتد.
وفي "الدر المختار" قال في فصل الفضولي: "هو من يشتغل بما لا يعنيه، فالقائل لمن يأمر بالمعروف: أنت فضولي، يخشى عليه الكفر".(/2)
اللهم إجعلنا من الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر، المقيمين لحدودك. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب. اللهم اغفر لنا و لوالدينا و لجميع المسلمين، و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه وسلم.(/3)
الرواية العربية (الواقع والطموح)
16-8-2006
بقلم د. محمد الفقيه
"...وكم بليت الرواية العربية بروايات لا تحمل من القيمة الفنية شيئاً, ولكنها في المقابل تتضمن أفكار التحرر والفساد والانحلال والنظرة المعادية للدين وأهله, ثم يأخذ لوبي النقاد العلماني دوره في نفخ الرواية وصاحبها وتلميعها حتى يصبح حديث المجالس والمنتديات والفضائيات
..."
تعتبر الرواية أكثر الفنون الأدبية انتشاراً في زماننا ، وكتبها تتصدر دائماً قائمة الكتب الأكثر مبيعاً, وسحر الرواية يكمن في القص والحكاية التي تضفي متعة للقارئ، وتخرجه من حال السأم والملل والرتابة، وتلهب خياله بأحداث الرواية وشخصياتها فيعيش في عالمها الخاص ويتخلص ولو مؤقتاً من خشونة الواقع المعاش .
فالرواية تبني عوالم خيالية ينتقل إليها القارئ بوجدانه وأحاسيسه و مخيلته، وتصور له حياة متكاملة لا يستطيع أن يلملم أطرافها في حياته القصيرة التي يعيشها جزءاً جزءاً، بل كثيراً ما يكون هناك تشابه بين القارئ وبين بعض شخصيات الرواية في ظروف حياته وتطلعاته فيتتبع القارئ مسيرة هذه الشخصية بشغف ويرافقه شعور بالسعادة عند تحقيقها لطموحها أو يعي الدرس عند فشلها في اتباع نفس طريقه وطموحه .
ولا تقتصر فائدتها عند هذا الحد، بل تمنح القارئ فوائد متنوعة لا يستطيعها أي فن أدبي آخر لعذوبتها وسيولتها وقدرتها على الولوج في كل باب والمشي على الأشواك والقفز فوق الحواجز .
كذلك تمنح الرواية قارئها ثراءً لغوياً خاصة إذا كان الكاتب يتمتع بقدرة على انتقاء الألفاظ ووضعها في مكانها المناسب .
كما أنها قد تلخص تجربة شخصيته , فالروايات معظمها سير شخصية تقولب في قوالب متنوعة ويضفي عليها الروائي من رؤاه وأفكاره وتجاربه , وتختلف صعوداً وهبوطاً بحسب حياة وتجربة الروائي .
كما أنها قد تنقل تجربة تاريخية فالمؤرخ يطرز أحداثاً وأرقاماً جامدة ويقفز قفزاً ولا ينقل للقارئ التفاعل الاجتماعي والنفسي لتلك الأحداث الواقعة في زمان أو مكان لم يعشه القارئ , فينقل إليه الحدث بتفاعلاته النفسية والاجتماعية , بل ويدخله في الحدث ويجعله يعيش تفصيلاته اليومية والتغيرات التدريجية التي تتشوف نفسه إليها عند قراءة الحدث على أن الرواية التاريخية ليست مصدراً موثوقاً للتاريخ وقد تحشى بالزيف والمبالغة ، وإيجاد شخصيات وهمية وخلفيات يكمل بها فجوات الحدث التاريخي وإعادة بناء الحدث التاريخي وتأثيثه حتى يستطيع الروائي تقديم حياة متكاملة .
ومما تتميز به الرواية عن التاريخ أنها تؤرخ للحدث اليومي وللشخصيات المهمشة في التاريخ حيث لا يمكن أن يكون لها حضور على مستوى الحوادث الكبرى وفعلها في الحدث جانبي وغير ملحوظ للمؤرخ فيغفلها عند تسجيله للحدث بعكس الروائي الذي يستحضرها ويجد نفسه مضطراً لها عند بناءه الروائي .
كما أن الرواية قد تنقل لقارئها الحياة الداخلية لفئة أو طبقة لا يستطيع الاتصال بها أو معايشتها, وهناك مقولة لأحد الزعماء الأوروبيين يقول : لقد فهمت أوروبا من روايات بلزاك أكثر مما فهمتها من كتب التاريخ الفرنسي , فهي الفن الوحيد الخالي من القيود الفنية المنفتح على كافة مجالات الحياة , على حد تعبير إبراهيم نصر الله : (ذلك الفن المشرع على الحياة بكافة تجلياتها الإنسانية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً , والقادر على الخروج بجرأة إلى كل ما ينتجه البشر من أنواع إبداعية ليتمثلها كما لا يتمثلها أي فن أدبي) .
فالرواية لها أثرها البعيد سلباً أو إيجاباً وكثيراً ما يتسرب أثرها غير المباشر إلى مكنونات عقل القارئ ونفسه ووجدانه فيتبنى ما فيها من رؤى وأفكار ويتمثل ما بها من مشاعر .
والرواية العربية تأثرت بالرواية الغربية , بل سارت على نسقها ولا نريد أن ندخل في خلاف أهل الاختصاص حول :
هل الرواية فن عربي أصيل أم مستورد من الغرب ؟
ولكن الذي لا يختلف عليه أن التقليد للروائيين الغربيين والسير على سننهم في صياغة الرواية واضح في الرواية العربية،وهذه أول رواية عربية"زينب"لمحمد حسين هيكل كان الموضوع الذي تعالجه أقرب ما يكون إلى الموضوعات التي تستهوي الروائيين الرومانسيين في فرنسا ومثلها "الأجنحة المتكسرة" لجبران خليل جبران( 1 ) .
يلاحظ كذلك اهتمام التيارات العلمانية في البلاد العربية بالرواية حتى لا تكاد تعرف رواية إلا لهم , ولعل السبب كون الروائي ينشر ما يشاء من الأفكار في الرواية ويتخلص من تبعتها , فهي تنسب لأشخاص الرواية لا له لذلك كانت مجالاً خصباً لنشر أفكارهم المصادمة للدين والمخالفة له مخالفة ً تامة, والتي تحاول بناء مجتمع على أنقاض المجتمع المسلم بعد تحطيم ثوابته وأخلاقه ومسخه مسخا ً كاملا ً .(/1)
والحقيقة المؤكدة : أنه لا يوجد كاتب محايد ولا متجرد من الأهواء وسيطرة رؤى معينة عليه ينظر للحياة من خلالها ويفسر الأحداث على ضوئها , وسوف يفرغ ما في عقله من أفكار وتصورات في نسيج الرواية ويصوغها وفق ثقافته ورؤيته للحياة , والنتيجة كما ذكرنا خروج روايات تحمل أفكاراً ورؤى فاسدة وتطرح حلولا ً أكثر فساداً , والشيء من مستنبته لا يستغرب , فالمتأمل في أفكار وحياة وتوجهات هؤلاء الذين صدرت عنهم هذه الروايات لا يجد غرابة بعد ذلك , فهم مقطوعو الصلة بأمتهم , والكراهية بينهم وبين مجتمعاتهم متبادلة ينفرون من مجتمعاتهم ويكرهونها وينبذونها ومجتمعاتهم تبادلهم نفس الشعور هذا إن عرفتهم و إلا هم غالباً مجهولون ويعيشون في دوائر مغلقة هي كل مجتمعهم ويظنون أنها كل الدنيا ويصورون من خلالها الحياة.
وتنظر في الرواية تجدها خالية من المبادئ والقيم وكثيراً ما تخلوا حتى من القيمة الفنية وما أكثر الروايات التي من هذا الطراز.
فهذا محمد شكري في روايته الهابطة "الخبز الحافي " وهي سيرة ذاتية يصور فيها مدينته وكأنها ماخور كبير تكثر فيه البغايا وينتشر فيه الشذوذ بأنواعه وعلب الليل والخمور والمخدرات وكل آفة ورذيلة ولا نستغرب بعد ذلك الاحتفاء الغربي بالرواية وترجمتها لأكثر من لغة, كما لا نستغرب صدور هذه الرواية من رجل كانت حياته كلها في الفسق والضياع باعترافه هو,ولكن نستغرب احتفاء المثقفين العرب به .
وبروايته التي تعطي صورة مشوهة عن تلك المدينة العربية الإسلامية وناسها الذين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكونوا جميعا ً بتلك الصورة المشينة التي صورها الكاتب, وتعال إليه وهو يحطم صورة الأب ويسمه بالإجرام والنذالة وتشويه صورة الأب سنة دارجة عند كثير منهم ليقضوا على كل خلق وقيمة ونظام وهذه يمثلها ويحافظ عليها عادة الأب.
وهذا نجيب محفوظ في " خان الخليلي " يصف المرأة البغي بأنها هي المرأة الحقيقية لأنها خلعت عن وجهها قناع الرياء وظهرت بطبيعتها وحقيقتها فلم يعد هناك داع لإدعاء العفاف والطهر والشرف والوفاء , وكأن الشرف والطهر عندهم دائما زيف ونفاق , وهم إذا لم يعرفوه فهناك من يعرفه وهم كثير بفضل الله تعالى .
أما تركي الحمد في ثلاثيته فيقدم مجتمعاً منافقا يتدثر بالعفاف , ولكنه في حقيقته يمارس الرذيلة بأبشع صورها , ثم قام بحشر الجنس في روايته حشراً بمناسبة وغير مناسبة , كما أنه ملأ روايته بالألفاظ المقززة المتعفنة وكأنك تعيش في مزبلة حقيقة ومعنى .
وفي رواية " التفكك " لرشيد بو جدرة : تثور المرأة على الوضع المتدني ـ في نظره ثورة عارمة كاسحة تزيح في طريقها الأعراف كلها وتحطم المواضعات وتتحدى الوضع البيولوجي للمرأة ,فهو يحكي لنا عن سالمة المتعلمة التي تشرف على المكتبة الوطنية وتدخن علبتي سجائر في اليوم , وتطالع الكتب والمجلات وتحمل في يدها صفيحة من أقراص الحمل , تعشق ثم تندم , وتقطع العلاقة كلما شعرت بأن صاحبها قد بدأ يتعلق بها وبعد أن فقدت صديقها الطاهر الغمري صارت حرة طليقة , ترجع إلى البيت في ساعة متأخرة , تفكر في أن تمارس الجنس مع صديقها الوحيد , وتقول في عناد وتحد ومحاورة مع نفسها : أكره الأمومة , وكل النساء أمهات وضعن لهذا الدور منذ الطفولة , وأنا الطائشة لن أكون أما ً (2) .
وهذا غيض من فيض , وكم بليت الرواية العربية بروايات لا تحمل من القيمة الفنية شيئاً, ولكنها في المقابل تتضمن أفكار التحرر والفساد والانحلال والنظرة المعادية للدين وأهله , ثم يأخذ لوبي النقاد العلماني دوره في نفخ الرواية وصاحبها وتلميعها حتى يصبح حديث المجالس والمنتديات والفضائيات , وتقدم الدراسة تلو الدراسة , والمقالة تلو المقالة لنقد هذه الرواية واعتبارها حدثاً ثقافياً متميزاً , وربما استثاروا العلماء والدعاة حتى تنقد أو تمنع فترة من الزمان ليتهافت عليها القراء ويبحثوا عن سر نقدها و منعها , فإذا حصلوها بعد عناء وجدوها أقل بكثير من التلميعات التي صدرت بحقها .
ولعلنا نتلمس سمات عامة مشتركة بين أكثر الروائيين العرب :
1- الهوس بالجنس وجعله محور الحياة وقاعدتها الذي تدور حوله واعتباره قمة الإبداع الروائي وأي رواية تخلو من الجنس تعتبر باردة عقيمة خالية من القيمة في نظرهم .
( إن دخول الجنس في العمل الإبداعي موجود لدى جميع الأمم, ولكنه كان مستقلاً بذاته أي أنه شريحة وجزء من ثقافة الأمة له قراؤه وله محبوه , كما أنه له منكريه , وهذا أمر طبيعي , ففي الغرب أدب جنسي ولكنه جزء من أدب شامل له طقوسه وله خلواته , فلم أر في حياتي في الغرب راكباً في القطار أو الباص أو الطائرة يقرأ كتاباً عن الجنس , بل لم أر أحداً يقرأ مجلة جنسية مع وفرتها وانتشارها .
إن للحياة الراقية أدباً راقياً إذ لا يمكن أن تتحول ساحة الثقافة إلى حمام عام ولا إلى مبولة عامة .(/2)
إذا لماذا نحن مهووسون بهذا الضرب أو بهذا اللون من الأدب ؟ فالرواية لدينا كي تكون ناجحة فلا بد أن تبدأ بالتعري أمامك منذ صفحاتها الأولى , فتدخلها فصلاً فصلاً وهي تتعرى قطعة قطعة , وعند آخر فصل تكون قد ألقت آخر قطعة تغطي بدنها .... حتى أصبح هدف الكاتب ليس العمل الإبداعي وإنما استجداء وصرف نظر مراهقي الثقافة في عالمنا العربي , وربما بحثاً عن الترجمة إلى لغة أخرى بهذه الوسيلة تماماً كما يحدث لبعض أفلامنا العربية حينما يحاول بعض المخرجين العرب ترويج بضاعتهم إلى الغرب للحصول على أوسمة وجوائز حتى ولو كان عمله هابطاً إلى درجة التقزز , فالجسد العربي الذي يظهر أسمراً ,طرياً, بضاً , أصبح يباع رخيصاً في سوق نخاسة السينما الغربية ... عيب هذا الفن , وعيب هذا النقد , دعوا الأشياء تأخذ حجمها الطبيعي ولا تضيفوا عليها هذا التبجيل , ولا ترقصوا كالدراويش والمصابين بالزار على ضوء فتيلة بائسة , لا شيء فيها إلا أنها تضيء مساحة لممارسة ما هو محرم .
إن مقومات إبداع هؤلاء تكمن في ثلاثة :
النيل من الدين , النيل من الأخلاق , الحديث الفاضح عن الجنس .
هذا الثالوث المقدس في جراية أهل هذا الفن أو العفن , وهو وسيلة البروز والنجاح , لقد أصبحت الخسة , والرقاعة , والهبوط إلى أقبية الرذيلة الطرق الناجحة نحو الشهرة ودخول عالم حمير الثقافة , بل صارت هذه الروايات الساقطة إحدى معجزات زماننا الثقافي المهيمن)(3) .
فالغرب وجد ضالته في هؤلاء الباحثين عن الشهرة بأي ثمن حتى لو على حساب دينه وأخلاقه ومبادئه فأبرز كتاب الجنس الفاضح وأصبحت الترجمة والجوائز الأدبية الممنوحة لهذا الأدب المتعري تسيل لعاب هؤلاء, فازدادوا عريا وعربدة في رواياتهم , ولعل احتفاء الغرب برواية محمد شكري أكبر دليل على هذا .
2- إعلاء قيمة العشق المذموم , وتصوير الحياة بدونه جافة كريهة لا روح فيها , ومن لا يعرف العشق لا يعرف الحياة , بل لا يعتبر إنسانا في نظرهم وقد ملئوا رواياتهم بقصص الحب المحرم بين فتى وفتاة لا تربطهم علاقة, وحتى بين امرأة متزوجة مع رجل غريب والعكس , ورسخوا في عقول بعض الشباب استحالة الزواج من دون سابق علاقة , وشرعوا للزوجة إذا لم تكّن الحب لزوجها خيانته.
وقد يصبح الكتاب موضع نقد في نظرهم إذا خلا منه , فهذا إحسان عباس في سيرته " غربة الراعي " ينتقد أحمد أمين في سيرته الذاتية " حياتي " كيف أنه قرأها فوجدها خالية من الحب فطالبه بإعادة النظر في هذا الجانب .
كيف أصبح العشق المذموم والعلاقات المحرمة والخيانة الزوجية تعلن على رؤوس الملأ من غير نكير , بل أصبحت عرفاً مستساغاً , لا تنكره حتى القلوب في أدنى درجات الإيمان ؟
3- نشر أفكار الإلحاد والعلمنة والاستهزاء بالدين , ومحاولة تسويقها عبر السرد الروائي بعدما فشلت ونبذها الناس .
4- تحطيم صورة الأب في محاولة لتحطيم كل عرف وخلق وانضباط ونظام يمثله الأب , فصوروا الأب في كثير من رواياتهم على أنه رمز للاستبداد والطغيان وكبت الحريات والأنانية ولابد من تحطيم هذا الرمز لتحقيق حلم الحرية , وهي دعوة للتمرد على الأب والخروج من طاعته , والتمرد على القيم المتوارثة التي يحملها الأب ويحرص عليها ويسعى جاهداً لغرسها في أبنائه , فإذا تحطم هذا الرمز نشأ جيل منبت عن ماضيه ولا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً .
والناظر في ثلاثية نجيب محفوظ وروايات محمد شكري والطاهر بن جلون وغيرهم يرى الصورة المظلمة التي رسموها للأب .
5- الثورة على جميع الأعراف والقيم والتقاليد الموروثة واعتبارها بالية ورمزاً للتخلف والقهر والاستبداد .
وهذا توفيق عواد في " طواحين الهواء " يقول على لسان بطلته : سأحارب تحت كل سماء , ضد كل الشرائع والتقاليد التي ارتضاها المجتمع ؛ لأنه باسمها أنكر علي حق الحياة تحت سماء بلادي .
6- رسم صورة مشرقة للبغايا والساقطات , فلا تشعر الفتاة بالعار والعيب وهي تقرأ عنهن بل ربما حصروا الخير فيها ,فنجيب محفوظ في " اللص والكلاب " حينما يصور مجتمعاً ظالماً أنانياً و حين تُسد الطرق أمام بطل الرواية يجعل الجانب المشرق في الرواية عند بغي دافعت عن هذا المظلوم وسعت لحمايته .
7- احتقار الأمومة ونعتها بالمهمة الحقيرة التي ينبغي للمرأة العصرية المتحررة الراقية أن تتعالى عن هذه الوظيفة التي تشبه في نظرهم الدجاجة المعدة للبيض أو البقرة المعدة للحلب , وتقتصر وظيفتها في الحياة بعد ذلك على الولادة وتربية الأولاد , ولكن يا ترى ما الوظيفة العظيمة والمهمة الراقية التي يعدون بها المرأة ؛ إنها الضياع والفساد , وجعلها سلعة رخيصة لا ترد يد لامس .(/3)
وهذه بطلة رواية " التفكك " لرشيد بوجدرة بعد ما أسبغ عليها من الصفات التي يريد المرأة المسلمة أن تتحلى بها , فهي صاحبة علاقات وتمرد على القيم وعبثية لا متناهية , تقول محاورة نفسها : أكره الأمومة وكل النساء وضعن لهذا الدور منذ الطفولة , وأنا الطائشة لن أكون أما .
8- الدعوة لنبذ الدين بشرائعه وقيمه وأخلاقه , والهجوم على علمائه ووصفهم بالانتهازيين والمنافقين , وتصوير الحياة مع الدين وقيمه تصويراً بائساً كريهاً يستدعي التمرد عليه ونبذه .
فإملي نصر الله في روايته " طيور أيلول " يصور علاقة الحب بين نجلاء وكمال اللذين وقف بينهما حاجز غبي مجانب للمنطق ومجموعة من الأفكار المتحجرة من بقايا الأجيال الماضية وآثار حوافر خيول عربية داست أراضي القرية . وسموم رياح هبت عبر السنين وعششت في رئات السكان . فنجلا مسلمة وكمال كافر , وقد وقف الدين حجر عثرة في طريق إتمام هذا الحب , ولعل بعض الفتاوى التي يصدرها بعضهم في هذه الأيام التي تبيح زواج المسلمة من الكتابي روافد لمثل هذه الأفكار السوداء
9- النظرة السوداوية للحياة والإحباط والقهر الذي يصوره لك كاتب الرواية وكأنك تعيش في جحيم ارضي سكانه من الوحوش ويتصفون بأبشع الأخلاق وأرداها فهم بين مستبد ولص ومنافق ومتخلف , وهذا انعكاس لنفسياتهم التي يحاصرها الإحباط على كافة المستويات , فالعلمانيون العرب أرادوا أن يستنبتوا شجرة خبيثة غريبة في أرض غريبة عليها ,فلم تنمو ولم تؤت أكلها , بل أثمرت حنظلاً وأورقت أشواكاً أدمت قلوبهم قبل أن تدمي غيرها , فصاحبها نفسيات محطمة مشوهة يقتلها الإحساس بالغربة وتطاردها اللعنات والاتهامات .
وهذا غيض من فيض , ومن زار هذه الروايات رجع بما ذكرته وأكثر, والحجة التي يتشدقون بها دائما عندما يحاصرون ويكاشفون بالسقطات والإسفافات التي تضمنتها رواياتهم أنه إلى متى ونحن نغطي عيوبنا , وإلى متى نحاول إخفاءها عن الأنظار لماذا نتخيل مجتمعنا نقياً طاهراً مع أنه يعج بألوان الفساد ؟
لماذا لا نمتلك الشجاعة ونواجه مشكلاته , بل نفضحها ؟ وقد يغر الغرَّ فيندفع ببلاهة لتصديقهم .
اتفقنا معهم على وجود أخطاء وتجاوزات ومساوئ لابد أن توجد بحكم طبيعة اختلاف البشر وتفاوتهم , إلا أنا لا نتفق معهم على طريقة علاجها بهذه الصورة المقززة الفاضحة التي تدعوا للفساد ولا تدعوا للإصلاح .
ثم هل خلا المجتمع من الفضائل والمحاسن حتى تختفي من رواياتهم ونظل نبحث عنها حتى بالمجهر فلا نجدها ؟ لماذا تسليط الضوء على الفساد والأمور المخلة ؟ وكأنهم يقولون للناس : هذه حياتكم , وهذا مجتمعكم , فلا تتمسكوا بفضيلة ولا تدعوها , بل القوا عن أعناقكم ثقلها , فالتمسك بها نفاق ومظهرية جوفاء , وانطلقوا كالبهائم في أودية الشهوات , ثم هل عرضوها بصورة تبين جرمها وسوئها أم عرضوها بصورة محببة للنفوس ؟
والبعض قد يحتج بأن في التراث قصص مخجلة فلماذا لا ننتقد ؟ لماذا التركيز على الإنتاج المعاصر , و إضفاء التقديس للتراث ؟ ولكن يقال له : إن التراث وغيره يحاكم على ميزان الكتاب والسنة , ولو كان عندهم مجرد اطلاع على كتب العلماء لرأوا كيف ذم العلماء بعض كتب التراث الأدبي كالأغاني وغيره لأنها تضمنت أمور مخلة .
أيضاً الأمة لا تزال في فترة ضعف وبناء وليس لدينا وقت للهزال والمسخرة وتبديد العمر في مثل هذه الترهات .
وقد أحس بقيمة الرواية وخطورتها وبعد أثرها في قرائها نفر من أرباب الأدب الإسلامي وقامت محاولات مشكورة , ولكنها لا تفي بالغرض كماً و كيفاً, فهناك روايات أقرب للحكايات البسيطة السطحية التي لا تروي نهمة القارئ ولا تمنحه الخيال ولا تضيف إلى مشاعره ومكنونات نفسه شيئاً يذكر .
الرواية تحتاج لبناء خيالي قريب من البناء الحقيقي للمجتمع , لذلك يحتاج الروائي لخيال خصب لإكمال جوانب الحياة بأحداثها وشخصياتها كما هي , ويبث فكرته المرادة في الرواية ويلامسها عن بعد من غير مباشرة لها حتى لا تفقد تأثيرها وتتحول إلى وعظ مباشر , فالوعظ له مجاله وطرائقه التي ليست منها الرواية , وإن كان لا مانع أن يتخلل الرواية بعض المواعظ التي تنسجم مع سياقها ولا تقحم إقحاماً , بل تكون كما قيل : لمحة داله .
والمشكلة التي يقع فيها من يحاول أسلمة العلوم والآداب والفنون عموماً وكتاب الروايات الإسلامية خصوصاً أنه تتلمذ على الروائيين الغربيين والروائيين العلمانيين فأخذ منهم نظرتهم للحياة وتصويرهم لها , فإذا أراد كتابة رواية إسلامية ربما لا يستطيع التخلص من علائق هؤلاء في فكره وعقله , بل ربما استمد تصوير الحياة وأحداثها منهم وإعطائها صبغة إسلامية وهو لا يشعر , بل ربما وضع بعض القيم الإسلامية في غير موضعها فيضر من حيث يظن أنه ينفع وكم من مريد للخير لم يبلغه .(/4)
وأذكر محاولة كاتب رواية إسلامية حاول نسج قصته عن العفة , ولكنه صورها بطريقة مقلوبة حيث ضخم موضوع الجمال والدلال والنظرات والحب , ثم جعل هذا الشاب المتدين يعيش أزمة العفة حين تعلق قلبه بمحبوبته , فتسود الدنيا في وجهه لأنه متدين ولأنه يرفض الوقوع في الحرام, والحلال طريقه مسدود مما يجعل القارئ للرواية ربما يستثقل العفة ويراها أزمة يعيشها الإنسان العفيف , حتى أنه صور أحد الناصحين لهذا الشاب من مغبة العشق بأنه كبير في السن ويعيش زمان غير زمان الشباب , ويعرج أحياناً إلى جوانب مثيرة كذكر مفاتن المرأة أو لقاء الحبيبين الذين ليس بينهما علاقة شرعية, وقد يدخل بعضهم بدعاً في الرواية بسبب جهله بالشرع كزيارة الأضرحة لتفريج الكربات أو التبرك بالأولياء , وربما أدخل التصورات العلمانية للحياة في الرواية وهو لا يشعر .
وطالما أنه حمل مسمى رواية إسلامية فصاحبها مسئول أمام الله تعالى أولاً وأمام باقي المسلمين ثانياً أن يقدم أدباً ينطلق من رؤية إسلامية حقه وإن كان لا يريد أو لا يستطيع فلينسبها لنتاجه وفكره فتكون مسؤوليته أقل وضرره أهون .
لابد لمن يتصدى للأدب الإسلامي عموماً وللرواية الإسلامية خصوصاً أن ينطلق من مفاهيم الإسلام يبثها خلال روايته , فالذي لا يعي النظرة الإسلامية والمفاهيم القرآنية ربما انطلق من منطلقات مخالفة وهو لا يشعر , وهذه المفاهيم تكمن في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته المباركة وفي حياة السلف الصالح وفيما خطه علماء الإسلام الكبار .
لو تأملنا في كتاب الله تعالى لوجدناه كنزاً لا يفنى من العبر والمفاهيم والقيم والحكم والقصة تأخذ حيزاً كبيراً منه, فيستطيع الروائي الإسلامي الاستفادة من هذا المعين العظيم قيماً ومفاهيم ومنهجية في القص , فالقرآن قص أحوال الأمم السابقة محسنهم ومسيئهم وشيئاً من حياتهم وأعمالهم ونهاياتهم , فيستفيد الروائي كيفية تصوير حال المحسن والمسيء وكيف يعرض قضيتي الحق والباطل .
وهنا مثال ذكره الأستاذ محمد قطب وهو قصة يوسف عليه الصلاة والسلام , فالقصة تحكي اختلاء امرأة برجل وعرض نفسها عليه وتمنعه عنها , فالقارئ للقصة تستشعر نفسه العفة وقيمتها وتميل إليها وتنفر عن الفاحشة , بل لا يشعر بأي إثارة أو تحرك لنار الشهوة في قلبه . فالجوانب المثيرة كانت مغفلة لأنها ليست الهدف , وربما يعرض بعضهم قصة عفة فيركز على جوانب الإثارة ليبين للقارئ مدى الصعوبة التي يواجهها العفيف , فيورد من تفاصيل مفاتن المرأة ما يهيج القارئ ويجعل فكره وخياله يحلق حول هذه المفاتن , وربما ركز على أمور أخرى كحرارة اللقاء وغير ذلك مما يذهب بلب القارئ ويضيع الهدف الحقيقي من وراء روايته .
وربما يقول البعض : إن الرواية الخالية من الحب تكون جافة غير مستساغة , وهو إضافة على أنه حكم قاصر فيه تجن على الذوق العام ووصفه بالذوق الهابط الذي لا يتذوق إلا المفاسد ولا يتعدى عقول أهله وأفكارهم هذا الإطار , وحقيقة لو إستقرأت واقع الناس وهمومهم لوجدت أن مسألة الحب والجنس ليست كل شيء عند الناس , فالناس لهم اهتمامات كثيرة سواء بالاقتصاد أو السياسة أو أحوال المجتمع أو التاريخ ولعل نموذج القنوات الفضائية الجادة أكبر مثال على هذا .
فالذين رسخوا الإعلام الفاسد المطعم بالإثارة في كل جزء , حاولو إقناعنا بعدم نجاح إعلام إلا إذا تضمن إثارة ونساء إلى آخر تلك الطبخات المتعفنة . فلما جاء إعلام خال من كل هذا أصبح حديث المجالس وأصبحت قنواته تتصدر قائمة القنوات من حيث عدد المشاهدين . وما أكثر الموضوعات التي يمكن أن تؤلف حول الرواية سواء في الجوانب التاريخية أو الإجتماعية أو غيرها , فما على الكاتب إلا انتقاءها ثم توظيفها .
والتاريخ الإسلامي بحر زاخر بالأحداث العظيمة والتي كان لها أثر في كافة التغيرات , والتاريخ كما قيل يكتبه المنتصرون , فهو تاريخ الغالبين , أما الرواية فهي تاريخ المقهورين والمهمشين والمنسيين , إنها تؤرخ للتفاصيل اليومية وما وراء الأحداث مما لا يستطيع التاريخ التقاطه , ويستطيع الراوي المحترف تصوير مرحلة بأحداثها وشخصياتها وإيجابياتها وسلبياتها , ولعل أكبر مصدر يساعد المؤرخ على هذا هو كتب الرحلات حيث يصف الرحالة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والكثير الكثير من مشاهداته في البلاد التي دخلها , كذلك كتب السير الذاتية وإن كانت قليلة إلا أنها وجدت تسد مسداً كبيراً , ومنها تراجم العلماء فتجد فيها تفصيلات للعصر وطبيعة الحياة التي عاش فيها المترجم له .(/5)
ومن الحوادث العظيمة التي تستحق أن يكتب عنها فترة الحروب الصليبية تلك الحرب الظالمة التي اكتسحت العالم الإسلامي وتمددت فيه شرقاً وغرباً وبقيت جاثمة قرابة المائتي سنة , فيستطيع الروائي تصوير ما قبل الاجتياح الصليبي كيف كان حال المجتمع المسلم من انحسار في الدين وضعف في العزيمة وتهالك على الدنيا وتفرق وتناحر , وكيف سهل هذا الغزو الصليبي الغاشم , ثم الجرائم البشعة التي قام بها الصليبيون في العالم الإسلامي , والتركيز على التغير الواسع في كافة المستويات حينما عاد المسلمون لدينهم ووحدوا صفوفهم كل هذا ساعدهم على طرد المحتل وإخراجه يجر أذيال الهزيمة .
وتعال إلى حياة المسلمين في الأندلس منذ الفتح الإسلامي إلى سقوط آخر معاقله في يدي النصارى وما صاحبها من علو شان وحضارة وعمارة وفنون وعلوم ثم ارتكاس في الشهوات والدعة والميل إلى الدنيا حتى آل حالهم إلى الهزيمة والسقوط , ثم رحلة الشتات لهم وتفرقهم في البلاد .
والنماذج كثيرة , ولعلها تكون بديلاً لبعض الروايات المشبوهة للتاريخ الإسلامي كروايات جرجي زيدان التي إضافة لما تضمنته من تشويه متعمد للحقائق التاريخية تشم رائحة النصرانية والصليب في كل مكان من جسد الرواية , وكأن النصارى هم أصحاب الدور الفاعل في تاريخنا وحضارتنا .
أما تاريخنا المعاصر منذ سقوط الخلافة وما صاحبها من صعود القوميات واستيراد الأفكار العلمانية وتطبيقها ثم فشلها , كل هذا يعطي الروائي مادة لا يستهان بها , فالروائي يستطيع أن يصور حالة التأزم والضياع والانخداع بهذه الأيدلوجيات وانبهار الأمة بها وبروادها ثم المأساة والقهر والاستبداد التي عاشتها تلك الشعوب فترة حكمها , ثم اتضاح الأكذوبة الكبرى لتلك التيارات , كل هذا ربما لا تستوعبه الأجيال اللاحقة لأنها تأخذ تاريخاً مختصراً لا يقدم الحقيقة من كافة جوانبها وهنا يأتي دور الروائي الجاد .
أما الرواية الاجتماعية فالمجتمع يعج بكثير من المخالفات والمنكرات والولوغ في الشهوات فيستطيع الروائي من خلال روايته إظهار جمال وقيمة العفة والاستقامة, وفي المقابل إظهار بشاعة الحياة الشهوانية ونهاياتها المأساوية .
الهوامش :
(1) الرواية الآن ص(8) للدكتور عبد البديع عبدالله .
(2)عبد السلام البسيوني . صورة المرأة في الرواية العربية ص ( 3 ) .
(3) الرواية العربية ومعجزة الجنس , لعبدالله الناصر , جريدة الرياض ( 13737 ) .(/6)
الروح من أسرار الوجود
إلياس بلا
من ألغاز الوجود روح الإنسان التي بها قيامه وحياته، وهي جزء منه وأقرب شيء إليه، بل لعلها تمثل الحقيقة الإنسيّة نفسها... ومع ذلك فنحن إلى اليوم نجهل كل شيء عن الروح: أصلها، وطبيعتها، ونوع حياتها وموتها، ومم تتشكل...
لكن الروح موجودة وحية، فهذا لاشك فيه. ومما يدل على ذلك ظاهرة قيام الأجزاء الأخرى للمخ بالعمليات الخاصة التي كان يقوم بها الجزء الذي تعرض للتلف أو التدمير، فهذا معناه أن تدمير جزء أو أجزاء من الدماغ لا يؤدي إلى اندثار معالم الشخصية الفردية(1).
ونعرف عن الروح أيضاً أشياء أخرى، مثلما قال ابن تيمية: "اتفق العلماء على أن الروح مخلوقة، وقال الجمهور بأنها قائمة بذاتها، تقبض وتنعم وتعذب"(2).
وعدا هذه الحقائِق - ونحوها - لا نعرف كبير شيء عن الروح. وقد أكثر بعض الناس الكلام في تعريف الروح والنفس، وتنطع قوم وتباينت أقوالهم، حتى قيل: إن الأقوال فيهما بلغت مائة(3). وهي مع ذلك لا تفيد شيئاً، ولا طائل من ورائها. فقولك - مثلاً: "الروح جسم لطيف يسري في جميع أجزاء الجسد" لا يقدم شيئاً ولا يؤخر في أمر حقيقة الروح.
وقد كان الوحي حريصاً على إيضاح هذه الحقيقة، فخاطب النبي الكريم قائلاً: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85) {الإسراء: 85}.
وسبب نزول هذا التوجيه أن بعض يهود المدينة مر على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو في حرث أو نخل، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. وقال آخرون: لا تفعلوا، حتى لا يستقبلكم بشيء تكرهونه. فسألوه، ولم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم -عليهم بشيء، حتى نزلت الآية(4).
وقال أكثر أهل العلم: إن اليهود سألوه عن الروح التي تكون بها الحياة في الجسد، وهي المقصودة في الآية(5).
ولهذا الإبهام حِكَمٌ بيّن العلماء بعضها. قال ابن بطال: معرفة حقيقة الروح مما استأثر الله بعلمه بدليل هذا الخبر. والحكمة في إبهامه: اختبار الخلق ليعرفهم عجزهم عن علم ما لا يدركونه حتى يضطرهم إلى رد العلم إليه(6). وقال أبو العباس القرطبي في جملة (قل الروح من أمر ربي): "أي هو أمر عظيم، وشأن كبير من أمر الله - تعالى -، مبهماً له وتاركاً تفصيله ليعرف الإنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها. وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه هكذا، كان بعجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى"(7).
وإذا كان مفهوم الآية هو منع الكلام في الروح، فكيف نعلل حديث بعض العلماء في هذا الموضوع، مثل: محمد ابن نصر المروزي، والقاضي أبو يعلى الحنبلي، والحافظ أبو عبدالله بن منده الذي صنف كتاباً كبيراً في الروح والنفس... وغيرهم(8).
والجواب: أن كلام هؤلاء ونحوهم لم يكن بطريق التخمين والعقل المحض، بل جاء بناء على النصوص الشرعية، ومن الحديث خاصة. قال ابن تيمية: "ليس في الكتاب والسنة أن المسلمين نهوا أن يتكلموا في الروح بما دل عليه الكتاب والسنة، لا في ذاتها ولا في صفاتها، وأما الكلام بغير علم فذلك محرم"(9)، فكل بحث في الروح اهتدى بالآيات والأحاديث الصحيحة، وتقيد بها، فهو جائز. ومن أمثلته: ما كتبه الحافظ ابن عبدالبر القرطبي عن مصير روح الميت(10)؛ وذلك لأن الروح غيب عنا، وفي مسائل الغيب نرجع إلى الوحي، وما لم يشر إليه أو يبينه نتوقف فيه، ونكل علمه إلى الله - تعالى -.
وهذا الذي سبق يخص الروح التي تظل - بالنسبة إلينا - مجهولة، من حيث فيها سر الحياة. أما النفس وما يتعلق بها من الطبائع والخصائص والاستعدادات والمميزات... فكل ذلك يجوز معرفته، وهو موضوع علم النفس المعاصر، ويساعد على هذا تفرقة الجمهور بين الروح والنفس.
خاتمة:
إن حجب الله - سبحانه - علم حقيقة الروح عن البشر درس آخر للإنسان يبين له قصور معرفته وحدود إدراكه، كما يحذره من الانشغال بما لا سبيل له إلى كشفه.
___________________
الهوامش:
1-LصAu-Dela، p 117. وتعرف هذه الظاهرة في الفرنسية ب: Phenomenes de vicariance ويمكن ترجمتها ب: ظواهر التعويض.
2- راجع: الفتاوى (216/4-231).
3- انظر: فتح الباري (320/9) تفسير سورة الإسراء.
4- رواه البخاري في صحيحه، في كتاب العلم، باب عن الروح، وفي كتاب التفسير، باب ويسألونك عن الروح، ورواه مسلم في كتاب المنافقين من صحيحه، والترمذي في التفسير، وأحمد في المسند.
5- فتح الباري (320/9) وراجع حول تنوع الاستعمال القرآني لكلمة الروح: تأويل مشكل القرآن، ص: (370) فما بعدها فتح الباري (320/9).
6- نقله ابن حجر في فتح الباري (321/9).
7- المفهم (356/7-357)، كتاب التفسير سورة الإسراء.
8- ذكر بعضهم ابن تيمية في الفتاوى (217/4).
9- الفتاوى (231/4).
10- راجع: التمهيد (238/20) إلى (246) حديث ثامن للعلاء بن عبد الرحمن.
المراجع:
1- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ليوسف بن عبدالبر، نشر وزارة الأوقاف بالمغرب.(/1)
2- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، دار الفكر، بيروت.
3- مجموع الفتاوى، لأحمد بن تيمية، نشر المكتب السعودي بالمغرب.
4- المفهم لما أشكل في تلخيص مسلم، لأحمد القرطبي، دار ابن كثير، دمشق ط1، 1996.
5- تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة، دار إحياء الكتب العربية.
6- The - Dela، par Fnamcis Gnegoin، Pressdo Fnamce.1965.
*أستاذ بكلية الآداب، ظهر المهراز، فاس.
http://jmuslim.naseej.com المصدر :(/2)
الرياء أو السمعة
يتناول الدرس مفهوم الرياء أو السمعة وأسباب ذلك، وسمات المرائي وعلاماته، ثم تناول آثار الرياء والسمعة على العاملين في حقل الدعوة ثم أثر ذلك على العمل الإسلامي نفسه، ثم تناول كيفية علاج هذا المرض وخطوات ذلك.
مفهوم الرياء أو السمعة : هو إطلاع المسلم الناسَ على ما يصدر منه من الصالحات؛ طلبًا للمنزلة، والمكانة عندهم، أو طمعًا في دنياهم، فإن وقعت أمامهم ورآها فذلك هو الرياء، وإن لم تقع أمامهم لكنه حدثهم بها فتلك هي السمعة.[فتح الباري لابن حجر [11/336] بتصرف]
قال تعالى: }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ... [264]{ [سورة البقرة] ويقول صلى الله عليه وسلم: 'مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ' رواه البخاري ومسلم.
أسباب الرياء أو السمعة:
1- النشأة الأولى:إذ قد ينشأ في أحضان بيت دأبه وديدنه الرياء أو السمعة، فما يكون منه إلا التقليد والمحاكاة، وبمرور الزمن تتأصل هذه الآفة في نفسه، وتصبح وكأنما هي جزء لايتجزأ من شخصيته .
2- الصحبة أو الرفقة السيئة: فقد تحتويه صحبة سيئة، لا همّ لها إلا الرياء أو السمعة، فيقلدهم لاسيما إذا كان ضعيف الشخصية، شديد التأثر بغيره، وبتوالي الأيام يتمكن هذا الداء من نفسه .
3- عدم المعرفة الحقيقية بالله عز وجل:إذ إن الجهل بالله، أو نقصان المعرفة به؛ يؤدي إلى الظن بأن العباد يملكون شيئاً من الضر أو النفع، فيحرص على مراءاتهم في كل مايصدر عنه من الصالحات؛ ليمنحوه شيئا مما يتصور أنهم مالكوه .
4- الرغبة في الصدارة أو المنصب:فيدفعه ذلك إلى الرياء أو السمعة، حتى يثق به من بيدهم الأمر؛ فيجعلوه في الصدارة أو يبوئوه المنصب .
5- الطمع فيما في أيدي الناس: فيحمله ذلك على الرياء أو السمعة؛ ليثق به الناس، وترق قلوبهم له؛ فيعطونه مايملأ جيبه ويشبع بطنه، وفي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 'مَنْ غَزَا وَهُوَ لَا يُرِيدُ إِلَّا عِقَالًا فَلَهُ مَا نَوَى'رواه النسائي والدارمي وأحمد. وفي سؤال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم:الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: ' مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ' رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد . ما يشير إلى هذا السبب.
6- إشباع غريزة حب المحمدة أو الثناء من الناس:فهذا قد يدعوه إلى الرياء أو السمعة، حتى يكون حديث كل لسان، وذكر كل مجلس، فتنتفش نفسه وتنتفخ بذلك، وإلى هذا السبب يشيرالحديث السابق:' وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ '
7- شدة ذوي المسئولية في المحاسبة: فيحاول ستر ضعفه وفتوره بالرياء، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: 'إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ' رواه مسلم.
8- إظهار الآخرين إعجابهم به وبما يصدر عنه من أعمال.
9- الخوف من قالة الناس لاسيَّما الأقران:ولهذا ذم الله من يخشى الناس، ولا يخشى الله بقوله: }يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا[108] {[سورة النساء] .
10- الجهل أو الغفلة عن العواقب، أو الآثار الناجمة عن الرياء والسمعة: يقول الله تعالى:}وَمِنَ النَّاسِ مَن يُّعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِه وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامُ [204] وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادُ[205]{ [سورة البقرة].
سمات أو علامات الرياء أو السمعة:
1- ينشط في العمل ويضاعف الجهد عند المدح، ويكسل ويقصر عند الذم.
2- ينشط في العمل، ويضاعف الجهد مع الناس، ويكسل ويقصر عند التفرد، والبعد عن الناس: وأشار إلى هاتين الصفتين علي رضي الله عنه بقوله:'للمرائي علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه، وينقص إذا ذم'.(/1)
3- الحفاظ على محارم الله ورعايتها إذا كان مع الناس، وانتهاكها عند التفرد: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ' لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا'رواه ابن ماجه وهو في صحيح الجامع الصغير .
آثار الرياء والسمعة:
آثار الرياء على العاملين:
1- الحرمان من الهداية والتوفيق: فقد مضت سنة الله أنه لا يمنحهما إلا لمن علم منه الإخلاص، وصدق التوجه إليه، يقول الله تعالى: }وَيَهدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ[27]{ [سورة الرعد] ويقول تعالى:}وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُّنِيبُ[13] {[سورة الشورى] وقال تعالى:} فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[5]{ [سورة الصف].
2- الضيق أو الاضطراب النفسي: فالمرائي إنما فعل مافعل؛ طلبا لمرضاة الناس، وطمعا فيما بأيدهم، وقد يحول قضاء الله دون تحقيقه ذلك، وحينئذ يعتريه الضيق، فلا هو بالذي ظفر برضا الله، ولا هو بالذي حصّل ماكان يؤمله ويرجوه من الناس، قال تعالى:}وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا[124]{ [سورة طه] ويقول تعالى:}وَمَن يُّعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكُ عَذَابًا صَعَدًا[17]{ [سورة الجن].
3- نزع الهيبة من قلوب الناس: يقول الله تعالى:}وَمَن يُّهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمْ[18]{ [سورة الحج] ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:'من خلصت نيته كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس' .
4- الإعراض من الناس وعدم التأثر: ويتضح ذلك من هذه القصة: لما ولي عمر بن هبيرة العراق أرسل إلى الحسن وإلى الشعبي، فأمر لهما ببيت وكانا فيه شهرا أو نحوه، ثم إن الخصي غدا عليهما ذات يوم فقال: إن الأمير داخل عليكما، فجاء عمر يتوكأ على عصا، ثم جلس مفطما لهما، فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك يكتب إلى كتباً أعرف أن في إنفاذها الهلكة، فإن أطعته؛ عصيت الله، وإن عصيته؛ أطعت الله، فهل تريا لي في متابعتي إياه فرجاً ؟ فقال الحسن: يا أبا عمرو أجب الأمير، فتكلم الشعبي، فانحط في حبل بن هبيرة، قال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟ فقال: أيها الأمير قد قال الشعبي ما قد سمعت، قال: ما تقول أنت؟ قال: أقول يا عمر بن هبيرة: يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله، فظ غليظ، لا يعصي الله ما أمره، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، يا عمر بن هبيرة إن تتق الله؛ يعصمك من يزيد بن عبد الملك، ولن يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله، يا عمر بن هبيرة:لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت، فيغلق بها باب المغفرة دونك، يا عمر بن هبيرة: لقد أدركت ناساً من صدر هذه الأمة كانوا والله عن الدنيا وهي مقبلة أشد إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة، يا عمر بن هبيرة: إني أخوفك مقاماً خوفك الله تعالى، فقال:} ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ[14]{[سورة إبراهيم] يا عمر بن هبيرة: إن تك مع الله في طاعته؛ كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله؛ وكلك الله إليه، فبكى عمر، وقام بعبرته، فلما كان من الغد أرسل إليهما بإذنهما، وجوائزهما، فأكثر منها للحسن، وكان في جائزة الشعبي بعض الإقتار، فخرج الشعبي إلى المسجد، فقال: يا أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله على خلقه، فليفعل، فوالذي نفسي بيده ما علم منه الحسن شيئا، فجهلته، ولكن أردت وجه ابن هبيرة؛ فأقصاني الله منه.
5- عدم إتقان العمل: يقول الله تعالى عن المنافقين:]وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُون النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً[142][ [سورة النساء].
6- الفضيحة في الدنيا وعلى رؤوس الأشهاد يوم القيامة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم:'مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ'رواه البخاري ومسلم .
7- الوقوع في غوائل الإعجاب بالنفس، ثم الغرور، ثم التكبر.(/2)
8- بطلان العمل: عَنْ أَبِي سَعْدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:' إِذَا جَمَعَ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ نَادَى مُنَادٍ مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ'رواه ابن ماجه والترمذي .
9- العذاب الشديد في الآخرة، ولهذا العذاب صور منها:
أول من تسعر به النار:فَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ لَهُ نَاتِلُ أَهْلِ الشَّامِ: أَيُّهَا الشَّيْخُ حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:'إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ' رواه مسلم والترمذي والنسائي وأحمد .
يلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور عليها: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا لَكَ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ بَلَى قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ ] رواه البخاري ومسلم وأحمد .
آثار الرياء على العمل الإسلامي:
1-طول الطريق وكثرة التكاليف:ذلك أن قوماً أخلاقهم الرياء، وصفاتهم التسميع؛ لايمكن أن يمكن لهم إلا بعد طول ابتلاء وكثرة تمحيص:قال تعالى:} مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ...[179]{ [سورة آل عمران] وقال:} أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2]وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[3]{[سورة العنكبوت] وقال تعالى:} أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[16]{ [سورة التوبة] .
علاج الرياء أو السمعة:
1- تذكر عواقب الرياء أو السمعة، الدنيوية والأخروية.
2- البعد عن صحبة المعروفين بالرياء، أو السمعة، ومصاحبة المخلصين.
3- معرفة الله حق المعرفة.
4- مجاهدة النفس حتى تهذب من الغرائز المعينة على هذا المرض.
5- رفق ذوي المسئولية في المحاسبة.
6- معرفة أخبار المرائين، وعقوباتهم؛ لئلا تكون العاقبة كعاقبة هؤلاء .
7- محاسبة النفس أولاً بأول؛ للوقوف على عيوبها، ثم التخلص من هذه العيوب .(/3)
8- اللجوء التام إلى الله والاستعانة به: قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: 'أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ' فَقَالَ لَهُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُول:َ وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:'قُولُوا اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُ' رواه أحمد.
9- دوام مطالعة النصوص المرغبة في الإخلاص، والمحذرة من الرياء .
10- التذكر بأن كل شيء بقضاء الله وقدره: وأن الخلق عاجزون عن أن يجلبوا لأنفسهم نفعاً، أو يدفعوا عنها ضراً، فضلا عن أن يملكوا ذلك لغيرهم }إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا[19]{ [سورة الجاثية] .
من كتاب: آفات على الطريق للدكتور/ السيد محمد نوح(/4)
الرياء خطره وأنواعه
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد*
من الأدواء المهلكة، والأمراض الفاتكة، والخسائر الفادحة الرياء، حيث فيه خسارة الدين والآخرة، ولهذا حذر منه المتقون، وخافه الصالحون، ونبه على خطورته الأنبياء والمرسلون، ولم يأمن من مغبته إلا العجزة، والجهلة، والغافلون، فهو الشرك الخفي، والسعي الرديء، ولا يصدر إلا من عبد السوء الكَلَِّ المنكود.
الرياء كله دركات، بعضها أسوأ من بعض، وظلمات بعضها أظلم من بعض، وأنواع بعضها أخس وأنكد من بعض، فمنه الرياء المحض، وهو أردأها، ومنه ما هو دون ذلك، ومنه خطرات قد أفلح من دفعها وخلاها، وقد خاب من استرسل معها وناداها.
فالعمل لغير الله أنواع وأقسام، كلها مذمومة مردودة، ومن الله متروكة، فالله سبحانه وتعالى أغنى الشركاء، وأفضل الخلطاء، فمن أشرك معه غيره تركه وشركه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه".1
وفي رواية لابن ماجة: "فأنا منه بريء وهو للذي أشرك".2
والأنواع هي3:
1. الرياء المحض
وهو العمل الذي لا يُراد به وجه الله بحال من الأحوال، وإنما يراد به أغراض دنيوية وأحوال شخصية، وهي حال المنافقين الخلص كما حكى الله عنهم:
"وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً".4
"ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله".5
"فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون".6
وهذا النوع كما قال ابن رجب الحنبلي يكون في الأعمال المتعدية، كالحج، والصدقة، والجهاد، ونحوها، ويندر أن يصدر من مؤمن: (فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة).
2. أن يراد بالعمل وجه الله ومراءاة الناس
وهو نوعان:
أ . إما أن يخالط العملَ الرياءُ من أصله
فقد بطل العمل وفسد والأدلة على ذلك بجانب حديث أبي هريرة السابق:
• عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدَّق يرائي فقد أشرك، وإن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي شيئاً، فإن جدة عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غني".7
• وعن أبي سعيد بن أبي فضالة الصحابي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: من كان أشرك في عمل عمله لله عز وجل فليطلب ثوابه من عند غير الله عز وجل، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك".8
• وخرج الحاكم من حديث ابن عباس: "قال رجل: يا رسول الله: إني أقف الموقف وأريد وجه الله، وأريد أن يُرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً".9" 10
قال ابن رجب: (وممن روي عنه هذا المعنى، وأن العمل إذا خالطه شيء من الرياء كان باطلاً: طائفة من السلف، منهم عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، والحسن، وسعيد بن المسيب، وغيرهم.
ومن مراسيل القاسم بن مُخَيْمِرَة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله عملاً فيه مثقال حبة من خردل من رياء".
ولا نعرف عن السلف في هذا خلافاً، وإن كان فيه خلاف عن بعض المتأخرين).
ب. وإما أن يطرأ عليه الرياء بعد الشروع في العمل
فإن كان خاطراً ماراً فدفعه فلا يضرُّه ذلك، وإن استرسل معه يُخشى عليه من بطلان عمله، ومن أهل العلم من قال يُثاب ويُجازى على أصل نيته.
قال ابن رجب: (وإن استرسل معه، فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يُجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن البصري وغيره.
ويستدل لهذا القول بما خرجه أبو داود في "مراسيله"11 عن عطاء الخرساني أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن بني سَلَمَة كلهم يقاتل، فمنهم من يقاتل للدنيا، ومنهم من يقاتل نجدة، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله، فأيهم الشهيد؟ قال: كلهم، إذا كان أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا".
وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله، كالصلاة، والصيام، والحج، فأما ما لا ارتباط فيه، كالقراءة، والذكر، وإنفاق المال، ونشر العلم، فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى تجديد نية.
وكذلك روي عن سليمان بن داود الهاشمي12 أنه قال: ربما أحدث بحديث ولي نية، فإذا أتيت على بعضه تغيرت نيتي، فإذا الحديث الواحد يحتاج إلى نيات.
ولا يرد على هذا الجهاد، كما في مرسل عطاء الخرساني، فإن الجهاد يلزم بحضور الصف، ولا يجوز تركه حينئذ فيصير كالحج).
3. أن يريد بالعمل وجه الله والأجر والغنيمة(/1)
كمن يريد الحج وبعض المنافع، والجهاد والغنيمة، ونحو ذلك، فهذا عمله لا يحبط، ولكن أجره وثوابه ينقص عمن نوى الحج والجهاد ولم يشرك معهما غيرهما.
خرج مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الغزاة إذا غنموا غنيمة تعجلوا ثلثي أجرهم، فإن لم يغنموا شيئاً تمَّ لهم أجرُهم".13
وروي عن عبد الله بن عمرو كذلك قال: "إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقاً، فلا بأس بذلك، وأما أن أحدكم إن أعطي درهماً غزا، وإن مُنع درهماً مكث، فلا خير في ذلك".
وقال الأوزاعي: إذا كانت نية الغازي على الغزو، فلا أرى بأساً.
وقال الإمام أحمد: التاجر، والمستأجر، والمكاري أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزاتهم، ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره.
وقال أيضاً فيمن أخذ جعلاً على الجهاد إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس أن يأخذ، كأنه خرج لِدِينه، فإن أعطي شيئاً أخذه.
وقال ابن رجب: (فإن خالط نية الجهاد نية غير الرياء، مثل أخذ أجرة للخدمة، أوأخذ شيء من الغنيمة، أوالتجارة، نقص بذلك أجر جهادهم، ولم يبطل بالكلية..
وهكذا يقال فيمن أخذ شيئاً في الحج ليحج به، إما عن نفسه، أوعن غيره، وقد روي عن مجاهد أنه قال في حج الجمَّال، وحج الأجير، وحج التاجر، هو تمام لا ينقص من أجورهم شيء، وهو محمول على أن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب.
4. أن يبتغي بعمله وجه الله فإذا أثني عليه سُرَّ وفرح بفضل الله ورحمته فلا يضره ذلك إن شاء الله
فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير، ويحمده الناس عليه، فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن".14
وفي رواية لابن ماجة: "الرجلُ يعمل العمل لله فيحبُّه الناس عليه".15
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيُسِِرُّه، فإذا اطلع عليه، أعجب، فقال: "له أجران: أجر السر وأجر العلانية".16
قال ابن رجب: (وبالجملة، فما أحسن قول سهل بن عبد الله التُستري: ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب.
وقال يوسف بن الحسين الرازي: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر.
وقال ابن عيينة: كان من دعاء مطرِّف بن عبد الله: اللهم إني أستغفرك مما تبتُ إليك منه، ثم عدت فيه، وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي، ثم لم أفِ لك به، وأستغفرك مما زعمتُ أني أردت به وجهك، فخالط قلبي منه ما قد علمتَ).
ورحم الله القائل:
اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً ونحن نعلم، ونستغفرك لما لا نعلم، وصلى الله وسلم على إمام المتقين وسيد المتوكلين المخلصين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين.(/2)
الرّؤية الغربيّة للإسلام بين الإنصاف والتحيّز
إبراهيم غرايبة 22/7/1426
27/08/2005
عاد الإسلام من جديد إلى صدارة الاهتمام الغربي أكاديمياً وإعلامياً وسياسياً وإستراتيجياً، وتظهر الحملة الغربية للإسلام قدراً من التفهم بالإضافة إلى ما هو سائد من تحيّز وعداوة. ويقدم كتاب الدكتور محمد عمارة "الإسلام في عيون غربية" نماذج من الجانبين تصلح ملخصاً للمثقف والمتابع ليطلع على نحو عادل ومتوازن لقضية الإسلام والغرب، ولا يقع أسير التعميم والتحيز.
وقد نشرت مجلة "شؤون دولية" الصادرة في "كمبردج" بإنجلترا عدد يناير سنة 1991 ملفاً عن الإسلام لاثنين من أبرز علماء الاجتماع السياسي الإنجليزي (ادوارد مورتيمر) و(ارنست جيلنر).
"لقد شعر الكثيرون بالحاجة إلى اكتشاف تهديد يحل محل التهديد السوفيتي، وبالنسبة إلى هذا الغرض فإن الإسلام جاهز في المتناول، فالإسلام مقاوم للعلمنة، وكان لوجود تقاليد محلية للإسلام دور في عدم نجاح نظرة التقدير والمثالية للحضارة الغربية، وقد امتلك الإسلام مقومات الإصلاح الذاتي، وذلك هو التفسير الأساسي لمقاومة الإسلام المرموقة للعلمنة. إن الإسلام من بين الثقافات الموجودة في الجنوب، وهو الهدف المباشر للحملة الغربية الجديدة، ليس لسبب سوى أنه الثقافة الوحيدة القادرة على توجيه تحدٍ فعلي وحقيقي للثقافة العلمانية الغربية"
ومما جاء في أبحاث ومقررات مؤتمر مجمع الخبراء في الكنائس الغربية في مايو 1978 في "كولورادو" بأمريكا" "إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تناقض مصادره الأصلية أسس النصرانية، والنظام الإسلامي هو أكثر النظم الدينية المتناسقة اجتماعياً وسياسياً، ونحن بحاجة إلى مئات المراكز لفهم الإسلام واختراقه، ولذلك لا يوجد لدينا أمر أكثر أهمية وأولوية من موضوع تنصير المسلمين".
ستركز هذه المقالة على نماذج من شهادات العلماء والمفكرين الغربيين المنصفة، فنجد من هؤلاء مجموعة كبيرة قدموا شهادات منصفة، وقاموا أيضاً بخدمات جليلة للفكر الإسلامي، مثل سير توماس ارنولد (1864-1930) صاحب كتاب "الدعوة إلى الإسلام" و"الخلافة" و"العقيدة الإسلامية" و"التصوير في الإسلام".
فيقول في كتاب الدعوة إلى الإسلام:" إن حالات المجتمع المسيحي نفسه قد جعلت الجهود التي تنطوي على الغيرة والحماسة الدينية في اكتساب مسلمين جدد أشد أثراً وأعظم قيمة، فبعد تدهور الكنيسة الإغريقية نشأ استبداد في الأمور الدينية جعل الحياة العقلية ترزح تحت القرار الحاكم الذي حرم كل مناقشة في شؤون الأخلاق والدين.
ولكننا لم نسمع في ظل الإسلام عن أي محاولة مدبرة لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين المسيحي".
ولا يستطيع أي فرد أن يوضح الطابع العقلي للعقيدة الإسلامية أكثر مما وضحه البروفسور (مونتيه) (1856-1907) "الإسلام في جوهره دين عقلي، فتعريف الأسلوب العقلي بأنه طريقة تقييم العقائد الدينية على أسس من المبادئ المستمدة من العقل والمنطق ينطبق على الإسلام تمام الانطباق، وإن للإسلام كل العلامات التي تدل على أنه مجموعة من العقائد التي قامت على أساس المنطق والعقل، فقد حفظ القرآن منزلته من غير أن يطرأ عليه تغير أو تبديل باعتباره النقطة الأساسية التي تبدأ منها تعاليم هذه العقيدة، وكان من المتوقع لعقيدة محددة كل تحديد وخالية من التعقيدات الفلسفية، ثم في متناول إدراك الشخص العادي أن تمتلك- وإنها لتمتلك فعلا قوة عجيبة- لاكتساب طريقها إلى ضمائر الناس".
ويقول (سير توماس): إن الفكرة التي شاعت أن السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام بعيدة عن التصديق. إن نظرية العقيدة الإسلامية تلتزم التسامح وحرية الحياة الدينية لجميع أتباع الديانات الأخرى، وإن مجرد وجود عدد كبير جداً من الفرق والجماعات المسيحية في الأقطار التي ظلت قروناً في ظل الحكم الإسلامي لدليل ثابت على ذلك التسامح.
ومن الشهادات المنصفة شهادة العلامة"دافيد دى سانتيلا" الذي يقول: "إن المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يسم الجانب الأكبر من الشريعة الإسلامية قد عمل على تطوير وترقية مفاهيمنا العصرية، وهنا يكمن فضل هذه الشريعة الباقي على مر الدهور، فالشريعة الإسلامية ألغت القيود الصارمة والمحرمات المختلفة التي فرضتها اليهودية على أتباعها، ونسخت الرهبانية المسيحية، وأعلنت رغبتها الصادقة في مسايرة الطبيعة البشرية والنزول إلى مستواها، واستجابت إلى جميع حاجات الإنسان العملية في الحياة، تلك هي الميزات التي تسم الشريعة الإسلامية في كبد حقيقتها، قد نجرؤ على وضعها في أرفع مكان وتقليدها أجل مديح علماء القانون وهو خليق بها".(/1)
ويقول الباحث والمؤرخ الإنجليزي (مونتجو مرى وات) وشهادته ثمرة لدراسات الإسلام مقارناً بالديانات الأخرى استمرت ثلاثين عاماً: "إن القرآن الكريم ليس بأي حال من الأحوال كلام محمد ولا هو نتاج تفكيره، إنما هو كلام الله وحده، ولا ينبغي النظر إليه باعتباره نتاج عبقرية بشرية.
ومعظم المسيحيين يميلون إلى افتراض أن المسيحية ستكون هي دين العالم في المستقبل، ولكن هذا أبعد ما يكون عن الصحة، ولنذكر دليلاً واحداً، فبعض الأمم المسيحية الكبيرة تعاني بشدة من العنصرية، والدين الذي لا يستطيع أن يحل مشاكل العنصرية بين أعضائه من المستبعد أن يكون قادراً على تقديم حلول كثيرة مجدية لمشاكل العالم الأخرى".
ويقول المستشرق العلامة الألماني شاخت جوزيف: "من أهم ما أورثه الإسلام للعالم المتحضر قانونه الديني الذي يُسمى بالشريعة، وهي تختلف اختلافاً واضحاً عن جميع أشكال القانون، إنها قانون فريد، فالشريعة الإسلامية هي جملة الأوامر الإلهية التي تنظم حياة كل مسلم من جميع وجوهها، وبالرغم من أن التشريع الإسلامي قانون ديني فإنه من حيث الجوهر لا يعارض العقل بأي وجه من الوجوه، فالتشريع الإسلامي منهج عقلاني في فهم النصوص وتفسيرها، ويقدم مثالاً لظاهرة فريدة يقوم فيها العلم القانوني لا الدولة بدور المشرع، وتكون فيها لمؤلفات العلماء قوة القانون".
ويقول أبرز مؤرخي العلم العالمي جورج سارتون: "حادثه واحدة من أخصب الحوادث في نتائجها في تاريخ الإنسانية، ألا وهي ظهور الإسلام.
إن الفرق بين القرآن والإنجيل عظيم جداً وهو يرجع إلى أن القرآن الكريم يشتمل على جميع الأسس الضرورية للحياة الإسلامية (الدين والفقه والتشريع والتقويم واللغة).
والفتوح العربية لم تكن نتيجة صراع بين برابرة جياع وبين سكان مدن أخذوا يتقهقرون في سلم المدنية، بل كانت صراعاً بين دين جديد وثقافة جديدة ناشئة وبين ثقافات منحلة متعادية قلقة.
إن التقدم الصحيح ومعناه تحسين صحيح لأحوال الحياة لا يمكن أن يُبنى على وثنية الآلات، ولكن يجب أن يقوم على الدين وعلى الفن وفوق كل ذلك على العلم القائم على محبة الله ومحبة الحقيقة وحب الجمال وحب العدل، وإن المشكلة الأساسية في عالمنا اليوم هي رفع المستوى الروحي لمجموع الناس، وكان تفوق العرب في ثباتهم وفي شدة حبهم للعلم".
ويقول المستشرق الفرنسي (كارادى فو): "والسبب الآخر لاهتمامنا بعلم العرب هو تأثيره العظيم في الغرب، فالعرب ارتقوا بالحياة العقلية والدراسة العلمية إلى المقام الأسمى في الوقت الذي كان العالم المسيحي يناضل نضال المستميت للانعتاق من أحابيل البربرية وأغلالها، لقد كان لهؤلاء العلماء (العرب) عقول حرة مستطلعة"
ويقول المستشرق الأسباني جوان فيرفيه: "وإذا نحن تحرّينا الدقة نجد أن أصل التطور العلمي للرياضيات عند المسلمين يبدأ مع القران الكريم، وذلك فيما ورد في القرآن من الأحكام المعقدة في تقسيم الميراث، ويُعدّ الخوارزمي أول رياضي مسلم، ونحن مدينون له بمحاولة وضع تنظيم منهجي باللغة العربية لكل المعارف العلمية والتقويم، كما ندين له باللفظ الأسباني "غوارزمي" الذي يعني الترقيم (أي الأعداد ومنازلها والصفر)، وكان الجبر هو الميدان الثاني الذي عمل فيه الخوارزمي، وهو فرع من الرياضيات لم يكن حتى ذلك الوقت موضوعاً لأية دراسة منهجية جادة".
ويقول المستشرق الإنجليزي جب: "وثمة ما يبرر الادعاء القائل: إن الشعر العربي له الفضل إلى حد ما في قيام الشعر الجديد بأوروبا، وإن كنا لا نستطيع السير طول الطريق مع البروفسور "ماكيال" الذي يقول مؤكدا :"كانت أوروبا مدينة بدينها إلى اليهودية، وكذلك هي مدينة بأدبها الروائي إلى العرب، وقليلون هم الذي ينكرون أن الحياة والنشاط وسعة الخيال التي تطبع الآداب الجنوبية يعود إلى الوسط الثقافي العربي في الأندلس خلال العصور المتقدمة، والى الفكر الذي أنشأته تلك الحضارة لدى الإنسان الأندلسي".
ويقول المستشرق الروسي جرا بر: "إن العمارة الإسلامية نشأت بوصفها ظاهرة فريدة متميزة بذاتها انبثقت عن مجموع كبير معقد من الأشكال السابقة عليها أو المعاصرة لها، إنها مجرد مثل واحد لقدرة فريدة لدى المسلمين على تحويل عناصر شكلية أو وظيفية عديدة أخرى إلى شيء إسلامي، ومقدرة المسلمين الهائلة على تطويع الأشكال المستمدة من أقاليم عديدة مختلفة بحيث تلبي مقاصد الإسلام ومبادئه".(/2)
وتقول المستشرقة الألمانية (سيجر يد هونكه) صاحبة الكتاب المهم والشهير "شمس العرب تسطع على الغرب": " يعمل العرب على إنقاذ تراث اليونان من الضياع والنسيان فقط، وهو الفضل الوحيد الذي جرت العادة على الاعتراف به لهم حتى الآن، ولم يقوموا بمجرد عرضه وتنظيمه وتزويده بالمعارف الخاصة ومن ثم إيصاله إلى أوروبا بحيث إن عدداً لا يُحصى من الكتب التعليمية العربية حتى القرنين (16-17) قدمت للجامعات أفضل مادة معرفية، فقدا كانوا -وهذا أمر قلما يخطر على بال الأوروبيين- المؤسّسين للكيمياء والفيزياء التطبيقية والجبر والحساب بالمفهوم المعاصر، وعلم المثلثات الكروي، وعلم طبقات الأرض، وعلم الاجتماع، وعلم الكلام"
وتقول: "إن الإسلام أعظم ديانة على ظهر الأرض سماحة وإنصافاً نقولها بلا تحيز ودون أن نسمح للأحكام الظالمة أن تلطخه بالسواد، وإذا ما نحينا هذه المغالطات التاريخية الآثمة في حقه، والجهل به فإن علينا أن نتقبل هذا الشريك والصديق مع ضمان حقه في أن يكون كما هو".
هذه نماذج من أقوال المفكرين الغربيين اقتبستها مما جمعه الدكتور محمد عمارة في كتابه المهم، وقد يكون عرضها مفيداً للمشتغلين بالعلاقة بين الإسلام والغرب والمثقفين المسلمين ليكونوا على تواصل مع الحركة العالمية القائمة اليوم في الاهتمام بالإسلام والمسلمين سواء على نحو عدائي أو لأجل الحوار(/3)
الرِّبا بين النهج الرباني والنهج العلماني
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
...
من أكثر القضايا التي تعددت فيها الفتاوى في واقعنا المعاصر هي قضيّة الربا. والرّبا أشدّ ما حرّمه الإسلام نصّاً في القرآن الكريم وفي الأحاديث الشريفة. فلا يحقّ أن يقف المسلم من هذه القضيّة ومن الفتاوى التي صدرت لها موقف الحائر التائه، إلا إذا غلبه الجهل بالكتاب والسنّة، وضعف الإيمان وغلب الهوى !
ولقد رافق اضطراب التصوّر لهذه القضية اضطراب التصوّر لقضايا أخرى كثيرة في واقع المسلمين اليوم. ولقد كشف عن هذا تعدُّد الفتاوى والآراء، وتعدُّد الأسس التي يَعتمد عليها هذا الرأي أو ذاك، واشتراك مستويات متعدِّدة في إصدار الرأي.
ومما ساعد على ذلك الاضطراب والتعدُّدِ أنّ الواقع لم يعد يَفرض على كل صاحب رأي أن يُتْبِع رأيه بالحجّة والبيّنة من الكتاب والسنّة دون أي تأويل فاسد، ومن الواقع الذي يُفْهَم من خلال الكتاب والسنة. لذلك أصبح من السهل إطلاق الآراء متفلّتة من هنا أو هناك، ما دامت الحجة والبيّنة غير مطلوبة، وما دام الرأي يقاس بالهوى والرغبة أحياناً، وبالتصوّر البشري للمصلحة، وبضغط الواقع.
لقد أصبح تارك الصلاة حرّاً، وتارك الصوم حرّاً، وترى بعض النساء في كثير من الأقطار في العالم يخرجن كما يشاء لهنّ الهوى دون حشمة في اللباس، مع تبرّج وكشف للزينة، وإثارة للشهوات. وأصبح بعض الرجال المنتسبين إلى الإسلام يشربون الخمر جهاراً دونما حرج في حماية القانون.
خلاصة ذلك أن حدود الإسلام أصبحت تُنْتهك بصورة علنية، وأنَّ الفسق أصبح يُجْهَر به من الرجل والمرأة سَواءً بسواءٍ.
نظرة عاجلة في العالم الإسلامي تكشف لنا كيف أنّ عُرا الإسلام قد نُقضت عروةً فعروة، كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فعن أبي أمامة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( لتُنقَضَنَّ عُرا الإسلام عُرْوةً عُرْوةً، فكلّما انتقضت عُرْوةً تشبّث النَّاس بالتي تليها، فأولهنّ نقضاً الحكم وآخرهنّ الصلاة ) [ رواه أحمد وابن حبان والحاكم ](1)
في هذه الأجواء، حيث امتدت الديمقراطية والعلمانية بنظامها الرأسمالي، وحيث سيطر النظام الرأسمالي الربوي على معظم أنحاء العالم، أو جميعه، تُدعمه القوى العسكرية والإعلامية والفكرية العلمانية، وتدعمه حركات التنصير التي كانت في كثير من الأحيان ممهدة للزحف العسكري المعتدي، وتدعمه الشركات التجارية التي تجعل نشاطها كذلك ممهداً للغزو الإجرامي الظالم، وتدعمه القوى اليهودية ومؤسساتها، في هذه الأجواء صدرت الفتاوى المتعددة المتضاربة حول البنوك وعملها، وحول الفائدة الربوية وحكمها، وحول كلّ ما يتعلّق بذلك من قضايا.
لا نشكّ لحظة في أنّ " اليهود " كانوا من بين أهم القوى التي ساهمت في بناء النظام الاقتصادي الرأسمالي الربوي، كما كانوا هم بناة النظام الربوي في التعامل الاقتصادي في الجزيرة العربية قبل أن يلغي الإسلام هذا النظام كلّه ويُحرّمه تحريماً شديداً.
ولقد بدأ النهي عن الربا والتحريم في العهد المكّي بقوله سبحانه وتعالى :
( وما أتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون )
[ الروم : 39]
ثمّ أخذ بعد ذلك يسيطر على النشاط الاقتصادي الذي حلّ بكلّ مقوّماته في التعامل الاقتصادي بين المسلمين محلّ النظام الربوي اليهودي حتى إذا استقرّ الحكم للإسلام، وأصبحت كلمة الله هي العليا، وشرع الله هو الأعلى، أكّد رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حجّة الوداع حرمة الربا في خطبته في عرفة بعد أن زالت الشمس وأتى بطن الوادي، وقد اجتمع حوله أكثر من مئة وأربعة وعشرون ألفاً من الناس، فقام فيهم خطيباً، فقال في جملة ما قال :
( …إنّ دمائكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كلُّ شيء من أمر الجاهليّة تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ـ وكان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل ـ وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنّه موضوع كله …..)(2)
إذاً، كان هناك نهجٌ وخطة يدفَعُها الإسلام ويبنيها الإيمان في رعاية الوحي المتنزّل من السماء على النبوة الخاتمة. لقد كان هناك نهج رباني أُنزل ليمتدّ مع الزمن، وليمتدّ في الأرض، لا ليتوقف أو يتراجع.
أنزل الله هذه الرسالة رسالة كاملة، اكتملت مع حجة الوداع، لتحملها أمة الإسلام أمانة في عنقها حتى قيام الساعة، لتطبّقها كلّها لا جزءً منها. لتُحِلّ الحلال وتُحرّم الحرام وتقيم شرع الله في جميع شؤون الحياة.
وجاء تحريم الربا في الكتاب والسنة تحريماً قاطعاً، أشدّ ما في الإسلام من تحريم، جاء تحريماً بيّناً جليّاً حتى ييسّر الله لعباده اجتناب الحرام.(/1)
وجاءت أحكام الإسلام ونصوصها تحيط بأفعال العباد في كلّ عصر وكلّ مكان إلى أن تقوم الساعة، وتوفّر البيان للمؤمن التقي لكل عمل يقوم به ليظل عارفاً بما أحلّ الله له وما حرّم عليه.
وما كان الله ليترك عباده في حَيْرة من أمرهم، لا يدرون ما هو الحلال وما هو الحرام، ومصير الإنسان مع الحرام إلى النار، إلى جهنم ! فالله أرحم بعباده من أن لا يبين لهم.واستمع إلى قوله سبحانه وتعالى :
( …. ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين )
[ النحل : 89]
وكذلك في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( إنَّ الحلال بيّن وإنّ الحرام بيّن وبينهما أمورٌ مشتبهات لا يعلمهنّ كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالرّاعي يرعى حول الحِمى يوشك أن يرتع فيه. ألا وإنّ لكلّ ملك حِمى ألا وإنّ حِمى الله محارمه، ألا وإنّ في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه. ألا وهي القلب )
[ رواه الشيخان ]
إنَّ التكاليف الربَّانية التي هي شأن كلّ مسلم جاء بيانها وافياً لكل من صدق إيمانه وأتقن اللغة العربية، وذلك واجب على كلّ مسلم، ولا عذر لمسلم إذا تخلّف عن الوفاء بطلب العلم من الكتاب والسنّة كما جاءا باللغة العربية، ورضي بالبقاء على جهله.
فعن أنس وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( طلب العلم فريضة على كلّ مسلم )
[ أخرجه الطبراني وغيره [(3)
ولقد يسّر الله برحمته القرآن الكريم للذكر، للتلاوة والتدبّر والعمل به : ( ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر )
[ القمر : 17]
"فالربا " كما جاء تحريمه في القرآن والسنّة، لا بدّ أن يكون واضحاً جليّاً لكلّ مسلم حتى لا يقع أحد في أمر حرام ولا في شبهة. فأمر " الربا " متعلّق بكلّ مسلم وليس يطبقه خاصة من المسلمين.
والحلال والحرام لا يُبيَّن إلا من عند الله ورسوله، وليس لأحد أن يحرِّم أو يُحلِّل دون نصّ من الكتاب والسنّة، أو اجتهاد قائم على نصّ واضح. وأمر ذلك عظيم، فالناس ستقف للحساب يوم القيامة، ثمّ إلى جنّة أو نار، فلا يُعقل أبداً أن يترك الله سبحانه وتعالى أي أمر يقود إلى النار إلا بيّنه، فإذا التبس الأمر على أحد فهو نتيجة خلل عنده وليس في منهاج الله، وعليه أن ينهض ليعالج الخلل عنده، كجهله باللغة العربية وعدم طلبه العلم من الكتاب والسنة، أو غلبه الهوى والشهوات في نفسه، وخضوعه لضغط الواقع، فيؤوّل ويُفسد في التأويل :
( ….فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد )
[ ق : 45]
والرّبا المحرّم في الإسلام هو كلّ ربا كان معروفاً لدى المسلمين، أو لم يكن معروفاً، ما دامت عِلّة الربا متحقِّقة فيه، إلى يوم القيامة. ذلك لأنّ نصوص الأحكام تحيط بجميع أفعال العباد إلى يوم القيامة في أي مكان رحمة منه سبحانه وتعالى بعباده.
فإذا كان الناس في جاهلية ابتدعوا نوعاً من التعامل المحرّم، أو تعلّموه من اليهود، فإنَّ الناس يمكن لهم في كلّ زمن أن يستحدثوا من وسائل التعامل بالمال والبيع ما فيه حرام وظلم، وبصورة خاصة عندما تُسْتحدث هذه الوسائل والأبواب في مجتمعات لا تلتزم بأحكام الإيمان وتشريع الإسلام، فيغلب عليها الظلم والعدوان واستغلال القوي للضعيف، والخداع والغش وغير ذلك، حيث يسود قانون بشريٌ لا يمكن له أن يرعى مصالح العباد كما يرعاها التشريع الرباني، مهما حمل من وسائل الزخرف والإغراء.
وعِلّة تحريم الربا هي الظلم واستغلال حاجة الضعيف للقوي، والفقير للغني، وبصورة عامة، "هي أكل أموال الناس بالباطل ".
ليست القضية قضيّة عقلية فقط، فالعقل البشري وحده لا يستطيع أن يكشف جميع أنواع الباطل وأساليبه الشيطانية، إلا أن يكون شرع الله هو الذي يهدي العقل وينير له الطريق، ولا يستطيع العقل وحده أن يدرك جميع حقائق الحكمة الربانية البالغة في تشريعه، وقد يدرك بعضها.
فالنظام الرأسمالي والفكر العلماني لا يمكن أن ينشأ منهما عدل حقّ ينبثق من أجواء الفاحشة بكلّ أنواعها، وأجواء العدوان والغزو وسرقة ثروات الشعوب. حتى العقل البشري سيضلُّ عن الصراط المستقيم حين تدفعه وتوجهه العلمانية ومذاهبها والرأسمالية وطغيانها والشهوات والنزوات وصراع المصالح المادّية الدنيوية، وضغوط ذلك كلّه.
إنَّ بعض المسلمين الذين أخذوا يُؤوّلون بعض ما حرّم الله في نُصوص ثابتة، إنما تأثّروا بهذا الجوّ الصاخب من الديمقراطية والعلمانية، حتى أصبح كثير منهم يتحاكمون إلى عقولهم وحدها، بعيداً عن نور الإيمان والتوحيد، وعن نصوص التشريع الربّاني، تؤثّر فيهم زخارف العلمانية وضغطها الكبير، وقد يلوون الآيات والأحاديث عن معناها الحقّ، أو يؤولونها تأويل هوى.(/2)
و"الضرورة " لها ضوابط وأحكام، فلا يجوز أن نغيّر أحكام الإسلام كلما وجدنا صعوبة في الواقع أو ضغطاً منه، ثمّ نُسمي ذلك " فقه الواقع ". فلا يوجد شيء اسمه " فقه الواقع "، لأن الفقه كلّه للواقع، والواقع كلّه ركن من أركان القفه. يمكن أن نقول " فقه الاقتصاد "، أو " فقه السياسة ". فالفقه له ثلاثة أركان: صفاء الإيمان والتوحيد، وصدق العلم بمنهاج الله، ووعي الواقع من خلاله لا من خلال هوى.
لقد طوّر المجرمون في الأرض جميع أسباب الفتنة والفساد في الأرض، وسخّروا العلم لذلك كلّه، فقد تعددت ألوان الفاحشة وألوان الإغراء لها، وقد تطوّرت وسائل الظلم والعدوان، وسُخّر العلم لذلك، فلا عجب إذا طوّر المجرمون في الأرض وسائل أكل المال بالباطل، وأشكال الربا، واستحدثوا منها ما لم يكن متوافراً سابقاً، ولكنّ منهاج الله بنصوصه المطلقة الثابتة هو حقٌّ مطلق يحيط بأحوال العباد وأفعالهم في كل زمان ومكان. وإن بدا قصور فهو في جهد الإنسان وضعفه وليس في منهاج الله. لذلك جاء منهاج الله حقّاً مطلقاً للعصور كلّها وللبشرية كلها، وهذا وجه من وجوه إعجازه لا يبلُغه أيّ منهج بشري. عندما ندرس الواقع اليوم، وما قد يفرضه من ضرورة أو حاجة، فلا ندرس جزءً من الواقع ونغفل أجزاءً وأجزاءً ! فالمسلم الذي يرمي نفسه في أجواء الضرورة تحت هذا العذر أو ذاك، ولم يكن قد استفتى الإسلام حين رمى بنفسه في أجواء الضرورة أو الفتنة، حتى إذا عرضت له حاجة لا تتمّ له إلا بارتكاب الحرام، تذكر عندئذ الإسلام وأخذ يبرز حكم الضرورة والحاجة. وربما يكون ما يدّعيه بعضهم من حاجة وضرورة شرعية هو رغبة أكثر منها حاجة وضرورة، أو حاجة لتحسين مستواه يسميها ضرورة شرعية.
إنَّ ممارسة الحرام لا تجعله حلالاً، ولو كان تحت الضرورة. فالضرورة يجب أن تكون حالة غير مستديمة في أغلب الحالات، والتحريم مستديم.
والضرورة تكون لفرد أو أفراد، أمّا أنْ تكون للمسلمين جميعاً أو لقطاع واسع منهم، فتلك ضرورة تحتاج إلى وقفة طويلة، ودراسة واسعة أمينة لمعرفة سبب نشوئها وحقيقة حكمها.
فإذا كانت الحاجة والضرورة ناتجةً عن هوان المسلمين وعدم وفائهم بعهدهم مع الله، ولا بالأمانة التي يحملونها، أو ناتجة عن تقصير أدّى إلى تقصير، وتنازل أدّى إلى تنازل، حتى غلب الهوان على المسلمين، وخضعوا مستسلمين لغير شرع الله، وابتلاهم الله بما كسبت أيديهم، فتفرَّقوا ورضوا بالفرقة التي حرّمها الإسلام، وتمزّقوا ورضوا كذلك بالتمزيق، وتصارعوا وقد نهاهم الله عن ذلك، فَفُتِحَت القلوب والديار لأعداء الله الذين فرضوا شرعاً غير شرع الله، أنأتي بعد ذلك كلّه لِنُفتي لمن اضطرّته هذه التنازلات إلى ارتكاب ما يخالف الإسلام بجواز المخالفة، وندع المخالفة الأكبر والانحراف الأشدّ دون فتوى ؟! كيف يعقل هذا ؟!
لا يحلُّ لنا أن نلقي بهواننا وعجزنا وتقصيرنا وتفريطنا في أهمّ التكاليف الربَّانية على دين الله، ولا يحلّ لنا مع هذا كلّه أن نفتي لمن قنع واستسلم ورضي بحكم غير حكم الله في ألف قضيّة هامة وخطيرة، بجواز مخالفة هذه أو تلك تحت ادعاء ضرورة هو صنعها، أو صنعتها أمته وأهله.
إنَّ مفهوم الضرورة في الإسلام كان يحمل معناه والأمة المسلمة عزيزة قوية، ناهضة بمسؤولياتها. أما اليوم فللقضيّة كلّها صورة أوسع. وأول ما ندعو إليه أن ينهض المسلمون كلٌّ إلى مسؤولياته يطلب الآخرة يؤثرها على الدنيا. وأول هذه المسؤوليات الشرعية أن ينهض كل مسلم إلى الوفاء بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالآيات الكثيرة في كتاب الله، مما يفرض على كل مسلم أن يعرف دينه، وأن يعرف المسؤوليات التي سيحاسبه الله عليها والتي تقوم على الشهادتين والشعائر، التكاليف الربانية التي تنهض على الأركان الخمسة والتي تبني عليها. ومن أين يعرف المسلم هذه التكاليف الربانية إلا من منهاج الله. ونعيد ونذكّر بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سبق ذكره :
( طلب العلم فريضة على كلّ مسلم )
ما بال بعض المسلمين اليوم يسألون عن الفتوى في حاجة عرضت لهم، ولا يسألون الفتوى فيما هم فيه من تقصير وعجز ومخالفة وهوان. ومن الذي عليه واجب إيقاظ المنتسبين إلى الإسلام بمسؤولياتهم الفرديّة والتكاليف الربانية ؟!
فإذا رضي هذا وذاك قرناً أو قرنين أو قروناً بمخالفة الإسلام والتنازل عن شرعه وأحكامه، أفيأتون ليستفتوا في حاجة عرضت، جاهلين حاجات أخرى ومسؤوليات أخرى.
أما من وجد أنه أوفى بعهده مع الله، وبالتكاليف الربَّانية، واستوعب ذلك جهده وعلمه وطاقته وأمانته، فنقول إن حسابه وحسابنا كلّنا عند الله سبحانه وتعالى.
لذلك لا بدّ من تناول قضايا واقع المسلمين اليوم ـ نتناولها واحدة واحدة حسب أهميتها في ميزان الله، لتُدْرس ويوضَع لها العلاج النابع من الكتاب والسنة، على صورة منهجيّة تجتمع عليها الأمة صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص.(/3)
ولا أجد في واقع المسلمين اليوم إثماً ولا معصيّة أشدّ من تفرِّق المسلمين بما كسبت أيديهم.
من خلال ذلك كلّه، لا بدّ أن يتحمّل المسلم نفسه مسؤولية الضرورة التي تدفعه إلى إثم أو معصية، وأن يتخذ هو قراره بنفسه دون أن تصدر فتوى عامة للمسلمين تبيح ارتكاب ما حرّم الله فيتحمّل واحدٌ آثام الجميع. ومن وجد أنه لا يستطيع أن يُفتي لنفسه فليسأل من هو أعلم منه، على أن ينهض فوراً إلى مسؤولياته الفرديّة والتكاليف الربانية المنوطة به، وإن مثل هذا النهوض هو أول الخطوات لمعالجة هذه الأمراض، وعسى أن يغفر الله به لعباده المؤمنين الذين التقوا صفاً واحداً يجاهدون في سبيل الله على نهج وخطة.
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته : رقم (5057).
(2) الرحيق المختوم : صفي الرحمن المباركفوري ـ ص: 421. وسائر كتب السيرة.
(3) صحيح الجامع الصغير وزيادته : رقم : ( 3913).(/4)
الرِّدة بين الصراع الحضاري وُسنَّة التدافع
المرتد الأفغاني.. ساندته الدول النصرانية الكبرى في العالم بما أمريكا وإيطاليا وألمانيا
أثار حادث الردة للمواطن الأفغاني الطبيب " عبد الرحمن " ضجة في الأوساط الإسلامية - بعد أن تبين أنه قد تنصر أثناء عمله لصالح جماعة إغاثة للاجئين الأفغان في باكستان قبل 15 عاما- أحدثت الردة والتعامل الغربي معها ضجة في الوسط الإسلامي، ليعود الحديث حول علاقتنا بالغرب ومحاولة فهم وجهة نظر الغرب إلى قضايانا .
أولاً : حادث الردة يبين مدى خطورة جمعيات الإغاثة الغربية التي تعمل في المناطق الإسلامية، ويُظهر بوضوح أن التنصير هو الهدف الحقيقي لهذه الجمعيات وليس الإغاثة، كما ٌيظهر الخطر الكبير الذي يتعرض له المسلمون اللاجئون الذين تعمل بينهم هذه الجمعيات بعد أن تم التضييق على عمل جمعيات الإغاثة الإسلامية من قبل الأنظمة الحاكمة بدعوى محاصرة الإرهاب.
ثانياً : فضحت حادثة الردة للمواطن الأفغاني السلوك الغربي عموما تجاه القيم التى يدعو إليها من المساواة والحرية واحترام القانون، فقد مارس عدد من الدول الغربية ضغطا على أفغانستان وعلى رأسها الولايات المتحدة بعد أن تعهد الرئيس بوش باستخدام نفوذ بلاده على أفغانستان لضمان "حق عبد الرحمن في اختيار دينه"، كما وأعربت عدة دول تنشر قوات في أفغانستان، من بينها كندا وإيطاليا وألمانيا وأستراليا، عن قلقها بشأن هذه القضية، وكانت وكالة الأنباء الإيطالية قد ذكرت السبت 25-3-2006 أن "بابا الفاتيكان وجه رسالة إلى الرئيس الأفغاني عبر وزير خارجيته الكاردينال أنجيلو سودانو تدعو إلى احترام حقوق الإنسان ". إن هذا الضغط على الحكومة الأفغانية كان السبب المباشر وراء الإفراج عن المرتد "عبد الرحمن " رغم أن الدستور الأفغاني الجديد الذي رعته الولاايات المتحدة ونال رضاها ينص على عقوبة الإعدام جزاء جريمة الارتداد عن الدين الإسلامي.
ثالثاً : فتحت كل الدول الغربية أذرعها ليعيش على ثراها وتحت رعايتها المرتد الأفغاني حيث صرح رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو بيرلسكوني ان "المرتد الأفغاني" الذي اعتنق المسيحية وصل الى روما الأربعاء 29-3-2006 بعد ان منحته الحكومة الايطالية اللجوء السياسي
رابعاً : يبدو هذا الترحيب الذي لقيه المرتد منطقيا ومتوافقاً مع القيم الغربية " فقط " في حالة الارتداد عن الإسلام كشرط للجوء والعيش هناك، أما إذا لجأ إليهم مهاجر فقير متمسك بدينه، حينئذٍ تبدو القيم الحقيقية للغرب وسأضرب هنا مثلا بالمهاجرين دليلا على ما أقول : فحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة، فإن أسبانيا تحتاج إلى 12 مليون مهاجر بحلول سنة 2050، وبمتوسط 240 ألف مهاجر سنويا لكي تحافظ على معدلات نموها الاقتصادي الحالي، رغم ذلك فقد جاء في تقارير لجمعيات ومنظمات حقوقية: إن أكثر من 10 آلاف شخص لقوا حتفهم غرقا في مضيق جبل طارق أثناء محاولاتهم الهجرة إلى أوربا عبر القوارب خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية فقط، كما أن وزير الداخلية الفرنسي نيكولا ساركوزي قد صرح الجمعة 9-9-2005 أنه تم طرد نحو 13 ألف أجنبي في وضع غير شرعي من فرنسا خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2005، داعيا إلى تسريع عمليات الطرد.
خامساً : حتى نفهم العلاقة مع الغرب لابد أن ننظر في موضوع الصراع بين الحضارات الذي هو موضوع غربي بامتياز حيث يعود إلى العصر اليوناني والروماني اللذين سادت فيهما مفاهيم الصراع بدلالاتها المتعددة ومعانيها المتنوعة، انطلاقاً مما كان يعرف في الفكر اليوناني القديم من عقيدة " صراع الآلهة " و" صراع القوة والضعف " و" صراع الخير والشر "، و" صراع الإنسان مع الطبيعة " و" صراع الإنسان مع الآلهة "، كما لا يخلو " العهد القديم " من روح الصراع هذه، فالصراع إذن أسٌّ من الأسس الثابتة التي قامت عليها الحضارة الغربية، وإذا تأملنا اليوم الوضع الدولي العام، وجدنا أن نظام العولمة الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وتسعى إلى فرضه على العالم عبر مجموعة من التدابير والأنظمة يُراد تطويعُها وصبّها في قالب دولي للدفع بنظام العولمة إلى اكتساح المواقع وفرض الوجود على العالم كلّه، وجدنا هذا النظام تعبيراً عن فكرة الصراع وانعكاساً لروحها، كما أن الحرب على الإرهاب وفق المنظور الأمريكي، تحولت هي الأخرى إلى حرب من أجل الهيمنة والتسلّط، وفرض المفهوم الأمريكي لصراع الحضارات بالقوة.
سادسا : رغم أن الغرب هو الذي أنشأ ورعى ويصدر مفهوم الصراع الحضاري إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه: هل هذا المفهوم حتمي الحدوث؟ كما بشر بذلك صامويل هنتنغتون في كتابه الشهير "صدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي"، الذي صدر في عام 1996م وفرانسيس فوكوياما الذي أصدر كتابه الشهير أيضاً "نهاية التاريخ"؟(/1)
الإجابة هنا هي النفي المطلق، ومن هنا يأتي دورنا كمسلمين في تعميق مفهوم "التدافع الحضاري" كسنة ربانية بديلا عن مفهوم الصراع الغربي، وليس يعني ذلك أن الحياة ستسير وفق خط بياني صاعد ومطّرد تتحقق فيه المصالح والمنافع للناس كافة في جميع الأحوال وتترقى ذواتهم، وأن الخير والشر لا يتصادمان، وإنما القصد من ذلك أن التدافع يُبطل الصراع، وأن الخير يغلب على الشر، وأن الحضارات تَتَواصَلُ وتَتَلاقَحُ وتَتَدافَعُ، وأن قيم الخير والعدل والفضيلة ومكارم الأخلاق والسلام في النفس وفي الأرض هي مقوّمات الحضارة التي تخدم الإنسان، وأن الحق والعدل هما قاعدتا الحضارة التي يسعد الإنسان في كنفها ويُبدع ويعمّر الأرض ويصلح ولا يفسد، فإن الصراع حالةٌ عارضةٌ، وهو شذوذٌ عن القاعدة، وليس طبيعةً من طبائع الحضارات، لأنه يَتَنافَى والفطرة الإنسانية، وهو نقيضُ " التدافع الحضاري " الذي قامت الحضارة الإسلامية على أساسه، وهو إلى ذلك كلِّه، البديلُ الموضوعيُّ للفوضى التي تسود الأوساط الفكرية والسياسية في العالم اليوم، من جرّاء شيوع مفاهيم مغلوطة ورؤى مشوّشة وتحليلات مغرضة تدفع بحركة الفكر العالمي وبالسياسة الدولية على وجه العموم، نحو مناطق مجهولةٍ محفوفةٍ بالمخاطر التي تتهدَّد الإنسانية في حاضرها وفي مستقبلها.
سابعاً : وإن كان هذا الأفغاني قد أعلن ردته فإن المشكلة تكمن فيمن هم على شاكلته ولكنهم لايعلنون ردتهم ليظلوا شوكة في خاصرة المجتمعات المسلمة، كذلك لن يستطيع الغرب أن يجرنا إلى مفهومه لصراع الحضارات ولكننا سنظل أوفياء لقيمنا وسندعوهم " للتدافع الحضاري " و" التفاعل الحضاري ".
وأخيرا : فإنني أهدي الغرب هذه الوثيقة التاريخية مثالا على تطبيقنا لمبادئنا التي عشنا لها وسنموت من أجلها، " من جورج الثاني ملك انجلترا والسويد والنرويج إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام .. بعد التعظيم والتوقير نفيدكم أننا سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة .. فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم، لنشر ربوع العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة، وقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة " دوبانت " على رأس بعثة من بنات الأشراف الانجليز لتتشرف بلثم أهداب العرش والتماس العطف، لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وقد زودت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل ... أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص .." من خادمكم المطيع / جورج الثاني".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصريون: صبري السيد (بتصرف يسير)(/2)
الزائر الأخير
خالد أبو صالح
دار الوطن
الحمد لله الذي خلق آدم من تراب، والصلاة والسلام على من أنار الله به البصائر والألباب، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واتبع هداه إلى يوم الموعد والمآب... و بعد:
أخي الحبيب: هل تعلم من هو الزائر الأخير؟ وهل تعلم ماذا يريد من زيارتك ولقائك؟ وأي شيء يطلب منك؟
إنه لم يأت طمعاً في شيء من مالك.. أو لمشاركتك طعامك وشرابك.. أو للاستعانة بك على قضاء دين.. أو شفاعة لدى أحد.. أو تمرير معاملة عجز عنها.
لقد جاء هذا الزائر إليك في مهمة محدودة وقضية معينة.. لا تستطيع أنت ولا أهلك وعشيرتك، بل ولا أهل الأرض جميعاً أن يردوه دون إنجازها وتحقيقها.
ثم إنك وإن سكنت القصور العالية، وتحصنت بالحصون المنيعة والبروج المشيدة.. وتمتعت بالحراس والحجاب، لا تستطيع منعه من الدخول إليك، والاجتماع بك، وتصفية حسابه معك!!
إنه لا يحتاج - كي يدخل عليك - إلى أبواب أو استئذان ولا إلى أخذ موعد مسبق قبل المجيء والإتيان، بل يأتي إليك في أي وقت وعلى أي حال؛ حال شغلك أو فراغك.. صحتك أو مرضك.. غناك أو فقرك.. سفرك أو إقامتك.
وهذا الزائر - أخي الحبيب - ليس له قلب يرق بحيث تؤثر فيه كلماتك وبكاؤك، أو ربما صراخك وتوسلاتك، وليس في مقدوره أن يمهلك مهلة تراجع فيها حساباتك، وتنظر في أمرك!!
وهو كذلك لا يقبل هدية ولا رشوة، لأن أموال الدنيا كلها لا تساوي عنده شيئاً، ولا ترده عما جاء من أجله.
إنه يريدك أنت.. لا شيء غيرك.. يريدك كلك لا بعضك.. يريد إفناءك والقضاء عليك.. يريد مصرعك وقبض روحك.. وإهلاك نفسك.. وإماتة بدنك.
إنه ملك موت!!
قال تعالى: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون [السجدة:11]. وقال تعالى: حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون [الأنعام:61].
قطار العمر
أخي الحبيب: ألا تعلم أن زيارة ملك الموت شيء محتوم، وقدر سابق معلوم، مهما طال بك العمر أو قصر؟
ألا تعلم أننا جميعاً مسافرون في هذه الدار.. ويوشك المسافر أن يصل إلى غايته ويحط رحله؟
ألا تعلم أن دورة الحياة أوشكت على التوقف.. وأن قطار العمر قد قرب من مرحلته الأخيرة؟
سمع بعض الصالحين بكاء على ميت فقال: يا عجباً من قوم مسافرين يبكون على مسافر قد بلغ منزله!!
أخي:
ما زلت مذ صورت في سفر *** وستنقغمي وسينقضي السفر!
ماذا تقول وأنت في غصص *** ماذا تقول وأنت تحتضر؟
ماذا تقول وقد وضعت على *** ظهر السرير وأنت تبتدر؟
ماذا تقول وأنت في جدث *** ماذا تقول وفوقك المدر؟
ماذا تقول وقد لحقت بما *** يجري عليه الريح والمطر؟
أعيذك - أخي الحبيب - أن تكون من الذين: إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم [محمد:27]، أو من: الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون، فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين [النحل:28-29].
أخي الحبيب: أما تعلم أن بزيارة ملك الموت لك ينتهي عمرك، وينقطع عملك، وتطوى صحائف أعمالك؟
أما تعلم أنك لا تستطيع بعد زيارته اكتساب حسنة واحدة.. لا تستطيع صلاة ركعتين.. لا تستطيع قراءة آية واحدة من كتاب الله.. لا تستطيع التسبيح أو التحميد أو التهليل أو التكبير أو الاستغفار ولو مرة واحدة.. لا تستطيع صيام يوم أو التصدق بشيء ولو كان يسيرا.. لا تستطيع الحج أو الاعتمار.. ولا بذل معروف بسيط للقريب أو الجار.. فقد مضى زمن العمل، وبقي الحساب والمجازاة على الإحسان والزلل حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربي ارجعون، لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون [المؤمنون:99-100].
فيا أخي: أين استعدادك للقاء ملك الموت؟.. أين استعدادك لما بعده من أهوال.. في القبر.. وعند السؤال.. وعند الحشر.. والنشر.. والحساب.. والميزان.. وعند تطاير الصحف.. والمرور على الصراط.. والوقوف بين يدي الجبار جل وعلا؟!.
عن عدي بن حاتم قال: قال النبي :
{ ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة } [متفق عليه].
أخي:
إلى كم ذا التراخي والتمادي *** وحادي الموت بالأرواخ حادي
فلو كنا جمادا لا تعظنا *** ولكنا أشد من الجماد
تنادينا المنية كل وقت *** وما نصغي إلى قول المنادى
وأنفاس النفوس إلى انتقاص *** ولكن الذنوب إلى ازدياد
إذا ما الزرع قارنه اصفرار *** فلس دواؤه غير الحصاد
الزائر الأخير(/1)
ذكر الإمام ابن القيم في كتابه "عدة الصابرين" عن يزيد بن ميسرة قال: كان رجل ممن مضى جمع مالاً فأوعى، ثم أقبل على نفسه وهو في أهله فقال: أنعم سنين!! فأتاه ملك الموت فقرع الباب في صورة مسكين، فخرجوا إليه فقال: ادعوا لي صاحب الدار. فقالوا: يخرج سيدنا إلى مثلك؟! ثم مكث قليلاً. ثم عاد فقرع الباب وصنع مثل ذلك وقال: أخبروه أني ملك الموت. فلما سمع سيدهم قعد فزعاً، وقال: لينوا له الكلام. قالوا: ما تريد غير سيدنا بارك الله فيك؟ قال: لا. فدخل عليه فقال: قم فأوص ما كنت موصياً فإني قابض نفسك قبل أن أخرج. قال: فصرخ أهله وبكوا. ثم قال: افتحوا الصناديق، وافتحوا أوعية المال. ففتحوها جميعا، فأقبل على المال يلعنه ويسبه يقول: لعنت من مال، أنت الذي أنسيتني ربي، وشغلتني عن العمل لآخرتي حتى بلغني أجلي.
فتكلم المال فقال: لا تسبني! ألم تكن وضيعاً في أعين الناس فرفعتك؟ ألم ير عليك من أثري؟ أما كنت تحضر مجالس الملوك والسادة فتدخل، ويحضر عباد الله الصالحون فلا يدخلون؟ ألم تكن تخطب بنات الملوك والسادة فتنكح، ويخطب عباد الله الصالحون فلا ينكحون؟ ألم تكن تنفقني في سبيل الخبث فلا أتعاصى؟ ولو أنفقتني في سبيل الله لم أتعاص عليك.. أنت ألوم مني، إنما خلقت أنا وأنتم يا بني آدم من تراب، فمنطلق ببر، ومنطلق بإثم.. هكذا يقول المال فاحذروا.
فيا أخي الحبيب: حاسب نفسك في خلوتك، وتفكر في سرعة انقراض مدتك، واعمل بجد واجتهاد في زمان فراغك لوقت حاجتك وشدتك، وتدبر قبل الفعل ما يملى في صحيفتك، فأين الذي جمعته من الأموال؟ أأنقذك من البلى والأهوال؟ كلا بل تتركه إلى من لا يحمدك، وتقدم بأوزار على من لا يعذرك.
فلا تكن أخي ممن قيل فيه:
ومنتظرللموت في كل لحظة *** يشيد ويبني دائماً ويحصن
له حين تبلوه حقيقة موقن *** وأعماله أعمال من ليس يوقن
عيان كإنكار وكالجهل علمه *** بمذهبه في كل ما يتيقن
كيف نستقبل الزائر الأخير؟
إخي الحبيب: ويستقبل الزائر الأخير:
1- بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
2- بالمحافطة على الصلوات الخمس في أوقاتها في المساجد جماعة مع المسلمين مع تحري الخشوع فيها والتفكير في معانيها، وصلاة المرأة في بيتها أفضل.
3- بإخراج الزكاة المفروضة في أوقاتها وحسب مقاديرها وصفاتها الشرعية.
4- بصوم رمضان إيماناً واحتساباً.
5- بالحج المبرور فإنه ليس له ثواب إلا الجنة، وعمرة في رمضان تعدل حجة مع النبي .
6- بأداء النوافل وهي ما زاد على الفرائض من الصلوات والزكوات والصيام والحج، قال تعالى في الحديث القدسي: { ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه }.
7- بالمبادرة إلى التوبة النصوح من كل المعاصي والمنكرات، وبعقد العزم على تعمير الأوقات بكثرة الاستغفار والذكر وأنواع الطاعات.
8- بالإخلاص لله تعالى وترك الرياء في كل أمر كما قال لسبحانه: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الذين حنفاء [البينة:5].
9- بحب الله ورسوله ، ولا يتم ذلك إلا باتباع النبي محمد كما قال سبحانه: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم [آل عمران:31].
10- بالحب في الله والبغض في الله، والموالاة في الله والمعاداة في الله، وهذا يقتضي محبة المؤمنين وإن بعدوا، وبغض الكافرين وإن قربوا.
وكل محبة في الله تبقى ** على الحالين من فرج وضيق
وكل محبة فيما سواه *** فكالحلفاء في لهب الحريق
11- بالخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل، وهذا حقيقة التقوى.
12- بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والمراقبة لله تعالى في السر والعلن، والرجاء لما عنده من الأفضال والمنن.
13- بحسن التوكل على الله عز وجل لقوله تعالى: وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين [المائدة:23].
14- بطلب الكلم النافع والسعي في نشره وتعليمه لقوله تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [المجادلة:11]، وقوله سبحانه: لتبيننه للناس ولا تكتمونة [آل عمران:187].
15- بتعظيم القرآن المجيد بتعلمه وتعليمه، وحفظ حدوده وأحكامه، وعلم حلاله وحرامه، لقول النبي صين: { خيركم من تعلم القران وعلمه } [واه البخاري].
16- بالجهاد في سبيل الله، والمرابطة في سبيله، والثبات للعدو وترك الفرار من الزحف لقوله : { لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف } [متفق عليه].
17- بحفظ اللسان عن المحرمات كالكذب والغيبة والنميمة والسب واللعن والفحش من القول والغناء. قال النبي : { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت } [متفق عليه].
18- بالوفاء بالعهود، وأداء الأمانات إلى أهلها، وترك الخيانة والغدر، قال تعالى: أوفوا بالعقود [المائدة:1]، وقال: فليؤد الذي اؤتمن أمانته [البقرة:283].(/2)
19- بترك الزنا وشرب الخمر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والظلم والسرقة وأكل أموال الناس بالباطل، وأكل الربا، وأكل ما لا يستحقه شرعا. قال تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن [الأعراف:33].
20- بوجوب التورع في المطاعم والمشارب واجتناب ما لا يحل منها، قال سبحانه: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب [المائدة:3].
21- ببر الوالدين وصلة الأرحام، وزيارة الإخوان والصبر على أذاهم، وبذل المعروف للقريب والبعيد. قال : { من كان فى حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامه } [متفق عليه].
22- بزيارة المرضى والقبور وتشييع الجنائز، فإن ذلك يذكر بالآخرة، ويزهد في الدنيا.
23- بترك الملابس والأزياء المحرمة، كالحرير والذهب والإسبال للرجال، أو استعمال الأواني المصنوعة من الذهب والفضة في الأكل والشرب، فكل ذلك محرم.
23- بالتزام النساء الحجاب الشرعي الكامل الساتر، الذي لا يصف ولا يشف، ولا يدعو إلى النظر والفتنة، وتجنب التشبه بالكافرات في ملابسهن التي ما صنعت إلا لأجل الفتنة وإيقاظ الغرائز واستدعاء الشهوة.
24- بالإقتصاد في النفقة، والمحافظة على النعمة، وترك التبذير، قال تعالى: ولا تبذر تبذيرا [الإسراء:26]، ونهى النبي عن إضاعة المال [متفق عليه].
25- بترك الغل والحسد والعداوة والبغضاء والوقيعة في أعراض المسلمين والمسلمات بغير حق. قال : { المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه } [رواه مسلم].
26- بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله تعالى سالاًآ في ذلك سبيل الحكمة والموعظة الحسنة.
27- بالعدل بين الناس، والتعاون على البر والتقوى، لقوله تعالى: وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى [الأنعام:152]، وقوله: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان [المائدة:2].
28- بالتزام مكارم الأخلاق، من التواضع والرحمة والحلم والحياء ولين الجانب وكظم الغيظ والكرم، وترك الكبر والغرور والأشر والبطر وغير ذلك.
29- بأداء حقوق الأولاد والزوجات على الوجه الأكمل، وتعليمهم من أمور دينهم ما يحتاجون إليه. قال تعالى: قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة [التحريم:6].
30- برد السلام وإلقائه، وتشميت العاطس، وإكرام الضيف والجار، والستر على أصحاب المعاصي ما استطاع، قال : { من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة } [متفق عليه].
31- بالزهد في الدنيا وقصر الأمل قبل بلوغ الأجل. قال : { إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ما تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء } [رواه مسلم].
32- بالغيرة على الأعراض، وغض البصر عن النظر إلى المحرمات في الطرقات أو عبر شاشات التلفاز والقنوات الفضائية.
33- بالإعراض عن اللغو واللهو واللعب، والأخذ بمعالي الأمور وترك سفسافها، قال تعالى: وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه [ص:55].
34- بمحبة أصحاب النبي والبراءة من بغضهم أو سبهم. قال : { من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } [رواه الطبراني وحسنه الألباني].
35- بالإصلاح بين الناس، وتقريب وجهات النظر بين المتخاصمين حتى لا تتسع هوة الخلاف والفرقة. قال تعالى: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم
[الحجرات:10].
36- بترك إتيان الكهان والمنجمين والسحرة والعرافين ونحوهم، قال : { من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد } [رواه أحمد وأبو داود والترمذي].
37- بطاعة المرأة لزوجها وحفظه في ماله وولده وفراشه. قال : { إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت } [رواه ابن حبان وصححه الألبا ني].
38- بترك الإبتداع في الدين أو الدعوة إلى الباطل والضلال، لقول النبي : { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد } [تفق عليه].
39- بترك النساء وصل شعورهن بشعر آخر، وتركهن الوشم، والنمص، وتفليج الأسنان ووشرها. قال : { لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة } [متفق عليه]، وعن عبدالله بن مسعود قال: { لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله } [رواه مسلم].(/3)
40- بترك التجسس على المسلمين والكشف عن عوراتهم وأذيتهم. قال النبي : { يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحة ولو في جوف رحله } [رواه الترمذي وصححه الألباني].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/4)
الزبير بن العوام - رضي الله عنه
حواريّ رسول الله
هو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أبو عبد الله، أمه صفية بنت عبد المطلب، وعمته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجد الخامس (قصي).
صحابي جليل، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، أسلم وعمره خمس عشرة سنة أو أقل.
كان رفيع الخصال عظيم الشمائل، يدير تجارة ناجحة وثراؤه عريضا لكنه أنفقه في الإسلام حتى مات مدينا. هاجر الهجرتين إلى الحبشة والمدينة، ومعه أمه صفية بنت عبد المطلب، شارك في الغزوات كلها، وكان أحد الفارسين يوم بدر. وكان ممن ثبتوا يوم أحد، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم يومها أنه شهيد، وكانت معه إحدى رايات المهاجرين يوم الفتح، كما قال صلى الله عليه وسلم عنه [إن لكل نبي حوارياً وحواريّ الزبير]، وهو أحد الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وأحد الستة الذين رشحهم عمر للخلافة بعده وهم أهل الشورى.
أسلم الزبير بن العوام وعمره خمس عشرة سنة، وكان من السبعة الأوائل الذين سارعوا بالإسلام، وقد كان فارسا مقداما، وسيفه هو أول سيف شهر بالإسلام، ففي أيام الإسلام الأولى سرت شائعة أن الرسول الكريم قد قتل، فما كان من الزبير إلا أن استل سيفه وامتشقه، وسار في شوارع مكة كالإعصار، وفي أعلى مكة لقيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسأله ماذا به؟ فأخبره النبأ، فصلى عليه الرسول ودعا له بالخير ولسيفه بالغلب.
ولقي نصيبا من العذاب على يد عمه، فقد كان يلفه في حصير ويدخن عليه بالنار كي تزهق أنفاسه، ويناديه:( اكفر برب محمد أدرأ عنك هذا العذاب) فيجيب:( لا والله، لا أعود للكفر أبدا ) وهاجر الزبير الى الحبشة الهجرتين، ثم عاد ليشهد المشاهد كلها مع الرسول -صلى الله عليه وسلم.
*في غزوة أحد وبعد أن انقلب جيش قريش راجعا إلى مكة، ندب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الزبير وأبو بكر لتعقب جيش المشركين ومطاردته، فقاد أبوبكر والزبير -رضي الله عنهما- سبعين من المسلمين قيادة ذكية، أبرزا فيها قوة جيش المسلمين، حتى أن قريش ظنت أنهم مقدمة لجيش الرسول القادم لمطاردتهم فأسرعوا خطاهم لمكة هاربين.
*وفي يوم الخندق قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-:مَنْ رجلُ يأتينا بخبر بني قريظة؟ فقال الزبير: أنا0فذهب، ثم قالها الثانية فقال الزبير: أنا 0فذهب، ثم قالها الثالثة فقال الزبير: أنا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لكل نبيّ حَوَارِيٌّ، والزبير حَوَاريَّ وابن عمتي.
وحين طال حصار بني قريظة دون أن يستسلموا للرسول - صلى الله عليه وسلم -، أرسل الرسول الزبير وعلي بن أبي طالب فوقفا أمام الحصن يرددان: والله لنذوقن ما ذاق حمزة، أو لنفتحن عليهم حصنهم. ثم ألقيا بنفسيهما داخل الحصن وأنزلا الرعب في أفئدة المتحصنين داخله وفتحا للمسلمين أبوابه0
وفي يوم حنين أبصر الزبير ( مالك بن عوف ) زعيم هوازن وقائد جيوش الشرك في تلك الغزوة، واقفا وسط فيلق من أصحابه وجيشه المنهزم، فاقتحم حشدهم وحده، وشتت شملهم وأزاحهم عن المكمن الذي كانوا يتربصون فيه ببعض المسلمين العائدين من المعركة0
وفي يوم اليرموك اخترق الزبير بن العوام رضي الله عنه صفوف الروم مرتين من أولهم إلى آخرهم.
وفي فتح مصر أرسل الفاروق عمر لفتح مصر عمرو بن العاص على جيش قوامه ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل فذهب ثم كتب إلى عمر رضى الله عنه يطلب منه المدد فأرسل له الزبير بن العوام وثلاثة من الصحابة وكتب له:" إني أمددتك بأربعة آلاف علي كل ألف منهم رجل بألف رجل" و لما قدم الزبير علي عمرو وجده محاصرا في حصن بابليون فلم يلبث الزبير أن ركب حصانه وطاف بالخندق المحيط بالحصن ثم فرق الرجال حول الخندق وقد طال الحصار حتي بلغت مدته سبعة أشهر وقيل أن به طاعون فقال الزبير فى شجاعة الرجال ومروءة الأبطال:"إنا جئنا للطعن والطاعون" ولما طال الحصار وصعب أمره علي عمرو قال الزبير:" إني أهب نفسي لله أرجو أن يفتح الله بذلك علي المسلمين" فوضع سلما وأسنده الي جانب الحصن من ناحية سوق الحمام ثم صعد وأمرهم إذا سمعوا تكبيرة أن يجيبوه جميعا فما شعروا إلا الزبير علي رأس الحصن يكبر ومعه سيف فتحامل الناس علي السلم حتى لهاهم عمرو خوفا من أن ينكسر فلما رأي الروم أن العرب قد ظفروا بالحصن انسحبوا وبذلك فتح حصن بابليون أبوابه للمسلمين فانتهت بفتحه المعركة الحاسمة لفتح مصر وكانت شجاعة الزبير النادرة سببا لانتصار المسلمين(/1)
تزوج أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما، وولده عبد الله منها أول مولود للمسلمين بعد الهجرة. وكان فقيراً لما تزوجها، ولكنه بعد ذلك جمع مما أفاء الله عليه من الجهاد ومن خمس الخمس ما يخص أمه منه، فكان يضرب له بأربعة أسهم: سهم له، وسهمين للحصان، وسهم لذي القربى أي لأمه، كما جمع من التجارة المبرورة، وصار له مالاً كثيراً بلغ عند وفاته رضي الله عنه أكثر من ستين مليون درهم.
كان له أربع زوجات رضي الله عنهم أجمعين، وترك من الذرية واحداً وعشرين من الذكور والإناث. وما ولي إمارة قط، ولا جباية، ولا خراجاً.
كان كثير الصدقات، وقد أوصى له سبعة من الصحابة منهم عثمان وعبد الرحمن وابن مسعود وأبو العاص بن الربيع رضي الله عنهم، فكان ينفق على أبنائهم من ماله ويحفظ عليهم أموالهم. وكان له ألف غلام يؤدون إليه الخراج، فلا يدخل إلى بيته شيئاً من ذلك، ويتصدق به كله. ولما قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ محا نفسه من الديوان، ورفض أن يأخذ العطاء الذي كان مخصصاً له من بيت المال.
كان الزبير بن العوام شديد الولع بالشهادة، فهاهو يقول:( إن طلحة بن عبيد الله يسمي بنيه بأسماء الأنبياء، وقد علم ألا نبي بعد محمد، وإني لأسمي بنيّ بأسماء الشهداء لعلهم يستشهدون )000
وهكذا سمى ولده عبد الله تيمنا بالشهيد عبد الله بن جحش
وسمى ولده المنذر تيمنا بالشهيد المنذر بن عمرو
وسمى ولده عروة تيمنا بالشهيد عروة بن عمرو
وسمى ولده حمزة تيمنا بالشهيد حمزة بن عبد المطلب
وسمى ولده جعفراً تيمنا بالشهيد جعفر بن أبي طالب
وسمى ولده مصعبا تيمنا بالشهيد مصعب بن عمير
وسمى ولده خالدا تيمنا بالشهيد خالد بن سعيد
وهكذا أسماهم راجيا أن ينالوا الشهادة في يوم ما000
وكان ممن دافعوا عن عثمان رضي الله عنه، فلما كان يوم الجمل خرج مطالباً بدم عثمان رضي الله عنه، فذكّره عليٌ بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبره أنه يقاتل علياً وهو ظالم له، فرجع عن القتال وكر راجعاً إلى المدينة، ومر بقوم الأحنف بن قيس وقد انعزلوا عن الفريقين، فاتبعه عمرو بن جرموز في طائفة من غواة بني تميم، فقتلوه غدراً، وهو نائم في وادي السباع، وعمره يومها سبع وستون سنة، وكان في صدره رضي الله عنه أمثال العيون من الطعن والرمي من أثار المعارك التي خاضها في سبيل الله، فرثته زوجته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل:
غَدَرَ ابن جرموز بفارس بهمة --- يومَ اللقاءِ وكان غر معرد
كم غمرةٍ قد خاضها لم يثنه --- عنها طرادك يا ابن فقع ِالعردد
ولما قتله ابن جرموز احتز رأسه وذهب به إلى عليّ رضي الله عنه، ليحصل له به حظوة عنده فاستأذن فقال عليّ: لا تأذنوا له وبشروه بالنار، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [بشر قاتل ابن صفية بالنار]، ثم دخل ابن جرموز ومعه سيف الزبير رضي الله عنه، فقبله الإمام وأمعن في البكاء وهو يقول:( سيف طالما والله جلا به صاحبه الكرب عن رسول الله ).
وبعد أن انتهى علي -رضي الله عنه- من دفنه وأخيه طلحة، ودعهما قائلا:( إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان من الذين قال الله فيهم:( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين )0ثم نظر إلى قبريهما وقال:( سمعت أذناي هاتان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:( طلحة و الزبير، جاراي في الجنة )0000 فيروى أن عمرو بن جرموز لما سمع ذلك قتل نفسه في الحال.
كان توكله على الله سبب جوده وشجاعته وفدائيته، وحين كان يجود بروحه أوصى ولده عبد الله بقضاء ديونه قائلا:( إذا أعجزك دين، فاستعن بمولاي ) وسأله عبد الله:( أي مولى تعني ؟) فأجابه:( الله، نعم المولى ونعم النصير) 0يقول عبد الله:( فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقضي دينه، فيقضيه )
وقد قال فيه حسان بن ثابت:
أقام علي عهد النبي وهديه حواريه والقول بالفعل يعدل
أقام علي منهاجه وطريقه يوالي ولي الحق والحق أعدل
هو الفارس المشهور والبطل الذي يصول إذا ما كان يوم محجل
إذا كشفت عن ساقها الحرب حشها بأبيض سباق إلى الموت ترحل
له من رسول الله قربي قريبة ومن نصرة الإسلام مجد مؤثل
فكم كربة ذبَّ الزبير بسيفه عن المصطفي والله يعطي فبدل
كناؤك خير من فعال معاشر وفعلك يا ابن الهاشمية أفضل(/2)
الزبير بن العوام حواريّ رسول الله ) ...
الزبير بن العوام يلتقي نسبه مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-في ( قصي بن كلاب ) كما أن أمه ( صفية ) عمة رسول الله ، وزوجته أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين ، كان رفيع الخصال عظيم الشمائل ، يدير تجارة ناجحة وثراؤه عريضا لكنه أنفقه في الإسلام حتى مات مدين.
الزبير وطلحة
يرتبط ذكرالزبير دوما مع طلحة بن عبيد الله ، فهما الاثنان متشابهان في النشأة والثراء والسخاء والشجاعة وقوة الدين ، وحتى مصيرهما كان متشابها فهما من العشرة المبشرين بالجنة وآخى بينهما الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، ويجتمعان بالنسب والقرابة معه ، وتحدث عنهما الرسول قائلا :( طلحة والزبير جاراي في الجنة ) ، و كانا من أصحاب الشورى الستة الذين اختارهم عمر بن الخطاب لإختيار خليفته.
أول سيف شهر في الإسلام
أسلم الزبير بن العوام وعمره خمس عشرة سنة ، وكان من السبعة الأوائل الذين سارعوا بالإسلام ، وقد كان فارسا مقداما ، وإن سيفه هو أول سيف شهر بالإسلام ، ففي أيام الإسلام الأولى سرت شائعة بأن الرسول الكريم قد قتل ، فما كان من الزبير إلا أن استل سيفه وامتشقه ، وسار في شوارع مكة كالإعصار ،وفي أعلى مكة لقيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسأله ماذا به ؟ فأخبره النب فصلى عليه الرسول ودعا له بالخير ولسيفه بالغلب.
إيمانه وصبره
كان للزبير -رضي الله عنه- نصيبا من العذاب على يد عمه ، فقد كان يلفه في حصير ويدخن عليه بالنار كي تزهق أنفاسه ، ويناديه :( اكفر برب محمد أدرأ عنك هذا العذاب ) فيجيب الفتى الغض :( لا والله ، لا أعود للكفر أبدا ) ويهاجر الزبير الى الحبشة الهجرتين ، ثم يعود ليشهد المشاهد كلها مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
غزوة أحد
في غزوة أحد وبعد أن انقلب جيش قريش راجعا الى مكة ، ندب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الزبير وأبوبكر لتعقب جيش المشركين ومطاردته ، فقاد أبوبكر والزبير -رضي الله عنهما- سبعين من المسلمين قيادة ذكية ، أبرزا فيها قوة جيش المسلمين ، حتى أن قريش ظنت أنهم مقدمة لجيش الرسول القادم لمطاردتهم فأسرعوا خطاهم لمكة هاربين.
بنو قريظة
وفي يوم الخندق قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- :( مَنْ رجلُ يأتينا بخبر بني قريظة ؟) فقال الزبير :( أنا ) فذهب ، ثم قالها الثانية فقال الزبير :( أنا ) فذهب ، ثم قالها الثالثة فقال الزبير :( أنا ) فذهب ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- :( لكل نبيّ حَوَارِيٌّ، والزبير حَوَاريَّ وابن عمتي ).
وحين طال حصار بني قريظة دون أن يستسلموا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أرسل الرسول الزبير وعلي بن أبي طالب فوقفا أمام الحصن يرددان:( والله لنذوقن ماذاق حمزة ، أو لنفتحن عليهم حصنهم ) ثم ألقيا بنفسيهما داخل الحصن وبقوة أعصابهما أحكما وأنزلا الرعب في أفئدة المتحصنين داخله وفتحا للمسلمين أبوابه.
يوم حنين
وفي يوم حنين أبصر الزبير ( مالك بن عوف ) زعيم هوازن وقائد جيوش الشرك في تلك الغزوة ، أبصره واقفا وسط فيلق من أصحابه وجيشه المنهزم ، فاقتحم حشدهم وحده ، وشتت شملهم وأزاحهم عن المكمن الذي كانوا يتربصون فيه ببعض المسلمين العائدين من المعركة.
حبه للشهادة
كان الزبير بن العوام شديد الولع بالشهادة ، فهاهو يقول :( إن طلحة بن عبيد الله يسمي بنيه بأسماء الأنبياء ، وقد علم ألا نبي بعد محمد ، وإني لأسمي بنيّ بأسماء الشهداء لعلهم يستشهدون )
وهكذا سمى ولده عبد الله تيمنا بالشهيد عبد الله بن جحش, وسمى ولده المنذر تيمنا بالشهيد المنذر بن عمرو , وسمى ولده عروة تيمنا بالشهيد عروة بن عمرو, وسمى ولده حمزة تيمنا بالشهيد حمزة بن عبد المطلب, وسمى ولده جعفراً تيمنا بالشهيد جعفر بن أبي طالب, وسمى ولده مصعبا تيمنا بالشهيد مصعب بن عمير, وسمى ولده خالدا تيمنا بالشهيد خالد بن سعيد, وهكذا أسماهم راجيا أن ينالوا الشهادة.
وصيته
كان توكله على الله منطلق جوده وشجاعته وفدائيته ، وحين كان يجود بروحه أوصى ولده عبد الله بقضاء ديونه قائلا :( إذا أعجزك دين ، فاستعن بمولاي ) وسأله عبد الله :( أي مولى تعني ؟) فأجابه :( الله ، نعم المولى ونعم النصير ) يقول عبدالله فيما بعد :( فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت : يا مولى الزبير اقضي دينه ، فيقضيه ).
موقعة الجمل(/1)
بعد استشهاد عثمان بن عفان أتم المبايعة الزبير و طلحة لعلي -رضي الله عنهم جميعا- وخرجوا الى مكة معتمرين ، ومن هناك الى البصرة للأخذ بثأر عثمان ، وكانت ( وقعة الجمل ) عام 36 هجري طلحة والزبير في فريق وعلي في الفريق الآخر ، وانهمرت دموع علي -رضي الله عنه- عندما رأى أم المؤمنين ( عائشة ) في هودجها بأرض المعركة ، وصاح بطلحة :( يا طلحة ، أجئت بعرس رسول الله تقاتل بها ، وخبأت عرسك في البيت ؟)0ثم قال للزبير :( يا زبير : نشدتك الله ، أتذكر يوم مر بك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن بمكان كذا ، فقال لك : يا زبير ، الا تحب عليا ؟؟0فقلت : ألا أحب ابن خالي ، وابن عمي ، ومن هو على ديني ؟؟ فقال لك : يا زبير ، أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم ) فقال الزبير :( نعم أذكر الآن ، وكنت قد نسيته ، والله لاأقاتلك ).
وأقلع طلحة و الزبير -رضي الله عنهما- عن الاشتراك في هذه الحرب ، ولكن دفعا حياتهما ثمنا لانسحابهما ، و لكن لقيا ربهما قريرة أعينهما بما قررا فالزبير تعقبه رجل اسمه عمرو بن جرموز وقتله غدرا وهو يصلي ، وطلحة رماه مروان بن الحكم بسهم أودى بحياته.
الشهادة
لمّا كان الزبير بوادي السباع نزل يصلي فأتاه ابن جرموز من خلفه فقتله و سارع قاتل الزبير الى علي يبشره بعدوانه على الزبير ويضع سيفه الذي استلبه بين يديه ، لكن عليا صاح حين علم أن بالباب قاتل الزبير يستأذن وأمر بطرده قائلا :( بشر قاتل ابن صفية بالنار ) وحين أدخلوا عليه سيف الزبير قبله الإمام وأمعن في البكاء وهو يقول :( سيف طالما والله جلا به صاحبه الكرب عن رسول الله ).
وبعد أن انتهى علي -رضي الله عنه- من دفنهما ودعهما بكلمات انهاها قائلا :( اني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان من الذين قال الله فيهم :( ونزعنا ما في صدورهم من غل اخوانا على سرر متقابلين ) ثم نظر الى قبريهما وقال :( سمعت أذناي هاتان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول :( طلحة و الزبير ، جاراي في الجنة ).
" إن لكل نبي حواريّاً ، وحواريّ الزبير بن العوام " حديث شريف.(/2)
الزعامة المزيفة
يتناول الدرس وسيلم من الوسائل التي تفتقت عنها أذهان الحاقدين على هذا الدين وابتكروها لكي يفسدوا فيه ويتحكموا في رقاب وقرارات أهل الإسلام من خلال ولقعة تاريخية في بعض ديار المسلمين،و ما أشبه اليوم بالبارحة .
عندما احتل البرتغاليون عدن [919 هـ] رفض أهلها هذا الاحتلال، وقاوموه بما يملكون، لكن استطاع البرتغاليون أن يقهروا السكان بما يحوزون من أسلحة نارية حديثة، واضطر القسم الأكبر من العدنيين إلى ترك موطنهم، واللجوء إلى الأراضي المجاورة لبلدهم حيث عُرفوا هناك باسم: اللاجئين، وكانوا يحصلون على المساعدات من جيرانهم ومن جهات أخرى لتأمين حياتهم المعاشية، وأجبر القسم الآخر من العدنيين على الخنوع والبقاء في ديارهم تحت عصا الذل، وسيف الإرهاب مقهورين على ذلك ومجبرين.
حاول البرتغاليون التعاون مع جيران عدن فلم يُفلحوا، بل ازدروا من قبل السكان واحتقروا؛ إذ لهم ماضٍ مع المسلمين في الأندلس، وهم يختلفون عن أهالي عدن وسكان المناطق المجاورة لها كلهم عقيدة وجنسًا، فأهل عدن وما جاورها مسلمون عرب، والمغتصبون نصارى برتغاليون، والعداء قائم، والحروب الصليبية لا تزال قائمة، وإن لبست ثوبًا جديدًا من الاقتصاد.
حرصت الدول المجاورة- وخاصة مصر التي يحكمها المماليك يومذاك، وتبسط سيطرتها على حوض البحر الأحمر- أن تقاتل المغتصبين، وتطردهم، ولكنها كانت قد هُزمت أمامهم في معركة [ديو] البحرية قرب شواطئ الهند عام[ 915هـ] وحاولت الإمارات المجاورة لعدن أيضًا غير أنها قد باءت بالفشل في عدّة جولات.
حاولت البرتغال أن تمد قنواتٍ بينها وبين حُكّام الدول المجاورة عن طريق المال، وعن طريق الدعم بالسلاح، وعن طريق المصالح- وقد نجحت- وبدأ التعاون غير أنه بعيد عن أعين السكان، وفي سرية تامة، إذ كان الشعب يرفض هذا التعاون رفضًا تامًا، ويأبى ذلك أشدّ الإباء؛ إذ ليس للشعب مصلحة في ذلك، وإنما هدفه طرد الدخيل المغتصب، البرتغاليين الصليبيين، الأعداء قديمًا وحديثًا، والذين ما جاءوا إلا حقدًا على الإسلام، وتشفيّا من المسلمين، راغبين في إذلالهم وإبادتهم إن استطاعوا. بينما كان لحكام ذلك العصر مصالح يهدفون من ورائها القوة، والدعم، والمال، والتمكين.
أظهر المسئولون في تلك الدويلات أنهم يُعادون البرتغاليين، ويرفضون التعاون معهم، ويأبون الجلوس معهم على طاولة واحدةٍ، أو يضمّهم معًا مجلس واحد، والواقع غير هذا يلتقون سرًا، ويجتمعون معاً، ولكن يقولون للشعب ما يحبه الشعب ويوافق عليه، ويفعلون بعد ذلك ما يروق لهم، وزيادةً في المغالطة وتعميةً على الشعب فإن البرتغاليين يُهاجمون المسئولين عن تلك الدويلات العربية القائمة التي تُجاور عدن ويتهمونهم، وفي خضم هذه الأحداث يعيش الشعب في دوامة، ولا يعرف أني يسير، ولا أين الحقيقة!
لم يجرؤ واحد من المسئولين أن يُعلن عن ضرورة الاعتراف بالواقع الذي هو الصلة بين المغتصبين والمسئولين عن الدويلات، وأنهم قد اعترفوا باستعمار البرتغاليين لعدن، وأقاموا فيها حكم أصبح كإحدى الحكومات الموجودة في المنطقة، وأن من المصلحة كل المصلحة أن يكون التعاون على هذا الأساس، وأن يقوم السلام في هذه المنطقة، وينتهي وضع التوتر القائم، فقد كفى البقعة حروبًا. وقد طال الوقت دون ظهور هذه الجرأة الكافية لإعلان الخيانة، فكل يخشى الشعب ويخاف على مركزه.
كان المخطط الصليبي يقضي أن يتقدّم كل حاكمٍ خطوةً لذا كثر الذين توالوا على الزعامة، وكثر عدد الذين أيّدتهم الدول الصليبية؛ ليقطعوا خطوةً أطول، أو يسيروا شوطًا، فقد طالت المدة وزادت على خمسة عشر عامًا. ولكن برزت فكرة جديدة وهي أن يتولى حل المشكلة أحد أبناء عدن بالذات من الذين يعيشون خارج مدينة عدن؛ ليكون بعيدًا عن البرتغاليين رغم أنهم أحد أطراف اللعبة، ولتكون له الحرية.(/1)
وبعد دراسات المشردين وشبابهم وقع الاختيار على شابٍ لم يتجاوز الثلاثين من العمر يدعى: عبد الرءوف أفندي. كان عبد الرءوف في الأصل من صنعاء، وقدم جده إلى عدن حيث نشأ عبد الرءوف وكان بين الذين شُرّدوا فانتقل إلى منطقة [العوالق] وهناك درس. ولما وقع الاخيتار عليه ليقوم بالمهمة عرض عليه سلطان [العوالق]، وهو الرجل البارز بين السلاطين يومذاك أن يختار شبابًا يثق بهم، ويقوموا على تأسيس منظمة تتولى مهمة العمل لطرد البرتغاليين المغتصبين، وتقوم السلطات بدعم هذه المنظمة، ومدّها بما تحتاج إليه، فإن تبنّى أبناء البلد مهمة العمل أفضل من غيرهم، وخاصة أمام المحافل الدولية إذ أنهم يطالبون بحقّهم المغصوب، ويسعون للعودة إلى وطنهم المسلوب؛ فلن يلومهم أحد، وأتعهد أنا سلطان [العوالق] بتأمين الإمكانات اللازمة الضرورية والمبدئية للعمل، وسأوحي لأعواني ومن يؤيّدونني بالانضمام إلى المنظمة أو دعمها على الأقل، وإنك يا عبد الرءوف إن وُفّقت في هذا العمل فسيكون لك شأن كبير، ومركز عظيم إضافة إلى ما تتمتع به من إمكاناتٍ مادية حيث تصل إليك التبرعات بسخاءٍ والمعونات بمبالغ ضخمة هذا بجانب السلطة العسكرية، والأوامر التي تُصدرها فتُنفّذ مباشرة حيث يكون المقاتلون تحت إمرتك ورهن إشارتك.
وافق عبد الرءوف على العمل، وأخذ الضوء الأخضر للمباشرة من الزعيم العربي سلطان العوالق، على أن تحلّ منظمته محلّ منظّمة مفتي عدن من غير صدامٍ، وبشرط ألا يخرج عن رأي سلاطين الدويلات، وهكذا كان.
بدأ عبد الرؤوف اللعبة من جديد، وأصبح اسمه [ياسين] الحسيني، أسّس منظمة لتحرير عدن من المغتصبين البرتغاليين، وأنشأ فصائل للقتال فانخرط في صفوفها كثير من العدنيين المشردين، وبدأت تخوض بعض المعارك، وتدخل إلى الأرض المحتلة وتقوم ببعض العمليات الناجحة، فارتفعت أسهم المنظمة، وبرز [ياسين] وأصبح في مصاف القادة، وغدا الأمل كبيرًا عند العدنيين المشردين بقرب يوم العودة، والمقيمين بقرب الخلاص من ربقة الاستعمار.
أخذ عبد الرءوف ينادي بحمل السلاح، وهو الحلّ الوحيد لإنهاء المشكلة، وهو اللغة التي يفهمها العدو، ولا يقبل المهادنة، ولا المساومة، ولا المفاوضة بل لا يمكنه أن يلتقي مع المغتصبين المجرمين .. وبالمقابل فقد شنّ العدو عليه وعلى المنظمة حملة إعلامية شعواء؛ إذ اتهموه ومنظمته بالتخريب و.. وتدفقت عليه أموال التبرعات والمعونات وأصبح على مستوى السلاطين العرب، ووصل إلى المرحلة التي وصلوا إليها.
شن البرتغاليون غاراتٍ على مُخيمات اللاجئين العدنيين في جهات [الحواشب] وقاموا بعددٍ من المذابح الرهيبة والجرائم المنكرة وذلك لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل المشكلة، فانتقل مقرّ المنظمة إلى [الصبيحي]، وانتقلت مراكز الفصائل المقاتلة وتوزّعت على السلطنات، فخفّ ضغطها على البرتغاليين.. ضغطت الدول الأوروبية التي قوي نفوذها في المنظمة على السلاطين، وطلبت منهم إنهاء المشكلة فعقدوا اجتماعًا في [تعز] وقرّوا الاعتراف بالوضع البرتغالي في عدن على أن يتولى أمر إعلان ذلك الزعيم العدني [ياسين].
انتفض العدنيون الذين لا يزالون يقيمون في مواطنهم، ولعبت هذه الانتفاضة دورًا كبيرًا ، فدعا الأوربيون إلى عقد مؤتمر عالمي لإحلال السلام في المنطقة، وإنهاء المشكلة، وتلعثم السلاطين أيوافقون أم لا؟ وأنيطت القضية بالزعيم العدني [ياسين] الذي أعلن أنه مستعد لحضور المؤتمر العالمي الذي دعت إليه دول أوروبا، وأنه يتحدّى البرتغال للموافقة على الحضور، وهي التي تتمنّاه وتدعو للاعتراف بكيانها في عدن، فتمنّعت تمنّع الراغب لإتمام اللعبة وإخفائها عن الشعب، وتقوية موقف [ياسين] وإبرازه على أنه هو الذي يدعو، وهي التي ترفض، أي أن المتمنع هو الموافق والراضي هو الرافض .. أعلن سلطان [الحج] أنه كان يعدّ عدن جزءًا من أرضه أنه قد تخلّى عنها، وأن أهلها أحرار يحلّون أمورهم بأنفسهم، وبذا أصبحت عدن وحدها أمام البرتغاليين دون سندٍ أو دعم. وفي هذا الوقت وقفت البرتغال تتفرّج على إخراج المسرحية لإنهاء المشكلة. فقد انتهى دورها، وجاء دور غيرها، ودور البطل لا ينتهي حتى حل المشكلة.
أعلن الزعيم [ياسين] أن لأهل عدن حكومة خاصة، وتعامل معها السلاطين على أنها حكومة شرعية قائمة. ثم صرح أنه على استعداد للاعتراف بالكيان البرتغالي، وبذا أصبحت حكومتان إحداها لأهل عدن المشردين ولهم بعض أجزاء من مدينة عدن، والثانية للبرتغاليين المغتصبين، ولهم الجزء الأكبر من عدن، أو تستطيع أن تقول: أن المنطقة العربية تشمل منطقتين متباعدتين هما: عدن القديمة في الشرق وتشرف على الميناء القديم في جزيرة سيرة، وعدن الصغيرة في الغرب، وبينهما المنطقة البرتغالية حيث مدينة التواهي، وخليج التواهي إذ يوجد الميناء الجديد.(/2)
استمر هذا الوضع حتى جاء العثمانيون عام[ 945هـ ]وطردوا البرتغاليين من المنطقة. وقف أهل عدن يُفكرون بعد الدور الذي لعبه ياسين ومثّله عليهم. منهم من يقول: بقي ياسين يُغالط علينا حتى وصل بنا إلى ما كنّا نخشاه، كنّا نرفض كل هذه الحلول وجاء ليوافق عليها. كان يقول: نرفض، حتى صدّقناه ووثقنا به، فلما أسلمناه قيادنا قال: نوافق. أعطيناه القيادة ليبيع قضيتنا، ليبيع أرضنا، ليبيعنا،
يا ويل المغالطات، وما أغبانا نحن .. لعب علينا، وبعدها بدءوا يبحثون في أصله، ويفسرون ألاعيبه الماضية، وتمثيله و.. ولكن فات الأوان.. أما أعوانه فيقولون: إن الطرق كلها مسدودة، والحلول التي طُرحت قد أجهضت أو فشلت، وليس أمامنا سوى ما تم.
وشعرت الدول الصليبية بالهيمنة، ودعت إلى عقد المؤتمر فأسرعت السلطات بالموفقة، وأبدت التجاوب، وكلما كانت أكثر صلة كانت أكثر اندفاعًا، وبذلك كل شيء في سبيل ذلك رغم أن البرتغاليين يزيدون من تشريد العدنيين، ويطردونهم في مساكنهم، ويحلون محلهم برتغاليين، ويبنون المستعمرات لبني عقيدتهم على أرض عدن... ما أشبه اليوم بالبارحة !!
من رسالة :'المغالطات وأثرها في الأمة' للشيخ/ محمود شاكر(/3)
الزكاة وفوائدها ...
02-11-2004
الزكاة فريضة من فرائض الإسلام وهي أحد أركانه وأهمها بعد الشهادتين والصلاة ، وقد دل على وجوبها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين ، فمن أنكر وجوبها فهو كافر مرتد عن الإسلام يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل ، ومن بخل بها أو انتقص منها شيئاً فهو من الظالمين المستحقين لعقوبة الله تعالى
قال الله تعالى : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما ءاتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير } [ آل عمران : 180 ].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يُطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - يقول أنا مالُك أنا كنزك » الشجاع : ذكر الحيات، والأقرع : الذي تمعط فروة رأسه لكثرة سُمه .
وقال تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم . يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } [التوبة:34-35] .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم ، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره ، كلما بردت أٌعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار »
وللزكاة فوائد دينية وخلقية واجتماعية كثيرة ، نذكر منها ما يأتي :
فمن فوائدها الدينية :
1- أنها قيام بركن من أركان الإسلام الذي عليه مدار سعادة العبد في دنياه وأٌخراه .
2- أنها تُقرب العبد إلى ربه وتزيد في إيمانه ، شأنها في ذلك شأن جميع الطاعات .
3- ما يترتب على أدائها من الأجر العظيم ، قال الله تعالى : { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } [ سورة البقرة:276]
وقال تعالى : { وما ءاتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما ءاتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون } [الروم:39] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم « من تصدق بعدل تمرة - أي ما يعادل تمرة - من كسب طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، فإن الله يأخذها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل » رواه البخاري ومسلم .
4- أن الله يمحو بها الخطايا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم « والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار » .
والمراد بالصدقة هنا : الزكاة وصدقة التطوع جميعاً .
ومن فوائدها الخلقية :
1- أنها تلحق المزكي بركب الكرماء ذوي السماحة والسخاء .
