وصيتي لنفسي ولكل مسلم ومسلمة، يؤمن بالله واليوم الآخر: ألا تضيع عليه ساعات عمره إلا بنفع وفائدة، فأنت والله مسئول أمام الله أن تعمل ما بوسعك، وألا تحتقر نفسك، إن تلك المرأة السوداء استطاعت أن تكسب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، واستطاعت أن تجعل التاريخ يسجل، اسمها اسأل نفسك لماذا حصلت على هذا وكيف؟ لأجل أنها عملت للإسلام عملاً هو قدرتها ووسعها، وهو عمل في ميزاننا اليوم حقير ..إنها كانت تقم المسجد.. ما أحقر هذا العمل في ميزاننا اليوم، ولكن ما أرفعه عند الله يوم أن كان هو وسعها وقدرتها . فأين أنت أيها الأخ وأين أنت أيتها المسلمة؟ سجل اسمك في التاريخ.. ليكن قلبك كبيراً يتسع لهموم الآخرين.. ليكن همك حاراً لإصلاح الجميع.. أحسن النية واجعلها سباقة فإنك تؤجر عليها ولو لم يتيسر لك العمل.. فرق كبير بين قولك: اللهم اجعلني من الصالحين، وبين قولك: اللهم اجعلني من الصالحين المصلحين.. فرق كبير بين قولك: اللهم انفعني، وبين قولك اللهم انفعني وانفع بي:
إذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسام
متى يستيقظ الأخيار إن لم يستيقظوا الآن؟! متى يتحرك الصالحون إن لم يتحركوا الآن؟! متى يستيقظ المسلمون إن لم يستيقظوا الآن؟! أليس في قلوبنا غيرة؟! أليس فينا حياة؟! متى نشعر بالتحدي، وأعداء الله عز وجل يسيئون لهذه العقيدة ليل نهار، جعلوا الباطل حقاً، والحق باطلاً، وجعلوا الوضيع شريفاً والشريف وضيعاً.
كل المصائب قد تمر على الفتى فتهون غير شماتة الأعداء
من محاضرة: الرجل الصفر للشيخ/ إبراهيم الدويش(/9)
الرجوع عن الإقرار بما يوجب حداً
راشد بن فهد آل حفيظ [القاضي بالمحكمة العامة بالمخواة] 17/8/1426
21/09/2005
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فهذا ذكر للخلاف في مسألة الرجوع عن الإقرار بما يوجب حداً(1)، أيقبل أو لا؟ فأقول مستعيناً بالله:
لقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: قبول رجوعه مطلقاً.
وإليه ذهب الحنفية(2)والشافعية(3)، والحنابلة(4) وهو الرواية المشهورة عند المالكية(5).
واستدلوا لذلك بما يلي:
الدليل الأول:
حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- في ذكر قصة ما عز –رضي الله عنه- حين شهد على نفسه بالزنا، وفيه:
أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أعرض عنه، وردده مراراً (6)، وقال له: "ويحك، أرجع فاستغفر الله، وتب إليه"(7). وفيه:
أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال له: "لعلك قبَّلت، أو غمزت، أو نظرت"(8) وفيه:
أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال للذين رجموه حين هرب لما وجد مس الحجارة: "فهلا تركتموه"(8)
وفي رواية: "هلا تركتموه، لعله أن يتوب فيتوب الله عليه"(9)
وجه الاستدلال:
أن هذا الحديث يدل على قبول رجوعه من وجهين:
الأول: كونه –صلى الله عليه وسلم- أعرض عنه، وردده، وعرَّض له بالرجوع، وإلا لما كان لذلك فائدة. (10)
الثاني: كونه –صلى الله عليه وسلم- قال لمن رجمه بعد هربه: "هلا تركتموه" لأن الهرب دليل الرجوع".(11)
ويمكن مناقشة الوجه الأول بما يلي:
أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- إنما فعل مع ماعز ما فعله من ترديد، وإعراض، وتعريض، لأمرين:
الأول: كون ماعز –رضي الله عنه- قد جاء تائباً.
وهكذا يفعل الترديد، والإعراض، والتعريض بالرجوع عن الإقرار مع كل مقر جاء تائباً معترفاً بذنبه بخلاف غيره، فلا يفعل معه ذلك، فإذا رجع عن إقراره وقد جاء تائباً قبل منه رجوعه، بل إذا رجع عن طلب إقامة الحد عليه ترك ولو لم يرجع عن إقراره لحديث ماعز، فإنه لما هرب حين وجد مس الحجارة قال الرسول –صلى الله عليه وسلم- لمن رجمه: "هلا تركتموه، لعله أن يتوب، فيتوب الله عليه" مما يدل على أنه لم يرجع عن إقراره، وإنما رجع عن طلب إقامة الحد عليه –كما سيأتي- فيقبل منه ذلك، ويسقط عنه الحد، ويترك، لكونه قد جاء تائباً معترفاً بذنبه ومن هذه حالُه لا تجب إقامة الحد عليه أصلاً إلا بطلبه، لأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- لم يقمه على ما عز والغامدية إلا بعد طلبهما لذلك وإصرارهما عليه أما مجرد إقرارهما فلا يعتبر طلباً لإقامة الحد عليهما، ولذلك لم يلتفت إليه الرسول –صلى الله عليه وسلم- بل أعرض عنه(12).
الثاني: كونه –صلى الله عليه وسلم- يريد الاستثبات(13).
ويدل لذلك أنه –صلى الله عليه وسلم- سأله: "أبك جنون"؟ قال: لا(14).
وسأل عنه: "أنه جنون؟"، "أشرب خمراً؟" (15).
وأرسل إلى قومه، وسألهم: "أتعلمون بعقله بأساً؟ أتنكرون مه شيئاً؟" (120)
ويدل لذلك أيضاً ما جاء عن جابر –رضي الله عنه- أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- إنما قال: "فهلا تركتموه، وجئتموني به" ليستثبت منه ليس إلا فأما لترك حد فلا".(17)
قال ابن حجر: "وفيه –يعني حديث ماعز" التثبت في إزهاق نفس المسلم، والمبالغة في صيانته، لما وقع في القصة من ترديده، والإيماء إليه بالرجوع، والإشارة إلى قبول دعواه، إن ادعى إكراهاً.." (18)
قال الشوكاني"
"وليس الاستثبات بإسقاط، ولا من أسبابه".(19)
ويمكن مناقشة الوجه الثاني بما يلي:
بأن ماعزاً –رضي الله عنه- لم يرجع عن إقراره البتة، وإنما رجع عن طلب إقامة الحد عليه، ويدل لذلك ما يلي:
أولاً: ما جاء عن بريدة –رضي الله عنه- أنه قال: "كنا –أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما، أو قال: لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما، وإنما رجمهما عند الرابعة".(20)
فقوله: "لو رجعا بعد اعترافهما.." يدل على عدم رجوعهما عن اعترافهما البتة، وكون الرسول –صلى الله عليه وسلم- لن يطلبهما، فلأنهما جاءا تائبين، وهكذا يفعل مع كل مقرٍّ قد جاء تائباً.
ثانياً: ما جاء في بعض روايات الحديث، عن جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- أنه قال: "كنت فيمن رجم الرجل، إنا لما خرجنا به فرجمناه فوجد مس الحجارة صرخ بنا: يا قوم ردوني إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فإن قومي قتلوني وغروني وأخبروني أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأخبرناه قال: "فهلا تركتموه وجئتموني به" ليتثبت رسول الله منه، فأما لترك حدٍّ فلا"(21)
فقول ما عز –رضي الله عنه- " يا قوم ردوني.." ظاهر في أنه لم يرجع عن إقراره، وإنما رجع عن طلب إقامة الحد عليه، إذ لو كان قد رجع عن إقراره، لصرح بذلك، بدلاً من قوله "إن قومي قتلوني..".
ثالثاً: أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال عنه: "لقد تاب توبةً لو قسمت بين أمة لوسعتهم"(22).(/1)
وقال –صلى الله عليه وسلم-: "هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه"(23).
وهذا يدل على أن أثر الإقرار باق في حقه إذ لا توبة إلا من زنا، فقوله –صلى الله عليه وسلم-: "لقد تاب توبةً..." دليل على ثبوت الذنب في حقه، ولو كان هربه رجوعاً عن إقراره لارتفع عنه أثره.
رابعاً: قوله –صلى الله عليه وسلم- "هلا تركتموه، لعله أن يتوب فيتوب الله عليه".
فقوله –صلى الله عليه وسلم-" لعله أن يتوب.." يدل على أن ماعزاً –رضي الله عنه- لم يرجع عن إقراره، وإنما رجع عن طلب إقامة الحد عليه، وأراد أن يتوب بينه وبين الله سبحانه وتعالى، ولو كان ماعز –رضي الله عنه- قد رجع عن إقراره لقال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "هلا تركتموه، لأنه رجع عن إقراره، لكن لم يقله وقال –صلى الله عليه وسلم-"لعله أن يتوب.." مما يدل على أن ماعزاً لم يرجع عن إقراره، وإنما أراد التوبة بينه وبين الله سبحانه وتعالى والرجوع عن طلبه إقامة الحد عليه.
خامساً: أن ماعزاً –رضي الله عنه- قد جاء تائباً مقراً، معترفاً بذنبه، فكيف يرجع عن ذلك، ويكذب نفسه؟!
قال ابن المنذر:
"وليس في شيء من الأخبار أن ماعزاً رجع عما أقر به"(24).
وقال ابن حزم:
"أما حديث ماعز فلا حجة لهم فيه أصلاً، لأنه ليس فيه أن ماعزاً رجع عن الإقرار البتة، لا بنص، ولا بدليل، ولا فيه أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: إن رجع عن إقراره قُبِل رجوعه –أيضاً- البتة".(25)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وقد قيل في ماعز: إنه رجع عن الإقرار، وهذا أحد القولين فيه، في مذهب أحمد وغيره، وهو ضعيف والأول(26) أجود".(27)
وقال ابن حجر:
"وفي هذا الحديث من الفوائد: منقبة عظيمة لماعز بن مالك، لأنه استمر على طلب إقامة الحد عليه، مع توبته ليتم تطهيره، ولم يرجع عن إقراره، مع أن الطبع البشري يقتضي أنه لا يستمر على الإقرار بما يقتضي إزهاق نفسه على ذلك، وقوي عليه"(28).
فإن قيل: إذا لم يكن قوله –صلى الله عليه وسلم-: "هلا تركتموه" يدل على رجوعه عن إقراره، فعلى أي شيء يدل؟ (29)
قلنا: الجواب عن ذلك ما يلي:
أن قوله –صلى الله عليه وسلم-: "هلا تركتموه" لا يدل على أن ماعزاً –رضي الله عنه- رجع عن إقراره، وإنما يدل على أحد أمرين:
الأول: وهو أصحهما: أن ماعزاً رجع عن طلب إقامة الحد عليه، فيقبل منه ويترك، لكونه قد جاء تائباً معترفاً بذنبه، ومن هذه حاله لا تجب إقامة الحد عليه –أصلاً- إلا بطلبه.
وإذا رجع عن طلب إقامة الحد عليه، أو عن إقراره، قُبِل منه ذلك، وإذا لم يَعُدْ بعد رده والإعراض عنه –حين أقر- لم يُطلب، وإذا هرب في أثناء إقامة الحد عليه، ترك ولم يكمل عليه(30).
والثاني: أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- أراد الاستثبات منه، والتحقق، فقد يأتي بشبهة حقيقية موجبة للاشتباه(31).
ويدل لذلك ما جاء عن جابر –رضي الله عنه-.
فإن قيل:
إن قول بريدة –رضي الله عنه-: "كنا أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- نتحدث (32)يدل على أن ماعزاً لو رجع عن إقراره قبل منه.
قلنا: الجواب عن ذلك ما يلي:
أولاً: أن هذا الحديث ضعيف(33).
ثانياً: أن من الصحابة من يرى غير ذلك(34).
ثالثاً: أن التحدث الواقع بينهم مجرد ظن وحدس(35).
رابعاً: أن قبول رجوع ماعز والغامدية –لو رجعا- إنما هو لكونهم قد جاءا تائبين معترفين بذنبهما، وهكذا يفعل مع كل مقرٍّ قد جاء تائباً، بل لا تجب إقامة الحد عليه إلا بطلبه(36).
الدليل الثاني:
عن أبي أمية المخزومي أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أتي بلص قد اعترف اعترافاً، ولم يوجد معه متاع، فقال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "ما إخالك سرقت" قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً، فأمر به فقطع.. الحديث(37).
وجه الاستدلال:
أن كون الرسول –صلى الله عليه وسلم- يُعرِّض لهذا الرجل بالرجوع عن إقراره يدل دلالة واضحة على قبول الرجوع عن الإقرار بما يوجب حداً وإلا لما كان لذلك فائدة(38).
ويمكن مناقشته بما يلي:
أولاً: بأن هذا الحديث ضعيف(39).
ثانياً: بأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- إنما عرَّض له بالرجوع من باب الاستثبات(40).
وذلك أن هذا الرجل قد اعترف بالسرقة، ولم يوجد معه متاع، فيخشى كونه ظن أن السرقة تثبت بكل قليل وكثير. قال الخطابي:
"وجه هذا الحديث عندي –والله أعلم- أنه –صلى الله عليه وسلم- ظنَّ بالمعترف بالسرقة غفلةً، أو أنه ظن أنه لا يعرف معنى السرقة، ولعله قد كان مالاً له، أو اختلسه، أو نحو ذلك مما يخرج من هذا الباب عن معاني السرقة، والمعترف به قد يحسب أن حكم ذلك حكم السرقة، فوافقه، رسول الله –صلى الله عليه وسلم- واستثبت الحكم فيه"(41).(/2)
وقال ابن حزم: "لو صح هذا الخبر لما كان لهم فيه حجة، لأنه ليس فيه إلا "ما إخالك سرقت" ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- لا يقول إلا الحق، فلو صح أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال للذي سيق إليه بالسرقة "ما إخالك سرقت" لكنا على يقين من أنه عليه السلام قد صدق في ذلك،وأنه على الحقيقة يظن أنه لم يسرق، وليس في هذا تلقين له"(42).
ثالثاً: بأن ذلك خاص بمن رجع عن إقراره، ولم يكن ثمة قرائن تُكذِّبه، لأن هذا السارق لو رجع لم يكن ثمة قرائن تُكذبه.
رابعاً: بأن ذلك خاص بمن أقر، ثم أصر على إقراره واستمر –وإن لم يجيء تائباً- لأن إصراره على إقراره يدل على توبته، وأنه يريد التطهير، كحال ماعز والغامدية –رضي الله عنهما.
قال ابن القيم –فيما تضمنه هذا الحديث من أحكام-:
"التعريض للسارق بعدم الإقرار، وبالرجوع عنه، وليس هذا حكم كل سارق، بل من السُرَّاق من يقر بالعقوبة والتهديد"(43).
الدليل الثالث:
عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال –صلى الله عليه وسلم- "ادفعوا الحدود، ما وجدتم لها مدفعاً"(44) وعن عائشة –رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم"(45).
وعن علي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "أدرأوا الحدود بالشبهات"(46).
وجه الاستدلال:
أن الرجوع عن الإقرار بحد يُعد شبهة –لاحتمال كذبه في إقراره- فيدرأ الحد به(47).
ويمكن مناقشته بما يلي:
بأن هذه الأحاديث –وكذلك الآثار الواردة في هذا الباب- ضعيفة لا تقوم بها حجة(48).
قال ابن حزم:
"وأما "ادرأوا الحدود بالشبهات" فما جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قط من طريق فيها خير، ولا نعلمه أيضاً جاء عنه عليه السلام مسنداً، ولا مرسلاً، وإنما هو قول روي عن ابن مسعود وعمر فقط"(49)
وقال:
"جاء من طرق ليس فيها عن النبي –صلى الله عليه وسلم- نص، ولا كلمة، وإنما هي عن بعض أصحابه من طرق كلها لا خير فيها"(50).
وقال:
"وهي كلها لا شيء: أما طريق عبد الرزاق فمرسل، والذي من طريق عمر كذلك، لأنه عن إبراهيم عن عمر، ولم يولد إبراهيم إلا بعد موت عمر بنحو خمسة عشر عاماً، والآخر الذي عن ابن مسعود مرسل، لأنه من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، أما أحاديث ابن حبيب ففضيحة، ولو لم يكن فيها غيره لكفى، فكلها مرسلة.
فحصل مما ذكرنا أن اللفظ الذي تعلقوا به لا نعلمه روي عن أحد أصلاً، وهو "ادرأوا الحدود بالشبهات" لا عن صاحب، ولا عن تابع..." (51)
ويمكن الإجابة عن ذلك بما يلي:
أولاً: بأن ذلك قد صح عن عمر (52) وابن مسعود (53) –رضي الله عنهما.
ثانياً: بأن درء الحدود بالشبهات –وإن لم تصح الأحاديث والآثار الواردة- أصل متفق عليه بين علماء الأمة، وعليه العمل(54) لأن النصوص تدل على حرمة دم المسلم وعرضه، ومنع الإضرار به، والحط من سمعته وقدره، إلا بدليل واضح يعتمد عليه، وتدل أيضاً- أي النصوص على أن الأصل براءته حتى تقوم البينة عليه(55).
ويمكن مناقشة ذلك بما يلي:
أولاً: بأن كون ذلك –أي درء الحدود بالشبهات- أصل متفق عليه- غير مسلم به، لخلاف أهل الظاهر في ذلك(56).
قال ابن حزم:
"ذهب أصحابنا إلى أن الحدود لا يحل أن تدرأ بشبهة، ولا أن تقام بشبهة، وإنما هو الحق لله تعالى، ولا مزيد، فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة،... وإذا ثبت الحد لم يحل أن يدرأ بشبهة"(57).
ثانياً: بأن كون الحدود تدرأ الحد بكل شبهة، غير مسلم به كذلك، فلابد أن تكون الشبهة قوية، حقيقية، موجبة للاشتباه، موقعة في اللبس، وإلا لم يُقم حد على وجه الأرض. (58) قال الشوكاني:
"وليست الشبهة التي أمرنا بدرء الحد عندها إلا ما كانت موجبة للاشتباه، موقعه في اللبس، وإلا كان ذلك من إهمال الحدود التي ورد الوعيد الشديد على من لم يقمها"(59).
فهل الرجوع عن الإقرار شبهة موجبة للاشتباه، موقعة في اللبس؟!
قال الشوكاني:
"الرجوع ليس بشبهة تدرأ بها حدود الله"(60).
وقال:
"لا بد من أن يكون رجوعه محتملاً للصدق، حتى يكون شبهة له، وإلا كان من دفع ما قد تكلم به لسانه، وأقر به على نفسه بما لا يصح الدفع، وليست الشبهة التي أمرنا بدرء الحد عندها إلا ما كانت موجبة للاشتباه...." (61)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"إسقاط العقوبة بالتوبة –كما دلت عليه النصوص- أولى من إسقاطها بالرجوع عن الإقرار، والإقرار شهادة منه على نفسه، ولو قُبِل الرجوع لما قام حد بإقرار، فإذا لم تقبل التوبة بعد الإقرار –مع أنه قد يكون صادقاً- فالرجوع الذي هو فيه كاذب أولى" (62)
فالحاصل:(/3)
أن الرجوع عن الإقرار ليس بشبهة يدرأ بها الحد –ولا سيما إذا كانت القرائن تدل على كذبه فيه- لأن احتمال كذبه في الرجوع أقرب منه في الإقرار، إذ يبعد أن يكذب على نفسه، ويشهد عليها بالزنا أو بالسرقة –مثلاً- أما أن يكذب في رجوعه عن إقراره –ولا سيما إذا رأى أن الحد سوف يقام عليه- فهذا قريب، وقريب جداً(63).
الدليل الرابع:
قضاء الخلفاء الراشدين –رضي الله عنهم-
فعن ابن حريج قال: سمعت عطاء يقول: كان من مضى يؤتى بالسارق فيهم، فيقال له: أسرقت؟ قل: لا، أسرقت؟ قل: لا ولا أعلمه إلا سمَّى أبا بكر وعمر –رضي الله عنهما(64)
وعن معمر عن ابن طاووس عن عكرمة بن خالد قال: "أُتي عمر بن الخطاب برجل، فسأله أسرقت؟ قل: لا، فقال: لا، فتركه ولم يقطعه".(65)
وعن ابن جريح عن عكرمة بن خالد قال: "أُتي عمر بسارق قد اعترف، فقال عمر:إني لأرى يد رجل ما هي بيد سارق، قال الرجل: والله ما أنا بسارق، فأرسله عمر ولم يقطع".(66)
وجه الاستدلال:
أن هذه الآثار فيها التلقين بالإنكار، والتعريض بالرجوع عن الإقرار، مما يدل على قبول الرجوع عن الإقرار، وإلا لما كان لذلك فائدة.
ويمكن مناقشته بما يلي:
أولاً: بأن هذه الآثار ضعيفة، لا يصح منها شيء، ولا تقوم بها حجة"(67).
ثانياً: بأنه ليس في هذه الآثار ما يدل على قبول الرجوع عن الإقرار، وإنما فيها التلقين بالإنكار، خشية الإقرار بما يوجب الحد –كما في الأثرين الأولين- والتعريض بالرجوع عن إقرار حصل قبل وصول الأمر إلى الحاكم الشرعي. (68) –كما في الأثر الثالث- خشية الاستمرار عليه والإقرار مرة أخرى أمام الحاكم بما يوجب الحد.
ثالثاً: بأن ذلك خاص بمن أقر، وأصر على إقراره، لأن إصراره على إقراره واستمراره عليه، يدل على توبته وأنه يريد التطهير، كحال ماعز والغامدية –رضي الله عنهما- قال ابن القيم –عن قوله- صلى الله عليه وسلم- "ما إخالك سرقت".(69):
"التعريض للسارق بعدم الإقرار، وبالرجوع عنه، وليس هذا حكم كل سارق"(70)
رابعاً: بأن هذا خاص بمن رجع عن إقراره ولم يكن ثمة قرائن تكذبه.
الدليل الخامس:
القياس: قياس الرجوع عن الإقرار بما يوجب حداً على الرجوع عن الشهادة:
فكون الرجوع عن الشهادة مقبولاً، ويرفع أثرها، فكذلك الرجوع عن الإقرار بما يوجب حداً يقبل، ويرفع أثره"(71).
ويمكن مناقشته بما يلي: بأن هذا القياس قياس مع الفارق، ووجه ذلك أن يقال:
شهادة الشاهد على غيره يعتريها الخطأ والعدوان، بخلاف الشهادة على النفس، فإن الخطأ فيها والعدوان من أبعد ما يمكن، إذ يبعد أن يخطئ الإنسان على نفسه، ويشهد عليها بسرقة، أو بزنا –مثلاً- أو يعتدي عليها، ويلطخها بذلك، ويرضى بالعقوبة، وهو كاذب، لم يزن، ولم يسرق.
أما أن يخطئ في شهادته على غيره، أو يعتدي، فهذا قريب، وقريب جداً.
القول الثاني: عدم قبول رجوعه مطلقاً.
وإليه ذهب بعض السلف(72) وأهل الظاهر(73)، وهو رواية عن الإمام مالك(74) وقول للشافعي(75)، ورجحه ابن المنذر في الرجوع عن الإقرار بزنا(76) والشوكاني(77).
قال الخطالي:
"وقال مالك بن أنس، وابن أبي ليلى، وأبو ثور –رحمهم الله-: "لا يقبل رجوعه، ولا يدفع عنه الحد، وكذلك قال أهل الظاهر.
وروي عن الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وروي مثل ذلك عن جابر بن عبد الله".(78)
وقال البغوي: "وذهب جماعة إلى أن الحد لا يسقط عنه بالرجوع عن الإقرار وروي ذلك عن جابر. وقول الحسن البصري وسعيد بن جبير وإليه ذهب ابن أبي ليلى وأبو ثور. (79)
وقال ابن قدامة:
"وقال الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وابن أبي ليلى: يقام عليه الحد، ولا يترك"(80)
وقال: "وقال ابن أبي ليلى، وداود: لا يقبل رجوعه"(81).
وقال ابن المنذر:
وإذا أقر الرجل بالزنا مرة، ثم رجع لم يقبل رجوعه، وأقيم عليه الحد"(82)
وقال الشوكاني:
"وبهذا تعرف أنه لا دليل يدل على أن الرجوع عن الإقرار يسقط به الحد، وقد حصل المقتضي بالإقرار، فلا يسقط إلا بدليل يدل على سقوطه، دلالة بينة ظاهرة"(83)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –عن سقوط الحد عن ماعز –"يقولون: سقط الحد لكونه رجع عن الإقرار، ويقولون: رجوعه عن الإقرار مقبول، وهو ضعيف، بل فرق بين من أقر تائباً ومن أقر غير تائب"(84).
واستدلوا لذلك بما يلي:
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم".(85)
وجه الاستدلال:
أن المؤمن مأمور بالشهادة لله بالحق، ولو على نفسه، مما يدل على قبول شهادته على نفسه، وأنه لا يقبل منه الرجوع فيها، وإلا لم يكن لذلك فائدة(86).
قال ابن حزم:
"فكل من ذكرنا مأمور بالإقرار بالحق على نفسه، ومن الباطل بأن يفترض عليهم ما لا يقبل منهم"(87).(88)
ويمكن مناقشته بما يلي:(/4)
أولاً: بأن كون الرجوع عن الشهادة على النفس غير مقبول على كل حال، فهذا غير مسلم به، أما كونه لا يقبل في حق الآدمي، وقبل في حق الله سبحانه وتعالى فهذا مسلم به، لأن حق الله سبحانه وتعالى مبني على المسامحة، والمساهلة، بخلاف حق الآدمي، فإنه ليس كذلك، بل هو مبني على المشاحة(89).
ثانياً: بأن كون الرجوع عن الشهادة على النفس غير مقبول على كل حال، ولو كان في حق الله سبحانه وتعالى، فهذا مسلم به كذلك إلا إذا كان الرجوع من مقرٍّ قد جاء تائباً، لحديث ماعز، فإن فيه –وإن كان ماعز لم يرجع عن إقراره البتة- ما يدل على ذلك، أو كان ثمة شبهة قوية موجبة للاشتباه، للنصوص الدالة على حرمة دم المسلم وعرضه، إلا بدليل واضح يعتمد عليه، أو إذا لم يكن ثمة قرائن تدل على كذبه، لحديث أبي أمية، وفيه تعريض الرسول –صلى الله عليه وسلم- للسارق بعدم الإقرار، لأنه لو رجع لم يكن ثمة قرائن تكذبه.
الدليل الثاني:
حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني –رضي الله عنهما- وفيه قوله –صلى الله عليه وسلم- لأنيس: "واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها، فاعترفت، فرجمها"(90).
وجه الاستدلال:
أن كون الرسول –صلى الله عليه وسلم- لم يقل لأنيس "ما لتم ترجع عن اعترافها" مع دعاء الحاجة إليه هنا، يدل على عدم قبول الرجوع عن الإقرار مطلقاً.
ويمكن مناقشته بما يلي:
بأن كون الرجوع عن الإقرار غير مقبول مطلقاً، فهذا غير مسلم به، لمخالفته دلالة النصوص المتقدمة، من كونه يقبل إذا كان من مقر جاء تائباً، أو إذا لم يكن ثمة شبهة قوية موجبة للاشتباه أو إذا لم يكن ثمة قرائن تكذبه.
وعللوا لذلك بما يلي:
التعليل الأول:
أن الإنسان إذا شهد على نفسه بالزنا –مثلاً- فقد صدق عليه وصف الزاني، وثبت عليه الحد –حينئذ- فلا يمكن دفعه، لأنه قد علق على وصف ثبت بإقرار من اتصف به، فبمجرد ما ثبت الإقرار ثبت الحد، فما الذي يرفعه؟ (91)
ويمكن مناقشته بما يلي:
بأن الذي يرفعه هو ما تقدم من النصوص، الدالة على قبول الرجوع عن الإقرار، إذا كان من مقر جاء تائباً، أو كانت ثمة شبهة موجبة للاشتباه، أو إذا لم يكن ثمة قرائن تكذبه.
التعليل الثاني:
أنه يبعد أن يكذب الإنسان على نفسه، ويشهد عليها بالزنا مثلاً، أما أن يكذب في رجوعه عن إقراره –ولا سيما إذا رأى أن الحد سوف يقام عليه- فهذا قريب، وقريب جداً، بل هو الظاهر لكل أحد(92).
ويمكن مناقشته بما يلي:
بأن هذا مسلم به، ولذلك لم يقبل رجوعه على كل حال، وإنما يقبل في الأحوال الثلاثة –المتقدمة- التي دلت عليها النصوص.
القول الثالث: قبول رجوعه، إن كان له شبهة وما لا فلا.
وإليه ذهب الإمام مالك في إحدى الروايتين عنه(93)، وبه أخذ بعض أصحابه، كعبد الملك، وأشهب(94).
واستدل لذلك بما يلي:
الدليل الأول:
حديث ماعز –رضي الله عنه- وفيه أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال: "فهلا تركتموه، وجئتموني به" قال جابر –رضي الله عنه-: "ليستثبت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- منه، فأما لترك حد فلا"(95)
وجه الاستدلال:
أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- إنما قال: "فهلا تركتموه وجئتموني به" لينظر في أمره، ويستثبت: فقد يأتي بشبهة تدرأ عنه الحد، مما يدل على قبول رجوعه عن إقراره إن كان له شبهة وما لا فلا"(96).
ويمكن مناقشته بما يلي:
أولاً: بأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال ذلك لينظر في أمره ويستثبت: فقد يأتي بشبهة، فهذا غير مسلم به، بل قال ذلك لكون ماعز قد رجع عن طلب إقامة الحد عليه، فيقبل منه ذلك، لكونه قد جاء تائباً معترفاً بذنبه.
ثانياً: بأن كون الرجوع عن الإقرار مقبولاً إن كان له أي شبهة فهذا غير مسلم به كذلك، فلابد أن تكون الشبهة حقيقية موجبة للاشتباه.
قال الشوكاني:
"إنما أراد –صلى الله عليه وسلم- من رجوعه إليه الاستثبات، إذا جاء بشبهة مقبولة"(97).
ثالثاً: بأن كون الرجوع عن الإقرار مقبولاً إن كان له شبهة وما لا فلا، فهذا غير مسلم به كذلك، بل الرجوع عن الإقرار مقبول –وإن لم يكن له شبهة- إذا كان من مقرٍّ جاء تائباً، أو إذا لم يكن ثمة قرائن تكذبه، للنصوص الواردة في ذلك.
الدليل الثاني:
قوله –صلى الله عليه وسلم- لماعز حين أقر: "لعلك قبَّلت، أو غمزت، أو نظرت"(98).
وجه الاستدلال:
أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عرَّض له بذلك، عله يرجع عن إقراره، ويذكر لرجوعه شبهة تدرأ عنه الحد، مما يدل على قبول رجوعه إن كان له شبهة وما لا فلا.
ويمكن مناقشته بما يلي:
أولاً: بأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- إنما عرَّض له بذلك للاستثبات منه.
ثانياً: بأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- إنما عرَّض له بذلك، لكونه جاء تائباً معترفاً بذنبه، ومن هذه حاله يقبل رجوعه عن إقراره، ذكر شبهة أو لا.
ويمكن مناقشته –كذلك- بالوجهين الثاني والثالث، اللذين نوقش بهما الدليل الأول.
الدليل الثالث:
حديث علي –رضي الله عنه- في درء الحدود بالشبهات(99).
وجه الاستدلال:(/5)
أن هذا الحديث يدل على أن الحدود تدرأ بالشبهات، وعليه فإذا رجع عن إقراره، وذكر شبهة قُبل رجوعه، وما لا فلا.
ويمكن مناقشته –كذلك- بالوجهين الثاني والثالث، اللذين نوقش بهما الدليل الأول.
الترجيح:
الذي يظهر لي –والله أعلم بالصواب- أن الرجوع عن الإقرار بما يوجب حداً غير مقبول، إلا إن كان من تائب قد جاء معترفاً بذنبه يريد التطهير. (100) أو كان ثمة شبهة قوية موجبة للاشتباه، موقعة في اللبس(101)، أو لم يكن ثمة قرائن تكذبه(102).
قال شيخ الإسلام:
"وقد قيل في ماعز: إنه رجع عن الإقرار، وهذا أحد القولين فيه...وهو ضعيف، والأول أجود، وهؤلاء يقولون: سقط الحد لكونه رجع عن الإقرار، ويقولون: رجوعه عن الإقرار مقبول، وهو ضعيف، بل فرق بني من أقر تائباً ومن أقر غير تائب، فإسقاط العقوبة بالتوبة –كما دلت عليه النصوص- أولى من إسقاطها بالرجوع عن الإقرار، والإقرار شهادة منه على نفسه، ولو قبل الرجوع لما قام حد بإقرار، فإذا لم تقبل التوبة بعد الإقرار مع أنه قد يكون صادقاً فالرجوع الذي هو فيه كاذب أولى".(103)وقال:
"الرجوع عن الدعوى مقبول، والرجوع عن الإقرار غير مقبول، والإقرار الذي لم يتعلق به حق لله، ولا حق لآدمي هو من باب الدعاوى. فيصح الرجوع عنه".(104)
أما الإقرار الذي يتعلق به حق لله سبحانه وتعالى أو حق لآدمي فليس من باب الدعاوى، فلا يصح الرجوع عنه، ولايقبل.
هذا مفهوم كلامه –رحمه الله-.
وقال الشيخ الفقيه العلامة محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- في شرح البلوغ، باب حد الزنا:
"وقال بعض العلماء: إنه لا يقبل رجوعه عن الإقرار، ولا سيما إذا احتفت به قرائن، لأن ماعز –رضي الله عنه- لم يرجع، ولكنه هرب، بخلاف الراجع؛ لأن الراجع في الحقيقة متلاعب بالأحكام الشرعية، ومتلاعب بالحكام".
ثم قال –رحمه الله-:
"هل يمكن أن تأتي الشريعة الحكيمة بقبول رجوع مثل هذا؟ الجواب: أبداً لا يمكن".
ثم قال رحمة الله:
"ثم إنه إذا احتفت به القرائن لا يتجه إطلاقاً القول بجواز الرجوع، أو بقبول الرجوع".
ثم قال –رحمه الله-:
"إذا صرح في إقراره بالزنا وذكر القرائن التي تشهد لما صنع ثم نقول: يقبل رجوعه استدلالاً بحديث ماعز، فهذا بعيد جداً".
وقال –رحمه الله- في شرحه للبلوغ أيضاً، باب حد السرقة:
"فيكون القول الراجح الوسط في هذا إذا وجدت قرائن تشهد بأن رجوعه ليس بصحيح فإن رجوعه لا يقبل، وإن لم توجد فإنه يقبل رجوعه".
ثم قال –رحمه الله-
"وأما مع وجود القرينة فلا وجه لقبول رجوعه، ولا يمكن أن يكون هذا القول عملياً في أحوال الناس لا سيما مع كثرة السرقات".
وقال –رحمه الله- في شرحه للزاد، باب حد السرقة:
"هل نقول: إن عموم كلام الفقهاء حيث قالوا: "ولا ينزع عن إقراره حتى يقام عليه الحد" يقتضي أن هذا الذي رجع عن إقراره ووجد المال المسروق عنده ووصف السرقة هو بنفسه، فهو لم يقل: سرقت فقط بل ذهب بنا إلى المحل وأرانا كيف صنع فهل نقول: إن عموم كلام الأصحاب يقتضي أن يرفع عنه الحد، لأنه رجع، أو نقول: إن كلامهم هذا فيما إذا كان ثبوت السرقة مجرد إقرار أما مع وجود هذه القرائن التي ذكرها، ووجد المال عنده فهذا يشبه أن يكون بينةً، إن لم يكن أقوى من شهود الشاهدين فليس دونه، فالظاهر لي أن مثل هذه الصورة لا تنطبق على كلام المؤلف، لأن كلام المؤلف إذا كانت المسألة مجرد إقرار، أما مع وجود القرائن ووجود المال عنده وعلى حسب ما وصف تماماً فلا".
ثم قال –رحمه الله-:
"فالصواب إذاً أن الرجوع عن الإقرار غير مقبول مطلقاً، فكيف إذا احتفت به القرائن التي تدل على كذب الرجوع وأن السرقة واقعة تماماً".
ثم قال –رحمه الله-:
"وإذا ادعى الإكراه وكان يمكن أن يكره رفعنا عنه الحد".
وقال –رحمه الله- في شرحه للزاد، باب حد الزنا:
"إذا رجع وقال إني مكره، فإنه ينظر للقرينة فإن كان هناك قرينة عمل بها لأنه أحياناً يضرب حتى يقر، بدون اختياره".
وقال –رحمه الله-:
"والمهم أن درء الحدود بمثل هذه الشبهات البعيدة بعيد من الصواب، والإنسان يجب أن يسوس الأمة بما يمنع الفساد".
وقال –رحمه الله-:
"وأما حديث: "ادرءوا الحدود عن المسلمين بالشبهات ما استطعتم"، فهو حديث ضعيف لا تقوم به الحجة، وما أكثر ما يعتمد المتهاونون عليه في إقامة الحدود، كما جاءت حدود قد تكون مثل الشمس قالوا: قال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "ادرءوا... الحديث" حتى يجعلون ما ليس شبهة شبهة، ونحن باعتمادنا على الحديث نحتاج إلى أمرين:
أولاً: ثبوت الحديث، ثانياً: تحقيق المناط هل هذا شبهة أو غير شبهة...".
وقد سألته أعني الشيخ محمد بن عثيمين –رحمه الله- عن هذه المسألة أسئلة عدة:
السؤال الأول:
قال شيخ الإسلام –رحمه الله- في الفتاوى (16/32): إن ماعزاً –رضي الله عنه- لم يرجع عن إقراره، وإنه إنما جاء بنفسة تائباً معترفاً، وطلب إقامة الحد عليه فما رأيكم؟(/6)
فقال شيخ الإسلام –رحمه الله-: هذا هو الصحيح، فماعز لم يرجع عن إقراره، وإنما رجع عن طلب إقامة الحد عليه؛ لأن الرجوع عن الإقرار إنكار، وهو قد جاء تائباً معترفاً بذنبه يريد التطهير، فكيف يرجع عن إقراره وينكر ذلك، فلا شك أن ما ذكره –رحمه الله- هو الصحيح ا.هـ.
ثم قال –رحمه الله-: إن كثيراً من القضاة يخطئ في هذه المسألة، فتجد أنه يؤتى بالسارق –مثلاً- وقد اعترف بسرقته، واصفاً لها وصفاً دقيقاً عند الشرطة وعند الهيئة وعند القاضي ثم يوجد المسروق عنده، وكل القرائن تدل على أنه السارق، ثم إذا رجع عن إقراره قبل رجوعه ولم يقم عليه الحد، وللأسف فقد توسع القضاة في ذلك توسعاً عظيماً ا.هـ.
ثم قال –رحمه الله-:
ولقد أعجبتني كلمة لشيخ الإسلام –رحمه الله- في الفتاوى (16/32) حيث قال: لو قُبل الرجوع عن الإقرار لم يقم حد بإقرار على وجه الأرض، وصدق –رحمه الله- لأن كل مجرم يريد السلامة من العقاب ا.هـ.
فقلت: ما الضابط لعدم قبول رجوعه؟
فقال الشيخ –رحمه الله-: إذا دلت القرائن على كذبه في رجوعه فلا يقبل ا.هـ.
فقلت: قوله –صلى الله عليه وسلم- لماعز أنكتها؟ قل: لا، وقوله –صلى الله عليه وسلم- لعلك قبلت... الحديث؟
فقال الشيخ –رحمه الله-: كلنا يعرف ما فعله الرسول –صلى الله عليه وسلم- مع ماعز من إعراض وتعريض، وترديد، وقوله –صلى الله عليه وسلم-: "أبك جنون..." فهذا خاص به، ومن في حكمه، ممن جاء تائباً معترفاً بذنبه، لأن حاله مختلفة تماماً عن حال غيره ممن يقبض عليه بجرمه ثم يعترف ا.هـ.
فقلت: وحديث: "ادرءوا الحدود بالشبهات".
فقال الشيخ –رحمه الله-: أولاً نريد منك أن تصحح هذا الحديث، ثانياً: ما هي الشبهة التي يدرأ بها الحد؟ هل كل شبهة يدرأ بها الحد أم لابد من شبهة حقيقية؟ فلابد بارك الله فيك من شبهة حقيقية لا مجرد شبهة، كقولهم: إن من استأجر امرأة فزنى بها فلا حد عليه، فهل هذا صحيح؟ أ.هـ.
فأردت سؤاله في الموضوع نفسه فقال الشيخ –رحمه الله-: يا أخي لا تحرجني، ولا تدعني أقول كلاماً لا أود أن أقوله، وذلك لأني مستاء جداً من هذا الوضع، وغير راضٍ عنه إطلاقاً ا.هـ وكان ذلك يوم الاثنين 19/10/1418هـ وبحضور طلبة علم كبار.
السؤال الثاني:
لقد ذكر العلامة ابن مفلح –في الفروع (6/143) عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قد اختار قبول توبة من وجب عليه حد ولو في أثناء تنفيذ الحد، فلا يُكَّمل، وأن هربه فيه توبة، وذكره عنه أيضاً تلميذه العلامة ابن القيم –في زاد المعاد (5/33) -والعلامة المرداوي- في الإنصاف (10/303) فهل كلامه هذا خاص بمن حاله كحال ماعز أم أنه عام يشمل كل مقرٍ وكل من وجب عليه حد لو كان ببينة؟
فقال الشيخ –رحمه الله-: لا، هذا خاص بالمقر الذي ثبت عليه الحد بإقراره، وقد جاء بنفسه تائباً ا.هـ.
فقلت: إذاًَ شيخ الإسلام يقصد من جاء بنفسه تائباً، معترفاً بذنبه، ثم رجع عن إقراره، أو هرب أثناء تنفيذ الحد عليه(105)؟
فقال الشيخ –رحمه الله-: نعم، هذا معلوم ا.هـ
يوم الاثنين 10/7/1420هـ، ويوم الأحد 20/11/1420هـ.
السؤال الثالث:
إذا رجع المقر بما يوجب حداً عن إقراره فإنه لا يقبل؟
فقال الشيخ –رحمه الله-: نعم، أنا عندي أنه لا يقبل رجوعه، بل إن هذا مما يزيد الأمر وضوحاً وثبوتاً، لأنه يتلاعب بالقضاء ا.هـ.
فقلت: بعضهم يقول: إن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال: "هل تركتموه يتوب..." لأنه رجع عن إقراره؟
فقال الشيخ –رحمه الله- هذا فهم خاطئ، فإن ماعزاً لم يرجع عن إقراره، وإنما رجع عن طلب إقامة الحد عليه ا.هـ
ثم قال الشيخ –رحمه الله- إن من الخطأ العظيم جداً فيما يتعلق بحد السرقة أن يأتي السارق ويقر بسرقته ويصفها وصفاً دقيقاً مفصلاً، ثم إذا رجع قبل رجوعه ا.هـ.
فقلت: إنني أعزم –إن شاء الله- أن أكتب بحثاً عن هذه المسألة معتمداً على ما قلتموه لي، وذكرتموه في شرحكم للبلوغ والزاد؟
فقال الشيخ –رحمه الله- لا بأس ا.هـ يوم الثلاثاء 4/3/1421هـ.
السؤال الرابع:
إذا قبضت الجهات المختصة على رجل فأقر بالزنا باختياره وظهرت عليه آثار التوبة وجاء إلى المحكمة وصدق إقراره شرعاً، وأصر على إقراره مريداً التطهير فعرض له بالرجوع في جلسة الحكم، لكونه قد تاب، فرجع عن إقراره فهل يقبل ذلك منه؟
فقال الشيخ –رحمه الله-: الفقهاء يرون قبول رجوعه، وأن الحد يدرأ عنه ا.هـ.
فقلت له: إني أريد أن أعرف رأيكم في مثل هذا بناءً على اختياركم واختيار شيخ الإسلام في التفريق في هذه المسألة بين التائب وغيره؟
فقال الشيخ –رحمه الله- أنا أرى أنه لا يقبل رجوعه، لكني متردد في ذلك، لأن هذا تائب. ا.هـ يوم الأحد 30/3/1421هـ.
السؤال الخامس:
إذا شهد أربعة رجالٍ عدولٍ على رجل بأنه أقر أمامهم بالزنا بلا إكراه، ثم إنه أنكر ذلك أمام القاضي، فهل يؤاخذ بإقراره هذا؟
فقال الشيخ –رحمه الله- الآن قد ثبت إقراره شرعاً بهؤلاء الشهود، لكن يبقى هل يقبل رجوعه عن إقراره أم لا يقبل ا.هـ(/7)
ثم قال الشيخ –رحمه الله- لكن قد يقبل رجوعه إذا تاب قبل أن يصل إلى القاضي ا.هـ
ثم قلت للشيخ إذا شهد على إقراره أقل من أربعة أيعزر؟ فقال: الشيخ –رحمه الله- نعم، إذا لم يقر بذلك أمام القاضي، فمثل هذا يعزر ا.هـ يوم الأحد 20/11/1420هـ.
السؤال السادس:
ذكرتم –حفظكم الله- في شرح الزاد: أنكم لم تطلعوا على الآثار التي وردت عن الخلفاء الراشدين –رضي الله عنهم- في قبول الرجوع عن الإقرار، وقد راجعتها فوجدتها ضعيفة لا تقوم بها حجة، وفيها انقطاع، ومنها أثر عمر –رضي الله عنه- المشهور الذي دائماً ما يُحتج به فما رأيكم حفظكم الله؟
فقال الشيخ –رحمه الله- وهذا الأثر ضعيف أيضاً ا.هـ
يوم السبت 1/8/1421هـ.
السؤال السابع:
إذا كان القاضي يرى عدم قبول الرجوع عن الإقرار بما يوجب حداً فهل يجوز له أن يحكم برأي جمهور العلماء؟ لأجل أن لا تتأخر القضايا بسبب الأخذ والرد، ولئلا يخالف ما جرى عليه العمل.
فقال الشيخ –رحمه الله- أبداً، لا يجوز له ذلك، فلابد أن يحكم بما يراه صواباً، ولو أدى ذلك إلى تأخر القضايا ومخالفة المعمول به.ا.هـ
يوم السبت 26/8/1420هـ.
تنبيهات:
قال الشيخ بكر أبو زيد –حفظه الله- "صور الرجوع عن الإقرار بحد، باعتبار التصريح من عدمه على ما يلي:
1- صريح القول قبل الحكم.
2- صريح القول بعد الحكم وقبل الأخذ بالتنفيذ.
3- دلالة الفعل حال التنفيذ بالهروب مثلاً....
وقد ذهب الجمهور إلى قبول دلالة هذه الصور الثلاث على الرجوع فيترك، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الفتاوى (28/301)، وتلميذه ابن القيم كما في الهدي (3/206) (106)ا.هـ
وهنا نحب أن ننبه إلى ما يلي:
أولاً: أن شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- لا يرى قبول الرجوع عن الإقرار مطلقاً، بل يفرق بين من أقر تائباً، وبين غيره (107)-كما تقدم- وبناءً عليه فإنه لا يرى قبول الرجوع عن الإقرار من كل أحدٍ إذا كان بإحدى هذه الصور الثلاث، وهذا ثانياً.
ثالثاً: أنه –رحمه الله- قد ذكر في موضع الخلاف في هذه المسألة ولم يرجح(108)، وفي موضع آخر تكلم عن إقرار ماعز –رضي الله عنه- ومن في حكمه، ممن جاء تائباً معترفاً بذنبه، وأنه إن طلب إقامة الحد عليه أقيم، وإن ذهب لم يقم عليه(109)، وإن هرب في أثناء تنفيذ الحد عليه ترك، ولم يكَّمَل عليه(110) وهذا رابعاً.
فإن قيل: ألا يدل اختيار شيخ الإسلام الذي ذكره ابن القيم –في الهدي (5/33) على قبول الرجوع مطلقاً إذا كان بإحدى هذه الصور؟ وهو –أي اختياره- أن المقر إذا استقال في أثناء الحد وفرَّ ترك، ولم يقم عليه الحد، لأن ذلك توبة قبل تكميل الحد فلا يقام عليه كما لو تاب قبل الشروع فيه.
فالجواب: لا، لا يدل على ذلك، لأن المقصود بهذا الاختيار هو من جاء بنفسه مقراً تائباً يريد التطهير، ويدل لذلك ما يلي:
أولاً: أن شيخ الإسلام –رحمه الله- يرى التفريق بين هذا وبين غيره كما تقدم.
ثانياً: أن العلامة ابن القيم –رحمه الله- قد ذكر في هذا الاختيار أن شيخه لا يعتبر ذلك رجوعاً عن الإقرار، وإنما يعتبره توبة، كما ذكر ذلك أيضاً تلميذه العلامة ابن ملفح –رحمه الله- الذي هو أعلم الناس باختياراته، كما يقول ابن القيم، وهذا ثالثاً.
قال ابن مفلح –رحمه الله- الفروع (6/143) واختار شيخنا تقبل التوبة لو في الحد، فلا يُكَمَّل، وأن هروبه فيه توبة، ونقله المرداوي في الإنصاف (10/303).
رابعاً: أن شيخ الإسلام –رحمه الله- لا يرى سقوط الحد بالتوبة إذا كان بعد القدرة –كما تقدم-.
وبهذا يتبين بأن هذا الاختيار الذي نقله ابن القيم –رحمه الله- لا يدل على قبول الرجوع مطلقاً، لأنه خاص بمن فرَّ وهرب ورجع عن طلب إقامة الحد عليه –كما قاله الشيخ العلامة محمد بن عثيمين –رحمه الله- في جوابه لي على السؤال الثاني المتقدم.
أما ابن القيم –رحمه الله- فقد يقال: إن ظاهر كلامه- في الهدي (5/32-33) يشمل كل مقر، وإن لم يكن صريحاً في ذلك.
وقال الشيخ بكر –أيضاً-:
"قال القرطبي في تفسيره: "وفي قوله عليه السلام: لعلك قبلت أو غمزت إشارة إلى قول مالك: أنه يقبل رجوعه إذا ذكر وجهاً".
وهذا يجاب عنه: بأن ماعز –رضي الله عنه- لم يرجع حتى يكون سؤال النبي –صلى الله عليه وسلم- لاستكشاف رجوعه هل هو لشبهة أو لا؟..." ا.هـ.
وهنا ننبه إلى أنه ليس في كلام القرطبي هذا ما يدل على إثبات رجوع ما عز من عدمه، أما كونه دليلاً لقول الإمام مالك –رحمه الله- فلأنه يمكن أن يقال: إن الرسول –صلى الله عليه وسلم- أراد بقوله: "لعلك قبلت..." أن يرجع عن إقراره ذاكراً لذلك شبهة ووجهاً، حتى يقبل رجوعه.
وإلى هنا انتهى ما أردناه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
المراجع
1- الإجماع، لابن المنذر، دار الثقافة، الدوحة.
2- الأحكام الوسطى، لعبد الحق الأشبيلي، مكتبة الرشد، الرياض.
3- الاختيار لتعليل المختار، للموصلي، المكتبة الإسلامية استانبول.(/8)
4- الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، للبعلي ،دار المعرفة.
5- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت.
6- إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، مكتبة ابن تيمية، القاهرة.
7- الإقناع، لابن المنذر مكتبة الرشد، الرياض.
8- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، دار هجر.
9- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني، دار الكتب العلمية، بيروت.
10- بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد الحفيد، مكتبة ابن تيمية، القاهرة.
11- بلوغ المرام من أدلة الأحكام، لابن حجر، تحقيق الزهيري، مكتبة الدليل، الجبيل.
12- تقريب التهذيب، لابن حجر، دار العاصمة، الرياض.
13- التكميل لما فات تخريجه من إرواء الغليل، لصالح آل الشيخ، دار العاصمة، الرياض.
14- تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، لابن حجر مؤسسة قرطبة.
15- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، لمحمد الدسوقي، دار الفكر.
16- الروض المربع شرح زاد المستقنع، للبهوتي، مؤسسة الرسالة بيروت.
17- روضة الطالبين وعمدة المفتين، للنووي، المكتب الإسلامي بيروت.
18- زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت.
19- سنن ابن ماجة، للحافظ القزويني، دار الكتب العلمية، بيروت.
20- سنن أبي داود، للسجتاني، دار ابن حزم، بيروت.
21- سنن الترمذي لأبي عيسى الترمذي، المطبوع مع تحفة الأحوذي –دار الكتب العلمية-
22- سنن النسائي الصغرى، للحافظ النسائي المطبوع مع شرحه للسيوطي، دار المعرفة، بيروت.
23- سنن النسائي الكبرى، للحافظ النسائي، دار الكتب العلمية بيروت.
24- السنن الكبرى، للبيهقي، دار المعرفة بيروت.
25- السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، للشوكاني، لجنة إحياء التراث.
26- شرح الخرشي على مختصر سيدي خليل، لعبد الله الخرشي، دار الفكر.
27- شرح السنة، للبغوي، المكتب الإسلامي، بيروت.
28- شرح صحيح مسلم للنووي، مؤسسة قرطبة.
29- الشرح الكبير، لعبد الرحمن بن قدامة المقدسي، دار هجر.
30- صحيح البخاري، المطبوع مع فتح الباري، دار الريان للتراث، القاهرة.
31- صحيح الجامع الصغير، للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت.
32- صحيح سنن أبي داود، للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت.
33- صحيح مسلم المطبوع مع شرحه للنووي، مؤسسة قرطبة.
34- ضعيف ابن ماجه، للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت.
35- ضعيف سنن أبي داود، للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت.
36- ضعيف سنن النسائي، للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت.
37- الطرق الحكمية لابن القيم، دار الوطن.
38- عون المعبود، لمحمد أبادي، دار الكتب العلمية، بيروت.
39- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر، دار الريان للتراث، القاهرة.
40- فتح القدير، لابن الهمام، دار الكتب العلمية، بيروت.
41- الفتح الرباني، للساعاتي، دار إحياء التراث، بيروت.
42- الفروع، لابن مفلح، دار عالم الكتب، بيروت.
43- الكافي، لابن عبد البر، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض.
44- كشاف القناع عن متن الإقناع، للبهوتي، مكتبة النصر الحديثة، الرياض.
45- كشف الخفا ومزيل الإلباس، للعجلوني، دار الكتب العلمية، بيروت.
46- المبسوط، للسرخسي، دار الكتب العلمية، بيروت.
47- المجموع شرح المهذب "التكملة" لمحمد نجيب المطيعي، دار إحياء التراث العربي.
48- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع ابن قاسم، دار عالم الكتب، الرياض.
49- المحلى، لابن حزم، دار الفكر، بيروت.
50- مختصر سنن أبي داود، للمنذري، دار المعرفة، بيروت.
51- المستدرك، للحاكم، دار الكتب العلمية، بيروت.
52- مسند الإمام أحمد، تحقيق أحمد شاكر، دار المعارف، مصر.
53- مشكاة المصابيح، للتبريزي، تحقيق الألباني، المكتب الإسلامي.
54- المصنف، لعبد الرزاق، المكتب الإسلامي بيروت.
55- المصنف في الأحاديث والآثار، لابن أبي شيبة، دار الكتب العلمية.
56- معالم السنن، للخطابي، دار المعرفة، بيروت.
57- المغني، لموفق الدين ابن قدامة، دار هجر، مصر.
58- مغني المحتاج، للشربيني، المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة.
59- منتهى الإرادات للفتوحي، مؤسسة الرسالة.
60- منهاج السنة، لشيخ الإسلام ابن تيمية.
61- نيل الأوطار، للشوكاني. دار زمزم، الرياض.
(1) حرف الباء في "بما" متعلق ب" الإقرار": أي أن المذنب أقر لدى القاضي بما يوجب حداً عليه، ثم رجع عن إقراره، فهل يقبل هذا الرجوع أو لا؟
(2) انظر بدائع الصنائع (9/265- وفتح القدير (5/206-209)، والاختيار (4/83-84).
(3) انظر روضة الطالبين (10/95-143،96) ومغني المحتاج (4/150)، والمجموع (22/271).
(4) انظر المغني 12/ 466،379،361 والفروع (6/60) والإنصاف (26/207، 560).
(5) انظر الكافي لابن عبد البر (2/1070)، وبداية المجتهد (4/385) وشرح الخرشي (8/80) وحاشية الدسوقي (4/319).(/9)
(6) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق..الخ (10/301) فتح برقم (5271) وفي كتاب الحدود، باب لا يرجم المجنون، (12/123) برقم (6815) وفي باب سؤال الإمام المقر: هل أحصنت؟ (12/139) فتح، برقم (6825) ومسلم في كتاب الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا (11/276. 281) نووي برقم (1691) وبرقم (1692) (1694).
(7) أخرجه مسلم، في كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا، (11/285) نووي برقم (1695).
(8) أخرجه البخاري، في كتاب الحدود، باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت؟ (12/138) فتح برقم (6824) ومسلم، في كتاب الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا، (11/279)، نووي برقم (1692).
(9) أخرجه الإمام أحمد في المسند (19/41) والترمذي، وحسنه، في أبواب الحدود ، باب ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع، (4/577) تحفة، برقم (1450) والنسائي في السنن الكبرى، في كتاب الرجم، باب إذا اعترف بالزنا ثم رجع عنه، (4/290)، برقم (7204/1) والحاكم في مستدركه (4/404) ، في كتاب الحدود، وصححه، ووافقه الذهبي، كلهم من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- وصححه الألباني، في الإرواء (7/358)، وفي صحيح سنن أبي داود (3/836) وصححه أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (19/41).
(10) أخرجه أبو داود، في كتاب الحدود، باب رجم ماعز، (4/373)، برقم (4419) والنسائي في السنن الكبرى الرجم باب إذا اعترف بالزنا ثم رجع عنه (4/290-291) برقم (7205/2) والحاكم في مستدركه (4/404) في كتاب الحدود، وصححه ووافقه الذهبي، كلهم من حديث نعيم بن هزال، وصححه الألباني في الإرواء (7/358)، وفي صحيح الجامع (2/1184)، وفي تحقيقه للمشكاة (2/1060).
(11) انظر بدائع الصنائع (9/265) وبداية المجتهد 4/385).
(12) انظر بدائع الصنائع (9/265)، والمغني (12/362،312).
(13) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (16/32،31)، 28/301). والاختيارات الفقهية ص(364،297)، والفروع (6/14)، وزاد المعاد (5/55،33،32) وإعلام الموقعين (2/69-70) والإنصاف (27/35)، وفتح الباري 12/130،129،128،127) .
(14) أنظر المحلى (7/103) وشرح صحيح مسلم للنووي (11/277) وفتح الباري 12-126-128، والسيل الجرار (4/291/317،298).
(15) أخرجه البخاري، في كتاب الحدود، باب سؤال الإمام المقرَّ: هل أحصنت؟ (6825)، (12-139)، فتح، ومسلم، في كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا، (11/277،276)، برقم (1691)
(16 ،17) أخرجه مسلم، في كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا (11/284-286)، نووي، برقم (1695).
(18) أخرجه أبو داود، في كتاب الحدود، باب رجم ماعز، (4/374)، برقم (4420) والنسائي في السنن الكبرى، كتاب الرجم، باب إذا اعترف بالزنا ثم رجع، برقم (7207/4)، 4/291-292)، وحسنه الألباني: في صحيح سنن أبي داود (3/836)، وقال في الإرواء (7/354) وهذا إسناد جيد.
(19) فتح الباري (12/128)
(20) السيل الجرار (4/291).
(21) أخرجه أبو داود، في كتاب الحدود، باب رجم ماعز (4/379) برقم (4434)، وضعفه الألباني في الإرواء (8/27-28) وفي ضعيف سنن أبي داود ص(441)
(22) تقدم تخريجه في الهامش (17).
(23) أخرجه مسلم، في كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا، (11/285-286)، برقم (1695).
(24) تقدم تخريجه في الهامش (9).
(25) الإقناع لابن المنذر (1/339).
(26) المحلي (7/103).
(27) وهو أنه لم يرجع عن إقراره، وإنما جاء تائباً، وشهد على نفسه، واختار إقامة الحد عليه، فإذا رجع عن ذلك –أي من طلب إقامة الحد عليه –قبل منه، وترك، لحديث: "فهلا تركتموه"
(28) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (16/31-32)
(29) فتح الباري (12/127).
(30) انظر المبسوط (9/94)، وبدائع الصنائع (9/265)، والمغني (12/362،312)، وكشاف القناع (6/84-85)، وشرح صحيح مسلم للنووي (11/278).
(31) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام (16/31)، والفروع (6/143)، وزاد المعاد (5/33،32) والإنصاف (27/35).
(32) انظر السيل الجرار (4/317،316،291،171)
(33 ) سبق تخريجه في الهامش (20)
(34) انظر إرواء الغليل (8/27-28).
(35) انظر المحلى (7/103)، ومعالم السنن (6/345) وشرح السنة للبغوي (10/291).
(36) انظر المحلى (7/103-104)، والسيل الجرار (4/317)
(37) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام (16/31-32، 28/301)، وإعلام الموقعين 2/69-70.(/10)
(38) أخرجه أبو داود، في كتاب الحدود، باب التلقين في الحد (4/353) برقم (4380) والنسائي في الصغرى، في كتاب قطع السارق، باب تلقين السارق (8/438) سيوطي برقم (4892) وابن ماجة، في كتاب الحدود، باب تلقين السارق (2/866) برقم (2597)، قال الخطابي في معالم السنن (6/217): "في إسناد هذا الحديث مقال، والحديث إذا رواه مجهول لم يكن حجة، ولم يجب الحكم به" قال المنذري –في مختصر سنن أبي داود (6/218): "وكأنه –يعني الخطابي- يشير إلى أن أبا المنذر مولى أبي ذر لم يرو عنه إلا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة من رواية حماد بن سملة" قال عبد الحق الأشبيلي في الأحكام الوسطى (4/98)- "أبو المنذر: لا أعلم روى عنه إلا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة" وقال ابن حزم في المحلى (12/51) "أما حديث عماد بن سلمة، ففيه أبو المنذر لا يدرى من هو، .. وهو أيضاً مرسل"، وضعفه الألباني في الإرواء (8/79)، وذكر عن الذهبي قوله عن أبي المنذر: إنه لا يعرف، وضعفه الألباني كذلك في ضعيف أبي داود 435 وفي ضعيف النسائي ص206 وفي ضعيف ابن ماجه (1/206) وقال الأرناؤوط –في تحقيقه لزاد المعا: "في سنده أبو المنذر مولي أبي ذر، وهو مجهول، وباقي رجاله ثقات" وضعفه الزهيري في تحقيقه للبلوغ (2/147)، وقال "أبو المنذر مجهول، بل قال عنه الحافظ نفسه في التقريب: "مقبول" فكيف يقول هنا- يعني في البلوغ (2/147) "رجاله ثقات" وقد ذكر ابن حجر قوله عن أبي المنذر: إنه مقبول في التقريب ص1211، والمقبول عنده: "من ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، بشرط أن يتابع، وإلا فهو ليِّن الحديث" بتصرف يسير من التقريب ص81.
(39) انظر المبسوط (9/94) وبدائع الصنائع (9/265)، والمغني (12/466).
(40) انظر معالم السنن (6/217-218)، والمحلى (12/51)، وتلخيص الحبير (4/124-125)، وإرواء الغليل (8/79)، والتكميل لما فات تخريجه من إرواء الغليل ص172.
(41) انظر معالم السنن (6/217)، ونيل الأوطار (7/160)، والفتح الرباني (16/113).
(42) معالم السنن (6/127).
(43) المحلى (12/51-52).
(44) زاد المعاد (5/55).
(45) أخرجه ابن ماجة، في كتاب الحدود، باب الستر على المؤمن ودفع الحدود بالشبهات (2/850)، برقم (2545)، وضعفه ابن حزم في المحلى (12/59)، وابن حجر في البلوغ (2/143)، وفي التخليص (4/105)، والألباني في الإرواء (8/25-26).
(46) أخرجه الترمذي في أبواب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود (4/572) تحفه برقم (1444) والحاكم في كتاب الحدود (4/426) برقم (8163/140)، وضعفه ابن حزم في المحلى (12/187،59) وابن حجر في البلوغ (2/143) وفي التخليص (4/105)، والألباني في الإرواء (8/25).
(47) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8/238)، وقال: في هذا الإسناد ضعف" فيه المختار بن نافع، قال عنه البخاري: منكر الحديث، وقال ابن حجر في التقريب ص926: "ضعيف".
أنظر المحلى (7/104، 12/59، 187) وتلخيص الحبير (4/105) وإرواء الغليل (8/25-26) وكشف الخفاء (1/71-72)
(48) انظر بدائع الصنائع (9/265) والمغني (12/362).
(49) انظر المحلي (7/12،104/187،59، وتلخيص الحبير (4/105) وكشف الخفا (1/71-72) وإرواء الغليل (8/25-26).
(50) المحلى (7/104).
(51) المحلى (12/59)
(52) المحلى (12/59)
(53) "رواه أبو محمد ابن حزم في كتاب الإيصال من حديث عمر موقوفاً عليه بإسناد صحيح، وفي ابن أبي شيبة –"برقم (8542) من طريق إبراهيم النخعي عن عمر: لأن أخطئ في درء الحدود بالشبهات، أحب إلى من أن أقيمها بالشبهات" تلخيص الحبير (4/105) قال ابن حزم –في المحلى (12/59): إنه مرسل لأنه عن إبراهيم عن عمر، ولم يولد إبراهيم إلا بعد موت عمر بنحو خمسة عشر عاماً" بتصرف يسير.
(54) أخرجه البيهقي، في السنن الكبرى 8/238) وقال: إنه أصح ما في الباب، وقال ابن حزم في المحلى (12/59): "إنه مرسل، لأنه من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود" بتصرف يسير.
انظر التخليص (4/105)، والنيل (7/125)، وكشف الخفاء (2/71-72) والإرواء (8/25-26).
(55 -56) انظر الإجماع لابن المنذر ص13، وبداية المجتهد (4/373) والمغني 12/344)، والسيل (4/297).
(57) وخلافهم معتبر –ولاشك- وليس أهل الرأي بأولى منهم.
(58) المحلى (12/57-58).
(59) انظر السيل الجرار (4/170-171)
(60) انظر المرجع السابق (4/170-171).
(61) انظر المرجع السابق (4/316)
(62) انظر المرجع السابق (4/170-171)
(63) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (16/32).
(64) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (16/31-32)، والسيل الجرار (4/170-171).
(65) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/515)، برقم (25571) وعبد الرزاق في مصنفه (10/224-225)، برقم (18919) وفي سنده انقطاع، قال الألباني –في الإرواء (8/79) "وإسناده إلى عطاء صحيح".(/11)
(66) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/224-225) برقم (18920) وإسناده ضعيف للانقطاع بين عكرمة وعمر، فإنه لم يسمع منه، انظر الإرواء (8/79).
(67) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/515)، برقم (28570) قال الألباني –في الإرواء (8/79) –"إسناده ضعيف للانقطاع بين عكرمة وعمر، فإنه لم يسمع منه، كما قال أحمد، وقال أبو زرعة: عكرمة بن خالد عن عثمان مرسل".
(68) انظر تلخيص الحبير (4/125-127) وإرواء الغليل (8/79-80).
(69) أي لم يكن أمام الحاكم.
(70) سبق تخريجه في الهامش (37)
(71) زاد المعاد (5/55).
(72) انظر المغني (12/362-466) والشرح الكبير (26/560،209).
(73) انظر معالم السنن (6/245) وشرح السنة للبغوي (10/291) والمبسوط (9/94) وفتح القدير (5/208) وبداية المجتهد (4/385) والمغني (12/466،361) ونيل الأوطار (7/123).
(74) انظر المحلى (7/103-104).
(75) انظر الكافي لابن عبد البر (2/1070)، وبداية المجتهد (4/385) وحاشية الدسوقي (4/319).
(76) انظر روضة الطالبين (10/95-143،96)، ومغني المحتاج (4/150).
(77) انظر الإقناع لابن المنذر (2/339).
(78) انظر السيل الجرار (4/317،171،170)
(79) معالم السنن (6/245)
(80) شرح السنة للبقوي (10/291)
(81) المغني (12/361)
(82) المرجع السابق (12/466)
(83) الإقناع لابن المنذر (2/339)
(84) السيل الجرار (4/317).
(85) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (16/32).
(86) سورة النساء الآية 135
(87) انظر المحلى (7/105)، والسيل الجرار (4/317).
(88) أي إذا حصل الرجوع عنه.
(89) المحلى (7/105).
(90) انظر المغني (12/262)، وشرح صحيح مسلم للنووي (11/279).
(91) أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب الاعتراف بالزنا، برقم (6827)، (6828 ،12/140) فتح، ومسلم في كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا (11/293-294) نووي، برقم (1697)، (1698).
(92) انظر المحلى (12/57)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام (16/32) والسيل الجرار (4/170-317،171).
(93) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام (16/32) والسيل الجرار (4/170-317،171).
(94) انظر الكافي لابن عبد البر (2/1070) وبداية المجتهد (4/414،385)
(95) انظر حاشية الدسوقي (4/319)
(96) سبق تخريجه في الهامش (17).
(97) انظر السيل الجرار (4/316-317) وعون المعبود (12/68).
(98) السيل الجرار (4/317)
(99) تقدم تخريجه في الهامش (7).
(100) تقدم تخريجه في الهامش (46).
(101) ومثله –في ظني- من قبض عليه ثم أقر، وأصر على إقراره، مريداً بذلك التطهير، وظهرت عليه آثار التوبة، ثم رجع عن إقراره، ولا يعني ذلك أن الحد يسقط بالتوبة بعد القدرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاوى (10/374) "من تاب من الكفار، والمحاربين، وسائر الفساق، قبل القدرة، عصم دمه، وأهله، وماله، وكذلك قاطع الطريق، والزاني والسارق، والشارب: إذا تابوا قبل القدرة عليهم؛ لحصول المقصود بالتوبة، أما إذا تابوا عبد القدرة، لم تسقط العقوبة كلها، لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الحدود، وحصول الفساد، ولأن هذه التوبة غير موثوق بها" وقال كذلك: "التائب بعد القدرة عليه باق فيمن وجب عليه الحد، للعموم والمفهوم، والتعليل" (28/301) وهذا اختيار ابن القيم –كذلك- في الإعلام (2/69-70) وقال شيخ الإسلام –رحمه الله- أيضاً: "إن تاب من الزنا والسرقة، أو شرب الخمر، قبل أن يرفع إلى الإمام: فالصحيح أن الحد يسقط عنه، كما يسقط عن المحاربين بالإجماع إذا تابوا قبل القدرة" (34/180) ومثله مفهوم قوله: "لو تاب الزاني والسارق، ونحوهما بعد أن يرفعوا إلى الإمام فإنه لا بد من إقامة الحد عليهم.." (35/110)، أما المذهب: ففي الإنصاف (27/31-33): سقوط –أي حد الشرب والزنا والسرقة –بالتوبة قبل إقامته، وعليه أكثر الأصحاب، قال ابن مفلح –في الفروع (6/143) اختاره الأكثر، وفي الكشاف ومتنه (6/154)، والمنتهى (5/162)،والروض المربع ص679: سقوطه –أي حد الزنا والشرب والسرقة- بالتوبة قبل ثبوته عند حاكم.
(102) كادعاء الإكراه عليه مع إمكانه، وإمكانه ربما يكون في الإقرار المصدق شرعاً، بخلاف الإقرار الذي يعقبه في جلسة الحكم فليس كذلك.
(103) فإن كان ثمة قرائن تكذبه لم يقبل رجوعه، كمن أقر بالسرقة، ذاكر الصفة، والكيفية ووجد المتاع المسروق عنده، ثم رجع بعد ذلك عن إقراره.
قال ابن القيم في الطرق الحكمية في ص6: "ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المسروق مع المتهم، وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار" وقال في ص9 وفي ذلك دليل على صحة إقرار المكره إذا ظهر معه المال، وأنه إذا عوقب على أن يقر بالمال المسروق فأقر به وظهر عنده قطعت يده، وهذا هو الصواب بلا ريب، وليس هذا إقامة للحد بالإقرار الذي أكره عليه، ولكن بوجود المال المسروق الذي توصَّل إليه بالإقرار".
(104) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (16/31-32).
(105) الاختيارات الفقهية ص368.(/12)
(106) انظر الفتاوى 16/31-32، 10/28،376،374 /300-34،301 /35،180 /110، ومنهاج السنة 6/257
(107) أثر الرجوع عن الإقرار بحد ص11-12-0
(108) انظر الفتاوى 16/31-32،28/301.
(109) انظر المصدر السابق 28/333-334.
(110) انظر المصدر السابق 16/31-32، 28/301.
(111) انظر المصدر السابق، والفروع 6/143، وزاد المعاد 5/33، والإنصاف 10/303.(/13)
الرحمة المهداة
(الشبكة الإسلامية)
صلاة الله وسلامه عليك يا سيدي يا رسول الله، يا نبي الرحمة والهدى، يا من أرسلك الله رحمة للعالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107]، فأنت رحمة مهداة ونعمة مسداة، كما أخبرت بقولك: "إنما أنا رحمة مهداة"؛ كأن الرحمة اجتمعت وتمثلت فكنت أنت هي وهي أنت .
فبعثتك رحمة ، هدى الله بك من الضلال، وأنار بك من الظلمات، وأحيى بك من موات، كيف كان العالم قبل بعثتك، ثم كيف صار بنور هدايتك؟
حديثك رحمة يا من قلت " الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ".
سيرتك رحمة يا من عفوت عمن ظلم ووصلت من قطع و أعطيت من منع
نعم أنت رحمة و الدين الذي بعثت به رحمة ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ، والكتاب الذي أنزله الله عليك هدى ورحمة {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الإسراء:82].
سماك الله يا سيدي رءوفًا رحيمًا {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة:128].
فكنت رحيمًا بأصحابك رفيقًا حتى بأعدائك، حريصًا على هدايتهم. {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:3]. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران:159].
كان همك الأكبر ومقصودك الأعظم هداية الناس ونفعهم، رحمة بهم، وشفقة عليهم من غضب الله، ومن يحلل عليه غضب الله فقد هوى .
لما قيل له ادع على المشركين فقال: "إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعانًا" ، ولما جاءه الطفيل بن عمرو يطلب منه أن يدعو على دوس فقال: "اللهم اهدِ دوسًا وائت بهم".
ولما جاءه ملك الجبال يريد أن يهلك أهل مكة الذي آذوه وأصحابه بعد رجوعه من الطائف فقال: "لا لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئًا".
ودعا لقومه واعتذر عنهم بعد أن شجوا رأسه وكسروا سنَّه في غزوة أحد فقال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
ولما قال سعد بن عبادة وهو رافع لأحد الرايات في جيش فتح مكة: اليوم يوم الملحمة. فأخذ منه صلى الله عليه وسلم الراية وأعطاه لولده قيس وقال: "بل اليوم يوم المرحمة". وأمر الجيش ألا يقاتل إلا من قاتله، ودخل مكة فاتحًا منصورًا يحمد الله على نصره ويشكره على فضله، وتمكن من أعداء الأمس الذين أخرجوه وأصحابه وأخذوا أموالهم وسفكوا دماء بعضهم، لكنه صلى الله عليه وسلم يريد لهم الخير و الهداية، فسامحهم وعفا عنهم وقال لهم: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الرحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء". فكان ذلك سببًا في إسلام الجم الغفير ، وكم للعفو والسماحة من أثر بالغ في قلوب البشر ، فأي عفوا هذا وأية رحمة تلك وأي كظم للغيظ هذا الذي لم تعرف له البشرية على طول الزمان وعرضه مثيلا ؟
وقبلت ياسيدي إسلام وحشي بن حرب قاتل عمك حمزة وإسلام عكرمة بن أبي جهل وهبار بن الأسود وكعب بن زهير وغيرهم ممن كان لهم جرائم في حق الإسلام ورسوله والمسلمين، فصلاة الله وسلامه عليك بأبي أنت وأمي، وصدق الله إذ قال {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4].
هؤلاء الجاهلون – والناس أعداء ما جهلوا – الذين رسموا هذه الرسوم الوقحة بالدانمارك – تبت أيديهم – ما عرفوا سيرته وما قرأوا شيئًا عن الإسلام، ووالله لو عرفوا سيرته ومواقفه ما فعلوا مافعلوا ، إن كانوا طلاب حق وأهل إنصاف.
لو نظروا في دولة الإسلام الأولى بالمدنية لعلموا أنها إنما قامت بالدعوة وافتتاح القلوب وهداية النفوس، ولعلموا أن الإسلام دين خير ورحمة ورسالة بر وسلام للعالمين، جاء الإسلام بالتوحيد والعفاف والصلة والإحسان إلى الخلق بعد أن كان المشركون يعبدون الأصنام ويئدون البنات وهن أحياء، ويشربون الخمور، ويتقاتلون لأتفه الأسباب، ضلال في التصور، وضلال في العقيدة، وضلال في السلوك والأخلاق، فدعاهم صلوات ربي وسلامه عليه بالحكمة والموعظة الحسنة وصبر وصابر، وأمر أصحابه بالصبر على أذى المشركين ، فقد آذوهم إيذاءً شديدًا، وعذبوهم عذابًا كبيرًا، كما حصل لبلال وياسر وسمية وعمار وغيرهم، وأخرجوهم من ديارهم، وأخذوا أموال بعضهم، وحتى بعد أن هاجر إلى المدينة صلوات ربي وسلامه عليه لم يتركوه وأصحابه، بل حزبوا الأحزاب، وجمعوا الجموع، لمقاتلته وأصحابه في المدينة، لكن الله سبحانه رد كيدهم في نحورهم ورجعوا خائبين خاسرين.(/1)
وفي المدينة عاهد الطوائف اليهودية التي كانت فيها فلم يفوا بالعهد وغدروا في أحلك الظروف، فما كان من بد في التعرض لهم وحماية الناس من شرهم، حتى أهل النفاق الذين هم أخطر الأعداء على الإسلام والمسلمين على معرفته بهم، إلا أنه لم يتعرض لهم خشية أن يتحدث الناس أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، فقدم ترك معاملة المنافق بل رأس النفاق بما يستحقه من العقوبة بل عامله بضد ذلك إلى أن مات بل بعد ما مات أيضاً ولكن مصلحة الرحمة للعالمين، ونشر الحق بينهم وتأليفهم عليه وترغيبهم في قبوله كانت هي المقدمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي المقدمة عند أتباعه الواردين عليه حوضه إن شاء الله تعالى ، فقال: "إن الله خيرني – يعني قول الله تعالى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}[التوبة:80] فقال: سأزيد على السبعين حتى نهى عن ذلك بقوله سبحانه:(وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة:84)
ومن تأمل في سيرته ومواقفه مع أعدائه يعلم أنه صلى الله عليه وسلم ما تطلع أبدًا وما بدأ قتالهم ؛ بل يجد أنهم هم البادئون، أو أنهم نقضوا العهد ابتداءً، أو تحرشوا بالدولة الإسلامية، أو أحد رعاياها، ولو أحصى المنصف والمدقق من أهل السير والتاريخ عدد القتلى في معارك الإسلام في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحصى ضحايا الحرب العالمية الأولى والثانية لعلم علم اليقين أين الإرهاب، وأين يسكن؟
يذكر المتخصصون أن ضحايا الحربين العالميتين حوالي 78 مليون من البشر منهم 44 مليون مدني !!!!! أبيدوا بأبشع أنواع الأسلحة، وسائلوا "هيروشيما وناجازاكي" ، سائلوا عن المجازر البشرية في صابرا وشاتيلا وقانا وما يفعله اليهود بالفلسطينين صباح مساء ، قتلوا الشيخ أحمد ياسين والدكتور الرنتيسي ووووو ومع ذلك هم متحضرون!!!!