2- أن الزكاة تستوجب اتصاف المزكي بالرحمة والعطف على إخوانه المعدمين ، والراحمون يرحمهم الله .
3- أنه من المشاهد أن بذل النفس المالي والبدني للمسلمين يشرح الصدر ويبسط النفس ويوجب أن يكون الإنسان محبوباً بحسب ما يبذل من النفع لإخوانه .
4- إن في الزكاة تطهيراً لأخلاق باذلها من البخل والشح كما قال تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } [التوبة:103] .
ومن فوائدها الاجتماعية :
1- أن فيها دفعاً لحاجة الفقراء الذين هم السواد الأعظم في غالب البلاد .
2- أن في الزكاة تقوية للمسلمين ورفعاً من شأنهم ، ولذلك كان أحد جهات الزكاة الجهادُ في سبيل الله كما سنذكره إن شاء الله تعالى .
3- أن فيها إزالة للأحقاد والضغائن التي تكون في صدور الفقراء والمعوزين ، فإن الفقراء إذا رأوا تمتع الأغنياء بالأموال وعدم انتفاعهم بشيء منها ، لا بقليل ولا بكثير ، فربما يحملون عداوة وحقداً على الأغنياء حيث لم يراعوا لهم حقوقاً ، ولم يدفعوا لهم حاجة ، فإذا صرف الأغنياء لهم شيئاً من أموالهم على رأس كل حول زالت هذه الأمور وحصلت المودة والوئام .
4- أن فيها تنمية للأموال وتكثيراً لبركتها ، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما نقصت صدقة من مال » .
أي : إن نقصت الصدقة المال عدديا فإنها لن تنقصه بركة وزيادة في المستقبل بل يخلف الله بدلها ويبارك له في ماله .
5- أن له فيها توسعة وبسطاً للأموال فإن الأموال إذا صرف منها شيء اتسعت دائرتها وانتفع بها كثير من الناس ، بخلاف إذا كانت دولة بين الأغنياء لا يحصل الفقراء على شيء منها .
فهذه الفوائد كلها في الزكاة تدل على أن الزكاة أمر ضروري لإصلاح الفرد والمجتمع . وسبحان الله العليم الحكيم .(/1)
والزكاة تجب في أموال مخصوصة منها : الذهب والفضة بشرط بلوغ النصاب ، وهو في الذهب أحد عشر جنيها سعوديا وثلاثة أسباع الجنيه ، وفي الفضة ستة وخمسون ريالاً سعودياً من الفضة أو ما يعادلها من الأوراق النقدية ، والواجب فيها ربع العشر ، ولا فرق بين أن يكون الذهب والفضة نقوداً أم تبراً أم حلياً ، وعلى هذا فتجب الزكاة في حلي المرأة من الذهب والفضة إذا بلغ نصاباً ، ولو كانت تلبسه أو تعيره ، لعموم الأدلة الموجبة لزكاة الذهب والفضة بدون تفصيل ، ولأنه وردت أحاديث خاصة تدل على وجوب الزكاة في الحلي وإن كان يلبس ، مثل ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : « أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب فقال : أتعطين زكاة هذا ؟ قالت : لا . قال : أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار ؟ فألقتهما وقالت: هما لله ورسوله » . قال في بلوغ المرام : رواه الثلاثة وإسناده قوي ولأنه أحوط وما كان أحوط فهو أولى .
ومن الأموال التي تجب فيها الزكاة : عروض التجارة ، وهي كل ما أٌعد للتجارة من عقارات وسيارات ومواشي وأقمشة وغيرها من أصناف المال ، والواجب فيها ربع العشر ، فيقومها على رأس الحول بما تساوي ويخرج ربع عشره ، سواء كان أقل مما اشتراها به أم أكثر أم مساوياً .
فأما ما أعده لحاجته أو تأجيره من العقارات والسيارات والمعدات ونحوها فلا زكاة فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة »
أهل الزكاة هم الجهات التي تصرف إليها الزكاة ، وقد تولى الله تعالى بيانها بنفسه فقال تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم } [التوبة:60] .
فهؤلاء ثمانية أصناف :
الأول : الفقراء وهم الذين لا يجدون من كفايتهم إلا شيئا قليلاً دون النصف ، فإذا كان الإنسان لا يجد ما ينفق على نفسه وعائلته نصف سنة فهو فقير فيعطى ما يكفيه وعائلته سنة .
الثاني : المساكين وهم الذين يجدون من كفايتهم النصف فأكثر ولكن لا يجدون ما يكفيهم سنة كاملة فيكمل لهم نفقة السنة .. وإذا كان الرجل ليس عنده نقود ولكن عنده مورد آخر من حرفة أو راتب أو استغلال يقوم بكفايته فإنه لا يعطى من الزكاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب » .
الثالث : العاملون عليها وهم الذين يوكلهم الحاكم العام للدولة بجبايتها من أهلها ، وتصريفها إلى مستحقيها ، وحفظها ، ونحو ذلك من الولاية عليها ، فيعطون من الزكاة بقدر عملهم وإن كانوا أغنياء .
الرابع : المؤلفة قلوبهم وهم رؤساء العشائر الذين ليس في إيمانهم قوة ، فيعطون من الزكاة ليقوى إيمانهم ، فيكونوا دعاة للإسلام وقدوة صالحة ، وإن كان الإنسان ضعيف الإسلام ولكنه ليس من الرؤساء المطاعين بل هو من عامة الناس ، فهل يعطى من الزكاة ليقوى إيمانه ؟
يرى بعض العلماء أنه يُعطى لأن مصلحة الدين أعظم من مصلحة البدن ، وها هو إذا كان فقيراً يعطى لغذاء بدنه ، فغذاء قلبه بالإيمان أشد وأعظم نفعاً ، ويرى بعض العلماء أنه لا يعطى لأن المصلحة من قوة إيمانه مصلحة فردية خاصة به.
الخامس : الرقاب ويدخل فيها شراء الرقيق من الزكاة وإعتاقه ، ومعاونة المكاتبين وفك الأسرى من المسلمين .
السادس : الغارمون وهم المدينون إذا لم يكن لهم ما يمكن أن يوفوا منه ديونهم ، فهؤلاء يعطون ما يوفون به ديونهم قليلة كانت أم كثيرة ...
وإن كانوا أغنياء من جهة القوت ، فإذا قدر أن هناك رجلاً له مورد يكفي لقوته وقوت عائلته ، إلا أن عليه ديناً لا يستطيع وفاءه ، فإنه يُعطى من الزكاة ما يوفي به دينه ، ولا يجوز أن يسقط الدين عن مدينه الفقير وينويه من الزكاة .
واختلف العلماء فيما إذا كان المدين والداً أو ولداً ، فهل يعطى من الزكاة لوفاء دينه؟ والصحيح الجواز .
ويجوز لصاحب الزكاة أن يذهب إلى صاحب الحق ويعطيه حقه وإن لم يعلم المدين بذلك ، إذا كان صاحب الزكاة يعرف أن المدين لا يستطيع الوفاء .
السابع : في سبيل الله وهو الجهاد في سبيل الله فيعطى المجاهدون من الزكاة ما يكفيهم لجهادهم ، ويشترى من الزكاة آلات للجهاد في سبيل الله .
ومن سبيل الله : العلمٌ الشرعي ، فيعطى طالب العلم الشرعي ما يتمكن به من طلب العلم من الكتب وغيرها ، إلا أن يكون له مال يمكنه من تحصيل ذلك به .
الثامن : ابن السبيل وهو المسافر الذي انقطع به السفر فيعطى من الزكاة ما يوصله لبلده .
فهؤلاء هم أهل الزكاة الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه ، وأخبر بأن ذلك فريضة منه صادرة عن علم وحكمة والله عليم حكيم .
ولا يجوز صرفها في غيرها كبناء المساجد وإصلاح الطرق ، لأن الله ذكر مستحقيها على سبيل الحصر ، والحصر يفيد نفي الحكم عن غير المحصور فيه .(/2)
وإذا تأملنا هذه الجهات عرفنا أن منهم من يحتاج إلى الزكاة بنفسه ومنهم من يحتاج المسلمون إليه ، وبهذا نعرف مدى الحكمة في إيجاب الزكاة ، وأن الحكمة منه بناء مجتمع صالح متكامل متكافئ بقدر الإمكان ، وأن الإسلام لم يهمل الأموال ولا المصالح التي يمكن أن تبنى على المال ، ولم يترك للنفوس الجشعة الشحيحة الحرية في شُحها وهواها ، بل هو أعظم موجه للخير ومصلح للأمم .
والحمد لله رب العالمين .
الشيخ محمد بن صالح العثيمين(/3)
الزكاة
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
إن الدين عند الله الإسلام ، هذا الإسلام العظيم الذي شرعه الله ورضيه لنا ديناً قيماً كلما فيه عظيم ، فيه اليسر والسماحة، وفيه العدل والرحمة وفيه خير الدنيا والآخرة، فيا ليت المسلمين يدركون ما فيه من خير وهدى!! وإنني وأنا أقرأ عن ركن من أركان الإسلام الخمسة لأتحدث لكم عن هذا الركن ، رأيت العجب العجاب من حكمة التشريع وعدالة التوزيع ما لو أخذ به المسلمون لجنوا السعادة العاجلة والآجلة ولقد وقفت متحيراً في حالنا!! ما بالنا لا نطبق أحكام الله ونقيم شرعه؟ لماذا لا تعالج أمراضنا وعللنا والدواء الناجح بين أيدينا؟
إن مثلنا نحن المسلمون حين لا نطبق شرع الله كمثل القائل الذي قال في الإبل العطاش التي تحمل الماء: كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول. إن كتاب الله بين أيدينا فيه الهدى والنور وفيه الشفاء والحياة لو طبقناه وعملنا به.
أيها الإخوة المؤمنون إنني أريد أن أتحدث إليكم اليوم عن الركن الثالث من أركان الإسلام ألا وهو ركن الزكاة. هذا الركن الذي قد هجرته الدول الإسلامية منذ زمن طويل ومسخت معنى هذه الفريضة فلم تعد لها أثراً في واقعنا.
إن مرتكز نظام المال في الإسلام الزكاة، فهي بمثابة العمود الفقري فيه، ونظرة الإسلام إلى المال أن المال مال الله فهو المالك الحقيقي قال تعالى: ?... وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ...?[ النور:33] والإنسان ما هو إلا مستخلف على هذا المال: ?...وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ...?[ الحديد:7] وبناء على ذلك فإن لله عز وجل وحده حق تنظيم قضية التملك والحقوق فيه ومآل هذا المال، والزكاة هي التعبير العملي عن هذا كله ، ولذلك كانت رمز الإسلام لله في قضايا المال كلها ، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "والصدقة برهان" .
الزكاة أيها المؤمنون معناها : الطهارة والنماء ، وسمى الله الصدقة المفروضة زكاة لأنها تطهر النفس، ، قال تعالى: ? خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا... ?[ التوبة:103].
وما ذكره الله تعالى من تطهير الصدقة للمؤمنين يشمل أفرادهم وجماعاتهم، فهي تطهر نفوس الأفراد من الذنوب والآثام وتطهرهم من أرجاس البخل والدناءة والقسوة والأثرة والأنانية والطمع والشح وغير ذلك من الرذائل الاجتماعية التي هي مثار التحاسد والتعادي والعدوان والفتن والحروب، والزكاة تزكي النفوس وتنميها وترفعها بالخيرات والبركات الخُلقية والعملية حتى تكون بها أهلاً للسعادة الدنيوية والأخروية.
وقد أمر الله تعالى المسلمين بدفع الزكاة في مواضع كثيرة، ولم ترد في القرآن آية تدعوا إلى إقامة الصلاة إلا وهي مقرونة بالدعوة إلى إيتاء الزكاة، فالزكاة والصلاة دعامتان متينتان بني عليهما الإسلام.، قال تعالى: ?... فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ...?[ الحج: 78] ولا تحصل أخوة الدين إلا بأداء الزكاة : َ ?فإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ?[التوبة: 11] وأنذر الله تعالى الذين يبخلون ويمتنعون عن أداء الزكاة بقوله: ? وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ... ?[ آل عمران:180].
وحذّر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأمة من عواقب وخيمة تحل بهم إن هم منعوا الزكاة من القحط والجدب وضيق العيش. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا".(/1)
هذه الزكاة التي فرضها الله تعالى لم يجعلها اختيارية ترجع لهوى الشخص إن شاء أعطى وإن شاء لم يعط ومنع بل جعلها إجبارية لأنها حق الفقير في مال الله الذي أعطاه للغني.
هذه الزكاة حاول بعض الناس أن يصورها بأنها ضريبة كبقية الضرائب التي تفرضها الدولة على المواطنين ، وحاول البعض الآخر أن يصورها بأنها صدقة تطوعية، لا علاقة لها بالدولة، وكلتا النظريتين مجانبتين للصواب.
فإن الضريبة التي تأخذها الدولة العادلة النزيهة في مقابل تحقيقها للمشاريع اللازمة للأمة، تكون الضريبة العادلة حق الدولة في المال، أما الزكاة فإنها تختلف عن هذا فليست الزكاة حق للدولة بل هي حق أصحابها الذين عينهم الله وذكرهم في كتابه الكريم ، إلا أن الدولة هي المسئولة عن وصول هذه الحقوق إلى أصحابها، بل اعتبرها القرآن من الواجبات الأساسية التي تقوم بها الدولة المسلمة ، كما قال تعالى: ? الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ?[ الحج:41].
والوضع السليم هو أن تنشئ الدولة الإسلامية مؤسسة خاصة مستقلة عن موارد الدولة الأخرى مهمتها جباية الزكوات وصرفها في ذويها وأصحابها كما يريد الله عز وجل.
إن الزكاة ليست إحساناً فردياً يتولى توزيعها الأغنياء على الفقراء لما في ذلك من الذل والهوان الذي يصيب الفقراء والمحتاجين، لكن واجب الدولة أن تقوم بجبايتها وإعطاء المحتاجين حقوقهم من غير سؤال منهم ولا منّة في العطاء، بل معونة كريمة وسد حاجة.
وقد اتفق جمهور العلماء على أن الشخص إذا مات ولم يؤد الزكاة الواجبة عليه، فإنها تكون ديناً في تركته ، لا تخلص للورثة إلا بعد سدادها، مثلها مثل الدين الذي يكون للآدميين، ودين الله أحق بالوفاء.
والأموال التي تجب الزكاة فيها خمسة أصناف:
1- النقود والمقصود بها الذهب والفضة وما يقوم مقامهما من الأوراق المالية والعملات المتداولة ، فما ملكه الإنسان من ذهب وفضة أو عملة مالية بلغت النصاب وحال عليها عام قمري كامل فإن عليه أن يخرج زكاة ماله 2.5%.
2- ومما تجب فيه الزكاة عروض التجارة وهو كل ما يشتريه الإنسان لغرض التجارة والربح، فإنه يقوَّم وتدفع زكاته كزكاة النقود ، يقوّم ما يملكه من عروض التجارة، ويضيفه إلى ما يملكه من نقد، ثم يخرج زكاة الجميع رأس المال مع الأرباح. ومقدار النصاب هو عشرون مثقالاً أو عشرون ديناراً من الذهب وهو ما يساوي تقريباً 85 جرام من الذهب، أو ما يعادلها من الأموال الأخرى سواء كانت فضة أو أوراقاً مالية.
3- ومما تجب فيه الزكاة الزروع والثمار، فتؤخذ الزكاة من كل ما أخرجت الأرض لا فرق بين صنف وصنف، ولا بين مطعوم وغير مطعوم، ففي كل ما أخرجت الأرض زكاة، ويتكرر الأخذ كلما أنتجت الأرض لقوله تعالى: ?... وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ...?[ الأنعام: 141].
4- وزكاة الزروع عشرة في المائة إذا سُقِيت بدون آلات وخمسة بالمائة إذا سقيت بالآلات وإذا اختلف السقي كان الحكم للأغلب. ونصاب الحبوب خمسة أوسق وهو ما يعادل تقريباً حوالي 653كلغرام وأما غير الحبوب فالزكاة في قيَمِها.
5- ومما تجب الزكاة فيه السائمة من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم والمراد بالسائمة هي التي ترعى طوال العام في المراعي ولا يتكلف ملاكها مؤنة علفها.
6- ومما تجب فيه الزكاة ما يكون في باطن الأرض من معادن كالبترول وغيره، وما يظهر فيها من كنوز.
هذه الأصناف الرئيسية التي تجب الزكاة فيها. وهناك تفصيلات لكل صنف من هذه الأصناف ومما ذكرنا يتبيّن لنا مقدار ما يمكن أن تجمعه الدولة من الزكاة ، هذه الأموال التي تتجمع من الزكاة تنفق في فئات بيّنها الله وحددها وهذا ما سأبينه لاحقاً.
إن الله تعالى لم يترك أمر الزكاة إلى تقدير ولاة الأمر بل بين المصارف وعينها في كتابه الكريم الذي لا يقبل التغيير والتبديل، فقال جل وعلا: ? إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ?[ التوبة:60].(/2)
ونلاحظ أن الإسلام عنى بمصارف الزكاة أكثر مما عنى بمصادرها وتحصيلها، لأن جباية الأموال قد تكون سهلة على أصحاب السلطان بوسائل شتى، ولكن الصعب هو صرفها في وجوهها، وإيتاؤها أهلها، ووضعها موضعها، ولهذا فإن الله لم يدع تحديد المصارف لرأي حاكم وهواه، ولا لطمع طامع يريد أن يزاحم المستحقين بالباطل. فنزل كتاب الله يبين الأشخاص والجهات التي تصرف فيها ولها الزكاة، فكان ذلك رداً على المنافقين الذين سال لعابهم شرهاً إلى أموال الزكاة بغير حق، ولمزوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه أهملهم ولم يستجب لأطماعهم، قال تعالى: ? وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ?[ التوبة: 58] إلى قوله: ? إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ?[ التوبة: 60].
والفقير: هو المحتاج الذي لا يسأل الناس، حياءً وتعففاً.
والمسكين: هو الذي يسأل الناس ويطوف عليهم، وقيل غير ذلك.
طبقة الفقراء والمساكين جاء الإسلام لمعالجة وضعهما وليس المراد بالزكاة أن تعطى فقط لمن لا يملك شيئاً، وإنما المراد والمقصد بها أيضاً إعطاءها من يجد بعض الكفاية، ولكنه لا يجد ما يكفيه، إن الزكاة جاءت لتحل مشكلة الفقراء والمساكين وذلك باستئصال الفقر من حياتهم وقد ذكر بعض العلماء أن الفقير يعطى من الزكاة ما يستأصل فقره، ويقضي على أسباب عوزه وفاقته، ويكفيه بصفة دائمة، ولا يحتاج إلى زكاة مرة أخرى.
وهناك مشكلات كثيرة اليوم في مجتمعات المسلمين سببها الجهل بالإسلام وعلاجها أن تتخلص المجتمعات من تلك المشكلات.
يمكن للدولة أن تشتري من مال الزكاة أراض زراعية وتملكها للفقراء والمساكين القادرين على العمل ليسهموا وينتجوا . فبإمكانها أن توفر حراثات وآلات لمن لديهم أراض زراعية ، ويمكن أن تقيم مصانع إنتاجية تشغل الأيدي العاملة. صاحب الحرفة يمكن أن تشتري له المعدات التي يحتاج إليها في حرفته، وهكذا يمكن أن يتحول المجتمع إلى مجتمع إنتاجي عامل وهذا ما يرمي إليه الإسلام.
لا تعني الزكاة بحال من الأحوال أن تشجع البطالة، فلا يصح أن تعطى الزكاة لقوي مكتسب يعيش عالة على المجتمع، ويحيا على الصدقات والإعانات، بل الواجب على كل قادر على العمل أن يعمل، وأن ييسر له سبيل العمل، حتى يكفي نفسه بكد يمينه وعرق جبينه، وفي الحديث الصحيح: "ما أكل أحد طعاماً خيراً مما يأكل من عمل يده".
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" ، والمِرّة: القوة والشدة، والسوي: المستوي السليم الأعضاء ، ولهذا ذكر الفقهاء أن المتفرغ للعبادة لا يأخذ من الزكاة لأنه مأمور بالعمل والإنتاج والمشي في مناكب الأرض ولا رهبانية في الإسلام، والعمل لكسب العيش أفضل العبادات.
وذكروا أن المتفرغ للعلم النافع الذي يفيد الأمة ويسد حاجتها إن تعذر عليه الجمع بين الكسب وطلب العلم أعطي من الزكاة ما يكفيه.
الخطبة الثانية:
وإن مما يسر أن جمعيات ومؤسسات خيرية إسلامية في مناطق العالم تتبنى برامج ممتازة لتنمية دخل الفقراء وإزالة الفقر عنهم، فمن مشاريعهم: تدريب الأسر الفقيرة على الحرف، ثم تمليكها وسيلة إنتاجية لتعمل وتنتج ومن المشاريع: تمليك الأسر بعض الماشية كالبقر أو الغنم لتستفيد منها بشكل دائم وتنمّى لديها. وهناك أصناف أخرى تصرف لهم الزكاة غير الفقراء والمساكين ذكرهم الله ، نشير إليهم وهم:
والعاملين عليها
والمؤلفة قلوبهم
وفي الرقاب
والغارمين
وفي سبيل الله
وابن السبيل
ومما شرعة الله عز وجل من الصدقات والزكوات زكاة الفطر ، فقد فرض الرسول- صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر في رمضان على الناس صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من إقط، على كل حر وعبد ذكر و أنثى من المسلمين .
وهذه الزكاة تخرج قبل خروج الناس إلى الصلاة يوم العيد.
وهذه الزكاة طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين حتى يشتركوا في فرحة العيد ويغنوهم عن السؤال في ذلك اليوم كما أشار إلى ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
فجودوا وتصدقوا وأنفقوا واعلموا أن الله تعالى يقول: ? لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ... ?[ آل عمران: 92].
أروا الله من أنفسكم خيراً وسابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد
صحيح مسلم: كتاب الطهارة: باب فضل الوضوء : رقم الحديث:( 223) عن أبي مالك الأشعري .(/3)
سنن ابن ماجة: باب العقوبات: الحديث رقم: (4019) ، رواه الطبراني في الأوسط: كتاب الزكاة: باب فرض الزكاة: الحديث رقم:(4350) . وقد حسنه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم: (3246) .
صحيح البخاري: كتاب البيوع: باب: كسب الرجل وعمله بيده: الحديث رقم: (1966) .
سنن الترمذي 1/ 514، حديث رقم: 1634، وصححه الألباني.
صحيح البخاري: باب: صدقة الفطر على الصغير والكبير: الحديث رقم: (1441) وأخرجه الترمذي: كتاب الزكاة: بابُ ما جاءَ في صَدَقَةِ الفطرِ: الحديث رقم: (670) .(/4)
الزلزال
1/4/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد، فإن الحواث التي تحل بالمسلمين أصبح ينسي بعضها بعضاً، وغدا كل مجتمع منشغل بنفسه، ينظر المؤمن لأخيه المؤمن وكأنه (أجنبي) لاتربطه معه علاقة، مع أن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وهذا يقتضي التأثر بمصاب المسلم، والتفاعل معه في قضاياه، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أناساً من مضر حفاة عراة مجتابي النمار فتمعر وجهه وقام خطيباً في الناس، فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت ثم تتابع الناس، يقول جرير بن عبدالله البجلي: حتى رأيت وجه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يتهلل كأنه مذهبة. فينبغي للمسلمين أن يكونوا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد، فالمسلمون تتكافؤ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
وقد أصيب بالرجفة إخوة لنا في أرض الجزائر، دماؤهم دماؤنا، وهدمهم هدمنا، وهذه وقفات وتأملات، ودروس يقدمها لنا المصاب الجلل الذي نزل بإخواننا هناك، وأجملها في ثلاث نقاط:
أولاً الكوارث البشرية قد تكون نعماً:
إن الله ينذر العباد بالآيات السمعية ويخوفهم بها أليم عقابه (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا الله)، غير أن بعض البشر ربما طغت على قلوبهم وعقولهم حجب تحول دون التدبر أوالتأثر بالآيات السمعية، فمن رحمة الله تعالى بهم أنه يرسل كذلك الآيات العينية، لعلها ترفع الحجب وتزيل الغشاوة (.. وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا) وفي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم منها شيئا فصلوا وادعوا الله حتى يكشف ما بكم).
والناس متباينون منهم من تكفيه الإشارة، ومنهم من لايفهم إلاّ بالشرح وتوضيح العبارة، ومنهم من لاينقاد إلاّ إذا زجر زجراً، وآخر لا يعتبر إلاّ إذا رأى قارعة حلت بداره أو نزلت بجاره، ثم يأتي في المؤخرة صنفان من شرار الخلق أحدهما لايرعوي إلاّ حين الغرغرة إذا عاين الموت وعندها (لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)، وهؤلاء أستاذهم وأسوتهم فرعون الذي طغى وتجبر (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قال الله: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ~ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)، والصنف الثاني (أضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله)، ابتلاه الله بالحسنات وبالسيئات فلم يرجع، أراه الآيات السمعية وأجرى له الآيات العينية فلم يرعوي، مهله وأمهله، ثم استدرجه فأخذه أخذ عزيز مقتدر، (وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ~ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ~ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ~ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
ومع هذا فقد اعتاد بعض المسلمين –وللأسف- أن ينسبوا للطبيعة الكثير مما يخرج عن نسقها، فإذا مات الإنسان بغير علة، قالوا وفاة طبيعية! وإذا كسفت الشمس أو خسف القمر، قالوا خسوف طبيعي! وإذا أتى الله بعقابه فأرسل حاصباً، أو أغرق أمة، أو فجر الأرض عليهم ناراً، أو دم دم على قوم بذنبهم فسواها، قالوا كارثة طبيعية!
وهذا نوع من التأثر بمن غفلوا عن آيات الله، حري بالمسلم أن يبتعد عنه، ولا يفهم من هذا إنكار أسباب هذه الظواهر، ولكن الإنكار على من أغرق في النظر للأسباب ونسي مسببها ومجريها في الوقت الذي يشاء على غير طبيعتها.
فالمؤمنون العقلاء يعتبرون بالآيات السمعية، ودونهم مرتبة؛ من لايعتبر إلاّ بالآيات العينية، وهؤلاء قد تكون الآيات العينية لهم نعماً يكفر الله بها عن أناس، وتدكر بها أمم فترجع إلى ربها، وقد قيل:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم(/1)
كما أنها قد تكون سخطاً وعقاباً لمن أمن مكر الله وعذابه، فأعرض عن الآيات السمعية والعينية، والسعيد من وعظ بغيره، فبَادر بالتوبة والإنابة، ومسكين مسكين مسكين، من ظن أن الأمر بالتوبة لايشمله، أو حسب أنه مستثنى من جملة من قال الله لهم (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)، إن أول من يطالب بالمبادرة من يرى أنه قائم بأمر الله محقق للتقوى والصلاح.
ثانياً التذكير بسنة من سنن الله:
من سنن الله الماضية أن الناس إذا كثر فيهم الخبث، وسكت عنه الصالحون، أصابهم الله ببعض ذنوبهم، (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ~ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا)، وفي الصحيحين من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت: (يا رسول الله أنهلِك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث).
إن عقاب الله تعالى إذا هو أتى يعم فينال المسيء والمحسن، قال الله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) قال ابن قتيبة: "يريد أنها تعم فتصيب الظالم وغيره، وقال عزوجل: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا)، وقد تبين أن الله تعلى أغرق أمة نوح عليه السلام كلها وفيهم الأطفال والبهائم بذنوب البالغين، وأهلك قوم عاد بالريح العقيم، وثمود بالصاعقة، وقوم لوط بالحجارة، ومسخ أصحاب السبت قردة وخنازير، وعذب بعذابهم الأطفال.. قال أنس بن مالك: إن الضب في جحره ليموت هزلاً بذنب ابن آدم، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر فقال: (اللهم اشدد وطأتك على مضر، وابعث عليهم سنين كسني يوسف) فتتابعت عليهم الجدوبة والقحط سبع سنين، حتى أكلوا القد والعظام.. فنال ذلك الجدب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.." ثم قال أبو محمد: "وقد رأينا بعيوننا ما أغنى عن الأخبار، فكم من بلد فيه الصالحون والأبرار، والأطفال والصغار، أصابته الرجفة، فهلك به البر والفاجر، والمسيء والمحسن، والطفل والكبير ..." وعد مدناً أصابتها الرجفة في زمانه يرحمه الله.
ثم ذكر خبر عبيدالله بن مروان مع ملك النوبة عندما فر هارباً قال: قدمت أرض النوبة بأثاث سلم لي، فافترشته بها وأقمت ثلاثاً، فأتاني ملك النوبة وقد خبر أمرنا، فدخل علي رجل طوال أقنى حسن الوجه، فقعد على الأرض ولم يقرب الثياب فقلت: ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا فقال: إني ملك وحق على كل ملك أن يتواضع لعظمة الله جل وعز إذ رفعه الله، ثم أقبل علي فقال لي: لم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم؟ فقلت: أجترأ على ذلك عبيدنا وسفهاؤنا.
قال: فلم تطؤون الزروع بدوابكم، والفساد محرم عليكم في كتابكم؟
قلت: يفعل ذلك جهالنا.
قال: فلم تلبسون الديباج والحرير وتستعملون الذهب والفضة وهو محرم عليكم؟
فقلت: زال عنا الملك وقل أنصارنا فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا.
فأطرق ملياً وجعل يقلب يده وينكت في الأرض ثم قال: ليس ذلك كما ذكرت، بل أنتم قوم استحللتم ما حرم عليكم، وركبتم ما عنه نهيتم، وظلمتم فيما ملكتم، فسلبكم الله تعالى العز وألبسكم الذل بذنوبكم، ولله تعالى فيكم نقمة لم تبلغ نهايتها، وأخاف أن يحل بكم العذاب وانتم ببلدي فيصيبني معكم وإنما الضيافة ثلاث فتزودوا ما احتجتم إليه وارتحلوا عن بلدي.
قال: ففعلت ذلك". فهذا الرجل العاقل لاحظ هذه السنة فأمر هؤلاء بالرحيل.
ولا أجد تعليقاً على هذا أجدر من قول الله تعالى: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ~ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)، فسبيل النجاة هو الإصلاح وليس الصلاح فقط، وقد علم هذا عقلاء البشر.
ثالثاً : الهرج أعظم خطراً من سائر الكوارث البشرية:
في الصحيحين عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج وهو القتل القتل". وخطر الأخيرة هو الأكبر. ولسائل أن يقول كيف؟
منذ نحو عشر سنين، وتحديداً منذ الانقلاب على شرع الله، وتنحية البرلمان الإسلامي الذي اختاره رجال العشائر، وإخوة الإسلام في أرض الجزائر، والأرزاء في تلك البقعة تترى، أصيبت البلاد بعدد من الكوارث، ومع ذلك لم يتجاوز عدد القتلى في هذه النكبات بما فيها الزلازل الثلاثة الأخيرة ثلاثة آلاف.(/2)
على الرغم من شدة الزلازل، وقلة التحصينات، والشكوى من سوء التدبيرات، كان عدد القتلى يقل عن الثلاثة آلاف، ولا أقلل من العدد بل هو عدد ضخم إذا ما قورن بما تحصده الزلازل في بعض الدول التي تأخذ بالأسباب المادية والطرق الوقائية والتحصينية، كسائر دول أوروبا واليابان.
ولكن ما يجب أن ننتبه إليه هو أن هذا العدد لا يمثل شيئاً إذا ما قورن بحصاد الهرج المر، ففي غضون عشر سنوات قتل من أهل الجزائر بسبب الفتنة التي ماجت، ووفقاً للمصادر الحكومية، مئة ألف إنسان، ويصل التعداد وفقاً لمصادر أخرى إلى ما يربوا على المائة والخمسين ألفاً، أي أن أثر الهرج فاق أثر الزلازل بأكثر من خمسين ضعفاً!
إن مفسدة الهرج عظيمة، يجب أن يقدر قدرها قبل الإقدام على أي عمل قد يقود إليها، فإن عواقبها وخيمة، قال البخاري: وقال ابن عيينة عن خلف بن حوشب كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن، قال امرؤ القيس:
الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ولّت عجوزاً غير ذات حليل
شمطاء ينكر لونها وتغيرت مكروهة للشّم و التقبيل
وإذا دخل الناس في الفتن وتلوثت الأيدي بالدماء، شق بعدها الخروج منها، وفي صحيح البخاري، عن ابن عمر أنه قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله)، وفيه أيضاً عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراماً)، قال بن حجر: "وقد ثبت عن بن عمر أنه قال لمن قتل عامداً بغير حق: (تزود من الماء البارد، فإنك لا تدخل الجنة)، وأخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عمر: (زوال الدنيا كلها أهون على الله من قتل رجل مسلم)، قال الترمذي: حديث حسن، قلت: وأخرجه النسائي بلفظ: (لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)، قال ابن العربي: ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق، والوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي؟ فكيف بالمسلم؟ فكيف بالتقي الصالح؟" (1).
إخوة الإسلام إن هذه الزلازل دعوة لإعادة الأمور إلى نصابها، بتحكيم شرع الله، وإلقاء السلاح، فإن المفسدة عظيمة، وقد جاء في الحديث: (يا معشر المهاجرين: خمس إذا ابتليتم بهن، و أعوذ بالله أن تدركوهن) قال في الخامسة: (و ما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، و يتخيروا ما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم) .(2).
جعلنا الله وإياكم من المعتبرين بآيات الله المنقادين لأمره.
وفي الختام لاشك أن من الواجبات التي تمليها إخوة الإسلام، الوقوف مع إخواننا في هذه النوازل حساً ومعناً، دعاءً وبذلاً، أسأل الله أن يلطف بالمسلمين عامة وبأهل الجزائر خاصة، وأن يمن علينا وعليهم بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، اللهم استر عوراتنا، وآمن رواعتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا.
وصلى الله وسلم على نبينا وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
----------------------
الهوامش:-
(1) الفتح 12/189.
(2) رواه ابن ماجة 2/1332، وحسنه الألباني في الصحيحة 1/216 رقم (206).(/3)
الزهد طريق إلى المحبة
(الشبكة الإسلامية) د/سعيد عبد العظيم
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من والاه ، أما بعد :
فالزهد هو عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه ، و هو ترك راحة الدنيا طلباً لراحة الآخرة و أن يخلو قلبك مما خلت منه يداك ، و يعين العبد على ذلك علمه أن الدنيا ظل زائل ، و خيال زائر فهي كما قال تعالى: ( كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً ) " سورة الحديد : 20 " و سماها الله " متاع الغرور " و نهى عن الاغترار بها ، و أخبرنا عن سوء عاقبة المغترين ، و حذرنا مثل مصارعهم و ذم من رضي بها و اطمأن إليها ، و لعلمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً و أجل خطراً ، و هي دار البقاء ، يضاف إلى ذلك معرفته و إيمانه الحق بأن زهده في الدنيا لا يمنعه شيئاً كتب له منها ، و أن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها ، فمتى تيقن ذلك ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة ، فأما ما ينفع في الدار الآخرة فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة:87) .
حقيقة الزهد:
و ليس المقصود بالزهد في الدنيا رفضها فقد كان سليمان و داود – عليهما السلام – من أزهد أهل زمانهما ، و لهما من المال و الملك و النساء ما لهما ، و كان نبينا صلى الله عليه و سلم من أزهد البشر على الإطلاق ، و له تسع نسوة ، و كان على بن أبي طالب و عبد الرحمن بن عوف و الزبير و عثمان – رضي الله عنهم - من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال ، و غيرهم كثير ، و قد سئل الإمام أحمد : أيكون الإنسان ذا مال و هو زاهد ، قال : نعم ، إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصانه ، و قال الحسن : ليس الزهد بإضاعة المال ولا بتحريم الحلال ، و لكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يد نفسك ، و أن تكون حالك في المصيبة ، و حالك إذا لم تصب بها سواء ، و أن يكون مادحك و ذامك في الحق سواء .هذه هي حقيقة الزهد، وعلى هذا فقد يكون العبد أغنى الناس لكنه من أزهدهم ؛ لأنه لم يتعلق قلبه بالدنيا،وقد يكون آخر أفقر الناس وليس له في الزهد نصيب ؛لأن قلبه يتقطع على الدنيا.
من أقسام الزهد:
و الزهد في الحرام فرض عين ، أما الزهد في الشبهات ، فإن قويت الشبهة التحق بالواجب ، وإن ضعفت كان مستحباً ، و هناك زهد في فضول الكلام و النظر و السؤال و اللقاء و غيره ، وزهد في الناس ، و زهد في النفس حيث تهون عليه نفسه في الله ، و الزهد الجامع لذلك كله ، هو الزهد فيما سوى ما عند الله ، و في كل ما يشغلك عن الله ، و أفضل الزهد إخفاء الزهد، وأصعبه الزهد في الحظوظ .
من فضائل الزهد:
لقد مدح الله تعالى الزهد في الدنيا و ذم الرغبة فيها في غير موضع فقال تعالى: ( و فرحوا بالحياة الدنيا و ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ) " سورة الرعد : 26 " وقال عز وجل: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس:24)
و قال: ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم و الله لا يحب كل مختال فخور ) " سورة الحديد : 23 " . و قال تعالى حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنه قال: ( يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع و إن الآخرة هي دار القرار ) " سورة غافر : 39 ". و عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها ؛ فإنها تزهد في الدنيا و تذكر الآخرة " . و عن سهل بن سعد الساعدي – رضي الله عنه قال : أتى النبي صلى الله عليه و سلم رجل فقال : يا رسول الله دلني على عمل ، إذا أنا عملته ، أحبني الله ، و أحبني الناس فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "ازهد في الدنيا يحبك الله ، و ازهد فيما في أيدي الناس يحبوك ". و عن سهل بن سعد – رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء " .
الأنبياء أزهد الناس:(/1)
الأنبياء و المرسلون هم قدوة البشر في الزهد في الدنيا و الرغبة في الآخرة : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) و من طالع حياة سيد الأولين و الآخرين علم كيف كان صلى الله عليه و سلم يرقع ثوبه ، و يخصف نعله ، و يحلب شاته ، و ما شبع من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض ، و كان لربما ظل اليوم يتلوى لا يجد من الدقل ( رديء التمر ) ما يملأ بطنه ، و في غزوة الأحزاب ربط الحجر على بطنه من شدة الجوع ، و يمر على أهله الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا يوقد في بيتهم النار ، طعامهم الأسودان : التمر و الماء ، و كان يقول : " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار و المهاجرة ". و عن عائشة – رضي الله عنها قالت : " إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف " ، و أخرجت رضي الله عنها كساءً ملبداً و إزاراً غليظاً فقالت : " قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذين ".
الصالحون على درب الأنبياء ساروا:
و لما كان صلى الله عليه و سلم هو الأسوة و القدوة ، فقد سار على دربه الأفاضل ، فعن على – رضي الله عنه أنه قال : طوبى للزاهدين في الدنيا و الراغبين في الآخرة أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً ، و ترابها فراشاً ، و ماءها طيباً ، و الكتاب شعاراً ، و الدعاء دثاراً ، و رفضوا الدنيا رفضاً . و كتب أبو الدرداء إلى بعض إخوانه ، أما بعد : فإني أوصيك بتقوى الله ، و الزهد في الدنيا ، و الرغبة فيما عند الله ، فإنك إذا فعلت ذلك أحبك الله لرغبتك فيما عنده ، و أحبك الناس لتركك لهم دنياهم، و السلام.
و عن عروة بن الزبير أن أم المؤمنين عائشة جاءها يوماً من عند معاوية ثمانون ألفاً ، فما أمسى عندها درهم ، قالت لها جاريتها : فهلا اشتريت لنا منه لحماً بدرهم ؟ قالت : لو ذكرتني لفعلت .
و قال ابن مسعود – رضي الله عنه - : الدنيا دار من لا دار له ، و مال من لا مال له ، و لها يجمع من لا علم له . و لما قدم عمر – رضي الله عنه – الشام تلقاه الجنود و عليه إزار و خفان و عمامة ، و هو آخذ برأس راحلته يخوض الماء ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، يلقاك الجنود و بطارقة الشام و أنت على حالتك هذه ، فقال : " إنا قوم أعزنا الله بالإسلام ، فلن نلتمس العز بغيره ".
و دخل رجل على أبي ذر – رضي الله عنه – فجعل يقلب بصره في بيته ، فقال يا أبا ذر : ما أرى في بيتك متاعاً ، ولا أثاثاً ، فقال : إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا و قال : إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه .
وكان عمرو بن العاص – رضي الله عنه- يخطب بمصر و يقول : ما أبعد هديكم من هدي نبيكم صلى الله عليه و سلم ، أما هو فكان أزهد الناس في الدنيا و أما أنتم فأرغب الناس فيها . و قال على – رضي الله عنه – تزوجت فاطمة ومالي و لها فراش إلا جلد كبش ، كنا ننام عليه بالليل ، و نعلف عليه الناضح ( البعير ) بالنهار ومالي خادم غيرها ، و لقد كانت تعجن ، و إن قصتها لتضرب حرف الجفنة من الجهد الذي بها . و لما حضرت الوفاة معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا و طول البقاء فيها لكرى الأنهار ، ولا لغرس الأشجار ، و لكن لظمأ الهواجر ، و مكابدة الساعات ، و مزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر . و قد ذكر الإمام أحمد أن أفضل التابعين علماً سعيد بن المسيب ، أما أفضلهم على جهة العموم و الجملة فأويس القرني ، و كان أويس يقول : توسدوا الموت إذا نمتم و اجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم ، و قال مالك بن دينار : يعمد أحدهم فيتزوج ديباجة الحي ( فاتنة الحي ) ، فتقول : أريد مرطاً ( أكسية من صوف ) فتمرط دينه ( أى تذهب به ) . و كان كثير من السلف يعرض لهم بالمال الحلال ، فيقولون : لا نأخذه ، نخاف أن يفسد علينا ديننا ، و كان حماد بن سلمة إذا فتح حانوته و كسب حبتين قام ، و كان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت ، و خلف أربعمائة دينار ، و قال : إنما تركتها لأصون بها عرضي وديني . و قال سفيان الثورى : الزهد في الدنيا قصر الأمل ، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباءة . و قال الشافعي في ذم الدنيا و التمسك بها:
و ما هى إلا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همهن اجتذابها ...
فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها ... وان تجتذبها نازعتك كلابها ... وكان أبو سليمان الداراني يقول : كل ما شغلك عن الله ، من أهل ومال وولد فهو مشؤوم
طويت الدنيا عمن هم أفضل منا:(/2)
ويكفي أن في الزهد التأسي برسول الله صلي اله عليه وسلم وصحابته الكرام ، كما أن فيه تمام التوكل على الله ، وهو يغرس في القلب القناعة،إنه راحة في الدنيا وسعادة في الآخرة . و الزاهد يحبه الله ويحبه الناس فإن امتلكت فاشكر، وأخرج الدنيا من قلبك ، وان افتقرت فاصبر فقد طويت عمن هم أفضل منك ، فقد كان نبيك صلي الله عليه وسلم نيام على الحصير حتى يؤثر في جنبه ، ومات وفي رف أم المؤمنين عائشة حفنة من الشعير تأكل منها ، وكنت إذا دخلت بيوت رسول الله صلي الله عليه وسلم نلت السقف ، وخطب عمر بن الخطاب وهو خليفة المؤمنين وعليه إزار به اثنتا عشرة رقعة .
لقد طويت الدنيا عنهم ولم يكن ذلك لهوانهم على الله ، بل لهوان الدنيا عليه سبحانه .، فهي لا تزن عنده جناح بعوضه ، وركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها . فلا تأس ولا تجزع على ما فاتك منها ، ولا تفرح بما أتاك؛ فالمؤمن لا يجزع من ذلها ولا يتنافس في عزها له شأن و للناس شان ، وكن عبداً لله في عسرك و يسرك و منشطك ومكرهك ، وسواء أقبلت عليك الدنيا أو أدبرت فإقبالها إحجام ، وإدبارها إقدام ، والأصل أن تلقاك بكل ما تكره فإذا لاقتك بما تحب فهو استثناء.(/3)
الزواج العرفي بين الصمت الرسمي و الهمس الشعبي
سفيان علي آدم*
" كان زميلي في الجامعة , طبعا في البداية كنت أحس أنه أفضل انسان في العالم ، طيب وحنون وخفيف الدم , مثل الكثيرات من صديقاتي وجدت نفسي أسير في القطيع كالبهيمة التي لا عقل لها و تزوجنا على ورقة تباع على الرصيف أمام الجامعة يسمونها ( عقد ) الزواج العرفي ولقيت نفسي بين يوم وليلة زوجة لشاب تافه إكتشفت تفاهته من أول دقائق جمعتنا سوية لوحدنا إكتشفت كالحيوان لا يهمه إلا متعته فقط وبعدها يدوس على بالحذاء.
بدأ الندم من تلك اللحظة وسألت نفسي لماذا فعلت هذا ؟ وفعلا كرهته كما لم أكره أي إنسان في حياتي ولكن للأسف هذا تم بعد ما أفقدني عذريتي. بعدها جلست في البيت لمدة شهر كل يوم أبكي وامتنعت عن ذهاب الجامعة ولما قابلته طلبت منه أن نتطلق ولكن (الحقير) رفض بشكل مهين جدا وطلب أن يقابلني وحدنا مرة أخرى ويأخد حقوقه الزوجية بأسلوبه الدنيء فرفضت إلى الأبد.
مرت سنتان ونحن على هذا الحال زواج على ورقة واحدة كانت معه وعرفت بعد ذلك انه تزوج زميلة لي زواجا عرفيا أيضا . و للأسف لم يعلم بزواجنا سوى أنا وهو واثنين من الشهود لم أعرف من أين أتى بهم وأحسست بفظاعة ما فعلته عندما تقدم لي شاب على خلق وفي مركز مرموق ولا ترفضه أي فتاة , و رحب أهلي به جدا ولأول مرة في حياتي شعرت أنني وجدت فتى أحلامي في الشكل والمضمون وفي قمة فرحتي أبلغت أهلي بموافقتي والظاهر أن فرحتي الكبيرة أنستني أني ( متزوجة ) , طبعا الإنسان (الحقير) رفض أكثر أن يطلقني عندما علم أن أحدا تقدم لي , و كانت النتيجة أني إضطررت أن أضع حججا واتعامل بشكل سيء مع فتى أحلامي إلى أن ملّ مني و تركني .
الآن , موضوع زواجي مضى عليه ثلاثة أعوام , تخرجت و عملت في بنك محترم و يريد الكثيرون التقدم لي و لكن ليس باليد حيلة , فهل سأظل إلى الأبد على هذه الحالة ؟ أفيدوني ما هو الحل لو عرفتم ، هل أتزوج وأصبح (زانية) وأتعرض لتهديد من يسمى ب(زوجي) ليدمر حياتي الجديدة أم أبقى على هذا الحال إلى أن يضيع شبابي وجمالي أم أقتله وأستريح وأريح العالم من شره ؟"
ليست هذه الكلمات جزءا من مشهد سينمائي أو فصلا في رواية , و إنما قصة حقيقية وقعت أحداثها في إحدى الجامعات , أبطالها طلاب نشئوا في مجتمع يفترض أن يكون إسلاميا , كلماتها شاهدة على ما وصل إليه الحال في المؤسسات التعليمية , و تدق ناقوس الخطر للوباء القديم الحديث المسمى ب ( الزواج العرفي ) الذي و إن كان الحديث عنه ما زال همسا , إلا أن الهمس بدأ يرتفع بين الطلبة أنفسهم , و بين وسائل الإعلام .
فهل هذه الظاهرة حقيقية أم أن وسائل الإعلام ضخمتها لأغراض خاصة ؟ و إذا كانت حقيقية فما هو حجمها , و لماذا يتهرب الجميع من الحديث عنها ؟ و ما هي سبل علاجها إن وجدت ؟
طلبة الجامعات فلم يعد سرا لديهم أن الزواج العرفي بات ظاهرة في الجامعات لدرجة أن بعض الطلاب يدافع عنه جهارا نهارا بإعتبار أنه لا بديل عنه في ظل الظروف الإقتصادية الصعبة
بين التعتيم الرسمي و البوح الطلابي
حاولنا الإتصال ببعض الجهات الرسمية للتعليق على هذا الموضوع , أو إعطائنا أي إحصائية قريبة من الدقة حتى نستطيع أن نعتمد عليها في تشخيص هذه الظاهرة إلا أن الجميع رفض بحجة الدواعي الأمنية , إلا أن مسئولة في داخلية (سعاد طمبل) للبنات علقت بأنهم لديهم إحصائيات عن هذه الظاهرة لكنهم يرفضون البوح بها لأنها مصنفة ضمن المحظورات الأمنية !!..
أما طلبة الجامعات فلم يعد سرا لديهم أن الزواج العرفي بات ظاهرة في الجامعات لدرجة أن بعض الطلاب يدافع عنه جهارا نهارا بإعتبار أنه لا بديل عنه في ظل الظروف الإقتصادية الصعبة , و و ......!!!!
لكن دراسة أعدتها وزارة الإرشاد و الأوقاف قبل 3 أعوام عن هذا الموضوع أشارت إلى أن الزواج العرفي ما زال ظاهرة معزولة في الوسط الطلابي , و أن67% من الطلبة الذين تم سؤالهم عن هذا الموضوع اشاروا إلى أنهم سمعوا عنه و لم يعرفوا حالات بعينها , كما أشارت الدراسة إلى أن معظم الذين أستطلعت آراؤهم أدانوا هذه الظاهرة .
و خلصت إلى أن هذه الظاهرة لا يمكن نفي وجودها بالكلية و لكنهها محصورة في نطاق ضيق و أنه ظاهرة في طور التكوين و أنه من ثم يمكن محاصرتها و القضاء عليها إذا ما عدنا للالتزام بهدى شرعنا و مقاصده عوداً حميداً .
و تقول دراسة لاستاذة جامعية في علم الاجتماع هي د.هاجر علي بخيت أن تدني سن الدخول للجامعات جعل كماً ضخماً من المراهقين و المراهقات يجابهون بصدمة الاختلاط و كثيرٌ من هؤلاء من مجتمعات محافظة . ومن هنا فالاختلاط هو البيئة المفرخة لعديد من الظواهر السالبة و منها هذا الزواج العرفي.
ماذا يقول الطلاب ؟!..(/1)
ظاهرة الزواج العرفي ظاهرة وافدة على المجتمع السوداني , إنتقلت إليه عبر وسائل الإعلام الهدامة كالفضائيات و ما تبثه من مسلسلات و أفلام , و للأسف وجدت هذه الظاهرة الوافدة قبولا
الطلبة الذين إستطلعنا آراءهم حول هذا الموضوع أجمعوا على رفضه لكنهم عللوا إنتشاره بأسباب مختلفة بين من يلقي باللائمة على الحكومة التي تسمح بالإختلاط في الجامعات , و بين يضع اللوم على وسائل الإعلام , و من يرى أن الواقع المعيشي الصعب الذي يمر به الشعب السوداني هو وراء هذه الظاهرة ...
وسائل الإعلام و الدور الهدام..
محمد حبيب الله / كلية الآداب جامعة الخرطوم
ظاهرة الزواج العرفي ظاهرة وافدة على المجتمع السوداني , إنتقلت إليه عبر وسائل الإعلام الهدامة كالفضائيات و ما تبثه من مسلسلات و أفلام , و للأسف وجدت هذه الظاهرة الوافدة قبولا لدى عدد ليس بالهين من طلاب و طالبات الجامعات .
و حول الأسباب يقول : أرى أن هذا الأمر يرجع بالأساس إلى غياب الوازع الديني و التربية الإيمانية لدى الطلاب , كما أن العلوم التي تدرس بالجامعات لا تعمل في الغالب على غرس قيم الإستقامة و معاني التدين , و كذلك الجامعات المختلطة و غياب الرقابة الأسرية .
كما أن هذه الظاهرة غير مرتبطة بالفقر , فالكثير ممن وقعوا فيها هم من الأغنياء .
أما عن العلاج فإنه يتوقف على الدولة و أجهزتها و ذلك بأن تعمل على الفصل بين الجنسين في الجامعات و إنهاء الإختلاط الذي ظل ينخر في جسد القيم و الأخلاق الحميدة .
بعض الذين درسوا خارج السودان قد ساهموا في إنتشار هذه الظاهرة, و على الأسر تربية أبنائها تربية صالحة
العوائق المادية..
الزبير عثمان بادي / كلية الآداب جامعة الخرطوم
الزواج العرفي موجود في الوسط الجامعي لكنه يمارس بخفية , و السبب فيه هو صعوبة تكاليف الزواج و القيود التي يضعها المجتمع من طلبات كثيرة و إلتزامات أسرية قاسية , مما يدفع ببعض الطلاب إلى هذا السلوك المشين في حالة إنعدام الإستقامة و التربية الدينية الفاضلة .
كما أن بعض الذين درسوا خارج السودان قد ساهموا في إنتشار هذه الظاهرة .
و على الأسر تربية أبنائها تربية صالحة و إلزام البنات بالزي الشرعي بالحجة و الإقناع . و ينبغي المسارعة إلى إنقاذ شريحة الشباب لتؤدي دورها في المجتمع و ذلك بإيجاد البرامج النافعة التي تستوعب طاقاتهم حتى لا ينصرفوا إلى ما هو مخالف للدين و الأخلاق .
القيم الغربية الوافدة و محاولة (شرعنتها ) !!
الذين وقعوا في هذا الأمر فالكثير منهم يرون أنه حرام , و لكنهم تمادوا بسبب الغفلة و ضعف الوازع الديني و بحجة أنه أخف من الزنا
أيمن الطيب / كلية القانون
هذه المشكلة ترجع للتأثر بالحضارة و القيم الوافدة من الغرب , و بما أن الحضارة الغربية قائمة على التفسخ و الإنحلال فإن تطبيقها يستحيل في مجتمعاتنا المسلمة فيلجأ البعض إلى الزواج العرفي لإيجاد ما يعتبره ( شرعية ) لممارساته .
و عن الذين وقعوا في هذا الأمر فالكثير منهم يرون أنه حرام , و لكنهم تمادوا بسبب الغفلة و ضعف الوازع الديني و بحجة أنه أخف من الزنا .
أما الحل فيكمن في تيسير أمور الزواج – على الطلاب خصوصا – و أن تقوم إدارات الجامعات بإقامة حملات للزواج الجماعي .
الشباب و التهرب من المسئولية..
إنتصار محمد / دراسات عليا
الزواج العرفي موجود و منتشر في الجامعات و أسبابه تقع على الشباب , حيث تجد عندهم الرغبة في التهرب من المسئولية و تحمل الأعباء مع رغبتهم في إشباع غرائزهم و نزواتهم .
أما البنات فهن في الغالب يقعن ضحية الوعود الكاذبة و المعسولة بإسم الحب و الوعد بالزواج . و الشباب بعضهم لا يركن إلى الحياة المستقرة الهادئة لأن ذلك يستتبع مسئولية و أبناء و أسرة , و هو لا يريد المسئولية إنما يريد إشباع رغباته و شهواته فقط دون مقابل .
و تكون النتيجة لذلك أن تفقد الفتاة أعز ما لديها , و قد لا تعالج أسرتها الأمور بصورة طيبة , و تكون العاقبة وخيمة .و لعل إنتشار بعض أصحاب الشهادات الغربية و السيارات الفارهة و الشقق المفروشة له دور في إنتشار الزواج العرفي .
الإختلاط و الفقر..
منى محمد عثمان / كلية الإقتصاد
هناك دراسات و إحصاءات تثبت أن الزواج العرفي موجود و منشر في الجامعات بصورة كبيرة .
بعض الطالبات يواجهن ظروفا إقتصادية حرجة مع حوجتهن للمصروفات الدراسية و تكاليف الكسوة و المعيشة , فيجعل كل ذلك الفتاة ضعيفة أمام الإغراءات
و أحد أهم أسباب إنتشاره هو الإختلاط , كذلك الدافع الإقتصادي , فبعض الطالبات يواجهن ظروفا إقتصادية حرجة مع حوجتهن للمصروفات الدراسية و تكاليف الكسوة و المعيشة , فيجعل كل ذلك الفتاة ضعيفة أمام الإغراءات .
و في الغالب يكون الذين يصطادون الفتيات لهذا المستنقع ليسوا طلابا , و إنما أصحاب أموال و موظفين تتوفر لديهم الإمكانيات .(/2)
و على الدولة أن توفر للطالبات ما يحتجنه بقدر الإمكان خصوصا في ضرورات المعيشة حتى لا يلجأن إلى سلوك مسلك آخر , كما ينبغي الإهتمام بمن وقعوا في هذه الخطيئة و إشعارهم بالإهتمام و محاولة إيجاد حلول لمشكلتهم هذه , و لا بأس من تزويجهم زواجا شرعيا حتى لا يصبحوا عوامل هدم في المجتمع .
إنعدام القيود و الرغبة بالتباهي ..
يقول كمال الدين أحمد يوسف خريج علم النفس :
الزواج العرفي ليس ظاهرة طلابية فقط إنما هو ظاهرة مجتمعية تشمل قطاعا واسعا من المجتمع , إذاً فهو موجود في كل شرائح المجتمع , لكنه يظهر في الوسط الطلابي لأنه أكثر وسط يتواجد فيه الذكور و الإناث في نطاق واحد دون قيود , و قيود الطلاب ليست كقيود الخدمة المدنية التي تضع للموظفين ضوابط و مسئوليات , فالطلاب غالبا يلتقون في أوقات مفتوحة خاصة في الكليات التي لا يكون فيها ضغط أكاديمي عال .
لذا , يؤدي لقاء الطلاب و الطالبات في وسط واحد و مفتوح إلى تولد الرغبة في الآخر , لكن هذه الرغبة لا تجد طريقها إلى التحقيق نسبة لظروف الواقع المعقدة , فيلجأ الطلاب إلى خيارات منها إقامة علاقات عاطفية أو الزواج عرفيا .
و هناك بعض البنات لديهن الرغبة في البذخ و الإسراف في الحياة , فتقبل بمن يوفر لها هذا البذخ و لو بطريقة غير شرعية .
رأي الشرع
: يقول الشيخ د . عبد الحي يوسف
الزواج لا يصح إلا بولي لقول النبي صلى الله عليه وسلم {لا نكاح إلا بولي} أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم، قال السيوطي رحمه الله: حمله الجمهور على نفي الصحة. وقوله {أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل} أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم كما قال الحافظ رحمه الله في فتح الباري. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه {لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها} أخرجه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي. قال الحافظ رحمه الله: رجاله ثقات.
وقد خاطب الله الأولياء بأمر النكاح فقال ((ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا)) وقال ((فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن)) وقال ((وأنكحوا الأيامى منكم)) ولو أن كل امرأة اشتهت رجلاً تزوجته بغير إذن وليها أفضى ذلك إلى فساد عظيم؛ لأن ولي المرأة ـ غالباً ـ أعرف بحالها وأبصر بمصلحتها، وإذا كان الولي بخلاف ذلك أي يتعمد عضل وليته أو يعطل أو يضرها في أمر زواجها نزعت الولاية منه وجعلت لمن يليه أو للسلطان.
ختاما ..
ها نحن هنا نسلط الأضواء على هذه المشكلة التي بدأت تستشري في مجتمعنا المسلم و بدأ يتعاظم خطرها , فما هو واجب الدولة عبر وزاراتها و مؤسساتها ؟ و ما هو واجب العلماء و أهل الرأي ؟ و ما هو الدور الذي يقع على عواتق وسائل الإعلام المختلفة في التحذير من هذه الظاهرة و محاولة علاجها ؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات كبيرة , فمن يجيب عنها ؟!!.(/3)
الزواج المبكر
دراسة موجزة
مقدمة لمؤتمر المرأة الفلسطينية وتحديات الأسرة المعاصرة
المنعقد في جامعة النجاح الوطنية 24-25/4/2000
أعدها
د. حسام الدين عفانه
الأستاذ المشارك في الفقه والأصول
كلية الدعوة وأصول الدين /جامعة القدس
• ... المقدمة
• ... مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية
• ... سن الزواج في الشريعة الإسلامية
• ... تعريف الزواج المبكّر
• ... الردّ على شبهات الداعين إلى تأخير سن الزواج
• ... إيجابيات الزواج المبكر
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) سورة آل عمران الآية 102 .
( يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) سورة النساء الآية 1 .
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) سورة الأحزاب الآيتان 70-71 .
وبعد ...
أشكر إدارة مركز جذور للثقافة والفنون على تنظيم هذا المؤتمر بعنوان ( المرأة الفلسطينية وتحديات الأسرة المعاصرة ) كما وأشكركم على دعوتي للمشاركة بورقة عمل بعنوان ( الزواج المبكر في المجتمع الفلسطيني بين رؤية الدين وممارسة المجتمع ) وأبدأ ورقتي بذكر بعض النصوص الشرعية التي تحض على الزواج :
قال تعالى :( وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ) سورة النور الآية 32 .
وقال تعالى :( فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ) سورة النساء الآية 3 .
وقال تعالى :( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ) سورة الآية 25 .
وقال تعالى :( وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ) سورة النساء الآية 24 .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) رواه البخاري .
وقال - صلى الله عليه وسلم - :( وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ) رواه البخاري .
وقال - صلى الله عليه وسلم - :( الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ) رواه مسلم .
ثم أذكر مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية بإيجاز :
للزواج مقاصد عديدة منها :
1. المحافظة على النوع الإنساني .
2. سلامة المجتمع من الانحراف الخلقي .
3. المحافظة على الأنساب .
4. السكن الروحي والنفسي ، فقد قال تعالى :( وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) سورة الروم الآية 21
5. حماية المجتمع من الأمراض الجنسية المختلفة بغياب الزواج الشرعي .
6. تلبية حاجات النفس بالأمومة والأبوة .
سن الزواج في الشريعة الإسلامية :
لم تحدد الشريعة الإسلامية سناً معيناً بالسنوات لعقد الزواج بل أجاز جمهور الفقهاء المتقدمين زواج الصغير والصغيرة أي دون البلوغ ولكن قوانين الأحوال الشخصية في البلاد الإسلامية حددت سناً للزواج فقد نصّ القانون الأردني للأحوال الشخصية في المادة الخامسة منه على ما يلي :
[ يشترط في أهلية الزواج أن يكون الخاطب والمخطوبة عاقلين ، وأن يتم الخاطب السن السادسة عشرة وأن تتم المخطوبة الخامسة عشرة من العمر ]
[ ونصّ قانون الأحوال الشخصية لدولة الإمارات العربية في الفقرة الأولى من المادة عشرين على أن سن الزواج للفتى ثمانية عشر عاماً وللفتاة ستة عشر ].
وأما قانون الأحوال الشخصية السوري فقد حدد سن الزواج للفتى بثمانية عشر عاماً وللفتاة بسبعة عشر عاماً وأجاز زواج الفتى بسن خمسة عشر عاماً وللفتاة بسن ثلاثة عشر عاماً بإذن القاضي وموافقة الولي .
ونصّ قانون الأحوال الشخصية التونسي على أن سن الفتى عشرون عاماً والفتاة سبعة عشر عاماً. وكذلك فإن القوانين الأوروبية قد حددت سن الزواج فالقانون الفرنسي قد جعل سن الثامنة عشرة للفتى والخامسة عشر للفتاة .(/1)
والقانون الألماني جعل سن الفتى إحدى وعشرين سنة والفتاة عشرين .
والقانون السويسري جعل سن العشرين للفتى وسن الثامنة عشرة للفتاة .
وكذلك فإن الديانات الأخرى حددت سناً للزواج ففي الشريعة اليهودية جعلت سن زواج الرجل الثالثة عشرة والمرأة الثانية عشرة .
وفي القانون الروماني جعل سن زواج الرجل الرابعة عشرة للرجل والمرأة الثانية عشرة .
تعريف الزواج المبكّر :
إن المعنى الحقيقي للزواج المبكر من الناحية الطبية والعلمية هو الزواج قبل البلوغ فبالنسبة للفتاة الزواج المبكر هو زواجها قبل الحيض .
وأما تسمية من تتزوج قبل الثامنة عشرة بأنه زواج مبكر فهذا لا يستند إلى قاعدة علمية أو قاعدة شرعية فأمر الزواج مربوط بالبلوغ والبلوغ عند الفتاة هو الفترة الزمنية التي تتحول فيها الفتاة من طفلة إلى بالغة وخلال هذه الفترة تحدث تغييرات فسيولوجية وسايكولوجية عديدة والبلوغ ليس بحدث طارئ وإنما هو فترة من الزمان قد تتراوح ما بين سنتين وست سنين ويرتبط بعوامل جينية أي وراثية وعوامل معيشية وصحية وفي آخر هذه الفترة يحدث الحيض وعندها تصبح الفتاة بالغة .
وأما سن البلوغ فيتراوح عالمياً ما بين 9-16 سنة وفي بلادنا ما بين 11-12 سنة حسب دراسة علمية صادرة عن الجامعة الأردنية .
الدعوة إلى تأخير سن الزواج وما ادعي فيه من المخاطر والأضرار :
ورد في نشرة صادرة عن أحد المراكز النسوية التي تتبنى فكرة تأخير سن الزواج إلى أن تبلغ الفتاة الثامنة عشرة من عمرها أن للزواج المبكر مخاطر متعددة على الفتاة من النواحي الصحية والاجتماعية والنفسية فمن المخاطر الصحية بأنها إذا حملت في فترة مبكرة فإنها لا تتم حملها بمدته الكاملة لأن جسمها لم يكتمل نموه بعد وأنها قد تتعرض للإجهاض المتكرر .
وقد تتعرض الفتاة إلى فقر الدم وخاصة خلال فترة الحمل . وقد تزداد نسبة الوفيات بين الأمهات الصغيرات أي ما بين 15-19 عاماً عن الأمهات اللواتي تزيد أعمارهن عن العشرين عاماً بسبب الحمل . وقد تزداد وفيات أطفال الأمهات الصغيرات بنسبة أكبر من الأمهات الأكبر سناً وذلك لقلة الدراية والوعي بالتربية والتغذية .
وزعمت النشرة وجود مخاطر اجتماعية ونفسية لأن الفتاة تكون في مرحلة المراهقة ولا تستطيع أن تبدي رأيها في أمور حياتها الزوجية بثقة وارتياح وقد تقع تحت تأثير الأهل والأقارب في شؤون حياتها الشخصية .
وقد ينتج عن الزواج المبكر الحرمان من التعليم .
وكذلك فإن الزواج المبكر يزيد من الأعباء الملقاة على عاتق الفتاة في هذه الفترة .
الردّ على شبهات الداعين إلى تأخير سن الزواج :
1. إن قانون الأحوال الشخصية قد منع زواج الصغار أخذاً بالرأي الفقهي الذي يمنع ذلك واشترط بلوغ الزوجة خمسة عشرة عاماً وأما الزوج فستة عشرة عاماً وهذا السن بالنسبة للرجل والمرأة هو سن يكون كل منهما قد بلغ ويدخل سن الأهلية والتكليف ، والدعوة إلى تأخير الزواج هو انتقاص لأهلية الرجل والمرأة وحجر على حريتهما التي تتبجح هذه المراكز بالمناداة بها .
2. اعتبار الفتى والفتاة في سن المراهقة ولا يقوى كل منهما على أخذ القرار المناسب هي حجة واهية جوفاء لأن الفتاة تأخذ رأي وليها وتستشيره في أمورها وخصوصاً موضوع الزواج إضافة لذلك فإن المجتمع الإسلامي هو مجتمع المحبة والمؤاخاة و التناصح .
3. إنهم قد اعتبروا زواج الصغار أمراً لا فائدة منه حسب ادعائهم ونقول فيه رداً عليهم بأن قانون الأحوال الشخصية لم يجز زواج من لم يبلغ واعتبر الأهلية والتكليف شرطا أساسياً في هذا الموضوع ولا نؤيد زواج الصغار الذين ما زالوا في مرحلة الطفولة لأن الطفل والطفلة لا طائل من زواجهما في هذا السن لعدم تحقق أهداف الزواج والمعاشرة الزوجية من زواجهما .
وكذلك فقد جاء في كتاب القانون ومستقبل المرأة الفلسطينية لمؤلفته أسمى خضر ص 131 الدعوة إلى تأخير سن الزواج إلى 18 عاماً للفتاة والفتى وذلك تمشياً مع تعريف الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل إذ أن نهاية سن الطفولة بلوغ 18 عاماً .
وأقول إنه لأمر عجيب حقاً تمديد سن الطفولة إلى بلوغ 18 عاماً ليتمشى ذلك مع الاتفاقيات الدولية ولماذا لا نسير وفق ما جاء في ديننا وتاريخنا وحضارتنا ، لقد دق محمد بن القاسم أبواب الصين وهو دون الثامنة عشرة وقاد أسامة بن زيد جيوش المسلمين وهو ابن ستة عشرة عاماً فهل تأخير سن الطفولة إلى ثمانية عشرة عاماً في مصلحة الأمة والمجتمع .
4. أما دعوى صغر حجم الأعضاء التناسلية عند الفتاة في تلك المرحلة هو ادعاء مخالف لرأي الطب الذي قال إن مرحلة بلوغ الفتاة يكون بين الثانية عشر والرابعة عشر والقانون لا يجيز زواج الفتاة إلا في الخامسة عشر مما يستدعي مرور سنة على بلوغها على الأقل قبل الزواج .
5. الادعاء بزيادة الوفيات للأمهات الصغار جراء الحمل وسوء التغذية هو ادعاء غير مسلم بالإضافة إلى أن الواقع يكذبه من خلال الحس والمشاهدة بالنسبة للوفيات .(/2)
أما ادعاء سوء التغذية فهو بحاجة إلى زيادة وعي من البيت والأسرة والمدرسة والجامعة ووسائل الإعلام ودور الرعاية الصحية التي لو تم استخدامها بطريقة سليمة ودقيقة لأحدثت نقلة نوعية فائقة في هذا الأمر .
6. نشرت صحيفة الحياة اليومية المحلية تقريراً صادراً عن مركز دراسات الزواج بجامعة روتشرز مفاده أن نسبة الزواج في الولايات المتحدة الأمريكية قد هبطت إلى أدنى من الرقم القياسي في نهاية القرن الحالي ويعزو هذا الانخفاض إلى الأسباب التالية :
أ. إن الأمريكيين يؤجلون سن الزواج إلى سن أكبر ففي عام 1960 كان متوسط العمر للزواج 20 سنة للفتاة و 23 سنة للرجل وفي عام 1997 ارتفع 25 للفتاة و27 للرجال .
ب. يقول التقرير إنه كلما تأخر سن الزواج كلما فكر الناس أكثر في عدم الزواج ونتيجة لذلك إن أمريكيات كثيرات يلدن ويربين أطفالاً دون زواج ففي الستينات ولد 25.3 % من إجمالي المواليد في الولايات المتحدة من أمهات غير متزوجات بينما ارتفعت هذه النسبة إلى رقم أكبر في عام 1997 لتصل إلى 32 % من الأمهات غير المتزوجات.
ج. تأخير سن الزواج أدى إلى ظاهرة تفشي المعاشرة دون زواج حيث يقيم رجل وامرأة تحت سقف واحد دون زواج الأمر الذي زاد من انتشار العلاقة الجنسية خارج نطاق شرعية الزواج.
وخلص التقرير إلى نتائج مهمة منها :
• الزواج مؤسسة اجتماعية حيوية لرعاية وتربية الأطفال .
• الزواج هو ( الغِراء ) الذي يلصق الأباء والأمهات بالأطفال ويسهم في الصحة البدنية والعاطفية والاقتصادية للرجال والنساء والأطفال والأمة ككل .
• انهيار الزواج وراء مشاكل اجتماعية كبيرة وعلى الحكومة التعامل مع هذا بقدر ما تستطيع .
• إن الزواج القوي والأسرة المكونة من والدين مصلحة من أهم مصالح البلاد .
7. إن قانون الأحوال الشخصية عندما حدد سن الأهلية بهذا العمر لم يفرض على الناس الزواج في هذا السن بالذات إنما اعتبر أن أقل سن يستطيع المرء الزواج فيها هو هذا السن .
وبالنظر إلى سجلات عقود الزواج في المحاكم الشرعية نجد أنه قلما تتزوج فتاة دون سن السابعة عشر أو دون سن العشرين للشباب .
إن أولياء الأمور يستطيعون تقدير أمور الزواج المتعلقة ببناتهم فإذا وجد في ابنته القدرة على ذلك زوجها ، وإذا لم يجد فيها القدرة على ذلك لم يزوجها .
8. إن البحوث العلمية والدراسات العالمية تثبت أنه لا يوجد زيادة في مضاعفات الحمل عند النساء اللاتي تتراوح أعمارهن ما بين 15-19 سنة . وإن المضاعفات التي تحصل عند الحوامل أقل من 15 سنة هي نسبياً قليلة . هذا ما أثبته العالم الأمريكي Satin من “Parkland Hospital- Texas
إن إيجابيات الزواج والحمل والإنجاب في سن مبكر عديدة منها :
1- الإخصاب : " إمكانية الحمل " إن نسبة الخصوبة" أي الحمل خلال فترة الزواج " عند الفتيات في سن مبكر تفوق الفتيات في الأعمار الأخرى .
2- الأورام الحميدة والخبيثة : إن أورام الثدي والرحم والمبايض هي أقل عند النساء اللواتي يبدأن الحمل والإنجاب في السنين المبكرة .
3- الحمل المهاجر" خارج الرحم " : يثبت العالم الأمريكي Rubin في أبحاثه عام 1983 أن حالات الحمل خارج الرحم هي 17,2 /1000 عند النساء اللواتي يزدن عن 35 سنة , وأن النسبة تقل إلى 4،5/1000 عند النساء اللواتي تتراوح أعمارهن 15-24 سنة .
4- الإجهاض : في بحث للعالم الأمريكي Hawen تزيد نسبة الإجهاض من 2-4 أضعاف عند النساء بعد 35 سنة من العمر .
5-إن العمليات القيصرية والولادة المبكرة و التشوهات الخلقية ووفاة الجنين داخل الرحم ووفاة الأطفال بعد الولادة جميعها تزداد نسبياً كلما زاد عمر الحامل .
9. إن الحمل والإنجاب هو عمل متكرر وإن المرأة بحاجة إلى فترة زمنية طويلة لإنجاب ما كتب الله لها من أطفال . فالمرأة التي تتزوج في سن متأخر فإنها سوف تنجب أطفالها وهي في سن متأخر ، ومن المثبت طبياً أن الأمراض المزمنة تبدأ بالظهور أو تزيد استفحالاً كلما تقدم الإنسان عمراً وهذه الأمراض المزمنة تزيد مخاطر الحمل والإنجاب وأحياناً تقف عائقاً للحمل والإنجاب .
ومن إيجابيات الزواج المبكر :
1- تحمل الزوجين للمسؤولية وعدم الاعتماد على الآخرين .
2- كما أنه يقلل من الوقوع في الرذيلة و الانحراف والشذوذ الجنسي .
3- وفيه المحافظة على النسل وتعمير الكون وازدهاره .
4-كما أن فيه التقارب في السن بين الآباء والأبناء بحيث يكون الفارق في السن بينهما قليلاً يستطيع الآباء من خلال ذلك رعاية أبنائهم والسهر على راحتهم وهم أقوياء كما يستفيدون من خدمة أبنائهم لهم .
دراسة حول زواج الفتيات لأقل من سن سبعة عشر عاماً من خلال سجلات عقود الزواج في إحدى المحاكم الشرعية في إحدى المدن الفلسطينية .
قام أحد الباحثين بإجراء الدراسة من خلال سجلات عقود زواج المحكمة الشرعية خلال عام 1999 م وكانت حسب التالي :
1- تم عمل الدراسة على ثلاثمائة عقد زواج تم إجراؤها في المحكمة الشرعية .(/3)
2- تبين من خلال الدراسة أن تسع وستين حالة زواج كان عمر الزوجة فيها أقل من سن 17 عاماً
3- الفتيات اللواتي تم إجراء عقود زواجهن فوق ستة عشر عاماً من الرقم تسع وستين بلغ سبع وثلاثون حالة .
4- الفتيات اللواتي تم إجراء عقود زواج لهن فوق سن خمسة عشر عاماً بلغ اثنتان وثلاثون حالة .
و من خلال الدراسة ظهرت النتائج التالية :
أ- نسبة الزواج لأقل من ستة عشر عاماً تساوي 10% من حالات الزواج فقط .
ب- لم يتبين أي حالة زواج أقل من سبعة عشر عاماً للرجال وإنما تزيد عن ذلك بكثير .
ج- الغالبية العظمى من الفتيات اللواتي تم إجراء عقود زواجهن في المحكمة وتقل أعمارهن عن ستة عشر عاماً هن من القرى .
وعليه فإننا نستطيع القول أن الصراخ العالي الذي تطلقه مراكز المرأة حول تأخير سن الزواج ليس له داع من الناحية العلمية من خلال البحث والإحصاء في سجلات المحكمة من حيث أن عشرة بالمائة من العقود فقط تقل أعمارهن عن السن المقترح من قبل تلك المراكز بالإضافة إلى أن هذه النسبة تقل إلى النصف أو أكثر إذا عرفنا أن إجراء العقد لا يعني الزواج من الناحية العملية ، بل إن عملية الزواج ربما لا تتم إلا بعد عام أو أكثر من تاريخ كتابة العقد .
لذلك نستطيع القول أن هذه الدعوة ما هي إلا أفكار ماكرة وأراء خبيثة تطلقها أبواق الحقد والمكر اتجاه مشروع الزواج في الشريعة الإسلامية .
وختاماً فإني أقول إنه لا يجوز شرعاً سن قانون يحظر الزواج قبل الثامنة عشرة لما يترتب على ذلك من مفاسد كثيرة . ومع أنني من أنصار التبكير في الزواج وأحث على ذلك ولكنني أرى أنه ينبغي أن يكون الزوجان قد أتما المرحلة الجامعية الأولى وهذا لا يعني منع حالات الزواج في أقل من ذلك وحسب ما حدده قانون الأحوال الشخصية .
والله الهادي إلى سواء السبيل(/4)
الزواج لماذا؟...2
الزواج إشباع وتكامل:
مفكرة الإسلام : إن الحاجة إلى الزواج تشمل أربعة عناصر مترابطة ومتداخلة وهي:
1- الحاجة إلى السكن النفسي بالزواج.
2- الحاجة إلى الشعور بالنوع وتحقيقه.
3- الحاجة إلى الإشباع الغريزي.
4- الحاجة إلى تحقيق التكامل بالزواج.
وقد تناولنا في المقال السابق شرحًا واضحًا في النقطتين الأولى والثانية، والآن فإنك عزيزي القارئ في شوق إلى تفصيل العنصرين التاليين، وسبر أغوار هذا المبهم.
وإليك فيما يلي إضاءة هذا الغموض، فتابع معي:
3- الحاجة إلى الإشباع الغريزي:
هناك استعداد فطري غريزي للزواج، وهذا الاستعداد يكون بعد تمام البلوغ للفتى وللفتاة وما يصاحب البلوغ من تغيرات جسمية ونفسية.
فبالنسبة للفتى نجد مظاهر متعددة للبلوغ من نبوت الشعر، وحدوث القذف والاحتلام، ونمو الأعضاء التناسلية، والقدرة على الإنجاب، وظهور شعر الوجه عند الذكور، والحيض عند الإناث، وكل هذه الظواهر وغيرها تلح على الفتى والفتاة، وتؤذنهما بالاستعداد الغريزي، والحاجة إلى إشباع هذه الغريزة.
والزواج هو الطريق الفطري الطبيعي لتلبية الحاجة الغريزية، والشوق والميل الجنسي للآخر أمر يؤكده الإسلام ويؤصله، ويبين الأسلوب الناجح في إشباعه وتوجيهه، لأن منهج الإسلام منهج فطري واقعي.
فعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
[[يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء]] أخرجه البخاري ومسلم.
ومن النصوص النبوية العجيبة البليغة نجد ما يؤكد على الأمر بالزواج وحب النساء، والميل إلى الجنس الآخر، ولكن كيف نشبع هذا الميل؟ وكيف نشبع هذه الغريزية؟
إن عملية الإشباع هذه تكون بطرق سوية أو غير سوية:
فأما الطرق غير السوية فتختلف من إنسان لآخر في مستوى الانحراف، والكيفية، فمن مفتن بالمجلات الخليعة الماجنة، ومن قارئ للكتب والقصص الجنسية المكشوفة، ومن متابع للأفلام والمسلسلات الغرامية والعاطفية، ومن مستخدم للعادة السرية، ومن واقع في الفاحشة بأنواعها.
أما الطريق السوي للإشباع هذه الغريزة الفطرية، فإنه طريق واحد لا ثاني له، وهو طريق الزواج.
والإنسان الذي لديه القدرة على إرضاء حاجاته البيولوجية والنفسية إرضاءً مناسبًا، يتناسب مع إنسانيته ويتناسب مع شرعنا الحنيف؛ فإنه يتمتع بشيء هام جدًا، وهو الصحة النفسية.
وانظر معنا إلى حبيبنا صلى الله عليه وسلم وهو يعلمنا كيف نشبع فطرتنا بما لا ينافي شرعنا، وأن نبينا عندما قال لثلاثة من الرجال زهدوا فيما أحل الله لهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله واتقاكم له؛ ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني]]. متفق عليه .
وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: [[حُبّبَ إليَّ من دنياكم النساء والطيب وجُعلت قرة عيني في الصلاة]]. صححه الألباني في صحيح الجامع.
وخلاصة القول أن الزواج هو استجابة فطرية لتلبية دافع فطري وحاجة جبلِّية ملحة، والطريق الفطري لتلبية هذه الحاجة هو الزواج.
4- الحاجة إلى تحقيق التكامل بالزواج:
إن هناك شعور من الرجل بنقصه دون امرأة، وشعور المرأة بنقصها دون رجل، وهذا الشعور منبعث من حقيقة فطرية وسنة نفسية تكمن في أصل تكوين الإنسان، وهو أن الرجل والمرأة عنصران متكاملان وليسا متماثلين، فأحدهما يكمِّل الآخر، ولهذا اعتبر اقتران الرجل بالرجل أو المرأة بالمرأة شذوذًا تحظره الأديان، وتأنفه الفطرة والأذواق السليمة، ويعارضه العقل ويستهجنه العرف.
إن المرأة والرجل في الحياة الإنسانية كالسالب والموجب في الطاقة الكهربائية، والليل والنهار في الدورة اليومية، والأرض والمطر في الحياة النباتية، لا يستغني أحدهما عن الآخر.
فإذا كان الرجل يمثل نصف وحدة فإن النصف الآخر هو المرأة لا سواها.
وحنين الإنسان إلى نصفه الآخر، وشوقه إليه وسعيه للاقتران به أمر طبيعي فطري، وخلافه خلاف الفطرة.
بل قد يكون الأمر أعمق من ذلك كما يقول أحد الأدباء:
[[يختلف حب الرجل للمرأة عن حبها له، لانفصالها عنه وكونه لها أصلًا، وكونها فرعًا منه، فحبها له كحنين الغريب إلى وطنه، وهو يحن إليها حنين الكل إلى جزئه الذي انفصل عنه، لذلك هو يحس بالنقص لفقدها، وهي تحس بالضياع لبعده، كضياع الغريب في غربته]].
ولقد فطنت المرأة قديمًا لهذا المعنى عندما أوصت أم اياس ابنتها قبل زفافها، فقالت لها:
[[أي بُنية إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلَّفت العش الذي فيه درجتِ إلى وكر لم تعرفيه وقرين لم تألفينه، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لفنى أبويها وشدة حاجتها إليها؛ كنت أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خُلقن, ولهن خُلق الرجال]].(/1)
وهكذا فإن الإنسان قبل الزواج لا تستقر نفسه، ولا تهدأ روحه، ولا يشعر بالطمأنينة والامتلاء النفسي حتى ينضم إليه إلفه، ويجتمع بمحبوبه، ويسكن إلى زوجه، حيث تتم النعمة وتتحقق الحكمة، كما قال تعالى: [[سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ]] [يس : 36]
وقال تعالى: [[وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [1] وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [2] وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى ]][الليل:1:3].(/2)
الزواج لماذا؟ لماذا الحاجة إلى الزواج؟
وصرخت الطبيبة:
مفكرة الإسلام : خذوا شهاداتي وأعطوني زوجًا، خذوا شهاداتي ومعاطفي وكل مراجعي، وجالب السعادة المزيفة [تعنى المال] واسمعوني كلمة ماما، لقد كنت أرجو أن يُقال طبيبة، فقيلت وما نالني من مقالها.
فقل للتي كانت ترى فيَّ قدوة هي اليوم بين الناس يُرثى لها
وكل مناها بعض طفل تضمه هل ممكن أن تشريه بمالها
وقال شاب:
إلهي... أضطرم القلب بنار الشهوات، وتشتت الفكر بالخطرات، وارتفع الصوت بالعبرات، اللهم طهر قلبي، واغفر ذنبي، وحصِّن فرجي، اللهم أعني على سلوك طريق العفاف.
اللهم سُدَّت الطرق إلا طريقك، وأُغلقت الأبواب إلا بابك وأنت تعلم حاجتي، اللهم يسر لي الزواج، أريد أن أتزوج يا ربي.
عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، هكذا يحلم كل شاب وفتاة، يحلم بالزواج، لماذا؟
لأن كل إنسان رجل أو امرأة يحتاج إلى الزواج كحاجته إلى الطعام والشراب والنوم، وهذه حاجات عضوية، وفي نفس الوقت الزواج يمثل حاجة نفسية أيضًا.
وقبل أن ندخل في تفصيل ذلك لابد أن نتوقف عند معنى الحاجة في علم النفس وبشكل خاص كما جاء في هرم الحاجات لعالم النفس الشهير ماسلو:
الحاجة هي: الافتقار إلى شيء إذا وُجد حقق الإشباع والارتياح للكائن الحي، والحاجات توجه السلوك سعيًا لإشباعها.
ومن أمثلة الحاجات الفسيولوجية حاجة الإنسان إلى الماء والغذاء والهواء والجنس والنوم.... الخ.
ومن أمثلة الحاجات النفسية الحاجة إلى الحب والقبول والتقدير وتحقيق الذات والأمن والسكن... الخ.
والحاجة إلى الزواج تشمل أربعة عناصر مترابطة ومتداخلة نذكرها فيما يلي:
العناصر الأساسية الأربعة:
1- الحاجة إلى السكن النفسي بالزواج.
2- الحاجة إلى الشعور بالنوع وتحقيقه.
3- الحاجة إلى الإشباع الغريزي.
4- الحاجة إلى تحقيق التكامل بالزواج.
وإذا لم يحقق الزواج هذه العناصر الأربعة، أو تخلف أحد منهم؛ فإن الزواج يكون مخفقًا وناقصًا بقدر النقص الموجود في هذه العناصر.
ونحن متأكدون أن القارئ يريد المزيد من التوضيح في هذه العناصر الهامة الأربعة، وفيما يلي شرحًا مبسطًا لمضمون كل عنصر ذكرناه.
1- الحاجة إلى السكن النفسي.
فمن وظائف الزواج أنه يمنح السكن النفسي، انظر إلى قوله الله تعالى:
[[ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون]] [الروم : 21].
فالسكن والمودة والرحمة من الحاجات النفسية التي يحتاجها الإنسان ويسعى إلى تحقيقها بالزواج، فالإنسان قبل الزواج يعيش حالة من الشتات والقلق وفقدان الاستقرار، واذكر أن شابًا كلما لقي أحد طلب منه الدعاء، والسبب أنه يريد الزواج ليستقر، وهذه حقيقة أن الإنسان لا يستقر إلا بالزواج، ولا يسكن إلا إليه، ولا يطمئن إلا بتحقيقه.
والآيات السابقة تشير إلى النعمة النفسية والاجتماعية العظيمة التي منحها الله لهم بهذا التآلف والتجاوب بين الجنسين.
وقد أشارت دراسات عديدة إلى الفروق بين المتزوجين وغير المتزوجين من حيث الاستقرار، ونوع الاتجاه والنشاط لقضاء وقت الفراغ، ومن ذلك الدراسة التي قام بها مركز أبحاث لدراسة الاتجاه العام الذي يسلكه هؤلاء الشباب في قضاء وقت الفراغ، وقد دلت هذه الدراسة على نزوع المتزوجين إلى الاستقرار، والاتجاه إلى النشاطات الثقافية، ونزوع غير المتزوجين إلى المسالك الانفعالية [مثل: معاكسة النساء، والتفحيط، التعصب الرياضي، مشاهدة الأفلام الخليعة، التسكع] والعاطفية، وإلي الجنوح أحيانًا.
2- الحاجة إلى الشعور بالنوع وتحقيقه:
قالت دكتورة الصحة النفسية في أحدى محاضراتها لطلبة وطالبات دبلوم الدارسات العليا قسم الإرشاد النفسي: لا بد أن نربي الولد على أنه ولد، والبنت على أنها بنت؛ لتأكيد النوع والدور الذي سيقوم به كل نوع في الأسرة والمجتمع، وذكرت حالة كانت تتابعها لعلاجها، فتابع معي عزيزي وعزيزتي القارئة:
هذا طالب في الثانوية يشكو أنه يحب أن يكون أنثى وليس رجل، وبالتالي هو يهتم بنعومة بشرته وتصفيف شعره وجمال ملبسه وعذوبة صوته بشكل غير طبيعي، ويتصرف وكأنه امرأة.
وقد اكتشفت الدكتورة سبب هذه الأعراض عليه، وهي أنه وهو صغير كانت أمه تعامله على أنه بنت؛ لأنها كانت تحب البنات جدًا ورُزقت بهذا الولد، فكانت هذه التربية الخاطئة لهذا الشبل الصغير تربية ناعمة جدًا تلبسه ملابس البنات، وتسرح له مثل البنات، وتضع له مكياج على وجهه، ومانكير على أظافره، ويا لها من مصيبة، وكانت تفرح وتضحك بما تفعل، ولا تدري أنها كانت سببًا في مشكلة نفسية كبيرة عند هذا الطفل صاحب السنتين، عندما كبر ووصل إلى الثانوية.
وقد عالج لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القضية منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، عندما قال عنه ابن عباس رضي الله عنهما: [[لعن رسول الله r المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء]] أخرجه البخاري.(/1)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [[لعن رسول الله r الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل]] أخرجه أبو داود.
وجاء أيضًا فيما رواه البخاري ومسلم: [[لعن رسول الله r المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال ]] رواه البخاري ومسلم.
ولعل من أسباب النهي عن تشبه كل جنس بالآخر ما للثياب والأوضاع من أثر خطير في النفس ينتقل إلى السلوك، فإذا تشبهت المرأة بالرجل مالت إلى أعماله وتطبعت بطبعه وفقدت أنوثتها.
وكذلك الحال عند الرجال، وفي ذلك تبديل للفطرة.
ومن العجيب أن في جسم الإنسان غددًا تفرز هرمونات الأنوثة وهرمونات الذكورة، وتزيد هرمونات الأنوثة على هرمونات الذكورة والعكس، تبعًا للسلوك والتشبه.
فإذا سلكت المرأة مسلك الرجل في لباسها وحركاتها وأعمالها؛ زادت الهرمونات الذكرية على الهرمونات الأنثوية، وأصبحت المرأة تشبه الرجل، وفي ذلك قلب للمفاهيم ومسخ للفطرة، وكذلك الحال بالنسبة للرجل عندما يسلك مسلك الإناث في لباسه وأوضاعه، حتى في حلق لحيته؛ فإنه بذلك يفقد خصائص الرجولة وقوتها.
وعندما يقترن الزوج بالزوجة كرجل، وتقترن الزوجة بالزوج كامرأة؛ يتأكد الإحساس بالنوع، ويمارس كل منهم دوره.
فالرجل يتميز بقوة نفسية ومعنوية، وقوة جسمية وخشونة، وصفات التحمل والحماية، والمرأة تتميز بحنان وعطف ورحمة وجمال ورقة ونعومة، وبالتالي تمارس دور الأنوثة.
ولا شك أن الرجل يمقت ترجل المرأة، والمرأة أيضًا تمقت تخنث الرجل، وعندما يتشبه الرجل بالمرأة أو المرأة بالرجل؛ فإنهما يضادان الفطرة والجبلة؛ فيحصل الشذوذ، وتتعطل السنن النفسية أو تضطرب، ثم تحدث الأمراض النفسية والاجتماعية.
ولذلك نهى الإسلام عن التشبه، وتوعد عليه أشد الوعيد لما فيه من مخالفة الفطرة، واختلاط السنن، واختلال القواعد التي تضبط سير الإنسان، وتقويض الثوابت النفسية والاجتماعية التي تضمن للإنسان المتعة، والطمأنينة والاستقرار النفسي.
فسلوك التخنث والترجل والتشبه، سلوك شاذ يصطدم مع الفطرة، ولا يتلاءم مع طبيعة الحياة النفسية، والمنهج الإسلامي يريد أن يحتفظ كل جنس بنوعه، وأن يشعر بتميزه، ويحارب السعي لطمس الفطرة وإماتة الإحساس بها.
وخلاصة القول:
إن الاحتفاظ بالجنس أو النوع والشعور به مطلب مهم للإنسان، وخروج كل عن دائرته يشقى الإنسان، ويشعره بالنقص والخواء وعدم الاستقرار، وهو يشعر الجنسين بالتضارب في الأدوار.
وعندما نرى الفتى في مرحلة المراهقة والبلوغ؛ تظهر عليه معالم الرجولة وأمارات الذكورة التي تميزه عن الفتاة، وتشعره بنوعه وجنسه، والفتاة تظهر عليها معالم النساء وأمارات الأنوثة التي تميزها عن الفتى، وتشعرها بنوعها وجنسها.
والزواج هو الذي يجعل الفتى والفتاة يمارسان الدور الحقيقي كل حسب نوعه، مما يلبي هذه الحاجة الفطرية وهي الإحساس بالنوع والتميز به.
تابع معنا عزيزي القارئ المقال التالي لنكمل معًا العناصر الأربعة الأساسية في موضوع الحاجة إلى الزواج.(/2)
الزواج من الزانية
رقم الفتوى
10721
تاريخ الفتوى
21/12/1425 هـ -- 2005-02-01
السؤال
ما معنى قول الله تعالى (الزاني لا ينكح إلا زانيةً أو مشركة) هل المقصود في لا ينكح أي لا يتزوج وهل المشركة هنا هي الكافرة أو التي أشركت مع زوجها غيره ؟
الإجابة
الحمد لله وبعد ،
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في معنى الآية الكريمة ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً )(النور: من الآية3): هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة أي لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك . وكذلك ( وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ )(النور: من الآية3) أي عاص بزناه أو مشرك لا يعتقد تحريمه ، قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قال ليس هذا بالنكاح وإنما هو الجماع لا يزني بها إلا زان أو مشرك .
إذن فالمقصود بالمشركة هنا الكافرة التي تستحل الزنا . والله أعلم وأحك(/1)
الزواج من المرأة العاملة بين الرفض والقبول
أيمن محمود محمد على*
إن ما ذهبت إليه معاهدة مناهضة العنف ضد المرآة في الآونة الأخيرة، وما ترتبت عليه من اتفاقيات من ضمنها الحق في عمل المرأة، والتدرج في الوظيفة؛ وذلك لحفظ عزتها وكرامتها وماء وجهها تضامنا مع مقولة (من لا يملك قوته لا يملك قراره)، وإن عملها هذا يجنبها جور الزمان، وقسوة الأيام.
إن شظف العيش، وحالة الضنك المزري التي عمت كافة طبقات المجتمع، وخصوصا الشباب، والذين يأملون في إكمال نصف دينهم، ولكن تطول قائمة مستلزمات الزواج وتكاليفه - أجبرتهم على الاقتران بمن هي عاملة؛ وذلك للتكاتف والتعاضد لمجابهة الظروف الحياتية الصعبة.. وأصبحت أولي أوليات المتطلبات المرجوة لهؤلاء الشباب في شريكة حياتهم هي الاقتران بمن هي موظفة بالرغم من أن هذا لا يصب في مصلحة استمرار واستقرار الحياة الزوجية بينهما.. بل من السلبيات فيه أن المرأة العاملة تأتي إلي البيت خاملة، ومتعبة جراء المواصلات، وكثرة المعاملات في سياق عملها.. هذا فضلا عن ضعف الاهتمام، ورعاية الأبناء والذي يسوده نوع من الجفاء؛ نظرا لغيابها عنهم معظم اليوم، وتركهم مع زويها، أو في الحضانات أو عند الجيران..
الحل في الزواج من المرأة العاملة
• عبد المنعم التوم الطيب - موظف:
• أري أن الزواج من المرأة العاملة به كافة الحلول لعزوف الشباب عن الزواج تحت مسمي الحالة الاقتصادية السيئة، ويمكن أن يتلافوا هذه المشكلة بالمشاركة والتعاون الكامل بينهما؛ لبناء ذلك المشروع الضخم.. وأنا لا أري به أيّ سلبيات اللهم إلا عدم التنسيق، والتوفيق بين قضاياهم.
ست بيت مدبر واقتصادية
• أنور إبراهيم محمد – تاجر:
• بصراحة نحن ناس أقاليم، والتربية والتنشئة الاجتماعية تحتم علينا الزواج من المرأة التي يدور فلكها حول عالم البيت، ومتابعة شؤون الأطفال، ورعايتهم.. وهذا أهم شيء عندي.. أنا سوف أتكفل بكافة المنصرفات الأسرية لها ولأطفالنا بما قسمه الله سبحانه وتعالي؛ إذًا لا بد لشريكة حياتي أن تكون قنوعة، وعينها مليانة، وست بيت مدبرة واقتصادية.
وضع خطة للتوفيق والتنسيق
• عمر كرم الله عبد الرحمن - قوات نظامية:
• أرغب في الزواج من عاملة لمجابهة متطلبات الحياة والمشاركة في أعباء المعيشة؛ والزمن أصبح قاسيا، والأسعار مرتفعة في كل شيء بدأً من إيجار المنزل، وانتهاءًا بالمصروفات الغذائية، وكذلك التعليم، والصحة، والرعاية الاجتماعية.. وإن شاء الله سوف نضع خطة للتكيف مع هذه المرحلة، والتوفيق بين أدائها لعملها وإيفائها بحقوقي، وحقوق منزلي.
عدم الالتزام بالحقوق الزوجية
• مصعب مصطفي محمد - طالب حاسوب:
• بالرغم من الحالة الاقتصادية المذرية، وتدني مستوى المعيشة فلا أرغب في الزواج من امرأة عاملة ؛لأني لا أضمن التزامها، وإيفائها بحقوقي، وواجبات أبنائي؛ من نظافتهم، واستذكار دروسهم، وأيضا الأعباء المنزلية الجسيمة؛ لأن عملها أو وظيفتها لا يمكنها أبدا التوفيق بينه وبين واجباتها سالفة الذكر.
العدو الأفاق .. وهو الطلاق
• حافظ عبد القيوم عبد الرحيم - خريج هندسة ميكانيكا:
• أرغبها عاملة لكن بشرط في مجالات معينة؛ بمعني أن يكون عملا ليس بالمرهق لها؛ لأنها بذلك الإرهاق لا يمكنها أن تقوم بالوردية الثانية بالمنزل، كما ينبغي لها؛ الأمر الذي يؤدي إلى المشاحنات؛ ويمكن أن يمهد لبذر بزور الخلافات الأسرية، وتصدع، وتفكك العلاقات الحميمة بيننا، وربما يشن عدوهم الأول غارته عليهما.. هذا العدو الأفاق.. وهو الطلاق.. والعياذ بالله تعالى.
التوفيق بين الفائل والدقيق
• عبد المحمود علي بيكة - عامل باليومية:
• عمل المرأة سلاح لها في وجه الزمان.. وأنا أرى أنه لا يوجد بعملها تعارض مع وظيفتها كربة منزل أو أُمٍّ لأبناء، ويمكن التوفيق بين الفائل والدقيق بتوزيع الأدوار، والتنسيق الكامل بين الزوجين، وأن تسود أجوائهم روح التعاون (تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)، وليس في ذلك سلب لحقوق الرجل؛ وإنما تنازله من بعض حقوقه في حدود معينة يصب في دفع عجلة الزمن بينهما.(/1)
الزواج والحب
سلمان بن فهد العودة 8/9/1424
02/11/2003
المرأة التي لم تُدغدغ أناملُ الحب عواطفها هي تربة لم يشقها المحراث، إن لم ينبت فيها الزرع والثمر، رعت فيها الحشرات والهوام.
ولهذا كان الزواج من هدي الأنبياء والمرسلين :
يقول الله جل وعلا : (وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً)[الرعد:38].
وكان سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي".
الزواج: استجابة لنداء الحق جل وتعالى :
(وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) [النور:32].
واستجابة لنداء محمد -صلى الله عليه وسلم-:
"يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ, وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ, وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ".
ولذلك قال عمر -رضي الله عنه-: من دعاك إلى غير الزواج؛ فقد دعاك إلى غير الإسلام.
ورأى رجلاً لم يتزوج على كبر سنه؛ فقال: لا يترك الزواج إلا عاجز أو فاجر.
الزواج هو الطريق الشرعي لقضاء الوطر الفطري الذي ينادي ويصيح بالبدن، فإن وجد الحلال, وإلا تعدّى إلى الحرام:
يقول الله -جل وعلا-: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُم) [المؤمنون:5-6].
الزواج: من أعظم نعم الله على عباده؛ فهو طريق العفة وطريق السعادة، يقول الله سبحانه وتعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)[الروم:21].
إنني مستعد أن أتخلى عن نساء الدنيا كلها، وحظوظ الدنيا كلها من أجل امرأة، إذا تأخرت عليها عن موعد العشاء أصابها القلق وساورها الهم.
هكذا نطق أحد الحكماء.
الزواج: طريق سهل ميسر لاكتساب الأجر والثواب من الله جل وعلا.
لقد ارتقى به النبي -صلى الله عليه وسلم- ليكون عبادة لله سبحانه:
"وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ"، "وَإِنَّكَ لاَ تُنْفِقُ نَفَقَةً إِلاَّ آجَرَكَ اللَّهُ فِيهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ".
الزواج السعيد هو القائم على أسس صحيحة، هو قوة للأمة، وتجديد لشبابها، وتكثير لأجيالها.
"تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ".
الزواج السعيد فرصة للتعارف بين الأسر والعوائل, والمدن والبلاد.
ولقد أسفرت دراسة أجراها طبيب نفسي على الرجال والنساء، في محاولة للتعرف أي الجنسين أكثر تقبلاً للسعادة؟
فوجد أن النساء أقدر من الرجال على استيعاب السعادة، وعلى استيعاب التعاسة في الوقت نفسه.
فإذا أتيح للمرأة مقومات الحياة الطيبة من بيت طيب, وزوج صالح, وأطفال، (ولم تسمن أيضاً)؛ فإنها تكون سعيدة.
وبضد ذلك، فإن المرأة إذا حُرمت من هذه الأشياء؛ فإنها تتجشم من البؤس, والشقاء, والتعاسة, أضعاف ما يتجشمه الرجل.
والنجاح والفشل في الحياة الزوجية قضية تختلف من إنسان لآخر... فما أراه نجاحاً قد يعدُّه غيري فشلاً..
ولكن ثمة أمور ينبغي اعتمادها كأصل في مسألة النجاح والفشل، ويتفق عليها الجميع...
فالمرأة إذا لم تحترم زوجها وتحافظ على سمعته فلا يقول عاقل: إن هذا الزواج ناجح.
والرجل إذا كان مهملاً لبيته، تاركاً لزوجته وأولاده من أجل تحقيق رغباته الخاصة؛ فلا يستطيع أحد -أيضاً- أن يقول عن هذا الزواج إنه ناجح.
وإن كانت هناك حقيقة تقول:
إن الفشل والنجاح متقلبان في الحياة الزوجية، بمعنى أن الزواج قد يبدأ ناجحاً ثم يفشل، أو يبدأ فاشلاً ولكن الزوجين يتخذان الأسباب، ويعالجان الفشل؛ فتنقلب حياتهما نجاحاً.
وهذا هو المطلوب، العبور بالزواج إلى بر الأمان.
وأعلى درجات النجاح أو السعادة في العلاقة الزوجية هي: أن يكون النجاح في الدنيا والآخرة.
فدستور الحياة ثلاث نقاط:
* الحوار
* الحب
* التضحية
ويمكن تحقيق السعادة الزوجية بهذه الخطوات:
1- التعرف على عوائق الحياة الزوجية، وعوامل فشلها.. وكيفية تفاديها.
2- التوكل على الله والشعور بمعيته، فذلك من أسباب النجاة.
3- قوة الإرادة .. وهناك أربع نقاط ذكرها د. عبد الرحمن حبنكة في كتابه "الأخلاق الإسلامية وأسسها".يمكن للإنسان قياس قوة إرادته أو ضعفها بها وهي:
* سرعة مبادرته للخيرات والطاعات.
* التفاؤل بالخير دائماً.
* تلقي الأحداث بصبر ورضا.
* ملك النفس عند الغضب
والإنسان إذا أراد أن يقوي إرادته فعليه:
أ- بتقوية إيمانه بالله جل وعلا، وبصفاته الحسنى، وبقضائه وقدره.
ب- والتدريب العملي من خلال مجاهدة النفس.
ج- وممارسة العبادات.(/1)
أما علماء النفس المحدثون فإنهم يؤكدون أن استخدام علم البرمجة العقلية أو الإيحاء الذاتي له أكبر الأثر في تقوية الإرادة.
* تحويل الألم إلى سعادة، والمحنة إلى منحة؛ فالرضا بالقضاء والقدر هو الذي يحول الألم إلى سعادة
* الاستغفار والدعاء.. وكم من عائق للسعادة الزوجية قد زال بسبب الدعاء!
* النظر إلى الأمور بغير تعقيد؛ فالتجارب تدلنا على أنه كلما سهلنا الصعب وبسطنا المعقد؛ كان الأمر سهلاً ميسراً، فلا نبالغ في الوصف والشكوى، ولا نظلم تاريخ العلاقة الزوجية، وما انقادت الآمال إلا لصابر
* عقد جلسة مصارحة في مكان مناسب، ووقت مناسب، ونفسية متهيئة للاستماع، وكلمات رقيقة بعيدة عن الاتهام والتشهير
فكم من مشكلة تم حلّها وعلاجها بسبب جلسة مصارحة ووئام!، فكل شيء يمكن إخضاعه للمناقشة، وكما قيل: "الصراحة راحة".
الحب
القلب هو مصدر سعادتك، وليس البنك ولا المعدة.
إن الكوخ الذي تضحك فيه المرأة خير من القصر الذي تبكي فيه.
المرأة السعيدة هي من تجد رجلاً تحبه ويحبها.
خير ما يكسب الرجل بعد تقوى الله -عز وجل- امرأة جميلة, والجميلة هي: الوفية المصونة العاشقة.
تستطيع المرأة أن تنقل لزوجها وأبنائها الصفة المهمة، التي يقل وجودها في الجنس الخشن؛ إنها صفة الرحمة التي تملك المرأة منها مالا يملكه الرجال.
يقول الشاعر جلال الدين الرومي:
أيها السائح الذي طوّف بالآفاق
وشهدت عيناه أخصب أرض تفيض فيها الأزهار
وأبصر المروج تتفتح فيها الورود
قل لي بالله: أي البلاد رأيتَها هي أجمل البلاد؟
أيتها الحسناء
أتريدين أن أدلك على البلد الذي يفوق حسنه كل حسن، ويمحو منظره كل منظر؟
ذلك يا حسناء حيث يقيم الأحبة.
أخصب أرض هي تلك التي وطئتُها.. أرض الحبيب.(/2)
الزواج والمعاملةً ...
عبد الحميد رميته من ميلة , الجزائر ...
1- إحذري إن كنت متزوجة أن تسألي زوجك الطلاق من غير بأس (بدون سبب موضوعي وشرعي) .
2- إذا تقدم رجل لطلب يدك للزواج وكان لكِ دخل في تحديد المهر, فاعملي من أجل أن يكون المهرُ خفيفا ، واعلمي أن (أقلهن مهرا أعظمهنَّ بركة) كما أخبر الرسول-صلى الله عليه وسلم -.
3- إذا كنتِ متزوجة فلا تنفقي شيئا من مال زوجك بما لم يأذن لكِ به .
4- لا تصومي نفلا إلا بإذن زوجك .
5- المرأة تحب من الرجل – خاصة إذا كان زوجا-:
ا- أن يحضر لها هدية بين الحين والآخر ولو كانت رمزية,لأن مثل هذه الأشياء تفرح المرأة كثيرا .
ب- أن يطلب نصيحتها ومشورتها في بعض مشاكله ,وأن يأخذ بها أحيانا.
6- على الزوجين أن يحرص كل منهما على معاملة الآخر وكأنهما يلتقيان لأول مرة , وعليهما أن لا يناما على مشكلة دون الوصول إلى حل لها أو اتفاق بشأنها , وأن يتفاديا الثورة المجنونة معا في نفس الوقت ,وأن يحترم كل منهما حياة الآخر الخاصة .
7- عندما تثور الخلافات الزوجية , فإن الذي يتكلم أكثر هو غالبا الذي يفوز فيها , لكن ليس شرطا أن يكون هو الأصوب.
8- الأزواج أكثر فهما- عموما- لشخصية زوجاتهم,كما أنهم أكثر قدرة على التنبؤ بما يفعلنه في ظروف معينة
9- مما يعين الرجل على أن يكون في المستقبل سعيدا مع زوجته:
ا- الخطبة من قوم يعرفهم الزوج.
ب- أن تكون الزوجة من طبقة اجتماعية واقتصادية وثقافية مثل طبقة الزوج أو قريبة منها.
ج- أن لا يكون مستوى المرأة الثقافي أعلى من مستوى الرجل .
د- أن لا يطلب الرجل الجمالَ في المرأة كشرط لازم وكافي .
هـ- أن لا يكثر الزوج من زيارة أهل زوجته بعد الزواج , حتى تبقى المودة ويبقى الاحترام متبادلا بينه وبينهم ومن ثم بينه وبين زوجته .
و- أن يُرِيَ الزوج لزوجته من أول يوم في الحياة الزوجية أسوأ ما عنده (بعيدا عن الحرام ومخالفة الدين) كما يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله , حتى إذا قبِلت مضطرة به وصبرت محتسبة عليه , يعود فيريها أحسنَ ما عنده من خلق وأدب ومعاشرة طيبة , فتفرحُ الزوجة بذلك فرحا شديدا وتحس وكأنها تزوجت من جديد , فتُقبل على زيادة الإحسان إلى زوجها وزيادة خدمته , ويصير الزوجان بذلك كلما زادت الحياة الزوجية يوما كلما زادت سعادتهما قدرا ملموسا.
ي- أن يترك الزوج المرأة وشؤونها الخاصة بها من ترتيب الدار وتربية الأولاد , وأن تترك هي له ما هو له من الإشراف والتوجيه .
وأخيرا أن لا يكتم أحدهما أمرا مهما عن الآخر , وأن لا يكذب عليه .
10- بالنسبة لعمل المرأة خارج البيت , أقول بأن هناك مجموعة من القواعد الأساسية التي تحكمُ هذا الموضوع , أذكرها أو أذكر أهمها كما يلي:
أولا : لا خلاف بين كل العقال مؤمنين وكفار , في أن الأصل في عمل المرأة –عموما-هو البيت .
ثانيا : أما العمل خارج البيت بسبب أنها مضطرة إليه, لأنها لم تجد من ينفق عليها من أب أو أخ أو زوج أو ابن أو..فهو جائز بلا خلاف بين علماء الإسلام قديما وحديثا , والنقاش هنا ليس متعلقا به.
ثالثا : وكذلك عمل المرأة خارج البيت في عمل يحتاج المجتمع فيه إليها لمصلحته العامة ,كأن تشتغل المرأة في الطب (خاصة طب النساء ) أو في التعليم والتربية في مؤسسات تعليمية, أو في مجالات التربية وعلم النفس للمرأة وللطفل وللزوج ,أو في تعليم فنون الطبخ والخياطة والطرز وغيرها للنساء ..فهذا جائز كذلك بلا خلاف بين علماء الأمة,والنقاش هنا كذلك ليس متعلقا بهذه الحالة.
رابعا : أما عمل المرأة لغير ذلك ,كما هو حال الكثيرات من النساء اليوم اللواتي يعملن خارج البيت لا لأنهن مضطرات , ولا لأن المجتمع احتاج إليهنَّ ( بل من أجل زيادة دخل الأسرة المادي أو من أجل كثرة الدخول والخروج أو من أجل ..) , فإن علماء المسلمين اختلفوا في ذلك على قولين :
الأول بحرمة ذلك .
والثاني بالجواز لكن بشرط أن تعمل المرأة بعيدة عن الاختلاط , وأن تعمل وهي مرتدية للباس الإسلامي المعروف .
لكن حتى إذا أخذتُ أنا بهذا القول الثاني ومِلتُ إليه , فإنني أقول بأن سيئات هذا العمل أعظمُ بكثير من حسناته. وعمل المرأة هذا إذا ملأ حقيبة المرأة بالمال , فإنه يملأ في نفس الوقت قلبَها وقلبَ زوجها (خصوصا) وقلوبَ أولادها وقلبَ دارها (إذا صح هذا التعبير,واعتبرنا أن للدار قلبا) هموما وهموما. والملاحظ أن الناس يعرفون ذلك في الغالب لكنهم يُنكِرون .
أما هي : فإن عملَها خارج البيت يملأ قلبَها هموما :
* لأنها ستتعب كثيرا بدنيا (أو بدنيا وفكريا على حسب طبيعة عملها خارج البيت) حين تقوم بعملين في نفس الوقت , ويستحيل أن أصدقها إذا أنكرت أنها تتعب فوق اللزوم بهذا العمل المضاعف .(/1)
* لأنها ستتعب كثيرا نفسيا بإحساسها بأنها بعيدة عن زوجها مقصرة في حقه (لأنها في الكثير من الأحيان بعيدة عنه ,ولأنها عندما تلتقي به تكون مرهقة عوض أن يشكو لها همه ,تجد نفسها تشكو له أكثر مما يشكو لها) وبعيدة عن أولادها الذين هم في أشد الحاجة إليها ولا يمكنهم أن يجدوا عند أي كان ما يجدونه عندها هي –أمهم-من عطف وحنان ورحمة ومودة ,وبعيدة عن بيتها الذي يعتبر
جسدا روحُه المرأة وبستانا أزهاره المرأة .
* ولأنها بالعمل خارج البيت,وإن كسبت مالا ,فإن عينيها تُفتحان أكثر على الدنيا ومتاعها الزائل وتزيد طلباتها بقدر ما يزيد دخل العائلة,وتنقصُ عندها القناعةُ - غالبا- بقدر ما يعطيها الله من مال (ولا ننسى بأن نقطة ضعف المرأة في الحياة هي المال ثم المال) .
* ولأنها بالعمل خارج البيت ,تكسب شبه استقلال اقتصادي (بسبب أنها تملك المال الذي يبدو لها أنها به يمكن أن تستغني عن الرجل) وتظن أنه سيسعدها , لكن هيهات هيهات.
لقد قال الله : ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض , وبما أنفقوا من أموالهم ) , ويستحيل أن تسعد امرأة إلا في ظل الحياة مع رجل ينفق عليها وتحس دوما أنه أقوى منها .أما إذا طلبت السعادة في غير ذلك فإنها واهمة .
وأما زوجها فيمتلئ قلبه هموما بعمل امرأته خارج البيت :
* لأنه يحس بفراغ كبير نفسيا,بسبب أن زوجته وأم أولاده وربة بيته موجودة في الغالب بعيدة عنه وعن أولاده وعن بيته .وكيف يرتاح الرجل وهو بعيد غالبا عمن لم يجعل الله مودة ورحمة إلا بينه وبينها,وهي زوجته .
* ولأن زوجته بسبب ذلك مقصِّرة في حقه سواء في الأكل والشرب والفراش والغطاء والخياطة و .. أو من حيث العشرة الطيبة المطالبة بها المرأة اتجاه زوجها ,أو من الناحية الجنسية في الفراش,لا لأنها لا تحِبُّ ولكن لأنها لا تقدرُ .
* ولأن زوجته مقصرة في حق أولادها بسبب أنها غائبة عنهم في الكثير من الأحيان .
* ولأن زوجته بدأت تسيء إليه أو تتكبر عليه أو تُقصِّر في حقه أو .. انطلاقا من إحساسها بأنها تمتلك نوعا من الاستقلال الاقتصادي.ويستحيل أن يسعد رجل مع امرأة يعتبرها-أو تعتبر نفسها-أقوى منه ولا تحتاج إلى إنفاقه عليها .
وأما أولادها : فهمومهم واضحة لا تحتاج إلى دليل أو برهان. ونحن نخادع أنفسنا عندما نقول بأن تربية الأولاد مثمرة ومفيدة ونافعة سواء كانت الأم مستقرة في بيتها أم كانت تعمل خارج البيت.هذا ما كان صحيحا بالأمس, وهو ليس صحيحا اليوم , ولا يمكن أن يكون صحيحا في المستقبل بإذن الله .
وأما الدار: فلو أتيحت لها الفرصة أن تتكلم ,لاستغاتث وطلبت النجدة من هذه المرأة التي تتركها في كل يوم كأنها خراب,والتي تكاد تمكث خارج البيت أكثر مما تمكث داخله. والمعروف أن الدار إذا ذُكِرت تُذكرُ معها المرأة,ولا معنى لدار بلا امرأة حتى أن الكثير من الناس قديما وحديثا تعودوا على أن يشيروا بكلمة "الدار" إلى زوجاتهم ,فيقول الواحد منهم مثلا :"قالت لي الدار اشترِ لي كذا".
هذا كله , ويضاف إليه أن المجتمع لن يستفيد –عموما-من عمل المرأة خارج البيت في هذه الحالة الأخيرة التي لم تضطرَّ فيها هي إلى ذلك ولم يحتج المجتمع إلى عملها,لأنه لا يمكن أن تجمع المرأة بين النجاح في البيت والنجاح في العمل خارج البيت ,فهي إمَّا زوجة وأم ناجحة وعاملة فاشلة ,وإما عاملة ناجحة وأم فاشلة .وإن حدث نجاحان في امرأة واحدة وفي نفس الوقت فهو شذوذ .
والعيب في هذا ليس فيها, إنما في التصور بأن شخصا واحدا يمكن أن يؤدي بإتقان عمل شخصين في نفس الوقت.إنه إذا صح أن تنجح المرأة في العملين في نفس الوقت,فإنه يصح بالمثل أن ينجح الرجل في عمله خارج البيت وكذا داخل البيت (من تربية أولاد وطبخ وغسيل وخياطة وطرز ونظافة و..) في نفس الوقت .وهذا مستحيل , وما سمعنا برجل ادعى ذلك .لماذا نخادع إذن أنفسنا ونقول بأن الثاني غير ممكن , أما الأول فنقول عنه بأنه ممكن ؟. إن معنى ذلك أن الرجل ضعيف وأن المرأة فوق القوية (SUPERMAN) . الله يهديكم ثم يهديكم يا ناس .
يا رجال صارحوا المرأة بالحقيقة ولا تكذبوا عليها, واعلموا أن الكلمة أمانة وأن المرأة أمانة , وأنه لا دين لمن لا أمانة له.
11- التفكير في الزواج ليس فيه أي عيب من المرأة أو من الرجل , وكذلك الحديث عنه ليس فيه أي عيب (حتى ولو قال المجتمع للمرأة : عيب عليك أن تتحدثي عن زواجكِ) , لكن يشرط أن لا يكون هذا الحديث طويلا وأن يكون بين الحين والحين فقط وأن لا يكون على حساب أمور أخرى أهم.أما مع عدم توفر هذه الشروط فإن هذا الحديث يصبح لغوا لا طائل من ورائه.(/2)
12- يجوز للمرأة – شرعا- أن تطلب من رجل- اطمأنت لدينه وخلقه- أن يخطبها (ولو كان ذلك مخالفا لعادات الناس وتقاليدهم ) إذا غلب على ظنها أنه لن يشك فيها. هذا أمر جائز, لكن قال العلماء بأن هذا الجواز مشروط بأن تكون المرأة معروفة بإيمانها وتقواها , حتى لا تُتَّهَم وحتى لا يطمعَ فيها طامع وحتى لا تتَّبِع هواها بإذن الله . وبطبيعة الحال إذا تقدم الرجل لخطبتها فإن العقد الشرعي لا يتم إلا
بوليها , لأن المرأة لا يجوز لها أن تزوِّج نفسَها بنفسِها.
13- ادعي الله أن يرزقكِ في المستقبل بزوج صالح يعينكِ على أمر دينكِ ودنياكِ ويُسعدكِ وتسعدينهُ. لكن لأن الزواج قضاء وقدر فلا تكثري – أختي أو ابنتي- من التفكير فيه لأنك ستتزوجين حتما متى شاء الله وبالذي قدره الله وفي الأجل الذي قضاه الله , فلا تعجلي في أمر سبقت فيه كلمة الله ,واصرفي فكركِ وطاقتكِ إلى الدراسة أو العمل والدعوة إلى الله . وفقكِ الله لكل خير – آمين-
14- الزواج تحمل ومسؤولية وقيام على شؤون الأسرة والبيت والزوج والأولاد , لذا فإن عليكِ أن تهيئي نفسكِ لذلك قبل الزواج , فإذا أنِست من نفسكِ قدرة على ذلك وتقدم يطلب يدكِ من ترضين دينه وخلقه فاقبلي ولا ترفضي ,إلا تفعلي تكن فتنة في الأرض وفساد كبير .
وأظن – والله أعلم بالصواب – أن المرأة تخطئ كثيرا عندما تعتذر عن رفضها للزواج بأعذار واهية في الغالب مثل : "ما زلتُ صغيرة" , "أريد أن أكمل دراستي الجامعية أو ما بعد هذه الدراسة"," أعملُ لسنوات قبل أن أتزوج ",.. إن الزواجَ خيرٌ وبركةٌ , والفرصة التي تتاح اليوم للزواج قد لا تتاح غدا , خاصة ونحن نعلم أن عدد النساء أكبر من عدد الرجال وأن المرأة مخطوبة والرجل خاطب وأن
فرصة الزواج متاحةٌ من هذه الناحية للرجال أكثر مما هي متاحة للنساء .
15- دور كل من المرأة والرجل كبير في استقرار الحياة الزوجية , وليعلم الزوجان أن الحياة الزوجية يجب أن تقوم على التفاهم والتعاون لا على الخصومة والمشاكسة والكيد.
16- على المرأة أن تُعوِّد نفسَها على الاندفاع من تلقاء نفسها من أجل خدمة زوجها والإحسان إليه من غير انتظار للأوامر والنواهي من هذا الزوج.
17- وعليها أن تبتسم في وجه زوجها باستمرار , وأن تزيل عنه- عند رجوعه للبيت- البعض من متاعبه بالكلام الطيب وبالود الصادق , وأن لا تستقبله بالشكاوى سواء المتعلقة بنفسها أو بالبيت أو بالأولاد.
18- وعلى المرأة أن تعتني كثيرا بالنظافة : نظافة البيت والأولاد ونظافتها هي في بدنها أو لباسها و.. وعليها بخصال الفطرة من سواك وتقليم أظافر ونتف إبط وحلق عانة .
19- وعلى المرأة أن لا تقاطع زوجها وهو يتحدث , وأن لا ترفع صوتها في وجهه , مهما كانت الأسباب . وإذا ما فعلت عليها أن تسارع بالاعتذار .
20- على المرأة ألا ترهق زوجها بالمطالب المادية التي لا يقدرُ على تنفيذها , ولتعلم بأن ذلك حرام عليها. وعليها أن تكون حكيمة فيما تطلب, وأن تحسن اختيار الوقت الذي تُقدم فيه رغباتها أو تبث فيه همومها, أقول هذا وأنبه مع ذلك إلى أنه من أعظم سيئات المرأة مع زوجها سواء عند الله أو عند زوجها هي تكليفها له بما لا يطيق . لتعلم كل زوجة أنه حرام ثم حرام عليها أن تطلب من زوجها ما لا يقدر عليه ماديا – خاصة فيما يتعلق بما ليس ضروريا , والضرورة يقدرها الزوج لا الزوجة لأنه هو المكلف بالإنفاق وهو الساعي بصفة عامة على رزق الأسرة - مهما قال المجتمع خلاف هذا ومهما كانت نية الزوجة طيبة . وعلى الزوجة أن تعلم إذا كان لها نصيب من الخوف من الله أن مدخول الأسرة هو الذي يحدد مستواها المعيشي , لا العكس.
21- مما يجب أن يكون معلوما عند الزوجين – كوسيلة من وسائل استقرار حياتهما الزوجية – أن عليهما أن ينظرا إلى مدخول العائلة المادي أولا ثم أن يبنيا على أساسه المستوى المادي للمعيشة التي على الأسرة أن تعيشه , ولا بأس على الزوجين أن يطلبا باستمرار تحسين المدخول بالحلال , وليعلما أن الطموح محمودٌ.
أما العكس فلا يمت إلى الحكمة بصلة , أي أن يضعَ الزوجان(خاصة الزوجة) في البداية مستوى للمعيشة معينا يريدان أن يعيشاه مع الأولاد , ثم بعد ذلك يعملان الممكن والمستحيل والحلال والحرام من أجل أن يوفرا المدخولَ الذي يساعدهما على أن تعيش العائلة كما يحبَّان.إن هذا ليس طموحا,ولكنه طمعٌ والطمع مذمومٌ دوما.
22- على كل من الزوجين أن لا يتحدث عن الآخر بسوء خاصة أمام أقارب هذا الآخر , عليهما كذلك أن يتجنبا السخرية من بعضهما البعض ,لأن ذلك سيفقدهما الاحترام والتقدير بينهما , وقد يؤدي إلى إثارة الشحناء والبغضاء بينهما .
23- ليكن شعارُ الزوجين مع بعضهما البعض قول الرسول-صلى الله عليه وسلم -:( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
24- تعاملا مع بعضكما-أيها الزوجان- تعاملا مبنيا على تقدير ظروف الآخر , وقبول العذر منه , وحسن الظن به .(/3)
25- إذا رأى أحدُكما الآخر غاضبا , فعليه أن يرضيهُ , وإن كان الشرع قد طلب من المرأة أن ترضيَ زوجها أكثر مما طلب من الرجل أن يرضي زوجتَه.
26- على الزوجين أن يعامل كلٌّ منهما الآخرَ معاملة طيبة , وليعلم كل منهما أنه من الصعب أن يجتمع في قلبِ شخص واحد حبُّه لآخر وصبرٌ على أذى هذا الآخر له .
27- الصبر والوفاء من أعظم أخلاق الزوجة الصالحة :الصبر على أخلاق الزوج وتقلبات الدهر , والوفاء للزوج في حال الرخاء والشدة والغنى والفقر والقوة والضعف والصحة والمرض .
28- لا تبخلي على زوجك بمال إن احتاجَ هو واستغنيتِ أنتِ,ولا تضني عليه بعون بلا منّ ولا أذى.
29- لو جهّزت الفتاة قلبها لله عز وجل من صغرها بالتقوى وحفظ القرآن خصوصا سورة النور, وبالابتعاد عن الأغاني الخليعة,وبعدم اختلاطها بالرجال وبقرارها في بيتها (إلا إذا كانت مضطرة ) وبتوكلها على فاطرها, وبالدعاء في السجود ليرزقها الله بزوج صالح يعفها ويحفظ عليها دينها وينفق عليها.لو جهّزت بذلك قلبّها لربها لتزوجت بإذن الله قبل أن تجهِّز لنفسها عوض ذلك أثاثَ بيتها من صغرِها .( أليس الله بكاف عبده ؟) . اللهم بلى .
30- إن لوالديكِ عليكِ –أختي أو ابنتي- حقا , وإن لزوجك عليك حقا, فأعط كلَّ ذي حق حقه قبل الزواج وبعده. واعلمي أن السلطة عليكِ قبل الزواج هي لوالديك أو لإخوتكِ ، أما بعد الزواج فإنها لزوجكِ قبل والديكِ .
31- كوني اجتماعية السلوك ولا تتركي المشاركة في قضايا الناس وحل مشاكلهم بمجرد الزواج.
32- ليكن بيتكِ مثل بيوت الأنبياء متواضعا وبسيطا,ولتكن زينته المحبة والحنان أكثر من ورق الجدران وصوره.إنه لا زينة أحبُّ من المحبة ولا عظمة أكبرُ من البساطة.ومع ذلك لا بأس من الزينة ومراعاة الجمال مع النظافة بشرط عدم المبالغة,فإن الله جميل ونظيف يحب النظافة والجمال.
33- عندما تتزوجين عليك أن تحرصي على أن تبدئي حياتك الزوجية من اليوم الأول بالحلال -ابتداء من الخطبة والعقد والزواج-ولا تعتذري على أنك مغلوبة على أمرك,فأنت قادرة على أن تبدلي الكثير الكثير بإذن الله .
34- إذا أراد الزوج أن يجرك إلى النار فكوني أقوى منه في جرِّه إلى الجنة باسم الله, ولا تقبلي ولو تحت أقسى الظروف الانسياق معه إلى المعاصي , فإن شفيعك غدا هو عملُك ومواقفُك وجهدُك لا الزوج ولا الأولاد .
35- كوني للزوج كالضمير تؤنبينه على المعاصي وتشجعينه على الطاعات .
36- لا تتأخري عن زوجك في الجهاد بأي شكل من أشكاله, فإذا ابتلي بمرض أو بمصيبة أو غاب أو.. فكوني معه نعم المعينة له على جهاده،الصابرة على ما قد يصيبه,الخليفة له بالخير في بيته وأولاده.
37- لا تتدخلي في كل صغيرة وكبيرة من أمور الزوج…فإن لكل إنسان حريته وقضاياه الخاصة به .لذا عليكِ ألا تصادري حريته ولا تفسدي عليه قضاياه .
38- ابحثي عن الصفحات النبيلة في شخصية زوجكِ , وأبرزيها له حتى يتحفز لتنميتها , وشجعيه على تحمل المسؤوليات الكبيرة وتخطي المصاعب في الحياة , وتحدثي معه حديث الأمل والتفاؤل والنجاح … كوني معه المرأة العظيمة التي تقف وراء الرجل العظيم,ولا تكوني المرأة الأنانية التي تعشق نفسها وتحب أن تبني أمجادها على أنقاض الزوج.
39- إذا وقع بينك وبين زوجك شقاق أو نزاع فبادري إلى الصلح معه,ولا تتركي ذلك للغد بل أصلحيه قبل النوم , فإنكما لا تدريان أيعيش أحدكما للغد أم لا.
40- إياك وحدة المزاج وحب الشجار والبحث الدائم عن الأخطاء , وإياك والمطالبة بحياة تشبه حياة الآخرين … فإن هذه الأمور تهدم الحياة الزوجية وتجعلها جحيما لا يطاق,واعلمي أنه كما أنكِ لا تحبين أن تُقارني بالغير , فإن زوجكِ كذلك لا يحب أن يقارنَ بالغير .
41- لا ترضي بالزواج من غير الشاب المسلم الملتزم حق الالتزام بالإسلام (لا بالشاب المتدين تدينا مغشوشا) مهما كانت الظروف، وإلا فالويل لك إذا تزوجت بفاسق فاجر, لأنه سيُشَيِّبُكِ قبل أن تشيبي .
42- لا تفخري على زوجك بجمالك إن كنت صاحبة جمال:
- لأن الجمال ليس كلَّ شيء.
- ولأنه كما أنَّ لكِ حسنات فللزوج حسنات كذلك.
- ولأن الدين والأدب أهم بكثير من الجمال .
- وفي النهاية لأنه لا يليق بكِ أن تفتخري عليه بشيء ولا أن يفتخر عليكِ بشيء لأن الدين يؤكد على أنه لا فضل لأحدكما على الآخر,وإنما كل واحد منكما مكمل للآخر.
43- أكرمي أختي المتزوجة الضيفَ ولا تكوني بخيلة أو مسرفة ,ولا تقلقي من ضيوف زوجك , واعلمي أن البيت الذي يأوي ضيوفا هو بيت مرحوم ,وأن من تمام محبة المرأة لزوجها حبها لضيوفه, وإن كان الضيوف ليسوا سواء من حيث الطريقة التي يجب أو يستحب أن نستقبلهم بها .
44- إحدادكِ على غير زوجكِ أكثر من3 أيام ممنوع شرعا, وإن تعوَّدَ الناسُ على خلاف ذلك.(/4)
45- إن كانت المرأة أضعف من الرجل,فليكن شأنُ الرجل مع المرأة-خاصة الزوج مع زوجته- شأنَ المعلم مع تلميذه والوالد مع ولده,والمعلمُ لا يستعبدُ تلميذَه ولا يستذلُّه ,والأبُ لا يحتقر ابنه ولا يزدريه .
46- اختر أخي زوجتكَ بنفسكَ .خذ برأي الغير خاصة أهلك , وخصوصا والديك , لكن يبقى الزواج في النهاية زواجك وأنت المسؤول عنه بالدرجة الأولى.
47- اختر زوجتك بعقلك قبل عاطفتك (وعلى المرأة كذلك أن تفعل مثل ذلك,حتى ولو كان عقلها ضعيفا وكانت عاطفتها قوية) , واعلم أن الغرام الكاذب العابر ملتهب في البداية ولكنه قاتل في النهاية .
48- ما لم يتعرف كل من الزوجين على حقيقة الآخر, ويتنازل كل منهما من أجل الآخر عن بعض أنماطه السلوكية القديمة حتى يتلاقيا في منتصف الطريق , فلن يتوفر لهما التوافق والتفاهم النسبيان.
49- تفهم- أيها الزوج- زوجتك , ولا تبحث دائما عن سلبياتها. إن المرأة كما أن لها سيئات فإن لها كذلك حسنات . أُذكر دائما حسناتها , وأما سيئاتها فتعرف عليها من أجل مساعدتها على التخلص منها أو من البعض منها لأنها يستحيل أن تتخلص منها كلها. ولا تحاول دائما أن تنتقد تصرفاتها وكأنك موظف مكلف بذلك .واحرص – أيها الزوج- أن تتجنب أسباب المشاحنة وأن تتلافى مبررات الخلاف.
50- لا تتردد في أن تعرب لزوجتك باستمرار عن حبك لها وإعجابك بها. إن كلمة "أحبك"قد تفعل فعل السحر الحلال في المرأة خاصة إذا اقترنت بدلائل الوفاء وعلامات الإخلاص.
51- لتنظر دائما إلى زوجتك على أنها شخصية واقعية وليست موجود مثالي,فلا تطلب منها ما لا تقدر عليه . ونفس الشيء يقال للزوجة .
52- تذكر أنه ليس أحسن من اللباقة في تحقيق السعادة الزوجية,وذلك بأن تقول-أيها الزوج- الكلمة المناسبة في الوقت المناسب,وتتصرف على النحو المرضي في كل مناسبة , وتتجنب أسباب الخطأ-والخطيئة من باب أولى-ودواعي الاصطدام مع زوجتك في كل صغيرة وكبيرة.
53- عش الحاضر فقط ولا تتحدث عن ماضيك الغرامي مع زوجتك,لأن الله – عموما- يطلب التستر من عباده على أنفسهم حتى مع الغير ,وهذا التستر مطلوب من باب أولى من الرجل مع زوجته لأنها تغار وتحب أن تنظر دوما إلى زوجها على أنه لها ولها وحدها في الحاضر والمستقبل وكذا في الماضي .
54- لا تركز كل اهتمامك على مهنتك فقط,بل عليك أن تهب لزوجتكَ من نفسك دون قيد أو شرط. ولتكن حياتك مع زوجتك حياة عطاء وبذل لوجه الله أولا ثم لوجهها ثانيا .
55- كن اجتماعيا حتى بعد زواجك , ولتعلم أنه لكل حياة زوجية قليلٌ من التهوية , وننصحك باختيار من تزوران- أنت وزوجتك- من الأصدقاء والصديقات.
56- كن قويا وحارب في نفسك كل ميل إلى الإستسلام للهم والقلق , ولا تسمح لنفسك أن تبدو أمام زوجتك بمظهر الرجل الضعيف الذي لا يقوى على تحمل المسؤوليات , لأن المرأة تحب دوما أن تركن إلى رجل قوي , وإن كانت تحبه كذلك محسِنا إليها .
57- لا للسأم وللرتابة في حياة الزوجين.إن نزهة صغيرة أو مفاجأة بسيطة أو ما شابه ذلك قد تدخل السرور في قلب زوجتك بما لا يخطر لك على بال . وليكن شعارك : " إن العاطفة الزوجية الصادقة لا تموت ، لأنها تعرف كيف تجدد نفسها بنفسها ".
58- لا تهمِل قضايا الحياة الزوجية,لأنك دخلت في شركة.وهذه الشركة بحاجة إلى رعاية منك قبل غيرك. ومفتاح النجاح من أجل التغلب على الخلافات الزوجية هو المناقشة المعقولة الحرة والحوار الهادئ الرزين الذي يجب أن يصبح أمرا عاديا في كل بيت.
59- إن المرأة قد تزعجك في طرح أسئلة معينة وقد تغار عليك , فلا تنزعج منها. ولا بأس أن تنصحها وتوجهها دوما إلى الأحسن والأمثل.
60- لا تُحَمِّل زوجتك فوق طاقتها,واعلم أنها زوجة وليست خادمة بيت , فدارِها على كل حال وأحسن الصحبة لها ما استطعت يصفو عيشُك معها بإذن الله .
61- بين فترة وأخرى قدِّم لزوجتك هدية,لأن الهدية تزرع الحب في قلبها لك وتنشر المودة بينك وبينها.
62- احترِم كل ما يتعلق بزوجتك من شخصية تميزت بها وعادات وصفات . لا تجرح كبرياءها,ولا تهِنها , ولا تضحك عليها أمام الناس , ولا تنشر أسرارها مهما كانت تافهة , واتركها لما ترغبُ في الحدود المعقولة , ولا تتدخَّل في كل صغيرة وكبيرة من شؤونها الخاصة.
63- لا تُثِر جدلا تافها مع زوجتكَ إذا خالفت موعدا من المواعيد التي وعدتكَ به , أو لم تغسل لك ثوبا في الوقت المناسب , أو قدَّمت لك طعاما مالحا أو….إن الحياة أكبر بكثير من هذه الأمور البسيطة , وتشدد الزوج في مثل هذه الأمور ليس من الرجولة في شيء .
64- حافظ على احترامك لها أمام الآخرين,ولا تمزح معها بشكل يهين شخصيتها أمام أي شخص مهما كان قريبا أو بعيدا لأن المرأة تهتم بنظرة الغير إليها أكثر من اهتمام الرجل بذلك
65- استمع إلى زوجتك باهتمام كما تحب أن تستمع إليك باهتمام .(/5)
66- اخدُم زوجتك في البيت إذا كانت مريضة أو مشغولة وليس هناك من يعينها, واذكر أن رسول الله كان يعين زوجاته , وأنه ليس في ذلك أي عيب . واعلم أن هناك فرقا بين أن تعينها وأنت قادر على أن لا تفعل (وهذا هو المطلوب منك) وبين أن تعينها وأنت لا تقدر إلا على ذلك (وهذا نوع من أنواع ضعف الرجل مع زوجته الذي لا نحبه لأي زوج) .
67- والأفضل عند زيارتك للغير مع زوجتك أن يكون في البيت: النساء مع النساء والرجال مع الرجال , مادام الرجال أجانبَ عن النساء .قلت:يستحبُّ أو يُفَضَّل , ولم أقل: يجبُ.
68- لا تكن معول هدم للحياة الزوجية بالتدخل في خصوصيات حياة زوجتك. وسياسة عدم التدخل من جانب الزوج يجب أن تنطبق على الزوجة كما تنطبق على من تربطهم بها صلة القرابة أو الجوار أو العمل أو….
69- شارك زوجتك فيما يمتِّعها سواء في كسرة خبز ,أو في فكرة تدور في الذهن, أو في محبة الغير, أو في الميول والمثل العليا,لأن هذه الأشياء هي من أهم ما يقرِّبك من زوجتِك
70- وفِّر لزوجتك وقتا لتخلوَ فيه بنفسها وشجعها على ذلك لأن النساء كثيرا ما ينسين محاسبة النفس في خضم الحياة العصرية التي غلب عليها الطابع المادي والتكالب على الأهواء والشهوات .
71- عامل زوجتك بوصفها امرأة ناجحة.فإذا هي تنفثُ مواهبَها كلها في عملها لتكون عند حسن ظنك بها .إن الزوج لن يضره شيء بذكر فضائل زوجته وبمدحه لها بين الحين والحين,وليعلم الرجل أن المرأة تحبُّ المديح أكثر بكثير مما يحبه هو وأنها تحبه حبا جما.إذن جميل جدا أن يحيط الزوج زوجته بالجو الذي يشعرها بالفخر والزهو(بشرط أن لا يغاليَ أو يبالغَ حتى لا يصيبها بالغرور وحتى لا تفهم كثرةَ مدحه لها بأنه ضعف منه معها فتتجرأ عليه بالتقصير في حقوقه وفي الإساءة إليه).
72- ليكن معلوما للزوج تمام العلم أن الإسلام أمره أن يرعى زوجتَه حق رعايتها.وأن يكون لها أرضا ذليلة وسماء ظليلة,وأن يكون لها قلبا عاشقا ويدا معطاءة,وأن يشكرها على حسن تدبيرها خاصة في خدمة الزوج والبيت والأولاد , وأن يلفت نظرها للخطأ –برقة-إذا لمس منها بعضَ التقصير والإهمال ,وأن يشعرها دائما بأنها أحلى النساء في عينيه وبأنها تزداد كل يوم حسنا وجمالا، وأن حياتَه بدونها لا تساوي شيئا,وأن يدفعها إلى صلة الرحم وأن يجعل أسرتَها أسرته , وأن يعجب بأكثر ما تعجب به,وأن يشاركها في هواياتها إن كانت لها هوايات, وأن يبدو وهو بعيد عنها كما يبدو وهو أمامها,وأن يركز كل عواطفه في زوجته وبيته , وأن يحاول إشعال عواطف زوجته دائما بإظهار حبه لها وخوفه عليها وتأكيده لها بأنها دنياه وبأنه يسأل الله أن تكون زوجته كذلك في الآخرة,وأن يجعل مصروفاته الشخصية في أضيق الحدود,بحيث يفكر في أهله قبل أن يفكر في نفسه,وأن يتعاون مع زوجته على تربية الأولاد , وأن يبذل ما استطاع من الجهود لكي يجعل زوجته وأولاده في حالة عالية من الرضى ,وأن يكون قدوة صالحة في البيت وخارجه .
73- للمرأة من القوة في تبسُّمها ما ليس للرجل في عضلاته.قد يخيف الزوج زوجته بعضلاته,لكن يمكنها هي-في المقابل-أن تستولي على زوجها بابتسامة حلوة منها في الوقت المناسب وفي المكان المناسب وفي الظرف المناسب.فعلى المرأة إذن مراعاة ذلك.
74- يقال أن: " للمرأة سبعة وسبعون رأيا في وقت واحد",وهذا كلام لا نقصد به أبدا الإنقاص من شأن المرأة وإنما نقوله للرجل ليحتاط وهو يتعامل مع المرأة , ونقوله للمرأة لتراقب نفسها أكثر ولتضبط نفسها أكثر حتى تقلل من التردد في حياتها ما دام ذلك ممكنا لها.
75- " النساء مثل الكتاب:منه ما لا تشبعُ من قراءته بضع مرات،ومنه ما تنفر منه بمجرد قراءة عنوانه",أي أن منهن الخفيفة الظل ومنهن الثقيلة الظل.وجزء لا بأس به من خفة الظل ومن ثقله ليس بيد الشخص,قد يغير منه قليلا ,لكنه لا يستطيع أن يغير الكل.(/6)
76- مصيبة الرجل المتزوج أنه يحاول إرضاء زوجته رغم علمه بأنها لن ترضى أبدا عنه. وحتى إذا رضيت لحظة فإنها تسخط لحظات.إن الرجل مطلوب منه شرعا أن يحسن إلى زوجته ويرضيها,لكن ليس مطلوبا منه أن يبتغي مرضاتها بل هو منهي عن ذلك . والحد الفاصل بينهما هو أن ابتغاء الرجل مرضاة المرأة هو عمل الرجل بغير قناعته عملا تحمله عليه زوجته مُكرَها ,وهذا تنازل من الرجل عن القوامة التي جعلها الله له لا لزوجته .أما الصورة المقابلة أي إرضاء الرجل لزوجته الذي هو من تمام إحسانه إليها فهو الاقتناع بصحة رأيها ووجاهته وتنفيذه بناء على هذه القناعة . ولعل هذا يشكل جزءا من المعاني التي تُفهم من قول الله : (يا أيها النبي لمَ تحرم ما أحل الله لكَ,تبتغي مرضاة أزواجك). ثم إن ابتغاءَ مرضاة الرجل لزوجته مظهرٌ من مظاهر ضعف الرجل مع المرأة,الذي لا تحبه امرأة لزوجها في أعماق نفسها حتى ولو ادعت غير ذلك.وهل الرجل الذي قال لإخوته ولأبويه يوما ما :"من ترضى عنه زوجتي أرضى عنه أنا ,ومن تسخط عنه زوجتي أسخط عنه أنا "رجل بالفعل ؟!إنه ليس رجلا ولا يشبه الرجالَ لا من قريب ولا من بعيد,حتى ولو ادعى أنه أعظم الرجال.إنه مخلوق مشوه تحتقره زوجتُه ويحتقره أهلُه ويحتقره الناس أجمعين.