سائلوا الحروب الصليبية و محاكم التفتيش في أسبانيا والمجازر التي حدثت قريبا في البوسنة والهرسك وكوسوفا وووو ومع ذلك هم متحضرون !!!!
ولو أحصينا ضحايا الحرب الأفغانية و العراقية الأخيرتين من البشر لعلمنا أين الإرهاب و أين يسكن !!!
سيدي يا رسول الله أنت الرحمة المهداة والنعمة المسداة ، عصمك الله من الناس وكفاك المستهزئين فقال سبحانه ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ) (الحجر:95) ، ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(التوبة: من الآية61) وقال سبحانه( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (الكوثر:3) ، وقال جل شأنه ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:137)
، وقال سبحانه ( وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)(النساء: من الآية113) .(/2)
الرد على إفتراءات برنامج زكريا بطرس فى قناة الحياة الفضائية 3( أسئلة عن الإيمان )
( 21 )
يسعدنا أن تتجدد معكم هذه اللقاءات لنبحث معا ما قاله جناب القمص زكريا بطرس في الحلقات التي قدمها باسم "أسئلة عن الإيمان"، ونحن نرد على جناب القمص بهذه الحلقات التي اخترنا لها اسم "أجوبة عن الإيمان" لتكون تفنيدا وتحليلا لما قاله جناب القمص، ونكشف بها الخلل والخطأ الذي وقع فيه جنابه وهو يقدم لنا صيغة المسيحية التي يؤمن بها. وهذه هي الحلقة السادسة التي نتناول فيها موضوع الثالوث، لأن جناب القمص يزعم أن المسيحية التي يؤمن بها هي دين توحيد. طبعا المسيحية الحقيقية هي بلا شك دين توحيد، وعقيدة التثليث عقيدة دخيلة على المسيحية، ولكن جناب القمص حاول على مدى أربع حلقات أن يقنعنا بأن عقيدة الثالوث عقيدة تقوم على توحيد الله تعالى، فإذا سألته كيف يكون الله ثالوثا ويكون واحدا في نفس الوقت، يقول، وهذا نص كلامه:
"المسيحية تقول إن الله واحد، موجود بذاته، حكيم بعقله، حيّ بروحه. ودي حاجات ذاتية زي ما اتكلمنا في الحلقة اللي فاتت، وديّة الثالوث بتاعنا. صفات ذاتية، لا يمكن إن الله ما يكونش كامل فيها".
ونحن نقول لجناب القمص: لقد أحسنت! فقد لخصت في جملة واحدة عقيدة الثالوث التي تؤمن بها. وإذا سمح لي جناب القمص أن أستعير بعض كلماته لأقدم وجهة نظر الإسلام في التوحيد الذي يؤمن به المسلمون لكي يرى الفرق بين عقيدة الإسلام والعقيدة التي يقدمها هو عن المسيحية. وسوف أستعمل نفس الجملة التي قالها جناب القمص مع تغيير بعض الكلمات التي لا بد من تغييرها لكي تكون الجملة معبرة عن وجهة النظر الإسلامية في التوحيد، فأقول:
"الإسلام يقول إن الله واحد، موجود بذاته، حكيم بذاته، حيّ بذاته، ودي حاجات ذاتية زي ما اتكلمنا في الحلقة اللي فاتت، وده التوحيد بتاعنا. صفات ذاتية، لا يمكن إن الله ما يكونش كامل فيها".
وكما ترى يا جناب القمص، وكما يرى جميع المشاهدين، لقد استعملتُ نفس الجملة التي استعملتَها أنت، بنفس ألفاظها وكلماتها باستثناء أربع كلمات فقط، فقد استبدلت كلمة المسيحية بكلمة الإسلام، وكلمة الثالوث بكلمة التوحيد. وهذا طبعا شيء طبيعي لأنك تتكلم عن المسيحية وأنا أتكلم عن الإسلام، وأنت تتكلم عن الثالوث وأنا أتكلم عن التوحيد، فمن المنطقي أن تتغير هذه الكلمات. ولكن أهم ما تغير في جملتك هو أن الله حكيم بعقله، حيّ بروحه، حيث قلت أنا إن الله حكيم بذاته، حيّ بذاته. وهذا هو كل الفرق الذي يفصل بين توحيد الإسلام وتثليث المسيحية التي تؤمن بها. واعترافا بالحق يا جناب القمص، فأنا مدين لك بالشكر على هذه الجملة التي قدمتَها واستطعتَ أن تلخص بها موضوع الثالوث، ولذلك فأنا أقدم الشكر إليك، كما قدمت في السابق النقد إليك، ورحم الله سيدنا عليّ بن أبي طالب الذي قال: "لو أسدَى إليّ فرعون مصر يدا لشكرته عليها"، وقد علّمنا سيدنا رسول الله r، رسول الرحمة والإحسان أن: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله"، ولذلك فأنا أوفي بحقك في الشكر وأقدمه إليك على رؤوس الأشهاد، وذلك لكي يفهم الناس، سواء المسلمون منهم أو المسيحيون، ما هو سبب الخلاف وما هو مضمون ذلك الخلاف. وبعد أن يفهموا هذا السبب ويدركوا حقيقة هذا المضمون، لهم أن يقرروا أيّ الرأيين هو الذي يدل على التوحيد الحقيقي الذي يليق بذات الله الكامل. فأنت تقول إن المسيحية تؤمن بإله واحد، وأنا أقول إن الإسلام يؤمن بإله واحد. فما هو الفرق بين الثالوث الذي تقدمه مسيحية القمص زكريا بطرس، والتوحيد الذي يقدمه الإسلام؟
الفرق هو أن المسيحية (وحين أقول المسيحية هنا فأنا لا أقصد مسيحية المسيح u وإنما أقصد مسيحية القمص زكريا بطرس، ولكن للاختصار نقول المسيحية فقط بدون تمييز) المسيحية تؤمن بأن الله حكيم بعقله وحي بروحه. أي أن الله له عقل وله روح، وهذا العقل هو الذي يمده بالحكمة، أو أن هذا العقل هو الوسيلة التي يستخدمها الله تعالى ليكون حكيما، كما أن الروح هي التي تمد الله بالحياة، أو أن الروح هي الوسيلة التي يستخدمها الله ليكون حيًّا.(/1)
ويشرح جناب القمص موضوع الروح فيقول: "في القرآن يقولك: لا تكذبوا على الله وروحه. روح الله هوّه روحه، مش كده؟ الروح القدس هوّه روح الله، لإن هل نتصوّر الله من غير روح؟ طب لو قلنا مثلا روح القدس دا جبريل، طب والله من غير روح؟ من غير حياة؟"، ثم يتساءل القمص: "هل الله بدون روح؟ سيبنا من جبريل، هل الله بدون روح؟" فترد السيدة ناهد قائلة: "لأ لا يمكن". فيستكمل القمص كلامه قائلا: "لا يمكن. طب روح الله مش هوّه الروح القدس؟ قدوس، الله قدوس، وده اسم من أسماء الله الحسنى، وروحه هوّه الروح القدس. فده الثالوث اللي احنا بنؤمن بيه: الآب هو الوجود، والكلمة هو عقل الله، الذي تجلى في صورة بشر، والله ما ينفصلش عن عقله، ثم الروح، روح الله الحي اللي بيعطي الحياة، ولكنهم مرتبطين مع بعض، مفيش انفصال، زي الإنسان ما تقدريش تفصلي روحه عن جسده عن عقله، هوّه هوّه كامل".
أولا، لا توجد في القرآن الكريم آية تقول: "لا تكذبوا على الله وروحه"، فهذه الجملة من اختراع جناب القمص، وهو كما هو معروف عنه مخترع كبير، ولكن عليه أن يحصر اختراعاته في كتابه، ولا يظن أن القرآن المجيد مِلك مشاع لكل من هب ودب أن يعبث به.
ثانيا، طبعا إذا كانت المسألة بهذا الشكل الذي شرحه القمص، يكون حتما هناك ثلاثة آلهة، مهما قال جناب القمص إنهم إله واحد. لأن الوجود يحتاج إلى عقل لكي يعلم به الحكمة والعلم، ويحتاج إلى روح لكي تعطيه الحياة. والعقل يحتاج إلى وجود لكي يعمل من خلاله وإلى حياة لكي يستطيع أن يؤدي وظيفته. والروح هو الذي يعطي للوجود الحياة، وبغير الحياة يكون الوجود موجودا ولكنه ميت لا يعمل، وبغير الحياة لا يستطيع العقل أن يعمل أيضا. فهؤلاء الثلاثة يكوّنون فيما بينهم ألوهية واحدة، ولكنها ألوهية تتكون من ثلاثة أقانيم، أي من ثلاثة أشخاص لهم كينونة، ولو أن هذه الكينونة ليست منفصلة عن كينونة الله.
والاعتراض على هذه الصورة التي يقدمها جناب القمص هو ما يلي:
أولا: إن الوجود ذات، غير أن هذه الذات ليست كاملة بذاتها، بل تحتاج إلى عقل يعطيها الحكمة، وتحتاج إلى روح تعطيها الحياة. وإذا كانت ذات الله تحتاج إلى شيء فهي ناقصة، والناقص لا يمكن أن يكون إلها ولا يستحق أن يكون إلها.
ثانيا: إن العقل هو الذي يعطي للوجود الحكمة، ولكنه ناقص في ذاته، لأنه لا قيمة له بدون ذات الله، فهو يحتاج إلى وجود الذات لكي يعمل ويعطيها الحكمة. وما يحتاج إلى شيء فهو ناقص، والناقص لا يمكن أن يكون إلها ولا يستحق أن يكون إلها.
ثالثا: إن الروح هو الذي يعطي الحياة للوجود، ويمكّن العقل من العمل، ولكنه ناقص في ذاته لأنه لا قيمة له بدون الوجود، فهو يحتاج إلى وجود الذات لكي يعمل ويعطيها الحياة. وما يحتاج إلى شيء فهو ناقص، والناقص لا يمكن أن يكون إلها ولا يستحق أن يكون إلها.
رابعا: رغم أن الألوهية التي تجمع بين الوجود والعقل والروح، قد تبدو أنها كاملة، ولكنها في حقيقة الأمر ناقصة، لأنها تتكون من ثلاثة أقانيم كل منها يكمّل الآخر، فهي ناقصة في ذاتها، والألوهية التي تتكون من ثلاثة نواقص تكون ناقصة هي الأخرى، حتى ولو كانت تبدو أنها كاملة في مظهرها.
خامسا: بأي حق وبأي سُلطة نحصر الصفات الإلهية في هذه الصفات الثلاث: الوجود، العقل، الحياة؟ أليس الله بصيرا؟ فما هي وسيلة البصر؟ أليس الله سميعا؟ فما هي وسيلة السمع؟ أليس الله قويا؟ فما هي وسيلة القوة؟ أليس الله قديرا؟ فما هي وسيلة القدرة؟ إن هذه كلها صفات ذاتية، ومحاولة جناب القمص الخروج من هذه الورطة بقوله إن الصفات الأخرى هي صفات أفعال أو صفات عامة، فلا قيمة لتلك المحاولة، لأن الذات الإلهية إن لم تكن لها صفة ذاتية معينة لا تستطيع أن تفعل بها شيئا، بمعنى أنه إن لم يكن الله بصيرا بذاته لما أعطى البصر لغيره، تماما كما لو أنه لم يكن موجودا بذاته لما أعطى الوجود لغيره، ولو لم يكن حكيما بذاته لما أعطى الحكمة لغيره، ولو لم يكن حيا بذاته لما أعطى الحياة لغيره، وكذلك لو أنه لم يكن سميعا بذاته لما أعطي السمع لغيره، ولو أنه لم يكن قويا بذاته لما أعطى القوة لغيره، وهكذا. وعلى هذا يكون حصر الصفات الذاتية لله تعالى في ثلاث صفات فقط أمر يحط من شأن الله تعالى، ولا قيمة للقول بأن صفاته الأخرى هي مجرد صفات أعمال أو صفات عامة.
سادسا: قد يقول القمص إن العقل عليم بذاته، فهو مصدر العلم، ولما كان كل من السمع والبصر ليس إلا وسيلة لاكتساب العلم، يكون العقل بصيرا بغير أن يحتاج إلى وسيلة للبصر، كما أنه يكون سميعا بغير أن يحتاج إلى وسيلة للسمع. ولكن إذا كان من الممكن أن يكون العقل عليما بذاته، فلماذا لا يمكن للوجود أن يكون عليما بذاته أيضا بغير أن يحتاج إلى العقل؟(/2)
سابعا: القوة ليست من العقل وإنما من العضلات، فإذا قلنا إن الوجود قوي بذاته، فلا يحتاج إلى وسيلة لتمده بالقوة، فلماذا لا نقول أيضا إن الوجود حيّ بذاته ولا يحتاج إلى روح لتمده بالحياة؟
ثامنا: إذا قلنا عن الوجود وحده إنه أقنوم، وعن العقل وحده إنه أقنوم، وعن الروح وحده أنه أقنوم، فكل أقنوم من هذه الأقانيم يحتاج إلى الأقنومين الآخرين. ولكن، إذا قلنا إن الحكمة صفة من صفات الذات، والحياة صفة من صفات الذات، كما أن الوجود صفة من صفات الذات، فلا تحتاج أي من هذه الصفات إلى الصفات الأخرى.
وعلى هذا نعود مرة أخرى إلى الجملة التي نقلناها عن جناب القمص في بداية هذه الحلقة وهي كما يلي:
"المسيحية تقول إن الله واحد، موجود بذاته، حكيم بعقله، حيّ بروحه. ودي حاجات ذاتية زي ما اتكلمنا في الحلقة اللي فاتت، وديّة الثالوث بتاعنا. صفات ذاتية، لا يمكن إن الله ما يكونش كامل فيها".
ثم نذكر نفس الجملة من وجهة النظر الإسلامية:
"الإسلام يقول إن الله واحد، موجود بذاته، حكيم بذاته، حيّ بذاته، ودي حاجات ذاتية زي ما اتكلمنا في الحلقة اللي فاتت، وده التوحيد بتاعنا. صفات ذاتية، لا يمكن إن الله ما يكونش كامل فيها".
ويلاحظ المشاهد، كما يلاحظ جناب القمص، الجملة الأخيرة التي يصف بها صفات الله تعالى فيقول إنها: "صفات ذاتية لا يمكن إن الله ما يكونش كامل فيها". فمن هو الله؟ هو اسم لهذه الذات الكاملة. وليكن اسمه God بالإنجليزية، أو ليكن اسمه Dieu بالفرنسية، أو ليكن اسمه "يهوه" بالعبرية، أو ليكن اسمه "خُدا" بالفارسية، فليكن الاسم ما يكون، ولكنه لا بد أن يعبر عن كائن واحد ذي صفات كاملة. فإذا كان جناب القمص قد اعترف وأقر بأن الله واحد موجود بذاته، فلماذا لا يكون أيضا حكيما بذاته؟ ولماذا لا يكون أيضا حيّا بذاته؟
هذا هو الخلاف بين توحيد الإسلام وثالوث المسيحية. المسيحية لا تستطيع أن تقول إن الله واحد ذو ثلاث صفات، إذا افترضنا أن الصفات الذاتية ثلاثة فقط. ولكنها تقول إن الله واحد ذو ثلاثة أقانيم، لأنها تريد للأقنوم أن يتجسد ويحل في جسد المسيح، ولكن الصفة لا تتجسد ولا تحل في جسد أحد، بل يظهر أثرها على غيرها، وهذا ما سوف نتناوله بالبحث عندما نرد على كلام القمص في موضوع التجسد.
أما الأقنوم فهو شيء آخر، الأقنوم له وجود قائم بذاته، بينما الصفة لا وجود لها بذاتها، فإن لم يوجد الموصوف لا توجد الصفة. ويقدم لنا جناب القمص بنفسه تعريف الأقنوم فيقول بالحرف الواحد:
"الأقنوم، معنى كلمة أقنوم، ودي أنا بـ بـ أقول، لقيت إنها، فيه علاقة بين كلمة أقنوم في معناها، مع كلمة الحيّ القيّوم في معناها. فالقيّوم يعني ذو الوجود القائم بذاته غير منفصل عن غيره، والأقنوم كده: الكائن بذاته وغير منفصل عن غيره".
وكما قلنا سابقا إن جناب القمص مخترع كبير، وها هو يخترع لنا معنى جديدا لكلمة "القيّوم"، فيقول إن القيوم يعني ذو الوجود القائم بذاته غير منفصل عن غيره، مع أن القيوم هو ذو الوجود القائم بذاته المستغني عن غيره والذي لا يقوم وجود أي موجود إلا به. ولكن يبدو أن جناب القمص يرى أن كلمة أقنوم وكلمة قيوم تشتركان في ثلاثة حروف هي القاف والواو والميم، فلا مانع لديه أن تتشابه هذه مع تلك، ولذلك لا يرى بأسا في اختراع معنى جديدا لكلمة "القيوم".
ولكن دعونا من اختراعات القمص، وتعالوا ندرس التعريف الذي وضعه جناب القمص بنفسه لكلمة "أقنوم" وهو: "الكائن بذاته وغير منفصل عن غيره".
أولا: إن هذا التعريف لا يدل على الكمال بل على النقص. فإن الذي لا ينفصل عن غيره يكون في حاجة إلى هذا الغير، وما يحتاج إلى شيء يكون ناقصا غير كامل.
ثانيا: ما دام جناب القمص يرى أن الله واحد مثلث الأقانيم، والأقنوم هو الكائن بذاته وغير منفصل عن غيره، فمعنى هذا أن الله يتكوّن من ثلاث ذوات كائنة بذاتها وغير منفصلة عن غيرها. فالوجود أقنوم كائن بذاته غير منفصل عن غيره، والعقل أقنوم كائن بذاته غير منفصل عن غيره، والروح أقنوم كائن بذاته غير منفصل عن غيره. ولما كان كل أقنوم ناقصا في ذاته، لأنه غير منفصل عن غيره، تكون هذه الأقانيم التي يشوب كلا منها نقص، هي التي تكوّن الألوهية الواحدة التي يزعم جناب القمص أنها الله. ولكن هذه الألوهية ناقصة وليست كاملة، لأنها تتكوّن من ثلاثة نواقص. وهذا ما قلناه سابقا.
ثم نريد أن نسأل جناب القمص عن هذا الإله الذي يؤمن به ويقدّمه لنا ويزعم أنه إله المسيحية، بل ويدعونا نحن المسلمين أن نترك إيماننا بالله الواحد الأحد لنؤمن بهذا الإله، نريد أن نسأله: إذا كنت ترى يا جناب القمص أن الأقنوم كائن بذاته وغير منفصل عن غيره، فنريد أن نسألك نفس الأسئلة التي سألها من قبل صديقك العزيز الدكتور محمد الشقنقيري، فنقول: هذا الأقنوم، أمخلوق؟ أم غير مخلوق؟(/3)
وحيث إنك شديد الإعجاب بعقلية الدكتور الشقنقيري، ومن فرط إعجابك به تقول عنه للسيدة ناهد متولي: "شايفة الإنسان اللي بيفكر، إحنا عايزين ناس تفكر"، وحيث إنك تتهم المسلمين بأنهم لا يريدون أن يشكّوا ولا يريدون أن يفكروا، فها أنا ذا أدعوك يا جناب القمص إلى مأدبة للفكر، وتعال نفكر سويا، وليشترك معنا جميع المشاهدين المسلمين منهم والمسيحيين. وطبعا ما ينطبق على الأقنوم الواحد ينطبق على الأقانيم الثلاثة. والآن نسأل: هذا الأقنوم، أمخلوق؟ أم غير مخلوق؟
إن قلتَ إن الأقنوم غير مخلوق، فهذا يعني أنه كامل في ذاته وأنه أزلي في وجوده، فيكون الأقنوم هو الله. لأن الله هو الكائن غير المخلوق الكائن بذاته والكامل في ذاته والأزلي في وجوده. وحيث إن هناك ثلاثة أقانيم يكون هناك ثلاثة آلهة، غير مخلوقة، أي كائنة بذاتها، كاملة في ذاتها، أزلية في وجودها. وحينما تقول إن الله واحد مثلث الأقانيم فأنت في الحقيقة تقصد ألوهية واحدة تجمع ثلاثة آلهة. ولكن، ما الذي يجبر كل أقنوم، وهو الكائن بذاته، الكامل في ذاته، الأزلي في وجوده، أن يكون غير منفصل عن غيره؟ إن في هذا تناقض كبير يا جناب القمص.
وإن قلت: لالالالالأ، إن الأقنوم مخلوق، فهذا يعني أنه غير كامل في ذاته، أي أنه ناقص، كما أنه ليس أزليا، وهذا يعني أن الله قبل أن يخلق أقانيمه الثلاثة، كان بغير وجود، وبغير عقل، وبغير روح، وهذا غير متصوّر!!
نقول مرة أخرى؟ نكرر الكلام لعلك تستطيع أن تفهم يا جناب القمص. أنت تقول إن الله ثالوث يتكون من ثلاث أقانيم. حسنا، ونحن نريد أن نسأل: هذا الأقنوم، هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ إن قلت إن الأقنوم غير مخلوق، فمعنى هذا أن الأقنوم أزلي، والأزلي يكون هو الله، وبالتالي يكون الله ثالوثا يتكون من ثلاثة آلهة، لإنه يتكون من ثلاثة أقانيم أزلية غير مخلوقة. وعلى هذا تكون المسيحية التي تؤمن بها ليست دين توحيد، وإنما دين ألوهية تتكون من ثلاثة آلهة.
وإن قلتَ إن الأقنوم مخلوق، فمعنى هذا أن أقنوم الوجود مخلوق، وأقنوم العقل مخلوق، وأقنوم الروح مخلوق، وهذا يعني أن الله قبل أن يخلق أقانيمه الثلاثة كان بغير وجود، وبغير عقل، وبغير حياة، وهذا غير متصور.
أترى المنطق يا جناب القمص؟ منطق!! أليس هذا هو منطق صديقك الدكتور محمد الشقنقيري؟ أليس هذا هو المنطق الذي تدعو المسلمين أن يفكروا به؟ فلماذا لا تفكر به أنت يا جناب القمص لتعرف أن عقيدة "الله واحد مثلث الأقانيم" هي عقيدة فاسدة تتعارض مع وحدانية الله؟ إنني أدعو السيدة ناهد متولي، والسيد محمد سعيد، وجميع المسلمين الذين تنصّروا، كما أدعو أيضا جميع المسيحيين المخلصين الذين يريدون أن يعبدوا إلها واحدا حقا، أن يفكروا فيما يقوله جناب القمص، وفيما يعنيه كلامه هذا. وإذا أرادوا أن يعبدوا ألوهية تتكون من ثلاثة آلهة، فلهم الحق في هذا، وهو حق كفله الله تعالى نفسه، ولكن عليهم أن يتحلوا بالشجاعة والأمانة، وعليهم أن يقولوا بصراحة ووضوح إننا نعبد ثلاثة آلهة، ولا يخدعوا أنفسهم ولا يخدعوا الآخرين بادّعائهم أنهم يعبدون إلها واحدا.
أما إذا كانوا يريدون أن يعبدوا إلها واحدا حقا، فريدا في ذاته، ليس كمثله شيء، كاملا في ذاته، أزليا في وجوده، واحدا أحدا، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، فإني أدعوهم إلى الإله الذي يقدّمه الإسلام. هذا هو الإله الحق الذي يستحق العبادة، وهذا هو الإله الذي سوف تقفون أمامه يوم الموقف العظيم.
لعلكم قبل الآن كان لكم بعض العذر، لأن جناب القمص استطاع أن يخدعكم بأسلوبه الساحر، وبتشبيهاته التي أدخلها إلى عقولكم في غفلة منكم، لأنكم لم تكونوا تعرفون الرد عليها، وأضلكم بأمثلته التي تبدو صحيحة من حيث الظاهر ولكنها تخالف الواقع عند تحليلها وتفنيدها. ولكن الآن لا عذر لكم، فقد اتضحت الحقيقة، وظهر الحق، والأوْلى والأحق أن تتبعوا الحق.(/4)
وحيث إن كلا من المسلمين والمسيحيين يؤمنون بأن الإله الذي يعبدونه هو إله حيّ، وأنه يجيب الداعي إذا دعاه، فلتتوجّهوا إلى الله تعالى بالدعاء، الدعاء الصادق النابع من القلب، المخلص في طلب المعرفة، واسألوه: يا رب، هل أنت إله واحد مثلث الأقانيم؟ أم أنت إله واحد متعدد الصفات؟ اطلبوا منه أن يريكم الحقيقة، اسألوه أن يهديكم إلى الطريق الصحيح، ولكن بشرط ألا يكون في أعماق نفوسكم حُكم مسبق، ولا عزم على اتخاذ قرار معين، فإن الله مطلع على ما في القلوب، ومن يذهب إلى الله بقرار مسبق، فإن الله لا يلتفت إليه، ولا يهتم بدعائه، لأنه في واقع الأمر لا يطلب من الله شيئا عندما يدعوه وقد حكم هو مسبقا على ما يريده أو أنه اتخذ بنفسه قرارا فيما يدعو فيه ويسأل عنه. وليكن هذا الدعاء الصادق في جوف الليل، فقوموا من نومكم خلال الليل، وتخلوا عن فراشكم من أجل الدعاء، وتوجهوا إلى الله تعالى، أو ادعوا الله قبل النوم، واسألوه تعالى أن يريكم آية أو رؤيا أو دليلا أو برهانا، بشرط أن يكون خارجا عن أحاديث النفس، وبعيدا عن همزات الشياطين، لتعلموا يقينا ما إذا كان الله واحدا مثلث الأقانيم، أو أنه واحد متعدد الصفات. وداوموا على الدعاء المتواصل في كل ليلة لمدة أربعين ليلة على الأقل، فإن فاتتكم ليلة فابدأوا مرة أخرى من البداية. والغرض من ذلك إثبات صدق نيتكم وبيان إصراركم على معرفة الحق من الله تعالى، وأنكم لا تتخذون موضوع الدعاء هذا هذرا أو لعبا ولهوا. إن الدعاء لبضعة أيام لا يكفي، ولكن لا بد من أن يتواصل بغير انقطاع، فهذا دليل الصدق ودليل الإخلاص ودليل الرغبة في معرفة الحق. وإذا أردتم أن تسمعوا هذه الحلقات مرة أخرى قبل أن تبدأوا بهذا الدعاء، فنرجو أن تتصلوا بنا وسوف نرسل لكم الحلقات التي تحددونها، وإذا أردتم أن تقرأوا هذه الحلقات مكتوبة باللغة العربية، فاتصلوا بنا واطلبوا منها ما شئتم وسوف نرسله إليكم إن شاء الله. ولا تنسوا في دعائكم أن تعاهدوا الله تعالى على أنكم سوف تقبلون قراره مهما كان، سواء كان يتفق مع معتقداتكم الحالية أو يختلف عنها، وأنكم سوف تتحملون كل ما يترتب على ذلك من صعوبات ومشقات.
وفقكم الله إلى طريق الحق، وهدانا وإياكم إلى صراط الحق، وجمعنا وإياكم على الإيمان الحق.
( 22 )
في لقاءاتنا الستة الماضية تحدثنا معكم عن موضوع الثالوث، وما إذا كان الله واحدا أم ثالوثا. ونتناول اليوم في هذه الحلقة موضوع التجسد، وما إذا كان الله يتجسد ويحل في جسم مخلوق. وكما تعلمون فهذه الحلقات التي نقدمها باسم "أجوبة عن الإيمان" هي للرد على جناب القمص زكريا بطرس في الحلقات التي قدمها باسم "أسئلة عن الإيمان". وقد تحدث جناب القمص على مدى أربع حلقات عن موضوع الثالوث، وقد رددنا عليه في ست حلقات. كذلك فقد تحدث عن موضوع الصلب والفداء في ست حلقات، واستغرق ردنا عليه خمس عشرة حلقة. والآن يحدثنا جناب القمص عن موضوع التجسد. وكالعادة، سوف نتناول الأسئلة التي تقدمها له السيدة ناهد محمود متولي، ونرى الأجوبة التي يرد بها القمص عليها، ثم نقوم بتحليل هذه الأجوبة ونقوم بالرد عليه وكشف ما في كلامه من أخطاء منطقية أو تناقضات عقائدية.
تسأل السيدة ناهد عن حقيقة شخصية المسيح ، هل هو الله أم ابن الله؟ هل هو إنسان أم ابن الإنسان؟ فيقول القمص إن من مدلولات كلمة "ابن" التساوي، إذ يُقال إن فلانا ابن عشر سنين، يعني عمره يساوي عشر سنين. ومن هذا يستنتج جناب القمص أن "ابن الله" يعني مساوي لله ومن طبيعة الله، فابن الطائر طائر، وابن السمك سمك، وابن الإنسان إنسان، وعلى هذا يكون معنى كلمة "ابن الله" أي من طبيعة الله.
وأرجو من حضرات المشاهدين أن يلاحظوا كيف يخلط جناب القمص بين الحقيقة والمجاز. فقد ظل جنابه في حلقاته السابقة يؤكد ويعيد ويزيد القول بأن مفهوم بنوّة المسيح عن طريق الجنس أو التناسل بعيد تماما عن الفكر المسيحي، وأن بنوّة المسيح لله ليست إلا بنوّة مجازية. وها هو هنا يقول لنا إن "ابن الله" يعني من طبيعة الله، فابن الطائر طائر، وابن السمك سمك، وابن الإنسان إنسان، وبالتالي يكون "ابن الله" هو من طبيعة الله. وكل هذه الأمثلة التي قدمها جنابه عن البنوّة قد جاءت نتيجة الجنس والتناسل، فمن نصدق؟ القمص الذي ينفي في حلقة أن بنوّة المسيح لا تتعلق بالجنس والتناسل، أم القمص الذي يؤكد في حلقة أخرى أن "ابن الله" يعني من طبيعة الله كأي ابن ينتج عن الجنس والتناسل؛ كما أن ابن الطائر طائر وابن السمك سمك وابن الإنسان إنسان؟ ألا تثبت على مبدأ واحد يا جناب القمص؟ ألا يكون لك رأي واحد تقدمه وتقنع به مشاهديك؟ أم أنك تريد أن تتلوّن وتتشكل كما كان يفعل بولس حين يقول إنه يتكلم مع العبراني وكأنه عبراني ويتكلم مع اليوناني كما لو أنه يوناني؟ إذ يقول في رسالته الأولى إلى كورنثوس:(/5)
"فصرت لليهودي كيهودي لأربح اليهودي، وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس. وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس مع أني لست بلا ناموس بل تحت ناموس للمسيح لأربح الذين بلا ناموس" (20:9).
ولذلك فلا مانع لديه من الكذب ما دام ذلك الكذب يزيد من مجد الله، حيث يقول:
"إن كان صدق الله قد ازداد بكذبي فلماذا أدان أنا بعد كخاطئ"؟ (رومية 7:3).
يعني إذا كان مجد الله يزداد وينتشر بواسطة كذبه فلماذا يدينه الناس ويقولون عنه إنه كذاب؟ فهل هذه هي الأسوة التي تتأسى بها يا جناب القمص؟
ثم من الذي قال إن أحد مدلولات كلمة "ابن" هو التساوي؟ هل لأنك فسّرت جملة فقلتَ: فلان ده ابن عشر سنين يعني عمره يساوي عشر سنين؟ فماذا لو فسّرت أنا الجملة بشكل آخر فقلتُ: فلان ده ابن عشر سنين يعني عمره يبلغ عشر سنين؟ هل يكون "البلوغ" هو أيضا أحد مدلولات كلمة "ابن"؟ وإذا كانت كلمة "ابن" تعني "يساوي" فهل أستطيع أن أستبدل الكلمتين في تعبيرين مختلفين؟ فمثلا بدلا من أن أقول: طول هذا الغلام "يساوي" طول ذلك الرجل، فهل يمكن أن أقول: طول هذا الغلام "ابن" طول ذلك الرجل؟ وبدلا من أن أقول: ثمن هذا البيت "يساوي" عشرة آلاف دولار، فأقول: ثمن هذا البيت "ابن" عشرة آلاف دولار؟ صحيح أنك مخترع كبير يا جناب القمص، ولك أن تخترع ما تشاء من العقائد التي تريد أنت أن تقتنع بها، ولكن ما لك أنت واللغة وقواعدها وأصولها؟ هل تنوي أن تخترع لنا لغة جديدة؟ إن استخدام كلمة معينة في تعبير معين على سبيل المجاز لا يعطيك الحق في استخدامها في كل تعبير آخر بنفس المعنى، وبالتالي فليس من حقك أن تقول إن "ابن الله" يعني "مساو لله".
ونفس المنطق الملتوي المغلوط تستعمله حين تقول:
"بنات الفكر، يعني إيه بنات الفكر؟ يعني الفكر معلنا في كلمات، في صور. فابن الله أي أنه الله ظاهرا في الجسد، زي كلمات الفكر ظاهرة في كلمات بتتكتب بالحبر على ورق، تجسّدت، الأفكار تجسّدت في حبر وورق، صح؟"
لأ طبعا مش صح. غلط وألف غلط. فالأفكار لا تأخذ جسدا يا جناب القمص، فهي لا تتجسد، وإنما يمكن التعبير عن الأفكار إما بالصوت في شكل كلمات، أو بالحروف والكلمات المرسومة في أشكال مُتّفق على معناها. فالحروف المكتوبة ليست أجسادا وإنما هي أشكال، إلا إذا كان جناب القمص لا يعرف الفرق بين الجسد وبين الشكل، فعليه أن يذهب إلى مدارس الأطفال الأولية ليتعلم فيها من جديد الفرق بين الجسد وبين الشكل.
إن قياسك خاطئ يا جناب القمص، ومحاولاتك فاشلة لتبرير معنى التجسد تبريرا عقلانيا أو لغويا أو منطقيا. وحين تعظ في كنيستك فلك الحق أن تقول ما تشاء، ولكنك تتكلم في قناة فضائية، وتوجه كلامك إلى المسلمين بالذات، فنرجوك ألا تمتهن عقولهم ولا تستهن بذكائهم، وكن أكثر حرصا على أن تكون أفكارك وكلماتك في مستوى يقرب من مستوى من يسمعونك ويشاهدونك.
وينتقل جناب القمص بعد ذلك ليتكلم عن طبيعة المسيح فيقول:
"والحتة اللي بتصدم الأخ المسلم المستمع، بتصدمه، إزاي يبقى إنسان تقول عليه الله؟ ياكل، ويشرب، ويجوع، وينام، وحاجات تانية، مش كده؟ بنقول إن الفكرة هي إن المسيح له طبيعة جسدية زيي وزيك تماما، طبيعة زيي وزيك، بس من غير خطية. وفيه بقى ظاهر فيها طبيعة أخرى اللاهوت، الله ظاهر فيها. وزي ما قلنا في القرآن تجلى الله للجبل، الجبل مش هوّه الله، لكن تجلى الله في الجبل، تجلى الله في الشجرة، الله هوه اللى تجلى في الشجرة. فإذا كان تجلى في جماد وهو جبل، وتجلى في نبات وهو الشجرة، أفكثير أن يتجلى في إنسان، والإنسان أرقى من الجماد ومن النبات، ببساطة يعني كده؟ بس هيّه الأفلنة (أي انغلاق العقل) والتعصّب هوّه اللي بيخلي الإنسان يخاف يصدق الحاجات دي، فبيقفلها، لالالا غلط من البداية. لكن لو فتّح مخّه وابتدا يفكر، الله؟ فيها ايه؟ بشهادة القرآن الله تجلى في جبل ودا جماد، وبشهادة القرآن الله تجلى في شجرة ودا نبات، الله؟ طب ويُعتبر كُفر بقى لو قلنا الله تجلى في إنسان وهو مَلِك الخليقة، رأس الخليقة؟ الإنسان لما يقبل الأمور ببساطة حيقدر إن هوّه يفهم ويدرك المعاني كويس".(/6)
لا شك أن كل إنسان عاقل يصاب بالصدمة المؤلمة حين يسمع قولكم عن إنسان أنه الله. ولا شك أن الإنسان المسلم يستنكر تماما أن يكون الله تعالى العليّ العظيم، مالك الملك وذو الجلال والإكرام، إنسانا يأكل ويشرب ويجوع وينام، ويفعل "الحاجات التانية". وادّعاؤكم بأن المسيح له طبيعتان إحداهما إنسانية والأخرى لاهوتية، هو مجرد ادّعاء لا يقوم عليه أي دليل سوى كلام بعض الأشخاص، مثل بولس الرسول أو يوحنا المنسوب إليه الإنجيل المعروف باسم إنجيل يوحنا. فإنحيل يوحنا يقول: والكلمة صار جسدا وحل بيننا (يوحنا 14:1)، والسيد بولس يقول لتلميذه تيموثاوس في رسالته الأولى إليه: "عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد" (1 تيموثاوس 16:3). أما صاحب الشأن نفسه، أي الله نفسه الذي تزعمون أنه ظهر في الجسد، أي المسيح، لم يقل هو هذا الكلام. ألم يكن الأوْلى يا جناب القمص، أن الله الذي ظل يؤكد على وحدانيته على لسان كل نبي وكل رسول، الله الذي أوصى بني إسرائيل قائلا: "اسمع يا إسرائيل، الرب إلهك رب واحد"، ثم يكرر ذلك المسيح بنفسه ويقول إنها أعظم الوصايا، ويضيف إليها أن تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل فكرك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك، ومع ذلك لا يقول للناس: ها أنا ذا الرب إلهكم قد تجسدت وظهرت في الجسد؟ ألم يكن الأوْلى به أن يشرح للناس أن له طبيعتين إحداهما بشرية والأخرى لاهوتية؟ ألم يكن الأوْلى به أن يبيّن للناس أن ناسوته لم يفارق لاهوته لحظة واحدة ولا طرفة عين؟ ألم يكن الأوْلى به أن يفسر للناس كيف أن ناسوته اتحد بلاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير؟ هل سُهي عليه بيان هذه الأمور الهامة أم أنه ترك بيانها لناسوته فنسي الناسوت أن يبيّنها؟ أم أن البشرية كانت لا تزال في طور الطفولة الفكرية، وما كانت تستطيع أن تفهم بعد هذه المعضلات، فترك المسيح ذكرها إلى أن يأتي السيد بولس بعد بضع سنين ويكتب رسالته الأولى إلى تيموثاوس، حيث وصلت البشرية فجأة إلى النضج الفكري؟ لو كان الأمر كذلك، لكان من الخطأ أن يأتي المسيح في ذلك الوقت الذي لم تكن البشرية قد نضجت فيه بعد، وما دام قد انتظر أكثر من أربعة آلاف سنة بعد خطية آدم، فكان عليه أن ينتظر بضع سنين أخرى حتى تنضج البشرية ويتولى هو بنفسه شرح هذه الأمور الهامة التي يتوقف عليها إيمان الناس، بدلا من أن يترك بيانها للسيد بولس والأستاذ يوحنا.