ونفس الشيء يُقال عن الرجل الذي يأخذ مصروفه من زوجته مع أنه هو العامِل خارج البيت وهي المستقرة في بيتها,وحتى ولو أراد أن يشرب قهوة خارج البيت فإنه لن يتمكن من ذلك إلا إذا تفضلت عليه زوجته وتكرمت عليه (!) وأعطته تكلفةَ القهوة !!!.نسأل الله أن يُعافينا.
77- تنظيم النسل (أو التباعد بين الولادات)جائز عند أكثر العلماء بشرط أن يكون من أجل المحافظة على صحة المرأة والأولاد ومن أجل قدرة أكبر على تربيتهم . أما خوفا من الفقر فهو حرام.أما تحديد النسل -بإيقافه نهائيا- فهو حرام إلا مع شهادة طبيب مسلم موثوق في إسلامه وفي علمه يشهد بأن المرأة (أو الطفل) يُخاف عليها (أو عليه) من الموت لو حملت.
78- في الحالة التي يكون فيها منع الحمل جائزا,تكون كل الوسائل لتحقيق ذلك جائزة شرعا ما لم يثبت على إحدى الوسائل- طبيا- أنها مضرة صحيا.فإذا كانت كلها مُضرة , فإن الشرع يقدِّم أقلها ضررا.
79- لا أنصح رجلا أن يتزوج بامرأة ليس لها نسب معلوم , وإن كان ذلك جائزا شرعا:
ا- لأن الإسلام طلب منا أن نختار المرأة الطيبة المنبت ,لأن (العرق دساس) كما أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم - ومنبت هذه ليس طيبا.
ب- لأن هذه المرأة وإن لم يظهر لنا منها شيء اليوم ,فيمكن جدا- بالتجربة- أن يظهر منها سلوكيا وأدبيا وأخلاقيا ما لا يُعجِبُ في المستقبل .
ج- ولأن الرجل سيجد نفسه محرجا أمام أولاده -إذا لم يجد حرجا لنفسه أمام الناس-في المستقبل عندما يسألونه عن أب أمهم وعن أم أمهم .
د- يمكن أن يظهر العيب أدبيا وأخلاقيا لا في الزوجة فقط بل في أولادها في المستقبل كذلك.
قد يقول قائل :" ومن يتزوج بهذه ؟" فأقول:"ليتزوج بها من يشاء ,لكن ليس فرضا علي شرعا أن أكون هذا الزوج". قد تكون هذه أنانية,لكنها أنانية جائزة شرعا بكل تأكيد .
80- لا بد لمن يُعِدُّ نفسَه للحياة العائلية أن ينظر بعيني الطرف الآخر ويسمع بأذنيه وأن يشعر بخفقان قلبه . إن الزواج موطن ليس فيه مجال للبطولة إنما يحتاج إلى اهتمام الشخص بشريكه الآخر الاهتمام الكافي,وأن يضع كل واحد منهما نفسه على قدم المساواة مع الآخر(المساواة هنا ليست هي المساواة المطلقة التي يرفعها المنحلون كشعار لهم).
81- قد تستعمل المرأة البكاء كسلاح لابتزاز الرجل والضغط عليه.ولا شيء يوقف بكاء هذه المرأة بسرعة كالضحك والابتسام,وقد تثور وترمي الرجل بصحن أو ملعقة أو أي شيء تصل إليه يدُها ولكنها ستتوقف عن البكاء بمقابلة ثورتها بالضحك والابتسام . وكذلك هناك وسيلة أخرى تنفع لإيقاف بكاء المرأة وهي أن يضع الرجل قليلا من الماء على وجه المرأة ويجعل الدموع تختلط بالماء.
وعلى الرجل قبل استعمال هذين الأسلوبين مع زوجته التي تبكي,عليه أن يتأكد من أنها تستعمل دموعها لإرغامه-فقط-على فعل شيء تريده .
82- على الرجل أن لا يتزوج إلا عندما يشعر أن بمقدوره أن يخلصَ لزوجته ويمنحها كل ما في أعماقه من حب ووفاء , وإلا فأفضل له أن يبقى عازبا حتى يشعر برغبة في الزواج والاستقرار.لكن في المقابل يجب أن يعلم بأن الزواج سُنَّة عموما , وأن أجره كبير عند الله إذا تزوج لوجه الله,وأن الله يبارك للمتزوج ويعينه ماديا ومعنويا بإذن الله .(/7)
83- إن الرجل التي لا ترضيه امرأة واحدة يمنحها حبَّه وعطفَه كزوجة له وكأم لأولاده وكربة لبيته,إن هذا الرجل لا يمكنه أن ترضيه عشرات النساء وذلك لأن جمع النساء كجمع المال كلما تضخَّم المبلغُ تطلَّع الجامعُ إلى الزيادةِ.هذا إلا في حالات شاذة ونادرة يكون فيها الرجل مؤمنا تقيا ومع ذلك لا تكفيه امرأة واحدة جنسيا , فيتزوج بامرأة ثانية أو بأكثر ليحصِّن نفسه ودينه فهذا لا حرج عليه ويبارك الله له في زواجه بإذن الله .
84- التربية الروحية-بالصلاة والصيام والذكر والدعاء وقراءة القرآن والمطالعة الدينية وعيادة المريض والصدقة على الفقير خصوصا والإنفاق في سبيل الله عموما و..- مهمة جدا للمرأة قبل زواجها وتصبح أكثر أهمية بعد الزواج,حيث تصبح المرأة مشغولة كثيرا بالزوج والدار والأولاد.وإذا نقص اهتمام المرأة بالتربية الروحية بعد الزواج بسبب أنها أصبحت مشغولة كثيرا , فيجب أن يبقى عندها على الأقل الحد الأدنى من الاهتمام الذي يزيد من أجرها عند الله ويُعينها على القيام بوظيفتها كزوجة وكأم وكربة بيت كما يحب الله ورسوله .
85- إذا كنتِ عاملة فحاولي التوفيق بين واجبات العمل خارج البيت وبين حقوق الزوج والبيت والأولاد . واجتهدي من أجل أن توفري لنفسك الجو المناسب والظروف المناسبة للرجوع إلى البيت للاستقرار فيه في المستقبل القريب .
86- من أسباب الخيانة الزوجية من الزوجة:
ا- إهمال الزوج لزوجته ماديا.
ب- اشتغاله عنها بأعمال كثيرة خارج البيت , بحيث قلَّما يجلسُ معها أو يتحدثُ إليها أو يهتمُّ بها.
87- العزلة التي يفرضها الزوج على زوجته داخل البيت حتى لا يتصل بها أحد ولا تتصل بأحد, أشد إيلاما وأقوى ضررا من الاستبداد والعنف في المعاملة , فليراع الزوج ذلك .
88- من واجب الزوج أن يشركَ زوجته في عمله ويحدثها بمشاكله , ومن واجبها أن تحدثه هي بمشاكلها . ويجب أن يشد كل منهما أزرَ الآخر مشجعا ومطمئنا ولو بالرأي والنصيحة والتوجيه .
89- مما يرضي المرأة ويقربها إلى الرجل كرمُه وشجاعتُه وحسنُ خلقه .
90- لا خير في الحب المؤسس على الجمال الزائل عند المرأة , لأن ثوب الجمال لا يقيم إلا فترة وجيزة ثم يبدأ في الزوال حتى لا يبقى منه إلا الظل , وقد لا يبقى منه شيء. أما حب التعقل والآداب والأخلاق الحسنة في المرأة فيزداد يوما بعد يوم , لأن العقل يزداد في إدراكه ووعيه كلما تقدم الإنسان في السن.
91- عندما تغضب المرأة , نجدها ترتاح أكثر إذا نالت – في مقابل ذلك- من زوجها شيئا من الحب بدلا من النصيحة. والرجل يميل غالبا في مواجهة غضب الزوجة إلى أن يلعبَ دور الأب الناصحِ , بينما نجد أن ما تحتاجه المرأة حقيقة هو أن يقوم الرجل معها بدور الأم الحنون . والحقيقة أن المرأة – غالبا- لا تحتاج في غضبها لأكثر من 5 دقائق من الاهتمام بها وإظهار الحب لها ليزول الغضب عنها ، إلا إذا كانت الأزمة التي تتعرض لها خطيرة جدا. ومن طبع أغلب الرجال أنهم يأخذون ما تقوله المرأة حرفيا-حين تغضب- بينما قد لا تعني المرأة نفسَ المعنى (مثلا عندما تقول : " إني أكاد أجن" ) . وإن كانت المرأة مطلوب منها في المقابل أن تضبط أعصابها فلا تقول إلا ما يليق , وأن تكظم غيظها فلا يصدرُ منها إلا ما يصلُح .
92- المرأة تحب من أعماق نفسها أن ينفذ الزوج لها طلبا ( ولا أقول : يطيعها ) ويرفض لها طلبا آخر . أما أن يحرص زوجٌ على أن ينفذ لها كل طلباتها بلا استثناء ليرضيها ولتحبه أكثر, فإن ذلك دليل على جهله بطبيعة المرأة التي ترى- في سلوك زوجها معها بهذا الشكل - علامةَ ضعف , وهي لا ولن ترتاح إلا في ظل الحياة مع زوج يحسن إليها , ولكن يكون في نفس الوقت أقوى منها.
93- هناك نوعية من النساء كلما أحسن الزوج إلى الزوجة منهن كلما أساءت إليه . هذه المرأة فهمت أن طيبة زوجها هو علامة ضعف , لذلك كافأته بأن ركِبت على ظهره كما يقولون. وهذه الزوجة ينطبق عليها قول القائل :"اتق شر من أحسنت إليه ".
94- مما صح عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قوله عن النساء :" يكثرن اللعن (الشكوى والسب والشتم ودعوى الجاهلية و.. وخاصة المتزوجات) ويكفرن العشير(الزوج)" فسئل رسول الله عن معنى
ذلك فقال :" لو أحسنت إليها الدهر كله ثم أسأت إليها مرة واحدة لقالت ما رأيت منك خيرا قط ". ولله درُّ من قال بأن" المرأة لها كيسان : كيس مثقوب تحفظ فيه حسنات زوجها , ولها كيس آخر محكم الغلق (يزيد ما فيه ولا ينقص) تحفظ فيه سيئات زوجها "!.
95- إن المرأة طالما رضيت برجل معين ليكون زوجا لها,صار لزاما عليها أن تقفَ إلى جانبه تسانده وتساعده على العيش والنجاح في حياته ,وليست هذه تبعية منها لزوجها(وإذا اعتُبرت تبعية فهي تبعية محمودة) بل إن نجاح الزوج هو نجاح لزوجته كما أن نجاح الزوجة هو نجاح لزوجته سواء بسواء .(/8)
96- إن علاقة الزوجة بالزوج يجب أن تكون أرسخ من الحب وأطول عمرا,أو يجب أن تكون علاقة زمالة تجعل الرجل ينظر إلى زوجته كعنصر في الحياة لا غنى له عنه . وبغير هذه النظرة فإن الزوجة تكون فاشلة تماما في زواجها أو في حياتها مع زوجها .
97-لا تكلفي زوجك ماديا بما لا يطيق لأنه :
ا- إما أن يعلن عن عجزه,وهذا ما لا يحب بطبعه أن يعترف به.
ب- وإما أن يستجيب لطلباتها الكثيرة والمكلفة, فيتعب نفسَه فوق اللزوم مما سيؤدي إلى مقتها ولو سرا. هذا فضلا عن أن من أعظم سيئات الزوجة مع زوجها- عند الله ثم عند زوجها- تكليفها لزوجها ماديا بما لا يطيق .
98- الزوجة – عادة- أشد توترا وقلقا في مواجهة المحن , و" الخَلعَة " تعاني منها المرأة أكثر من الرجل بكثير.
99- مما تنصح به الزوجة عن كيفية تعاملها مع زوجها :
*- تفهمي زوجك وتغاضي عن بعض مساوئه,واعلمي أنه ليس كاملا كما أنكِ أنتِ لستِ كاملة .
*- لا تكوني عنيدة .
*- ساعدي زوجك على الاحتفاظ بالاحترام لذاته أمام الغير .
*- تغاضي عن التوافه ,وكوني حليمة ,حسنة الخلق, وفكاهية للتغلب على المتاعب الصغيرة,وتوخي الحكمة في شؤون المال خاصة,فإن المال وراء كثير من الخلافات التي تقع بين الزوجين .
*- لا تكوني مهمِلة في مظهرك وأنوثتك , واذكري دائما أن زوجكِ تزوج بامرأة لا برجل , ولا بشبه امرأة .
*- احرصي على كرامة زوجك وكبريائه ، ولا تتعالي عليه بالجمال أو المال أو الحسب أو النسب أو العلم أو حتى الدين,بل تواضعي معه ما استطعت يحببكِ هو,ويحببكِ الله قبل ذلك .
*- لا تكوني مع زوجك ثرثارة مملة ، وعودي نفسك على التكلم معه في الأمور الهامة .
لا بأس أن تلعبي معه وأن تبثي له همومكِ وأن تروحي عن نفسكِ معه وأن .. لكن بعيدا عن الثرثرة التي اشتهرت بها المرأة .
*- أحسني معاملة أهل زوجك وخاصة حماتك. كوني لها ابنة مطيعة تكن لكِ أما حنونا.
*- عاملي زوجك معاملة طيبة كما كنت تفعلين أثناء الخطوبة أو أحسن,وإن جرت العادة على خلاف ذلك
*- إذا كان زوجك قاسيا فافهميه وتلمَّسي له العذر,واعلمي أنه قد تكون له قسوةٌ وهو طيبُ القلبِ, وقد يقسو بسبب منكِ أنتِ ,وقد يقسو اليوم ويلين غدا .
100- عشرة عيوب لا يطيقُها الرجالُ في زوجاتهم:
* النقار(أي كثرة الشكوى) .
* الإسراف .
* إهمال شؤون المنزل .
* الرغبة في السيطرة .
* الثرثرة والأحاديث التافهة .
* كثرة الصداقات .
* عدم الاستقلال عن الأم .
* الإسراف في الزينة والملبس .
* التشكل وتغيير الرأي في كل وقت وعدم الثبات على رأي معين بسبب وبدون سبب .
* الغيرة المبالغ فيها بدون داع يدعو إليها .
101- الغريب أن المرأة بقدر ما تزداد ثقافة تزداد استقلالية مالية, وتزداد في نفس الوقت الصعوبة التي تلاقيها من إيجاد الزوج المناسب. والمرأة قد تظن في البداية أن المال يسعدها لكنها تتأكد غالبا في النهاية –قبل أن يفوت الأوان أو بعد ذلك-بأنه لا شيء يسعدها بعد الإيمان مثل الزواج.
102- ومع ذلك فإنها –ولو كانت مثقفة وتجد صعوبة في الزواج- عوض أن تتواضع في فرض شروطها- كما يجب على الرجل أن يتواضع في وضع الشروط التي يطلبها في المرأة التي يريدها أن تكون زوجة له- , تجدها تطلب في الرجل أكثر مما تطلب غيرُها :
* عاشق جيد .
* رجل يحافظ على استقلالها المالي والاقتصادي.
* زوج مثقف ثقافة عالية .
* الاستقلال في السكن عن أهله .الخ…
103- لأن الرجال –غالبا- لا يحبون الزواج من مثقفات ثقافة عالية لأنهم يرون أن ذلك قد يتناقض مع قوامة الواحد منهم على المرأة .
- ولأن الطالبة الجامعية لا تفارق مقاعد الدراسة الجامعية إلا قبيل 30 سنة من عمرها، وهو سن متأخر نسبيا بالنسبة لتزوج المرأة .
- ولأن الرجل في الكثير من الأحيان يراعي- وهذه نقطة ضعف عنده- في المرأة صغر سنها وصفات خِلقية أو خُلقية معينة فيها أكثر مما يبحثُ عن ثقافتها الواسعة .
هذه أسباب أساسية لانتشار العنوسة عند الجامعيات , تؤدي إلى أن المرأة الجامعية تجد في الكثير من الأحيان فرص الزواج أمامها أقل بكثير مما تجدها من هي أقل منها ثقافة أومن هي مستقرة في بيتها .أنا الآن أتحدث عن ظاهرة موجودة , وما أعطيت فيها رأيا , أو أنا أصف واقعا,ولم أعطِ حكما.
104- من أسباب تأخر المرأة عن الزواج أو عنوستها:
* مبالغتها في الصفات التي تحب أن تتوفر في الرجل الذي تريده زوجا لها ( من ضمنها أنه يجب أن يكون غنيا , ويجب أن يسكن مع زوجته بعيدا عن أهله , و..) .
* البطالة.
* مشكل السكن.
* نقص جمال المرأة.
* تمزق غشاء البكارة قبل الزواج لسبب أو لآخر.
* خوف المرأة من الرجل ومن الزواج.(/9)
105- جمال المرأة الظاهري هو أول ما يجلب الرجلَ,لكن الرجل القوي هو الذي يقاوم هذا الجمال ولا ينخدع به.والجمال يؤثر عادة في البداية,لكن بعد اتصال الرجل بالمرأة يضعُف تأثير الجمال ويأتي دور الطيبة والمزاج الحسن والذكاء وخفة الظل وحسن العشرة وسلامة القلب و..وباختصار يأتي دور الإيمان والعمل الصالح .
106- الزواج المثالي هو الذي يتم بين الزوج الذي يكون فيه هو الأخ الأكبر لمجموعة من الأخوات، والزوجة تكون فيه هي الأخت الصغرى لمجموعة من الذكور .
107- هناك حقيقة هامة هو أن الجمال والحب متلازمان عند الرجل في نظرته لزوجته,بحيث أنه بقدر حبه مثلا لزوجته بقدر ما يراها أجمل ,حتى أنه إذا أحبها كثيرا أصبح يراها أجمل امرأة في الدنيا.
108- بصفة عامة نحن نحب من نظن أنه يحبنا ونظن أن من نحب يحبنا.لذا إذا أردت أن تحبَّ فأحبَّ.
109- الحب عاطفة تفسيرها صعب جدا:كيف تنشأ وكيف تحيا وكيف تموت؟!والحب ليس الصداقة,بل هو أكثر تعقيدا.وأعظم الحب حبنا لله ثم للوالدين وحب الزوج لزوجته أو العكس.والذي يحب بقدر ما يكون صريحا مع الآخر-خاصة إن كان زوجا- بقدر ما يكون الآخر صريحا معه،وفي العادة تزداد الصراحة مع الوقت أي مع طول العشرة .. والصراحة التي تجلب الحبَّ هي الصراحة التي تأتي بالتدريج لا الصراحة التامة التي تأتي دفعة واحدة من أول لحظة.
110- هل لا بد من الحب قبل الزواج؟ الجواب:ليس شرطا,بل إن الحب الذي يأتي قبل الزواج بالطرق غير المستقيمة (اختلاط دائم وخلوة غير مشروعة وقبلة ومداعبة و..)
غالبا ما يكون حبا غير دائم . وأما إذا بني الزواج على أساس من الدين والأمانة والتقوى,فإن الحب إن لم يأت قبل الزواج , فسيأتي بإذن الله بعد الزواج ويكون قويا تزداد قوته مع الأيام ,حتى وإن بدأ ضعيفا .
111- متى كان الدين بين الزوج وزوجته , فمهما اختلفا وتدابرا وتعقدت نفساهما فإن كل عقدة لا تجيء إلا ومعها طريقة حلها بإذن الله .
112- حق الرجل المسلم على امرأته المسلمة هو حق من الله ثم من الأمة ثم من الرجل نفسه ثم من لطف المرأة وكرمها ثم مما بينهما معا. وما أعظمَ حقٌّ هذا حاله !.
113- الرجل مهما أعطاه الله ,لا بد له أن يتزوج حتى تكتمل راحته ويكتمل توازنه النفسي والبدني , و.. وإذا كان الزواج فيه ما فيه من التعب والمشقة,فإن الحياة ليس لها معنى كبير بدونه . ومتاعب الزواج تُكَوِّن الرجالَ والنساءَ في آن واحد , فضلا عن أن السعي على شريك الحياة وعلى الأولاد في مرتبة الجهاد في سبيل الله من حيث الأجر عند الله.وما يقال من أن العزوبة أفضل من الزواج كلام لا دليل عليه من الشرع ولا رصيد له من الواقع .يكفي أن الزواج شرعة رب العالمين وسنة الأنبياء , فيه تواصل النسل والبناء النفسي وإحصان الفرج والتعاون على طاعة الله وتعمير الأرض وتربية الأولاد وتكوين الأجيال المسلمة وفيه ما فيه. وأحبُّ دوما أن أقول للشاب الغير متزوج :" أنت ما زلت طفلا ما دمت لم تتزوج,حتى ولو كان عمركَ 40 سنة " وكذلك للفتاة التي ما زالت لم تتزوج :" أنتِ ما زلتِ طفلة إلى أن تتزوجي , حتى ولو بلغتِ الأربعين " , وأحب أن أّذَكِّر كذلك بقول الشيخ يوسف القرضاوي أطال الله عمرَه ونفع بعلمه الإسلامَ والمسلمين,في هذا الموضوع :" لا معنى لجنة يعيش
فيها الإنسان وحده بدون زوج أو زوجة" هذا عن الزواج في الجنة,فما بالك بالزواج في الدنيا؟!
114- إن المرأة- إذا لم تكن تخاف الله , ولم يكن لها عمل خارج البيت- لا تخرج عادة من بيتها إلا لإظهار زينتها. ولو فرضنا أن هذه المرأة مُنعت من الثياب الجميلة ومن العطور ومن الأصباغ و.. فإنها سترفض عندئذ الخروج غالبا.إن الشوارع تقول دائما للرجال: " يا رجال ,إنما تعلِّمون المرأة بالسماح لها بالخروج من البيت بدون عذر,إنما تعلِّمونها معرفة الكثير(من الرجال الأجانب) لا معرفة الواحد (الزوج)", ومن أهم ما يفسد المرأة كثرة التعرف على الرجال بلا ضرورة.
115- مما يجب أن يكون معلوما علم اليقين عند المرأة , أنها حين تخضع (بالمعنى الحسن لا بالمعنى السيئ) للرجل خاصة الزوج, فإن سر الحياة بإذن الله يرفعها عن المساواة بالرجل إلى أن تكون سيدة عليه, وصدقت من قالت لابنتها : "كوني له أمة , يكن لكِ عبدا ".
116- أنفق أيها الزوج على أهلك في اعتدال ولا تسرف ولا تبخل.
117- حافظا على أسرار حياتكما الزوجية ولو بعد وقوع طلاق أو خلاف شديد بينكما.
118- لا تُعب طعامَ زوجتك , بل امدح خبرتها بفنون الطهي- ولو كنتَ مجاملا في ذلك في بعض الأحيان- ووجِّه امرأتك إلى خطئها بتوجيه رقيق ينفعها ولا يجرحها .
119- لا تكن-أيها الرجل وأيها الزوج- كسولا بحيث تهمل إتقان بعض الشؤون المنزلية كإصلاح بعض الأبواب أو النوافذ أو الحنفيات أو الخزانة أو المماطلة في استدعاء من يهتم بذلك.(/10)
120- حاول أن تهتم بالمناسبات السعيدة في حياة زوجنك بما لا يتناقض مع شرع , مثل اليوم الذي تزوجت فيه , واليوم الذي حملت فيه لأول مرة , واليوم الذي وُلد لها فيه أول مولود .
121- ليكن شأنك مع زوجتك كشأن المعلم مع تلميذه والوالد مع ولده.علمها ودربها وخذ بيدها حتى ترفعها إلى مستواك الرفيع الذي أنت فيه (إن كان الأمر كذلك) , لتستطيع أن تجد منها الصديق الوفي و العشير الكريم .
122- ليحرص كل من الرجل والمرأة على أن لا يتزوج أحدهما إلا ممن هو كفء له في السن والثقافة والمركز الاجتماعي و.. والخطر في التفاوت الفاحش , ولا بأس من التفاوت المعقول إذا كان راجحا لصالح الرجل.
123- تجنبا الغيرة المدمرة بينكما,خاصة من المرأة لأنها غيرتها أعنفُ . إن المرأة كما يقول المثل:"إذا أحبَّت قتلت ، وإذا كرِهت قتلت".
124- لا تسمحا للحموات بالتدخل في شؤونكما الخاصة إلا حين يُطلب ذلك منهما أو من إحداهما.وعلى الزوج أن يعلم أن حبه لزوجته لن يكمُل إلا إذا أحب أهلها ولتعلم الزوجة كذلك أن حبها لزوجها لن يكمل إلا إذا أحبت أهله .
125- تعاونا على تربيتكما لبعضكما البعض وعلى تربية أولادكما,واعلما إن أجركما سيكون عند الله بإذن الله كبيرا ، وإلا فالوزر واقع عليكما معا .
126- احرصي على رضى الوالدين في الرجل الذي تقبلينه زوجا لكِ في المستقبل , واعلمي:
ا- أن غضب الوالدين قد تكون له نتائج في غاية السوء .
ب- أن هناك فرقا بين الرجل الذي يجوز له أن يزوِّج نفسه بنفسه والعقد صحيح ولو بدون إذن الولي , وبين المرأة التي لا تتزوج إلا بإذن ولي,والعقد بلا ولي باطل.
ج- أن الوالدين كذلك يحرم عليها أن يزوجا ابنتهما بمن لا تقبلُ به ولا يصلحُ لها .
127- كوني متزينة ومتجملة للزوج دائما أو غالبا،واعلمي قبل وبعد ذلك أن النظافة أفضل من الجمال وأهم وأدوم.
128- الأذى والحب الزوجي لا يجتمعان في القلب أبدا لمدة طويلة,أو لا يجتمعان إلا بصعوبة كبيرة جدا . فلا يصلح إذن بأحد الزوجين أن يداوم على إيذاء الآخر ثم يطلب منه أن يحبَّهُ .
129- احترمي مشاعر زوجك,وأشعريه دائما بأنك تحبينه وتعتزين به.وإن تجاوزت في ذلك بعض الصدق فلا ضرر,لأن ذلك يعتبر إما مجاملة جائزة وإما كذب حلال .
130- اشكري زوجك على جميل صنعه لك,لأن هذا يولِّد عنده المحبة لكِ أكثر ويعطيه دفعة لبذل المزيد من التفضل عليكِ والإحسان لكِ .
131- لا تتزيني خارج البيت وتتخلي عن الزينة لزوجك داخل البيت,واعلمي أن الأول حرام وأن الثاني عبادة من العبادات.
132- لا تحولي بين زوجك وزيارته لأهله بمناسبة وبغير مناسبة,ولا يجوز له كذلك أن يمنعكِ من أهلكِ نهائيا .والأمر في هذا مع ذلك لزوجكِ وليس لكِ , والكلمة الأخيرة له لا لكِ .
133- إذا أردت أن تكوني كريمة كاملة (الكمال البشري بطبيعة الحال) , فاصبري على الضرة – إن وُجدت- ما استطعتِ , وفضلي حظ زوجك على حظ نفسك , تؤجرين إن شاء الله .
هذا مع ضرورة التنبيه إلى أن الزواج بثانية أصبح صعبا جدا في مجتمعنا .
134- إن الأولاد هم حبة قلب الأم فلا يلومها أحد إذا رأت الدنيا بعيونهم وتذوقت طعم الحياة من خلال مشاعرهم .
135- والمرأة في الشيخوخة أحنى على الرجل منها في الشباب,حيث يصبح اهتمامُها بالرجل هو ما يشغلها بالدرجة الأولى , أما في السنوات الأولى من زواجها فهي تهتم بنفسها وأولادها قبل اهتمامها بزوجها.
136- بقدر ما يقتل ماضي المرأة (مع رجال آخرين سواء بالحرام أو حتى بالحلال) حبَّ الرجلِ , بقدر ما يزيد ماضي الرجل (مع نساء أجنبيات بالحلال أو حتى بالحرام) من حبِّ المرأة له وتمسكها به.أما الشيء الذي لا تغفره المرأة للرجل أبدا- مهما كان-فهو غلطته مع امرأة أخرى بعد زواجه منها.
137- يستحب من الرجل النظر إلى الخطيبة- التي يريدها أن تكون زوجة له في المستقبل-في بيتها وأمام واحد من محارمها,ويمكنهما أن يتحدثا معا وأن يتعرفا على البعض من أفكار بعضهما البعض العامة (أما بعيدا عن أهل الفتاة فإن التعارف يمكن أن يكون فيه من الشر ما فيه,لأنه قد يكون حراما وقد يكون مقدمة لحرام,فضلا عن أنه تعارف كاذب في الغالب لأن كل واحد منهما يتجمل للآخر بما ليس فيه ولا يمكنه أن يتعرف عليه كما ينبغي ولو عاشره بهذه الطريقة لسنوات وسنوات). وأما الحب فإن أفضل الحب-عموما- هو الذي يأتي بعد الزواج .
والغريب أن بعض أولياء البنات قد يمنعون الخاطب أن ينظر إلى خطيبته (ابنتهم) أمام أهلها وعلى كتاب الله ووفق سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم -, وفي المقابل يسمحون لابنتهم أن تخرج متى شاءت وكيفما شاءت ومع من شاءت بلا قيد ولا ضابط شرعي . نسأل الله الهداية للجميع.(/11)
138- الأفضل أن يُوجد مع الدين- الذي يشترطه الخاطبُ فيمن يريدها أن تكون زوجته في المستقبل - الثقافة المتوسطة ( أما إذا وُجِدت العالية فيستحسن أن يكون مستوى الرجل الثقافي أكبر حتى لا تتكبر عليه زوجته من حيث تدري أو لا تدري ) ، وكذا القدرة على شؤون البيت ، والسلامة من الأمراض المعدية,وقرب مكان سكن أهلها من مقر سكناه هو ، وأن لا تكون من قريباته نسبا.
139- يجب على كل من الزوجين الابتعاد عن محرمات وبدع الخطبة والعقد الشرعي والدخول, وما أكثرها في عالم الناس اليوم .
140- لأن المرأة تراعي بالدرجة الأولى في زوج المستقبل الصفات المعنوية والحنان,فإن أهم ما يؤسِفها بعد الزواج من زوجها هو غياب هذا الحنان والعشرة الطيبة ليلة دخوله عليها,لأنه عوض أن يدخل عليها كزوج يحبُّ زوجته,دخل عليها كوحش يريد أن يأكلَ فريستَه.
141- لابد لكل زوج أن يتنازل للآخر قليلا عند الاختلاف.
142- مهم جدا –عند اختلاف الزوجين –تحكُّم كل منهما في لسانه,فلا يقول به إلا خيرا.إنه لا يجوز ولا يقبل ولا يصلح ولا يليق أن يقول أحدهما للآخر كلاما جارحا(إلا لضرورة)ولا كلاما فاحشا مهما كان العذر, ولا كلاما مثل :"أنت حمار أو ساقط أو رخيص أو.."
143- يتشاجر الزوجان اليوم من أجل حل مشكل بسيط,خير من السكوت حتى يكبر المشكل ولا يُحلُّ بعد ذلك إلا بصعوبة كبيرة,إن أمكن حلُّه.
144- يجب على كل زوج أن لا ينسى بأنه إذا ساعد الآخر على حل مشكل له اليوم ,فإن الآخر سيساعده بإذن الله على حل مشكلته في وقت لاحق .
145- الحِوارُ بين الزوجين مُهم ومُهم جدا .وما أحسن الزواج الذي يلتقي فيه رجل يحب الحوار بامرأة تحب الحوار كذلك .
146- من الخير دائما أن تنتفع المرأة برأي أهلها في زواجها لأنهم أكثر فهما لحقائق الأمور, خاصة وأن المرأة قبل الزواج صغيرة لا تفهم مثلما يفهم الكبير,ومن جهة أخرى هي عاطفية-في كل أطوار حياتها-تحكِّم عاطفتَها أكثر مما تحكم عقلَها,واختيار الزوج يحكُمُه العقلُ أحسن من أن تحكمَهُ العاطفةُ.
147- على الفتاة ألا تُرهِقَ نفسها قبل الزواج جسديا ونفسيا,إذ كثيرا ما رأينا فتاة في حفل زفافها صفراء الوجه بسبب تعبها وتفكيرها أثناء فترة التحضير والترتيب والاستعداد للزواج.ومن هنا فإنه يجدر بأقارب المُقدِمة على الزواج ( مثل أخواتها وصديقاها وقريباتها) أن يساعدنها في عملها واستعدادها لأنها بحاجة ماسة إلى النوم الهادئ والهواء الطلق والطعام المغذي.
148- الثقة التي تكاد (لأن المطلقة لا تليق إلا بمعصوم) تكون مطلقة بين الزوجين مهمة جدا في بناء البيت السعيد.
149- الزوجان اللذان يضحكان دائما (ضحكا مصحوبا بشكل دائم بشكر الله على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحصى),تضحك لهما الحياة بإذن الله .
150- إن السعادة والحب ليسا بالسيارة ولا بالدار الجديدة ولا بالملابس والحلي ولا..,بل بالشخص الذي نحبُّ.إن أعظم نعمة هي العطاء :عطاء الذات.وأعظم لحظة في حياة الزوجين قد تكون حين يدرك أحدهما ما تكبده الآخر من أجل راحة شريكه في الحياة الدنيا ومن أجل البيت والأولاد,وحين يضحي أحدهما بأغلى ما عنده من جهد ومال ووقت من أجل سعادة الآخر,وحين يحب أحدهما الآخر ويتفانى في خدمته والإحسان إليه.
151- إن هدية كلامية فيها تعبير عن الامتنان الصادق من الزوج لزوجته هي في الغالب أجمل من كل هدية مادية يقدمها الزوج لزوجته .
152- قدرة الرجل على الإنجاب تبقى لمدة طويلة ( قد تبقى إلى ما بعد ال80 سنة من عمر الرجل,والقليل فقط – حوالي 10 % - هو الذي تتوقف عنده هذه القدرة عند حوالي 60 سنة من العمر) , بخلاف المرأة التي يتوقف عندها- غالبا- الاستعداد للحمل عند حوالي 45-55 سنة من عمرها,أي عند ما يسمى ب:"سن اليأس" .
153- على الزوجين أن يرفعا في حياتهما قولا وعملا شعار:" القناعة كنز لا يفنى" , وليعلما أن سعادة الحال ونعومة البال لا تتحقق بالدخل المادي الكبير ولا بالمستلزمات الأغلى ,بل إن مستوى الأسرة الاجتماعي قد يكون عاديا بسيطا ولكنك تجدها – زوجة وزوجا-مرتاحة إذا تهيأ لها عيش هادئ هانئ بين الشريكين فيها , يجمع شملهما تحت كنف الحب والعاطفة والعلاقات الزوجية المبنية على الوفاق والانسجام .
154- إن الله سبحانه ينشئ للإنسان في كل مرحلة من مراحل عمره ما من شأنه أن يسعده ويريحه . فمن أسباب سعادة المرأة –مثلا- بعد سن اليأس التي لا تكاد تعدلها سعادة : سعادتها بلقاء أحفادها أو على الأقل بتزوج أبنائها.
155- يجب على المرأة عدم تناول حبوب منع الحمل بعد سن الـ 40 لأنه –كما يقول الأطباء –سيكون عندئذ خطيرا جدا على صحة المرأة , وإلا عليها على الأقل أن تستشير طبيبا قبل أن تشربها في هذه المرحلة من عمرها.(/12)
156- مع أهمية جمال المرأة في اختيار الزوج لزوجته,فما أكثر المتزوجات السعيدات بزواجهن مع أنهن لا يملكن الجمال الأخاذ.إنه ليس هناك من أجل حب الرجل لزوجته ومن أجل سعادته معها مثل الأدب والأخلاق والدين.يمكن للمرأة مع نقص جمالها أن تعوضَه عن ذلك-بكل سهولة-بخفة ظلها وبحسن معاملتها له وبدلالها وأدبها وأخلاقها وأمانتها و...أما الدين فلا يعوضه جمال أجمل الجميلات,بل قد يكون الجمال بلا دين نقمة على المرأة والرجل سواء .
157- إن المرأة تشعر في الكثير من الأحيان من صميم قلبها أن جمالها مهما كان كبيرا لا يستطيع الاحتفاظ بالرجل, حتى ولو كان زوجَها ولها معه أولاد, وحتى ولو بذلت في سبيل راحته وبيته صفوة جهودها. وهذا الشعور هو الذي يُفسدُ في بعض الأحيان خُلُقَ المرأة ويجعلها شديدة الغيرة كثيرة الوسواس والشكوك , تسرف في التبرج الحلال لزوجها وتبالغ في الاهتمام بمظهرها لتوقعَ زوجها في فخ اللذة التي يهواها والتي هي نقطة ضعفه الأولى في الحياة.
158- المرأة لا تتبرم بالزواج , ولكن الرجل هو الذي يسأمه ويضجر منه.إن الرجل حريص من جهة على زوجته وبيته وأولاده ، ولكنه حريص من جهة أخرى على الحياة العامة. وهذا ما لا تفهمه المرأة في الغالب ,ومن هنا تنشأ في قلبها عاطفة الغيرة . فهي تغار من القسط من الحرية الذي يتمتع به زوجها في الخارج، وتخشى أن تتحول هذه الحرية وتتبدل من حرية بريئة إلى حرية في الاتصال بامرأة أجنبية , وفي هذه الظاهرة تشترك معظم الزوجات مهما كن مثقفات ومتعلمات .
ويجب أن نلتمس العذر للمرأة الغيور لأن الرجل المتعلق جدا في العادة بالنساء هو الذي يثير فيها هذه الغيرة ، لكن خطأ المرأة ينحصر في غيرتها المبالغ فيها والتي تنتهي في الكثير من الأحيان إلى عكس المراد منها ، أي إلى فقدان الزوج وزعزعة دعائم الأسرة.
والواقع هو أن شيئا من اهتمام الرجل بامرأته ومن إقباله عليها ومن العطف والرعاية والحنان كفيل بأن يلطف من غيرة المرأة ويردها إلى صوابها وأن يضاعف من إحساسها بالاستقرار والأمن ويزيد في تضحياتها، ويدفعها لمنح زوجها قسطه المنشود من الحرية بلا أدنى اعتراض.
159- المرأة تنشد في الحياة الفوز بكل شيء : بالزواج ، بالحب ، بالمال , فهي وإن تزوجت وكانت تحب زوجها وتوقن من حبه إياها,إذا أحست أن هذا الزوج عاجز عن إمتاعها بشتى المباهج التي تجلبها الثروة ويسمح بها توفر المال ,قد تسوء أخلاقها , وقد تتبرم بقرينها وتقضي العمر كله أو بعضه في شقاء. وسر غرابة أطوار المرأة يرجع إلى أنها وقد عودها الرجل الإسراف في الإعجاب بها , أصبحت ولا همَّ لها إلا أن تستغل حبه لها وإعجابه بها لتفوز من الحياة بما هو جدير بحسنها وجمالها ( ولو كلفته ماديا ما لا يطيق). إن المرأة بهذه الطريقة تنشد الزواج لتكفل لنفسها الأمن والاستقرار في ظل نظام اجتماعي يخدمها، وهي تنشدُ الحبَّ لتكفل نعيم نفسها وهناءة قلبها، وهي تنشد المال(مع أن الحب والزواج أهم لها-لو علِمت- من مال الدنيا كلها) لتملك أسباب التمتع المادي الذي يبهرها.
والحق أن التعليم المقترن بالتربية الصالحة هو الذي يُلزم المرأةَ حد الاعتدال ويشعرها بالحد الفاصل بين الحقوق الجائز التمتع بها وبين الخيالات والأحلام الباطلة التي لا تثمر غير الآلام.
وفي وسع الرجل لو أحبَّ وأخلصَ وكان صادقا في حبه ، ثابتا على ولائه ، ذكيا في تفكيره, حكيما في تصرفاته,يعرف كيف يمتع امرأته ويمتع ذاته بنفس الحقوق وكيف يطالب امرأتَه ويطالب نفسَه بتأدية الواجبات,في وسعِ هذا الرجل-بإذن الله- أن يؤثر في المرأة ويصلح من طبيعتها ويجعل منها ملاكا في صورة إنسان.
160- على الزوج أن يفسح المجال لزوجته حتى تلتقي باستمرار بنساء أخريات,لأن الرجل مهما خدم زوجته وأحسن إليها,فإنها تبقى دوما تحتاج إلى الجلوس إلى نساء تأخذ منهن ما لا يمكن أن تأخذه من زوجها ,وترتاح إليهن بما لا يمكن أن ترتاح به مع زوجها.
161- يقولون : " إن المرأة إذا بقيت بلا شغل (أي لم تجد ما تشغلُ به نفسَها) تشوقتْ إلى الرجال وحنَّت إلى النكاح(أو الزواج)".
162- من الأفضل للمرأة أن لا تُرضع طفلَها أمام زوجها(حتى وإن كان ذلك جائزا لها بطبيعة الحال) , لكي تحتفظ بالصورة الجميلة لنهديها عند الرجل.
163- في وسع كل امرأة ألا تجعل زوجها ينفصل عنها,لأنها بمواهبها الأنثوية تستطيع أن ترأب صدع العلاقة الزوجية إذا زلزلها الشقاق وأحدث بها بعض الشدوخ.
164- الحب الصادق بين الزوجين لا يخرج من النافذة إذا دخل الفقر من الباب,وإنما يستمر مع شظف العيش وشدته بنفس القوة التي كان عليها في السعة والرخاء.
165- إذا كان الزوج قد مل الحياة الزوجية لعيوب اكتشفها في زوجته,فعليه أن يصبر عليها ولا يفر من البيت فرار القائد من المعركة.
166- من أنواع النساء السيئة:
* امرأة عقلها أكبر من سنها ,لا تعرف متى تتكلم ومتى تسكت وماذا تتكلم ؟(/13)
* امرأة تستقبل زوجها بالثياب التي تفوح منها رائحة الطهي وتظهر عليها بقع الطعام
* امرأة تجلس أمام التلفزيون لمتابعة المسلسلات (الفارغة غالبا ) حتى إذا ما جاء زوجها من الخارج وطلب إحضار الطعام تمهلته ريثما تنتهي الحلقة حتى تعلم آخر ما حدث في المسلسل.
167- لا بأس أن يأكل الزوج مع زوجته حول مائدة واحدة , وأن يطعمها بين الحين والآخر من يده , وليعلم أن ذلك سيعتبر له إن شاء الله صدقة له عليها أجر.
168- إن المرأة –كل امرأة حتى ولو كانت ساقطة- بفطرتها السليمة تريد أن تحقق ذاتيتها بالزواج , حتى وإن كان عشرات الرجال يساومونها على جسدها, وحتى ولو كان زواجها لليلة واحدة,المهم أن تتزوج.
169- إن الزوجة في شهر العسل تحصي كل حركة لزوجها, ولكنها لا تحاسبه بل تكتفي بالعتاب الرقيق المهذب , وتؤجل الحساب إلى اليوم الذي تبردُ فيه عواطفها ويتبلدُ فيه شعورها . لكنَّ بعض النساء لا ينتظرن أن ينتهي شهر العسل ويتعجلن حسابَ الزوجِ من البداية , فيحفُرْن بذلك قبرَ الحياة الزوجية من البداية.
170- إذا حدث أن تزوج رجل بامرأة لا تجري على لسانها كلمة طيبة , ولا يشرق قلبها لا بنور الرضا والقناعة بما قسم الله , ولا بالشكر على ما أعطى الله ثم على ما أعطى الزوج , يمكن لهذا الزوج أن يموتَ بالسكتة القلبية أو يصابَ بالذبحة الصدرية أو يمرض بالسكر أو..
171- لا يحق للزوجة أن تخرج من بيتها –ولو للعمل-إلا بإذن زوجها ورضاه , وإلا فهي مقتحمة لحقوقه , مما يسقط عن زوجها وجوب النفقة عليها فضلا عما يلحقها من القضاء الأخروي.
172- إذا تحقق نشوز المرأة:
ا- وعظها الزوج برفق وذكرها بما يقتضي رجوعها عما ارتكبته.
ب- فإن استمرت على النشوز هجرها في المضجع بألا ينام معها في فراش واحد أو ينام معها في نفس الفراش لكن يعطيها ظهره(لكن في الحالتين يجب أن ينام معها في نفس البيت) ولا يباشرها أو يجامعها.
ج- فإن لم يفد ذلك ضربها ضربا غير مبرِّح (لا يكسر عظما ولا يشين جارحة)إن ظن الإفادة.ويمكن أن يُزادَ في الضرب إن ظن الإفادة.
والترتيب السابق واجب شرعا. والهجر والضرب لا يسوغ فعلهما إلا إذا تحقق النشوز,أما الوعظ فلا يشترط فيه تحقق النشوز ولا ظن الإفادة.
173- عند المالكية : إذا اعتدى الرجل على زوجته يُزجَر عن ذلك , ويجبر على الرجوع إلى العدل , وإلا- إذا أصر على ظلمه – فإن زوجته يمكن أن تُطَلَّق منهُ .
174- يمكن أن يكنىَّ الأب (أو الأم) بأكبر بنيه أو بأكبر بناته أو يكنى ولو باسم هو ليس اسما لأحد أولاده , فيقال :" أب فلان " أو "أم فلتان " .
175- كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يكره فساد الصبي أو الغيلة أو حمل المرأة وهي مازالت مرضعا , لأن لبنها يمكن أن يفسد ويقع الضرر على الرضيع .
176- إن المرأة ضعيفة من طبعها أمام السر,خاصة عندما يكون له علاقة بهواها فهي أضعف . وهذه الطبيعة في المرأة يجب أن تكون ماثلة بين أعيننا , ويجب أ ن نضع المرأة تبعا لذلك حيث وضعها الله :
(وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض..), وذلك حتى نعرف وتعرف هي كذلك مدى قدرات المرأة وطاقاتها , فلا نعطيها ولا تعطي هي نفسها أكثر من ذلك . ومن هنا نقول بأنه لا يليق ولا يُقبَل من الرجل أن يكشف لزوجته عن أسراره الخاصة جدا به وبعمله ,لأن المرأة لن تستفيد من ذلك من جهة , ولأن احتمال كشفها لهذه الأسرار أكثر من احتمال حفظها لها , بل إن المرأة في الكثير من الأحيان لا يحلو لها نشر الأخبار إلا إذا قيل لها بأنها خاصة جدا وبأنه لا يجوز كشفها للغير بأي حال من الأحوال.
177- يجب أن يعلم الرجل (حتى لا يحتقر المرأة) والمرأة (من أجل أن ترفع من مستواها العلمي والإيماني و..حتى تكون كما يحبها الله) معا أن المرأة ليست سلعة لمتعة الرجل وليست أداة لتسليته ولذته فقط,وليست مجرد خادمة عنده فقط.إن المرأة لها رسالتها التي لابد أن تؤديها كما أن للرجل رسالة لا بد أن يؤديها. إن الله يريد للنساء أن يكنَّ -قبل الجمال والحسب والنسب-: (مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات).
178- لا يتم استقرار الأسرة إلا إذا سارت على منهج الله خطوة خطوة ولا بد من التنازل من الطرفين (الزوجين) عن بعض الحقوق,لأن الحياة الأسرية ليست في الحقيقة مواد دستورية أو قانونية وإنما هي أخذ وعطاء ومودة ورحمة وجهاد واجتهاد و.., وإلا كانت الحياة الزوجية لا تطاق .
179- لا بد أن يحرص الزوجُ على أن يُكوِّن في نفس زوجته الحبَّ له بالمعاملة الطيبة,وكذا الهيبة منه بالحزم والجد منه ,وهذه هي العلاقة المثلى بين الزوج وزوجته.أما الحب وحده فقد يُجرِّؤ الزوجة عليه , وأما الهيبة وحدها فقد تكوِّن عندها الخوف منه,وكلاهما شر ,والخير كل الخير في الاعتدال.(/14)
180- يجب أن يحرص الزوجُ على أن يكون وسطا بين زوجته وأهله:لا يسمح لهم أن يظلموها كما لا يسمح لها أن تظلم واحدا منهم .أما بين الزوجة والوالدين , فإذا لم يستطع الزوج التوفيقَ فالأفضل الميل-بدون مبالغة- إلى جهة الوالدين ولو تم ذلك على حساب الزوجة.
181- يجب أن تُسَلِّم المرأة المسلمة بأن نسبةَ المرأة إلى لقب زوجها بعد الزواج مباشرة لا علاقة له باحترام المرأة لزوجها,بل هو انتقاص من كرامة المرأة وأبيها وأهلها حين نعمل من أجل أن ننسيها وأن ننسي الناس لقب أبيها وأهلها-من خلالها- من بعد زواجها حتى تموت .هذا فضلا عن أن هذا السلوك من مسؤولينا مجرد تقليد أعمى للغرب الكافر الذي يحتقر المرأة بالطرق المغلفة والمكشوفة,ثم يتهم الإسلام بأنه يظلم المرأة . ألا لعنة الله على الكاذبين الكافرين,وأسأل الله الهداية لمن يقلدهم من المؤمنين.
182- اعلمي-أيتها الزوجة-أن العظمة ليست بالادعاء,وإنما بالفعل وبالعمل وبالجهد وبالتطبيق.فإذا أساء إليك أحد الناس وظلمك بالسب والشتم والضرب والحبس والكذب والافتراء عليك و..خلال زمن طويل ثم تمكنت منه في يوم من الأيام وقدرت على مقابلة سيئته بسيئة منك أو على معاقبته العقوبة الحلال في الدين ,ولكنك لم تفعلي بل عفوت وتسامحت,وربما قابلت السيئة بالحسنة,فهذا من أعظم الأدلة على
عظمتكِ عند الله ثم عند الناس .
أما إذا قابلت سيئة حقيقية بسيئة مثلها فقد فعلت الجائز وكفى وهذا لا يرفع من قيمتك ولا يحط منها لا عند الله ولا عند الناس.
أما إذا أنشأت من لا شيء شيئا مهولا, وضخمت ما كان تافها , وأساءت الظن و.. وقالت :
* "ما زارتني , إذن لن أزورها".* "ما باركت لي , إذن لن أبارك لها"."ما أعطتني , إذن لن أعطيها".
* " مرت بي فلم تكلمني , إذن لن أكلمها". " اتصلت بفلانة ولم تتصل بي , إذن لن أتصل بها" أو ...
ثم بنت على ذلك مواقف معادية وقاطعت المرأة الأخرى وأهلها وحَرّشت زوجها وأولادها وإخوتها وأخواتها ليقاطعوها وأهلها كذلك.إذا فعلت كل ذلك فإنها تفعل ما من شأنه أن يحط من قيمتها عند الله وعند الناس,ولن تكون بهذا الفعل وبهذا العمل عظيمة ولا شبه عظيمة ولا فيها رائحة أدب وأخلاق ودين ولو ادعت غير ذلك.والمثال على كل ذلك المرأة التي قالت عن قريبة زوجها:"لقد أعطت زجاجات مشروبات لغيري ولم تعطني قازوزة واحدة "ثم قاطعتها بناء على هذه الحادثة التافهة وقاطع زوجُها قريبته وقاطع الأولاد عمتَهم ,وعادى الجميعُ المرأةَ وأهلها. والغريب أن المرأة عندما لامها من لامها قالت :"إذا سكتُّ عنها بعد أن حرمتني من قرعة القازوز,فإنني أكون قد أذللتُ نفسي لها !" وشر البلية ما يُضحك كما يقولون.
نسأل الله الهداية والعصمة من مثل هذا العوج الموجود عند البعض من نسائنا والذي يدل على ضعف رهيب في عقل المرأة وفي نفسيتها والذي تُرضعه المرأة لبناتها مع حليبها من ثدييها منذ سن الرضاعة.
183- يا أيها الزوج لا تفتح أذُنك لزوجتك من أجل أن تنقل لك أخبارا تافهة من شأنها أن تفسد بينك وبين إخوتك أو بينك وبين أخواتك,سواء كانت هذه الأخبار صادقة أم كاذبة .وأنتِ أيتها الزوجة اتقي الله في زوجك وفي علاقته بأهله .
184- الزواج الذي لا يكون فيه تعاون بين الزوجين على طاعة الله (صلاة وصيام وذكر وقرآن ودعاء وفعل خير وصدق مع الله ومع الناس وقناعة وإيثار و..) ليس زواجا ,أو هو زواج أبعد ما يكون عن بركة الله عز وجل,فلينتبه الزوجان إلى ذلك .
185- إياك-أيها الزوج-أن تسمح لزوجتك من أول يوم من أيام الزواج , أن تركب على ظهرك بسبب جمالها أو مالها أو حسبها ونسبها من جهة,وبسبب ضعف شخصيتك من جهة أخرى.واعلم أنها إن فعلت ذلك فمن الصعب جدا عليك بعد ذلك –مهما حاولت-أن تسترجع قيادة البيت والأولاد والأسرة أو أن تسترجع القوامة على امرأتك,فاحذر ثم احذر.
186- من مظاهر التقليد الأعمى عند الناس وخاصة عند النساء في الأعراس,ما يفعله البعض من إدخال العريس إلى حجرة من الحجرات في دار العروس(قبل الدخول أو يوم العرس)حيث يجلس بجانب أو أمام العروس,ويضع لها الخاتم في أصبع من أصابعها أمام الرجال والنساء وأمام الكاميرا التي يحملها رجل أو تحملها-بدون حياء-امرأة , ثم يُقطعان كعكة كبيرة موضوعة أمامهما من قبل إلى قطع صغيرة توزع فيما بعد على بعض المدعوين إلى العرس.
187- فرق بين أن تكون الزوجة مريضة أو مُتعبة أو مشغولة ,فيعينها زوجها-مختارا وعن طيب خاطر وطلبا للأجر من الله-في شأن من شؤون بيتها,وبين أن تكون الزوجة واضعة رِجلا فوق رجل وتتفرج على شاشة التلفزيون(مثلا)أو تشرب قهوة وتتجاذب أطراف الحديث مع غيرها من النسوة وزوجها في خدمتها أثناء ذلك.إن الأول يعاشر زوجته المعاشرة الطيبة ويعاملها بالسنة والقرآن,وأما الثاني فرجل ضعيف الشخصية تغلبُه زوجته(ويستحيل أن تحترمه)يمكن أن نعتبره ذكرا لكن لا يجوز أن يعتبر نفسه(ولا أن نعتبره نحنُ) رجلاً !.(/15)
188- كن أيها الزوج قدوة طيبة لزوجتك بالفعل قبل القول,واعلم أنك إذا ألزمت نفسكَ أنت أولا بما تنصحها به كانت توجيهاتك لها دائما وأبدا مثمرة ونافعة بإذن الله .أما إذا كان قولك في واد وفعلك في واد ,فإن تربيتك لزوجتك تكون كمن يزرع في واد أو كمن ينفخُ في رماد .كن أيها الزوج قدوة طيبة لزوجتك في الكرم وفي الزهد فيما عند الناس وفي التواضع وفي الحِلم وفي نظافة اللسان وفي .. غيرها من الأخلاق الإسلامية الأساسية.
189- أيها الزوج أنت راع ومسؤول شرعا عن رعيتك , وأول من أنت مسؤول عنه : زوجتك , وأول ما أنت مسؤول عنه من سلوكها : الصلاة .
ومن هنا أنصح الرجل أن يفكر مرات ومرات قبل الزواج من امرأة لا تصلي (إلا أن يغلب على ظنه استجابتها لأمره إذا دعاها للصلاة بعد الزواج),وأن يفكر مرات ومرات في الوسيلة المناسبة لدعوة زوجته للصلاة بعد الزواج إذا أخطأ من قبل وتزوج من امرأة لا تصلي.
وإذا هوَّن عليك شخصٌ من أمر المرأة التي لا تصلي وبسَّطه لك فاعلم أنه :
* إما جاهل.
* وإما لا يصلي هو كذلك.
* وإما أنه يكذب عليك ويخدعك.
190- إياك أيها الرجل أن تطلب فيمن تريدها أن تكون زوجة لك : الجمال أولا , وإلا :
* تزوجت فعلا بامرأة ذميمة وحصلت على عكس ما طلبت .
* أو بامرأة جميلة لكنها تُشيِّبُك- بسوء معاملتها لك أو بسلوكها السيئ مع غيرك- قبل أن تشيبَ والعياذ بالله .
191- الأم تشتاق إلى ولدها (أو ابنتها),وتحب دوما أن تزوره أو يزورها-مهما كان كبيرا- , وتقنعُ ولو برؤيته وتكليمه ولو لدقيقة واحدة .هذا هو قلب الأم وهذه هي طبيعتها وهذا هو شعورها الذي يجب أن يُراعى من طرف الولد مهما كان كبيرا أو متزوجا وله أولاد.إن رؤيتها لولدها وتكليمها إياه من أعظم أمنياتها ,وهو أغلى عندها من الدنيا وما فيها.
وليعلم الإبن أنه إذا قال :"لماذا أُتعب نفسي من أجل أن تراني أمي لدقائق أو تكلمني لدقائق ؟!" فإنه يُثبت بذلك جهلَهُ بالدين وبطبيعة المرأة (عموما والأم خصوصا) وعقوقَه لأمه في نفس الوقت.ولينظر كل ابن(وكل بنت) إلى قصة"جريج" مع أمه,التي حكاها رسول الله-ص-والتي جاء فيها :" أن أمه طلبته مرة ثم ثانية ثم ثالثة وهو في صومعته لرؤيته ولو من بعيد وللتحدث إليه ولو للحظة ,فقال في كل مرة أو في كل يوم :رب أمي وصلاتي ,ثم قدم-اجتهادا منه وهو مخطئ- صلاتَه على أمه,فدعت عليه واستجاب الله لدعائها .
192- لا يجوز الزواج من مال جاء من فوائد ربوية.لا يجوز ذلك مطلقا- كما قال الشيخ محمد الصالح المُنْجِد-, ولا خير ولا بركة تنتظر من زواج بني من أول يوم على الحرام. وأضاف الشيخ قائلا: لأن يمد الشاب يدَه للصدقة خيرٌ له من أن يأكل مالا جاء من ربا , ولو من أجل الزواج.
193- كيف تستخرجين كلمات الحب من فم زوجكِ؟
ا- إذا أردتِ لزوجك أن يتغير وينطلق لسانه بالكلمات العذبة التي تتشوقين لسماعها منه ، فعليك بممارسة هذا التغيير على نفسك أولاً، وأعطيه الفرصة ليتعرف على المشاعر التي تولدها لمسة عاطفية أو لحظة اهتمام,واعلمي أن محصلة اهتمامك به ستكون مثيرة لاهتمامه بك بالطريقة العاطفية ذاتها.
ب- ضعي كلمات الحب في أذن زوجك ، حتى يتعلم كيف ينطقها , واطبعي كلمات الحب أمام ناظريه ، حتى يعرف متى يستخدمها ، ودعيه يشعر بالألفة مع تعابيرك العاطفية. وفي المقابل لا تطمعي حتى يقول الزوج ما تتطلعين إليه بشكل كامل مرة واحدة، ولا تيأسي من محاولاتك واصبري عليه لأن الرجل يتعلم منذ طفولته كيف يخفي عواطفه خلف مظهر هادئ وصامت،حتى يعطيه صورة الرجل الحقيقي في نظره!!.
ج- لا تبخلي عليه بكلمات الإعجاب , وعليك أن تشجعيه بالابتسام والقبول الواضح لمحاولاته ، ولا تتوقعي كل ما تتمنين ، ومع هذا لا تيأسي من محاولاتك واستمري.
د- احرصي على تجديد شبابك ومظهرك ، حتى يراك كأجمل امرأة في العالم , و اهتمي بمظهرك وزينتك في بيتك لزوجك ، وتزيني له بكل ما تملكين من نفيس وغال لتكوني في أجمل حلة وأبهى زينة وأحسن شكل لتستنطقي قلبه قبل لسانه,وتستخرجي مكونه الدفين من حب وعبارات رقيقة.
هـ- قد يهوى زوجك الكتابة أو نظم الشعر.وكتاباته هذه قد تكون دون المستوى،ولكنه أحب يوماً ما أن يسمعك بعض ما يكتبه.هنا يأتي دورك في كسب زوجك وجعله ينطق بالكلمة التي تريدين وهو في قمة الفرح.هنا عليك أن تسمعيه كلمات المديح والثناء،وتشجعيه على هذه الموهبة،حتى ولو كنتِ أنتِ المعجبة الوحيدة بهذا !! ولكِ أن تتصوري مشاعر الراحة والسعادة التي تتركها كلماتك هذه في نفس
زوجك ،بدلاً من أن تؤذي مشاعره وتجلبي نقمته وكراهيته.(/16)
و- يمكنك أختي الزوجة العاقلة الحكيمة الذكية أن تثني على كرم زوجك،وتبالغي في مديحه والحديث عن عطفه كأن تقولي:"أنت قد غمرتني بفضلك ورعايتك.. أنت قد أكرمتني بعطاياك وهداياك.. أنت لم تترك في نفسي حاجة إلا وقد جلبتها لي.. لا أعرف كيف أشكرك على هذا الكرم وهذا الحنان.." الخ .. لتحصلي على كل ما تريدين وما تشتهين –طبعاً في حدود المعقول وفي مقدور الزوج-،وزوجك في المقابل راض ومستسلم وفرحان.هذا أفضل مليون مرة من الكلمات التي تثير غضبه وتحسسه بتقصيره، ومن المقارنة بينه وبين أزواج صديقاتك أو أخواتك.إن ذلك يمكن جدا أن يجلب المشاكل ويجعل الزوج يزداد عناداً وكرها لك.
وبارك الله لكل زوج في زوجته ورزقهما ذرية طيبة تكون عتقا لهما من النار-آمين- ...(/17)
الزوج والزوجة .. مَنْ ينفق على مَنْ؟!
(الحلقة الأولى)
د/ فيصل بن سعود الحليبي 24/6/1426
30/07/2005
لا تبادرني ـ أيها القارئ الكريم ـ بالتعجّب والاستغراب من عنواني هذا؛ لحضور الجواب التلقائي في عقلك، وانطلاقه على أطراف لسانك؛ لأني استغربت مثلك حينما سُئلت هذا السؤال!!
غير أني بعد أن أمعنت النظر في أحوال بعض بيوتنا رأيت حاجتنا الملحة لطرق هذا الموضوع بكل وضوح وشفافية!
وسرعان ما زال الاستغراب عني وسيزول عنك بلا ريب حينما رأيت سلف الأمة قد أعطوا هذا الموضوع نصيبه من التفصيل العلمي الدقيق في كتاباتهم الفقهيّة.
وإن من المُسَلّمات هنا أن الله سبحانه وتعالى قد أوكل مهمة الإنفاق على الزوج تجاه زوجته، بل عدَّ ذلك مما فضّله به عليها فقال: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ).
وهنا تأتي رحمة الله بالمرأة حينما جعلها مكفولة في نفقتها، لا تحتاج إلى أن تمدّ يديها إلى أحد من الناس ما دام هناك من تجب عليه نفقتها من الرجال، أمًا كانت أو أختًا أو بنتًا أو زوجة. فيالها من صيانة للمرأة تتميّز بها شريعة الإسلام؛ لترفع بها المرأة إلى قدر كبير من التبجيل لها والاحترام لأنوثتها ورقتها.
ولا يخفى عليك ـ أيها الحبيب ـ كم للتفكير في النفقة وجلبها من هَمٍّ يؤرق الرجال فكيف نريد أن تتحمله المرأة!!
لقد أنزل الله تعالى هذا الحق لها من فوق سبع سماوات فقال سبحانه :(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً).
فليست كفايتها في حقها بالنفقة حكمًا بشريًا ربما يزول أو يتغيّر، بل هو حق رباني لا يحق لأي قوة مهما بلغت أن تحجبه عنها أو تفكر في منعها منه.
لقد عَجِبَت تلك المرأة الكافرة التي أتت إلى مكان لتقضي فيه وطر الزنا مع رجل مسلم حينما سألته عن تتابع الاتصالات الهاتفية عليه فسألته عن ذلك، فقال لها: إنها زوجتي تريد بعض حوائجها وحوائج أبنائها من السوق، فقالت: ولماذا لا تشتري هي هذه الأشياء بنفسها ومن مالها؟ فأجابها بكل عفويّة: إن هذا من واجبي نحوها، فزاد عجبها فقالت: ومن الذي أوجب عليك هذا؟ فقال: ديني، فأُصيبت بالذهول .. كيف لا .. وهي تلقي بنفسها بين أحضان الشهوة المحرمة، وتقدم عِرضها سلعة رخيصة مهينة لكل من يريدها .. في مقابل ما تراه يوفر لها المعيشة والحياة كالآخرين.. لم تقطع حديثها بل واصلت تسأل عن هذا الدين الذي يكفل للمرأة النفقةَ عليها والرعاية لها ولأولادها.. فأجابها: إنه الإسلام .. فبحثت عن تعاليمه ..وقرأت عنها ..وسرعان ما هداها الله تعالى إليه.. بل وهدى على يديها أمثالها..وليس المقصود من هذه الواقعة اتخاذ الزنا المحرم ذريعة إلى الدعوة إلى الله!
كلا.. فهذا لا يشك في منعه عاقل.. وإنما لمّا رأيت فيها من عظة تدل على نبل الإسلام وتشريفه للمرأة وتكريمها.
وإن الزوج حينما يقوم بمسؤولية الإنفاق على زوجته يهيئها لمسؤولية أليق بها وأنسب، يعود نفعها عليه وعليها، وعلى أسرتهما بل وعلى المجتمع كله أيضًا، فهي التي توفر الراحة النفسية والبدنية له، وتمنحه المزيد من السعادة والمودة، حتى إنك لترى ذلك واضحًا على نتاج الرجل في حياته العلمية والعملية، أضف إلى ذلك مهمة تربية الأجيال، وصناعة المستقبل، وأكرم بها من مهمة، ولقد تجرّع المجتمع المسلم مرارة تقصير الأمهات في هذه الوظيفة الشريفة، حينما نشأ لنا جيل تربى على أيدي الخادمات والمربيّات، وقد تنكّر لوالديه أولاً، ولأحكام دينه وجميل عادات بلده وتقاليده ثانيًا.
إنه لن يكون لحديثنا داعٍ حينما نرى الزوجين يعيشان حياة الوئام والصفاء، يقوم كل واحد منهما بالحقوق الواجبة عليه تجاه الآخر، فالزوج ينفق كما شُرع له أن ينفق، والزوجة تمنحه من السعادة والأنس ما تنسيه به تعبه ونصبه، حتى إنك لا تسمع للماديات في كلامهم همس ولا حرف، تشرق عليهما أطياف المودة بكل ألوانها البهيجة، ولا أجمل من وصف حياتهم الهانئة من وصف الله تعالى لها حيث قال:(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
ولكن حينما يدب داء التقصير في زوايا البيت، تتسلل الخلافات إليه، لتعكر صفو السكن، وتحيل هدوءه إلى صخب وضجيج، فما أسباب الخلافات حول النفقة على الزوجة خصوصًا وعلى المنزل عمومًا؟ يمكننا بالاستقراء أن نلخصها في عدد من الدواعي:(/1)
أولاً: ضعف الدخل المادي لبعض الرجال؛ لأن من طبع الرجل السويّ أنه يأنف أن يكون عالة على زوجته في النفقة، ولكن ضيق ذات اليد تلجئه أحيانًا أن يطلب من زوجته النفقة، ولو أدّى هذا الأمر لأن تعمل هي خارج المنزل، هذا في حالة الضعف المادي، فما بالك إذا سقط الرجل في هوة البطالة، وأصبح فردًا ضمن نسبة تقول: إن (12.5) مليون عاطل في الوطن العربي يبحثون عن العمل!!
ثانيًا: البخل والشحّ الذي يُصاب به بعض الرجال بحيث يقصّر في نفقته عن قدر الكفاية الذي يجب عليه إنفاقه، وهو الحال الذي ذكرته هند -رضي الله عنها- لرسول الله فقالت: "إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا؟ قَالَ: خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ" رواه البخاري.
فأمرها بأن تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف بإذن أو بدون إذن، ما دامت أنها قامت بحقوقه، وقد قصّر في حق النفقة تجاهها وولدها، ولكن بالمتعارف عليه في المجتمع.
ولقد أظهرت دراسة اختارت لها عينة تمتد من الخليج العربي إلى لبنان إحصائية تقول: إن النساء اللواتي يواجهن بمثل هذا الشح في النفقة عليهن تصل إلى 75% مع أنها نسبة عالية، ولذا فإني أنقلها وأتحفظ عليها!!
ثالثًا: الجهل بالأجر العظيم الذي أعدّه الله تعالى للمنفقين عمومًا في سبيل الله، وعلى المنفقين على أهليهم بالدرجة الأولى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ؛ أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ)رواه مسلم.
فليس من الصواب أبدًا أن يقابل الإنسان نفقته على زوجته وبيته بالتذمر والتأفّف، أو بالمن والأذى، والله تعالى يقول: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى)، وإذا كان الله تعالى قد أخبر ببطلان الصدقة المطلقة إذا أتبعها بالمن والأذى فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى)، فلا يبعد أن يبطل ثواب النفقة على الأهل والذرية مع أنها أعظم أجرًا من الإنفاق في سبيل الله كما في الحديث السابق.
رابعًا: عدم زرع المودة والسكن والمحبة بين الزوجين في بداية الزواج، وعدم الشعور بالنفس الواحدة أو بالثقة بينهما، فتجد أن الزوج يحسب ما أنفق على زوجته وعلى بيته ويذكّرها بذلك دائمًا بمنة وأذى!! كما أن الزوجة ذات المال تتردّد في المشاركة بالنفقة، لأنها تقول: أنا لا أضمن إن أعطيته مالي لينفق على البيت أو لعمارة البيت وتأثيثه أو شراء سيارة أنه بعد ذلك يطلقني أو يتزوج بأخرى بسبب تعاوني معه في تخفيف مصاريف النفقة على المنزل!! ويقوّي هذا الظن في عقول بعض الزوجات تصرفات بعض الرجال الذين لم يعرفوا لهذا الإحسان حقه.
وللحديث عن بقية أسباب اختلاف الزوجين على النفقة بقية نتناولها في المقال القادم بإذن الله تعالى.
الزوج والزوجة .. مَن ينفق على مَنْ؟! (2/2)
د/ فيصل بن سعود الحلبيي 2/7/1426
07/08/2005
إن معرفة الأسباب سبيل سريع النتيجة لحل أي مشكلة، وخصوصًا فيما يتعلق بالحياة الزوجية، التي يُفترض فيها الوئام والحب والصفاء، وقد ذكرت في العدد السابق أربعة أسباب لاختلاف الزوجين حول النفقة: الضعف المادي لدى الزوج أو بطالته عن العمل، والبخل، والجهل بأجر الإنفاق على الأهل، وعدم بناء المنزل على التعاون والألفة.
وأما السبب الخامس: فهو انبهار الزوجة أحيانًا بالمال وبالوظيفة حتى إنها تجعلهما في مقابل حياتها الزوجية السعيدة، فهي تريد أن تجمع بين الخروج من المنزل للعمل واكتساب المال منه، مع الاستمتاع بحياة زوجية هانئة، وعدم حدوث أيَّ مشكلة بسبب هذا كله، وألاّ يطالبها الزوج بحقوقه، وهذا ربما كان عسيرًا في تقبّله أو التأقلم معه، فلو أن الزوجة كانت حريصة فعلاً على هذه المكتسبات المادية والمعنوية، لرأيتها تضاعف شيئًا من جهدها لتقوم على زوجها خير قيام إذا أتت إلى منزلها، حتى لا يشعر بتقصيرها معه، بل ولا يفكر في مطالبتها بترك وظيفتها، وإذا كانت لا تستطيع ذلك لأي عذر في صحتها أو طبعها، فلا أقل من أن تشاركه بالنفقة مقابل ذلك بالمعروف وبما يناسب اكتسابها.(/2)
وأما السبب السادس: تورّط الزوج في المحرمات من قروض ربوية تلاحقه، أو إدمان المخدرات والمسكرات، وما يعقبه أحيانًا من سجن ونحوه، فهذا يجعل العبء على المرأة كبيرًا وثقيلاً، وخصوصًا إذا كان الزوج لا يحمل في قلبه مسؤولية البيت، ولا هم معيشة الأولاد أو رعايتهم.
كتبت إحداهن عن نفسها فقالت: "عشت مع زوجي في بداية حياتنا حياة هانئة، فزوجي الحنون الكريم تغيّر بعد سنة واحدة من الزواج، وكنت قد أنجبت طفلتي الأولى.. ومن بين دموعها تضيف عائشة: لقد دخل زوجي عالم المخدرات من خلال الصحبة السيئة التي كان يقضي معها معظم وقته؛ إذ صار راتبه مخصصًا لهذه الآفة..، عندها وجدت نفسي مضطرة لأن أقوم بالنفقة على البيت، وذلك بعد أن حاولت إقناعه بدخول المستشفى للعلاج لكنه رفض ذلك تماماً.. وبقلب مؤمن ورضا تقول عائشة: إنني أحمد ربي وأشكره لأن راتبي كبير بحيث يكفي لجميع نفقات البيت بالإضافة إلى مرتب الخادمة، وتضيف أنا راضية بقدري وهو مع هذا السوء أفضل من الطلاق الذي نصحني به البعض"!!
ونحن نقول: ماذا عمّن ليس لها راتب كبير أو ليس لها راتب إطلاقًا!!
وأما السبب السابع: الظروف الطارئة من موت أومرض أو إعاقة، وهذا ظرف خاص له أحكامه الخاصة به، وليس موضع حديثنا؛ لعدم وجود عنصر الاختلاف فيه.
ولهذه الأسباب ونحوها أظهرت إحصائية في مدينة القاهرة أن 31% من أسرها تعولها النساء، وفي عمّان الأردن تصل نسبة النساء المنفقات على أسرهن إلى 20%.
ومعرفة الأسباب وواقع الإحصائيات يهيب بأهل الدراية والمسؤولية أن يلتفتوا إلى هذا الموضوع بجدية والعمل على كل الأصعدة.
لماذا وجبت النفقة على الزوج؟
والجواب يوجزه ابن قدامة قائلاً: هو أن المرأة محبوسة على الزوج ـ أي مقصورة عليه ـ يمنعها من التصرف والاكتساب، فلا بد أن ينفق عليها" المغني : 11/348.
وهذا منتهى العدل والضمان الحقيقي لحق المرأة المسلمة، فليس نفقة الزوج عليها من باب التفضل منه والمنّة عليها، وإنما هو من فضل الله الذي منحه إياه، وكتبه لها مقابل معاشرتها له بالمعروف، والقيام على إسعاده وراحته، وبهذا الانسجام في القيام بهذه الحقوق تعيش الأسرة المسلمة حياة سعيدة رغيدة.
وتأمل معي ـ يا رعاك الله ـ كيف شقيت المرأة الغربية حينما نزلت إلى حضيض الإهانة فابتذلت إنسانيتها فضلاً عن أنوثتها، وكسرت حياءها إلى أن قامت ليس بأعمال البشر، ولو كانت فاحشة وساء سبيلاً كالزنا، وإنما بأعمال الجمادات، فقد حدثني أحد الإخوة أنه حينما زار بلدًا أوروبيًا رأى في الأسواق ما يقف الإنسان العاقل أمامه مشدوهًا، إنها المرأة تقوم خلف زجاج المحلات التجارية مقام الدمى التي توضع عليها الملابس بكل أشكالها، حتى لتظن أنها من جمودها كأنها من الشمع، وإذا بها تتحرك بين الفترة والأخرى بحركات ترى أنها تثير إعجاب المتسوقين، فإذا انتهت فترة عملها، جاءت غيرها مكانها، وذهبت إلى منزلها بنفسٍ تحمل في ذاكرتها أنظار المتفرجين والمتفرجات بكل ما تعنيه من مهانة لها وإكبارٍ أو إسفاف لما ارتدته من أزياء، وكأني بها تقول في نفسها كما قالت عارضة الأزياء الفرنسية المشهورة: "إن بيوت الأزياء جعلت مني مجرّد صنم متحرك مهمته العبث بالقلوب والعقول"، والتي أضافت قائلة: "عشت أتجوّل في العالم عارضة لأحدث خطوط الموضة بكل ما فيها من تبرج وغرور، ومجاراة لرغبات الشيطان في إبراز مفاتن المرأة دون خجل ولا حياء" وقد ختمت آهاتها المحرقة قائلة: " لم أكن أشعر بجمال الأزياء فوق جسدي المفرغ إلا من الهواء والقسوة، بينما كنت أشعر بمهانة النظرات واحتقارهم لي شخصيًا واحترامهم لما أرتديه"، هذا ما قالته (فابيان) الفرنسية البالغة من العمر ثمانية وعشرين عامًا، وذلك بعد إسلامها وفرارها من ذلك الجحيم الذي لا يُطاق.
والمرأة المسلمة التقيّة حتى لو خرجت للعمل، فإنها خرجت لأداء رسالة يأمر بها دينها، وهي تعليم بنات جنسها دين ربها، أو معالجة أدوائهن، أو نشر الفضيلة عبر الصحافة النقية، أو المشاركة في أعمال البر والإحسان في مجتمعها بما لا يخلّ بحشمتها ولا يعرّضها للفتنة، وهي بتقواها وصلاحها تسعى ألاّ يؤثر هذا على سعادتها مع زوجها أو يقلل من رعايتها لأبنائها، ولو أخذ منها هذا أو ذاك جهدًا أكبر؛ لأنها تعلم علمًا يقينيًا أن الحياة جهاد، وما أجمله أن يُبذل لسعادة الأسرة ونهوض الأمة.
ولفتة أتمنى من الزوج صاحب النظرة الثاقبة البعيدة أن يلتفت إليها، وهي أننا نعلم بلا ريب أنك ترغب في زوجة لا تُنقِص من حقوق إسعادك شيئًا، ولكن هل لك أن تعذرها فيما يبدو منها من نقص في بعض حقوقك؟ فهي تظل بشرًا، وإذا علمت أن سبب تقصيرها هو عملها الشريف الذي تخدم به مجتمعك وأمتك، فهذا يشفع لها في غضّ النظر عما يبدر منها من تقصير، فلتكن عونًا لها، ولتكن عونًا لك؛ لتسير دفّة المنزل والمجتمع نحو السعادة والنجاح.(/3)
الزوجان بعيدًا عن الأطفال !!
قال لي:
في الأيام الأولى من زواجي إنه لا يحب أن تدخل الأطفال غرفة النوم لأن لها خصوصية، ولا ينام الأطفال على الفراش أيضًا، وإنما علي أن أعلمهم التواجد في غرفتهم وفي الأماكن التي تناسبهم في المنزل.
دهشتُ لهذا الكلام ولم يكن بعد عندنا أطفال .. وبعد مرور سنوات جاء فيها الأطفال أدركت قيمة ما تحمله هذه الكلمات من معانٍ.
نعم إن الزوجين يحبون أطفالهم حبًا تعجز الكلمات عن وصفه، ويحيطونهم بالحنان، ويكرسون حياتهم من أجلهم فهم يأتون على رأس أولوياتهم، ولكن في نفس الوقت فإن هناك خصوصية للزوجين، وحياة خاصة بهم أيضًا بمفردهم بعيدًا عن الأطفال.
ومن هذه الخصوصية غرفة النوم، أو قضاء بعض الوقت بمفردهما ليتجاذبا أطراف الحديث، ويعبر كل واحد عن حبه للآخر، يضحكان، يسكتان فهم شركاء الحياة، وكذلك خروج الزوجين بمفردهما في موعد يتم تحديده مسبقًا.
فلا تجعل عزيزي القارئ أي شيء يقف بينكما وإن كان أطفالكما.
ـ عندما يأتي الأطفال:
يتبدل حال الزوجين عندما يأتي الأطفال، وتنتهي أيام الرومانسية والعطر الفواح وساعات التزين أمام المرآة 'للزوجة' ويولي زمن اللهفة والشوق والحب، وينشغل الزوجان بتدبير مصروفات الأطفال وتكاليف العيش، والغرق في مشاكل الدراسة والمعلمين، والعمل في أكثر من دوام لتوفير نفقات الأسرة.
ناهيك عن إهمال الزوجة لزوجها ولبيتها ـ وذلك لفترة محدودة ـ حتى يكبر الأطفال ويستطيعون الاعتماد على أنفسهم.
والنتيجة: بدن منهمك، وعقل مثقل، ومزاج عكر، وبالتالي يقل العطاء النفسي والجسدي لشريك الحياة.
ـ الحب في صالح الأطفال:
لماذا لا يكون الأطفال سببًا في رابطة أقوى وأعمق بالرغم مما يجده الزوجان من عناء في تربية الأطفال.
ـ وقد نغفل أحيانًا أن جفاف ينابيع الحب بسبب الانشغال بالأطفال والدوران في دوائر اليوم ومسئولياته والإرهاق المستمر هو ذاته ضد صالح الأطفال.
ـ وقد نغفل أيضًا أن من حقوق الطفل المعنوية أن ينشأ في بيئة ليستشعر فيها دفء العلاقة بين الأب والأم بلمسة رقيقة ولفتة عطوف وكلمة ساحرة وفرحة بلقاء الحبيب، وهذا يظهر للطفل علاقة زوجية قوية يشعر في ثناياها بالأمن والدفء العاطفي.
ـ وأفضل ما نقدم لأطفالنا هو القدوة الحسنة في الحب العميق المتبادل بين الزوجين، وتفضيل كل منهما للآخر على نفسه، وبالتالي سيشكل هذا انطباعًا حسنًا لدى أطفالنا عن علاقتهم بأزواج المستقبل.
ـ أعط الأولوية لعلاقتك الزوجية:
إذا كنت ترغب أن يسود الحب علاقتك الزوجية فأعط لها الأولوية وامنحها قدرًا كبيرًا من الأهمية.
ـ وقد يقول البعض: 'إن علاقتي بزوجتي ذات أهمية بالغة' بينما تتعارض أفعالك مع أقوالك؟ كأن لا تقضي بالفعل بعض الوقت مع زوجتك، أو تخرج للتنزه معها، فهذا ليس هو سلوك المحب لزوجته.
إنك تقضي أوقاتك في جلسات أسرية وبصحبة أطفالك وفي العمل أو في شراء المتطلبات المنزلية، أو مشاهدة أخبار العالم، فلماذا لا تقتطع جزءًا من وقتك لتقضيه مع من تطلق عليها حبيبتك؟
ـ وإن كان لديكما أطفال وبرغم هذا فإنكما تقضيان بعض الوقت سويًا فإن هذه إشارة قوية يرسلها كل منهما للآخر بأن كليكما يهتم بالآخر وبطباع العلاقة الودية بينكما.
لذا ضع في الاعتبار أن تأتي علاقتك الزوجية في المقام الأول تحت أي ضغوط.
ـ ثلاث قواعد لعلاقة زوجية حية:
1ـ الحوار والتخاطب بين الزوجين.
2ـ حل الخلافات وسوء التفاهم.
3ـ التعهد بالرعاية والحفظ.
وليس بمجرد الاقتناع عن السلبيات وإنما القيام بالواجبات والرعاية، وكل ما من شأنه أن ينم عن أن الواحد منهما يضع الآخر في أولوياته.
وهذه الثلاثة السابقة يرتبط تحقيقها بوجود خصوصية للزوجين وجلوسهما بمفردهما إما في المنزل، أو خارج المنزل بعد ترك الأطفال بمفردهم إن كانوا كبارًا، أو جعل أحد من الأقارب عندهم للحفاظ عليهم ومتابعتهم إلى حين عودة الزوجية إلى المنزل.
ـ خصوصية غرفة النوم:
إن غرفة نوم الزوجين لها خصوصية، ولها جوها المنفرد والمختلف عن باقي أجزاء المنزل وإن لم يكن لها هذه الخصوصية ما ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمور التي تؤذي الزوج ويغضب على زوجته بسببها.
ـ ففي حديث جابر بن عبد الله في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجته. قال فيه: 'ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه' [حدث صحيح أخرجه مسلم].
فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح.
وهذا الحكم سواء كان الزوج حاضرًا أو غائبًا.
قال النووي رحمه الله معناه أن لا يأذن لأحدٍ تكرهونه في دخول بيوتكم، والجلوس في منازلكم سواء كان المأذون له أجنبيًا، أو امرأة، أو أحدًا من محارم الزوجة فالنهي يتناول جميع ذلك.
وهذا حكم المسألة عند الفقهاء: أنها لا يحل لها أن تأذن لرجل أو امرأة ولا محرم ولا غيره في دخول منزل الزوج إلا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه.(/1)
ويستفاد من هذا الحديث أيضًا إن كان الزوج يكره أن تكون غرفة نومه مشاعًا للجميع وفراشًا للأطفال فعلى الزوجة أن تستجيب لرغبة زوجها وتعلم الأولاد ألا يدخلون الغرفة إلا بإذن، وألا يستغرق مكوثهم فيها أكثر من بضع ثوان أو دقائق.
ـ املئي نفسه:
إن من أجل أعمال المرأة بعد عبادة ربها أن تنجح في الدخول إلى قلب زوجها وأن تملأ نفسه بحيث يشعر في قرارة نفسه أنه سيعد باقترانه بها، هنيء في عيشه معها، منعم بصحبتها فتكون حينها خير متاع في الحياة الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: 'الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة' [صحيح مسلم].
وتكيف الزوجة مع زوجها طاعة وقربى لله تعالى، بمعنى أنها تحب ما يحب، وتكره ما يكره، وتخرج معه إن اتفقا على الخروج، ويمكثا في البيت إن أرادا البقاء فيه، وهكذا يمكنك القياس على كل فعل من الأفعال اليومية التي تمر بالزوجين.
ـ ومن حكمة الله العظيمة أن جعل حسن تبعل المرأة لزوجها واستمالة قلبه بكل الوسائل من الدين، لأن في ذلك عفة للرجل وتوطيد لدعائم الأسرة وسعادة للمرأة ولزوجها ولأولادها.
ـ وكلا الزوجين مطالب بأن يحصن الآخر فيسكن القلب وتستريح النفس، وليس المقصود بالإحصان فراغ ما في الجسد من شدة فوران الشهوة واتقادها بل هو أعم من ذلك وأوسع لما يشتمل عليه من المناداة والملاعبة والمؤانسة والتواصل والقرب والعطاء وارتباط القلوب بعضها ببعض.
ـ إن الزوجة الناجحة هي التي تستطيع أن تحظى بإعجاب الزوج ومحبته، والزوج الناجح هو الذي يستطيع أن يمتلك قلب زوجته.
وذلك لأن الإحسان يقود إلى الإحسان، وعطاء كل واحد منهما للآخر واهتمامه به يعينها على توطيد المحبة والعطف والحنان والتقدير والاحترام.
ومع مرور الأيام وتجدد الروابط التي تربط بين الزوجين تزداد العلاقة بينهما توثقًا ورسوخًا ونموًا.(/2)
الزوجان في العيد
حين يتردد التكبير صباح يوم العيد، وترج المساجد بالتهليل وتسيل الدموع حزنًا على فراق رمضان الحبيب شهر المغفرة والعتق من النار.. شهر الخير والصبر والكرم والبركة.
يهدينا الله الرحيم الكريم بهدية العيد وهي أيام فرح وسرور ونسمات تخيم على جميع أفراد الأسرة ومنهم الزوجان.
في ذلك اليوم تسمو أرواح الزوجين وتتصافى نفوسهم وتتلاقى قلوبهم, فنرى روح السعادة ترفرف في البيت، ونلمس بين جنباته الود والتسامح.. الحب والمرح.. حينها يتحقق مفهوم العيد بمعناه الصحيح.
وقد يكون العيد عند البعض شرارة تشعل نار الخلافات وبالذات في الصباح.. لضيق الوقت وتشتت الذهن عند الاستعداد للخروج، فتشحن النفوس بالغضب وتنقلب فرحة العيد إلى شجار ليذهبوا إلى أقاربهم بوجوه غاضبة ونفوس مكتئبة.
فرحة العيد ترفرف على البيت السعيد
ـ على الزوجين أن يشكرا الله على نعمه وفضله {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
ـ ويلزما التكبير في أيام العيد والحمد التزامًا بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
ـ الدعاء من خالص قلوبهم أن يتقبل الله منهم الصيام والقيام وخالص الأعمال وأن يعيد عليهم رمضان أعوامًا عديدة.
ـ الدعاء أن يجمعها الله في جنته ومستقر رحمته.
ـ الاستعلاء عن سفاسف الأمور وما ينغص عيشها، فالعيد شرعه الله للفرح والمرح وليس للحزن والتخاصم.
خطوات مسبقة لعيد أكثر مرحًا
ولعيد أكثر سعادة ومرحًا إليك عزيزتي الزوجة هذه الخطوات:
استعدادك قبل العيد:
ـ رتبي ما يخص خروجك وعائلتك قبل العيد بيومين, أي جهزي ملابس أولادك وزوجك وجميع الأغراض وضعيها في أماكن قريبة ومناسبة.
ـ رتبي منزلك قبل العيد لتقللي من الوقت الذي ستمضينه في ترتيبه قبل خروجك.
ـ احرصي على النوم مبكرًا أنت وزوجك ليلة العيد ـ قدر الإمكان ـ لتستيقظي مبكرة ونشيطة وبنفسية طيبة.
ـ بعد صلاة الفجر أكثري من الاستغفار ولا تنسي أذكار الصباح والتكبير والتهليل, وارفعي صوتك بها لتسمعي من في البيت ليستشعروا الجو الجميل للعيد.
ـ جهزي تمرات يتناولها زوجك وأولادك قبل الخروج إلى صلاة العيد اتباعًا لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وجهزي أيضًا طبقًا من الحلويات أو الحليب أو الشاي حسب ما تفضليه.
استعدادك في صباح العيد:
ـ أيقظي زوجك وأولادك .. ثم توجهوا إلى المسجد مع التكبير والحمد، وحضور صلاة العيد والاستماع إلى الخطبة.
ـ ثم يقوم الزوجان بزيارة الأهل والأقارب والأحباب لقضاء وقت جميل معهم.
ـ أعدي عزيزتي الزوجة بطاقات تهنئة بالعيد مكتوب فيها سطور تعبر عن الفرحة والشكر للزوج على جوده وما قام به من الطاعات.
ـ اقضي ثاني أيام العيد مع زوجك وأولادك في رحلة يفرح بها الجميع، وجهزي فيها بعض المفاجآت والمسابقات والمشويات.
ـ وأشعري نفسك وزوجك بالفرح والسعادة لتظهر على أفعالك وتصرفاتك وتجاوزي عن كل ما يغضبك، وذكري نفسك وزوجك كلما لاح طيف الغضب أن هذا يوم عيد يجب أن نفرح به وأن نغير حياتنا للأفضل(/1)
الزوجان في رمضان
إن شهر رمضان المبارك يحمل معاني سامية للحياة الإنسانية بشكل عام والحياة الزوجية بشكل خاص, وهو فرصة كبيرة للتقارب الزوجي والتواصل الأسري.
إن الاجتماع على الطاعة والعبادة في جو مفعم بالإيمان ليضفي على الحياة الزوجية بنسائم الحب والود، فهو فرصة حقيقية للحياة الزوجية السامية.
وفي شهر رمضان ما فيه من دروس رائعة يستفيد منها الزوجان مثل:
الصبر ـ الجود ـ الحلم والتسامح ـ الأخلاق الحميدة العامة
ـ ليسع الزوجان منذ بداية هذا الشهر للاستفادة منه كما هو المطلوب من مشروعيته وحكمته وليجعلا من الشهر الكريم دورة تدريبية لهما.
وليكن من محتويات هذه الدورة الإيمانية:
ـ سعة الصدر، وتقبل بعضكما لبعض ومشاركة أحدكما الآخر في المشاعر.
ـ اجتمعا معًا على الطاعة كما تجتمعان على الإفطار والسحور.
ـ الاهتمام بإظهار المحبة والمودة والتقارب بين الزوجين، ومحاولة إزالة أي سوء تفاهم حتى لا يعكر جو العبادة في رمضان، وتذكرا أقوال حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم: 'إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم'.
ـ خططا معًا للسعادة والحياة التي يرضى الله عنها كما تخططان للفطور.
ـ التوسعة على الأهل والأولاد بحسن المعاملة والعناية والرعاية وتجنب الصخب والعصبية. وتذكرا قول رسولنا الكريم: 'من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه'.
ـ التدريب العملي على الأخلاق السامية وأولها العفو عن الخطأ والمسامحة والاعتذار والحلم والحرص على السنن والآداب الشرعية.
ـ المشاركة في العبادة بإحياء سنة القيام مع الأولاد والزوج والحرص على قراءة القرآن.
ـ الجود بالمال والعطاء والصدقات على الفقراء والمحتاجين فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم جوادًا, وكان أجود ما يكون في رمضان.
صور للتواصل الزوجي في رمضان
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل كله وأيقظ أهله وجد وشد المئزر 'وكان يأمر بتحري ليلة القدر': 'تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان'.
وقد سألت عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قلتُ: يا رسول الله أرأيت إن علمت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: 'اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عني' رواه الترمذي.
اجتمعا معًا على الطاعة
على الزوجين حسن استغلال هذا الشهر الكريم والاتفاق معًا على وضع خطة للتعامل مع الأمور الأساسية وهي: القرآن الكريم ـ الصدقة ـ قيام الليل ـ صلة الرحم ـ الدعاء ـ الصلاة في المسجد وعلى الزوج أن يعلم زوجه وأولاده ما يخص هذا الشهر الكريم من فضائل؟ ويراجع معهم فقه الصيام وآدابه ويحثهم على الصدقة وقراءة القرآن وصلة الرحم وغير ذلك من أعمال البر.
كيف تحبين زوجك في رمضان؟
1ـ لا تبخلي على زوجك بإظهار محبتك يوميًا كما تقدمين له وجبات الطعام اليومية الشهية.
2ـ لا تعتقدي أن المحبة تقتضي منك التضحيات المادية الكبيرة بل إن الأمر يتطلب منك تضحيات معنوية روحانية أكبر. فكوني سخية في عطائك المادي والمعنوي لزوجك تملكيه.
3ـ اشكري زوجك على اهتمامه ولطفه بك وعطائه ولا تتعاملي معه على أن اهتمامه بك واجب عليه فينطفئ هذا الاهتمام مع الأيام.
4ـ كوني على اقتناع تام بأن الذهب والمال والنفوذ والعيش الرغيد لا قيمة له بدون الحب, والحياة المملوءة بالحب هي الحياة الزوجية الناجحة، وبدون الحب ففرص النجاح الزوجي قد تكون منعدمة.
5ـ امنحي زوجك رمضانًا مختلفًا وعلاقة زوجية مختلفة بل ورائعة في هذا الشهر الكريم, محتسبة فيه كل عمل وقول وبسمة, لعل الله أن يكتب لنا الأجر ويتقبل منا ويجمعنا مع أحبابنا في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين(/1)
الزوجان وجوانب تربية الأبناء ـ رؤية مشتركة
إن الرؤية المشتركة في تربية الأبناء تستلزم من الزوجين التعرف على طبيعة المرحلة العمرية الموجود فيها الابن ونوع هذا الابن لأن كل مرحلة عمرية لها خصائصها ومميزاتها التي تميزها عن غيرها، ولها أيضًا مطالبها التي تختلف عن غيرها من المراحل.
فمثلاً مرحلة الطفولة لها خصائص ومطالب تختلف عن مرحلة المراهقة، وكذلك الولد يختلف عن البنت في الخصائص ومراحل النمو، ومن حسن رعاية الزوجين للأبناء التعرف على ما ذكرنا لتحقيق التربية المنشودة والصحة النفسية للأبناء والبنات.
جوانب تربية الأبناء:
وتربية الأبناء تكون في عدة جوانب هي:
1ـ التربية الإيمانية:ومن أمثلة الأمور الواجب الاعتناء بها
* تعليم الأبناء مبادئ العقيدة الإسلامية.
* تعليمهم الحلال والحرام.
* أمرهم بالعبادات وهم في سن السابعة 'مروا أولادكم بالصلاة لسبع' ومن يهمل في تعليم أولاده في هذا السن فهو مقصر آثم في حق أولاده.
* تأديبهم على حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته الكرام.
* تعويدهم على قراءة القرآن وفهمه والعمل به.
* غرس روح المراقبة لله تعالى فيهم 'أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك'.
2ـ التربية الخلقية: وتكون بـ:
* الحث على الأخلاق الفاضلة 'إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق'.
* التحذير من سيئ الأخلاق: كالكذب والسرقة والشتائم والتقليد الأعمى ..
3ـ التربية الجسمية: وتتمثل في:
* اتباع القواعد الصحية.
* تعويد الولد على الرياضة 'العقل السليم في الجسم السليم'.
* التغذية المتوازنة السليمة.
* تعويد الولد على الاقتصاد في الإنفاق وعدم الإسراف.
* معالجة الأمراض بالتداوي.
4ـ التربية العقلية: وتتمثل في:
* تعليم الأطفال في مرحلة الطفولة الأولى [الحضانة].
* تمرين الولد على إعمال الذهن.
* تبصير الطفل بأهمية العلم وفضله.
* القراءة المفيدة والاطلاع تساعد على تكوين شخصية الابن.
5ـ التربية والنفسية:
وتكون برعاية الطفل وإحاطته بالحب والدفء والعلاقات المتوازنة بين المكافأة والعقاب فإن أحسن أثيب وإن أخطأ عوقب ولكن برفق وبدون أذى وإن ظهرت عنده أعراض لبعض المشاكل النفسية كالخجل والخوف والشعور بالنقص، أو الغضب، فعلى الزوجين معرفة الأسباب ومحاولة البحث عن حل يناسب المرحلة العمرية ونوع الابن [بنت أو ولد] وسؤال المتخصصين في ذلك للوصول به إلى بر الأمان وتحقيق الصحة النفسية والتربية السليمة.
6ـ التربية الاجتماعية: وتتمثل في:
الأخوة والرحمة والإيثار والعفو والجرأة، وأيضًا مراعاة حقوق الآخرين مثل حق الأبوين، والأرحام، والجيران، والمعلم، والصديق، والكبير.
وأيضًا تعليمه الآداب الاجتماعية مثل:
آداب الطعام والشراب، والسلام، والاستئذان، والمجلس، والحديث، والمزاح، وعيادة المريض، والتعزية، والعطاس والتثاؤب.
7ـ التربية الجنسية: وتتمثل في:
أدب الاستئذان، وأدب النظر، ومما ينبغي في هذا الموضوع تجنيب الأولاد الإثارة الجنسية وذلك يكون بالرقابة الداخلية والخارجية، وسد الذرائع الموصلة إلى الإثارة الجنسية بكل أشكالها المقروءة المسموعة والمرئية، ولكن يراعي إعطاء المعلومات للأبناء بما يتناسب مع أعمارهم والإجابة على أسئلتهم إجابة علمية وشافية في نفس الوقت.
الوسائل العلمية [المؤثرة] لتربية الأولاد:
وهنا علينا أن نقف لنذكر كيف نحقق الجوانب السابقة ، ولتطبيق ما ذكرنا فإن هناك عدة وسائل تعرف بوسائل التربية المؤثرة وهي:
1ـ التربية بالقدوة:
فالطفل حين يجد من أبويه ومربيه القدوة الصالحة فإنه يتشرب مبادئ الخير ويتطبع على أخلاق الإسلام، والتربية بالقدوة تكون بقدوة الأبوين، وقدوة الرفقة الصالحة، وقدوة المعلم، وقدوة الأخ الأكبر، وربط الولد بصاحب القدوة العظيم رسولنا صلى الله عليه وسلم، يقول سعد بن أبي وقاص: 'كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله كما نعلمهم السورة من القرآن'.
2ـ التربية بالعادة:
إذا توفر للطفل عامل التربية وعامل البيئة مع الفطرة السليمة المولود بها فإن ذلك له أثره الطيب ونشأته النشأة الصحيحة والتربية بالعادة تكون بالتقليد والتعويد كما ذكرنا في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم 'مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر' وأيضًا: 'علموا أولادكم وأهليكم الخير وأدبوهم'.
وفي ذلك يقول الإمام الغزالي رحمه الله في إحيائه: في تعويد الولد خصال الخير:
'والصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك .. وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق'.
3ـ التربية بالموعظة:(/1)
والقرآن الكريم ملئ بالآيات التي تتخذ أسلوب الوعظ أساسًا لمنهج الدعوة وطريقًا إلى الوصول لإصلاح الأفراد، وفي سورة لقمان خير شاهد على ما نقول يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] ويتجدد أسلوب الوعظ على حسب الظروف ومقتضيات الأحوال، فمرة يذكر المربى الولد بالتقوى، ومرة يحض على النصح، ويغري أحيانًا بالترغيب، وفي موطن آخر يلجأ إلى أسلوب التهديد، وهكذا حسب الأحوال.
4ـ التربية بالملاحظة:
ويقصد بها أن يلحظ المربى ولده ويلاحقه ويلزم أدبه ويراقب حركاته وسكناته، فإذا أهمل حقًا أرشده إليه، وإذا رأى منه منكرًا نهاه عنه، وإذا فعل معروفًا شكر له صنيعه يقول صلى الله عليه وسلم: 'والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها'. فإن لم تكن هناك ملاحظة فإن الولد سينزع لا محالة إلى الانحراف والانحلال والهلاك المحقق، فكن مع ولدك أيها المربي أينما توجه، كن معه بنفسك، بفكرك، باهتمامك، لاحظه في إيمانه وفي أخلاقه وفي علمه وفي اجتماعه مع غيره، لاحظ نفسيته ومزاجه كل ذلك يرشدك إلى أحسن الطرق في التعامل معه وفي تربيته.
5ـ التربية بالعقوبة:
اللين والرحمة والرفق هي الأصل في معاملة الولد، وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يؤكد على ملاطفة الأولاد ، ولكن في حال خطأ الولد فلا بد من استعمال العقوبة ليكون الولد متزنا نفسيًا وانفعاليًا، ولا بد أيضًا من التدرج في العقوبة.
وتأتي حكمة المربى في استعمال أساليب العقوبة واختيار الأصلح منها، فهذه الوسائل تفاوت بتفاوت الأولاد ذكاءً وثقافة وحساسية ومزاجًا، فمنهم من تكفيه الإشارة البعيدة ويرتجف لها قلبه، ومنهم من لا يردعه ذلك ! ومنهم من يصلحه الهجر، ومنهم من ينفعه التأنيب ، ومنهم من لا بد من تقريب العصا منه حتى يراها على مقربة فينزجر، ومنهم بعد ذلك فريق لا بد أن يحس لدغ العقوبة على جسمه لكي يستقيم.
والضرب له شروط، ولا يلجأ إليه إلا بعد استنفاد جميع الوسائل التأديبية، ولا يضرب المربي ولده في حالة الغضب الشديد مخافة إلحاق الضرر بالولد، ولا يضرب الوجه أو الصدر أو البطن، والتدرج أيضًا في شدة الضرب من الأقل شدة إلى الأكثر، والتدرج في عدد مرات الضرب على اليدين أو الرجلين ولا يضرب الولد قبل عشر سنوات 'واضربوهم عليها وهم أبناء عشر'.
وإذا رأى المربي انصلاح حال ولده بعد العقوبة فعليه أن ينبسط له ويتلطف معه ويبش في وجهه ويشعره أنه ما قصد من العقوبة إلا صلاحه في الدنيا والآخرة هكذا كان نهج النبي صلى الله عليه وسلم واعلم أيها المربي أن التربية بالعقوبة سبب زجر الولد عن أسوأ الأخلاق وأن يكون عنده من الحساسية والشعور ما يردعه عن الاسترسال في الشهوات والمحرمات بعد ذلك، وبدونها يتمادى الولد في المفاسد والأخطاء.
وفق الله الجميع إلى أحسن الأخلاق
وهدى الزوجين إلى رؤية مشتركة لتربية الهدية الربانية التي منحهم الله إياها.(/2)
الزوجة النكديّة!!
فوزية الخليوي * 5/5/1427
01/06/2006
من هي الزوجة التي أحالت حياتها وعائلتها إلى جحيم لايُطاق؟!
وهل خلت فعلاً من الأحاسيس والمشاعر المرهفة؟!
وهل الصفات التي تتصف بها خارجة عن إرادتها وشعورها أم هو منهج اتخذته فى حياتها؟! ومنها:
* النقد الدائم:
عندما دخل إبراهيم الخليل على زوجة ابنه إسماعيل، وسألها عن عيشهم، وكان رجلاً غريباً عليها، ومع ذلك لم تبالِ أن تبدي تذمرها، وقالت: نحن بأشر عيش؟!
*التلفظ بألفاظ مؤلمة:
قد تتلفظ بالكلمة لا تلقي لها بالاً، فتكون سبباً في إيغار صدر زوجها عليها مدة طويلة، وقد تكون فيها نهايتها كما جاء فى المرأة التى تزوج بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلما دخل بها قالت: أعوذ بالله منك!! قال: لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك!! (طبقات ابن سعد8-108).
* التحقيروالاستهزاء بالطرف الآخر:
أن تعيّره بفقره، و بقلة ثقافته وشهاداته، أو ببيئته المتوسطة الحال!!...مع أنها لاتستغنس عنه وهذا دأبها فى الجد أو الهزل!!
* التفسير السلبي للآخر:
بعد أن يسيطر عليها الشك! وتحيط بها الظنون تعجز أن تلتمس له العذر بتأخره أو غيابه أو حديثه الخافت في الهاتف.....فتساورها المخاوف وتفقد ثقتها فيه، فتعجز عن صدها، ومن ثم تستسلم لها!!
* الشعور بالتعاسة:
مع توالي النعم عليها وأفضاله لها!! يظل حنينها لماضيها مما يؤلم زوجها هذه زوجة معاوية بن أبي سفيان عندما دخل عليها، وهي تنشد حنينها لديارها في البدو:
لبيت تخفقُ الأرواح فيه ... ...
أحبّ إليّ من قصر مشيد
سرّحها إلى أهلها.
* لا تستخدم الحوار الهادئ:
فهي لا تكف عن إثارة الضوضاء والجدال معه حتى وإن كانت في جلسة هادئة سرعان ما ينقلب الحد يث الودي إلى سباب وشتم و ألم وبكاء...
وقال أحد الشعراء يحكي حواره مع زوجته:
ولما التقينا غُدوةً طال بيننا ... ...
سبابٌ وقذفٌ بالحجارة مطّرح
أجلي إليها من بعيد وأتقي ... ...
حجارتَها حقاً ولا أتمزّح
فهذه قريبة بنت حرب عندما تزوجت بعقيل بن أبي طالب اختارته؛ لأنه كان مع قرابتها الذين قتلوا في بدر!! وكانت لاتكفّ عن ملاحاته وندب آبائها!! فقالت له يوماً: ياعقيل! أين أعمامي! أين أخوالي كأن أعناقهم أباريق فضة؟
قال لها: إذا دخلت النار فخذي على يسارك!!فغضبت وخرجت من بيته!!( العقد الفريد6-99)
*تثور عندكل موقف:
لا تستطيع الأمساك بزمام نفسها...
فهي تشعر بالغليان الداخلي وعند كل موقف تثور ثائرتها فتجعل منه متنفساً لما يعتمل في صدرها ويؤلم أحساسها!! فقد كان اسم زوجة عمر بن الخطاب عاصية فأسلمت فأتت عمر فقالت: قد كرهت اسمي فسمني، فقال: أنت جميلة! فغضبت وقالت: ما وجدت اسماً تسميني به إلاّ اسم أمة؟؟
فأتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته فأقرّ فعل عمر.
*ليس له مكان فى قلبها:
فهى تعلن بغضها له دونما سبب مع كمال إحسانه وحسن دينه!
وقد تصرح به إلى الآخرين ذهبت جميلة زوجة ثابت بن قيس إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يارسول الله! إني لا أعيب على ثابت فى دين ولا خلق!! وإني لا أطيقه بغضاً!!(الإصابة 10983).
وكذلك صرحّت سلمى زوجة صخر أخو الخنساء عندما مرض، وبقي على فراشه سنة كاملة قبل موته فكانت إذا سُئلت عنه تقول: لاحيّ فيُرجى ولا ميت فيُنعى!!
وكانت أمه إذا سُئلت عنه قالت: أصبح بنعمة الله سالماً.فقال:
أرى أم صخر ما تجفّ دموعُها ... ...
وملّت سُليمى مضجعي ومكاني
(الأدب العربى 1-168)
*تطلب الطلاق على الدوام:
تماضر بنت الأصبغ زوجة عبد الرحمن بن عوف
كان في تماضر سوء خلق، وكانت على تطليقتين فلما مرض عبدالرحمن جرى بينه وبينها شيء، فقال لها: والله لئن سألتني لأطلقنّك؟
فقالت: والله لأسألنّك.
فقال: إما لا فأعلميني إذا حضت وطهرت، فلما حاضت وطهرت أرسلت إليه تعلمه، قال: فمر رسولها ببعض أهله, فقال: أين تذهب؟
قال: أرسلتني تماضر إلى عبدالرحمن أعلمه أنها قد حاضت ثم طهرت, قال: ارجع إليها، فقل لها: لا تفعلي، فوالله ما كان ليردّ قسمه!
فقالت: أنا والله لا أردّ قسمي!! قال: فأعلمه فطلقها؟(الإصابه10951)
وتستخدم الزوجة جاهلة في هذا السياق العديد من الرسائل السلبية محاولة منها للفت أنظار الزوج إلى ما يجيش فى صدرها من ألم وقلق...والتي تتراوح بين النظرة الغاضبة, والحواجب المقطبة, والجلوس وحيدة في غرفتها, ورفض الطعام...ولا تعلم أنها بهذا التجاهل تمسّ كرامته وتجرح رجولته!! تقود الزوج إلى درجة من الاستفزاز سرعان ما يبدأ بعدها بالغليان ثم الانفجار!!
ونظراً لطبيعة المرأة العاطفية...وإحساسها المرهف فأشد ما يؤلمها من زوجها المواقف المعنوية من ملاحظة قاسية, أو عتاب عنيف, أو عبارة جارحة..!!
بينما لطبيعة الرجل المادية فسرعان ما يتذكر المواقف التى أحسن فيها من هدية ثمينة, أو نزهة عابرة...فيبدأ كلٌ منهما بهجوم مضاد، سرعان ما ينقلب إلى معركة خاسرة من الشجاراليومي ...بسبب اختلاف دفاع كل طرف عن الآخر...!!(/1)
* عضو الجمعية العلمية للسنةالنبوية(/2)
الزوجة والحماة.. صراع قلبين على قلب!
عبد الفتاح الشهاري- ليلى بيومي - ضحى الحداد - إبراهيم الزعيم 9/5/1426
16/06/2005
الرياض ... عبد الفتاح الشهاري
القاهرة ... ليلى بيومي
بغداد ... ضحى الحداد
غزة ... إبراهيم الزعيم
- الفضائيّات أساءت لسمعة الحماة في المجتمع وصوّرتها كبُعبع.
- المعاملة الحسنة طريق معبّد للوصول إلى قلب أم الزوج.
- باحثة اجتماعية: تراثنا مليء بالحموات العادلات والحازمات.
- غياب بيت العائلة الكبير أحدث شرخاً في قيمنا.
درجت الأسر على استقبال زوجة الابن بالأفراح والزغاريد .. لكن ما أن تمضي شهور حتى يتم إعادة تشكيل العلاقة بين هذه الوافدة الجديدة زوجة الابن (الكَنّة) ووالدة الزوج (الحماة)، وفي تلك اللحظات يتحدّد شكل المسار المستقبلي لهذه العلاقة، فإما أن تسير كعلاقة بين أم وابنتها، أو تبدأ كعلاقة عِدائية يحاول كل منهما أن يلغي الآخر، وينال منه ويقتنص زلاّته، ويصوّره أمام الطرف الثالث (الزوج- الابن) كبُعبع ينبغي الحذر منه بل والخلاص منه أحياناً.
يحكي لنا الآباء والأجداد وكبار السن أن الفتاة كانت تُوصَى يوم زفافها من الجميع -وخاصة أمها- بحماتها (أم زوجها)، وبضرورة طاعتها قبل أن تطيع زوجها.
لكن جيل التلفاز تغيّرت مفاهيمه، وأصبحت الفتاة وأهلها يشترطون على من يتقدم للزواج منها أن يبعد أمه عن ابنتهم. وأصبحنا لا نرى مسلسلاً ولا فيلمًا إلا وأظهر الحماة في صورة السيدة الشريرة المتسلطة حتى ساءت سمعتها تمامًا.
الزوجة وأم الزوج، أو الكَنّة أو الحماة أو العمّة، بأيّ الأسماء يحب البعض أن يسميها، قضية اجتماعية مهمة، سعت (الإسلام اليوم) أن تضعها على طاولة البحث، متسائلةً: هل علاقة هذين الطرفين ببعضهما علاقة نزاع وشقاق أم علاقة حبّ وتفاهم؟ وما أسباب توتر هذه العلاقة؟ وما موقف الابن بين الطرفين؟ وهل لوسائل الإعلام دور في هذه القضية؟
تعتقد "أم أحمد" من الرياض(متزوجة وأم لثلاثة أبناء) أن هناك غيرة متبادلة ومشتركة بين القلبين، ومن الصعب أن نقول عكس ذلك، ولكن في أحيان كثيرة قد يكون منشأ هذا الصراع مؤثرات أخرى خارجية مثل أخوات الزوج، فأحياناً – كما تقول (ن. ش)– قد تكون الحماة فيها شيء من الغيرة البسيطة التي يمكن أن تتجاوزها الزوجة، أو تتفهمها ولكن عندما تكون المسألة متعلقة بأخوات الزوج فإن غالبية إثارة الحماة تكون عن طريقهن..
خدمة سوبر ستار
وتبدي (أ .ع) تعجّبها الشديد من الشكل الذي تصوّر به الفضائيات صورة (الحماة) وتقول: إن الكنّة (زوجة الابن) تستطيع أن تكسب حماتها إذا أحسنت معاملتها، واستعرضت مع (الإسلام اليوم) تجربتها؛ ففي الأيام الأولى لزواجها كانت أم زوجها شديدة للغاية في معاملتها وقاسية في تصرفاتها, فرغم أن لها شقة منفصلة عن بيت العائلة إلا أنها تجبرها أن تمكث عندها كل النهار، لتقوم لها بالأعمال المنزلية، واستقبال الضيوف، والعديد من الأعمال الشاقّة الأخرى، ومع ذلك فقد تحلّت زوجة الابن بالصبر إلى أن شاءت الأقدار أن تقع أم زوجها طريحة الفراش، فلم تجد من يقوم بخدمتها غير زوجة ابنها، فوقفت زوجة الابن إلى جانبها في أزمتها، ومكثت بجوارها إلى أن استعادت صحّتها، وشعرت الأم بمقدار اهتمامها بها، ومن ذلك الوقت وهي تعاملها بأسلوب حسن، واستطاعت أن تستقلّ بمنزلها الخاص، ولم يمنعها ذلك من تلبية حاجات أم زوجها من وقت لآخر.
غيرة بالإكراه
ومثلما تنظر بعض الفتيات إلى (العمّة) -باللهجة العراقية- كامرأة ظالمة, فإن صورة زوجة الابن تعكس نفسها في داخل العمة, وهذا ما ثبّتته إحدى العمّات أو الحموات بصراحة تامة، بأنها تغار من زوجة ابنها عندما تدخل معه إلى غرفة النوم أو إذا تسامرا أو ضحكا! وهي تحاول جاهدة التخلي عن هذه الأحاسيس لكنها تأتيها رغماً عنها، وتضيف بأنها سعت في زواج ابنها لابنة أختها حتى لا تشعر بالغيرة في حال إذا كانت الزوجة غريبة، لكن كونها خالة وعمّة في آن واحد فهذا أمر صعب عليها.
مبالغات بعيدة عن الصِحّة
س . ر (من فلسطين) تتفق في أن أم الزوج ليست دائما الوجه السيّئ، فهي تسمع العديد من القصص التي يردّدها الناس عن أعمال الحموات وأفعالهن بالرغم من أن زوجات الأبناء قد يكنّ أكثر قسوة على أمهات أزواجهنّ، وتتساءل: لماذا تكون الحماة هي الضحية دائماً؟!
وتوضّح في حديثها أنها لم تجد ما يسيء لها من قبل أم زوجها، فحماتها كما تقول سيدة فاضلة جديرة بالاحترام، وتعاملها بكل حب واحترام، وهي تبادلها الشعور نفسه.
جانب مشرق(/1)
وعلى الرغم من الصورة التقليدية السيّئة التي يُروّج لها إلا أن السيدة هدى (25 عاماً من العراق) عبَّرت عن سعادتها بحماتها التي طالما أحسنت معاملتها، فحماتها اشترت لها قلادة من ذهب غالية الثمن تعبيرًا عن حبّها, وعندما سألنا حماتها (أم علي) أجابت بأن كَنّتي (أي زوجة ابني) تعاملني أحسن معاملة، كما أنها تراعي زوجها وتقوم بواجبات ابني الآخر غير المتزوج، فأحببت أن أكافئها وأعبر لها عن امتناني لها، وتختم حديثها: "أتمنى أن تحصل جميع الحموات على زوجات لأولادهن مثل زوجة ابني".
لؤم وخداع
وعلى الجانب المضادّ تقف الحاجة رئيفة أبو السعد (من مصر)؛ فزوجة ابنها رفضت أن تقيم معها في منزل الأسرة، وتمسّكت بأن تكون لها شقة جديدة ومستقلة، وبالفعل ضغطت على زوجها حتى استأجر لها شقة بعيدة يتطلب الانتقال إليها استخدام أكثر من وسيلة مواصلات، ولذلك فلم يكن هناك مجال كبير لزيارتهم. ولم تكتف زوجة الابن بذلك بل أخذت تعمل على أن تفصل بين زوجها وأشقائه مع أنهم يعملون في مجالات عمل متصلة ببعضها، ورفضت أن يشارك زوجها إخوته، وطلبت أن يشارك أصهاره بدلاً عنهم، وتحكي "أم السعد": "عندما نزورها تصرّ على استقبالنا في الصالون استقبالاً رسميًا، وتنشغل بالمهام المنزلية، أي أنها تريد أن تقول: إنكم لستم مرغوبين عندي ولا في بيتي".
دعوة على فراش الموت
مثل آخر وصورة إيجابية لتعامل الزوجة مع أهل زوجها يرويه الشيخ رجب سالم -إمام وخطيب وخريج كلية الشريعة من مصر- فيقول: تزوج أشقائي وشقيقاتي، وسافرْتُ للعمل في الخارج، ورافقتني زوجتي عدة سنوات في السفر، ثم بقيت هي والأولاد في منزل الأسرة مع والدي ووالدتي المسنّيْن، وعملت على خدمتهم بطريقة جعلتهما يدعوان لها ليلاً ونهارًا، بل أقول: إنهما أحبّاها أكثر من بناتهما؛ لأنها أكرمتهما، وكان أبي يقول لي: لا نريدك طالما معنا زوجتك، ومات أبي وهو يدعو لها على فراش الموت.
الواقع يكذّب التلفاز
وتتفق سامية المنجد -وهي مهندسة بهيئة التلفونات المصرية- مع من يقول بأن الحموات لسن كلهن سيئات، وأن علاقتهن مع زوجات أبنائهن ليست علاقة ضد, فحماتها تحبّها وهي تعاملها مثل أمها تماماً, وكانت سامية المنجد تعتقد في بداية زواجها أن حماتها تخصها وحدها بهذا الحب دون زوجات أبنائها الأخريات, لكن بمضي الزمن أدركت أن ديدن حماتها نشر الحب على الجميع, فالكل يلتف حولها ويبثّ إليها همومه فلا تبخل عليهم بالنصح الجميل والرأي السديد, لذلك كان موت هذه الحماة يوماً عصيباً على كل الأسرة, وبكتها زوجات أبنائها كما لو كنّ فقدْن أمهاتهن، بل وأطلقت إحداهن اسمها على ابنتها الصغيرة التي وُلدت بعد وفاتها.
أغار .. ولكني أتودّد
نوع آخر من التعامل الحسن ترويه لـ(الإسلام اليوم) "أم طيف" من السعودية, فرغم الغيرة المشتركة بينها وبين أم زوجها على الابن, إلا أنها لم تتعدّ حدود المعقول، وظلت خامدة لا تثير المشاكل, وعملت كل من زوجة الابن والأم على بقائها -أي الغيرة- في إطار محدّد، بل حاولتا التخلص منها؛ فوالدة الزوج تحاول قدر طاقتها أن تخفي هذه الغيرة، أما زوجة الابن فكانت تتودّد لحماتها بالهدايا والمعاملة الحسنة، وبذلك سارت العلاقة داخل البيت تسودها المحبة ومراعاة كل واحدة منهما للأخرى.
هل أكون عاقاً؟!
يقع الزوج غالباً في حرج تعامله مع القلبين، فهو يريد أن يكون بارًّا بوالدته، ومحبًّا بما يرضي الله لزوجته، يتمثل هذا الإشكال في أكبر جوانبه في جانب الأعطيات، والهبات؛ إذ يجد الزوج حرجاً دائماً أمام زوجته وأمّه.. وهنا يرى المستشار النفسي (فهد السنيد) أنه لا يجب العدل بين الزوجة والأم، فالزوجة لها نفقة خاصة بعقد النكاح؛ لأن فيه استمتاع، ولا يُلزَم المرء أن ينفق على أمّه كلما أنفق على زوجته، إلا إذا كانت الأم بحاجة إلى نفقة وكان الابن غنياً، فالأم ليست بِضَرّة حتى يعدل بين زوجته وبينها في الكسوة والسفر، والمبيت، ونحو ذلك.. الأم لها نفقة خاصة بشرط أن تكون محتاجة ويكون الابن غنياً، أما الزوجة فلها نفقة واجبة بكل حال، ولو كانت غنية والزوج فقيراً. ويستطرد السنيد "لكن في حالة الغيرة الشديدة من الأم بسبب ما ينفقه الزوج على زوجته فلا شك أن الأحسن أن يداري أمه، ولا يُظهر لها أنه أنفق على زوجته، وإذا جعل ذلك سراً ولم تعلم به فهذا طيب، ومع ذلك لا ينسى أمّه من الهدايا ونحو ذلك، وإذا كانت محتاجة فيجب عليه أن ينفق عليها.
أنماط مستوردة(/2)
تُرجع الباحثة في العلوم الاجتماعيّة (أميمة نوير) جذور مشكلة الحماة مع زوجة الابن (الكَنّة) إلى أن العرب والمسلمين درجوا على استيراد أنماط لا تتناسب ولا تعبّر عن مجتمعاتهم؛ فهناك أسر لا تستطيع أن توفر سكنًا خاصًّا لابنها الشاب المقبل على الزواج خاصة في القرى، ولذلك يتحتّم أن تسكن زوجة الابن مع حماتها وتختلط بها، وترى أميمة نوير أن مجتمعاتنا فقدت الكثير من القيم يوم فقدنا بيت العائلة الكبير؛ فهذا المنزل كانت الأم فيه "ملكة متوّجة"، وكان لكل ابن حجرة خاصة مع زوجته، أمّا الآن فجاءت الشقق الصغيرة الخانقة، وتفرّق الأبناء، وكبرت الأم فلم تجد صدرًا حانيًا. بالرغم من أن تراثنا مليء بالحموات الحازمات العادلات اللاتي كنّ مضرب المثل. وتقول الباحثة: أنا لم أرَ حماتي؛ فقد ماتت قبل أن أتزوج ولكن أسمع عنها كل خير، ولا أدري من أين جاء الإعلام بهذه الافتراءات(/3)
الزوجين وشهوة منحرفة
[الحياة الطيبة]
تعريف الانحرافات الجنسية:
يُقصد بالانحرافات الجنسية الحصول على الإشباع الجنسي بطريقة غير مشروعة من خلال تجارة الجنس، والدعارة في أسواق البغاء، والكباريهات، والنوادي الليلية، وسائر الأماكن التي تقدم الخدمات الجنسية في عالم الانحراف، والمغامرات الجنسية المتواصلة غير المسئولة، والاستهتار والاستسلام للجنس، والجنسية المثلية 'اللواط والسحاق'، وجماع الأطفال ولبس ملابس الجنس الآخر والتشبه بهم، والاستعراض الجنسي أو الاستعراء عن طريق إظهار أعضاء الجنس الآخر، أو الأطفال وفي الأماكن العامة، والأثرية [الفتشية] أي التعلق بالجنس بالأشياء التي يستعملها الجنس الآخر كاللباس أو جزء من جسمه كالشعر أو الرائحة مثلا، والفرجة والتلصص والنظر الجنسي إلى الأجسام العارية أو على العملية الجنسية نفسها، والاحتكاك الجنسي، والسادية أي الحصول على الإشباع الجنسي عن طريق تعذيب الغير، والماسوكية أي الحصول على الإشباع الجنسي عن طريق التعذيب من الغير، والاغتصاب وهتك العرض، والجنسية الحيوانية، وجماع المحارم.
أسباب الانحرافات الجنسية:
1ـ عوامل جسمية عضوية فسيولوجية منها:
أـ ما يعتري الفرد من اختلال في معدل إفرازاتها كما يحدث في حالات البلوغ المبكر قبل الأوان أو حالات بلوغ متأخرة أكثر من المعتاد.
ب ـ ما يحدث من أمراض أو عاهات أو عيوب خلقية تؤثر في وظائف الجهاز التناسلي، كما في حالات العقم والضعف الجنسي.
2ـ عوامل تربوية واجتماعية منها:
أـ التنشئة الخاطئة أيام الطفولة والمراهقة بما يؤدي إلى الكبت الجنسي والقلق والمخاوف والأوهام الجنسية.
ب ـ حالات الحرمان الجنسي.
ج ـ حالات الطلاق والترمل.
د ـ حالات الحمل غير الشرعي كلها تكون مصحوبة بالكثير من الصراعات النفسية التي تؤدي إلى الانحراف.
هـ ـ عدم إشباع الدافع الجنسي بالطرق المشروعة [الزواج أو العفاف].
فتنساب الطاقة في مسالك أخرى من السلوك الشاذ.
* وقد أوضحت بعض الأبحاث لأصحاب المدرسة السلوكية أن نشأة الانحرافات الجنسية سببها تكوين انعكاسات شرطية شاذة في حياة الفرد، فمثلاً قد تكون أول تجربة جنسية لمراهق مع مراهق مثله أو طفل ذكر أو مع حيوان أو عن طريق العبث بأعضائه التناسلية [الاستمناء]، وبتكرار هذه العملية يتدعم الارتباط الشرطي الشاذ، وتقترن اللذة الجنسية بالعلاقة مع نفس الجنسي أو حيوان أو استخدام اليد.
علاج الانحرافات الجنسية:
1ـ أهم وسيلة للعلاج من الانحرافات الجنسية هي تدعيم مراقبة الله عز وجل في نفس الإنسان، ومعرفة العواقب الوخيمة للأفعال غير الشرعية في الدنيا والآخرة.
2ـ تنمية الإرادة في نفس المنحرف جنسياً يساعد كثيرًا في مراحل العلاج بعد ذلك, فالمنحرف جنسياً فيه شبه من المدمن في إلف المعصية والولع بها.
3ـ العلاج النفسي.
4ـ العلاج بالتحليل النفسي، والبحث عن سبب وعمق الانحراف في نفس الشاذ.
5ـ العلاج الشرطي السلوكي: والهدف هو تكوين ارتباط شرطي جديد بأن المنبه الشاذ يرتبط بالألم بدلاً من اللذة.
6ـ العلاج الكيميائي بالعقاقير المضادة للقلق والخوف والاكتئاب، إذا كان الانحراف قد نشأ بسبب هذه الأمراض.
الوقاية من الانحرافات الجنسية:
[1] التربية الإيمانية التي تعمق في النفس حب الله والرضا بقضائه والخوف من عقابه والشوق فيما عنده.
[2] التربية على العفة والحياء وكذلك الصبر والبعد عن كل ما يثير الشهوة.
[3] الحذر من الخلافات الزوجية، حتى يشب الطفل مستقر الوجدان، سليم النفسية.
[4] يجب أن يتوازن الأبوان في التعلق بالأبناء، وأن تقلل سيطرة الوالدين على الأطفال تدريجيًا.
[5] الحذر من التمييز بين الأبناء سواء كانوا ذكورا أو إناثا.
[6] الحرص على عدم رؤية أو سماع الأطفال ما يثير الريبة في نفوسهم في العلاقات الجنسية بين الوالدين.
[7] سلامة الوالدين من الانحراف وعدم الخيانة.
[8] الحرص على تطبيق السنة في نوم كل طفل في فراش خاص به.
[9] إشباع حب الاستطلاع عند الطفل بالطريقة المناسبة لقدرته العقلية ومستوى إدراكه، وأن تكون الإجابة صريحة وواضحة ومبسطة وبطريقة علمية بعيدة عن الإثارة الجنسية(/1)
الزَّلاَّقة معركة كسبها الإيمان وضيَّع ثمارها الخلاف
بقلم الدكتور: محمد عبد الحميد عيسى
التاريخ ذاكرة الشعوب، وحاستها المنبهة، ومن ثَمَّ فهو أهم عوامل تحريك هذه الشعوب نحو غاياتها، والادراك الواعي بالتاريخ ليس عملية سهلة أو بسيطة، لكنه أقسى من آلام الميلاد نفسها إن لم يشكل هذا الادراك وهذا الوعي جديداً بكل ما يصاحبه من آلام ومن تمخضات.
وربما كان هذا هو السبب في سعي القوى الاستعمارية والعدائية عامة إلى التعتيم على تاريخ الأمة العربية الإسلامية، وإلى العمل على طمس هذا التاريخ وتزييفه، وليست غريبة تلك الأصوات الناعقة بقطع صلتنا بالماضي، بل ووصول بعضها إلى القول بإلقاء تراثنا في البحر ثم تمضي بعد ذلك.
أقول: إن هذه الأصواب –بنيّة أو بغير نية- إنما تخدم مصالح أعداء هذه الأمة حين توصي بإهمالها لتراثها، ومن ثم لتاريخها.
وأهمية التاريخ الحقيقية تكمن في دراسته واستيعابه لكي نتمكن، على ضور الإفادة من تجاربه من تصحيح الحاضر، والاستعداد للمستقبل.
ومعركة الزلاقة التي وقعت في شهر رجب من عام 479هـ الموافق أكتوبر من عام 1086م هي درس التاريخ الذي لا يُنسى، وإنما يدق بقوة على أفئدة وعقول أمتنا العربية الإسلامية لكي ينبهها إلى أن النصر والغلبة ليسا بحاجة إلى كثرة العدد والعدة فحسب، وإنما يجب أن يسبقهما الإيمانُ الكامل بالمبدأ، والاستعداد للتضحية من أجله، ومن ثَمَّ إذا ما توافر عنصر الإيمان واليقين والأخذ بالأسباب، فإن نصر الله قادم لا محالة.. بل هو رهن المؤمنين، فهو القائل عز وجل: { وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين } .
ولنستعرض معاً أيها القارئ الكريم قصةَ تلك المعركة وظروفها وتطوراتها والنتائج المترتبة عليها..
أحوال المسلمين قبل الزلاقة
شهد القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، قمة التقدم الحضاري والسياسي في بلاد الأندلس، وأضحت قرطبة عروس الغرب، وحكامها خلفاء بني أمية يتمتعون بمكانة عالية، سياسياً وعسكرياً وحضارياً، ولم يدر بخلد أحد أن هذا الصراع الذي تسامى عالياً على عهد المنصور بن أبي عامر كان يحمل في طياته عوامل هدمه وفنائه، فما أن مات المنصور، ومن بعده ابنه عبد الملك، حتى ثار القرطبيون على عبد الرحمن بن المنصور، وبدأت سلسلة من الأحداث الدامية أدَّت في النهاية إلى تمزق هذه الدولة تمزقاً يؤلم الصدور، وقامت في جوانبها خلافات وممالك وسلطنات لا حول لها ولا قوة، بل إن قواها قد وجهت ضد بعضها بعضاً حتى أنهكت القوى واضمحلت الأندلس كما يقول الأستاذ محمد عبد الله عنان: »الصرح الشامخ، الذي انهارت أسسه وتصدع بنيانه، وقد انتقضت أطرافها، وتناثرت أشلاؤها، وتعددت الرياسات في أنحائها، لا تربطها رابطة، ولا تجمع كلمتها مصلحة مشتركة، لكن تفرق بينها، بل على العكس منافسات وأطماع شخصية وضيعة، وحروب أهلية صغيرة تضطرم بينها«.
وفي كل ناحية من نواحي الأندلس، قامت دويلة أو مملكة هشة، اتخذ أصحابها ألقاب الخلافة ورسوم الممالك، دون أن يكون لهم من ذلك حقيقته أو معناه، وقال الشاعر واصفاً هذه الحالة المؤسفة:
أسماء معتضد فيها ومعتمدِ ... مما يزهدني في أرض أندلس
كالهرِّ يحكي انتفاخاً صورة الأسدِ ... ألقابُ مملكة في غير موضعها
وكان تمزق الأندلس على هذا الشكل المأساوي ضرب لكيان الدولة الإسلامية لم تفق منها أبداً، بل إنها كانت البداية الحقيقية لانحلال الدولة الإسلامية رغم ما انتابها في بعض الأحيان من صحوات ويقظة مدت في عمرها هنا مئات الأعوام.
واكب هذا الضعف الأندلسي تولي الملك ألفونسو السادس عرش قشتالة، الذي عمل جهده للاستفادة من هذا التدهور الذي أحاط بالدولة الإسلامية هناك، فبدأ باستغلال الصراع الدائر بين هذه الممالك، وأخذ يضرب بعضها ببعض، ويفرض عليها الأتاوات والغرامات حتى يستنفد طاقتها، ومن ثم تسقط في يده كالثمرة الناضجة.
سقوط طليلطة
مدينة طليطلة، من أهم المدن الأندلسية، تتوسط شبه الجزيرة تقريباً، وكانت عاصمة القوط قبل الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة، ومن هنا كانت أهميتها البالغة، وبالتالي أصبحت مطمعاً لآمال ألفونسو السادس، وخاصة أن حال المدينة كانت سيئة جداً على عهد ملوكها من الطوائف.. وهم أسرة ذي النون.
دبر ألفونسو خطته لغزو المدينة، وأرهب ملوك الطوائف الآخرين وتوعدهم إن قاموا بإنجادها، وحاصرها حتى اضطرها إلى التسليم، ومما يؤسف له وجود قوات ابن عباد ملك أشبيلية ضمن قوات الملك الإسباني، وضد المدينة التي حاولت الصمود أمام مصيرها المؤلم في خريف سنة 477 هـ/1085م.
وسقطت طليطلة بأيدي ألفونسو السادس، ونقل إليها عاصمة ملكه واستتبع سقوطها استيلاءُ الإسبان على سائر أراضي مملكة طليطلة، واستشعر الشاعر فداحة المأساة فهتف يقول:
فما البقاء بها إلا من الغلط ... حثوا رواحلكم يا أهل أندلس
ثوبَ الجزيرةِ منسلاً من الوسطِ ... الثوب ينسل من أطرافه وأرى(/1)
كيف الحياة مع الحيَّاتِ في سفطِ ... مَن جاورَ الشَّرَّ لا يأمنُ عواقبَه
لقد كان أسوأ ما في مأساة طليطلة أن ملوك الطوائف المسلمين لم يهبوا لنجدتها أو مساعدتها، بل على العكس، لقد وقفوا موقفاً مخزياً، فاغرين أفواههم جبناً وغفلة وتفاهةً. بل إن عدداً منهم كان ترتمي على أعتاب ألفونسو السادس، طالباً عونه، أو عارضاً له الخضوع.. حتى قيل فيهم:
دوائرُ السوءِ لا تُبقي ولا تذر[1]
أرى الملوكَ أصابتهم بأندلس
وأطمع ذلك الملك ألفونسو السادس بباقي ممالك الطوائف، وانتشت أحلامه بالقضاء عليها الواحدة بعد الأخرى، وتجبر عليهم، وعلا وطغى.. فقام بنقض عهوده التي كان قد قطعها لأهل طليطلة، وحول مسجد طليطلة إلى كنيسة بقوة السلاح، وحطم المحراب ليقام الهيكل مكانه، ويقول ابن بسام في »الذخيرة«:
»وعتا الطاغية أوفونش –ألفونسو- قصمه الله، لحين استقراره بطليطلة واستكبر وأخلّ بملوك الطوائف بالجزيرة وقصر، وأخذ يتجنى ويتعتب، وطفق يتشوق إلى انتزاع سلطانهم والفراغ من شأنهم ويتسبب، ورأى أنهم قد وقفوا دون مداه، ودخلوا بأجمعهم تحت عصاه«.
وبدأ ألفونسو في تنفيذ خططه بالإيغال في إذلال الطوائف، وخاصة المعتمد بن عباد أكبر ملوك الطوائف وأشدهم بأساً، حيث أراد أن يمعن في إذلاله كأقوى أمراء الطوائف، فأرسل إليه رسالة يطلب فيها السماح لزوجته بالوضع في جامع قرطبة وفق تعليمات القسيسين، وقد أثارت هذه الرسالة ابن عباد حتى قيل: إنه قد قتل رسل الملك القشتالي وصلبهم على جدران قرطبة، مما أثار غضب ألفونسو السادس وصمم على الانتقام، وبدأت جيوشه في انتساف الأرض في بسائط إشبيلية وفي الأراضي الإسلامية.
الاستنجاد بالمرابطين
تعالت الأصوات في الأندلس تطالب بالارتفاع فوق الخلافات الشخصية، وتناسي المصالح الذاتية، والاستنجاد بالمرابطين الذين نمت قوتهم في ذلك الوقت على الضفة الأخرى من البحر المتوسط.
قام أبو الوليد الباجي وغيره من فقهاء الأندلس بالدعوة إلى التوحد، وضرورة الاستعانة بإخوة الإسلام الأفارقة من المرابطين، ولقيت الدعوة صدى عند أمراء الأندلس بسبب ازدياد عنف ألفونسو، ورغم كل التحذيرات التي وجهت إلى المعتمد بن عباد، وتخويفه من طمع المرابطين في بلاد الأندلس، إلا أن النخوة الإسلامية قد استيقظت في نفسه، فأصر على الاستنجاد بالمرابطين، وقال قولته التي سارت مثلاً في التاريخ: »لأن أكون راعي جمال في صحراء أفريقية خير من أن أكون راعي خنازير في بيداء قشتالة«.
وتقول بعض الروايات أن ألفونسو قد وصل في بعض حملاته إلى الضفة الأخرى من الوادي الكبير لأشبيلية. وأرسل رسالة سخرية إلى المعتمد بن عباد يقول فيها: »لقد ألمّ بي ذبابكم بعد أن طال مقامي قبالتكم، واشتد الحر، فهلا أتحفتني من قصرك بمروحة أروح بها عن نفسي وأبعد الذباب عن وجهي؟« وردّ ابن عباد على الرسالة بقوله: »قرأتُ كتابك، وأدركت خيلاءك وإعجابك، وسأبعث إليك بمراوح من الجلود المطلية، تريح منك لا تروح عليك«. ويقال إنه كان يقصد بذلك الجيوش المرابطية، ودعوتها إلى الأندلس.
عبور المرابطين
بدأت الجيوش المرابطية العبور من سبتة إلى الجزيرة الخضراء، ثم عبر أميرهم يوسف بن تاشفين في يوم الخميس منتصف ربيع الأول 479هـ/.3 يونية 1086م، ثم تحركت العساكر إلى أشبيبلة، وعلى رأسهم ابن تاشفين، ونزل بظاهرها، وخرج المعتمد وجماعته من الفرسان لتلقيه، وتعانقا، ودعوَا اللهَ أن يجعل جهادهما خالصاً لوجهه الكريم.
استقر الجيش أياماً في أشبيبلة للراحة، ثم اتجه إلى بطليوس في الوقت الذي تقاطرت فيه ملوك الطوائف بقواتهم وجيوشهم.
سار هذا الموكب من الجيش الإسلامي إلى موضع سهل من عمل بطليوس وأحوازها، ويسمى في المصادر الإسلامية بالزلاقة على مقربة من بطليوس.
معركة الزلاقة
لم تكن أعين الملك القشتالي غافلة عن تحرك الجيوش الإسلامية، ولذلك رفع حصاره عن مدينة سرقسطة الإسلامية، وكاتبَ أمراء النصرانية في باقي أنحاء إسبانيا وجنوبي فرنسا يدعوهم لمساعدته، وقدم إلى أحواز بطليوس في جيش كثيف، يقال بأنه حين نظر إليه همس: بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء.
اختلفت الآراء حول عدد الجيشين، لكنها اتفقت جميعها على تفوق ألفونسو السادس في عدد جيشه وعدته، وكانت كل الظروف في صالحه.
جرت الاستعدادات في المعسكرين بكل أشكالها، وبالبحث على الحرب والصبر فيها، وقام الأساقفة والرهبان بدورهم، كما بذل الفقهاء والعباد كل جهودهم.
حاول ألفونسو خديعة المسلمين، فكتب إليهم يوم الخميس يخبرهم أن تكون المعركة يوم الإثنين، لأن الجمعة هو يوم المسلمين، والسبت هو يوم اليهود، والأحد يوم النصارى.(/2)
أدرك ابن عباد أن ذلك خدعة، وفعلاً جاءت الأخبار بالاستعداد الجاري في معسكر النصارى، فاتخذ المسلمون الحذر، وبات الناس ليلتهم على أهبة واحتراس بجميع المحلات، خائفين من كيد العدو. وبعد مضي جزء من الليل انتبه الفقيه الناسك أبو العباس أحمد بن رميلة القرطبي، وكان في محلة ابن عباد، فرحاً مسروراً، يقول: إنه رأى النبيَّ [صلى الله عليه وسلم]، فبشره بالفتح والشهادة له في صبيحة غد، وتأهب ودعا، ودهن رأسه وتطيَّب.
فلما كان صباح الجمعة الثاني عشر من رجب سنة 479 هـ زحف ألفونسو بجيشه علىالمسلمين، ودارت معركة حامية، ازداد وطيسُها، وتحمَّل جنودُ الأندلس [من المسلمين] الصدمة الأولى، وأظهر ابنُ عباد بطولة رائعة، وجرح في المعركة، واختل جيش المسلمين، واهتزّت صفوفه، وكادت تحيق به الهزيمة، وعندئذ دفع ابن تاشفين بجيوشه إلى أتون المعركة، ثم حمل بنفسه بالقوة الاحتياطية إلى المعسكر القشتالي فهاجمه بشدة، ثم اتجه صوبَ مؤخرته فأثخن فيه وأشعل النار، وهو على فرسه يرغب في الاستشهاد، وقرْعُ الطبول يدوي في الآفاق، قاتل المرابطون في صفوف متراصة ثابتة، مثل بقية أجنحة المعركة.
ما أن حل الغروب حتى اضطر الملك القشتالي، وقد أصيب في المعركة، إلى الانسحاب حفاظاً على حياته وحياة من بقي من جنده، وطُورِدَ الفارُّون في كل مكان حتى دخل الظلام، فأمر ابنُ تاشفين بالكفِّ. استمرت المعركة يوماً واحداً لا غير – وقد حطم اللهُ شوكة العدو الكافر، ونصرَ المسلمين، وأجزل لديهم نعمه، وأظهر بهم عنايته، وأجمل لديهم صنعه.
وتجمِع المصادر الإسبانية على أن الملك القشتالي ألفونسو السادس قد نجا بأعجوبة في حوالي خمسمائة فارس فحسب، من مجموع جيوشه الجرارة التي كان سيهزم بها الجن والإنس والملائكة.
سَرَتْ أنباء النصر المبين إلى جميع أنحاء الأندلس والمغرب، وسرى البشرُ بين الناس، وأصبح هذا اليوم مشهوداً من أيام الإسلام، لا على أرض شبه الجزيرة فحسب، وإنما على امتداد الأرض الإسلامية كلها، ونجح ذلك اليوم في أن يمدّ في عمر الإسلام والمسلمين على الأرض الإسبانية ما يقرب من أربعة قرون من الزمان.
نصر مبين.. ونتائج أقل..
يعلق يوسف أشباخ في كتابه: »تاريخ الأندلس على عهد المرابطين والموحدين« على موقعة الزلاقة بقوله:
إن يوسف بن تاشفين لو أراد استغلال انتصاره في موقعة الزلاقة، لربما كانت أوروبا الآن تدين بالإسلام، ولَدُرِّس القرآن في جامعات موسكو، وبرلين، ولندن، وباريس.
والحقيقة أن المؤرخين جميعاً يقفون حيارى أمام هذا الحدث التاريخي الهائل الذي وقع في سهل الزلاقة، ولم يتطور إلى أن تتقدم الجيوش الإسلامية لاسترداد طليطلة من أيدي النصاري، خاصة وأن الملك الإسباني كان قد فقد زهرة جيشه في هذه المعركة، ولا يختلف أحد في الرأي بأن الطريق كان مفتوحاً تماماً وممهداً لكي يقوم المرابطون والأندلسيون بهذه الخطوة.