وأنت تستشهد بالقرآن على أن الله تجلى في الجبل وهو جماد، وتجلى في الشجرة وهي نبات، ثم تتساءل مستنكرا: "أفكثير أن يتجلى في إنسان، والإنسان أرقى من الجماد ومن النبات"؟ وقبل أن أجيب على سؤالك، دعني أسألك أولا: هل معنى أن الله تجلى في الجبل أن الجبل أصبح له طبيعة جبلية وطبيعة لاهوتية؟ ولما تجلى الله في الشجرة، فهل أصبح للشجرة طبيعة نباتية وطبيعة لاهوتية؟ فلماذا حين يتجلى في المسيح تصبح له طبيعة بشرية وطبيعة لاهوتية؟
أما الإجابة على سؤالك فهي: لا طبعا، ليس بكثير أن يتجلى الله في إنسان. ولكن، ما هو معنى تجلي الله الذي تفهمه بعبقريتك الفريدة يا جناب القمص؟ إنك تفهم أن الله يحل في الجبل أو في الشجرة أو في الإنسان، وهذا خطأ. فالله لا يحل في شيء لأنه أسمى من كل شيء، وذاته تختلف عن كل ذات أخرى، وكما قلنا من قبل: إن الله الذي يعبده المسلمون ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[، فهو يجلّ ويسمو عن الزمان والمكان، وهو يحتوي الزمان والمكان، ولا يحتويه زمان ولا مكان. وعلى ذلك فهو لا يحل في شيء لأنه يختلف عن كل شيء. ومعنى أنه يتجلى لشيء أو يتجلى في شيء هو أن بعض صفاته تظهر على هذا الشيء أو في هذا الشيء، كما تظهر بعض صفات الشمس في المرآة. إن الشمس لا تحل في المرآة، ولا يصبح للمرآة طبيعتان إحداهما "مرآتية" والأخرى "شمسية"، وإنما تظل المرآة كما هي مجرد مرآة. والله تعالى يتجلى بوضوح في هذا الكون، أي أن عظمته وقدرته ورحمته تتجلى في هذا الكون. يقول تعالى في القرآن المجيد ]فَانظُرْ إِلى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ[ (الروم:50). ومع ذلك يظل الكون كما هو دون أن يكون له طبيعتان إحداهما كونية والأخرى لاهوتية. ولك يا جناب القمص أن تنظر إلى ورقة من أوراق الشجر لترى كيف أن قدرة الله تعالى تتجلى فيها، أو انظر إلى زهرة من الزهور الملوّنة وشاهد آثار القدرة الإلهية متجلية فيها، ثم انظر يا جناب القمص إلى الطيور وأشكالها، وانظر إلى الأسماك وألوانها، بل انظر إلى الحشرات والعناكب، واعجب لهذا الخالق العظيم الذي ترى آثار صفته "الخالق" متجلية في كل نوع من الحشرات والعناكب، وكيف أنه أعطى لكل نوع منها وسيلة خاصة لنسج بيتها أو لصيد فريستها. نعم إن صفات الله تعالى تتجلى في كل مكان وتتجلى لكل إنسان، ولكن بعض الناس ينظرون ولا يبصرون، ويقرأون ولا يفهمون، ويخلطون الحقيقة بالمجاز، ويظنون أن تجلي الله يعني أن الله قد حل في شيء. فتعالى الله عما يصفون.(/7)
ثم يشرح لنا جناب القمص كيف يمكن أن يكون للمسيح طبيعتان، إحداهما بشرية والأخرى إلهية، البشرية اسمها الناسوت، والإلهية اسمها اللاهوت. فيضرب مثالا بقلمين أحدهما لونه أسود والآخر لونه أحمر، ويقول إن القلم الأسود يرمز لقضيب من الحديد، فإذا وضعنا الحديد في النار صار لونه أحمر مثل القلم الثاني، ويكون هذا حديد فقط، ويكون ذاك حديد متّحد بالنار. ثم يعلق القمص على هذا القدر من المثال فيقول: عندما نقول إن الحديد اتّحد بالنار، هل يكون في ذلك كُفر؟ كلا، فإن هذه حقيقة علمية. ثم يستكمل مثاله فيقول إن الحديد المحمّى بالنار يمكن ثنْيه أو عدله أو ضبطه أو طرقه، ولكن النار لا تتأثر بكل هذا، غير أنها تستطيع أن تقوم بفعلها، إذ لو لسعت بني آدم تحرقه، أما الحديد وحده فلا يحرق. ولكن بعد اتحاده بالنار نجد أن النار لم تتحول إلى حديد، ولا الحديد تحوّل إلى نار، بل ظلت النار بطبيعتها، وظل الحديد بطبيعته، مع أن بينهما اتحاد كامل. فالحديد يرمز إلى جسد المسيح، والنار ترمز إلى نار اللاهوت، فالمسيح من جسد العذراء مجرد جسد، ولكن الله من خلال المسيح يعمل أعمالا إلهية، والجسد بطبيعته البشرية يأكل ويشرب ويجوع ويشاركنا في طبيعتنا.
وحيث إن جناب القمص يقدم لنا أمثلة يصفها بأنها حقائق علمية، فيجب أن يكون مثاله ينطبق على الحالة التي يريد أن يشرحها. فهل يجوز مثلا أن أمثل أنا موضوع الناسوت واللاهوت بأني وضعت صخرة في الماء، ثم أقول إن الصخرة تمثل الناسوت، والماء يمثل اللاهوت، فلا الماء تحول إلى صخرة ولا الصخرة تحولت إلى ماء؟ طبعا لا. لأن جناب القمص سوف يقول لي إنه لم يحدث "اتحاد" بين الإثنين كما حدث "اتحاد" بين الحديد والنار. وهذا بالضبط ما أريد الوصول إليه. إن الأشياء التي تختلف طبيعتها عن بعضها البعض لا تتحد مع بعضها البعض. ولكن كيف اتحدت النار مع الحديد، هل هي من طبيعة الحديد؟ إن النار عبارة عن طاقة مرتفعة الحرارة، وهذه الطاقة الحرارية موجودة في الحديد، ولكننا لا نشعر بها لأن حرارتها منخفضة أو تقترب من درجة حرارة الجسم. فإن قطعة الحديد عبارة عن مجموعة من الجزيئات التي تتحرك بسرعة معينة، وعندما نضع قطعة الحديد في النار، فإننا نزيد من درجة حرارة الطاقة الموجودة من قبل في الحديد، فتبدأ الجزيئات في الحركة بسرعة أكبر، مما يسبّب تحوّل اللون إلى اللون الأحمر، وتحوّل صلابة الحديد إلى ليونة. وإذا استمر رفع درجة حرارة الحديد، يتحول الحديد إلى سائل، وإذا استمر ارتفاع درجة حرارة سائل الحديد فإنه يتحول إلى غاز كما هو موجود في الشمس. فالنار طاقة، والحديد به طاقة، ولذلك يحدث بينهما هذا "الاتحاد". فالنار لم تحل في الحديد، وفي الحقيقة لم "تتحد" بالحديد، ولكن النار رفعت درجة حرارة الطاقة الموجودة من قبل في الحديد.
أما بالنسبة للجسد الإنساني، الذي يُشَبّهه جناب القمص بالحديد، فهو لا يحتوي الطاقة الحرارية الموجودة بالفعل في الحديد وفي النار، أي لا يحتوي شيئا من اللاهوت. ولا شك أن طبيعة الله تعالى تختلف تماما عن طبيعة البشر، فالله كما قلنا ليس كمثله شيء، وعلى هذا فلا يمكن أن يحل الله في طبيعة بشرية ولا غير بشرية، والمثال الذي قدّمه جناب القمص عن وجود طبيعتين للمسيح، ناسوتية ولاهوتية، مثل الحديد والنار، لا ينطبق على الله والبشر. فليبحث جناب القمص عن مثال آخر، وأنا اتحدّاه أن يجد أي مثال آخر.
ينتقل جناب القمص بعد ذلك إلى أسلوبه القديم للاستشهاد بأقوال علماء المسلمين وأقوال المفسرين. وقد ذكرنا من قبل ونعيد تكرار القول هنا أننا نحترم جميع العلماء والمفسرين ونحترم آراءهم، ولكنهم كانوا من البشر الذي قد يخطئ وقد يصيب، ولا شك أنهم أخطأوا في أمور وأصابوا في الكثير من الأمور، ولكن رأيهم ليس ملزما للمسلمين كما هو الحال عند النصارى، إذ أن رأي آباء الكنيسة ملزم لهم، والخروج على رأي الكنيسة يؤدي إلى الاتهام بالزندقة. أما الإنسان العادي فمُحرّم عليه التفكير أو الأخذ برأي يخالف ما يقوله الكهنة والكهنوت. أما الإسلام فليس فيه كهنوت، وقال العلماء إن كل إنسان يؤخذ منه ويُرد عليه إلا النبي الذي هو على مقام النبوة. وعلى هذا فلا قيمة لرأي أولئك الذين يستشهد بهم جناب القمص، وليس غرضه من ذلك إلا التأثير على بعض البسطاء من الناس الذين قد يظنون أن قول أولئك الذين يستشهد بهم القمص هو الرأي الذي أجمع عليه علماء الدين، وهذا غير صحيح.
غير أنه في هذه المرة بالذات يستشهد بآراء بعض الفرق التي جاء ذكرها في كتاب الملل والأهواء والنحل، وهو كتاب يجمع آراء الفرق الإسلامية بما فيها الفرق التي يعتبرها مؤلف الكتاب من الفرق الضالة، ومن الواضح أن جناب القمص يستشهد برأي هؤلاء ليخدع به بعض المسلمين كما انخدعت به السيدة ناهد متولي.(/8)
ولكنه في نفس الوقت يستشهد بآية من القرآن الكريم على إمكانية تجسد الكائن الروحاني في جسد بشري، فيذكر الآية 19 من سورة مريم التي تقول: ]وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا لَهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيَّا[. ولكن هذه الآية لا تدل على أن الكائن الروحاني يحل في جسد بشري، وإنما تدل على أن أحد الملائكة مثل جبريل مثلا، قد يظهر في صورة جسد بشري، ولكنه لا يحل في جسد بشري. والفرق بين التعبيرين واضح تمام الوضوح. يقول القمص إن هناك أحاديث للرسول r تقول إن جبريل كان يظهر له في صورة "دَحْيَة الكلبي"، وهو رجل على جانب كبير من الوسامة وجمال الوجه، ولكن هذا لا يعني أن جبريل كان يحل داخل جسد دحية الكلبي، فيأتي دحية الكلبي إلى الرسول وهو ذو طبيعتين، طبيعة بشرية وطبيعة ملائكية. والآية الكريمة التي ذكرها جناب القمص تقول عن جبريل ]فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيَّا[ أي أنه لم يتحوّل بالفعل ليكون بشرا سويا، وإنما هي رأته وكأنه كان بشرا سويا. وكلمة "تمثّل" تعني أنه جعل نفسه مثل بشر سوي، وجناب القمص يعرف جيدا أن الممثل هو الذي يقوم بتأدية دور شخصية معينة، ولكنه ليس هو هذه الشخصية، ولم يحل فيها ولم تحل فيه. ولما جاء جبريل إلى الرسول r وهو بين صحابته فجلس أمامه وأخذ يسأله عن الإسلام وعن الإيمان وعن الساعة، تمثل لهم في شكل إنسان غريب لم يعرفه أحد منهم، فهو لم يحل في جسد أحد، وإنما تمثل، أي ظهر وكأنه في صورة إنسان، بينما هو في الحقيقة ليس في صورة إنسان.
هذا عن الملاك الذي هو روحاني. ولكن من الذي قال إن الله روحاني؟ إن الله ليس كمثله شيء، وهو ليس من مادة كالبشر، وليس من روح كالملائكة. وعلى هذا فلا يمكن لله تعالى أن يتجسّد أو يحل في جسد بشر، ولا يمكن أيضا لبشر أن تكون له طبيعتان. وعلى جناب القمص أن يبحث عن حجة أخرى يحتج بها إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
قد يجد جناب القمص بعض الأدلة في إنجيل يوحنا أو في أقوال السيد بولس، ولكن هذه لن تقنع مسلما واحدا بأن الله تعالى اللطيف الخبير يمكن أن يتجسد في جسد بشر، أو يحل في جسد إنسان. وإن لم يجد القمص دليلا من القرآن فلا قيمة لكل كلامه، ولعله من الأفضل له أن يوفر ذلك الجهد الذي يبذله في تنصير المسلمين، لأن كل من يشاهد هذه الحلقات أو يقرأها مكتوبة، لا يمكن أن يقع فريسة لألاعيب القمص ومغالطاته.
وفق الله المشاهدين، وحفظهم من كل شيطان رجيم، وهدانا وإياهم إلى صراطه المستقيم.
(23 )
بفضل الله تعالى نلتقى مرة أخرى في هذه الحلقة من حلقات "أجوبة عن الإيمان" لكي نرد على القمص زكريا بطرس في حلقاته التي قدمها باسم "أسئلة عن الإيمان". ونحن نعالج الآن موضوع تجسد الله الذي يزعم جناب القمص أنه تجسد في جسد المسيح. وذكرنا في الحلقة السابقة أن جناب القمص يقول إن الله تعالى تجسد في المسيح كما تجلى لموسى في الجبل، وكما تجلى له في الشجرة. وقد قلنا إن تجلي الله لأحد أو تجلي الله في شيء، فإنما يعني هذا أن بعض صفات الله تظهر لشخص ما أو تظهر في شيء ما، تماما كما تظهر صفات الله الخالق في هذا الكون، وكما تتجلى قدرة الله في مخلوقاته، ولكن ليس معنى هذا أن الله تعالى يحل في شخص أو يحل في مخلوق أو يتجسد في أي كائن. وتجلي الله في الجبل لا يعني أن الجبل صار له طبيعتان إحداهما "جبلية" والأخرى "لاهوتية"، ولا يعني تجلي الله في الشجرة أن الشجرة قد صارت لها طبيعتان إحداهما "نباتية" والأخرى "لاهوتية"، كذلك لا يعني تجلي الله تعالى في المسيح أو في أي نبي من الأنبياء أن المسيح قد صار له طبيعتان إحداهما "بشرية" والأخرى "لاهوتية".
وذكرنا كذلك أن ما يقوله جناب القمص عن أن اتحاد الله المزعوم بالجسد البشري للمسيح يشبه اتحاد النار بالحديد عند تسخينه بالنار هو تشبيه غير صحيح، وذلك لأن النار عبارة عن طاقة حرارتها مرتفعة، والحديد به طاقة ولكن حرارتها منخفضة ولذلك لا نشعر بها، وعند وضع الحديد في النار فإننا نرفع درجة حرارة الطاقة الموجودة به من قبل، ولو لم يحتو الحديد على طاقة لما أثرت فيه النار. وعلى هذا فإن المثال الذي يقدمه القمص لا ينطبق على الله والجسد البشري، لأن الجسد البشري لا يحتوي على ألوهية كامنة فيه كما يحتوي الحديد على طاقة كامنة فيه، وبالتالي فلا يمكن للطبيعة الإلهية أن تتحد بالطبيعة البشرية.(/9)
ويستشهد جناب القمص على إمكانية تجسد الكائن الروحاني في الكائن البشري بظهور جبريل للرسول r في صورة "دَحْيَة الكلبي"، وتمثله أيضا في صورة بشر سويّ عندما بلّغ البُشرى لمريم بولادة المسيح. وقد قلنا في الرد على هذا إن جبريل لم يتجسد في جسد "دحية الكلبي" بحيث أصبح دحية الكلبي يأتي إلى الرسول r وله طبيعتان إحداهما بشرية والأخرى ملائكية، وإنما كان جبريل يظهر في هذه الصورة حيث كان دحية الكلبي معروفا بالوسامة وجمال الوجه، ولكن ليس معنى هذا أنه تجسد في جسم دحية الكلبي نفسه. كذلك فإنه من الخطأ الاستشهاد على تجسد الله في جسد المسيح بتمثل جبريل في صورة بشر سويّ حسب قوله تعالى ]وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا لَهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيَّا[ (مريم:19). وقد قلنا إن تمثل جبريل معناه أنه لم يتجسد بالفعل في جسد بشر سويّ وإنما ظهر فقط في هذه الصورة، فلم يحدث تجسد حقيقي، ولم يدخل جبريل في جسد أحد من البشر كما يزعم القمص عن تجسد الله في جسد المسيح.
وأخيرا يأتي استشهاد جناب القمص بأقوال من وصفهم بعلماء المسلمين على ما يزعم من إمكانية تجسد الله في جسد إنسان من البشر. وقد قلنا قبل ذلك مرات ومرات إن العلماء قد اجتهدوا برأيهم في أمور كثيرة وتفسيرات عديدة، وقد أصابوا في الكثير من اجتهاداتهم، ولكنهم أخطأوا أيضا في بعضها. ونحن نحترم جميع العلماء الأفاضل الذين حاولوا باجتهاداتهم أن يفسروا كلام الله تعالى كما فهموه من الكتاب العزيز، ولكن أقوالهم ليست ملزمة للأمة، ومن حق غيرهم أن يختلف معهم، وقد اختلف العلماء بالفعل بعضهم مع البعض، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان لدينا تفسير واحد للقرآن الكريم. وليس معنى الاختلاف في التفسير أن كل رأي يختلف مع غيره لا بد أن يكون خطأ بالضرورة، كما لا يعني أيضا أن كل رأي من آراء العلماء لا بد أن يكون صحيحا بالضرورة. وقيمة آراء العلماء تختلف في الإسلام عنها في المسيحية، فهي في الإسلام اجتهادية غير ملزمة للأمة، أما في المسيحية فإن رجال الكهنوت كانوا يجتمعون في مجامع ويقررون عقيدة معينة فتصبح هذه العقيدة ملزمة لكل الأمة، ومن يخرج عليها يُتهم بالكفر والزندقة.
غير أن جناب القمص في محاولاته المستميتة والفاشلة في إثبات تجسد الله تعالى في جسد المسيح لا يتورع عن الخداع، ولا مانع لديه من مغافلة المشاهدين ليضرب تحت الحزام، مخالفا بذلك القواعد والأصول التي تفرضها أمانة العالم وصدق الباحث. فهو ينقل عن كتاب "الملل والأهواء والنحل" الذي جمع فيه مؤلفه آراء العلماء والفرق الإسلامية بكل فئاتها حتى التي يعتبرها المؤلف من الفرق الضالة المنحرفة عن الإسلام. والقمص بالطبع لا يقول ذلك عن الكتاب الذي يستشهد به، وإنما يوحي للمشاهد أنه يستشهد بآراء صحيحة ولها احترامها بين المسلمين.
وسوف نقدم للمشاهد "عيّنة" من التفسيرات التي يقدمها جناب القمص محاولا أن يخدع بها المشاهدين المسلمين. ويلاحظ المشاهد أن السيدة ناهد متولي قد انخدعت هي الأخرى بكلام القمص، وظنت أنه يستشهد بأقوال علماء أفاضل من علماء المسلمين، بينما هو في الحقيقة يستشهد بأقوال نكرات من أصحاب الرأي الشاذ الذين انحرفوا عن صائب الرأي وصادق التفسير.
ينقل جناب القمص عن شخص اسمه أبو السعود محمد بن محمد العمّادي، ولعله استخرج اسمه أيضا من كتاب الملل والأهواء والنحل الذي جمع فيه مؤلفه آراء الكثير من الفرق الضالة التي اتبعت الأهواء، كما يدل على ذلك اسم الكتاب. غير أن القمص يبدو سعيدا جدا بهذه الشخصية ويزعم أنه "إمام". ولكي يعرف المشاهد نوعية الأئمة التي يُعجب بها جناب القمص، ننقل ما ذكره ذلك المسمى بالإمام أبي السعود محمد بن محمد العمّادي نقلا عن نكرة أخرى اسمه "السدّي" حيث يقول: "لقِيَتْ أمُّ يحيى أمَّ عيسى، فقالت يا مريم: أشعرت بحبلي؟ فقالت مريم: وأنا أيضا حبلى. فقالت أم يحيى: إني وجدت ما في بطني، يسجد، لما في بطنك. فذلك قوله تعالى: ]مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ[ ".(/10)
أي أن الإمام أبو السعود يقدم تفسيرا لقوله تعالى لزكريا u في سورة آل عمران: ]أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ[، فاستشهد بقول "السدّي" الذي يقول فيه إن أم سيدنا يحيى تقابلت مرة مع السيدة مريم أم سيدنا عيسى، فسألتها قائلة: هل شعرت بحبلي؟ فأجابتها مريم وقالت: "وأنا أيضا حبلى". فقالت أم يحيى: "إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك". وتعلق السيدة ناهد متولي على هذه الرواية العجيبة التي جاء بها "السدي" فتقول: "السجود لله وحده". وما يقصده القمص من ذكره لهذه الأقصوصة هو أن الله تعالى قد تجسد في جسم المسيح الذي كان لا يزال جنينا في رحم أمه مريم، وأن الدليل على وقوع هذا التجسد هو أن أم يحيى لاحظت أن الجنين الذي في بطنها كان يسجد للمسيح الذي كان هو الآخر جنينا في بطن مريم.
هذه هي الرواية التي يقول القمص إنه نقلها من تفسير أبي السعود محمد بن محمد العمّادي الذي نقلها بدوره عن "السدّي"، وبالطبع لم يذكر من أين جاء ذلك "السدي" بهذه الرواية، فهو حتما لم ينقلها من مصدر له أي احترام أو ثقة. ولعلها كانت إحدى الروايات التي ألفها بعض المسيحيين المتحمسين لألوهية المسيح، فاخترعوا مثل هذه الأقاصيص التي عرفت طريقها إلى تفسير ذلك المدعو أبو السعود محمد بن محمد العمّادي. ولعله هو الآخر قد أصابه الولع الذي يصيب المؤمنين بعقيدة التجسد فيجمعون الأقاصيص الغريبة والخرافات العجيبة، ثم يصدقونها. ولكن، ما الذي يدعونا إلى اعتبارها قصة من القصص الخرافية، ولماذا لا نعتبرها قصة حقيقية وقعت بالفعل؟ تعالوا نحلل الحوادث لنرى ما إذا كانت مثل هذه القصة جديرة بأن يذكرها كتاب محترم أم أنها مجرّد خرافة.
من المعروف أن أم السيدة مريم كانت قد نذرت ما في بطنها لله تعالى، باعتبار أنها إذا وضعت ذكرا فسوف تهبه للخدمة في الهيكل، فلما وضعتها أنثى وسمتها مريم، نشأت مريم وهي تخدم في الهيكل. ولما رأى زكريا u أن الله تعالى يفيض برزقه على مريم، دعا الله تعالى أن يرزقه بذرية صالحة، رغم أنه قد بلغ سن الشيخوخة واشتعل رأسه شيبا وكانت زوجته عاقرا، غير أن الله استجاب له وبشره بيحيى مصدقا بكلمة من الله. وقد حدث بعد ذلك أن بشرت الملائكة مريم بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم.
كان هناك فارق زمني بين الحادثتين، حيث تمت ولادة يحيى قبل عيسى بمدة تتراوح من ستة شهور إلى بضع سنين. ومن المعروف أن يحيى قد بدأ رسالته النبوية قبل المسيح بزمن طويل، مما يدل على أنه كان أكبر منه سنا. فلما بدأت أعراض الحمل تظهر على مريم وهي تخدم في الهيكل، تشاور الكهنة وقرروا تزويجها من رجل صالح يعمل نجارا اسمه يوسف النجار، وقد أخبره الله تعالى في رؤيا أن ما في بطن مريم ليس من زنى ولكنه من الروح القدس، ولما كان يوسف رجلا بارا فقد أبقى على زوجته ولم يمسها إلى أن وضعت حملها. ورغم ذلك فقد كانت السيدة مريم تعاني معاناة شديدة من اتهامات الناس لها بأنها ارتكبت الزنى حتى إنها كانت تتمنى الموت وتقول كما ذكر ذلك القرآن الكريم: ]يَا لَيْتَني مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَّنْسِيًّا[.
من كل ما سبق يتبين أن السيدة مريم لم تكن سعيدة بحملها بل كانت تعيسة شقية إلى حد تمني الموت، وكانت تحاول في أول الأمر أن تتكتّم أمر الحمل وتخفيه عن أعين الناس. فلما انتفخ بطنها بشكل واضح ولم تستطع أن تخفيه، عرف كهنة الهيكل بحملها فعملوا على تزويجها من يوسف النجار. فإذا عرفنا أن النساء في ذلك الزمن كن يرتدين ملابس فضفاضة، كما كانت عادتهن دائما إلى زمن قريب يبلغ أقل من مائة عام، لأدركنا أن حمل السيدة مريم لم يُكتشف أمره إلا في مراحله المتأخرة بعد الشهر السابع أو الثامن. وعلى هذا يكون من المستحيل أن تكون السيدة مريم قد قابلت أم يحيى فتسألها قائلة: "يا مريم أشعرت بحبلي"؟ فترد عليها السيدة مريم قائلة: "وأنا أيضا حبلى". هذا أمر مستحيل الحصول في الظروف التي كانت تمر بها السيدة مريم. ربما كانت أم يحيى فرحة فخورة بحملها بعد أن كانت عاقرا طوال عمرها، ولكن السيدة مريم كانت في حالة نفسية شديدة الصعوبة حتى إنها كانت تتمنى الموت، فليس من المعقول أن تعلن فضيحتها بنفسها وتقول: "وأنا أيضا حبلى".(/11)
من ناحية أخرى، نجد أن السيدة أم يحيى كانت قد وضعت حملها قبل أن تبدأ السيدة مريم حملها، نظرا للفاصل الزمني بين الحملين. ولكن، حتى ولو افترضنا أن الفاصل الزمني بينهما كان حسب أقل التقديرات وهي ستة شهور، فمعنى هذا أن اللقاء الذي حدث بين أم يحيى والسيدة مريم، إن كان قد تم، فلا بد أن يكون قد تم في المراحل الأولى لحمل أم يحيى، وإلا فلا بد أن تكون السيدة مريم قد علمت بحمل أم يحيى حيث إنه قد تم بطريق الإعجاز بعد عقر استمر طوال عمر أم يحيى. وعلى هذا فلا معنى للسؤال الذي يزعم "السدي" في الأقصوصة التي رواها أن أم يحيى قد وجهته إلى السيدة مريم، ما لم يكن هذا الحديث قد وقع في أول مراحل حملها. وفي ذلك الوقت لم تكن السيدة مريم قد حملت بعد، وعلى ذلك يكون من المستحيل أن يكون ردها: "وأنا أيضا حبلى". إن الاحتمال الوحيد لوقوع هذا الحديث هو بعد أن يكون حمل أم يحيى قد تجاوز ستة شهور، ويكون حمل السيدة مريم في فترة الأشهر الثلاثة الأولى. وفي هذه المرحلة كان من المستحيل أن تعلن السيدة مريم عن حملها كما يزعم "السدّي"، كما أنه من المستحيل أن يكون قد مر على حمل أم يحيى ستة شهور ولم تكن مريم تعلم به بعد حتى يقتضي الأمر أن تخبرها أم يحيى عنه.
وهكذا يتبين بقليل من التفكير والتحليل أن هذه الرواية التي اخترعها "السدّي" ونقلها عنه من يسمى بالإمام أبي السعود محمد بن محمد العمّادي لم تحدث ولم تقع على الإطلاق بسبب الفارق الزمني بين الحملين، وبسبب الظروف النفسية السيئة التي كانت تمر بها السيدة مريم واستحالة إعلانها عن حملها بهذه الطريقة. ولكن، حتى ولو نحّينا العقل والمنطق جانبا، وافترضنا جدلا أن الواقعة قد حدثت بالفعل، فإن السيد السدّي لم يحك لنا شيئا عن بقية الحديث بين المرأتين، إذ من المستحيل أن يكون الحديث بينهما قد انتهى عند ذلك الحد. إن مريم لم تكن قد تزوجت بعد، فكيف تقول إنها حبلى ولا تسالها أم يحيى: كيف تكوني حبلى وأنت لم تتزوجي بعد؟ وكيف عرفت أم يحيى أن الجنين الذي في بطنها يسجد للجنين الذي في بطن مريم؟ وهل الجنين داخل الرحم يستطيع أصلا أن يتحرك ويسجد؟ وهل هذا الجنين الذي كان يسجد للجنين الذي في بطن مريم، استمر في سجوده بعد أن تمت ولادته أم أنه توقف عن السجود؟ وإن كان قد استمر في السجود، ألم يره أحد من الناس فيروي هذا الأمر الغريب ويأتي ذكره في المرويات الدينية؟ ألم ينتشر هذا الأمر بين الناس فيتساءلون عن سر هذه الظاهرة العجيبة؟ ألم يكن من واجب الراوي أن يحكي لنا كيف أن الطفل المولود (وليس الجنين) كان يستطيع السجود والقيام من السجود رغم عدم استطاعته الحركة لأنه كان يحتاج لأمه لكي تغير له ملابسه المبتلة والمتسخة؟ وإذا كان الطفل بعد ولادته قد توقف عن السجود بعد أن تمت ولادته، أليس من حقنا أن نتساءل: لماذا توقف الطفل عن العمل التعبدي الذي كان يقوم به وهو جنين؟ وإذا قبلنا أن سجوده وهو جنين كان تحقيقا لقوله تعالى ]مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ[، كما يزعم الإمام المفسر أبو السعود محمد بن محمد العمّادي، فهل انتهى هذا التصديق بعد الولادة أم لم يعد له أهمية؟ أم أن التصديق بكلمة الله كان من المفروض أن يتم وهو في بطن أمه فقط دون أن يراه أحد من الناس؟
أين المنطق يا جناب القمص؟ أين العقل وأين التفكير العقلاني حتى إنك ومعك السيدة ناهد متولي تبدوان في قمة السعادة بهذه الأقصوصة الخرافية إلى الحد الذي يجعلك تستدل بها على تجسد الله في جسد المسيح، ويجعل السيدة ناهد تعلق على السجود المزعوم ليحيى وهو في بطن أمه للمسيح وهو في بطن أمه فتقول: "السجود لله وحده"؟ وكأن ما دام الجنين الذي في بطن أمه قد سجد للجنين الآخر فهذا دليل كاف لها على أن الله هو الذي كان في بطن مريم، فياللدهشة ويا للعجب!! ولكن لم الدهشة ولم العجب؟ إن من يصدق أن الله تعالى يمكن أن يتجسد أصلا في جسم بشر، يمكن أن يصدق أي خرافة ويقتنع بها.(/12)
ولكن.. من أين جاءت هذه الخرافة وما هو منبعها؟ تقول يا جناب القمص إنها مكتوبة في تفسير من سميته الإمام أبي السعود محمد بن محمد العمّادي الذي نقلها عن نكرة آخر اسمه "السدّي". ولكن من أين جاء بها ذلك "السدّي"؟ من الواضح أنه لم يأت بها من مصدر إسلامي، أي لم يُحدث بها الرسول r ولم يقل بها أحد من الصحابة ولا أحد من التابعين. وأستطيع أن أؤكد أن أحدا من المسلمين لم يحدث بها، وأغلب الظن أنها كانت من الروايات، أو قل من الأقاصيص، التي كان المسيحيون يتناقلونها، وسمعها ذلك "السدّي" فرواها لغرابتها أو ربما على سبيل الاستنكار، ثم وجدت طريقها فيما بعد إلى صفحات التفسير الذي كتبه ذلك العمّادي. والمفسرون، وخاصة النكرات من بينهم، لم يكونوا يعطون الاهتمام الكافي أو اللازم للروايات التي يضمّونها كتبهم، كما اهتم مثلا رواة الأحاديث الذين كانوا يبذلون الكثير من الجهد لكي يتأكدوا من صدق الرواية التي ينقلونها. ولذلك فقد احتوت كتب التفسير على العديد من مثل هذه الروايات المعروفة بأنها من الإسرائيليات. ويُطلق لفظ "الإسرائيليات" على الروايات التي لها أصل في الأدبيات اليهودية أو المسيحية. وليس من الصعب معرفة أصل ومصدر هذه الرواية التي نقلها ذلك "السدّي"، فإن مطالعة إنجيل لوقا تكفي لأن تدلنا على ذلك المصدر. وذلك لأن "لوقا"، كاتب هذا الإنجيل، كان من تلاميذ بولس، فهو مثل أستاذه لم يتشرف بمقابلة السيد المسيح ولم يسمع منه لا كلمة ولا حرفا، بالإضافة إلى أن بولس كان متأثرا بالوثنيات اليونانية، ولا شك أن تلميذه لوقا قد تأثر مثله بهذه الوثنيات والخرافات اليونانية عن الآلهة التي تتجسد وتتزاوج وتتحارب بعضها مع البعض. وليس ذلك افتراء على السيد لوقا، وإنما هو بنفسه يعترف بذلك، ويقول إن الكثيرين قد أخذوا في تأليف القصص عن الأمور التي كانت تحدث زمن المسيح، ولذلك أخذ يؤلف هو الأخر قصة عن تلك الأمور وراح يكتبها ويرسل بها إلى صديقه المسمّى ثاوفيلس. يقول لوقا في صدر إنجيله:
"إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا، كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكلمة، رأيت أنا أيضا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي علّمت به" (لوقا1: 1-5).
أما هذه الخرافة التي رواها "السدي" فقد رواها لوقا في إنجيله، ولكن بأسلوب يختلف قليلا عن أسلوب "السدي"، حيث قال:
"وفي الشهر السادس (على حمل اليصابات زوج زكريا u) أُرْسِل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت دود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم. فدخل إليها الملاك وقال سلامٌ لك أيتها المنعَم عليها، الرب معك مباركة أنت في النساء. فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية، فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع، هذا يكون عظيما وابن العلي يُدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية. فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا؟ فأجاب الملاك وقال لها: الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضا القدوس المولود منك يُدعى ابن الله. وهو ذا اليصابات نسيبتك هي أيضا حبلى بابن في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوّة عاقرا، لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله. فقالت مريم هو ذا أنا أمَة الرب، ليكن لي كقولك. فمضى من عندها الملاك. فقامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا وسلمت على اليصابات، فما سمعت اليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها وامتلأت اليصابات من الروح القدس، وصرخت بصوت عظيم وقالت مباركة أنت في النساء، ومباركة ثمرة بطنك. فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ؟ فهوذا حين صار صوت سلامك في أذنيّ ارتكض الجنين بابتهاج في بطني، فطوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قِبَل الرب". (لوقا1: 26-45).(/13)
هذا هو أصل الأقصوصة التي حكاها "السدّي" والتي ضمّنها أبو السعود محمد بن محمد العمّادي تفسيره، وهذه هي التفاسير التي يريد منا جناب القمص زكريا بطرس أن نأخذ منها أمور ديننا ونقيم عليها عقائدنا الدينية. لا يا جناب القمص. إن كان هذا جائزا عندكم في عصور ما قبل الميلاد فهو لم يعد جائزا في القرن الحادي والعشرين. وإذا كنتم أنتم يا جناب القمص مولعين بتصديق الخرافات والإيمان بكل ما هو غريب وعجيب، فأنتم وشأنكم. وعلى أي حال، فهذا من الأمور الطبيعية المعتادة في المجتمعات الجاهلة والمتخلفة وغير المتحضرة. ولكن، من المفروض أنكم يا جناب القمص قد تجاوزتم هذه المراحل منذ زمن طويل، فلينعكس ذلك إذن على مفاهيمكم، وليظهر ذلك في معتقداتكم. كان الله معكم، ورفع الغشاوة من على أعينكم، ورزقكم عقلا راجحا تعقلون به حقائق الأمور لا خرافاتها.
(24 )
نحمد الله تعالى أن وفقنا مرة أخرى لنلتقي بكم في هذه السلسلة من حلقات "أجوبة عن الإيمان" التي نرد بها على السلسة التي قدمها القمص زكريا بطرس بعنوان "أسئلة عن الإيمان". والموضوع الذي تناولناه في الحلقتين الماضيتين ونستكمله في هذه الحلقة هو ما يزعمه جناب القمص من تجسد الله في جسم المسيح. وذكرنا في الحلقتين الماضيتين أن القمص يستشهد بأراء بعض العلماء وينقل من بعض الكتب، والكتاب الذي قال إنه ينقل منه هو كتاب "المِلل والأهواء والنِّحَل"، وهو كتاب جمع فيه مؤلفه آراء الكثير من الفرق ومن بينها الفرق الضالة المنحرفة عن التعاليم الإسلامية الصحيحة. غير أن القمص لا يذكر هذه الحقيقة لمشاهديه، وإنما يستشهد بذلك الكتاب وبآراء بعض الفرق الضالة المذكورة فيه لكي يؤيد بها رأيه، ويوحي للمشاهد المسلم الذي لم يقرأ هذا الكتاب أو لم يسمع عنه، أن القمص يستشهد بأراء علماء أفاضل من علماء المسلمين.
وقد قلنا من قبل، وكررنا الكلام وأعدنا هذا القول، إن آراء العلماء في الإسلام هي مجرد اجتهادات من جانبهم، قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة. ولا شك أن العلماء قد أصابوا في الكثير مما ذكروه، ولكنهم أخطأوا أيضا في بعض ما قالوه، ولذلك تختلف آراء بعض العلماء مع البعض الآخر. وكل إنسان وهبه الله عقلا وإدراكا مسؤول عما يقرأه، وعليه أن يفكر فيما يقرأ ويقارن بين أقوال العلماء، ثم يختار الرأي الذي ترتاح إليه نفسه ويطمئن إليه قلبه، ولكن لا يوجد رأي معين لعالم من العلماء ملزم لللأمة كلها أن تأخذ به فلا تحيد عنه. فليس في الإسلام كهنوت مثل الكهنوت الذي في المسيحية، التي يقوم فيها القسيس كواسطة بين الإنسان والله تعالى، إذ ينبغي أولا أن يعترف المذنب بخطاياه أمام القسيس قبل أن يغفرها الله له. وإذا قرر الكهنوت عقيدة ما أو تفسيرا معينا أصبح هو التفسير الواجب على أفراد الكنيسة أن تأخذ به، ولا يستطيع أعضاء الكنيسة أن يتخذوا عقيدة إلا ما يقرره الكهنوت. وإذا حدث أن اجتهد أحد برأيه وخرج برأي يخالف ما استقر عليه رأي الكهنوت، اعتبروه كافرا واتهموه بالزندقة والتجديف وطردوه من الكنيسة وحرّموا أن يسمع أحد له أو يقرأ كتبه، وقاطعوه تماما ونبذوه من بينهم. هذا ما حدث لمارتن لوثر الذي ثار على الآراء العقيمة التي كانت تقررها الكنيسة الكاثوليكية، ولم يرجع مارتن لوثر عن آرائه كما فعل من قبل العالم الجليل جاليليو، الذي اضطر إلى إنكار الحقائق العلمية التي اكتشفها، لأن الكهنوت كان يرى أنها تتعارض مع الكتاب المقدس. ثم تمر الأيام والسنون، ويتبين صحة رأي جاليليو وخطأ رأي الكهنوت.