إن ما حدث فعلاً هو عودة المرابطين إلى إفريقية، وعودة أمراء الأندلس إلى الصراع فيما بينهم، وكأن شيئاً لم يقع، وقد أعطى ذلك الفرصة مرة ثانية للملك ألفونسو السادس أن يستجمع قواه، ويضمد جراحه، ويعمل على الانتقام من الأندلسيين، وكان حقده شديداً على المعتمد ابن عباد، فعاد إلى مهاجمة بلاده، وركز غاراته على أشبيلية، وتمكم من الاستيلاء على حصن لبيط مما اضطر ابن عباد إلى العودة مرة ثانية إلى الاستنجاد بالمرابطين.
وذهب المرابطون للمرة الثانية إلى الأندلس، لكنهم في هذه المرة لم يجدوا مساعدة من معظم أمراء الطوائف المسلمين، حيث تغلبت عليهم شهواتهم وأهواؤهم الشخصية، وخلافاتهم الضيقة، مما اضطر أمير المسلمين أن يستفتي الفقهاء في خلعهم، وضم بلاد الأندلس إلى طاعة المرابطين، والعودة مرة ثالثة إلى الجهاد ضد الإسبان.
دروس مستفادة
ليس من نافلة القول بأن الانقسام ضعف والوحدة قوة، فممالك الطوائف في الأندلس شربت المرارة والمذلة في تفرقها، وأحست بالعزة والنصر في اتحادها.
ليس بالعدد والعدة فقد تكتسب المعارك، وإنما بالإيمان بالهدف والاعداد له، والتنبه للخصم، والارتفاع إلى مستوى الأحداث.
قد يكون إحراز النصر شاقاً ومضنياً، لكن الأكثر عسراً وإجهاداً هو استغلال هذا النصر، وتطويعه لصالح الإسلامي والمسلمين.
وهذا هو درس التاريخ.
________________________________________
[1] ألا تذكرك هذه المواقف بحاضرنا هذه الأيام.. رمضان (1422هـ/2001م)؟(/3)
السبيل إلى ضبط التكفير
الدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
* لا تزال العواطف وردود الأفعال الجامحة تستحوذ على آراء فئام من الإسلاميين ومواقفهم تجاه القضايا المستجدات عموماً، ومسألة التكفير خصوصاً.
فما إن نادى بعضهم بتكفير أعيان وأشخاص دون تحرير أو تحقيق لقيام الحجة من اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، إذا بالطرف الآخر يقابل ذلك الإفراط بالتفريط والتمييع
فيصيح قائلاً: إن الشخص المعين لا يكفر حتى يقصد الكفر وينشرح صدره بالكفر، واحتجوا بقوله - تعالى -: ((إلا من أكره وقلبه مطمئن بالأيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب أليم)) النحل (106).
وكلا الفريقين قد فاته من الصواب ما فاته، فالأولون لم يلتفتوا إلى عوارض الأهلية التي اعتبرها الشارع كالجهل أو التأويل أو الخطأ أو الإكراه، والآخرون أفرطوا وتوسعوا في تلك الأعذار، حتى أفضى ببعضهم إلى إغلاق باب الردة.
وأما احتجاجهم بالآية الكريمة فإنهم لم ينظروا إلى سياق الآية ومعناها؟ ((فإن من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدراً، وإلا تناقض أول الآية وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعاً، فقد شرح بها صدراً، وهي كفر، وقد دل على ذلك قوله - تعالى -: ((ولئن سألتهم ليقولون إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)).
فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب)) الإيمان لابن تيمية ص 208 باختصار، وانظر الصارم المسلول (3/975).
والمقصود أن الشخص إن لم يكن مكرهاً فقد انشرح صدره بالكفر.
* من المهم في هذا الموضوع أن تضبط الأوصاف وتحرر المصطلحات، فمن الظواهر المَرَضِية المعاصرة التنابز بالألقاب والتراشق بالتبديع كاتهام البعض بأنهم خوارج ووصف آخرين بالإرجاء والعبرة بالحقائق والدلائل، فلقد رمي الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - بأنه من الخوارج (انظر الفتاوى الكبرى لابن تيمية (التسعينية)(5/159)ومع ذلك فهو إمام أهل السنة، ومنهج أحمد أحمد منهج، واتهم عبد الله بن المبارك - رحمه الله - بالإرجاء (انظر عقيدة السلف للصابوني)وليس الأمر كذلك.
وقد تحدث الشاطبي - رحمه الله - عما يعانيه أهل العلم والاتباع من رميهم بالألقاب الشنيعة ثم قال: (فقلما تجد عالماً مشهوراً أو فاضلاً مذكوراً، إلا وقد نبذ بهذه الأمور أو بعضها، لأن الهوى قد يدخل المخالف، بل سبب الخروج عن السنة الجهل بها، والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف) الاعتصام (1/29).
ولذا يحتاج إلى ضبط هذه الأوصاف من جهة تحديد معناها وبيان مرادها، ومن جهة تنزيل هذه الأسماء أو الأوصاف على مستحقيها، فما أكثر الذين يرددون وصف الخوارج أو المرجئة وهم لا يفقهون معناها، وأكثر من هؤلاء من يُطلق تلك الأوصاف على أشخاص دون مراعاة لتحقيق المناط وضوابط التبديع.
*من الأخطاء التي ترتكب في معالجة هذه القضية أن يعمد البعض إلى تهويل طرف أو جانب في مسألة التكفير أو الإرجاء وفي مقابل ذلك يهون من الانحراف المقابل، ومسلك العدل والعلم يقتضي أن يعالج كل انحراف بحسبه دون تهويل أو تهوين، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
*ومن تلك الأخطاء أن يكون الغالب في علاج ظاهرة الغلو والتكفير استعمال الأسلوب الخطابي والاقتصار على التسفيه والتطفيف، واتهام أربابه بالسطحية والسذاجة، والتركيز على ما يكون ظاهر الفساد والبطلان كالقول بتكفير مرتكب الكبيرة - وقد لا تجد ظاهراً في أولئك الغلاة.
وفي مقابل علاج ظاهرة الإرجاء يُعمد إلى رمي من تلبس بأدنى إرجاء بأنه يقول أنه لا يضر مع الإيمان معصية وأن الإرجاء دين الملوك، وليس الأمر بهذا التعميم والإطلاق، فالإمام أبو حنيفة - رحمه الله - مثلاً تلبس بشيء من الإرجاء لكنه لا يقول: (إن المؤمن لا تضره الذنوب وأيضاً موقفه من الملوك صارم).
إن المتعين تجاه شبهات الفريقين واعتراضاتهم أن تذكر من مظانها ومصادرها ثم تنقض أصول هذا البدع ويُرد عليها بالدليل والبرهان.
*من الأمور الملحة في مسائل الإيمان والكفر أن نميز بين ما هو معلوم من الدين بالضرورة وبين ما هو من مسائل الاجتهاد التي يسوغ الخلاف فيها.(/1)
فمثلا الإعذار بالجهل من جهة اعتباره من عوارض الأهلية وثبوت أدلته أمر ظاهر معلوم، قد ورد عليه نصوص كثيرة منها حديث الذي أمر أهله بأن يحرقوه، فعن أبي هريرة ـ - رضي الله عنه - ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن رجلاً لم يعمل خيراً قط، فقال لأهله إذا مات فأحرقوه، ثم ذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل فعلوه به كما أمرهم فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فإذا هو قائم بين يديه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر الله له) أخرجه البخاري (3478) ومسلم (2756).
وهذا حديث متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 1/491)
يقول ابن تيمية: (وكنت دائماً أذكر هذا الحديث فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته، إذا ذُري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك) مجموع الفتاوى (12/491).
لكن قد يقع الاختلاف بين أهل السنة في المسائل التي يعذر بجهلها، وكذا الأشخاص والأزمنة والأحوال، فأفهام أهل العلم متفاوتة في مراعاة عوارض الأهلية، وتنزيلها على الواقع، فقد يعذر أحدهم بالجهل في مسألة بينما لا يعذر العالم الآخر، كما يعذر الآخر أحدهم بالجهل تجاه شخص ما لا يعذر الآخر، فمسألة العذر بالجهل مسألة اجتهادية. [1]
وكذا قد يكون الحكم قاطعاً في تقرير وتنظير جملة من نواقض الإيمان قد يعمد عالم من العلماء -عن أهلية واجتهاد وديانة إلى تكفير من ليس كذلك، فيكون ذلك العالم معذوراً ومغفوراً، يقول ابن القيم - رحمه الله -: (إن الرجل إذا نسب المسلم إلى النفاق والكفر متأولاً وغضباً لله ولرسوله ودينه لا لهواه وحظه فإنه لا يكفر بذلك، بل لا يأثم به، بل يُثاب على نيته وقصده، وهذا بخلاف أهل الأهواء والبدع فإنهم يُكفرون ويبدعون لمخالف أهوائهم ونحلهم، وهم أولى بذلك ممن كفروه وبدعوه) زاد المعاد (3/423).
إن استصحاب عوارض الأهلية في تقرير مسائل الإيمان والكفر يزيل الاشتباه ويفصل المجمل ويقيد المطلق، فإن من الجهل ما يعذر به المكلف، كما أن من التأويل ما يدرأ عن صاحبه الوعيد أو التكفير، كما أن المتعرض للإكراه الملجئ معفو عنه.
*إن التفقه في دين الله - تعالى -والتزود من العلم الشرعي يورث رحمة للخلق وإشفاقاً عليهم، فأهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق، ولما غلب على الخوارج الجهل بدين الله - تعالى -أورثهم ذلك غلظة وقسوة، فكانوا يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يقول ابن القيم (ولما كان نصيب كل عبد من الرحمة قدر نصيبه من الهدى كان أكمل المؤمنين إيماناً أعظم رحمة كما قال - تعالى -: في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((محَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)) (الفتح: 29).
وكان الصديق من أرحم الأمة، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر) رواة الترمذي، وكان أعلم الصحابة باتفاق الصحابة.
وهكذا الرجل كلما اتسع علمه اتسعت رحمته، وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلماً، فوسعت رحمته كل شيء، وأحاط بكل شيء علماً) إغاثة اللهفان (1/ 250-251) باختصار فظهور العلم الشرعي ونشره عبر الوسائل المتعددة من جامعات وحلقات مساجد ومراكز علمية ومنابر إعلامية، كل ذلك كفيل بجلب الرحمة والرفق والإشفاق على الخلق ورجوعهم إلى الحق، فلقد ظهر ابن عباس ـ - رضي الله عنهما - ـ على الخوارج بالحجة فرجع شطرهم وصاروا مع علي ـ - رضي الله عنه - ـ، وشغف يزيد الفقير برأي الخوارج فحدثه جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - بحديث الجهنميين، فترك مذهب الخوارج، وقد دوخ الخوارج بني أمية بأنواع من الحروب والقلائل، فلما ولي عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - الخلافة كاتب الخوارج ورد شبهاتهم فأقر بعضهم، ولما بلغت الخوارج سيرة عمر بن عبد العزيز وما رد من المظالم اجتمعوا فقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل (انظر أخبار عمر بن عبد العزيز للآجري ص 62).
وأما القمع والاضطهاد فلا يعقبه إلا غلو وإفراط، كما هو الواقع في القديم والحديث، وما خبر جماعة التكفير والهجرة عنا ببعيد.
------------------------
[1] انظر شرح كشف الشبهات لابن عثيمين ص 27
28/11/1425 هـ
http://www.islamlight.net المصدر:(/2)
السبيل إلي إيقاظ المسلمين بعد اغتيال الشيخ أحمد ياسين (بيان) مجموعة من المشايخ*
الحمد لله على كل حال، المستعان به على من بغى ،سبحانه لا إله إلا هو شديد المحال ، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ نبي الرحمة والملحمة، الضحوك القتَّال وعلى آله وصحابته الغُرِ الميامين ، الصناديد الأبطال.
وبعدُ . . .
فإن المجزرة التي أرتكبها أحفاد القردة والخنازير في غزة، والتي راح ضحيتها الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس وأحد أهم رموز الجهاد الفلسطيني طوال القرن الماضي.
إن هذه المذبحة لم تكن بدعاً في تاريخ اليهود الأسود، ولن تكون الأخيرة (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) [البقرة: 217]؛ لأنّ عداوة اليهود وحربهم للإسلام أمر لا يحتاج إلى دليل ، وحسبنا ما أخبر به القرآن عنهم مؤكداً: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) [المائدة:82]. إن تاريخ اليهود الحديث ملئ بالمذابح التي دبرها ونفذها زعماء العصابات اليهودية لإبادة أكبر عدد من الفلسطينيين ، وإرهاب كل من بقي حياً كي يفر طلباً للنجاة تاركاً وراءه أرضه وبيته ، وقبل ذلك كرامته ، ولئن نسينا فلن ننسى ( مذبحة دير ياسين ) عام 1948 ، ( وخان يونس ) عام 1956، و( مذبحة كفر قاسم ) عام 1959 ، و( تل عنز ) و( صبرا وشاتيلا ) تلك المذبحة التي تدمي القلب وتدمع العين ، التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية وقوات الكتائب المارونية بقيادة السفاح (شارون) ضد اللاجئين الفلسطينيين العزل ، والتي قدر عدد الضحايا فيها بما يزيد علي أربعة آلاف .
إن الكلمات تتقاصر وتتقازم وهي تسطر في مواساة أولئك المجاهدين بحسم، الصادمين بعزم، المنتفضين بحق. الذين يواجهون الرصاص هنالك بضرب الحجارة، ويقارعون البنادق بالأكفِّ والصدور العارية إلا من الإيمان والوثوق في دفع ذي الجبروت والقوة
والله لقد تقرّحت أكباد الغيورين كمداً مما يجري في الأرض المباركة، في فلسطين كلّ يوم مناظر مفزعة متتابعة، تعجز الأبصار عن ملاحقتها، وعربدةٌ صهيونيّة غادرة تُذهِل كُلّ ذي حجى خسّتها. شهيد تلو شهيد، وأرملة تلو أخرى، ورضيع خلف أمّ، وأمّ خلف رضيع، ومنزلٌ مُهَدَّم، وشيخٌ حزين، وعجوز بائسة! مشاهد حَفَرت معالمها في ثنايا التاريخ، بل في حنايا قلب كلّ مسلم، ملاحم تسطّرها أشلاء الرّجال، بألوان الدم القاني، وجماجم الشهداء، والجميع يراقب ويتفرّج:
إنه وبعد مضي خمسين عاماً علي قيام دولة يهود _ فقد فشلت الأنظمة العربية ، بكل أثوابها العلمانية المتعددة ، من اشتراكية وقومية وتقدمية وبعثية !
أيها المسلمون إن الذي هزم وتراجع أمام اليهود ليس هو الإسلام وإنما العلمانية ، والذي ألقي السلاح وطلب الاستسلام ليس هو الإسلام بل العلمانية ، بدءاً بقبول ( مشروع روجر ) ، إلي كارثة ( كامب ديفيد ) ، إلي الغرق في الوحل بمهزلة ( الحكم الذاتي ) في غزة وأريحا ، ثم معاهدة الاستسلام بين الأردن ودولة يهود .وأخيراً وليس آخراً (خارطة الطريق) التي تلقي بكل المقدسات على قارعة الطريق .
وهكذا يهرول حكام العرب والمسلمين نحو الإعتراف بدولة يهود ، فمنهم من عقد الصلح ، ومنهم من فتح لها المكاتب ، وتبادل السفراء ، ومنهم من يقوم بالتجارة معها ، ومنهم من يستقبل ممثليها علناً ، ومنهم من يستقبلهم سراً ، وكلهم يعلنون السلام مع دولة يهود هدف استراتيجي ، وقد ضجوا من قبل بشعارات ( لاصلح ، ولا اعتراف ، ولا مفاوضات ) مع دولة يهود ...
أيها المسلون .. إن هذا كله أظهر بجلاء ما تعانيه أمتنا من الفصام النكد ، والفارق البعيد بين إرادة الشعوب وآمالها ، ومرامي وأهداف النخب الحاكمة ، إنها مباينة تامة ، ومناقضة كلية يحار منها كل مراقب . لقد دمرت هذه الأنظمة شيم الأخلاق السامية شموخاً ، والثابتة رسوخاً ، والمنبسطة ذيوعاً بين سائر المسلمين رجالاً ونساءاً ، صغاراً وكباراً حتى شيم النخوة العربية ، فبلغ الحال سوءاً إلي الحد الذي أغري كتاباً أمريكيين إلي القول مؤخراً : " إن اعتبار غضبة الشعوب العربية أمر لا قيمة له "
إننا أيها المسلمون ! بين يدي هذا السيل المتلاطم من المآسي والقروح ، والأمة مأزومة مكلومة جرحى وبين يدي الحديث عن الشيخ الشهيد الهمام ينبغي أن نتواصى بما يلي:
أولا:علينا جميعا أن نستلهم العبرة من حياة الشيخ رحمه الله الذي كان أنموذجا عظيما لحياة المجاهد الذي لاينثني أمام المصائب والصعاب ، رغم كونه بين سجون ثلاثة :جسد مشلول ، و بلد محتل ، و أمة واقعة تحت هيمنة الأعداء .(/1)
ثانيا :السعي الدؤوب للوحدة علي كلمة سواء من كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم والاعتصام بهما ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) سلطة ومقاومة ،طوائف وفصائل ، والإسلام هو الرابطة الأقوى وشيجة كما قال تعالي ( إنما المؤمنون أخوة ) وقوله تعالي ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) و قوله عليه الصلاة والسلام ( إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي أن ولي الله وصالح المؤمنين ولكن لهم رحم أبلها ببلالها ) .
ثالثا : المسارعة إلي الله عز وجل بالتوبة الصادقة ، بمراجعة دينه ، ونصرة منهجه عقيدة وشريعة ، فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة ، فاليهود المجبولون علي الجبن والحرص علي الحياة ، أربعة ملايين يهودي ونحن مائة وثلاثون مليوناً من العرب ، ومليار ومائتا مليون من المسلمين خامدون خمود القبور، لا نملك من أمرنا نقيراً ولا قطميراً، ودولة يهود أكثر نفيراً، وأسمع قيلاً، وأشد تقتيلاً. نعم...إن الله يعذبنا بتسليط أبشع وأحطّ المخلوقات، علينا وعلى مقدساتنا وأعراضنا، لأننا تركنا منهجه ودينه، وارتمينا في أحضان المناهج الغربية والشرقية، التي صاغها اليهود أنفسهم، وكل هذا الذي نرى إنما هو عقاب للمسلمين؛ إذ تنكبوا طريق الحق إلى طريق الغواية والغرب، فهل وعينا ـ بعد نصف قرن من (تيه العرب) بين الاشتراكية واللبرالية والقومية ـ نداءَ الناصحين (ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون. وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) [المائدة: 23].
رابعا: إن صراعنا مع اليهود والنصارى في القدس وفلسطين إنما هو صراع بين وعدين، بين الوعد الحق والوعد المفترى..صراع بين عقيدة التوحيد التي جاء بها نبي الله إبراهيم عليه السلام، وجدّدها سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، وسيجدّدها آخر الزمان عيسى عليه السلام، وبين عقيدة الشرك والخرافة والدجل، التي أسسها الأحبار والرهبان، مستندين في ذلك على أوهام وهرطقات، وعليه فإن صراعنا مع اليهود على أرض فلسطين الجريحة، وأرض القدس الذبيحة، إنما هو صراع وجود، لا صراع حدود، وحسمه لن يكون بتسوية سلمية أو سياسية، وإنما حسمه سيكون عن قتالٍ دامٍ تتحمل الأجيال القادمة مسؤولية إنجازه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر ـ ووراءه اليهودي ـ: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله) [رواه ابن ماجه]،ولن يكون قتالهم جهاداً في سبيل الله دون مراجعة دين الإسلام كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أدخل الله عليهم ذلاً لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم) [رواه أحمد].
خامسا: إن الحكم الشرعي المتفق عليه لدى المسلمين في الأعداء المحاربين الذين يغتصبون أرض المسلمين، ويقاتلونهم لأجل دينهم، ويخرجونهم من ديارهم، هو وجوب قتالهم وجهادهم، لأن دفع الصائل، والثأر للأعراض والحرمات التي انتهكها العدو فرض عين على كل من قَدِر في المحل، ويتوسع هذا الفرض عند عدم قيام أو تقصير أهل ذلك المحل، هذا هو الحكم في أي أرض اجتاحها عدو، ناهيك عن أرض بيت المقدس التي كانت في غالب عمر الدنيا قبل الإسلام أرضاً للتوحيد والإيمان، ثم كانت بعد البعثة النبوية معقلاً للقوة، ومعقداً للعزة تحت راية الإسلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بينما أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب احتُمِل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري، فعُمِد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان ـ حين تقع الفتن ـ بالشام) [رواه أحمد بسند صحيح]، وهذه البقعة بين دمشق وبيت المقدس كما في الحديث الآخر: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة) [رواه أبو يعلى]. تلك هي الأرض، وأما الغزاة فإنهم اليهود شرُّ الدوابِّ قتلة الأنبياء، شيمتهم الغدر، وسجيّتهم الخيانة.
سادسا: إن حكام العرب والمسلمين الذين عقدوا صلحاً مع دولة يهود لا يمثلون شعوبهم وإن ما أبرموه من صلح واتفاقات باطل لا قيمة له شرعاً، لما يلي :
[1] لأن هؤلاء الحكام يحملون الولاء للدول الكبرى قبل الولاء لدينهم أو حتى لشعوبهم، إذ أن الغرب وأمريكا هي التي أوصلتهم إلى كراسي الحكم، وهي التي تحافظ على بقائهم في السلطة، لذلك فإنهم يسوسون شعوبهم بالعلمانية، وينبذون أحكام الإسلام وراءهم ظهرياً، وقد انسلخوا من كل خلق كان يزيّن العرب الجاهليين، حتى من نخوة الخنساء التي قالت :(/2)
[2] الصلح الجائز شرعاً لا يكون مع هذا النوع من المحاربين، لأن جنوحه للسلم شرطه الجلاء عن كل أراضي المسلمين، وبغير هذا الشرط يعد الصلح تفريطاً بأرض إسلامية مقدسة، وإقراراً للعدو اليهودي الغاصب باحتلاله أراضي إسلامية، لذا فلا وجه للاستشهاد بآية الأنفال: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) [ الأنفال : 61 ] على هذا الصلح، وإنما الآية التي تناسب هذه الحال هي قوله تعالى : (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) (محمد: 35)
[3] إن هذا الصلح الذي عقده حكام العرب والمسلمين اليوم مشروط بإلغاء المقاطعة ، وبضرورة التطبيع مع دولة اليهود في الأصعدة السياسية والإعلامية والسياحية ، وأخطر من ذلك التطبيع الثقافي ، الذي يعني إزالة كل ما في الكتب والصحف والمناهج من كون اليهود أعداء لأمتنا ، وكسر الحاجز النفسي لنسف عقيدة ( الولاء والبراء ) والتهويد القسري لآجيال المسلمين .
[4] هذا بالإضافة إلي المكاسب الكبيرة التي جنتها دولة يهود من انتعاش اقتصاد ، وتفريط الأمة في بناء قوتها ابتهاجاً بالسلام المزعوم بينما العدو مسلح نووياً واقتصادياً واعلامياً .
خامساً: إن القضية فلسطين قضية إسلامية ، لا تخص الفلسطينيين وحدهم ، ولا العرب وحدهم ولا المسلمين في هذا الزمان وحدهم بل هي قضية المسلمين عامة عربهم وعجمهم إلي قيام الساعة ، وكل محاولة لتأطير القضية باسم العروبة خدمة لاستراتيجية اليهود ، كما نشرت صحيفة ( يديعوت أحرنوت ) اليهودية في 11/3/1987 م مقالاً جاء فيه " إن علي وسائل إعلامنا أن لا تنسي حقيقة مهمة هي جزء من استراتيجية لإسرائيل في حربها مع العرب هذه الحقيقة هي أننا نجحنا في بجهودنا وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عاماً ، ويجب أن يبقى الإسلام بعيداً عن تلك المعركة "
أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها .. هبوا لنجدة إخوانكم المستضعفين في فلسطين ، خلصوا أنفسكم من تضليلات الدول الغربية التي توهمكم بأنكم ضعفاء وبأن اليهود أقوياء ، وما عليكم إلا الخضوع لدولتهم ، فلا قبل لكم بها ، ما دامت دول الغرب والشرق تدعمها ، لا تنخدعوا بهذه الأكاذيب ( لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا تنصرون ) [ آل عمران :111] ، انفضوا أيديكم من الحكام العملاء ، لا يغرنكم منهم الضجيج فالأمة لم تذق في حكامهم إلا القمع والفقر والإذلال والهزائم ، قولوا لحكام العرب والمسلمين : أخرجوا من سجونكم المجاهدين المتلهفين لقتال يهود ، الذين تفرق منهم إسرائيل وترتجف منهم أمريكا .
أيها الحكام إنكم شركاء في دم الشيخ ، لأنكم خذلتموه وخذلتم الشعب الفلسطيني المسلم ، وأسلمتموهم إلى ألد أعداء الأمة ، وتركتموهم بلا سلاح ولا عتاد ، ولاحتى إعانات إجتماعية ، انصياعا لأوامر الأمريكان الصليبيين ، فكلكم شركاء في هذه المصيبة العظيمة التي وقعت على أمتنا ، كفاكم إذلالاً لشعوبكم المسلمة ، لقد عجزتم بعروشكم ودباباتكم وطائراتكم عن قتال اليهود فما عليكم لو فتحتم حدودكم الموصدة أمام شعوبكم ، ليسيلوا كالسيل العرم نحو العدو الغاصب ، فيشردوا بهم من خلفهم لعلهم يذكرون .
أيها الحكام .. لم تصدون عن سبيل الله من أراد قتال يهود ، تبغونها عوجاً ، أتبتغون العزة عند أمريكا واليهود ؟ فإن العزة لله جميعاً .
أيتها الشعوب المسلمة يجب أن تقوموا بدوركم رغم ما تعانون من حكوماتكم وتقاسون من أنظمتكم إذ يجب عليكم النهوض لمحاربة اليهود وأعوانهم بشتى الوسائل :
سياسياً : بإسماع الحكام بالصوت الجهير رغبة المسلمين في جهاد اليهود ، والنكيرالشديد علي تخاذل القادة حتى لا يكون الاستسلام مع دولة اليهود خياراً استراتيجياً كما يطمعون .
اقتصادياً : بطريقين أحدهما:أن يستقطع كل مسلم ذكراً كان أم أنثى مما يكتسبه ودفع ذلك إلي الثقات لإيصاله إلي المجاهدين وأسرهم . ثانياً : بمقاطعة المنتجات والبضائع الأمريكية واليهودية ،إذ كيف ندعو إلي محاربتهم عسكرياً ونحن لا نزال نقويهم مالياً ونمدهم مادياً ، ( فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ) .(/3)
أيها المجاهدون في كل مكان أيها القابضون علي الزناد في أكناف بيت المقدس وفلسطين .. يا من توقنون بأن النصر قريب قرب إشراقة الفجر لقائم الأسحار .. قريب قرب استهلال الوليد لأم تعاني ألم المخاض .. قريب قرب رجع صدى نداء في وادي سحيق سعروا الحرب علي يهود ( ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون ) [ النساء : 104] ، فأنتم أفضل الناس سبيلاً وأصدقهم قيلاً كما قال النبي صلي الله عليه وسلم : ( أفضل الناس مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله ) [ رواه الترمذي ] وإن ما حل بساحتكم من قتل وتنكيل ، ونصب وهم وحزن لا يذهبه إلا ملاحقة اليهود في جحورهم ، كما قال نبيكم صلي الله عليه وسلم ( عليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهم والغم ) [رواه أحمد والحاكم ] . ( ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين ) [ الأنفال : 18] .ألا نضّر الله وجه الشيخ أحمد ياسين وجعل من دمه بركانا يفجر الغضب على بني صهيون وألحقه الله بمن قال فيه ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب:23 )
الموقعون علي البيان :
الشيخ / محمد الفاضل التقلاوي
الشيخ / الأمين الحاج محمد
الشيخ/ مساعد بشير علي
الشيخ/ مدثر أحمد إسماعيل
د/ علاء الدين الأمين الزاكي
الشيخ / صادق عبد الله عبد الماجد
الأستاذ / كمال عثمان رزق
الشيخ / سليمان أبو نارو
د/ عبد الحي يوسف
الشيخ / محمد عبد الكريم
الشيخ / محمد الأمين إسماعيل
الشيخ / ياسر عثمان جاد الله
الشيخ / عماد البكري أبو حراز
د/ إسماعيل حنفي
الشيخ / بكري مكيال
الشيخ/ جمال طاهر حسن
الشيخ / عمر عبد الله عبد الرحمن
الشيخ / فخر الدين عثمان
الشيخ / العبيد عبد الوهاب حسن(/4)
أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وهذه ليلة الاثنين الموافق للسادس والعشرين من شهر صفر للعام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف، وهذا هو الدرس التاسع والعشرون من سلسلة الدروس العلمية العامة والتي ينظمها المكتب التعاوني لمدينة <الرس> نسأل الله عز وجل أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه وموضوع هذا اللقاء هو موضوع يعاد للمرة الثانية للحاجة وهو بعنوان السحر الحلال وهو بقية لدرس سابق كان بعنوان فن التعامل مع الزوجة وقد أسلفت في ذلك الدرس أن التعامل مع الزوجة فن يجهله كثير من الرجال وأقول اليوم أيضا أن التعامل مع الزوج فن يجهله كثير من النساء وأقول للزوجين لو أن أحدًا منكما كان ملاكا بحسن خلقه ولطفه ومعاملته فإن ذلك لا يكفى فلابد من قيام كلٍ منكما بحق الآخر فإن الحياة شركة بينكما.
ومن هنا كان لكل منكما حديث، حديث من قلب محب يتمنى أن يرى السعادة ترفرف على كل بيت مسلم، ويعلم الله أن هذه المحاولة عصارة اطلاع ومشاورات ووقفات وتأملات في بيت النبوة، أسأل الله عز وجل بلطفه ومنه وكرمه أن يجمع بين كل زوجين وأن يبارك لهما في حياتهما وأن يرزقهما الصلاح والفلاح والأنس والمحبة وكم أفرحتني وسرتني تلك النتائج والآثار للدرس الماضي فقد كثرت الاتصالات والأحاديث والأخبار وما كنت أحسب أن تؤتي ثمارها بهذه السرعة ولكنه فضل الله فلله الحمد والشكر .
أما هذا الدرس فهو رسالة إلى كل زوجة مسلمة تريد السعادة في حياتها الزوجية وتبحث عن علاج ناجع لكل مشاكلها فلا يكفى أن تسمع المرأة هذا الحديث مرة أو مرتين بل لتسمعه كلما أرادت رأب الصدع الذي وقع في الحياة الزوجية لخطأ أو تعجل من أحد الزوجين أو كليهما فيا أيتها المباركة اسمعيه مرة ومرتين وثلاثة واحتفظي به للحاجة بل وأرشدي إ ليه كل زوجة تشعرين أنها بحاجته ولا أدعى فيه الكمال فهو كغيره من جهد البشر فيه الزيادة والنقصان والصواب والخطأ، بيد أني حرصت على النهل من بيت النبوة مستقرئا الأحداث بينه صلى الله عليه وآله وسلم وبين أزواجه فحسبي أني اجتهدت فما كان فيه من صواب فمن الله وحده لا شريك له وما كان فيه من خطأ فمن نفسي الضعيفة والشيطان والله ورسوله منه بريئان .
لماذا السحر الحلال والمقصود بالسحر هنا الاستعارة وإلا فإن حقيقة السحر عزائم ورقى وعقد تؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه أعاذنا الله وإياكم منه وهذا النوع لا يوجد فيه حلال بل هو حرام وكبيرة من الكبائر وصاحبه يكفر ويقتل ولا يستتاب وأما قصدنا هنا فهو المدح ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم" إن من البيان لسحرا " والحديث أخرجه [مالك] و[أحمد] و[البخاري] عن [ابن عمر] فيجوز أن يكون في معر ض المدح لأنه تستمال به القلوب ويرضى به الساخط ويستنزل به الصعد كما جاء في لسان العرب ولا أظنه يختلف اثنان فيما تفعله المرأة في قلوب الرجال فهي بما وهبها الله إياها من جمال ورقة ونعومة وعزوبة ألفاظ استمالت كثيرا من قلوب الرجال حتى طارت ألبابهم وعقولهم وقلوبهم ومن هذا قول [الكميت] :
وقاد إليها الحب فانقاد صعبه
بحب من السحر الحلال المحبب
وهل يشك أحد في أن المرأة فتنة فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث [أسامة] أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " والله عز وجل يقول ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) فجعلهن في أول الشهوات المحببة للناس فكيف لو استغلت المرأة فتنتها في الحلال فكانت عونا لزوجها فإن الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ( فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ) وخلاصة الدرس في هاتين الوصيتين من أمين فاضلتين عاقلتين فيا أيتها الزوجة المخلصة اسمعي لهذه الوصايا الثمينة فأنت أحوج ما تكونين لها فأصغي سمعك وأوعى قلبك فإن العاقل من أضاف إلى عقله عقول الآخرين .
النصيحة الأولى كانت [أمامة بنت الحارث] التغلبية من فضليات النساء في العرب ولها حكم مشهورة في الأخلاق والمواعظ لما تزوج [الحارث بن عمرو ملك كندة] ابنتها أم إياس بنت عوف وأرادوا أن يحملوها إلى زوجها أوصتها أمها في ليلة الزفاف إلى زوجها بوصية قيمة قالت فيها: -وأسمعي أيتها المرأة- قالت فيها : يا بنية إن الوصية لو كانت تترك لفضل أدب أو لتقدم حسب لرويت ذلك عنك ولأبعدته منك ولكنها تذكرة للعاقل ومنبهة للغافل، أي بنية لو استغنت امرأة عن زوج بفضل مال أبيها لكنتِ أغنى الناس عن ذلك ولكنا للرجال خلقن كما خلقوا لنا بنيتي إنك قد فارقتِ الحمى الذي منه خرجت والعش الذي فيه درجتِ إلى وكر لم تعرفيه وقرين لم تألفيه أصبح بملكه عليكِ مليكا فكوني له أمة يكن لكِ عبدا وشيكا واحفظي عنى خلالا عشرة يكن لك ذكرى وذخرا :(/1)
أما الأولى والثانية فالصحبة بالقناعة والمعاشرة بحسن السمع والطاعة فإن في القناعة راحة القلب وفى حسن المعاشرة مرضاة الرب .
وأما الثالثة والرابعة فالمعاهدة لموضع عينيه والتفقد لموضع أنفه فلا تقع عيناه منك على قبيح ولا يشم أنفه منك إلا أطيب ريح واعلمي يا بنية أن الكحل أحسن الحسن الموجود والماء أطيب المفقود .
والخامسة والسادسة التعاهد لوقت طعامه والتفقد لحين منامه فإن حرارة الجوع ملهبة وتنغيص حاله مكربة .
وأما السابعة والثامنة الاحتفاظ ببيته وماله والرعاية لحشمه وعياله فإن حفظ المال أصل التقدير والرعاية للحشم والعيال من حسن التدبير .
وأما التاسعة والعاشرة فلا تفشين له سرا ولا تعصين له أمرا فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره وإن عصيت أمره أوغرت صدره واتقىِ مع ذلك كله الفرح إذا كان ترحا والاكتئاب إذا كان فرحا فإن الأولى من التقصير والثانية من التكدير وأشد ما تكونين له إعظاما أشد ما يكون لك إكراما وأشد ما تكونين له موافقة أطول ما يكون لك مرافقة واعلمي يا بنيتي أنك لا تقدرين على ذلك حتى تؤثري رضاه على رضاك وتقدمي هواه على هواك فيما أحببت أو كرهت والله يضع لك الخير وأستودعك الله .
هذه الوصية الأولى من هذه الأم أما الوصية الثانية فهي وصية أم ممزوجة بالفرح أو بالفرحة والدموع نصحت أم ابنتها المقبلة على حياتها الجديدة قائلة : يا بنيتي أنت مقبلة على حياة جديدة حياة لا مكان فيها لأمك أو لأبيك أو لأحد من اخوتك فيها ستصبحين صاحبة لرجل لا يريد أن يشاركه فيك أحد حتى لو كان من لحمك ودمك كوني له زوجة يا ابنتي وكوني له أمًا اجعليه يشعر أنك كل شيء في حياته وكل شيء في دنياه اذكري دائما أن الرجل أي رجل طفل كبير أقل كلمة حلوة تسعده لا تجعليه يشعر أنه بزواجه منك قد حرمك من أهلك وأسرتك إن هذا الشعور نفسه قد ينتابه هو فهو أيضا قد ترك بيت والديه وترك أسرته من أجلك ولكن الفرق بينك وبينه هو الفرق بين المرأة والرجل المرأة تحن دائما إلى أسرتها إلى بيتها الذي ولدت فيه ونشأت وكبرت وتعلمت ولكن لابد لها أن تعود نفسها على هذه الحياة الجديدة لابد لها أن تكيف حياتها مع الرجل الذي أصبح لها زوجا وراعيا وأبا لأطفالها هذه هي دنياك الجديدة يا ابنتي هذا هو حاضرك ومستقبلك هذه هي أسرتك التي شاركتما أنت وزوجك في صنعها أما أبواك فهما ماضٍ إنني لا أطلب منك أن تنسى أباك وأمك واخوتك لأنهم لن ينسوك أبدا يا حبيبتي وكيف تنسى الأم فلذة كبدها ولكن أطلب منك أن تحبي زوجك وتعيشي له وتسعدي بحياتك معه .
هاتين الوصيتين الجميلتين كما أسلفت من أمين فاضلتين عاقلتين ويا ليت أن الأمهات يحرصن على وصية بناتهن بمثل هذه الوصايا الجميلة خاصة إذا كانت البنية قد أقبلت على بيت زواجها وعلى الأنس بزوجها فإنها بحاجة لمثل هذه الوصايا .
من أساليب السحر الحلال أو من فن التعامل مع الزوج استقباله والبشاشة في وجهه .
خرج الرجل من عمله متعبا مرهقا فقد قضى يوما شاقا مليئا بصخب المراجعين ومشاكل العمل وكثرة المعاملات وزاد الزحام في الشوارع تعبه تعبا ثم فتح باب بيته يريد الهدوء والراحة والسكن النفسي في مملكته الخاصة، فتح الباب فإذا الساحرة قباله دخل ليجد السعادة مع زوجته وأطفاله فإذا زوجته بجمالها تستقبله وقد ارتسمت ابتسامة جميلة على محياها وإذا هي تطبع قبلة حانية على خده مهللة مرحبة فوقع السحر ونسى هموم يومه وذهب التعب والإرهاق يلتفت يمنة ويسرة وإذا البيت جميل ونظيف وإذا الطعام الشهي قد أعد وإذا بأطفاله كالورود بجمال لباسهم وإذا بالروائح الزكية تفوح من أركان البيت فيا لها من سعادة وأنس ورحابة كل ذلك بفضل الله ثم بفضل اللمسات الساحرة من يدين تلك الزوجة الغالية التي تعدل الدنيا وما فيها .(/2)
وانظري لزوجة [أبى مسلم الخولاني] واستقبالها له فقد كان أبو مسلم كان أبو مسلم الخولاني إذا انصرف من المسجد إلى منزله كبر على باب منزله فتكبر امرأته فإذا كان في صحن داره كبر فتجيبه امرأته فإذا بلغ إلى باب بيته كبر فتجيبه امرأته فانصرف ذات ليلة فكبر عند باب داره فلم يجبه أحد فلما كان في الصحن كبر فلم يجبه أحد فلما كان في بيته كبر فلم يجبه أحد وكان إذا دخل بيته وهو الشاهد اسمعي أيتها المرأة وكان إذا دخل بيته أخذت امرأته رداءه ونعليه ثم أتته بطعام قال فدخل فإذا البيت ليس فيه سراج وإذا امرأته جالسة منكسة تنكس بعود معها فقال لها مالك فقالت أنت لك منزلة من [معاوية] وليس لنا خادم فلو سألته فأخدمنا أي جعل لنا خادما وأعطاك فقال اللهم من أفسد علىّ امرأتي فأعمى بصره وقد كان معروفا بإجابة الدعاء قال وقد جاءتها امرأة قبل ذلك وقالت لها زوجك له منزلة من معاوية فلو قلت له يسأل معاوية أن يخدمه ويعطيه عشا قال فبينا تلك المرأة جالسة في بيتها إذ أنكرت بصرها فقالت ما لسراجكم أطفئ قالوا لا فعرفت ذنبها فأقبلت إلى أبى مسلم تبكى وتسأله أن يدعو الله عز وجل لها يرد عليها بصرها قال فرحمها أبو مسلم فدعا الله عز وجل لها فرد عليها بصرها والشاهد أقول انظري أيتها الأخت الصالحة كان إذا دخل إلى بيته استقبلته زوجه فأخذت رداءه ونعليه ثم أتته بالطعام إذن فالزوجة الذكية التي تعرف كيف تكسب قلب زوجها وأن تكون دائما زوجة جديدة في حياته فالكلمة الحلوة زينة والبسمة المشرقة جمال والرائحة الطيبة بهجة والفستان الأنيق واللمسات اللطيفة للشعر والاختيار الموفق لبعض الحلي البسيط المنسجم مع لون البشرة والثوب والنظافة المستمرة طهارة وعبادة فأنت حورية الدنيا وسيدة القصور في جنات النعيم بإذن الله تعلمي أيتها الزوجة تعلمي من القرآن أخلاق الحور وتسابقي معهن إلى قلب زوجك واجعلي دنياه جنة البسي له الحرير وضعي له العطور وغني له كما تغني الحور : لزوجة مطيعة عينك عنها راضية وطفلة صغيرة محفوفة بالعافية وغرفة نظيفة نفسك فيها هانية ولقمة لذيذة من يد أغلى طاهية خير من الساعات في ظل القصور العالية تعقبها عقوبة يصلى بنار حامية وإليك هذه الصورة بدون تعليق .
دخل الزوج إلى بيته فوجد في المدخل الرئيسي ألعاب وملابس الأطفال مرمية يمنة ويسرة قابله الأطفال بملابس متسخة وراوئح كريهة لماذا أفاجئ بملابس أطفالي متسخة وبوجوههم غير نظيفة وبشعورهم شعسة وليس هناك روائح طيبة تنبعث منهم إنني احب أن أرى أطفالي وهم زهرات حياتي بالروائح الطيبة والمنظر الحسن فإذا رأيتهم سررت لذلك وإذا قدمتهم للآخرين قدمتهم بفخر واعتزاز شكوى زوج قابلته الزوجة بتكشير وتذمر من الأطفال وصراخ وشكوى وتبرم وضيق ووجه عابس غاضب وجد البيت فوضى إزعاج وقذارة وهم وغم أراد وجبة الغداء فبعد زعيق وصراخ أعد الغداء ذهب الرجل إلى غرفته ليأخذ قسطا من الراحة بعد التعب من الدوام وجد الغرفة مبعثرة والسرير غير مرتب وعليه بقايا من بسكويت الأطفال وربما وجد رضاعة أحد الأطفال على المخدة وفرشة الغرفة متسخة وسال عليها حليب أحد الأطفال فتمنى لو انه عاد من حيث أتى وبدون تعليق(/3)
ومن أساليب السحر الحلال أيضا التجمل والتزين له إن المرأة بأنوثتها ونعومتها فقط قادرة على كسر قلب الرجل والتأثير فيه فكيف إذا أضيف إليه التزين والتحلي عندها وقع السحر فأصبح الرجل أسيرا كسيرا فعن[ أسامة ابن زيد] قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما تركت بعدى فتنة هي أضر على الرجال من النساء " والحديث أخرجه مسلم في صحيحه فسماها صلى الله عليه وآله وسلم فتنة فيا أيتها الزوجة إنك تشتكين كثرة خروج زوجك وعدم جلوسه معك وتشتكين سوء أخلاقه وتصرفاته وربما أوجع قلبك بكثرة ذكره للنساء والزواج من أخرى وربما اشتكيت من عدم حبه لك أو عدم قضائه حوائجك أو اشتكيت من تغيره فلم يعد ذلك الزوج الذي عرفتيه أيام الزواج أو غير ذلك من المشاكل فأقول لك أيتها المباركة فقط انظري إلى حالك وهيأتك داخل البيت فمع مرور الأيام والشهور والسنين تركت ذلك السلاح الذي كنت تستعملينه معه لم يعد يرى ذلك الجمال وتلك الزينة لم يعد يسمع تلك الكلمات الرقيقة والهمسات الحانية فهو لا يرى سوى التبذل ولبس الثياب البالية والشعر المنفوش والوجه العبوس ولا يسمع سوى صراخ الأطفال والسب والشتائم وكثرة الطلبات ورنين الهاتف وكثرة التشكي فما هذه الأسنان التي فيها بقايا البيض والبقل والمكسرات وما هذه الحموضة تنبعث من العنق ساعة الاعتناق حتى إذا أصابه الاختناق وأراد الافتراق ونادى بالطلاق ذهبت تبحثين عن مشعوذ أو ساحر ليعيد لك الوفاق وأنت عندك السحر الحلال ولكن لا تشعرين أو أنك تهملين قال الله تعالى ( أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ) أي المرأة قد جبلت من صغرها على حب التزين والتحلي فهي فطرة عند المرأة أصبح كثير من الأزواج اسمعي أيتها الصالحة اسمعي أيتها المرأة أصبح كثير من الأزواج اليوم لا يرى جمال زوجته إلا عند خروجها للمناسبات والعزائم فيراها في أبهى صورة وأجمل حلة وإذا حدثها ضحكت وقالت أنت لست غريبا حجة شيطانية ووسوسة إبليسية كانت سببا في هدم بيوت كثيرة إذن فعلاج المشاكل كلها بيدك أيتها الساحرة فأنت تملكين السحر الحلال الذي قد يكون سببا لدخولك الجنة فهل تعقل النساء أنه لا حق عندها أعظم من حق زوجها إلا حق ربها سبحانه فليتنبه لهذا نساء زماننا قال [ ابن الجوزي] واسمعي أيتها المرأة قال ابن الجوزي في صيد الخاطر ومن الناس من يستهين بهذه الأشياء فيرى المرأة مبتذلة تقول هذا أبو أولادي ويتبذل هو ويرى كل واحد من الأخر ما لا يشتهيه فينظر القلب وتبقى المعاشرة بغير محبة. ولى مع التجمل والتزين وقفات الوقفة الأولى أقف هذه الوقفة وأرجو ألا يسمعها الرجال فهي سر للنساء فقط فأقول إن أكثر ما تصرفه المرأة من المال اليوم إنما هو لشراء أدوات الزينة من العطورات ومستحضرات التجميل إلى آخره وأكثر ما نشاهده في الأسواق محلات الخياطة النسائية ومعارض الملابس النسائية مما يدل على كثرة الإقبال عليها وأغلب أوقات المرأة ينصرف في الوقوف أمام المرآة والاهتمام بشكلها كل ذلك يصرف ويضيع والمصيبة أن الزوج ليس له من هذا نصيب فلمن إذن لا يهمها كثيرا إعجاب زوجها إنما المهم إعجاب صديقاتها ومعارفها فهي تباهى وتفاخر لانتزاع عبارات الإغراء والإعجاب من أفواه النساء إذن فالدافع لتجمل أكثر النساء اليوم هو حب الظهور والبروز وامرأة تصرف جهدها ووقتها ومالها واهتمامها في مطلب كهذا لا شك أن لديها سفها وشعورا بالنقص على أن هذه النزعة تختلف من امرأة إلى أخرى فالنساء لسن سواء وغالب من تعمد إلى تلك الأساليب وإلى تطبيق أحدث الموضات على نفسها الغالب أن يكون عندها نقص فيما حباها الله من الجمال فتبالغ بل وتفرط في أمور الزينة للتعويض عن ذلك .
الوقفة الثانية إن لهذه الزينة ضوابط وحدودا يجب أن تراعى فعن [ابن مسعود] رضى الله عنه قال " لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات بالحسن المغيرات لخلق الله" فاحذري سخط الله ولعنته فهذه الأعمال محرمة وإذا كان التزين والتجمل فيه تشبه بالكفار أو تشبه بالرجال أو كان لباس شهرة فكل ذلك محرم فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " من لبس ثوب شهرة ألبسه الله إياه يوم القيامة ثم ألهب في النار " والحديث أخرجه أبو داود في سننه وهو صحيح أو كان التزين للأجانب أو الخروج للأسواق أو غير ذلك فهو كذلك محرم مغضب لله تعالى ولا أنسى أن أقول إن أجمل وسائل الزينة السواك وكثرة المضمضة وكثرة العبادة فإن كثرة العبادة لها نور وجمال في الوجه قال تعالى ( سيماهم في وجوههم ) وقال صلى الله عليه وآله وسلم " الصلاة نور" نور حسي ومعنوي أما الحسي فنور الوجه وجماله .(/4)
ومن الأساليب أيضا من أساليب السحر الحلال أيتها المرأة المرح والمزاح واللطف والدلال وهذا أسلوب آخر من أساليب السحر الحلال ولذلك فإني أسمع كثيرا من الشباب عند البحث عن الزوجة يقولون فإنهم يجمعون على قولهم أريدها مرحة يجمعون على ذلك فإنها بكلماتها الرقيقة وبسماتها العذبة تملأ أركان البيت سعادة وبحركاتها الخفيفة وألعابها الجديدة تبدد الروتين والملل في حياتها الزوجية فتذكروا جيدا تلك الكلمات الغالية من قدوتها وحبيبها صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال لجابر رضى الله تعالى عنه" هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك "وهى بتوددها إلى زوجها والاقتراب منه والقعود إلى جنبه وملاطفته تكسر عين زوجها وتملك قلبه ولبه فلا ينظر إلى غيرها.
اسمعي لهذا الموقف اسمعي لهذا الموقف من أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قالت "وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية أي غضب على صفية فقالت لي قالت صفية لعائشة قالت لي هل لك إلى أن ترضين رسول الله صلى الله عليه وسلم عنى وأجعل لك يومي قالت عائشة قلت نعم انظري ماذا فعلت عائشة رضى الله تعالى عنها قالت عائشة نعم فأخذت خمارا لها مصبوغا بزعفران فرشته بالماء تقول ثم اختمرت به فدخلت عليه في يومها أي في يوم صفية فجلست إلى جنبه فقال إليك يا عائشة فليس هذا بيومك فقلت فضل الله يؤتيه من يشاء ثم أخبرته خبري" والحديث أخرجه ابن ماجة في سننه وقال الألباني في الإرواء رجاله ثقات رجال مسلم غير شومية هذه وهى مقبولة عند الحافظ ابن حجر أرأيت يا ابنة التوحيد إلى فن التعامل مع الزوج استفيدي من معلمة الرجال والأجيال عائشة رضى الله عنها تجمل وتطيب واقتراب وتغسل للزوج فتملكين القلب وتأثرين النفس فسبحان من أودع هذا السحر في المرأة ولذلك كانت الدعوات الأولى في أول لقاء وأول نظرة وأول لمسة اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلت عليه وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه ومن شرها مزاج نكد ونفسية متعكرة وشكاية وتبرم وضيق وهم وغم وانطواء ووسوسة وعبوس وتكشير نعوذ بالله من شرها ( ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ) ومن الأساليب أيضا الاعتراف بجميله وشكره فقد قال صلى الله عليه واله وسلم " يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار قالت أي امرأة بما يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم تكثرن اللعنة وتكفرن العشير قالت وما كفرانه قالت لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط " والحديث أخرجه البخاري في صحيحه .
لقد فعلت ما في وسعى في أداء حقوق زوجتي والإحسان إليها فقد اشتريت وأكرمت وبالغت وبذلت ما أستطيع ولكن قلما أسمع من زوجتي كلمة شكر أو دعاء إنني أنتظر السماع؛ جزاك الله خيرا خلف الله عليك شكر الله مسعاك وما أشبه ذلك من الكلمات الطيبة زوج عاتب .
وعن [عبد الله بن عمرو] رضى الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا ينظر الله تبارك وتعالى إلى امرأة لا تشكر زوجها وهى لا تستغني عنه" والحديث أخرجه [النسائي] و[البزار] بإسنادين رواة أحدهما رواة الصحيح ورواه الحاكم وقال صحيح الإسناد . فيا أيتها الزوجة المسلمة اتق الله وأد الأمانة أد الأمانة التي أنت مسئولة عنها وهى طاعة زوجك والإحسان إليه والاعتراف بحقه وشكره .
وعن [أبى هريرة ]أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها ، ولا تجد حلاوة الإيمان حتى تؤدى حق زوجها ولو سألها نفسها وهى على ظهر قتب " والحديث أخرجه [أحمد] و[ابن ماجة] و[ابن حبان] فيا أيتها المباركة كلمات شكر وثناء عذبة الألفاظ رقيقة المعاني سحر تفعل في الرجل الأفاعيل .(/5)
ومن الأساليب التي تسحر بها المرأة زوجها إن صح التعبير الاعتذار إليه إن المرأة بشر وهى عرضة في التقصير في حق زوجها مهما حرصت فكيف إذا أهملت أو غفلت عن هذا الحق ولذلك فمن أعظم الأساليب التي تعوض بها المرأة هذا التقصير الاعتذار للزوج والرجوع إليه وإني على يقين أن أحلى كلمة سمعها أو يسمعها الرجل من زوجته عندما تعتذر إليه مهما كان الخطأ وهذا ليس إذلالا للمرأة كما يتصوره بعض النساء ليس إذلالا للمرأة أن تعتذر لزوجها ولا تكبرا من الرجل كما يصوره الشيطان وأعوانه إذن فلماذا لأن نفس الرجل جبلت على محبة المرأة والفتنة بكلماتها وإن كلمة التأسف والاعتذار من الزوج أو الزوجة لزوجها لها سحر عجيب ولها تأثير غريب مجرد كلمات طيبات وفجأة ينقلب الغضب إلى رضا والعبوس إلى ابتهاج فيصبح الأسد حملا وديعا وتتحول الحمرة من حمرة غضب إلى حمرة خجل مسكين أنت أيها الرجل كل ذلك سببه السحر الحلال الذي أنعم الله عز وجل به على المرأة المسلمة فعن [ابن عباس] عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " نساؤكم من أهل الجنة الودود الولود العئود على زوجها التي إذا غضب جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها وتقول لا أذوق غمضا حتى ترضى " والحديث أخرجه النسائي وغيره وله شاهد أيضا من حديث [أنس ]أخرجه [الطبراني] في الصغير وهو حسن بمجموعهما كما في الصحيحة للألباني قال [المنوي ] في فيض القدير فمن اتصفت بهذه الأوصاف منهن فهي خليقة لكونها من أهل الجنة وقلما نرى فيهن من هذه صفاتها انتهى كلامه رحمه الله فأين أنت أيتها الصالحة أين أنت لتكوني من أهل الجنة لماذا تحرمين نفسك أن تكوني من أهل الجنة اسمعي أيتها المباركة نعيم في الدنيا في السعادة الزوجية ونعيم في الآخرة بأن تكوني من أهل الجنة فقط اتصفي بهذه الصفات الودود المتحببة لزوجها الولود كثيرة الأولاد العئود المعتذرة الراجعة لزوجها عند التقصير أيتها الحانية إنها كلمات فقط استعيذي بالله من الشيطان وجاهدي النفس الأمارة بالسوء ثم ضعي يدك في يدي زوجك وعندها عندها يقع السحر فتصفو الحياة وهكذا عند كل خلاف وعند كل غضب فالعلاج بيدك وإياك إياك تفريق الشمل ونكادة العيش فالبيت السعيد ليس الذي خلا من المشاكل البيت السعيد ليس الذي خلا من المشاكل بل الذي عرف كيفية علاجها والتعامل معها .(/6)
ومن الأساليب أيضا ومن فن التعامل مع الزوج معاشرته بحسن السمع والطاعة بشرط أن تكون هذه المعاشرة طاعة في غير معصية الله عز وجل وهذا نوع آخر من أنواع السحر التي تملكه المرأة لكسر قلب زوجها بل وفوق ذلك كسب رضا ربها فطاعته من قمة العبادات فهي مقرونة بالصلاة والصيام فعن [عبد الرحمن بن عوف] قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها أدخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت " ما أعظم هذا الفضل ما أعظم هذا الفضل أيتها المرأة قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت وروى البزار الطبراني أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أنا وافدة النساء إليك هذا الجهاد كتبه الله تعالى على الرجال فإن أصيبوا أثيبوا أي أسرا وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون ونحن معشر النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك الأجر تسأل فقال عليه الصلاة والسلام اسمعن أيتها النساء قال عليه الصلاة والسلام "أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة للزوج واعترافا بحقه يعدل ذلك "يعدل ماذا أي يعدل أجر الجهاد في سبيل الله وقليل منكن من يفعله ولا شك أن من طاعته أن تلبى طلبه إذا دعاها للفراش وكم نسمع من المشاكل في مثل هذا الباب فإن أعظم غايات الزواج أن يعف الرجل نفسه فلا يقع في الحرام فإذا دعاها وامتنعت ذهبت هذه الغاية وكان الرجل معرضا للوقوع في الحرام فعن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه قال قال الرسول صلى الله عليه وسلم "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح " والحديث متفق عليه إذن فتمنعها في الفراش من أغلظ المحرمات فإن فعلت ذلك تقلبت في لعنة الله وملائكته والعياذ بالله وقال صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها "أي زوجها والحديث أيضا أخرجه البخاري ومسلم وقال صلى الله عليه وسلم "إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانت على التنور " والحديث أخرجه الترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان و في الحديث قال صلى الله عليه وسلم " وإن سألها نفسها وهى على ظهر قتب لا تمنعه نفسها " والحديث أخرجه الطبراني إذن فيا أيتها المرأة لا يجوز للزوجة أن تمنع نفسها عن زوجها ولا يحل لها ذلك باتفاق المسلمين بل يجب عليها أن تطيعه إذا طلبها إلى الفراش وذلك فرض واجب عليها فاحذري أيتها الصالحة من غضب الجبار ثم أيضا قبول الأعمال متوقف على طاعة الزوج فعن ابن عمر رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اثنان لا تجاوز صلاتهما رءوسهما عبد أبق من مواليه حتى يرجع وامرأة عصت زوجها حتى ترجع " والحديث أخرجه الطبراني بإسناد جيد والحاكم وله شواهد وعن[ ابن أو في ] في الحديث قال صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لا تؤدى المرأة حق ربها حتى تؤدى حق زوجها " والحديث أخرجه ابن ماجة وابن حبان والطبراني وإسناده جيد ؛ومن طاعته الحرص على إرضائه مهما كان الأمر فعن [أم سلمة] رضى الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة " ما أسهل دخولك الجنة أيتها المرأة فمتى تعقلين وتنتبهين لمثل هذه الأمور والحديث أخرجه ابن ماجة والترمذي والحاكم قال صحيح الإسناد. ما أجمل الزوجة حين تحسن التبعل لزوجها وما أعظم مكانتها في قلبه واستيلائها على مشاعره حين تقول له سمعا وطاعة لا تغمض لي عين حتى ترضى والمرأة تملك وسائل الإرضاء جمالها عذوبة ألفاظها رقتها كل ذلك من نعم الله عليها وستسأل عن شكرها واستعمالها عن حقها هل استعملتها في حقها أم لا ثم إليك سرا من أسرار الرجال وأعتذر للرجال فقد فضحت أسرارهم في مثل هذا الدرس فأليك سرا من أسرار الرجال أيتها المرأة الرجل سريع الغضب سريع الرضا وخاصة أمام المرأة فأين سحرك الحلال ومن الأساليب أيضا خدمتها لزوجها والقيام بشئونه فالزوجة الصالحة تتقرب إلى الله بخدمة زوجها وبعض النساء قد حباها الله عز وجل حسن تصرف وعقلا وتدبيرا حتى إنها تقوم ببعض الأعمال الخاصة بزوجها نيابة عنه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فلماذا لا تحرص الزوجة على خدمة زوجها وهو جنتها ونارها كما في حديث [الحصين بن محصن] أن عمة له أتت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة ففرغت من حاجتها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم " أذات زوج أنت قالت نعم قال كيف أنت له قالت ما آلوه إلا ما عجزت -أي لا أقصر في طاعته وخدمته ما آلوه إلا ما عجزت عنه- قال فانظري أين أنت منه فإنما هو جنتك ونارك " والحديث أخرجه أحمد و[ابن أبي شيبة] وصححه الحاكم ووافقه [الذهبي] وقال [المنذري] في الترغيب رواه احمد والنسائي بإسنادين جيدين(/7)
قال [المناوي] رحمه الله في شرح هذا الحديث انظري أين أنت منه أي في أي منزلة أنت منه أقريبة من مودته مسعفة له عند شدته ملبية لدعوته أم متباعدة من مرامه كاسرة لعشرته وإنعامه فإنما هو جنتك ونارك أي هو سبب لدخولك الجنة لرضاه عنك وسببا لدخلوك النار لسخطه عليك فأحسني عشرته ولا تخالفي أمره فيما ليس بمعصية انتهى كلامه رحمه الله من فيض القدير وأيضا من خدمتها لزوجها اذكر هذا المثال مثال من حال نساء الصحابة وكيف كن يخدمن أزواجهن فعن [أسماء بنت أبى بكر] رضى الله عنهما قالت تزوجني [الزبير] وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وغير فرسه فكنت أعلف فرسه واستقى الماء وأخرج غرضه والغرض أي أخيط دلوه وأعجن ولم أكن أحسن أخبز وكان يخبز جارات لي من الأنصار وكنا نسوة صدق وكنت أنقل النوى من أرض الزبير الذي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ فجئت يوما والنوى عل رأسي فلقيت رسول الله ومعه نفر من الأنصار فدعاني ثم قال اخ اخ كلمة تقال للبعير ليبرك اخ اخ ليحملني خلفه فاستحييت أن أسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى قد استحييت فمضى فجئت الزبير فقلت لقيني رسول الله وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه فأناخ لأركب فاستحييت منه وعرفت غيرتك فقال والله لحملك النوى كان أشد عليّ من ركوبك معه حتى تقول أسماء حتى أرسل إلى [أبو بكر] بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني انظري أيتها المرأة كيف كن رضوان الله تعالى عليهن يحرصن على خدمة الزوج؟ اليوم البيوت مليئة بالخادمات وبالسائقين وربما الأطفال أيضا يجلس عندهم في الصباح وكثير من مشاغل البيت يقوم بها كثير من الخدم والحشم والمرأة لا تدرى ماذا تفعل ولذلك كثر وقت الفراغ عند المرأة فلما كثر الفراغ كثرت الهموم والمشاكل والوساوس وبالتالي كثرت المشاكل بين الزوجين فانظري أيتها الصالحة إلى حال هذه المرأة الصالحة وكيف كانت تقوم بخدمة زوجها وبيتها .
فمها يرتل آي ربك بينما
يدها تدير على الشعير رحاها
بلت وسادتها لآلئ دمعها
من طول خشيتها ومن تقواها
[محمد إقبال] في وصف [فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم] وهى تقوم بأعمال المنزل وينبغى ... أن تتصف بذلك كل زوجة مؤمنة.
ومن الأساليب أيضا من أساليب السحر الحلال في الوظيفة فإياك أنت تكون الوظيفة سببا لزعزعة الأسرة إياك إياك أيتها المرأة أن تكون الوظيفة سببا لزعزعة الأسرة والكلام هنا يطول ولكنى أكتفي بما يناسب الموضوع وأترك بقيته في موضوع آخر أسأل الله أن ييسره بعنوان أخطار تهدد المرأة وعمل المرأة بالشروط التالية أن يكون مباحا أن يناسب المرأة إلا تختلط بالرجال أن تلتزم حجابها الشرعي أن تراقب الله فيه وهو أهمها الشرط الثالث أن لا يؤثر العمل سلبيا على مهمتها الأولى والذي يهمنا هنا هو الأخير هل تستطيع المرأة حقا الجمع بين حق الزوج والأولاد وبيتها وبين الوظيفة الأمر يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأمكنة والأزمان ولسنا نستطيع ذكرا تفصيليا فيه يقول سماحة الشيخ [عبد العزيز بن باز] حفظه الله تعالى أن عمل المرأة بعيد عن الرجال إن كان فيه مضيعة للأولاد وتقصير بحق الزوج من غير اضطرار شرعي لذلك يكون محرما لأن ذلك خروج على الوظيفة الطبيعية للمرأة وتعطيل للمهمة الخطيرة التي عليها القيام بها مما ينتج عنه سوء بناء الأجيال وتفكك عرى الأسرة التي تقوم على التعاون والتكامل والتضامن ومساهمة كل من الزوجين بما هيئ الله له من الأسباب التي تساعد على قيام حياة مستقرة آمنة مطمئنة يعرف فيها كل فرد واجبه أولا وحقه ثانيا انتهى كلامه حفظه الله تعالى فعلى المرأة أن تراجع نفسها وتراقب ربها وتتقى الله في حق زوجها وأطفالها وإن اضطرها ذلك لترك العمل فليس كثيرا فمن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه هذا ما أستطيع قوله هنا والموضوع فيه أخذ ورد ولكن قبل ترك هذا العنصر إليك هذه الصورة .
نهارها بالمدرسة أطفالها عند الخادمة طعامهم تعده الخادمة وربما تطبخ بالليل غداء النهار في الظهر متعبة جدا وفى العصر نائمة وربما في زيارة في الليل تحضير للدروس واهتمام بالرءوس ثم هي متعبة فترمى بنفسها على فراشها جثة هامدة وزوجها المسكين ينظر إليها بعين الشفقة والرحمة واللوم والعتاب فما يملك إلا أن يتجرع الهم وعليه بالصبر ولا ينسى الصوم فإنه له وجاء والفتن في كل مكان ففي الأسواق نساء وفى المحلات نساء وفى التلفاز نساء وفى وسائل الإعلام نساء ومن فوقه نساء ومن تحته نساء وعن يمينه نساء وعن شماله نساء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "وما تركت بعدى فتنة هي أضر على الرجال من النساء " وإياك وإياك مجرد التفكير في التعدد فستغضب عليك النساء إذن فما العمل عليك بقراءة القرآن لكن احذر سورة النساء لا شيء يشوب المرأة مثل صدها عن زوجها ولا شيء يشينها مثل صبر زوجها عليها .(/8)
ومن الأساليب أيضا إعانته على طاعة الله وحثه على فعل الخيرات وإليك هذه الوصية إليك أيتها الصالحة هذه الوصية أقول كل خلاف يجرى بين الزوجين إنما هو بمعصية الله فاحذري المعاصي وطهري بيتك من كل ما يغضب الله واسمعي قول الحق عز وجل ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) فمن أعظم نتائج السحر الحلال وتأثيره يوم أن تكون بجمالها ورقتها وأنوثتها وعذوبة ألفاظها وحسن تعاملها سببا في فلاح زوجها وإعانته على طاعة الله وحثه على الأعمال الصالحة وإلا فاحذري فإن من أعطاك هذه النعم قادر على إزالتها بكن فيكون فكوني شاكرة لهذه النعم وتذكري قول الحق ( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) تذكري وانظري من حولك من النساء كم من البيوت هدمت بسبب كثرة المعاصي اللاتي يقعن فيها أو اللاتي امتلأت البيوت بها فانتبهي رعاك الله واسمعي أيتها الغالية قالت كنا معا في أطيب حال وأهنأ بال زوجين سعيدين متعاونين على طاعة الله وعندنا القناعة والرضا طفلتنا مصباح الدار كركراتها تفتح الزهور إنها ريحانة تهتز فإذا جن علينا الليل ونامت الصغيرة قمت معه نسبح الله يؤمني ويرتل القرآن ترتيلا وتصلي معنا الدموع في سكينة وخشوع وكأني أسمعها وهي تفيض قائلة أنا إيمان فلان وفلانة وذات يوم أردنا أن تكثر فيه الفلوس اقترحت على زوجي أن نشتري أسهما ربوية لتكثر منها الأموال فندخرها للعيال فوضعنا فيها كل ما نملك حتى حلي الشبكة ثم انخفضت أسهم السوق وأحسسنا بالهلكة فأصبح الريال قرشا وشربنا من الهموم كأسا وكثرت علينا الديون والتبعات وعلمنا أن الله يمحق الربا ويربي الصدقات وفى ليلة حزينة خوت فيها الخزينة تشاجرت مع زوجي وطلبت منه الطلاق فصاح أنت طالق أنت طالق فبكيت وبكت الصغيرة وعبرت دموعي الجارية تذكرت جيدا يوم أن جمعتنا الطاعة وفرقتنا المعصية إذن فيا أيتها الزوجة لا يختلف اثنان على أن المعصية تجلب الهم والغم وتورد الشقاء والتعاسة وتجلب سوادا في الوجه وقسوة في القلب وتتبدل السعادة إلى شقاء والحب إلى كره إلى غير ذلك قال أحد السلف واسمعي جيدا اسمع أيها الرجل قال أحد السلف إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق امرأتي ودابتي قال [ابن القيم]:
وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة في القلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله ومن المعاصي التي انتشرت وكانت سببا في شقاء كثير من البيوت .
أولا: ترك الصلاة وتأخيرها عن وقتها خاصة من المرأة ثم ثانيا امتلاء البيوت بوسائل الإعلام الفاسدة التلفاز الفيديو وربما الدش ثالثا مشاهدة الأفلام واستماع الأغاني وشراء وقراءة المجلات الماجنة دخول السائق والخادمة إلى المنزل بلا ضرورة الخروج إلى الأسواق بملابس الزينة وبدون محرم الأزياء الفاضحة والتشبه بالكافرين وغيرها من الآثام والمعاصي اعلمي أيتها الزوجة أن دور الزوجة في تقوى زوجها المسلم وثباته على دينه وعطائه لدعوته دور هام وخطير وإنا لنعلم عددا غير قليل من الشباب الدعاة والمتحمسين الباذلين بردت حماستهم وقل بذلهم بعد زواجهم حتى إن بعض الاخوة وصف الزواج بأنه مقبرة الدعاة وعلى هذا فإن دورك أيتها الأخت المتزوجة في زيادة إيمان زوجك أو نقصانه دور فاعل احرصي دائما على تذكير زوجك بالإشارة اللطيفة والتوجيه غير المباشر بصلاة الجماعة وصيام النافلة وفعل الخير والصدقة وكوني عونا له على ذلك ولا تكوني عامل فرط وتفريط حدثيه عن جاركم الذي يحرص على صلاة الفجر جماعة في المسجد دون أن تقولي له لماذا لا تفعل مثله اكتفي بتلك الإشارات غير المباشرة أخبري عن زوج صديقتك فلانة وحرصه على صيام الاثنين والخميس دون أن تطلبي منه صيام الاثنين والخميس استعملي سحرك للتأثير عليه فإنك قادرة على ذلك وكم شكت كثير من النساء حالهن مع أزواجهن ولكن تغيرت أحوالهن لما عرفن كيف يتعاملن مع أزواجهن ثم إليك أيتها الساحرة بعض أساليب السحر الحلال لكن على عجل لضيق الوقت منها: أن تتصرف -أي المرأة -أن تتصرف حسب رغبته أن تكون حافظة لمال زوجها فلا ترهقه بكثرة طلباتها. من أكثر الأسباب التي تهدد الحياة الزوجية في كثير من الأسر طلبات المرأة المالية التي تفوق قدرات الزوج ويكون ذلك تقليدا أعمي لبعض الصديقات أين هؤلاء النسوة من قول الحكيم الخبير ( لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله ) أن تتعرف على كل ما يفرحه وتكثر منه، أن تنتقي ألطف الكلام وأحلاه عند التحدث والجلوس معه أن تكون حريصة على إشعاره بالحب والاحترام والتقدير له من واجب الزوجة احترام زوجها وتقديره في المعاملة والخطاب(/9)
يروى عن ابنة [سعيد بن المسيب] ما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم أن تراعي أقاربه وأهله وتقديره وخاصة والديه وإخوانه أن لا تخرج المرأة من بيت زوجها ألا بإذنه وألا تدخل البيت أحدا إلا من يرضى له الزوج وألا تصوم تطوعا وزوجها حاضر إلا بأذنه وألا تنفق من ماله إلا بإذنه أو برضاه والأحاديث في الأمور الآنفة الذكر كثيرة لا يتسع المجال لذكرها .
وأخيرا قصص ومواقف سريعة .
امرأة تخطب في ليلة زفافها اجتمع ذات مرة اثنان من العلماء هما [الشعبي] و[شريح] فنصح شريح الشعبي بان يتزوج من نساء بني تميم فقال شريح يا شعبي عليك بنساء بني تميم فإني رأيت لهن عقولا قال الشعبي وما رأيت من عقولهن فحكى له شريح أنه مر ذات يوم بامرأة عجوز على باب دار وبجوارها جارية جميلة فطلب منهما أن تسقياه فقالت الجارية لشريح أي الشراب أحب إليك قال شريح ما تيسر قالت العجوز ويحك أيتها الجارية ائتيه باللبن فإني أظن الرجل غريبا ثم سأل شريح العجوز عن الجارية وعرف اسمها واسم أبيها وعلم أنها غير متزوجة فتقدم إلى أهلها وطلبها منهم فزوجوه منها قال شريح فلو رأيتني يا شعبي وقد أقبل نساؤهم يهدينها حتى أدخلت علي فقلت إن من السنة إذا دخلت المرأة على زوجها أن يقوم فيصلي ركعتين فيسأل الله من خيرها ويعوذ به من شرها فصليت وسلمت فإذا هي من خلفي تصلى بصلاتي لما قضيت صلاتي أتتني جواريها فأخذن ثيابي وألبستني ملحفة قد صبغت في عقد العصفر فلما خلا البيت دنوت منها فمددت يدي إلى ناحيتها فقالت على رسلك يا أبا أمية كما أنت ثم قالت خطبة: الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على محمد و آله المرأة تقول ذلك في ليلة دخلتها تقول الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على محمد وآله إني امرأة غريبة لا علم لي بأخلاقك فبين لي ما تحب فآتيه وما تكرهه فأزدجر عنه فقالت إنه قد كان لك في قومك منكح وفى قومي مثل ذلك ولكن إذا قضى الله أمرا كان وقد ملكت فاصنع ما أمرك الله به إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك قال شريح فأحوجتني والله يا شعبي إلى الخطبة في ذلك الموضع فقلت الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على محمد النبي وآله وسلم وبعد فإنك قد قلت كلاما إن تثبتي عليه يكن ذلك حظك وإن تدعيه يكن حجة عليك أحب كذا وأكره كذا ونحن جميعا فلا تفرقي وما رأيت من حسنة فانشريها وما رأيت من سيئة فاستريها وقالت كيف محبتك لزيارة الأهل قلت ما أحب أن يملني أصهاري قالت فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك آذن له ومن تكرهه أكرهه قلت بنو فلان قوم صالحون وبنو فلان قوم سوء ثم ذكر شريح للشعبي أنه مكث مع زوجته لا يري منها إلا ما يحبه حولا كاملا وفي نهاية الحول زارته امرأة عجوز قريبة زوجته وهى التي كانت قد قامت بتربيتها في صغرها قالت العجوز السلام عليك أبا أمية قال شريح وعليك السلام من أنت قالت العجوز أنا فلانة خدنك قال شريح قربك الله قالت العجوز كيف رأيت زوجتك قال شريح خير زوجة قالت العجوز أبا أمية إن المرأة لا تكون أسوء منها في حالتين إذا ولدت غلاما أو حظيت عند زوجها فإن رابك ريب فعليك بالسوط فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم شرا من المرأة المدللة قال شريح أما والله لقد أدبت فأحسنت الأدب ورضت فأحسنت الرياضة قالت العجوز أتحب أن يزورك خلانك قال شريح متى شاءوا قال شريح فكانت تلك العجوز تأتيه في رأس كل حول وتوصيه تلك الوصية ثم ذكر شريح القاضي للشعبي أنه لم يجد من تلك الزوجة ما يغضبه لمده عشرين سنة إلا مرة واحدة فقط كان هو المخطئ والسبب في الخطأ الذي أغضبه وذلك أنه كان إمام الحي يصلي بالناس فأخذ المؤذن في إقامة صلاة الفجر فشعر أبو أمية شريح بعقرب تدب وتتحرك فأخذ إناء وأكفأه عليها وقال شريح لزوجته زينب يا زينب لا تتحركي حتى آتي فالتزمت زينب المرأة المطيعة لزوجها لكلامه ولم تتحرك كما قال لها وكان ذلك سببا في أن خرجت العقرب من تحت الإناء ولدغتها في إصبعها لك أن تتصوري أيتها المرأة وتتأملي مثل هذا الموقف الجميل خذي العبر والدروس من هذه القصة وانظري فيها فإنك تملكين كثيرا من وسائل ترويض الزوج واسمعي أيضا لهذا الموقف الأخير والجميل كيف أن المرأة قادرة على ترويض زوجها يحكى أن امرأة كانت تعيش في خلاف تام مع زوجها فذهبت في ذات يوم إلى صديقة لها وشرحت لها حالها مع زوجها عندئذ نصحتها الصديقة أن تذهب إلى حكيم لعله يستطيع أن يبعد عن بيتها تلك الخلافات فذهبت المرأة إلى الحكيم وعرضت عليه مشكلتها ووعدها الرجل أن يساعدها على شرط أن تحضر له ثلاث شعرات من جسم أسد وخرجت المرأة من عنده وهي تفكر في وسيلة تحضر بها ثلاث شعرات من جسم الأسد فأخذت حملا وراحت إلى الغابة وعندما هجم عليها الأسد رمت بالحمل فأخذ يلتهمه وانصرف عنها وأخذت المرأة تفعل هذا الفعل كل يوم حتى ألفها الأسد وأصبح يقترب منها في ود وذات يوم ربتت المرأة على ظهر الأسد فوجدت نفسها قادرة على ثلاث شعرات من(/10)
لبدته فأخذتها على الفور وذهبت إلى الحكيم فلما رأى الحكيم الشعرات الثلاث قال لها إذا كنت استطعت أن تروضي الأسد أفلا تستطيعين أن تروضي زوجك فأقول لنساء المسلمين اليوم إن بمقدورك أن تروضي زوجك كيف شئت متى إذا أحسنت استعمال السحر الحلال الذي وهبه الله إياك وأخيرا ليعلم كل من الزوجين أن الحياة الزوجية فن جميل قل من يعرفه بل هي عبادة لله عز وجل . من المهم جدا أن يتذكر الزوجين أن الحياة هي فن ممكن فليرض كل منهما بما قسمه الله له وليحاول الوصول إلى أفضل ما يمكن في حدود المتاح فليتق الله كل منهما في الآخر فإن الحياة السعيدة يبنيها كل منكما فتأملا الأساليب الآنفة الذكر وكررا سماعها وتعاهدا على المعاشرة بحلوها ومرها فأنت بسحرك الحلال وأنت بفن التعامل وحسن الخلق وإلا فقد تتعرض الأسرة إلى هزات عنيفة كثيرا ما تؤدى إلى زعزعة أركانها وتشريد أطفالها.
أسأل الله عز وجل أن يجمع بين كل زوجين أن يجمع بين كل قلبي زوجين على خير وأن يبارك لهما في حياتهما وأن يسعدهما في الدنيا والآخرة هو ولى ذلك و القادر عليه.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كبيرا.(/11)
السحر والمشعوذون .. والمنجمون
علي بن عبدالعزيز الشبل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
السحر هو الخفاء وما لطف من الأسباب، ولهذا سمي آخر الليل سحرا، وسمي الكلام البليغ، والبيان الآخذ للقلوب سحرا.وهو في الاصطلاح الشرعي: عزائم ورقى وتعويذات ينفث فيها الساحر بمعونة ماردي الجن، فتؤثر في المسحور بإذن الله، كما قال - سبحانه - في آية البقرة: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله.. } [البقرة: 102].
والسحر هذا الداء الخطر للقلوب والأبدان، والناقض لدين الله الإسلام، له أنواع عديدة بحسب واعتبار أنواع تأثيره ووقوعه: فالسحر التخيلي هو ما يخيل لعين المسحور مما لا حقيقة له كسحر سحرة فرعون لما ألقوا حبالهم وعصيهم، فخيل إليهم أنها تسعى، ومنه بعض أعمال السيرك. - وهناك سحر حقيقي مؤثر في المسحور في قلبه أو بدنه أو نفسيته أو ماله. - وهناك سحر الصرف بالتفريق بين المتوادين من زوجين أو صديقين أو شريكين. - ونوع آخر هو سحر العطف كما تفعله بعض النساء لعطف من تحبه إليها. وهذا السحر داء قديم أفسد القلوب والمجتمعات والأفراد من القديم، ولم يزل أهله يتوارثونه عن فاسد سابقيهم.. هذا الفساد والإفساد، بل أضحى للسحر وأهله تجمعات وبلدان، ومؤسسات ومنظمات ترعاه وتدرسه وتنشره بين الناس. والطريقة الشرعية لحل وإزالة السحر عمن وقع عليه، لها جهتان:
1- ما كان علاج المسحور بالطرق الشرعية وذلك بالقرآن، حيث يقرأ على المسحور آيات توحيد الله، ولإبطال السحر وكتب المردة من الشياطين. ومنه علاج المسحور بالأوراد والأذكار النبوية الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلاجه بما دل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - باستخدام السدر ونحوه.
2- وعلاج السحر بالأمور المباحة التي عرف بالتجربة نفعها، وخلوها مما يشوب العقيدة أو يفسدها من بدع أو قادح أو خرافة، أو ما كان طريقه إليها باستخدام المرة أو الشب أو الأدوية المباحة غير المشتملة على نجاسة أو خرافة..
النشرة هي حل السحر عن المسحور، ونشره عنه، وهي على نوعين من ناحية الحكم:
1- حل السحر عن المسحور بالوسائل الشرعية والمباحة، وهذا مشروع كما حل السحر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سحره لبيد بن الأعصم اليهودي، وذلك بحل السحر ونشره عن المسحور بالقرآن أو بالأحاديث والأذكار أو بالأدوية المباحة أو السدر أو أنواع العلاجات من مشروبات ومطعومات مباحة ليس فيها قدح بالعقيدة.
2- وهناك حل السحر عن المسحور بسحر آخر مثله، بأن يذهب لساحر أو كاهن ليعمل سحرا آخر يبطل به السحر الأول، وهذا حرام متأكد تحريمه ولا يجوز، لما روى أحمد بسند جيد عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن النشرة؟ فقال: هي من عمل الشيطان. وذلك لأن الناشر والمنتشر يتقرب إلى الجن بما يحبون، فيخدمونهم. وأيضا لأن إبطال السحر بسحر مثله يفيد تسويغ السحر وعمله وانتشاره. ولعموم ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: (اجتنبوا السبع الموبقات، وذكر منها السحر) متفق عليه، وللنسائي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: (من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه). والله - جل وعلا - يقول عن السحر: {.. ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق.. } أي ليس له دين ونصيب بحبوط عمله. جاء في الأثر المشهور عن الحسن البصري - رحمه الله - وهو قوله: (لا يحل السحر إلا ساحر)، وهذا معناه عند العلماء: حل السحر بسحر مثله، وهو عمل السحرة والكهان. أما ما جاء عن سعيد بن المسيب - رحمه الله - لما قيل له: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، أما ما ينفع فلم ينه عنه) ا. هـ. فالمراد به الأدوية المباحة، والعلاجات التي ليس فيها استخدام سحر يفسد العقيدة والدين.
أعظم المفاسد والمخاطر من إتيان السحرة لإفساد الدين بناقض من نواقض الإسلام،(/1)
والسحر من نواقض الإسلام المشهورة لخمسة مؤكدات جاءت في آية البقرة. ومن المفاسد أن تصديق الساحر كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الوحي - القرآن، لما روى مسلم في صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: (من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما)، ويفسر هذا الحديث ما روى أبو داود وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: (من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وللأربعة، والحاكم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -). كما فيه من المفاسد الهم النفسي العظيم، والخسارة البدنية، والمالية لهؤلاء السحرة والدجالين من المبتلين المساكين. إذا جمعوا بين إفساد الدين وإفساد الدنيا ولا حول ولا قوة إلا بالله. وعلى هذا كله فإن من أتى إلى ساحر أو كاهن أو عراف أو منجم أو مدع علم غيب لينظر ما عنده أو يهزأ مما لديه، فهو معرض للوعيد، وقد أتى أمرا محرما ومن كبائر الذنوب. لما روى أحمد وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أتى عرافا فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوما) فمجرد سؤاله مازحا أو لاعبا أو جادا يرتب هذا الوعيد الخطير. فإذا سأله ثم صدقه بما يقول فقد وقع الكفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، حيث صدقه مدع للغيب، وهذا شرك وإشراك في توحيد الربوبية. ثم يا أيها الإخوة من علم عن ساحر أو ساحرة وتحقق من علمه عنهم وتأكد، أو مشعوذ أو كاهن أو منجم أو عراف أو قارئ ومخرف يستعين بالشياطين فالواجب علينا أمور:
1- إنكار ذلك في قلوبنا وجوارحنا إنكارا عظيما لمصادمة أصل ديننا في عقيدة وحدانية الله بعلم الغيب، وبالنفع والضر.
2- الإنكار عليه والاحتساب عليه إن كانت لفاعليه سلطة، كما لرفع هذا السحر والدجل من خدمنا ومن تحت أيدينا، أو إبلاغ جهات الحسبة من هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو مراكز الشرطة، براءة للذمة وسلامة للعقيدة.
3- بيان خطر هؤلاء بأعيانهم وبجنسهم للناس وتحذيرهم من أعمالهم والقدوم عليهم، وتشويه صورهم لدى المسلمين صغارا وكبارا لينشؤوا على كرههم وبغضهم والحذر منهم، سلامة للديانة وحفظا للمال والجسد والحال، والله المستعان.
http://www.aldaawah.com المصدر:(/2)
السخرية والاستهزاء بالمسلم من كبائر الذنوب
أخي الكريم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه رسالة من أخ ناصح لك مشفق عليك يتمنى لك الفلاح في الدنيا والآخرة
أخي :
هل تعلم أن الاستهزاء بالمسلم من كبائر الذنوب ، قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم} الآية وقد أجمع العلماء على تحريم ذلك وفي كونه كبيرة مجال للنظر ، مع أنه قد روي عن ابن عباس في قوله تعالى : {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها} [ الكهف : 49 ] قال : الصغيرة التبسم ، والكبيرة الضحك على حالة الاستهزاء وهذا تصريح بأن ذلك من الكبائر ، وقال الغزالي في قول ابن عباس هذا إشارة إلى أن الضحك على الناس من الجرائم والذنوب واعلم أن معنى السخرية الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على من يضحك منه ، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول ، وقد يكون بالإشارة والإيماء ، وقد يكون بالضحك كأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه أو غلط أو على صنعته أو قبح في صورته ، ونحو ذلك ، وقد خرج البيهقي عن الحسن البصري رحمه الله عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال : ((إن المستهزئين بالناس ليفتح لأحدهم باب الجنة فيقال هلم فيجئ بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه ثم يفتح له باب آخر فيقال : هلم هلم فيجئ بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه فما يزال كذلك حتى أن الرجل ليفتح له الباب ، فيقال هلم هلم فلا يأتيه من اليأس)) انتهى .
وقال بعض أئمة التفسير في قوله تعالى : {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} [ الحجرات : 11 ] من لقب أخاه وسخر منه ؛ فهو فاسق حكاه القرطبي .
أخي :
وهذه فتاوى جمعتها لك من كلام بعض العلماء :
س1- أرى كثيراً من الشباب إذا رأوا الشاب المحافظ على صلاته ودينه يستهزئون به ، وأرى كذلك بعض الشباب هداهم الله يتكلمون عن الدين باستهتار وعدم مبالاة ، فما القول في ذلك ، وهل تجوز مجالستهم والمرح معهم في أوقات ليس فيها وقت صلاة ؟
جـ - الاستهزاء بالإسلام أو بشيء منه كفر أكبر ، قال الله تعالى : {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} الآية .
نسأل الله للمسلمين جميعاً العافية من كل ما يخالف شرعه ، كما نسأله سبحانه أن يعافي المسلمين جميعاً من شر أعدائهم من الكفرة والمنافقين ، وأن يعينهم على التمسك بكتابه سبحانه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- في جميع الأحوال ، إنه جواد كريم
س2- ما حكم الاستهزاء بالملتزمين بأوامر الله ورسوله ؟
جـ2 - الاستهزاء بالملتزمين بأوامر الله ورسوله لكونهم التزموا بذلك محرم وخطير جداً على المرء ، لأنه يخشى أن تكون كراهته لهم لكراهة ما هم عليه من الاستقامة على دين الله وحينئذ يكون استهزاؤه بهم استهزاء بطريقهم الذي هم عليه فيشبهون من قال الله عنهم : {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}.
فإنها نزلت في قوم من المنافقين قالوا : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء - يعنون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء ؛ فأنزل الله فيهم هذه الآية فليحذر الذين يسخرون من أهل الحق لكونهم من أهل الدين ، فإن الله سبحانه وتعالى يقول {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون}(/1)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. في هذه الليلة الطيبة المباركة ليلة الاثنين الموافق الحادي والعشرين من شهر رجب لعام ألف وأربعمائة وأربعة عشر للهجرة في جامع ابن عيد في مدينة <الدوائم> المباركة ألتقي وإياكم على مائدة من موائد النبوة وعلى ذكر نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا به جميعا.
أشكر الله جل وعلا وأحمده على تيسير هذا اللقاء ثم أشكر أولئك الرجال المجهولين الذين يعملون ليل نهار لا يرجون نحسبهم كذلك من الناس جزاء ولا شكورا وإنما رجاؤهم بالله جل وعلا الإخوة القائمين على مكتب الدعوة في هذه المدينة فهم الذين تسببوا في هذا اللقاء فشكر الله سعيهم ووفقهم وسدد خطاهم ورعانا وإياكم أجمعين.
أيها الأحبة موضوع هذا اللقاء السر في حياة النبلاء أو إن شئت فقل السر العجيب فيا ترى ما هو هذا السر؟ إن حديثي هذه الليلة هو حديث للقلوب ولعله أن يكون إن شاء الله حديث من القلب للقلب ولذلك يشترط أن يخلو القلب من أمور الدنيا ومن زينتها جئتم وجلستم في بيت من بيوت الله ليكون الحديث طيبا والقلب مصغياً يبعد الهواجس وملذات الدنيا خلال هذه الساعة جرب مع نفسك أن تترك الدنيا خلف ظهرك هذه الساعة وتعال واسمع ونحن نصول ونجول ونبحث في السر في حياة أولئك الرجال الذين هم أموات في قبورهم ولكنهم أحياء في ذكرهم ونحن نسمع ليل نهار تلك الأسماء على المنابر وعلى كل لسان وفى بطون الكتب وفى كل مكان فلا إله إلا الله من أحيا هذه الأسماء وهذه هي والله الحياة الحقيقية أيها الأخيار .
أول عناصر هذا الموضوع السر العجيب يتحدث إلى القلب عذراً أيها القلب أعرفتني لا تقل إنك لا تعرفني فقد وقفت على مشارف أسوارك وقرعت أبوابك كثيراً كنت أحوم لأجد منفذاً أنفذ إليك منه إيه أيها القلب لقد أصبحت أقسى من الحجر لماذا تحاول الهروب مني ولماذا هذا الصدود عني فكلما هممت بأمر سوء حاولت الوقوف أمامك لتراني لتذكرني لترجع عن همك لكنك تتجاهلني كأنك لا تراني ويحك أيها القلب إنني السر العجيب في حياة القلوب ويحك إنني السر العجيب في ترك الفجور والهوان إنني أريدك أن تحيا حياة السعداء أريدك أن تكون علما من الأعلام وصالحا من الصالحين أريدك أن تكون مباركا أينما كنت في أعمالك وأقوالك.
تعال أيها القلب تعال واسمع لحياة النبلاء وسير الرجال يوم أن كنت أتربع على العرش في قلوبهم وأصول وأجول في صدورهم..
كانوا جبالاً في الجبال وربما
صاروا على موج البحار بحارا
لمعابد الإفرنج كان أذانهم
قبل الكتائب يفتح الأمصارا
كانوا يروا الأصنام من ذهب
فتهدم ويهزم فوقها الكفارا
لن تنسى أفريقيا ولا صحراؤها
سجداتهم والأرض تقذف نارا
اسمع أيها القلب يوم أن فتح لي أولئك الرجال قلوبهم فأصبحوا سادة في كل شيء نعم في كل شيء ذكر[ الذهبي ] في سير أعلام النبلاء قال: قال [الحسن بن عيسى] مولى [ابن المبارك] اجتمع جماعة فقالوا تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير فقالوا العلم والفقه والأدب والنحو واللغة والزهد والفصاحة والشعر وقيام الليل والعبادة والحج والغزو والشجاعة والفروسية والقوة وترك الكلام في ما لا يعنيه والإنصاف وقلة الخلاف على أصحابه والتجارة وسخاء النفس والتصديق والورع والتقى وكل ذلك عنده وأكثر
إذا سار عبد الله من مرو ليلة
فقد سار منها نورها وجمالها
إذا ذكر الأحبار في كل بلدة
فهم أنجم فيها وأنت هلالها
أسمعت أيها القلب بفضل الله ثم بفضلي أنا السر العجيب كان كل ذلك
فهل عرفتني؟
بل تعال واسمع لعلم ثان من هؤلاء النبلاء إنه[ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري] مؤرخ مفسر محدث مقرئ فقيه أصولي من أكابر الأئمة المجتهدين قال [الخطيب البغدادي] فيه كان أحد أئمة العلماء ويحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره وكان حافظا لكتاب الله عارفا بالقراءات وفيرا بالمعاني فقيها في أحكام القرآن عالما بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها عارفا بأقوال الصحابة وأقوال التابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام عارفا بأيام الناس وأخبارهم وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك وكتاب في التفسير أو لم يصنف أحد مثله انتهى كلام الخطيب .(/1)
أسمعت أيها القلب ألا تسأل ما هو السر في حياة النبلاء إنه أنا السر العجيب فأين أنت من أولئك قل لي هلا ذكرت لي منقبة واحدة من تلك المناقب واحدة فقط من كل منقبة واحدة من جل المناقب فيك أيها الأخ مسكين أيها القلب أنت غرقت في الشهوات والملذات أصابك الكسل والخمول أصبحت عبداً للدنيا دون أن تشعر كل ذلك يوم هجرتني أيها القلب إن الأمثلة في حياة النبلاء كثيرة وطويلة ولكن خذ مثلاً ثالثاً وأخيراً لتقنع أسمعت[ بابن تيميه] لا شك نعم إذا فاسمع كلام [ابن سيد الناس] فيه قال عنه كاد يستوعب السنن والآثار حفظا إذا تكلم في التفسير فهو حامل رايته أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وروايته أو حاضر في النحل والملل لم تر أوسع من مشيته في ذلك ولا أرفع من درايته برز في كل فن على أبناء جنسه ولم تر عين من رآه مثله إلى آخر ما قال عنه.
وهو العالم المجاهد العابد الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر فعجيب أمر أولئك الرجال جمعوا الخير كله جمعوا الخير كله لكنه السر العجيب الذي حولهم إلى أعلام وأبطال فافتح لي أبوابك أيها القلب وتذكرني جيداً واجعلني ملازما لك في كل حال تنال الخير كله في الدنيا والآخرة فهل عرفتني أيها القلب أو ما زلت تجهلني لا شك أنك عرفتني فالآن أتركك وسأرجع إليك بين الحين والحين حتى تعد لي منزلا في سويداك أيها القلب.
العنصر الثاني أهمية السر في طريق الصحوة:
ولعلى نسيت أن أقول لكم أن هذه المحاضرة هي المحاضرة الثالثة في سلسلة تلقى بعنوان الإصلاح على طريق الصحوة كانت الأولى بعنوان سلامة الصدر مطلب وكانت في <الزلفى > والثانية تعال نتعاتب فكانت في <الرس> وهذه هي الثالثة فتعال وانظر يا أخي الحبيب لأهمية السر في طريق الصحوة وأقصد به هذا السر العجيب.
إن الجميع بحاجة لهذا السر كباراً وصغاراً نساء ورجالا علماء ومتعلمين مع شدة غفلتهم عنه ويعجبك أجسام أولئك الرجال رجال الصحوة وأشكالهم وأحوالهم لكنك تبحث عنهم في الميدان لأعمال لترى الأعمال فتجد الخمول والكسل والهوان إن هذا السر مهم جداً ومؤثر فعال في حياة شباب الصحوة والدعاة إلى الله جل وعلا وما أكثرهم والحمد لله فنسأل عن السبب في هذا الخمول والكسل والهوان فإذا هو هذا السر نقرأ الآيات فلا قلب يتأثر ونسمع الأحاديث والمواعظ فلا عين تدمع ننظر للقصص والعبر فلا جسد يقشعر ويخشع نحمل الموتى وندخل المقابر ونخرج والقلب هو القلب ونسمع أنين الثكالى وصرخات اليتامى والأحداث في الشرق والغرب تتوالى والقلب هو القلب لا إله إلا الله، لا إله إلا الله ماذا أصاب هذا القلب فنسأل عن السبب ونبحث عن العلاج فإذا هو أيضا في هذا السر.
أصبحنا نكذب وأصبحنا نغتاب وأصبحنا نأكل الشبهات وربما المحرمات فنسأل عن السبب فإذا هو غيبة هذا السر، هذا السر أيقظ مضاجع الصالحين وأزعج قلوبهم وأسال دموعهم فعرفوا حقيقة الحياة هذا السر يحفظ الأمن والأمان وتكثر الخيرات وتنزل البركات وبغيبته ينتشر الفساد ويعق الأولاد فهل عرفتني أيها الأخ الحبيب لابد أنك عرفتني إنني الحارث الأمين لقلبك المسكين إنني المراقب ولكني لست المراقب الإداري ولست المراقب الصحي لا فأنا المراقب الشرعي إنني مراقبة الله، إنني مراقبة الله أو الخوف من الله أو إن شئت فقل الخشية أو التقوى فلا بأس فكلنا من عائلة واحدة المهم أن تعرف أنك بحاجة في كل لحظة فاتق الله حيثما كنت وانتبه لقوله جل وعز (وما ربك بغافل عما تعملون) (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) وردد يا أخي الحبيب في كل لحظة (وكان الله على كل شيء رقيبا) وتذكر أنه (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) ويا أخي الحبيب أين المفر (وهو معكم أينما كنتم) وويل لذلك العاصي (ألم يعلم بأن الله يرى)
وداو ضمير القلب بالبر والتقى
فلا يستوي قلبان قاس وخاشع
فاسمع لما يقال رعاك الله آثار هذا السر في حياة السلف:
وبعد أن تهيأت أيها القلب وسمعت لهذه التقدمة ولعلك لنت إن شاء الله فتعال واسمع وانظر ما هي آثار هذا السر العجيب في حياة أولئك الرجال كيف قلبها فأصبحت حياة حقيقية حياة ذات معنى وذات روح ؟(/2)
الأثر الأول: استشعار عظم الذنب مهما كان صغيرا أو كبيرا نعم ما زال هذا السر وهو مراقبة الله وخوف الله في قلوب الصالحين وقلوب أولئك الرجال حتى جعلهم يستشعرون عظم الذنب مهما كان هذا الذنب كان صغيرا أو كبيرا نعم فإن من يخاف الله ويراقب الله هو صاحب مبدأ وصاحب عقيدة وصاحب لا إله إلا الله ولا يهمه الذنب إن كان كبيرا أو صغيرا المهم أنه أخطأ ووقع في الذنب فإذا أخطأ فسرعان ما يرجع سرعان ما يتوب سرعان ما يندم والبشر كلهم خطاءون وخير الخطاءين التوابون. عن [ابن مسعود] قال " إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا –فأشار [أبو شهاب] راوي الحديث بيده- فطار" أي طار ذلك الذباب أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب التوبة وهذا شأن المسلم دائم الخوف والمراقبة يستغفر ويستصغر عمله الصالح ويخشى من صغيرها السيئ والقبيح.
تعال وخذ أمثلة تعال ننتقل لحياة أولئك النبلاء لترى هذا الأثر جليا واضحاً في حياتهم في سلوكهم وتصرفاتهم في أقوالهم وأفعالهم صغيرها وكبيرها.
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدوتنا وحبيبنا روى البخاري في صحيحه في كتاب اللقطة باب إذا وجد تمرة في الطريق من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة علي فراشي فأرفعها لآكلها ـ الرسول يقول ذلك ـ فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها " سبحان الله هذه هي المدرسة المحمدية التي تخرج منها أولئك النبلاء فرسول الله يرسم الخطوط العريضة بالتعامل مع الله بالتعامل في هذه الدنيا في أي أمر من أمورها حتى ولو كانت تمرة حتى ولو كانت تمرة لم يأكلها صلى الله عليه وآله وسلم لماذا ألأنها من تمر الصدقة ؟ لا لأنه خشي أن تكون من تمر الصدقة خشي أن تكون من تمر الصدقة..
القضية عند رسول الله شبهة صلوات الله وسلامه عليه فلم يأكلها بأبي هو وأمي رسول الله.
وفى حديث آخر وفي القصة نفسها وأخرجه أحمد من طريق [عمرو بن شعيب] عن أبيه عن جده قال "تضور النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ـ أي توجع وتقلب ـ فقيل له ما أسهرك؟ قال : إني وجدت تمرة ساقطة فأكلتها ثم ذكرت تمرا كان عندنا من تمر الصدقة فما أدري أمن ذلك كانت التمرة أو من تمر أهلي فذلك أسهرني" فذلك أسهرني، الله أكبر هو السر العجيب الذي تربى عليه أولئك الرجال تمرة تمنع صاحبها ،قد يقول قائلنا في هذه الدنيا هي تمرة ولكنه المبدأ الذي يحمله صاحب لا إله إلا الله في قلبه يتعامل به مع الكبير والصغير مع العالم والمتواضع في أي مكان كان.
ومثل آخر لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه أخرج البخاري في صحيحه في مناقب الأنصار باب أيام الجاهلية من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج أي يأتيه بما يكسبه من بيعه وشرائه وكان أبو بكر يأكل من خراجه أي من كسب هذا الغلام فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام أتدري ما هذا فقال أبو بكر وما هو قال الغلام كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت منه فماذا فعل أبو بكر الصديق أيضا القضية شبهة عند أبي بكر رضي الله عنه ثمن كهانة تكهنها غلامه في الجاهلية ومع ذلك وهو قد أكل الطعام فماذا فعل الصديق رضي الله تعالى عنه تقول عائشة فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه أدخل أبو بكر يده في فيه فقاء كل شيء في بطنه هكذا الورع هكذا التقى هكذا مراقبة الله جل وعلا يا أخي الحبيب لا يريد أن يختلط في بطنه أو أن يبني جسده على شيء من الشبهات فضلا على شيء من المحرمات فأين الناس اليوم من هؤلاء.(/3)
مثل ثالث أو أثر ثان وهذا الأثر هو بيوت تتربى على الورع ومراقبة الله نعم إن مما أحدثه هذا السر العجيب أن جعل بيوتا كاملة رجالها ونساءها صغارها وكبارها تتربى على الخشية والورع ومخافة الله ولذلك يذكر لنا [القصطلاني] في إرشاد الساري يقول أن امرأة جاءت إلى [الإمام أحمد] والإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة وناصر السنة وقامع البدعة رضي الله تعالى عنه ورحمه صاحب الورع والتقى فقد ألف كتاباً اسمه الورع جاءت المرأة لتسأل الإمام أحمد سؤالا جعل الإمام يبكي هذا السؤال جعل الإمام أحمد يبكي فتقول المرأة واسمع للسؤال جيداً إننا نغزل على سطوحنا فيمر بنا مشاعل الظاهرية ـ أي نور الحرس الذين يجوبون الطرقات بالليل ـ ويقع الشعاع علينا ـ يعني لحظات ـ أفيجوز لنا الغزل في شعاعها أرأيت دقة المسألة ويذكرها ابن المبارك في كتابه بلفظ آخر في كتابه الزهد والرقائق فيقول إن المرأة قالت للإمام أحمد يا إمام إنني أغزل في السطح على ضوء السراج وربما انطفأ السراج فأغزل على ضوء القمر أفيجب علي يا إمام عند بيعي لغزلي أن أبين للمشتري ما غزلته تحت السراج مما غزلته تحت ضوء القمر سبحان الله!! إلى هذا الحد يبلغ الخوف من الله ومراقبة الجبار في قلوب أولئك الرجال هذه امرأة فأين نساؤنا من هذه المرأة هكذا مراقبة الله فيبكي الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه من هذا السؤال ويقول لها من أنت يا أمة الله من أنت عافاك الله فتذكر أنها أخت لـ[بشر الحافي] فيبكي ويشتد بكاؤه ويقول: من بيتكم يخرج الورع الصادق.
نعم يوم أن كانت أمة المسلمين تتربى على الورع وعلى خشية الله وخوف الله تعال وانظر لبيوت المسلمين على أي شيء تتربى اليوم...
نعم أيها الولي ستسأل من الجبار لا من البشر ستسأل عن وسائل التربية التي ربيت عليها قلوب أهل بيتك فبماذا ستجيب أبالتلفاز أم بالمجلات أم بالأفلام أم بأشرطة الغناء أم بماذا ستكون الإجابة كيف تريد أن تكون المرأة صالحة والفتاة خاشية لله والابن مراقب لله سبحانه وتعالى كيف تريد الصلاح وهذه هي وسائل التربية اسمع يقول سليمان بن حرب سمعت [سلمان بن زيد] يقول كنت مع أبى فمررت من حائط فيه تبن وقد كنت صغيرا آنذاك فأخذت عود تبن ـ أي من الحائط ـ فوقف أبي وقال لي لم أخذت كأنه ينهرني فقلت إنما هي تبنه ببراءة الصغير أي لا تساوى شيئا فقال له أبوه يا سلمان لو أن كل إنسان أخذ تبنة هل كان يبقى في الجدار تبن؟ هكذا يربون أبناءهم وصغارهم على أحقر الأشياء وأصغرها حتى إذا شب وعقل لا تمتد يده علي أي شيء مهما كان كبيرا أو صغيرا هذه هي التربية بيوت تربت على الخوف والورع.
بائعة اللبن وما أدراك ما بائعة اللبن قصة مشهورة معلومة معروفة عند الجميع قرأناها عندما كنا صغارا تتكرر علينا كثيرا لكنها تبحث عن الموجه ليوجه هذه القصة للناس وتبحث عن الأب ليربي أبناءه علي هذه القصة فيذكرها ويستخرج الدروس والعبر منها لزوجه لابنته لطفله لنفسه..
عمر بن الخطاب كان ليلة من الليالي يعس في شوارع المدينة فاتكأ على أحد بيوتات المدينة فسمع الحوار التالي بين الأم وابنتها:
تقول الأم: يا بنية أمزجت اللبن بالماء ؟
فتقول البنية: يا أماه أما علمت أن أمير المؤمنين عمر قد نهى أن يمزج اللبن بالماء. فتقول الأم التي تعلق قلبها بالدنيا وبشهواتها وملذاتها والقلب يغفل والعين تغفل فتقول الأم التي غفلت: يا بنية وما يدري أمير المؤمنين عمر بنا !!
نعم من كان يراقب الناس فإن الناس يغفلون وينامون والناس بشر وعرضة للسهو والخطأ فتأتى الإجابة من قلب تلك الفتاة الصغيرة البريئة التي تربت على خشية الله وخوف الله تأتي لتصرخ وتقول لأمها: يا أماه إن كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا..
الله أكبر على هذه القلوب التي تتربى في سرها وعلنها هكذا هي التربية هكذا والله يا عزة الإسلام عندما يرتعد هذا القلب ويشعر بالحرية والعبودية لله جل وعلا.
قصة رابعة وما أكثر تلك البيوت التي تربت على خشية الله وخوف الله ومراقبة الله عمر أيضا كان يعس كعادته رضي الله تعالى عنه وستأتي لنا سيرة عمر إن شاء الله أو شيء منها كان يعس في شوارع المدينة وأيضا يتكئ على جدار من بيوتاتها وفى ظلمة الليل يسمع أنين تلك المرأة التي تخاطب نفسها وهي على فراشها وقد ذهب زوجها مع جيش المسلمين جنديا في سبيل الله فغاب عنها طويلا فإذا بالمرأة تتمثل هذه الأبيات فتقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه
وأرقني ألا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا شيء غيره
لحرك من هذا السرير جوانبه
يعني بالزنا والعياذ بالله
فو الله لولا الله لا شيء غيره
لحرك من هذا السرير جوانبه0
ولكن ما هو السر العجيب
ولكن تقوى الله عن ذا تصدني
وحفظي لبعلي أن تنال مراكبه(/4)
الله أكبر ما أحلى هذا البيت وما أكبر اطمئنان قلبك يا أخي الحبيب وأنت تغادر باب المنزل وقد خلفت امرأة صالحة تخشى الله وطفلا صغيرا يراقب الله وذرية تدمع من خشية الله هكذا تكون بيوت المسلمين وهكذا يكون الوجل والخوف من الله
الأثر الثالث من آثار هذا السر العجيب في حياة النبلاء كثرة الخلوة بالنفس والدمعة المباركة كثرة الخلوة بالنفس نقرأ في سير أولئك الرجال في أولئك سرا أو في حياة أولئك النبلاء نجد كثرة خلوتهم بأنفسهم في ظلمة ليل أو في قطع من خلاء ثم سرعان ما تسيل الدموع على الخدود ما الذي أحدث هذا الأثر إنه السر العجيب رقابة الله وخشية الله جل وعلا.
ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما في الحديث الصحيح "رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه" تأمل هذه الصورة جيدا أيها القلب تفكر في هذه الصورة جيدا ذكر الله خاليا ففاضت عيناه هل مرت عليك هذه اللحظة؟ هل شعرت يوما من الأيام بهذا الموقف؟ هل وقفت ليلة من الليالي وتمثلت هذه الصورة؟ إن الرجال الصالحين وشباب الصحوة والدعاة من الرجال والنساء بحاجة شديدة لهذه الخلوة لننظر إلى أنفسنا وفى عملنا وقولنا وننظر إلى حقيقة أمرنا وسلامة صدورنا إننا بحاجة لهذه الصورة بحاجة لهذا الموقف نذكر نعمة الله ومنته علينا إننا أيها الأخيار بحاجة ماسة وصادقة وملحة لتلك الدمعة الغالية وتلك الدمعة الحارة التي تسيل على الخد في لحظة خلوة بتذكر نعمة الله ثم تذكر عظم الذنب والتقصير في حق الله فلعل الدمع أن يأتي ولعل القلب أن يلين فيترجم ذلك إلى الدمعة الحارة الغالية ما أحوج قلوبنا لمثل هذه الدمعة التي فقدناها في مثل هذا العصر.
إن عمر بن الخطاب وما أدراك ما عمر أمير المؤمنين ما قرأت يوما في سيرة هذا الرجل وأخطأ دمع العين مجراه نعم لا تقل إنه رجل مشهور لا تقل إن عمر رجل مشهور لا، اقرأ في سيرته فتجد العجب العجاب في حياة ابن الخطاب رضى الله تعالى عنه عمر الذي كان في الجاهلية أقسى قلبا وأغلظه كان يرعب المسلمين فيجلس لهم في الطرقات وفوق الأشجار فيرمي عليهم الأشواك والأحجار حتى وصل الحقد والجفاء في قلب عمر إلى أن يحمل السيف مصلتا ليقتل به أعز البشر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهل بعد هذا الحقد حقد ؟ لا ومع ذلك تدخل لا إله إلا الله وتفعل الأعاجيب في قلب هذا الرجل تدخل رقابة الله لتجعل هذا القلب من قلب قاس غليظ كالحجر إلى قلب رقيق لين قريب الدمعة سريع الدقة رضى الله تعالى عنه وأرضاه حتى أن عمر قال عنه صلى الله عليه وآله وسلم يا عمر إذا رآك الشيطان من فج سلك فجا آخر تخاف منه الشياطين وبشره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة فهو من العشرة المبشرين ومع ذلك هل اتكل على هذا لا بل كان إمام الخاشعين والخائفين رضى الله تعالى عنه وأرضاه.
ويروى [ابن أبى شيبة] في مصنفه أن عمر يأتي لـ[حذيفة] ويقول له يا حذيفة قل لي بالله أعدني رسول الله من المنافقين ؟ سبحان الله يتهم نفسه بالنفاق رضى الله عنه وأرضاه.
عمر كان يمر بالآية في ورده فتخنقه فيبقى في البيت أياما يعاد يحسبونه مريضا كما ذكر ذلك الإمام أحمد في كتاب الزهد.
وعمر يذكر الذهبي في السير من صفاته أنه كان في خديه خطان أسودان من أثر البكاء من خشيته لله رضى الله عنه وأرضاه قرأ يوما (إذا الشمس كورت) حتى انتهى إلى قوله تعالى (وإذا الصحف نشرت) فخر مغشيا عليه رضى الله تعالى عنه وأرضاه هذا هو عمر يأخذ عود نبات فيقول يا ليتني كنت هذا العود يا ليت أم عمر لم تلد عمر يا ليتني كنت شجرة تعضد أي تقطع سبحان الله أهذا الخوف وهذه الخشية تخرج من عمر المبشر بالجنة فأين نحن من أنفسنا أيها الأخيار نراجع قلوبنا أيها الأحبة..
فمن يبارى أبا حفص وسيرته
أو من يحاول للفاروق تشبيها
يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها
من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
وهو أمير المؤمنين
يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها
من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
لا تمطتي شهوات النفس جامحة
فكسرة الخبز عن حلواك تجزيها
وهل يفي بيت مال المسلمين بما
توحي إليك إذا طاوعت موحيها
أي طاوعت نفسك
قالت الزوجة:
قالت لك الله إني لست أرزؤه
مالي بحاجة نفس كنت أبغيها
يعني لم أكن أعتمد على بيت مال المسلمين إنما هو مال عندنا أي سأشتري الحلوى من مال كان موجودا عندي.
قالت أي الزوجة:
قالت لك الله إني لست أرزؤه
مالي بحاجة نفس كنت أبغيها
يقول لها عمر
ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى
فقومي لبيت المال رديها
سبحان الله وهو مالها
ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى
فقومي لبيت المال رديها
قد فر شيطانها لما رأى عمر
إن الشياطين تخشى بأس مخزيها
هذى مناقبه في عهد دولته
للشاهدين وللأعقاد أحكيها
في كل واحدة من هن نابلة
من الطبائع تغدو نفس راعيها
لعل في أمة الإسلام نابتة
تجلو لحاضرها مرآة ناظرها
حتى ترى بعض ما شابت أوائلها
من الصروح وما عاناه بانيها
وحسبها أن ترى ما كان من عمر(/5)
حتى ينبه منها عين غافيها
رحمك الله يا عمر وفى الحديث عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم "لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع" فبشراك يا أخي الحبيب..
أحمد بن حنبل رضى الله تعالى عنه وأرضاه وهو صاحب الورع والخشية يوما من الأيام كان جالسا مع تلاميذه يحدثهم فاقشعر بدنه وشعر بحلاوة الإيمان فقام وتأخر على التلاميذ وذهب أحد التلاميذ ليرى أين ذهب الإمام فاقترب من باب الغرفة أو الحجرة فوجد وسمع الإمام أحمد يتمثل البيتين ويبكي بكاء شديدا رضى الله تعالى عنه سمع الإمام أحمد يقول:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل
خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
ولا أن ما تخفي عليه يغيب
الإمام أحمد يختلي بنفسه ويردد هذين البيتين ما أحوجنا أيها الأحبة لترداد هذين البيتين والخلوة بالنفس والدمعة المباركة في مثل هذا الوقت.
ذكر الذهبي في السير أن [القاضي الحسين] حكى عن [القفال] أستاذه أنه كان في كثير من الأوقات يقع عليه البكاء حالة الدرس يعني وهو يلقى الدرس
أن القفال كان كثيرا من الأوقات يقع عليه البكاء في حالة الدرس ثم يرفع رأسه ويقول أي القفال ما أغفلنا عما يراد بنا فأين نحن من هذا وأين المدرسون عن هذا أين المربون الذين يربون أبناء المسلمين على هذه الخشية وعن هذا الورع إنك تجول ببصرك في مدارس المسلمين شرقها وغربها وترى سمات الصلاح والتقى والورع على كثير من المدرسين والمدرسات فتسمع ذلك الذي يتناقله القريب والبعيد بوجود الصالحين والصالحات ولكنك تتساءل دائما سبحان الله أين البركة أين الأثر أين أثر أولئك على أبناء المسلمين أين البصمات أين الأطفال الذين تربوا على خشية الله قليل أولئك.
فإذا كان كذلك فلماذا لا نسأل عن السبب ولماذا لا نحاسب النفس ولماذا لا نبحث عن العلاج ؟
في قصة تربوية يذكرها بعض علماء التربية أن شيخا قال لتلاميذه الصغار يا أبنائي ـ وهذه القصة رسالة للمدرسين والمدرسات ـ قال لهم يا أبنائي إذا كان من الغد فلا يأتي أحد منكم إلا وقد جاء معه بدجاجة قد ذبحها في مكان لا يراه فيه أحد فجاء التلاميذ من الغد وكل منهم قد علق دجاجة في يده اليمنى إلا غلاما واحدا فسأله الشيخ يا غلام أين الدجاجة ؟ فقال الغلام ـ اسمعوا التربية ـ فقال الغلام يا شيخ إنك قلت أن أذبح الدجاجة في مكان لا يراني فيه أحد وإنني دخلت الحجرة فوجدت أن أحدا يراني فصعدت السطح فوجدت أن أحدا يراني وما طرقت مكانا إلا وكان ذلك الأحد يراني فقال الشيخ من هذا الذي يراك فقال الصغير فقال القلب الخاشع لله إنه الله إن الله معي في كل مكان يراني.
أرأيت التربية فأين أنت يا أخي الحبيب أين أنت أيها المدرس الفاضل أين أنت أيها الداعية الصادق أين أنت يا أيتها المدرسة الصالحة أين أنتم من تربية أبناء وبنات المسلمين على مثل هذا السر العجيب إننا نحتاج إلى وقفة مراجعة ونظرة إلى النفس فإننا نسمع ونقرأ في حياة النبلاء أنه إذا كان الرجل الصالح لوحده في قريته ومدينته أصلح الله به أهل المدينة إذا فما دهانا وما بالنا وأين أثرنا وأين نتائجنا ؟ والله المستعان وإليه المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الأثر الرابع من آثار هذا السر العجيب في حياة النبلاء حمل هم الآخرة وتعلق القلوب بها نعم إن هذا السر مراقبة الله ما زال يفعل الأفاعيل في قلوب الصالحين حتى جعل تلك القلوب تتعلق بالآخرة فهمومها هي الآخرة وأحاديثها هي الآخرة ودندنتها هي حول الآخرة ولذلك أخرج [ابن ماجة] بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال "من كانت همه الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا راغمة ومن كانت همه الدنيا فرّق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له" أخرجه ابن ماجة بسند صحيح.
نسمع هذا الحديث ثم نرى الأمور الدنيوية هي حديث مجالسنا فتارة عن المشاريع التجارية وتارة عن المعمارية وتارة عن الوظيفة ودرجاتها وأخرى عن المركب وأخرى عن الملبس وأخرى عن المشرب وهكذا حتى الصالح من الناس إن حمل الهم فإذا هو هذا همه.(/6)
ابن المبارك رضى الله تعالى عنه وأرضاه كان يوما من الأيام جالسا مع تلاميذه ويروى هذه القصة [القاسم بن محمد] قال كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيرا ما كان يخطر ببالي ـ الذي كان يقول ذلك القاسم بن محمد ـ فأقول في نفسي بأي شيء فضل هذا الرجل علينا وقد سمعتم قبل قليل مناقب ابن مبارك في أي شئ فضل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس بهذه الشهرة إن كان يصلى إنا لنصلى وإن كان يصوم إنا لنصوم وإن كان يغزو فإنا لنغزو وإن كان يحج إنا لنحج قال وكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام ليلة نتعشى في بيت إذ انطفأ السراج فقام بعضنا لإصلاح السراج أي خرج للسراج لإصلاحه فمكث هنيهة ـ لحظة من الزمن ـ ثم جاء السراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته وقد ابتلت بكثرة الدموع فقلت في نفسي بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا ولعله فقد السراج فصار إلى الظلمة فذكر القيامة.
سبحان الله لحظة من لحظات هنيهة قد تعد دقائق أو لا تعد أو ثواني أو لا تعد فيرجع السراج فإذا الدموع قد ملأت وجه ولحية ابن المبارك رضى الله تعالى عنه.
قلوب حملت هم الآخرة تعلقت بالآخرة فإذا رأت ظلمة تذكرت ظلمة القبر وإذا رأت نارا تذكرت نار جهنم وإذا رأت نعيما وخضرة تذكرت جنان الفردوس هكذا القلب متعلق بهموم الآخرة يفكر في أحوال القيامة وكل أمر يلحظه في دنياه ويمر على مخيلته ينتقل مباشرة تنتقل تلك الصورة إلى مواقف القيامة وأحوال الآخرة.
ذكر الذهبي في السير أن [أشعب بن شعبة المصيصي] قال قدم [الرشيد] <الرقة> فانجفل الناس خلف ابن المبارك وتقطعت النعال وارتفعت الغبرة فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب فقالت ما هذا يعني ما هذه الغبرة وما هذا الجمع وهذا العدد من الناس قالوا عالم من أهل <خراسان> قدم قالت هذا والله هو الملك لا ملك هارون الرشيد هذا والله هو الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان.
وهكذا الخشية هكذا نتائج الخشية ومراقبة الله تورث المحبة للعبد في قلوب الناس وتضع له القبول في الأرض بكلمته.
وذكر أحمد في الزهد أن ابن مسعود مر على هؤلاء الذين ينفخون الكير فوقع رضي الله تعالى عنه وأرضاه وأنه مر مرة أخرى على الحدادين فبصر بحديدة قد أحميت فبكى رضى الله تعالى عنه وأرضاه. أرأيت القلب كيف يتعلق بالآخرة وبهمومها.
وذكر [ابن الجوزي] في صفة الصفوة أن [مطرا البرّاق] وصاحبه التابعي [هرم بن حيان] كانا يصطحبان أحيانا بالنهار فيأتيان صوب الرياحين أو الريحان فيسألان الله الجنة ويدعوان ثم يأتيان الحدادين فيعوذان بالله من النار ثم يتفرقان إلى منازلهما يخرجان لهذا الأمر تربية للقلب يعلمون أن القلب يغفل ويسهى وتتراكم عليه الشهوات حتى يصبح والعياذ بالله أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا هذا حال كثير من قلوب الناس اليوم ونستثني الصالح إن شاء الله أمثالكم ونحسبكم كذلك نعم حتى أصبحت قلوب كثير من الناس لا تعرف المعروف ولا تنكر المنكر والعياذ بالله.
ومثال رابع وأخير حول الأثر الرابع وهو حمل هم الآخرة وتعلق القلوب بها وهو التابعي الجليل [الحسن البصري] رحمه الله تعالى وما أدراك ما الحسن الحسن البصري صاحب الدمعة واقرأ في سيرته إن شئت تجد العجب في خشيته وخوفه فقد كان يشتكي جيرانه من كثرة بكائه في الليل وكم من المرات قرع بابه في الليل يظن جيرانه أن به أذى وما به إلا خوف وخشية لله.
اسمع هذه القصة لهذا الرجل يقول [صالح بن حسان] قال أمسى الحسن صائما فجئناه بطعام عند إفطاره قال فلما قرب إليه قال عرضت له هذه الآية (إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما) قال فقرصت يده عنه فقال ارفعوه فرفعناه قال فأصبح صائما فلما أراد أن يفطر ذكر الآية أي في اليوم الآخر ذكر الآية ففعل ذلك أيضا فلما كان اليوم الثالث انطلق ابنه إلى [ثابت البناني] و[يحيى البكاء] وأناس من أصحاب الحسن فقال أدركوا أبي فإنه لم يذق طعاما منذ ثلاثة أيام كلما قربنا إليه ذكر هذه الآية (إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما) قال فأتوه فلم يزالوا به حتى أسقوه شربة من سويق.
إنه رضي الله تعالى عنه لا يتعمد ترك الطعام تزهدا وإنما غلبه هم الآخرة وتذكر أهوالها فجعله لا يشتهي الأكل وتأباه نفسه إن هذه النماذج ليتعثر اللسان وهو يتكلم عنها ويضطرب القلب وهو يفكر بها إجلالا وهيبة لهم رحمهم الله تعالى.
كنا قلادة جيد الدهر وانفرطت
وفى يمين العلا كنا رياحينا
كانت منازلنا في العز شامخة
لا تشرق الشمس إلا في مغانينا
فلم نزل لصروف الدهر ترمقنا
شجرا وتخدعنا الدنيا وتلهينا
حتى غدونا ولا جاه ولا نصب
ولا صديق ولا خل يواسينا(/7)
الأثر الخامس من آثار هذا السر في حياة النبلاء وهو الأخير من هذه الآثار في هذه المحاضرة وآثاره كثيرة هضم النفس والإجراء عليها مهما بلغت من الصلاح نعم فإن خشية الله ومراقبة الله جعلت أولئك الرجال يهزمون أنفسهم وجعلتهم يحتقرون هذه النفس فما زالوا في هضمها واحتقار شأنها تربية لها ومحاسبة وإن كثيرا من أهل الخير والصلاح غفل عن قلبه حتى ظن أنه يذكر ولا يذكر ويحدث ولا يحدث وأنه ليس بحاجة إلى موعظة تذكره بالجنة والنار والحساب والعذاب فلا يسمع وإن سمع فللانتقاد والملاحظات ولا يقرأ وإن قرأ فللتدريس والتعليم ولا يصح هذا أبدا يا أخي الحبيب فمن آثار استشعار مراقبة الله في حياة السلف أنهم عرفوا حقيقة أنفسهم وحرصوا على تربيتها فاسمع لـ[سفيان الثوري] أمير المؤمنين في الحديث اسمع لهذا الرجل يقول عنه الإمام الذهبي هو شيخ الإسلام إمام الحفاظ سيد العلماء العاملين في زمانه كان سفيان رضى الله عنه لشدة تعلقه بالآخرة واستيلاء همها عليه لكأنه جاء منها فهو يحدثك عنها رأي العين يقول أبو نعيم كان سفيان إذا ذكر الموت لم ينتفع به أياما..،ويقول ابن مهدي كنا نكون عنده فكأنما وقف للحساب.
أرأيت هذه الصفات في هذا لرجل من شدة الخشية والورع، تعال واسمع لهذه القصة العجيبة في حياته اسمع لهذا الموقف العجيب في حياة سفيان يقول أحد تلامذته كنت أتتبع الإمام في خلواته وجلواته في سره وعلنه يقول فرأيت عجبا ومن هذا العجب أنني رأيت أن الإمام سفيان يخرج رقعة من جيبه فينظر إليها يفعل ذلك في اليوم مرارا يقول فعجبت لهذا الفعل وبت إصرارا في معرفة السر فما زلت خلف الإمام أتبعه وألحظه حتى وقعت الورقة في يدي يقول فنظرت إليها فإذا مكتوب فيها ما تتصور يا أخي الحبيب ماذا كتب سفيان في هذه الورقة يقول: فإذا مكتوب فيها يا سفيان اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل لا إله إلا الله سفيان الذي بلغ ما بلغ من خشيته وخوفه لله علم أن نفسه تغفل وحرص على تربية هذه النفس فما زال في هضمها وتربيتها حتى أنه كتب رقعة يذكر بها نفسه كلما حدثته بمعصية، لا إله إلا الله عجبا لهؤلاء الرجال فنقول ما هو السر الذي جعلهم يصلون لهذا نعم إنها رقابة الله وخشية الله نسأل الله جل وعلا أن يملأ قلوبنا بخشيته وخوفه.
إذا يا أخي الحبيب يا أيها الصالح أيها الخير يا من تجلس أمامي ويا من تسمع كلامي رب نفسك على صلاحها ورب نفسك وقل لها وردد عليها في كل لحظة قل لها يا نفس إني أخاف الله يا نفس اتقي الله في ربها على هذا المبدأ تجد عجبا وتشعر بحلاوة الإيمان وأثر اللذة في الحياة الدنيا قبل الآخرة جرب هذا يا أخي الحبيب اسمع لهذا الموقف وهذه الصورة العظيمة التي يرسمها لنا صلى الله عليه وآله وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله نسأل الله أن نكون وإياك وجميع المسلمين منهم بمنه وفضله وكرمه وجوده يقول النبي في آخر هذه الصور ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال ما هي الإجابة؟ انظر لتربية النفس انظر لأثر الخشية والمراقبة على العبد فقال إني أخاف الله أيضا تأمل هذه الصورة جيدا فكر واسرح بخيالك معها امرأة وليست أية امرأة إنها امرأة ذات منصب قادرة على أن تسوي الأمر إذا افتضح وهي ذات جمال وقلوب الرجال تهفو للجمال وهى التي دعته ولم يذهب هو للبحث عنها كل هذه الأحوال وهذا الجو مهيأ للأمور كلها ومع ذلك خوف الله وخشية الله تغطي على هذه الأمور كلها تأتي الإجابة من القلب الخائف الخاشع لله ليقول لتك المرأة إني أخاف الله فرسالة نوجهها إلى أولئك الرجال الذين يركضون خلف النساء والذين يسافرون لأقصى الأرض شرقا وغربا يبحثون عن اللذة نقول أليس لكم في هذا الموقف وفي هذه الصورة عبرة بلى والله لكنها عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
العنصر الآخر كيف الوصول لهذا السر العجيب؟ لعلك يا أخي بسماعك لهذه المواقف ولهذه الآثار ولهذه القصص وأنت كأنك تقول لي:
كرر علي حديثهم يا حادي
فحديثهم يجلو الفؤاد الشادي(/8)
أقول لك إن المواقف كثيرة وتكرارها يزيد الإيمان ويرفع حلاوته ولكنما الوقت قصير ولكني أيضا أقول أين أنتم من تكرارها على أنفسكم وأين أنتم من عرضها على أهليكم وأولادكم ثم أين أنتم عنها من الحديث في مجالسكم إنني لأعجب من حديث الناس في مجالسهم حول القصص الغريبة وحول فلان وعلان تارة غيبة وتارة نميمة وتارة كذب وتارة غش وهكذا هى المجالس إلا ما شاء الله منها فأقول هذه هي المواقف وهذه هي سير الصالحين وهذه هي أحاديث رسول الله وهذه هي بضاعتنا أيها الأخيار لماذا لا تعرض في المجالس لماذا لا نحدث بها نساءنا وأولادنا وفتياتنا وأصحابنا في مجالسنا ومنتدياتنا أسألك بالله ألم تحفظ قصة مما ذكر لا شك نعم إذا فلماذا لا تحمل هذه القصة لعلها أن يكون لها أثر في قلب زميل من الزملاء أو ولد من الأولاد أو أنثى ممن يعيش في بيتك فتكون قد نلت الأجر في هداية شخص ولأن يهدين الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم فأقول ولعلك تقول إذا قل بالله عليك وأسرع بالمقال كيف الوصول لهذه الخشية كيف نربي قلوبنا على خشية الله إننا نتأثر ورقت قلوبنا ولانت ولكني أشعر سرعان ما نخرج من هذا المكان وتلفنا الدنيا بشهواتها وملذاتها ننسى كثيرا من هذه المبادئ أما صاحب المبدأ وصاحب العقيدة فلا لأن هذا هو همه دائما فحديثه عن هذا الأمر وكلامه عن هذا الأمر وفعله لهذا الأمر وصفاته حول هذا الأمر وحول مراقبة الله وخشية الله يدندن دائما.
أول الأمور للوصول لهذا السر أولا المعرفة الحقيقية بالله سبحانه وتعالى نعم إننا نقول دائما إننا نعرف الله ولكن هل هذا يكفي لو قلت لك من الله ما هو صفاته ما هي أسماؤه ما هي عقيدتك وتوحيدك في أسماء الله وصفاته لوقفت فاغرا فاك لا تعلم شيئا ولذلك وصل الناس إلى ما وصلوا إليه ولو كان الله يعرف حقيقة لعظم في القلوب وقدر حق قدره سبحانه وتعالى لذلك فأقول من أراد الخشية من الله والخوف من الله سبحانه وتعالى فليتعرف على الله حقيقة المعرفة من خلال أسمائه وصفاته وذلك متمثل في توحيد الأسماء والصفات أليس من أسماء الله عز وجل الرقيب ومن أسمائه الحفيظ ومن أسمائه السميع والعليم والبصير فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها حصلت له المراقبة فالمراقبة كما يعرفها أهل العلم قالوا هي ثمرة علمك بأن الله سبحانه وتعالى رقيب عليك ناظر إليك سامع لقولك مطلع على عملك كل وقت وفى كل نفس وكل لحظة وكل طرفة عين فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته ازداد إيمانه وقوي يقينه بالله وهذه المعرفة تحصل بمراتب ثلاث في توحيد الأسماء والصفات احفظها:
أولا: إحصاء هذه الأسماء بألفاظها وحفظها.
ثانيا: فهم معانيها ومدلولها دون تحريف ولا تعطيل ولا تشويه ولا تتليف.
ثالثا: دعاء الله بها وهو على نوعين دعاء الثناء ودعاء المسألة ومن عرف الله عظمه وأجله ومن عظمه عظم حرماته وأتمر بأمره وانتهى عن نهيه (ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه) ودوام تأمل الأسماء والصفات بالله يورث ذلك حقيقة (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) فلذلك تعرف إلى الله حقيقة المعرفة.
الأمر الثاني للوصول لهذا السر الإكثار من ذكر الموت وأحوال الآخرة وأنا أعرف يا أخي الحبيب أنني عندما أقول مثل هذا الأمر أنغص عليك عيشك وأقطع عليك لذة حياتك وما بودي ذاك والله ولكنه الأمر الذي لا مفر منه إنه الحقيقة الحق البرهان الموت الذي لا بد كل منا شاربه ولذلك فإن أردت الخشية والخوف فتذكر الموت وسكراته وشدته تذكر القبر وسؤاله وعذابه ونعيمه وضيقه وظلمته وضمته تذكر أهوال يوم القيامة وشدته وطوله والعرض على الله سبحانه وتعالى وتذكر تطاير الصحف وتذكر الميزان والصراط وتذكر حيرة الخلق وهم كالسكارى وزهول العباد يوم الحساب تخيل انخراط الناس من الموقف فمنهم من يساق إلى الجحيم وتسحبهم الملائكة إلى أبوابها عياذا بالله ومنهم من يدخل الجنة فتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي توعدون نسأل الله أن نكون من أولئك إن تذكر ذلك كله يدفع الإنسان إلى العمل الجاد المتواصل فالبكاء والندم بتذكر هذه الأمور لا ينفعان صاحبهما إذا لم يقرنا بالعمل .(/9)
الأمر الثالث شهود المنة والفضل وهو أن تتذكر فضل الله سبحانه وتعالى عليك ومنته ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذووا الفضل نعم إن الكرماء هم الذين يعرفون الفضل لأهله وأحسبك يا أخي الحبيب إن شاء الله من أولئك الكرماء فانظر لنعمة الله عليك انظر لنعمة الإسلام وحدها انظر إليها ويتضح ذلك عندما ترى أحوال الكفار والبدع وانظر لنعمة الهداية ويتضح ذلك أيضا عندما ترى أحوال الفساق والفجار وانظر لنعمة العافية ويتضح ذلك عندما ترى أحوال المرضى وأهل العاهات فاحمد الله واشكر الله جل وعلا على هذه النعم وهكذا نعم الله سبحانه وتعالى التي لا تحصي فتذكر أنه قادر سبحانه وتعالى على سلبها بكلمة بكن فيكون وقادر سبحانه وتعالى فكن ذاكرا شاكرا رعاك الله حتى تعبد الله كأنك تراه.
الأمر الرابع تقوية القلب بالجلوس للمؤمنين والصالحين أصحاب القلوب الرقيقة والدمعة الدفيقة احرص على الجلوس مع أولئك الذين يخشون الله ويهابونه وهذا على نوعين إما بمخالطة من بمجالسهم الحسية للصالحين والأتقياء وهم الذين قال عنهم (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) الذين يخشون الله ويراقبونه أو تكون بالإكثار من قراءة قصص الصالحين والنظر في سيرهم أكثر وأدمن في قراءة مثل هذه المواقف فإن الإنسان إذا قرأ وأكثر حاول أن يحاكي تصرفات أولئك وحاول أن يتمثل أفعالهم ويتصف بصفاتهم.
قيل لابن المبارك كما ذكر ذلك الذهبي في السير قال[ شقيق البلخي] قيل لابن المبارك إذا أنت صليت لما لم تجلس معنا قال ابن المبارك أجلس مع الصحابة والتابعين أنظر في كتبهم وآثارهم فما أصنع معكم أنتم تغتابون الناس. فعليك يا أخي الحبيب بالنظر في سير أولئك الرجال حتى يتعلق قلبك بأحوالهم وصفاتهم. وأخيرا اعلم أن الرقابة تتنوع أن رقابة الله عليك تتنوع فلا مفر لك يا أخي الحبيب إن كثيرا من الناس اليوم يتساءلون كيف نقاوم هذا الفساد المنتشر في شرق البلاد وغربها كيف نقاومه؟ يقول قائل إنني أشكي نفسي ويقول قائل إنني أشكي ولدي وضعفه وربما فسقه ويقول قائل أشكو حال زوجي وتمردها علي ويقول قائل أشكو المعاصي ويقول قائل أشكو الشيطان ويقول قائل وهكذا يشكو الناس كثير أو كلهم من أشياء تجمعت وتكالبت على قلوبهم فأين المفر ؟ ما هو العلاج لمثل هذا الأمر؟
أقول إنه السر العجيب إنه تربية النفس سواء كانت نفسك أو نفس زوجك أو ولدك أو بنتك أو غيرهم على رقابة الله فاملأ هذه القلوب برقابة الله ثم انظر يا أخي الحبيب أسألك بالله ألا تعجب في نهار رمضان من المرأة وهى في مطبخها أمام أصناف الأطعمة والمأكولات ومع ذلك هي جائعة وهي عطشى وتريد أن تأكل ولو لقمة أو أن تشرب ولو شربة ومع ذلك لا تفعل سبحان الله من الذي ردها من الذي منعها أن تأكل والطعام أمامها إنها رقابة لا إله إلا الله إنه الخوف من الله ألا تعجب من الرجل في نهار رمضان وفى القيلولة وشدة حر الشمس وهو جائع عطشان ومع ذلك يتوضأ ويتمضمض ويستطيع أن يدخل إلى فيه شيئا من قطرات الماء وهو يتمضمض ويتوضأ ولكنه يحرص كل الحرص على أن لا يدخل فيه أو حلقه شيء ولو كانت قطرة واحدة سبحان الله من الذي رباه على هذا الحرص من الذي جعله يحرص على هذا الأمر وعلى هذه الشدة وهذا الحال إنها رقابة الله أولا تعجب من المسافر وحده في الخلاء وفى الطريق ينظر ساعته ثم يركن سيارته ثم يتوضأ ثم يؤذن ثم يستقبل القبلة ثم يصلي سبحان الله لا يطلع عليه أحد من الناس ولكنها خشية الله ورقابة الله إذا امتلأت بها النفوس والقلوب.
فإذا علمت ذلك فاعلم أن الرقابة تتنوع وهو آخر المطاف رقابة الله على أشكال ولا مفر لك فذكر بهذا نفسك وذكر بهذا أهل المعصية وأهل الشهوة.
أول هذه الأنواع رقابة الملائكة يقول جل وعز (أم يحسبون أنا لا نعلم سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون) ويقول سبحانه وتعالى (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون).
الرقابة الثانية رقابة الكتب فلكل عبد كتاب فيه كل صغيرة وكبيرة قال تعالى (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).
رقابة ثالثة رقابة الجوارح (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون).
رقابة رابعة: رقابة الجلود (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين).(/10)
ورقابة خامسة وأخيرة رقابة الأرض" قرأ صلى الله عليه وآله وسلم يوما سورة الزلزلة فلما وصل إلى قوله تعالى (يومئذ تحدث أخبارها) قال لأصحابه أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال إن أخبارها يوم تحدث أو تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول عمل علي يوم كذا كذا وكذا فهذه أخبارها." أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه والترمذي في سننه وقال حسن صحيح وتعقب الذهبي الحاكم وقال فيه [شريح بن سليمان] وهو منكر الحديث وكذلك أخرجه الإمام أحمد في مسنده وقال عنه [الألباني] في ضعيف الترمذي ضعيف أو ضعيف الإسناد.
هذه الرقابة المتنوعة أين المفر منها يا أخي الحبيب لعلك علمت إذا أنه لا مفر إذا الأبواب موصدة فما بقي أمامك إلا باب واحد مفتوح وهو باب تربية النفس على خشية الله ومراقبة الله هذا هو السر العجيب الذي أردت أن أطلعك عليه الذي قلب حياة أولئك الرجال فجعل حياة النبلاء حياة ذات معنى وذات لذة وذات حلاوة فهل تريد يا أخي الحبيب هذه الحياة ؟ هل تريد أن تشعر بمعنى قيمة الحياة جرب ذلك وحاول أن تتمثل هذا السر فستجد العجب العجاب في حياتك كلها كبيرها وصغيرها.
نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا خشيته في السر والعلن اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك اللهم ألن قلوبنا يا حي يا قيوم اللهم وفقنا لما تحب وترضى اللهم تقبل منا واغفر لنا أجمعين اللهم لا نقوم من مجلسنا هذا إلا وقد قلت لنا جميعا صغيرنا وكبيرنا ذكرنا وأنثانا قوموا مغفورا لكم أنت ولي ذلك والقادر عليه برحمتك ومنك ولطفك يا أرحم الراحمين أستغفر الله وأتوب إليه وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.(/11)
السر العجيب
يتناول الدرس سرا من أسرار القلوب العجيبة التي بسبب فقدانه ضاعت الأمانة وانتشرت الرذيلة واختفت الفضيلة ثم يعرض لآثار هذا السر في حياة النبلاء ابتداءً برسولنا صلى الله عليه وسلم وانتهاءً بجمع من سلفنا الصالح، ثم ذكر كيفية الوصول لهذا السر العجيب، ثم تناول رقابة الله المحيطة بالعبد، ولم يبق إلا تربية النفس على هذا السر .
ما هو السر في حياة أولئك الرجال الذين هم أموات في قبورهم ولكنهم أحياء في ذكرهم، ونحن نسمع ليل نهار تلك الأسماء على المنابر وعلى كل لسان، وفى بطون الكتب وفى كل مكان، فلا إله إلا الله من أحيا هذه الأسماء؟ وهذه هي والله الحياة الحقيقية .
السر العجيب يتحدث إلى القلب: تعال أيها القلب، لتعلم حياة النبلاء، وسير الرجال يوم أن كنت أتربع على العرش في قلوبهم، وأصول، وأجول في صدورهم. اسمع أيها القلب: يوم أن فتح لي أولئك الرجال قلوبهم؛ فأصبحوا سادة في كل شيء، فعن الحسن بن عيسى مولى ابن المبارك قال: اجتمع جماعة، فقالوا: تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعة، والفروسية، والقوة، وترك الكلام في مالايعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه، والتجارة، وسخاء النفس، والتصديق، والورع، والتقى، وكل ذلك عنده وأكثر .
إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار منها نورها وجمالها
إذا ذكر الأحبار في كل بلدة فهم أنجم فيها وأنت هلالها
أسمعت أيها القلب بفضل الله، ثم بفضلي أنا السر العجيب كان كل ذلك، فهل عرفتني؟
واسمع لعلم ثان من هؤلاء النبلاء: إنه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، مؤرخ، مفسر، محدث، مقرئ، فقيه، أصولي، من أكابر الأئمة المجتهدين . قال الخطيب البغدادي فيه:' كان أحد أئمة العلماء، ويحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه؛ لمعرفته، وفضله، وكان قد جمع من العلوم مالم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة، وأقوال التابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله' .
فما السر في حياة هؤلاء النبلاء؟ وأين أنت من أولئك؟ هلا ذكرت لي منقبة واحدة من تلك المناقب فيك أيها الأخ؟ مسكين أيها القلب غرقت في الشهوات والملذات، أصابك الكسل والخمول، أصبحت عبداً للدنيا دون أن تشعر كل ذلك يوم هجرتني أيها القلب .
وخذ مثلاً ثالثاً لتقنع: أسمعت بابن تيمية؟ لاشك: نعم، إذاً فاسمع كلام ابن سيد الناس فيه حيث قال عنه:' كاد يستوعب السنن والآثار حفظاً، إذا تكلم في التفسير؛ فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه؛ فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث؛ فهو صاحب علمه وروايته، أو حاضر في النحل والملل؛ لم تر أوسع من مشيته في ذلك ولا أرفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله...' . فعجيب أمر أولئك الرجال: جمعوا الخير كله، لكنه السر العجيب الذي حولهم إلى أعلام وأبطال، فهل عرفتني أيها القلب ؟ والآن أتركك وسأرجع إليك بين الحين والحين حتى تعد لي منزلا في سويداك أيها القلب.