أما في الإسلام فلا كهنوت، وليس هناك من هيئة معينة لها حق تقرير عقيدة معينة تفرض على الناس الإيمان بها، وتصم من لا يؤمن بها بالكفر أو الزندقة. ولذلك فإن استشهاد القمص بآراء العلماء لا قيمة له، وخاصة إذا كان ما يستشهد به من آراء يتعارض مع وحدانية الله تعالى أو مع خُلق الرسول r أو مع كلام الله تعالى في كتابه العزيز. وكما قلنا من قبل إن آراء العلماء الأفاضل اجتهادية قد تصح وقد تخطئ، فكيف إذا كان جناب القمص يستشهد بآراء بعض الفرق الضالة أو بآراء بعض النكرات من علماء هذه الفرق.
وكنا قد ذكرنا في الحلقة الماضية ما قاله جناب القمص نقلا من تفسير واحد من أولئك الذين طوى التاريخ ذكرهم، يقول إن اسمه الإمام أبو السعود محمد بن محمد العمّادي، وقد نقل ذلك المدعو "إمام" أقصوصة رواها نكرة آخر اسمه "السدّي" تقول إن أم يحيى وهي زوجة سيدنا زكريا، قابلت السيدة مريم أم عيسى، فسألتها: يا مريم، أشعرت بحبلي؟ فقالت مريم: وأنا أيضا حبلى. فقالت أم يحيى: إني وجدت ما في بطني، يسجد، لما في بطنك. ويستدل جناب القمص بهذه الأقصوصة على تجسد الله في جسم عيسى عندما كان جنينا في بطن أمه. وقد بيّنا في الحلقة الماضية أن هذه الرواية هي من الإسرائيليات وأوضحنا أن أصلها جاء من إنجيل لوقا.(/14)
ونتابع في هذه الحلقة تقديم بعض الآراء الأخرى التي يزعم جناب القمص أنها من آراء علماء المسلمين، مع أنه نقلها من ذلك الكتاب الذي يحتوي على الغث والسمين، ويحتوي الكثير من آراء علماء الفرق الضالة وآراء من اتبعوا الأهواء من بين الملل، كما يدل على ذلك اسم الكتاب: "الملل والأهواء والنِّحَل". يقول القمص:
"أهل النصيرية والإسحاقية في كتاب الملل والأهواء والنحل، الجزء التاني صفحة 25، بيقولوا إيه؟ بيقولوا: "إن ظهور الروحاني بالجسد الجسماني..."، الجسماني يعني الجسد، "لا ينكره عاقل...". ياسلام؟ طب جبتوه منين؟ بيْكمّلوا، بيقولك كدا: "كظهور جبريل وهو روحاني في صورة أعرابي وتمثله بصورة البشر". كان جبريل بيظهر لمحمد في صورة مين؟ دحية الكلبي، كان شاب وسيم جدا وجميل جدا. فمحمد نفسه والأحاديث كلها بتقول كدا. كان بيظهر له في صورة دحية الكلبي، في صورة إنسان كامل. يعني إذن أهل النصيرية والإسحاقية بيقولوا كدا إن ظهور الروحاني في جسد جسماني، دا ممكن، ما ينكروش واحد عاقل، وبيجيبوا دليل، من القرآن، إن جبريل كان بيظهر في صورة، دحية، الكلبي، وجبريل روحي، روحاني، ودحية إنسان جسد، بيظهر فيه".
ثم يقول القمص للسيدة ناهد متولي عن أهل النصيرية والإسحاقية نقلا من نفس كتاب الملل والأهواء والنِّحَل:
"خلصوا إلى هذا القول: "إن الله، تعالى..."، شوفي، شوفي الكلام، "إن الله تعالى، قد ظهر بصورة أشخاص" المرجع: كتاب الملل والأهواء والنحل، جزء 2 صفحة 25 كمالة للكلام اللي فات. يعني قالوا إيه؟ إن ظهور الروحاني، في جسد جسماني، لا ينكره عاقل، زي ظهور جبريل، في صورة بشر، وكملوا الكلام، فقالوا إيه؟ إن الله تعالى قد ظهر، بصورة أشخاص".
هذا هو ما ذكره جناب القمص زكريا بطرس نقلا من كتاب "الملل والأهواء والنِّحَل"، واستشهد فيه بقول فرقة النصيرية والإسحاقية. وما لم يذكره القمص أن هذه الفرق هي من غلاة الشيعة، وقد قال عنهم الشهرستاني مؤلف كتاب الملل والأهواء والنِّحَل، إنهم كانوا يؤلّهون الأئمّة من أهل البيت، وأنهم جعلوا للإمام عليّ (كرّم الله وجهه) قداسة إلهية، وهم يرون أن النبي r مختص بالظاهر، وأن عليّا مختص بالباطن، ويقولون إن النبي كان مختصا بحرب المشركين، وأما عليّ فمختص بحرب المنافقين، وأنه كان مختصا بتاييد إلهي" (راجع كتاب الملل والنحل الجزء الأول ص168-169، وكتاب إسلام بلا مذاهب للدكتور مصطفى الشكعة ص 342).
هؤلاء هم الذين ينقل عنهم جناب القمص، وهؤلاء هم الذين يدعونا جناب القمص أن نأخذ عنهم أمور ديننا، وهؤلاء هم الذين يحاول جناب القمص أن يقنعنا بصحة عقيدتهم في تجسد الله، تعالى الله عما يصفون.
غير أن القمص لا يكتفي فقط بالاستشهاد بأقوال الفرق الضالة والملل المنحرفة، وإنما يزيد الطين بلة فيخلط كلامه بكلامهم، متعمّدا تشويش السامع ليضع في ذهنه المعنى الذي يريد هو أن يوصله للمشاهدين. ولذلك نراه يقول:
"يعني إذن أهل النصيرية والإسحاقية بيقولوا كده إن ظهور الروحاني في جسد جسماني، دا ممكن، ما ينكروش واحد عاقل، وبيجيبوا دليل، من القرآن، إن جبريل كان بيظهر في صورة، دحية، الكلبي، وجبريل روحي، روحاني، ودحية إنسان جسد، بيظهر فيه".
فهو يدّعي كذبا وبهتانا أن فرقة النصيرية والإسحاقية قد أتوا بدليل من القرآن على أن جبريل كان يظهر للنبي r في صورة دحية الكلبي، مع أن القرآن المجيد يخلو تماما من ذكر هذه الواقعة التي لم يأت ذكرها إلا في الأحاديث، ولكن القمص يريد أن يضفي عليها أهمية وتأكيدا أكثر بأن ينسبها إلى القرآن الكريم، ثم يزيد على ذلك قوله بأن جبريل: "روحاني، ودحية إنسان جسد، بيظهر فيه" وهذه الجملة هي كذب فاضح وتزوير واضح، لأنه لا يوجد ولا آية من القرآن المجيد، ولا حديث واحد من الأحاديث الصحيحة أو حتى الضعيفة تقول إن جبريل كان يظهر في جسد دحية الكلبي، وإنما كان يظهر في صورة دحية الكلبي. أي أنه كان يتمثل في صورة دحية الكلبي، ولكنه لم يحل في جسده ولم يتجسد فيه، بحيث يأتي دحية الكلبي بذاته وشخصه إلى الرسول r وقد حل جبريل في جسده، فيقوم جبريل بالكلام مع الرسول r من خلال جسم دحية الكلبي، فهذا هو ما يريد جناب القمص أن يقنعنا بأن هذا ما فعله الله تعالى عندما حل في جسم المسيح، حسب كلام بولس الذي كتب إلى صديقه تيموثاوس في رسالته الأولى قائلا: "عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد" (16:3).
ويضيف القمص إلى مجموعة استشهاداته قولا آخر منسوبا إلى الشيخ أبو الفضل القرشي الذي كتبه كحاشية على تفسير البيضاوي. إذ يقول القمص:
"الشيخ أبو الفضل القرشي، في كتابه، هامش الشيخ القرشي، على تفسير الإمام البيضاوي، جزء 2 صفحة 143 قال إيه؟ قال: "إن اللاهوت، ظهر في المسيح، وهذا لا يستلزم الكفر، وأن لا إله إلا الله".(/15)
ومن الواضح أن جناب القمص يحاول مستميتا إقناع مشاهديه من المسلمين بأن عقيدة التجسد التي تؤمن بها المسيحية المغلوطة هي عقيدة صحيحة سليمة ويؤمن بها أيضا علماء المسلمين، وهذا غير صحيح بالطبع. وأنا لم أر كتاب الشيخ القرشي لأحكم له أو عليه، ولكن لو افترضت أن جناب القمص صادق في كلامه، وأنه نقل نص كلام الشيخ القرشي بأمانة، فلا شك أن الشيخ القرشي قد أخطأ الرأي. ومع ذلك أقول إنه من المحتمل أن يكون الشيخ القرشي قد ذكر قول النصارى، ثم جاء جناب القمص لينقل جزءا من جملة الشيخ القرشي ليخدع بها المشاهدين المسلمين. فمثلا من المحتمل أن تكون الجملة الأصلية هي: "يقول النصارى أن اللاهوت ظهر في المسيح، وأن هذا لا يستلزم الكفر، وأن لا إله إلا الله". فإذا أسقطنا من الجملة كلمتين وهما "يقول النصارى" صارت الجملة كما نقلها جناب القمص. لذلك لا بد من التأكد من المصدر نفسه الذي لم يكن من السهل العثور على نسخة منه، ولو كان لدى جناب القمص، أو لدى أولئك الذين يعدّون له البرامج التي يقدمها، نسخة من ذلك الكتاب، فحبذا لو مكّنوني من الاطلاع عليها، أو فليخبروني كيف أحصل على نسخة منه، وأكون لهم من الشاكرين.
أما إذا كان الشيخ القرشي قال فعلا هذ الكلام، فقد أخطأ خطأ فاحشا، ولا شك أنه كان متأثرا بأقوال النصارى، وقوله ليس حجة، لا على الإسلام ولا على المسلمين. وقد يحدث أحيانا أن يؤمن المرء بعقائد خاطئة وهو لا يعلم أنه مخطئ، ومن قبل كان المشركون في زمن الرسول r يدّعون أنهم مؤمنون بالله تعالى. ولا شك أنهم كانوا يعرفون الله U، وكانوا يقدسونه ويبجلونه حتى من قبل ظهور الإسلام، بدليل أن عبد المطلب، جد الرسول r أطلق اسم "عبد الله" على أحد أبنائه، وهو الذي تزوج من السيدة آمنة بنت وهب وأنجبا محمد r. إذن فالله كان معروفا ومبجلا عند العرب من قبل مجيء الإسلام، وأما الأصنام فلم يكونوا يعبدونها إلا لتقرّبهم إلى الله زلفى. ويروي الكتاب العزيز عن أولئك الذين يتخذون أوليآء من دون الله فيعبدونهم وهم يظنون أنهم بذلك يتقربون إلى الله تعالى، حيث يقول ]وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونآ إِلى اللهِ زُلْفَى[ (الزمر:3). وهذا ما يريد منا جناب القمص أن نفعل، وهو أن نتخذ من المسيح الإنسان إلها نعبده، ثم نخدع أنفسنا ونقول إننا نعبد الله الذي تجسد فيه.
والغريب جد غريب، أن جناب القمص يعتبر المسلمين جهلة، ولا يريدون أن يعرفوا الحقيقة التي يعرفها هو ومن نهجوا نهجه، وهي أنهم في الحقيقة يعبدون إنسانا يدّعون أن الله تجسد فيه. ولذلك فهو يقول:
"إذن القرآن يشهد للروحاني إنه بيظهر في جسد جسماني، وأهل العلم والفقه والمعرفة يشهدوا إن دا أمر مش كفر، وإن دا يظهر فعلا. طيب انهارده ليه الأخ المسلم بيستبعد هذه الفكرة، عارفة ليه؟ لإنه ما بيدرسش، ما بيقراش. ماهي القضية والمشكلة: ضحالة المعرفة. الأخ المسلم بكل أسف شديد، بكل أسف شديد، إنه نشأ كدا، واتربى كدا، وعرف كدا، وهذه أمور مسلّمات غير قابلة للتفكير، غير قابلة. احنا طلعنا لقينا كدا. من صغرنا مفهمّنا إن النصارى كفرة، وبيعبدوا إنسان، بياكل وبيشرب، وبيعمل حاجات تانية. خلاص، اتقفّلت الأمخاخ. لالالالالالالا دا انتوا كفرة. طب عيد التفكير! مش تقرا كتبنا، أو كتب الإنجيل، لأ، اقرا القرآن، بوعي. اقرا التفاسير بفهم، وهيه اللي حتوصّلك، زي المسيح ما قال: فتشوا الكتب، بتاعتكم، التي تظنون، أن لكم فيها حياة أبدية. هي بعينها، التي سوف تشهد لي. فهي دعوة لأحبّاءنا المسلمين، يا ريت. اقرا كتبك، اقرا تفاسيرك، فكر بعقلية القرن الحادي والعشرين، ليس بالعقلية البدوية القديمة، الناس اللي كانوا جهلة ما بيعرفوش يقروا ولا يكتبوا. مش معروف كدا، حتى النبي، كان أمّي؟ فهل حنعيش يعني بالعقلية الجاهلة، والأمية؟ لأ، نفكر".
ونحن نشكر جناب القمص على دعوته للتفكير، ونقبلها على الرحب والسعة، ونقول له تعال نفكر سويا، وتعالى نُشهد حضرات المشاهدين على أفكارنا، وتعالى ندعو الإخوة المسيحيين أيضا لكي يشاركونا التفكير حتى نصل جميعا إلى الحقيقة، إذا كنتم تحبون الحق فعلا وتريدون أن تكونوا في جانب الحق.(/16)
لقد نصحتنا يا جناب القمص أن نقرأ القرآن، والقرآن الكريم يؤكد وحدانية الله تعالى كما يؤكد توحّده وتفرّده، وأنه يختلف عن كل شيء موجود، فكل ما هو موجود سواه مخلوق، وأما هو فليس مخلوقا وإنما هو أزلي الوجود، قائم بذاته، كامل في ذاته، ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[، فهو ليس مادة مثل عالمنا المادي، وهو ليس روحا مثل أرواح البشر، كما أنه ليس روحا كأرواح الملائكة، وهو لا يتحدد في مكان ولا يتأثر بزمان، فهو يحتوي المكان والزمان، ولا يحتويه مكان ولا يمر عليه زمان. ألا ترى يا جناب القمص أن هذا هو الإله الذي يستحق العبادة؟ فهل ترى أن الإيمان بهذا الإله يُعتبر جهالة؟ هل ترى أنه نتيجة لضحالة المعرفة؟ وقل لي بربك يا جناب القمص، وليشهد عليك المشاهدون من المسيحيين والمسلمين على السواء، هل الإيمان بهذا الإله يتعارض مع عقلية القرن الحادي والعشرين؟ وإذا كان النبي، الأميّ، هو الذي علمنا أن نؤمن ونعبد هذا الإله، فهل يُعتبر ذلك منه جهالة، وأنه من فكر عقلية بدوية قديمة، وأنه كان نتيجة لعقلية جاهلة وأمية؟
والآن، تعالى نرى الإله الذي قدمته لنا يا جناب القمص. إله يتكون من ثلاثة أقانيم، كل أقنوم منهم قائم بذاته ولكنه لا ينفصل عن غيره، وأحد هذه الأقانيم يأخذ جسدا من أجساد البشر ويحل فيه، ورغم أنه موجود في جسد ذلك الإنسان، فهو أيضا موجود في كل مكان آخر، ولكنه لن ينفصل عن جسد الإنسان، بل أخذه معه ورجع إلى الأقنومين الباقيين، وجلس عن يمين الله بجسده الإنساني. فقل لي بربك يا جناب القمص، وليشهد عليك المشاهدون من المسيحيين والمسلمين على السواء، هل الإيمان بهذا الإله يتفق مع عقلية القرن الحادي والعشرين؟ وهل يعود هذا الإيمان إلى العقلية البدوية القديمة أم أنه يذهب إلى أقدم من ذلك.. إلى العصر اليوناني الوثني الذي كانت فيه الآلهة تنْزل إلى الأرض وتختلط بالبشر؟ وإن كنت لا توافقني يا جناب القمص، فأنا أتحداك، وأُشهد عليك المشاهدين من المسيحيين والمسلمين على السواء، أن تأتي لي بآية واحدة من القرآن الكريم تقول إن الله قد تجسد في جسد إنسان قبل التجسد المزعوم في جسد المسيح. فإن لم تستطع أن تأتي بآية من القرآن، وأنت حتما لن تستطيع ذلك، فإني أتحداك مرة أخرى أن تأتي بأي فقرة من العهد القديم في الكتاب المقدس، تقول إن الله قد حل في جسم إنسان معين وتجسد فيه. لا تقل إن الله تجلى للجبل أو تجلى لموسى في العليقة أو في الشجرة أو في النار، فإن التجلي معناه ظهور آثار صفة من صفات الله تعالى أو بعض صفاته في شيء معين، مثل العليقة أو الشجرة أو النار أو غيرها. وما دمت تنصح المسلمين يا جناب القمص أن يفتشوا الكتب، فالأوْلى بك أن تعمل أنت بالنصيحة التي توجهها إلى غيرك، وفتش العهد القديم جيدا لتعلم أن تجلي الله تعالى أو حتى ما يسمى بظهور الله، هو في الحقيقة ظهور أثر بعض صفاته، ولا يعني تعبير "ظهور الله" ظهور الذات الإلهية، وإنما ظهور أثر صفة من صفاته أو بعض صفاته.
يقول كتابك المقدس يا جناب القمص عن "ظهور الله" لموسى في العليقة ما يلي:
"وأما موسى فكان يرعى غنم يثرون حميه كاهن مديان، فساق الغنم إلى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب. وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة، فنظر وإذ العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق. فقال موسى أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم، لماذا لا تحترق العليقة. فلما رأى الرب أنه مال لينظر ناداه الله من وسط العليقة وقال موسى موسى، فقال هأنذا. فقال لا تقترب إلى ههنا، اخلع حذائك من رجليك لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة. ثم قال أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب. فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله" (الخروج 3: 1-6).
ومن الواضح يا جناب القمص أن "ملاك الرب" هو الذي ظهر لموسى، وقد تمثل له في صورة نار في العليقة، أي أنه لم يتحوّل إلى نار بالفعل بل ظهر لعينه كأنه نار، ولذلك لم تكن النار تحرق العليقة. وظهور ملاك الرب يُعَبر به عن ظهور الله نفسه، لأنه يتم بأمر الله وقدرته وحسب مشيئته، والرسالة التي يقوم بتبليغها لموسى هي رسالة من عند الله تعالى. لذلك فإن الكلمات "ناداه الله من وسط العليقة"، لا تعني أن الله تعالى قد حل بذاته في العليقة أو أنه تجسد فيها، وإنما تعني أنه بقدرته U جعل موسى يرى ما شاء الله أن يراه، ويسمع ما أراده أن يسمعه. ولذلك فقد أرسل ملاكا من ملائكته ليقوم بتبليغ موسى ما يشاء الله أن يبلغه إياه، فكل ما يقوله الملاك يُنسب إلى الله تعالى، وكلامه هو كلام الله تعالى، فالملاك لا يتصرّف من نفسه، ولا يتكلم بلسانه، وإنما ينفّذ مشيئة الله تعالى، ويُحدّث بكلام الله تعالى.(/17)
هذا يا جناب القمص هو الفرق بين العلم الصحيح وضحالة المعرفة، وبين الفهم السليم وجهالة الوثنية القديمة، وبين عقلية القرن الحادي والعشرين وعقلية قرون ما قبل الميلاد، عندما كانت تسود الأفكار القديمة والخرافات اليونانية. والآن، لك الخيار يا جناب القمص، أنت وجميع المسيحيين الذين لا يريدون ضحالة المعرفة، ويحبون أن يجتنبوا الوثنية القديمة، ويبتغون أن يعيشوا في القرن الحادي والعشرين.. هل تريدون أن تؤمنوا بإله قدير، يستطيع أن يوحي إلى عباده من الأنبياء والرسل بدون أن يضطر إلى أن يحل في عليقة أو يتجسد في شكل نار من أجل أن يتكلم مع نبيه موسى، أم تفضلون أن تؤمنوا بإله عاجز يشوبه النقص ولا يستطيع أن يوصل كلماته إلى موسى بغير أن يأتي إليه ويحل في عليقة؟ إننا نعيش في القرن الحادي والعشرين يا جناب القمص، كما أننا نعيش أيضا في عصور الحرية وحقوق الإنسان. ومن حق كل إنسان أن يؤمن بما يريد. فمن أراد أن يعبد بقرة بثلاثة أرجل، فهو حر. ومن أراد أن يؤمن بإله عاجز قليل الحيلة ناقص القدرة، فهو حر أيضا، ومن أراد أن يختار ضحالة المعرفة بدلا من العلم الصحيح، أو أراد أن يختار الوثنية القديمة بدلا من الفهم السليم، أو أراد أن يختار الخرافات اليونانية في عصور ما قبل الميلاد بدلا من عقلية القرن الحادي والعشرين، أو أراد أن يختار الغباء بدلا من العقل والذكاء، فهو حر، ولكن عليه أن ينظر إلى نفسه أولا قبل أن ينظر إلى الآخرين، وأن ينصح نفسه أولا قبل أن ينصح الآخرين، وأن يخرج الخشبة من عينه أولا قبل أن ينظر القذى في عيون الآخرين، وأن يرعى بيته المصنوع من الزجاج قبل أن يقذف الناس بالحجارة.
( 25 )
الحمد لله تعالى الذي مكننا من أن نلتقي بكم مرة أخرى في هذه السلسلة من حلقات "أجوبة عن الإيمان" التي نرد بها على جناب القمص زكريا بطرس في الحلقات التي قدمها باسم "أسئلة عن الإيمان". وقد حدثنا القمص على مدى أربع حلقات عن موضوع الثالوث، ثم حدثنا في أربع حلقات أخرى عن موضوع تجسد الله في المسيح. ويبدو أن جناب القمص قد استنفد كل حيله وألاعيبه في حلقة واحدة عن موضوع التجسد، فراح يعيد ويكرر الكلام في الحلقات الثلاث الأخرى، ويقول للسيدة ناهد متولي إن التكرار يعلم الشطّار، ولعله يستعمل سياسة غسيل المخ، فهو يقول ويقول ثم يكرر ويكرر، لعل المشاهدين المسلمين يصدقوا كلامه، أو لعل بعض البسطاء من المسلمين يتأثر بكلامه وينخدع بأسلوبه. ولعله يتبع ما ذكره الإنجيل عن ضرورة التشبه بالحيّات والأفاعي ناعمة الملمس التي تبدو متواضعة حتى إنها تمشي ملتصقة بالأرض، ولكنها للأسف مملوءة بالسم القاتل لمن ينخدع بجلدها الناعم ومظهرها اللين وتواضعها الجم، فإذا اقترب منها لا يناله منها غير السم الذي يقضي عليه.
ولأن جناب القمص يريد أن يخدع المشاهدين المسلمين، راح يستشهد على صدق كلامه بما جاء على لسان بعض الفرق الضالة والمنحرفة عن تعاليم الإسلام، وكثير من هذه الفرق قد ظهرت على مدى التاريخ الإسلامي ثم اندثرت، ولكن جمعها كتاب "الملل والأهواء والنِّحَل"، فكان ذلك الكتاب بمثابة الكنْز العظيم لجناب القمص لينقل منه آراء هذه الفرق الضالة، ويحاول أن يقنع بها المسلمين، مصوّرا إياها على أنها آراء لعلماء أفاضل من علماء الإسلام، ولا يقول بالطبع أنها آراء ضالة لفرق ضالة اندثرت منذ زمن بعيد ولم يعد لها وجود.
ومن بين هذه الفرق التي يستشهد جناب القمص بأقوالها فرقة "الحائطية"، التي أسسها شخص يقول إن اسمه "ابن الحائط". فيقول القمص:
"الحائطية بقى، وهي فرقة من فرق الإسلام، برضه في كتاب "الملل والأهواء والنِّحل"، قال الإمام أحمد بن الحائط إمام فرقة الحائطية عن المسيح، قال: "إن المسيح، تدرّع، بالجسد الجسماني..."، يعني لبس، تدرّع خده درع، "تدرّع بالجسد الجسماني، وهو، الكلمة القديمة، الأزلية، المتجسد، كما قالت النصارى". الكلام دا موجود في كتاب الملل والأهواء والنّحل الجزء الأول صفحة 77.
ثم يعلق جناب القمص على هذا الكلام فيقول:
"يعني فكر الله تجسد، فكر الله ظهر، زي ما قلنا في المثل الأولاني، إن أنا عندي افكار في دماغي، وبعدين بمسك القلم، وبكتب، فبجسد الفكرة بالحبر والقلم. فأُعلنت الفكرة، ظهرت الفكرة، قُرأت الفكرة، عُلمت الفكرة. فالله عايز يعرّفنا فكره، يعمل إيه؟ فبدل ما يكتب على ورقة وقلم، كتب في جسد إنسان، ظهر في جسد إنسان، حط فكره في جسد إنسان. لأن ساعات الواحد يكتب على ورق، وساعات يكتب على حجر، مش كده؟ صخر، يكتب، وجلد، وعضم، مش كده؟ طب الله كتب على جلد وعضم إنسان. أنا مش فاهم فيه صعوبة في الحاجات دي؟ هيه طبعا منطق بسيط وسليم، لكن الإيمان القلبي الداخلي، يحتاج إلى لمسة من ربنا".(/18)
فعلا يا جناب القمص.. الإيمان القلبي الصحيح يحتاج إلى هداية خاصة من الله تعالى، أما من يتبع الملل والأهواء والنّحل، فينتهي به الأمر إلى هذا الخليط الغريب من الأفكار الخاطئة، وهذا المزيج المتنافر من الآراء الهزيلة المتناقضة.
جناب القمص يريد من المسلمين أن يأخذوا دينهم من كتاب الملل والأهواء والنِّحل، ويريد منهم أن يبنوا عقائدهم التي تتعلق بالله تعالى على ما يقوله ابن الحائط (واسمه ابن الخابط وليس ابن الحائط) وليس على ما يقوله الرسول r. ولا عجب طبعا في هذا، فإن جناب القمص وشركاه يأخذون دينهم من كتابات متّى ومرقص ولوقا ويوحنا، ويبنوا عقائدهم التي تتعلق بالله تعالى على ما يقوله بولس وليس على ما يقوله السيد المسيح. وجناب القمص يتبع نفس أسلوب بولس الفلسفي الذي يقدم لك أفكارا تبدو للوهلة الأولى أنها صحيحة، ولا تستطيع العين العابرة أن تكتشف خطأها، ثم يبني على هذه الأفكار الخاطئة، ويضيف أخطاء إلى أخطاء، ويفعل هذا بالتدريج حتى لا يشعر القارئ العادي بهذه الأخطاء، وفي النهاية يجد القارئ نفسه أمام نتيجة يشعر أنها خاطئة، ولكنه لا يعرف لماذا وأين هو مكان الخطأ.
يقول جناب القمص عن تجسد الله في جسم المسيح أن عقل الله، الذي هو ابن الله، الذي هو من طبيعة الله، الذي هو كلمة الله، قد تجسد في جسم المسيح، تماما كما تتجسد أفكار العقل في كلمات يمكن أن تُكتب في كتاب. فما هو وجه الخطأ في هذا الكلام؟ أليست الأفكار هي بنت العقل؟ ألا نعتبر أن الرأي الذي نعبر عنه هو من بنات أفكارنا؟ ثم ألسنا نجسد بنات الأفكار هذه في كلمات نكتبها على أوراق؟ وقبل اختراع الورق، ألم نكن نجسد بنات الأفكار هذه فنكتبها على حجر أو صخر أو جلد أو عظم؟ فما هو وجه الخطأ في أن تتجسد كلمة الله التي تعبر عن عقل الله أو عن فكر الله، وبدلا من أن تُكتب على الورق أو على الصخر، تكتب على جلد وعظم إنسان هو المسيح، فتظهر كلمة الله هذه في إنسان؟
هذا هو المنطق الذي يستخدمه جناب القمص، ويقول إنه بسيط وسليم، ولا يرى أية صعوبة فيه، وهو لا يعرف لماذا نحن معشر المسلمين لا نقبل هذا المنطق الذي يظنه بسيطا وسليما. ويرى أن السبب في ذلك هو أننا لا نريد أن نقرأ، وإذا قرأنا فإننا لا نريد أن نفهم، وإذا فهمنا فإننا لا نريد أن نقبل الحق، وأننا في الواقع نشأنا هكذا وتربينا على الأفكار الخاطئة التي وضعوها في أدمغتنا، وخدعونا عندما قالوا لنا إن النصارى يعبدون إنسانا، يأكل ويشرب، ويعمل "الأشياء الأخرى" من المتطلبات البشرية. ويبدو أن القمص لا يفهم خطأ المنطق الذي يظنه سليما. فتعالوا ننتقل خطوة بخطوة مع أفكار القمص، ونحللها لنرى مواطن الخطأ، ونكتشف الأخطاء المتوارية.
أولا: إنه يرى أننا نعبر عن أفكارنا بكلمات، وهذا صحيح، وعلى هذا فلا مانع أن تكون الكلمة هي تعبير عن فكر الله، وهذا أيضا صحيح، ولكن الخطأ المتواري هو أن الكلمة التي نعبر بها عن العقل أو نُظهر بها الفكر، تختلف عن ذاتنا. فالكلمة تعبير عن العقل، ولكن ليست هي العقل، إنها تنتج عن العقل، ولكنها ليست هي العقل. فإذا كان المسيح هو كلمة الله، وإذا كان المسيح يعبر عن فكر الله، فما الذي يجعله عقل الله ويجعله ذات الله؟
ثانيا: يقول القمص إن الأفكار تتجسد في كلمات، ولكن هذا غير صحيح، فالأفكار لا تتجسد. قد يكون هذا تعبير مجازي، ولكن المجاز شيء والواقع شيء آخر. إن الكلمة تعبر عن الفكر ولكن ليس هناك جسد أو جسم حقيقي للكلمة، بل هناك شكل متفق عليه للكلمة المقروءة، أو أصوات معينة للكلمة المسموعة، ولكن يقينا ليس هناك جسم معين للكلمة. فالكلمة لا تتجسد، ولا تظهر في جسم معين. فما الذي يجعل كلمة الله تتجسد في جسم المسيح؟
ثالثا: إن الله تعالى عبّر عن إرادته، أو عن فكره، لموسى u عندما كلمه وأمره بالذهاب إلى فرعون ليخرج بني إسرائيل من مصر. ولكن كلام الله مع موسى لم يكن هو ذات الله، ولم يحل الله في موسى، ولم يتجسد فيه، فإذا كان المسيح مجرد كلمة من كلمات الله، فلماذا يكون هو ذات الله؟ هل لمجرد التعبير في بعض اللغات عن الكلمة بصيغة المذكر يجعل الكلمة تصبح ذات الله كما يدّعي القمص؟ هل هذا هو المنطق البسيط والسليم؟ وماذا عن اللغات التي لا تُستعمل للكلمة فيها صيغة المذكر، مثل اللغة الإنجليزية مثلا أو اللغة الألمانية؟ وقد شرحنا من قبل أن اللغة العربية تسمح باستعمال صيغة المؤنث أو المذكر لكل ما ليس له أعضاء تناسلية، فنقول هذا الطريق أو هذه الطريق، ونقول هذا السبيل أو هذه السبيل، ويمكن التعبير عن بعض الألفاظ بصيغة مذكرة أو مؤنثة، مثل شرع وشريعة، والمكان الذي يقطن فيه جمع من الناس يسمى بلد أو بلدة، ولذلك يمكن جمع بعض الألفاظ جمعا مؤنثا أو جمع تكسير، مثل كلمات وكَلِمٌ، وشجرات وأشجار.(/19)
رابعا: لقد أوْحى الله تعالى إلى موسى شرعا يتكون من كلمٍ كثير، ويمكن أن نقول مجازا إن كلمات الله تعالى قد "تجسدت" في شريعة الله التي أنزلها على موسى. ومع ذلك فإن هذا الشرع ليس هو ذات الله، ولم يتجسد الله في الشريعة أو في الناموس الذي نزل على موسى، فما الذي يجعل كلمة الله الذي هو المسيح، أو التي هي المسيح، تكون هي ذات الله المتجسدة؟
خامسا: حينما نكتب كلماتنا على ورقة فإنها لا تتجسد على الورقة، لأنها لا تدخل في أي جسم مخلوق ولا تحل فيه، وإنما عندما نعبر عن الكلمات بالكتابة فإننا نضعها في أشكال معينة متفق على معناها. صحيح أنها تعبر عن أفكارنا، ولكننا نستطيع أن نعبر عن أفكارنا بعدة طرق غير الكلمة المكتوبة أو الكلمة المنطوقة، إذ يمكن أن نعبر عن أفكارنا ومشاعرنا بالإشارات أو باللمسات أو بتعبيرات الوجه أو بنظرة من العين أو بالربت على الأطفال والأحبة. لذلك فإن كلام القمص يثير الضحك والسخرية عندما يقول:
"فالله عايز يعرّفنا فكره، يعمل إيه؟ فبدل ما يكتب على ورقة وقلم، كتب في جسد إنسان، ظهر في جسد إنسان، حط فكره في جسد إنسان. لأن ساعات الواحد يكتب على ورق، وساعات يكتب على حجر، مش كده؟ صخر، يكتب، وجلد، وعضم، مش كده؟ طب الله كتب على جلد وعضم إنسان".
لقد ظل الله تعالى منذ عهد آدم إلى عهد المسيح، وعلى مدى أكثر من أربعة آلاف عام، يُعرّفنا فكره، ولم يحتر ولم يتردد لحظة ليسأل: "يعمل إيه"؟ كما يقول القمص. لقد عرّفنا الله فكره، وعرّفنا إرادته، وعرّفنا مشيئته، وأمرنا أن نتبع هذه المشيئة، وأن نطيع هذه الإرادة. واقرأوا العهد القديم من أوله إلى آخره، ولن تجدوا فيه أي تردد أو حيرة، وإنما تكلم الله مع أنبيائه وبلّغهم إرادته ومشيئته، وعرّفهم فكره، ومنهم عرفنا هذه الإرادة وتلك المشيئة وذلك الفكر. فما الذي يضطره الآن لأن يغير من سُنته وأسلوبه، ويجعله "يكتب" على جلد وعظم إنسان لكي يُعرفنا فكره؟ وإذا افترضنا جدلا أنه أراد أن يكتب فكره على جلد وعظم إنسان، فهل يعني هذا أنه حل في ذلك الإنسان أو تجسد فيه؟ وإذا كان الله تعالى يُعرّفنا فكره على مدى أربعة آلاف سنة عن طريق كلماته التي بلّغها إلى أنبيائه ورسله، ولم يحل ولم يتجسد في أحد منهم، فلماذا عندما "يكتب" كلمة في جلد وعظم إنسان، يُقال إنه حل وتجسد في ذلك الإنسان؟
ثم ما معنى تجسد الله؟ وهل يمكن أصلا أن يتجسد الله؟ هل يمكن أن يتحدد الغير محدود؟ لقد حكى لنا جناب القمص حكاية لطيفة في إحدى حلقاته، فذكر أن أحد الحكماء أراد أن يفكر فيما عسى أن يكون الله وماهية ذاته وصفاته، فحاول أن يستخدم عقله لكي يعرف كل شيء عن الله تعالى. وحدث أنه نام فرأى رؤيا غريبة. رأى أنه يمشى على شاطئ البحر الواسع الكبير، فشاهد طفلا وقد حفر حفرة صغيرة على شاطئ البحر، ثم راح يملأ دلوه الصغير من ماء البحر ويصبّه في الحفرة الصغيرة، ثم يعيد ملأ دلوه الصغير وصبّه في الحفرة الصغيرة. فأخذ يراقبه بعض الوقت، ثم سأله عما يفعل، فقال الطفل إنه لا يفعل شيئا، فقال الحكيم إنه كان يراقبه ورآه يملأ دلوه الصغير من ماء البحر ويصبه في الحفرة الصغيرة. وسأله عن غرضه من ذلك الفعل. فقال الطفل إنه يريد أن ينقل ماء البحر ويضعه في الحفرة الصغيرة. فاندهش الحكيم لذلك واستنكر فعل الطفل، وقال له: كيف يمكن أن تنقل هذا البحر الواسع العظيم الغير محدود وتضعه في هذه الحفرة الصغيرة المحدودة؟ فقال له الطفل: وكيف تريد أنت أن تضع هذا الإله العظيم الغير محدود في عقلك هذا المحدود؟ فاستيقظ الحكيم من نومه وقد أدرك أنه لا يستطيع أن يفهم جميع صفات الله تعالى ويدرك ماهيته بعقله المحدود.
والغريب أن جناب القمص الذي حكى لنا هذه الحكاية، هو نفسه الذي يقول لنا إن الله الغير محدود يمكن أن يتجسد في جسم إنسان محدود. أليس هذا أمر عجيب؟ ولكن لا شيء عجيب مع جناب القمص، فهو يثبت بهذا أنه أستاذ المتناقضات الذي يؤمن أن الإنسان لا يستطيع بعقله المحدود أن يفهم كل شيء عن الله الغير محدود، ومع ذلك فهو يؤمن في نفس الوقت أن الله غير المحدود يمكن أن يتجسد في جسم إنسان محدود!!(/20)
لقد ذكرنا من قبل أن الله تعالى يختلف عن كل شيء سواه، فكل شيء سواه مخلوق وهو غير مخلوق، كل شيء سواه محدود وهو غير محدود. إن الله ليس مادة مثل العالم المادي، وهو ليس روحا مثل أرواح البشر وليس روحا كأرواح الملائكة. إنه واحدٌ أحد، فريد في ذاته، ومتفرّد في صفاته، وليس كمثله شيء. ولذلك فهو يسمو على كل شيء، ويعلو على كل شيء، ولا يحده شيء. وهو يحتوي المكان والزمان، ولا يحتويه مكان، ولا يمر عليه زمان. إنه يتجلى ويظهر بصفاته وليس بذاته، أي أننا نستطيع أن نشاهد آثار صفاته، ولكننا لا نستطيع أن نشاهد ذاته. ومع أنه موجود في كل مكان، فإن وجوده هذا ليس وجودا مادّيا، فهو لا يحل في أي مكان، بل هو يجل عن كل مكان. ومع أنه موجود في كل شيء إلا أن كل شيء ليس هو الله، ولا هو جزء من الله، فكل شيء يختلف عن الله، وهو سبحانه لا يتجزأ ولا ينقسم ولا تنفصل ذاته عن ذاته.
وعلى هذا فإن مفهوم "الحلول" أو "التجسد" نفسه يتعارض ويتناقض مع صفات الله تعالى. فلماذا يقول القمص إن الله حل في هذا المكان أو ذاك وهو موجود أصلا في كل مكان؟ وما الفرق بين هذا المكان الذي يقال إن الله حل فيه، وكل مكان آخر لم يحل الله فيه؟ إن جناب القمص يؤمن بأن الله موجود في كل مكان، وعلى حسب فهمه هذا يكون الله موجودا في مريم، كما هو موجود في الجنين الذي في بطنها، وهو موجود في المسيح المولود كما هو موجود في السرير الذي ينام عليه، فما معنى الحلول إذن؟ إذا قلنا إن الله قد حل في هذا المكان ولم يحل في ذلك المكان، وكان معنى هذا أن الله موجود في هذا المكان وليس موجودا في ذلك المكان لتعارض ذلك مع الأساس الذي يبني عليه القمص إيمانه، وهو أن الله موجود في كل مكان. وعلى هذا فلا يمكن منطقيا القول بأن الله حل في أحد أو حل في مكان ما إلا إذا كان ذلك بطريق المجاز، والمجاز يختلف عن الحقيقة. وعندما يختلط المجاز بالحقيقة ينتج التشويش الذي "يلخبط" العقول ويشوّش الأفكار. وجناب القمص أستاذ كبير من أساتذة الخلط بين الحقيقة والمجاز، فهو يحدثنا عن بنات الأفكار ويقول إن الفكرة هي بنت العقل، وهذا تعبير مجازي، ويستنتج من هذا التعبير أن المسيح هو ابن عقل الله على وجه الحقيقة. وهو يقول لنا إن الأفكار يمكن أن تتجسد في كلمات، وهذا تعبير مجازي، ويستنتج من هذا التعبير أن كلمة الله تجسدت في المسيح على وجه الحقيقة. وهو يقول لنا إننا نجسد كلماتنا بكتابتها على أوراق أو على جلد أو عظم، وتجسد الكلمات تعبير مجازي، ولكنه يستنتج من المجاز أن الله جسد كلمته بأن كتبها في جسد المسيح على وجه الحقيقة.
ولكن انصافا للحق ينبغي أن نقول إن جناب القمص معذور، فماذا يفعل لكي يقنعنا بما هو مستحيل؟ إن العقائد المسيحية المغلوطة عقائد متناقضة تصطدم بالعقل وتتناقض مع المنطق، فليس أمام القمص سوى أن يلجأ إلى أسلوب من يلعب بالـ 3 ورقات، وهو شخص يمتاز بخفة اليد، يمسك في أصابعه بورقات ثلاث من أوراق اللعب، اثنتين منها متشابهتان والثالثة مختلفة، وهو يكشف للمشاهد الورقات الثلاث ثم يقلبها ويطلب منه أن يستخرج الورقة المختلفة، بعد أن يقوم بتحريك الورقات الثلاث أمام أعين المشاهدين، ولكن بسبب خفة يده فإنه يستطيع أن يخدع أنظارهم فلا يفطنوا إلى مكان الورقة المختلفة. وجناب القمص يقوم بنفس العمل، ولكن باستخدام الأمثلة والأساليب المجازية، ثم يقوم عن طريق خفة لسانه بخلط الأمور أمام المشاهد أو السامع، ويستنتج النتيجة التي يريد للمشاهد أن يراها، فيقع السامع في الخطأ ما لم يفطن إلى خطأ المنطق الذي يستعمله جناب القمص ببراعة من يلعب بالـ 3 ورقات.
فجناب القمص يقول لنا إن الكلمة قد حل في جسد المسيح، ولذلك فقد أصبح المسيح هو الله ابن الله، مع أن المسيح نفسه لم يقل أبدا هذا الكلام، ولم يقل بتاتا إنه إله ابن إله، وكل ما قاله هو إنه ابن الله، وذلك على سبيل المجاز. ومع ذلك فإن الكتاب المقدس، وإنجيل لوقا بالذات، يقول لنا إن الملاك قال للسيدة مريم: "الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك". والروح القدس واحد من الأقانيم اللاهوتية الثلاثة، فإذا كان حلول الأقنوم الابن قد جعل من يسوع إلها ابن إله، فلماذا حلول الأقنوم الروح القدس لا يجعل من مريم إلهة بنت إله؟ إن هذا هو نفس المنطق الذي يستعمله القمص في إثبات الألوهية للمسيح، ولكنه لا يريد استعماله لإثبات الألوهية لمريم، غير أن الكنيسة الكاثوليكية كانت أكثر واقعية من الكنيسة الأرثوذكسية، فقبلت ألوهية مريم أيضا. ومن يقبل خرافة معينة بناء على منطق معين، لا يكون من العقل أن يرفض الإيمان بخرافة أخرى بناء على نفس المنطق.(/21)
وما دمنا نستخدم منطق الحلول والتجسد، فلماذا نتغافل عن حلول الروح القدس في أليصابات زوجة زكريا، ولماذا نغض الطرف عن كلمة الله التي تجسدت فيها؟ لقد جاءت كلمة الله إلى زكريا أن امرأته أليصابات سوف تلد ابنا. يقول لوقا: "فقال له الملاك لا تخف يا زكريا لأن طِلْبتُك قد سُمعت وامرأتك أليصابات ستلد لك ابنا وتسميه يوحنا". ثم يقول لوقا مرة أخرى: "وامتلأت أليصابات من الروح القدس". إذن نستطيع أن نقول إن كلمة الرب جاء إلى زكريا، وأن الكلمة صار جسدا وحل بين الناس ورأوا مجده. أي أن كلمة الرب إلى زكريا تجسدت في شخص يوحنا أو يحيى u. فإذا كان تجسد كلمة الرب في مريم يجعل من مولودها إلها، فلماذا تجسد كلمة الرب في أليصابات لا يجعل من مولودها إلها؟ وإذا كان حلول الابن في جسد المسيح قد جعل منه إلها، فلماذا حلول الروح القدس في أليصابات لا يجعل منها إلهة؟ إن هذه كلها أسئلة كان من المفروض على جناب القمص أن يجيب عليها في برنامجه "أسئلة عن الإيمان"، ولكنه لم يفعل، لأن إجابة هذه الأسئلة سوف توقعه في مأزق كبير، وسوف تضعه في موقف محرج لا يستطيع الخروج منه.
ولو استعملنا منطق جناب القمص، فجعلنا من كل إنسان يحل فيه أقنوم من الأقانيم الثلاثة إلها، لزاد عدد الآلهة زيادة كبيرة. وكمثال فقط نذكر أن زكريا قد امتلأ من الروح القدس (لوقا67:1)، ويحيى أو يوحنا امتلأ وهو جنين في بطن أمه من الروح القدس (لوقا15:1)، وكذلك مريم (لوقا35:1)، وأيضا سمعان العجوز الذي لم يمت حتى رأت عيناه المسيح (لوقا25:2)، وجميع التلاميذ (يوحنا22:20)، واستفانوس (أعمال الرسل:5:6)، وجمهور من الناس (أعمال الرسل31:4). ولكن يبدو أن الأقانيم الثلاثة ليست متساوية في القوة والتأثير، بدليل أنه حينما يحل الأقنوم الابن في جسد إنسان يصير ذلك الإنسان إلها، ولكن حين يحل الأقنوم الروح القدس في إنسان، فلا يكون ذلك الإنسان إلها. ومع أن جناب القمص ظل يكرر على مسامعنا أن الأقانيم الثلاثة متساوية، إلا أن كلامه هذا لم يثبت عند التطبيق العملي لما هو مكتوب في العهد الجديد.
وهكذا يتبين أن عقيدة التجسد هذه عقيدة كاذبة مزوّرة، وقد اخترعها المخترعون لكي يجعلوا للإنسان يسوع المسيح قداسة خاصة، ولكي يرفعوا مقامه فوق مستوى البشر, ولكنهم لم يدركوا أنهم بعملهم هذا قد أساءوا إلى مقام الله تعالى، الذي جعلوه مكوّنا من ثلاثة أقانيم، يدّعون أنها متساوية، ثم يتبين عند الدراسة والفحص أنها غير متساوية، في التأثير على الأقل. وجناب القمص يدعونا نحن المسلمين أن نتخلى عن إيماننا بالله تعالى الواحد الأحد لكي نؤمن بهذا الثالوث غير المتكافئ، وهو يقوم بهذا دون أي شعور بالخجل أو الحياء. والمثل يقول: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، وهو حر في أن يؤمن بأي خرافة ويعتقد بأي أكذوبة، ولكن حين يصر على دعوة المسلمين للإيمان بهذه الخرافات والأكاذيب، فلا بد أن نتصدّى له، ونكشف هذه الخرافات، ونفضح هذه الأكاذيب.
( 26 )
الحمد لله الذي وفقنا في اللقاء بكم مرة أخرى في هذه السلسلة من حلقات "أجوبة عن الإيمان" لكي نرد بها على جناب القمص زكريا بطرس في البرنامج الذي قدمه باسم "أسئلة عن الإيمان". وقد ذكرنا في الحلقة الماضية أنه يخلط بين المجاز والحقيقة ويتكلم عن أشياء مجازبة، ثم يستنتج منها أشياء يطبقها على المسيح على وجه الحقيقة. فمثلا، يحدثنا عن بنات الأفكار ويقول إن الفكرة هي بنت العقل، وهذا تعبير مجازي، ولكنه يستنتج من هذا التعبير أن المسيح هو ابن عقل الله على وجه الحقيقة. وهو يقول لنا إن الأفكار يمكن أن تتجسد في كلمات، وهذا تعبير مجازي، ولكنه يستنتج من هذا التعبير أن كلمة الله تجسدت في المسيح على وجه الحقيقة. وهو يقول لنا إننا نجسد كلماتنا بكتابتها على أوراق أو على جلد أو عظم، وتجسد الكلمات تعبير مجازي، ولكنه يستنتج من المجاز أن الله جسّد كلمته بأن كتبها في جسد المسيح على وجه الحقيقة.
وقد سألته السيدة ناهد متولي سؤالا مُتفق عليه بينهما بالطبع، فقالت:
"تقول أن كلمة الله تجسّد في المسيح، وقلتَ سابقا إن كلمة الله هي عقل الله، فكيف، يتجسد عقل الله في إنسان؟ فيمكن أن يتساءل قائلا: هل كان الله سبحانه بدون عقل في السماء، عندما كان عقله متجسدا في المسيح على الأرض؟ والحقيقة السؤال دا بنتسأله كتير جدا يابونا ويقولولنا كمان أحيانا، هل الله بدون عقل فوق، وساعة لما السيد المسيح قُبر، كان الدنيا شكلها إيه؟ كانت ماشية من غير عقل؟
ويرد عليها القمص فيقول:(/22)
"دا سؤال فعلا بيتردد ع الأذهان كتير يعني، ومن حق الإنسان إنه يفكر بحرية، ومن حق الإنسان إنه يتساءل، لأن مفيش معرفة بدون سؤال، طول ما الإنسان بيسأل، طول ما حيعرف. لكن لو الإنسان يكتم الأسئلة، حيعرف منين؟ أنا أشك، فأنا أفكر، فأنا موجود. ليه؟ الشك بيقود للتفكير، والتفكير بيقودني إلى البحث والمعرفة، ودا بيكمل كياني ووجودي. فحلو إن الإنسان يسأل، وعيب إن الإنسان ما يسألش. O.K.
طيب، المنطق بيقول انت بتقول إن المسيح كلمة الله، يعني عقله. طيب، وبتقول كلمة الله تجسد في جسد إنسان، يعني ظهر بعقله في جسد إنسان، طيب وربنا فوق؟ صعبة دي؟ طبعا التساؤل ناتج عن، عدم وعي، كامل، وعدم إدراك كامل. مثلا، نسأل اللي بيسأل السؤال دا: أقول له، هل ممكن، إن عقلك، ينفصل، عن وجودك؟ حنفصله ازاي عقل الإنسان؟ مش ممكن. فحيثما وُجدت كلمة الله، فهناك الله. ودي آية في الكتاب المقدس في سفر الأمثال: "حيثما وُجدت كلمة الله، فهناك هو". ليه؟ لإن الله غير محدود، وعقله، غير محدود. مش كدا؟ فأينما وُجد العقل وُجد الله لأنه موجود في كل مكان، ومتجلي في النقطة دي. زي بالظبط، نقدر نسأل السؤال ده؟ مش، مش موجود في القرآن؟ سورة القصص؟ وطه؟ والنمل؟ لما نار ظهرت في بقعة مباركة من الشجرة؟ وقال إني أنا الله؟ ولا إله إلا أنا؟ كان مين في السما؟ ساب السما ونزل؟ مش معقول. ولاّ لما تجلى ع الجبل؟ ساب الدنيا ووقف ع الجبل؟ وغير كدا، يعني لما نقرا كتب القرآن، كتب الإسلام كويس أوي، يقولك: إن الله...، ودا حديث نبوي، إن الله، ينْزل، التلت الأخير من الليل إلى السماء الدنيا، ينْزل، للسماء الدنيا. ينْزل للسماء الدنيا؟ طب والسماء العليا فيها مين؟ لما نَزَل؟ فيها مين؟ الكلام ما يتخدش باللفظ ده. الله موجود في كل مكان، بس هو بيتراءى، في حتة معينة، بيظهر في حتة معينة، لكن هو موجود، في كل مكان، مش كده برضه؟
فالله موجود في كل مكان، عقله بيتجلى ويظهر في موضع معين، في مكان معين، وهذا لا يمنع وجوده في كل مكان. صح؟
فتقول السيدة ناهد متولي: "تمام يابونا. يعني دلوقتي، لما أحباءنا في الإسلام يقولولنا لما الله تجسد وكان عقله فين، يبقى نفس إلقاء السؤال غلط، يعني دا لا يمكن يكون..."
فيقول القمص: "مش منطقي، يعني السؤال أقول عليه سؤال ساذج، وكلمة ساذج يعني كلمة ملطفة عن سؤال أهبل، لا مؤاخذة يعني، بس أنا عاوز أكون لطيف في أسلوبي، اللي يسأل السؤال ده، يبقى إنسان ساذج".
لقد ذكرنا في الحلقة الماضية أن جناب القمص هو أستاذ المتناقضات، ولم يكن هذا افتراء عليه، بل هذه حقيقة واضحة فيه. ولا عجب، فإن الإنسان المتناقض في أفكاره وعقائده، غالبا ما يكون متناقضا أيضا في كلامه وتصرّفاته. وها هو يقدم بنفسه الدليل على تناقض أقواله، فهو يؤكد في أول كلامه أهمية السؤال من أجل المعرفة، وأن من حق كل إنسان أن يفكر بحرية، ومن حقه أن يتساءل، ولا معرفة بغير تساؤل، والشك يقود إلى التفكير الذي يقود إلى البحث والمعرفة، ومن العيب ألا يسأل الإنسان، إلى آخر كلامه هذا، ثم بعد ذلك يقول إن السؤال ساذج، وإن كلمة ساذج كلمة ملطفة بدلا من كلمة "أهبل"، وإن من يسأل هذا السؤال يكون إنسان ساذج، أو "أهبل" حسب تعبيره. ونحن لا نعلم من هو الأحق بأن يتصف بالسذاجة أو بالهبل؟ من يسأل ليحسن الفهم، أم من يؤمن بعقيدة ساذجة تقوم على سوء الفهم؟
يقول جناب القمص: "المنطق بيقول إن المسيح كلمة الله، يعني عقله". فهل هذا يا ترى منطق العقلاء أم منطق السذّج، مع التلطف طبعا لعدم استخدام الكلمة الأخرى؟(/23)
المسيح كلمة الله. هذا صحيح ولا خلاف عليه، ولكن كيف تكون الكلمة التي تعبر عن الإرادة أو المشيئة، هي نفسها العقل أو تكون هي الذات؟ إن المشكلة مع جناب القمص، هي أنه بسذاجته "الملطّفة"، يتصوّر أن الله مثل البشر، يحتاج إلى عقل يفكر به. فبسبب نشأته وثقافته وتربيته ومجتمعه الذي نشأ فيه وتعلم منه العقائد الدينية، وبسبب إصرار هذه الثقافة والتربية على رفع شأن الإنسان البشر إلى مرتبة الله تعالى، كان لا بد بالضرورة من خفض شأن الله إلى مرتبة الإنسان البشر. هذه هي مشكلة القمص، وهذه هي نفس مشكلة المسيحية المغلوطة التي لم يأت بها المسيح u، وإنما اخترعها العقل الوثني الساذج (بتلطف) الذي كان متأثرا بالوثنيات اليونانية، فلم يستطع أن يفهم أن الذات الإلهية ذات كاملة بذاتها. لذلك من الصعب على العقل "الساذج" أن يتصوّر أن الله تعالى ليس في حاجة إلى عقل يفكر به أو يعلم به، فهو حكيم بذاته، عليم بذاته، خبير بذاته، تماما كما أنه ليس في حاجة إلى عيون يبصر بها، فهو بصير بذاته، ولا يحتاج إلى آذان يسمع بها، فهو سميع بذاته، ولا يحتاج إلى روح ليحيا بها، فهو حيّ بذاته، ولا يحتاج إلى عضلات يمارس بها قوته، فهو قوي بذاته، قدير بذاته، عظيم بذاته، كامل بذاته. وإذا كان جناب القمص من "السذاجة الملطفة" بمكان، لدرجة أنه لا يستطيع أن يفهم هذه الحقيقة، فهو لا يستطيع أن يعرف الله كما ينبغي أن يُعرف الله، وبالتالي فهو لا يعبد الله الحق الكامل، وإنما يعبد بشرا أو كائنا له صفات البشر. فهو يعبد كائنا يحتاج إلى عقل يفكر به، تماما كما يحتاج الإنسان إلى عقل يفكر به؛ ويحتاج إلى روح يحيا بها، تماما كما يحتاج الإنسان إلى روح يحيا بها. وعلى هذا، وبناء على هذه "السذاجة الملطفة"، وبهذا المنطق الملطف، أو "الأهبل" (إذا سمح لي جناب القمص باستعارة بعض ألفاظه)، فلا مانع أن تكون الكلمة هي العقل، ولا مانع أن يظهر عقل الله في جسد إنسان، وبالتالي تكون نتيجة كل هذه "السذاجة الملطفة" أن يكون هذا الإنسان هو الله الذي يعبده هؤلاء السذج، فلا حول ولا قوة إلا بالله!!
يقول جناب القمص: "الله غير محدود، وعقله غير محدود. مش كدا؟ فأينما وُجد العقل وُجد الله، لأنه موجود في كل مكان، ومتجلي في النقطة دي". ثم يقول: "الله موجود في كل مكان، بس هو بيتراءى، في حتة معينة، بيظهر في حتة معينة، لكن هو موجود، في كل مكان، مش كدا برضه؟ فالله موجود في كل مكان، عقله بيتجلى ويظهر في موضع معين، في مكان معين، وهذا لا يمنع وجوده في كل مكان. صح؟".
بهذا الكلام يوضّح جناب القمص حقيقة الأمر الذي، إما أنه يختلط في ذهنه، وإما أنه يحاول أن يخلطه في ذهن السامع أو المشاهد. فهو يتكلم عن "العقل"، وكأنه يتكلم عن "الذات" الإلهية، وفي نفس الوقت يتكلم عن العقل وكأنه يتكلم عن صفة من صفات الله تعالى. فهو يقول إن العقل موجود في كل مكان ولكنه يتجلى في نقطة معينة. فإذا كان المقصود بالعقل في هذه الجملة هو الذات الإلهية، فإن الذات الإلهية لا تتجلى في أي نقطة ولا في أي مكان. إن ما يمكن أن "يتجلى" لا يمكن أن يكون هو الذات الإلهية، لأن ما يتجلى، أي ما يظهر لحواسنا المادية، لا يمكن أن يكون هو الذات الإلهية التي تختلف في كنهها عن كل شيء آخر. فما دام الله تعالى "ليس كمثله شيء"، فلا يمكن أن يُرى شخصه أو تُشاهد ذاته بالحواس المادية للبشر التي لا تستطيع أن ترى إلا جزءا صغيرا من العالم المادي، وبالتالي فهي لا يمكن أن ترى الذات الإلهية على الإطلاق. أما ما يمكن أن يتجلى من الله تعالى فهو أثر صفاته، فحينما يقال إن الله يتجلى في مكان معين أو في نقطة معينة، فلا بد أن نفهم هذا الكلام على أنه يعني تجلي أو ظهور بعض الآثار لصفة أو أكثر من صفات الله تعالى. ولذلك، يمكن أن نستبدل كلمة "العقل" في جملة جناب القمص التي ذكرناها فيما سبق، ونضع بدلا منها كلمة "القدرة" مثلا، ولا يتغير معنى الجملة. وفي هذه الحالة تكون الجملة كما يلي: "الله غير محدود، وقدرته غير محدودة. مش كدا؟ فأينما وُجدت القدرة وُجد الله، لأنه موجود في كل مكان، ومتجلي في النقطة دي". أي أن الذي يمكن أن يتجلى "في النقطة دي"، ليست هي الذات الإلهية، وليست هي القدرة الإلهية، وإنما ما يتجلى هو أثر القدرة الإلهية. وكما لا يمكن للإنسان أن يرى القدرة الإلهية، وإنما يرى آثار هذه القدرة الإلهية، كذلك لا يمكن للإنسان ان يرى الذات الإلهية، وإنما يرى آثار صفات هذه الذات الإلهية. ولكن جناب القمص يخلط بين الذات وبين الصفات، ويزعم أن عقل الله يمكن أن يتجلى، هذا بافتراض أن الله يحتاج أصلا إلى عقل يفكر به أو يعقل به، إذ في هذه الحالة "الافتراضية" يكون عقل الله هو ذات الله، وذات الله لا يمكن أن تظهر ولا أن تتجلى، لا في نقطة معينة ولا في مكان معين، وبالطبع لا يمكن أن تتجلى في شخص معين.(/24)
أما إذا كان المقصود من تعبير "عقل الله" هو "علم الله" أو "قدرة الله" أو أي صفة من صفات الله تعالى، فإن صفات الله لا تتجسد، وإنما تظهر أثارها وتتجلى تأثيراتها. فالصفة ليست شيئا ماديا وإنما هي شيء معنوي، مثل السلام، ومثل المحبة، ومثل الكراهية. هذه كلها أمور معنوية، لا يمكن أن تُرى أو تُشاهد، ولا يمكن أن تظهر أو تتجلى، وإن ما يظهر وما يتجلى هو الأثر فقط. فنحن نستطيع أن نرى أثر السلام، وأثر المحبة، وأثر الكراهية، وأثر الصفات الإلهية. ويمكن لأثر الصفات الإلهية أن تظهر وتتجلى في نقطة معينة أو في مكان معين، كما يمكن أن تظهر وتتجلى في شخص معين كذلك. فمثلا تتجلى قدرة الله في كل ذرّة من ذرّات الوجود، لأن كل ذرّة هي أثر لهذه القدرة. كذلك يتجلى علم الله في نبي يتحدث بنبوءة تتحقق في مستقبل الأيام، أو يتجلى علم الله في شريعة تنظم أحوال مجتمع إنساني متخلف أو مستعبد، فتنهض به الشريعة من الحضيض وتجعل منه مجتمع الصفوة والحرية.
ولكن جناب القمص يخلط بين الذات والصفات، ويتكلم عن تجلي الصفات، ويقصد به تجلي الذات، ويشوّش تفكير المشاهد حتى يستدرجه من حيث لا يشعر فيوقعه في الخطأ. وهو في هذه الحالة واحد من اثنين: إما أنه يفهم الفرق بين الذات والصفات، وفي هذه الحالة يكون متعمدا إضلال المشاهد. وإما أنه لا يفهم الفرق بين الذات والصفات، ويخلط بينهما، وفي هذه الحالة يكون في حاجة إلى عملية إعادة فهم لما يؤمن به من عقائد، وإعادة تقييم لهذه العقائد حتى يستبعد "الساذج" منها، فمن العيب على جناب القمص أن يتصف بالسذاجة التي يستنكر على السائل أن يتصف بها ويسأل سؤاله "الساذج".
غير أن جناب القمص يستشهد على كلامه بما ذكره القرآن المجيد من تجلي الله على الجبل لموسى، وتجليه في بقعة مباركة من الشجرة، وغير ذلك. وقلنا غير مرة إن المقصود بتجلي الله في مكان ما أو على مكان ما، أو تجليه سبحانه في شخص معين أو على شخص معين، هو ظهور آثار صفة من صفاته أو بعض صفاته في مكان ما أو على مكان ما، أو في شخص معين أو على شخص معين. فعندما يهتز الجبل فهو يهتز بقدرة الله، أي أن اهتزار الجبل هو من أثر قدرة الله تعالى، ولكن قدرة الله ليست هي ذات الله، وإنما هي صفة من صفات الذات الإلهية. فالذات الإلهية لم تحل في الجبل ولم يتجسد الله فيه، وإنما ظهر أثر صفة من صفاته فيه. وأما ما جاء في سورة طه والنمل والقصص الذي يتمحّك فيه جناب القمص فهو كما يلي:
]وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى $ إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي ءَانَسْتُ نَارًا لَعَلِّي ءَاتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى $ فَلَمَّآ ءَاتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى $ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بَالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى $ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى $ إِنَّني أَنَا اللهُ لآ إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي[ (طه:9-14)
]وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ $ إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي ءَانَسْتُ نَارًا سَئَاتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ ءَاتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ $ فَلَمَا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ $ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[ (النمل:6-9)
]فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي ءَانَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي ءَاتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ $ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنَ في الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[ (القصص:29-30)
ومن الواضح في هذه المقاطع الثلاثة أن موسى u قد تلقى وحيا من الله تعالى، وأنه عندما تلقى هذا الوحي كان في حالة كشف، أي أنه رأى رؤيا وهو في حالة يقظة كاملة. فقد كان يسير مع أهله فرأى نارا، وظن أنه سيجد بعض الناس عند النار، فترك أهله وذهب ليأتي بخبر أو يحضر لهم شعلة من النار كي يصطلوا بدفئها. فلما اقترب من النار سمع صوتا يناديه من مكان معين، وسمع الصوت يقول إنه الله الذي لا إله إلا هو.(/25)
وهنا يظهر الفرق واضحا بين الفهم الصحيح لهذه الواقعة، والفهم "الساذج" الذي يفهمه جناب القمص. فجنابه يتصوّر أن الله، بذاته، قد ظهر لموسى، وأن الصوت الذي سمعه موسى كان صوت الله نفسه. وبطبيعة الحال، فإن هذا الفهم يقوم على تصور الله كأنه مثل البشر أو كأنه في صورة البشر، وذلك الفهم الخاطئ يقوم على قول الكتاب المقدس إن الله خلق الإنسان على صورته، فيفهمون هذا القول بطريقة حرفية، ويتصوّرون أن الله مثل الإنسان، له حجم معين وله جسم مثل الإنسان. ولا عجب أن قالوا إن لله عقلا كما أن للإنسان عقلا، وله روح يحيا بها كما أن للإنسان روحا تمنحه الحياة. وهم قد ينفون عن أنفسهم فكرة الإيمان بإله ضخم كبير الحجم، يملأ السماء والأرض، ولكنه في النهاية له شكل الإنسان، تماما مثل آلهة الإغريق التي كانت بشرية الصورة وآلهية الجوهر، ولكن نفيهم هذا تكذبه عقائدهم وتفضحه أفكارهم عن ظهور الله ظهورا ماديا، أو حلوله في مخلوقاته، أو تجسده في جسم إنسان. ولهذا فإن جناب القمص يتصوّر أن الله يمكن أن يظهر بذاته في هذا العالم المادي، وهذا مستحيل كما أوضحنا فيما سبق، لأن الله تعالى يختلف عن كل شيء آخر، سواء كان ماديا أو غير مادي. ولذلك فلا يمكن أن يُرَى الله بالوسائل المادية التي خلقها الله لترى الأشياء المادية فقط، أو القليل منها فحسب. فإذا حدث أن رأى أحد من البشر رؤيا، أو سمع صوتا يقول إنه هو الله، كما حدث مع موسى u، فلا يمكن أن يكون هو الله بذاته، وإنما يمكن أن يكون هو الله بقدرته، أي أن قدرة الله تعالى قد جعلت العين المادية في الإنسان ترى صورة هي مؤهلة لأن تراها، وجعلت أذن الإنسان المادية تسمع صوتا هي مؤهلة لأن تسمعه. فكما هو معروف لا تستطيع الأذن البشرية أن تسمع من الأصوات إلا مدًى محدودا جدا من الموجات الصوتية، ولا يمكن القول بأن لله تعالى صورة يمكن أن تراها العين البشرية، أو أن له صوتا يمكن أن تسمعه الأذن البشرية.
من أجل هذا ألقى القرآن المجيد ضوءا ساطعا على موضوع اتصال الله بالإنسان، وأوضح الوسائل التي يمكن أن يتم بها هذا الاتصال فقال:
]وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ[ (الشورى:51)
أي أن الله تعالى يمكن أن يكلم الإنسان بإحدى هذه الطرق الثلاث: (1) وحيا، أي يُلقي في روعه ما يريد الله تعالى أن يبلغه للإنسان. (2) من وراء حجاب، أي يتم الاتصال بين الله والإنسان من وراء حجاب، كأن يسمع الإنسان صوتا من وراء حجاب، يبلغه رسالة الله تعالى، أو تكون هذه الرسالة مغلّفة في حجاب من الرمزية، كأن يرى الإنسان رؤيا تحتاج إلى تأويل وتفسير، كرؤيا يوسف مثلا عندما رأى الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا يسجدون له. (3) يرسل الله تعالى رسولا من الملائكة، فيظهر للإنسان في هيئة بشرية ويبلغه رسالة الله تعالى، كما ظهر جبريل للسيدة مريم عندما تمثّل لها بشرا سويا.
هذه هي الوسائل الثلاث التي يكلم بها الله تعالى أحدا من البشر، سواء كان نبيا أو غير نبي (مثل ملك مصر وصاحبي يوسف في السجن)، سواء كان رجلا أو امرأة (مثل أم موسى وأم عيسى عليهما السلام)، وسواء كان طفلا (مثل يوسف u) أو بالغا. ومن الواضح أن تجربة الوحي التي مر بها موسى u كانت من الصنف الثاني، فتمت من وراء حجاب، وسمع موسى صوتا، ليس هو صوت الله تعالى، وإنما هو صوت من قدرة الله تعالى، يُبلّغ سبحانه به موسى ما شاء أن يبلغه. وعلى هذا فليس في الأمر تجسد في شجرة أو في نار أو غيرها، وقوله تعالى ]بُورِكَ مَن في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا[ لا يعني أن الله تعالى قد حَلَّ في النار، كما يومئ إلى ذلك جناب القمص، وإنما يعني أن الله تعالى قريب من كل مكان، سواء كان ذلك المكان هو النار أو ما حولها، فالله أقرب إلى الإنسان من كل شيء، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، كما جاء في القرآن المجيد.(/26)
أما ما يحاول جناب القمص أن يخدع به نفسه وأتباعه، أو يخدع به المشاهد المسلم، مستغلا في ذلك قول الرسول r: "إن الله ينْزل في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا"، فيومئ بذلك إلى أن الله رغم وجوده في كل مكان إلا أنه "ينْزل" إلى السماء الدنيا، ثم يستنتج من ذلك بفكره الساذج "بكثير من التلطف"، أن وجود الله في كل مكان لا يمنع من تجسده في مكان معين، فهي محاولة فاشلة لا يمكن أن تحقق غرضها، وهي خدعة مكشوفة مفضوحة، لا يمكن أن تنطلي على أحد من المسلمين. فالمسلمون لا يتصورون الله تعالى مثل البشر، ويعلمون أن مثل هذه الألفاظ التي تحمل معنى الحركة أو الانتقال من مكان إلى آخر، أو تتضمن معنى القرب أو البعد، عندما تُستعمل في حق الله تعالى، فهي لا تؤخذ بظاهرها، ولا تُفهم بحرفيتها، كما يفعل ذلك جناب القمص وأتباعه، وإنما تعني حالة يشعر بها الإنسان تجاه الله تعالى. فالله تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، في النهار وفي الليل، في أول الليل وفي آخره، ولكن الإنسان هو الذي يشعر بقرب الله تعالى إليه عندما يستيقظ في الثلث الأخير من الليل ليذكره ويدعوه ويستغفره ويتوب إليه.
هذا هو ما يفهمه المسلمون يا جناب القمص من نزول الله وتجلي الله وظهور الله. ولذلك فلا يمكن أن يعبدوا إلها يحل في شجرة أو يتجسد في بشر، ولا يفعل ذلك منهم إلا من فقد عقله، واتّصف بالسذاجة غير الملطفة، أي أصابه "الهبل" كما يقول القمص، فتأثر بكلامه وصدق خرافاته.
( 27 )
بفضل الله تعالى نلتقي مرة أخرى في هذه الحلقة من برنامج "أجوبة عن الإيمان" الذي نرد به على البرنامج الذي قدمه جناب القمص زكريا بطرس باسم "أسئلة عن الإيمان". والموضوع الذي كنا نعالجه في الحلقات الخمس الماضية، ونستمر في معالجته في هذه الحلقة أيضا، هو موضوع ما يزعمه القمص من تجسد الله تعالى في جسم المسيح. وقد قمنا في الحلقة الماضية بتحليل كلام القمص الذي قال: "الله موجود في كل مكان، بس هو بيتراءى، في حتة معينة، بيظهر في حتة معينة، لكن هو موجود، في كل مكان"، فقلنا إن الله تعالى يختلف عن جميع مخلوقاته، أي أن ذاته تختلف في كنهها عن كنه جميع المخلوقات. وهذا أمر لا يمكن أن يختلف عليه اثنان من العقلاء، إذ لا يليق بالله تعالى أن يشترك في كنه ذاته مع أي مخلوق من مخلوقاته. ولذلك فهو وحده الذي يتصف بالكمال المطلق، بينما لا يتصف أحد من خلقه إلا بالكمال النسبي، فكمال أي مخلوق ليس سوى انعكاس لكمال الله تعالى، أي أن كمال المخلوق ليس مطلقا وإنما هو نسبي. فمثلا يمكن أن نقول إن هذا الأسد مخلوق كامل، بمعنى أنه في أوج قوته ولذلك فهو يستطيع أن يؤدي كل أغراض وجوده ويحقق جميع أهداف كينونته، غير أن كماله نسبي لأنه يشترك في بعض خواصه وصفاته مع غيره من الكائنات. كذلك فإن الأسد الكامل هذا يعتبر ناقصا إذا قورن بغيره من الكائنات، لأنه قد يفتقد أشياء يمتلكها غيره أو يتصف بها سواه، فهو يفتقد مثلا خفة الحركة والقدرة على تسلق الأشجار، كما أنه لا يستطيع الطيران. أما الكمال الإلهي المطلق فيعني أن لا أحدا غيره يملك ما يملكه هو أو يتصف بما يتصف به هو. ولذلك لا بد أن تكون ذاته مختلفة عن كل شيء سواه، لأنه إن كان يشترك في ذاته أو في صفاته مع أحد أو مع شيء من مخلوقاته، لما كان كماله مطلقا بل لصار كماله نسبيا. ومن هنا يتبين أنه لا يمكن أن يتراءى الله تعالى بذاته، ولا يمكن أن يظهر بكينونته في هذا العالم المادي، كما يدّعي بذلك جناب القمص. ولذلك فقد صدق القرآن المجيد حين يقول: ]لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[ (الأنعام:103).
وقد يعترض جناب القمص ويقول: أليس الله على كل شيء قدير؟ فإذا أراد أن يُظهر نفسه في مكان معين، أو إذا شاء أن يحل في شخص معين، فهل يعجز عن ذلك؟ والإجابة هي أن الله على كل شيء قدير فعلا، ولكنه سبحانه حكيم أيضا كما أنه قدير، ولذلك فإنه لا يفعل شيئا يتناقض مع حكمته أو لا يليق بذاته. إن الله تعالى لا يظلم أحدا، ليس لأنه يعجز عن الظلم، ولكن لأن فعل الظلم يتناقض مع عدله ولا يليق بحكمته. ولنفترض مثلا أن لدى القمص القدرة على أن يتخذ شخصية أخرى، فهل يحب أن يتخذ شخصية لص أو قاتل، أو يتخذ شخصية قرد أو حمار، أم أنه سوف يتخذ شخصية أفضل من شخصيته أو على الأقل شخصية تماثلها؟ إن لم يكن في عقله خلل، فلا شك أنه لن يرضى لنفسه أن يكون في مقام أقل من مقامه، ولا أن يهبط بدرجته ليكون في مستوى أقل من مستواه. وكل عاقل يود أن يكون في وضع أفضل مما هو عليه، فكيف ينسب جناب القمص لله تعالى أنه يحط من مقامه فيظهر في صورة من صور مخلوقاته، أو أنه يحل في جسم مخلوق من مخلوقاته؟
عجيب حقا أمر هؤلاء الناس! إنهم لا يخجلون من أن ينسبوا لله تعالى ما يأنفون هم أنفسهم من أن يفعلوه أو أن يتصفوا به!!(/27)
ولكن هل معنى هذا أن الله Y يظل بمنأى عن عباده، أو في معزل عنهم فلا يكون بينه وبينهم رابطة أو اتصال؟ كلا بالطبع. فإنه يهتم بشؤون عباده، ويحرص على توفير كل ما فيه خيرهم، ماديا وروحيا. وهو يستطيع بقدرته سبحانه أن يتصل بعباده، ويبلغهم بما شاء أن يبلغهم به، ولكن بغير أن يحط من شأنه ودون أن يحل في أيّ من مخلوقاته. وقد ذكرنا في الحلقة الماضية أن الله تعالى يتصل بعباده بطرق ثلاث:
أولا: بأن يلقي ما يشاء في رَوْع من يشاء؛
ثانيا: أن يجعل المتلقي يسمع صوتا من وراء حجاب، أو يجعله يرى رؤيا تحتاج إلى تفسير، فكأنها رسالة مغلفة بحجاب من الرمزية، كما رأى يوسف u في رؤياه الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا يسجدون له؛
ثالثا: أن يرسل رسولا من الملائكة، فيبلغ ما يشاء الله تعالى أن يبلغه لمن يشاء من عباده، وفي هذه الحالة يمكن أن يتمثل الملاك في صورة بشر، كما حدث حينما تمثل جبريل لمريم فكان بشرا سويا ليبلغها بأنها سوف تحمل وتضع ابنا هو المسيح ابن مريم. فالملائكة جنود الله تعالى، خلقهم لكي ينفذوا مشيئته، ولذلك فهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. ولكل أمر من أمور الله تعالى ملائكة معينة تعمل على تحقيق إرادته، ومن بينهم الملائكة الذين يكلفهم الله تعالى بتبليغ رسالته إلى من يشاء من البشر.
وعلى هذا فليس هناك ما يدعو أن يتجسد الله تعالى بنفسه، ولا أن يُظهر ذاته، ولا أن يتراءى في هذا المكان أو في ذاك، ولا أن يحل في شجرة ولا في جبل ولا في جسم إنسان من أجل أن يتصل بأحد من عباده. إن قدرته سبحانه أكبر وأعظم وأوسع من أن يضطر إلى أن يحط من ذاته ليحل في جسم أحد أو أن يُظهر ذاته في هذا المكان أو في ذاك.