أهمية السر في طريق الصحوة:
إن الجميع بحاجة لهذا السر مع شدة غفلتهم عنه، ويعجبك أجسام أولئك الرجال- رجال الصحوة-وأشكالهم وأحوالهم، لكنك تبحث عنهم في الميدان؛ لترى الأعمال، فتجد الخمول والكسل، والهوان .
إن هذا السر مهم جداً، ومؤثر فعال في حياة شباب الصحوة والدعاة إلى الله وما أكثرهم والحمد لله. فنسأل عن السبب في هذا الخمول والكسل والهوان، فإذا هو هذا السر . نقرأ الآيات، فلا قلب يتأثر، ونسمع الأحاديث والمواعظ، فلا عين تدمع، ننظر للقصص والعبر، فلا جسد يقشعر ويخشع، نحمل الموتى، وندخل المقابر ونخرج، والقلب هو القلب، ونسمع أنين الثكالى، وصرخات اليتامى، والأحداث في الشرق والغرب تتوالى، والقلب هو القلب، لا إله إلا الله: ماذا أصاب هذا القلب، فنسأل عن السبب ونبحث عن العلاج، فإذا هو أيضًا في هذا السر.(/1)
أصبحنا نكذب، ونغتاب، ونأكل الشبهات، وربما المحرمات، فنسأل عن السبب، فإذا هو غيبة هذا السر، هذا السر أقض مضاجع الصالحين، وأزعج قلوبهم، وأسال دموعهم؛ فعرفوا حقيقة الحياة. هذا السر يحفظ الأمن والأمان، وتكثر الخيرات، وتنزل البركات. وبغيبته ينتشر الفساد، ويعق الأولاد، فهل عرفتني أيها الأخ الحبيب، لابد أنك عرفتني، إنني الحارث الأمين لقلبك المسكين، إنني المراقب الشرعي، إنني: مراقبة الله، أو الخوف من الله، أو إن شئت، فقل: الخشية أو التقوى . فاتق الله حيثما كنت، وانتبه لقوله تعالى:} وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[123] {“سورة هود” . } وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ[235] {“سورة البقرة “ .وردّد في كل لحظة:} وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا[52] {“سورة الأحزاب” .وتذكر أنه:} يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ[19] {“سورة غافر “ . ويا أخي الحبيب أين المفر:} وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ[4] {“سورة الحديد” . وويل لذلك العاصي:} أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى[14] {“سورة العلق “ .
وداو ضمير القلب بالبر والتقى فلا يستوي قلبان قاس وخاشع
آثار هذا السر في حياة السلف:
1- استشعار عظم الذنب : هذا السر وهو:مراقبة الله وخوف الله في قلوب الصالحين؛ جعلهم يستشعرون عظم الذنب صغيراً كان، أو كبيراً، فإذا أخطأ أحدهم، فسرعان ما يرجع ويتوب، والبشر كلهم خطاءون، وخير الخطاءين؛ التوابون. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ:' إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ وَقَعَ عَلَى أَنْفِهِ قَالَ بِهِ هَكَذَا فَطَارَ' رواه البخاري والترمذي وأحمد. وهذا شأن المسلم: دائم الخوف والمراقبة، يستغفر، ويستصغر عمله الصالح، ويخشى من صغيرها السيئ والقبيح.
وهذه أمثلة في حياة أولئك النبلاء؛ لنرى هذا الأثر جليا واضحاً سلوكهم، وتصرفاتهم:
رسول الله صلى الله عليه وسلم:عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [إِنِّي لَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا]رواه البخاري . هذه هي المدرسة المحمدية التي تخرج منها أولئك النبلاء، تمرة، ولم يأكلها صلى الله عليه وآله وسلم لماذا؟ هل لأنها من تمر الصدقة ؟ لا، لأنه خشي أن تكون من تمر الصدقة! شبهة، فلم يأكلها صلوات الله وسلامه عليه .
أبو بكر الصديق رضي الله عنه: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: [ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا هُوَ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ] رواه البخاري. هكذا الورع! هكذا التقى! هكذا مراقبة الله! لا يريد أن يختلط في بطنه، أو أن يبني جسده على شيء من الشبهات، فضلا عن المحرمات، فأين الناس اليوم من هؤلاء؟! كانت أمة المسلمين تتربى على الورع، وعلى خشية الله، وخوف الله، و الآن: انظر لبيوت المسلمين على أي شيء تتربى اليوم؟!
أيها الولي: ستسأل من الجبار لامن البشر عن وسائل التربية التي ربيت عليها قلوب أهل بيتك، فبماذا ستجيب؟ أبالتلفاز، أم بالمجلات، أم بالأفلام، أم بأشرطة الغناء؟ كيف تريد الصلاح، وهذه هي وسائل التربية .(/2)
2- كثرة الخلوة بالنفس والدمعة المباركة: نقرأ في سير أولئك الرجال؛ نجد كثرة خلوتهم بأنفسهم في ظلمة ليل، وسرعان ما تسيل الدموع على الخدود، وهذا أثر السر العجيب:رقابة الله وخشيته. ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: [وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ]رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد ومالك . فهل مرت عليك هذه اللحظة؟ هل شعرت يومًا من الأيام بهذا الموقف؟ هل وقفت ليلة من الليالي وتمثلت هذه الصورة؟ إن الصالحين، وشباب الصحوة، والدعاة من الرجال والنساء؛ بحاجة شديدة لهذه الخلوة؛ لننظر إلى أنفسنا، وفى عملنا، وقولنا، وننظر إلى حقيقة أمرنا وسلامة صدورنا... إننا أيها الأخيار بحاجة ماسة، وملحة لتلك الدمعة الغالية في لحظة خلوة، بتذكر نعمة الله، ثم تذكر عظم الذنب والتقصير في حق الله، فلعل الدمع أن يأتي، ولعل القلب أن يلين، فيترجم ذلك إلى الدمعة الحارة الغالية، التي فقدناها في مثل هذا العصر.
فهذا عمر بن الخطاب: وما أدراك ما عمر؟ اقرأ سيرته؛ ستجد العجب العجاب، وهو من العشرة المبشرين، ومع ذلك:هل اتكل على هذا؟ لا بل كان إمام الخاشعين رضي الله عنه، كان يمر بالآية في ورده، فتخنقه، فيبقى في البيت أياماً يعاد يحسبونه مريضًا، ومن صفاته رضي الله عنه أنه كان في خديه خطان أسودان من أثر البكاء من خشيته لله، وقرأ يومًا:} إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ[1] {حتى انتهى إلى قوله تعالى:}وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ[10] {“سورة التكوير “ فخر مغشياً عليه. وكان يأخذ عود نبات، فيقول:'يا ليتني كنت هذا العود، يا ليت أم عمر لم تلد عمر، يا ليتني كنت شجرة تعضد- أي: تقطع-' . رحمك الله يا عمر:
فمن يباري أبا حفص وسيرته أو من يحاول للفاروق تشبيهًا
وفى الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ] رواه الترمذي والنسائي وأحمد .
وهذا أحمد بن حنبل:وهو صاحب الورع والخشية كان جالساً يوماً مع تلاميذه يحدثهم، فاقشعر بدنه، وشعر بحلاوة الإيمان، فقام وتأخر على التلاميذ، وذهب أحد التلاميذ؛ ليرى أين ذهب الإمام، فاقترب من باب الغرفة، فسمع الإمام أحمد يتمثل هذين البيتين، ويبكي بكاءً شديداً :
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب
ذكر الذهبي في السير: أن القاضي حسين حكى عن القفال أستاذه: أنه كان في كثير من الأوقات يقع عليه البكاء حالة الدرس- يعني وهو يلقي الدرس- ثم يرفع رأسه، ويقول:' ما أغفلنا عما يراد بنا!'. فأين نحن من هذا؟ وأين المدرسون، والمربون الذين يربون أبناء المسلمين عن هذه الخشية؟
في قصة تربوية يذكرها بعض علماء التربية: أن شيخاً قال لتلاميذه الصغار: يا أبنائي -هذه القصة رسالة للمدرسين والمدرسات- إذا كان الغد، فلا يأت أحد منكم إلا وقد جاء معه بدجاجة قد ذبحها في مكان لا يراه فيه أحد، فجاء التلاميذ من الغد، وكل منهم قد علق دجاجة في يده إلا غلامًا واحداً، فسأله الشيخ: يا غلام أين الدجاجة ؟ فقال الغلام- انظروا التربية-: يا شيخ إنك قلت: أن أذبح الدجاجة في مكان لا يراني فيه أحد، وإنني دخلت الحجرة، فوجدت أن أحداً يراني، فصعدت السطح، فوجدت أن أحداً يراني، وما طرقت مكاناً إلا وكان ذلك الأحد يراني، فقال الشيخ: من هذا الذي يراك؟ فقال الصغير، ذاك القلب الخاشع لله: إنه الله، إن الله معي في كل مكان يراني. أرأيت التربية! فأين أنت أيها المدرس الفاضل؟ أين أنت أيها الداعية الصادق؟ أين أنت يا أيتها المدرسة الصالحة؟ أين أنتم من تربية أبناء وبنات المسلمين على مثل هذا السر العجيب . إننا نحتاج إلى وقفة مراجعة ونظرة إلى النفس، فإننا نسمع ونقرأ في حياة النبلاء: أنه إذا كان الرجل الصالح لوحده في قريته ومدينته؛ أصلح الله به أهل المدينة .
إذاً فما دهانا وأين أثرنا وأين نتائجنا ؟!(/3)
3- حمل هم الآخرة وتعلق القلوب بها: نعم إن هذا السر: مراقبة الله ما زال يفعل الأفاعيل في قلوب الصالحين، حتى جعل تلك القلوب تتعلق بالآخرة، فهمومها هي الآخرة، وأحاديثها هي الآخرة، ودندنتها هي حول الآخرة، ولذلك قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ وَمَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ] رواه ابن ماجه بسند صحيح. نسمع هذا الحديث ثم نرى الأمور الدنيوية هي حديث مجالسنا: فتارة عن المشاريع التجارية، وتارة عن المعمارية، وتارة عن الوظيفة ودرجاتها، وأخرى عن المركب، وأخرى عن الملبس ،وأخرى عن المشرب... وهكذا، حتى الصالح من الناس إن حمل الهم، فإذا هو هذا همه.
عن القاسم بن محمد قال:' كنا نسافر مع ابن المبارك، فكثيراً ما كان يخطر ببالي، فأقول في نفسي: بأي شيء فضل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس بهذه الشهرة إن كان يصلي؛ إنا لنصلي، وإن كان يصوم؛ إنا لنصوم، وإن كان يغزو؛ فإنا لنغزو، وإن كان يحج؛ إنا لنحج . قال: وكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام ليلة نتعشى في بيت إذ انطفأ السراج، فقام بعضنا لإصلاح السراج، ثم جاء السراج، فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته، وقد ابتلت بكثرة الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا' . ولعله فقد السراج، فصار إلى الظلمة فذكر القيامة...لحظة من اللحظات يغيب السراج، فإذا الدموع قد ملأت وجه ولحية ابن المبارك رضي الله تعالى عنه. إنها قلوب حملت همّ الآخرة، وتعلقت بها، فإذا رأت ظلمة؛ تذكرت ظلمة القبر، وإذا رأت ناراً؛ تذكرت نار جهنم، وإذا رأت نعيماً وخضرة؛ تذكرت جنان الفردوس... هكذا القلب المتعلق بهموم الآخرة، يفكر في أحوال القيامة، وكل أمر يلحظه في دنياه، ويمر على مخيلته ينتقل مباشرة إلى مواقف القيامة، وأحوال الآخرة.
وذكر أحمد في 'الزهد': أن ابن مسعود مرّ على هؤلاء الذين ينفخون الكير، فوقع رضي الله عنه، وأنه مرّ مرة أخرى على الحدادين، فبصر بحديدة قد أحميت، فبكى. أرأيت القلب كيف يتعلق بالآخرة وبهمومها؟!
الحسن البصري رحمه الله:صاحب الدمعة، وهذه إحدى قصصه: يقول صالح بن حسان:' أمسى الحسن صائماً، فجئناه بطعام عند إفطاره، فلما قرب إليه، عرضت له هذه الآية:} إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا[12]وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا[13]{ “سورة المزمل “ فقرصت يده عنه، فقال: ارفعوه، فرفعناه، فأصبح صائماً، فلما أراد أن يفطر ذكر الآية، ففعل ذلك أيضًا، فلما كان اليوم الثالث انطلق ابنه إلى ثابت البناني ويحيى البكاء وأناس من أصحاب الحسن، فقال: أدركوا أبي، فإنه لم يذق طعاماً منذ ثلاثة أيام، كلما قربناه إليه ذكر هذه الآية:} إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا[12]وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا[13]{ “سورة المزمل “ فأتوه فلم يزالوا به حتى أسقوه شربة من سويق'. غلبه هم الآخرة وتذكر أهوالها؛ فجعله لا يشتهي الأكل وتأباه نفسه .
4- هضم النفس والإزراء عليها مهما بلغت من الصلاح: فخشية الله ومراقبته؛ جعلت أولئك الرجال يحتقرون هذه النفس، فما زالوا في هضمها، واحتقار شأنها؛ تربية لها ومحاسبة، وإن كثيراً من أهل الخير والصلاح غفل عن قلبه حتى ظن أنه ليس بحاجة إلى موعظة تذكره بالجنة والنار، والحساب والعذاب . فمن آثار استشعار مراقبة الله في حياة السلف أنهم عرفوا حقيقة أنفسهم، وحرصوا على تربيتها:
فهذا سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث:كان رضي الله عنه لشدة تعلقه بالآخرة، واستيلاء همها عليه، لكأنه جاء منها، فهو يحدثك عنها رأي العين، يقول أبو نعيم:' كان سفيان إذا ذكر الموت لم ينتفع به أيامًا ' ويقول ابن مهدي:' كنا نكون عنده، فكأنما وقف للحساب'. عجبًا لهؤلاء الرجال !
والسر الذي جعلهم يصلون لهذا: رقابة الله وخشيته، فنسأل الله أن يملأ قلوبنا بخشيته وخوفه.
كيف الوصول لهذا السر العجيب ؟
أولا: المعرفة الحقيقية بالله سبحانه وتعالى: من أراد الخشية من الله، والخوف من الله سبحانه، فليتعرف على الله حقيقة المعرفة من خلال أسمائه وصفاته، وذلك متمثل في توحيد الأسماء والصفات . أليس من أسماء الله عز وجل: الرقيب؟ ومن أسمائه: الحفيظ، ومن أسمائه: السميع، والعليم، والبصير .(/4)
فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها؛ حصلت له المراقبة، فالمراقبة كما يعرفها أهل العلم: هي ثمرة علمك بأن الله سبحانه وتعالى رقيب عليك، ناظر إليك، سامع لقولك، مطلع على عملك كل وقت، وفى كل نفس، وكل لحظة، وكل طرفة عين، فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته؛ ازداد إيمانه، وقوي يقينه بالله. وهذه المعرفة تحصل بمراتب ثلاث في توحيد الأسماء والصفات:
أولا:إحصاء هذه الأسماء بألفاظها وحفظها.
ثانيًا:فهم معانيها ومدلولها دون تحريف، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تكييف.
ثالثا:دعاء الله بها، وهو على نوعين: دعاء الثناء، ودعاء المسألة .
ومن عرف الله؛ عظّمه، وأجله. ومن عظّمه؛ عظّم حرماته، وائتمر بأمره، وانتهى عن نهيه:} وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ[30] { “سورة الحج “ ودوام تأمل الأسماء والصفات بالله؛ يورث ذلك حقيقة:} وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[67]{ “سورة الزمر” فلذلك تعرف إلى الله حقيقة المعرفة.
ثانيًا:الإكثار من ذكر الموت وأحوال الآخرة: فهو الأمر الذي لا مفر منه، ولذلك: فإن أردت الخشية والخوف؛ فتذكر الموت وسكراته وشدته، تذكر القبر وسؤاله وعذابه ونعيمه وضيقه وظلمته وضمته، تذكر أهوال يوم القيامة وشدته وطوله والعرض على الله سبحانه وتعالى، وتطاير الصحف، والميزان، والصراط، وذهول العباد من الموقف، فمنهم من يساق إلى الجحيم، ومنهم من يدخل الجنة . إن تذكر ذلك كله؛ يدفع الإنسان إلى العمل الجاد المتواصل؛ فالبكاء والندم بتذكر هذه الأمور؛ لا ينفعان صاحبهما إذا لم يقرنا بالعمل .
ثالثًا: شهود المنة والفضل: وهو أن تتذكر فضل الله عليك ومنته، والكرماء هم الذين يعرفون الفضل لأهله، فانظر لنعم الله عليك، انظر لنعمة الإسلام وحدها، انظر إليها ويتضح ذلك عندما ترى أحوال الكفار ،وأهل البدع . وانظر لنعمة الهداية، ويتضح ذلك عندما ترى أحوال الفساق، والفجار. وانظر لنعمة العافية، ويتضح ذلك عندما ترى أحوال المرضى وأهل العاهات، فاحمد الله، واشكر الله على هذه النعم ... وهكذا نعم الله سبحانه لا تحصى، فتذكر أنه قادر على سلبها بكلمة: كن فيكون، فكن ذاكراً، شاكراً،حتى تعبد الله كأنك تراه.
رابعاً: تقوية القلب بالجلوس مع المؤمنين والصالحين: أصحاب القلوب الرقيقة، والدمعة الدفيقة . احرص على الجلوس مع أولئك الذين يخشون الله ويهابونه، وهذا على نوعين:
1- إما بالمخالطة في المجالس للصالحين والأتقياء، وهم الذين قال عنهم:} الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ[67]{ “سورة الزخرف” .
2- أو بالإكثار من قراءة قصص الصالحين والنظر في سيرهم: قيل لابن المبارك: إذا أنت صليت لم لاتجلس معنا؟ قال ابن المبارك: أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم! أنتم تغتابون الناس . فعليك بالنظر في سير أولئك الرجال حتى يتعلق قلبك بأحوالهم وصفاتهم.
وأخيرًا:
اعلم أن رقابة الله عليك متنوعة ومنها:
1- رقابة الملائكة: يقول تعالى:} أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ[80]{ “سورة الزخرف” ويقول سبحانه:} وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ[10]كِرَامًا كَاتِبِينَ[11] يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[12]{ “سورة الانفطار” .
2- رقابة الكتب: فلكل عبد كتاب، فيه كل صغيرة وكبيرة، قال تعالى:} وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا[13]اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا[14]{ “سورة الإسراء”.
3- رقابة الجوارح: }يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[24]{ “سورة النور” .
4- رقابة الجلود: }وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[21] وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ[22]وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ[23] { “سورة فصلت” .(/5)
هذه الرقابة المتنوعة لا مفر، إذاً الأبواب موصدة، فما بقي أمامك إلا باب واحد مفتوح، وهو باب تربية النفس على خشية الله، ومراقبة الله، هذا هو السر العجيب الذي أردت أن أطلعك عليه، الذي قلب حياة أولئك الرجال، فجعل حياة النبلاء حياة ذات معنى، وذات لذة، وذات حلاوة، فهل تريد يا أخي الحبيب هذه الحياة ؟ هل تريد أن تشعر بمعنى قيمة الحياة؟ جرب ذلك، وحاول أن تتمثل هذا السر، فستجد العجب العجاب في حياتك كلها كبيرها وصغيرها ، نسأل الله أن يرزقنا خشيته في السر والعلن .
من محاضرة: السر العجيب للشيخ/ إبراهيم الدويش(/6)
السرقة الحلال- كيف تسرقين قلب زوجك?? [1]
مفكرة الإسلام : كانت صديقتي على سفر.. اتخذت كل احتياطات تأمين شقتها، مزاليق تستعصي على الفتح، نوافذ حديدية، وسافرت للمصيف مع أسرتها مطمئنة، وعندما عادت فوجئت بسرقة كل ما خف حمله وغلا ثمنه من بيتها، انهارت صديقتي، ومن وسط دموعها لم أستطع التقاط سوى عبارة واحدة كانت ترددها طوال نحيبها:
كيف دخلوا بيتي؟
كيف فتحوه رغم كل ما اتخذناه من حيطة وحذر؟
أي مفاتيح استخدمها هؤلاء الشياطين؟
واسيتها ودعوتها للاسترجاع وقلتُ لها صادقة: إن عودتها وأسرتها بسلامة الله من سفر بعيد نعمة جزيلة لا يضاهيها شيء، وتركتها داعية لها بالخلف والعوض, وفي طريقي رددت ذات السؤال المحير الذي رددته هي:
كيف فتحوا المزاليق القاسية؟ وألانوا النوافذ الحديدية؟
ووجدتني أتخيل بيت صديقتي كقلب رجل تجتهد شريكته أن تفتحه وتسكنه ملكة متوجة وسألتُ نفسي:
هل يمكن أن يكون اللصوص أمهر وأذكى من زوجة محبة متفانية معطاءة حانية؟
وهل تلك الشريكة التي تفني نفسها ليل نهار من أجل زوجها وأبنائها يمكن ألا تمتلك بجوار صبرها وتحملها واحتسابها مفاتيح قلب زوجها؟
وهل يمكن أن تذوب الزوجة كشمعة وهي تعطي, ومع ذلك يوصد دونها قلب زوجها؟
عزيزتي الزوجة المسلمة:
كثيرات من نسائنا يعيش معهن أزواجهن بحكم الإلف والعشرة لا بدافع الحب، وعدم القدرة على الاستغناء، واعتادوا عليهن , وقد لا يصعب عليهن حين تقع الفأس في الرأس أن يعتادوا على غيابهن، فالقلوب مغلقة، والمشاعر محايدة، والنبض لا يهتف باسم شريكة الحياة، والشوق لا يحفز الزوج لكي يهرول إلى عشه بعد يوم عمل طويل لينعم بصحبة شريكة كفاحه.
قد أظن ويظن معي كثيرون وكثيرات أن ولوج قلب الزوج أو الزوجة مغامرة شاقة ومهمة عسيرة, ولكن عن خبرة شخصية وسماعية، بوسعي أن أؤكد أن الأمر أيسر مما يتخيلن وتحكمه معادلة:
حب + صبر + دأب = سعادة في الدنيا وأجر في الآخرة.
وكلما كان النظر بعيدًا كانت الجهود أهون والمحاولة أنجح، وأثر التحبب حبًا، والتودد ودًا، وتدفقت الكلمة الحلوة أنهارًا من عسل السعادة والاستقرار والوفاق.
عزيزتي الزوجة المسلمة: اجتنبي 'الأخطاء العشرة'
هناك عشرة أخطاء مدمرة من قبل الزوجة كثيرًا ما تكون من أسباب الطلاق أو النفور الشديد والبغض من قبل الزوج.. عليكِ أن تتعرفي عليها مخافة الوقوع فيها قبل أن نمسك بمفاتيح قلب الزوج، والأخطاء هي:
1ـ استحداث المشكلات الشديدة مع أهله عمومًا, مما يجعل الزوج في حيرة بين حب أهله وزوجته, وبالتالي يقلل ذلك من حبه واحترامه لها.
2ـ التكلم عن أمه أو والده بشيء سيئ.
3ـ إهانة الزوج وخاصة أمام الآخرين.
4ـ جرح الزوج في كرامته ورجولته ولو على سبيل المزاح.
5ـ عقد المقارنة بينها وبينه في الأمور التي تتفوق فيها عليه كالمال أو العلم أو النسب وغيرها.
6ـ إزعاجه بالتذمر والشكوى عمومًا من حالها وبشكل دائم ومستمر.
7ـ عدم الاهتمام بتوفير الراحة والهدوء في مكان ووقت نومه، وقد قيل: إن من أخطر الأمور في الحياة الزوجة أن تضايق الزوجة زوجها في وقت نومه كأن تقوم بتشغيل المكنسة أو الغسالة أو لا تهتم بتهدئة الأطفال, مما يبغض الزوج في منزله, وقديمًا قالت أم إياس لابنتها في وصيتها: احفظي له خصالاً عشرًا تكن لكِ ذخرًا منها: أما الخامسة والسادسة: فالتعاهد لوقت طعامه، والتفقد لحين منامه، فإن حرارة الجوع ملهبة وتنغيص النوم مغضبة.
8ـ عدم الاهتمام بطعامه وملابسه ونظافة منزله، فالزوج قد يصبر لفترة على عدم توفير الطعام الجيد أو الملابس النظيفة المرتبة، لكنه حتمًا سيطفح به الكيل وينفر من الزوجة بشدة بعد ذلك.
9ـ الامتناع عن الزوج دون عذر.. وهذا من أهم الأسباب لبغض الزوج لها وأيضًا تبيت الملائكة تلعنها.
10ـ الظهور أمام الزوج بالمظهر الرث والمنفر، وبخاصة فيما يتعلق بالنظافة الشخصية.
أتبع مع زوجي سياسية السحر الحلال
قالت إحدى الزوجات: ' الكلمة الحلوة نوع من السحر الحلال, ومحاولة امتصاص الغضب وعدم التأثر النفسي على حساب علاقتي بزوجي، وعدم مناقشته أثناء الغضب, بل إنني أسعى دائمًا للتأكيد على أن رضا زوجي هو أهم شيء في حياتي.
وكل رجل له مفتاح لشخصيته, وعلى كل زوجة أن تعرف هذا المفتاح، فأحيانًا يسعد الرجل إذا كانت زوجته على وئام مع أهله، وأحيانًا أخرى إذا حققت الزوجة بعض الأشياء التي يحبها كأن تزينت له أو أعدت له طبقًا مفضلاً أو استقبلته بشكل معين...والأهم عندي أن كل شيء في حياتنا يخضع للتفاهم والاتفاق, وأنا أسعى دائمًا للاقتراب من زوجي وأحاول أن أحب الأشياء التي يحبها , فالتقارب الزوجي له أثر كبير في استقرار الحياة الزوجية ' اهـ.
إذا أردت عزيزتي الزوجة امتلاك مفاتيح السرقة ـ سرقة قلب الزوج ـ فتابعي معي المقال التالي على موقعنا:
وهذه مفاتيح السرقة الحلال!!
وهذه مفاتيح السرقة الحلال!! [2] كيف تدخلين قلب زوجك؟(/1)
مفكرة الإسلام : سؤال يطرح نفسه قبل أن تمتلك الزوجة مفاتيح قلب زوجها.
عزيزتي الزوجة المسلمة هناك عدة أمور تدخلين بها قلب زوجك فلا يعود ينظر لغيرك وهي:
1ـ لين الحديث.
2ـ حفظ الزوج.
3ـ العبادة والذكر.
4ـ التطيب واللباس.
5ـ تحضير الطعام.
واليك عزيزتي الزوجة التفاصيل:
[1] لين الحديث:
استقبليه بابتسامة وودعيه بابتسامة، واسألي عن حاله وأحواله ولا تتدخلي بأعماله، تجاذبي معه أطراف الحديث ولا تذكِّريه منه بالجانب الخبيث، أسمعيه كلامًا طيبًا وأظهري له جانبًا لينًا، فإذا أخطأ فلا تلوميه وقولي له كلامًا يرضيه، وإذا طلبتِ منه شيئًا فلم يلبِّه فلا تعانديه بالقول الفظيع فينفر منك، ويدب بينكما النزاع والخصام, وقد يدوم ساعات وأيامًا، أطيعيه بما يرضي الله وبما يريد، ولا تكوني قاسية كالحديد، عندها سيصُبُ غضبه بالتهديد والوعيد، فلا ينفع بعدها إصلاح ذات البين في وقت شديد، وتذكري قول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك حيث قال: 'إذا صلت المرأة خمسها, وصامت شهرها, وحفظت فرجها, وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت'.
[2] حفظ الزوج:
كوني له مستودع الأسرار, ولا تفشي شيئًا منها خارج الدار، وكُنّي له كل احترام واقتدار، وإذا قدر ودب بينكما الغضب والشجار, فلا تذكري له شيئًا من هذه الأسرار، عندها سيندم على كل حديث بينكما دار، ولا تنسي أن تحفظي له العرض والدار، ولا تسمحي لأي غريب أن يتخطى عتبة الدار، وفي عهد عمر قالت زوجة مؤمنة غاب عنها زوجها:
مخافة ربي والحياء يصدني وإكرام بعلي أن تنال مراكبه
وإذا أردت أن تخرجي فاخرجي باستئذان، عندها ستكون حياتك بأمان، حافظي على أمواله وتربية عياله، واذكري قوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}.
[3] العبادة والذكر:
لا تنسي ذكر الله, ولا تجعلي التلفاز وغيره لكِ ملهاة، فيموت قلبه نحوك فليس لك سواه، إذا نسى الصلاة فذكريه، وصلي أمامه لتسعديه، وحافظي على الصلوات الخمس, واذكري الله دائمًا بالجهر والهمس، ولا تهملي ماذا أراد زوجك اليوم وماذا طلب بالأمس، وازني بين العبادة وبين رغبات الزوج دون نقص.
[4] التطيب واللباس:
اظهري لزوجك بأجمل الثياب، وتزيني وتطيبي له بأطيب الأطياب، فإن الرجل يحب أن يرى زوجته جميلة المظهر، بهية الطلعة، ارتدي له الألوان الزاهية، ونوعي له اللباس كل يوم، أنصحك بالتبرج داخل المنزل ولزوجك، كوني كالفراشة حوله، اختاري الألوان التي يحبها، تجملي له وليني له الكلام، بذا يزيد الشوق لك والهيام.
[5] تحضير الطعام:
اطهي له أشهى الطعام، وجهزي له السرير بعدها لينام، كوني له الطاهية، ولا تجعلي الخادمة هي الآمرة الناهية، اسأليه ماذا يحب من أصناف الطعام, وأظهري له الود والاحترام، فإذا لم يعجبه ذلك اليوم طبخ الطعام، فلا تتركيه غضبان لينام، وهنا قد يتلفظ بالشتائم ويكون يومك هو اليوم الغائم، فاصبري على ذلك لتنالي الأجر الدائم.
وتذكري قول الرسول صلى الله عليه وسلم: 'ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة: الودود الولود, التي إذا ظلمت قالت: هذه يدي في يدك, لا أذوق غمضًا حتى ترضى'.
عزيزتي الزوجة.. إذا اتبعتِ هذه النصائح فسوف تعيشين في سعادة, وتجدين فوق ذلك زيادة, وسترفرف على أسرتكما أجنحة الرضا والسعادة.
وهذه مفاتيح السرقة الحلال!!
أدعو كل زوجة محبة أن تجرب تلك المفاتيح لتسرق قلب زوجها:
ـ مفتاح الصمت والابتسامة الودود.
ـ مفتاح التذكرة.
ـ مفتاح الإصلاح.
ـ مفتاح الثقة.
ـ مفتاح زرع الهيبة.
ـ مفتاح الاحترام.
ـ مفتاح التفاخر والتماس الأعذار.
ـ مفتاح الجاذبية.
ـ مفتاح الإنصات والاهتمام, واليك مواقف استخدام هذه المفاتيح:
• حين ينفعل زوجك ويغضب, عليك بمفتاح الصمت والابتسامة الودود, ثم الربتة الحانية حين يهدأ، والسؤال المنزعج بلسان يقطر شهدًا: ما لك يا حبيبي؟
• حين يقصر في العبادة وتشعرين بفتوره, عليك بمفتاح التذكرة غير المباشرة بجُمَل من قبيل: سلمت لي.. فلولا نصحك ما حافظت على قيام الليل، سأنتظرك حتى تعود من المسجد لنصلي النوافل، هل تذكر جلسات القرآن في أيام زواجنا الأولى كانت أوقاتًا رائعة، وكل وقت معك رائع، مسارعتك إلى الصلاة بمجرد سماع النداء تشعرني بالمسؤولية والغيرة، جمعنا الله في الجنة ورزقنا الإخلاص والملامة على الطاعة.
• إن لمستِ منه نشوزًا فلن تجدي أروع من مفتاح الإصلاح الذي ينصحك به الله تعالى, توددي واقتربي وراجعي تصرفاتك، تزيني، ورققي الصوت الذي اخشوشن من طول الانفعال على الصغار، صففي الشعر الجميل الذي طال اعتقاله في شكل واحد.
• حين تحدث له مشكلة في عمله جربي مفتاح بث الثقة, واسيه وشجعيه، قولي له: ما دمت ترضي الله، فالفرج قريب، وبالدعاء تزول الكربات.(/2)
• أمَّا وأنتما مع أولادكما فلا تنسيْ مفتاح زرع الهيبة، أشعريه بأنه محور حياتكما، إن عاد بشيء مهما كان قليلاً فأجزلي له الشكر، وقولي لأولادك بفرحة حقيقية: انظروا ماذا أحضر لنا بابا أبقاه الله وحفظه، إياك أن تسمحي لأحد الأولاد أن يخاطبه بـ'أنت' دون أن تنظري إليه بعتاب، وتحذريه من أن يكررها ويخاطب أباه بغير أدب، على مائدة الطعام احرصي على ألا يضع أحد في فمه لقمة قبل أن يجلس ويبدأ هو بالأكل، وحين يخلد إلى النوم والراحة حولي بيتك إلى واحة من الهدوء، وألزمي صغارك غرفة واحدة دون أصوات عالية أو تحركات مزعجة.
• مع أهله وأهلك اصطحبي مفتاح الاحترام، وأنتما وحدكما استخدمي مفتاح الأنوثة والجاذبية.
• وهو يتحدث افتحي مغاليق نفسه بمفتاح الإنصات والاهتمام وإظهار الإعجاب بما يقول وتأييده فيه.
• في أوقات الخلاف استعيني بمفاتيح التفاخر والتماس الأعذار، وحسن الظن، والرغبة في التصافي.
عزيزتي الزوجة المسلمة:
إن كنت تحبين زوجك وتريدين أن تمضي عمرك معه فستجدين ـ بعون الله ـ لكل باب مغلق مفتاحًا يجعله طوع يمينك، ومهما كان زوجك عمليًا غير رومانسي فإن قلبه لن يكون أكثر تحصينًا من بيت صديقتي الذي فتحه اللصوص, 'وأنت لستِ لصة بل صاحبة حق'. وليس من الحكمة أن يسرق قلب زوجك سواك.
فهلمي إلى الكسب الحلال ولنعم العمل ذاك باب للسعادة في الدنيا ونيل الجنة في الآخرة.(/3)
السعادة الزوجيّة والحل السهل للباحثين عنها
بشار دراغمة ومحمد جمال 13/6/1427
09/07/2006
زوجان حائران يبحثان عن سعادتهما المشتركة لكن الإخفاق حليفهما، يحاولان دائما الاقتراب إلا أن لعنة الإخفاق تلاحقهما، وآخران جعلا من البعد سبب لتعاسة لم يريداها في يوم من الأيام. كل يبحث عن سعادة دون أن يبحث عن الأسباب المؤدية إلى الهدف المطلوب. زوج يسعى لهدفه النبيل في إسعاد زوجته، لكن ترك الأسباب خلف ظهره، وزوجة تحاول تحقيق الهدف نفسه، إلا أنها لم تدرك بعد طريق الوصول.
في هذا التقرير تبحث شبكة (الإسلام اليوم) عن أسرار في السعادة الزوجية، تستقيها من العلماء والمختصين ومن تجارب الحياة اليومية.
أيتها المرأة... البداية بنفسك
يعتبر الدكتور جمال حشاس أستاذ الفقه والتشريع بكلية الشريعة في جامعة النجاح الوطنية أن السعادة الزوجية تبدأ من المرأة نفسها، وبالتحديد من أبسط الأمور، وهي القيام بالواجبات المنوطة بها كما كلفتها الشريعة الإسلامية، منها طاعة زوجها وعدم العبوس والتضجر في وجهه، والقيام بمهام تربية الأطفال، وفق أسس التربية الصحيحة.
ودعا حشاش المرأة إلى ضرورة الاهتمام بمظهرها وقال: "وعلى المرأة أن تتزين لزوجها، كما أن على الزوج كذلك أن يتزين لزوجته ويحرص على كل ما يحقق لها السعادة والاستقرار والراحة النفسية وتكون في كل حين آخذة استعدادها لقدوم زوجها واستقباله بشكل لائق بعيداً الوجه النكد".
ويبيّن "حشاش" أن من أسرار السعادة الزوجية أيضاً حفاظ الزوجة على الأسرار الزوجية، وبشكل خاص أسرار الحياة الجنسية بين الطرفين، وكل ما يجري داخل البيت، ثم عدم نقل الأحاديث بين أفراد العائلة، وعدم نقل الكلام والمحافظة على لسانها وأخلاقها.
وعن سؤال "حشاش" عن أهم أسباب السعادة الزوجية حسب رأي الشريعة الإسلامية؟ قال: "الإسلام أحاط عقد الزواج بالكثير من العناية، والرعاية والاهتمام، والهالة القدسية؛ لأنه عقد على النفوس، ومعنى هذا أنه ليس عقد مادي على الفلوس، بل إنه عيشة إلى الأبد وتكوين أسرة مطمئنة.
وأضاف: "أقام الإسلام العلاقة بين الزوجين على أساس سابق لعقد الزواج، وهو اختيار كل من الطرفين للآخر، وهو حسن الاختيار، على الدين والخلق، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه".
وبين "حشاش" أن العلاقة بين الزوجين أساس التفاهم، والود والرحمة، التي ينتج عنها المحبة الأبدية. ويلخص "حشاش" بعض النصائح من أجل السعادة بما يلي:
1- بالتزام كل من الزوجين بواجبه تجاه الآخر؛ لأن ذلك هو طريق إحقاق الحقوق.
2- الاهتمام بالبيت والأسرة بالدرجة الأولى، في أن يكون ذلك الأولوية، وإعطاء الأهل والزوج والزوجة الاهتمام كل منهما للآخر.
3- المحافظة على تربية الأطفال، وخدمتهم ورعايتهم.
4- بيّن الإسلام أن هناك حقوقاً وواجبات تُناط بكلا الزوجين، أي لكل منهما حقوق وواجبات.
5- إذا أخطأت الزوجة فالإسلام اتبع طرقاً عدة منها الوعظ والإرشاد، والإصلاح والتأديب والهجر والضبط وتدخل الأهل للإصلاح، وجعل الإسلام حكم الطلاق آخر حل في ذلك.
ويضيف قائلاً: "وترى الشريعة أن من واجب الرجل رعاية البيت والإنفاق على أطفاله، في المقابل تبذل الزوجة كل ما في وسعها لإسعاد زوجها".
أيها الرجل... تذكّرْ واجباتك
وبيّن "حشاش" أن السعادة الزوجية لا تقوم على المرأة وحدها، وإنما يتحمل الزوج الجزء الخاص به من أجل تحقيق السعادة، ويقول: "من واجب الرجل لنجاح العلاقة الزوجية القيام بالواجبات الدينية ومصاريف واحتياجات الأسرة، وألاّ يكون الزوج كسولاً، وعلى الزوج أن يرعى زوجته، ويتودّد إليها، ويحسن إليها، ويشعرها بالمحبة والقرب، ويبادلها العواطف".
وكذلك يدعو "حشاش" الزوج إلى ضرورة قيامه بتخصيص أوقات من يومه من أجل الحديث مع زوجته، والاطلاع على رغباتها، وعدم تجاهلها في الأمور الممكن تحقيقها.
الاحتياجات النفسية هدف أساسي
ويعتبر أخصائي علم النفس الأستاذ فاخر الخليلي أن الشيء الأساسي الذي يؤثر على السعادة الزوجية هو اختيار كل من الزوجين للآخر؛ لأن كلاً منهما يجب أن يتحمل الآخر. فهما اللذان اختارا وليس غيرهما. ويقول: "وهناك حالات كثيرة تحصل بينهم مشاكل زوجية بسبب عدم التوافق على الزواج، وخصوصاً في قضية الاختيار، والسؤال هنا: هل أنا اخترت شريك حياتي من تلقاء نفسي أم أُجبرت عليه، واخترته لهدف مادي أو لسبب معين؟!".
ويوضح "الخليلي" أنه إذا تم اختيار شريك الحياة بطريقة صحيحة فإن كل من الزوجين يشبع القضايا النفسية لدى الآخر؛ لأن نجاح العوامل النفسية في الحياة الأسرية أساس واضح في السعادة الزوجية.
ويضيف: "لأن كلاً منهما يجب أن يتحدث للآخر عن همومه ومشاكله النفسية أي بمعنى التفريغ النفسي الذي يجب أن يصاحب العلاقة الزوجية، وعدم كتمان الأسرار عن بعضهم البعض لأنهم شكلواً جسداً واحداً".(/1)
وبحسب أقوال الخليلي فإن السعادة الزوجية من وجهة نظر علم النفس تدل على توفير كل من الزوجين احتياجات الآخر القائمة على القضايا النفسية والجنسية والمالية ومتطلبات الحياة، دون الحديث عمّا يشوبها من مشاكل، أي بالتغلب على المشاكل.
ويضيف: "هناك عوامل تؤثر على السعادة الزوجية، وهي القضايا المالية، وعدم العملن وسوء الأوضاع الاقتصادية التي تؤثر على نفسية الزوجين؛ لأن السعادة الزوجية ليست مسؤولية أحد دون الآخر من الزوجين، وهي مسؤولية مشتركة على كليهما البحث عنها؛ لأن الأسرة تقوم في الأساس على الحب والمودة والسكينة.
أما الأخصائي الاجتماعي يونس عادل فيقول: "الظروف المحيطة بالحياة الزوجية من النواحي الاجتماعية تؤثر على الحياة الخاصة للزوجين، وبالتالي على سعادتهما، والمقصود هنا بالوضع الاجتماعي الذي يقوم على نوعية الأسرة، هل هي ممتدة أم أسرة صغيرة"؟
ويضيف: "والمعلوم أن الأسر الممتدة يتدخل فيها الأهل، بالتالي فإن العوامل الاجتماعية المحيطة بالأسرة تؤثر على السعادة الزوجية، ومن هذه العوامل طبيعة السكن وطبيعة الأسرة والأطفال وعددهم".
ويبين عادل أنه إذا كانت الظروف الاجتماعية للزوجين مواتية، مثل طبيعة كل عائلة، أي الوسط الاجتماعي الذي انحدر منه كل زوج، حتى لا يعيّر الآخر بوضعه الاجتماعي، إضافة إلى مكانته الاجتماعية، فمن المفروض وجود تناسق كامل في الوضع الاجتماعي لكل من الزوجين، حسب قوله.
ويضيف: "من المعلوم أن السعادة الزوجية يتمناها كل زوجين في الأسرة الآمنة، المحاطة بوضع يقودها إلى تربية الأطفال وتأدية المقاصد الأساسية للزواج(/2)
السعادة بين الوهم والحقيقة
مقدمة الموضوع
أسباب طرح الموضوع
تعريف السعادة
أوهام السعادة
موانع السعادة
أسباب السعادة وصفات السعداء
أولاً: مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (آل عمران:102). "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً" (النساء:1). "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً" (الأحزاب:70، 71).
أما بعد: (1) معا - أيها القارئ الكريم - نلتقي في طريق من طرق الخير، ودرب من دروب المحبة، ومسلك من مسالك السعادة.
أسأل الله أن يجعل هذا في موازين أعمالنا يوم القيامة.
أيها الأخ الكريم: هل السعادة وهم أم حقيقة؟
ربما عجبت من هذا السؤال!!
نعم، إن هناك سعادة وهمية، وسعادة حقيقية.
ولكن ما الداعي لتقليب صفحات هذا الموضوع، والخوض فيه؟
ثانياً: أسباب طرح الموضوع
أسباب طرق هذا الموضوع أمور كثيرة، منها:
1- لأن كل إنسان على وجه البسيطة يسعى إلى السعادة. قد يختلف الناس في مذاهبهم، يختلفون في أعراقهم، يختلفون في مشاربهم، بل قد يختلفون في مبادئهم، وغاياتهم، ومقاصدهم، إلا غاية واحدة ربما اتفقوا عليها، من أولهم إلى آخرهم، إنها: طلب السعادة.
المؤمن والكافر، البر والفاجر، كل واحد منهم يريد السعادة لو سألته: لم تعمل هذا؟ ولأي شيء تفعل ذاك؟ لقال: أريد السعادة!! سواء أقالها بحروفها أم بمعناها، بمدلولها أم بحقيقتها.
2- أن كثيرا من الناس يخطئ طريق السعادة، كل الناس يريدون السعادة، ولكن كثيرا منهم يخطئ هذا الطريق، بل إن القلة القليلة هي التي تسلك سبيل السعادة الحقيقية.
3- وهو سبب جوهري - أرجو أن ينال عنايتكم وانتباهكم - وهو أن كثيرا من المسلمين - وأخص الدعاة منهم - عندما يرون أصحاب السعادات الوهمية، يكون هذا الأمر عائقا لهم عن الطريق إلى الله سبحانه وتعالى.
فالداعية إلى الله سبحانه وتعالى، يصاب في طريقه بعقبات - وهذا شأن طريق الدعوة - وهو بحاجة إلى من يثبته على هذا الطريق.
ولكنه يرى كثيرا ممن يتصور - خاطئا - أنهم أصحاب سعادات، يراهم يعيشون في قمة السعادة.
وهنا يحدث له الضعف والوهن في طريقه إلى الله سبحانه وتعالى، فيقول - أو يقول له الشيطان-: ألا تكون مثل هؤلاء، ألا تعيش السعادة الحقيقية مثل هؤلاء، فيضعف عن الطريق، وكم من مستقيم ضل وانحرف عن الطريق قبل وفاته!
كم من رجل كان يعيش السعادة الحقيقية، ثم انتقل منها إلى السعادة الوهمية!!! فلم يحقق السعادة في الدنيا، ولن يحققها في الآخرة.
ومن هنا أيها الأخوة كتبت لكم عن السعادة، لنقف وقفات متأنية علنا نتبين حقيقتها وهم هي أم حقيقة؟
ثالثاً: تعريف السعادة
عند أهل اللغة: هي ضد الشقاوة، فلان سعيد، أي ضد الشقي.
وأهل التربية وعلماء النفس: يقولون - بعبارة موجزة جميلة: هي ذلك الشعور المستمر بالغبطة، والطمأنينة، والأريحية، والبهجة، وهذا الشعور السعيد يأتي نتيجة للإحساس الدائم بخيرية الذات، وخيرية الحياة، وخيرية المصير.
وقبل أن أدخل في صلب الموضوع أحب أن أشير إلى:
ثلاثة أركان رئيسة تحقق معنى السعادة الحقيقية وهي:
1- خيرية الذات.
2- خيرية الحياة وهذا المهم.
3- خيرية المصير.
رابعاً: أوهام السعادة
السعادة في المال
سأقف طويلا - أيها الأخ الكريم - عند هذه القضية، وما ذاك إلا لأنها قضية حاسمة، ومهمة في تحديد مسيرة حياتنا، بل وتحديد مفاهيمنا الخاطئة، عن السعادة والتي منها:
نتساءل كثيرا عن السعادة، هل السعادة في تكديس المال ؟ وفي جمع الثروات، وبناء العقارات والقصور؟
هل هذه هي السعادة؟
كثير من الناس يتوهم ذلك، فهذا سعيد لأنه يملك الأرصدة في البنوك.
وفلان سعيد لأنه يملك كذا من الأراضي، وكذا من العمارات. فلان سعيد لأنه يملك كذا وكذا.
كثير من الناس يطلق هذا الوهم بلسانه، وكثير منهم يعتقده بقلبه، فيتصرف من هذا المنطلق الخاطئ. أقول: ليست السعادة في جمع المال، على حد قول الشاعر:
ولست أرى السعادة جمع مال ... ولكن التقي هو السعيد
أخي المسلم:
__________
(1) - أصل هذا الكتاب محاضرة ألقاها الشيخ ناصر العمر بالرياض، وقد أذن لنا مشكورا بإخراجها.(/1)
أقف معك حول هذه القضية - أعني قضية أن السعادة في المال - لأنها من أهم القضايا في أوهام السعادة.
وجملة القول:
ليس كل صاحب مالٍ سعيدًا
فكثير من أرباب المال وأصحاب الثروات يعيشون في شقاء وتعاسة دائمة في حياتهم الدنيا قبل الآخرة لماذا؟ لأنهم يتعبون في:
1- جمع المال.
2- حفظه واستثماره.
3- القلق والخوف من فوات هذا المال وزواله.
كم من إنسان يملك المليارات ولكنه خائف! قلق! لماذا كل هذا الخوف!؟ ولم كل هذا القلق!؟
إنه يخاف على هذا المال، يخاف أن تأتي هزة سياسية، أو يأتي لصوص فيسرقون هذا المال.
إذن، هو يعيش في شقاء، خوف، قلق، هم، غم، بل إنه لا ينام الليل، وهذا أمر مجرب، مشاهد، ترونه بأعينكم، بل قد يكون المال سبب هلاكه ومماته!!
كم من غني خطف أو قتل بسبب تجارته.
بل كم من غني حرم من لذاته بسبب أمواله، تجده لا يمشي طليقا، لا يمشي حرا، لا يسافر كما يريد، لا ينام كما يريد، كل هذا بسبب أمواله!!
ثم كم من إنسان صاحب مال زال ماله، وزالت ثرواته بسبب أو بآخر فعاش بقية حياته في تعاسة وشقاء.
وإليكم هذه النماذج الناطقة:
1- قصة قارون:
تلك القصة التي أوردها القرآن الكريم عن قارون، حيث قال -سبحانه وتعالى-: "فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ" (القصص: من الآية79) في قمة سعادته، حتى إن قائلهم يقول: "إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" (القصص: من الآية79). خرج في زينته فهو ذو حظ عظيم، كل هذا من أوهام السعادة، والنتيجة لكفره بأنعم الله كما يقول الله -سبحانه وتعالى-: "فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ" (القصص:81). أي سعادة هذه وأي نهاية!؟
وعلى هذا فقول أمية بن خلف، وأمثاله - يوم القيامة - "مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ" (الحاقة:28) لم يأت من فراغ.
فبئس المال الذي لا يغني عن صاحبه شيئا.
2- قصة كرستينا أوناسيس:
تلك القصة العجيبة، التي تؤكد أن المال مهما زاد وكثر، لا يمكن أن يكون - وحده - سببا للسعادة.
قصة عجيبة تابعت فصولها على مدى خمسة عشر عاما، أو تزيد، وانتهى آخر فصل منها منذ أشهر فقط، إنها قصة: كرستينا أوناسيس.
وبما أن الله -سبحانه وتعالى- قد ضرب لنا الأمثلة من الكفار، فلا غرو ولا عجب - بل إن ذلك من ضمن المنهج الإلهي القرآني - أن نضرب لكم مثلا - حتى باسم هذه المرأة.
إليكم قصة هذه المرأة "كرستينا أوناسيس" تلك الفتاة اليونانية، ابنة المليونير المالي المشهور "أوناسيس" ذلك الذي يملك المليارات، يملك الجزر، يملك الأساطيل.
هذه الفتاة مات أبوها، وقبل ذلك ماتت أمها، وبينهما مات أخوها، وبقيت هي الوريثة الوحيدة - مع زوجة أبيها - لهذه الثروات الطائلة.
أتدري - أيها القارئ الكريم - كم ورثت؟
لقد ورثت من أبيها ما يزيد على خمسة آلاف مليون ريال!!! فتاة تملك أسطولا بحريا ضخما!! تملك جزرا كاملة!!! تملك شركات طيران!!
أخي الكريم: امرأة تملك أكثر من خمسة آلاف مليون ريال، بقصورها وسفنها، وطائراتها، أليست - في مقاييس كثير من الناس - أسعد امرأة في العالم؟؟
كم من إنسان يتمنى أن يكون مثل هذه المرأة!! أنت تعلم أنه لو وزعت ثرواتها على مئة فرد، لأصبحوا من كبار الأثرياء، بحيث يصل كل واحد منهم خمسون مليون ريال!!! فهو - إذن - من كبار الأثرياء، فما بالك بامرأة تملك هذه الثروة؟ السؤال هو: هل هذه المرأة سعيدة؟
إليكم فصول قصتها العجيبة، وسيتبين لكم من خلالها الجواب:
أما أمها: فقد ماتت بعد حياة مأساوية، كان آخر فصولها الطلاق.
وأما أخوها: فقد هلك بعدما سقطت به طائرته، التي كان يلعب بها.
وأما أبوها: فقد اختلف مع زوجته الجديدة التي هي "جاكلين كندي" زوجة الرئيس الأمريكي السابق "كندي"، تلك الزوجة التي تزوجها بملايين الدولارات، يبحث عن الشهرة فقط، ليقال: إنه تزوج بزوجة الرئيس الأمريكي "جون كندي".
ومع ذلك فقد عاش معها في شقاء دائم.
تصور أن من بنود عقد الزواج: ألا تنام معه في فراش، وألا يسيطر عليها، وأن ينفق عليها الملايين - حسب رغبتها -.
ومع ذلك فقد اختلفت معه، وعندما مات، اختلفت مع ابنته.
وخلاصة القول: أن هذه الفتاة كانت قد تزوجت في حياة أبيها - برجل أمريكي، وعاش معها شهورا، ثم طلقها - أو طلقته -.
وبعد وفاة أبيها تزوجت برجل آخر يوناني، وعاش معها شهورا ثم طلقها - أو طلقته -.
ثم انتظرت طويلا تبحث عن السعادة. أتعلمون من تزوجت؟
للمرة الثالثة، "أغنى أمرأة في العالم على الإطلاق"، أتعلمون من تزوجت؟ لقد تزوجت شيوعيا روسيا، يا للعجب!! قمة الرأسمالية تلتقي مع قمة الشيوعية!!!
وعندما سألها الناس، والصحفيون - بشكل خاص - عندما سألوها: أنت تمثلين الرأسمالية فكيف تتزوجين بشيوعي؟
عندها قالت: أبحث عن السعادة!!! نعم، لقد قالت: أبحث عن السعادة.(/2)
وبعد الزواج ذهبت معه إلى روسيا، وبما أن النظام هناك لا يسمح بامتلاك أكثر من غرفتين، ولا يسمح بخادمه، فقد جلست تخدم في بيتها - بل في غرفتيها - فجاءها الصحفيون - وهم يتابعونها في كل مكان - فسألوها: كيف يكون هذا؟
قالت: أبحث عن السعادة.
وعاشت معه سنة، ثم طلقها - بل طلقته -.
ثم بعد ذلك أقيمت حفلة في فرنسا، وسألها الصحفيون: هل أنت أغنى امرأة؟ قالت: نعم. أنا أغنى امرأة ولكني أشقى امرأة!!!
وآخر فصل من فصول المسرحية الحقيقية، تزوجت برجل فرنسي.
لاحظوا أنها تزوجت من أربع دول وليس من دولة واحدة لعلها تجرب حظها.
أقول: تزوجت بغني فرنسي (أحد رجال الصناعة) وبعد فترة يسيرة أنجبت بنتا، ثم طلقها - بل طلقته -.
ثم عاشت بقية حياتها في تعاسة، وهم، ومنذ شهور وجدوها ميتة في شالية في الأرجنتين، لا يعلمون هل ماتت ميتة طبيعية، أم أنها قتلت، حتى إن الطبيب الأرجنتيني قد أمر بتشريح جثتها، ثم دفنت في جزيرة أبيها!!
انظر إلى هذه المرأة هل أغنى عنها مالها؟
أما في الدنيا: فلا، وأما في الآخرة، فستقول - لأنها كافرة - "ما أغنى عني ماليه".
إذن، المال وحده لا يكفي، المال وحده لا يجلب السعادة، ولا يوفرها، فمن أكبر أوهام السعادة قضية الثراء والتجارة.
وفي عصرنا الحاضر، تلاحظون وتشاهدون كثيرا من التجار يعيشون في قلق دائم، تشاهدون من ذهبت منه تجارته يعيش في هم وغم.
أذكرعلى ذلك مثالا واحدا: أحد التجار، كان يملك الملايين - وهو ممن أعرفهم - ذهبت منه أمواله، وبعد فترة من الزمن ضاقت به المعيشة، وأعسره الضنك، فذهب يبحث عن عمل - وقد كان في فترة من عمره يشغل منصبا كبيرا في إحدى الوزارات - فوجد أخيرا وظيفة صغيرة "على بند العمال". أي سعادة بعد ذلك في المال؟
السعادة في الشهرة
إذن، هل السعادة في الشهرة، كالرياضة، والفن؟
أقول: لا؛ لأن الشهرة شقاء لا سعادة، ولأن الشهرة لا حقيقة لها إن لم ترتبط بتقوى الله -سبحانه وتعالى- والذي يتقي الله -سبحانه وتعالى- لا يريد الشهرة؛ لأن الشهرة إذا ارتبطت بغير سبب أصيل فإنها تزول سريعا، وإذا زالت عن صاحبها عاش في شقاء، وتعاسة.
قد يتوهم كثير من الناس أن السعادة موجودة عند صنفين من الناس هم أهل الرياضة وأهل الفن. فأقول:
1- أهل الرياضة:
معظمهم يعيش الشقاء في أيامه ولياليه.
فمن معسكر إلى معسكر ومن سفر إلى سفر فلا يكاد يستقر مع أهله إلا قليلا. ويضطر أغلبهم إلى التفريط بمستقبلهم الدراسي وعدم مواصلته. بسبب الانشغال الكامل بالرياضة.
أضف إلى ذلك: اضطرابهم عند كل مباراة. وكآبتهم عند كل هزيمة.
ثم إن الإصابات تتقاذفهم من كل جانب.
كما أن الخوف من رأي الجماهير ونظرتها عند أي هبوط في المستوى يجعلهم يعيشون شقاء متواصلا.
ثم ماذا بعد ذلك؟ إن الناس سرعان ما ينسونهم بعد الاعتزال فيزدادون ألما وحزنا.
إذن فليست السعادة عند أهل الرياضة وإن ظن الكثيرون أنها عندهم.
2- أهل الفن:
إن حياتهم أسوأ حياة يعيشها البشر!
فشل أسري، مخدرات، انحلال، انعدام حياء، موت فضيلة.
وأقصد بأهل الفن: أهل الغناء والطرب، والتمثيل.
ولا أقول هذا من عندي، بل هو من مذكراتهم التي تعج بها الصحف صباح مساء. خذوا على ما أقول ثلاث وقائع:
الواقعة الأولى: "أنور وجدي" زوج الممثلة اليهودية ليلى مراد، هذه الزوجة التي قالت عنه في مذكراتها: "إن زوجي كان ممثلا بسيطا، فقال: أتمنى أن أملك مليون جنيه حتى ولو أصبت بمرض، فقلت له: ما ينفعك المال إذا جاءك المرض؟ فقال: أنفق جزءا من المال في علاج المرض، وأعيش في بقيته سعيدا، فملك أكثر من مليون جنيه، وابتلاه الله بسرطان الكبد، فأنفق المليون جنيه وزيادة، ولم يجد السعادة حتى إنه كان لا يأكل إلا شيئا يسيرا من الطعام، فهو ممنوع من أكل كثير من الأطعمة، وأخيرا، مات بهذا المرض حسيرا نادما.
الواقعة الثانية:
"نيازي مصطفى" وهو من كبار المخرجين، لكنه عاش حياته في شقاء وتعاسة، وعندما بلغ السبعين من عمره، وجدوه قد قتل في منزله، ووجدوا أنه في تلك الليلة التي مات فيها، قد أقام حفلة صاخبة، شاركه فيها أكثر من عشر فتيات، وفي الصباح وجدوه "أثرا بعد عين".
فقد وجدوه قتيلا!!!
انظر إلى هذه الحياة، ذعر، وسكر، وخيانة، مات على هذه الحالة المأساوية، نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
الواقعة الثالثة: "عبد الحليم حافظ" الرجل الذي عاش حياته مريضا، وحيدا، من غير زوجة، ولا ولد، إلى أن اختطفه الموت، وأنهكه المرض بعد الخمسن بقليل. في قمة الشقاء.
فالسعادة - إذن - ليست إلا بريقا زائفا تشع به أعينهم لتوهم الآخرين بذلك مع أنهم يعيشون في الواقع قمة الشقاء والتعاسة.
السعادة في الشهادات
إذن، أين السعادة ؟
ربما كانت في نيل أعلى الشهادات، في أن يصبح الإنسان "دكتورا"!!.
لكني أقول لكم - بكل ثقة - لا.
ولنقف قليلا مع ما يبرهن على هذا بجلاء ووضوح.
إليكم هذه القصة الحديثة، التي نشرتها مجلة اليمامة.(/3)
طبيبة تصرخ، تقول: خذوا شهاداتي وأعطوني زوجا!!! انظروا كيف تقول هذه الطبيبة، تصوروا، دكتورة في الطب، وربما كانت في نظر كثير من الناس "سعيدة جدا"، فما دامت امرأة واستطاعت أن تكون دكتورة، بل وفي الطب أيضا.
لأن الطب - في نظر كثير من الناس - أعلى العلوم، وشهاداته أفضل الشهادات، وهذه نظرة خاطئة، إنما هذه نظرة الكثير من الناس، أن الإنسان إذا كان "دكتورا"، وفي الطب، فإنه يعيش في قمة السعادة.
إقرأوا ما تقوله هذه المرأة، حسب ما سطرت بقلمها، حيث جاء من ضمن كلامها: "السابعة من صباح كل يوم، وقت يستفزني، يستمطر أدمعي، لماذا؟ أركب خلف السائق متوجهة صوب عيادتي [ثم تستدرك] بل مدفني، بل زنزانتي"، تعبر عن عيادتها التي طالما كافحت حتى تصل إليها، تعبر عنها "بالمدفن" تعبر عنها "بالزنزانة"، ثم تقول: "وعندما أصل مثواي" بدل أن تقول: أصل إلى مكتبي، ومقر سعادتي، تقول: أصل مثواي.
ويتواصل الحديث "أجد النساء بأطفالهن ينتظرنني، وينظرن إلى معطفي الأبيض، وكأنه بردة حرير فارسية، هذا في نظر الناس، وهو في نظري لباس حداد لي!!!
[ثم تواصل قولها] أدخل عيادتي، أتقلد سماعتي وكأنها حبل مشنقة يلتف حول عنقي، العقد الثالث يستعد الآن لإكمال التفافه حول عنقي [أي: بلغت الثلاثين]، والتشاؤم ينتابني على المستقبل.
[أخيرا تصرخ وتقول:] خذوا شهاداتي ومعاطفي، وكل مراجعي، وجالب السعادة الزائفة [تعني المال]، وأسمعوني كلمة "ماما".
ثم تقول هذه الأبيات:
لقد كنت أرجو أن يقال طبيبة
فقل للتي كانت ترى في قدوة
وكل مناها بعض طفل تضمه ... فقد قيل, فما نالني من مقالها
هي اليوم بين الناس يرثى لحالها
فهل ممكن أن تشتريه بمالها
التوقيع: دكتورة س. ع. غ. الرياض
السعادة في المنصب
إذن، لعل أصحاب السعادة هم أصحاب المناصب العالية المرموقة من قادة ووزراء وغيرهم؟
غير أني أقول لكم: لا.
أتدرون لماذا؟
لأن المسئولية هم في الدنيا، وإن لم يقم صاحبها بحقها فهي حسرة وندامة يوم القيامة.
صاحب المنصب والسلطان لا يفارقه الهم خوفا من زواله، تجده يشقى للمحافظة عليه، وإذا زال منصبه - ولابد أن يزول - عاش بقية عمره تعيسا.
والمنصب قد يكون سببا في هلاك صاحبه، ولذلك يعيش في خوف وقلق دائمين.
وكفانا على ذلك قصة: فرعون وهامان صاحبا المناصب العالية المرموقة اللذان خلد القرآن قصتيهما.
أما في العصر الحاضر، فأسرد لكم أمثلة سريعة.
1- شاه إيران:
الرجل الذي أقام حفلا ليعيد فيه ذكرى مرور ألفين وخمسمائة سنة على قيام الدولة الفارسية، وأراد أن يبسط نفوذه على الخليج، ثم على العالم العربي بعد ذلك، ليلتقي مع اليهود. ذلك الرجل الذي كان يتغنى ويتقلب كالطاووس، كيف كانت نهايته.
لقد تشرد!! طرد!! لم يجد بلدا يأويه، حتى أمريكا التي كان أذل عميل لها.
وظل على هذه الحال حتى مات شريدا طريدا في مصر، بعد أن أنهكه الهم، وفتك به السرطان.
أما أولاده وأهله وحاشيته فقد أصبحوا أشتاتا متفرقين في عدة قارات!!!
2- رئيس الفلبين:
هذا الرجل الطاغية ماذا حدث له؟
لقد قلبت نظري كثيرا في قصته، فوجدتها جديرة بأخذ العبرة منها.
هذا الزعيم أذاقه الله غصص التعاسة والشقاء في الدنيا قبل الآخرة. فإذا به بين عشية وضحاها يتحول إلى شريد طريد يتنكر له أسياده وأصدقاؤه. لا يملك الرجوع إلى بلد كان يرتع فيه كما يشاء. حتى إذا جاءت وفاته لم يستطع أن يحصل على أشبار قليلة في بلده يواري فيها سوءته.
فسبحان مالك الملك.
3- بوكاسا:
وما أدراك ما بوكاسا!! الذي صدر نفسه إمبراطورا، وما زلنا نذكر صورته وأفعاله في أفريقيا الوسطى.
عندما زار فرنسا، قام عليه انقلاب، فتشرد في فرنسا، حتى ضاقت به الأرض، فجاء إلى بلده باسم مستعار، فقبضوا عليه، وحوكم في بلده.
ولا أعلم الآن أقتل أم لم يقتل؟ لكن المعلوم أنه أصيب بعدة أمراض، أهونها أمراض التعاسة والهم والغم، في البلد الذي نصب نفسه إمبراطورا له.
هذه بعض الأمثلة السريعة وما أكثر أمثال هؤلاء الذين ذكرت، من السابقين واللاحقين، تجري فيهم سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير.
إذن هذه هي السعادة الوهمية التي يتصور الناس أنها حقيقة السعادة.
كثير من الناس يبدو لأول وهلة أنهم سعداء، وهم في الواقع يتجرعون غصص الشقاء والبؤس والحسرة.
يصور هذا المعنى الشاعر حمد الحجي - رحمه الله في قصيدة له فيقول:
ما لقيت الأنام إلا رأوا مني
أظهر الإنشراح للناس حتى ... ابتساما ولا يدرون ما بي
يتمنوا أنهم في ثيابي
ثم يقول:
لو دروا أنني شقي حزين
لتنأوا عني ولم ينظروني
فكأني آتي بأعظم جرم
هكذا الناس يطلبون المنايا ... ضاق في عينه فسيح الرحاب
ثم زادوا نفورهم في اغتيابي
لو تبدت تعاستي للصحاب
للذي بينهم جليل المصاب
ومن أوضح الأمثلة على السعادة الوهمية، ما تعيشه أوربا، وبخاصة الدول الإسكندنافية، فهي أغنى الدول، سواء على مستوى الدولة، أو على مستوى دخل الفرد، ومع ذلك فهي تمثل أعلى نسب الانتحار.(/4)
فدولة السويد مثلا هي أغنى دولة من حيث دخل الفرد، ولكنها أعلى دولة في نسب الانتحار!!
بينما نجد الدول الإسلامية - مع أن أكثرها فقيرة - تسجل أقل نسبة من نسب الانتحار في العالم.
وهكذا نرى من خلال الواقع أن السعادة الحقيقية ليست في المال ولا في الشهرة، ولا في الشهادات، ولا في المناصب، ولا ما أشبه ذلك من حطام الدنيا.
إذن أين تكمن أسباب السعادة؟ ما صفات السعداء سعادة واقعية حقيقية؟
قبل الإجابة على هذا التساؤل، نمهد لذلك بذكر بعض موانع السعادة على وجه الاختصار.
خامساً: موانع السعادة
لا ريب أن ثمة موانع كثيرة للسعادة تحول دون الوصول إليها، والتنعم بالعيش فيها.
وإليك يا أخي القارئ هم تلك الموانع:
1- الكفر: يقول الله -تعالى-: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ )(الأنعام: من الآية125).
هكذا يصور القرآن التعاسة والشقاء تصويرا دقيقا.
2- عمل المعاصي والآثام والجرائم: ولن أستشهد على هذا الأمر فهو واضح جلي، لكني أذكر قولا من أقوال الكفار، لبيان هذه القضية.
يقول ألكس كاريل: "إن الإنسان لم يدرك بعد فداحة النتائج التي تترتب على الخطيئة، ونتائجها لا يمكن علاجها على وجه العموم".
ويقول سقراط، وهو كافر: "إن المجرم دائما أشقى من ضحيته، وإن من يكون مجرما ولم يعاقب على جرمه، يكون من أشقى الناس".
هكذا يقول هذان الكافران، بينما نجد " أن، صحابيا أذنب، فجاء إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله طهرني، وكررها على رسول الله - عليه الصلاة والسلام - فأقام عليه الحد. " [رواه مسلم 11/199].
3- الحسد والغيرة: وأمر الحسد خطير، حتى إن الله -تعالى- يأمرنا بالاستعاذة من شر الحاسد، قال -تعالى-: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) (الفلق:5).
وقال الله -تعالى-: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النساء: من الآية54). قال ذلك عن الكفار.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجها أمته: " لا تحاسدوا، ولا تقاطعوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا " [متفق عليه]
ولا مانع من أن نستشهد على سوء الحسد من كلام بعض أعدائنا.
يقوك فيكتور بوشيخ: "إن الحسد والغيرة والحقد أقطاب ثلاثة لشيء واحد، وإنها لآفات تنتج سموما تضر بالصحة، وتقضي على جانب كبير من الطاقة والحيوية اللازمتين للتبكير والعمل".
4- الحقد والغل: قال -تعالى- في سورة الحشر: (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا) (الحشر: من الآية10).
يصف الله -تعالى- المؤمنين في هذه الآية بأنهم يقولون هذا الدعاء، لأن الغل من موانع السعادة.
ويقول -تعالى- واصفا المؤمنين في حياتهم الأبدية، في جنة الخلد: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) (الأعراف: من الآية43).
يقول إبراهيم الجمل: "الحاقد يظل طوال وقته لا يفكر إلا في النيل من الذي يحقد عليه، فقد يكذب عليه، وقد يضر به، ولا يهاب في سبيل ذلك ما يفعل".
5- الغضب: لا شك أن الغضب من حواجب السعادة والانشراح، ولذلك امتدح الله المؤمنين قائلا عنهم: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى: من الآية37). ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - " ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب " [متفق عليه].
6- الظلم: فإن الظلم مرتعه وخيم. وعاقبته سيئة إلى أبعد الحدود.
فلنقف على مثالين معاصرين يصوران عقبى الظلم ومآل الظلمة، هما (حمزة البسيوني، وصلاح نصر)، فقد كانا من جنود زعيمهما الهالك (جمال عبدالناصر) صبا على الدعاة إلى الله من الظلم والعذاب ما تقشعر له الأبدان.
ولكن: كيف كانت حياتهم؟ شر حياة والله.
أما حمزة البسيوني فقد بلغ به التجبر والطغيان إلى حد أنه كان يقول للمؤمنين - وهو يعذبهم حينما يستغيثون بالله - يقول: أين إلهكم لأضعه في الحديد!
وأما صلاح نصر فقد كان يعقد على زوجات الناس عقودا وهمية، وهن في عصمة رجال آخرين، ويتزوجهن!!! لكن كيف كانت نهاية أولئك الطغاة؟
حمزة البسيوني اصطدمت سيارته، وهو خارج من القاهرة إلى الإسكندرية، بشاحنة تحمل حديدا، فدخل الحديد في جسمه، من أعلى رأسه إلى أحشائه، وعجز المنقذون أن يخرجوه إلا قطعا.
هكذا أهلكه الله بالحديد، وهو الذي كان يقول إنه سيضع الله في الحديد، تعالى الله عما يقول الظالمون.
وأما صلاح نصر فقد أصيب بأكثر من عشرة أمراض مؤلمة، مزمنة، عاش عدة سنوات من عمره في تعاسة، ولم يجد له الطب علاجا، حتى مات سجينا، مزجوجا به في زنزانات زعمائه الذين كان يخدمهم.
إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته.
7- الخوف من غير الله - عز وجل - إن الخوف من غير الباري -سبحانه- يورث الشقاء والذلة، ولذلك قال الله -تعالى- عن بني إسرائيل: (أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ) (البقرة: من الآية114).(/5)
وقال -تعالى-: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:175).
وقال إبراهيم لقومه - كما ورد في القرآن -: (وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ) (الأنعام: من الآية80).
إذن فالخوف من غير الله من موانع السعادة.
8- التشاؤم: كم كان التشاؤم سببا في التعاسة والمتاعب. ولهذا كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يعجبه الفأل، ويكره التشاؤم. [أخرجه أحمد ورواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه].
يقول الدكتور عزيز فريد: "المتشائم يتحمل بفعل اتجاهه التشاؤمي متاعب عدة، هي أشد وقعا على أعصابه من الكوارث والملمات التي قد تقع به".
9- سوء الظن: فالله -سبحانه- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات: من الآية12).
ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث " [متفق عليه].
10- الكبر: المتكبر يعيش في شقاء دائم، وتعاسة أبدية، وإن تغطرس، وتعالى على الناس، وغمطهم حقوقهم.
11- تعلق القلب بغير الله: كتعلق قلب العاشق بمعشوقته.
ويكفي لتصوير خطورة الأمر أن نقرأ قصة مجنون ليلى، لنعلم كيف عاش هذا الرجل شريدا طريدا، حتى جن، ومات وهو عاشق.
وكم من عاشق مات في عشقه، وقدم على الله وقلبه معلق بغيره. فيالها من خسارة دنيوية وأخروية.
12- المخدرات: إن كثير من الناس يتوهم أن السعادة تجتلب بمعاقرة المخدرات والمسكرات، فيقبلون عليها، قاصدين الهروب من هموم الدنيا ومشاغلها وأتراحها، وإذا بهم يجدون أنفسهم كالمستجير من الرمضاء بالنار.
لأن المخدرات في الحقيقة من الحوائل دون السعادة، وإنها تجلب الشقاء، واليأس، والانحلال، والدمار.
دمار الفرد والمجتمع والأمة.
وإن لنا في الواقع الحاضر لخير شاهد على ذلك فليعتبر أولو الألباب.
والآن، بعد أن عرفنا موانع السعادة، فلنعد إلى طريق الخلاص والفكاك، إلى أسباب السعادة، والسبل الموصلة إلى ظلالها الوارفة.. فما هي أسباب السعادة وما هي صفات السعداء؟
سادساً: أسباب السعادة وصفات السعداء
إن من يريد أن ينال السعادة، وهو لم يأخذ بأسبابها يصدق عليه قول الشاعر:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس
فلنقف معا على أسباب السعادة وصفات السعداء لعل الله أن يوفقنا للأخذ بها إنه جواد كريم:
1- الإيمان بالله، والعمل الصالح:
يقول الله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل: من الآية97) أي فلنحيينه حياة سعيدة.
وكلنا يريد الحياة الطيبة، فعلينا بالعمل الصالح مع الإيمان: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (المائدة: من الآية69).
وفي حديث أبي يحيى صهيب بن سنان - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد، إلا للمؤمن، إن أصابته سراء، شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر، فكان خيرا له " [رواه مسلم 18/125].
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجد راحته ولذته في الصلاة والطاعة، كان يقول: " أقم الصلاة يا بلال، أرحنا بالصلاة " [رواه أحمد وأبو داود].
بينما نجد كثيرا من الناس يقول: أرحنا من الصلاة، نحن في غم، في هم، نحن مشغولون عن الصلاة - هكذا يقولون - والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: " وجعلت قرة عيني في الصلاة " [رواه أحمد والنسائي].
ولنعرج على مثال حي واقعي، لنرى كيف يفعل الإيمان بأصحابه، كيف يجعلهم يشعرون بالسعادة في كل الأحوال!! ابن تيمية - رحمه الله - عذب وسجن وطرد، ومع هذا نجده يقول، وهو في قلعة دمشق، في آخر مرحلة من مراحل إيذائه وجهاده، يقول: "ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أنى رحلت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة".
هكذا نجد شيخ الإسلام يغلق الطرق في وجوه أعدائه بهذه القولة الخالدة، التي تعد نبراسا يضيء الطريق للمؤمنين، ولا يستطيعها إلا عظماء الرجال، وذوو الهمم العالية.
2- الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره:
فكله من الله - سبحانه وتعالى - فاعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك.
وهذه الصفة من أهم صفات السعداء، إذ لا يمكن أن تحصل السعادة إلا لمن يؤمن بالله، ومن الإيمان بالله الإيمان بقضائه وقدره، والرضا بقسمه، لأن الإنسان في هذه الحياة لا بد أن ينتابه شيء من الهموم والمصائب، فإن لم يؤمن بالقضاء والقدر، هلك.
ولنضرب مثلا للإيمان بالقضاء والقدر، وأثره في سعادة الإنسان:(/6)
عروة بن الزبير- رحمه الله - أرادوا أن يقطعوا رجله، لأن فيها الآكلة (السرطان) فقالوا له: لابد أن نسقيك خمرا، لكي نستطيع أن نقطع رجلك بدون أن تحس بآلام القطع - خاصة أنهم بعد القطع سيضعونها في الزيت المغلي ليقف الدم - فماذا كان موقفه؟
لقد رفض وقال: لا، أيغفل قلبي عن ذكر الله!! فقالوا: إذن ماذا نفعل؟ قال: سأدلكم إلى طريقة أخرى، إذا قمت إلى الصلاة، فافعلوا ما تشاؤون، لأن قلبه - حينئذ - يتعلق بالله، فلا يحس بما يفعل به.
وفعلا عندما كبر مصليا، قطعوا رجله من فوق الركبة، ولم يتحرك، ولكن عندما وضعوا رجله في الزيت المغلي سقط مغشيا عليه، وفي الليل أفاق. فإذا بالناس يقولون له: أحسن الله عزاءك في رجلك، وأحسن الله عزاءك في ابنك.
لقد مات ابنه في هذه الأثناء، فماذ قال؟ قال بكل تسليم وإيمان بالقضاء: "الحمد لله، يا رب إن كنت ابتليت فقد عافيت، وإن كنت أخذت فقد أعطيت وأبقيت".
هذا هو الإيمان الصادق بالقضاء والقدر، ولكن أين أمثال هؤلاء التقاة الخاضعين لله، المسلمين لمشيئته، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:35).
3- العلم الشرعي:
فالعلماء العارفون بالله هم السعداء.
وإليك يا أخي الكريم قصة تناسب هذا المقام، وهي قصة لأحد العلماء الزهاد، ألا وهو أبو الحسن الزاهد، فما أحداث تلك القصة المثيرة؟
كان أحمد بن طولون - أحد ولاة مصر - من أشد الظلمة، حتى قيل: إنه قتل ثمانية عشر ألف إنسان صبرا (أي يقطع عنه الطعام والشراب حتى يموت) وهذا أشد أنواع القتل، فذهب أبو الحسن الزاهد إلى أحمد بن طولون امتثالا لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " [رواه أحمد والنسائي وابن ماجة] وقال له: "إنك ظلمت الرعية"، وخوفه بالله - تعالى - فغضب ابن طولون غضبا شديدا، وأمر بأن يجوع أسد ثم يطلق على أبي الحسن!! يا له من موقف رهيب!! لكن نفس أبي الحسن الممتلئة بالإيمان والثقة بالله، جعلت موقفه موقفا عجيبا.
عندما أطلقوا عليه الأسد أخذ يزأر، ويتقدم، ويتأخر، وأبو الحسن جالس لا يتحرك، ولا يبالي، والناس ينظرون إلى الموقف، بين باك وخائف على هذا العالم الورع.
وضعوا أمامه أسدا جائعا!! إنها معركة غير متكافئة!! ولكن ما الذي حدث؟ لقد تقدم الأسد وتأخر، وزأر، ثم سكت، ثم طأطأ رأسه، فقرب من أبي الحسن، فشمه، ثم انصرف عنه هادئا، ولم يمسسه بسوء.
وهنا تعجب الناس! وكبروا، وهللوا.
ولكن في القصة ما هو أعجب من ذلك.
لقد استدعى ابن طولون أبا الحسن، وقال له: قل لي بماذا كنت تفكر، والأسد عندك، وأنت لا تلتفت إليه، ولا تكترث به؟
فأجاب قائلا: إني كنت أفكر في لعاب الأسد - إن مسني - أهو طاهر أم نجس؟
قال له: ألم تخف الأسد؟ قال: لا، فإن الله قد كفاني ذلك.
هذه هي السعادة الحقيقية، التي يورثها الإيمان والعلم النافع، هذا هو الانشراح الذي يبحث عنه كل الناس.
هذا الموقف الصلب من أبي الحسن يذكرنا بموقف الصحابي الجليل خبيب بن عدي - رضي الله عنه - عندما أسره المشركون، وقبل أن يقتلوه، سألوه: هل لك حاجة قبل أن تموت؟ فطلب منهم أن يمهلوه حتى يصلي ركعتين، فأمهلوه فصلى ركعتين - وكان أول من سن الركعتين قبل القتل .
وبعد الصلاة قال: والله لولا أني خشيت أن تظنوا أني جزع من القتل، لأطلت الصلاة..
فلما رفعوه ليصلبوه ويقطعوه، سألوه: أتحب أن محمدا مكانك وأنك بين أهلك؟
فقال: "والله إني لا أحب أن يصاب محمد بشوكة بين أهله، وأنا في مكاني هذا"!!
انظر يا أخي إلى قوة اليقين، وصلابة المؤمنين!! ثم قال - رضي الله عنه - "اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا".
وأنشد يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلما
ولست بمبد للعدو تخشعا
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... على أي جنب كان في الله مصرعي
ولا جزعا إنى إلى الله مرجعي
يبارك على أوصال شلو ممزع
شجاعة، بطولة! قوة يقين! رسوخ إيمان! يصلي بثبات، يرد عليهم بثبات، يدعو عليهم بثبات، ينشد هذه الأبيات بثبات، هذا هو لب السعادة لمن أرادها.
4- الإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: من الآية28).
إن من داوم على ذكر الله يعش سعيدا مطمئن القلب. أما من أعرض عن ذكر الله، فهو من التعساء البؤساء. (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (الزخرف:36).
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه:124).
(فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الزمر: من الآية22).
5- انشراح الصدر وسلامته من الأدغال:
وفي القرآن الكريم آيات عديدة في مقام الانشراح، فقد حكى الله عن موسى - عليه الصلاة والسلام - قوله (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (طه: من الآية25).(/7)
وقال تعالى - ممتنا على رسوله محمد - - صلى الله عليه وسلم - (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح:1).
وقال تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ) (الأنعام: من الآية125).
ويقول - جل شأنه: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (الزمر: من الآية22).
فانشراح الصدر وطلبه من علامات السعادة وصفات السعداء.
6- الإحسان إلى الناس:
وهذا أمر مجرب، ومشاهد، فإننا نجد الذي يحسن إلى الناس من أسعد الناس، ومن أكثرهم قبولا في الأرض.
7- النظر إلى من هو دونك في أمور الدنيا وإلى من هو فوقك في أمور الآخرة:
كما ورد في التوجيه النبوي الكريم حين قال - صلى الله عليه وسلم - " انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله " [رواه مسلم].
هذا في أمور الدنيا، لأنك إذا تذكرت من هو دونك، علمت فضل الله عليك.
أما في أمور الآخرة فانظر إلى من هو أعلى منك، لتدرك تقصيرك وتفريطك، لا تنظر إلى من هلك كيف هلك، ولكن انظر إلى من نجا كيف نجا.
8- قصر الأمل وعدم التعلق بالدنيا، والاستعداد ليوم الرحيل:
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في كلمة جامعة مع أنها قصيرة: "الحياة قصيرة. فلا تقصرها بالهم والأكدار".
وهاك يا أخي هذه المحاورة القيمة التي دارت بين نفر، من المتخلين عن الدنيا، المتأهبين ليوم الرحيل.
جلس نفر من الصالحين يتذاكرون، ويتساءلون حول قصر الأمل.
فقيل لأحدهم: ما بلغ منك قصر الأمل؟ فقال: بلغ مني قصر الأمل أنني إذا رفعت اللقمة إلى فمي، لا أدري أأتمكن من أكلها أم لا!!
ووجه السؤال نفسه إلى آخر، فأجاب بقريب من ذلك.
ولما سئل ثالثهم عن مبلغ قصر الأمل في نفسه. قال: بلغ مني قصر الأمل أني إذا خرج مني النفس، لا أدري أيرجع أم لا!!
إن الحياة - يا أخي - قصيرة، فلا تزدها قصرا ومحقا بالهموم والأكدار.
9- اليقين بأن سعادة المؤمن الحقيقية في الآخرة لا في الدنيا: قال تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود:108).
ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - " الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر " .
وهنا قصة عجيبة لابن حجر العسقلاني - رحمه الله - خرج يوما بأبهته - وكان رئيس القضاة بمصر - فإذا برجل يهودي، في حالة رثة، فقال اليهودي: قف. فوقف ابن حجر. فقال له: كيف تفسر قول رسولكم: " الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر " وها أنت تراني في حالة رثة وأنا كافر، وأنت في نعيم وأبهة مع أنك مؤمن؟!.
فقال ابن حجر: أنت مع تعاستك وبؤسك تعد في جنة، لما ينتظرك في الآخرة من عذاب أليم - إن مت كافرا -.
وأنا مع هذه الأبهة - إن أدخلني الله الجنة - فهذا النعيم الدنيوي يعد سجنا بالمقارنة مع النعيم الذي ينتظرني في الجنات.
فقال: أكذلك؟ قال: نعم. فقال: أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
10- مصاحبة الأخيار والرفقة الصالحة:
ولا يستطيع أحد أن ينكر أثر القرين على قرينه، فهو مشهود، ومجرب، وواضح من خلال الواقع، ومن خلال التاريخ.
ولذلك قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - " مثل الجليس الصالح، والجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير... " [متفق عليه].
11- أن تعلم أن أذى الناس خير لك ووبال عليهم:
قال إبراهيم التيمي: "إن الرجل ليظلمني، فأرحمه".
ويروى أن ابن تيمية أساء إليه عدد من العلماء وعدد من الناس، وسجن في الإسكندرية.
فلما خرج، قيل له: أتريد أن تنتقم ممن أساء إليك؟ فقال: قد أحللت كل من ظلمني، وعفوت عنه" أحلهم جميعا، لأنه يعلم أن ذلك سعادة له في الدنيا والآخرة.
ويحكي الفضيل بن عياض - رحمه الله - أنه كان في الحرم، فجاء خراساني يبكي، فقال له: لماذا تبكي؟ قال: فقدت دنانير، فعلمت أنها سرقت فمني، فبكيت.
قال: أتبكي من أجل الدنانير؟ قال: لا، لكني بكيت، لعلمي أني سأقف بين يدي الله أنا وهذا السارق، فرحمت السارق، فبكيت.
وبلغ أحد السلف أن رجلا اغتابه، فبحث عن هدية جميلة ومناسبة، ثم ذهب إلى الذي اغتابه، وقدم إليه الهدية. فسأله عن سبب الهدية. فقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " من صنع لكم معروفا فكافئوه "
وإنك أهديت لي حسناتك، وليس عندي مكافأة لك إلا من الدنيا. سبحان الله!!
12- الكلمة الطيبة، ودفع السيئة بالحسنة:
قال الله - تعالى -: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34).
فتأمل يا أخي هذا الإرشاد الإلهي العظيم.
وقال - تعالى - واصفا عباده المؤمنين: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) (الفرقان: من الآية72).(/8)
13- الالتجاء إلى الله - عز وجل - وكثرة الدعاء: وقد كان ذلك من هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
كان يقول: " اللهم أصلح لي ديني، الذي هو عصمة أمري. وأصلع لي دنياي، التي فيها معاشي. وأصلح لي آخرتي، التي فيها معادي. واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر " [رواه مسلم 17/40].
وكان يقول: " اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين. وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت " .
ويقول - كما ورد في الأثر: " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، ومن الجبن والبخل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال ".
ختاما: أدعوك أيها القارئ الكريم لتلحق بركب السعداء، سعادة حقيقية غير وهمية.
لتفوز بالحياة الطيبة الهانئة بعيدا عن الأكدار والمنغصات وذلك بتحقيق معنى الإيمان بالله والعمل الصالح في نفسك.
فإن الله عز وجل يقول: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/9)
السعادة والإيمان
سلمان بن فهد العودة 22/8/1424
18/10/2003
إن الحياة إذا خلت من الإيمان فهي صحراء وهجير لافح، ليس فيها ظل ولا ماء ولا مأوى.
إِذَا الِإيمَانُ ضَاعَ فَلَا أَمَانٌ ... ...
وَلَا دُنْيَا لِمَنْ لَمْ يُحْي دِينَا
وَمَنْ رَضِي الْحَيَاةَ بِغَيْرِ دِينٍ ... ...
فَقَدْ جَعَلَ الْفَنَاءَ لَهَا قَرِينَا
فالإيمان من أقوى أسباب السعادة الدنيوية والأخروية ونتبين هذا فيمايلي:
أولاً: السعادة والعبادة :
إن التقرب إلى الله جل وعلا بطاعته وبفرائضه مما يخلق سعادة في القلب لا يُحسّها إلا من وجدها.
أ: نجد السعادة في أداء الفرائض:
يقول ربنا سبحانه وتعالى في الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه : ( وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ) رواه البخاري في صحيحه.
ويقول الله جل وعلا : " مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"[النحل:97].
يقول إبراهيم بن أدهم -وهو في نعيم العبادة-: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه؛ لجالدونا عليه بالسيوف.
ب: ونجد السعادة في أداء النوافل:
وفي تتمة الحديث القدسي يقول ربنا سبحانه وتعالى : ( وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيََ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيََ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ) .
فالنوافل مما يقربك إلى الله جل جلاله حتى تظفر بمحبته، وإذا أحبك الله سبحانه فلا خوف عليك.
وَإِذَا الْعِنَايَةُ لَاحَظَتْكَ عُيُونُهَا ... ...
نَمْ فَالْمَخَاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمَانُ
ج: ونجد السعادة في ذكر لله جل وعلا:
يقول الله في محكم كتابه: " الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"[الرعد:28].
يقول ابن القيم -رحمه الله-:
حضرت عند ابن تيمية, بعد صلاة الفجر، فجلس يذكر الله سبحانه وتعالى حتى ارتفع النهار، وتعالت الشمس, وتوسطت، ثم التفت إليَّ، وقال: هذه غدوتي, لو لم أتغدّها لم تحملني قواي.
إنها ساعات يخلو فيها بربه؛ فيناجيه, ويدعوه, ويستغفره، ويبتهل إليه، ويتضرع ويسكب دموع الندم بين يديه ؛ فيخرج وقد غسل قلبه بهذه العبادة، وتجددت حياته وروحه وخلاياه وأنسجته، وتجدد عقله وقلبه.
د: ونجد السعادة في القرآن:
يقول الله جل وتعالى : " وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ"[الإسراء: 82].
نعم!
القرآن شفاء لأمراض النفوس، وضيق الصدور، وكروب القلوب، بل وشفاء لعلل الأجساد وأمراض الأبدان.
هـ: ونجد السعادة في البِرّ بأنواعه :
يقول الله سبحانه وتعالى : " إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ"[الانفطار:13-14].
يقول بعض المفسرين: إن النعيم الذي وعده الله الأبرار هو في الدنيا وفي الآخرة، وإن الجحيم الذي أوعده الله الفجار هو في الدنيا وفي الآخرة.
فإنه يخلص إلى الأبرار في هذه الدنيا من آثار الجنة التي وُعدوا من البر والروح والإشراق والسرور والسعادة ما تهتز له قلوبهم طرباً وترقص منه أفئدتهم أنساً وفرحا حتى يقول قائلهم:
إنا لفي نعمة إن كان أهل الجنة في مثلها فهم في عيش طيب.
وهكذا يخلص إلى الفجار وأهل التعاسة والشقاء من سموم النار ولهبها ولفحها وهجيرها ما يكدر عليهم صفو عيشهم وحياتهم، حتى لا يجدون طعماً لمالٍ، ولا أهل، ولا نوم، ولا شرب، ولا صحة، ولا شباب، ولا سفر، ولا إقامة !
و: ونجد السعادة في الصلاة :
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أَرِحْنَا بِهَا يَا بلال) رواه الإمام أحمد وأبو داود.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول : ( وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ). رواه الإمام أحمد والنسائي .
إن العبد ربما أنس لحظات إلى شخص يحبه، فتحدث إليه ووجد في الحديث إليه -ولو كان حديثاً عادياً- من السرور الشيء العظيم فكيف إذا كان يناجي ربه, ويعبده, ويسجد له ويركع!
ي: ونجد السعادة في معرفة الله عز وجل :
فإن العبد إذا عرف ربَّه استراح، فيرى أثر الله عز وجل في ملكوته، يرى أثر صنعته وإبداعه, وعلمه, ورحمته, وحكمته في كل شيء.
نعم! لم ير ربَّه, لكنه رأى آثار صنعته, وآثار أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
لذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه لما سئل عن الإحسان: ( أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ).
إِلَهِي رَأَيْتُكْ!
إِلَهِي سَمِعْتُكْ!
رَأَيْتُكَ فِي كُلِّ شَيءْ
سَمِعْتُكَ فِي كُلِّ حَيّ
تَعَالَيْتَ! لَمْ يَبْد شَيءٌ لِعَيْنِي
تَبَارَكْتَ! لَمْ يَنْب صَوْتٌ بِأُذْنِي
وَلَكِنَّ طَيْفَاً بِقَلْبِي يُهِلُّ
وَمِن طَيْفِه كُلُّ نُورٍ يُطِلُّ(/1)
فيأنس المؤمن حين يرى آثار إبداع الله سبحانه وتعالى وعلمه وربوبيته وألوهيته أتم الأنس.
ولهذا جاء في صحيح مسلم عن عامر بن سعد عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
) ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِي بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً (.
· هذا مدير شركة أمريكية كبيرة جداً، تجمعت له الأموال, والجاه, والمكانة, والوظيفة، ولكنه كان يشعر بشقاء مرير، ويأوي إلى الفراش؛ فيجلس ساعات يتقلب دون أن يصل النوم إلى عينيه، وقد أعجبه أن من ضمن العاملين العاديين في هذه الشركة شاباً عربياً مسلماً في وظيفة متوسطة، وراتب متواضع، لكن هذا الشاب دائم الإشراق والبشر والابتسام والضحك والسرور.
يأكل بسرور، وينام بسرور، ويأتي ويذهب طلق المحيا، لم يره يوماً من الأيام مُكفهراً, أو مُقطباً.
فأحضره في مكتبه.
وقال له: ما شأنك؟ لماذا أنت سعيد كل هذه السعادة؟!
قال له: والله لقد عرفت ربي، وعرفت دربي، وآمنت بالله عز وجل، ولذلك استرحت.
قال: هل لك أن تهديني, أو تدلني؟!
فأخذ بيده إلى أحد المراكز الإسلامية، وهناك تعرّف على الإسلام، وسمع كثيراً من الشرح عنه، ثم لُقِّن: (أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ).
وما إن نطق بها لسانه حتى انهال في بكاءٍ مرير, ودموع حارة.
وقال: إنني شعرت بسعادة لم أشعر بها طيلة عمري!
· وهذا رجل آخر.
ذهب مع مجموعة من الدعاة إلى هناك.
هو لا يعرف شيئاً، ولكنه ـ لأول مرة ـ صاحبهم من باب التجربة.
فتأخروا عليه في السيارة؛ فنام في سيارته وهو ينتظرهم، وكان يراقبه من العمارة المجاورة رجل، فنزل إليه وطرق عليه باب السيارة ،ولما فتح له صافحه، ووجده لا يعرف اللغة الإنجليزية؛ فاستعان بمترجم وسأله:
من أنت؟
وما دينك؟
ولما وجد أنه مسلم.
قال: أريد أن أعرف السر أو الإكسير الذي يجعلك تنام في السيارة خلال نصف ساعة، بينما أنا تعوّدت أن أجلس ساعتين يومياً قبل أن أظفر بنومة قليلة، يكدرها علي قلق وتوتر.
ثانياً: السعادة والإيمان
لقد سجل الله في القرآن الكريم أن السعادة قرين الإيمان.
يقول الله جل وعلا: " الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ"[الأنعام:82].
الأمن في قلوبهم وحياتهم ودنياهم وآخرتهم؛ ولذلك فإن المؤمنين كلما صح إيمانهم؛ قويت قلوبهم، وتمت سعادتهم.
وما أصاب الإنسان من نقص ذلك " فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ"[الشورى:30].
الأستاذ " بودلي" رجل غربي، عاش في الصحراء الغربية بين الأعراب, وارتدى زيهم, وأكل طعامهم, واشترى قطيعاً من الغنم يرعاه في الصحراء.
وكتب كتاباً عن الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه: ( الرسول) .
عاش التجربة الغربية، وعاش التجربة الإسلامية عند مسلمين بسطاء عاديين، ليسوا علماء, ولا متخصصين ولا طلبة علم؛ إنهم رعاة في الصحراء فماذا يقول؟
يقول: تعلمتُ من عرب الصحراء، كيف أتغلب على القلق؟
فهم يؤمنون بالقضاء والقدر، فيعيشون أوقاتهم بأمان، لكنهم لا يقفون مكتوفي الأيدي إزاء الكوارث التي يمكن أن تحل بهم.
يقول: هبت ذات يوم ريح عاصفة صحراوية رملية، فأهلكت كثيراً من الغنم, وألقت ببعضها في الرمال، ولما هدأت العاصفة كنتُ في غاية الانفعال والتأثر، بينما وجدت هؤلاء الأعراب يركض بعضهم إلى بعض، وينادي بعضهم بعضاً, وهم يضحكون, ويهتفون بأغانيهم المعتادة, ويحمدون الله فيقولون: الحمد لله لقد بقي 40% من الأغنام لم تصب بأذى.
ولما رأوا تأثري؛ قالوا لي: إن الغضب والانفعال لا يصنع شيئاً، وهذا أمر كتبه الله وقدره وقضاه.
يقول: ومع ذلك وجدتهم يحاولون جهدهم أن يتخلصوا من آثار الكارثة، وأن يعالجوها بقدر الإمكان.
فهم يؤمنون بالقضاء والقدر، ولكن لا يفهمون أن القضاء والقدر معناه الاستسلام، وترك العمل، وترك الأسباب.
يقول: وسافرت معهم ذات مرة بسيارة في الصحراء، وفي وسط الصحراء القاحلة توقفنا؛ فإذا بأحد العجلات (إطار السيارة) قد انفجر؛ فغضبت!
فقالوا لي: الغضب لا يصنع شيئاً.
ومشت السيارة قليلاً على ثلاث عجلات، ثم توقفت؛ لنكتشف بعد ذلك أن الوقود قد انتهى!
ووجدتهم ينزلون من السيارة ويدعونها جانباً، ثم يسيرون على أقدامهم، ويتقافزون مثل الظباء, بروح عالية, وسرور وبهجة وأنس، وهم يتناشدون الأشعار، ويتحدثون معي.
يقول هذا الرجل:
لقد أقنعتني الأعوام السبعة التي قضيتها في الصحراء أن الملتاثين، ومرضى النفوس، والسكيرين والمعربدين في أوروبا وأمريكا، ما هم إلا ضحايا المدنية الغربية، التي تتخذ من السرعة أساساً لها.(/2)
السعداء والتعساء
إن البحث عن السعادة والتفتيش عنها مطلب كل إنسان فمن منا لا يريد أن يعيش سعيداً فرِحاً مسروراً ؟
ولو جمعك مجلس مع الناس وسألت من فيه من السعيد ؟
فإنك ستسمع أجوبةً متعددةً ومتنوعةً ومختلفةً .
فأحدهم يقول : السعيد من عنده مال والآخر يقول :إن السعيد هو صاحب المنصب والجاه وثالث يقول : إنهم أهل الفن والطرب ... إلى غير ذلك من الأجوبة المختلفة ...
والذي يحدد السعادة وكيفية تحقيقها تجده يفني عمره في تحصيل ما يظنه سبباً للسعادة , ولاحظ معي أخي الكريم وأختي الكريم أن الحديث عن السعادة كثُر وازداد فهذه دورة عن أسباب السعادة وهذه ندوة عن طرق السعادة وهذا إعلان عن الحياة السعيدة وقد أحببت أن أنبه نفسي المقصرة إلى مفتاح عظيم من مفاتيح السعادة بل هو أعظم شيء يناله العبد في الدنيا ...
إن السعادة الحقيقية التي يُحصلها العبد في الدنيا : السعادة في طاعة الله تعالى فالطاعات من أعظم سبُل تحقيق السعادة والعكس أيضا صحيح فالمعاصي تجعل العبد مهموماً حزيناً كئيباً وإن كانت عنده أموال الدنيا وسرُّ المسألة أن الطاعة توجب القرب من الرب سبحانه فكلما اشتد القرب قوي الأنس والمعصية توجب البعد من الرب وكلما ازداد البُعد قويت الوحشة ...
فمن الناس من يظن أن أهل الفن والطرب في سعادة وإنما هُم في شقاءٍ عظيم وإن أطلقوا الابتسامات والضحكات ولو كان بإمكانك أن تشق صدر أحدهم وتسأل قلبه هل أنت سعيد ؟
فستجد فيه بحراً لا ساحل له من الأحزان والهموم لأنه سلكوا طريق المعصية للوصول إلى السعادة واعلم تماما بأنهم لن يصلوا إليها أبداً ...
وقد أجمع السائرون إلى الله أن القلوب لا تُعطى مناها حتى تصل إلى مولاها ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة ولا تكون صحيحة سليمة حتى ينقلب داؤها فيصير نفس دوائها ولا يصح لها ذلك إلا بمخالفة هواها فهواها مرضها وشفاؤها مخالفته فإن استحكم المرض قتل أو كاد.
وكما أن من نهى النفس عن الهوى كانت الجنة مأواه فكذا يكون قلبه في هذه الدار في جنة عاجلة لا شبه نعيم أهلها نعيما ألبتة بل التفاوت الذي بين النعيمين كالتفاوت الذي بين نعيم الدنيا والآخرة وهذا أمر لا يُصدّق به إلا من باشر قلبه هذا وهذا ...
ولا تحسب أن قوله تعالى ( إن الأبرار لفي نعيم . وإن الفجار لفي جحيم ) مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط بل في دورهم الثلاثة هم كذلك أعني : دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار فهؤلاء في نعيم وهؤلاء في جحيم .
وهل النعيم إلا نعيم القلب ؟
وهل العذاب إلا عذاب القلب؟
وأي عذاب أشد من الخوف والهم والحزن وضيق الصدر , وإعراضه عن الله والدار الآخرة وتعلقه بغير الله وانقطاعه عن الله بكل وادٍ منه شُعبة ؟
وكل شيء تعلق به وأحبه من دون الله فإنه يسومه سوء العذاب .
فكل من أحب شيئا غير الله عُذب به ثلاث مرات في هذا الدار فهو يعذب به قبل حصوله حتى يحصل فإذا حصل عُذب به حال حضوره بالخوف من سلبه وفواته والتنغيص والتنكيد عليه وأنواع من العذاب في هذه المعارضات فإذا سُلبه اشتد عليه عذابه ؛ فهذه ثلاثة أنواع من العذاب في هذه الدار .
وأما في البرزخ فعذاب يقارنه ألم الفراق الذي لا يرجو عَوْدَه وألم فوات ما فاته نم النعيم العظيم باشتغاله بضده وألم الحجاب عن الله وألم الحسرة التي تُقطع الأكباد فالهم والغم والحسرة والحزن تعمل في نفوسهم نظير ما تعمل الهوام والديدان في أبدانهم بل عملها في النفوس دائم مستمر حتى يردها الله إلى أجسادها فحينئذ ينتقل العذاب إلى نوع أدهى وأمر .
فأين هذا من نعيم من يرقص قلبه طربا وفرحا وأُنساً بربه واشتياقا إليه وارتياحا بحبه وطمأنينة بذكره ؟
حتى يقول بعضهم في حال نزعه : واطرباه , ويقول الآخر : إن كان أهل الجنة في مثل هذا الحال إنهم لفي عيش طيب , ويقول الآخر : مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا لذيذ العيش فيها وما ذاقوا أطيب ما فيها .
ويقول الآخر : لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف .
ويقول الآخر : إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة .
فيا من باع حظه الغالي بأبخس الثمن وغُبن كل الغبن في هذا العقد وهو يرى أنه قد غُبن إذا لم يكن لك خبرة بقيمة السلعة فسل المقومين .
فيا عجبا من بضاعة معك الله مشتريها وثمنها جنة المأوى والسفير الذي جرى على يديه عقد التبايع وضمن الثمن عن المشتري هو الرسول صلى الله عليه وسلم وقد بعتها بغاية الهوان ...
فلنجتهد في تحصيل السعادة ولنتقرب إلى الله تعالى بما شرع فلا شك أن العبادة من أسباب السعادة والمعاصي من أسباب ذهابها .
فاللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ونعوذ بك اللهم من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضَلَع الدَّيْن وغلبة الرجال.
- نقلت في هذه المقال عباراتٍ عن العلامة الإمام شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية من كتابه العظيم الداء والدواء -
عبدالله الكمالي(/1)
السبع آيات المنجيات
بسم الله الرحمن الرحيم
" قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا هو مولنا وعلى الله فليتوكل المؤمنون "
بسم الله الرحمن الرحيم
" وان يمسسك الله بضرفلا كاشف له الا هو وان يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم "
بسم لله الرحمن الرحيم
" وما من دابة فى الارض الا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل فى كتب مبين "
بسم الله الرحمن الرحيم
"انى توكلت على الله ربى وربكم ما من دابة الا هو اخذ بناصيتها ا ن ربى على صراط مستقيم " بسم الله الرحمن الرحيم
" وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها واياكم وهو السميع العليم "
بسم الله الرحمن الرحيم
" ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم "
بسم الله الرحمن الرحيم
" ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله قل افرأيتم ما تدعون من دون الله ان ارادانى الله بضرهل هن كشفت ضره او ارادنى برحمة هل هن ممسكت رحمته قل حسبى الله عليه يتوكل المتوكلون(/1)
السفر للسياحة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ وسائل الإعلام والترفيه/الترفيه والألعاب
التاريخ ... 25/3/1424هـ
السؤال
يا شيخ: حفظكم الله، وزادكم علما وورعا، ما حكم السفر إلى مدينة الأقصر للترفيه؟ وهى مدينة مصرية مليئة بالآثار الفرعونية، وأيضا ما حكم السفر لمدينة مثل شرم الشيخ للترفيه؟ مع العلم أنها مدن سياحية مليئة بالأجانب والكاسيات العاريات،وجزاكم الله خيراً.
الجواب
السفر إلى الأماكن الأثرية لمجرد السياحة والاستطلاع الأصل فيه الإباحة، ما لم يباشر المسافر في سفره إليها أو عندها منكراً من المنكرات، وعليه أن يقصد في سفره هذا الاتعاظ والاعتبار، كما قال تعالى: "أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" [الروم:9]، وقوله: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" [الحج:46]، والسفر لغرض الترفيه مباح جائز ما لم يشتمل على منكر من المنكرات، وإذا كان الغرض من السفر إلى المدن الترفيهية هو الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صار مندوباً، أما إذا كان سفر المرء لمجرد الترفيه والسياحة ومشاهدة ومخالطة المنكرات وأصحابها، دون نكير فهذا حرام لا يجوز، والله أعلم.(/1)
السكن مع عائلات في الغرب لتعلم اللغة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 04/03/1427هـ
السؤال
ذهبت إلى بلاد الغرب لتعلم اللغة الإنجليزية، وسكنت مع عائلة نصرانية، وبعد ذلك قررت مع مجموعة من الأصدقاء أن نستأجر شقة، وهم من نفس الجنسية وجميعهم مسلمون، لكن المشكلة أني حائر: هل أترك أصدقائي وأرجع للعائلة لأكسب اللغة، أم أجلس مع الشباب، ونصلي مع بعض جماعة؟ علماً أن الشباب يسمعون الأغاني وكثيرو الهزل والضحك، وأنا أريد الثبات، فأعينوني جزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فسكنك مع زملائك الشباب خير لك من السكن مع العائلة النصرانية، ولا سيما وزملاؤك –كما ذكرت- من أهل الخير والصلاح مواظبون على الصلاة، وسماعهم الأغاني وكثرة مزاحهم أخف ضرراً من سكنك ونومك وأكلك وشربك مع عائلة أجنبية، فأنت مخالف للشرع باختلاطك أو خلوتك بامرأة أجنبية عنك، فضلاً عما قد يترتب عليها من مفاسد أخرى لا تحمد عقباها في الدنيا والآخرة، ولا سيما مع وجود المغريات وعدم العفة واستحلال الزنا عند نساء الكفار، كاتخاذ الأخدان والأصدقاء، ومحافظتك على دينك -ولو تأخرت قليلاً في إتقان اللغة- خير لك من إتقان اللغة وضياع الدين. وفَّق الله الجميع إلى الخير، وعصمنا وإياك عن محارمه. آمين.(/1)
السكنى فيما استردته الدولة من مواطنيها
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الغصب والإتلاف
التاريخ ... 6/6/1424هـ
السؤال
اشترت أسرتي شقة بمبلغ 18 ألف دينار، دفعت للساكن الذي كان يقيم بها خلو رجل، أو عتبة، فهو ليس صاحبها الأصلي، وليس كذلك مستأجراً لها، إذ إن صاحبها الأصلي كان قد قام ببناء العمارة عن طريق أخذ قرض من مصرف تابع للدولة في السبعينيات، وفى بداية الثمانينيات قامت الدولة بتأميم الممتلكات، ومن ضمنها هذه العمارة التي أخذتها ووزعتها على المواطنين، هل يجوز لي السكن في الشقة على أساس أن الدولة استردت مالها؟ إذ إن صاحب العمارة لم يكن قد رد كامل قيمة القرض، حينما قامت الدولة بوضع يدها على العمارة، أم أن وجودي في الشقة غير شرعي وهو غصب لحق مسلم؟ أرجو إفادتي بالإجابة، إذ إني أعتزم الزواج بهذه الشقة إذا لم يكن هناك مانع شرعي. وجزاكم الله خيراً.
الجواب
يا أخي سؤالك فيه إشكال كبير سببه تدخل الدولة في أملاك الغير ومصادرتها بغير حق، ومع هذا أستعين الله في الجواب فأقول:
إن المالك الأصلي الذي اقترض من مصرف تابع للدولة ولم يفِ بالسداد فصادرت الدولة العمارة منه، أقول إن تصرف الدولة حينئذ صحيح، ويلزمها أن تدفع له ما سدده من أقساط، إذا كان سدد، كما يلزمها شرعاً أن تدفع له ما زاد عن قيمة العمارة وقت سحبها منه، والمالك الأول الأصلي، ليس له حق أن يؤثم غير من ظلمه وهي الدولة، ثم إن الدولة قد ظلمت مرة أخرى حين أعطت هذه العمارة بعد التأميم لمواطن آخر قبل أن تعطي المالك الأول حقوقه من هذه العمارة، أما حكم تملك المواطن الثاني فصحيح، حيث الذي ملكه العمارة هي الدولة، لأنه مستحق في نظرها باسم التأميم فلا إثم عليه، وإنما الإثم على من ملكه وهي الدولة، ولو كان المملك له غير الدولة لقلت بفساد العقد وعدم صحته أصلاً، ولكن لأن الدولة هي التي عملت ذلك والأصل في تصرفاتها أنها للصالح العام وولي الأمر فيها لا يملك أموالها ملكية خاصة، وإنما له حق التصرف والنظر فيها لما فيه مصلحة الناس لا غير، كل هذا جعل تصرفها مع المالك الثاني للعمارة فيه شبهة لا يفسد منها العقد، وإن كان الإثم على الدولة ممثلة بولي الأمر الآمر بمنح العمارة لهذا المواطن، بعد التأميم، وأخيراً أقول إن شراءك هذه العمارة صحيح، وعدم إذن المالك الأول لا اعتبار له في الشرع، لأنه لم يف بالعقد مع الدولة قبل التأميم، وأخذ العمارة منه جائز وإن كان له مستحقات على الدولة فهي التي ظلمته وليس له طريق عليك بحال، وعليه مطالبتها إن استطاع. أما التأميم فلعل حرمته في الأصل وعدم جوازه وأنه نوع من الغصب وأكل لأموال الناس بالباطل ظاهر بين لكل أحد، فلا يجوز لأحد أن يصادر أموال الناس وممتلكاتهم باسم التأميم أو للمصلحة العامة، وفق الله الجميع إلى كل خير، آمين.(/1)
السكينة أيها الناس
د. سلمان بن فهد العودة
(السكينة السكينة.. عليكم بالسكينة..) هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوصي الناس في حجه عليه السلام بعدم التزاحم والتدافع والتصارع.
الجدير بالملاحظة أن هذه كانت وصيته في الحياة العامة وليست في الحج فقط، بل كانت سمة المؤمنين الذي أنزل الله سكينته عليهم، وكانت (السكينة) مطلباً حياتياً طبيعياً وضرورياً، كنوع من الهدوء النفسي والاطمئنان في الحالات العامة والطارئة؛ فيجب ألا تفارقنا السكينة.
قال الله جل وعلا: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) (سورة طه: 25-26)، وقال سبحانه: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (سورة الشرح:1).
إنه انفعال النفس بالرضا الإيماني المعتدل للحال التي هو عليها أياً كانت ومجافاة القلق والشعور بالاضطراب.
إن هدوء النفس هو الحادي للإنجاز..
لأن نعيش الحياة بسعادة..
لأن نبدع في حياتنا الخاصة والعامة، الزوجية والأسرية والتجارية والعلمية.. ولأن نفكر تفكيراً سليماً في المعالجة والشعور بالتطلع لكل مشروع ناجح.
والنفس المطمئنة هي المؤمنة، يقول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) (سورة الفجر:27-30).
وأما إذا زال الهدوء والسكون؛ فالمرء يفقد توازنه فلا يفكر ولا يعمل؛ فسيطرة الغضب والانفعال أو الحزن الشديد، أو اليأس والقنوط مظاهر من فقدان السكينة النفسية.
وسورة الشرح التي فيها (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) سورة مكية متقدمة وفيها منة انشراح الصدر؛ فهو أمر ذاتي ليس مرتبطاً بالفتح ولا بالنصر ولا بالغنى، ولا بانتشار الدعوة الإسلامية مع أنها جميعاً وسائل لانشراح صدور المؤمنين، ولكن انشراح الصدر معنى إيجابي عام وقناعة داخلية مضمرة.
يُحكَى أن أحد السلف ضاق صدره من الدنيا وحالها ومن نفسه؛ فجعل يمشي في الطرقات والأحياء حتى سمع هاتفاً يقول:
ألا يا أيّها المرء الـ
ذي الهمّ به برّحْ
إذا ضاق بك الأمر
ففكّر في ألَمْ نَشْرَحْ
فعسرٌ بين يسرين
متى تذكرْهما تفرحْ
فسمعها؛ واتسع صدره. فالسكينة وهدوء النفس وانشراح الصدر مِننٌ من الله سبحانه على عباده المؤمنين وكان أرقى مَنْ ناله - انشراح الصدر - هو محمد - صلى الله عليه وسلم.
ومن مظاهر انشراح صدره صلى الله عليه وسلم:
1- صبره على المخالفين مع ما هم عليه من مجافاة الدعوة والمكر والتكذيب وابتلاء المؤمنين وتعذيبهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا).
2- صبره على أصحابه وعلى جفاة الأعراب والمنافقين وحدثاء العهد بالإسلام؛ حتى قال: (قَدْ أُوذِي مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ) للذي قال: وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ.
كما في الصحيحين، يقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا) (سورة الأحزاب:69).
3- ثقته بمستقبل هذا الدين حتى كأنه رأي العين؛ فكان يكبّر في حفر الخندق ويبشّر بكنوز كسرى وقيصر حتى قال المنافقون: ألا تعجبون من محمد! يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق، وأن نغنم كنوز فارس والروم، ونحن هنا لا يأمن أحدنا أن يذهب إلى الغائط، والله لمَا يعدنا إلا غروراً!، وفي الصحيح من حديث خباب قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، قُلْنَا لَهُ أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: (كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ). وهذا عنصر مهم من عناصر السكينة في ترقب المستقبل وقراءته للعمل والصبر.
أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها
ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ
4- مداومته على العمل والدعوة؛ عبادةً وتعليماً وجهاداً ودعوةً وصبراً, حتى أتاه النصر والفتح، وفي صحيح مسلم: (الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيِّ).(/1)
فلا تجعل هدفك تغيير الكون، بل استفرغ طاقاتك وقدراتك في العمل النافع، وستجد أن كثيراً من العوامل التي قد تعترض طريقك في العمل والكفاح تساعدك وتشد من أزرك.
5- عدم الاستعجال أو حرق المراحل (وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)..
قال صلى الله عليه وسلم: (إننا لم نؤمر بقتال..)، من حديث كعب بن مالك عند أحمد والطيالسي والبيهقي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه ابن حجر في الفتح.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي)، فمن سكينته وانشراح صدره عليه السلام العمل الجاد, وطول النَّفَس, والصبر، وإن العملية الحضارية تحتاج لأجيال, وتراكم كبير, مثلما استغرقت عملية التخلف أجيالاً وقروناً، وإنْ تطلب الحل خلال فترة العمر الفردي المحدود قفزاً واستعجالاً, وإهلاك لقدرات الفرد, وإخراج له عن معنى الهدوء والسكينة, وألذّ الطبخ وأطيبه ما كان على نار هادئة.
6- السكينة والهدوء في معايشة الحياة والأزواج والذرية، فهو يبيع ويشتري ويتاجر ويزرع ويعلم ويتعلم, وما قصة أم زرع عنا ببعيد, ومسابقته عائشة, وإشاعة الفرح في العيد والدف حين رجع من الغزوة، إلا مفردة من مفردات الرضا البشري في التعامل الذكي مع الحياة والناس والواقع والمبادئ، ومزاحه صلى الله عليه وسلم مع بعض أصحابه, أشهر من أن يذكر، ومزاحه مع الصبيان، (يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ), والحسن والحسين وأمامة حين يشاركون حتى في العبادات الدينية كالصلاة والخطبة, ولم يكن ذلك الحب والرحمة مجافاةًً لمعنى الجد الإيجابي والعمل الدعوي عند سيد البشر عليه السلام، فمفهوم السكينة في كل تجلياته محاربةٌ لمعنى الحزن الخاص والعام الذي يذهب بالهدوء الطبيعي وبالعيش الإيماني.
وحتى القضايا العلمية والثقافية تحتاج إلى (السكينة العلمية) التي ترفض صنع المشاكل التاريخية والعلمية والفكرية والعقد القديمة مما يؤثر على حقيقة السكينة التي كانت صفة من صفات عباد الرحمن (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) (سورة الفرقان: 63) فهي مطلب من مطالب الإسلام, وصفة مهمة من صفات المؤمنين, الذين يذكرون الله عز وجل كثيراً, وتطمئن قلوبهم بذكر الله (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (سورة الرعد:28)، فبالسكينة تسكن النفوس، وتعود إلى رشدها وهدوئها، (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) (سورة الأنعام:125).(/2)
السلام تحية الإسلام لماذا تركناه؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبت هذا المقال نتيجة لواقع رأيته سواء في أماكن العمل أو في الطرقات أو في البيوت وأخيرا ما رأيته في المشافي
لقد كان صلى الله عليه وسلم يأمر بالسلام وقد جعله سببا لنشر المحبة والتوادد بين المسلمين حيث يقول بابي هو وأمي: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم".
وقال تعالى : ( وإذا حُيّيتم بتحيّة فحيوا بأحسن منها أو ردّوها إنّ الله كان على كلّ شئٍ حسيباً ) (1) .
أمر الله المسلمين برد السلام على المسلم بأحسن مما سلم إن كان مؤمناً ، وإلا فليقل : ( وعليكم، فقوله : ( بأحسن منها ) للمسلمين خاصة ، وقوله : ( أو ردّوها ) لأهل الكتاب
عن السدّي ، وعطاء ، وإبراهيم ، وابن جريج ، قالوا : إذا سلم عليك المسلم فرد عليه بأحسن مما سلم عليك ، أو بمثل ما قال
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاثٌ يُصْفِين لك وُدَّ أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه
والسلام تحية أهل الجنة قال الله سبحانه وتعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة:26]
وقال عز وجل : {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم:23].
وليعلم المسلم أن السلام جالب للبركة:
فإذا أردت أخي المسلم أن يبارك الله في نفسك وأهل بيتك فسلم عليهم كلما دخلت بيتك؛ فإن ذلك من أعظم أسباب البركة. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عيله وسلم: "يا بُني إذا دخلت على أهلك فسلِّم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك".
والسلام حق المسلم على المسلم:
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه".
كما أن رد السلام واجب على المسلمين
قال صلى الله عليه وسلم: "خمسٌ تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز".
كما أن السلام سبب لرفع المكانة والدرجات:
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفشوا السلام كي تعلوا".
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السلام اسم من أسماء الله تعالى وضعه، فأفشوه بينكم، فإن الرجل المسلم إذا مر بقوم فسلم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة بتذكيره إياهم، فإن لم يردوا عليه ردَّ عليه مَن هو خيرٌ منهم وأطيب".
وكان أبو أمامة إذا انصرف إلى بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني، ولا صغير ولا كبير إلا سلّم عليه، فقيل له في ذلك، فقال: أمرنا أن نفشي السلام. وكان يقول: إن الله جعل السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أولى الناس بالله مَن بدأهم بالسلام".
من آداب السلام:
(1) أن يكون التسليم بصوت مسموع يسمعه اليقظان
عن المقداد رضي الله عنه قال: "كنا نرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه من اللبن، فيجيء من الليل فيسلم تسليمًا لا يوقظ نائمًا ويسمع اليقظان".
قال الإمام النووي رحمه الله: أقلُّه أن يرفع صوته بحيث يسمعه المُسَلَّمُ عليه، فإن لم يسمعه لم يكن آتيًا بالسنة.
(2) أن يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والصغير على الكبير، والقليل على الكثير؛
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد، والقليل على الكثير". وفي لفظ: "يسلم الصغير على الكبير ..." الحديث.
(3) أن يعيد إلقاء السلام إذا فارق أخاه ولو يسيرًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه".
(4) أن يسلم على أهل بيته عند الدخول عليهم كما سبق.
(5) عدم الاكتفاء بالإشارة باليد أو الرأس، فإنه مخالف للسنة، إلا إذا كان المسلَّم عليه بعيدًا فإنه يسلم بلسانه ويشير بيده ولا يكتفي بالإشارة.
(6) السلام في بداية المجلس وعند مفارقته لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم؛ فليست الأولى بأحق من الآخرة".
(7) أن يسلم على الصبيان إذا لقيهم اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على التواضع والرحمة، كما إن فيه تربية الناشئة على تعاليم الإسلام وغير ذلك من الفوائد.
(8) البشاشة وطلاقة الوجه والمصافحة.
(9) الحرص على السلام بالألفاظ الواردة في السنة.
إعداد: محمد شندي الراوي
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
المصدر موقع طريق الجنة http://www.aljannahway.com(/1)
السلبيات والإيجابيات .. برؤية ضرورية
إبراهيم عاصي *
الحديث في " السلبيات عندما يدور حول المجتمع ونظمه ، وأحواله العامة والخاصة ، وطروفه السياسية والاقتصادية والخلقية ، وما يتبع ذلك .. هذا الحديث يسمى ـ في مثل هذه الحالة ـ (نقداً) . والنقد أنواع بحسب ما ينصب عليه .
فإن انصب على السياسة فهو نقد سياسي ، وإن انصب على الاقتصاد فهو نقد اقتصادي ، أو على المجتمع فهو نقد اجتماعي ، وهكذا .. والنقد من جهة أخرى ، يمكن أن نصنفه بحسب الدافع له إلى صنفين : نقد للتقويم ، ونقد للتهديم !
أما عندما يدور الحديث في " السلبيات " حول الأفراد ، وحول أفراد بأسمائهم ـ على وجه التخصيص ـ فله عندئذ اسم واحد لا ثاني له ، هذا الاسم هو (الغيبة) . ذلك في حال أن السلبيات المعددة والمتخذة مداراً للحديث ، موجودة فعلاً في شخص أو أشخاص الذين يدور الكلام عنهم . أما إذا لم تكن موجودة أصلاً ، فالحديث يأخذ اسماً آخر هو (البهتان) (1) !! وهذا ما نص عليه الحديث القائل : "... إن كان ما تقول فقد اغتبته . وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ".
ومما سبق ندرك أنه إذا كان الحديث في السلبيات نافعاً وضرورياً كما في حال (النقد التقويمي) للمجتمع ، و(الاغتياب التعريفي) (2) للأفراد .. فإنه .. فإنه ـ أي الحديث ـ يصير بالغ الأذى والخطورة إذا ما جاء (نقداً تهديمياً) أو (غيبة) لمجرد الغيبة والتشهير! والأفظع من هذا وذاك أن يأتي (بهتاناً) وزوراً !!
ومن عجب أن السلبيات باتت على مدار الكثير من الزمن ، هي كل ما يراه الناس في الناس ، وإن شئت فقل : هي كل ما يحب الناس ألا يروا غيره في الناس !! وبالتالي هي كل ما يحلو للناس أن يتحدثوا فيه إذا اجتمعوا اثنين فأكثر.. في السهرات ، والندوات ، والخلوات ، وفي كل مناسبة !! وقد ترتب على هذه الظاهرة قديماً ، وما يزال يترتب عليها حديثاً الكثير من الضرر والإفساد ، والكثير من التخريب والتمزيق لأوصال الأفراد والمجتمعات على حد سواء .
ولعل السؤال الطارئ الذي برز الآن هو : (لماذا) ؟! وإنه لسؤال من حقك أن تثيره يا قارئي ، وهو حق لا أماريك فيه ، وإلا استمهلتك الجواب عليه أبداً .. تصور معي ـ مثلاً ـ الدور الذي تؤديه صحافة لا هم لها إلا أن تتبع أخبار الجرائم ، وحوادث القتل والنهب والخطف والانتحار.. أو نشر الفضائح الأخلاقية وأنباء الغدر والخيانة والاعتداء على الأعراض والحرمات !!
وتصور معي الدور الذي تؤديه منتديات أو مجتمعات ، لا حديث لأفرادها إلا أن يلوكوا سمعة فلان أو فلانة ، وعرض علان أو علانة .. هذا طويل .. ذاك قصير! هذه فاسدة الذوق .. تلك ثرثارة ! هذا مغرور.. ذاك نفعي أناني ! هذه مهملة .. تلك متعجرفة ! هذا بخيل .. ذاك منافق ! هذه أكولة .. تلك جهولة ! هذا جبان .. ذاك شكله (مجعلك) !!.
إنه دور فتاك ولا ريب .. إنه سلوك شائن ومن شأنه أن يفسد في الأرض بأسرع مما يستطيعه أي شيطان رجيم !! ومرة ثانية : (لماذا) ؟!
والجواب : إن كثرة الحديث عن الجرائم والفضائح في المجتمع ، أو عن النقائص والمثالب في الأفراد من نتائجها الحتمية ، أن يقل استفظاع الناس لها واستنكارهم إياها ، بسبب عامل الألفة .. وبالتالي فإن المنكر يصبح معروفاً ، ويصبح المعروف منكراً !! ومن ثم تشيع الفاحشة في المجتمع ، وتعم البلوى ، وينتشر الداء ، هذا على الصعيد العام ، أما على الصعيد الخاص ، صعيد الأفراد ، فإن اعتياد نهش الأعراض ، وتتبع العورات ، وتقصي الأخطاء والعيوب ـ ومن ثم إذاعتها واتخاذها مادة دسمة لتزجية الفراغ ـ يؤدي بالإنسان المتتبع المتقصي إلى نوع من (الإدمان) على ممارسة دور (الذبابة) ، هذه الحشرة التي دأبها التنقل بين الخبائث المأكولة والمشمومة ، لتقوم من بعد ذلك بتوزيع الأذى والمرض ، ونشرها بالمجان حيثما ارتحلت أو حلت من أجسام الناس ومرافقهم العامة أو الخاصة !!
ويخطئ من يظن ـ ولو بالمقاييس الأرضية وحدها ـ أن وبال (الغيبة) لا يتضرر به إلا المنهوش عرضه ، المستباح قفاه فقط . لا .. إن وبال الغيبة يحيق بثلاثة أطراف معاً :
أولها المجتمع كما سبق وبينا . وثانيها الطرف الذي تقع عليه الغيبة كما هو متفق عليه . وثالثها الطرف الوالغ في الغيبة المستمرئ لها ! ذلك لأن الذي يطلق لسانه في أعراض الآخرين ، وأنيابه في لحومهم الميتة .. إنما يهوش في نفسه نوازع الشر، ويستثير في أعماقه قابليات معينة يوظفها في الكره والحسد ، والحقد والضغينة ، بدلاً من أن يوظفها في الحب ، والإيثار، والتسامح !(/1)
إن الإدمان على الغيبة لا يورث المغتاب إلا مزيداً من عواطف (الغل والكيد والكراهية) للآخرين ، والمغتاب مخلوق أعمى البصر والبصيرة ، وإن شئت فقل أعورهما لأنه لا يبصر في الآخرين إلا المثالب والمعايب !! وهو مخلوق سجن نفسه بين جدران التشاؤم السوداوية ، وعصب عينيه بعصابة الأنانية واللؤم ، فعاش كارهاً مكروهاً ، نابذاً منبوذاً !! وهل أقتل للإنسان العاقل من حالة كهذه الحالة التي يؤول إليها أمره ؟!
على أنه قد يتبادر للذهن أنني أدعو ـ من حيث لا أقصد ولا أنتبه ـ إلى إغماض العين عن الأخطاء المحيقة ، والفساد المستشري سواء في الأفراد أو المجتمع ، وأدعو بالتالي إلى تجاهلها والسكوت عنها .. وهذا السكوت والتجاهل فيه من الخطورة والضرر ما ليس يوجد مثله في الغيبة والفضح !! معاذ الله وألف كلا .. فأنا لست غافلاً عن مثل هذا المنزلق البليد ، وإنما أردت أن أقول :
إنه لمن الخطأ الجسيم أن ننظر إلى الأشياء بعين واحدة فقط ، وقد وهبنا الله تعالى عينين اثنتين .. عيناً لترى القبح والثانية لترى الجمال .. واحدة لتبصر الخطأ فتتحاشاه والثانية لتبصر الحق فتتبعه .
وإنه لا ضير أبداً من الغيبة (في الحدود المشروعة) للأفراد ؛ إلا أنه من النافع جداً والضروري جداً أن نفتح عيننا الثانية على أوجه الخير ومواطن الصلاح التي لابد أنها موجودة ـ ولو بقدر ـ في طبائع هؤلاء الناس الذين نغتابهم ؛ لأننا عندما نتحدث علناً عن بعض (الإيجابيات) الكائنة في سلوك الأفراد ، كأن نحمد لفلان وفاءه ، وللثاني جرأته في قول الحق .. لذاك أمانته في البيع وقناعته ، ولهذا حفظه لحقوق الجوار، وهكذا ... فإننا بهذا نشجع هؤلاء على مزيد من الفضيلة والسلوك الحسن ، ونورطهم في الخير توريطاً ، وأنعم به من توريط مباح وحميد !!
وإننا بهذا ـ أيضاً ـ نكون قد كافأنا المحسن على إحسانه ولم نسو بينه وبين المسيء الذي صمتنا عن الكثير من عيوبه حذر الوقوع في الحرام !!
كما أننا بهذا الحديث العلني عن (الإيجابيات) ، نكون قد روجنا في أوساط الناس عن إدراك ووعي ، لكل خلق فاضل وسجية كريمة ، وخصلة طيبة .. وكما أن الفساد والشر قد ينتشران بالعدوى والإيحاء ؛ فكذلك الخير والمعروف ينتشران بالعدوى النفسية والإيحاء !!
وما قيل على صعيد (الأفراد) ، يقال على صعيد (المجتمعات) . فنحن لا ضير علينا أبداً في أن نرفع عقيرتنا عالياً بالنقد والتجريح ، وربما بالفضح أيضاً لكل ما نراه ونلمسه في دائرة المجتمع الكبرى من المخازي كالفوضى والتفريط بالحقوق العامة ، والظلم ، والبغي . والسرقات ، وما إلى ذلك .. مما قد يكون موجوداً بالفعل في مجتمع ما وذلك بقصد التنبيه إلى الانحراف ، ووضع الأمور في نصابها الصحيح .. كما أنه لا ضير من رصد الألوان القاتمة السوداء في المجتمع والتحذير منها ، كانتشار الفاحشة ـ مثلاً ـ وانعدام الوفاء ، وتفشي الموبقات وضياع المروءات والأمانات ، وضعف الضمائر، وغير ذلك مما هو طارئ على المجتمع أو مستفحل فيه !!
ولكن الضير كل الضير ـ وكلامي هنا موجه إلى الدعاة إلى الله وإلى المصلحين بشكل خاص ـ في أن نظل نضرب على هذا الوتر المرعب الرهيب ! ونعزف هذه المعزوفة القديمة الجديدة ، التي لا تزرع في قلوب سامعيها إلا اليأس والقنوط ، يتبعهما الخنوع والاستسلام عند أقدام المنكر في انتظار القيامة والحشر!!
إن الموقف الصحيح ـ فيما نرى ـ هو الموقف الذي نبصر فيه الأبيض والأسود معاً .. ونتحدث فيه عن البيض والأسود معاً ، إن كان لابد من الحديث عنهما كليهما !!
الموقف الصحيح يتجلى في أننا عندما نرصد في المجتمع تيارات العري المخزي الذي يذكرنا بالحياة البهيمية الأولى ،وعندما نتابع بقرف مناظر الصراصير والقمل والخنافس وأشباهها من الحشرات البشرية السارحة في صفوف شبابنا الضائع الممسوخ .. فإنه ليتوجب علينا في الوقت نفسه أن نرصد في المجتمع تيارات الهدى والإيمان ، ونتابع بارتياح واستبشار مناظر الشباب المؤمنين ، والفتيات المؤمنات الصينات المحتشمات ، من اللواتي والذين يملئون المعاهد والمساجد ونوادي العلم والثقافة ، بأعدادهم الوفيرة ، وبشخصياتهم القوية المتميزة ، وبثباتهم على الحق رغم وعورة الطريق ، وبإخلاصهم الذي لا شك فيه ..
كما علينا عندما نطيل الحديث عن الأخلاق الضائعة ، والمروءات المفقودة ، والضمائر النخرة .. ألا ننسى أنه ما يزال في المجتمع أصحاب أخلاق حميدة ، ومروءات عتيدة ، وضمائر حية . وهم من الكثرة بمكان مرموق .(/2)
ولا يغرنا كثرة أهل الفساد يطوقوننا من كل جانب ، ويعومون فوق برك الحدائق ، وزفت الشوارع ، ومواقف الباصات ، والأرصفة والتنزهات ، وعلى كراسي المقاهي والملاهي الليلية والنهارية !! بل علينا أن نذكر أن هذا الصنف من المخلوقات إنما يمثل الزبد الرابي ، والزبد يظل طافياً أبداً ! ولا يغتر بالزبد إلا زبد مثله . وقد قال الله تعالى : [وأما الزبد فيذهي جفاءً ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض] وقال أيضاً : [قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث] . فكيف إذا كان الطيب ما يزال كثرة مباركة ، وهي الأمل المنشود ، وعليها المعول في إصلاح العباد والبلاد بإذن الله ؟!!
فلنجرب ، لنجرب إذاً هذا المسلك في رؤية الأشياء وفي التعامل معها ، وثقوا بأننا إذا ما فعلنا ، فإن أحداً منا أو من ناشئتنا لن يفترسه وهم ، ولن يفت في عزيمته يأس ، أو يثبط من همته عقد ضعف ، وسيظل يحيا في أمل لا يداخله غفلة ولا غرور، وفي سعي دائب نحو غايته المثلى لا يدانيه قنوط ولا انطواء .
***
وبالمناسبة :
منذ ألف سنة وصم أحد الشعراء ـ في لحظة تشاؤم ـ الناس ، كل الناس بالغدر ولم يستثن منهم إلا القليل فقال :
وقد صار هذا الناس إلا أقلهم = ذئاباً على أجسادهن ثياب
ومنذ عشرات السنين أو مئاتها ما يزال بعض المتشنجين ينذرون أتباعهم بأننا (صرنا في الأواخر) ، بمعنى أن الدنيا انتهت وأفلست من كل خير! وأن السدود جميعها انكسرت أمام سيول الشر الجارفة التي لا طاقة لأحد بمواجهتها ! وأنه قد آن الأوان لأن (تعض على جذع الشجرة) وتستريح !!
إلى هؤلاء نقول : أين دليلكم على ما تدعون من (أننا في آخر الزمان) وأننا (صرنا في الأواخر) ولا فائدة من أي جهد إيجابي خير ؟! لعله في قوله تعالى [اقتربت الساعة وانشق القمر] ؟
لا بأس .. ليكن ذلك . كلام الله على رأسي وعيني . ورأس كل المؤمنين ، ولكن دعوني أسألكم هذا السؤال : هل يقاس (اقتراب الساعة) بعمر الإنسان الفرد أم بعمر الحياة على ظهر الأرض ؟ وإذا كان الجواب هو الافتراض الثاني ، أي أن (الاقتراب) يقاس بعمر الحياة على ظهر الأرض ، وليس بعمر الإنسان ـ وهذا هو الجواب الحتمي ـ إذ لو لم يكن ذلك كذلك لتوجب أن تقوم القيامة منذ ألف سنة على الأقل قياساً على أعمار البشر كأفراد !!
إذاً تعالوا نفترض ـ بناء على أوسط التقديرات الجيولوجية المعاصرة ـ أن الحياة قد مضى على ظهورها فوق سطح الأرض (عشرون مليون سنة) (3) فقط ! وعلى هذا فإذا لم يكن المتبقي من عمر هذه الحياة سوى (مليون سنة) وبعدها تنقرض وتزول بقيام الساعة ، لقلنا بكل اطمئنان : إننا نقترب من (الساعة) فعلاً وأن (الساعة) ـ قياساً على ما فات وانقضى ـ هي قاب قوسين منا أو أدنى !!
ونظراً لأنه قد مر على نزول الآية الشريفة تلك زهاء ألف وأربعمائة سنة ، فإن المتبقي للقيامة يكون (998,600 سنة) بطولها وعرضها !! فهل يجوز ـ والحالة هذه ـ لأحد كائناً من كان من المؤمنين ، أن (يعض على جذع الشجرة) ويغلق عليه وعلى أتباعه بابهم من الآن ويستريح ؟!!
أستغفرك يا رب وأتوب إليك .. (الساعة) علمها عندك وحدك ، وإني بهذا لمن المؤمنين ، لا أشك ولا أتطاول ـ أعاذني الله ـ وإنما أردت المثل والتقريب .. أو لست أنت القائل في محكم كتابك الكريم : [وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون] ؟! بلى .. فبعض التفكر يا قوم !!
----------------
الهوامش :
* أديب سوري معتقل منذ عام 1979
(1)البهتان : الكذب والافتراء .
(2)نقصد به الاغتياب المباح شرعاً . كالغيبة عند المشاورة أو المجاهرة ونحو ذلك مما نص عليه أهل العلم .
(3) يرى بعض علماء الجيولوجيا أن ظهور الإنسان على الأرض ، حصل خلال الحقبة الجيولوجية الثالثة ، وهذه الحقبة وحدها يقدرون لها عمراً بنحو ثلاثين مليون سنة (انظر تاريخ الحضارات العام ص 23).(/3)
السلبية والإيجابية وجهًا لوجه
بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)
رغم أننا كثيرًا ما كنا نفتخر بامتلاكنا لحضارة من القيم الإنسانية والروحية النبيلة؛ حيث يطلق علينا أحيانًا مصطلح شعوب روحية . وذلك لكوننا نتمسك بالقيم الدينية ونعلي من شأن الأخلاق. في حين أن الغرب قد ترك الدين والأخلاق، وحقق ظفرات واسعة على مستوى الحضارة المادية والتكنولوجية . وقد كنا نواسي أنفسنا وما نحن فيه من تخلف مادي وعلمي وتكنولوجي، بإعلاء شأن منظومتنا من القيم والأخلاق؛ ولكن يبدو أنه حتى هذه المنظومة التي كنا نتباهى بها، قد أصابها العطب والخلل وبدأت تتصدع أركانها، وأحد تلك الأركان هو قيم كنا نعتز بها مثل الشهامة والنخوة والمروءة والألفة والمحبة والتعاون على البر والنجدة ونصرة المظلوم والوقوف في وجه الظالم . وترعرعت فينا بدلاً منها قيم غريبة عنا أثمرت في شخصنا ما يسمى بالسلبية ، ومع ذلك كله لا نستحي من أنفسنا حين نتغنى بمآثرنا وتمسكنا بقيمنا وادعائنا بأننا الأفضل على الدوام .
وتعرف الشخصية السلبية علميًّا بأنها الشخصية "الأنامالية" انطلاقًا من القول الشائع "وأنا مالي" وصاحب هذه الشخصية يعيش بعيدًا عن شؤون مجتمعه، غاضًّا بصره عما يحيط به، معتزلاً الأحداث كبرت أم صغرت ، غير ناظر إليها إلا بمقدار ما يصيبه فيها من خير أو شر، ليس مهتمًا إلا بما يصل إليه من جدوى، ولو كان الناس في محن وفتن . متصوّرًا أن هذا الأسلوب كفيل بحمايته، ومنع أي مخاطر أو أضرار عنه، ودرء أي مشاكل يمكن أن تلحق به في حالة المشاركة أو الإقدام على مساعدة الآخرين . فمثلاً قد يشاهد لصًّا يسرق ولا يحاول منعه أو تنبيه ضحيته ، وقد يجد من يتعدى على الحرمات ولا يحرك ذلك منه ساكنًا، وإذا مر بمنكر أو فاحشة أصم أذنيه وأغمض عينيه. وقد يجد مصابًا على الطريق صدمه سائق أرعن بسيارته، وقد أوشك على الموت، فيكون رد فعله أن يسير مبتعدًا، ولسان حاله يقول "وأنا مالي" أو "ابعد عن الشر وغني له". وأصبح من المعتاد أن يشاهد شيخًا كبيرًا أو سيدة مسنة أو مريضًا يقف في وسيلة انتقال كالأتوبيس أو المترو في الوقت الذي يجلس فيه وهو معافى ولا يرأف بحال أي من هؤلاء، ويجلسهم مكانه رحمة وإكبارًا. وقد يطلب منه مظلوم أن يشهد له بما رآه فيعتذر عن ذلك متعللاً بالخوف من الدخول في مشاكل مع الخصوم. ومن مواقفه السلبية أيضًا انصرافه ومن هو على شاكلته كل فيما يخصه عن الإدلاء بصوتهم في الانتخابات سواء كانت تشريعية أو رئاسية أو انتخابات النقابات واتحاد الطلاب أو غيرها من جميع أنواع وأشكال الانتخابات. والهروب من الدفاع عن الأهل والوطن والعقيدة، فطالما نأى خاصة أهل الفرد منهم ومسكنه، عن منابع الخطر فلا عليه أن يموت غيره من الناس، وهو أسعد الناس ما دام قد سلم من هذه المهلكات أو الشرور، بل قد يبارك لك ضر ما دام بعيدًا عنه. بل تعدت سلبيتنا هذه الأحداث الفردية، ووصلت إلى مستوى الشعوب، فقد أصبحنا مطية لغيرنا من الأمم، يفعل بنا ما لا يتحمله بشر من إذلال وقهر وقتل وتشريد، ولسنا بفاعلين بأحد من شيء، ويكون رد فعلنا دائمًا هو الصمت والصمت التام، وهذا هو قمة السلبية وإضافة جديدة لها .