وهكذا يصير من الواضح الجلي أن هذه الأفكار عن "أن الله يظهر في مكان معين أو يتراءى في حتة معينة" كما يقول جناب القمص، هي من الأفكار البشرية التي لم تأت من عند الله تعالى، وإلا لوجدنا شرحا لها في الكتب المقدسة، ولذكرها الأنبياء وتكلموا عنها، ولتحدث عنها المسيح u وبيّنها ووضّحها تمام التوضيح. ولكننا نرى أن العهد القديم والأناجيل الأربعة خالية تماما من أي شرح لهذه العقيدة الخاطئة. وكل ما جاء عن ظهور الله تعالى لأحد من البشر إنما هو في الحقيقة ظهور لملاك من الملائكة لأحد من البشر من أجل أن يباركه أو ليبلغه رسالة من الله تعالى. وما جاء في إنجيل يوحنا من أن كلمة الله، الذي يدّعون أنه الله، قد ظهر في الجسد وحل بين الناس، فهذا لا قيمة له لأنه ليس من قول المسيح وإنما هو من قول يوحنا، وإنجيل يوحنا هو أكثر الأناجيل بعدا عن زمن المسيح u، فقد كُتب بعد مدة لا تقل عن تسعين إلى مائة وعشرين عاما بعد المسيح، وكاتبه كان رومانيا ولم يكن من تلامذة المسيح ولم يقابله بتاتا ولم يسمع منه شيئا. فكلامه هذا يحتاج إلى تصديق من كلام المسيح، إذ من غير المعقول أن يغفل جميع الأنبياء من عهد آدم إلى عهد المسيح عن هذه العقيدة الشاذة، ثم يأتي الأستاذ يوحنا لكي يذكرها هكذا بغير أن يقدم أي دليل عليها، ثم تأتي الكنيسة بعد ذلك وتقرر أن كلام الأستاذ يوحنا هذا هو وحي من الله تعالى.
إن هذه هي مصيبة المسيحية الباطلة التي يروجها البشر ولم يأت بها السيد المسيح u، فهي تقوم على آراء قال بها البشر ثم نُسبت بعد ذلك إلى الله تعالى. ولذلك فإن هذه الأقوال قد خلقت الكثير من المشاكل والاعتراضات التي لا حل لها.(/28)
(1) فمثلا، يقول القمص إن الله موجود في كل مكان. ونحن ننَزّه الله تعالى عن الوجود المكاني المادي في أي مكان مادي، فكما قلنا من قبل إن الله تعالى يحتوي المكان والزمان، ولكنه ليس مادة ليكون له مكان مادّي. ولأننا لا نعرف كنه الله تعالى فلا نستطيع أن نستخدم من الألفاظ ما يعبر حقيقة عن كيفية وجوده، ولذلك فتعبيراتنا عن وجوده I تعبيرات مجازية وليست حرفية. وحين نقول إنه أقرب إلينا من حبل الوريد، فإن هذا القرب ليس قرب مسافة وليس قربا مكانيا ولا قربا مادّيا. ولا يعني هذا أنه موجود بذاته وجودا مادّيا داخل أجسامنا أو في عروقنا وأوردتنا الدموية. وحين نقول إنه موجود في كل مكان فهذا لا يعني أنه موجود بذاته وجودا مادّيا في كل مكان مادّي في هذا العالم المادي. فكما قلت إننا لا نستطيع أن نعرف كنه الله تعالى، ولسنا مؤهلين لهذه المعرفة، ولذلك فلا حاجة أن تكون هناك كلمات تعبر تعبيرا حقيقيا عن ذات الله وكيفية وجوده. إن كل ما يهمنا أن نعرفه هو أن الله موجود، ولكن كيفية هذا الوجود ليس من شأننا أن نعرفها، وليس لنا القدرة على معرفتها، نظرا لأننا نخضع لقيود المكان والزمان، بينما الله تعالى لا يحتويه مكان ولا يمر عليه زمان، بل هو الذي يحتوي الزمان والمكان. غير أن عدم المعرفة بكيفية وجود الله تعالى لا يعطينا الحق في أن ننسب إليه ما نشاء من خرافات وأكاذيب. وجناب القمص يقول إن الله موجود في كل مكان، وهو يعتبر هذا الوجود وجودا ماديا. فإذا افترضنا صحة كلام القمص، فما هو الفرق بين وجود اللاهوت في المسيح ووجوده في أي مكان آخر؟ ما الفرق بين وجود اللاهوت في المسيح ووجوده في يهوذا الخائن مثلا؟ وهل وجود اللاهوت في المسيح ينفي وجوده في يهوذا الخائن؟ إن كانت الإجابة بنعم، فمعنى هذا أن المكان الذي كان يشغله يهوذا الخائن يخلو من وجود اللاهوت، وبالتالي تكون مقولة القمص بأن اللاهوت موجود في كل مكان مقولة خاطئة، أي أن اللاهوت يمكن أن يكون موجودا في مكان ما وغير موجود في مكان آخر، مما يتنافى مع كلام القمص عن وجود الله في كل مكان. وإن كانت الإجابة بلا، أي لا فرق بين وجود اللاهوت في المسيح ووجوده في يهوذا الخائن، فما الذي يجعل المسيح أكثر لاهوتا من يهوذا؟
(2) إن جناب القمص يؤمن بأن اللاهوت موجود وجودا ماديا في كل مكان، حتى في الأماكن القذرة وفي الأوساخ والنجاسات، كما أقر بذلك في حلقة من حلقاته تبريرا لوجود هذه الأشياء في جسد يسوع الإنسان. وما دام اللاهوت موجودا في كل مكان بهذا الشكل الفجّ الذي يقول به القمص، فكيف يحل في مكان ما ولا يحل في مكان آخر؟ ولو افترضنا، مجرد افتراض، أننا قبلنا أن اللاهوت يمكن أن يظهر أو يتراءى في مكان ولا يتراءى في مكان آخر رغم وجوده في كل مكان، فما معنى أن يحل اللاهوت في مكان ولا يحل في مكان آخر، ما دام موجودا في كل مكان. هل يعني هذا الحلول أن اللاهوت موجود بتركيز أكثر في مكان معين وبتركيز أقل في مكان آخر؟ أليس هذا من قبيل الخرافة وأقوال الأساطير؟
(3) ما هو الحال مع هؤلاء الذين يؤمنون بأن اللاهوت قد حل في تمثال للمسيح، كالتمثال الموجود في إحدى الكنائس وقيل إنه كان يبكي دموعا من الدم، وعلى هذا فإنهم كانوا يقدسون التمثال ويعبدونه، ويقولون إنهم لا يعبدون الحجر الذي في التمثال ولكنهم يعبدون اللاهوت الذي حل فيه حسب زعمهم؟ فهل يكون هؤلاء على حق في عملهم هذا؟ وألا يتعارض هذا مع الوصية الأولى من الوصايا العشر والتي تقول: "لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك" (الخروج 20: 4-5). فكيف ينهى الله تعالى عن السجود للتماثيل ويحرّم عبادتها ثم يحل هو في تمثال ويجعله يبكي بدموع من دم؟ وماذا عن هؤلاء الذين يعبدون تمثالا أو صنما بدعوى أن الله موجود فيه، لأنه موجود في كل مكان؟ أو بحجة أن هذا التمثال أو هذا الصنم بالذات يرمز لله تعالى أو يُعبر عنه، كما أن الكلمة تعبر عن العقل، والعقل هو الله؟
(4) يقول القمص إن اللاهوت قد حل في جسم المسيح. وما دام القمص يؤمن بأن الله موجود وجودا ماديا في كل مكان، حتى إنه (سبحانه وتعالى) موجود في القاذورات والأوساخ. وإذا افترضنا صحة هذا المفهوم، ألم يكن اللاهوت موجودا في المسيح من قبل أن يحل فيه؟ فكيف يحل في جسم هو موجود فيه من قبل؟(/29)
(5) قد يقال إن معنى حلول اللاهوت في مكان ما يعني ظهوره في ذلك المكان للعين البشرية، كما يزعم القمص بأن اللاهوت ظهر لموسى في الجبل وفي الشجرة وفي النار، وبالتالي فإن حلول اللاهوت في جسم المسيح يعني ظهوره للعين البشرية بحيث يراه الناس، وعلى هذا فليس هناك زيادة في تركيز وجود اللاهوت في مكان ما عنه في مكان آخر. غير أن هناك الكثير من الاعتراضات والتساؤلات حول هذا التبرير. فحيثما قيل إن الله قد ظهر لأحد من البشر، لم يحدث أبدا أن أحدا من هؤلاء البشر قد شك أو ارتاب في أن من ظهر له هو الله تعالى أو أنه ملاك من لدن الله تعالى. ولو كان الله قد "ظهر" فعلا في المسيح، لاقتضى الأمر أن كل من يراه يعلم يقينا أنه هو الله تعالى بعد أن يسمع كلامه، كما حدث مع موسى وبقية الأنبياء وغير الأنبياء من أمثال أم موسى وأم يسوع. ولكن هذا لم يحدث على الإطلاق، مما يدل على أن حلوله في جسم المسيح، بفرض حدوثه، كان مخفيا عن عيون الناس، وبالتالي فهو لم "يظهر" للبشر ولم "يتراءى" للناس كما يقول جناب القمص. وعلى هذا يظل السؤال عن معنى الحلول قائما، وما إذا كان يعني زيادة تركيز وجود اللاهوت في مكان ما عنه في مكان آخر أم لا.
(6) يبدو من إيمان المسيحيين بالسيد المسيح أن اللاهوت بعد أن حل في جسمه لم يتركه كما ترك الجبل والشجرة والنار، وإنما ظل حبيسا فيه. فما هو مصير المسيح الإنسان؟ هل أصبح جزءا من اللاهوت، وهل اللاهوت قبل عملية التجسد كان يتكون من الآب والابن والروح القدس، وبعد التجسد أصبح يتكون من هذا الثالوث بالإضافة إلى الإنسان يسوع المسيح؟
(7) من المعروف أن الله تعالى لا يجبر أحدا على عمل شيء رغم إرادته. وحين يختار الله بشرا ليكون رسوله إلى قومه، فإن هذا الاختيار لا يُفرض عليه وإنما يتم بموافقته. وحين اختار الله تعالى موسى ليكون رسولا لبني إسرائيل، فعبّر موسى عن مخاوفه من أن يقتله فرعون فلا يستطيع أن يفي بحق مسؤولية تبليغ رسالة الله تعالى، أزال الله خوفه، وتعهد له بتأييده وحفظه، فلما أعرب عن عدم قدرته على حسن الكلام وأن أخاه هارون أبلغ منه لسانا، أرسل معه هارون ليعينه في مهمته، وبالتالي فقد ذلل الله لموسى كل العقبات وأزال جميع مخاوفه، حتى رضي موسى أن يتحمل المسؤولية المطلوبة منه. فهل حصل الله على موافقة المسيح قبل أن يحل في جسمه؟ وما هو الدليل على أن الله طلب من يسوع الإنسان هذه الموافقة؟ وما هو الدليل على أن يسوع الإنسان قد أبدى موافقته على ذلك الحلول؟
(8) حين يختار الله بشرا رسولا فإنه يختاره بعد أن يبلغ من العمر مبلغ الرجولة الناضجة، حتى يدرك ويفهم أهمية المسؤولية الملقاة على عاتقه، فيقوم بتأديتها خير قيام. فهل انتظر اللاهوت فلم يحل في جسم يسوع إلى أن بلغ عمر الرجولة الناضجة حتى يعطي موافقته على هذا الحلول؟ أم أنه حل فيه عندما كان طفلا صغيرا؟ أم أنه حل فيه عندما كان جنينا في بطن أمه كما أشار إلى ذلك لوقا في إنجيله؟ وإذا كان لوقا صادقا في قوله، أفلا يعني هذا أن يسوع الإنسان لم يؤخذ رأيه في هذا الحلول بل إنه فُرض عليه فرضا؟ فهل يليق بالله تعالى أن يفرض أمرا على إنسان خلافا لما قرره هو بنفسه من إعطاء الإنسان حرية الإرادة؟ أم أن جناب القمص يرى أن الجنين يملك أن يعطي موافقته على أمر هام كهذا حتى من قبل أن يتكوّن عقله؟
(9) يقول جناب القمص للسيدة ناهد إن يسوع المسيح هو "إنسان زيي وزيك وحل فيه اللاهوت"، أي أنه بشر مثل بقية البشر، ولكن الله حل فيه. وكان جناب القمص قد عرّف الإنسان كما عرّف الله تعالى، فقال إن للإنسان وجود، أي أنه كائن له وجود جسماني، وله عقل يفكر به، وله روح يحيا بها. وما دام يسوع المسيح كان بشرا مثل بقية البشر، فلا بد أن تكون له إرادة خاصة به. فلما حل فيه اللاهوت كما يزعم بذلك جناب القمص، هل ظل على حاله الذي كان عليه قبل الحلول، فاحتفظ المسيح بإرادته البشرية، أم أن الإرادة البشرية قد ذابت وانمحت في الإرادة اللاهوتية؟ وهل يوجد في أقوال المسيح ما يؤيد أحد هذين الاحتمالين؟ هل قال المسيح شيئا، بعد أن حل فيه اللاهوت، يدل على أن إرادة جسمه البشري ظلت موجودة وفعالة؟ وهل قال شيئا يدل على أن الإرادة البشرية قد ذابت وانمحت وحل محلها الإرادة اللاهوتية؟
(10) إن لم يكن السيد المسيح قد قال شيئا عن موضوع الإرادة البشرية هذا، كما هو واضح من مطالعة الأناجيل الأربعة، فهل نعتبر هذا غفلة منه أو تقصيرا أو نسيانا؟ أم أنه تعمّد ترك الكلام عن هذا الأمر الهام لغيره من البشر؟ أم أنه لم يكن يتوقع أن يسأل أحد من المؤمنين السذج عن هذا الأمر الهام؟ أم أن تفكير البشرية لم يكن قد نضج بما يكفي لأن يفكر أحد في هذا الأمر ويتساءل عنه؟(/30)
(11) إذا افترضنا أن الإرادة البشرية ظلت موجودة وفعالة في جسم يسوع الإنسان، ولم تذب ولم تختف في الإرادة اللاهوتية، فهل معنى هذا أن جميع أقوال يسوع كانت من أقوال البشر، وجميع أفعاله كانت أيضا من أفعال البشر؟ وإذا كان هذا هو الحال، فما قيمة حلول اللاهوت فيه إذن؟
(12) وإذا افترضنا أن الإرادة البشرية قد ذابت واختفت في الإرادة اللاهوتية بعد أن حل اللاهوت في جسم يسوع، فهل معنى هذا أن جميع أقواله كانت هي أقوال الله تعالى، وجميع أفعاله كانت أيضا من أفعال الله U؟
(13) إذا كانت إرادة يسوع البشرية قد ذابت واختفت عند حلول اللاهوت في جسمه، والإرادة كما قال القمص تُعبّر عن العقل، وعلى هذا يكون عقل يسوع الإنسان قد ذاب واختفى في عقل اللاهوت، فيترتب على هذا أن جسد يسوع قد فقد واحدا من مقوّماته التي تجعله جسدا بشريا، وبالتالي لم يعد يسوع إنسانا "زيي وزيّك" كما يقول القمص، حيث سبق القول بأن الإنسان يتكون من وجود جسماني وعقل وروح. وما دام العقل قد ذاب واختفى ولم يعد له وجود ولا تأثير ولا فعالية، فلم يعد يسوع إنسانا بالمعنى المصطلح عليه، بل صار مثل الجماد الذي لا عقل له، رغم أنه جماد حي لأن له روح يحيا بها، ولكن لم يعد له عقل يفكر به، أي أنه صار مثل الميكروبات والفيروسات والبكتريا. فهل هذا هو الحال الذي آل إليه يسوع الذي يعبده المسيحيون، مجرد كائن لا عقل له وحل فيه اللاهوت؟
(14) وإذا كان يسوع قد فقد عقله عندما حل فيه اللاهوت، وبالتالي فقد أحد مقوماته الإنسانية ولم يعد "إنسان زيي وزيك"، فما هي قيمة حلول اللاهوت فيه، حيث إنه لم يعد يصلح لأن يكون "فاديا" عن الإنسان. فقد أخبرنا جناب القمص أن شروط الفداء ثلاثة، وأولها أن يكون الفادي إنسانا "زيي وزيك"، وأن يكون طاهرا بغير خطية، وأن يكون غير محدود. فإذا افترضنا أن الغير محدودية قد ضمنتها عملية تجسد اللاهوت في يسوع الإنسان، إلا أن نفس هذه العملية قد سلبت يسوع الإنسان إحدى مقوماته، فلم يعد إنسانا بعد حلول اللاهوت، وهذا معناه أن الذي وُضع على الصليب من أجل الفداء لم يكن إنسانا طاهرا غير محدود، بل كان مخلوقا له وجود جسماني مثل الجراثيم، وله حياة مثل البكتريا، وغير محدود لأن اللاهوت قد حل فيه. فما قيمة الفداء والكفارة إذن إذا فقد الفادي أحد مقوّماته؟
(15) أما إذا قلنا إن الإرادة البشرية ظلت موجودة وفعالة في جسد يسوع، بالإضافة إلى الإرادة اللاهوتية التي حلت فيه، وبالتالي ظل يسوع الإنسان محتفظا بجميع مقوّماته الإنسانية، فكيف نعرف أن تصرفا معينا أو قولا معينا من أقوال يسوع هو من قول البشر أو من قول اللاهوت الذي حل فيه كما يزعم بذلك جناب القمص؟
من الواضح أن المشاكل الذي يسببها موضوع "التجسد" هي أكبر وأكثر من أن نتمكن من معالجتها كلها في حلقة واحدة، مما يدل على أن عقيدة التجسد هذه ليست من تعليم الله تعالى وإنما هي من اختراع العقول البشرية التي يشوبها النقص ويعتريها الضلال. ولما كان وقت البرنامج قد انتهى، فسوف نستكمل عرض مشاكل التجسد في الحلقة القادمة إن شاء الله.
( 28 )
. كنا في الحلقة الماضية قد تعرضنا للكثير من المشاكل التي يثيرها الموضوع الذي يدّعيه القمص من تجسد اللاهوت في جسم يسوع الإنسان. وقد ألقينا الكثير من الأسئلة، وقدمنا العديد من التساؤلات، التي كان من الأوْلى أن يعرض لها جناب القمص ويجيب عليها. فهذه هي الأسئلة الحقيقية عن الإيمان يا جناب القمص، وليست هي الأسئلة المعدّة من قبل باتفاق بينك وبين السيدة ناهد متولي بالتنسيق مع فريق العمل الذي يعمل معكما. وكان من الواجب عليك أن تتولى الإجابة على هذه الأسئلة، إن كان لديك إجابة. وإذا كنت تتحجج بأن هذه الأسئلة لم تخطر على بالك ولا على بال أحد من العاملين معكم، فها قد أتحتُ لكم الفرصة كي تردوا عليها وتزوّدونا بالإجابة كي نستفيد من علمكم الغزير. هذا إن كان لديكم إجابة بالطبع.(/31)
وقد ذكرنا في الحلقة الماضية خمس عشرة مشكلة من المشاكل التي يثيرها موضوع تجسد اللاهوت في الناسوت، وانتهى الزمن المخصص للحلقة ولم تنته المشاكل، مما اقتضى أن نستكمل في هذه الحلقة ما توقفنا عنه في الحلقة الماضية. وكنا قد تساءلنا في الحلقة الماضية عما إذا كان يسوع الإنسان قد فقد إرادته البشرية عندما حلت فيه الإرادة اللاهوتية، وبالتالي يكون قد فقد عقله الذي هو مصدر الإرادة، عندما حل فيه عقل اللاهوت كما يقول القمص، أم أنه لم يفقد عقله وظل محتفظا بإرادته البشرية؟ فلو أن يسوع الإنسان فقَدَ عقله واختفت إرادته في الإرادة اللاهوتية، لكان قد فقد مقوماته كإنسان، ولأصبح مجرد مخلوق مثل الجماد ولكنه حيّ، أي أنه أصبح أشبه بالميكروبات أو بالمخلوقات الحية التي لا عقل لها ولا إرادة، وعلى هذا فهو لا يصلح لأن يكون الفادي الذي يفدي البشرية لأنه لم يعد من الجنس الإنساني بعد أن فقد العقل الذي هو أحد مقومات الإنسان. وإن لم يكن قد فقد إرادته البشرية وبالتالي ظل محتفظا بعقله البشري، فكيف نعرف ما إذا كان تصرّف معين قد صدر عن يسوع الإنسان أم عن اللاهوت المتلبس في جسم يسوع الإنسان، وكيف نفرّق بين الأقوال والكلمات التي تفوّه بها يسوع الإنسان، وتلك التي تفوّه بها يسوع اللاهوت.
وفيما يلي نستكمل ذكر مشاكل التجسد التي بدأناها في الحلقة الماضية:
(16) من الذي قال: "لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (متّى 24:15)؟ هل كان يسوع الإنسان أم كان اللاهوت الذي حل فيه؟ إن اللاهوت لا يمكن أن يكون قد "أُرسِل"، فإن أحدا لا يستطيع أن يرسل الله إلى أي مكان، وإنما الله تعالى هو الذي يرسل الأنبياء والرسل. وعلى هذا يتحتم أن يكون الذي قال هذه الجملة هو يسوع الإنسان. والسؤال الذي ينشأ هنا هو: من أين أتي يسوع الإنسان بهذه المعلومة؟ ومن الذي أخبره بأنه لم يُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة؟ من غير المعقول أن يكون اللاهوت هو الذي أخبره بهذه المعلومة، فإن الغرض من مجيئة والهدف من تجسد اللاهوت فيه، كما يقول القمص، أن يكون فاديا عن العالم أجمع، وأن يحمل آثام وذنوب البشر جميعا، فلا يمكن أن يكون مرسلا لبني إسرائيل فقط. وعلى ذلك فلا بد أن هذه الجملة لم تكن من الله تعالى، وإنما كانت مجرد اجتهاد من يسوع الإنسان، ولا مانع من أن يخطئ الإنسان أحيانا في اجتهاده. ولكن، لماذا لم يصححه اللاهوت الذي تجسد فيه، إن كان بالفعل قد تجسد فيه؟ لماذا لم يقل له إنه جاء من أجل العالم كله؟ لماذا سكت اللاهوت عن قول الحق، مع أن القول المأثور ينص على أن الساكت عن الحق شيطان أخرس؟
(17) أخبرنا جناب القمص أثناء إجابته على أحد أسئلة السيدة ناهد عمن هو يسوع المسيح؟ فقال إنه إنسان وابن إنسان، كما أنه الله وابن الله. فمن منهما يا ترى الذي قال: "أبي أعظم مني" (يوحنا28:14)؟ إن يسوع الإنسان لم يكن له أب بشري، ولذلك كان دائما يتحدث عن الأب السماوي الذي هو الله. أما يسوع اللاهوت الذي حل في جسم يسوع الإنسان، فقد فهمنا من كلام القمص أنه هو الآب وهو الابن وهو الروح القدس، أي أنه اللاهوت الثالوث. وجناب القمص يؤمن بأن هؤلاء الثلاثة هم إله واحد، وبالتالي فلا يمكن أن يكون أحد الثلاثة أعظم من الإثنين الآخريْن، وعلى ذلك لا يمكن أن يكون الابن اللاهوتي هو الذي قال جملة "أبي أعظم مني". وهذا يعني أن قائل هذه الجملة لا بد أن يكون هو يسوع الإنسان، وليس يسوع ابن اللاهوت.
ولعل القارئ العادي قد لا يلحظ هذه الأمور، ولا يخطر بباله أن يتساءل عمن قال هذه الجملة ومن قال تلك. غير أن جناب القمص يتهم المسلمين دائما بأنهم لا يقرأون، وإذا قرأوا فإنهم لا يفهمون. ولذلك ينبغي لنا نحن المسلمين أن نقرأ كل شيء بإمعان وتفكر، ونسأل جناب القمص وحضرات الأخوة المسيحيين الذين يقرأون ويفهمون، لأننا أمام شخصيتين إحداهما بشرية والأخرى لاهوتية، وكلاهما موجودان في جسد واحد، فلا بد أن نفهم من منهما الذي يتكلم. ومن التحليل السابق يتبين أن الذي قال جملة "أبي أعظم مني" هو يسوع الإنسان وليس يسوع الابن. ولكن بقراءة السياق الذي جاءت فيه هذه الجملة، يتضح أن المتكلم هو يسوع الابن وليس يسوع الإنسان، فهو يقول مثلا:
"لا أترككم يتامى، إني آتي إليكم، بعد قليل لا يراني العالم وأما أنتم فترونني أني حي فأنتم ستحيون. في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي وأنتم فيّ وأنا فيكم. الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني، والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي" (يوحنا14 :18-21).
ومن الواضح أن كل هذا الكلام قد صدر من يسوع الابن وليس من يسوع الإنسان. وهو يستطرد فيقول:(/32)
"إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي (أي أنا وأبي) وعنده نصنع منْزلا، الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي، والكلام الذي تسمعونه ليس لي، بل للآب الذي أرسلني .... سمعتم أني قلت لكم أنا أذهب ثم آتي إليكم، لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني قلت أمضى إلى الآب، لأن أبي أعظم مني، وقلت لكم الآن قبل أن يكون حتى متى كان تؤمنون" (يوحنا 14: 23-29).
من الواضح الجلي من هذا السياق أن المتكلم هو يسوع الابن وليس يسوع الإنسان، وهذا يتركنا في مشكلة عويصة. إما أن نصدق كلام يسوع الابن، وبالتالي ينبغي أن نؤمن بأن الآب أعظم من الابن، مما يثبت خطأ كلام القمص عن أن الآب والابن هما في الواقع شخص واحد، وأن الفرق بينهما هو فرق مسميات فقط، وإما نصدق كلام القمص ونخطّئ كلام الابن ونقول إنه لم يفهم العلاقة بينه وبين أبيه كما فهمها جناب القمص، أو نقول لعل الأستاذ يوحنا الذي كتب الإنجيل قد أخطأ في تدوين كلام يسوع الابن. والنتيجة؟ تشويش في الفكر، وارتباك في العقيدة، وأخطاء في الإيمان، و"لخبطة" في كل شيء. فهل يتفضل جناب القمص بإلقاء بعض الضوء على هذه المشكلة التي يبدو أن لا حل لها؟
(18) إن تجسد الله (المزعوم) في جسم المسيح قد أثار الكثير والكثير من المشاكل التي لا حصر لها. وفي الواقع، إن من خلق هذه المشاكل هو جناب القمص وعقائده التي يصر على أنها من عند الله تعالى وليست من بنات أفكار البشر. إن العقائد التي تأتي من عند الله لا بد أن تكون عقائد سليمة صحيحة ومنطقية تتفق مع العقل وتتواءم مع المنطق. وأما العقائد التي من تأليف البشر، فلا تخلق سوى التشويش، ولا تنتج سوى الارتباك، ولا تؤدي إلا إلى "اللخبطة"، كما أنها تثير الكثير من الأسئلة التي لا يوجد لها جواب، مما اضطر الآباء في الكنيسة إلى اختراع موضوع الأسرار. فكلما عجزوا عن إيجاد شرح معقول لعقيدة من العقائد التي اخترعها البشر، قالوا إنها سر من الأسرار المقدسة. ولعلهم يرون أن وجود شخصيتين مختلفتين في جسم واحد، هو من الأسرار التي لا يستطيع العقل البشري أن يستوعبها. وهم على حق في هذا، إذ لم يحدث في تاريخ البشرية أن اخترع أحد عقيدة تخالف العقل كهذه العقيدة التي تقول إن الله والإنسان قد اجتمع وجودهما سويا في جسم إنساني واحد، هو جسم يسوع. ولذلك حين نتكلم عن يسوع ينبغي أن نحدد عمن نتكلم بالضبط، عن يسوع الناسوت أم عن يسوع اللاهوت. وإذا تكلم هذا الكائن المسمى يسوع، فينبغي أيضا أن نحدد من الذي يتكلم بالضبط، هل هو يسوع الناسوت أم يسوع اللاهوت.
ولما كان جناب القمص يتهمنا نحن معشر المسلمين بالغباء والجهل، وأننا لا نفهم ما نقرأ، ويومئ بهذا إلى أنه هو وأتباعه هم وحدهم الذين يتمتعون بالذكاء والعبقرية، ويفهمون كل ما يقرأونه، لذلك فنحن مضطرون إلى الاستعانة بذكائه وعبقريته، فنسأله ونسأل الأخوة المسيحيين جميعا من الذي قال هذه الجملة:
"وأما ذلك اليوم وتلك الساعة، فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب" (مرقس32:13).
من المستحيل بالطبع أن يكون يسوع الإنسان هو الذي قال هذه الجملة التي سجلها مرقص في إنجيله، لأنه لم يكن ليستطيع أن يحكم على علم كل من الآب والابن، وعلى هذا فلا بد أن يكون قائلها هو يسوع اللاهوت. ويبدو أن مرقص كان محدود الذكاء، فلم يدرك أهمية هذه الجملة التي سجلها، ولم يفهم خطورة معناها وما تحتويه من حقائق، فلم يعمل على تزويرها أو تحريفها كما فعل متّى في إنحيله. أما لوقا اليوناني ويوحنا الروماني فقد تجنبا ذكرها كلية في إنجيليهما. أما متّى، فقد حاول أن يتحاشى ما يمكن أن يثور حول هذه الجملة من صخب وجدل، فحذف كلمة "الابن" من الجملة، وسجلها على لسان الابن اللاهوتي كما يلي:
"وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا ملائكة السموات، إلا أبي وحده" (متّى36:24).
ولو كانت الجملة بهذا الشكل الذي سجله بها متّى لراح جناب القمص يؤكد لنا أن قائلها هو يسوع الإنسان، باعتبار أنه لا فرق بين الابن والآب، فكليهما شخص واحد كما حاول أن يشرح لنا من قبل عند كلامه عن الثالوث. أما الجملة التي ذكرها مرقص، فقد كشفت خطأ القمص، وفضحت سوء فهمه، وأسقطت من على وجهه الغلالة التي كان يحاول أن يتستر بها ويزعم من ورائها أنه يؤمن بإله واحد يتكون من ثالوث من الأشخاص، يدّعي أنهم شخص واحد دون أي فرق بينهم. والآن، علينا أن نقرر أمرا خطيرا في غاية الأهمية: إما أن نصدّق جناب القمص، ونكذّب إنجيل مرقص؛ وإما أن نصدّق الجملة التي قالها مرقص، ونكذّب كل ما ادعاه القمص من أقاويل وأكاذيب.(/33)
إن قائل هذه الجملة، كما هو ظاهر جليّ لكل إنسان يتمتع بما وهبه الله تعالى للإنسان العادي من عقل وقدرة على الفهم، هو الابن اللاهوتي الذي حل في جسد يسوع الإنسان، إن كان اللاهوت قد حل فيه كما يدّعي القمص. فالابن اللاهوتي وحده هو الذي يعرف نفسه، وهو الأعلم بقدراته، وهو الأدرى بحدود علمه. وما دام يقر ويعترف بأنه لا يعرف اليوم الذي يأتي فيه ولا الساعة التي ينقضي فيها الدهر، فلا مجال لأي ادّعاء بأن الابن هو الآب وهو الروح القدس، ولا مكان لأيّ تخرصات يتحجج بها جناب القمص ويزعم أن هؤلاء الثلاثة هم واحد في الصفات أو في القدرات أو أنهم حتى متساوون في الجوهر، إذ لو كان جوهرهم واحد، فلماذا يقل علم أحدهم عن الآخر؟ ولماذا ينفرد الآب بعلم شيء لا يعلمه الابن؟ بل ولماذا أهمل كل من متّى ومرقص ذكر الأقنوم الثالث، وهو الروح القدس، في موضوع المعرفة هذا، وكأن الروح القدس قد فقد وجوده وأهميته كأقنوم، حتى إن متى ومرقص لم يجدا أي سبب لذكره بالمرة، فاقتصر كل واحد منهما على ذكر الابن والآب فقط؟(/34)
ولكن السؤال الذي لا بد أن ينشأ هنا، وينبغي أن يجيب عليه القمص، إذا كان يستطيع أن يجيب عليه، هو: لماذا يجهل الابن شيئا يعرفه الآب وحده فقط؟ ولو كان الآب والابن والروح القدس إلها واحدا بالفعل، فهل من المعقول أن يعرف هذا الإله الواحد شيئا ولا يعرفه في نفس الوقت؟ لقد ظل جناب القمص يشنف آذاننا بكلامه الذي حاول به على مدى العديد من حلقاته التي قدمها عن موضوع الثالوث ثم عن موضوع التجسد، أن الابن ليس ابنا بالمعنى المعروف، وإنما هو مجرد تعبير عن عقل إلهه الذي يؤمن به. وقد ظل يشرح لنا أن ذلك الإله له وجود، وله عقل، وله روح، ولكنه على أية حال إله واحد. وكنا على استعداد أن نصدق القمص لو أنه كان صادقا في كلامه، ولكنه لم يكن صادقا لأنه كان يقدم صورة غير حقيقية تختلف عن العقائد المسيحية الأخرى، وكان يحاول بذلك خداع المسلمين ليقنعهم بأنه يؤمن بإله واحد فعلا. وإلا فكيف يمكن لهذا الإله الواحد الذي يقول القمص إن له وجودا اسمه الآب، وإن له عقلا اسمه الابن، وإن له روحا اسمه الروح القدس، نقول كيف يمكن لهذا الإله أن يجهل عقله شيئا يعرفه وجوده؟ وإذا كان الوجود هو مصدر العقل، وكان العقل هو مصدر العلم، فكيف يمكن أن يجهل هذا العقل شيئا؟ وإذا علمنا الآن، بفضل إنجيل مرقص، أن عقل إله المسيحية يجهل يوم وساعة عودة المسيح إلى الدنيا، فما هو الذي يجهله عقل هذا الإله بالإضافة إلى ذلك، ولم يذكره مرقص أو لم يعلم مرقص أن هذا الإله كان يجهله أيضا؟ وهل مثل هذا الإله الذي له عقل ناقص، غير كامل، لأنه يجهل معلومة من المعلومات، يستحق أن يكون إلها يعبده الناس؟ هل هذا هو إله المسيحية الذي يقدمه لنا جناب القمص، ويطلب منا نحن المسلمين أن نقبله ونعبده بدلا من الله العليم الخبير الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، عالم الغيب والشهادة الذي هو بكل شيء عليم؟ إن جناب القمص يطلب منا أن نكون مثل بني إسرائيل الذين أنزل الله عليهم طعاما من السماء، هو المن والسلوى، فأرادوا أن يستبدلوه بطعام من الأرض هو القثّاء والفول والعدس والبصل، فقال لهم موسى ]أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ[ (البقرة:61). كذلك يريد منا جناب القمص أن نستبدل الله تعالى، الكامل بذاته، العليم بذاته، الحكيم بذاته، الخبير بذاته، الذي لا يحتاج إلى عقل يفكر به، بإله آخر من تأليف وإخراج المسيحية المغلوطة التي يؤمن بها جناب القمص، إله يحتاج إلى عقل يعلم به شيئا ويجهل به شيئا آخر، ثم بعد هذا يتهمنا نحن المسلمين بأننا لا نريد ان نقرأ وإذا قرأنا فإننا لا نفهم. فلماذا لا يفهم هو ما يقرأه في إنجيل مرقص، ولماذا لا يعود إلى عقله ويعترف بأن الإله الحق لا يمكن أن يكون جاهلا بأي حقيقة، وعلى ذلك فإن الإله الذي يجهل عقله شيئا لا يستحق أن يكون إلها للعقلاء من الناس، بل إن الإله الذي يحتاج أصلا إلى عقل يكتسب به العلم لا يستحق أن يُعبد إلا من الجهلاء والأغبياء. ومع هذا، فإن جناب القمص يتهمنا نحن معشر المسلمين بالجهل والغباء!! وهو بهذا يذكرنا باللص الذي يجري مع الناس وينادي مثلهم "امسك حرامي"، وذلك ليصرف عن نفسه تهمة السرقة واللصوصية. أو المرأة البغي التي يذكرها المثل المصري فيقول: إنها تتهيك، واللي فيها تجيبه فيك. وهكذا يبدو أن الأغبياء يتهمون الآخرين بالغباء ليصرفوا الأنظار عن غبائهم. أو لعل هؤلاء الأغبياء لا يعرفون مقدار غبائهم، والجهلاء لا يعلمون حجم جهلهم، تماما كما لا يدرك المجانين مدى جنونهم. وهؤلاء هم الذين وصفهم القرآن المجيد فقال ]لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[ (الأعراف:179).(/35)
إن السبيل الوحيد أمام جناب القمص كي يسترد احترامه لدى العقلاء من الناس أن يعترف بأن الله تعالى لم يحل في جسد يسوع الإنسان، وأن الذي كان يتكلم لم يكن هو اللاهوت المتجسد، وإنما كان هو السيد المسيح، الإنسان، البشر، النبي، الذي أرسله الله تعالى العليم بكل شيء. وإن كان اليهود قد اتهموه كذبا وزورا بأنه ابن زنى، لأنه لم يكن له أب من البشر معروف لهم، فقد كان يرد عليهم بقوله إنه ابن الله تعالى الخالق القدير الذي لا يحتاج إلى أب من البشر ليخلق بشرا. ولم يكن بالطبع يقصد أن الله هو أبوه بالمعنى الحرفي، ولا بالمعنى الذي شرحه جناب القمص، وإنما هو بشر مثل بقية البشر، اختاره الله تعالى ليكون رسولا إلى البشر. ولذلك كان لا بد أن يعترف بأن الله خالقه، أو أباه مجازا، هو أعظم منه، فقال "أبي أعظم مني"، وكان لا بد أيضا أن يقر بأن الله تعالى هو العليم بكل شيء، أما هو فلا يعلم إلا ما يُعلّمه الله إياه، ولذلك قال: "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة، فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب" (مرقس32:13). أي أن الله تعالى الذي هو بمثابة الأب مجازا، هو وحده العليم بكل شيء، أما الابن الذي هو المسيح البشر، فإن هناك الكثير من الأمور التي لا يعلمها ولا يعرفها إلا إذا عرفها الله له.
هذا هو التفسير الوحيد المعقول، الذي يتفق مع العقل والمنطق، والذي يحفظ لله تعالى مقامه وجلاله، ويحفظ له صفاته وكماله، كما أنه يضع الإنسان يسوع المسيح في مكانه الحقيقي كبشر مخلوق. نعم، لقد كان على مقام عظيم بالنسبة للبشر، لأن الله تعالى اختاره ليكون نبيّه ورسوله إلى قومه بني إسرائيل، ولكنه لا يزيد عن ذلك، فليس هو عقل الله. إنه كلمة الله، بمعنى أنه جاء إلى الوجود بأمر من الله. كذلك فإنه روح من الله، بمعنى أن الله تعالى قد جعله وسيلة لهداية المخلصين من قومه إلى طريق الله، فهو يهبهم الحياة بإذن الله، ويحيي الأموات منهم بدعوتهم إلى الإيمان بالله. وهذه هي مهمة كل نبي ورسول يبعثه الله U إلى قومه، والتي يعبر عنها القرآن المجيد بقوله ]يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يَحْيِيكُمْ[ (الأنفال:24).