والسلبية سلوك مذموم نهى عنه الإسلام لأنه يتعارض مع كل قيم الإسلام وتعاليمه التي تحث على التعاون على البر والتقوى والتسابق إلى الأعمال الصالحة وفعل الخيرات، وهي ليست من الإسلام في شيء وأن السلبيين المتقاعسين يخالفون قواعد الإسلام وثوابته ولا يقبل منهم ادعاؤهم الكاذب إلى الإسلام مهما أصروا على ذلك وأقسموا. والفرد السلبي آثم ويرتكب إثمًا مع كل موقف سلبي يتخذه، ومع كل تقصير من ناحيته في القيام بما أمره به الإسلام في حق أخيه المسلم وحق مجتمعه . وهو في نظر الإسلام يُعتَبَر مكذبًا ومسؤولاً مسؤولية عظمى أمام الله تعالى ، ويعرض نفسه للويل والعذاب ؛ لأن الله عز وجل أنذر من يمتنع عن مساعدة الآخرين بالويل، وهناك نص قرآني صريح يؤكد ذلك ، قال تعالى (أَرَأَيْتَ الَّذِيْ يُكَذِّبُ بِالدِّيْنِ فَذالِكَ الَّذِيْ يَدُعُّ اليَتِيْمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلى طَعَامِ الْمِسْكِيْنِ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّيْنَ الَّذِيْنَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُوْنَ الَّذِيْنَ هُمْ يُرَاءُوْنَ وَيَمْنَعُوْنَ المَاعُوْنَ) سورةُ الماعون.(/1)
وعلى النقيض من ذلك نجده في الإيجابية والشخص الإيجابي، فالإيجابية صفة يأمرنا بها الدين ويحضنا عليها، فالعمل الإيجابي يعود على المجتمع بالخير. ولأن مصطلح الإيجابية جديد على الساحة نوعًا ما فإن الاطمئنان إلى تأصيله الشرعي واللغوي يصبح ضرورة حتى لا يفاجأ الواحد منا بواحد من المتحذلقين يقف له في مجلس من مجالس أو مناسبة من المناسبات يطالبه بهذا التأصيل أو ينكر عليه استعمال هذه الكلمة بحجة غرابتها أو عدم صحتها في القاموس العربي. فالإيجاب في اللغة هو الموافقة والقبول، وهو يقابل السلب والنفي، ومادة الفعل "وجب" ومضارعه "يجيب" من قوله تعالى (أَمَّنْ يُّجِيْبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاه) سورة النمل آية 62. والأمر منه أجب ، ومنه قوله تعالى (يَا قَوْمَنَا أَجِيْبُوا دَاعِيَ اللهِ) سورة الأحقاف آية 31 ومنه اسم الله تعالى (المُجِيْبُ) وجاوب الرجل أخاه إذا طاوعه ووافقه. ومصدر الفعل الإيجاب والمجاوبة. أما عن الأصل الشرعي للإيجابية فإننا لا نبالغ إذا قلنا: إن الإيجابية هي الحياة أوهي الدين كله. فالدين لم يقع في الأرض على السلبية والخمول والتقاعس والكسل، وإنما قام من أول لحظة على الإيجابية منذ أن خاطب الله نبيه بقوله (يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) سورة المدثر آية 1-2 وخاطبه من قبل ذلك بقوله (يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيْلاً) سورة المزمل آية 1-2 وعلم نبيه كيف يدعو الناس إلى الله بقوله (يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا اِسْتَجِيْبُوا للهِ وَلِلرَّسُوْلِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحِيْيْكُمْ) سورة الأنفال آية 24 وقوله سبحانه (اِسْتَجِيْبُوْا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَه مِنَ اللهِ مَالَكُمْ مِنْ مَّلْجَأٍ يَّوْمَئِذٍ وَّمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيْرٍ) سورة الشورى آية 47 ولو ذهبنا نستقصي ما ورد في القرآن الكريم دالاً على الإيجابية والمسارعة إلى الخيرات، لأعيانا الحصر، لأن هذا الأمر هو الأساس في دعوة الرسل جميعًا، وهذا يعني أن الإيجابية ليست دعوة إلى شيء مفقود لنوجده، إنما هي دعوة إلى الموجود من أوامر الدين، لنفعله ونعيشه ونحققه، وهي ما يعني من جانب آخر أن هؤلاء المدعوين إلى الحركة، ساكنون بغير داع إلى السكون، وخاملون بغير مبرر للخمول، وخامدون بينما الناس في الدنيا كلهم يتحركون. فالإسلام يغرس في نفس كل مسلم روح الإيجابية التي تعني علو الهمة والاجتهاد ، وينأى به عن السلبية التي تعني التكاسل والقعود عن الازدياد. وقد وجه القرآن الكريم نظر كل مسلم إلى أن يكون إيجابيًا في فعل الخير، بحيث يندفع إليه دون انتظار لمعونة أحد، أو اعتماد على قيام الغير به. يقول الله تعالى (فَقَاتِلْ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المُؤْمِنِيْنَ عَساى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيْلاً) سورة النساء آية 84 فهذه الآية الكريمة تلفت نظرنا إلى أن المسلم ينبغي أن يتصرف على أساس أنه وحده المكلف بالأداء، فلا يعتمد على الغير، بل يؤدي ما عليه من واجب، ويحرض الآخرين عليه أيضًا، فإن استجابوا لدعوته فبه ونعمت، وإلا فلا عذر له في القعود عن نصرة الحق وأداء الواجب. جاء في تفسير القرطبي: "قال الزجاج: أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد وأن يقاتل وحده، لأنه قد ضمن له النصرة. قال ابن عطية: "هذا ظاهر اللفظ إلا أنه لم يجيء في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة فالمعنى – والله أعلم – أنه خطاب له في اللفظ وهو مثال ما يُقَال لكل واحد في خاصة نفسه، أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له، فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك. ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي) وقول أبي بكر الصديق وقت الردة: "ولو خالفتني يميني لجاهدتهم بشمالي". وفي إشارة قرآنية أخرى ينفي القرآن الكريم التسوية بين المجاهدين والقاعدين، ما لم يكن ضرر يمنع القاعدين من الجهاد، وفي هذا يقول رب العزة (لاَ يَسْتَوِيْ القَاعِدُوْنَ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ غيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُوْنَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِيْنَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلى القَاعِدِيْنَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْناى وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِيْنَ عَلى القَاعِدِيْنَ أَجْرًا عَظِيْمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَّكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيْمًا) سورة النساء آية 95 وبهذا يدفع الإسلام أتباعه إلى الإيجابية قيامًا بالواجب وأداء للفرض من جانب، وطمعًا في الثواب ونيلاً للدرجات من جانب آخر. وفي إشارة قرآنية أخرى يعيب القرآن الكريم على أولئك(/2)
المتخاذلين عن نصرة الحق والمتباطئين عن تلبية النداء إذا جد الجد. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا مَالَكُمْ إِذَا قِيْلَ لَكُمْ انْفِرُوْا فِي سَبِيْلِ اللهِ اِثَّاقَلْتُمْ إِلى الأرْضِ أَرَضِيْتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيْلٌ إِلاَّ تَنْفِرُوْا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيْمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكم وَلاَ تَضُرُّوْهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيْرٌ) سورة التوبة آية 38 ويقول سبحانه (هاآ أَنْتُمْ هؤلاء تُدْعَونَ لِتُنْفِقُوْا فِي سَبِيْلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَّنْ يَبْخَل وَمَنْ يَّبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَّفْسِه وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَيَكُونُوْا أَمْثَالَكُم) سورة محمد آية 38 ولا أحد يستطيع إنكار الإيجابية والشعور بالمشاركة والمبادرات الذاتية في دولة الإسلام الأولى متمثلة في نماذج من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمنذ اللحظة الأولىتبادر أم المؤمنين خديجة، بمشاركة رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته، فتستمع إليه وهو يقص عليها ما رآه في غار حراء، وتعيش بجوارحها كلها معه، فتطمئنه وتهدي من روعه، وتبادر بالذهاب إلى من ترى لديه القدرة على التخفيف والوعي بالمشكلة وهو ورقة بن نوفل، وتعود لتبشره وتسعده. لينقلب خوفه أمنًا، وفزعه اطمئنانًا، وحزنه فرحة وسرورًا. وهذا هو أبوبكر يبادر بالاستماع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بما جاء به، ويبادر بوضع ماله كله تحت تصرف الدعوة، ثم يكون أول من يبادر ليساعد الضعفاء ويفك أسر المأسورين ويحرر العبيد والمستضعفين. وعند الهجرة يكون أول من يسارع لطلب الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعند الإسراء والمعراج هذا الحدث الذي أذهل الجميع ووجد المشركون فرصتهم في التشكيك والفتنة يكون موقف الصديق ثابتًا كالجبل، مبادرًا بقطع داء الفتنة، قائلاً: إن كان قال فقد صدق. وفي الموقف العصيب الذي أذهل العقلاء وحير الحكماء، وهو موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد وقع على قلوب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، كالصاعقة يقول الصديق في ثبات واطمئنان: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لايموت. ومن قبل ذلك موقفه في غزوة بدر وفي غزوة أحد عندما شاع بين الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتِلَ، كان جوابه: موتوا على ما مات عليه رسول الله. وفي حرب الردة يعلن موقفه التاريخي العظيم بإعلان الحرب على المرتدين، ويعقد بيده آلية أحد عشر جيشًا. ولا تقل مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن مواقف الصديق رضي الله عنه، إيجابية ومسارعة في فعل الخيرات، في إسلامه، وفي هجرته وفي جهره بدعوته، وفي تحديه قريشًا، وفي عبقريته السياسية بتنظيم الدولة، وإنشاء الدواوين، وتوزيع الخراج، وإقرار سياسة الدولة الاقتصادية، وتنظيم بيت المال، وموقفه يوم السقيفة عندما بادر فقطع دابر الفتنة بأن أخذ بيد الصديق وقال: ابسط يدك نبايعك .(/3)
وليس أمر الإيجابية والشعور بالمسؤولية وقفًا على أسماء معينة من مشاهير الصحابة، فقد كان كل صحابي يدرك أن الإسلام هو مسؤوليته، وأن دولة الإسلام دولته، وأنه شريك في إقامة دولة الإسلام وحمايتها، وإلا فمن كان يعرف من هو عمير بن الحمام قبل مبادرته الإيمانية إلى قتال المشركين حتى عد انتظاره ليأكل الثمرات وقتًا طويلاً. ومن كان يعرف الحباب بن المنذر قبل أن يتقدم بمبادرته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جندي مغمور من غمار الناس، لكن رؤيته ونفاذ بصيرته، كانت سببًا في نصر المسلمين والتخفيف عنهم. وهذا سلمان الفارسي يبادر برأيه الذي كان سببًا في إعزاز الإسلام، ونصر المسلمين في الخندق. ولو ذهبنا نعد مواقف الإيجابية لأعيانا الحصر، لأن حياة القوم كلها إيجابية، ومواقفهم هي الإيجابية بعينها، ولهذا قامت دولة الإسلام وعزت وملكت ما بين الخافقين شرقًا وغربًا في أقل من خمسين عامًا. طاوية تحت جناحها أضخم ما عرفه التاريخ من إمبراطوريات في حينه فارس والروم. إنك تستطيع أن تقول وأنت صادق: إن كل فرد من هذه الأمة كان يشعر شعورًا عميقًا بأنه يبني دولته، ويصون عقيدته، ويحافظ على كيانه وعزته. ولك أن تختار أية فترة تاريخية من حياة الأمة كانت فيها عزيزة كريمة مهيبة، فإنك لابد وأن تجد أن السمة الأولى التي ميزت تلك الفترات هي الإيجابية في أبنائها، والسماحة والرجولة والاعتدال في أمرائها، والصدق والإخلاص والربانية في علمائها، والعفة والحياء والفضيلة في بناتها ونسائها. ولن تجد فترة من تاريخ أصيبت الأمة فيها بأعدائها إلا وستجد سبب ذلك هو الاستبداد من حكامها، والتملق والضعف من علمائها، والعجز والاستسلام والخنوع من أبنائها، وتلك كلها صفات سلبية لاتقوم بها دولة ولاتسعد بها أمة ولا يعز بها كيان. وتاريخنا الإسلامي يشهد أن عصور الامتداد والفتح كانت هي عصور الاعتدال والرجولة والشجاعة واليقين من قبل الحكام وكانت هي عصور الربانية والزهد والإخلاص والتقوى من العلماء، واستعادة هذين الصنفين من الأمة يضمن استقامة النساء وإيجابية الأبناء. مصداقًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس : العلماء والأمراء). وفي ضوء هذه الإشارات القرآنية المتعددة إلى ضرورة العمل بالإيجابية والتخلي عن السلبية، فما أجدر أن يعي كل مسلم هذه الحقيقة فيعيش إيجابيًا بحيث يراه الله حيث أمره ويفقده حيث نهاه، ويكون كالغيث أينما وقع نفع ، وكالشمس تغرب في مكان لتشرق في مكان آخر، فهي في شروق دائمًا، وبذلك يسعد في دنياه ويوم يلقى مولاه .
* * *
المراجع :
(1) مجلة البداية العدد 42 الصادر بتاريخ 14 إبريل 2003م ص8 و9 و10 .
(2) جريدة الأحرار العدد 4146 الصادر بتاريخ 2 مايو 2003م الموافق غرة ربيع الأول 1424هـ.
(3) جريدة اللواء الإسلامي العدد 1218 الصادر بتاريخ 26/5/2005م ص 5.
(4) جريدة الغد العدد 37 الصادر بتاريخ 16 نوفمبر 2005م الموافق 14 شوال 1426هـ ص 3.
(5) مجلة التبيان العدد 16 الصادر بتاريخ غرة ذوالقعدة 1426هـ الموافق ديسمبر 2005م ص 6.
(6) مجلة الأزهر العدد 11 للسنة 78 الصادر بتاريخ ذوالقعدة 1426هـ الموافق ديسمبر 2005م من ص 2001 إلى ص 2005.
________________________________________
(*) 6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.
الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451
الجوّال : 0101284614
Email: ashmon59@yahoo.com(/4)
السلطان العادل نور الدين محمود زنكي
نزار محمد عثمان*
مدخل:
مرّت الشعوب المسلمة بسنين عجاف كثرت فيها الخلافات، وتعددت فيها الرايات، وظهر على المسلمين فيها الأعداء، وخبأ في قلوب الأكثرين الرجاء، غير أن الله سخر رجالاً "ظهروا ونبغوا في أحوال غير مساعدة وفي أجواء غير موافقة بل وفي أزمنة مظلمة حالكة، وفي بيئات قاتلة فاتكة، وفي شعب أصيب بشلل الفكر، وخواء الروح، وخمود العاطفة، وضعف الإرادة، وخور العزيمة، وسقوط الهمة، ورخاوة الجسم، ورقة العيش، وفساد الأخلاق، والإخلاد إلى الراحة، والخضوع للقوة، واليأس من الإصلاح"(1).
فعملوا على البناء في مجالات عدة: البناء للشخصية المسلمة والبناء للنظام الإداري والبناء للأمة المتوحدة، حتى استطاعوا تجديد الدين في واقع الناس، ونشر راية السنة في ربوع الأرض الإسلامية، من هؤلاء الأبطال السلطان العابد المتواضع الزاهد الشجاع المجاهد نور الدين محمود زنكي رحمه الله، الذي يجهل سيرته كثير من المسلمين.
أصله ونسبه:
هو الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي بن آقسنقر، كان جده آقسنقر قد وُلِّي حلب وغيرها من بلاد الشام، ونشأ أبوه عماد الدين بالعراق، وندبه الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين لولاية ديار الموصل والبلاد الشامية بعد قتل آقسنقر البرسقي وموت ابنه مسعود، فظهرت كفايته وبدت شهامته واستتب له الأمر ففتح الرها والمعرة وكفر طاب وغيرها من الحصون الشامية، واستنقذها من أيدي الكفار، وحاصر دمشق مرتين، فلم يتيسر له فتحها، فلما انقضى أجله رحمه الله قام ابنه نور الدين مقامه في الملك.
حياته:
أكرم الله نور الدين بكل هذا التاريخ المجيد وكل هذه السيرة العطرة ولم تتجاوز أيامه في هذه الأرض ثمانية وخمسين عاماً، فقد ولد نور الدين وقت طلوع الشمس من يوم الأحد سابع عشر شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة، ومات يوم الأربعاء الحادي عشر من شوال سنة تسعٍ و ستين وخمسمائة، مكث منها في الملك ثمانية وعشرين عاماً.
نشأته:
نشأ نور الدين في كفالة والده، و تعلم القرآن و الفروسية الرمي، و كان شهماً شجاعاً ذا همة عالية، وقصد صالح، وحرمة وافرة وديانة بينة (2).
حبه للسنة:
أظهر نور الدين ببلاده السنة، وأمات البدعة، ومن ذلك أمره بالتأذين بـ(حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح)، ولم يكن يؤذن بهما في دولة أبيه و جده، وإنما كان يؤذن بـ(حيّ على خير العمل) شعار الرافضة المبتدعة الذين كانوا كثيرين في أيامه.
كان نور الدين محباً للسنة حريصاً على اتباعها، قال عنه ابن عساكر: "ولقد حكى عنه من صحبه في حضره وسفره أنه لم يكن يسمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره، وإن أشهى ما إليه كلمة حق يسمعها أو إرشاد إلى سنة يتبعها" (3).
حكى الشيخ أبو البركات أنه حضر مع عمه الحافظ أبي القاسم مجلس نور الدين لسماع شئ من الحديث، فمر أثناء الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج متقلداً سيفاً، فاستفاد نور الدين رحمه الله أمراً لم يكن يعرفه، وقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلد السيف!!" يشير إلى التعجب من عادة الجند إذ هم على خلاف ذلك لأنهم يربطونه بأوساطهم، فلما كان من الغد مرّ وأنا تحت القلعة والناس مجتمعون ينتظرون ركوب السلطان، فوقفنا ننظر إليه، فخرج من القلعة وهو متقلد السيف و جميع عسكره كذلك، و يعلق ابن قاضي شهبة على هذه الحادثة فيقول: "رحم الله هذا الملك الذي لم يفرط في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الحالة. بل لما بلغته رجع بنفسه ورد جنده عن عوائدهم اتباعاً لما بلغه عن نبيه صلى الله عليه سلم فما الظن بغير ذلك من السنن" (4).
وروى أبو شامة قائلاً: "وبلغني من شدة اهتمام نور الدين رحمه الله بأمر المسلمين حين نزل الفرنج على دمياط (5) أنه قرئ عليه جزء من حديث كان له به رواية، فجاء في جملة تلك الأحاديث حديث مسلسل بالتبسم فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يبتسم لتتم السلسلة على ما عرف من عادة أهل الحديث، فغضب من ذلك وقال: إني لأستحي من الله تعالى أن يراني مبتسماً والمسلمون محاصرون بالفرنج" (6).
ومع أن نور الدين رحمه الله حنفي المذهب إلا أنه نشر مذاهب أهل السنة الأربعة، وبنى المدارس، ووقف الأوقاف، وأظهر العدل والإنصاف.
شجاعته:
يقول الإمام ابن عساكر: "بلغني أنه في الحرب رابط الجأش، ثابت القدم، شديد الانكماش، حسن الرمي بالسهام، صليب الضرب عند ضيق المقام، يقدُم أصحابه عند الكرة، ويحمي منهزمهم عند الفرة، ويتعرض بجهده للشهادة لما يرجو بها من كمال السعادة" (7).
وقال ابن الأثير: "وأما شجاعته وحسن رأيه فقد كانت النهاية إليه فيهما، فإنه كان أصبر الناس في الحرب، وأحسنهم مكيدة ورأياً، وأجودهم معرفة بأمور الأجناد وأحوالهم، وبه كان يضرب المثل في ذلك، سمعت جمعاً كثيراً من الناس لا أحصيهم يقولون: إنهم لم يروا على ظهر الفرس أحسن منه، كأنه خلق منه لا يتحرك و لا يتزلزل" (8).(/1)
وقال الحافظ ابن كثير: "وأما شجاعته فيقال: إنه لم ير على ظهر فرس أشجع ولا أثبت منه"، وقال كذلك: "وكان شجاعاً صبوراً في الحرب، يضرب المثل به في ذلك، وكان يقول: قد تعرضت للشهادة غير مرة، فلم يتفق لي ذلك، ولو كان فيّ خير ولي عند الله قيمة لرزقنيها، والأعمال بالنيات، وقال له يوماً قطب الدين النيسابوري: بالله يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك؛ فإنك لو قتلت قتل جميع من معك وأخذت البلاد، وفسد المسلمون؛ فقال له: اسكت يا قطب الدين فإن قولك إساءة أدب مع الله، ومن هو محمود؟ من كان يحفظ الدين والبلاد قبلى غير الذي لا إله إلا هو؟ ومن هو محمود؟ قال فبكى من كان حاضراً رحمه الله" (9).
وكان نور الدين رحمه الله إذا حضر الحرب أخذ قوسين وجعبتين، وباشر القتال بنفسه (10).
وعند حصن الأكراد عام 558هـ هاجم الصليبيون معسكر نور الدين رحمه الله على حين غفلة وهو في قلة من أصحابه؛ فانسحب بسرعة إلى حمص وأخذ ما يحتاجه من خيام وتجهيزات عسكرية، وعاد فعسكر على بحيرة (قدس) على بعد أربعة فراسخ فحسب من مكان الهجوم، يقول ابن الأثير: "فكان الناس لا يظنون أنه يقف دون حلب، فكان رحمه الله أشجع من ذلك وأقوى عزماً"، وعلى بحيرة (قدس) اجتمع إليه كل ناجٍ من المعركة فقال له بعض أصحابه: ليس من الرأي أن تقيم هاهنا، فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا ونحن على هذه الحال؛ فوبخه واسكته وقال: "إذا كان معي ألف فارس لا أبالي بأعدائي قلّوا أم كثروا، والله لا أستظل بجدار حتى آخذ بثأر الأسلام و ثأري"، وأرسل إلى حلب يطلب مزيداً من الأموال و العدد. وكان في نية الصليبيين الهجوم على حمص باعتبارها أقرب المواقع إليهم، فلما بلغهم مقام نور الدين رحمه الله قريباً منها قالوا: إنه لم يفعل هذا إلا وعنده من القوة ما يمنعنا (11).
وقال عنه أحد الأمراء الذين تأخروا في الاستجابة لندائه للمساعدة في فتح حارم: "إن نور الدين قد تحشف من كثرة الصوم والصلاة فهو يلقي نفسه والناس معه في المهالك" (12).
ولقد حكى عنه بعض من خدمه مدة ووازره على فعل الخير أنه سمعه يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير (13).
فتوحاته:
بعد أن تولى نور الدين رحمه الله الملك استنقذ الرها من ابن جوسلين، ولما استتب له الأمر خرج غازياً في أعمال تل باشر، فافتتح حصونا كثيرة وافتتح قلعة أفامية وقلعة عزاز وتل باشر ودلوك ومرعش وقلعة عينتاب ونهر الجوز وغير ذلك، وحصن البارة وقلعة الراوندان وقلعة تل خالد وحصن كفر لاثا وحصن بسرفوت بجبل بني عليم، وغزا حصن إنب؛ فقصده الأبرنس متملك أنطاكية وكان من أبطال العدو وشياطينهم، فرحل عنها ولقيهم دونها فكسرها وقتله وثلاثة آلاف فرنجي كانوا معه، وبقي ابنه صغيراً مع أمه بأنطاكية وتزوجت بأبرنس آخر، فخرج نور الدين رحمه الله في بعض غزواته فأسر الإبرنس الثاني، وتملك أنطاكية ابن الأبرنس الأول، وهو بيمنت، ووقع في أسره في نوبة حارم وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد (14)، وحاصر دمشق مرتين فلم يتيسر له فتحها، ثم قصدها الثالثة فتم له الصلح مع ملكها معين الدين وصاهره (تزوج ابنته)، واجتمعت كلمتهما على العدو لما وازره وسلم أهلها إليه البلد؛ لغلاء الأسعار والخوف من استعلاء كلمة الكفار، فضبط أمورها، وحصن سورها، وبنى بها المدارس والمساجد، وأفاض على أهلها الفوائد، وأصلح طرقها، ووسع أسواقها، وأدر الله على رعيته ببركته أرزاقها، وبطل منها الأنزال، ورفع عن أهلها الأثقال، ومنع ما كان يؤخذ منهم من المغارم كدار بطيخ وسوق البقل وضمان النهر والكيالة وسوق الغنم وغير ذلك من المظالم، وأمر بترك ما كان يؤخذ على الخمر من المكس، ونهى عن شربه وعاقب عليه بإقامة الحد والحبس، واستنقذ من العدو خذلهم الله ثغر بانياس وغيره من المعاقل المنيعة، كالمنيطرة وغيرها بعد الأياس (15).
إنجازاته الاجتماعية والإدارية:(/2)
أما إنجازاته الاجتماعية فقد لخصها أبن عساكر في قوله: "وأدر على الضعفاء والأيتام الصدقات، وتعهد ذوي الحاجة من أولي التعفف بالصلات، حتى وقف وقوفاً على المرضى والمجانين، وأقام لهم الأطباء والمعالجين، وكذلك على جماعة العميان، ومعلمي الخط والقرآن، وعلي ساكني الحرمين ومجاوري المسجدين، وأكرم أمير المدينة الحسين، وأحسن إليه، وأجرى عليه الضيافة لما قدم عليه وجهز معه عسكراً لحفظ المدينة، وقام لهم بما يحتاجون إليه من المؤونة، وأقطع أمير مكة إقطاعاً سنياً، وأعطى كلاً منهما ما يأكله هنياً مرياً، ورفع عن الحُجّاج ما كان يؤخذ منهم من المكس، وأقطع أمراء العرب الإقطاعات لئلا يتعرضوا للحجاج بالنحس، وأمر بإكمال سور مدينة الرسول، واستخراج العين التي بأحد وكانت قد دفنتها السيول، ودعي له بالحرمين، واشتهر صيته في الخافقين، وعمر الربط والخانقاهات والبيمارستانات (16)، وبنى الجسور في الطرق والخانات، ونصب جماعة من المعلمين لتعليم يتامى المسلمين، وأجرى الأرزاق على معلميهم وعليهم وبقدر ما يكفيهم، وكذلك صنع لما ملك سنجار وحران والرها والرقة ومنبج وشيزر وحماه وحمص وبعلبك وصرخد وتدمر، فما من بلد منها إلا وله فيه حسن أثر، وما من أهلها أحد إلا نظر له أحسن نظر، وحصل الكثير من كتب العلوم ووقفها على طلابها، وأقام عليها الحفظة من نقلتها وطلابها وأربابها، وجدد كثيراً من ذي السبيل وهدى بجهده إلى سواء السبيل (17).
زهده وتواضعه:
كان السلطان نور الدين رحمه الله زاهداً متواضعاً، لا يحب علواً في الأرض ولا فساداً، تلقى يوماً من بغداد هدية تشريف عباسية، ومعها قائمة بألقابه التي كان يذكر بها على منابر بغداد ".. اللهم أصلح المولى السلطان الملك العادل العالم العامل الزاهد العابد الورع المجاهد المرابط المثاغر نور الدين و عدته، ركن الإسلام و سيفه، قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزها، رضيَّ الإمامة وأثيرها، فخر الملة ومجدها، شمس المعالي و ملكها، سيد ملوك المشرق والمغرب وسلطانها، محي العدل في العالمين، منصف المظلوم من الظالمين ناصر دولة أمير المؤمنين.."، لكن نور الدين رحمه الله أسقط جميع الألقاب وطرح دعاءً واحداً يقول: "اللهم واصلح عبدك الفقير محمود زنكي!!" (18).
وعندما التقت قواته في (حارم) بالصليبيين الذين كانوا يفوقونهم عُدة وعدداً، انفرد نور الدين رحمه الله تحت تل حارم، وسجد لربه عز وجل، ومرّغ وجهه، وتضرع وقال: "يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك، أيش فضول محمود في الوسط؟"، يقول أبو شامة: "يشير نور الدين هنا إلى أنك يا رب أن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر، و بلغني ـ يعني أبو شامة ـ أنه قال: اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً.. من هو محمود حتي ينصر؟" (19).
وحكى أبو شامة قائلاً: "وبلغني أن إماماً لنور الدين رأى ليلة رحيل الفرنج عن دمياط في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أَعْلِمْ نور الدين أن الفرنج قد رحلوا عن دمياط في هذه الليلة، فقال: يا رسول الله، ربما لا يصدقني، فأذكر لي علامة يعرفها، فقال : قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم وقلت : يا رب انصر دينك ولا تنصر محموداً، من هو محمود الكلب حتى ينصر؟".
قال فبهت ونزلت إلى المسجد، وكان من عادة نور الدين أنه كان ينزل إليه بغلس، ولا يزال يتركع فيه حتى يصلي الصبح، قال فتعرضت له فسألني عن أمري، فأخبرته بالمنام وذكرت له العلامة، إلا أنني لم أذكر لفظة الكلب، فقال نور الدين: أذكر العلامة كلها و ألح علي في ذلك، فقلتها، فبكى ـ رحمه الله ـ وصدق الرؤيا، فأرخت تلك الليلة، فجاء الخبر برحيل الفرنج بعد ذلك في تلك الليلة" (20).
أما نفقته فقد كانت قصداً، يقول ابن كثير: "كان نور الدين عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق على أهله و عياله في المطعم والملبس حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه، من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا" (21).
ويحكي رضيع الخاتون زوجة نور الدين، أنها أرسلته إلي نور الدين تطلب زيادة في مخصصاتها المالية، يقول: "فلما قلت له ذلك تنكر وأحمر و جهه ثم قال: من أين أعطيها، أما يكفيها مالها؟ والله لا أخوض نار جهنم في هواها!! إن كانت تظن أن الذي بيدي من الأموال هي لي فبئس الظن!! إنما هي أموال المسلمين، ومرصدة لمصالحهم، ومعدة لفتق ـ أن كان ـ من عدو الاسلام، وأنا خازنهم عليها فلا أخونهم فيها، ثم قال: لي بمدينة حمص ثلاث دكاكين ملكاً قد وهبتها إياها فلتأخذها!! قال الرضيع: وكان يحصل منها قدر قليل، نحو عشرين ديناراً (22).(/3)
وقال ابن الأثير: "أحضر نور الدين الفقهاء، واستفتاهم في أخذ ما يحل له، فأخذ ما أفتوه بحله، ولم يتعده إلى غيره البتة، ولم يلبس قط ما حرمه الشرع من حرير أو ذهب أو فضة، وحكي لي عنه أنه حمل إليه من مصر عمامة من القصب الرفيع مذهبة فلم يحضرها عنده، فوصفت له فلم يلتفت إليها، و بينما هم معه في حديثها، إذ قد جاءه رجل صوفي فأمر له بها، فقيل له: إنها لا تصلح لهذا الرجل، ولو أعطي غيرها لكان أنفع له، فقال: أعطوها له فأني أرجو أن أعوض عنها في الآخرة، فسلمت إليه فسار بها إلى بغداد فباعها بستمائة دينار أو سبعمائة، وأنا أشك أنها كانت تساوي أكثر" (23).
ويقول سبط ابن الجوزي: "كان ـ يعني نور الدين ـ إذا أقام الولائم العظيمة لا يمد يده إليها إنما يأكل من طبق خاص فيه طعام بسيط" (24).
وكان يقترض أحياناً ليأكل يقول ابن كثير: "كان عمر الملاّء رجلاً من الصالحين الزاهدين، وكان نور الدين يستقرض منه في كل رمضان ما يفطر عليه، وكان يرسل إليه بفتيت ورقاق فيفطر عليه" (25).
صلاحه وتقواه:
كان نور الدين رحمه الله صالحاً.. صادق الرؤيا.. "رأى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة ثلاث مرات، وهو يقول له في كل واحدة منها: يا محمود أنقذني من هذين الشخصين، لشخصين أشقرين تجاهه، فاستحضر وزيره قبل الصبح فأخبره، فقال له: هذا أمر حدث في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ليس له غيرك، فتجهز ـ نور الدين ـ وخرج على عجل بمقدار ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك، حتى دخل المدينة على غفلة، فلما زار طلب الناس عامة للصدقة، وقال: لا يبقى بالمدينة أحد إلا جاء، فلم يبق إلا رجلان مجاوران من أهل الأندلس نازلان في الناحية التي قبلة حجرة النبي صلى الله عليه وسلم من خارج المسجد عند دار آل عمر بن الخطاب، قالا: نحن في كفاية، فجدّ في طلبهما حتى جئ بهما فلما رآهما قال للوزير هما هذان، فسألهما عن حالهما وما جاء بهما، فقالا لمجاورة النبي صلى الله عليه وسلم فكرر السؤال عليهما حتى أفضى إلى العقوبة، فأقرا أنهما من النصارى ووصلا لكي ينقلا النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحجرة الشريفة، ووجدهما قد حفرا نقباً تحت الأرض من تحت حائط المسجد القبلي يجعلان التراب في بئر عنهما في البيت.
فضرب أعناقهما عند الشباك الذي شرقي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم خارج المسجد وركب متوجهاً إلى الشام راجعاً، فصاح به من كان نازلاً تحت السور واستغاثوا وطلبوا أن يبني لهم سوراً يحفظهم فأمر ببناء هذا السور الموجود اليوم" (26).
فيا من يرى علو تلك المرتبة لا تنس الدرج!
إن الناظر إلى سيرة نور الدين رحمه الله ليرى حياة حافلة بالإنجاز و العطاء، والبذل والجهاد، ويتعجب كيف استطاع أن يبلغ تلك المنزلة، ويتذكر قول ابن القيم: "فيا من يرى علو تلك المرتبة لا تنس الدرج، كم خاض بحراً ملحاً حتى وقع بالعذب! وكم تاه في مهْمهٍ قفرٍ حتى سمى بالدليل! وكم أنضَّ مراكب الجسم! وفض شهوات الحس! وواصل السرى ـ ليلاً ونهاراً ـ وأوقد نار الصبر في دياجي الهوى" (27)، فلله كم من بحر ملح خاضه نور الدين! وكم من غصص الصبر تجرع! وكم من الشهوات خالف! وكم من المباح هجر! وكم من الجهد البدني والرياضة الروحية قدم! حتى وصل إلى تلك المرتبة التي تنحسر عنها الأبصار.
وأرى أن أهم الأسباب التي أهلته لذلك الفضل و تلك المنزلة: مواظبته على العبادة وإخلاصه وتجرده.
مواظبته على العبادة:
قال أبو شامة: سمعت ابن شداد يقول: "بلغنا بأخبار التواتر عن جماعة يعتمد علي قولهم أنه كان أكثر الليالي يصلي و يناجي ربه، مقبلاً بوجهه عليه، ويؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها، بتمام شرائطها وأركانها وركوعها وسجودها، ... وكان كفّار القدس يقولون: إن نور الدين له مع الله سر!! فإنه ما يظفر علينا بكثرة جنده وعسكره وإنما يظفر علينا بالدعاء وصلاة الليل، والله يستجيب دعاءه ويعطيه سؤله وما يرد يده خائبة، فيظفر علينا" (28)، وقال: "كان من عادة نور الدين أنه كان ينزل إلى المسجد بغلس، ولا يزال يركع حتى يصلي الصبح" (29)، وقال ابن الأثير: "حدثني صديق لنا بدمشق كان رضيع الخاتون زوجة نور الدين فقال: كان نور الدين يصلي فيطيل الصلاة، وله أوراد في النهار، فإذا جاء الليل وصلي العشاء نام، ثم يستيقظ نصف الليل، ويقوم إلى الوضوء والصلاة والدعاء إلى بكرة، ثم يظهر للركوب ويشتغل بمهام الدولة" (30).(/4)
وقال ابن عساكر: "كان كثير المطالعة للعلوم الدينية، متبعاً للآثار النبوية، مواظباً على الصلوات في الجماعات، مراعياً لأدائها في الأوقات، مؤدياً لفروضها ومسنوناتها، معظماً لفقدها في جميع حالاتها، عاكفاً على تلاوة القرآن على الأيام،حريصاً على فعل الخير من الصدقة والصيام، كثير الدعاء والتسبيح، راغباً في صلاة التراويح، عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق والخرج، متحرياً في المطاعم والمشارب والملابس، متبرياً من التباهي والتماري والتنافس، عرياً عن التجبر والتكبر، بريئاً من التنجم والتطير، مع ما جمع الله له من العقل المتين، والرأي الصويب الرصين، والاقتداء بسيرة السلف الماضين، والتشبه بالعلماء والصالحين، والاقتفاء لسيرة من سلف منهم في حسن سمتهم والاتباع لهم في حفظ حالهم ووقتهم" (31).
وقال ابن قاضي شهبة: "كان نور الدين كثير الصيام، وله أوراد في الليل و النهار، وكان يقدم أشغال المسلمين عليها ثم يتم أوراده) (32).
وكان يخصص في بيته مكاناً للعبادة فقد روي أنه ألحق ببيته صُفّة يخلو فيها للعبادة، فلما ضربت الزلازل دمشق، بنى بإزاء تلك الصفة بيتاً من الأخشاب: "فهو يبيت فيه ويصبح ويخلو بعبادته ولا يبرح، ولما توفي دفن في البيت البسيط المقام من الأخشاب" (33).
بين نور الدين وصلاح الدين:
عمل بعض المؤرخين من أصحاب الغرض ـ مثل ابن أبي طي ـ على تضخيم الخلاف الذي حدث بين نور الدين وصلاح الدين رحمهما الله وحملوا على نور الدين كثيراً، ونسبوا له ما لا يليق به، وقد أحسن الإمام أبو شامة إذ رد عليهم كلامهم، وبين سبب حملهم على نور الدين رحمه الله بقوله: "ابن أبي طيّ متهم فيما ينسبه إلى نور الدين مما لا يليق به، فإن نور الدين رحمه الله كان قد أذل الشيعة بحلب وأبطل شعارهم، وقوّى أهل السنة، وكان والد ابن أبي طيّ من رؤوس الشيعة فنفاه من حلب، فلهذا هو في الكتاب كثير الحمل على نور الدين رحمه الله فلا يقبل منه ما ينسبه إليه مما لا يليق به. والله أعلم".
كان صلاح الدين رحمه الله وأسرته محل تكريم السلطان نور الدين رحمه الله، ذلك أن أسد الدين شيركوه ـ عم صلاح الدين ـ هو الذي مهد الأمر لنور الدين ليصير حاكماً على حلب، وقد حفظ نور الدين لأسد الدين رحمهما الله هذا الجميل، وكان ما رآه نور الدين من شجاعة أسد الدين وجلده على جهاد الفرنجة، دافعاً لحفظ الجميل، فأكرمه وجعله مقدمة عسكره، وأقطعه حتى صارت له حمص والرحبة وغيرهما، ولما تعلقت همة نور الدين بدمشق أمر أسد الدين أن يرسل إلى أخيه نجم الدين أيوب ـ والد صلاح الدين ـ ليترك دمشق ويلتحق بخدمة نور الدين، ففعل، وصار أسد الدين ونجم الدين عند نور الدين في المحل الأعلى والمكان الأسمى، لا سيما نجم الدين، فإن جميع الأمراء كانوا إذ دخلوا على نور الدين لا يقعدون حتى يأمرهم نور الدين بذلك، إلا نجم الدين فإنه كان إذا دخل إليه قعد من غير أن يؤمر بذلك" (34).
ولما خاف نور الدين رحمه الله على مصر من أن يدخلها الفرنجة؛ أمر صلاح الدين أن يسير إلى عمه أسد الدين في حمص يأمره بالحضور إليه، ويحثه على الإسراع، فلما فعل وعاد مع عمه أمرهما نور الدين بالخروج في الجيش إلى مصر، يقول صلاح الدين: "قال لي نور الدين: لابد من مسيرك مع عمك، فشكوت إليه المضايقة، وقلة الدواب، وما أحتاج إليه فأعطاني ما تجهزت به، وكأنما أساق إلى الموت، وكان نور الدين مهيباً مخوفاً مع لينه ورحمته، فسرت معه، فلما استقر أمره وتوفي أعطاني الله من ملكها ما لا كنت أتوقعه" (35)، وبعد وفاة أسد الدين، خلفه صلاح الدين، "وثبت قدمه، ورسخ ملكه، وهو نائب عن الملك العادل نور الدين، والخطبة لنور الدين في البلاد كلها، ولا يتصرفون إلا عن أمره، واستمال صلاح الدين قلوب الناس، وبذل لهم الأموال مما كان أسد الدين قد جمعه" (36).(/5)
ذكر الإمام أبو شامة أن العلاقة بين نور الدين وصلاح الدين رحمهما الله توترت مرتين: الأولى عندما طلب صلاح الدين من نور الدين أن يرسل إليه إخوته فرفض نور الدين، وقد أوّل المغرضون هذا الرفض بأنه خوف من نور الدين على القوة المتنامية لصلاح الدين، وخشيته أن يسهم وجود إخوته معه في زيادة هذه القوة، أما المنصفون من المؤرخين فقد بينوا عكس ذلك ونقلوا عن نور الدين أنه قال مبيناً سبب رفضه: "أخاف أن يخالف أحد منهم عليك فتفسد البلاد"، وعضددوا قولهم بأن نور الدين أرسل أخوة صلاح الدين في جيش الإمداد الذي وجهه إلى مصر عندما زحف الفرنجة إليها، ونصح شمس الدولة تورانشاه بن أيوب الأخ الأكبر لصلاح الدين نصيحة غالية تبين مدى حرصه على استتباب الأمر لصلاح الدين، إذ قال له: "إن كنت تسير إلى مصر وتنظر إلى أخيك أنه يوسف الذي كان يقوم في خدمتك وأنت قاعد، فلا تسر فإنك تفسد البلاد، وأحضرك حينئذ وأعاقبك بما تستحقه، وإن كنت تنظر إليه أنه صاحب مصر وقائم فيها مقامي وتخدمه بنفسك كما تخدمني فسر إليه، واشدد أزره وساعده على ما هو بصدده، فقال تورانشاه : أفعل معه من الخدمة والطاعة ما يصل إليك ـ إن شاء الله تعالى ـ فكان كما قال.
أما الثانية: فقد أوردها الإمام أبو شامة نقلاً عن ابن الأثير إذ قال: "وفي سنة سبع وستين أيضاً جرى ما أوجب نفرة نور الدين من صلاح الدين، وكان الحادث أن نور الدين أرسل إلى صلاح الدين، يأمره بجمع العساكر المصرية والمسير بها إلى بلاد الفرنج والنزول على الكرك ومحاصرته، ليجمع هو أيضاً عساكره ويسير إليه ويجتمعا هناك على حرب الفرنج والاستيلاء على بلادهم، فبرز صلاح الدين من القاهرة في العشرين من المحرّم وكتب إلى نور الدين يعرّفه أن رحيله لا يتأخر.
وكان نور الدين قد جمع عساكره وتجهز، وأقام ينتظر ورود الخبر من صلاح الدين برحيله ليرحل هو، فلما أتاه الخبر بذلك رحل من دمشق عازماً على قصد الكرك فوصل إليه، وأقام ينتظر وصول صلاح الدين إليه، فأتاه كتابه يعتذر فيه عن الوصول باختلال البلاد، وأنه يخاف عليها مع البعد عنها فعاد إليها، فلم يقبل نور الدين عذره، وكان سبب تقاعده أن أصحابه وخواصه خوفوه من الاجتماع بنور الدين، فحيث لم يمتثل أمر نور الدين شق ذلك عليه وعظم عنده، وعزم على الدخول إلى مصر وإخراج صلاح الدين عنها.
فبلغ الخبر إلى صلاح الدين فجمع أهله وفيهم والده نجم الدين وخاله شهاب الدين الحارمي، ومعهم سائر الأمراء وأعلمهم ما بلغه من عزم نور الدين على قصده وأخذ مصر منه، واستشارهم فلم يجبه أحد منهم بشيء، فقام ابن أخيه تقي الدين عمر وقال: إذا جاءنا قاتلناه وصددناه عن البلاد، ووافقه غيره من أهله فشتمهم نجم الدين أيوب وأنكر ذلك واستعظمه، وكان ذا رأي ومكر وكيد وعقل، وقال لتقي الدين: اقعد، وسبّه، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا شهاب الدين خالك أتظن في هؤلاء كلهم من يحبك ويريد لك الخير مثلنا؟ فقال: لا، فقال نجم الدين: والله لو رأيت أنا ـ وهذا خالك ـ نور الدين لا يمكننا إلا أن نترجل إليه، ونقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا بضرب عنقك بالسيف لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا كيف يكون غيرنا؟ وكل من تراه من الأمراء والعساكر لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسر على الثبات على سرجه، ولا وسعه إلا النزول وتقبيل الأرض بين يديه، وهذه البلاد له وقد أقامك فيها، فان أراد عزلك فأي حاجة به إلى المجيء، يأمرك بكتاب حتى تقصد خدمته، ويولي بلاده من يريد، وقال للجماعة كلهم: قوموا عنا، فنحن مماليك نور الدين وعبيده، ويفعل بنا ما يريده، فتفرقوا على هذا، وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر.
ولما خلا نجم الدين أيوب بابنه صلاح الدين قال له: أنت جاهل قليل المعرفة، تجمع هذا الجمع العظيم وتطلعهم على ما نفسك فإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه من البلاد جعلك أهم الأمور إليه وأولاها بالقصد، ولو قصدك لم تر معك من هذا العسكر أحداً، وكانوا أسلموك إليه، وأما الآن بعد هذا المجلس فسيكتبون إليه ويعرفونه قولي، وتكتب أنت إليه وترسل في هذا المعنى وتقول: أي حاجة إلى قصدي؟ يجيء نجّاب يأخذني بحبل يضعه في عنقي، فهو إذا سمع هذا عدل عن قصدك واشتغل بما هو أهم عنده، والأيام تندرج، والله كل وقت في شأن، ففعل صلاح الدين ما أشار به والده، فلما رأى نور الدين رحمه الله الأمر هكذا عدل عن قصده، وكان الأمر كما قال نجم الدين: توفى نور الدين ولم يقصده ولا أزاله، وكان هذا من أحسن الآراء وأجودها. وأقول: أنى له أن يعرف بما قاله نجم الدين لصلاح الدين مختلياً به، والصواب أن نأخذ بظاهر الأمر وهو أن نجم الدين يرى حقيقة ـ لا سياسة ـ أنه وصلاح الدين تحت قيادة نور الدين.(/6)
وقد أكد ابن الأثير في أكثر من موضع أن السبب في غضب نور الدين من صلاح الدين هو أنه رأى منه ـ أي من صلاح الدين ـ فتوراً من غزو الفرنج من ناحيته، "وكان نور الدين لا يرى إلا الجد في غزوهم بجهده وطاقته". وقال أبو شامة: "ولو علم نور الدين ماذا ادخر الله ـ تعالى ـ للاسلام من الفتوح الجليلة على يد صلاح الدين من بعده لقرت عينه، فإنه بنى على ما أسسه نور الدين رحمه الله من جهاد المشركين، وقام بذلك على أكمل الوجوه وأتمها ـ رحمهما الله تعالى ـ.
بعد وفاة نور الدين ظل صلاح الدين على وفائه لنور الدين، وظهر ذلك في مواقف عده منها:
ـ سعى صلاح الدين رحمه الله إلى ولاية ولد نور الدين ـ الملك الصالح ـ لصغر سنه، وفاء لنور الدين رحمه الله وحفظاً لوحدة الأمة، ورد على من عاتبه على ذلك ظناً منه أن صلاح الدين طمع في ملك نور الدين بقوله: "إنا لا نؤثر للإسلام وأهله إلا ما جمع شملهم، وألف كلمتهم، وللبيت الأتابكي ـ بيت نور الدين ـ أعلاه الله إلا ما حفظ أصله وفرعه، ودفع ضره وجلب نفعه، فالوفاء إنما يكون بعد الوفاة، والمحبة إنما تظهر آثارها عند تكاثر أطماع العداة، وبالجملة إنا في واد، والظانون بنا ظن السوء في واد ولنا من الصلاح مراد، ولا يقال لمن طلب الصلاح إنك قادح، ولا لمن ألقي السلاح أنك جارح" (37)، ولما تجمع الروافض حول ابن نور الدين ـ صغير السن (38) ـ عرضوا عليه نصرته على أن يأذن لهم بأن "يجهروا بـ(حي على خير العمل) في الأذان، وقدّام الجنائز بأسماء الأئمة الاثني عشر، وأن يصلوا على أمواتهم خمس تكبيرات، وأشياء كثيرة اقترحوها مما كان قد أبطله نور الدين ـ رحمة الله ـ فأجيبوا إلى ذلك" (39)،لم يكن أمام صلاح الدين رحمه الله إلا أن يعمل على أخذ البلاد منهم، فقاومهم حتى طلبوا الصلح فأجابهم وعفا وعف، وكفى وكف، وأبقى للملك الصالح ـ ابن نور الدين ـ حلباً وأعمالها وأراد له الإعزاز فرد له عزار"، ولرد عزار قصة تبين حب صلاح الدين لنور الدين إذ بعث الملك الصالح أخته بنت نور الدين إلى صلاح الدين في الليل، فدخلت عليه فقام قائماً، وقبل الأرض وبكى على نور الدين، فسألت أن يرد عليهم عزار، فقال سمعاً وطاعة، فأعطاها، وقدم لها من الجواهر والتحف والمال شيئاً كثيرا" (40)، ولم يدخل صلاح الدين حلب إلا بعد وفاة ابن نور الدين.
ـ عندما فتح صلاح الدين بيت المقدس، "أمر بالوفاء بالنذر النوري ـ أي نذر نور الدين ـ ونقل المنبر ـ الذي بناه نور الدين ليضعه في المسجد الأقصى ـ إلى موضعه القدسي، فعُرفت بذلك كرامات نور الدين التي أشرق نورها بعده بسنين" (41).
ـ لم يذكر نور الدين أمام صلاح الدين إلا وترحم عليه وذكره بالخير، حتى إنه قال إن كل عدل فيه أنما تعلمه من نور الدين.
فضل نور الدين:
تعد فترة ولاية نور الدين من أخصب الفترات التي مرت بالمسلمين بعد الخلفاء الراشدين؛ إذ شهدت نمواً كبيراً وطفرة حقيقية في المجالات كافة: السياسية والاقتصادية والعلمية والجهادية، وقد صرح بفضل نور الدين عدد كبير من العلماء والمؤرخين، نقتطف من أقوالهم ما يلي:
ـ قال الأمام أبو شامة: "ملك نور الدين دمشق سنة تسع وأربعين، وملكها صلاح الدين سنة سبعين، فبقيت دمشق في المملكة النورية عشرين سنة، وفي المملكة الصلاحية تسع عشرة سنة تمحى فيها السيئة وتكتب الحسنة، وهذا من عجيب ما اتفق في العمر ومدة الولاية ببلدة معينة لملكين متعاقبين مع قرب الشبه بينهما في سيرتهما، والفضل للمتقدم فكانت زيادة مدة نور الدين كالتنبيه على زيادة فضله، والإرشاد إلى عظم محله، فإنه أصل ذلك الخير كله، مهد الأمور بعدله وجهاده، وهيبته في جميع بلاده، مع شدة الفتق، واتساع الخرق، وفتح من البلاد، ما استعين به على مداومة الجهاد، فهان على من بعده على الحقيقة سلوك تلك الطريقة لكن صلاح الدين أكثر جهاداً وأعمّ بلاداً، صبر وصابر، ورابط وثابر، وذخر الله له من الفتوح أنفسه، وهو الذي فتح الأرض المقدسة؛ فرضي الله عنهما".
ـ وقال أبو الحسن بن الأثير في بيان فضل نور الدين على سائر الملوك: "قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا، فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، ولا أكثر تحرياً للعدل والإنصاف منه، قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره، وجهاد يتجهز له، ومظلمة يزيلها، وعبادة يقوم بها، وإحسان يوليه، وإنعام يسديه".(/7)
ـ كما روى ابن الأثير عن عدل نور الدين بعد موته ـ وهو من أعجب ما يحكى ـ أن إنساناً كان بدمشق غريباً استوطنها وأقام بها لما رأى من عدل نور الدين ـ رحمه الله ـ فلما توفى تعدى بعض الأجناد على هذا الرجل فشكاه فلم ينصف، فنزل من القلعة وهو يستغيث ويبكي، وقد شق ثوبه وهو يقول: "يا نور الدين لو رأيتنا وما نحن فيه من الظلم لرحمتنا، أين عدلك؟ وقصد تربة نور الدين ومعه من الخلق ما لا يحصى وكلهم يبكي ويصيح فوصل الخبر إلى صلاح الدين فقيل له: احفظ البلد والرعية وإلا خرج عن يدك، فأرسل إلى ذلك الرجل وهو عند تربة نور الدين يبكي والناس معه وطيب قلبه ووهبه شيئاً وأنصفه، فبكى أشدّ من الأول، فقال له صلاح الدين: لم تبكي؟ قال: أبكي على سلطان عَدَل فينا بعد موته فقال صلاح الدين: هذا هو الحق، وكل ما ترى فينا من عدل فمنه تعلمناه.
ـ كذلك ذكر أبو شامة واصفاً هيبة مجلس نور الدين القصة التالية: "بلغني أن الحافظ ابن عساكر الدمشقيّ ـ رضي الله عنه ـ حضر مجلس صلاح الدين يوسف لما ملك دمشق فرأى فيه من اللغط وسوء الأدب من الجلوس فيه ما لا حدّ عليه فشرع يحدّث صلاح الدين كما كان يحدّث نور الدين فلم يتمكن من القول لكثرة الاختلاف من المتحدثين وقلة استماعهم فقام، وبقي مدة لا يحضر المجلس الصلاحي، وتكرر من صلاح الدين الطلب له فحضر فعاتبه صلاح الدين يوسف على انقطاعه فقال: نزهت نفسي عن مجلسك فإنني رأيته كبعض مجالس السوقة لا يستمع فيه إلى قائل ولا يرد جواب متكلم، وقد كنا بالأمس نحضر مجلس نور الدين فكنا كما قيل: كأنما على رؤوسنا الطير تعلونا الهيبة والوقار فإذا تكلّم أنصتنا وإذا تكلمنا استمع لنا، فتقدم صلاح الدين إلى أصحابه أنه لا يكون منهم ما جرت به عادتهم إذا حضر الحافظ.
ألا رحم الله الإمام العادل نور الدين، ومنَّ على المسلمين بقادة من أمثاله.. آمين.
----------
(1) مقدمة مذكرات الدعوة والداعية، الشيخ أبو الحسن الندوي: 4.
(2) البداية والنهاية:12/297.
(3) تأريخ دمشق لابن عساكر.
(4) نور الدين محمود لـ د. عماد الدين خليل: 89، والكواكب الدرية: 40-41.
(5) وكان فيها جيش نور الدين بقيادة صلاح الدين الأيوبي.
(6) مختصر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة، اختصار د. محمد بن حسن بن عقيل: 140.
(7) تاريخ دمشق لابن عساكر.
(8) التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية: 168.
(9) البداية والنهاية لابن كثير: 300.
(10) نور الدين محمود وتجربته الإسلامية د. عماد الدين خليل: 31.
(11) نور الدين محمود و تجربته الإسلامية د. عماد الدين خليل:30.
(12) التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية لابن الأثير: 117-118.
(13) تأريخ دمشق لابن عساكر.
(14) تأريخ دمشق لابن عساكر.
(15) المصدر السابق.
(16) المستشفيات.
(17) تأريخ دمشق لابن عساكر.
(18) الكواكب الدرية لابن قاضي شهبة: 68-69، ونور الدين محمود لـ د. عماد الدين خليل: 42.
(19) نور الدين محمود لـ د. عماد الدين خليل: 43، عن الروضتين: 1/ 342-343.
(20) مختصر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة، اختصار د. محمد بن حسن بن عقيل: 140.
(21) البداية و النهاية لابن كثير: 12/ 278.
(22) التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية لابن الأثير: 165.
(23) التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية لابن الأثير: 164.
(24) مرآة الزمان في تأريخ الأعيان الزمان لسبط ابن الجوزي: 8/315.
(25) البداية و النهاية لابن كثير:12/282.
(26) نورالدين محمود زنكي.. القائد المجاهد، د. أنس أحمد كرزون: 40، نقلاً عن شذرات الذهب: 4/230-231، والكواكب الدرية: 72-73.
(27) بدائع الفوائد:3/747.
(28) الروضتين لأبي شامة:1/34.
(29) المرجع السابق:1/ 459.
(30) التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية لابن الأثير: 164.
(31) تاريخ دمشق.
(32) الكواكب الدرية لابن قاضي شهبة: 54.
(33) نور الدين محمود لـ د. عماد الدين خليل: 41.
(34) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين: 110.
(35) المرجع السابق: 134.
(36) المرجع السابق: 137.
(37) مختصر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين: 183.
(38) مات مسموماً ولم يبلغ العشرين من عمره، وعد بعض المؤرخين هذه من كرامات نور الدين إذ أنه سأل الله أن لا يعذب شيئاً من أجزائه بالنار، فمات قبل أن يطول عمره على أحسن سيرة كما قال أبو شامة، وفي مرض موته أجاز له أحد الفقهاء أن يتداوى بالخمر فسأله: إن كان الله قد قرب أجلي أيؤخره شرب الخمر؟ قال: لا، قال: والله لا لقيت الله تعالى وقد استعملت ما حرّمه عليّ.
(39) مختصر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين: 187.
(40) مختصر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين: 194.
(41) مختصر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين: 265.(/8)
السلطان عبد الحميد الثاني في الميزان
منال المغربي
Yafa-48@hotmail.com
ليس هناك من شخصية في التاريخ الإسلامي المعاصر لقيت من الظلم والإجحاف والإفتراء بقدر ما لقيت شخصية السلطان عبد الحميد الثاني، فقد صور من قِبل أعدائه اليهود والأرمن والاتحاديين بصورة السفاح، فالأرمن أطلقوا عليه في كتاباتهم لقب (السلطان الأحمر)* وأطلق عليه غلادستون* لقب (المجرم الكبير)، وحملات التشويه بحقّه لم تسلم منها كتب بعض المؤلفين العرب التي صوّرت السلطان في صورة الطاغية مثل كتاب (الانقلاب العثماني) لجرجي زيدان، و(الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده) لسُليمان البسستاني... ولكنّ التاريخ أبى إلاّ ان يقول كلمته في حقِّ هذا الرجل الذي صمد في وجه اليهود والقوى الدولية الغاشمة صمود الأبطال وهو صابراً محتسباً حتى خُلع عن عرشه.
فمن هو السلطان عبد الحميد الثاني؟
ولد السلطان عبد الحميد الثاني يوم الأربعاء في 22 أيلول عام 1842م، توفيت والدته من مرض السلّ وهو في الثامنة من عمره، فاحتضنته الزوجة الثانية لوالده التي كان معروفاً عنها أنّها شديدة التدّين، وأسبغت عليه كل حنانها وعطفها وقد بادلها عبد الحميد هذا الحب فكان يقول عنها: "لو كانت والدتي حيّة لما استطاعت أن ترعاني أكثر من رعايتها"(1)، وعندما توفيت أوصت بجميع ثروتها لابنها الذي أحبّته.
قضى السلطان شبابه يطلب العلم على عكس ما صوّره أعدائه بأنه كان شخصاً جاهلاً لا يعرف القراءة والكتابة إلا بصعوبه؛ فهو قد درس اللغة التركية والفارسية والعربية والفرنسية، وكان يقول الشعر كما كان شغوفاً بقراءة كتب التاريخ ومنها تاريخ الدولة العثمانية، بالإضافة إلى حبّه الشديد للمطالعة حتى أنّه أمر بترجمة المقالات والمجلات والصحف الأجنبية التي ترد إليه ليتمكّن من قراءتها (2). أمّا بالنسبة لهواياته فهي متعدّدة منها: المبارزة بالسيف، والتهديف بالمسدس والسباحة والتجديف بالقارب وركوب الخيل والصيّد كما كان شَغوفاً بجمع الأسلحة النادرة، أمّا أبرز هواياته فكانت النجارة(3).
وعبد الحميد معروف بتقواه وتمسُّكه بالدين ولم يُعرف عنه تركه للصلاة قط، أو إهماله للتعبّد وتقول عنه ابنته عائشة: "كان والدي يؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها ويقرأ القرآن الكريم، وفي شبابه سلك مسلك الشاذلية وكان كثير الارتياد للجوامع لاسيما في شهر رمضان"(4). والملاحظ في حياة الأمير هو البساطة الشديدة والابتعاد عن البذخ والإسراف والتبذير وقد استمرّت بساطته حتّى في أيام السّلطنة، ففيما كان الأمراء السابقون غارقين حتى اذقانهم في الديون واللهو والمُجون كان عبد الحميد هو الأمير الوحيد الذي لم يُشارك في تللك الأجواء، وامتاز عن أسلافه من السلاطين بأنه لم يستدن قرشاً واحداً من أحد وبهذا عصم نفسه من أن يقع في حبائل أصحاب البنوك وجُلّهم من اليهود، ولكن أعداءه لم يتركوا الفرصة دون أن يقلبوا هذه الخصلة الحميدة إلى مذمّة فأطلقوا عليه في كتاباتهم لقب: "عبد الحميد البخيل"(5).
ارتقى عبد الحميد الثاني عرش السلطنة يوم الخميس في 31 آب 1876 في ظل ظروف قاسية كانت تعصف بالدولة العثمانية من الديون التي كانت ترزح تحتها إلى تكالب الدول الأوروبية واليهودية التي كانت تنتظر موت الرجل المريض* لاقتسام ثروته لاسيما البترول(6)، لذلك أوّل ما فعله أنّه سعى إلى رأب الصدع فجرى على سياسة الاقتصاد من أجل تحرير رقبة بلاده من قبضة الدول والمصارف الأجنبية حتّى أنّه تبرّع من ماله الخاص من أجل هذا الغرض فاستطاع تسديد القسم الأكبر من تلك الديون، وفي عهده تخرج جيلٌ كامل من المثقفين والمتعلمين من كليات وجامعات ومعاهد أسسها السلطان، وبدأت الدلائل تشير إلى عودة الصحة والعافية إلى جسد الرجل المريض ولكن وصول الاتحاديين إلى السلطة بمساعدة خارجية قضى على هذا الأمل.(/1)
من أهم صفات السلطان عبد الحميد الرحمة والتسامح على الرغم من أنّ المعروف عنه العكس تماماً فقد صُوِّر من قبل أعدائه بصورة السفاح، بل لعلّ صفة الرحمة الزائدة عن الحدّ كانت نقطة الضعف عنده ويكفي القول: إنّ المؤرخين يذكرون أنّ السلطان كان يُبدِّل على الدوام حكم الإعدام الذي يُصدره القاضي إلى السجن المؤبد أو إلى مدّة أقلّ، ولم يُصادف أنّه صادق على حكم الإعدام إلا مرتين: الأولى عندما قتل أحد العاملين في القصر زميلاً له والثاني عندما قام شخص بقتل والديه(7). أمّا بالنسبة لمعارضيه السياسين والساعين إلى قلب نظام الحكم وأكثرهم من الاتحاديين الذين ينتسبون إلى الماسونية؛ فلم يقم بإعدام أو إغراق أي واحد منهم في بحر مرمرة (البوسفور) كما أُشيع، وكلها اتهامات أوردها اليهود وأعوانهم لتشويه تاريخه وتهميش نضاله ضد الصهيونية العالمية وأعوانها لأنّه كشف مخططاتهم وفضح مؤامراتهم وقاومهم طيلة 33 سنة من تاريخ حُكمه، فهذه الروايات ليس لها سند صحيح، فكل ما كان يفعله هو استمالة قلوب اعدائه أو نفيهم إلى بلد آخر مع إغداق المال عليهم ليعيشوا بكلّ رفاهية(8). ولقد ترددت كثراً قصة حادثة (31 مارت) التي قُتل فيها عدد من الاتحاديين والتي كانت عبارة عن حركة تمرّد وعصيان قام بها بعض الجنود واشترك فيها بعض طلبة المدارس الدينية والصوفية وبعض المدنيين المعارضين لجمعية الاتحاد والترٌقي، ولقد اتهم السلطان بأنّه المدبِّر لهذه الحادثة، وأنّه كان يهدف من خلالها إلى القضاء على الجيش والعودة إلى الحكم الاستبدادي ولكنّ التاريخ أثبت أنّها كانت مجرّد حجة لخلع السلطان عن العرش، وأنّه لم يكن له يدٌ فيها.
أمّا مذابح الأرمن المذكورة حتى في الكتب المدرسية والتي وصفت بالوحشية وقُتل فيها عددٌ يتراوح بين 2 مليون إلى 3 مليون أرمني في أبشع صور الإجرام، فلقد اتهم السلطان بأنّه المسؤول عنها، ولكنّ التاريخ أثبت أيضاً أنّ السلطان منها براء وأنّ اليهود في الباب العالي كانوا وراء تلك المذابح وبالأخص المجموعات الماسونية المنضوية تحت لواء محفل النور في أنقرة واسطنبول، وهذه الجرائم طوتها صفحات التاريخ لأنّ الدول الغربية تحاول طمس معالمها(10) وإلصاق التهمة فيها إلى السلطان وتتجاهل المجازر التي ارتكبها الأرمن أيضاً بحقّ المسلمين؛ حيث غدَروا بالمسلمين الذين خرجوا للجهاد فقتلوا النساءَ والأطفال في غَيْبتهم.
أمّا بالنسبة لثورات الأرمن فقد كان الروس والإنكليز هم الذين كانوا يشجعون الأرمن للقيام بها ضدّ الدولة العثمانية للأسباب نفسها التي تدفع الدول الغربية وغيرها اليوم لإثارة النعرات الطائفية في البلاد الإسلامية تحت شعار: فرِّق تسد، وهذه الثورات لم تكن بسبب سوء معاملة الدولة العثمانية لرعاياها المسيحيين كما قد يتوهم البعض ولكن استغلالاً لروح التسامح ولإحراج الدولة العثمانية من أجل كسب مزيد من الامتيازات ولقد شهد بهذا (دجوفارا) أحد كبار ساسة رومانيا ومؤرخيها(11).
والسلطان عبد الحميد المعروف بسياسته الإسلامية والذي كان يرى أنّ خلاص الدولة العثمانية وقوتها في اتباع ما جاء في القرآن والسُّنة، والذي قام بإرسال الدعاة المسلمين مع المئات بل الالاف من الكتب الإسلامية إلى كل أنحاء العالم الإسلامي* لجمعهم تحت راية واحدة هي: "يا مسلمي العالم اتحدوا" لم ترحمه أقلام الحاقدين فاتهموه بحرق المصاحف زوراً وبهتاناً وحاولوا تزوير الحقائق التي تقول: إنّ الكتب التي أمر بإحراقها هي كتب دينية طافحة بالخرافات والأساطير وتمسّ عقيدة المسلمين، ولذلك جمعتها وزارة المعارف وفرزتها لجنة من العلماء في 150 شولاً وأمر بها فأُحرقت(12).(/2)
أمّا بالنسبة لموقفه تُجاه فلسطين، فلقد حاول الصهاينة منذ بَدء هذه الحركة الاتصال بالسلطان عبد الحميد لإقناعه بفتح الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والسماح لهم بإقامة مستوطنات للإقامة فيها، وقد قام هرتزل باتصالاته تلك برعاية من الدول الاستعمارية الأوروبية، وكان هرتزل يعلم مدى الضائقة المالية التي تمرّ بها الدولة العثمانية، لذلك حاول إغراء السلطان بحل مشاكل السلطنة المالية مقابل تنفيذ مطالب اليهود؛ ولكنّ السلطان ما وهن وما ضعف وما استكان أمام الإغراء حيناً والوعد والوعيد حيناً آخر حتى أدرك اليهود في النهاية أنّه ما دام السلطان عبد الحميد على عرش السلطنة فإنّ حلمهم بإنشاء وطن قومي لهم سيظلّ بعيد المنال(13)، ويَشهد لذلك ما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون وما جاء في مذكّرات هرتزل نفسه الذي يقول بمناسبة حديثه عن مقابلته للسلطان: "ونصحني السلطان عبد الحميد بأن لا أتخذّ أية خطوة أخرى في هذا السبيل، لأنّه لا يستطيع أن يتخلّى عن شبر واحد من أرض فلسطين إذ هي ليست ملكاً له، بل لأمته الإسلامية التي قاتلت من أجلها وروت التربة بدماء أبنائها، كما نصحني بأن يحتفظ اليود بملاينهم وقال: إذا تجزّأت امبراطوريتي يوماً ما فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أمّا وأنا حيّ فإنّ عمل المبضع في بدني لأهون عليّ من أرى فلسطين قد بترت من امبراطوريتي وهذا أمر لا يكون"(14).
لذلك عندما لم يستطع اليهود أن يأخذوا فلسطين بالرشوة، بدأوا بتنفيذ مخططاتهم فقد دفعت تلك الأموال التي رفضها عبد الحميد للمتآمرين والخائنين من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي الذي كان معظمهم من الماسونيين فنفذوا مؤامراتهم بالقضاء على الخلافة الإسلامية وخلع السلطان عبد الحميد(15)، وتمّ نفيه إلى (قصر الاتيني) الذي كان يملكه شخص يهودي إمعاناً في إذلاله حيث عاش معزولاً عن الناس محاطاً بحراسة مشدّدة بعد أن جُرِد من كل ثروته ثمّ نفي بعد ذلك إلى (قصر بيلربي) حيث توفي عن عمر الـ76 عاماً في (10 شباط 1918)، وترك الدولة العثمانية تواجه أقدارها تتلاعب بها أيدي الخائنين والحاقدين والطامعين حتّى حولوا تركيا الدولة التي حضنت الخلافة الإسلامية قروناً إلى دولة علمانية شرسة في محاربة الإسلام.
إنّ الصورة التي رسمت للسلطان عبد الحميد هي جزء من مخطط كبير يهدف:
أولاً: إلى تشويه تاريخ المسلمين وتزييف ماضي الأمة وتهميش رموزها وتغييب أعلامها عن ذاكرة أبنائها ليقتلوا فيهم إعتزازهم بدينهم وتراثهم وليخفّفوا بعد ذلك من أثر العقيدة الصحيحة في النفوس وما يمكن أن تؤديه في حياة الناس.
ثانياً: تعبئة هذا الفراغ بصنع تاريخ جديد أبطاله تشي غيفارا وفرويد وداروين وكارل ماركس وطابور المطربين والمطربات والممثلين والممثلات، كل ذلك عن طريق المدارس والجامعات والصحف والتلفاز والسينما والإنترنت وغيرها.
ثالثاً: تنشئة أجيال من المسلمين لا يحملون من الإسلام إلا اسمه ليكون الأداة التي تُستخدم لتدمير الإسلام من الداخل كما تفعل الحشرة في باطن الثمرة(17).
لذلك لا بدّ لنا من أن نقف إزاء التاريخ وخصوصاً أمام أعلامه موقف عدل وإنصاف وأن نحاول التمييز ما بين الغث والسمين ونحاول أيضاً إزالة ما عَلِق من شبهات وافتراءات حتى تظهر لنا الصورة بأكملها بسوادها وبياضها دون تغليب السواد على البياض، لذلك واجبنا كمسلمين هو أن نمييز بين عهدين، عهد السلطان عبد الحميد الذي انتهى عام 1908م، والذي اتسم بشهادة المؤرخين غير المتعصبين بالعدل والتسامح؛ حيث عمل السلطان على جمع القلوب وعلى تقدير العلماء وإنشاء المدارس والمساجد وإعطاء الحقوق للطوائف الأخرى حتى حاز على محبّة الناس وثقتهم، وما بين حكم الاتحاديين الذي يمتّل أسود صفحات الحكم التركي ولاءً للصهيونية وضرب للوحدة الإسلامية وإعلاءً للحركة الطورانية، ومحاولة لتتريك العرب في سوريا ولبنان وتعليق زعمائهم على المشانق(18).
لذلك لو ذكر فقط الموقف المشرِّف للسلطان عبد الحميد تُجاه فلسطين، والذي بسببه حكم السلطان على نفسه بالنفي وعلى عرشه بالخلع وعلى سمعته بالتشويه وعلى تاريخ خلافته بالافتراء والتجريح لكفى ذلك لجعله من الأبطال الذي يجب أن لا تنساهم أمتنا خصوصاً اليوم... في زمنٍ عزّ فيه الرجال أمثاله الذين لا يميلون حيث تميل بهم الريح؛ لذلك صدق فيه قول الإمام علي رضي الله عنه: "لا يُعرف الحقّ بالرجال ولكن اعرف الحقّ تعرف أهله".
وهناك دوماً في كل زمان ومكان منصفون يُجري الله الحقّ على لسانهم ليُزهقوا به الباطل وخصوصاً كُتّاب الغرب الذين شهدوا بما أملاهم عليهم ضميرهم وفي مقدمتهم (لوثروب ستيوارت) في كتابه: (حاضر العالم الإسلامي) ود(آلما والتن) في كتابها: (عبد الحميد ظلّ الله على الأرض) والبروفيسور ورئيس جامعة بودابست اليهودي (أرمينيوس وامبري) الذي زار تركيا عام 1890م، والتقى السلطان، وقال عنه في كتاب (31 مارت) ص 61-62 قائلاً :(/3)
"إرادة حديدية، عقل سليم... شخصية وخُلُق وأدب رفيع جداً يعكس التربية العثمانية الأصيلة، هذا هو السلطان عبد الحميد ولا تحسبوا معلوماته الواسعة تخص الإمبراطورية العثمانية المنهكة وحدها فمعلوماته حول أوروبا وآسيا وأفريقيا حتى حول أمريكا معلومات واسعة وهو يراقب عن كثب جميع الحوادث في هذه الأماكن... والسلطان متواضع ورزين إلى درجة حيّرتني شخصياً وهو لا يجعل جليسه يشعر بأنّه حاكم وسلطان كما يفعل كل الملوك الأوروبيين في كل مناسبة، يلبس ببساطة ولا يُحبّ الفخفخة، أفكاره عن الدين والسياسة والتعليم ليست رجعية، ومع ذلك فإنّه متمسّك بدينه غاية التمسّك، يرعى العلماء ورجال الدين ولا ينسى بطريرك الروم من عطاءاته الجزيلة، إنّ بعض ساسة أوروبا يريدون أن يصوروا السلطان متعصّباً ضد المسيحيين وليس هناك إدعاء فارغ أكثر من هذا الإدعاء... الحقيقة أنني أستطيع أن أقول وبكلّ ثقة إنّه إذا استمرّ الأتراك بالسير في الطريق الذي رسمه هذا السلطان، وإذا لم يظهر عائق سياسي؛ فإنهم سيسترجعون مجدهم وقوتهم وأكثر من ذلك فإنهم سيصلون إلى مستوى الدول الأوروبية في مجال الثقافة والاقتصاد في مدّة قصيرة".
وصدق الله تعالى في قوله:
(يريدون أن يُطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يُتمّ نوره ولو كره الكافرون).
قالوا في السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله
• ... جمال الدين الأفغاني: (إنّ السلطان عبد الحميد لو وزن مع 4 من نوابغ رجال العصر لرجحهم ذكاء ودهاء وسياسة).
• ... البطريرك الماروني الياس الحويك: (لقد عاش لبنان وعاشت طائفتنا المارونية بألف خير وطمأنينة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، ولا نعرف ماذا تخبىء لنا الأيام بعده).
من أقوال السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله
( يجب تقوية روابطنا ببقية المسلمين في كل مكان، يجب أن نقترب من بعضنا البعض أكثر وأكثر، فلا أمل في المستقبل إلا بهذه الوحدة، ووقتها لم يحن بعد، لكنه سيأتي اليوم الذي يتحد فيه كل المؤمنين وينهضون نهضة واحدة ويقومون قومة رجل واحد يحطمون رقبة الكفار ).
هوامش
* السلطان الأحمر لقّب بذلك لكثرة الدّماء الذي سفكها بزعمهم.
* غلادستون: رئيس وزراء بريطانيا.
* "الرجل المريض" مصطلح أطلقته الدول الأوروبية على الدولة العثمانية في أواخر أيامها.
* ومنها مكتبة المدرسة الحميدية في عكار (مشحة) التي ما زالت قائمة إلى اليوم، ولا يزال ختمه على كتبها.
1-
"والدي السلطان عبد الحميد " مذكرات الأميرة عائشة أوغلي ص:76-77.
2-
"السلطان عبد الحميد" محمد أورخان علي ص:148.
3-
المصدر نفسه ص87.
4-
"والدي السلطان عبد الحميد" مذكرات الأميرة عائشة عثمان أوغلي ص80.
5-
"السلطان عبد الحميد" لمحمد أوخان علي ص 87- 88.
• ... الرجل المريض مصطلح أطلقته الدول الأوروبية على الدولة العثمانية في أواخر أيامها.
6- راجع كتاب د. حسّان حلاق "دور اليهود والقوى الدولية في خلع السلطان عبد الحميد عن العرش".
7- "السلطان عبد الحميد" محمد أورخان علي ص 155.
8- نفس المصدر ص 157
9- راجع كتيب "السلطان عبد الحميد الثاني" لأنور الجندي.
10-"اللوبي الصهيوني والحلف الاستعماري" لمحمد علي سرحان ص: 135.
11-"السلطان عبد الحميد" أنور الجندي ص: 25.
12-نفس المصدر.
13-السلطان عبد الحميد الثاني" لرفيق شاكر النتشه ص: 178 ، 183 .
14-" مكايد اليهود عبر التاريخ" لعبد الرحمن الميداني ص: 275.
15-المصدر نفسه ص: 279.
16-راجع كتاب " مذكرات السلطان عبد الحميد" للدكتور محمد حرب ص: 58، 234.
17-راجع كتاب "أجنحة المكر الثلاثة" لعبد الرحمن حبنْكة الميداني.
18-راجع كتاب " تصحيح أكبر خطأ في تاريخ الإسلام الحديث" للدكتور: أنور الجند(/4)
السلطان عبد الحميد
( صفحة ناصعة من الجهاد والإيمان والتصميم لمواجهة تحديات الاستعمار والصهيونية)
الأستاذ أنور الجندي
ما نحسب أن شخصية في التاريخ الإسلامي المعاصر لقيت من الغبن والظلم والإعنات ما لقيت شخصية السلطان عبد الحميد الثاني، ولكن هذه السحابة ما لبثت أن انجابت بعد سنوات طوال، وتكشفت حقيقة هذا الرجل واستعلن موقفه الصامد، وجهاده الباسل ومقاومته العنيدة للمؤامرة الضخمة التي حاولت أن تستغله وتخدعه أو تغريه، ولكنه رفض الوعد والإغراء، وتحمل الوعيد والتآمر صابراً صامداً طوال حياته وسنواته الطويلة بعد موته.
وقد ظل الغموض يحيط بموقف السلطان عبد الحميد أكثر من خمسين عاماً، ثم لم يلبث أن تكشف قليلاً قليلاً، لقد تولى السلطان 1876 م، وخلع 1909 م وتوفي 1918 م.
وكانت حملات الصحف المارونية قد بدأت منذ تبين صلابة موقف الرجل، وقد استمرت هذه الحملات حتى دخلت إلى كتب الأدب والتاريخ المقررة على المدارس في أغلب البلاد العربية وظلت هذه الكتابات تلح على تصوير السلطان عبد الحميد بصورة الطاغية. المتسلك فترة تزيد على خمسين عاماً، ثم بدأ ينكشف موقف السلطان عبد الحميد جزئياً بعد ترجمة بروتوكولات حكماء صهيون التي كشفت مخطط المؤامرة على الدولة العثمانية والخلافة، ثم تكشفت بصورة أوسع بعد ترجمة مذكرات هرتزل الذي روى بإفاضة وتوسع قصة الوساطة بينه وبين السلطان وعروضه ورد السلطان عليه.
رجل أريب:
ومن أهم ما يكشف عنه تاريخ السلطان عبد الحميد هو ذلك الفهم الوافر العميق للمؤامرة اليهودية الصهيونية، الممتدة من الماسونية إلى الدونمة إلى جماعة الاتحاد والترقي بكل أبعادها وأهدافها، هذه التي كانت خافية على ظاهر المواقف السياسية في البلاد العربية الإسلامية في ذلك الوقت، وكانت غامضة على الرأي العام في وقتها، بينما كانت واضحة مفهومة لدى السلطان.
وكانت تصرفاته استجابة لهذه الخفايا التي كانت تدبر، ولم تكن مكشوفة إلا للقلة، وكل ما نسب إلى السلطان عبد الحميد من اتهام بالرجعية أو الجمود أو العنف، إزاء الاتحاديين أو الدستور أو الحريات، إنما كان ينطلق من فهمه لأبعاد المؤامرة التي كان يدبرها الاتحاديون الأتراك مع اليهود الدونمة والقوى الخارجية، وإفساح المجال أمام تحقيق مؤامراتهم، بعد أن تبين لهم رفضه الصريح للعروض اليهودية التي قدمها له هرتزل وعدد آخر من اليهود – على ما فيها من إغراء – مادي لدولة مدينة في ذلك الوقت، وقد ظلت هذه الحقائق غامضة، حتى تكشفت من بعد أسرار الماسونية ومخطط الصهيونية.
دهاء السلطان عوض عن ضعف الدولة:
ولعل أبرز ما تميز به السلطان عبد الحميد الذي حكم من (1876 م إلى 1909 م) هو تلك البراعة والذكاء الخارقين. حتى وصفه أعداؤه قبل أنصاره بأنه أعظم داهية في عصره.
ويمكن القول أن هذا الرجل حين رأى الدولة العثمانية وقد فقدت التفوق في القوة العسكرية التي يمكن بها أن تقهر أعداءها فقد فتح الله تبارك وتعالة له باباً من التعويض عن طريق ذلك الدهاء القوي، فاستطاع خلال هذه الفترة الطويلة من حكمه والتي بدأت فيها تلك المؤامرة الخطيرة، أن يواجه الأمر بحكمة أزعجت خصومه وأعجزتهم.
والمعروف أنه في عام 1897 م اجتمع مؤتمر بال وقرر اختيار فلسطين لإقامة الوطن القومي اليهودي، وتحدد أمر الاتصال بالسلطان والدولة العثمانية، ومن ثم بدأت المعركة الخفية بين السلطان واليهود، وخاصة بعد أن تبين لهم إصراره على عدم التسليم لهم بأي مطمع في فلسطين.
وكان السلطان عبد الحميد قبل ذلك قد أمضى عزيمته في الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، وتجميع المسلمين من خارج الدولة العثمانية تحت لواء الخلافة، لمواجهة خطر النفوذ الاستعماري الزاحف على العالم الإسلامي.
ولقد بقيت صيحته استجابة في خارج الدولة العثمانية – بوصفه زعيماً للعالم الإسلامي كله وليس للدولة العثمانية وحدها – والتف حوله العرب المسلمون والفرس والترك، لتعضيد الخلافة وللزود عنها دون قيد أو شرط.
وكان من أخطر هذه الانجازات تصفية موقف الخلاف بين تركيا وفارس وبين السنة والشيعة، ومن كلماته في هذا الصدد: أن السم القديم يجب ألا يسري في جسد آسيا القوى وعلى السنيين والشيعة أن يتحدوا لمقاومة أوربا في محاولتها قهر العالم.
المؤرخون ورأيهم:
ويرى المؤرخون أن عبد الحميد لما تولى الخلافة سنة 1876 م، وجد أن سلاح الدهاء السياسي هو السلاح الوحيد الذي يستطيع به أن يواجه مؤامرات الغرب (الاستعمار والصهيونية وروسيا القيصرية) التي كانت منذ سنوات طوال تحيك المؤامرات للقضاء على الدولة العثمانية، بوصفها ممثلة للوحدة الإسلامية القائمة بين العرب والترك، ومن ثم أخذ يوسع دائرة هذه الوحدة لتشمل مسلمي العالم كله، ومن ذلك كانت صيحته "يا مسلمي العالم اتحدوا" إزاء الغزو الاستعماري.(/1)
فقد أخذ يستصرخ الأمم الإسلامية في كل رقعة من رقاع العالم الإسلامي، للالتفاف حول دولة الخلافة لتكوين قيادة عامة للمسلمين جميعاً، سنة وشيعة عرباً وفرساً وتركاً، وقد جمع السلطان عبد الحميد حوله عدداً كبيراً من زعماء العرب والبلاد الإسلامية، وقد شعرت إنجلترا وفرنسا وهما الدولتان اللتان كانتا تحكمان قهراً أكبر عدد من المسلمين – بحرج الموقف إزاء التفاف العالم الإسلامي حول الخليفة وحسبت لذلك ألف حساب، لا سيما حينما أيدته ألمانيا العدوة لهذه الدول، وحين كسر الخلاف مع الشيعة، وبدأ بعقد صلح معهم بعد استقدام جمال الدين الأفغاني، وحين بدأ يتخذ الأسلوب العصري في الوحدة بإقامة سكة حديد الحجاز، وقد جمع لها سبعة ملايين من الدنانير، وكذلك سكة حديد بغداد.
وقد أشارت الدكتورة الماولتن في كتابها عنه، أنه كان لديه أربعون ألفاً من الدعاة للوحدة الإسلامية، ممن كانوا في القسطنطينية من طلبة المعاهد الإسلامية، وقد وجه دعوته إلى روسيا وشمال أفريقيا والهند والصين، وإلى المسلمين أينما وجدوا ومن أي جنس كانوا، وقد حدث هذا في الوقت الذي كانت الدول الأوربية تترقب بفارغ الصبر موت "دولة الرجل المريض" لتقسيم ميراثها وتوزيع أرثها فيما بينها.
رجل يرجح عظماء العصر:
وليس أدل على براعة السلطان عبد الحميد، من عبارة السيد جمال الدين الأفغاني الذي قال، بعد أن التقى بالسلطان وتعرف إلى مشروعه في الجامعة الإسلامية وأسلوبه في العمل السياسي مع دول أوربا: "إن السلطان عبد الحميد لو وزن مع أربعة من نوابغ العصر لرجحهم ذكاء ودهاء وسياسة" فلا عجب إذا رأيناه يذلل ما يقام لملكه من الصعاب من دول الغرب أنه يعلم دقائق الأمور السياسية ومرامي الدول الغربية، وهو معد لكل هوة تطرأ على الملك مخرجاً وسلماً. وأعظم ما أدهشني ما أعده من خفى المسائل وأمضى العوامل كي لا تتفق أوربا على أمر خطير في الممالك العثمانية وكان يراها عياناً محسوساً: إن تجزئة السلطنة العثمانية لا يمكن أن تقع إلا بخراب الممالك الأوربية بأسرها، وكلما حاولت دول البلقان الخروج على الدول بحرب، كان السلطان يسارع بدهائه العجيب لحل عقد ما ربطوه وتفريق ما جمعوه".
وقد وصفت خطة السلطان بأنها تمثل "سياسة التوازن الدولي" التي كان من شأنها أن تبقى الدول الغربية متحاسدة متنابذة في الأمور التي تتعلق بتركيا ومستقبلها.
ليس الخلاص في المدنية الغربية:
وقد أشارت الدكتورة الماولتن إلى أن السلطان عبد الحميد كان أول من تجرأ – بعد مائتي عام من الهزيمة والتقهقر – على تحدي العالم الغربي، ومن ذلك قوله: "يجب ألا ندع الغرب يبهرنا فإن الخلاص ليس في المدنية الأوربية وحدها"، وقوله: "إن تركيا هي نافذة الإسلام التي سيشع منها النور الجديد".
وقد وجدت دعوته أصداء واسعة وكان لتنقلات الدعاة، والمبشرين المسلمين إلى هذه المسافات البعيدة التي كان عليهم أن يقطعوها للوصول إلى الجماعات الإسلامية المتفرقة، كان لذلك أبعد الأثر في النتائج الحاسمة السريعة فكان يتلقى الوفد الرسائل والوثائق الرسمية من مختلف أنحاء العالم تتضمن تأييد الملايين للسلطان إيماناً بفكرته وتعلقاً بحركة الجامعة الإسلامية.
وأشار تقرير سفير بريطانيا لدى الباب العالي سنة 1907 م إلى هذا الخطر بقوله: "يمكننا أن نقرر أن من أهم حوادث السنوات العشر الأخيرة على الأقل (1798–1907 م) خطة السلطان الباهرة، التي استطاع أن يظهر بها أمام 300 مليون مسلم في ثوب الخليفة – الذي هو الرئيس الروحي في الدين الإسلامي – وأن يقيم لهم البرهان على قوة شعوره الديني وغيرته الدينية ببناء سكة حديد الحجاز ونتيجة لهذه السياسة فقد أصبح حائراً على خضوع رعاياه له خضوعاً أعمى".
عملان جليلان:
وأشار كثير من المؤرخين إلى العملين الكبيرين – اللذين عجلا بإسقاط السلطان عبد الحميد – وهما:
إنهاء الخلاف بين السلطان والشاه وتصافحهما، هذا الخلاف الذي كان منذ مدة طويلة ينخر في عظام العالم الإسلامي.
قرار مد خط حديدي إلى مكة المكرمة كجزء من خطة الجامعة الإسلامية لمساعدة آلاف المسلمين على أداء فريضة الحج، وقد نهض بالمشروع في حماسة بالغة وحشد له كل ما استطاع من جهد مادي وبشري، حتى أتم إنجازه بسرعة خارقة وبدون أي عون من أوربا.
وقالت الدكتوره الماولتن: "لقد استطاع أن يقود تركيا بعيداً عن الكارثة بمناوراته السياسية البارعة، موازناً بين مقاطعاته ودول أوربا، مستحثاً الهمم رافعاً الآمال، موجهاً انتباه العالم نحو أشياء جديدة، كلما كان التوتر يهدد بأن يصبح حاداً.
وكانت خطته لاستعادة قوة تركيا ومجدها عن طريق توحيد العالم الإسلامي تقترب من النجاح.
العنصريات والقوميات:(/2)
ومن هذه النقطة ضرب السلطان عبد الحميد، فقد كان يواجه تياراً ضخماً من المطامع للدول الأوربية والصهيونية وروسيا في تمزيق امبراطوريته، وكان السلاح هو تسليط سلاح العنصرية الذي حمله رجال تركيا الفتاة والاتحاد والترقي للوصول إلى فلسطين، وواجه السلطان عبد الحميد هذا المخطط بقوة وبسالة، وفي نفس الوقت الذي بدأ فيه هرتزل محاولاته لمقابلة السلطان، كان السلطان قد أصدر أوامره بفصل "سنجق القدس" – مركزي وإداري – عن ولاية سوريا عام 1887 م وإخضاعه لإدارته المباشرة، بمجرد أن تكشفت له المرامي البعيدة وراء المخططات الصهيونية.
وعندما شرع هرتزل يفكر في مقابلة السلطان ملتمساً مختلف الوسائل والطرق ليسترعي انتباه الباب العالي، كان عبد الحميد واعياً لكل المحاولات، فقد سعى هرتزل لدى بسمارك حيث كانت ألمانيا حليفة لتركيا، وسعى عند كثيرين من الشخصيات البارزة، وكان هدفه أن يقنع السلطان بإعطائهم مساحة من الأرض، مقابل استعداد اليهود لدعم مالية الدولة العثمانية والتأثير على الرأي العام الأوربي ليقف إلى جانب السلطان.
وتعددت المحاولات، واستمع إليه السلطان حيث دار الحديث حول مشاكل الدولة العثمانية وتصفية الدين العام وعرض هرتزل خمسين مليوناً من الجنيهات الذهبية للدولة، وخمسة ملايين لخزينة السلطان الخاصة.
حسم وحرم:
ولكن السلطان كان متشبثاً بموقفه المعارض للهجرة اليهودية، ولما توالت العروض حسم الموقف في حزم.
"أنصح للدكتور هرتزل أن لا يسير أبداً في هذا الأمر، لا أقدر أن أبيع ولو قدماً واحداً من البلاد، لأنها ليست لي بل لشعبي ولقد حصل شعبي على هذه الامبراطورية بإراقة الدماء وقد غذاها بعد بدمائه، وسوف نغطيها بدمئانا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا.
ليحتفظ اليهود بملايينهم فإذا ما قسمت الامبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين بدون قتال.. إننا لن نقسم إلا جثثاً، ولن أقبل بتشريح أجسادنا لأي غرض كان (يونيو 1896 م)".
ولما توالت النذر أصدر السلطان عبد الحميد في يونيه 1898 م أمراً بمنع اليهود الأجانب من دخول فلسطين دون تمييز بين جنسياتهم.
التهديد والتآمر:
ولما استيأس هرتزل من السلطان عبد الحميد بعد الإغراء بدأت مرحلة التهديد، فاستخدم اليهود قدراتهم في التآمر للقضاء على الدولة العثمانية، مؤكدين مؤامرتهم على السلطان عبد الحميد بالذات، لأنه كان العقبة الكؤود في طريقهم، فرموه بكل منقصة وأظهروه للأمة في أبشع صوره.
وانطلقت أبواقهم من الصحف المارونية الموجهة من الماسونية والنفوذ الأجنبي تحمل عليه: المقطم والأهرام والمقتطف والهلال، وكتابات جرجي زيدان وسليم سركيس وفارس نمر، تصفه بالسلطان الأحمر، وألف جرجي زيدان قصة الاستبداد العثماني ورمى السلطان بعشرات من الاتهامات الباطلة تمهيداً للقضاء عليه وجرت محاولة اغتياله ثم إسقاطه.
ملاعب الأهواء:
وقد نجح اليهود في إخراج جمعية الاتحاد والترقي إلى ملعب أهوائهم السياسية، وقد كانت هذه الجمعية هي القناع الخارجي الذي يقنعت به جماعة الدونمة المتظاهرين بالإسلام من يهود إسبانيا، الذين اتخذوا من مدينة سالونيك مقاماً لهم بعد فرارهم من محاكم التفتيش الإسبانية، وقد جاءوا بالانقلاب العثماني الذي بيتوا له منذ نصف قرن حتى تم على أيدي مسلمين كانوا يهوداً في الأصل فأسلموا لأجل هذه الغاية.
وقد أسلم الانقلاب زمام تركيا لليهود الماسون الدونمة (طلعت وجاويد وجمال ونيازي وكمال) الذين دفعوا تركيا بتوجيه (وايزمان) لخوض حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل سلموها لليهود الذين يتكلمون التركية.
ويقول الدكتور الزعبي في كتابه (الماسونية في العراء):
كان اليهود يرون السلطنة العثمانية – وهي شبح مخيف للخلافة الإسلامية – خطراً على مستقبلهم، وقد زار هرتزل السلطان وعرض عليه عروضاً مغرية فرفض، فقرر المحفل الماسوني الكوني خلع السلطان عبد الحميد، وكلف "فرسان تركيتا الحكماء المستنيرين" بتنفيذ القرار فنفذوه عام 1909 م.
يقول السيد رشيد رضا: لقد كان السلطان عبد الحميد عدواً للجمعية الماسونية، لاعتقاده أنها جمعية سرية وأن غرضها هو إزالة السلطة الدينية من حكومات الأرض، وقد تنفس الزمان للماسون بعد الانقلاب الذي كان لهم فيه أصابع معروفة، فأسسوا شرقاً – محفلاً – عثمانياً أستاذه الأعظم طلعت بك ناظر الداخلية، وأركانه جمعية الاتحاد والترقي وأنصارها من اليهود وغيرهم، ولأجل هذا نرى طلعت بك لا يبالي بسخط الأمة ولا برضاها، في إدارته التي استغاثت منها المملكة بولاياتها الستة كلها، ما عدا ولاية سلانيك، وسلانيك هي مقر السلطة الحقيقية في المملكة (المنار م 14 ص 80).
الخطر المحيط:
يقول جواد رفعت في كتابه "الخطر المحيط بالإسلام":(/3)
"إن الشخص الوحيد في تاريخ الترك جميعه، الذي عرف حقيقة الصهيونية "والسباتائية" وقدر أضرارهما على الترك والإسلام وخطرهما المحدق تماماً وكافح معهما مدة طويلة بصورة جدية لتحديد شرورهم، هو السلطان العثماني: الثالث والثلاثون (عبد الحميد الثاني) فقط، وإن هذا السلطان التركي العظيم كافح هذه المنظمات الخطيرة مدة ثلاث وثلاثين سنة بذكاء وعزم وبإرادة مدهشة جداً كالأبطال".
ويتساءل الناس: لماذا يقف السلطان عبد الحميد ضد الدستور ويتحرز من هؤلاء الأحرار وأنه كان يعرف أنهم صناعة المحافل المساونية، وأنهم كانوا في مخطط الصهيونية العالمية التي قررت إسقاط عبد الحميد بأي ثمن، بالاتفاق مع الاستعمار العالمي الذي كان يطمع في دحر فكرة الجامعة الإسلامية أكبر خطر واجه حركة الزحف الاستعماري الحديث على يد عبد الحميد، لقد قاوم 33 عاماً تجاه شبكتهم المبثوثة في جميع أنحاء العالم، ومنظماتهم التي أحدثوها وأسلوب دعايتهم وافرتاءاتهم الكاذبة الشنيعة".
التنفيذ:
ويقول المؤرخون المنصفون: إن اليهود أخذوا تواً في تنفيذ المادة الخامسة من البروتوكولات: التي تنص على وجوب تلفيق الوقائع بحق الأشخاص المحترمين لدى الناس، للحط من كرامتهم وكسر اعتبارهم، ومن هنا بدأت حملة الكره ضد السلطان، حيث لفقوا وقائه حياله وقضايا تحت اسم القتل والإحراق والإغراق، ثم كانت مؤامرة اغتيال السلطان عبد الحميد حيث انفجرت قنبلة على موكبة بعد صلاة الجمعة، مقدمة لخطط ومؤامرات انتهت بعزله، وسيطرة الاتحاديين الذين فتحوا الطريق لليهود إلى فلسطين وسلموا طرابلس الغرب إلى إيطاليا.
يقول الأستاذ طه الوالي: كان غاية اليهود إزاحة عبد الحميد عن طريقهم الموصل إلى فلسطين، ولذلك فقد تمكنوا من رشوة بعض رجال الدين، وأغروهم بالخروج إلى الشوارح والمناداة بتطبيق الشريعة المحمدية، وهو ما سمي يومئذ بحركة الارتجاع قاصدين من وراء ذلك إحاج السلطان عبد الحميد بعد غعلان الدستور ودفع الاتحاديين إلى الثورة عليه، فيما بعد.
وقد أتت هذه الحركة الارتجاعية أكلها بالنصر لليهود فقام الجيش بحركته الحاسمة مقتدماً نحو يلدز، طالباً إزاحة العرش من تحت سلطانه، فتقدم ثلاثة في 7 مارس 1909 م من أعيان الدولة: مسلم مأجور ويهودي حقود ونصراني موتور وقدموا إليه ورقة للتنازل عن العرش.
وقبل السلطان حقناً للدماء وقد صرح بذلك في رسالته إلى الشيخ محمند أبو الشامات قال:
"إنني لم أتخل عن الخلافة الإسلامية لسبب ما سوى أنني بسبب المضايقة من رؤساء جمعية الاتحاد المعروفة باسم (جون ترك) قد أصروا وأصروا على بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأراضي المقدسة (فلسطين)، ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وكان جوابي القطعي: أنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهباً، لن أقبل تكليفهم، وبعد جوابي القطعي اتفقوا على خلعي، فحمدت المولي أنني لم أقبل أن الطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي، عن تكليفها بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة (فلسطين).
الصورة الزائفة:
هذه هي الصورة الصحيحة التي تجلت في السنوات الأخيرة عن حقيقة السلطان ووجهته، أما الصورة التي رسمها سليمان البستاني في كتابه: "الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده"، وكتابات جرجي زيدان وسليم سركيس، وهؤلاء الطغمة من أعداء الإسلام، فإنها زائفة ومضللة، وقد طلعت عليها شمس الحقيقة وأنوار الوقائع الصحيحة الموثقة، إنها كتابات زائفة أريد بها تهوين شأن السلطان عبد الحميد تمهيداً لعزله أو قتله، وقد كانت في سبيل خدمة النفوذ الصهيوني أساساً.
أما المنصفون من كتاب الغرب فقد شهدوا للسلطان عبد الحميد وفي مقدمتهم "لوثروب ستوارت" في كتابه حاضر العالم الإسلامي، كما تكشفت الحقائق حول الوقائع الزائفة التي نسبوها إليه، وخاصة بالنسبة لحياته الخاصة، وقد عرف عنه العزوف عن مظاهر الترف، وقد اكتفى من ملبسه الرسمي بالمعطف العاطل من الزخرف وقد كان يقضي وقته كله في دراسة التقارير المطولة التي ترد إليه من سائر جهات الامبراطورية إلى ساعة متأخرة من الليل، وقد تكشفت كذب إدعاءات: الإغراق في البسفور والخنق وكلها اتهامات أوردها اليهود، وليس لها سند صحيح، وقد كشف الأستاذ سعيد الأفغاني هذا الأمر في حديث له نشره في مجلة الوعي الإسلامي (شباط 1969 م) بعد زيارة لتركيا.
قال: فلما أخذنا ذكر الألوف من الأحرار الذين لا يحصدون الي أغرقهم السلطان عبد الحميد في مياه البسفور، أبدى رئيس الهيئة في رقة ولطف طالباً تسمية عشرة فقط من هذه الألوف التي لا تحصى، فلما أحرجنا قال: يا أخوتي لم يثبت غرق إنسان واحد في البسفور وهي إشاعات استطارت وخدعت الكثيرين ومنهم حافظ إبراهيم الشاعر في قصيدته: (مشبع الحوت من لحوم البرايا).
والصورة الحقيقية:(/4)
كذلك تبين كذب الإداعات التي إدعاها كتاب اليهود ومؤلفوهم باتهامه في شجاعته، فإن هذه الشجاعة الفائقة يدل عليها عديد من الوقائع والأحداث.
منها موقفه حبال محاولة اغتياله بعد انفجار القنبلة، واستطار الناس فقد واجه السلطان عبد الحميد الحادث في شجاعة أدهشت رجال السلك السياسي الأجانب وفي حفل الاستقبال في قصر ضلما بغشة عام 1904 م حيث كان يستقبل ضيوفاً من أنحاء العالم، وقع زلزال شديد فتحطمت النوافذ واتسعت الأرض وتهاوت الشرفات من السقوف، وقفز الوزراء والباشوات من النوافذ وقد استولى الذعر على كل الموجودين ما عدا عبد الحميد الذي ظل واقفاً منتصباً رابط الجاش وسط الغرفة المتأرجحة.
وقد روت ذلك الدكتورة الماولتن صاحبة كتاب ( عبد الحميد ظل الله على الأرض).
وهناك الاتهامات التي تتصل بالرقابة فقد قيل أن للسلطان ألفاً ومائتي جاسوس، وأنهم مبثوثون بين أهالي الآستانة، وقد تبين أن هذه الصورة مبالغ فيها، وقال جواد رفعت: أن السبب الذي جعل السلطان قد نظم إدارته على نحو معين، ووسع دائرة استخباراته، هو علمه من تقارير الصهيونية بالعمل على التخلص منه والقضاء عليه.
كذلك فقد ثبت بطلان دعوى تعصبه وقد اتخذ كبير أطبائه من المسيحيين، وجعل وزير ماليته دولتلو أغوبيان المسيحي الأرمني، وعهد كثير من مهام سلطته إلى غير المسلمين.
قصة باطلة:
وتتردد كثيراً قصة مذابح الأرمن، ومسئولية السلطان عبد الحميد منها، وقد تبين براءة عبد الحميد من مسئولية هذه المذابح، وأن الغوغاء هم الذين تسببوا فيها، والأرمن هم الذين بدأوا باحتلال مبنى البنك العثماني وقتل بعض موظفيه، رداً على القمع الذي جوبهت به ثورتهم والتي ثبت أن الروس والإنجليز دفعوهم إليها دفعاً، وليس بسبب سوء المعاملة كما قد يتوهم البعض، وقد استغلوا روح التسامح لإحراج الدولة وكسب مزيد من الامتيازات، شهد بهذا دجوفارا حد كبار ساسة رومانية ومؤرخيها.
يقول: إن من أعظم عوامل انحلال الدولة العثمانية هو مشربها في إعطاء الحرية المذهبية والمدرسية التامتين لدعم المسيحية التي كانت خاضعة لها، لأن هذه الأمم بواسطة هاتين الحريتين كانت تثبت دعايتها القومية وتتماسك وتنهض وتسير سيراً قاصداً في طريق الانفصال عن السلطة العثمانية (حاضر العالم الإسلامي).
موت الأفغاني:
كذلك فقد كذبت وقائع التاريخ الصحيحة ما أشيع عن تهمة دس السم الأفغاني، والصحيح أن جمال الدين الأفغاني مات بالسرطان، بعد أن مرض شهوراً طويلة، ولو دسوا له السم لمات بشرعة.
وقد وصف جرجي زيدان في الهلال (آذار 1897 م كيف توفي: قال: كان قد أصيب بداء السرطان في فكه السفلي منذ بضعة أشهر، فقاسى آلاماً مبرحة وأجريت له عمليات كثيرة استؤصل الفك السفلي كله أو أكثره، فامتد الداء إلى العنق وأوغل في الفم وعقد اللسان وضاعف الآلام، فاشتد المرض ولبس الناس ينتظرون وقوع الأجل، والحضرة السلطانية تواصل الالتفات إليه، بالإنفاق من الجيب الهمايوني الخاص، على أن ذلك لم يدفع مقدوراً ولا محاً مسطوراً.
ولكن ليس هذا العرض الذي يكشف وجه الحقيقه في أمر هذا السلطان المسلم الذي شوه تاريخه طويلاً، لا يمنع من أن يكون له وقد ولي الحكم سنوات طويلة بعض الأخطاء وقد أشير إلى بعض هذا في:
تعاونه مع ألمانيا مما جر عليه خصومة إنجلترا وفرنسا.
تردده في أن يتخذ اللغة العربية لغة الدولة العثمانية.
الاتجاه إلى الطرق الصوفية وليس إلى التيار الإسلامي الأصيل.
إهمال التدريب العسكري وإهمال الأسطول.
حاشية:
وقد صدرت في السنوات الأخيرة بحثو كثيرة تحمل طابع الاعتدال والإنصاف واختفت تلك الروح الظالمة القاسية التي لم تكن قائمة على الحقيقة التاريخية، وكانت تصدر عن الأهواء والتعصب والحقد، بل إن بعض الكتاب الذين تورطوا في كتاباتهم قد عادوا مرة أخرى إلى الإنصاف.
من هؤلاء الأستاذ محمد جميل بيهم، وكذلك بعض أساتذة الجامعة الأمريكية أمثال الدكتور زين زين.
ومن أبرز هذه الدراسات تلك الأطروحة التي قدمها اللبناني حسان حلاق إلى جامعة بيروت العربيةتحت عنوان (موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية 1897-1909 م).
كذلك فقد كان للتعليقات التي قدمها أحمد الرشيد على مذكرات السلطان التي ترجمها الأستاذ محمد حرب عبد الحميد، بالإضافة إلى مقالاته المتصلة عن الدولة العثمانية تصحيحاً لمواقف غامضة، كل هذا كان له أثره العميق في إعادة النظر في هذه الصفحة التي أحاطها ضباب كثير.(/5)
وقد تحدث الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى عن ضرورة فتح ملف الدولة العثمانية من جديد، وجرت في الملتقى الإسلامي الجزائري سنوات 1972 م، 1973 م أبحاث واسعة في هذا الصدد، صححت كثيراً من الأخطاء والشبهات حول الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد، وصدرت لكاتب هذه السطور دراسة واسعة ضمنها كتابه (تاريخ الإسلام: مثدمات العلوم والمناهج) بقي أن نقدم حلقة ثالثة عن المرحلة الثالثة للسلطان عبد الحميد الاتحاديون ومصطفى كمال أتاتورك، فإلى اللقاء.(/6)
السلعة الغالية .. وثمنها الغالي
لا شك في أن غاية ما يرجوه المسلم من عبادته لربه سبحانه في هذه الدنيا هو الفوز برضوانه تعالى وجنته ، والنجاة من سخطه والنار . ومن علامة توفيق الله سبحانه لعبده المؤمن أن يدله ويوفقه لأقرب الطرق وآكدها لتحصيل هذه الغاية العظيمة ، ولا شك في أن الطريق إلى ذلك هي طاعته سبحانه بإخلاص ومتابعة وترك معاصيه .
بإخلاصٍ ومتابعةٍ : هذا على وجه الإجمال . أما على وجه التفصيل والمفاضلة بين الأعمال الصالحة وأحبها إلى الله عز وجل وأرضاها له فإن المستقرئ لكتاب الله - عز وجل - وما ورد فيه من صفات أهل جنته ورحمته ورضوانه ليجد شيئاً عجيباً جديراً بالتأمل والتدبر ؛ ذلك أن جُلَّ ما ورد من الآيات التي يذكر فيها سبحانه ما أعد لأوليائه في الجنة والرضوان يسبقها في العادة صفات الموعودين بذلك .
وبالتأمل في أوصافهم تلك نجدها تتحدث في الغالب عن المجاهدين والمهاجرين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، والصابرين على المحن والابتلاءات في طريق الدعوة إلى الله . والآيات في ذلك كثيرة أذكر منها على سبيل المثال - لا الحصر - ما يلي :
1- قوله تعالى : (إنَّ الَذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هَاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [البقرة : 218] .
2- قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ والضَّرَّاءُ وزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) . [البقرة : 214] .
3- قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) [آل عمران : 142] .
4- قوله تعالى :( ولَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ ورَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) [آل عمران : 157] .
5- قوله تعالى : (ولا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وفَضْلٍ وأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ * الَذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ والرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ واتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ واتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ واللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) .
[آل عمران : 169 - 174] .
6- قوله تعالى :( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وأُوذُوا فِي سَبِيلِي وقَاتَلُوا وقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ولأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّنْ عِندِ اللَّهِ واللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ) . [آل عمران : 195] .
7- قوله تعالى :( والَّذِينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ آوَوْا ونَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ ) [الأنفال : 47] .
8- قوله تعالى : (الَذِينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ ورِضْوَانٍ وجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) [التوبة : 20 - 22] .
9- قوله تعالى : ( والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [التوبة : 71] .(/1)
10- قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) [الصف : 10 ، 11] .
11 - قوله تعالى : ( إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وعْداً عَلَيْهِ حَقاً فِي التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ والْقُرْآنِ ومَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَذِي بَايَعْتُم بِهِ وذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ ) [التوبة : 111] .
والآيات في هذا كثيرة ؛ فهل من مشمِّر وبائع نفسه ابتغاء مرضاة الله وجنته ؟
________________________
مجلة البيان / العدد ( 142) التاريخ - حمادى الآخرة /1420هـ .(/2)
السلفيَّة ومناهج التغيير
مقال كتبه:
د. ياسر بُرهامي
بمجلة صوت الدعوة
إعداد وتنسيق:
براحة الدورات الشرعية والبحوث العلمية
بمنتدى البراحة
بسم الله الرحمن الرحيم
فرض الله سبحانه وتعالى على الأمة الإسلامية أن تعلي كلمته في الأرض وأن تسعى أن يكون الدين الظاهر على الأرض هو دين الله سبحانه وتعالى { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [التوبة: 33]، وأوجب على كل مسلم أن يكون مؤثراً فيمن حوله والمجتمع الذي يعيش فيه بالخير، ناهياً عن الشر، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
ولا شك أن حياة المسلم بإسلامه لا تكون على الوجه الأكمل إلا في مجتمع مسلم، والحياة بالإسلام في مجتمع لا يلتزم بالإسلام في أنظمته ومناهجه قبضٌ على الجمر -وما أقل من يقدر على أن يكون قابضاً على الجمر- فإن نظرنا إلى واقع المسلمين اليوم نجد الانحراف عن دين الله إلى مناهج الباطل والضلال ظاهراً منتشراً في الأفراد والمجتمعات، مما يستوجب على كل مسلم غيور على دينه يفهمه الفهم الصحيح الشامل أن لا يقف موقف المتفرج السلبي الذي يتحسر على وجود الفساد دون أن يحرك ساكناً لإزالته ولإقامة الخير والمعروف مكانه، وهذا الموقف السلبي من الكثيرين من الملتزمين يدل على نقص الإيمان ولابد، لأن الجميع يخالط المجتمع ويعيش فيه هو وأهله وأبنائه، ويتأثر وهو يرى منكراته المختلفة في التعليم والإعلام والقضاء والتشريع والحكم والحرب والسلام والاقتصاد ووضع المرأة وسائر أنظمة المجتمع، فمن لم يستشعر وجوب تغيير تلك المنكرات ويشارك في تغييرها بكل ما يقدر عليه من أنواع القدرة بنفسه أو مع غيره من إخوانه المسلمين أو بأمره القادرين وحثهم على التعاون على ذلك، فهو كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" رواه مسلم.
ولا شك أنه يلزم أهل السنة والجماعة من هذا الواجب أكثر مما يلزم غيرهم لأنهم الطائفة الظاهرة على الحق التي تعلمه وتعمل به وتدعوا إليه، وهم المؤهلون لتحقيق التغيير المنشود وإقامة الحق على صورته الكاملة، بل لن تكون الخلافة على منهاج النبوة التي بشر بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بقوله: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم تكون ملكاً عاضاً ثم تكون ملكاً جبرياً ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"، إلا من خلال عمل أهل السنة والجماعة ومنهجهم ودعوتهم، لذا فإن تقصير بعض من ينتسب لأهل السنة ومنهج السلف في هذا الباب يقدح في صدق انتمائه لهم.
وما أكثر ما تتردد الأسئلة وتتعدد المحاورات حول مناهج التغيير ووسائله بين الاتجاهات الإسلامية المعاصرة، والتي يتبنى كل منها جماعات مختلفة، كل منها تؤيد ما تراه بالحجج وبيان الإيجابيات، وربما جزم البعض أن لا وسيلة ولا منهج إلا ما يرونه هم، ونحن في هذا العدد نطرح بعض الاتجاهات الأساسية في التغيير دون بسط في الأدلة ونعرض سلبياتها وإيجابياتها لينتفع أبناء الصحوة الإسلامية بالإيجابيات ويحذروا من السلبيات وليكون ذلك خطوة على طريق التكامل والتناصح المطلوب بين أبناء الصحوة الإسلامية.
- - -
أولاً: من يرى التغيير من خلال الانتخابات البرلمانية
ترى كثير من الجماعات الإسلامية العاملة على الساحة أن المشاركة في العمل السياسي بتكوين الأحزاب في البلاد التي يسمح فيها بتكوين أحزاب إسلامية أو بمشاركة الأفراد التابعين لهذه الجماعات في الانتخابات البرلمانية، والبعض يجوز التحالف مع الأحزاب الأخرى ولو كانت علمانية ليحصل بذلك على أصوات في المجالس المسماة بالتشريعية ليدعو إلى تطبيق الشريعة من خلالها، وليستغل الفرصة المتاحة بالسماح للمشاركين في الانتخابات بالدعوة إلى أنفسهم للدعوة إلى الإسلام وإلى شرع الله سبحانه، وقبل أن نبين موقفنا من هذا الأمر نقرر أولاً عدة أمور:
1. التشريع حق خالص من حقوق الله- عز وجل -، وهو من أهم خصائص الربوبية والألوهية، فالحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه الله تعالى والدين ما شرعه سبحانه، قال تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [يوسف: 40]، وقال- عز وجل -: { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } [الكهف: 26]، وقال سبحانه: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [الشورى: 21].(/1)
2. القوانين الوضيعة مخالفة للشريعة الإسلامية وكل ما يخالف الشريعة فهو باطل، قال تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [الجاثية: 18].
3. الحكم بغير ما أنزل الله سبب يوجب غضب الله، وينزل مقته وعقابه، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (إذا حكم ولاة الأمر بغير ما أنزل الله وقع بأسهم بينهم، وهذا من أعظم تغير الدول كما جرى قبل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا, ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره فيسلك مسلك من أيده الله ونصره ويجتنب مسلك من خذله الله وأهانه فإن الله يقول: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [الحج: 40، 41]، منذ وعد الله بنصر من ينصره , ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله لا بنصر من يحكم بغير ما أنزل الله ويتكلم بما لا يعلم) انتهى.
4. النظام قسمان: إداري وشرعي: أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، فهذا لا مانع منه ولا مخالف فيه من الصحابة فمن بعدهم، ويدخل في ذلك كتابة أسماء الجند والدواوين على وجه لا يخالف الشرع ويحقق المصلحة العامة، أما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السماوات والأرض فتحكيمه كفر, يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (ج3 ص267): (والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه كان كافراً أو مرتداً باتفاق الفقهاء وفي مثل هذا أنزل قوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون } [المائدة: 44]، أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله)، وقال رحمه الله في موضع آخر: (هؤلاء اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله إذا علموا أنهم بدلوا دين الله فتابعوهم على التبديل واعتقدوا تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركاً وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء) انتهى.
5. فارق أساسي وكبير بين الحكم الإسلامي والحكم العلماني الديمقراطي: فتشريعات الحكم الإسلامي تبنى على الكتاب والسنة وهو يوجب الحكم بما أنزل الله ويرى العدول عن ذلك فسقاً وظلماً وكفراً, فلا يمكن الفصل بين الدين والدولة في نظر الإسلام، أما الحكم العلماني الديمقراطي فمصدر السلطة عنده هو الشعب، وتشريعاته تنبني على إرادته وهواه، فلابد للسلطة من الحفاظ على رغبة الشعب ومرضاته ولا يمكن لها أن تعدل عن إرادة الشعب وهواه حتى لو أدى ذلك إلى تحليل الزنا واللواط والخمر، فالمبادئ والتشريعات كلها عرضة للتغير والتبديل في الحكم العلماني والديمقراطي حسب ما تطلبه الأغلبية.
6. الشورى في الإسلام تختلف عن الشورى في النظام الديمقراطي، يقول الجصاص: (والاستشارة تكون في أمور الدنيا وفي أمور الدين التي لا وحي فيها، ويستشار الصالحون القائمون على حدود الله المتقون لله من ذوي الخبرة والدراية), وأين هذا من استشارة الملاحدة المحاربين لدين الله ممن يشرع مع الله في النظام الديمقراطي.
7. لا يجوز شرعاً عرض الشريعة الإسلامية على الأفراد ليقولوا أتطبق أم لا تطبق، قال تعالى: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [النساء: 65]، وقال سبحانه: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً } [الأحزاب: 36]، وحكى الشافعي الإجماع من الصحابة فمن بعدهم على أنه من استبانت له سنة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس أيا كان.
8. المجالس التشريعية التي تسن قوانين مخالفة للشرع يلزمون بها العباد، وترى أن للأغلبية أن تفرض رأيها حتى ولو كان مخالفاً للشرع مجالس كفرية وهؤلاء هم الشركاء الذين عناهم رب العزة بقوله: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [الشورى: 21].(/2)
9. الأحزاب التي تقوم على مبادئ العلمانية والديمقراطية والاشتراكية والشيوعية وغيرها من المبادئ الوضعية التي تخالف أصل الإيمان والإسلام من فصل الدين عن الدولة وأنظمة المجتمع والمسأواة بين الملل كلها، واحترام الكفر والردة وقبولها، كتعدد الشرائع لا يفسد للود قضية كما يزعمون، كل هذا من العصبية الجاهلية والولاء للكافرين والمنافقين مما يستوجب على كل مسلم رده وهجره ومحاربته والتبرؤ منه كما قال تعالى: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } [النساء: 140].
10. هناك فرق بين النوع والمعين، وبين الحكم والفتوى، فقد يكون الفعل كفر والقول كفر وفاعله وقائله ليس بكافر، وذلك بأن يكون الفاعل أو القائل جاهلاً أو متأولاً أو مكرهاً أو حديث عهد بالإسلام, وليس لنا أن نكفر الشخص المعين إلا بعد قيام الحجة الرسالية عليه على يد عالم أو ذي سلطان مطاع حتى تنتفي الشبهات وتدرأ المعاذير ويحيى من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة.
11. العبودية لله وحده, والبراءة من عبادة الطاغوت والتحاكم إليه من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله.
12. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة تتحقق تارة بالدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وتارة بالقدوة الصالحة وتارة بتغيير المنكر باليد أو اللسان أو القلب تبعاً للاستطاعة وبما يحقق المصلحة ويستدفع المضرة والمفسدة, ومن المعلوم أن هذا الواجب يسقط بالعذر والعجز وعدم الاستطاعة وهذا من رحمة الله- عز وجل - بهذه الأمة إذ لم يكلفنا إلا ما في طاقتنا وقدرتنا، قال تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة: 286]، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مكان وكل مجال وكل قطاعات المجتمع من واجبات المسلمين عموماً وأهل العلم خصوصاً.
وأما عن حكم دخول هذه المجالس والمشاركة فيها فإن الحكم يختلف باختلاف الداخل والمشارك، وكما يقولون الحكم على شيء فرع عن تصوره, ولكل صورة حكمها:
أولاً: حكم الداخل والمشارك بغرض تحقيق الديمقراطية بإباحة التشريع لغير الله طالما كان حكماً للأغلبية، فهذا شرك مناف للتوحيد إلا أن يكون صاحبه جاهلاً أو متأولاً ولم تبلغه الحجة فلا يكفر بعينه حتى تقام عليه الحجة الرسالية.
ثانياً: الداخل والمشارك بغرض تطبيق الشرع بشرط إعلان البراءة من الأصل الذي قامت عليه المجالس من التشريع لغير الله فهذا من المسائل الاجتهادية المعاصرة وهو مختلف فيه بين العلماء المعاصرين على قولين:
القول الأول: أن المشاركة في ذلك بغرض تطبيق الشرع طاعة إذا كانت المصلحة في ذلك.
القول الثاني: أن المشاركة في ذلك لا تجوز، وهذه المشاركة من باب الذنوب والمعاصي وليست من باب الكفر والردة لأن المشارك حقق البراءة اعتقادا ولم يطبقها عملاً.
موقف الدعوة: ترى الدعوة عدم المشاركة في هذه المجالس المسماة بالتشريعية سواء بالترشيح أو الانتخاب أو المساعدة لأي من الاتجاهات المشاركة فيها وذلك لغلبة الظن بحصول مفاسد أكبر بناء على الممارسات السابقة وإن كنا نقر أن الخلاف بين أهل العلم في هذه المسألة خلاف معتبر، ولو تفاوت بين الطاعة والمعصية، لأن كلا الفريقين يريد خدمة الإسلام ويقر بالبديهات والمسلمات التي ذكرناها في أول كلامنا، وما نراه اليوم في الجزائر رأينا مثله بالأمس في تركيا وكيف أن الديمقراطية مثل صنم العجوة الذي كان يصنعه المشرك فإذا جاع أكله, فالحكام العلمانيون إذا أحسوا بأى خطورة على مواقعهم وأن الإسلاميين على مقربة من الحكم سيسارعون بحل المجالس النيابية والأحزاب ويكون الجيش مستعداً دائماً وفوراً لإجهاض هذة الديمقراطية التي اخترعوها، لهذا وغيره نرى أن الحل البرلماني على ضوء ما طرحناه ليس هو الطريق.
- - -
ثانياً: من يرى حتمية المواجهة العسكرية
يرى فريق آخر أن تغيير الوضع الحاضر للمسلمين لا يمكن أن يتم إلا من خلال المواجهة العسكرية المسلحة مع الحكومات المعاصرة ولابد من بث روح الجهاد في المسلمين للخروج على الحكام المرتدين وإعداد العدة لهذا الأمر، ويرى أن هذا هو أولى أولويات العمل الإسلامي بل قد يذهب البعض إلى الحكم بأن كل ما سواه خيانة للدين ، ونحن نحب أن نقرر هنا جملة أمور:(/3)
1. أن حب الجهاد فرض على كل مسلم، لا يفقد من قلبه إلا بنقص الإيمان أو زواله بالكلية نعوذ بالله من ذلك، وتذكير المسلمين به وبدورهم في إعلاء كلمة الله في الأرض كلها ومحاربة الشرك والكفر حتى يظهر الإسلام من أهم الأمور التي يجب الاعتناء بها في إيقاظ الأمة فإنها ما ذلت إلا بمخالفة الشرع ومنه ترك الجهاد في سبيل الله.
2. الجهاد ماض في هذه الأمة إلى يوم القيامة، كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة" رواه مسلم.
3. أن الإعداد للجهاد والأخذ بأسباب القدرة والقوة واجب على الأمة بحسب الاستطاعة، خاصة عند العجز عنه، مع لزوم تحديث النفس به والحزن على فواته قال تعالى: { وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } [التوبة: 92]، وينطبق على الإعداد ما ينطبق على الجهاد من شروط القدرة ومراعاة المصلحة.
4. مراحل تشريع الجهاد: في السنة الثانية من الهجرة فرض الله القتال و أوجبه بقوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 216]، وقد مر الجهاد بعدة مراحل:
الأولى: الكف والإعراض والصبر على الأذى مع الاستمرار في الدعوة.
الثانية: إباحة القتال من غير فرضية.
الثالثة: فرض القتال على المسلمين لمن يقاتلهم فقط.
الرابعة: قتال الكفار ابتداءً.
وقد استقر أمر الجهاد على المرحلة الأخيرة التي ذكرت في سورة التوبة وهي قتال المشركين حتى يسلموا وقتال أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية مع الذل والصغار -على الخلاف المشهور في جواز قبول الجزية من الكفار غير اليهود والنصارى والمجوس- وقد فهم البعض القول بالنسخ فهماً غير صحيح فأنكر المرحلية بالكلية، وهذا ما قرره أهل العلم يقول ابن تيمية: (فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين وبآية قتال الذين أتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، والنسخ عند السلف يشمل التقييد والبيان والتخصيص ولا خلاف بين العلماء في العمل بمراحل الجهاد وإلا فالسلف لا يكلفون المستضعف من المسلمين الذي حاله مشابهة بحال النبي- صلى الله عليه وسلم - في مكة بالقتال وإنما الواجب عليه أن يجتهد لكي يصل إلى حال قوة يجاهد فيها الكفار, وكيف يكون الجهاد واجباً على الناس وهم غير قادرين ولا مستطيعين؟ فالواقع هو الذي يحدد أي الأحكام هو الأنسب في مراحل الجهاد وأن التطبيق بحسب الظروف الموجودة فلا بد من النظر بعين الاعتبار لحالة المسلمين وماهم عليه من ضعف أو قوة.
وقد تكلم العلماء في جواز مهادنة الكفار بمال عند ضعف المسلمين قال ابن قدامة: (لا يجوز المهادنة مطلقاً من غير تقدير مدة لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية وتجوز مهادنتهم على غير مال لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - هادنهم يوم الحديبية على غير مال لهم ويجوز ذلك على مال يأخذه منهم فإنها إذا جازت على غير مال فعلى مال أولى وأما إن صالحهم ببذله لهم فقد أطلق أحمد القول بالمنع منه وهو مذهب الشافعي لأن فيه صغاراً للمسلمين وهذا محمول على غير حالة الضرورة فأما إذا دعت إليه ضرورة وهو أن يخاف على المسلمين الهلاك أو الأسر فيجوز لأنه يجوز للأسير فداء نفسة بالمال فكذا ههنا ولأن بذله المال وإن كان فيه صغار فإنه يجوز تحمله لدفع صغار أعظم منه وهو القتل والأسر وسبي الذرية الذي يفضي سبيهم إلى كفرهم)، وهذا الكلام من الأئمة الأعلام رد بليغ على التهور والاندفاع المفضي إلى الشر والفساد.(/4)
وقد بين أهل العلم أن العجز كما يشمل العجز الحسي كالأعذار المنصوص عليها في القرآن من المرض والعمى والعرج والضعف وعدم النفقة فإنه يشمل كذلك مسألة الضرر والهلاك الذي يغلب على الظن حصوله لضعف المسلمين ونقص قوتهم عن نصف قوة عدوهم قال تعالى: { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [الأنفال: 66]، قال النووي رحمه الله (روضة الطالبين 10– 248): (إذا زاد عدد الكفار على مثلي المسلمين جاز الانهزام...) وقال: (وإذا جاز الفرار نظروا إن غلب على ظنهم أنهم إن ثبتوا ظفروا استحب الثبات وإن غلب على ظنهم الهلاك ففي وجوب الفرار وجهان وقال الإمام: إن كان في الثبات الهلاك المحض من غير نكاية وجب الفرار قطعاً وإن كان فيه نكاية فوجهان)، وهذا الذي قاله الإمام النووي هو الحق وأصح الوجهين أنه لا يجب أي الفرار ولكن يستحب، ومن هذا يتضح أن الجهاد بمفهومه الصحيح في واقعنا اليوم لن يقوم على أكتاف أفراد قلائل بلا قوة بل إن جهاد المئة والمئتين ضرره أكثر من نفعه.
هل الجهاد هو الخروج على الحكام فقط؟
الجهاد إذا أطلق فالمراد به قتال الكفار لإعلاء كلمة الله تعالى ولا ينصرف إلى غير قتال الكفار إلا بقرينة تدل على المراد ، فهو كما يقول ابن القيم أربع مراتب: (جهاد النفس وجهاد الشيطان وجهاد الكفار وجهاد المنافقين فجهاد النفس مقدم على جهاد العدو فإن من لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أمرت به وتترك ما نهيت عنه ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج فكيف يمكن جهاد عدوه والانتصاف منه وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلط عليه لم يجاهده ولم يحاربه في الله)، ويقول الشيخ ابن باز: (الجهاد جهادان جهاد طلب –أى طلب الكفار في عقر دارهم– وجهاد دفاع والمقصود منهما جميعا هو تبليغ دين الله ودعوة الناس إليه وإخراجهم من الظلمات إلى النور وإعلاء دين الله في أرضه وأن يكون الدين لله وحده)، ومن هنا تكون الدعوة إلى الله جهاداً شرعياً قال تعالى: { فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } [الفرقان: 52]، والآية مكية وعلينا أن ننظر إذا أتى الحاكم ما يستوجب العزل هل عندنا الاستطاعة على عزله أم لا وهل المصلحة متحققة بهذا العزل أم أن هذا المنكر سيزول بمنكر أعظم، فقد نزيل كافر أو نستجلب الشر والبلاء على البلاد والعباد ويتسلط الكفار على رقاب الناس، ومن المعلوم أن شرع الله مصلحة كله ولذلك لم يقتل النبي- صلى الله عليه وسلم - ابن سلول –رأس المنافقين– وقال: "كيف إذا تحدث الناس أن محمداً قتل أصحابه".
الجهاد له سبيله وصراطه:
حاجتنا شديدة لسلوك صراط الله المستقيم حتى ننتقل من ضعف إلى قوة ومن ذل إلى نصر ولا بد في ذلك من اتباع السياسة الشرعية في حال الضعف والقوة وهذه السياسة يجب أن تكون ربانية وعلى منهج الأنبياء فالغاية في الإسلام لا تبرر الوسيلة بل الغاية والوسيلة كلاهما يجب أن تكون مشروعة وليس التمكين في الأرض بغاية مقصودة لذاتها بل هي من وسائل الدعوة لتحقيق العبودية لله في أكمل صورها، وهو في ذات الوقت منة من الله ليس بيد أحد سواه قال تعالى: { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [الحج: 41]، والواجب علينا أن نعيش طاعة الوقت سواء مكن لنا أو لم يمكن، ونحذر الابتداع والانحراف، وأول ما بدأ به الرسل في دعوتهم الدعوة إلى الإيمان والتوحيد يقول الشيخ الألباني رحمه الله: (الواجب هو العمل للأهم فالأهم والأهم هنا هو إصلاح عقائد المسلمين وتزكية النفوس والدعوة على أساس التصفية من البدع والتربية على التوحيد).
ولابد لنا أن نتعلم أحكام الجهاد فلابد من نية وصحة أو إخلاص ومتابعة وكما أن للصلاة شروطاً يحرص المسلم على تحقيقها كالطهارة واستقبال القبلة وستر العورة ودخول الوقت فكذلك لا يصح الجهاد بغير تحقيق شروطه، والقتال إنما يكون بين معسكرين وجيشين وفريقين أحدهما مسلم والآخر كافر أو مستحقة للقتال، وأما عند الاختلاط فلابد أن تضيع دماء المسلمين وتحدث المفسدة ولا تتحقق الغاية.(/5)
لهذه الأسباب وغيرها بدأ النبي- صلى الله عليه وسلم - جهاده بالدعوة وإعداد المؤمنين إعداداً روحياً وبدنياً لتحمل أعباء الجهاد بالسيف، ثم كانت الهجرة حيث بدأ جهاده بالسيف وتوالت عليه أحكام الجهاد، فينبغي علينا أن نتعلم سنن الجهاد حتى لا تتحول ديارنا إلى ساحة حرب بين المسلمين أنفسهم وحتى لا يكون حماسنا وطموحنا على حساب سنن الله في النصر والهزيمة, ولا يدفعنا التهور إلى الوقوع فيما وقع فيه غيرنا وقد نهى النبي- صلى الله عليه وسلم - عن دخول مكة في السنة السادسة عام الحديبية حفاظاً على حرمة المسلمين الذين كانوا سيقتلون مع من يقتل وتأخر بذلك الفتح سنتين علماً بأن مكة يومئذ دار حرب والكعبة كانت مليئة بالأصنام ولو حدث قتال -يوم الحديبية– لانتصر المسلمون على المشركين وفي ذلك يقول الله تعالى: { وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً } [الفتح: 22]، واليوم نحتاج لدعوة تضيف لإمكانات العاملين لكي نحبس بها دماء المسلمين وحتى لا نخرج من نكبة إلى نكبة ومن فتنة عمياء إلى أخرى أشد عمى ونكون كمن يلدغ من نفس الجحر ألف مرة فالمنكر يخلفه من المنكرات والآثام والمصائب ما يتضاءل أمامه المنكر المزال وبذلك نخرج من بلاء أقل إلى بلاء أعظم وينفر الناس عن الدين الذي يرونه وسيلة للفتنة والقتل.
- - -
ثالثاً: من يرى التركيز على العمل الفردي في الدعوة والتربية
يتبنى هذا المنهج بعض الدعاة الذين يرون أن الدور الأساسي للدعاة والعلماء هو إصلاح أفراد الأمة -مع الاختلاف حول أولويات الإصلاح- فالبعض يراه في إصلاح العقيدة ونشر العلم والبعض يراه في التربية على العبادة والذكر وفضائل الأعمال ويرون أن انتشار الأفراد الصالحين في مجتمع كفيل بإصلاحه تلقائياً ومن بين أصحاب هذا المنهج من لا يرون مشروعية العمل الجماعي أو على الأقل يحصرونه في صور محدودة لا يتعداها ويرون أن مضار الجماعات الإسلامية -خاصة الحزبية والتعصب وكونها مستهدفة من الحكومات العلمانية- أكثر من منافعها، ولقد حقق هذا المنهج بعض الإيجابيات منها: إيجاد أفراد ملتزمين ونشر العلم ومبادئ الإسلام وأحاكمه بين قطاعات من الأمة، وأيضا التركيز على عدد محدود من الأفراد يمكن إعدادهم إعداداً جيداً من خلال المعاشرة الطويلة والمتابعة المستمرة، وكان للابتعاد عن الأحداث السياسية المعاصرة حتى بمجرد التعليق أثره الواضح في توفير قدر كبير من الحماية ضد ضربات الأعداء، ويؤخذ على هذا الاتجاه قصور النظر إلى نوع واحد من الواجبات الشرعية وإهمال واجبات أخرى نص عليها الكتاب والسنة وأجمع أهل العلم على فرضيتها ووجوب السعي إلى إقامتها مع كون الكثير من هذه الواجبات يمكن القيام به أو بشيء منه على الأقل إذا اجتمعت الجهود وتضافرت إذ أن فروض الكفاية من التعلم والتعليم والحسبة وسد حاجات الفقراء والمساكين والأرامل وغيرهم وفصل الخصومات وفق شرع الله وإيصال الحقوق إلى أصحابها والسعي إلى إقامة الخلافة والجهاد وغير ذلك من فروض الكفاية المضيعة -التي استفاضت أدلة كل منها كتاباً وسنة- لا يمكن أن يقام إلا على جهة الاجتماع والتعاون الملزم وليس المطلوب إقامته في جزء صغير من الأمة بل الواجب شرعاً إقامة كل ذلك في كل مكان وزمان تمكن إقامته فيه وفي كل القطاعات من المجتمع وعلى أوسع نطاق ممكن في المسجد والمدرسة والجامعة والمصنع وأصحاب المهن وغير ذلك.
كما يؤخذ على كثير من أصحاب هذا الاتجاه ترك الإنكار على المنكرات التي تتبناها الحكومات وتنشرها بين الناس كقضية الحكم بغير ما أنزل الله ومسائل الولاء والبراء ونشر الغزو الفكري والتعبية للمبادئ الوضعية للغرب، ولا يصح التعلل بتوفير الحماية للدعوة فإن الدعوة تفقد هويتها إذا رأت الناس يقعون في الضلال بل في الشرك وهي لا تحرك ساكناً وكأن الأمر لا يعنيها من قريب أو بعيد.
كما يؤخذ على أصحاب هذا المنهج المبالغة في تضخيم سيئات الجماعات الإسلامية والإجحاف بمنافعها ومحاسنها، فجعلت علاج المريض قتله أو إيقاف قلبه، إذ أن جماعات الصحوة الإسلامية هي قلب الأمة النابض بالحياة بعد أن فقد الجسد كله مظاهر الحياة، وكم كانت هذه الجماعات الإسلامية سبباً لهداية الشباب والشيوخ والنساء والأطفال وعودتهم إلى دينهم.
- - -
الدعوة السلفية والتغيير
وقبل أن نطرح تصورنا في التغيير نقرر أن واقعنا لا يزال أصغر بكثير من منهجنا، وأن حالنا أبعد عما نعلم أن يلزمنا أن نكون عليه، ولكن الواجب النصيحة، والأمل في أن يكون الجميع على الطريق المستقيم -ولو كان سيره بطيئاً لا خارجاً عنه- هو الذي يدفعنا إلى هذا الطرح، فمنهج الدعوة السلفية يمكن تلخيصه في الآتي:(/6)
أولاً: الدعوة إلى الإيمان بمعانيه وأركانه كلها من معرفة الله بأسمائه وصفاته والتعبد له بها وتوحيد الربوبية والألوهية والكفر بالطاغوت ومحاربة الشرك في كل صوره القديمة والحديثة من شرك القبور والخرافات وشرك الحكم والولاء وغير ذلك، وكذا الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقضاء والقدر، وما يتبع ذلك من قضايا الاعتقاد في الصحابة ومسائل الإيمان والكفر، وتحقيق الاتباع للسنة ومحاربة البدعة، وتقرير مناهج الاستدلال وتحقيق التزكية عبادة وخلقاً ومعاملة والسير في طريق الدعوة وإقامة الدين وإعلاء كلمة الله في الأرض، كل هذا على وفق منهج أهل السنة والجماعة إجمالاً وتفصيلاً.
نقرر أن الدعوة إلى الإيمان بهذا المفهوم الشامل هي أصل دعوة الرسل وهي الطريق الذي سار عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وصحابته، فهذا المنهج هو أولى الأولويات في العمل، والذي لا يتحقق أي واجب بعده بدون هذا الواجب الأول، وهذا المنهج تجب الدعوة إليه بكل الطرق وتربية الناس عليه بالوسائل العامة كالخطبة والدرس الجامع والكتاب والنشرات العامة وقوافل الدعوة وغير ذلك من الوسائل الخاصة كالدرس الخاص والمعاهد العلمية والمجموعات التربوية وغيرها.
ثانياً: إيجاد الطائفة المؤمنة:
إن إيجاد الطائفة المؤمنة الملتزمة بالإسلام -عملاً من أجله- المجتمعة على إقامة فروض الكفاية المضيعة وبكل ما أوتيت من قدرة والساعية في نفس الوقت لتحصيل أسباب القدرة فيما تعجز عنه في الحال -تحديثاً للنفس به وحباً للخير وحرصاً عليه ونصيحة للمسلمين واهتماما بشأنهم- نرى أن إيجاد هذه الطائفة المؤمنة على منهج أهل السنة والجماعة والتي يجتمع عليها باقي أهل السنة هو من أهم الواجبات والأولويات، وهذه الطائفة تسعى إلى أن يكون أفرادها في خاصة أنفسهم يؤدون الواجبات العينية عليهم في العقيدة والعبادة والسلوك والمعاملة والخلق، ويتركون المحرمات، كما أنهم ملتزمون بالتعاون المنضبط على إقامة الفروض التي خوطبت بها الأمة ككل كالتعلم والتعليم قال تعالى: { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة: 122]، وللعلم منزلة خاصة وأهمية كبرى في دعوتنا إذ عليه تقوم وبدونه تفقد هويتها وانتمائها للسلف ولابد أن يكون هذا الأمر على كل المستويات، للصغار والكبار للرجال والنساء وفي سائر قطاعات المجتمع، وكالحسبة والدعوة، قال تعالى: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران: 104]، ولابد في هذا الباب من مراعاة المصالح والمفاسد وفق ما تأمر به الشريعة وعلى ميزانها، وكالواجبات الاجتماعية من سد حاجات الفقراء والمساكين ورعاية اليتامى وحث الأغنياء على الزكاة والصدقة ومعاونتهم في إخراجها على ما جاء في الكتاب والسنة، وعيادة المرضى ودعوتهم إلى الله، وإحياء الروابط الأخوية بين المسلمين من اتباع الجنائز والتعزية في المصائب وإجابة الدعوات والتهنئة في الأفراح وغير ذلك، وكالسعي إلى إيجاد نظام المال الإسلامي لإبعاد الناس عن الربا والريبة وسائر المعاملات المحرمة، وكذا تربية الأمة على روح الجماعة برد الناس إلى أهل العلم منهم وجمعهم عليهم ونهيهم عن التفرقة، وكذا إقامة الجهاد في سبيل الله طالما وجدت مقوماته وشروطه والسعي إلى أسبابه عند العجز عنه، فما تعلمه المسلمون في أفغانستان مثلاً هو من أعظم الواجبات والقربات، وكذلك تعليم الناس لزوم التحاكم إلى الشرع برد موارد النزاع إلى أهل العلم الذين يجب وجودهم والسعي إلى إيجادهم في كل مكان لفض الخصومات وفق الكتاب والسنة بعيداً عن القوانين الوضيعة الطاغوتية، وهذه وغيرها من فروض الكفاية كإقامة الجمع والجماعات والأعياد يمكن للمسلمين إذا اجتمعوا وتعاونوا على إقامتها كما أمرهم ربهم فقال: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } [المائدة: 2] أن يقوموا بأضعاف ما يقومون به الآن من غير مفسدة ولا مضرة بإذن الله، وما قاوموا به من الحق كان سبباً لتمكين الله لهم مما عجزوا عنه فإن الطاعة سبب للطاعات.
ثالثاً: كيفية التمكين:(/7)
وأما نهاية المطاف وكيف تقام دولة الإسلام بعد ذلك فنحن لا نوجب على الله أمرا معيناً نعتقد حتميته ولزومه وأنه لا سبيل سواه، بل قد قص الله علينا من قصص أنبيائه ورسله من آمن قومه كلهم بدعوته بالحكمة والبيان، قال تعالى: { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [الصافات: 147، 148]، ومنهم من نصره الله بإهلاك أعدائه بقارعة من عنده أو بأيدي الرسل وأتباعهم، وقد جعل سبحانه وتعالى في سيرة نبينا- صلى الله عليه وسلم - هذه الأمور أيضاً، ففتح الله عليه المدينة بالقرآن، وكذا فتح عليه البحرين واليمن وكثيرا من جزيرة العرب، كما فتح عليه مكة بالسنان، وفتح على أصحابه العراق وما وراءه والشام ومصر وغيرها بالسنان كذلك، وله الحمد سبحانه على كل حال، فالتمكين منة من الله ووعد غايته تحقيق العبودية لله -للفرد وللأمة- والأخذ بالأسباب المقدورة لنا واجب علينا والنصر من عند الله لا بالأسباب، قال تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 55]، وقال سبحانه: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } [الأنبياء: 105]، وقال سبحانه: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [التوبة: 33].(/8)
السمو
... المقدمة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله ومن والاه ، وبعد:
فإن علو الهمة وسمو الروح مطلب شرعي ومقصد إنساني، أجمع عليه العقلاء، واتفق عليه العارفون ، والمطالب العالية أمنيات الرواد، ولا يعشق النجوم إلا صفوة القوم ، أما الناكصون المتخاذلون فقد رضوا بالدون ، وألهتمهم الأماني حتى جاءهم المنون ، فليس لهم في سجل المكارم أسم ، ولا في لوح المعالي رسم. وقد أردت بكتابي هذا إلهاب الحماس، وبث روح العطاء ،وإنذار النائمين بفيالق الصباح، والصيحة في الغافلين ، وقد قلت لقلبي وأنا أرسله بكتابي: )اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إليهمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) (النمل:28) .
فيا أحفاد الفاتحين ، ويا سلالة الأبرار ، ويا بقية الأباة، حانت الانطلاقة الكبري والوثبة العظمي، وقد عرضت سفينة النجاح ، ونادي منادي الفلاح: ( ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ)(هود: من الآية42).
فهل من سامع وهل من مجيب ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله نبدأ
اللهم لك الحمد لكن أجله وأعظمه ، ولك الشكر لكن أحسنه وأجمله، ولك الثناء لكن أكمله وأتمه، ولك المدح لكن أبلغه وأحلاه، والصلاة والسلام على الصفوة المصطفي، والأسوة المرتضي، والسيف المنتضي، وأديت حقوق ، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على نهجه، واقتفي أثره إلى يوم الدين.
لماذا السمو؟
اخترت لكم هذا العنوان ليوافق سموكم، ويناسب قدركم، ويحيي جهادكم ، ويهتف بسجاياكم، ولأنكم من أهل ( السمو) أحببت أن أحدو لكم حداء الأبطال، وأن أتحفكم يا صفوة الرجال، لتسافر الآمال ، الى أفاق الجلال، ولأنكم أبناء الفاتحين، وأحفاد المجدين، وسلالة القادة، وبقية الأبرار، حرصت على إلهاب هممكم الماضية، والاشادة بهاماتكم العالية، وعزائمكم السامية :
فتالله لو أن السماء صحيفة
بها الشكر يروي والثناء يرتب
وأشجارنا الأقلام والبحر حبرنا
ونحن طوال الدهر نملي ونكتب
لما بلغوا في كنه شكرك درة
ولو دبجوا فيك المديح وأغربوا!
* * *
تحية السمو
هذ مقطوعة ، المسك من أريجها فواح، والبلبل من نغمتها صداح، نهديها الى أهل الصلاح والفلاح والنجاح:
كل شهم منكموا رمز فتوة
السما تروي الى الأرض سموه
همم لو أن للدهر بها
معهداً لم يملك الدهر عتوه
غيركم في لهوه قد جمحت
نفسه يهوي بها سبعين هواة
وأراكم صفوة صادقة
فيكم الحق وآثار النبوة
دعوة بل صحوة بل وثبة
في صفاء ووفاء وأخوة
ولأنكم أهل الصلاح والفلاح، وأحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلى ، ومنكم خالد وعمرو وسعد والمقداد، ومنكم المجدون والمصلحون، قلنا لكم في بطاقة سلام:
حيث الشهامة مضروب سرداقها
بين النقضين من عفو ومن نقم
وللرسالة أنوار مقدسة
تجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم
وللأخوة آيات تنص لنا
على الخفين من حكم ومن حكم
وللمكارم أعلام تعلمنا
مدح الجزيلين من بأس ومن كرم
وللعلا ألسن تثني محامدها
على الحميدين من فعل ومن شيم
برقيات عاجلة
يا أصحاب سمو المعالي إلى العزيز العالي جل في علاه، بإيمانهم وجهادهم وصبرهم ودعوتهم:
• لما أنذر النمل وحذر ودعا بني جنسه سطرت في حقه سورة من سور القرآن ، فخذوا من النمل ثلاثاً: الدأب في العمل، ومحولة التجربة، وتصحيح الخطأ.
• * لما أكمل النحل طيباً ووضع طيباً، أوحي الله إليه وجعل له سورة باسمه في الذكر الحكيم ، فخذوا من النحل ثلاثاً: أكل الطيب، وكف الأذي، ونفع الآخريت
• * لما تجلت همة الأسد وظهرت شجاعته سمته العرب مائة أسم، فخذوا من الأسد ثلاثاً: لا ترهب المواقف، ولا تاعاظم الخصوم، ولا ترض الحياة مع الذل.
• * لما سقطت همة الذباب ذكر في الكتاب على وجع الذم ، فاحذروا ثلاثاً في الذباب: الدناءة، والخسة، وسقوط المنزلة.
• * لمل هزت العنكبوت وأوهمت بيتها ضربها بيتها مثلاً للهشاشة، فاحذروا في العنكبوت ثلاثاً عدم الإتقان ، وضعف البنيان، وهشاشة الأركان.
• * ولما تبلد الحمار ضرب مثلاً لمن ترك العمل ولم ينفعه ، فاحذروا ثلاثاً في الحمار: البلادة، وسقوط الهمة وقبول الضيم.
• * ولما عاش الكلب دنيئاً لئيماً ضرب مثلاً للعالم الفاجر الغادر الكافر فاحذروا ثلاثة في الكلب:
كفر الجميل وخسة الطباع ، ونجاسة الآثار .
• وحمل الهدهد رسالة التوحيد فتكلم عند سليمان، ونال الأمان ، وذكره الرحمن، فخذوا من الهدهد ثلاثة : الأمانة في النقل، وسمو الهمة، وحمل هم الدعوة :
والهدهد احتمل الرسالة ناطقاً
أهلاً بمن حمل اليقين وسلما
قال أبو معاذ الرازي: مسكين من كان الهدهد خيراً من !!.
وإذا أتى جعفر الطيار بجناحين، ودعى أبوبكر من أبواب الجنة الثمانية: وكلم عبد الله بن عمرو الأنصاري ربه بلا ترجمان ، وتوكأ عبد الله بن أنيس على عصاه في الجنة ، ودخل بلال قصره..
فبماذا تأتي أنت ؟ وماذا أعددت؟ وما بضاعتك؟!:
فيا ليت شعري ما نقول وما الذي..
نجيب به إذ ذاك والخطب أعظم؟!
نفوس سمت شوقاً إلى الله(/1)
تعال بنا نسافر مع أدب لكن صادق ، ومع شعر لكن مؤمن، ومع قافية لكن مسلمة:
وقف مجاهد مؤمن في عصر الصحابة على جبال الأفغان على مشارف كابل فقال:
أيا رب لا تجعل وفاتي إن أتت
على شرجع يعلو بحسن المطارف
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابة
يصابون في فج من الأرض خائف
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى
وسروا الى موعود في الصحائف
يقول: يا رب ، لا تعدني الى غرفتي الضيقة ، الى سريري المشرجع بالمطارف ، الى زوجتي الجميلة، لكن قطعني في يبلك إرباً .. إرباً ! وهذه الجمل النادرة تجدها في أبجديات الموحدين، وفي دواوين المخلصين فقط، يقولها أحدهم مستلهماً جلال اللع وعظمته ، ثم تفيض دموعه، ثم يقول: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضي!!.
والبراء بن مالك سميت روحه الى الواحد القيوم فاضطجع على ظهره ووضع رجله اليمني على اليسرى، ورفع عقيرته بالنشيد، فقال له أنس: أتنشد وتغني أنت من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام؟ فقال له أسكت، فوالله الذي لا إله إلا هو ، لقد قالت من الكفار مائة مبازرة، ووالله الذي لا إله إلا هو لأموتن شهيداً!..
لماذا يقسم؟!..
لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال فيه وقد رآه بذ الهيئة، رث الثياب : (( رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك)).. فأقسم على الله يوم (تستر) أن يقتل شهيداً فقتل شهيداً!.
وعمر بن عبد العزيز سمت روحه يوم تولي الخلافة ، جلس على المنبر الدمشقي ليحكم ثنتين وعشرين دولة إسلامية ، ففاضت دموعه وبكي وأجهش الناس بالبكاء ، قال المحدث الرواية الثقة رجاء بن حيوه: والله لقد كنت أنظر الى جدران المسجد هل تبكي معنا!.
وفي حلية الأولياء عن سفيان قال : قال عمر بن عبد العزيز : كانت لي نفس تواقة، فكنت لا أنال منها شيئاً إلا تاقت الى ما هو أعظم ، فلما بلغت نفسي الغاية ، تاقت الى الآخرة !. هذا هو السمو..!
ومن أبجديات السالكين قولهم على لسان عبد اله بن رواحة وقد تمني الصحابة عودته سالماً، قال:
لكنني أسال الرحمن مغفرة
وطعنة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة
بحرية تنفذ الأحشاء والكبدا
حنى يقال إذا مروا على جدثي
أرشده الله من غاز وقد رشدا
فقتل في مؤتة، وقبره هناك ، ولكن سريره دخل الى جنات النعيم، ورآه رسول الهدي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعينه.
والعباد أيضاً يشاركون مع المجاهدين في سمو الهمة ، فأما أحدهم وهو عباد بن عبد الله بن الزبير ، فيقول : اللهم إني أسالك الميتة الحسنة، قالوا : ما هي؟ قال : أن يتوفاني ربي وأنا ساجد ، فقبض الله روحه وهو ساجد في آخر سجدة من صلاة المغرب، وقس على ذلك قوله صلي الله عليه وسلم في حديث حسن لعمر وقد رآه لبس ثوباً أبيض ، فقال له: (( ألبس جديداً وعش حميداً ، ومت شهيداً))، فرزقه الله سمواً في الدنيا : عدلاً في الرعية، رحمة بالأمة، زهداً في نفسه ، ثم توفاه شهيداً في المحراب، وعلى ذلك سار السلف، حتى إنه في ليلة من ليالي أهل السمو العلمي كان إسحاق بن منصور (تلميذ أحمد بن حنبل ) في خراسان، فرجع بعد ما روى الحديث سبع سنوات وكتبه في قراطيس ، فأمطرت السماء في الليل ، فوضع الكتب والدفاتر تحت بطنه واحتضنها والبرد يصب على ظهره ، والمطر البارد يغطي جسده، والريح تسف على وجهه، وهو يحتضن دفاتره لئلا تمسح بالماء بعد رحلة سبع سنوات ، عاش طويلاً ومات ، فرآه أحد الصالحين في الجنة ، قال : ما فعل الله بك ؟ قال: غفر لي بليلة المطر يوم انحنيت على الدفاتر وحضنت أوراقي .
وأنظر الى بعض الصالحين يرسل نشيده الى الواحد الأحد لكن ينظمه بحبات قلبه ، يبدأ بالنثر فيقول كلاماً معناه:
يا ربي ، إن أحب كثير عزة، وأحب غيلان مية، فاجعل حبي فيك يا ربي، وإن أحب عنترة عبلة، وأحب فلان ليلي، وأحب الآخر سلمي ، فاجعل حبي لك وحدك، ثم نظمها شعراً فقال:
إذا كان حب الهائمين من الورى
بليلي وسلمي يسلب اللب والعقلا
فماذا عسي أن يصنع الهائم الذي
سري قلبه شوقاً الى العالم الأعلى ؟
أف على الوتر!.. أف على الغناء !. أف على الضياع ! أف على حياة اللهو والغرام والهيام إن لم تكن المحبة للواحد العلام ، الذي بني دار السلام ، فلماذا انتهي من بنائها قال : ( تكلمي وعزتي وجلالي ، قالت: )قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون:1،2) قال : (( وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل !))
هذه مسيرة الصالحين ، ولكن ينحرف بعض الناس الى هواه، الى العيون السود ، الى الخدود ؛ يقول ابن زريق في بغداد وهو هائم بامرأة:
لا تعذليه فإن العذل يوجعه
قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه(/2)
ثم يقول: آه ، ثم يموت !!.. ولكن (مسلماً) صاحب الصحيح ، الذي قدم لنا ميراث محمد عليه الصلاة والسلام، العالم الرباني، بات ليلة كاملة يبحث عن حديث للرسول عليه الصلاة والسلام ، ولم ينم، فلما صلي الفجر: آه..آه..آه، ثم مات، فقيل : شهيد الحديث!، والنابلسي المحدث العالم الزاهد الذي أفتي بفتوي شجاعة في الفاطميين المنحرفين الكفرة ـ عند كثير من أهل العلم ـ قال: من عنده عشرة سهام فليرم الفاطميين بتسعة والنصارى بسهم، فطعنه يهودي بالخنجر ، قال الذهبي : كان دمه يتصبب في الأرض وهو يقول : الله .. الله .. الله..!.
سؤال نقدمه لأهل السمو ، وأهل العزائم والهمم:
قالوا : الهوي والحب هل تحنو له
أم أنت في أرض الهوي متجلد
قلت: المحبة للذي صنع الهدى
فحبيب قلبي في الحياة محمد
اللهم اجعله حبيبنا بعد حبنا لك ، يقول عمر بن عبد العزيز وروحه تسافر في مجمع من الناس وقد حدثته بالخلافة وهو زاهد عابد ، قال : قام فينا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في المدينة على المنبر ونحن جلوس أمامه ، وقد تولي الخلافة ، فقال: من أولي مني بالخلافة ، قال : فحللت حبوتي لأرد عليه وأقول : أولي منك المهاجرون والأنصار!، فتذكرت قوله سبحانه وتعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً ) (القصص: الآية83)، فجلست مكاني!!.
* * *
التعالي عن الصغائر ، والترفع عن الرذائل
اسمع الى الوحي يخاطبك بأن ترتفع (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ)(آل عمران: الآية139) ، لا يصيبك إحباط ولا يأس ولا فشل ، وأنت تسجد لله ومعك القرآن ، وقد هديت الى تكبيرة الإحرام ، ومعك أخوة صالحون، ومعك دعاة وعلماء ، إن الله يحب معالي الأمور.
واسمع الى على بن عبد العزيز الجرجاني الفقيه المحدث والقاضي الواعظ ، وهو يخبرك بعصارة حياته، وقد ترك الناس ،وأغلق الباب على نفسه في البيت ، لا يخالط كبيراً ولا صغيراً ، ويقول :
أنست بوحدتي ولزمت بيتي
فدام لي الهنا ونما السرور
وأدبني الزمان فلا أبالي هجرت
فلا أزار ولا أزور
فلست بسائل ما عشت يوماً
أسار الجيش أم ركب الأمير
وهو الذي يقول:
يقولون لي فيك انقباض وإنما
رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
وما زلت منحازاً بعرضي جانباً
من الذم أعتد الصيانة مغنماً
إذا قيل هذا مشرب قلت قد أري
ولكن نفس الحر تحتمل الظما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما
بدا مطمع صيرته لي سلما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي
لأخدم من لاقيت لكن لأخذما
أأشقى به غرساً وأجنبه ذلة
إذا فابتياع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا
محياه بالأطماع حتى تجهما
ومن سمو البخاري صاحب الصحيح رحمه الله يقول: رأيت في منامي الرسول صلي الله عليه وسلم وكأنه يرفع خطوة واضع رجلي أو قدمي مكان قدمه، فسألت أهل العلم وأنا شاب، قالوا: أنت تحفظ سنة الرسول عليه الصلاة والسلام! ويقول : ما اغتبت مسلماً منذ احتلمت!، فقل لي بالله يا من أكثر من الغيبة والوشاية والنميمة واستحلال الأعراض: كيف نقارن بينك وبين البخاري؟.
وقال الشافعي صاحب الهمة العالية : ما كذبت منذ علمت أن الكذب يضر أهله!.. لا كذب في هزل ولا جد ، ولا ليل ولا نهار، ويقول وهو يحاسب نفسه : ما حلفت بالله صادقاً ولا كاذباً !..،وكان يعيش على كسرة الخبز، وامتلأ بيته باللخاف والجريد والصحف حتى كاد هو وأمه يخرجان خارج البيت، وهو يطلب العلم ويقول ـ وقد عرضت له القناطير من الذهب من هارون الرشيد ـ:
أمطري لؤلؤاً سماء سرنديب
وفيضي آبار تكرور تبرا
أنا إن عشت لست أعدم خبزاً
وإذا مت لست أعدم قبرا
همتي همة الملوك ونفسي
نفس حر تري المذلة كفرا!
فما المجدإذاً؟
قال اهل العلم : المجد والسمو في ثلاثة : أن تمرغ وجهك ساجداً لله ، وأن تأكل الحلال، وأن تكون سليم الصدر ، ثم لا يضرك ما فاتك من الدنيا من دورها وقصورها وذهبها.
جلس محدث من المحدثين الكبار ـ ذكره الذهبي وغيره ـ، فرأي ألف عمامة أمامه، كلهم يكلبون الحديث ، مع كل عمامة قلم، مع كل قلم محبرة، مع كل محبرة كتاب، مع كل كتاب دفتر، فدمعت عيناه وقال: هذا والله الملك لا ملك المأمون والأمين ، ثم أنشد فرحاً:
إني إذا احتوشتني ألف محبرة
يروون حدثني طوراً وأخبرني
ناديت في الجمع والأقلام مشرعة
تلك المكارم لا قعبان من لبن
وهذا تضمين رائع جميل ضمنه كثير من أهل العلم قصادئهم ، وأذكر على سبيل سمو أهل الهمم صلاح الدين ، فقد ذكروا أنه لم يمزح ولم يبتسم، فسأله أصحابه : مالك؟ قال: لا أمزح ولا أبتسم حتى أفتح بيت المقدس!.. وفتح بيت المقدس وصف معه الأمراء والعلماء والوزراء، وقام الخطيب شمس الدين الحلبي على المنبر فافتتح خطبته وأشار ـ بعد الحمد لله والحوقلة ـ لصلاح الدين قائلاً:
تلك المكارم لا قعبان من لبن(/3)
وهكذا السيف لا سيف ابن ذي يزن
يقول: أنت السيف، أنت المنتصر ـ بإذن الله ـ، أنت فخر الإسلام لا سيف ابن ذي يزن الجاهلي المشرك.
وهنا يأتيك السمو من أهل الجاهلية، لكن يرشده الإسلام تحت مظلة التعالي على الصغائر والترفع عن الرذائل ، يقول الرسول صلي الله عليه وسلم لإبنة حاتم الطائي: (( لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه ))!، و(حاتم) قصة من البذل ، قصة من السمو ، قصة من الجود ، عندما تهب الرياح النجدية فتلعب بالبيوت، وينضوي البخيل كالكلب في بيته ، يخرج حاتم ويقول لغلامه: التمس لي ضيفاً فإن أتيت الليلة بضيف فأنت حر، ثم يقول له:
أوقد فإن الليل ليل قر
والبرد يا غلام برد صر
إذا أتي ضيف فأنت حر!
ويقول:
أما والذي لا يعلم الغيب غيره
ويحيي العظام البيض وهي رميم
لقد كنت أطوي البطن والزاد يشتهي
مخافة يوماً أن يقال لئيم
فهل طوينا بطوننا وآلاف الجائعين في أفغانستان وفلسطين وكشمير والبوسنة؟، هل اقتصدنا في نفقاتنا وهذا حاتم في الجاهلية يقول: والله إني أطوي بطني، والله إني أترك الخبز واللحم لئل يقال بخيل؟!، وهو لا يرجو ثواباً ولا يخاف عقاباً، فكيف بمن صلي الخمس، وصام الشهر، وحج البيت؟!
وهذه قصة السمو من مدرسة حاتم:
وما أنا بالساعي لفضل لجامها
لتشرب ماء القوم قبل الركائب
يقول حاتم في أخلاقياته الشريفة التي ذكره بها صلي الله عليه وسلم : أنا من صفاتي أني ما اسابق ، حتى بغلتي أعلمها الإيثار، بغلتي لا أقدمها تشرب الماء من الحوض قبل أصحابي، بغلتي أو حماري أو جوادي أعلمه الأذب لئل يشرب قبل حمار الناس وقبل جوادهم، فقل لي عن نفسي ونفسك ونحن في دائرة افسلام ودائرة السنة، هل آثرنا جيراننا، هل آثرنا الفقراء والمساكين؟
ثم يقول في أدب آخر ، أنثره ثم أنظمه ، يقول :
إذا مشيت مع قوم وأنت على ناقة، ومعك زميل يمشي على الأرض ، فاركبه ،أو أنزل معخ، لا تركب وهو يمشي!:
إذا كنت رباً للقلوص فلا تدع
رفيقك يمشي خلفها غير راكب
أنخها فأركبه فإن حملتكما
فذاك ، وإن كان العقاب فعاقب
وقد جاء بها محمد صلي الله عليه وسلم ناصعة مشرقة طاهرة زكية لوجه الله ، فقال في صحيح مسلم : (( من كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، ومن كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له)).
حدثني أستاذ في مكة قال: وجدت أن الثراء الفاجش مع قلة الدين والفسق إنما هو طغيان على الأمة ، وروي لي قصة طالب في مكة من ( تشاد)، معه سيارة مهلهلة لا تساوي خمسة آلاف ، قال: من حسن أدبه وسلامة صدره يوصل إخوانه وزملاءه إلي حاراتهم بهذه السيارة!.. قلت: فأين أهل الشبح ، وأهل الغناء والثراء، الذين يعيشون فحشاً وظلماً وغشاً في الضمائر؟.. إنها القلة مع الجود، وليست الكثرة مع البخل ، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول فيما يروي عنه : (( لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع)).
أما عروة بن الورد فيقول:
أوزع جسمي في جسوم كثيرة
واحسو قراح الماء والماء بارد
أتهزأ مني أن سمنت وأن تري
بوجهي شحوب الحق والحق جاحد
يقول : أنا نحيف وأنت سمين ، ومع ذلك فانا يحضر طعامي سبعة وثمانية، أما أنت فإنك وحدك!.
صنعوا للربيع بن خيثم العالم الزاهد طعاماً خبيصاً ـ والخبيص من أجود الأكل ـ وكان الربيع جائعاً، فلما قدمواله الجفنة، إذا بمسكين يطرق الباب!، قال فصنع له أهله خبيصاً مرة ثانية، ولما قدموه ليأكل إذا بمسكين يطرق الباب قال: أدخلوه فأكل ، وكان المسكين الثاني اعمي، فقال له أهله: والله ما يعلم هل هو خبيص أو لا ...، قال : لكن الله سبحانه يعلم!. فقالوا له: كيف ذلك؟ قال: ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)(الحشر: 9)، ثم قال ()لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ )(آل عمران: 92).
يقول أحد الخطباء في العصر العباسي : إاذذ أعجبتك وجبة شهية فقدمها للفقير، فإنك سوف تأكلها في الجنة، ولا تأكلها أنت فإنك سوف تلقيها في بيت الخلاء. وهذا من فقهيات سمو الهمم.
تحدي المصاعب والانتصار على الأزمات
قيد أبو وردي بسبب روايته الحديث ، وصدعه بكلمة الحق ، لكنه صبر واحتسب في ذات الله عز وجل، وعد ذلك مكسباً عظيماً فقال:
انكر لي خصمي ولم يدر أنني
أعز ,احدث الزمان تهون
فبات يريني الخصم كيف أعتداؤه
وبت أريه الصبر كيف يكون!
تلوت هذين البيتين على فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله ، فصحح لي مساراً في البيتين ، حيث قال الشاعر في الأصل : (( تنكر لي دهري))، وصدق ابن عثيمن وأنا معه، وأنسخ من الآن البيتين وأرد كلمة (دهري) ، وأقول : تنكر لي خصمي، فرحم الله ابن عثيمين ، ورحم الله المظفر الأبي وردي الشاعر الكبير.
وابن رشيد الأندلسي وعظ النصاري في الأندلس فقيدوه ، ولطومه وجلدوه ، وحبسوه، فقال:
إن كان عندك يا زمان بقية
مما يهان بها الكرام فهاتها
يقول : بقي القتل، تعال بالقتل، حي الله القتل في سبيل الله!..(/4)
أم السؤال الذي يوجه لأصحاب السمو والمعالي من أهل الهمم العالية من العباد والزهاد وأهل الجهاد فهذا هو: قيل لابن عباس: كيف حصلت على هذا العلم؟ قال : بتوشد ردائي في القيلولة ، والريح تسف على وجهي من الرمل ومن وهج الصحراء ثلاثين سنة! وقالوا لعطاء : كيف حصلت على هذا العلم؟ قال: بتوسد فراشي في المسجد الحرام ثلاثين سنة !.. ثلاثون سنة لا يعرف بيته طلباً للعلم، أما طلبة العلم في هذا الزمان ـ إلا من رحم ربك ـ فإن أحدهم يدخل الى الجامعة أربع سنوات فأكثر ، ثم يخرج وهو جاهل، ثم يري أنه إمام الدنيا وحافظ العصر ، وخاتمة المجددين النبي صلي الله عليه وسلم يقول أخدهم في دخول للكلية:
ودخلت فيها جاهلاً متواضعاً
وخرجت منها جاهلاً دكتورا!
يقول : كنت قبل دخول الكلية جاهلاً لكني متواضع ؛ اسلم على رأس أبي، وأقبل كف أمي، وأجلس مع زملائي، فلما درست وتعلمت لسنوات خرجت فلا تواضع ولا احترام ولا أدب !..، وهذه صورة قبيحة لطالب العلم.
وقيل للشعبي: بم حصلت على هذا العلم؟ قال: بسهر طير النوم من عيني، وبسهاد، وبتبكير كتبكير الغراب.
نعم إن العظمة جهاد وسهاد وجلاد، ودموع واشلاء، قال المتنبي وهو على دنيا رخيصة ، ليس على تكبيرة إحرام ولا على عبادة:
أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر
وحيداً وما قولي كذا ومعي الصبر!
وأشجع مني كل يوم سلامتي
وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر
تمرست بالآفات حتى تركتها
تقول أمات الموت أم ذعر الذعر
وأقدمت إقدام الآتي كان لي
سوس مهجتي أو كان لي عندها وتر
الى أن يقول:
وتركك في الدنيا دوياً كأنما
تداول سمع المرء أنملة العشر
لكن الموحدين لهم نظام في الأمنية غير نظام المتنبي وأبي مسلم الخرساني والحججاج، أمنيتهم أن يموتوا على لا إله إلا الله، ولو كانوا غرباء وحيدين معزولين، كما في دفتري الزبيري:
خذوا كل دنياكموا واتركوا
فوادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة
وإن خلتموني وحيداً سليبا
ويقول المتنبي :
لا يدرك المجد إلا سيد فطن
لما يشق على السادات فعال
لولا المشقة ساد الناس كلهمو
الجود يفقر والأقدام قتال
إن طريق السمو(مشقة) ؛ فأول السمو عندنا يبدأ بصلاة الفجر ، ومن لا يحضر صلاة الفجر فليس من أهل السمو ولا المعالي ولا السعادة، ولو زفت له الدنيا، وصفقت له البنود، وهتفت له الجنود ، وارتفعت عليه العلام ، وسددت أمامه السهامز
أبداً .. أبداً!!
لأن انطلاقتتنا الكبري من صلاة الفجر، من تكبيرة الإحرام النبي صلي الله عليه وسلم من حديث جندب بن عبد الله البجلي في مسلم: (( من صلي الفجر فهو في ذمة الله، فالله الله لا يطلبنكم من ذمته بشئ ، فإنه من طلبه أدركه كبة على وجهه في النار)).، ومن المحراب ننطلق إلي المعالي ، ومن لا يصلي الفجر والفروض الأخري جماعة ـ بلا عذر شرعي ـ فلا تظنه من أهل السعادة والسمو.
سمؤ في طلب العلم
سافر جابر بن عبد الله شهراً كاملاً على جمل إلى ( العريش) في مصر ، فلما وصل هناك طرق على عبد الله بن أنيس الباب، فخرج إليه عبد الله فسأله عن حديث الحوض فأخبره وطلب منه الدخول فأبي جابر وقال: رحلتي إلى الله ، والله لا أجلس أبداً، فمشي شهراً وعاد شهراً ، غدوة شهر ورواحة شهر!.. وللفت النظر فقط: فعبد الله بن أنيس هو الذي قتل خالد بن سفيان المشرك، فأعطاه صلي الله عليه وسلم عصاه وقال له : (( توكأ بها في الجنة))، والمتوكئون بالعصا في الجنة قليل ، فدخلت عصاه معه بره ، وسوف يبعث في العرصات وعصاه معه، وسوف يحضر الزحام عند الصحف والميزان والصراط وعصاه معه، وسيدخل الجنة وهو يتوكأ بها.
ونبي الله موسي عليه السلام ـ من قبل ـ ضرب أروع الأمثلة في طلب العلم ، وهو نبي معصوم يوحي اليه: ( لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً)(الكهف: 60).
والزمخشري يقول في قصيدة ماتعة:
سهري لتنقيح العلوم ألذ لي
من ضرب غانية وطيب عناق
والمعني: سهري مع الكتب والدفاتر أحسن عندي من أن أعانق امرأة جميلة ، أو أخلو بجارية فاتة، هكذا سمت نفسه.(/5)
ولأهل السنة سمة في هذا الباب، فخلوتهم مع صحيح البخاري ومسلم أحسن من ملك الدنيا جميعاً، واليك بعض النماذج السامية: طلب( شريك) العلم أربعين سنة، قال: طلبت العلم والله ما كان زادي في الىوم إلا كسرة خبز!.. وحضر في مجلس فيه وزير عباسي قد غاص في الركايا وفي الطنافس، فحدث بحديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام ، فقال الوزير : ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ)(المؤمنون: 24) ، فقال له شريك ـ وكان سريع البديهة ـ: من اين تسمع بهاذ وأنت تأكل الخبيص وتجلس على الطنافس ، وتغنيك الجواري؟!. وعرض به أحد خلفاء بني العباس حين قال له : أنت تحب عليا ، فأجابه : احبه حتى الدماغ ، فقال له : أواه من يوم عليك أظنك زنديق !، فقال شريك : الزنديق له ثلاث علامات، قال : ما هي ؟ قال: يترك صلاة الجماعة، ويشرب النبيذ، ويسمع الجواري!، قال: كانك تعرض بي وتلمح!، قال: ما ألمح لكن أقصدك!!.
وابن عبد البر مكث مع كتاب التمهيد ثلاثين سنة ليلاً ونهاراً ، ثلاثون سنة مع الكتاب يفليه، يكتبه، ينسخه ، يشرحه، ثم يقول :
سمير فؤادي من ثلاثين حجة
وصقيل ذهني والمفرج عن همي
وقد نظمت أربعة أبيات من باب التشبه بابن عبد البر فقط لا غير:
ثلاثون عاماً والدفاتر صحبتي
وقد صانني عن كل لهو وغفلتي
ثلاثون عاماً كلما قلت قد كفي
لأرتاح في داري وأحسو معيشتي
أبت همتي إلا الصعود الى العلا
إذا أنهد جسمي صارفي القلب قوتي
صعود أبداً وتفوق دائماً
دريد بن الصمة جاهلي من أهل الطائف ، خرج مع أخيه عبد الله لمواجهة العدو، فلما حضرت المعركة اجتمع القوم على أخيه عبد الله فقتلوه ، فسمع أخاه وهو في النفس الأخير يناديه: يا دريد.. يا دريد.. يا دريد، فانبعث هذه الصرخات إلى دريد وهو في آخر المعسكر وبينه وبين أخيه سيوف ورماح، فأخذ دريد في يمينه سيفاً وفي يساره رمحاً فشق الصفوص ، ووصل غلي أخيه وطاعن عنه الخيل وضارب الأبطال حتى جرح، ثم حمل فإذا أخوه ميت وهو حى!، فقال فيه قصيدة وهو يبكي عند أمه، يخبرها وخبر أخيه ، وهي من أرق وأجمل القصائد ، وقد جعلها أو تمام في حماسته ، يقول :
دعاني أخي والخيل بيني وبينه
فلما دعاني لم يجدني بقعدد
فطاع عنه الخيل حتى تبددت
وحتى علاني حالك اللون أسود
طعان أمرئ آسي أخاه بنفسه
ويعلم أن المرء غير مخلد
وطيب نفسي أنني لم أقل له
كذبت، ولم أبخل بما ملكت يدي
وهون وجدي أن ما هو فارط
أمامي وأني هامة اليوم أو غدا
وهذه من شيم أهل الجاهلية ، لكن الإسلام زكاها وسما بها الى أفق آخر. وفي سير الصالحينـ رضوان الله عليهم ـ مثال : في تسعة أسياف تكسرت في يد خالد بن الوليد ، وفي تسعة اسياف يطعن بها محمد بن حميد الطوسي فيقول له أبو تمام:
تردي ثياب الموت حمراً فما أتي
لها الليل إلا وهي من سندس خضر
فتي كلما فاضت عيون قبيلة دماً
ضحكت عنه الأحاديث والذكر
وهذه قصة قصيرة في سمو الهمم، شخوصها ابن عمر رضي الله عنه ، وعمرو بن أبي ربيعة وابن أبي لهب.
قال ابن عبد البر: أمر معاوية ألا يدخل أحد مكة إلا بإذنه ، فمر ابن ربيعة فقال له الجنود والحراس:
من أنت : فقال لهم :
بينما يذكرنني أبصرنني
عند قيد الميل يسعي بالأعز
قال تعرفن الفتي؟ قلن نعم
قد عرفناه وهل يخفي القمر؟!
فاذنوا له بالدخول.
فأتي ابن ابي لهب ، فقالوا له : من أنت ؟ قال:
وأنا الأخضر من يعرفتي
أخضر الجلدة من نسل العرب
من يساجني يساجن ماجداً
يمل الدلو الى عقد الكرب
فأذنوا له.
فأتي ابن عمر وإذا الناس كنفتيه كالغمامتين، وإذا سائل يسأله : نحرت قبل أن أرمي؟!، قال: أفعل ولا حرج ، قال: حلقت قبل أن أنحر ؟! قال: افعل ولا حرج، فأخذ الناس يسألونه...، فقال معاوية:
هذا والله هو الملك لا ملكي!.. وأمر الحراس فأذنوا له.
لأن ابن عمر تخرج من مدرسة محمد صلي الله عليه وسلم الهادية ، الناضحة، أما مدرسة ابن أبي ربيعة وابن أبي لهب فمدرسةلاغية، تعتمد على الهيام والغرام، ومثلها مدارس الأغنيات والآهات والزفرات في القنوات، وفي كل زمان ومكان تضيع فيه الآيات البينات، والأحاديث الثابتات.
وبسم الله نختم
ربنا اسلك بنا طريق محمد، ربنا اهدنا سبيل الخلفاء الراشدين، ربنا احشرنا مع الصادقين، ربنا اجعلنا مع الخالدين ، ربنا ارحمنا، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا..، أخطأنا، أسأنان تجاوزنا ، لكنك رحيم ، لكنك كريم، لكنك عفو، لكنك منان، لكنك رحمن، لكنك ديان، فعفو منك يا الله النبي صلي الله عليه وسلم ورحماك يا رب ، اللهم أكرمنا برحمة منك، ومغفرة منك، ونوال طيب منك، لكل وافدٍ ضيافة، ولكل زائر رفادة ، ضيافتنا منك ربنا، فيا رب غفران، ووفادتنا رضوانن وأنت رحمن سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ َسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).(/6)
السنة كلها تشريع
[الكاتب: يحيى هاشم حسن فرغل]
موضوع السنة من الموضوعات القديمة الجديدة التي يحوم حولها أعداء الإسلام قديما، وحديثا ؛ يحاولون أن ينفذوا منها إلى هدم الشريعة ثم هدم الإسلام برمته، والمقصود بالسنة هنا أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته
وهي تتضمن الأحكام الشرعية الخمسة من الفرضية مثل صوم رمضان، أو الوجوب مثل صلاة الوتر عند الحنفية، ومن السنية أو الندب أوالاستحباب مثل صوم ست من شعبان، ومن التحريم مثل أكل الربا، ومن الكراهية التحريمية أو التنزيهية مثل أكل الثوم عند صلاة الجمعة، ومن الإباحة مثل البيع والشراء.
منذ زمن طويل أطلت برأسها فتنة الاكتفاء بالقرآن الكريم: قال رجل لعمران بن حصين لا تتحدث معنا إلا بالقرآن فقال له عمران: إنك لأحمق، هل في القرآن بيان عدد ركعات الفرائض أو اجهروا في كذا دون كذا؟ فقال الرجل لا، فأفحم الرجل.
وروى البيهقي أيضا في باب صلاة المسافر من سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه سئل عن قصر الصلاة في السفر وقيل له: إنا لنجد في الكتاب العزيز صلاة الخوف ولا نجد صلاة السفر فقال للسائل: يا أخي: إن الله تعالى أرسل إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا، وإنما نفعل ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، قصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم [1].
واليوم فإن من أظهر ما يدل على مدى التمزق والحيرة التي أصابت الساحة الثقافية – بفضل حركة التنوير - هو ما عليه المسلمون اليوم بالنسبة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهم اليوم أربعة أصناف متناحرة:
# صنف يتطرف برفض السنة كلها وهؤلاء خارجون عن الملة بالكلية.
# وصنف يأخذون بها جميعا ولكنه يتطرف فلا يفرق بين ما هو فرض ومندوب، وحرام ومكروه من الأحكام الخمسة.
# وصنف يزعم أن فيها ما هو للتشريع فيأخذ به وما ليس في التشريع فلا يأخذ به.
# وصنف يأخذ بالسنة كلها وأنها كلها تشريع يتفاوت حكمه بين الفرض والمندوب والتحريم والكراهة والإباحة.
أما الصنف الأول: الذي يزعم أنه يكتفي بالقرآن ولا يتقيد بالسنة فأمره واضح بين، إذ هو لا يلتزم بالسنة ولا بالقرآن معا، لأنه لوا التزم بالقرآن لالتزم بالسنة نزولا عند قوله تعالى: { من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا }، {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }، { وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى }.
وفي سنن ابي داود بسنده عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه)).
هؤلاء أمرهم بين، ينتسبون إلى الإسلام زورا وبهتانا.
يقول الإمام الشعراني: (سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول: لولا أن السنة بينت لنا ما أجمل في القرآن ما قدر أحد أن يستخرج أحكام المياه والطهارة، ولا عرف كيف يكون الصبح ركعتين والظهر والعصر والعشاء أربعا، ولا كون المغرب ثلاثا، ولا كان أحد يعرف ما يقال في دعاء التوجه والافتتاح، ولا عرف صفة التكبير، ولا أذكار الركوع والسجود، والاعتدالين، ولا ما يقال في جلوس التشهدين ولا كان يعرف كيفية صلاة العيدين والكسوفين، ولا غيرهما من الصلوات كصلاة الجنازة، والاستسقاء، ولا كان يعرف الزكاة ولا أركان الصيام والحج، والبيع والنكاح والجراح والأقضية وسائر أبواب الفقه).
الصنف الثاني: وهو من يذهب إلى الطرف الآخر من القضية في أقصاه، فيلتزم بالسنة التي هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، ولكنه لا يفرق فيها بين الأحكام الشرعية الخمسة التي قدمناها فيخلط بين الفرض والمندوب، فيراه فرضا كله والمكروه والمحرم فيراه محرما كله، ويدخل المباح تارة هنا وتارة هناك.
فهؤلاء - مثلا – يستمعون إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في لعق الأصابع عند الأكل فيأخذون بذلك في جميع الأحوال كأنه فرض، ويستمعون إلى سنته صلى الله عليه وسلم في التوضؤ بحفنة من الماء فيأخذون بذلك في جميع الأحوال كأنه فرض كذلك.
لابد من النظر في ضوء أصول الفقه في تحديد معنى الأمر ومعنى النهي ومعنى الوجوب ومعنى الإباحة إلخ.
وفي ضوء أسباب الواقعة، التي تفسر معناها ولا تحبسه، يقول أستاذنا الدكتور موسى شاهين لاشين في بحثه القيم الذي اعتمدنا عليه في هذه المقال:(/1)
نعم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد أي بحفنة من الماء، وكان يغتسل بأربع حفنات فهذا تشريع ولكنه ليس للوجوب بالذات، وإنما هو يدور بين الوجوب والندب والإباحة بحسب الظروف، والملابسات. ولو عاش صلى الله عليه وسلم على ضفاف نهر مثلا لتوضأ بأكثر من حفنة ماء، ولاغتسل بأكثر من أربع حفنات.
وكان صلى الله عليه وسلم يعد سلاحه لملاقاة الأعداء بالسيف والرمح والنبل، فهذا تشريع ولكنه ليس للوجوب بالذات، ولكنه يدور بين أحكام الشريعة الخمس، بحسب الملابسات، ولو عاش في زماننا لما قصر صلى الله عليه وسلم عن الإعداد بأقصى مظاهر القوة العسكرية الحديثة.
إن بعض مشكلات الإسلام اليوم هي في بعض أهله ممن يفرطون، أو يفرطون، فليس من الإسلام في شيء ما نسمع عنه اليوم من أن بعض الدعاة يذهب إلى أوربا أو أمريكا ليدعو إلى الإسلام فيأكل على الأرض، وبالأصابع، فالحق أن هذا تنفير من الإسلام وليس دعوة إليه ولا فهما له.
إن مشكلة الإسلام مع هؤلاء في أنهم يدخلون جميع أفعاله صلى الله عليه وسلم في باب الوجوب أو الإلزام، بينما هي قد تكون من التشريع بالندب، أو من التشريع بالإباحة، أو غير ذلك من أحكام التشريع.
والصنفان السابقان: من يرفضون السنة جملة وتفصيلا، ومن ياخذون بها دون تفرقة بين الأحكام الشرعية الخمسة - أمرهما هين في كشف خطرهما أو انحرافهما، فالأول الذي ينكر السنة في باب التشريع إجمالا، كافر غير مسلم، والثاني الذي لا يميز فيها بين الفرض والمندوب والمحرم والمكروه والمباح أمره خطير ولكنه أقل خطرا من أولئكم. فهم مسلمون متشددون فيما لا موضع للتشديد فيه، ويمكن كشف خطرهما بشيء من الفقه والتعليم.
وهناك صنف ثالث: برز في العقود الأخيرة يزعم أن منها ما هو للتشريع فيؤخذ به، ومنها ما هو لغير التشريع فلا يؤخذ به، وهذه مقولة بالغة الخطر، وخطرها من نعومتها وشدة التلبيس فيها.
يقول الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين ردا على هؤلاء مبينا أن السنة كلها تشريع: " ولم يخالف في ذلك أحد من علماء المسلمين طوال أربعة عشر قرنا، حتى كان النصف الثاني للقرن الرابع عشر للهجرة، فكان أول من قسم السنة إلى تشريع وغير تشريع فضيلة الشيخ محمود شلتوت في كتابه " الإسلام عقيدة وشريعة ".
يذهب الشيخ شلتوت: إلى أن ما ورد من أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته قد يأتي بعضه: على ما سبيله سبيل الحاجة البشرية كالأكل والشرب والمشي والتزاور والمصالحة بين شخصين. وما سبيله التجارب والعادة الشخصية، أو الاجتماعية كالذي ورد في شئون الزراعة والطب وطول اللباس أو قصره. وما سبيله التدبير الإنساني في ظروف خاصة كتوزيع الجيوش على المواقع الحربية. وكل هذه الأنواع ليس شرعا يتعلق به طلب الفعل أو تركه، وإنما هو من الشئون البشرية التي ليس مسلك الرسول فيها صلى الله عليه وسلم " تشريعا ولا مصدر تشريع ".
ويقول الشيخ موسى شاهين لاشين: وعن الشيخ شلتوت أخذ كثير من المعاصرين فيما كتبوه عن السنة وتقسيمها إلى تشريعية وغير تشريعية. والذين ساروا في ركاب الشيخ شلتوت هم حتى اليوم لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة.وهؤلاء بحسن نية في بعض الأحيان يفتحون في الشريعة الإسلامية ثغرة يحسبونها هينة وهي منفذ خطير لأعداء الشريعة الإسلامية.
خصوصا وأن القضية بدأت أولا ؛ بإخراج ما سبيله الحاجة البشرية كالأكل والشرب من التشريع، ثم انتهت إلى إخراج كل ما يتعلق بالمعاملات التي لم ترد في القرآن الكريم، فيذهبون إلى أن المعاملات في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست خاضعة للتشريع، وإنما هي صادرة عن اجتهادات بشرية يجوز لمن يأتي بعده أن يجتهد مثله، وأن يخالفه في أفعاله وتقريراته وأفعاله وبخاصة ما جاء منها في المعاملات التي لم ترد في القرآن الكريم - ولو أدى اجتهاده إلى غير ما قرره الرسول صلى الله عليه وسلم باجتهاده - وفقا لعبارة الدكتور عبد المنعم النمر في كتابه " السنة والتشريع ص 46 " ويحصر السنة التشريعية في دائرة ضيقة بقوله: (نسارع فنقرر أن كل ما صدر عن الرسول من شئون الدين والعقيدة والعبادة والحلال والحرام والعقوبات والأخلاق والآداب لا شأن لنا به إلا من ناحية فهمه)، ثم يقول: (لكن هناك أحاديث كثيرة تتصل بمعاملات الناس في الحياة من بيع وشراء ورهن وإجارة وقراض وسلم)، كل ذلك لا يراه من التشريع وإن جاء في السنة، ثم يقرر أن المعاملات تخضع في الإسلام أولا وأخيرا لمبدأ المصلحة. وعلى هذا النحو جاءت كتابات العلمانيين من نحو نور فرحات، ومحمد خلف الله أحمد، وحسين أحمد [2]
وهو لم يكتف بما اكتفى به الشيخ شلتوت من إخراج ما سبيله الحاجة البشرية كالأكل والشرب، وإنما أخرج المعاملات جميعا، ولم يفرق في ذلك بين واجب ومندوب، أو مباح ومحرم، أو مكروه، وحكم على ما يقرب من نصف السنة بأنه ليس من التشريع.(/2)
ومن الواضح ما يمثله هذا التوجه من خطر على الشريعة الإسلامية: ينسفها أولا في المعاملات، ويبقيها في العبادات ليجهز بعد ذلك على المعاملات والعبادات جميعا. وهذه هي الغاية التي تنتهي إليها العلمانية في أقصى حالاتها. وهؤلاء يأتي الرد عليهم بعد نبذة سريعة عن الصنف الرابع.
الصنف الرابع: وهم المسلمون منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريب من عهدنا الحاضر، فهؤلاء يؤمنون بأن السنة كلها تشريع: إيمانا بما جاء عن ذلك في القرآن الكريم: { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما }، { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب }، { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا }، { وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى }.
يقول الأستاذ الدكتور عبد الغني عبد الخالق: (كل ما تلفظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم – ما عدا القرآن – أو ظهر منه من ابتداء رسالته إلى نهاية حياته فهو من سنته، سواء ما أثبت حكما عاما لسائر أفراد الأمة، وهذا هو الأصل، أو ما أثبت حكما خاصا به أو ببعض أصحابه، وسواء أكان فعله جبليا أم كان غير جبلي، من قول أو فعل يصدر عنه إلا ويثبت حكما شرعيا، بقطع النظر عن كونه إيجابا أو ندبا أو تحريما أو كراهة أو إباحة).
يقول ابن تيمية رحمه الله: (كل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم – بعد النبوة – أو أقرعليه أو فعله ولم ينسخ فهو تشريع. والتشريع يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب، فإنه يتضمن إباحة الدواء، والانتفاع به فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرعا لاستحبابه، والمقصود أن جميع أقواله يستفاد منه شرع).
لقد ذهب جمهور الأصوليين إلى أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدل – على الأقل – على الإذن به، مطلق الإذن الذي يشمل الوجوب والندب والإباحة، ما لم يوجد دليل على تعيين واحد منها. وقال بعضهم: يفيد الوجوب ما لم توجد قرينة مانعة منه. وقال بعضهم يفيد الاستحباب ما لم توجد قرينة مبينة للوجوب. ومن ذلك يتبين الإجماع على كونه تشريعا.
إن أظهر ما يستدل به القائلون بأن بعض السنة ليس تشريعا هو ما يذكرونه في باب الأكل والشرب ؛ يقولون: إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكل والشرب هي من باب الجبلة أو العادة والتجربة. فهي ليست تشريعا. وهو كلام منمق يتبين بطلانه بعد الفحص والنظر. فإذا ظهر بطلان دعواهم فيما جاء عن الأكل والشرب ظهر بطلان دعواهم في القضية كلها. وتبين رسوخ ما عليه جماعة المسلمين من كون السنة كلها تشريعا.
لقد حرم الله الميتة ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحر (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فمن الذي أحل السمك الميت – وها نحن في قلب مسألة الأكل والشرب –؟
أليس هذا تشريعا؟
كيف يكون ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الأكل والشرب صلى الله عليه وسلم في الأكل والشرب ليس تشريعا مع أن الله سبحانه وتعالى يقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) 157 الأعراف، أليس فعله صلى الله عليه وسلم أو قوله أو تقريره يعطي حكما شرعيا أقله رفع الحرج عن فعله؟ أكله صلى الله عليه وسلم للقثاء بالرطب ألا يفيد هذا إباحة هذا الفعل؟ أو لا يفيد؟ ألا يفيد هذا جواز الجمع بين لونين من الطعام؟ أو لا يفيد؟ وإليكم طائفة مما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الأكل والشرب، بعضها واجب وبعضها مندوب:
فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: (كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام سم الله وكل بيمينك، وكل مما يليك) كيف لا يكون هذا تشريعا يدخل في أحد الأحكام الخمسة؟
وفي ذم الشره والتنفير من الجشع في الأكل يقول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء) [أخرجه البخاري]، كيف لا يكون هذا تشريعا يدخل في أحد الأحكام الخمسة؟
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " الكرع " وهو الشرب منكفئا على الإناء وتناول الشراب بالفم كما تشرب البهائم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا بها) [أخرجه ابن ماجة]، أليس هذا تشريعا يدخل في أحد الأحكام الخمسة؟
ونهى صلى الله عليه وسلم عن اختنات الأسقية – أي الشرب من الإناء الكبير – منعا من توارد الأفواه على المكان الواحد في الإناء، فعن عائشة رضي الله عنها (نهى صلى الله عليه وسلم أن يشرب من في السقاء – أي فم السقاء – لأن ذلك ينتنه) [أخرجه الحاكم بسند قوي]، أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة؟(/3)
ونهى صلى الله عليه وسلم عن التنفس في الإناء عند الشرب فقال: (إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الماء) [أخرجه البخاري]. أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة؟
ونهى صلى الله عليه وسلم عن النفخ في الشراب عند الشرب فقال رجل: القذاة أراها في الإناء؟ قال: (اهرقها). قال: فإني لا أروى من نفس واحد؟ قال: (فأين القدح إذن عن فيك) [أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح]. أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة؟
ونهى صلى الله عليه وسلم عن الشرب في آنية الذهب والفضة. [أخرجه البخاري] أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة؟
وأمر صلى الله عليه وسلم بتغطية أواني الطعام والشراب فقال: (أطفئوا المصابيح إذا رقدتم وغلقوا الأبواب، وأوكوا الأسقية، وخمروا الأطعمة والشراب) أي غطوها [أخرجه البخاري]، أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة؟
ونهى صلى الله عليه وسلم عن الأكل من وسط الإناء فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " البركة تنزل وسط الطعام فكلوا من حافته، ولا تأكلوا من وسطه " [أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح]. أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة؟
ورغب صلى الله عليه وسلم في المواساة بالطعام والمشاركة فيه والاجتماع عليه فقال: (طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية) [أخرجه مسلم]، أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة؟
وحفاظا منه صلى الله عليه وسلم على أحاسيس الآخرين نجده صلى الله عليه وسلم: ما عاب طعاما قط، كان إذا اشتهى شيئا أكله وإن كرهه تركه، أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة؟ وقد اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا – في المسجد – لا يدخل عليهن بيوتهن – [أخرجه البخاري] أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
ولم يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة له ولا خادما قط [أخرجه أحمد]، أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة؟
وكان صلى الله عليه وسلم يتوضأ بحفنة من الماء وغيره يتوضأ بعشر حفنات [أخرجه البخاري] أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
وكان صلى الله عليه وسلم يصلي في الليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة [أخرجه البخاري]، أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
وكان صلى الله عليه وسلم يصوم في السفر وبعض أصحابه يفطر، وكان يفطر وبعض أصحابه يصوم، كما أخرجه البخاري، أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتلحي في العمة – أي بتطويقها تحت الحنك – كما ذكره ابن قتيبة، أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
وقد يحزن صلى الله عليه وسلم فيأتي في حزنه بما لا يعتبر واجبا ولكنه يعتبر تشريعا بالإباحة كالبكاء ودمع العينين.
وقد يضحك فيأتي في ضحكه بما يعتبر تشريعا بالتبسم صلى الله عليه وسلم، أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
وقد يعبس صلى الله عليه وسلم أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
وقد يغضب صلى الله عليه وسلم فيأتي في غضبه بما يعتبر تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
وقد ينسى صلى الله عليه وسلم فيأتي بعد نسيانه بما يعتبر تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
وإن ما يجري في الأكل والشرب يجري مثله في الأفعال الجبلية أو العادية الأخرى له صلى الله عليه وسلم كاللباس فلبسه صلى الله عليه وسلم للإزار، والرداء، والجبة الشامية، والقميص، والبرنس، والسراويل والعمامة، وتقنع، وعصب رأسه بخرقة فوق العمامة، ولبس على رأسه المغفر، والعمامة السوداء، والبردة النجرانية، والحبرة، والبردة اليمانية والشملة إلخ... أفلا يعتبر ذلك تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
وكان الصحابة رضي الله عنهم يؤمنون بذلك - أي بأن أفعاله تشريع -: لبس نعله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فلبسوا نعالهم، فلما خلع نعله – لسبب لا يعلمونه – خلعوا نعالهم.
ولما رأوه صلى الله عليه وسلم يمتنع عن أكل الثوم امتنعوا حتى أباح لهم.
ولما رأوه صلى الله عليه وسلم يمتنع عن أكل الضب – لسبب لا يعلمونه أيضا – أوشكوا أن يمتنعوا حتى أباح لهم.
وكانوا في الأفعال الجبلية يقضون حاجاتهم جماعات يرى بعضهم بعضا ويكلم بعضهم بعضا، فعلمهم التواري والتستر وعدم الكلام، وكان بعضهم يبول قائما فعلمهم الجلوس. [أخرجه النسائي وابن ماجة].
وإذا كان بعض الصحابة لم يصبغوا شيبتهم – مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى ذلك – مخالفة لليهود والنصارى – فليس معنى هذا أن سنته صلى الله عليه وسلم في ذلك ليست تشريعا بالمعنى العام، ولكن معناه أنه ليس تشريعا بالوجوب، ويظل بعد ذلك داخلا في التشريع بالندب أو التشريع بالإباحة
أليس إذا اختلف أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في فعل من الأفعال أنه محظور أو مباح ثم نقل الناقل في موضوع اختلافهم فعلا للنبي صلى الله عليه وسلم، ألا يدل ذلك على حسم الخلاف؟(/4)
وكانوا لا يؤاكلون الحائض ولا يأكلون مما عملت يداها ولا يخالطونها ولا يلامسونها فكان هو صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك كله – كما أخرجه مسلم – تشريعا بالإباحة؟
أليست الإباحة من أقسام الحكم الشرعي:
طبقا لتعريف الحكم الشرعي كما عرفه الأصوليون من أهل السنة بأنه خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا فإن الإباحة حكم شرعي، وهو على كل حال شيء والحرية شيء آخر، ومن الخطأ الاستدلال به على قيمة الحرية في الإسلام كما وجدنا في مناقشة هذا الموضوع في حلقة الشريعة والحياة بقناة الجزيرة [في 11102003].
المباح - كما عرفه الآمدي -: ما دل الدليل السمعي على خطاب الشارع بالتخيير فيه بين الفعل والترك، فهو إذن تشريع.
وهو - كما عرفه الجويني -: ما خير الشارع فيه بين الفعل والترك من غير اقتضاء ولا زجر ولا حكم عقلي قبل ورود الشرع.
فالإباحة حكم شرعي لم يخالف في ذلك إلا بعض المعتزلة.
والمراد بالاقتضاء الطلب سواء كان طلبا بالإيجاب، أو بالندب، أو بالتحريم أو بالكراهة.
والمراد بالتخيير ما كان تخييرا بين فعل الشيء أو تركه دون ترجيح لأحد الجانبين على الآخر، والذي يترتب على هذا هو الإباحة، فيصير المكلف مخيرا بين الفعل والترك ويسمى الفعل مباحا.
وقد أطلق بعض الأصوليين اسم الحكم التكليفي على الحكم التخييري – كما هو على الحكم الاقتضائي – ويرجع ذلك فيما يرى الأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور إلى عدة اعتبارات من بينها: أن المكلف ملزم باعتقاد إباحته، ولأنه يرد بأسلوب الأمر أحيانا كما في نحو قوله تعالى { كلوا واشربوا }، { إذا حللتم فاصطادوا }، وربما يرجع الأمر في هذا إلى ما ذهب إليه الأستاذ الدكتور موسى شاهين لا شين من أن بعض أحكام الإباحة واجبة التناول في أصلها كالأكل والشرب لا يجوز الامتناع عنه بإطلاق، ويرى الكعبي من الأصوليين أن المباح مطلوب، بل واجب، بناء على أنه به يحصل ترك الحرام، وما يحصل به ترك الحرام فهو واجب.
ومن المعتزلة من ينفي أن الإباحة من الأحكام الشرعية - كما نقل عنهم الغزالي في المستصفى - إذ معنى المباح رفع الحرج عن الفعل والترك وذلك ثابت بالعقل قبل السمع، وقد ناقشهم الغزالي بما يثبت كون الإباحة داخلة في أحكام الشرع باعتبار أو آخر. وموقفنا في هذا المقال يركن إلى عدم الدخول في هذا الخلاف، لأن كلامنا في أن السنة كلها تشريع يتجه إلى ما جاء بالسنة لا إلى ما لم يأت بها، وهذا الأخير ما نترك التوسع فيه للأصوليين.
ومن هنا فإنه كما يرى الأستاذ الدكتور موسى شاهين لا شين في بحثه القيم في صميم هذا الموضوع [3]: لا خلاف لنا هنا مع المعتزلة فيما جاء من الإباحة على الأصل المعقول قبل مجيء الشرع، وكلامنا فيما جاء فيه نص أو سنة، فهو مما اجتمع عليه الدليلان العقلي والنقلي معا.
إن الإباحة تعني تكليفا وتشريعا لا بأحد المباحات دون غيره، ولكنه تكليف بالتحرك في دائرته، يقول الإمام الشاطبي: (المباح وإن كان ظاهره الدخول تحت اختيار المكلف لكنه إنما دخل بإدخال الشارع له تحت اختياره)، أي إنه إنما كان مباحا بحكم الشارع لا بحكم المكلف.
وأليس المباح عندما يتناوله المسلم كما تناوله الرسول صلى الله عليه وسلم بنية الاقتداء به ومحبته ألا يعتبر عندئذ داخلا في حكم التشريع بالندب والاستحباب؟
وأليس المباح الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يظن البعض كالاكتحال وصبغ الشعر وتضفيره أفاد تشريعا بالإباحة لولاه لاجتهد مجتهدون بالتحريم أو الكراهة؟
وأليس تناول المباح موجبا للأجر إذا تناوله المسلم باعتباره مما أباحه الشارع، أو باعتباره مساعدا على البعد عن الحرام؟ إذن فهو تشريع، وهذا مقتضى قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم بسنده عن أبي ذر أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور. يصلون كما نصلي. ويصومون كما نصوم. ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: ((أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة. وكل تكبيرة صدقة. وكل تحميدة صدقة. وكل تهليلة صدقة. وأمر بالمعروف صدقة. ونهي عن منكر صدقة. وفي بضع أحدكم صدقة)) قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)).
والمباح نفسه ألا يعني التكليف بوجه من الوجوه ؛
فالأكل والشرب واجب في أصله وجملته، يحرم الامتناع عنه مدة تعرض النفس للهلاك، والاختيار إنما هو في المأكول والبدائل والملابسات فيه.(/5)
واللباس واجب في أصله يحرم التجرد منه نهائيا، والاختيار إنما هو في بدائل الملبوس وملابساته { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين، قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون }.
أما إذا كان المقصود بأن بعض أفعاله صلى الله عليه وسلم ليست تشريعا يعني أنها غير ملزمة أي غير واجبة فهذا صحيح بشروطه، ولا خلاف عليه إجمالا، لكنه لا يعني أنه لا يفيد حكما شرعيا على الإطلاق سواء بالوجوب أو بالندب أو بالكراهة إلخ، فهذا باب خطير من أبواب اختراق الشريعة الإسلامية بالاجتهاد المغلوط.
وكما يقول أستاذنا الدكتور موسى شاهين لاشين: (إن باب الشر المغلق إذا كسر غلقه لم يؤمن انفتاحه على مصراعيه، ومعظم النار من مستصغر الشرر، وسلب التشريع عن عشرة من أفعاله صلى الله عليه وسلم يتيح الفرصة لآخرين: تسلبها عن عشرين، ثم عن مائة، ثم عن المعاملات كلها، ثم عن الشريعة كلها) جزاه الله خيرا.
[1] الميزان للشعراني ج1 ص 49.
[2] أنظر بحث الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين السابق ص 33.
[3] بحث بعنوان " السنة كلها تشريع " بمجلة كلية الشريعة بجامعة قطر العدد العاشر.
...
...(/6)
السنة ومكانتها في الإسلام وفي أصول التشريع
عبد العزيز بن باز
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين ، أما بعد :
فهذا بحث مهم يتعلق بالسنة وأنها الأصل الثاني من أصول الإسلام يجب الأخذ بها والاعتماد عليها إذا صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقول :
من المعلوم عند جميع أهل العلم أن السنة هي الأصل الثاني من أصول الإسلام ، وأن مكانتها في الإسلام الصدارة بعد كتاب الله عز وجل ، فهي الأصل المعتمد بعد كتاب الله عز وجل بإجماع أهل العلم قاطبة ، وهي حجة قائمة مستقلة على جميع الأمة ، من جحدها أو أنكرها أو زعم أنه يجوز الإعراض عنها والاكتفاء بالقرآن فقط فقد ضل ضلالا بعيدا ، وكفر كفرا أكبر ، وارتد عن الإسلام بهذا المقال ، فإنه بهذا المقال وبهذا الاعتقاد يكون قد كذب الله ورسوله ، وأنكر ما أمر الله به ورسوله ، وجحد أصلا عظيما فرض الله الرجوع إليه والاعتماد عليه والأخذ به ، وأنكر إجماع أهل العلم عليه ، وكذب به ، وجحده ،
وقد أجمع علماء الإسلام على أن الأصول المجمع عليها ثلاثة : الأصل الأول : كتاب الله . والأصل الثاني : سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام . والأصل الثالث : إجماع أهل العلم .
وتنازع أهل العلم في أصول
فعلق الرحمة بطاعة الله ورسوله وقال سبحانه أيضا في سورة آل عمران : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ وقال سبحانه في سورة النساء :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا )فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله أمرا مستقلا وكرر الفعل في ذلك : ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) ثم قال : ( وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) ولم يكرر الفعل لأن طاعة أولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله وإنما تجب في المعروف حيث كان ما أمروا به من طاعة الله ورسوله ومما لا يخالف أمر الله ورسوله ،
ثم بين أن العمدة في طاعة الله ورسوله فقال : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) ولم يقل إلى أولي الأمر منكم بل قال : ( فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ )
فدل ذلك على أن الرد في مسائل النزاع والخلاف إنما يكون لله ولرسوله ، قال العلماء معنى إلى الله : الرد إلى كتاب الله ، ومعنى والرسول الرد إلى الرسول في حياته ، وإلى سنته بعد وفاته عليه الصلاة والسلام .
فعلم بذلك أن سنته مستقلة وأنها أصل متبع ، وقال جل وعلا : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) وقال سبحانه : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ) وقبلها قوله جل وعلا : ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
فجعل الفلاح لمن اتبعه عليه الصلاة والسلام لأن السياق فيه عليه الصلاة والسلام
( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) فذكر أن الفلاح لهؤلاء المتبعين لنبي الله عليه الصلاة والسلام- دون غيرهم ، فدل ذلك على أن من أنكر سنته ولم يتبعه فإنه ليس بمفلح وليس من المفلحين ، ثم قال بعدها : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) يعني قل يا محمد : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) فعلق الهداية باتباعه عليه الصلاة والسلام فدل ذلك على وجوب طاعته ، واتباع ما جاء به من الكتاب والسنة- عليه الصلاة والسلام ،(/1)
وقال عز وجل في آيات أخرى : ( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ) وقال جل وعلا أيضا في هذه السورة سورة النور : ( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) فأفرد طاعته وحدها بقوله : ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) وقال في آخر السورة سورة النور : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) فذكر جل وعلا أن المخالف لأمر النبي على خطر عظيم من أن تصيبه فتنة بالزيغ والشرك والضلال أو عذاب أليم ، نعوذ بالله من ذلك ،
وقال عز وجل في سورة الحشر : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) فهذه الآيات وما جاء في معناها كلها دالة على وجوب اتباعه وطاعته عليه الصلاة والسلام وأن الهداية والرحمة والسعادة والعاقبة الحميدة كلها في اتباعه وطاعته عليه الصلاة والسلام ، فمن أنكر ذلك فقد أنكر كتاب الله ، ومن قال إنه يتبع كتاب الله دون السنة فقد كذب وغلط وكفر ، فإن القرآن أمر باتباع الرسول ، فمن لم يتبعه فإنه لم يعمل بكتاب الله ولم يؤمن بكتاب الله ، ولم ينفذ كتاب الله ، إذ كتاب الله أمر بطاعة الرسول وأمر باتباعه ، وحذر من مخالفته عليه الصلاة والسلام ،
ولا يمكن أن يكون الإنسان متبعا للقرآن بدون اتباع السنة ، ولا يكون متبعا للسنة بدون اتباع القرآن فهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر ، ومما جاء في السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ما رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمة الله عليهما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني )
وفي صحيح البخاري رحمة الله عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال : ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل يا رسول الله ومن يأبى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ) وهذا واضح في أن من عصاه فقد عصى الله ، ومن عصاه فقد أبى دخول الجنة
والعياذ بالله ، وفي المسند وأبي داود وصحيح الحاكم بإسناد جيد عن المقداد بن معدي كرب الكندي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا وإنني أوتيت الكتاب ومثله معه ) والكتاب هو القرآن ، ومثله معه يعني ؛ السنة وهي الوحي الثاني : ( ألا يوشك رجل شبعان يتكئ على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول بيننا وبينهم كتاب الله ما وجدنا فيه من حلال حللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ) وفي لفظ : ( يوشك رجل شبعان على أريكته يحدث بالأمر من أمري مما أمرت به ونهيت عنه يقول بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا فيه اتبعناه ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .(/2)
السند وطالب العلم الشرعي اليوم
حسام الدين سليم الكيلاني
الحمد لله الذي خَصَّ الأمة المحمدية بشرف الإسناد ، وأعلى مقام الكتاب الكريم والسنة المطهرة في كل نادٍ ، ويسر لمن استهداه سبيل الهدى والرشاد ، وأقام علماء المسلمين من فقهاء ومحدثين حراساً أمناء على حفظ حديث خير العباد ، نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم المصطفى والرسول الأمين المجتبى .
اللهم صلِّ أفضل صلاةٍ وسلم أكمل سلامٍ على سيدنا محمد الذي جاء بالدين القويم والصراط المستقيم وعلى آله وأصحابه الميامين ، الذين استمعوا كتاب الله وحديث نبيه خير استماع واتبعوه أحسن اتباع ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد :
فلطالما غفل الكثير من طلاب العلم في أيامنا هذه ــ إلا من رحم ربك ــ عن أمر ما رأيت شيئاً هو أعظم دفعاً في قلب طالب العلم ، ولا أمضى في علاج آفاته ، ولا أكثر عوناً على القول المقترن بالعمل ، والعمل المقترن بالإخلاص ، والإخلاص المقترن بالتواضع ، أقول ما رأيت أمراً هو أجدى في ذلك كله من هذا الأمر الذي دفعني حقيقة إلى أن أكتب هذا الكتاب ، وأبذل فيه جهدي طالباً من الله سبحانه العفو عن الذلل والتقصير .
إذ كلما كان طالب العلم على معرفة ودراية ، بأحوال الرجال وتراجمهم وسيرهم ، كلما علت همته وقويت حافظته واهتدى قلبه وتنور بصره وبصيرته ، فهو إذا رأى عظيم شأنهم ، وكثرة رحلتهم في طلب العلم ، وتكبدهم المشقات ، وتعدد فنونهم وعلومهم ، وطول سهرهم وقيامهم ، وحالهم مع ربهم وورعهم ، نظر إلى تقصيره واحتقر عمله واستصغر شأنه ، فشدّ مئزره وقام يلحق القوم ويسير على قدمهم ، ويخطو خطواتهم .
ولقد عُرِفَ علماء المسلمين بحبهم للرحلة في طلب العلم والإسناد العالي ، فنرى أحدهم يسافر من بلد إلى بلد ليجلس بين يدي أحد العلماء الكبار ليأخذ عنه حديثاً أو حديثين لا يجدهما عند غيره من العلماء ، واقرأ كتاب ( الرحلة في طلب الحديث ) للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي ترى العجب العجاب من أمر علماء المسلمين ، وشدّة حرصهم على العلم والإسناد العالي في الحديث الشريف .
ورحم الله أبا الفضل العباس بن محمد الخراساني إذ ينشد فيقول :
رحلتُ أطلبُ أصل العلمِ مجتهداً وزينة المرءِ في الدنيا الأحاديثُ
لا يطلب العلم إلا باذلٌ ذكرٌ وليسَ يُبغضُهُ إلا المخانيثُ
لا تُعجَبَنَّ بمالٍ ، سوف تتركُه فإنما هذه الدنيا مواريثُ
إذ لما كان للإسناد أهمية كبيرة في صيانة الشريعة من التحريف والتبديل ، وحفظها من الزيادة أو النقص ، إذ بوساطته يمكن الاعتماد على صحة الحديث أو ضعفه ، أو أنه خبر موضوع لا أصل له ، لأننا حين نسمع بالخبر نعود إلى طريقه وهو السند ، فنتعرف على رجاله وأحوالهم وصفاتهم ، ونبحث عن أخلاقهم ومدى صدقهم والتزامهم لدينهم ، وعن صلة بعضهم ببعض وإمكان نقله عنه ونحو ذلك ، وعندها نقبل الحديث أو نرده ، بناءً على ما نتوصل إليه بنتيجة البحث والتمحيص ، ولولا السند والإسناد لما كان بالإمكان معرفة شيء من ذلك .
وهذه الطريقة في رواية الأخبار بالسند لم تكن معروفة قبل الإسلام ، حتى إذا جاء الإسلام وجدنا أن المسلمين يقررون : أن هذا العلم دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم ، ويقررون : أن الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ، ويقررون : أنه لا يؤخذ بالخبر ، ولا يضاف إلى النبي عليه الصلاة والسلام إلا إذا عرف من حدث به عنه ، ومن نقله إلينا ، وعرف حاله من الصدق والضبط وقوة الحفظ .
وإذا كان الإسناد في الأخبار من خصائص هذه الأمة الإسلامية ، فذلك مزيد فضل الله تعالى الذي امتن به عليها إذ وعدها بحفظ ما أوحى به إلى نبيها عليه الصلاة والسلام من تشريع فقال جل وعلا : { إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكرَ وإنَّا له لحافظون } [ الحجر9 ] ، وإذا كان الذكر هو القرآن الكريم ، فإن حديث النبي عليه الصلاة والسلام هو المبين له ، والمفصل لأحكامه ، فكان حفظه بحفظه .
واسمع لكلام الإمام الشافعي رضي الله عنه إذ يقول : ( مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى وهو لا يدري ! ) وقال بعض الحفاظ : ( مثل الذي يطلب دينه بلا إسناد مثل الذي يرتقي السطح بلا سلم ، فأنى يبلغ السماء ! ) ، وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى : ( ما ذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد ) ، وقال الحافظ يزيد بن زُرَيْعٍ رحمه الله تعالى : ( لكل دين فرسان ، وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد ) ، وهذا أبو العالية يقول : ( كنا نسمع بالرواية عن أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم بالمدينة بالبصرة فما نرضى حتى أتيناهم فسمعنا منهم ) ، وقال الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل : سمعت أبي يقول : ( طلبُ علوِّ الإسنادِ من الدين ) .(/1)
فإذن خصيصة الإسناد هذه أهم خصائص الأمة المحمدية ، فقد كان السند هو الشرط الأول في كل علم منقول فيها ، حتى الكلمة الواحدة ، يتلقاها الخالف عن السالف ، واللاحق عن السابق بالإسناد .
عن مقدمة كتابي ( الأمالي في أعلى الأسانيد العوالي ).
تأليف حسام الدين سليم الكيلاني
طبع دار القلم العربي بحلب(/2)
السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد
- إن هذا العالم بكل ما فيه ومن فيه من نبات وجماد وحيوان وإنسان وأجرام سماوية ، وما يصدر عن هذه الموجودات وما يتعلق بها ويحل فيها ، وما يقع من حوادث كونية كنزول المطر وهبوب الريح وثوران بركان وتعاقب الليل والنهار ، وما يحصل للإنسان من أطوار خلقه وتكوينه في بطن أمه وما يحدث له وللأمة من شقاء وسعادة ورفعة وسقوط وعلو وانحطاط وقوة وضعف وبقاء وفناء ونحو ذلك كل ذلك الذي ذكرنا وجوده وحدوثه في العالم لا يقع صدفة ولا خبط عشواء وإنما يقع ويحدث وفق قانون عام دقيق صارم لا يخرج عن أحكامه شيء.
2- الوجه الأول لهذا القانون العام :
ولهذا القانون العام الذي أشرت إليه وجهان : (الوجه الأول) هو الذي تخضع له جميع الكائنات الحية في وجودها المادي وجميع الحوادث المادية ، ويخضع له كيان الإنسان المادي وما يطرأ عليه مثل نموه وحركة أعضائه ومرضه وهرمه ولوازم بقائه حياً ونحو ذلك. وهذا الوجه من القانون العام وما يخضع له مما ذكرناه من الأمور المادية للكائنات ، أقول هذا الوجه من هذا القانون لا يختلف في وجوده أهل العلم بهذه الأمور المادية ، ولا يختلفون في خضوع ما ذكرناه له.
3- دلالة القرآن على هذا الوجه من القانون :
قد دل القرآن الكريم على هذا الوجه من هذا القانون العام في آيات كثيرة منها قوله تعالى : (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي إليها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) , وفي خلق الإنسان وخضوعه لهذا الوجه من القانون قوله تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) ، من الواضح البين أن خلق الإنسان والأطوار التي يمر بها وهو في بطن أمه يخضع في ذلك كله إلى قانون عام ثابت.
4- من سمات هذا القانون الثبات والاستمرار :
ومن سمات هذا القانون العام في وجهه الأول ، ثباته واستمراره بدليل اطراد أحكامه وسريانها على الحوادث والظواهر التي يحكمها هذا القانون ، فالأرض تحيا بالمطر ويخرج منها النبات ، قال تعالى : (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون). وكذلك جريان الشمس والقمر ، وجريان الفلك في البحر وفقاً لهذا القانون العام ، ومما يدل على ثبات هذا القانون بوجهه الأول الذي نتكلم عليه أن الله تعالى يلفت الأنظار إلى هذه الظواهر الكونية ويجعلها من الآيات الدالة على خالقيته وربوبيته لقوم يعقلون ويتفكرون ، ولولا اطراد حدوثها مما يدل على خضوعها لقانون ثابت لما صح لفت النظر إليها واعتبارها من آيات الله تعالى. فمن هذه الآيات قوله تعالى : (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون).
5- آلات المعرفة بهذا القانون :
وآلات المعرفة بهذا القانون العام هي ما أشارت إليه الآية الكريمة : (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون). قال الزمخشري في تفسير هذه الآية : (وجعل لكم) أي وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به.
6- سبيل المعرفة بالقانون العام (بوجهه الأول) :
وسبيل المعرفة بالقانون بالآلات التي ركبها الله في الإنسان (السمع والأبصار والأفئدة) يكون بالمشاهدة والنظر والتأمل واستخلاص النتائج في ضوء ذلك للتعرف على القواعد التي تحكم موجودات هذا العالم وحوادثه المادية. جاء في تفسير الآلوسي بصدد الآية الكريمة : (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) ، قال الآلوسي رحمه الله تعالى : (والمعنى : جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها العلم والمعرفة بأن تحسوا بمشاعركم جزيئات الأشياء وتدركوها بأفئدتكم – أي بعقولكم – وتنتبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرير الإحساس فيحصل لكم علوم بديهية تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلوم الكسبية).
والقرآن الكريم أمر بالنظر والتفكير فيما خلق الله السموات والأرض ليزداد الناس يقيناً بأن الله الخالق العظيم ، وليعلموا أن ما خلقه الله كان بدقة ونظام ، وأن كل ما فيه يجري بأمر الله ، أي وفق ما وضعه له من نظام. فمن هذه الآيات الداعية إلى النظر في الكون والتأمل بما فيه للوقوف على أسراره وكيفية جريانه قوله تعالى : ( قل انظروا ماذا في السموات والأرض) .(/1)
ومعرفة هذا القانون في وجهه الأول مباحة للجميع ويمكن الحصول عليها من قبل المسلم والكافر ، وأكثرهما جدية ونشاطاً ونظراً وبحثاً وسعياً أكثرهما وقوفاً عليه وإحاطة بجوانبه وجزئياته. فهذا العلم مشاع للجميع ولا يختص المسلمون بشيء منه باعتبارهم مسلمين ، اللهم إلا في القصد من تعلمه وفي أوجه الانتفاع منه ، لأن قصد المسلم وأوجه انتفاعه بالأشياء وبما يعلم ، كل ذلك محكوم بحكم الشريعة الإسلامية فما تبيحه أو توجبه فهو مباح أو الواجب وما تنهى عنه فهو المكروه أو الحرام.
7- الوجه الثاني من القانون العام :
أما الوجه الثاني من القانون العام فهو الذي يتعلق بخضوع البشر له باعتبارهم أفراداً وأمماً وجماعات. وأعني بخضوعهم له خضوع تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة وما يكونون عليه من أحوال وما يترتب على ذلك من نتائج كالرفاهية أو الضيق في العيش ، والسعادة والشقاء والعز والذل والرقي والتأخر والقوة والضعف ونحو ذلك من الأمور الاجتماعية في الدنيا وما يصيبهم في الآخرة من عذاب أو نعيم وفقاً لأحكام هذا القانون بوجهه الثاني.
8- هل يوجد هذا القانون في الشريعة الإسلامية :
ونتساءل : هنا هل يوجد هذا القانون بوجهه الثاني في الشريعة الإسلامية ويخضع له البشر في أفعالهم وسلوكهم وما يترتب عليها من نتائج في ضوء قواعد هذا القانون وأحكامهم ؟ والجواب : إن الشريعة الإسلامية – بكتابها العزيز القرآن ، وبالسنة النبوية الكريمة – تبين بوضوح وجلاء وجود (سنة عامة) لله تخضع لحكمها تصرفات البشر وأفعالهم وسلوكهم ومواقفهم من شرع الله وما قد يترتب على ذلك من نتائج معينة في الدنيا والآخرة ، فهل تعني (سنة الله) ما نعنيه بالقانون العام الذي نتكلم عليه ؟ والجواب يعرف بعد أن أبين تعريف سنة الله في اللغة وفي اصطلاح الفقهاء وعلماء التفسير.
9- تعريف سنة الله :
السنة في اللغة تعني السيرة ، حسنة كانت أو قبيحة. وفي النهاية لابن الأثير : (والأصل في هذا اللفظ – السنة – الطريقة والسيرة. وفي حديث المجوس (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) أي خذوهم على طريقتهم وأجروهم في قبول الجزية منهم مجراهم). وقال الفيروز آبادي في معنى (السنة) : والأصل فيها الطريقة والسيرة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : (من سن سنة حسنة) أي طرق طريقة حسنة ، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم طريقته التي كان يتحراها. وقال شيح الإسلام ابن تيمية : (والسنة هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول : ولهذا أمر الله تعالى بالاعتبار). وقال الإمام الرازي في تفسيره : (والسنة : الطريقة المستقيمة والمثال المتبع) .
10- التعريف المختار لسنة الله :
يلاحظ أن هذه الكلمة يدور معناها على معنى (الطريقة المتبعة) فيكون معنى (سنة الله) هي الطريقة المتبعة في معاملة الله تعالى للبشر بناء على سلوكهم وأفعالهم وموقفهم من شرع الله وأنبيائه وما يترتب على ذلك من نتائج في الدنيا والآخرة.
11- سنة الله هي القانون العام :
وحيث أن سنة الله تعالى المتعلقة بأفعال البشر وسلوكهم هي طريقته المتبعة في معاملته للبشر، كما قلنا، وما يترتب على ذلك من نتائج معينة في الدنيا والآخرة ، فهذا يعني أن معنى (السنة) هو معنى (القانون العام) من حيث خضوع أفعال البشر وسلوكهم إلى أحكام هذه (السنة) التي يمكن تسميتها بالقانون العام.
12- سنة الله تتسم بالثبات والاطراد والعموم :
وما دامت (سنة الله) هي القانون العام الذي يحكم أفعال البشر وسلوكهم فإنها تتسم بالثبات والاطراد والعموم ، وهذا هو شأن القاعدة القانونية. فهي ثابتة لا تتغير ، قال تعالى : (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً). وقال تعالى : (فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً).
وهي مطردة لا تتخلف ، ويدل على اطرداها أن الله تعالى قص علينا قصص الأمم السابقة وما حل بها لتتعظ ونعتبر ولا نفعل فعلهم لئلا يصيبنا ما أصابهم ، ولولا اطرداها لما أمكن الاتعاظ والاعتبار بها. فمن هذه الآيات قوله تعالى : ( فاعتبروا يا أولي الأبصار) بعد أن قص الله تعالى علينا ما حل ببني النضير لسوء أعمالهم ، قال الآلوسي في هذه الآية : أي فاتعظوا بما جرى عليهم – أي على اليهود من بني النضير – من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار ، واتقوا مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي ، واعتبروا من حالهم في غدرهم واعتمادهم على غير الله – الصائرة سبباً لتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ومفارقة أوطانهم كارهين – إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب وتعتمدوا على غيره عز وجل بل توكلوا عليه). وكذلك قوله تعالى : ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين. هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين).(/2)
وهي ، أي سنة الله ، تتصف بالعموم أي أنها عامة يسري حكمها على الجميع دون محاباة ولا تمييز ، قال تعالى : (أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر) ، (ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مذكر). أي ليس كفاركم خيراً من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم).
وقال تعالى : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به) ، والمعنى أن كل من يعمل سواءً يلق جزاءه ، لأن الجزاء بحسب سنة الله تعالى أثر طبيعي للعمل لا يتخلف عنه. فسنة الله تعالى ثابتة ومطردة وعامة غير مقتصرة على فرد دون فرد ولا على قوم دون قوم. ولولا ثباتها واطرادها وعمومها لما كان معنى في ذكر قصص وأخبار الأمم السابقة وطلب الاعتبار بما حل بهم ، ولكن لما كان ما جرى لهم وعليهم يجري على غيرهم إذا فعلوا فعلهم ، حسن ذكر قصصهم وطلب الاعتبار والاتعاظ بها.
13- السبيل لمعرفة (سنة الله) :
والسبيل لمعرفة سنة الله أي الوجه الثاني للقانون العام هو الرجوع إلى كتاب الله العظيم وسنة نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فما فيهما هو القول الفصل ، وما بيناه – أي القرآن والسنة النبوية – من أنه هو (سنة الله) أي قانونه العام الذي تجري بموجبه أحداث ووقائع البشر ، فهذا البيان هو الحق المبين والقول الصدق : (ومن أصدق من الله قيلاً) ، وهو الإخبار الحق الصادق عن هذا القانون العام (ومن أصدق من الله حديثاً).
14- الإخبار عن (سنة الله) بصيغ متنوعة :
وقد يخبرنا الله تعالى (سنته) أي عن القانون العام الذي وضعه الله لحكم سلوك البشر وأفعالهم وما يصيبهم ، قد يخبرنا عن ذلك بغير لفظ (السنة) كأن يعبر عن (سنته) بتقرير نتيجة معينة بناء على وصف معين أو حالة معينة أو بناء على سبب أو شرط معينين ، فيكون هذا الإخبار بهذه الصيغ إخباراً عن سنة ثابتة لله تعالى كما في قوله تعالى : ( تلك القرى أهلكناهم لما ظلموا) ، وقوله تعالى : (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
15- أهمية دراسة سنن الله :
وسنن الله تعالى التي بينها الله في القرآن الكريم أو بينها الرسول صلى الله عليه وسلم جديرة بالدراسة والفهم ، بل إن دراستها وفهمها من الأمور المهمة جداً والواجبة ديانة ، لأن معرفتها معرفة لبعض الدين قال تعالى : ( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين). قال الآلوسي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية : ( والمراد من ( كل شيء) ما يتعلق بأمور الدين أي بياناً بليغاً لكل شيء يتعلق بذلك ، ومن جملته أحوال الأمم أنبيائهم).
ومن الواضح أن أحوال الأمم مع أنبيائهم التي اعتبرها الآلوسي رحمه الله بحق أنها من جملة الدين ، هذه الأحوال تعني ما جرى لهم مع أنبيائهم وما حل فيهم بسبب سلوكهم معهم وموقفهم منهم وفقاً لسنة الله ، وما طلبه الله منا من الاتعاظ والاعتبار بهم. فيتحصل من ذلك أن معرفة سنن الله جزء من معرفة الدين أو معرفة لجزء من الدين ، وأن هذه المعرفة ضرورية. ومن الواجبات الدينية لأنها تبصرنا بكيفية السلوك الصحيح في الحياة حتى لا تقع في الخطأ والعثار والغرور والأماني الكاذبة ، وبذلك ننجو مما حذرنا الله منه ، ونظفر بما وعد الله به عبادة المؤمنين المتقين.
وهذه السلسلة القادمة من المقالات سوف تتحدث عن الوجه الثاني من القانون العام الذي يحكم المخلوقات في هذا العالم ، والوجه الثاني من هذا القانون العام هو ( سنة الله ) المتعلقة بسلوك البشر وأفعالهم في الدنيا وما يترتب عليها من نتائج في الدنيا والآخرة.
المرجع : السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد ، للدكتور عبد الكريم زيدان ، ص 7
هدى الله هو الهدى :
قال تعالى : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى) ، أي قل يا محمد إن هدى الله الذي بعثني به هو الدين المستقيم الصحيح الشامل ، وهو الهدى الحقيقي الذي يصح أن يسمى هدى وهو الهدى كله ليس وراءه هدى.
هدى الله هو الإسلام:
وهدى الله الذي هو الهدى ، أرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) ، هذا الهدى هو الإسلام الذي فيه الهدى كله ليس وراءه هدى ، قال الزمخشري في قوله تعالى : ( قل إن هدى الله هو الهدى) يعني أن هدى الله الذي هو الإسلام هو الهدى الحق والذي يسمى هدى الله وهو الهدى كله ليس وراءه هدى ، وما تدعون اتباعه أيها اليهود والنصارى ما هو بهدى إنما هو هوى.
من يترك هدى الله يتركه الله وما اختاره :(/3)
قال تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) ، هدى الله هو الإسلام وهو سبيل المؤمنين ، فمن يشاقق الرسول صلى الله عليه وسلم – أي يعاديه – فلا يتبع الإسلام ويتبع غير سبيل المؤمنين بعد أن تبين له هدى الله فإن الله تعالى يتركه وشأنه وما اختاره لنفسه من ضلال . ومن المعلوم أن ما اختاره لنفسه هو سبيل الضلال لأنه ليس بعد الحق – الإسلام الذي تركه- إلا الضلال ، قال تعالى : ( فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ) .
تهديد من يتبع غير هدى الله :
هدى الله هو الإسلام وهو الحق الواجب الاتباع وما عداه هو الضلال الواجب تركه والإقلاع عنه ، فمن تمسك به خسر تولي الله له ونصرته إياه وكان من الظالمين ، قال تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم والأمر لأمته : ( ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير). قال ابن كثير في تفسيرها: في هذه الآية تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طوائف اليهود والنصارى بعدما علموا من القرآن والسنة عياذاً بالله من ذلك. فإن الخطاب مع الرسول والأمر لأمته.
وفي آية أخرى قال تعالى : ( ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً من الظالمين). والذي جاءه من العلم هو هدى الله وما شرعه له من أمور الإسلام ، فإذا فرض مجرد فرض أن تتبع ما يهواه اليهود والنصارى إنك إذاً لمن الظالمين ، فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد أمته.
وفي الآية تهديد ووعيد لمن يتبع أهل الباطل في باطلهم وأهوائهم استمالة لهم ، فقد جاء في تفسير المنار بشأن هذه الآية: هذا الخطاب بهذا الوعيد لأعلى الناس مقاماً عند الله تعالى وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو أشد وعيد لغيره ممن يتبع الهوى ويحاول استرضاء الناس بمجاراتهم على ما هم عليه من الباطل ، فإنه أورده بالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم مع أن المراد أمته ليعلم المؤمنين أن أتباع أهواء الناس ولو لغرض صحيح هو من الظلم العظيم الذي يقطع طريق الحق ويردي الناس في مهاوي الباطل.
لا حزن ولا خوف على متبع هدى الله :
قال تعالى : ( قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). قال ابن كثير في تفسير الآية: أي من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من أمور الدنيا.
وفي تفسير المنار : المهتدون بهدى الله تعالى لا يخافون مما هو آت ولا يحزنون على ما فات لأن أتباع الهدى يسهل عليهم سبيل اكتساب الخيرات ويعدهم لسعادة الدنيا والآخرة ، ومن كانت هذه وجهته يسهل عليه كل ما يستقبله ويهون عليه كل ما أصابه أو فقده لأنه موقن بأن الله يخلفه.
طيب العيش لمتبع الهدى ، والعيش الضنك للمعرض عنه :
قال تعالى : ( قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى . ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً ؟ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى. وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى). فهذه الآيات بينت سنة الله في متبع هداه وسنته في المعرض عنها. والمقصود بهدى الله في هذه الآية كتبه التي أنزلها على رسله لتبليغها للناس. وفسر بعضهم (هدى الله) بأنه القرآن الكريم لما روي عن ابن عباس أنه قال: (أجار الله تعالى تابع القرآن من أن يضل في الدنيا أو يشقى في الآخرة. ثم قرأ هذه الآية).
والواقع أن (هدى الله) يشمل جميع كتبه التي أنزلها الله تعالى على رسله وأمرهم بتبليغ محتوياتها من الهدى للناس ، ولا شك أن القرآن من جملتها ، بل وأفضلها ، وحيث أنه آخرها ، وأن اتباعه هو الواجب دونها ، فبهذا الاعتبار جاز وصح تفسير (هدى الله) في هذه الآية بأنه القرآن الكريم كما هو المروي عن ابن عباس.
سنة الله في متبع هداه ، ودليلها :
قلنا : إن سنة الله في متبع هداه – أي القرآن – هو تمتعه بطيب العيش في الدنيا ، ودليل هذه السنة قوله تعالى : ( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى). قال ابن عباس : (لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة) ، والضلال في الدنيا الانحراف عن الإسلام ، والشقاء في الآخرة العقاب فيها.(/4)
قال الزمخشري في قوله تعالى : ( فلا يضل ولا يشقى) ، والمعنى أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضل في الدنيا عن طريق الدين فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه). ولكن نظم الآية وسياقها يتسعان للقول بأن الشقاء المنتفي عن متبع القرآن يشمل انتفاءه عنه في الدنيا والآخرة ، وهذا التفسير هو أحد الوجوه في تفسير قوله تعالى : (فلا يضل ولا يشقى) والذي ذكره الإمام الرازي في تفسيره لهذه الآية ، وأورد على هذا الوجه من التفسير سؤالاً فقال : ( الوجه الثالث - أي في تفسيرها – لا يضل ولا يشقى في الدنيا. فإن قيل: المتبع لهدى الله قد يلحقه الشقاء في الدنيا. قلنا: المراد لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين ، فإن حصل الشقاء بسبب آخر فلا بأس).
والواقع أن متبع هدى الله – أي القرآن الكريم – يحيا حياة طيبة كما وعد الله تعالى وكما هو مقتضى سنته ، قال تعالى : ( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) ، والشأن بمتبع هدى الله – القرآن الكريم – أنه مؤمن ويعمل الصالحات وإلا لما كان متبعاً للقرآن ، والحياة الطيبة التي يحياها لا يشقى فيها قطعاً ، لأنها تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت كما قال ابن كثير في تفسيره. ولأن الشقاء ينافي الحياة الطيبة التي يتمتع بها متبع القرآن ، فالشقاء إذن منفي عنه في الدنيا ، كما أن الضلال منفي عنه في الدنيا. ولأن متبع هدى الله همه مرضاة الله فهو قانع بما قسمه الله له في الدنيا غير متسخط على ذلك ، لأنه سعيد بما أنعم الله عليه من نعمة الدين ، فهو في عيش طيب رغيد ، لأن تطلعه – بعد أن أنعم الله عليه بالإسلام – إلى ما عند الله لا إلى الدنيا ومتاعها الزائل ، فهو لا يحرص على تحصيله وإن كان لا يرفضه إذا جاءه ولا يأسف إذا فاته فهو في طيب عيش وحياة طيبة قطعاً.
سنة الله في المعرض عن هداه ودليلها :
وأما سنة الله في المعرض عن هداه ، وهي عيشة الضنك ، كما قلنا ، فهذه السنة ودليلها في قوله تعالى : (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً) إلخ ، وذكر الله هو قرآنه أو دينه الإسلام ، والإعراض عنه يعني تركه وعدم اتباعه ، وابتغاء الهدى من غيره. قال ابن كثير رحمه الله تعالى : ( ومن أعرض عن ذكري) أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي وأعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه.
وهذا المعرض عن هدى الله له المعيشة الضنك أي الضيقة في الدنيا ، لأن الضنك أصله الضيق والشدة. ووجه ضيق معيشته أنه شديد الحرص على الدنيا متهالك عليها وعلى الزيادة منها خائف من انتقاصها ، لا طمأنينة له ولا انشراح لصدره ، بل صدره ضيق حرج لضلاله ، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يعمره هدى الله لا يحس بسعادة ولا بطيب العيش. وهذا في الدنيا.
أما في الآخرة فقد مضت سنة الله في الجزاء أنه سيصيبه عقاب المعرضين عن هداه ، ومن هذا العقاب حشره يوم القيامة أعمى لعماه عن آيات الله وهداه ، قال تعالى مخبراً عن هذا الجزاء وسببه : ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمي وقد كنت بصيراً. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) ، والمعنى أن هذا المعرض عن هدى الله يحشر يوم القيامة أعمى فيقول : ( رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً) أي في الدنيا فيقول الله تعالى له : ( كذلك أتتك آياتنا فنسيتها) أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك فأنت قد عميت عنها لأن من عمي عن شيء نسيه وتركه ( وكذلك اليوم تنسى) أي تترك في العمى كما كنت أعمى عن آيات الله ، جزاء وفاقاً لأن الجزاء من جنس العمل.
وهذا العقاب الذي ينتظر المعرض عن هدى الله هو أشد وأبقى من عذاب الدنيا. وسيصيب أيضاً المسرفين المكذبين بآيات الله ما أصاب المعرضين عن هدى الله من العيش الضنك في الدنيا والعذاب في الآخرة لقوله تعالى : ( وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى).
ومن يعرض عن هدى الله يقيض له شيطاناً :
والمعرض عن هدى الله ، أي القرآن ، يقيض الله له شيطاناً يصاحبه ولا يفارقه ، يزين له عمل الشر يصده عن سبيل الحق ، ويحسب أنه على هدى وصواب ، وبهذا جرت سنة الله في المعرضين عن هداه قال تعالى : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين. وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون).(/5)
وجاء في تفسير هاتين الآيتين : أن من يتعامى ويتغافل ويعرض عن ذكر الله أي عن القرآن الكريم وما أنزل الله فيه ، ويأخذ بأقوال المضلين وأباطيلهم ، نقيض له شيطاناً أي نتح له شيطاناً فهو له قرين دائماً لا يفارقه ، يمنعه من الحلال ويبعثه على الحرام وينهاه عن الطاعة ويأمره بالمعصية ويزين له سيئ الأعمال وهذا عقاب له عن إعراضه عن هدى القرآن كما يقال : إن الله تعالى يعاقب على المعصية بمزيد اكتساب السيئات. وإن الشياطين ليصدون أولئك المعرضين عن هدى الله عن سبيل الحق ويحسب أولئك المعرضون عن هدى الله أنهم مهتدون إلى الحق. وهؤلاء الضالون المعرضون عن هدى الله يصدق عليهم قول الله تعالى : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً).
تعريف السبب :
السبب في اللغة كل شيء يتوصل به إلى غيره. وبهذا المعنى اللغوي للسبب ورد في قوله تعالى : ( وآتيناه من كل شيء سبباً فأتبع سبباً ) فالمعنى : آتاه الله من كل شيء معرفة وذريعة يتوصل بها فاتبع واحداً من تلك الأسباب. سواء كان هذا الشيء مادياً كآلة من الآلات المادية أو كان معنوياً كالعلم والقدرة.
كل شيء بسبب :
وقد دل القرآن الكريم على أن كل شيء يحدث بسبب سواء كان هذا الحدث يتعلق بالجماد أو بالنبات أو بالحيوان أو بالإنسان أو بالأجرام السماوية أو الظواهر الكونية المادية المختلفة. فقانون السببية أي ربط المسببات بأسبابها والنتائج بمقدماتها ، هذا القانون عام شامل لكل ما في العالم ولكل ما يحصل للإنسان في الدنيا والآخرة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب ، والله خالق الأسباب والمسببات). فمن الأسباب المادية قوله تعالى : (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم). ومن الأسباب المعنوية : (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً).
والقرآن الكريم – كما يقول ابن القيم – مملوء من ترتيب الأحكام الكونية والشرعية والثواب والعقاب على الأسباب بطرق متنوعة ، فيأتي بباء السببية تارة كقوله تعالى : ( كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية) ، ويأتي باللام تارة كقوله تعالى : ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم) ويأتي بذكر الوصف المتقضي للحكم تارة كقوله تعالى : (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً) ، فالله تعالى اقتضت حكمته ربط المسببات بأسبابها.
من مقالة قديمة لي في قانون السببية :
وقد يكون من المفيد أن أذكر هنا شيئاً مما جاء في مقالة لي نشرتها في مجلة التربية الإسلامية ببغداد قبل ما يقرب من ثلاثين سنة بعنوان : (القانون الرهيب) جاء فيها : (كثيراً ما يقول الناس إن الشيء الفلاني حدث صدفة ، ويمر هذا اللفظ على الأسماع كأنه قول صحيح. والواقع أن هذا اللفظ غير صحيح ، وليس له المدلول الذي يتبادر إلى الأذهان… فليس في الكون مكان ( للصدفة) وإنما هناك أسباب ومسببات ونتائج تسبقها مقدمات .. ما يسمى (صدفة) ما هو في الحقيقة إلا حدث يجهل الناس أسبابه.. ولكن الجهل بالشيء لا يعني عدم وجود ذلك الشيء وتوضيح هذه الحقيقة أن هذا الكون الواسع العجيب المدهش الذي خلقه الله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين).. هذا الكون يجرب بموجب أسباب ومسببات تكون قانوناً عاماً هو في غاية الدقة والإحكام والشمول بحيث لا يخرج عنه شيء ولا يفلت منه مخلوق.. يحكم كل شيء من المخلوقات بلا استثناء: من أصغر ذرة إلى أكبر جرم ، ومن الجماد والنبات بأنواعه إلا ذي الروح بأنواعه ، ومن حركة الذرة في مادتها التي لا نشعر بها إلى حركة الريح العاصف التي تقلع الأشجار وتخرب البيوت .. فالكل خاضع ومنقاد لهذا القانون الرهيب لا يستطيع منه تفلتاً ولا خلاصاً.. وهذا الخضوع التام من الجميع ما هو في الحقيقة إلا خضوع للملك القوي الجبار واضع هذا القانون وخالق هذا الكون ، وعلى هذا دل القرآن الكريم ، قال تعالى : (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) ، وقال تعالى : ( وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون). وهذا القانون الإلهي العام المسمى في القرآن الكريم بـ (سنة الله) لا يقبل التبديل ولا التحويل.(/6)
وقد ذكرت كلمة (سنة الله) وأنها لا تتبدل ، في القرآن الكريم في مواضع كثيرة حتى يرسخ مفهومها في النفوس وتنحسر الأوهام عن العقول. (وسنة الله) أو هذا القانون الإلهي العام يقوم على الأسباب والمسببات وربط النتائج بالمقدمات على نحو هو في غاية الدقة والصرامة والاطراد.. والإنسان – وهو جزء من هذا الكون ، ولكنه جزء ممتاز – يخضع لهذا القانون في جميع حركاته وسكناته وتقلبات أحواله كما تخضع له أيضاً الأمم في علوها وانخفاضها وسعادتها وشقائها وعزها وذلها وبقائها وهلاكها .. وهذا الخضوع من الأفراد والأمم في جميع أحوالهم لهذا القانون الرهيب يساوي بالضبط خضوع الأحداث الكونية المادية لهذا القانون ، فكما أن سقوط تفاحة من شجرة هو نتيجة حتمية لأسباب معينة أدت إلى هذا السقوط ، فكذلك يعتبر سقوط دولة أو هلاك أمة نتيجة حتمية لأسباب معينة أدت إلى هذا السقوط ، فكذلك يعبر سقوط دولة أو هلاك أمة نتيجة حتمية لأسباب معينة أدت إلى هذا السقوط.
وهذا ما تقضي به سنة الله العامة التي لا تقبل التخلف ولا التبديل : ( سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً) ، وكل الفرق بين الأحداث الكونية المادية وبين الأحداث الاجتماعية هو أن أسباب الأولى واضحة بينة مضبوطة إذا عرفناها أمكننا الحكم بدقة على نتائجها وميقات هذه النتائج ، فالماء مثلاً ينجمد إذا بلغت درجة برودته كذا درجة ، ويصل إلى الغليان إذا وصلت درجة حرارته إلى كذا درجة وبعد كذا من الوقت ، وهكذا ..
أما أسباب الأحداث الاجتماعية فهي بمختلف أنواعها من سياسة واقتصادية وحضارية وعمرانية وغلبة ونصر وهزيمة وخذلان.. الخ ، أسباب دقيقة وكثيرة ومتشبعة ومتشابكة وقد يعسر على الكثيرين الإحاطة بها تفصيلاً .. ولكن مع هذا العسر يمكن للتأمل الفاحص الدقيق أن يعرفها ويحيط بها علماً ، كما يمكنه الجزم بحصول نتائج معينة بناء على أسباب معينة وإن لم يمكنه الجزم بميعاد حصول هذه النتائج ، فنستطيع مثلاً أن نحكم على وجه الجزم واليقين بزوال حكم أو سلطان إذا وجدناه قائماً على الظلم والإرهاب وإن كنا لا نستطيع تحديد وقت زواله على وجه الدقة والضبط كما نحدد ميعاد غروب الشمس أو شروقها ..
ومن أجل هذا الفرق بين الأحداث الكونية المادية وبين الأحداث البشرية يغفل الناس كثيراً عن سنة الله في الاجتماع البشري وفي تصرفات وسلوك الأفراد والأمم ، ويظنون أن أمورهم لا تخضع كما تخضع الظواهر الكونية لقانون الأسباب والمسببات ، ويقوي هذا الظن الخاطئ في نفوسهم أنهم يرون –في الظاهر – أسباباً متشابهة في دولتين أو أمتين ، ولكن أحوالهما مختلفة ، فيقولون : أين هو القانون العام الذي تزعمون ؟ وهذه الأسباب فيهما واحدة ولكن لم تؤد إلى نتائج واحدة ؟ وفاتهم أن الأسباب تؤدي حتماً إلى مسبباتها إلا لمانع ، وأن المقدمات تؤدي حتماً إلى نتائجها إلا لعارض ، وهم لم يبصروا الموانع والعوارض ، كما لم يبصروا كل الأسباب والنتائج فتراكم الخطأ عليهم فلم يعودوا يبصرون.
وسنة الله بينتها آيات كثيرة في القرآن الكريم ، فنحن نجدها في آيات قصص القرآن وسيرة الأنبياء ، وما جرى لهم مع أقوامهم ، وفي أخبار الأمم السابقة وفي صراع أهل الحق مع أهل الباطل. لو ذهبنا نعد هذه الآيات لألفيناها أكثر من آيات الأحكام ، فعلى ماذا يدل هذا ؟ نعتقد أن هذه الكثرة من آيات القرآن التي جاء فيها ذكر ( سنة الله) ومعناها وتطبيقاتها ، تدل دلالة قاطعة عن أهمية المعرفة بسنة الله في الكون ووجوب فهمها من قبل المسلمين ، كما يجب عليهم فهم أمور العبادات التي تخصهم ، لأن الله عز وجل لا يخص بالذكر في القرآن الكريم إلا ما يلزم ذكره ويحتاج الناس إلى معرفته ، فإذا تكرر ذكر شيء دل ذلك على أهميته ، ولهذا جاء في هذه الآيات التي أشرنا إليها ما يدعو إلى التأمل والاتعاظ والافتكار في سنن الله ، كما جاء فيها دعوة صريحة إلى وجوب فهم سنن الله في الاجتماع البشري.
فمن النوع الأول قوله تعالى : ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب). ومن النوع الثاني قوله تعالى : ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).
ولهذا ترى أن من الضروري جداً للمسلمين عموماً – الحكام والمحكومين – أن يتفهموا سنن الله في الاجتماع البشري لينجوا من الهلكة أو ليتخلصوا منها إذا وقعوا فيها وقعوا فيها فعلاً ، وأن يعلموا أن هذا الفهم من لوازم الإيمان ومن فهم أحكام الإسلام.
الأسباب والمسببات من فعل الله :
وليكن معلوماً أن كون الشيء سبباً لغيره أو كونه مسبباً عن غيره ، هو من فعل الله تعالى وحكمه ، فهو تعالى خالق الأسباب والمسببات. لولاه لما صار هذا الشيء سبباً لغيره ولا صار هذا الغير مسبباً عنه. ومعنى ذلك أن السبب إنما يعمل ويستدعي مسببه بموجب سنة الله ونفاذها.
المسببات تكون بأسبابها لا عندها :(/7)
قال بعض الناس : إن المسببات تكون عند وجود أسبابها ولا تكون بهذه الأسباب ، فالإحراق مثلاً يحصل عند وجود النار وليس بالنار. وهذا القول غير صحيح ، فالمسببات تحدث أو تكون بالأسباب الموجبة لها ، لا أنها تحدث أو تكون عند وجود هذه الأسباب. والأسباب إنما صارت أسباباً بما أودعه الله تعالى فيها من معاني السببية التي تستوجب نتائج معينة تناسب هذه المعاني ، وكل هذا بتقدير الله ومشيئته وسنته في خلقه. فالإحراق يكون بالنار ، فالنار هي سبب الإحراق ، والإحراق يكون بالنار لما أودع الله فيها من معاني الحرارة المستوجبة للإحراق ، لا أن الإحراق يحدث عند وجود النار.
والشبع أو الغذاء يكون أو يحصل بأكل الخبز ونحوه لا عند الأكل ، والولد يخلقه الله في بطن أمه بإلقاء ماء الرجل في رحم امرأته لا أنه يخلقه عند هذا الإلقاء ، والنبات يكون بالبذر لا عند البذر. وإنما صارت المسببات ناتجة عن أسبابها لما أودعه الله في هذه الأسباب من معان وقوى تستوجب هذه المسببات ، وسواء في هذه الأسباب المادية والمعنوية والمسببات عنهما ، كالإحراق الناتج عن النار ، فالنار سبب والإحراق مسبب عنها. وهذا في الأسباب المادية ومسبباتها، وكذلك جعل الله تعالى الأشياء المعنوية أسباباً لنتائج معينة هي مسببات عنها ، فجعل الإيمان والأعمال الصالحة سبباً لرضوان الله وسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. وجعل الاستغفار سبباً لمغفرة الله ورحمته ، وجعل الاختلاف المذموم والظلم من أسباب هلاك الأمم وهكذا.
الرد على من لا يعتبر الأسباب :
وقد رد ابن تيمية على من لم يعتبر الأسباب وينكر أن تكون مسبباتها ناتجة عنها ، فقال رحمه الله تعالى : ( ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل وهو طعن في الشرع أيضاً ، فالله تعالى يقول : ( وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها) ، وقال تعالى : ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ) ، وأمثال ذلك ، فمن قال يفعل الله تعالى عندها ، أي عند هذه الأسباب ، لا بها ، فقد خالف لفظ القرآن ، مع أن الحس والعقل يشهد أنها أسباب ...).
اعتراض ودفعه :
وقد يقال : إن السبب وإن كان صحيحاً وتاماً فليس من المحتم أن يستوجب مسببه مما يدل على أن المسبب لا يحدث بالسبب ، وإنما قد يحدث عنده ، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لن يدخل أحدكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) مع قوله تعالى : ( ادخلوا الجنة بما كنتم تعلمون) ، فدل على أن المسبب لا يحصل بالسبب بل عنده. والجواب: إن ( الباء ) في قوله تعالى: (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) هي ( باء) السببية ، فالأعمال الصالحة هي سبب دخول الجنة ، واستوجبتها بوعد الله وسنته. فالمعنى : ادخلوا الجنة بسبب أعمالكم. والذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم هو: ( باء) المقابلة أو المعاوضة ، فليس العمل عوضاً ولا ثمناً كافياً لدخول الجنة ، بل لا بد من عفو الله وفضله ورحمته.
لا بد للأسباب من شروط وانتفاء الموانع :
وليكن معلوماً أن السبب إنما يستوجب مسببه إذا توفرت شروطه أي إذا تحققت شروط عمل هذا السبب وفعاليته واستدعاءه لمسببه. كما لا بد من انتفاء موانعه أي انتفاء الموانع التي تعيق عمل هذا السبب أو تسلبه فعاليته بحيث يصبح غير قادر على استدعاء مسببه. فالأكل مثلاً سبب للغذاء والشبع واستدامة الحياة ، ولكن بشرط سلامة أعضاء الإنسان الضرورية لتلقي الطعام والاستفادة منه ، وانتفاء الموانع أي انتفاء العوائق التي تعيق عمل هذه الأعضاء في انتفاعها من الأكل.
والزرع سببه حرث الأرض وإلقاء البذر ، وشرطه صلاحية الأرض للإنبات وصلاحية هذا البذر للنبات وتوفر الماء الكافي وانتفاء الموانع من خروج النبات والثمر كانتفاء الآفات التي تهلك الزرع والثمر أو تمنع نموه وهكذا …
وقد صرح غير واحد من العلماء بضرورة تحقق شروط السبب وانتفاء موانعه حتى ينتج هذا السبب مسببه ، فمن أقوالهم قول الفقيه الشاطبي : ( وأما إذا لم تفعل الأسباب على ما ينبغي ولا استكملت شرائطها ولم تنتف موانعها فلا تقع مسبباتها شاء المكلف أو أبى ، لأن المسببات ليس وقوعها أو عدم وقوعها لاختياره. وأيضاً فإن الشارع لم يجعلها أسباباً مقتضية لمسبباتها إلا مع وجود شرائطها وانتفاء موانعها ، فإذا لم تتوفر لم يستكمل السبب أن يكون سبباً شرعياً سواء علينا أقلنا إن الشروط وانتفاء الموانع أجزاء أسباب أم لا ، فالثمرة واحدة.(/8)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( فلا بد من تمام الشروط وزوال الموانع ، وكل ذلك بقضاء الله وقدره ، وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوبه بل لا بد من انضمام أسباب أخرى إليه ، ولا بد أيضاً من صرف الموانع والمعارضات عنه حتى يحصل المقصود ، فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك. ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له. وبالطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل الله البدن من الأعضاء والقوى.
وقول ابن تيمية : ( وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوبه ، بل لا بد من انضمام أسباب أخرى إليه ) هذه الأسباب الأخرى هي التي يسميها البعض بالشروط ، وقد سماها ابن تيمية نفسه شروطاً في موضع آخر من كلامه.
الأسباب والقضاء والقدر :
ولا يجوز إسقاط الأسباب وعدم مباشرتها بحجة الإيمان بالقضاء والقدر كأن يترك الإنسان العمل وغيره من أسباب الرزق بحجة أنه إذا كان الله قد قدر له رزقاً فلا بد أن يأتيه ويحصل عليه عمل أو لم يعمل.
فهذا الاحتجاج من قبيل الوهم والتوهم ، وقد رده النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه ، قال : كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال : ما منكم من أحد ، ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة. فقال رجل يا رسول الله : أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل ؟ فقال : من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة. فقال : اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ، ثم قرأ :( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى).
قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث : ( وفي هذا الحديث النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر ، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها كل ميسر لما خلق له لا يقدر على غيره ).
وأيضاً فإن الله تعالى أمر الناس بالدعاء والاستغفار وبغيرهما من الأسباب المؤدية إلى مسبباتها من تفريج الكروب وغفران الذنوب وتحصيل المقاصد ، ومن قال أنا لا أدعو ولا أسال الله تعالى ولا أستغفره اعتماداً على الخطأ كان مخطئاً ، لأن الله تعالى جعل الدعاء ونحوه من العبادات أسباباً تنال بها مغفرته ورحمته وهداه ونصره. وإذا قدر الله للعبد خيراً يناله بالدعاء أو بغيره من الأسباب لم يحصل ما قدره له بغير هذا السبب من الدعاء وغيره. وما قدره الله وقضاء وعلمه من أحوال العباد وعواقبهم فإنما قدره بأسباب تقع فيقع ما ارتبط به من مسببات ، فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب والله خالق الأسباب والمسببات.
الأسباب والتوكل :
زعم البعض أن من تمام التوكل ترك الأسباب حتى التي جرت عادة الناس بها كحمل الزاد في السفر مثلاً عن طريق سلوك الصحراء كما كان الحال في الزمن الماضي حتى قال هذا البعض من الناس : إن من تمام التوكل أن لا يحمل المتوكل الزاد في سفره للحج وفي غيره من الأسفار فيدخل إلى الصحراء بلا زاد ولا ماء اتكالاً على الله تعالى.
قال ابن تيمية رحمة الله تعالى في رده على هذا القول : ( وهذا القول وأمثاله من قلة العلم بسنة الله في خلقه وأمره ، فإن الله تعالى خلق المخلوقات بأسباب ، وشرع للعباد أسباباً ينالون بها مغفرته ورحمته وثوابه في الدنيا والآخرة. فمن ظن أنه بمجرد توكله مع تركه ما أمره الله به من الأسباب يحصل مطلوبه وأن المطالب لا تتوقف على الأسباب التي جعلها الله أسباباً لها فهو غالط).
والحقيقة أن إسقاط الأسباب والإعراض عنها وعدم مباشرتها بحجة التوكل على الله تعالى يفضي بفاعل ذلك إلى مخالفة الشرع فإن الله تعالى قد أمر بالأخذ بالأسباب فمن أعرض عنها فإنه يعرض عما أمره الله تعالى به ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى : (والله أمر القيام بالأسباب فمن رفض ما أمره الله أن يقوم به فقد ضاد الله في أمره ، وكيف يحل لمسلم أن يرفض الأسباب كلها؟).
تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل :
وليكن معلوماً أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل ، بل إن التوكل نفسه من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب ويندفع بها المكروه ، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل. ثم إن حقيقة التوكل الثقة بالله والطمأنينة به والسكون إليه فالتوكل – كما قال الإمام أحمد – هو عمل القلب ، ومعنى ذلك أنه عمل قلبي ليس بقول اللسان ولا عمل الجوارح.(/9)
وعلى هذا فالتوكل الشرعي الصحيح هو الاعتماد الكامل على الله والثقة بكفايته لعبده مع مباشرة العبد للأسباب المشروعة أو العادية التي جعلها الله مفضية إلى مسبباتها ، ويدل على ذلك الحديث النبوي الشريف : ( لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً ) رواه الترمذي . ففي هذا الحديث الشريف دلالة على مشروعية العمل للكسب والأخذ بالأسباب ، فالطير لا يأتيا رزقها وهي في عشوشها بل بسعيها ، فقد ألهمها تعالى بالسعي لتحصيل رزقها فتخرج جياعاً وترجع بطاناً ممتلئة البطون شعباً. وهكذا ينبغي أن يكون صادقاً في توكله يباشر الأسباب للحصول على مقصوده ومطلوبه. وعن أنس ( أن رجلاً قال : يا رسول الله ، أعقلها – أي ناقته أو بعيره – وأتوكل ؟ أو أطلقها وأتوكل ؟ قال : اعقلها وتوكل) رواه الترمذي.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الحديث : قوله صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز) أمر بالتسبب المأمور به وهو الحرص على المنافع وأمر مع ذلك بالتوكل وهو الاستعانة بالله ، فمن اكتفى بأحدهما فقد عصى أحد الأمرين.
الاعتماد على الله مع مباشرة الأسباب :
ومع الأمر بتعاطي الأسباب ومباشرتها فإن الاعتماد القلبي على الله تعالى لا عليها فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها ، وحال بدنه قيامه بها ، وهداه هي حقيقة التوكل : يباشر المسلم الأسباب وثقته بالله واعتماده عليه ، كالفلاح في أرض (الديم) التي تسقى بماء المطر ، يحرث الأرض ويلقي البذور واعتماده على الله في إنزال المطر وإخراج الزرع. وعلى هذا فإذا كانت الأسباب مقدورة له وهو مأمور بها فعليه أن يقوم بها مع توكله على الله ، كما يؤدي الفرائض وكما يجاهد العدو وهو يلبس جنة الحرب ويحمل السلاح ولا يكتفي في دفع العدو على مجرد توكله بدون أن يفعل ما أمره به الشرع من أمور الجهاد ، فمن ترك الأسباب المأمور بها فهو عاجز مفرط.
سنة الله في الأسباب وعلاقتها بالسنن الأخرى :
سنة الله في الأسباب تشغل مساحة كبيرة جداً من سننه الأخرى ، وقد لا أكون مغالياً إذا قلت : إن السنن الأخرى تقوم على سنته تعالى في الأسباب بصورة مباشرة أو غير مباشرة حتى لتبدو للمتأمل فيها كأنها من مفردات سنة الله في الأسباب وليست سنناً مستقلة ، وإن إفرادها بالذكر وبأسماء خاصة بها إنما هو لإبرازها ولفت النظر إليها لمعنى خاص بها ، وتبقي مع ذلك قائمة على سنة الله في الأسباب ومعتمدة عليها بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
المصدر: السنن الإ لهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد الكريم زيدان ، ص21-33
تعريف الحق في اللغة :
جاء في لسان العرب : الحق نقيض الباطل. وحق الأمر صار حقاً وثبت. وفي التنزيل العزيز قوله تعالى : ( قال الذين حق عليهم القول) أي ثبت. ومما تقدم يعلم أن (الحق) في اللغة يقوم على معنى الثبوت والوجوب والصحة. فالحق هو الثابت الواجب والصحيح.
تعريف الباطل في اللغة :
في المعجم الوسيط : بطل الشيء : فسد وسقط حكمه. وأبطل الشيء جعله باطلاً. وفي مفردات غريب القرآن : الباطل نقيض الحق وهو ما لا ثبات له عند الفحص عنه ، قال تعالى : (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دون الباطل).
الحق والباطل في الاصطلاح :
لم يعن الفقهاء في تعريف الحق في الاصطلاح فكأنهم اكتفوا بمعناه اللغوي فاستعملوه على هذا الأساس فأطلقوه في أبحاثهم الفقهية على كل ما هو ثابت وواجب بحكم الشرع وبالتالي لا يكون صحيحاً ولا يترتب عليه ما يترتب على ما هو ثابت وصحيح شرعاً.
معنى التدافع :
جاء في لسان العرب : الدفع الإزالة بقوة. والمدافعة: المزاحمة. والاندفاع المضي في الأمر. وجاء في المعجم الوسيط : دفع الشيء إذا نحاه وأزاله بقوة. وفي القرآن الكريم: ( ولولا دفع الله الناس بغضهم ببعض لفسدت الأرض). ودفع القول: رده بالحجة. ودفع فلاناً إلى كذا: اضطره. دافع عنه: حامى عنه وانتصر له ، ودافع : زاحمه. ويقال هو سيد قومه غير مدافع : أي غير مزاحم وتدافع القوم : دفع بعضهم بعضاً.
المقصود بالحق والباطل والتدافع بينهما:
نريد بالحق في بحثنا ما هو ثابت وصحيح وواجب فعله أو بقاؤه من اعتقاد أو قول أول فعل بحكم الشرع. ونريد بالباطل نقيض الحق أي ما لا ثبات له ولا اعتبار ولا يوصف بالصحة ويستوجب الترك ولا يستحق البقاء، بل يستوجب القلع والإزالة وكل ذلك بحكم الشرع. وعلى هذا فالحق يشمل كل ما أمر الله ، والباطل يشمل كل ما نهى الله عنه. ونريد ( بالتدافع بين الحق والباطل) تنحية أحدهما للآخر أو إزالته ومحوه بالقوة عند الاقتضاء.
التدافع بين الحق والباطل تدافع بين أصحابهما:(/10)
والتدافع بين الحق والباطل في حقيقته تدافع بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل أي بين المؤمنين وبين غيرهم ، لأنهم هم الذين يحملون معاني الحق أو معاني الباطل ويسعون إلى إظهار هذه المعاني في الخارج وإقامة شؤون الحياة على أساسها فيحصل التعارض والتزاحم والتدافع بين الفريقين بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل أي بين المؤمنين وبين غيرهم.
حتمية التدافع بين الحق والباطل:
والتدافع بين الحق والباطل أي بين أصحابهما أمر لا بد منه وحتمي لأنهما ضدان ، والضدان لا يجتمعان ، ولأن تطبيق أحدهما يستلزم مزاحمة الآخر وطرده ودفعه وإزالته،أو في الأقل إضعافه ومنعه من أن يكون له تأثير في واقع الحياة. فلا يتصور إذن أن يعيش الحق بالباطل في سلم من دون غلبة أحدهما على الآخر إلا لعلى كضعف أصحابهما أو جهلهم بمعاني الحق والباطل ومقتضيات ولوازم هذه المعاني أن ضعف تأثير هذه المعاني فيهم.
للباطل قوة تطغيه :
قلنا إن كلمة ( تدافع) تعني في اللغة الإزالة بقوة ، فتدافع الحق والباطل أي تدافع أصحابهما يكون بقوة حيث يسعى كان من أهل الحق والباطل إلى تنحية الآخر عن مكانه ومركزه والغلبة عليه. فأهل الباطل لا يكفيهم بقاؤهم على باطلهم وإنما يسعون إلى محق أهله وإزالة هذا الحق بالقوة وصد الناس عنه ببذل المال وبالقتال وبكل ما يرون فيه قوة وقدرة لتحقيق ما يريدون.
وهذا هو شأن الباطل وقوته ، تطغيه هذه القوة فتدفعه إلى إزالة الحق وأهله ولو بالقوة. قال تعالى : (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون). وقال تعالى : ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا). وقتال الكفرة للمؤمنين قتال لنصرة باطلهم فهو في سبيل الطاغوت ، قال تعالى : (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت).
لا بد للحق من قوة تحميه :
وإذا كان الأمر كما ذكرنا من شأن الباطل وقوته التي تطغيه وأهله فلا بد للحق من قوة تحميه من طغيان الباطل وأهله، وتمكن أهل الحق من محق الباطل والغلبة على أهله. ولهذا أمر الله تعالى أهل الحق بإعداد القوة لإرهاب أهل الباطل ومنعهم من التحرش بأهل الحق ، قال تعالى : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).
وأمر الله تعالى أهل الحق بالجهاد في سبيل الله بالمال وبالنفس وبكل ما يمكن الجهاد به لمحق الباطل وأهله لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى ، والآيات في الجهاد بأنواعه ومنه القتال ، آيات كثيرة منها:( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيء وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون). وقال تعالى : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله).
سنة الله في تدافع الحق والباطل :
قضت سنة الله تعالى في تدافع الحق والباطل أن الغلبة للحق وأهله ، وأن الاندحار والمحق للباطل وأهله ، قال تعالى : (ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته).قال الزمخشري في تفسير هذه الآية : ( ومن عادة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق بكلماته أي بوحيه أو بقضائه كقوله تعالى : ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق). وجاء في تفسير الرازي بشأن قوله تعالى : ( (ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته) أي ومن عادة الله إبطال الباطل وتقرير الحق).
وقال تعالى : (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) ، وجاء في تفسيرها : (وهذه قاعدة عامة مبينة لسنة الله في تنازع الحق والباطل والصلاح والفساد ويدخل فيه سحر سحرة فرعون فإنه باطل وفساد ، أي لا يجعل عمل المفسدين صالحاً). وقال الزمخشري في تفسيرها : (لا يثبته ولا يديمه ولكن يسلط عليه الدمار) ، وقال الآلوسي في تفسيرها : ( والمراد بعدم إصلاح ذلك عدم إثباته أو عدم تقويته بالتأييد الإلهي أي أنه سبحانه لا يثبت عمل المفسدين ولا يديمه بل يزيله ويمحقه أو لا يقويه ولا يؤيده ، بل يظهر بطلانه ويجعله معدوماً).
سنة الله في نصر المؤمنين لا تتخلف :
إن سنة الله تعالى في نصر المؤمنين لا تتخلف أبداً لأنها إخبار من الله تعالى ، والله أصدق القائلين. أذكر فيما يلي بعض النصوص من القرآن الكريم الدالة على ذلك.
النصوص في سنة الله تعالى في نصر المؤمنين :(/11)
أ- قال تعالى : (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً). قال القرطبي في قوله تعالى : (سنة الله التي قد خلت من قبل) يعني طريقة الله وعادته السالفة نصر أوليائه على أعدائه. قال ابن كثير في تفسيرها : (أي هذه سنة الله تعالى وعادته في خلقه : ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيصل إلا نصر الله الإيمان على الكفر فرفع الحق ووضع الباطل كما فعل الله تعالى يوم بدر).
ب- قال تعالى : ( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله). وجاء في تفسيرها : ( ولا مبدل لكلمات الله) أي التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين كما قال تعالى : (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون).
ج- قال تعالى : (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون). وجاء في تفسير الزمخشري في هذه الآيات: الكلمة: قول تعالى: (إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون). والمراد الوعد بعلوهم على عدوهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا وعلوهم عليهم في الآخرة.
د- قال تعالى : ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) وجاء في تفسيرها :(أي قد حكم الله وكتب في كتابه الأول وقدره الذي لا يخالف ولا يمانع ولا يبدل بأن النصر له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة).
هـ- وقال تعالى : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد). قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: ( وهذه سنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر وحديثه أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقر أعينهم ممن آذاهم. وقال السدي: لم يبعث الله عز وجل رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه ، أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلونهم فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا ، قال السدي : فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها). ومعنى ذلك أن المؤمنين وهم أهل الحق هم المنصورون وإن قتلهم أهل الباطل وانتصروا عليهم في الظاهر إلا أن العاقبة والغلبة للمؤمنين ولو بعد حين ، حيث يأتي من يعاقب المبطلين ويقتلهم جزاء ما فعلوه بأهل الحق ، وهذا علامة على اندحار أهل الباطل وغلبة أهل الحق عليهم.
و- وقال تعالى : (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين). وجاء في تفسيرها : فيها مزيد تشريف وتكرمة للمؤمنين حيث جعلوا مستحقين على الله تعالى أن ينصرهم ، وإشعار بأن الانتقام لأجلهم. وظاهر الآية أن هذا النصر في الدنيا وأنه عام لجميع المؤمنين فيشمل من بعد الرسل من الأمة.
قد يتأخر نصر المؤمنين لنصر أكبر :
ومما يجب أن يعرف أن نصر المؤمنين حسب سنة الله في نصرهم قد يتأخر لأن الله تعالى يريد لهم النصر الأكبر والأكمل والأعظم والأدوم والأكثر تأثيراً في واقع الحياة وفي عموم الناس بعد أن يتهيأ في المؤمنين القاعدة اللازمة لاستحقاقهم هذا النصر الأكبر واستقبالهم له ، ويدل على ذلك أن نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المؤمنين ، لم يحصل هذا النصر في يوم وليلة ولا في سنة واحدة ، وإنما تأخر فلم يحصل إلا بعد مضي أكثر مدة نبوته صلى الله عليه وسلم ، فقد حصل هذا النصر بالغلبة والانتصار على قريش وبفتح مكة وذلك في سنة ثمان للهجرة ، أي قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بسنتين ، وقد دخل بسبب هذا النصر الناس في دين الله أفواجاً ، وأنزل فيه تعالى سورة : ( إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً) وجاء في تفسيرها : والمعنى : نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على العرب أو على قريش وفتح مكة. وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان للهجرة ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب. وكانت تدخل في الإسلام بعد فتح مكة جماعات كثيفة من الناس فكانت القبيلة تدخل في الإسلام بأسرها بعدما كانوا يدخلون في الإسلام واحداً واحداً أو اثنين اثنين.
قد يسبق نصر المؤمنين أذى من العدو وغلبة له :(/12)
إن نصر الله تعالى للمؤمنين حسب سنته تعالى في نصرهم لا يأتي عادة دون جهد عظيم يبذلونه وتضحية يقدمونها في مدافعتهم لأهل الباطل مما قد يترتب عليه عادة أذى شديد يلحقهم من أهل الباطل وغلبة لهؤلاء المبطلين على المؤمنين. وهذا لا يتعارض مع سنة الله في نصر المؤمنين ، لأن الأمور بخواتيمها وعاقبتها. والعاقبة دائماً للمؤمنين في نصرهم على أهل الباطل. ولله الحكمة فيما يصيب المؤمنين من أذى قبل بلوغهم النصر الحاسم على أهل الباطل وعلى هذا دل القرآن الكريم وأشار إليه المفسرون ، قال تعالى : (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين).
بين الله تعالى أن المؤمنين الذين يصيبهم قرح أي جراحات بسبب القتال يجب أن لا يضعف ذلك همتهم واجتهادهم في جهاد العدو ، لأنه كما أصابهم قرح فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك ، وعدوهم لم يفتروا لما أصابهم من القرح من محاربتكم مع كونهم مبطلين وسوء عاقبتهم ، فأنتم أيها المؤمنون أهل الحق أولى أن لا تضعفوا ولا تفتروا عن مجاهدة ومحاربة هؤلاء الأعداء المبطلين.
وقوله تعالى : (وتلك الأيام نداولها بين الناس) أي ونديل عليكم الأعداء تارة وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة ، ومن هذه الحكمة : ليعلم الله الذين آمنوا (ومنها) ليتخذ منكم شهداء بأن يقتلوا في جهادهم لأهل الباطل. (ومنها) ليمحص الله الذين آمنوا (ومنها) ليمحق الكافرين. فعل ذلك من وجوه الحكمة كالسبب والعلة في تلك المداولة أي في غلبة العدو.
فالأيام في الآية الكريمة أوقات الظفر والفوز ، ومداولتها بين المؤمنين وأعدائهم أي تحويل الظفر والغلبة بينهم مرة للمؤمنين ومرة لأعدائهم ، فهذه المداولة سنة من سنن الله في تدافع أهل الحق مع أهل الباطل ، فلا عجب أن تكون الدولة مرة للمبطل ومرة للمحق ، لأن المضمون والمؤكد لصاحب الحق أن تكون العاقبة له ، والأعمال بالخواتيم. ولكن يجب أن يعرف بأن المداولة في الواقع مبنية على أعمال الفريقين فلا تكون الغلبة لمن عرف أسبابها ورعاها حق رعايتها ، فإذا كانت المداولة في النصر والغلبة بين الفريقين منوطة بالأعمال التي تفضي إليها كالاجتماع والثبات وصحة النظر وقوة العزيمة وأخذ الأهبة وإعداد ما يستطاع من القوة ، فعلى المؤمنين أن يقوموا بهذه الأعمال ونحوها من مستلزمات الغلبة والنصر حتى تكون المداولة لهم لا لعدوهم.
وقال تعالى : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون). وجاء في تفسيرها: الكلمة هي قوله تعالى : (إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) والمراد : الوعد بعلوهم على عدوهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا وعلوهم عليهم في الآخرة. ولا يلزم من انهزامهم في بعض المشاهد أن يكون نقضاً للغلبة وللنصر ، فإن الغلبة كانت لهم ولمن بعدهم في العاقبة.
وقال تعالى : (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد). قال الزمخشري في تفسيرها : إن الله تعالى يغلبهم في الدارين جميعاً بالحجة والظفر على مخالفيهم وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين امتحاناً من الله تعالى فالعاقبة لهم. وقال الآلوسي رحمه الله في تفسيرها: إننا ننصر رسلنا وأبتاعهم في الحياة الدنيا بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة ، ولا يقدح في ذلك ما قد يتفق للكفرة من صورة الغلبة امتحاناً إذ العبرة إنما هي بالعواقب وغالب الأمر.
السنن الإلهية لعبدالكريم زيدان ، ص43
عوامل نصر المؤمنين ومعوقاته :
إن سنة الله في نصر المؤمنين أهل الحق على مخالفيهم أهل الباطل ، هذه السنة الإلهية إنما تتحقق في واقع الناس إذا هيأ المؤمنون في أنفسهم وفي جمعهم عوامل النصر التي أرشد إليها الإسلام وأمر بها الله تعالى ، وأبعدوا عن أنفسهم وعن جمعهم عوامل الفشل ومعوقات النصر.
فما هي عوامل النصر الواجب على المؤمنين تحصيلها وما هي معوقات النصر الواجب عليهم إبعادها عن أنفسهم وجمعهم ؟ هذا ما نبينه في الفقرات التالية مبتدئين أولاً بعوامل النصر.
أولاً : الإيمان :
من عوامل النصر التي مضت بها سنة الله في النصر وأخبرنا بها الله جل جلاله الإيمان. قال تعالى وهو أصدق القائلين : (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) ، قال صاحب تفسير المنار في هذه الآية : (وهي نص في تعليل النصر بالإيمان) ، وقال الآلوسي : (وظاهر الآية أن هذا النصر في الدنيا وأنه عام لجميع المؤمنين فيشمل من بعد الرسل من الأمة).
وقال تعالى : (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) ، أي من كان الله في نصره لم تغلبه فئة وإن كثرت.(/13)
ومن الواضح أن هذه (المعية الإلهية) للمؤمنين هي معية خاصة بهم ولهم بسبب إيمانهم ، فهي تتناسب مع مقدار إيمانهم وعمقه ومدى انصباغهم وتأثرهم به. ولا شك أن الصحابة الكرام المخاطبين بهذه الآية بوصف (المؤمنين) وأن (الله معهم) كان لهم النصيب الأكبر من هذه المعية الخاصة لأهل الإيمان لما عرفوا به من عمق الإيمان وسعته وانصباغهم وتأثرهم به، ولذلك تحقق لهم النصر على قلة عددهم وكثرة عدد أعدائهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته. ( فمعية الله) للمؤمنين بالعون والتأييد ثم بالنصر تتناسب طردياً مع كمية الإيمان وعمقه في نفوس المؤمنين.
واقع المسلمين لا ينقض سنة الله في نصر المؤمنين :
إن سنة الله في نصر المؤمنين المقررة بإخبار الله وإعلامنا بها في القرآن الكريم هي سنة مؤكدة يقيناً لا يخامرنا فيها ذرة من الشك ، ولا تنتقض أو تتزعزع بما يرى من واقع المسلمين في كونهم مغلوبين لا غالبين ومقهورين من قبل أعدائهم غير منصورين عليهم ، لأن هذه السنة هي في ( نصر المؤمنين) والمؤمنون هم من يكونون مؤمنين بأوصاف ومقاييس ومعاني الإيمان التي بينها الله تعالى في كتابه العزيز وبينها رسول صلى الله عليه وسلم في سنته النبوية الكريمة المطهرة، لا أن يكونوا مؤمنين بمقاييسهم وتخيلاتهم وأمانيهم ، فعدم انتصارهم على أهل الباطل يعني أن الإيمان المطلوب منهم وما يستلزمه هذا الإيمان ويقتضيه من صفات وأفعال غير متحقق فيهم ، وبالتالي لا يستحقون نصر الله الموعود به للمؤمنين. فعليهم أن يراجعوا أنفسهم ويعرضوها ويعرضوا أحوالهم وأفعالهم وما هم عليه على معاني الإيمان ومقتضياته ويزنوها بميزانه ليعرفوا الخلل الذي هم فيه ، والنقص الموجود فيهم فيقوموا بالتصحيح والتقويم وتدارك ما فاتهم وتحقيق معاني الإيمان في نفوسهم وثمرات هذا الإيمان في خارج نفوسهم حتى يدخلوا في مضمون سنة الله تعالى في نصر المؤمنين وفي متعلق إخباره تعالى :(وكان حقاً علينا نصر المؤمنين).
الإيمان وعوامل النصر المادية :
وليكن معلوماً أن الإيمان وحده لا يغني عن عوامل النصر المادية مثل عدد القتال وعدد المقاتلين وغيرهما من وسائل القتال ومستلزماته وكذلك وسائل النصر المادية في غير ساحة القتال أي في سوح الجهاد الأخرى ومدافعة الباطل في هذه السوح.
ولهذا أمرنا الله تعالى بإعداد القوة المادية ، قال تعالى : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل …) ، لأن الإسلام دين واقعي لا يغفل عما في العوامل المادية من قوة وهو يقرر ما للإيمان من قوة ومن سببية في النصر. ولكن هذه القوة للإيمان أو هذه السببية فيه للنصر لها حد محدود بينه الله تعالى حتى لا نغالي في الأمور ، وحتى نعطي لكل شيء حقه من التقييم والتقدير من دون مغالاة فلا تقع في الوهم والخطأ في الحساب والتقدير فنخسر ولا ننتصر على عدونا.
ويدل على ما قلته قوله تعالى : (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون. الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) ، وجه الاستدلال بالآية الأولى أن الله تعالى أخبر المؤمنين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أن عشرين صابرين منهم يغلبون مائتين من الكافرين، وهذا قبل التخفيف ولم يقل عز وجل أن العشرين من المؤمنين الصابرين يغلبون ألفين ، لأن المؤمنين الصابرين وإن كان لإيمانهم قوة وهي أقوى من قوة الكفر في نفوس الكافرين ، إلا أن هذه القوة الإيمانية لها حد محدود في غلبة الكفر والكافرين ، فقد جعل الله قوة الإيمان تصير المؤمن الواحد أقوى من عشرة من الكفار فيغلب العشرون من المؤمنين المائتين من الكافرين.
أما إذا كان الكفار ألفاً فليس في وعد الله وإخباره أن العشرين من المؤمنين يغلبون الكفار وهم ألف ، بل إنها تشير بأن عدد المؤمنين في هذه الحالة لا يكفي – عادة – إلى نصرهم. ومعنى ذلك أن للقوة المادية – ومنها عدد المقاتلين – وزنها وتأثيرها غير المنكور وأن على المؤمنين والأمة عموماً والجماعة المسلمة ملاحظة ذلك وفتح عيونهم عليه وأخذ العبرة منه وأن يحسبوا حساباً دقيقاً وقوة أعدائهم بحيث تكون قوتهم مساوية أو مقاربة لقوة عدوهم فيرجح عندئذ المؤمنون بقوة إيمانهم على الكفار فتكون الغلبة للمؤمنين بإذن الله.
للقوة المادية تأثيرها في النفوس :(/14)
وليكن معلوماً أن للقوة المادية – ومنها كثرة أهل الحق أو أهل الباطل – تأثيراً في النفوس ، نفوس المؤمنين والكافرين على حد سواء ، ومن هذا التأثير الإحساس بزيادة القوة لدى الفريق الذي يرى أنه أكثر قوة مادية من الفريق الآخر فيتصرف ضد خصمه في ضوء هذا الإحساس والشعور ، كأن يرى المؤمنون الكافرين أقل عدداً منهم مما يجرئهم على قتال الكفار والهجوم عليهم ، بعزم وثبات وصبر وثقة بالنصر ، ومثل كثرة المقاتلين وقلتهم فيما يورثانه من إحساس بزيادة أو قلة بالقوة ، سائر القوى المادية الأخرى كنوع السلاح وكثرته. وهذه الحقيقة التي ذكرتها تدعو للمؤمنين أفراداً وأمماً وجماعات لا سيما الجماعة المسلمة ، أن يكونوا أقوى من أعدائهم في القوى المادية في هذا العصر الذي تنوعت فيه القوى المادية ولم تعد محصورة في نوع واحد منها.
وقد دل على تأثير القوة المادية في نفوس المقاتلين المؤمنين والكافرين قوله تعالى : (إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور. وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وإلى الله ترجع الأمور).
وجاء في تفسير هاتين الآيتين أن الله تعالى أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه عدد الكفار قليلاً قبيل بدء القتال في معركة بدر ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أصحابه فكان ذلك الإخبار تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم. وبين الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه (لو أراكهم كثيراً) أي لو أراك عدد الكفار كثيراً (لفشلتم) أي لأصاب المؤمنين جبن ووهن وهيبة من الإقدام والهجوم على الكفار (ولتنازعتم) أي ولحصل نزاع واختلاف بين المؤمنين وتفرق كلمتهم فيما يصنعونه من مقاتلتهم أو الانصراف عنهم وعدم مقاتلتهم. ثم بين الله تعالى أنه أرى المؤمنين عند لقائهم بالعدو أراهم إياهم قليلاً تصديقاً لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدوا ويثبتوا في قتالهم (ويقللكم في أعينهم) أي يقلل المؤمنين في أعين الكفار مما يجرئهم على الاندفاع في مقاتلة المؤمنين مع قلة مبالاة بهم فتفجؤهم كثرة المؤمنين التي لم يتوقعوها ولم يروها بأعينهم فيقع القتل فيهم وينتصر المؤمنون عليهم.
ووجه الدلالة بهاتين الآيتين وما جاء في تفسيرهما أن القوة المادية – وهي هنا كثرة عدد المقاتلين أو قلتهم – لها تأثيرها في النفوس من جهة الاندفاع في القتال والشجاعة فيه وفي نتيجته من نصر أو خذلان. لأنه إذا رأى هذا الفريق قلة عدد خصمه فهذا يجرئه على الاندفاع إلى قتاله ويزيد في ثباته ويزداد أمله في التغلب عليه بخلاف ما إذا رأى كثرة عدد خصمه فهذا قد يحمله على التردد في قتاله والصمود فيه إذا باشره. ومثل القوة بعدد المقاتلين من حيث كثرتهم وقلتهم وتأثير ذلك على النحو الذي بيناه ، القوة بالسلاح ونوعيته وكثرته وقلته ، والقوة بسائر مستلزمات القتال والتدافع بين أهل الحق وأهل الباطل في ساحة القتال وفي غيرها من سوح الجهاد.
ثانياً : من عوامل النصر تقوى الله :
قال تعالى : (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين. بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين).
وجاء في تفسيرهما: والظاهر في المدد أن الملائكة يشركون الجيش في القتال إن وقعت الحاجة إليهم ، ويجوز أن لا تقع الحاجة إليهم في نفس القتال ، وأن يكون مجرد حضورهم كافياً في تقوي القلب. وجعل مجيء خمسة آلاف من الملائكة مشروطاً بثلاثة أشياء : الصبر والتقوى ومجيء الكفار على الفور.
فمدد الملائكة المؤمنين كان بسبب تقواهم ، لأن صبرهم من جملة تقواهم ، لأن التقوى كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى : (التقوى تجمع فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه) ، والصبر من جملة ما أمر الله به ، ثم إن مدد الملائكة للمؤمنين لتحقيق نصرهم على الكفار ، فكانت التقوى – تقوى الله – من العوامل المؤكدة لنصر المؤمنين حسب سنة الله تعالى.
وصية عمر لجنده بتقوى الله :(/15)
وفي وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص وجنده في حرب العراق ، جاء في الوصية : ( فإني آمرك ومن معك من أجناد بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة ، والا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أنه عليكم في مسيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم ، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله ، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا ، فرب قوم سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله ، كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولاً. واسألوا الله العون في أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم. أسال الله ذلك لنا ولكم).
ثالثاً : من عوامل النصر نصرة الدين :
ومن عوامل النصر التي جعلها الله تعالى في سنته في نصر المؤمنين وهم يدافعون الباطل وأهله ، قيامهم بنصر الدين ، الإسلام ، بكل ما أوتوا من قوة ، قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم).
وجاء في تفسيرها : إن تنصروا الله ، أي تنصروا دين الله ورسوله ينصركم على عدوكم ويفتح لكم ويثبت أقدامكم في مواطن الحرب أو على محجة الإسلام. وقال الإمام الرازي في تفسيره : وفي نصر الله تعالى وجوه (الأول) إن تنصروا دين الله وطريقة. (والثاني) إن تنصروا حزب الله وفريقه.
ونصرة دين الله تتحقق بأن يسلم المسلم نفسه بالكلية لله رب العالمين ، فلا يبقى فيه شيء خارج عن الاستسلام المطلق والانقياد التام لله رب العالمين. ويظهر هذا الخضوع والاستسلام بالاستسلام الكامل لشرع الله تعالى ، وهذا في نفسه وما ينطوي عليه قلبه وتقوم به جوارحه ثم تظهر النصرة لدين الله بجهاد المسلم الدائم لإقامة شرع الله في الأرض بحيث يكون هذا الشرع هو المهيمن والحاكم لجميع العلاقات بين الناس فلا يتحاكمون إلا إليه ولا يقبلون إلا إياه.
ومسألة أخرى مهمة جداً فيما تتحقق به النصرة لله تعالى وهي التي أشار إليها الرازي في أحد وجوه نصرة الله حيث قال رحمه الله : (إن تنصروا حزب الله وطريقه) ، ومن المعلوم أن حزب الله هو الذي يقوم بنصرة الله أي بنصرة دينه أي بإقامة شرع الله في الأرض. ولا شك أن بانضمام جهود المؤمنين بعضهم إلى بعض لإقامة شرع الله وبالتناصر فيما بينهم على هذا المقصد الشريف تتحقق منهم لنصرة لدين الله بشكل أسرع وأكمل مما لو قاموا بالنصرة لدين الله وهم فرادى ومتفرقون ، وبهذا يتحقق منهم ما شرطه الله عليهم لينالوا ما وعدهم الله به من نصرة. وعلى هذا فبمقدار ما يقوم به المؤمنون من نصرة لدين الله وجهاد في سبيله وإعداد لوسائل الجهاد ونصرة الدين يتحقق لهم النصر حسب سنة الله التي وضعها لنصر المؤمنين.
وآية أخرى في نصرة الدين كعامل من عوامل سنة الله في نصر المؤمنين هي قوله تعالى : (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز). قال الإمام الرازي في هذه الآية : وعد الله بالنصر لمن هذه حاله. وقال الزمخشري فيها : لينصرن الله من ينصر دينه وأولياءه. وقد بينا كيفية قيام المسلم بنصرة الله وذلك بأن يبذل جهده في إقامة دين الله في الأرض فيكون هو الحاكم على جميع تصرفات وأفعال وعلاقات البشر.
التنظيم الجماعي لنصرة دين الله :
ذكرنا في الفقرة السابقة قول الزمخشري في تفسير قوله تعالى : (ولينصرن الله من ينصره) أي ينصر دينه وأولياءه. وذكرنا قول الرازي في أحد وجوه تفسير قوله تعالى : (إن تنصروا الله ينصركم) أي إن تنصروا حزبه وفريقه. فهل يعني هذا أن نصرة دين الله يجب أن يكون بطريق جماعي أي بقيام تنظيم جماعي للقيام بمتطلبات النصرة لدين الله حتى يتحقق شرط نصر الله للمؤمنين ؟
والجواب : إن المطلوب من كل مسلم أن يعمل لنصرة دين الله بأن يسعى لإقامة شرع الله فينصره الله بقدر سعيه وجهده. ولكن مما لا شك فيه أن العمل الجماعي لنصرة الإسلام هو الذي أرشد إليه الإسلام وأشار إليه القرآن الكريم ، قال تعالى : (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) والأمة في أحد الوجهين بعض الأمة وليس كلها.(/16)
ومعنى ذلك أن المراد بـ (الأمة) في الآية جماعة من المسلمين تقوم بالدعوة إلى الله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر أي تقوم بنصرة الدين. والجماعة تنظيم جماعي، فهي إذن تقوم بنصرة الدين بشكل جماعي منظم ، وعملها هذا بهذا الشكل أجدى وأنفع من عمل المسلمين فرادى ومتفرقين. وهذا يعني أن ضم جهود الأفراد بعضهم إلى بعض والعمل سوية بتنظيم جماعي يحقق من النتائج مالا يحققه العمل الفردي ، ومعنى ذلك أن العمل الجماعي المنظم مما يحبه الله ويطلبه الإسلام قطعاً للأمر بتكوّن (أمة) تقوم بنصرة الدين.
وأيضاً فإن الله تعالى يأمر بالتعاون قال تعالى : (وتعاونوا على البر والتقوى). والتعاون يقتضي ضم جهود المتعاونين بعضها إلى بعض ، وهذا يعني قيام (تنظيم جماعي) أي جماعة إسلامية لتحقيق البر المطلوب ومن أعظم البر نصرة الدين.
وعلى هذا يمكن القول : إن قيام (تنظيم جماعي) أي جماعة إسلامية أمر مرغوب فيه شرعاً وتشتد درجة ندبه واستحبابه كلما كان قيام هذا التنظيم لنصرة الدين واجباً إذا كان الباطل قوياً وأهله أشداء في خصومتهم وعداوتهم للحق وأهله. فمدافعة هذا الباطل وأهله وهم بهذه الدرجة من القوة ، كما هو الحال في الوقت الحاضر ، لا تتأتى مدافعتهم بجهود فردية بل بجهود من أهل الحق مجتمعة بحيث تكون قوة أكثر من قوة أهل الباطل أو في الأقل مساوية لأهله ، ولا يتأتى هذا إلا إذا تجمعت جهود الغيارى على الإسلام في تنظيم واحد أي في جماعة إسلامية واحدة تعمل بنظام لنصرة الدين ومدافعة الباطل ، وعلى المسلمين أن ينضموا إلى هذه الجماعة المسلمة إذا ما قامت لأنها هي حزب الله وأفرادها أولياء الله ولأنها تحقق أمر الله : (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير) إلخ.
(والأمة) كما قلنا تعني (جماعة) والجماعة تعني (تنظيماً جماعياً) والغرض من وجود هذه الجماعة نصرة دين الله ، ففي الانضمام إليها مساهمة في نصرة دين الله ، ونصر هذا الدين واجب على كل مسلم ومسلمة.
رابعاً : من عوامل النصر : الجهاد وإعداد القوة :
الجهاد بالمال والنفس من فرائض الإسلام ، ولكنه فريضة منسية من قبل أكثر المسلمين إن لم نقل عامتهم ، مع أن الجهاد هو طريق النصر ووسيلة العز وإظهار دين الله ومحق الباطل وأهله ونوال رضوان الله. وإن تركه يفضي إلى غلبة الباطل وأهله وإذلال المؤمنين وذهاب قوتهم وزوال دولتهم.
قال تعالى : (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون). أي هو كره لكم في الطباع (وعسى) من الله تعالى إيجاب. والمعنى : وعسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم تغلبون عدوكم وتظفرون به وتغنمون أمواله وتؤجرون وتثابون على جهادكم (وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم) أي عسى أن تحبوا الدعة والراحة وترك القتال وهو شر لكم في أنكم تغلبون وتذلون وتذهب قوتكم. قال الإمام القرطبي : وهذا صحيح لا غبار عليه كما اتفق في بلاد الأندلس تركوا الجهاد وجبنوا عند القتال وأكثروا من الفرار فاستولى العدو على البلاد وأسر وقتل وسبى واسترق فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وذلك بما قدمت أيديهم وكسبته.
ترك الجهاد مدعاة إلى العذاب :
ذكرنا في الفقرة السابقة ما في ترك الجهاد من ذل للمؤمنين ، ونزيد على ذلك ما جاء في الآية الكريمة : (إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير).
قال الإمام ابن العربي المالكي في هذه الآية : وجب بمقتضى هذه الآية النفير للجهاد والخروج إلى الكفار لمقاتلتهم على أن تكون كلمة الله هي العليا. والعذاب الأليم هو الذي في الدنيا باستيلاء العدو على من لم يستول عليه وبالنار في الآخرة. وزيادة على ذلك باستبدال غيركم.
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى : والعذاب الذي يهددهم ليس عذاب الآخرة وحده فهو كذلك عذاب الدنيا : عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد ، والغلبة عليهم للأعداء والحرمان من الخيرات واستغلالها للعادين ، وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلب منها كفاح الأعداء.
إعداد القوة للجهاد :
وإذا صحت العزيمة للجهاد بقتال العدو والدفاع عن دار الإسلام ، فهذا وحده لا يكفي بل لا بد من إعداد القوة اللازمة للجهاد كما أمر الله تعالى بقوله جل شأنه : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).(/17)
وقوله تعالى (من قوة) أي من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها ، (ومن رباط الخيل) والرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ، تخصيصاً للخيل من بين ما يتقوى به ، (ترهبون به عدو الله وعدوكم) أي ترهبون بهذا الذي تعدونه عدو الله وعدوكم من اليهود وكفار العرب (وآخرين من دونهم) أي من غيرهم من الكفرة الذين لا تُعرف عداوتهم ، ( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله ) قليلاً أو كثيراً نقداً كان أو غيره في إعداد المستطاع من القوة والمرابطة في ثغور المسلمين يعطكم الله جزاءه وافياً.
معنى القوة وما تتحقق به :
جاء في الآية الكريمة : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) فجاءت كلمة (القوة) نكرة غير محددة بنوع معين من أنواع القوة ، وإنما ذكر نوعاً منها وهو (رباط الخيل) تخصيصاً لها مما يتقوى به. ولا شك أن مما يشمله معنى القوة التي يمكن للمسلمين مدافعة العدو بها أنواع وسائل القتال وعدده في كل زمان ومكان ولكن هل القوة المراد و المطلوب من المسلمين إعدادها لمدافعة العدو والتغلب عليه ورد شره ، هل هذه القوة المطلوبة مقصورة على عدد القتال والسلاح الذي يقاتل به العدو فعلاً ، وأن معنى القوة يكمن في سلاح القتال فقط ؟ الذين يتبين لي من معاني القوة واستعمالها أنها تعني القدرة على تنفيذ إرادة صاحبها شاء الغير أم أبى هذا التنفيذ. ومتعلق الإرادة المراد تنفيذها قد يكون دفع الغير أو إبعاده أو إزالته أو التسلط عليه وحكمه أو إلزامه بدفع شيء ، وهذه القوة تتحقق بما يتحقق به معناها وهو القدرة على تنفيذ إرادة صاحبها ، فقد يكون تحقيقها بإعداد السلاح للجند ، وتدريبهم على فنون القتال وتربيتهم على معاني الإيمان التي تهيئهم للقتال في سبيل الله والرغبة في الشهادة في سبيله كما تحقق القوة بالقيادة الكفؤة ، وبتوفر ما يحتاجه الجند من طعام ولباس وحصون ونحو ذلك ، وبكون الدولة مكتفيه ذاتياً من الناحية الاقتصادية والإنتاجية. وتحقق القوة بالعلم والمعرفة الضرورية لتحقيقها وبإيجاد العلماء في جميع المجالات مثل مجالات الزراعة والصناعة بأنواعها. كل الذي ذكرته يختلف باختلاف المكان والزمان إلا تربية النفوس على معاني الإيمان فهي الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان.
إعداد القوة من فروض الإسلام :
وإعداد القوة للأمة الإسلامية بالمعنى الذي بينته (للقوة) من فروض الإسلام للأمر بها، والأصل في الأمر أنه للوجوب إلا لقرينة صارفة له عن الوجوب ولا قرينة هنا فيبقي دالاً على الوجوب وهو قوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) ، والأمة هي المخاطبة بهذا الأمر – إعداد القوة – والذي يمثلها ويقوم مقامها في تنفيذ هذا الأمر نيابة عنها هو وكيلها : الخليفة ، فالأمة ما انتخبته إلا ليقوم مقامها مستعملاً سلطتها لتنفيذ ما هي مخاطبة به من أحكام الشرع التي تخص الأمة بمجموعها ومنها : الأمر بإعداد القوة. فلا يجوز للخليفة أي لولي الأمر التقصير في هذا الواجب ، وإذا قصر فعلى الأمة بجميع أفرادها لا سيما أهل الحل والعقد فيها أن يطلبوا من الخليفة القيام بإعداد القوة اللازمة لدولة الإسلام. وقد يكون من ضرورات إعداد القوة تعلم العلوم الدنيوية في المجالات المختلفة ، فيكون تعلم هذه العلوم من الواجبات الكفائية لأن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
إعداد الجند المدرب من إعداد القوة :
ومن إعداد القوة إعداد الجند المدرب فيلزم تدريبهم وإعدادهم إعداداً إيمانياً على أساس معاني العقيدة الإسلامية ، وإعدادهم مادياً على استعمال مختلف الأسلحة وفنون القتال وإجراء القتال وإجراء التدريبات العسكرية والتمارين أو ما يسمى بالمناورات العسكرية بين حين وآخر حتى لا ينسوا ما تعلموه ، وقد يكون في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مستنداً ودليلاً لما أقول ، فقد جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:( من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا.أو فقد عصى ).
يجب أن تكون قوة المسلمين مرهبة للعدو :
ويلاحظ في الآية الكريمة : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) أن الله تعالى أمرنا بإعداد القوة لنرهب بها عدو الله وعدونا ، ومعنى ذلك أن القوة التي تعدها يجب أن تكون مرهبة للعدو ، وهي لا تكون كذلك إلا إذا كانت أكبر وأقوى من قوته بحيث تجعله يخاف أن يتحرش بالمسلمين وبدولتهم ويرهب قوتهم وبالتالي ييأس من إمكان أن يحصل على شيء من المسلمين ودولتهم إذا هجم عليهم أو تعرض ببلادهم ، فينكف شره عن المسلمين. إن إعداد هذه القوة المرهبة للعدو ضروري ولا يجوز التكاسل عنه أو التفريط فيه؛ إذ لا يكفى أن نقول إننا على الحق وإنهم على الباطل لننتصر عليهم فلا بد للحق من قوة تحميه وتخيف الباطل وأهله وتمنعهم من التحرش بدول الإسلام.
السنن الإلهية لعبد الكريم زيدان ، ص 79
==============
العلم بالسنن الربانية
رئيسي :الرقائق :(/18)
لقد وجه القرآن الكريم المسلمين نحو الوعي بعالم الشهادة، فحثهم على النظر والتدبر والاستقراء؛ للكشف على قوانين المادة وسنن الاجتماع، كما نبّه إلى أهمية التعرف على السنن التاريخية، والإفادة من ذلك في الاعتبار وبناء الحضارة، وكيفية المحافظة عليها من السقوط.
وقد أرشد القرآن الكريم إلى هذه السنن، فذكرها نصّاً في بعض الأحيان كقوله تعالى:{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ[137]}[سورة آل عمران] . وأحياناً أخرى فهمت من النص دلالة وفحوى كقوله تعالى:{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[10]}[سورة الأنعام] .وذكرها تارة مضافة إلى الله كقوله تعالى: {... سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ[85]}[سورة غافر] . وذكرها تارة أخرى مضافة إلى أقوام كقوله تعالى: {...إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ...[55]}[سورة الكهف] .
وهذه السنن صارمة؛ تتسم بالاطراد والشمول والثبات، قال تعالى:{...فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا[43]}[سورة فاطر] . وقال تعالى:{ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا[77]}[سورة الإسراء] .
فينبغي إذنْ معرفتها وتدبرها واستيعابها والاستفادة منها، لقوله تعالى:{ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[26]}[سورة النساء] . ومن خلال السنن في كتاب الله، وسنة رسوله نفهم التاريخ على حقيقته، ونعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والتقدم، وعوامل الهدم والخوف والانحطاط والتخلف.
وهذه السنن مرتبطة بالأمر والنهي، والطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، فالإنسان إذا أتى الأمر واجتنب النهي ووقف عند حدود الله، أصاب خير السنة الربانية، وإذا أهمل الأمر وخالفه، وارتكب المنهي عنه، ووقع في حدود الله، أصاب شر السنة الربانية.
وقد انتبه إلى أثر السنن في المجتمعات والاعتبار بها ابن تيمية رحمه الله فقال:'ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا، ولولا القياس واطراد فعله وسنته؛ لم يصح الاعتبار بها؛ لأن الاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره كالأمثال المضروبة في القرآن'[ جامع الرسائل، ص 55].
إن معرفة أثر السنن في الأنفس والمجتمعات ضروري لمعرفة طبيعة هذا الدين، وطبيعة الجاهلية المقابلة... وقد جاء الحديث عنها في القرآن المكي، في مواضع كثيرة، وجاء تصويرها في مواقف كثيرة؛ ليفهم المسلمون طبيعة الصراع بين الجاهلية والإسلام على حقيقته، وليكونوا على بيّنة من مباينة السبل، واختلاف المناهج والتوجهات والأهداف بينهم وبين الكافرين، ومن أمثال ذلك: قوله تعالى:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ[13]وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ[14]}[سورة إبراهيم] .
وقوله تعالى:{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ[88]قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ[89] }[سورة الأعراف] .
ومن هنا تأتي أهمية ربط عمل الدعاة بالجهد والعمل وفق السنن التي لا تحابي، فالنتائج التي قد يتطلع إليها أكثر المؤمنين إيماناً سوف يجنيها أكثر الكافرين كفراً ، إذا وافق المقدمات الصحيحة المؤدية إليها، وربط الأسباب بمسبباتها، بينما ينتظرها المؤمن ارتكازاً على إيمانه وحده واعتماداً على ورعه وتقواه، دون أن يطلبها من مقدماتها التي خلقها الله طريقاً إليها، فأنى يستجاب له! .
ومرجع ذلك إلى أن السنن الربانية في الحياة البشرية دقيقة كل الدقة، منتظمة أشد الانتظام، لا تحيد ولا تميل، ولا تجامل ولا تحابي، ولا تتأثر بالأماني وإنما بالأعمال، وهي في دقتها وانتظامها وجديتها كالسنن الكونية سواء بسواء.
سنن : الابتلاء، التمحيص، التمكين:(/19)
ومن أهم هذه السنن التي نبّه إليها القرآن الكريم: سنة الابتلاء، فهي تضع المؤمن على محك الاختبار، لقوله تعالى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [2] وَلَقَدْ فَتَنَّا الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ[3]}[سورة العنكبوت] . وقوله:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإلَيْنَا تُرْجَعُونَ[35]}[سورة الأنبياء] .
ومن ثبات تلك السنة أنها قد بسطت في وحي الله وعلمها أناس قبل أن تقرأ في القرآن الكريم: فهذا ورقة بن نوفل يقول للنبي بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة:' يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ ' فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم في تعجب: [ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ]، قال:' نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ ' رواه البخاري ومسلم.
وهذا قيصر الروم يقول في حديثه مع أبي سفيان:' سَأَلْتُكَ كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ' رواه البخاري ومسلم.
وفي الحديث: [ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا فَقُلْتُ رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً قَالَ اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ] رواه مسلم.
ولعلم الله عز وجل أن الابتلاء هو الوسيلة لتمييز الصفوف وتمحيص القلوب؛ جعله سنة ماضية، فحملُ الأمانة لا يصلح له كل الناس، بل يحتاج إلى قوم مختارين، وهم الصفوة الذين يعدّون لهذا الأمر إعداداً خاصّاً ليحسنوا القيام به.
ومن النتائج المترتبة على سنة الابتلاء لاحقاً: سنة التمحيص، فالمؤمن من جهة يتعرض للمحنة، فيُصقل معدنه من أثرها، والمنافق من جهة ثانية لا يستطيع الصمود أمام الفتنة، فينكص على عقبيه؛ ولهذا جعل الله التمحيص مَعْبراً لتنقية الصف المؤمن من أدعياء الإيمان، فيقع به التمييز بين الدر الثمين والخرز الخسيس، كما في قوله تعالى:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ...[179]}[سورة آل عمران] . وقوله تعالى:{...وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[154]}[سورة آل عمران] .
وعلى ضوء سنة التمحيص تتحقق سنة أخرى، وهي سنة التمكين، إذ يمكّن الله للمؤمنين في الأرض بعد أن يثبتوا استحقاقهم للنصر بلجوئهم إليه وحده في وقت المحنة، وتجردهم له، وتطلعهم إليه في زمن الشدة، مستيقنين من نزول نصره بعد الأخذ بكافة الأسباب المأمور بها شرعاً من صبر وتقوى وإعداد.
وقد أدرك أهل العلم والبصيرة هذه الحقيقة؛ فعندما سئل الإمام الشافعي رحمه الله:'أيما أفضل للرجل: أن يمكّن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكّن حتى يبتلى'.
ومحصّلة هذه السنن: أن بعضها يمسك برقاب بعض كحلقات السلسلة يشد بعضها بعضاً، فلا تمكين بلا تمحيص، ولا تمحيص بلا ابتلاء؛ إذ متى تحققت أوائلها؛ تحققت أواخراها، إنها سنن ساطعة وحقائق ثابتة.
وجدير بالإشارة أن الحكمة من صرامة وثبات السنن الربانية: هو أن تنضبط الموازين، وتستقر معايير الحكم على الأشياء والمواقف والأحداث والرجال؛ لكن من ناحية أخرى: لا ينبغي أن يغتر المؤمن بهذا الاطراد والاستمرار؛ لأنه قد يورث الغفلة، قال تعالى:{لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ [196] مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَاًوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَادُ[197]}[سورة آل عمران] .
فحين يشاهد المؤمن الكفار وهم يسعون في الأرض ويمكّنون اقتصاديّاً وسياسيّاً وعسكريّاً، وتفيض عليهم كنوز الأرض وخيراتها؛ فليعلم أن ذلك ليس تمكين الرضا، بل يندرج ضمن تمكين الاستدراج، أو سنة الإملاء؛ فمن سنن الله الجارية أن يملي للكفار قبل أن يهلكهم:{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإلَيَّ المَصِيرُ[48]}[سورة الحج] .(/20)
كما ينبغي ألا يغتر المؤمن بديمومة وامتداد النعم، فدوامها ينسي ـ عادة ـ أنها قد تزول في الدنيا بسبب من الأسباب، أو تضمحل وتذهب بموت الإنسان، ولذلك نبّه القرآن الكريم إلى الاعتبار بفنائها وزوالها:{أَفَرَأَيْتَ إن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ [205] ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ [206] مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ[207]}[سورة الشعراء] .
سنن: التغيير، التداول، النصر:
من أهم دلالات سنة التغيير أن التغيير يبدأ من النفس سواء بالارتقاء، أو بالانتكاس والهبوط:{...إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ...[11]}[سورة الرعد] . فإذا وجدت الأسباب فالنتائج تتبعها؛ إذ إن حدوث التغيير من الله مترتب على حدوثه من البشر سلباً وإيجاباً.
ونتيجة لذلك: فالتغيير في واقع الدعوة ومحيط الدعاة يتوقف على بذلهم ما في الوسع؛ لتتوجه الجهود إلى العمل الجاد في التغيير الذي يبدأ من داخل النفس، ومن داخل الصف المسلم، ومن ثَمّ: تنفذ فيهم سنة الله في التغيير؛ بناءً على تعرضهم لهذه السنة من خلال سلوكهم وأعمالهم:{وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ[69]}[سورة العنكبوت] . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة يمثلون الجماعة التي أخذت على عاتقها مسؤولية التغيير، وحماية الحق الذي آمنت به، وإن كان من وراء ذلك جفوة الأهل وسخط العشيرة وعذاب الملأ من قريش ونكالهم.
فلم يصرفهم الاضطهاد والفتنة عن أن يضطلعوا بأعباء الدعوة، ويسعوا جاهدين إلى تغيير ما بأنفسهم وتغيير واقعهم من واقعٍ شركي إلى واقع إيماني، فترى تغيير الأنفس في النماذج الكثيرة من الجيل الأول الذي ما إن يشهد أن لا إله إلا الله، حتى يعود من فوره إلى بيته ليحطم الأصنام التي طالما عبدها، ويقطع العلائق والوشائج التي طالما وثقها حتى مع أقرب الناس إليه.
وتلك الحال الإيمانية الحية التي تمت نتيجة المجاهدة للنفس والشيطان قد أثمرت بالفعل تغييراً جذريّاً وانفصالاً كلياً عن الحياة السابقة، حيث انخلع المسلم من البيئة الجاهلية وعُرفها وتصورها وعاداتها وروابطها، وتلألأت عقيدة التوحيد في نفسه، وصار مع المؤمنين، مانحاً إياهم ولاءه وحبه.
وللتنبيه: فإن الفترة السابقة لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم تعدّ من أحلك الفترات في تاريخ البشرية وأكثرها ضلالاً وضياعاً؛ والعالم البشري كله كان يعيش حالة مزرية تحتاج إلى جهد ضخم وعمل هائل لتغيير أوضاعه وعقائده وأنظمته، وانتشال الناس من هذا الواقع المؤلم الرهيب، فكان الإعداد لتلك المهمة الضخمة يبدو ظاهراً جليّاً في كل مرحلة من مراحل الدعوة، بل في كل خطوة من خطواتها، فالأمر كله جدّ ونَصَب وصبر وبلاء.
فمنذ نزلت:{قُمْ فَأَنذِرْ[1]}[سورة المدثر] . قام النبي صلى الله عليه وسلم قياماً جهاديّاً متواصلاً، نازل به قومه قريش والعرب قاطبة، ثم اليهود والدولة البيزنطية، فجاهد الناس بالقرآن:{...وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً[52]}[سورة الفرقان] . كما جاهدهم بالحديد حتى يستقيموا على دين الله:{...وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَاًسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[25]}[سورة الحديد] .
وهذا ما أعلنه بقوله: [بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ] رواه أحمد.
ومن السنن الربانية: مداولة الأيام بين الناس، من الشدة إلى الرخاء، ومن الرخاء إلى الشدة، ومن النصر إلى الهزيمة، ومن الهزيمة إلى النصر: قال تعالى:{إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[140]}[سورة آل عمران] . وهذه السنة نافذة بحسب ما تقتضيه سنة تغيير ما بالأنفس:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ...[53]}[سورة الأنفال] .
وهنا يضع الله عز وجل أيدينا على سر عظيم، وهو ارتباط المداولة بين الأمم والدول والمجتمعات مع التغيير النفسي والذاتي في الأمة؛ فسقوط الحضارات ونهوضها، والأمم في ارتفاعها وهبوطها، مرتبطة بهذا التغيير النفسي في مسارها عبر التاريخ والحاضر والمستقبل، وهي سنة ماضية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.(/21)
يقول رشيد رضا رحمه الله في 'تفسير المنار'10/42:'... إن أَنْعُمَ الله تعالى على الأقوام والأمم منوطة ابتداءً ودواماً بأخلاق وصفات وعقائد وعوائد وأعمال تقتضيها، فما دامت هذه الشؤون لاصقة بأنفسهم متمكنة منها، كانت تلك النعم ثابتة بثباتها، ولم يكن الرب الكريم ينتزعها منهم انتزاعاً بغير ظلم ولا ذنب، فإذا هم غيّروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق وما يترتب عليها من محاسن الأعمال غيّر الله عندئذٍ ما بأنفسهم وسلب نعمته منهم'. وهذا السلب يكون بالإدالة عليهم؛ بتسليط عدو عليهم يستأصل شأفتهم، ويكون ذلك سبباً في انهيارهم، وزوال ملكهم جزاء فسقهم وعصيانهم.
ومن أسباب الفتن وزوال النعم: أن يفشو فيهم الظلم، وعدم إقامة العدل، والجهر بالمعاصي، فيأخذهم الله بالسنن، ويبتليهم بالأمراض والفقر، ويجعل بأسهم بينهم، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: [ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ] رواه ابن ماجة.
وقد تكون الإدالة على المسلمين بتخلف النصر عنهم حين يتركون طاعة الرسول، أو يطمعون في الغنيمة كما حدث في غزوة أحد، أو حين يركنون لكثرة العدد، ويعجبون بأنفسهم، وينسون سندهم الأصيل كما وقع في غزوة حنين. وحينئذ تكون الغلبة لغيرهم بصفة مؤقتة، لحكمة هي استكمال حقيقة الإيمان ومقتضاه من الأعمال، ومتى تحقق ذلك جاء النصر؛ لأن 'الهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس هموداً وكلالاً وقنوطاً، فأما إذا بعثت الهمة، وأذكت الشعلة، وبصّرت بالمزالق، وكشفت عن طبيعة المعركة وطبيعة العقيدة وطبيعة الطريق: فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد'[طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص 248].
إن سنة النصر لا تتخلف متى استوفيت الشروط، وأهمها:
الاستقامة على منهج الله بطاعة أمره واتباع رسوله: قال تعالى:{...إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[7]}[سورة محمد] . وقال تعالى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ [171] إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ [172] وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ[173]}[سورة الصافات] .
وجاءت عوامل النصر جلية واضحة في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [45] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[46]}[سورة الأنفال] .
وإذا تخلفت هذه الأسباب؛ تخلف النصر بطبيعة الحال، وربما حلت الهزيمة؛ لأن سنن الله تعالى لا تحابي ولا تجامل أحداً من الخلق، ولا تجاري أهواء البشر، وإنما تساير أعمالهم، وإنّ الذين يرثون الكتاب وراثة بالاسم وشهادة الميلاد، ولا يترجمون ما فيه من الأوامر والنواهي واقعاً سلوكيّاً، ثم يقولون: سيغفر لنا!.. لا يستجيب الله لهم حتى يعودوا إلى العمل بما أمرهم الله في كتابه المنزل:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثوا الكِتَابَ يَاًخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإن يَاًتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَاًخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ[169]}[سورة الأعراف] .
وبناءْ على ذلك، فإن السنن لا تحيد ولا تميل مع الأماني، وإنما تتأثر بالأعمال الجيدة والجهود المنظمة والمخططات المحكمة؛ للوصول إلى النتائج المحددة المطلوبة. ومعنى ذلك: أنه لا يمكن أن يكون النصر بغير اتخاذ الأسباب سواء أتعلق الأمر بالمؤمنين أم بالكفار.(/22)
سؤال مهم: قد يتبادر إلى الذهن وهو: ماذا يحدث لو وافق المسلمون السنن الإلهية في التغيير واستيفاء شروط النصر، فأخذوا بالأسباب واستكملوا الإعداد للجهاد، غير أن أعداءهم كانوا أكثر كفاءة منهم تخطيطْا وتنظيمْا وقوة؟
والجواب: إن المؤمنين حين يغيرون ما بأنفسهم، ويستكملون أدوات النصر لا يضرهم تفوق الأعداء عليهم؛ لأن سنة أخرى تتدخل، وهي وعد الله بالتمكين والنصر لعباده المؤمنين:{وَكَانَ حَقاً عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ[47]}[سورة الروم] . {...وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً[141]}[سورة النساء] . {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ[51]}[سورة غافر] . وقد يتأخر ويبطئ نصر الله لحكمة ما، لكن في نهاية المطاف هو آتٍ لا محالة:{حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَاًسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ[110]}[سورة يوسف] .
من 'مجلة البيان' العدد 115 ، 116 مقال:'العلم بالسنن الربانية' د. محمد أمحزون
================
انتفاضة الأقصى ، إنها السنن
د. عبد الغني بن أحمد مزهر التميمي (*)
أود في هذه الصفحات أن أتناول شيئاً من دراسة الواقع اليهودي في فلسطين، وما يمتد له من حبل الناس على ضوء السنن الإلهية التي بيَّنها الكتاب العزيز والسنة النبوية الثابتة، وأختصر قدر ما يسعني الاختصار.
وألخص هذا الموضوع في نقاط تسهيلاً على نفسي وعلى القارئ:
1 - عندما يطرأ حدث كبير أو تقع مشكلة كبيرة لها أثرها وانعكاسها على الواقع سواء على المستوى الفردي، أو المستوى الجماعي، فأول ما ينبغي على المسلم أن يفعله لالتماس المخرج هو الحكم الشرعي، أي حكم الله ـ تعالى ـ في ذلك؛ وبناءً عليه يقوم بتحديد موقفه من هذا الحدث أو من هذه المشكلة.
إن ما يميز المسلم عن غيره أنه أعلن استسلامه وأعطى قياده وخضوعه لحكم الله وشرعه، فلم يعط القياد والطاعة لا لقبيلة، ولا لمصلحة خاصة، ولا لقوم، ولا لأكثرية... ولا لغير ذلك. وكل معالجة للمواقف والأحداث لا توزن بهذا الميزان فهي خطأ ولو وافقت الصواب «أجل خطأ ولو وافقت الصواب».
2 - الانتفاضة في فلسطين المحتلة حدث كبير له آثاره وانعكاساته على الأمة، فينبغي الرجوع ابتداءً إلى الحكم الشرعي لتكييف وتأصيل هذا الحدث، ومن ثم اتخاذ الموقف الحق منه.
وهذا أمر في غاية الخطورة والأهمية؛ لأن معنى الرجوع إلى الحكم الشرعي ابتداءً المسارعة إلى الامتثال والعمل بعد وضوح الرؤية؛ فإن لم نستطع نعذر؛ لأننا لم نُكَلَّف فوق طاقتنا { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا } [التغابن: 16].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه»(1).
هذا هو الأصل في تلقي المسلم لأمر ربه؛ وليس النظر ابتداءً إلى الظروف: هل هي مساعدة على ذلك أو لا؟ أو تمحّل الأعذار لترك العمل؛ وهنا ـ أي في شأن الانتفاضة ـ ليس المطلوب ابتداءً النظر إلى توازن القوى، أو الظروف الدولية والإقليمية حتى نحدد الموقف من الانتفاضة على ضوئه، وإلا لم يكن هناك فرق بين المسلم وبين غيره في هذا.
إن هذا النهج قد أصبح مع الأسف شأن كثير أو بعض من المسلمين؛ وذلك لتأثر المجتمعات بمنهج «فصل الدين عن الحياة» وهو ما أنشأ ما يسمى بالموقف الديني، والموقف السياسي أو ما يسمى برجل الدين، ورجل السياسة؛ ليس عن تنوع اختصاص بل عن افتراق كامل بين الموقفين، وبين الرجلين، وهذا لا علاقة لدين الإسلام الذي ارتضاه الله ـ تعالى ـ لعباده به. أما منهج الإسلام فيتمثل في قول الله ـ جل وعلا ـ: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [النور: 51].
إن موقف المسلم من أي قضية ينبغي ألاَّ يتكون من تأثير بيئة أو عرف تعارف عليه قومه، أو أكثرية تضغط باتجاهه، أو ظرف دولي مهما بلغ؛ بل ينبغي أن يكون من رؤية واضحة جلية منبثقة من فهم الحكم الشرعي ثم الاستعداد التام للانقياد له، وما يطرأ بعد ذلك أو خلاله من ظروف وضغوط تحلل وتدرس دراسة شرعية على ضوء الأدلة الخاصة والأصول العامة التي تتضمن رفع الحرج، وإزالة الضرر، وتقدير الضرورات بقدرها، والموازنة بين المصالح والمفاسد.. وغير ذلك من القواعد الشرعية.(/23)
3 - لا ينبغي أن نفهم قضية فلسطين مهما بلغت حماستنا لها، وغيرتنا عليها، وتألمنا على مسارها إلاّ من منظور الحكم الشرعي، وهذا واجب علينا باعتباره جزءاً من مفهوم متكامل ومنهج شامل للحياة، وعلى ذلك لا تكون نصرتنا لإخواننا في فلسطين باعثها الشفقة، ولا العاطفة الإنسانية، ولا الحماسة الوطنية، ولا المروءة والنخوة العربية والقومية، ولا أواصر الدم أو الجوار، بل يكون باعثها الالتزام والتقييد بالحكم الشرعي الذي تعيّن علينا معرفته، وما يترتب عليه من مسؤولية تجاه المسلمين المظلومين في فلسطين، وهذا الفهم هو الذي يظل يضخّ الحياة في قضايانا الإسلامية المتعددة، ويطبع أعمالنا بطابع التعبد لله سبحانه.
4 - معرفة الحكم الشرعي وحدها لا تكفي بل لا بد من حشد القوة الإيمانية وإيجاد الطاقة التربوية التي تدفع إلى امتثال أمر الله واجتناب نهيه برضى وتسليم وصبر وتضحية.
وإلا فكم من المسلمين يعرفون أن الربا حرام ويأكلونه، والخمر حرام ويشربونها، والصلاة ركن من أركان الدين ويهدمونه!
5 - مما يجمّد الطاقة الإيمانية ويقلص أثرها اليأس الناتج عن النظرة والمقارنة الواقعية بين المسلمين وبين أعدائهم؛ ولهذا لا بد من اقتلاع جذور اليأس من نفس المسلم، ومما يساعد على ذلك:
أ - إدراك أن اليأس من كبائر الذنوب وموبقاتها، وأنه لا يجتمع مع الإيمان الحق كما قال ـ تعالى ـ: { يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف: 87]
ب - شواهد التاريخ تمنع من وقوع اليأس؛ فإن الأيام دول، والدهر قُلَّب، وإذا كان المؤمن يأوي إلى ركن الله الوثيق ففيم اليأس؟ أليس الله بكافٍ عبده، وهو على كل شيء قدير؟ وهو الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وكل يوم هو في شأن سبحانه؛ ففيم اليأس؟! لكن على المسلم أن يرى أين موقعه من دين الله: هل في الصفوف الأولى، أو هو خارج الميدان؟
ج - لقد كان اليهود أقوى حصوناً وأمنع قلاعاً وأكثر مالاً من المسلمين في المدينة حتى حملهم هذا على ظنّ أنهم مانعتهم حصونهم وقلاعهم، وظن بعض المسلمين أنهم لن يخرجوا، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا؛ فهم حسبوا حساب جند المسلمين أن يأتوا من الأبواب، أو من فوق الأسوار، فأخذوا حذرهم، وإذا بالرعب الذي لا تمنع منه حصون ولا أسوار يتسلل إلى قلوبهم ويقذف فيها قذفاً فيستسلمون، قال ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } [الحشر: 2].
د - قد أخبر الله ـ تعالى ـ عن اليهود أنه ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. قال ـ سبحانه ـ: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [المائدة: 64]، وكما قال ـ سبحانه ـ في شأن النصارى: { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [المائدة: 14].
وبين (ألقينا) (وأغرينا) فرق يحتاج إلى تأمل.
أما فيما بين اليهود وبين حلفائهم فقد أخبر ـ سبحانه وهو الحكيم الخبير ـ أن هذا أمر ظاهري فقط وإلاّ فإن مصالحهم شتى، وقلوبهم شتى. قال ـ جل وعلا ـ: { جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ } [الحشر: 14]، أي تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين، وهم مختلفون غاية الاختلاف. قال إبراهيم النخعي ـ رحمه الله ـ: «يعني أهل الكتاب والمنافقين»(1).
ولو فرض أن حلفاء اليهود من نصارى ومنافقين وغيرهم أخلصوا لليهود فإن اليهود لا يخلصون لجنسية أخرى ولا لأهل دين آخر مهما بذل لهم، وما زالوا يتآمرون على حلفائهم، ويتجسسون عليهم، ويسرقون أسرارهم العسكرية، وغير ذلك على رغم كل ما بذلوه لهم.
هـ - إن اليهود قد ضرب الله ـ تعالى ـ عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا، واستثنى من ذلك حالتين كما قال ـ سبحانه ـ: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [آل عمران: 112].(/24)
وحبل الله ـ تعالى ـ هو عقد الذمة لهم، أما حبل الناس فقد ذهب بعض المفسرين إلى أنه الأمان كما في المعاهَد والمهادَن والأسير، وهذا غير صحيح؛ لأن الأمان هو من حبل الله ـ تعالى ـ كعقد الذمة، والأصح أن المقصود بحبل الناس هو الدعم والتأييد الذي يكون من الناس لهم، وهذا يشير إلى أنهم أبداً في حاجة إلى دعم من الناس.
وهذا الدعم والتأييد تمثل في عصرنا في القوتين العظميين: روسيا، وأمريكا. أما روسيا فقد آلت إلى ضعف وهوان، وأما أمريكا فإنها في الأثر طال الزمن أو قصر.
وهذه الصفات التي ذكرت في اليهود من الهوان والذلة والمسكنة، والحاجة إلى دعم غيرهم لهم وغير ذلك تجعلهم غير مؤهلين لإمامة العالم، وقد سحبت هذه الإمامة منهم ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وصلاتُه في بيت المقدس بجميع الأنبياء إشعار بهذا الأمر.
6- لا يجوز للمسلم أن ينسى حقائق القرآن أو يهتز إيمانه بها لعوارض الواقع؛ فمن حقائق القرآن أن اليهود ضربت عليهم الذلة والمسكنة، ومن عوارض الواقع أنهم يملكون ويبطشون، وأن العالم يستمع لهم وينحني لهم في هذه الأيام.
ومن حقائق القرآن أن الله ـ تعالى ـ يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، وأنهم كلما أوقدوا ناراً للحرب أو فتنة مؤامرات أطفأها الله.
ومن عوارض الواقع أن دولاً عظمى تقف إلى جانبهم، وأن كيدهم ومكرهم مستمر؛ لكن ينبغي النظر إلى أن هذا الذي يبدو مخالفاً في الظاهر هو أمر عارض سريع التحول، وهو قصير إذا ما قورن بواقع الاضطهاد والذلة في التاريخ اليهودي؛ فقد تعرض اليهود للقهر في العصر الحديث من قِبَل ألمانيا وفرنسا والنمسا والمجر وأوروبا الشرقية. إن الأمور بحقائقها لا بظواهرها، وبما تؤول إليه لا بما تبدو عليه، وهذا من أعظم محكَّات الإيمان؛ فإن المنافقين ومن في قلوبهم مرض وضعاف الإيمان يتهاوى ما لديهم من إيمان مع أدنى خوف وفزع، وتبرز لديهم الظنون بالله ـ سبحانه ـ: هل ينصُر دينه، هل ينتصر أولياؤه، أو سيُتَأصَل الدين ولا يقوم للمؤمنين بعد اليوم قائمة؟
لما ابتلي المؤمنون في الأحزاب، وزلزلوا زلزالاً شديداً حينئذ ظهر النفاق، وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم. قال ـ سبحانه ـ: { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا } [الأحزاب: 12]، وقال بعض هؤلاء: «كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط»(1). إنه الإغراق في الإيمان بالمحسوس، وعدم اليقين بالغيب، وبوعد الله ورسوله.
ولهذا يجب أن يكون فهمنا للمتغيرات الواقعية والتاريخية في الأمم والجماعات والأفراد أكثر عمقاً، وأدق تصوراً، وأن يكون على ضوء قواعد يقينية مقطوع بها وليس مستنداً إلى أمور ظاهرية آنية.
ومن هذه القواعد:
- للكون إله خالق مدبر سميع بصير، حكم عدل قاهر قادر، يعز من يشاء ويذل من يشاء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
- الكون يخلو من العبثية والفوضى والمصادفة. قال ـ جل وعلا ـ: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب: 12]، وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ } [الأنبياء: 16].
- الإنس والجن قاطبة مخلوقون لتوحيد الله ـ تعالى ـ وطاعته وعبادته، وليس هناك أمة منهم أو فئة لا تجري عليها سنن الله ـ تعالى ـ في الخلق عزاً وذلة أو عقوبة ومثوبة.
قال ـ تعالى ـ: { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا {43 } أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا } [فاطر: 43، 44].
وهنا يرد سؤال واقعي:
هل الحضارة المعاصرة على اختلاف مواطنها لها استثناء من الإهلاك وحصانة من الزوال والعقاب الإلهي؟ هل هي أكبر من أن تنالها قدرة الله؟ أم أن الحضارة المعاصرة بما يمثلها من دول ومجتمعات ما هي إلا حلقة من حلقات التاريخ البشري يجري عليها كل ما يجري على غيرها من حضارات سابقة اتجهت وجهتها وبغت بغيها؟
هذا هو جواب الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد:
قال ـ جل وعلا ـ { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [القمر: 51].
وقال ـ سبحانه ـ: { فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ } [الزخرف: 8].(/25)
وقال: { } أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [التغابن: 5].
وقال: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}.[محمد: 10].
وقال ـ سبحانه ـ: { وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ }. [هود: 83].
وقال ـ جل وعلا ـ: { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ } [القمر: 43].
إذن الحضارة المعاصرة ليست نموذجاً فريداً في تاريخ البشرية يستثنى من العقوبة الإلهية، وليست أكبر من أن تعاقَب، وليست أفضل من غيرها مما سبق من الحضارات. هذا ملخص مضمون الآيات القرآنية المتقدمة.
وإن المتتبع لآيات القرآن العظيم المعجز يجد أن أهم الأسباب، وأبرز العوامل المؤدية إلى انهيار الحضارات، ودمارها وكنسها من التاريخ ثلاثة عوامل، وليس كما ذهب إليه بعض المؤرخين كالمؤرخ «بول كندي» الإنجليزي الأصل الأمريكي الموطن؛ حيث تناول الحقبة الممتدة من (1500-2000م)، وتناول سقوط الإمبراطورية الإسبانية والبريطانية والعثمانية والروسية، وبيَّن أن مواصفات السقوط لهذه الإمبراطوريات تنطبق على الولايات المتحدة؛ فهو بمعنى آخر يبشر بسقوطها وانهيارها، وعلى رغم ما واجه من نقد لنظريته فهو مُصرّ عليها، ويدافع عنها، لكنه - ولا يستغرب من أمثاله ممن يفسرون التاريخ على ضوء المادية الجدلية - عزا أسباب السقوط إلى الإفراط في القوة والتوسع؛ بحيث إن الالتزامات الاستراتيجية للإمبراطورية إذا زادت عن القوة الاقتصادية لها أدت إلى عجزها وسقوطها(1).
أما العوامل الثلاثة التي تحمل استحقاق الغضب الإلهي، وعقوبة الدمار والانهيار التي أشار القرآن الكريم إليها فهي:
الكفر، الظلم والاستكبار، والفساد الخلقي والاجتماعي.
- أما الكفر فقد وردت آيات كثيرة تدل على أن الكفر بالله ـ تعالى ـ ونكران توحيده وطاعته من أسباب الدمار، وأكتفي بالاستدلال بنماذج من الآيات؛ فالحصر متعسر، ولا يتسع له المقام:
قال ـ تعالى ـ: { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الأنفال: 52].
وقال ـ جل وعلا ـ: { وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ } [الرعد: 31].
وقال ـ سبحانه ـ في شأن دمار سبأ: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ّ} [سبأ: 17].
والآيات أكثر من أن تُحصَر في هذا المقام؛ فقد وردت كلمة الكفر ومشتقاتها في الكتاب العزيز في نحو سبعة وعشرين وخمسمائة موضع.
- وأما في سبب الهلاك بالظلم والاستكبار فقال ـ جل وعلا ـ: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ } [هود: 102].
وقال: { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا } [الكهف: 59].
وقال ـ سبحانه ـ: { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ } [الحج: 45]، وقال ـ سبحانه ـ: { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ } [الأنبياء: 11] .
فالقاسم المشترك لإهلاك هؤلاء هو الظلم والبغي كما توضح الآيات الكريمة.
وقال: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَات } [فصلت: 15، 16]، وهذا جزاء الاستكبار والتطاول والتعالي.
وقال ـ سبحانه ـ: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا } [القصص: 4].
- وأما الفساد في الأرض فقد بين القرآن الكريم فساد قوم لوط في آيات متعددة، وكذلك فساد قوم شعيب وما حلّ بهم من عقوبة إلهية، وفساد قوم فرعون ومن سبقه. قال ـ جل وعلا ـ: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ {6 } إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ {7 } الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ {8 } وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ {9 } وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ {10 } الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ {11 } فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ {12 } فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 6 - 13].
وخلاصة ما تقدم توضح لنا الآتي:(/26)
1 - إن اليهود بدؤوا يقتربون من نهايتهم المحتومة منذ بدؤوا هجرتهم إلى فلسطين؛ وذلك لأنهم انتقلوا من كونهم أهل ذمة ينعمون في ظل دولة الإسلام إلى محاربين مغتصبين ظالمين، وإن انتقالهم وتجمعهم واغتصابهم لفلسطين هو باللغة العسكرية (إعلان حرب على الأمة الإسلامية)، وقد فعل ذلك من قبل إخوانهم بنو قريظة حينما نقضوا ذمتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلوا الحرب مع قريش والأحزاب.
2 - إن الحائط الذي يستند إليه اليهود، والدعم الذي يعتمدون عليه آيل للسقوط، وقد تهاوى بعضه وبقيته في الأثر، فإن امبراطورية «الجنس والربا» مصيرها هو مصير من سبقها من امبراطوريات الفساد في الأرض.
3 - إن من البلادة، وقلة الفهم أن يقرأ المسلم كتاب الله ـ عز وجل ـ وما يخبر به خبر اليقين من هلاك الأمم الكافرة المستكبرة الظالمة، ثم يذهب كل فهمه إلى قصر ذلك على أهله، وعلى حقبة تاريخية مضت وحسب.
إن سنن الله ـ تعالى ـ لا تتغير، ولا تتبدل؛ فهو الذي {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى {50 } وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى {51 }
وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى } [النجم: 50 - 52]، وكم أهلك من القرون من بعد نوح، ولن تتغير سننه فيمن سلك مسلك هؤلاء من أمم الكفر وطواغيت الأرض في كل عصر.
4 - من البلادة أيضاً أن لا يربط المسلم بين ما يحدث في الأرض من كوارث، وزلازل وأعاصير وفيضانات وأوبئة، وغير ذلك، وبين سنن الله ـ عز وجل ـ وهو يقرأ كلام الله الفصل: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ } [الرعد: 31]، ويقرأ مثلاً في دمار سدّ مأرب وتمزيق سبأ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا} [سبأ: 17] وغير ذلك من آيات، ولم يدر بخَلَده أن هذه العقوبات تتجاوز قرونها وأزمانها وأممها إلى أمم علت في الأرض ونازعت الله ـ تعالى ـ كبرياءه وعظمته في عصر الأقمار الصناعية والصواريخ العابرة للقارات، والتبجح العلمي، والعنجهية المادية المغرقة في الضلال، ألم يقرأ قول الله ـ تعالى ـ: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ٌ} [الفجر: 14] .
فهذه حضارات ثلاث كان لها مكان عظيم في التاريخ، وضربت بجذورها في الأرض، من مدنية وعمران، وبناء مدن صخرية، وتوسع في الأموال والأنعام والزراعة، وعظم في الأجسام وغير ذلك مما يعد مقومات للمدنية والتحضر، فاذا هي تمحى من الوجود ولا يبقى لها باقية؛ وذلك لأنهم (أكثروا) في الأرض الفساد.
ويمكننا القول استنباطاً مما يشير إليه قوله ـ تعالى ـ: { فأكثروا } [الفجر: 12]: إن هناك خطوطاً حمراً إذا تجاوزتها أي أمة أو فرد نزل به غضب الله جل وعلا، ولن تنفعه قوته ولا جبروته شيئاًَ من عقاب الله تعالى؛ وذلك أن الكبرياء والعظمة لله ـ تعالى ـ وحده العظيم المتكبر فمن نازعه فيهما قصمه ـ سبحانه ـ ولم يبال به في أي واد هلك.
والذي أروم الوصول إليه من خلال هذه المعالم القرآنية أصبح واضحاً، وهو أن الحائط الذي يستند إليه اليهود في عصرنا هذا بات آيلاً للسقوط؛ وهذا ما يمكن أن نسميه حتمية قرآنية، لا أدعي ذلك تهويلاً ومبالغة ولا تخديراً للعواطف، بل هذه حقائق مسلَّمات تعتمد على نصوص قطعية محكمة، وليس إلى أحد من البشر تقدير ذلك بالأيام والسنين؛ فالأمر كله لله جل وعلا.
قال ـ سبحانه ـ: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {49 } وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ {50 } وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا
أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ُ} [القمر: 49 - 51].
----------------------------
(*) أستاذ مشارك في الحديث الشريف وعلومه، وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، الندوة العالمية للشباب الإسلامي.
(1) البخاري مع الفتح (13/264)، ومسلم (2/975).
(1) تفسير الطبري (23/293)، المصباح المنير (1387).
(1) ابن هشام، 1/522.
(1) جريدة الشرق الأوسط، العدد (836).
==============
حيثيات قوانين السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد
الدكتور: خالد سعد النجار / مصر
لله تعالى سننا في كونه لا تتغير وفي خلقه لا تحابي أحدا ، إنها المقياس الذي نقيس به مقدار التزامنا ، والمعيار الذي نعرف به مدى تفريطنا ، والميزان الذي نحكم به على كافة الأمور ، ولذلك كان فلاح البشرية معقود على مدى اهتدائها بهدي هذه السنن والامتثال بأحكامها ، وأن لا نخرج على حيثياتها لكي تسير لها الأمور سيرا متزنا في طريق الله المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا التواء
القانون الأول [ قانون السببية ](/27)
مادة 1 : كل شئ بسبب، فمن أمثلة الأسباب المادية قوله تعالى {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُم)(البقرة: من الآية22)، ومن أمثلة الأسباب المعنوية قوله تعالى () إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً)(لأنفال: من الآية29) وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى ( فليس في الدنيا والآخرة شئ إلا بسبب والله خالق الأسباب والمسببات) (1)
مادة 2 : الأسباب والمسببات من فعل الله تعالى، فهو تعالى خالق الأسباب والمسببات ومعنى ذلك أن السبب إنما يعمل ويستدعي مسببه بموجب سنه الله ونفاذها
مادة 3 : المسببات تكون بأسبابها لا عندها، فالمسببات تحدث بالأسباب الموجبة لها لا أنها تحدث عند وجود هذه الأسباب فالنار مثلا سبب الإحراق لما أودع الله فيها من معاني الحرارة المستوجبة للإحراق لا أن الإحراق يحدث عند وجود النار
مادة 4: كل سبب موقوف على وجود شروطه وانتفاء موانعه، فالأكل مثلا سبب للغذاء والشبع واستدامة الحياة ولكن بشرط سلامة الأعضاء الضرورية لتلقي الطعام والاستفادة منه وانتفاء الموانع التي تعيق عمل هذه الأعضاء
مادة 5: لا يجوز إسقاط الأسباب بحجة الإيمان بالقضاء والقدر، قال (اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة) ثم قرأ [ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ] ) (2)
مادة 6 : تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل، فحقيقة التوكل الثقة بالله والطمأنينة به والسكون إليه فالتوكل – كما قال الإمام أحمد – هو عمل القلب . (3)
القانون الثاني [ قانون الهدى والضلال ]
مادة 1 : هدى الله هو الهدى، قال تعالى ()وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى)(البقرة: من الآية120)أي أن هدى الله هو الهدى الحقيقي الذي يصلح أن يسمى هدى وهو الهدى كله ليس وراءه هدى
مادة 2: هدى الله هو الإسلام، قال تعالى ()هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَق)(التوبة: من الآية33))
مادة 3 : من يترك هدى الله يتركه الله وما اختاره، قال تعالى ()وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً)(النساء:115)) النساء 115 أي نتركه وما اختاره لنفسه ونكله إلى ما توكل عليه
مادة 4 : تهديد من يتبع غير هدى الله، قال تعالى () وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(البقرة: من الآية120)، وقال تعالى () وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ)(البقرة: من الآية145) فهذا خطاب للرسول والمراد به أمته
مادة 5 : لا حزن ولا خوف على متبع هدى الله ، قال تعالى ()قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:38)
مادة 6 : طيب العيش لمتبع الهدى، والعيش الضنك للمعرض عنه، قال تعالى ()قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه:124-123)
القانون الثالث [ قانون التدافع بين الحق والباطل ]
مادة 1 : الغلبة للحق وأهله، قضت سنة الله تعالى في تدافع الحق والباطل أن الغلبة للحق وأهله وأن الاندحار والمحق للباطل وأهله قال تعالى () وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِه)(الشورى: من الآية24)) وقال ()بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)(الانبياء: من الآية18)
مادة 2 : سنة الله في نصر المؤمنين لا تتخلف، قال تعالى ()وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً) (الفتح:22)
مادة 3 : قد يتأخر نصر المؤمنين لنصر أكبر، كما نصر رسول الله ومعه المؤمنين على قريش وفتحت مكة سنة ثمان للهجرة ولم يحصل النصر التام إلا بعد مضي أكثر مدة نبوته(/28)
مادة 4 : قد يسبق نصر المؤمنين أذى من العدو وغلبة له، قال تعالى ()وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: 139 141)
القانون الرابع [ قانون الابتلاء ]
مادة 1 : الابتلاء يكون بالشر وبالخير، قال تعالى ()كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الانبياء:35)
مادة 2 : أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء ؟ قال ( الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة ) (4)
القانون الخامس [ قانون الظلم والظالمين ]
مادة 1 : إن الله لا يفلح الظالمون، قال تعالى ()قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (الأنعام:135)
مادة 2 : سنة الله مطردة في هلاك الأمم الظالمة، قال تعالى ()ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ) (هود:100)
)وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) (هود:101)
)وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102)
مادة 3 :تبقى الدولة مع الكفر ولا تبقى مع الظلم، قال تعالى ()وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود:117) ( بظلم ) أي بشرك وكفر، والمعنى : إن الله تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين ، إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم يعامل بعضهم بعضا على الصلاح وعدم الفساد (5)
القانون السادس [ قانون الخلاف ]
مادة 1 : الخلاف شر ، قال تعالى ()وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(آل عمران: من الآية103) وقال ( عليكم بالجماعة و إياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ) (6)
مادة 2 : الخلاف مهلك للأمم ، قال ( ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا ) (7)
مادة 3 : الخلاف إما خلاف تنوع أو خلاف تضاد ، فاختلاف التنوع هو مالا يكون فيه أحد الأقوال مناقضاً للأقوال الأخرى بل كل هذه الأقوال صحيحة ثابتة كوجوه القراءات الثابتة المتواترة ، أما اختلاف التضاد فهو أن يكون كل قول من أقوال المختلفين يضاد الآخر ويحكم بخطئه أو بطلانه وهو يكون في الشيء الواحد
مادة 4 : خلاف التضاد إما خلاف سائغ غير مذموم ، أو خلاف غير سائغ مذموم
فمن أمثلة الخلاف السائغ غير المذموم الاختلاف في رؤية النبي r ربه ، واختلاف المطالع في رؤية الهلاك …
أما الخلاف الغير سائغ المذموم ، فهو المخالف لأصول الإيمان إجمالا وتفصيلا وللأمور المعلومة من الدين بالضرورة كما هو حادث في آراء غلاة الجهمية والقدرية والفلاسفة والرافضة والمتصوفة
الهوامش المصادر
استلهمنا فكرة هذا المقال من كتاب السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية ، للدكتور / عبد الكريم زيدان – مؤسسة الرسالة – بيروت – الطبعة الثالثة 1998
مجموع الفتاوى لابن تيمية ج8 ص70
رواه مسلم عن على t كتاب القدر رقم 4786
مدارج السالكين – ابن القيم ج1 ص 114
رواه الترمذي ( صحيح ) انظر حديث رقم : 992 في صحيح الجامع
تفسير الرازي ج18 ص 76
رواه أحمد والترمذي عن عمر ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2546 في صحيح الجامع
رواه البخاري عن ابن مسعود – كتاب أحاديث الأنبياء رقم3217
=================
سنة الابتلاء
لقد وجه القرآن الكريم المسلمين نحو الوعي بعالم الشهادة، فحثهم على النظر والتدبر والاستقراء؛ للكشف على قوانين المادة وسنن الاجتماع، كما نبّه إلى أهمية التعرف على السنن التاريخية، والإفادة من ذلك في الاعتبار وبناء الحضارة، وكيفية المحافظة عليها من السقوط.(/29)
وقد أرشد القرآن الكريم إلى هذه السنن، فذكرها نصّاً في بعض الأحيان كقوله تعالى:{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ[137]}[سورة آل عمران] . وأحياناً أخرى فهمت من النص دلالة وفحوى كقوله تعالى:{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[10]}[سورة الأنعام] .وذكرها تارة مضافة إلى الله كقوله تعالى: {... سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ[85]}[سورة غافر] . وذكرها تارة أخرى مضافة إلى أقوام كقوله تعالى: {...إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ...[55]}[سورة الكهف] .
وهذه السنن صارمة؛ تتسم بالاطراد والشمول والثبات، قال تعالى:{...فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا[43]}[سورة فاطر] . وقال تعالى:{ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا[77]}[سورة الإسراء] .
فينبغي إذنْ معرفتها وتدبرها واستيعابها والاستفادة منها، لقوله تعالى:{ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[26]}[سورة النساء] . ومن خلال السنن في كتاب الله، وسنة رسوله نفهم التاريخ على حقيقته، ونعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والتقدم، وعوامل الهدم والخوف والانحطاط والتخلف.
وهذه السنن مرتبطة بالأمر والنهي، والطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، فالإنسان إذا أتى الأمر واجتنب النهي ووقف عند حدود الله، أصاب خير السنة الربانية، وإذا أهمل الأمر وخالفه، وارتكب المنهي عنه، ووقع في حدود الله، أصاب شر السنة الربانية.
وقد انتبه إلى أثر السنن في المجتمعات والاعتبار بها ابن تيمية رحمه الله فقال:'ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا، ولولا القياس واطراد فعله وسنته؛ لم يصح الاعتبار بها؛ لأن الاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره كالأمثال المضروبة في القرآن'[ جامع الرسائل، ص 55].
إن معرفة أثر السنن في الأنفس والمجتمعات ضروري لمعرفة طبيعة هذا الدين، وطبيعة الجاهلية المقابلة... وقد جاء الحديث عنها في القرآن المكي، في مواضع كثيرة، وجاء تصويرها في مواقف كثيرة؛ ليفهم المسلمون طبيعة الصراع بين الجاهلية والإسلام على حقيقته، وليكونوا على بيّنة من مباينة السبل، واختلاف المناهج والتوجهات والأهداف بينهم وبين الكافرين، ومن أمثال ذلك: قوله تعالى:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ[13]وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ[14]}[سورة إبراهيم] .
وقوله تعالى:{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ[88]قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ[89] }[سورة الأعراف] .
ومن هنا تأتي أهمية ربط عمل الدعاة بالجهد والعمل وفق السنن التي لا تحابي، فالنتائج التي قد يتطلع إليها أكثر المؤمنين إيماناً سوف يجنيها أكثر الكافرين كفراً ، إذا وافق المقدمات الصحيحة المؤدية إليها، وربط الأسباب بمسبباتها، بينما ينتظرها المؤمن ارتكازاً على إيمانه وحده واعتماداً على ورعه وتقواه، دون أن يطلبها من مقدماتها التي خلقها الله طريقاً إليها، فأنى يستجاب له! .
ومرجع ذلك إلى أن السنن الربانية في الحياة البشرية دقيقة كل الدقة، منتظمة أشد الانتظام، لا تحيد ولا تميل، ولا تجامل ولا تحابي، ولا تتأثر بالأماني وإنما بالأعمال، وهي في دقتها وانتظامها وجديتها كالسنن الكونية سواء بسواء.
سنن : الابتلاء، التمحيص، التمكين:(/30)
ومن أهم هذه السنن التي نبّه إليها القرآن الكريم: سنة الابتلاء، فهي تضع المؤمن على محك الاختبار، لقوله تعالى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [2] وَلَقَدْ فَتَنَّا الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ[3]}[سورة العنكبوت] . وقوله:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإلَيْنَا تُرْجَعُونَ[35]}[سورة الأنبياء] .
ومن ثبات تلك السنة أنها قد بسطت في وحي الله وعلمها أناس قبل أن تقرأ في القرآن الكريم: فهذا ورقة بن نوفل يقول للنبي بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة:' يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ ' فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم في تعجب: [ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ]، قال:' نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ ' رواه البخاري ومسلم.
وهذا قيصر الروم يقول في حديثه مع أبي سفيان:' سَأَلْتُكَ كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ' رواه البخاري ومسلم.
وفي الحديث: [ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا فَقُلْتُ رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً قَالَ اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ] رواه مسلم.
ولعلم الله عز وجل أن الابتلاء هو الوسيلة لتمييز الصفوف وتمحيص القلوب؛ جعله سنة ماضية، فحملُ الأمانة لا يصلح له كل الناس، بل يحتاج إلى قوم مختارين، وهم الصفوة الذين يعدّون لهذا الأمر إعداداً خاصّاً ليحسنوا القيام به.
ومن النتائج المترتبة على سنة الابتلاء لاحقاً: سنة التمحيص، فالمؤمن من جهة يتعرض للمحنة، فيُصقل معدنه من أثرها، والمنافق من جهة ثانية لا يستطيع الصمود أمام الفتنة، فينكص على عقبيه؛ ولهذا جعل الله التمحيص مَعْبراً لتنقية الصف المؤمن من أدعياء الإيمان، فيقع به التمييز بين الدر الثمين والخرز الخسيس، كما في قوله تعالى:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ...[179]}[سورة آل عمران] . وقوله تعالى:{...وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[154]}[سورة آل عمران] .
وعلى ضوء سنة التمحيص تتحقق سنة أخرى، وهي سنة التمكين، إذ يمكّن الله للمؤمنين في الأرض بعد أن يثبتوا استحقاقهم للنصر بلجوئهم إليه وحده في وقت المحنة، وتجردهم له، وتطلعهم إليه في زمن الشدة، مستيقنين من نزول نصره بعد الأخذ بكافة الأسباب المأمور بها شرعاً من صبر وتقوى وإعداد.
وقد أدرك أهل العلم والبصيرة هذه الحقيقة؛ فعندما سئل الإمام الشافعي رحمه الله:'أيما أفضل للرجل: أن يمكّن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكّن حتى يبتلى'.
ومحصّلة هذه السنن: أن بعضها يمسك برقاب بعض كحلقات السلسلة يشد بعضها بعضاً، فلا تمكين بلا تمحيص، ولا تمحيص بلا ابتلاء؛ إذ متى تحققت أوائلها؛ تحققت أواخراها، إنها سنن ساطعة وحقائق ثابتة
===============(/31)
السنن الإلهية في الصراع بين الحق والباطل من خلال دعوة الرسل لأقوامهم
رئيسي :المنهج :الثلاثاء 9 ذي القعدة 1425هـ - 21 ديسمبر 2004 م
إن الوقوف مع السنن الربانية المستوحاة من دعوة الرسل لأقوامهم لمن الواجبات التي ينبغي للدعاة أن يلموا بها ويعرفوها؛ ليستفيدوا منها في تفسير الأحداث والمواقف والنوازل، ولا يستغربوها ويفاجأوا بها؛ لكونها تحدث بأمر الله وحكمته التي جعلت للأحداث والمتغيرات سننًا لا تتبدل ولا تتحول.
كما أن في معرفة هذه السنن معرفة بأسباب النصر والتمكين، وأسباب الهزيمة والخسران، وفي الغفلة عنها تفريط في الأخذ بأسباب النجاة، وإعراض عن هدي الأنبياء، الذين ساروا في ضوء السنن الربانية؛ لأنهم أعرف الناس بالله وأسمائه وصفاته، وسننه وأيامه. وفي التفكير والتأمل في سير الأنبياء مع أقوامهم تعرف هذه الثمرة العظيمة.
السنن الربانية تعريفها، ودلالتها، ووقت ظهورها:
قال تعالى:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [137]}[سورة آل عمران]. وقال عز وجل:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً[43]}[سورة فاطر].
يُعرِّف ابن تيمية رحمه الله السنة ودلالتها، فيقول:'والسنة هي: العادة في الأشياء المتماثلة... ولفظ السنة يدل على التماثل؛ فإنه سبحانه وتعالى إذا حكم في الأمور المتماثلة بحكم، فإن ذلك لا ينقض، ولا يتبدل، ولا يتحول، بل هو سبحانه لا يفوِّت بين المتماثلين، وإذا وقع تغيير فذلك لعدم التماثل. كما أن من سننه التفريق بين المختلفين، كما دل على ذلك القرآن؛ قال الله تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ[35]}[سورة القلم]، ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا، ولولا القياس، واطراد فعله وسنته؛ لم يصح الاعتبار بها. والاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره، كالأمثال المضروبة في القرآن وهي كثيرة' ا.هـ.
أما عن وقت ظهورها وتحققها: فهو إلى الله، وقد يبدو للناس أن أسباب تحقق سنة الله قد انعقدت، ومع ذلك لم يأذن الله بظهورها عن علم وحكمة، قال الله تعالى:{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[47]}[سورة الحج]، وقال عز وجل:{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً[59]}[سورة الكهف]. يقول سيد قطب رحمه الله:'هناك حقيقة ينساها البشر حين يمكّن الله لهم في الأرض. ينسون أن هذا التمكين إنما تم بمشيئة الله ليبلوهم فيه؛ أيقومون عليه بعهد الله وشرطه من العبودية له وحده، والتلقي منه وحده؟ أم يجعلون من أنفسهم طواغيت تَدّعي حقوق الإلهية وخصائصها؟ إنها حقيقة ينساها البشر، فينحرفون عن عهد الله ويمضون على غير سنة الله، ولا يتبين لهم في أول الطريق عواقب هذا الانحراف، ويقع الفساد رويدًا رويدًا وهم ينزلقون ولا يشعرون حتى يستوفي الكتاب أجله ويحق وعد الله. ثم تختلف أشكال الأخذ والنهاية؛ فمرة يأخذهم بعذاب الاستئصال، بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم كما وقع لكثير من الأقوام، ومرة بالسنين ونقص الأنفس والثمرات كما حدث لأقوام آخرين، ومرة يذيق بعضهم بأس بعض، فيعذب بعضها بعضًا، ويدمر بعضهم بعضًا، ويسلط الله عليهم عبادًا له - طائعين أو عصاة - يخضدون شوكتهم. ثم يستخلف الله العباد الجدد ليبتليهم بما مكنهم.
وهكذا تمضي دورة السنة؛ فالسعيد من وعاها، والشقي من غفل عنها، وإنه لَمِمَّا يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي، أو الملحد الكافر ممكنًا له في الأرض غير مأخوذ من الله. ولكن الناس إنما يستعجلون، لأنهم يرون أول الطريق أو وسطه، ولا يرون نهاية الطريق؛ لأن السنة تستغرق وقتًا طويلاً لكنها تلاحظ من خلال التاريخ'ا.هـ
ويقول الدكتور السّلمي:'والسنة الربانية قد تستغرق وقتًا طويلاً لكي ترى متحققة، في حين أن عمر الفرد محدود؛ ولذلك فقد لا يمكنه رؤية السنة متحققة، بل قد يرى الإنسان جانبًا من السنة الربانية، ثم لا تتحقق نهايتها في حياته، مما قد يدفعه إلى عدم إدراك السنة، أو التكذيب بها. وهنا يكون دور التاريخ في معرفة أن السنة الربانية لا بد أن تقع، ولكن لمَّا كان عمرها أطول من عمر الفرد - بل ربما أطول من أعمار أجيال - فإنها ترى متحققة من خلال التاريخ الذي يثبت أن سنة الله ثابتة لا تتبدل كما قال تعالى:{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً[62]]}[سورة الأحزاب] ا.هـ
السنن الثابتة من خلال التفكر في تاريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:(/1)
1- العاقبة للمتقين والهلاك للمكذبين المعاندين: والشواهد على هذه السنة كثيرة؛ فمن ذلك قوله تعالى عقب قصة نوح عليه الصلاة والسلام:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ[49]}[سورة هود]. وقوله تعالى- عن وصية موسى عليه الصلاة والسلام لقومه بعد أن هددهم فرعون بتقتيل أبنائهم، واستحياء نسائهم-:{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[128]}[سورة الأعراف].
وقوله تعالى عن هود عليه الصلاة والسلام مع قومه:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ[72]}[سورة الأعراف]. وقال عن نبيه صالح عليه الصلاة والسلام:{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ[66] وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ[67]}[سورة هود].
وقوله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[47]}[سورة الروم].
وما جرى من تحقيق هذه السنة في الماضي سيجري مثله إن شاء الله في الحاضر والمستقبل، إذا تحققت أسبابها من ظهور المتقين الذين يستحقون نصر الله عز وجل. يقول ابن تيمية رحمه الله:'فإن كان قد نصر المؤمنين لأنهم مؤمنون، كان هذا موجبًا لنصرهم حيث وجد هذا الوصف، بخلاف ما إذا عصوا ونقضوا إيمانهم كيوم أحد؛ فإن الذنب كان لهم، ولهذا قال تعالى:{...وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [62]}[سورة الأحزاب] . فعمّ كل سنة له ...'ا.هـ. وقد سار شيخ الإسلام رحمه الله في ضوء هذه السنة الربانية، وعمل بها في جهاد التتار لما احتلوا بلاد الشام، وكتب للمسلمين يحرضهم على القتال، وينبههم إلى هذه السنة الإلهية في نصر أوليائه، وهلاك أعدائه. وقال في هذه النازلة يبشر المؤمنين بالنصر، وأن العاقبة للمتقين:'واعلموا - أصلحكم الله - أن النصرة للمؤمنين والعاقبة للمتقين، وأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وهؤلاء القوم مقهورون مقموعون. والله سبحانه وتعالى ناصرنا عليهم ومنتقم لنا منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ فأبشروا بنصر الله تعالى وبحسن العاقبة {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[139]}[سورة آل عمران]، وهذا أمر قد تيقناه وتحققناه والحمد لله رب العالمين'.
2- إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم: وهذه السنة من السنن الخالدة التي يتحمل البشر في ضوئها مسؤوليتهم فيما يقع لهم من خير أو شر؛ لأن الله عز وجل قد منح الإنسان قدرًا من الحرية والاختيار، وشرح له أسباب النجاة، وأسباب الهلاك، وأنزل عليه الكتاب، وأرسل إليه الرسل. فمنه يبدأ التغيير: سواء إلى الشر أو إلى الخير؛ قال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[112]}[سورة النحل]. وإنه لجدير بالدعاة إلى الله في هذا الزمان، وفي كل زمان أن يقفوا طويلاً عند هذه السنة؛ فهي الأساس المهم، والمنهج الصحيح للدعوة والتغيير، بل هي أم السنن الربانية في البناء والتغيير.
3- الابتلاء سنة جارية للمؤمنين: وهذه السنة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعليق، حيث تواردت بها الأدلة الكثيرة من القرآن والسنة، وحيث الوقائع والتجارب في حياة الأنبياء وأتباعهم تشهد بذلك. ويكفي قوله تعالى:{ الم[1]أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2]وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[3]}[سورة العنكبوت] .
وقوله تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[214]}[سورة البقرة].(/2)
وحكمة هذا الابتلاء عظيمة، وفوائده في التربية والتمحيص وتمييز الصفوف معروفة، وعلى هذا ينبغي أن توطن النفوس على هذه السنة مع سؤال الله عز وجل العافية والثبات.
كما يدخل تحت هذه السنة: سنة المداولة بين الناس من الشدة إلى الرخاء، ومن الرخاء إلى الشدة، ومن إدالة الكفار على المسلمين للتمحيص والابتلاء: قال تعالى:{... وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[140]}[سورة آل عمران].
4- انهيار الأمم الظالمة وزوالها يكون بأجل: يقول الدكتور السلمي عن هذه السُّنة:'قد يرى الناس موجبات العذاب والانهيار قد حلت بأمة من الأمم، ثم لا يرون زوالها بأنفسهم. وقد أوضحنا في أول الكلام عن السنن أن سنة الله لا تتخلف، لكن عمرها أطول من عمر الأفراد، ولا تقع إلا بأجل محدد لابد من استيفائه؛ قال تعالى:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ[34]}[سورة الأعراف]. وقال تعالى:{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ[5]}[سورة الحجر]، وقال تعالى:{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً[59]}[سورة الكهف]'.والحديث عن هذه السنة يقودنا إلى الحديث عن سنة أخرى ألا وهي:
5- سنة الإملاء: التي يملي الله عز وجل فيها للكفار، ويستدرجهم ويمهل لهم ليزدادوا غيًا إلى غيهم وظلمًا إلى ظلمهم، ويغتروا بإمهال الله لهم حتى يصلوا إلى حد معين من الظلم والكبر والعتو في الأرض، فلا يمهلهم الله عز وجل بعده، وإنما يحق عليهم موعده سبحانه في إهلاكهم؛ لأن الله عز وجل لا يترك الظالم المتكبر يظلم إلى ما لا نهاية، وإنما يملي له ليسارع إلى نهايته المحددة، وموعده الذي يقصمه الله عنده لا يتقدم عليه ولا يتأخر.
وسنة الإملاء هذه نراها الآن تعمل فيما يفعله الأمريكان واليهود في ديار المسلمين وننتظر وعد الله فيهم؛ قال الله تعالى:{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ[178]}[سورة آل عمران].
6- سنة التدافع، وسنة الصراع بين الحق والباطل: وهذه السنة من أهم السنن الربانية التي يجب الوقوف عندها، وعدم الغفلة عنها. والمتأمل في دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم يلمس هذه السنة بوضوح وجلاء؛ قال الله تعالى بعد أن انتصر المسلمون بقيادة طالوت وقتل داود جالوت [الكافر]:{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ[251]}[سورة البقرة]. وقال تعالى بعد إذنه سبحانه للمؤمنين بالقتال:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ[39] الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [40]}[سورة الحج].
والصراع والمدافعة بين الحق والباطل وُجِدا منذ أن أهبط آدم عليه الصلاة والسلام على هذه الأرض ومعه إبليس الملعون. واقتضت حكمة الله عز وجل أن يستمر هذا الصراع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بين حزب الله، وحزب الشيطان. وليس بالضرورة أن تكون المدافعة، أو أن يكون الصراع بالقتال والسلاح. بل إنه يكون بغير ذلك، وما القتال إلا مرحلة من مراحل هذا الصراع؛ فإقامة الحجة على الباطل وأهله: مدافعة، وإزالة الشبه عن الحق وأهله: مدافعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: مدافعة، والصبر على ابتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة، والثبات على الدين: مدافعة وصراع.(/3)
ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله عز وجل على رأس وذروة هذه المدافعة والصراع، فيقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. وما دام هناك حق وباطل؛ فالصراع موجود، والمدافعة حتمية. وهذا الصراع لصالح البشرية وخيرها، ولو كان فيه من العناء والشدة والمكاره؛ فإن هذه المشقات كلها تهون وتصغر عند المفاسد العظيمة التي تنشأ فيما لو لم يكن هناك دفع للفساد وصراع مع الباطل- كما مر في قوله تعالى:{...وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ...[251]}[سورة البقرة]. وهذا يفرض على أهل الحق السير على هذه السنة، وبذل الجهد الجهيد في مدافعة الباطل وأهله، وإحقاق الحق وتمكين أهله، ورد البشرية الشاردة إلى عبودية الله عز وجل وتوحيده، وإنقاذها من الشرك ومفاسده.
إن الذين يطمعون في الإصلاح ودرء الفساد عن الأمة بدون سنة المدافعة مع الباطل وأهل الفساد؛ إنهم يتنكبون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل الذي ارتضاه واختاره لهم. وإن الذين يؤثرون السلامة والخوف من عناء المدافعة مع الفساد وأهله؛ إنهم بهذا التصرف لا يسلمون من العناء والمشقة، بل إنهم يقعون في مشقة أعظم، وعناء أكبر يقاسونه في دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم. وهذه هي ضريبة السكوت، وفساد التصور، وإيثار الحياة الدنيا.
يقول سيد قطب رحمه الله:'إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة لله وحده - مهما عظمت وشقت - أقل وأهون من تكاليف العبودية للطواغيت! إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة - مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق! - إنها تكاليف بطيئة طويلة مديدة! تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته؛ فهذه الإنسانية لا توجد والإنسان عبد للإنسان؛ وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان؟! وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به، ورضاه أو غضبه عليه؟! وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ورغباته وشهواته؟! وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان؟!
على أن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة؛ إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس - في حكم الطواغيت - أموالهم التي لا يحميها شرع، ولا يحوطها سياج، كما يكلفهم أولادهم؛ إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات والأفكار والمفهومات، والأخلاق والتقاليد والعادات، فوق ما يتحكم في أرواحهم وفي حياتهم ذاتها؛ فيذبحهم على مذبح هواه، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته والجاه! ثم يكلفهم أعراضهم في النهاية؛ حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت، سواء في صورة الغصب المباشر - كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ - أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهبًا مباحًا للشهوات تحت أي شعار! وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار. والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون الله؛ إنما يعيش في وهم، أو يفقد الإحساس بالواقع!' ا.هـ [ 'في ظلال القرآن': [3/1318، 1319]].
من كتاب:'أفلا تتفكرون؟!' للشيخ/ عبد العزيز بن ناصر الجليل(/4)
السنن الإلهية في الصراع بين الحق والباطل
من خلال دعوة الرسل لأقوامهم
إن الوقوف مع السنن الربانية المستوحاة من دعوة الرسل لأقوامهم لمن الواجبات التي ينبغي للدعاة أن يلموا بها ويعرفوها؛ ليستفيدوا منها في تفسير الأحداث والمواقف والنوازل، ولا يستغربوها ويفاجأوا بها؛ لكونها تحدث بأمر الله وحكمته التي جعلت للأحداث والمتغيرات سننًا لا تتبدل ولا تتحول.
كما أن في معرفة هذه السنن معرفة بأسباب النصر والتمكين، وأسباب الهزيمة والخسران، وفي الغفلة عنها تفريط في الأخذ بأسباب النجاة، وإعراض عن هدي الأنبياء، الذين ساروا في ضوء السنن الربانية؛ لأنهم أعرف الناس بالله وأسمائه وصفاته، وسننه وأيامه. وفي التفكير والتأمل في سير الأنبياء مع أقوامهم تعرف هذه الثمرة العظيمة.
السنن الربانية تعريفها، ودلالتها، ووقت ظهورها:
قال تعالى:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [137]}[سورة آل عمران]. وقال عز وجل:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً[43]}[سورة فاطر].
يُعرِّف ابن تيمية رحمه الله السنة ودلالتها، فيقول:'والسنة هي: العادة في الأشياء المتماثلة... ولفظ السنة يدل على التماثل؛ فإنه سبحانه وتعالى إذا حكم في الأمور المتماثلة بحكم، فإن ذلك لا ينقض، ولا يتبدل، ولا يتحول، بل هو سبحانه لا يفوِّت بين المتماثلين، وإذا وقع تغيير فذلك لعدم التماثل. كما أن من سننه التفريق بين المختلفين، كما دل على ذلك القرآن؛ قال الله تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ[35]}[سورة القلم]، ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا، ولولا القياس، واطراد فعله وسنته؛ لم يصح الاعتبار بها. والاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره، كالأمثال المضروبة في القرآن وهي كثيرة' ا.هـ.
أما عن وقت ظهورها وتحققها: فهو إلى الله، وقد يبدو للناس أن أسباب تحقق سنة الله قد انعقدت، ومع ذلك لم يأذن الله بظهورها عن علم وحكمة، قال الله تعالى:{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[47]}[سورة الحج]، وقال عز وجل:{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً[59]}[سورة الكهف]. يقول سيد قطب رحمه الله:'هناك حقيقة ينساها البشر حين يمكّن الله لهم في الأرض. ينسون أن هذا التمكين إنما تم بمشيئة الله ليبلوهم فيه؛ أيقومون عليه بعهد الله وشرطه من العبودية له وحده، والتلقي منه وحده؟ أم يجعلون من أنفسهم طواغيت تَدّعي حقوق الإلهية وخصائصها؟ إنها حقيقة ينساها البشر، فينحرفون عن عهد الله ويمضون على غير سنة الله، ولا يتبين لهم في أول الطريق عواقب هذا الانحراف، ويقع الفساد رويدًا رويدًا وهم ينزلقون ولا يشعرون حتى يستوفي الكتاب أجله ويحق وعد الله. ثم تختلف أشكال الأخذ والنهاية؛ فمرة يأخذهم بعذاب الاستئصال، بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم كما وقع لكثير من الأقوام، ومرة بالسنين ونقص الأنفس والثمرات كما حدث لأقوام آخرين، ومرة يذيق بعضهم بأس بعض، فيعذب بعضها بعضًا، ويدمر بعضهم بعضًا، ويسلط الله عليهم عبادًا له - طائعين أو عصاة - يخضدون شوكتهم. ثم يستخلف الله العباد الجدد ليبتليهم بما مكنهم.
وهكذا تمضي دورة السنة؛ فالسعيد من وعاها، والشقي من غفل عنها، وإنه لَمِمَّا يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي، أو الملحد الكافر ممكنًا له في الأرض غير مأخوذ من الله. ولكن الناس إنما يستعجلون، لأنهم يرون أول الطريق أو وسطه، ولا يرون نهاية الطريق؛ لأن السنة تستغرق وقتًا طويلاً لكنها تلاحظ من خلال التاريخ'ا.هـ
ويقول الدكتور السّلمي:'والسنة الربانية قد تستغرق وقتًا طويلاً لكي ترى متحققة، في حين أن عمر الفرد محدود؛ ولذلك فقد لا يمكنه رؤية السنة متحققة، بل قد يرى الإنسان جانبًا من السنة الربانية، ثم لا تتحقق نهايتها في حياته، مما قد يدفعه إلى عدم إدراك السنة، أو التكذيب بها. وهنا يكون دور التاريخ في معرفة أن السنة الربانية لا بد أن تقع، ولكن لمَّا كان عمرها أطول من عمر الفرد - بل ربما أطول من أعمار أجيال - فإنها ترى متحققة من خلال التاريخ الذي يثبت أن سنة الله ثابتة لا تتبدل كما قال تعالى:{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً[62]]}[سورة الأحزاب] ا.هـ
السنن الثابتة من خلال التفكر في تاريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:(/1)
1- العاقبة للمتقين والهلاك للمكذبين المعاندين: والشواهد على هذه السنة كثيرة؛ فمن ذلك قوله تعالى عقب قصة نوح عليه الصلاة والسلام:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ[49]}[سورة هود]. وقوله تعالى- عن وصية موسى عليه الصلاة والسلام لقومه بعد أن هددهم فرعون بتقتيل أبنائهم، واستحياء نسائهم-:{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[128]}[سورة الأعراف].
وقوله تعالى عن هود عليه الصلاة والسلام مع قومه:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ[72]}[سورة الأعراف]. وقال عن نبيه صالح عليه الصلاة والسلام:{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ[66] وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ[67]}[سورة هود].
وقوله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[47]}[سورة الروم].
وما جرى من تحقيق هذه السنة في الماضي سيجري مثله إن شاء الله في الحاضر والمستقبل، إذا تحققت أسبابها من ظهور المتقين الذين يستحقون نصر الله عز وجل. يقول ابن تيمية رحمه الله:'فإن كان قد نصر المؤمنين لأنهم مؤمنون، كان هذا موجبًا لنصرهم حيث وجد هذا الوصف، بخلاف ما إذا عصوا ونقضوا إيمانهم كيوم أحد؛ فإن الذنب كان لهم، ولهذا قال تعالى:{...وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [62]}[سورة الأحزاب] . فعمّ كل سنة له ...'ا.هـ. وقد سار شيخ الإسلام رحمه الله في ضوء هذه السنة الربانية، وعمل بها في جهاد التتار لما احتلوا بلاد الشام، وكتب للمسلمين يحرضهم على القتال، وينبههم إلى هذه السنة الإلهية في نصر أوليائه، وهلاك أعدائه. وقال في هذه النازلة يبشر المؤمنين بالنصر، وأن العاقبة للمتقين:'واعلموا - أصلحكم الله - أن النصرة للمؤمنين والعاقبة للمتقين، وأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وهؤلاء القوم مقهورون مقموعون. والله سبحانه وتعالى ناصرنا عليهم ومنتقم لنا منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ فأبشروا بنصر الله تعالى وبحسن العاقبة {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[139]}[سورة آل عمران]، وهذا أمر قد تيقناه وتحققناه والحمد لله رب العالمين'.
2- إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم: وهذه السنة من السنن الخالدة التي يتحمل البشر في ضوئها مسؤوليتهم فيما يقع لهم من خير أو شر؛ لأن الله عز وجل قد منح الإنسان قدرًا من الحرية والاختيار، وشرح له أسباب النجاة، وأسباب الهلاك، وأنزل عليه الكتاب، وأرسل إليه الرسل. فمنه يبدأ التغيير: سواء إلى الشر أو إلى الخير؛ قال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[112]}[سورة النحل]. وإنه لجدير بالدعاة إلى الله في هذا الزمان، وفي كل زمان أن يقفوا طويلاً عند هذه السنة؛ فهي الأساس المهم، والمنهج الصحيح للدعوة والتغيير، بل هي أم السنن الربانية في البناء والتغيير.
3- الابتلاء سنة جارية للمؤمنين: وهذه السنة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعليق، حيث تواردت بها الأدلة الكثيرة من القرآن والسنة، وحيث الوقائع والتجارب في حياة الأنبياء وأتباعهم تشهد بذلك. ويكفي قوله تعالى:{ الم[1]أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2]وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[3]}[سورة العنكبوت] .
وقوله تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[214]}[سورة البقرة].(/2)
وحكمة هذا الابتلاء عظيمة، وفوائده في التربية والتمحيص وتمييز الصفوف معروفة، وعلى هذا ينبغي أن توطن النفوس على هذه السنة مع سؤال الله عز وجل العافية والثبات.
كما يدخل تحت هذه السنة: سنة المداولة بين الناس من الشدة إلى الرخاء، ومن الرخاء إلى الشدة، ومن إدالة الكفار على المسلمين للتمحيص والابتلاء: قال تعالى:{... وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[140]}[سورة آل عمران].
4- انهيار الأمم الظالمة وزوالها يكون بأجل: يقول الدكتور السلمي عن هذه السُّنة:'قد يرى الناس موجبات العذاب والانهيار قد حلت بأمة من الأمم، ثم لا يرون زوالها بأنفسهم. وقد أوضحنا في أول الكلام عن السنن أن سنة الله لا تتخلف، لكن عمرها أطول من عمر الأفراد، ولا تقع إلا بأجل محدد لابد من استيفائه؛ قال تعالى:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ[34]}[سورة الأعراف]. وقال تعالى:{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ[5]}[سورة الحجر]، وقال تعالى:{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً[59]}[سورة الكهف]'.والحديث عن هذه السنة يقودنا إلى الحديث عن سنة أخرى ألا وهي:
5- سنة الإملاء: التي يملي الله عز وجل فيها للكفار، ويستدرجهم ويمهل لهم ليزدادوا غيًا إلى غيهم وظلمًا إلى ظلمهم، ويغتروا بإمهال الله لهم حتى يصلوا إلى حد معين من الظلم والكبر والعتو في الأرض، فلا يمهلهم الله عز وجل بعده، وإنما يحق عليهم موعده سبحانه في إهلاكهم؛ لأن الله عز وجل لا يترك الظالم المتكبر يظلم إلى ما لا نهاية، وإنما يملي له ليسارع إلى نهايته المحددة، وموعده الذي يقصمه الله عنده لا يتقدم عليه ولا يتأخر.
وسنة الإملاء هذه نراها الآن تعمل فيما يفعله الأمريكان واليهود في ديار المسلمين وننتظر وعد الله فيهم؛ قال الله تعالى:{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ[178]}[سورة آل عمران].
6- سنة التدافع، وسنة الصراع بين الحق والباطل: وهذه السنة من أهم السنن الربانية التي يجب الوقوف عندها، وعدم الغفلة عنها. والمتأمل في دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم يلمس هذه السنة بوضوح وجلاء؛ قال الله تعالى بعد أن انتصر المسلمون بقيادة طالوت وقتل داود جالوت [الكافر]:{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ[251]}[سورة البقرة]. وقال تعالى بعد إذنه سبحانه للمؤمنين بالقتال:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ[39] الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [40]}[سورة الحج].
والصراع والمدافعة بين الحق والباطل وُجِدا منذ أن أهبط آدم عليه الصلاة والسلام على هذه الأرض ومعه إبليس الملعون. واقتضت حكمة الله عز وجل أن يستمر هذا الصراع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بين حزب الله، وحزب الشيطان. وليس بالضرورة أن تكون المدافعة، أو أن يكون الصراع بالقتال والسلاح. بل إنه يكون بغير ذلك، وما القتال إلا مرحلة من مراحل هذا الصراع؛ فإقامة الحجة على الباطل وأهله: مدافعة، وإزالة الشبه عن الحق وأهله: مدافعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: مدافعة، والصبر على ابتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة، والثبات على الدين: مدافعة وصراع.(/3)
ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله عز وجل على رأس وذروة هذه المدافعة والصراع، فيقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. وما دام هناك حق وباطل؛ فالصراع موجود، والمدافعة حتمية. وهذا الصراع لصالح البشرية وخيرها، ولو كان فيه من العناء والشدة والمكاره؛ فإن هذه المشقات كلها تهون وتصغر عند المفاسد العظيمة التي تنشأ فيما لو لم يكن هناك دفع للفساد وصراع مع الباطل- كما مر في قوله تعالى:{...وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ...[251]}[سورة البقرة]. وهذا يفرض على أهل الحق السير على هذه السنة، وبذل الجهد الجهيد في مدافعة الباطل وأهله، وإحقاق الحق وتمكين أهله، ورد البشرية الشاردة إلى عبودية الله عز وجل وتوحيده، وإنقاذها من الشرك ومفاسده.
إن الذين يطمعون في الإصلاح ودرء الفساد عن الأمة بدون سنة المدافعة مع الباطل وأهل الفساد؛ إنهم يتنكبون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل الذي ارتضاه واختاره لهم. وإن الذين يؤثرون السلامة والخوف من عناء المدافعة مع الفساد وأهله؛ إنهم بهذا التصرف لا يسلمون من العناء والمشقة، بل إنهم يقعون في مشقة أعظم، وعناء أكبر يقاسونه في دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم. وهذه هي ضريبة السكوت، وفساد التصور، وإيثار الحياة الدنيا.
يقول سيد قطب رحمه الله:'إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة لله وحده - مهما عظمت وشقت - أقل وأهون من تكاليف العبودية للطواغيت! إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة - مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق! - إنها تكاليف بطيئة طويلة مديدة! تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته؛ فهذه الإنسانية لا توجد والإنسان عبد للإنسان؛ وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان؟! وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به، ورضاه أو غضبه عليه؟! وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ورغباته وشهواته؟! وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان؟!
على أن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة؛ إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس - في حكم الطواغيت - أموالهم التي لا يحميها شرع، ولا يحوطها سياج، كما يكلفهم أولادهم؛ إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات والأفكار والمفهومات، والأخلاق والتقاليد والعادات، فوق ما يتحكم في أرواحهم وفي حياتهم ذاتها؛ فيذبحهم على مذبح هواه، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته والجاه! ثم يكلفهم أعراضهم في النهاية؛ حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت، سواء في صورة الغصب المباشر - كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ - أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهبًا مباحًا للشهوات تحت أي شعار! وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار. والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون الله؛ إنما يعيش في وهم، أو يفقد الإحساس بالواقع!' ا.هـ [ 'في ظلال القرآن': [3/1318، 1319]].
من كتاب:'أفلا تتفكرون؟!' للشيخ/ عبد العزيز بن ناصر الجليل(/4)
السنن الاجتماعية الإلهية في تغيير المجتمعات الإنسانية
د. حاكم المطيري* 4/3/1424
05/05/2003
لله عز وجل سننه الاجتماعية في نشأة المجتمعات الإنسانية وقوتها وضعفها، التي لا تتخلف نتائجها عن مقدماتها، ولا تنفك أسبابها عن مسبباتها، كما قال سبحانه:(سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الأحزاب:62) ، وقد جعل الله سبحانه الظلم سبباً لخراب العمران، ومفضياً إلى ضعف الأمم وسقوط المجتمعات
الإنسانية كما قال تعالى :(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود:117) ، أي - كما قال المفسرون -: ما كان الله ليهلك أهل القرى بسبب الظلم، أي: الشرك به، ما داموا مصلحين بإقامة العدل والحقوق فيما بينهم، والإصلاح في شؤون حياتهم، ولهذا لم يهلك الله سبحانه كل من أشرك به حتى يزيد على ذلك الفساد في الأرض بالظلم والطغيان، كما أهلك فرعون وثمود وعاد بطغيانهم وعتوهم، وقوم شعيب بتظالمهم في الميزان فيما بينهم، وقوم لوط بفسادهم و انحلالهم ...إلخ.
وهذا معنى قول شيخ الإسلام :"إن الله يقيم الدولة العادلة؛ وإن كانت كافرة، ويخذل الدولة الظالمة؛ وإن كانت مسلمة"، وتاريخ الأمم والشعوب وحاضرها أصدق شاهد على صحة هذه السنة الاجتماعية واطرادها، والقياس الصحيح قاض باعتبار هذه القاعدة واشتراطها، فحيثما وجد العدل والإصلاح وجد الاستقرار والازدهار، وحيثما وجد الظلم والفساد وجد التخلف والدمار .
ومن السنن الإلهية الاجتماعية أن جعل الله مناط ذلك كله بمن يملك القدرة على تحقيق الإصلاح و إقامة العدل، أو عكسهما من الإفساد والظلم، وهم الملأ و أهل الحل والعقد؛ أي: من بيده السلطة والدولة، لا عامة الناس ،كما قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الإسراء:16) ، وفي قراءة " أمّرّنا " أي: جعلناهم أمراء فيها، فأفسدوا فيها .
ولم يقم دين سماوي شرعي، ولا مذهب أرضي وضعي إلا بقيام سلطة ودولة تتجلى فيها مبادئهما، وتنفذ على أرضها شرائعهما، ولا يتنكب عن ذلك أهل ملة، و لا يتجنبه أهل نحلة؛ فتقوم لمذهبهم دولة، فما كان ذلك قط، ولن يكون أبدا؛ بل تظل الأديان والفلسفات نظريات ذات أثر فردي محدود، قد يتحقق باعتناقها صلاح دنيوي أو أخروي لا يتجاوز نطاق الأفراد أبداً، ولا يصل إلى دائرة المجتمع ومجالات حياته ليصوغها وفق قيمه وتشريعاته، كما قال تعالى: )إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد: من الآية11) .
ومن ينظر في تاريخ الأمم والشعوب يرى ذلك جلياً واضحاً، فلم يصبح الإسلام واقعاً يعيش المسلمون تحت عدل تشريعاته ورحمة أحكامه إلا بعد قيام دولته في المدينة، وكذا استطاع الشيخ المجدد (محمد بن عبد الوهاب) تحقيق مشروعه الإصلاحي بعد إقامة الدولة في الدرعية، وهو ما لم يستطع تحقيقه المجدد شيخ الإسلام ابن تيمية الذي سبق إلى الدعوة إلى السلفية التي ظلت مضطهدة؛ حتى استطاع الشيخ محمد إقامة دولة تؤمن، بها وتذود عنها، وتدعو لها، ولم يعرف الغرب النظم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي طالما كانت حلما يراود المفكرين، وفكرة تطوف بخيال المصلحين فلم تصبح واقعا يعيشه الغرب إلا بعد الثورة الفرنسية سنة 1789م، بعد أربعة قرون من التضحيات ذهب فيها آلاف من المفكرين ورجال الدين والأدباء والعلماء حتى تحقق حلمهم، وقامت دولتهم وكذلك كان حال الاشتراكية قبل الثورة البلشفية سنة 1917م ، فقد ظلت نظرية منذ أن فلسفها وقعد لها (ماركس) في كتابه (رأس المال)، وظن أنها ستقوم في ألمانيا، حتى نجح (لينين) في تحويلها إلى مشروع ثورة ونظام دولة، وقد استطاع الاشتراكيون والشيوعيون في كل دولة قاموا فيها من خلال الوصول إلى السلطة بتطبيق نظرياتهم لتصبح أكبر دول العالم وأعرقها في النظم الإقطاعية، كروسيا والصين دولاً ومجتمعات شيوعية اشتراكية.(/1)
وما كان مثل ذلك التحول الخطير والعميق ليحدث في تلك المجتمعات ولو دعا الاشتراكيون إلى هذه النظرية وبشروا بها ألف سنة؛ لولا وصولهم إلى السلطة وقيادتهم للدولة، وكذلك كان حال الثورة الأمريكية التي لم تر مبادئها النور ، ولم تصبح واقعاً يعيشه الشعب الأمريكي إلا بعد الثورة وقيام الدولة ، وهذا ما حصل لنظرية الفقيه (الولي) التي لم تصبح واقعاً يعيشه الشيعة (الجعفرية) في إيران إلا بعد الثورة الشعبية الإيرانية سنة 1979م ، لتقوم لهم أول دولة بعد قرون من انتظار (المهدي) وليبدأ الفقيه (الجعفري) بتنظيم شؤون المجتمع، وصياغة حياته، وحل مشكلاته ونوازله التي لا عهد له بها وفق أحكامه وتصوراته، وما كان ذلك ليتحقق لقادة تلك الثورة وأصحاب تلك النظرية الحديثة لولا إدراكهم للسنن الإلهية الاجتماعية في تغيير واقع المجتمعات، وهذه قاعدة لا تتخلف أبداً ولا تحابي أحداً، فلم يعرف تاريخ الأمم في ماضيها وحاضرها حركة اجتماعية سياسية استطاعت الوصول إلى تحقيق حلمها وإقامة مشروعها بغير هذا الطريق، ومن هنا ندرك جانباً من جوانب المشكلة التي يعيشها المسلمون منذ سقوط الخلافة ودخول الاستعمار.
لقد ضل أكثر علمائهم ودعاة الإصلاح فيهم عن هذه السنن الإلهية الاجتماعية التي جاءت بها الهدايات القرآنية وأكدتها التجارب الإنسانية وظل أكثرهم بعيداً عن واقع الأمم المعاصرة ومعرفة أسباب نهضتها وقوتها وتطورها، بينما يعيش العالم الإسلامي -والعربي على وجه الخصوص- تخلفاً خطيراً، حتى جاءت مجتمعاته ودوله في أدنى مستويات التنمية والحرية وحقوق الإنسان؛ بل و في جميع مجالات الحياة، كما جاء في آخر تقارير الأمم المتحدة عن التنمية في دول العالم العربي، ومع ذلك لا يزال المصلحون يظنون أن بصلاح الأفراد يتحقق الإصلاح العام، وأنه كما تكونون يولى عليكم، وأن المستقبل لهذا الدين، وما على الدعاة إلا الاستمرار بالدعوة إلى الله وتربية الأجيال، ونشر العلم وإقامة المشاريع الخيرية، وترقب النصر!
ولا شك في أهمية كل ذلك، وأنه طريق إلى مرضاة الله وجنته؛ إلا أنه لا يكون عادة، و لن يكون أبداً طريقا إلى تحقق نصرته، و إقامة دولته لمخالفة ذلك لسننه الاجتماعية، وهدايته القرآنية في أسباب قيام الدول، وأسباب سقوطها .
إن الدعوة الإسلامية المعاصرة بجماعاتها وتجمعاتها وعلمائها ودعاتها تملك من الطاقات والإمكانات ما لم يتوفر للحركات الإنسانية الإصلاحية الأخرى كالثورة الفرنسية، والثورة الأمريكية، والثورة الروسية ...الخ، كما أنها بذلت من الجهد وقدمت من التضحيات منذ سبعين سنة إلى يومنا هذا ما لم تبذل مثله الحركات
الأخرى، ومع ذلك نجحت هذه في الوصول إلى تحقيق أهدافها، وإقامة مشروعها، بينما أخفقت الدعوة الإسلامية في الوصول إلى هدفها؟!
لقد تنكبت الدعوة الإسلامية المعاصرة عن السنن الإلهية الاجتماعية المؤدية إلى الهدف، ولم تكتف بذلك؛ بل دعت إلى مفاهيم وعقائد تحمل في طياتها بذور فنائها كحركة إصلاحية من حيث تظن أنها بذور حياتها ونمائها، وفشلت حتى في معرفة أسباب إخفاقها فلجأت إلى تبريره تارة بدعوى أن هذا من الابتلاء الذي لا بد منه لكل دعوة، وأنه لا بد من الاستمرار في الدعوة إلى الله والصبر على الأذى وترقب النصر؟! وتارة بتعليق النصر على شروط يستحيل عادة تحققها كضرورة عودة الأمة كلها إلى دينها، وأنه كما تكون الأمة يولى عليها، وهو ما يصادم حقائق التاريخ وشهادة الواقع؛ بل و يصادم سنة الله في ظهور الإسلام نفسه الذي بدأ غريبا، وسيعود كما بدأ، فلم ينتظر النبي -صلى الله عليه وسلم- من أجل إقامة دينه ودولته إيمان أهل مكة كلهم به، ولا اتباع العرب قاطبة له؛ بل سعى إلى تحقيق هدفه وهو في مكة فكان يعرض نفسه على من ينصره، كما في قصته مع بني شيبان الذين أدركوا هدفه، وعرفوا مقصده فقالوا له:"إن هذا الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك، وإن
كسرى قد أخذ علينا عهداً أن لا نؤوي محدثا، فإن أردت أن نمنعك مما يلي العرب فعلنا، فقال لهم :"ما أسأتم بالرد إذ أفصحتم بالصدق إلا أن هذا الدين لا يصلح إلا من أحاطه من جميع جوانبه " فقد أدرك بنو شيبان أنه يريد إقامة دولة تذود عن هذا الدين وتقاتل دونه، فلما جاء الأنصار بايعهم البيعة الأولى على الإيمان بالدين، وبايعهم الثانية على إقامة الدولة بالسمع والطاعة له، والذود عنه، و قاتل بمن أطاعه -وهم عصابة قليلون، ومن عصاه هم عامة العرب- أخذاً منه (صلى الله عليه وسلم) بالسنن الإلهية الاجتماعية في أسباب ظهور الأديان وقيام الدول.(/2)
لقد غابت كل هذه الحقائق عن عامة رجال الدعوة المعاصرة، وما زال أكثرهم يظن أنه بالإمكان العيش في مثل هذا الزمان مع صحة الإيمان واستقامة الأديان دون حاجة إلى دولة، أو أن هذا الواقع الذي نعيشه لم يبلغ في انحرافه حد اعتقاد جاهليته، وأنه بالإمكان إصلاح الخلل وتدارك العطل بالدعوة والدعاء والموعظة الحسنة دون إدراك لما آلت إليه أمور العالم الإسلامي والعربي على وجه الخصوص، منذ دخول الاستعمار الغربي الذي ما زال المؤثر الرئيس في مجريات شؤونه إلى يومنا هذا ؟!
إن من الأسباب التي تحول دون الوصول إلى تحقيق الهدف ما له ارتباط بعقائد ومفاهيم استقرت منذ القرن الثاني، كالموقف من السلطة وما لها وما عليها، كما قال سفيان الثوري: " تركوا لكم دينكم فاتركوا لهم دنياهم " ! وهذه المفاهيم على فرض صحتها ومشروعيتها قد تكون مقبولة بعد قيام الدولة واستقرارها، كما في صدر الإسلام لا بعد سقوطه، أوحال غيابها كما في العصر الحديث بعد زوال الخلافة ،وسقوط الأمة تحت الاستعمار ونفوذه ومخططاته.
ومن الأسباب التي تعيق الدعوة عن تحقيق هدفها فهم الدين ذاته، ومعرفة أبعاده في الحياة السياسية والاجتماعية، فما زال أكثر علماء الدعوة ودعاتها يخلطون بين مفهوم الدين ومفهوم التدين، فهم يدعون في الواقع إلى التدين لا إلى الدين بشموليته، ولهذا صاروا يولون كل اهتمامهم بتربية الأجيال، وتعليمهم أمور دينهم دون وجود هدف أبعد من ذلك يسعون إلى تحقيقه . كما صار أكثرهم يدعو إلى العودة إلى الدين وتنفيذ أحكامه وإقامة شرائعه؛ فلا يجد لدعوته صدى اجتماعياً كبيراً، بعد أن أسقطوا الإنسان وحقوقه وحريته من خطابهم ، أو همشوا دوره، إذ لم يعد الإنسان في خطابهم هو الهدف والغاية؛ بل الهدف عندهم هو الدين ذاته، بينما الهدايات القرآنية و التجارب الإنسانية تؤكد أن نجاح أية حركة اجتماعية إصلاحية مرتبط أشد الارتباط بمدى عنايتها بالإنسان نفسه، واهتمامها به وهذا السبب ذاته الذي أدى إلى دخول الناس في دين الله أفواجا، فقد كان النبي رحمة للعالمين كافة، مسلمهم وكافرهم ، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107) ، فقد دعاهم وهو في مكة بعد توحيد الله إلى المساواة بين الأغنياء والفقراء، والشرفاء والضعفاء، والسادة والعبيد، وأنهم جميعا في الإنسانية سواء كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، وهذا ما كان الإنسان في حاجته في مجتمع جاهلي قائم على الطبقية والعصبية، وهذا ما أنف منه كبراء مكة، حتى طلبوا منه -صلى الله عليه وسلم- مجلساً خاصاً بهم يحدثهم فيه، كما دعاهم إلى العدل والقسط، وهو الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب، كما قال تعالى: )لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )(الحديد: من الآية25)، كما دعاهم إلى تحرير العبيد ومؤاخاتهم ...إلخوكل أحكام الشريعة إنما جاءت من أجل هذا الإنسان، وبما فيه صلاح دنياه وأخراه، غير أن هذه المعاني التي أدت إلى سرعة ظهور الإسلام، وسرعة قبول الأمم له لم تعد من أولويات الدعوة المعاصرة، ولهذا غلب على خطابها الوعظ والإرشاد والتعليم والتثقيف، مما لا يستثير اهتمام العامة، ولا يخاطب نفوسهم البشرية التي تتوّق إلى العيش الكريم في هذه الحياة الدنيا قبل الآخرة، ولهذا كان النبي يعد أصحابه ويبشرهم بالنصر والظهور والحياة العزيزة وهو في مكة، ولم تنجح الحركات الاجتماعية الإنسانية في الوصول إلى أهدافها إلا بعد أن جعلت الإنسان وتطلعاته محور اهتمامها. فقد كانت حقوق الإنسان وحكم الشعب الأساس الذي قامت من أجله الثورة الفرنسية الديمقراطية ، وكان الاستقلال والحرية الهدف الذي من أجله قامت الثورة الأمريكية الليبرالية، وكانت الاشتراكية والعدالة الاجتماعية شعار الثورة الروسية الشيوعية، وكان رفع الظلم ونصرة المستضعفين وإنهاء عهد الاستبداد شعار الثورة الإيرانية، ولهذا نجحت كل هذه الثورات الإنسانية في تحريك الشعوب، والوصول إلى إقامة دولها وفق تصوراتها وأهدافها وتطلعاتها؛ بل تجاوزت في أثرها حدودها الإقليمية إلى الدائرة العالمية، حيث صارت نماذج تتطلع شعوب كثيرة إلى تحقيقها، كما في الثورات الاشتراكية التي اكتسحت العالم بعد الثورة الروسية، وحركات التحرر والاستقلال بعد الثورة الأمريكية، والثورات الديمقراطية بعد الثورة الفرنسية...إلخ، بينما لم يحدث شيء من ذلك في العالم الإسلامي، خصوصا بين أهل السنة الذين يمثلون أكثر الأمة مع كثرة جماعاتهم وحركاتهم ودعاتهم ؟!
إن الأسباب التي تعوق الدعوة الإسلامية المعاصرة عن الوصول إلى مرحلة التمكين كثيرة غير أنه يمكن حصرها في :(/3)
1-العقائد والمفاهيم التي تحول دون العمل من أجل تغيير الواقع كالخشية من المستقبل استدلالاً بأحاديث " لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه " دون فهمها على الوجه الصحيح مما يدفع إلى المحافظة على الواقع؛ بل وترسيخه والدفاع عنه خشية من المستقبل، حتى صار الشعار هو ما يعبر عنه العامة، وكثير من أهل العلم بقولهم " الله لا يغير علينا "، ومن تلك المفاهيم ربط تحقيق الإصلاح بظهور (المهدي) وانتظار خلافة على منهاج النبوة، استدلالاً بأحاديث المهدي والفتن التي حددت سلفا ما الذي سيحصل مستقبلاً ، وما علينا إلا الانتظار، بينما استطاع الشيعة (الجعفرية) -الذي يقوم مذهبهم أصلا على هذه النظرية- أن يتجاوزوا هذه الإشكالية بعد أن انتظروا (المهدي) ألف سنة، وطال عليهم الأمد وأن يقيموا دولتهم ومشروعهم الإصلاحي ليصبح يوم الشعب الإيراني خيراً من أمسه، ومازال يتطلع إلى مستقبل أفضل من يومه، بينما ابتلي أهل السنة بآثار هذه المفاهيم، والعقائد التي تحمل في طياتها بذور فناء أي حضارة إنسانية تؤمن بها، وتحول دون تقدم أي أمة ومجتمع يتقبلها. ومن تلك العقائد التي تحول دون حدوث الإصلاح الموقف من السلطة وما لها وما عليها، هذا الموقف الذي لم يعرفه الصحابة -رضي الله عنهم- في صدر الإسلام، كما تؤكده مواقف طلحة ، والزبير، وعائشة، وابن الزبير، والحسين ...إلخ، وقد أدى استقرار مثل هذه العقائد عند أهل السنة جميعا -أهل الحديث ومتكلميهم من الأشعرية على حد سواء- إلى شيوع ورسوخ ظاهرة الاستبداد السياسي في العالم الإسلامي ثلاثة عشر قرنا من تاريخ الإسلام ؟! بل لقد تم استصحاب هذه العقيدة حتى في ظل سيطرة الاستعمار الأجنبي و في عصر دويلات الطوائف التي صنعها العدو الصليبي على عينه، لتصبح هذه العقيدة حجر عثرة، وعقبة كؤود تحول دون تغيير الواقع وإصلاحه، حيث تم توظيف الدين ذاته في خدمة الاستعمار من جهة، والاستبداد من جهة أخرى .
2- العقلية السطحية الاختزالية التي ابتلي بها أكثر العلماء والدعاة، كتصورهم إمكانية تحقق الإصلاح دون السعي إلى تغيير هذا الواقع وفق سنن المدافعة والمغالبة التي لا يحصل التمكين إلا بها ومن خلالها، كما هي السنن الإلهية الاجتماعية في حصول التغيير ، ولهذا لم يّمكن الله -عز وجل- لنبي ولا لغيره إلا وفق هذه السنن ،وهو معنى حديث القوم الذين استهموا على السفينة، فأراد من بأسفلها خرقها ليشربوا، فإن تركوهم هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا؛ ولهذا أمر النبي بالأخذ على يد الظالم وأطره على الحق أطرا، لما قد يجره ظلمه من هلاك الجميع ، وكتصور أن الصبر على الظلم خير من مقاومته، استشهاداً بحوادث تاريخية جزئية دون إدراك خطورة الظلم ذاته، وأن ما يترتب عليه من نتائج أشد على المدى البعيد من الآثار السلبية التي تنتج عن مقاومته. ومن ينظر في تاريخ الأمم يجد ذلك جلياً واضحاً، وكل الأمم اليوم التي تنعم بالحرية والعدالة الاجتماعية، وحماية حقوق الإنسان ؛ لم يتحقق لها ذلك إلا بعد الثورة على الظلم ومقاومته، ورفضها له. وعلى العكس من ذلك حال الشعوب التي لم تتصد له، إذ ما تزال ترسف في أغلال العبودية للأنظمة الاستبدادية، ولا يمكن للشعوب المستعبدة أن تحقق نهضة أو تحمل رسالة، ولهذا أنزل الله هذا الدين على بني إسماعيل خاصة؛ لكونهم لم يعرفوا الخضوع للملوك من قبل، بل ظلت مكة -أم القرى- مدة ألف عام قبل الإسلام تدار شؤونها دون وجود سلطة، ولهذا أقام أهلها دار الندوة للشورى وإدارة شؤونها بصورة جماعية، وكذا كان حال الطائف ،وحال المدينة والحجاز عامة، فكانوا أقدر الأمم على حمل رسالة الإسلام للناس جميعا، وهو ما عبر عنه (ربعي بن عامر) بقوله :" إن الله أخرجنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة" ، وهذا ما يستفاد من قصة موسى مع فرعون وإصراره على تحرير بني إسرائيل من العبودية، كما في قوله تعالى على لسانه : )وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ) (الشعراء:22)، فلا يمكن تحقيق نهضة إصلاحية قبل تحرير الشعوب من الظلم والاستبداد.
3- الخشية من تغيير الواقع بالمدافعة والمغالبة بدعوى الخشية من وقوع الفتن، والاستدلال بفشل بعض الحركات الثورية على عدم صحة هذا الأسلوب في تغيير الواقع ، دون إدراك السنة الاجتماعية التي تؤكد أنه لم تنجح حركة تغييريه إصلاحية بغير هذا الطريق، وليس كل حركة تغييريه نجحت به، بل إن الثورة الفرنسية سبقتها عدة ثورات كلها فشلت، غير أنها أخيراً نجحت وكذا الثورة الأمريكية، والثورة الروسية...إلخ، وقد نجح العباسيون بعد أن فشل العلويون في ثوراتهم ضد بني أمية .(/4)
ومن الخطأ الاقتصار على التجارب الفاشلة، والوقوف عندها والاستدلال بها، ولو فعلت شعوب العالم الغربي ذلك ما استطاعت أن تصل إلى ما وصلت إليه من حرية سياسية، وعدالة اجتماعية تفقدها شعوب العالم العربي والإسلامي اليوم؛ بسبب هذه التصورات التي تفتقد للعلمية والموضوعية.
لقد استطاعت شعوب كثيرة تحقيق الإصلاح عن طريق الضغط السياسي السلمي ، والمطالبة بحقها في المشاركة في الحكم لتدير شؤونها بنفسها، وهذا ما حصل في إنجلترا، كما استطاع بعض الملوك المبادرة إلى الإصلاح السياسي، وإشراك الشعب في الحكم، كما حصل في اليابان، غير أن ذلك كله إنما تحقق بعد المدافعة والمغالبة والمطالبة السلمية من تلك الشعوب؛ فتحقق لها ما تريد قبل أن تضطر إلى الثورة الشعبية.
4- الفوضوية والفردية في العمل، وهي ظاهرة تتميز بها الشعوب العربية والخليجية على وجه الخصوص التي مازالت تعاني من العقلية القبلية، ومن ينظر في تاريخ الحركات التغييرية يجد أنها -وبلا استثناء- لم تقم بها إلا مجموعات وأحزاب منظمة تسعى إلى تحقيق أهداف واضحة، وشيوع الروح الجماعية هي السبب في تطور المجتمعات الغربية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمهنية عن طريق الأحزاب السياسية، والشركات الصناعية والتجارية، والجمعيات الخيرية، والنقابات المهنية، والتي يزيد عمر بعضها على قرن، بينما لا تزال الروح الفردية تسيطر على الشعوب العربية، وما زالت ظاهرة الذرية والفوضوية والتشرذم تحول دون تطورها، وبينما نجد القوى الدولية تتظافر من أجل تنفيذ مخططاتها في العالم العربي والإسلامي بشكل دولي جماعي منظم (كالمنظمات الصهيونية العالمية والمنظمات التبشيرية والماسونية، ومثلها الشيوعية والاشتراكية التي لها منظماتها الدولية التي تربط بين جميع أحزابها على اختلاف بلدانها وشعوبها وقومياتها، و لها اجتماعاتها الدورية للتباحث في شؤونها والتنسيق فيما بينها) نجد الحركات الإسلامية على النقيض من ذلك تماما، ومع أن اجتماعها ووحدتها من أصول دينها؛ إلا أنها لا تزل تعمل بشكل فردي فوضوي، قائم على ردود الأفعال دون أهداف واضحة وبرامج عمل مشتركة، ودون منظمات عالمية تكون لفصائلها عمقاً استراتيجيا يجعلها قوة مؤثرة على الساحة السياسية في بلدانها ، ولو لم تصل إلى السلطة.
* الأمين العام للحركة السلفية ـ الكوي(/5)
السنن الكونية
أ.د. جعفر شيخ إدريس*
عقلاء الناس في كل زمان ومكان يؤمنون بأن الحوادث لا تحدث خبط عشواء، بل يعتقدون أولاً أن لكل حادث منها سبباً، ويعتقدون ثانياً أن الأسباب المتماثلة تؤدي إلى نتائج متماثلة سواء في عالم الطبيعة، أو عالم المجتمعات، أو عالم النفس. ويعلمون أنه لولا هذا الاطِّراد في الأسباب والمسبَّبات وجريانها على نسق واحد لما أمكن أن تكون هنالك علوم طبيعية ولا اجتماعية ولا نفسية، ولما استفاد الناس من دراستهم للتاريح، ولما استفاد بعضهم من تجارب بعض ولا اتعظوا بها، بل ولما استطاعوا أن يتعاملوا مع الطبيعة والناس من حولهم، بل ولا مع أنفسهم. كيف يمكن هذا إذا كان من الممكن للحادث أن يحدث من فراع، أو إذا كان السبب الواحد يؤدي إلى مسببات مختلفة بل متضادة بحسب الزمان والمكان؟ كيف إذا كان الماء الذي رش على النار فأخمدها بالأمس يُرَش عليها اليوم فيزيدها اشتعالاً؟
لكن الإيمان بالقاعدة لا يعصم الناس من الخطأ في تطبيقها، ولا يلزمهم بعزو المسببات إلى أسبابها الحقيقية التي يعلمونها، بل بعزونها زوراً إلى أسباب يعلمون أنها ليست أسباباً لها. فالناس يظلون مخيرين: من شاء اعترف بالحق، ومن شاء كذَّبه. لكن أولي الألباب منهم لا يكتفون بالإيمان بصدق القاعدة، بل ينظرون في دعاوى الربط بين المسبَّبات المعينة وأسبابها المدَّعاة: هل قام دليل على صدقها أم لا؟ ولولا ذلك لما كذَّب الناسُ السحرةَ والدجالين والمخرفين، ولما عرفوا الفرق بين النبي المرسل ومدعي النبوة. لكن الصدق لا يعصم من الخطأ. فقد يظن الإنسان صادقاً أن هنالك رابطاً بين نتيجة معينة وسبب معين، ويكون مخطئاً في ظنه. يحدث هذا حتى في أكثر العلوم الدنيوية انضباطاً كعلم الفيزياء أو الكيمياء، ودعك عن علم الطب وعلم النفس والاجتماع!
وبما أن الإسلام إنما يخاطب العقلاء من الناس فإنه يستعمل هذه الحجة التي يسلِّمون بها، فيدعوهم تارة إلى الاعتراف بالنتائج التي عرفوها، ويذكِّرهم تارة بأن السبب الذي رأوه أدى إلى نتيجة معينة لا بد أن يؤدي إلى النتيجة نفسها في حالة أخرى، ويعرِّفهم تارة بأسباب يجهلونها، ويخطِّئ ظنهم في أسباب ظنوها أسباباً لمسببات معينة وما هي بأسبابها الحقيقية. وإليك أمثلة على ذلك وهي قليل من كثير:
{فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137].
{لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 60 - 62].
{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح: 22 - 23].
الملاحظ أن السنن التي وصفها القرآن الكريم في هذه الآيات وغيرها بأنها لا تتغير ولا تتبدل إنما هي ما يمكن تسميته بالسنن الاجتماعية. أما السنن الطبيعية فلم يرد في كتاب الله وصفها بهذه الصفات؛ والسبب واضح وهو أنها يمكن أن تُخرَق، أعني أن السنن التي يعرفها الناس والتي تسمى الآن بالقوانين الطبيعية كقانون الجاذبية يمكن أن تُخرَق. فالنار لم تحرق سيدنا إبراهيم، والبحر انفلق لسيدنا موسى، والقمر انشق لسيدنا محمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. لكن بما أن الخوارق أمر نادر فيمكن أن يقال إنها هي الأخرى ثابتة لا تتغير. ثم إن الخرق إنما هو خرق للسنَّة التي اعتادها الناس، وليس خرقاً لقانون السببية؛ ذلك لأن الخرق نفسه يكون بأسباب أخرى ليست معهودة للناس.
وهذه أمثلة لم تُذكر فيها كلمة السنَّة، لكن ذكر فيها معناها وهو التذكير بأن الأسباب المتماثلة تؤدي إلى نتائج متماثلة:
{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 43].
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بُمُعْجِزِينَ} [الزمر: 51].
وكما يذكِّرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ بسنَّة تكرار النتائج إذا ما تكررت الأسباب؛ فإنه يرشدنا أحياناً إلى أسباب لم نكن نعلمها. من ذلك قوله ـ تعالى ـ:(/1)
{وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118].
في هذه الآية الكريمة دليل على أن هنالك علاقة سببية بين الأقوال اللسانية والأحوال القلبية. فإذا ما تشابهت القلوب تشابهت الأقوال، ولا يلزم لذلك أن يأخذ اللاحق من السابق. كما قال ـ تعالى ـ:
{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52 - 53].
أتواصَوْا به؟ كلاَّ؛ فهم لم يَلْقَ بعضهم بعضاً، ولكن سبب التشابه في الأقوال هو الطغيان الذي في القلوب.
وبسبب هذا التلازم بين الأحوال القلبية والعبارات اللسانية كان من المتعذر على المنافق أن يخفي نفاقه. قال ـ تعالى ـ:
{وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30].
بل إن القرآن الكريم ليدلنا على أن هذه العلاقة بين الظاهر والباطن سُنَّة عامة:
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].
في هذه الآية دليل على أن هنالك تلازماً بين الإرادة والعمل. فمن ادعى أنه يريد عملاً معيناً وكان قادراً على أن يأتي به أو بشيء منه ثم لم يفعل ذلك علمنا أنه كاذب في دعواه.
يذكِّرنا الإمام الشاطبي بأن هنالك علاقة لزوم بين معرفة الدين الحق واطِّراد السنن، أي أنه لو لم تكن السنن الكونية مطَّردة لما أمكن أن تعرف حقيقة الدين؛ لأنه إنما يعرف بالمعجزة التي تخرق العادة؛ فإذا لم تكن هنالك عادة مستمرة لم يكن هنالك ما يخرق.
ويذكِّرنا ـ رحمه الله ـ بأن اطراد التشريع مبني على اطراد السنن الكونية. أعني أنه لو كان خلق الناس وخلق الكون من حولهم في تغير مستمر لما أمكن أن يكون لهم تشريع ثابت لا يتغير. فثبات التشريع وعدم تغيره من زمان إلى زمان أو من مكان إلى مكان دليل على أن من شرع لهم لا تتغير فطرهم وطبائعهم التي بني عليها التشريع، وإن تغيرت بعض أحوالهم التي لا علاقة لها به(1).
بقي من هذا الكلام سؤال نختم به هذا الحديث الموجز عن السنن الكونية: ما علاقة الأسباب بالخالق سبحانه وتعالى؟
افترق الناس في هذا إلى طرفين غالطين ووسط أصاب الصواب. وقف أصحاب الطرف الأول عند حدود الأسباب، واعتقدوا أنها هي التي تفعل بنفسها؛ فلا حاجة إلى افتراض خالق لها، وغفلوا عن حقيقة ماثلة أمامهم تقول: إنه لا يوجد في العالم سبب مستقل بفعل؛ فما من شيء ندعوه سبباً إلا وهو معتمد في فاعليته على أسباب أو شروط أخرى، تعتمد هي الأخرى على أسباب وشروط، فأنَّى يكون مستقلاً؟ وغلط مؤمنون فظنوا أن فاعلية الأسباب تتناقض مع خلق الله، فكأنهم ظنوا أنه إذا عُزي الفعل للسبب فلا يمكن أن يعزى إلى الخالق، ولذلك قالوا عن اطِّراد السنن التي يرونها ماثلة أمامهم بأن الله ـ تعالى ـ يخلق عندها لا بها، أي إذا رأيت الورقة أُلقيت في النار فاحترقت فلا تقل: إن النار أحرقتها، ولكن قل: إن الله أحرقها عند ملاقاتها للنار. قال أهل الحق: إن الله ـ تعالى ـ هو الذي خلق الأسباب وجعلها أسباباً؛ ففاعليتها لا تدل على الاستغناء عنه، كما أنها لا تتناقض مع خلقه لها، بل إن من عادته ـ سبحانه ـ أن يخلق بالأسباب، ولذلك استعملت باء السببية في وصف كثير من الحوادث الطبيعية:
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9].
{وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام: 99] .
وكما استُعملت في القرآن باء السببية فقد استُعملت كذلك عبارات أخرى كثيرة تدل على السببية، لكن المجال ليس مجال تفصيل لهذا الأمر.
نكتفي بهذا الآن، ونستأنف الحديث بإذن الله ـ تعالى ـ في معايير أخرى من معايير العقلاء.
-------------------
(1) انظر في تفصيل كل هذا كتابه (الموافقات)، كتاب المقاصد، النوع الرابع، المسائل الثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة. وقد عزا ـ رحمه الله ـ أول هذين الدليلين إلى الإمام الرازي يرحمه الله، ووصفه بأنه من أنبل الأدلة.(/2)
السنن والاعتبار
لقد أحسن الله تبارك وتعالى كل شيء خلقه، وخلق هذا الكون وفق نظام وسنن مطردة، واطراد السنن في الحياة المادية ومعرفة الإنسان بها أعانه على الاستفادة كثيراً مما في هذا الكون من قوى مادية.
وكما أن الله تبارك وتعالى جعل سنناً مادية تعين الإنسان على فهم أوجه الحياة واستخراج قوانين ثابتة تشكل الأساس في فهم الظواهر المادية والانطلاق منها، فقد أودع الله تبارك وتعالى الكون سنناً تحكم حياة الناس والمجتمعات.
إن ذكر قصص السابقين والأولين، والأمر بالاعتبار والاتعاظ بها دليل واضح على أن هناك سنن تحكم حياة الناس ومجتمعاتهم، وأن الأمة إذا سلكت ماسلكه الأولون آلت إلى ما آلوا إليه، فبعد أن ساق الله قصة بني النظير وما أصابهم أعقبها بقوله ((فاعتبروا ياأولي الأبصار))، وأمر الله الناس بالسير في الأرض والاعتبار بما أصاب السابقين ((أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها)) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وفي مقابل سير المعرضين والمكذبين يعرض تبارك وتعالى سير المؤمنين ((فولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين)).
وينكر القرآن على المؤمنين اعتقادهم أن بإمكانهم تحقيق النصر دون أن يصيبهم ما أصاب السابقين من قبلهم ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب)).
ويرشد النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه إلى ذلك فيقول :" لقد كان كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد مادون عظامه من لحم أوعصب، مايصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله " ([1])
إن كثرة هذه النصوص لتعطي دلالة على أهمية هذه الحقيقة الغائبة اليوم عن كثير من المسلمين، وجدير بالدعاة إلى الله -والذين يتخذون القرآن هدياً ومنهاجاً لهم- أن يعنوا بهذه السنن، ومن أوجه العناية بها ما يأتي:
1- السعي للتعرف عليها، واستنباطها، ومن أعظم المصادر في ذلك كتاب الله عز وجل فيما حكاه عن الأولين والسابقين، وماقصه النبي صلى الله عليه و سلم من قصص وأخبار السابقين، ومن المصادر المهمة دراسة التاريخ دراسة واعية، وقد أمر الله في كتابه بذلك في غير ما موطن (( أفلم يسيروا في الأرض…أولم يسيروا في الأرض…قل سيروا في الأرض..)) ويعقب ذلك بالأمر بالنظر والاعتبار.
2- إعادة تقويم الدراسات الاجتماعية والإنسانية على ضوئها.
3- إبراز هذه السنن أمام مجتمعات المسلمين، وتضمينها الخطاب الدعوي الموجه لهم.
4- الانطلاق منها في رسم برامج التغيير والإصلاح، وأخذها بالاعتبار والسير وفقها، فالله سبحانه وتعالى قد شاء أن يكون نصر هذا الدين قائماً على بذل الجهد والسبب((ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض))
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه البخاري (3852)(/1)
السهم الأخير وفتىًُ يفَجَّر نفسَهَّ
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
ماذا أَقول و أيَّ شيءٍ أكْتُبُ ... ... السَّاحُ تَنْأى و المَنازلُ تَغْربُ
لَهْفي على تلك الدِّماءِ تَدَفَّقَتْ ... ... والنَّاسُ في لَهْوٍ يَضجُّ و يصْخَبُ
الرّاقِصون على الدِّماءِ على الأنيـ ... ... ـن ، على الجَماجِم ! والغِناءُ الأعْجَبُ
الغيدُ تَلْهو بالقُلوب و حَوْلَها ... ... سَكْرَى ! وأَنغَامُ الضّياعِ تَسَرَّبُ
لله در ُّ فتىً يُفجِّرُ نَفْسَهُ ... ... ويْحي ! وأُمّتُهُ غُفَاةٌ غُيَّبُ
فكأنّما مُلِئَتْ جَوانبُهُ أسىً ... ... غَضَباً ! ولم يَرَ حَوْلَهُ مَنْ يَغْضَبُ
وفؤادُه لَهَبُ العزيمة وَقْدُه ... ... عَزْمٌ و إِيثارٌ و حقٌّ أَغْلَبُ
وعلى مُحَيَّاهُ البشائرُ أَشْرَقتْ ... ... أَملاً يُضيء ولَهْفَةً تترقَّبُ
* ... * ... *
وتلفَّتتْ عَيْناه ! حِين بَدَا لَهُ ... ... زَحْفٌ ونِيرانٌ تُصَبّ و تُسْكَبُ
ومدافعٌ وقنابلٌ و الطائرا ... ... تُ تحومُ تُلْقي بالجحيمِ وتضْرِبُ
ويحي ! ودّباباتُه انْطَلقَتْ على ... ... قَصْفٍ أَشَدَّ ، لَهِيْبُهُ لا يُحْجَبُ
فمنازلٌ تَهْوي عَلى أصْحابِها ... ... ومصانِعٌ تُطْوى وأَهْل ٌ نُحَّبُ
ودَمٌ تفجَّرَ في المَرابِعِ كُلِّها ... ... دَوّى هُناك ! فَمنْ يُجِيبُ ويُعْرِبُ ؟
وَدمُ الطّفولةِ يسْتَغيثُ ! وأنَّةُ ... ... الثكْلى تُنادي ! والدّموعُ تَشَعَّبُ
وتلفّتتْ عَيْناه ! هل مِنْ مُشْفِقٍ ... ... في الأَرْض يَحْنوُ ؟ أو يَلين فيحدُبُ
فالناس والدّنْيا كأنّ بِهمْ عَمىً ... ... وقلوبُهُمْ شتَّى المسَالكِ تذْهَبُ
أَو أنّهم صُمٌّ وبُكْمٌ و يْحَهُمْ ... ... لا مَشْرِقٌ يُصْغي لهمْ أو مَغرِبُ
* ... * ... *
وتلفَّتتْ عيناهُ تنطقُ بالأسى ... ... وتقول يا دنيا أطلّوا و ارقُبوا
أين النِّظامُ العَالميّ ؟ ! وأيْن كُـ ... ... ـلُّ لجانِهِ ؟ أيْنَ المُنى والمطْلبُ
أين الشّعاراتُ التي غَنَّوا بِها ... ... زَمَناً فَغَاب غِناؤهم والمُطْرِبُ
أيْنَ الأُخُوّةُ و العَدالةُ و المُسَا ... ... واة التي تُطْوى هُنَاكَ و تَكْذِبُ
* ... * ... *
وتلفّتت عيناهُ و اْلتَفَتَ الفؤا ... ... دُ : فأيْن أهْلي و الهَوَى والمأربُ ؟!
أيْنَ العُروبةُ والسّلامُ و أيْنَ أرْ ... ... حامٌ تَقَطَّعُ والوِدادُ الأَقْرَبُ ؟!
أيْنَ الشِعارات التي دوّى بها ... ... حَشْدٌ وأين سَبيلُها والمذْهَبُ ؟!
والمسْلمون ! وأَيْنَ هُمْ ؟ ! أيْنَ الوعُو ... ... دُ ؟ ! وكَمْ تُبَدَّل ، ويْحَهم ، وتُقَلَّبُ
نَادَوْا شُعُوبَ الأرض ! قَادتَها ! اسْتَغا ... ... ثُوا بالعدُوِّ وبالصّديقِ وأوْعَبُوا
وتَوسَّلوا ! وتَضرَّعوا ! و تَذلَّلوا ! ... ... من ذا يُجيبُ نِداءَهُمْ أو يَصْحَب ؟!
قالوا قَلِقْنا ! أوقفوا الإرهاب ! ويْـ ... ... لكُمُ ! فمن ذاك الذي هُو يُرْهِبُ ؟!
مَنْ قَتَّل الأَطْفَالَ ؟! مَنْ قَدْ أشعل الـ ... ... نَّيران ؟ ! مَنْ يَطْغَى هناكَ ويُلْهِبُ ؟!
قالوا : سنبعَثُ بالوسيط لكي يُعا ... ... لِجَ ما يَرى من مُشْكِلٍ و يُقَرِّبُ
كمْ من وسيطٍ يا فلَسْطِينُ ارْتَدى ... ... ثوبَ السّلام يَنالُ مِنْكِ ويَنْهَبُ
المجْرِمونَ عِصَابَةٌ جَمَعَتْهُمُ ... ... فِتَنُ الهَوى صفّاً يَشُدُّ ويدأَبُ
* ... * ... *
وتَلفَّتَتْ عَيْناهُ : أيْنَ مُفاوِضٌ ... ... يَسْعى ؟ ! وأيْنَ الفارس المتَوَثِّبُ
كم قَاعةٍ قَد زُيِّنتْ لمفَاوُضٍ ... ... لاهٍ يُمَثّلُ أو يُراوغُ ثَعْلَبُ
وتَدورُ فيها الشاةُ تَثغو ، دونَها ... ... نابٌ يُقَطَِّع أو يُمزِّقُ مخْلبُ
* ... * ... *
وتلفّتَتْ عَيْناهُ ! ويْحي لم يَعُدْ ... ... في السّاحِ مِنْ حَجَرٍ يَطيرُ ويُرْعِبُ
وتَلفّتَتْ عيْناهُ ! ويْحيَ لم يَعُدْ ... ... حَشْدُ السلاح يَصُدُّ أو يتصَبَّبُ
وتلفّتَتْ عَيْناهُ ! و الأَقْصى يَئـ ... ... ـنُّ وقَيْدُه قاسٍ عليه مُجَرّبُ
وتلفّتَتْ عَيْناهُ ! وامْتلأَتْ جوا ... ... نِبُه أسىً ينْمو لديْه و يَغلِبُ
وإذا الهوان يلفُّ أُمَّتَهُ و هَلْ ... ... يَبْقَى الأَبيُّ على الهوان ويَرْغَبُ
فإذا به متواثِبٌ ! أحناؤه ... ... غَضَبٌ يَفُُورُ مع الضُّلوع ويُلْهبُ
وخُطاه تَسْتَبِقُ الرّدى ! حتّى إذا ... ... بلغَ الميادين التي تتقلّبُ
فَتَفَجّرتْ أحْناؤه و تطايرت ... ... أشْلاؤه والأُفْقُ مِنْهُ مُخَضّبُ
ليظَلَّ يَشْهَدُ أن أمّتنا هَوَتْ ... ... وغَفَتْ وأطْبَقَ فوْقَ ذلك غيْهَبُ
ويَقولُ : إنْ أخطأتُ ، إنّ هَوان مَنْ ... ... تَرَ كَ الجِهاد أشدُّ منهُ وأصْعبُ
أهلكتُ نَفْسي ؟ غَيْر أنّ سِوايَ أهـ ... ... لَكَ أُمّةً ومَضَى يَهونُ و يُغلَبُ
فالله يَغْفِر ما يَشاء لمنْ يشا ... ... ءُ بِرَحْمَةٍ تُرجَى وفضْلٍ يُوْهَبُ
ما كان يَغْفِر للّذي يمْضي على ... ... شِرْكٍ و يُمْعِنُ في هَوَاه و يُغْرِبُ(/1)
كَثُرَ الذين رَأَيْتُهُمْ يُفْتُونَ في ... ... أمْري ! وأمْرُهمُ أشدُّ وأَعْجَبُ
ما بَالُهُمْ لا يَنْهَضُون إلى الّذي ... ... أفْتَوا به ، أو للّذي هو أقْرَبُ
ما عَاد يَنْفَعُني الفتاوى ! إنّني ... ... في عَالَم الحقِّ الّذي لا يُكْذَبُ
فالله يَحْكُم وحده بِعبادِه ... ... فيه ، وحُكْمُ الله حقٌّ مُوْجِبُ
فدَعُوْا أُمُوريَ وانْهَضوا لأُمُورِكُمْ ... ... وافْتُوا ! فذلك لو عَلمْتُمْ أصْوَبُ
الخُلْفُ بيْنَكُمُ أضَرُّ عَلَيْكُمُ ... ... واشَدُّ من مَكْرِ العَدوِّ وأصْعَبُ
فِرَقاً تَمَزَّقُ كَمْ تَرَوْن خِلالَها ... ... شَرّاً يُدَارُ وفتنةً تَتَسرّبُ
* ... * ... *
فجّرْتُ نَفْسِيَ ! هل فَتَحْتُمْ بَعْدَه ... ... دَرْباً إلى النَّصْرِ العزيِزِ يُقرِّبُ
هلاَّ جمعتُم أُمَّة الإسلام صَفّـ ... ... ـاً يَجْتَلي صُوَرَ الجِهاد ويَطْلبُ
إنْ لمْ تَقُمْ في الأرضِ أُمَّة أحمد ... ... ضاعَتْ جُهودُكُمُ وتاهَ المَذْهَبُ
الأربعاء
28/2/1422هـ
22 /5/2001م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من ملحمة الإسلام من فلسطين إلى لقاء المؤمنين .(/2)
السواك وقاية وعلاج
بقلم / علاء الدين معصوم حسن
إن السواك هو أرخص وأنفع وسيلة للمحافظة على صحة الفم وإزالة الترسبات البكتيرية . . وتعود الفائدة الكبرى للسواك إلى أنه عملي جداً بحيث لا يحتاج إلى أي نوع من السوائل المصاحبة لاستخدامه .
ويحتوي السواك على نسبة كبيرة من الفلورايد كما أثبتت ذلك الأبحاث الطبية بالإضافة إلى احتوائه على المضادات الحيوية وبعض الزيوت الأساسية والكلورين وفيتامين " ج " ، والسليكون الذي يزيل الألوان المترسبة على الأسطح الخارجية للأسنان [1] .
وللسواك مزايا تجعله يفوق الفرشاة والمعاجين التي نستعملها ، فخيوط السواك مرنة وكثيرة تمكنه من التغلغل في ثنايا الأسنان ، وسواك شجرة الأراك به مادة مطهرة ومواد قابضة تعالج صديد اللثة وتقتل بعضاً من ميكروباتها وسمومها [2] .
وأكد الطب الحديث فوائد السواك ، فقد جاء في بحث للدكتور طارق الخوري نشر في مجلة طب الأسنان الوقائي الإكلينكي عام 1983م : أن أغصان الأراك تحتوي على مادة صمغية وتعمل على تغطية المينا وحمايته من التسوس ، ومادة ثلاثي المثيل ، و تعمل على التئام جروح اللثة ، ومواد قلوية تعمل على منع التسوس [3] .
وفي عام 1406هـ عكف فريق بحثي بجامعة الملك سعود على تحليل مكونات جذور الأراك ، وبعد أشهر عدة من الدراسة والتحليل ثبت أن المواد الفعالة التي تحتويها تعطي للأسنان مناعة طبيعية ضد التسوس والنخر بالقضاء على الطفيليات والبكتيريا المسببة لهما ، وأن هذه المواد لها قدرة عجيبة على حماية أسطح الأسنان من التأثيرات الحامضية .
وفي تجربة حديثة أجريت على خمسة وعشرين مريضاً في كلية طب الأسنان بالجامعة نفسها ، ثبت أن أعواد السواك تتفوق على جميع وسائل تنظيف الأسنان الأخرى كالفرشاة وحيدة الحزمة ، والفرشاة البينية ، والخيط السني .
وفي باكستان ، قامت إحدى المراكز البحثية بدراسة استهدفت معرفة أثر السواك في الوقاية من سرطان الفم ، وقد قطعت في ذلك مراحل مهمة . وتأكد مؤخراً أن في السواك عناصر لها القدرة على الحد من نمو الخلايا السرطانية .
ويقول العالم الألماني رودات : لا يسعني إلا الاعتراف بقيمة السواك الصحية إن هناك بالفعل حكمة كبيرة وراء استعمال العرب للسواك كنا نجهلها .
وفي سويسرا قام فريق بحثي بالمزيد من التجارب التي أثبتت أن خلاصة السواك هي خير وسيلة للمحافظة على نظافة الفم والأسنان ، لكونها تحتوي على مواد عطرية ، ومطهرة ، ومضادات حيوية قوية [4] .
وجاء في بحث للدكتور جيمس ترنر من كلية الطب بجامعة تينيسي الأمريكية والمنشور في مجلة ( طب الفم والأسنان الاستوائية ) : إن مسواك الأراك يحتوي على مواد مطهرة وقاتلة للميكروبات أهمها : الكبريت ، ومادة ( سيتوسيترول ب ) كما يحتوي على الصوديوم .
ودلت الأبحاث والتجارب على أن السواك يحتوي على مادة مضادة لنزيف الدم ، ومطهرة للثة ، ومعقمة للجروح اللثوية . . . كما يحتوي في أليافه على كميات عديدة من الأملاح المعدنية ، وشوارد الكالسيوم ، والحديد ، والفوسفات ، والصوديوم [5] .
ويحتوي السواك على نسبة من الفيتامين (C) ومعلوم عند العلماء أن المشاركة بين هذا الفيتامين والمضادات الحيوية يعد من أرفع مستويات التقنية الطبية كما يحتوي على مادة التانين التي تساعد على شد النسيج اللثوي المرتخي [6] .
وكم نشعر بعظمة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا بالتسوك : " تسوكوا فإن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب وما جاء جبريل إلا وأوصاني بالسواك " [7] .
وقال عليه الصلاة والسلام : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " [8] .
ولم يغفل عليه الصلاة والسلام عن السواك حتى وهو في حالة النزع والتأهب لرحلة الموت [9] . وقال عليه الصلاة والسلام : " عشر من الفطرة - وعدَّ منها - السواك " [10] .
ويغسل السواك بالماء بعد استعماله . قالت عائشة رضي الله عنها : " كان نبي صلى الله عليه وسلم الله يستاك ، فيعطيني السواك لأغسله " [11] .
أما حكم السواك فهو سنة وليس بواجب بإجماع من يعتد به في الإجماع [12] .
والسواك مستحب في كل وقت ، ويتأكد عند الوضوء والصلاة وتلاوة القرآن وعند دخول المنزل والاستيقاظ ، وهو مستحب للصائم كغيره ، في أول النهار وفي آخره ، لما رواه عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم " [13] .
وقال ابن القيم رحمه الله : " يستحب السواك للمفطر والصائم وفي كل وقت لعموم الأحاديث الواردة فيه ، ولحاجة الصائم إليه ، ولأنه مطهرة للفم ، والطهر للصائم أفضل أعماله [14] .
وهكذا يمكننا اعتبار المسواك ، الفرشاة الطبيعية المثالية ، والمزودة بمواد مطهرة تفوق ما تملكه معاجين الأسنان الصناعية من مواصفات [15] .
________________________
(1) السواك أجر وعلاج د عبدالله الشمري المجلة العربية العدد 89 جمادى الثانية1405هـ الصفحة 72 .(/1)