أما الخرافات التي حكاها لنا جناب القمص، والأكاذيب التي رواها لنا في أحاديثه المتتالية عن إله يدّعي أنه إله واحد، ثم يقول عنه إنه ثالوث، ثم تجسد هذا الإله وتلبسه في جسم إنسان، فهذه كلها أساطير وحكايات قد تصلح لتسلية الأطفال قبل اختراع الراديو والتلفزيون والكومبيوتر والإنترنت، ولكن لا مكان لها عند العقلاء، ولا قيمة لها في القرن العشرين والواحد والعشرين. وعلى هؤلاء الذين لا يزالون في غفلتهم يعمهون، عليهم أن يستيقظوا من غفلتهم، ويفيقوا من غفوتهم، وينفضوا عن عقولهم تراب الخرافات والأساطير، فعسى أن يهديهم الله تعالى إلى سواء السبيل.
غير أن مشاكل التجسد لا تنتهي عند هذا الحد، بل إنها تستمر لتقلق العقلاء، وتثير الكثير والكثير من التساؤلات التي تحتاج إلى إجابات مقنعة، وأما هؤلاء الذين سقطوا ضحية لكلام القمص المنمق، فحبذا أن يعيدوا التفكير فيها بشيء من العقل والحكمة. وياليت هؤلاء الذين يؤمنون بهذه الخرافات التي حدثنا بها جناب القمص أن يعطوا عقولهم فرصة للتفكير فيها مرة أخرى، لعلهم يستطيعوا أن يُفرّقوا بين الغث والسمين، ويعلموا الفرق بين الوضيع والثمين، فلا يكونوا من الخطاة الضالين، بل يجعلهم الله تعالى بفضله من الهداة المهتدين. آمين ثم آمين.
وها قد انتهى الوقت المخصص لهذه الحلقة، ولم تنته مشاكل التجسد، فلا تزال هناك العديد من الجمل والأقوال التي قالها يسوع، ولا نعرف على وجه الدقة من هو قائلها ولماذا قالها، وهل كان قائلها هو يسوع الإنسان، أم أنه كان يسوع اللاهوت الذي يزعم جناب القمص أنه حل وتجسد في يسوع الإنسان. وسوف يضطرنا هذا إلى استئناف الكلام عن هذه المشاكل في الحلقة القادمة إن شاء الله، لعلها تكون سببا لفتح العيون، وعونا لفهم العقول.
( 29 )(/36)
مرة أخرى نلتقي في حلقات برنامج "أجوبة عن الإيمان" لنرد على جناب القمص زكريا بطرس والحلقات التي قدمها في برنامجه "أسئلة عن الإيمان". وفي الحلقتين الماضيتين تعرضنا لبحث المشاكل التي نجمت عما يزعمه القمص من تجسد الله في جسم المسيح. ويقول القمص إن الغرض من هذا التجسد هو أن يتمكن يسوع الإنسان من أن يكون فاديا ليفدي البشرية حتى يتمكن الله تعالى من مغفرة خطاياهم. وقد قال القمص إن هناك ثلاثة شروط يجب توفرها في هذا الفادي، وهي: (1) أن يكون إنسانا من جنس البشر، وقد تحقق هذا الشرط في جسد يسوع الذي وُلد من السيدة مريم فكان إنسانا "زيي وزيك" كما يقول القمص، غير أنه لم يرث الخطية لأنه ليس من زرع بشر. وبصرف النظر عن منطق وراثة الخطية وخرافته، إلا أن الرد عليه وتفنيده ليس مكانه في هذه الحلقة، وإنما كان في الحلقات الأولى من هذه السلسلة. ولذلك فإننا سوف نأخذ كلام القمص على علاته، ونرى ما إذا كانت شروط الفادي المزعوم تتوافر فعلا في يسوع الإنسان أم لا. (2) الشرط الثاني الواجب توفره في الفادي المزعوم هو أن يكون طاهرا لم يرتكب أي خطية. وجناب القمص يزعم أن يسوع الإنسان كان هو الشخص الوحيد من بين البشر الذي لم يرتكب أي خطية، مع أن الكتاب المقدس والأناجيل بالذات تكذب هذا الادعاء. ومع أننا نؤمن بطهارة المسيح ابن مريم وطهارة جميع الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى بكتبه ورسالاته إلى البشر، إلا أننا في الحلقة التاسعة من برنامج "أجوبة عن الإيمان" قدمنا عشرة أسباب مستقاة من الكتاب المقدس، وتدل على خطأ ادّعاء اختصاص يسوع بالطهارة من دون بقية الأنبياء، وذكرنا الكثير والعديد من الذنوب التي تذكر الأناجيل أن يسوع الإنسان قد ارتكبها. ويمكن لمن يشاء من حضرات القراء أن يرجع إلى هذه الحلقة التاسعة، إما على موقع www.agweba.com من شبكة الإنترنت، ولكن، فلنتجاوز عن هذا الآن، ولنأخذ ادعاءات القمص على علاتها، ونفترض أن يسوع الإنسان كان فعلا بغير خطية سواء كانت متوارثة أو مكتسبة. وبذلك نفترض أن الشرط الثاني الذي لا بد من توافره في الفادي قد توفر فعلا في يسوع الإنسان. (3) الشرط الثالث الذي ينبغي توافره في الفادي المزعوم هو أن يكون غير محدود. ولما كان من المستحيل أن يكون هناك كائن غير محدود غير الله تعالى، لذلك، وحسب ما يدّعيه القمص زكريا بطرس، كان لا بد أن يتجسد الله في جسم يسوع الإنسان ليحقق هذا الشرط الثالث. وللمرة الثالثة نقول إنه بصرف النظر عن سخافة هذا المنطق وخرافته، والذي قمنا بتحليله وبيان ما فيه من خلل ابتداء من الحلقة الثانية والعشرين وما بعدها، إلا أن هدفنا هنا هو دراسة المشاكل التي تنجم عن هذه العقيدة الخاطئة. ولذلك، سوف نأخذ كلام جناب القمص على علاته، ونفترض جدلا أن الإله قد حل في جسد يسوع الإنسان، بحيث أصبح هذا الجسد يحتوي الإنسان يسوع، كما يحتوي اللاهوت. ثم نسأل جناب القمص كما نسأل المؤمنين بهذه العقيدة: ما هي تداعيات هذا التجسد؟ هل حلت الإرادة اللاهوتية محل إرادة الإنسان يسوع أم ظل يسوع محتفظا بإرادته البشرية؟ وهل حل عقل اللاهوت محل العقل الإنساني أم ظل يسوع محتفظا بعقله البشري؟ وقد خرجنا من هذه الدراسة بأن أي تغيير في الشخصية الإنسانية ليسوع سوف تفقده الصفة الإنسانية، وبالتالي فلن يكون إنسانا "زيي وزيك" كما ينبغي أن يكون، وبذلك يفقد الشرط الأول الذي لا بد من توفره في الفادي، وهو أن يكون إنسانا "زيي وزيك" حسب كلام القمص. ولذلك فلا بد أن يظل يسوع الإنسان كما هو: إنسانا بكل الصفات الإنسانية، وأن يظل محتفظا بإرادته البشرية بالإضافة إلى الإرادة اللاهوتية، وأن يظل محتفظا بعقله البشري بالإضافة إلى العقل اللاهوتي، وأن يظل محتفظا بضعفه البشري بالإضافة إلى قدراته اللاهوتية. وهذا هو المستحيل بعينه، لأن هذا يعني اجتماع الأضداد في نفس المكان وفي نفس الوقت. إن هذه العقيدة تخالف المنطق بشكل لا يمكن معه قبولها بأي شكل من الأشكال. إذ كيف يمكن أن يجتمع الجهل والعلم الكامل في نفس العقل؟ كيف يمكن أن يجتمع الضعف والقوة المطلقة في نفس الجسد؟ هل من الممكن أن يجتمع النور مع الظلام في نفس الوقت وفي نفس المكان؟ هل يمكن أن يكون اللون أبيض وأسود في نفس الوقت؟ إن اللون الأبيض معناه وجود الألوان، واللون الأسود معناه عدم وجود أي لون، فهل يمكن أن يجتمع الوجود والعدم في نفس المكان؟ إن هذه بديهات لا تحتاج إلى منطق للتدليل عليها، ولا تتطلب عقلا ذكيا ليحكم على بطلانها. فأين ذهب عقلك يا جناب القمص، وأين ضاع منك المنطق؟ إن الذين اخترعوا هذه العقيدة لم يفكروا في جميع أركانها، ولم يحسبوا كل ما يمكن أن ينتج عنها من مشاكل وتناقضات. ونستأنف فيما يلي ذكر هذه المشاكل والمتناقضات:(/37)
(19) لقد كان يسوع الإنسان يصلي للآب، وعلّم الناس أن يصلوا أيضا للآب. ولا شك أن يسوع الإنسان كان يعلم حقيقة الله أكثر من جناب القمص وشركاه، فلو كان يعلم أن الله قد تجسد فيه، ويعلم أن الأقانيم لا تنفصل بعضها عن البعض، فلماذا اختص الآب بالصلاة دون الأقنومين الآخريْن؟ لماذا لم يحدث أبدا أن صلى للإبن أو للروح القدس؟ قد يقول جناب القمص إنه لا فرق بين الآب والابن والروح القدس، فكلهم واحد. وما داموا كلهم واحد، فلماذا إذن اختص يسوع الآب وحده بالصلاة؟ ولماذا لم يصلّ يسوع للإبن ولو مرة، ولم يصلّ أبدا للروح القدس، حتى يثبت بعمله أنه لا فرق فعلا بين الثلاثة؟
(20) ألم يكن الأوْلى بالأخوة المسيحيين أن يقتدوا بيسوع الإنسان الذي كان أقربهم إلى الله، فيصلّوا للآب وحده كما كان يفعل هو، بدلا من أن يصلوا ليسوع الذي كان نصف إنسان ونصف إله؟ ولما كان العنصر الإنساني لا يزال موجودا في يسوع المسيح، ألا يلقي هذا بشبهة الشرْك عندما يعبد الناس كائنا غير الله تعالى؟ فكما قال جناب القمص عن يسوع إنه "إنسان وابن إنسان، وهو الله وابن الله"، وعلى هذا فإن العنصر الإنساني موجود في يسوع المسيح، وعبادته تعني إشراكه في العبادة مع الله تعالى. واحتجاجهم بأنهم يعبدون الله في الجسد ولا يعبدون الإنسان الذي في الجسد لا قيمة له، فهكذا يقول الذين يعبدون الأصنام الذين يعتقدون بأن الله موجود في كل شيء بما فيها تلك الأصنام.
(21) لا شك أن يسوع الإنسان كان يعلم بوجود اللاهوت بداخله، ولا شك أيضا أن رؤساء اليهود كانوا يناصبونه العداء وكانوا يتآمرون عليه ليقتلوه، ولا شك كذلك أنه كان يعلم بأنه سوف يتعرّض لأزمة شديدة ومحنة صعبة إذا تم القبض عليه، فإن مصيره الموت على الصليب. ولو تم هذا فلن يبقى هناك أمل في أن يؤمن به اليهود، وهم يعرفون من توراتهم أن من يموت على الصليب يكون ملعونا من الله تعالى. ولذلك فقد توجه لله بالصلاة والدعاء كي يصرف الله عنه هذه المحنة. فقال كما جاء في الأناجيل:
"يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس، ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك. وظهر له ملاك من السماء يقويه. وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض" (لوقا22: 42-44).
والسؤال الذي لا بد أن ينشأ هنا هو: ما هي هذه الكأس التي كان يسوع الإنسان يصلي بهذه اللجاجة الشديدة، وبهذا العرق المتصبب كقطرات الدم، لكي يجيزها الله عنه؟ يزعم القمص أنه كان يخشى أن يموت بسبب الضرب بالسياط ولا يموت على الصليب، فيفشل في تحقيق مهمة الفداء. وقد سبق الرد على هذا الاختراع الذي اخترعه القمص في الحلقة الرابعة عشرة من حلقات "أجوبة عن الإيمان". ولكن هنا نود أن نعالج القضية من ناحية التجسد المزعوم. إذ لو كان الله قد تجسد فيه بالفعل، فكيف يظهر له من السماء ملاك يقويه؟ ولماذا لم يفعل الله المتجسد فيه شيئا لكي يقويه من داخله بدلا من أن يأتي ملاك من السماء؟
وبالمناسبة، يقول إنجيل مرقس عن هذه الواقعة: "وكان يصلي لكي تعبر عنه الساعة إن أمكن" (مرقس35:14)، ثم يقول بعدها: "قد أتت الساعة، هو ذا ابن الإنسان يُسلم إلى أيدي الخطاة" (مرقس41:14). أي أن يسوع بنفسه قد أوضح ما هي الكأس التي كان يدعو الله أن يجيزها عنه، وهي التي عبر عنها إنجيل مرقس بكلمة "الساعة"، ثم عرّفها بعد ذلك بقوله أنه سوف يُسلّم إلى أيدي الخطاة، وعلى هذا تكون الكأس هي تسليمه إلى أيدي الخطاة، وليس موته بسبب الضرب بالسياط كما اخترع جناب القمص.
(22) عندما تم تعليق يسوع على الصليب كان عن يمينه وشماله لصان محكوم عليهما بعقوبة الصلب أيضا، وكان أحدهما يعيره ويهزأ به بينما آمن به اللص الثاني فقال له يسوع: "الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس" (لوقا43:23). والسؤال الذي ينشأ هنا هو: ألم يكن الغرض من عملية التجسد المزعوم أن يحمل يسوع اللاهوت العقوبة التي أصدرها الله على آدم وحواء وعلى الجنس البشري بأكمله، فهل كانت هذه العقوبة هي الوجود في جهنم النار الأبدية أم كانت الوجود في الفردوس؟(/38)
(23) عندما كان يسوع الإنسان معلقا على الصليب، يبدو أنه شعر بخروج اللاهوت منه، وهو بالطبع أدرى الناس بوجود اللاهوت فيه أو خروجه منه، ولذلك فقد صرخ مناديا عليه وقال جملته المعروفة: "إلهي إلهي لماذا تركتني" (متّى46:27). فهل لدى جناب القمص أي إجابة على هذا السؤال الذي انطلق من أعماق يسوع الإنسان؟ فمن غير المعقول أن يكون هذا السؤال قد انطلق من اللاهوت الذي تجسد فيه، فهو حتما قد صدر من يسوع الإنسان. وقبل أن يقدم جناب القمص إجابة على هذا السؤال، إذا كان لديه إجابة، ينبغي أن نعرف أولا لماذا انطلق هذا السؤال أصلا. لقد كان يسوع يعلم تماما المهمّة التي هو مقدم عليها، وسواء كان قد وافق عليها أو لم يوافق، فهذا أمر غير معروف، والأناجيل صامتة عنه صمت القبور. وكما سبق بيانه في الحلقة الرابعة عشرة من هذه السلسلة، كانت الإرادة الإلهية تتوجه إلى المحافظة على المسيح وليس إلى موته، ولذا فقد كان يسوع يعلم أن الله سوف يحفظه من موت اللعنة، ولا شك أنه تلقى تأكيدا بذلك من الملاك الذي ظهر له يقويه عندما كان يصلي ويدعو الله أن يجيز عنه كأس الموت. بل إن كاتب الرسالة إلى العبرانيين يقول:
"الذي في أيام جسده إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت وسُمع له من أجل تقواه. مع كونه ابنا تعلّم الطاعة مما تألم به" (7:5).
أي أنه كان يعلم أن الله استمع لدعائه واستجاب لطلباته، مما يعني أنه لم يكن هناك ما يخشاه، فهو لم يصرخ مناديا الله لأنه كان خائفا، أو لأنه كان جبانا. وعلى هذا، فليس هناك من سبب يدعوه للنداء على الله سوى أنه شعر بخروج اللاهوت منه. فهل من سبب لدى جناب القمص ولدى الأخوة المسيحيين يبرر خروج اللاهوت من الناسوت في تلك اللحظة العصيبة؟ ومن أدرانا أنه عاد وتجسد فيه مرة أخرى؟ وإذا كان اللاهوت قد خرج من الناسوت، ألا يدل هذا على أن يسوع الإنسان قد فقد إحدى المتطلبات الثلاث التي ينبغي توفرها في الفادي، وهي أن يكون غير محدود؟
(24) إن هذه الصرخة التي أطلقها يسوع الإنسان وهو على الصليب لها الكثير من المعاني والكثير من النتائج أيضا. فقد قال لنا القمص في حلقاته السابقة إن الذي مات على الصليب هو يسوع الإنسان وليس اللاهوت. وهذا يؤيد ما قلناه من أن اللاهوت قد ترك الناسوت في اللحظات الأخيرة، فلما شعر يسوع بمغادرة اللاهوت صرخ ونادى عليه وهو لا يدري السبب الذي من أجله تركه في تلك اللحظات الحرجة. ولعل اللاهوت قد ترك الناسوت في تلك اللحظات بالذات حتى لا يظن الناس أن اللاهوت قد مات مع الناسوت، خاصة وأنهم ظلوا يسمعون من زعمائهم من أمثال جناب القمص زكريا بطرس أن إلههم إله محبة، وأنه ضحى بنفسه من أجلهم، وأنه تجسد من أجل أن يحمل ذنوبهم ويرفع عنهم اللعنة التي ألقاها على رؤوسهم ورؤوس آبائهم وأسلافهم، لذلك لم يكونوا ليتصوروا أن ذلك الإله المحب المضحي سوف ينجو بنفسه من الصلب ومن الموت، ويترك الناسوت وحده ليذوق وحده جميع آلام الصلب والموت، بينما يجني اللاهوت وحده ثمرات هذه التضحية التي قام بها يسوع الإنسان، ويتلقى وحده الشكر والصلوات مع أن الآلام كلها تحملها المسكين يسوع الإنسان وحده. ولذلك لم يكن من الغريب أن يصرخ يسوع من أعماق نفسه، وهو يشعر بإحساس من المرارة وخيبة الأمل وسوء الرجاء في هذا الإله الذي تخلى عنه وتركه لمصيره المحتوم في اللحظات الأخيرة، ولا عجب أن نادى عليه بأعلى ما بقي له من صوت وما تبقى فيه من قوة قائلا: "إلهي إلهي، لماذا تركتني"؟
(25) وما دام اللاهوت لا يموت، وقد استطاع أن يترك الناسوت في لحظاته الأخيرة، فالذي مات حسب كلام القمص هو الناسوت. وعلى ذلك يكون الذي قام من الأموات هو الناسوت أيضا. فماذا حدث لجسد يسوع الإنسان من لحظة موته المزعوم إلى لحظة عودته إلى الحياة وخروجه من القبر؟ هل تكلم يسوع عن تجربته هذه ووصف ما حدث له أم أنه ترك ذلك للناس يضربون أخماسا في أسداس؟ وما دام الذي قام من الأموات هو يسوع الإنسان وليس يسوع اللاهوت، فماذا عن كل هذه الكتابات والكلمات التي تصف "الكلمة" بأنه قد تجسد ومات وقام في اليوم الثالث؟ ألا تنص الوثيقة التي تضمنت قرارات مجمع نيقية على أن الابن قد مات ودفن وقام في اليوم الثالث؟ والآن يأتي جناب القمص لينفي هذا ويقول إن اللاهوت لا يموت، وإن الذي مات هو الإنسان يسوع فقط. فمن نصدق؟ أليس من الأصلح أن تتفقوا على رأي أيها الناس حتى نعلم بالضبط ما هي عقائدكم على وجه الدقة قبل أن تدعوننا لأن نقبل هذه العقائد التي لا تستقر على حال؟(/39)
(26) يعتقد الأخوة المسيحيون أن يسوع الإنسان قد قام من الأموات، وقد سبق في الحلقات الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة أن قدمنا البراهين والأدلة من وجهة النظر المسيحية والإسلامية على أن المسيح u لم يمت على الصليب، وبالتالي فهو لم يقم من الأموات بالمعنى الحرفي. ولكننا هنا نريد أن ننظر للموضوع من وجهة نظر التجسد المزعوم، ولذلك سوف نفترض جدلا أن يسوع الإنسان قد قام من الأموات. والسؤال الذي لا بد أن نسأله هنا هو: بأي جسد قام يسوع الإنسان من الأموات؟ هل قام بالجسد الإنساني المادّي الذي كان يعيش به والذي وُلد به، أم قام بالجسد الروحاني الذي يقوم به الأموات يوم البعث؟ من المعروف أن الجسد المادي قد تسلمه يوسف الرّامي، أحد المؤمنين به، ووضعه في قبر عبارة عن غرفة واسعة تسع حوالي عشرة أشخاص، ثم لما جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى إلى القبر في فجر يوم الأحد لم يجدا الجسد في القبر، مما يدل على أن الجسد المادي الذي دخل القبر هو الذي خرج من القبر، ويدل أيضا على أن هذا الجسد لم يمت. غير أن الأخوة المسيحيين يؤمنون بأن الجسد الذي خرج من القبر كان جسدا روحانيا ولم يكن هو نفس الجسد المادّي الذي دخل القبر. والسؤال المنطقي الذي ينشأ هنا هو: أين ذهب الجسد المادي؟
(27) تحكي لنا الأناجيل أن يسوع قابل تلاميذه بعد أن قام من القبر فظنوا أنهم قد رأوا روحا، فأكد لهم أنه ليس روحا بل لا يزال كما هو يسوع الإنسان، إذ يقول لوقا:
"وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم سلام لكم، فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحا، فقال لهم ما بالكم مضطربين ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم، انظروا يديّ ورجليّ، إني أنا هو، جسّوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي. وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه" (لوقا24: 36-40).
لقد آمن التلاميذ أنهم قد رأوا يسوع الإنسان في جسده الإنساني المادي، وصدّقوا يسوع حين قال لهم إنه ليس روحا، وإن الروح ليس له لحم وعظام كما يرون له، ولكن مسيحيي اليوم لم يعودوا يصدقون كلام يسوع المسيح، وإنما يصدقون أقوال المفسرين الذين حرّفوا معاني كلمات المسيح. وجناب القمص يدعو المسلمين أن يتخلوا عن إسلامهم ويقبلوا مسيحيته، فمن يصدقون؟ كلام القمص أم كلام المسيح؟ وعجبي!!
(28) يبدو أن المسيح u كان يعلم أنه سيكون في أمته أشخاص من أمثال القمص زكريا بطرس، الذين سوف ينكرون نجاته من الموت، وخروجه من القبر بنفس الجسد الإنساني الذي كان به. لذلك راح يدلل لتلاميذه ويبرهن لهم على أنه هو بنفسه الإنسان الذي كان يعيش معهم من قبل، فقال لهم إنه جوعان، وطلب أن يأكل شيئا من الطعام. يقول لوقا:
"وبينما هم غير مصدقين من الفرح ومتعجبون قال لهم أعندكم ههنا طعام؟ فناولوه جزءا من سمك مشوي وشيئا من شهد عسل، فأخذ وأكل قدامهم" (لوقا24: 41-43).
والآن نسأل جناب القمص: من الذي أكل السمك المشوي وشهد العسل، هل كان هو الإنسان يسوع أم كان الله الذي يدّعي القمص أنه حل فيه؟ ولو كان الإنسان يسوع قد مات فعلا على الصليب، وتحوّل جسمه المادي إلى جسم روحي، فكيف يأكل السمك المشوي وشهد العسل، مع إن الكتاب المقدس يذكر أن الحياة بعد الموت ليس فيها أكل وشرب؟
(29) يؤمن الأخوة المسيحيون أن يسوع المسيح قد صعد إلى السماء وجلس عن يمين الرب. ولن نناقش الآن هذه العقيدة فليس هذا مكانها، وإنما نريد أن نسأل: هل تخلص الإله الذي حل في الجسد الإنساني وتجسد فيه من قيود ذلك الجسد أم أنه ظل حبيسا فيه؟ وإذا كان قد تخلص من الجسد الإنساني، فأين ذهب ذلك الجسد الإنساني؟ قد يقول القمص إنه تغير في لحظة من جسد مادّي إلى جسد روحاني، ولكن ما أسهل القول! إن مجرد القول بغير دليل لا قيمة له. ولعل جناب القمص يريد أن يستدل بكلام بولس في رسالته الأولى لأهل كورنثوس حيث يقول:
"هو ذا سر أقوله لكم، لا نرقد كلنا ولكننا كلنا نتغير. في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير، فإنه سيُبوّق فيُقام الأموات عديمي فساد، ونحن نتغير" (15: 51-52).
فهذا التغير، بافتراض صحة كلام السيد بولس، سوف يحدث للأحياء وليس للأموات، كما أنه من الواضح أنه لن يحدث إلا "عند البوق الأخير". وعلى هذا، ليس من حق جناب القمص أن يستنتج ويخترع معنى آخر لهذا الكلام، ويدّعي أن الجسد الإنساني ليسوع قد تغير ليصبح جسدا روحانيا قبل البوق الأخير. إن جناب القمص ليس من حقه أن يمارس اختراعاته في أمور العقيدة، وإنما عليه أن يستشهد بنصوص واضحة ثابتة، فأين هي النصوص يا جناب القمص؟(/40)
(30) يقول مرقس في إنجيله: "ثم إن الرب بعد ما كلمهم ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله" (مرقس19:16). فمن هو الرب الذي كان يكلمهم ومن هو الله الذي جلس ذلك الرب عن يمينه؟ إن الذي كان يكلمهم هو الإنسان يسوع، فهو الذي أراهم يديه ورجليه، وقال لهم إنه هو بنفسه يسوع الإنسان الذي يعرفونه، وإنه ليس روحا لأن الروح ليس له لحم وعظام كما له. ونفس هذا الإنسان كان جوعانا وأخذ منهم وأكل قدامهم سمكا مشويا وشهد العسل. وإذا افترضنا أن الله كان متجسدا في جسم يسوع، فإن هذا الجسم، سواء كان ماديا أو روحانيا، ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله. فهل خرج منه الإله المتجسد فيه، أم ظل الله متجسدا فيه؟ وإذا قبلنا قول القمص بأن الأقانيم الثلاثة لا تنفصل، فما الداعي لارتفاع جسد يسوع إلى السماء؟ وهل إذا جلس يسوع في الأرض لن يكون عن يمين الله وإنما إذا ارتفع إلى السماء سوف يكون عن يمينه؟
إن مشاكل التجسد لا حصر لها، وإذا وجدنا إجابة على سؤال نشأ أمامنا العديد من الأسئلة الأخرى التي تحتاج إلى إجابات، وكل إجابة منها تثير من التساؤلات أكثر مما تقدم من معلومات. ولو كانت عقيدة التجسد هذه صحيحة بالفعل، لما سكت عنها السيد المسيح، ولما ترك شرْحها لرجال من أمثال القمص زكريا بطرس. إن اليهود كانوا قوما يؤمنون بالله الواحد، غير أن أعمالهم كانت سيئة، ولذلك كانت دعوة السيد المسيح تتركز على حُسن العمل، ولم يتعرض كثيرا لعقيدتهم عن الله تعالى. وموضوع التجسد هذا كان جديدا على مفاهيم اليهود، ولذلك كان ينبغي عليه أن يشرح لهم هذا التجسد، ويبين للناس كيف يمكن أن يتجسد الله، الذي هو موجود في كل شيء حسب إيمان النصارى، في جسم إنسان هو موجود فيه من قبل أن يتجسد فيه.
(30 )(/41)
هذه هي الحلقة الثلاثون التي نلتقي فيها مع حلقات "أجوبة عن الإيمان" لنرد بها على حلقات "أسئلة عن الإيمان" التي قدمها جناب القمص زكريا بطرس. وخلال الحلقات الثماني الماضية ناقشنا موضوع تجسد الله المزعوم في جسم المسيح، وقد خصّصنا الحلقات الثلاث الماضية لمناقشة المشاكل التي تنجم عن هذا التجسد المزعوم. ورغم مناقشة هذه المشاكل في حلقات ثلاث إلا أننا لم نستطع عرض جميع مشاكل هذه العقيدة الخاطئة، الأمر الذي يضطرنا إلى عدم الاسترسال في هذه المناقشة اكتفاء بما قدمناه. ومن لا يرى خطأ هذه العقيدة بعد هذه الحلقات الثماني التي ناقشناها فيها، فلن يرى خطأها ولو ناقشناها في ثمانين حلقة، وذلك لأن مثل هؤلاء لا يريدون أن يستخدموا العقول التي وهبهم الله إياها، فعطلوها؛ كما أنهم لا يريدون أن يفكروا بأي منطق، لأنهم يفتقدونه. ونحن لا نتوجه إلى مثل هؤلاء بالقول أو بالكلام، ونكتفي بأن ندعو الله لهم بالهداية وانفتاح البصيرة. وأما توجيهنا الكلام إلى جناب القمص فلم يكن بغرض اقناعه بما نقول، وإنما لكي نقيم الحجة عليه، ونبين سوء استدلاله وسخافة منطقه، ولو أننا نتمنى بالطبع لو أنه جرّب أن يستعمل عقله، ويفتح بصيرته، ويتعامل مع معتقداته بمنطق المفكر وليس بمنطق الناقل. لقد ظل جناب القمص يكرر الإهانة والاتهام للمسلمين بأنهم لا يريدون أن يقرأوا ولا يريدون أن يفهموا ولا يريدون أن يقبلوا الحق، كما ظل يحثهم على أن يتخلوا عن أفكارهم القديمة ويفكروا بمنطق القرن الواحد والعشرين. وحبذا لو اتّبع جناب القمص نصيحته هذه فوسّع مجال قراءاته، ولم يقتصر على قراءة ما يكتبه هو فقط، ولو فعل لعرف أن المسيحية التقليدية التي يؤمن بها جناب القمص، والتي يدعونا نحن المسلمين لأن نقبلها بدل الإسلام، هذه المسيحية تحتضر الآن، الأمر الذي دفع أحد رجالات الدين في الولايات المتحدة الأمريكية، هو الأسقف سبونغ، أن يكتب كتابا بعنوان: “Christianity Must Change or Die” أي: "على المسيحية أن تتغير أو تموت". وليس هذا المفكر مجرد قس في كنيسة أو حتى مجرد قمص من أمثال القمص زكريا بطرس، وإنما هو أسقف من كبار الأساقفة في أمريكا، أي أنه عليم وخبير بالعقائد المسيحية، ويعلم تماما أن هذه العقائد لم تعد تناسب العصر الذي نعيش فيه، ولا بد أن تتغير هذه العقائد ويُعاد النظر فيها مرة أخرى لاستبعاد جميع الخرافات التي تحتويها، والمتناقضات التي تقوم عليها. إن العالم يعيش الآن في القرن الحادي والعشرين، ولم تعد المواد الدينية حكرا على رجال الدين المتخصصين وحدهم كما كان الحال في الماضي، وإنما أصبحت كل المعلومات متاحة للجميع، سواء كان ذلك عن طريق الكلمة المطبوعة في الكتب، أو الكلمة المنشورة على الشبكة العالمية للمعلومات "الإنترنت". وعلى ذلك فلن يستطيع رجال الدين، في أي دين من الأديان، أن يحتكروا وحدهم العلوم الدينية، كما لن يستطيع أدعياء الدين أن يخدعوا الجماهير كما كان من الممكن أن يفعلوا في الأزمنة الماضية، حينما كانت الكتب المقدسة غير متاحة للجميع أن يقرأوها، ولا كانت في متناول أيدي العامة من الناس ليعرفوا محتوياتها، فكانوا يقنعون بما يُقال لهم، ويؤمنون بما يقرره رجال الدين من عقائد، مهما اختلط بهذه العقائد من تناقضات، ومهما شابها من خرافات.
ومع أننا نؤمن بأن الدين الذي كان يدين به المسيح ابن مريم u كان دينا يخلو من الخرافات ويسمو على المتناقضات، إلا أن هذا الدين عبر العصور المتعاقبة قد وقع فريسة للخلافات، وصار ضحية لتنافس رجال الدين على السُلطة، الأمر الذي أدّى إلى الكثير من المتناقضات التي تغلغلت فيه، وإلى انتشار الخرافات التي تسربت إليه. ومن هذه الخرافات التي تقوم عليها المسيحية بوجه عام اليوم، هي خرافة الثالوث والتجسد. وما يدفعنا إلى التحفظ فنتحدث عن المسيحية "بوجه عام"، هو أن بعض الفرق المسيحية قد أدركت خرافية هذه العقيدة فتخلت عنها تماما وأنكرتها، وأقرت بوحدانية الله تعالى دون قيد أو شرط. ومن هذه الفرق المسيحية فرقة الكريستادلفيان واليونيتاريان وشهود يهوه. وهذه الفرق المسيحية قد أنكرت تماما ألوهية المسيح بأي شكل من الأشكال، بينما أدركت بعض الفرق الأخرى سخافة فكرة التثليث، ولكنها لم تستطع بعد أن تجد لديها الشجاعة الكافية لأن تعترف بسخافتها فتنكرها، ولذلك راحت تفسرها وتشرحها وتفلسفها في محاولات يائسة وفاشلة لكي تثبت أنها تؤمن بوحدانية الله، فكانت النتيجة أنها لم تحقق الوحدانية ولا التثليث، وإنما خلقت مسخا مشوها وخليطا من الاثنين، وذلك كما حاول جناب القمص أن يفعل.(/42)
يدّعي القمص أن مسيحيته تؤمن بأن الله واحد لا شريك له. ولكنه في نفس الوقت يحاول تبرير الأفكار التقليدية لمسيحية التثليث، فنراه يتكلم عن ثلاثة أقانيم يزعم أنها إله واحد، غير أنه يُعرّف الأقنوم فيقول إنه "كائن قائم بذاته ولا ينفصل عن غيره". وما أعجبه وما أغربه من تعريف لله الواحد الذي لا شريك له!! فهذا الإله الواحد في رأيه يتكون من ثلاثة أقانيم، أي يتكون من ثلاثة كائنات، كل منها قائم بذاته غير منفصل عن غيره. وبذلك فقد عاد مرة أخرى إلى مستنقع المسيحية التقليدية التي تؤمن بالتثليث، والتي تقول إن الله واحد يتكون من ثلاثة آلهة. وإذا سأل أحد كيف يكون الله واحدا وثلاثة في نفس الوقت، يقولون إن هذا هو السر الذي لا يستطيع غير المؤمنين أن يفهموه، ولا بد من الإيمان أولا ثم يأتي الفهم فيما بعد. وبالطبع إذا أقر المرء بالإيمان، فما الداعي لطلب الفهم بعد ذلك؟ إن مجرد المناقشة بعد ذلك تدل على عدم الإيمان والشك، وتؤدي إلى الاتهام بالكفر والهرطقة والزندقة، فمن ذا الذي يجرؤ على المناقشة، أو حتى التساؤل بينه وبين نفسه؟ إن تساؤل العقل في هذه الحالة يكون رجسا من عمل الشيطان فلا بد أن يجتنبوه، ويجب على المؤمن المخلص أن يطرد مثل هذه الأفكار الشيطانية من فكره، ويطهر منها قلبه، وكأن الله قد وهب الإنسان العقل ليفكر به في كل شيء ما عدا العقائد الدينية التي يخترعها رجال من أمثال القمص زكريا بطرس.
والحقيقة أن جناب القمص لم يصل إلى مصاف المخترعين للعقائد، وإنما هو من طبقة المبررين الذين يحاولون تبرير اللامعقول لكي يتفق مع المعقول، وتبرير الخرافة ليجعل منها حقيقة. ولذلك رأيناه يلف ويدور ويختلق لكلمة "الابن" الكثير من المعاني والتفسيرات، بل إنه لا يتورع عن الخداع والتزوير، فيقول من ناحية إنه يتفق مع القرآن حين ينفي أن يكون لله ولد، ثم يزعم من ناحية أخرى أن مسيحيته تؤمن بأن المسيح لم يولد من الله، ولكنه ابن الله، ثم يتحدّى المسلمين فيقول: "احنا بنقول "ابن" ما قلناش "ولد"، يعني آدي الكتاب المقدس، ويجيبولنا إن احنا بنقول المسيح ولد الله، أو الله ولد المسيح، احنا بنقول ابن".
ولو كان جناب القمص أمينا مع نفسه، ومع ضميره، ومع الناس الذين يحدثهم على شاشات التلفاز، لما قال هذه الجملة، لأنه يكذب ويعلم أنه يكذب، إلا إن كان جاهلا ولم يقرأ الترجمة الإنجليزية للأناجيل. ولكن يبدو أن الكذب مسموح به في شريعة القمص، ما دام يستطيع بهذا الكذب والغش والخداع أن يحوّل المسلمين عن الإسلام، ويوقعهم في شباك مسيحيته.
إن جناب القمص يجيد اللغة الإنجليزية، وقد عاش مدة في استراليا، وزار بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وأدلى بالكثير من الأحاديث واللقاءات التلفزيونية باللغة الإنجليزية، ولدينا أحاديث مسجلة لجناب القمص وهو يتحدث باللغة الإنجليزية بطلاقة. وليس من شك في أنه يعلم ماذا تقول النسخة الإنجليزية لإنجيل يوحنا في الإصحاح الثالث والفقرة 16 التي نصها:
“For God so loved the world, that he gave (his only begotten Son), that whosoever believeth in him should not perish, but have everlasting life”.
والترجمة العربية التي قام بها المترجمون المسيحيون الأمناء أمانة القمص زكريا بطرس هي كما يلي:
"لانه هكذا أحب الله العالم حتى بذل (ابنه الوحيد) لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الابدية".
ومن الواضح أن المترجم المسيحي الأمين، مثل أمانة القمص، لم يترجم كلمة “begotten” التي معناها "المولود" أو "الوليد"، بل إنه أسقطها من النص. فلماذا يا ترى أسقطها المترجم الأمين من النص؟ هل لخداع المسيحيين العرب أم لاصطياد المسلمين العرب؟ أم أنه أسقطها من أجل أن يأتي جناب القمص فيتحدّى المسلمين أن يستخرجوا من الكتاب المقدس أن المسيحيين يقولون عن المسيح أنه مولود من الله.
حسنا يا جناب القمص. لقد قبلنا التحدّي، وها هو البرهان أمام عينيك، وأمام عيون من يثقون بك ويظنون أنك لكونك رجل دين فلن تكذب عليهم ولن تخدعهم.(/43)
غير أن فضيحة الكذب لا تنتهي عند هذا الحد. فهي لا تقتصر على الكتاب المقدس وحده، وذلك لأن العقائد في المسيحية لا تقوم على الكتاب المقدس فقط، وإنما ما يقرره الآباء في مجامعهم الكنسية يصير أيضا من العقائد التي يلتزم المسيحيون بالإيمان بها. وقد نصت جميع قرارات المجامع المسكونية على أن المسيح هو الابن المولود من الآب. ولو تمحك جناب القمص بحجة الجهل وزعم أنه لم يقرأ ولم يسمع الفقرة التي ذكرناها في إنجيل يوحنا باللغة الإنجليزية، فهو بلا شك على علم بقوانين الإيمان التي أصدرتها المجامع المسكونية. والأمر العجيب والشيء الغريب، أنني بحثت في شبكة المعلومات "الإنترنت" عن ترجمة باللغة العربية لقوانين الإيمان التي نجمت عن هذه المجامع، فلم أجد. وحتى في الموقع الذي نشر فيه جناب القمص كتابه عن انشقاق الكنيسة، نراه يتكلم عن المجامع المسكونية الأربعة التي تؤمن بها مسيحيته، ويذكر عنها كل شيء ما عدا نصوص قوانين الإيمان التي قررتها، وذلك لأنه يعلم أنه لو نشر قوانين الإيمان هذه، فلن يستطيع خداع المسلمين الذين يلف ويدور معهم، ويحاول إقناعهم بأن المسيح مجرد "ابن" ولكنه ليس "مولودا". ولذلك فقد اضطررت أن أقوم بترجمة الأجزاء الهامة من قوانين الإيمان هذه. وإني أتحدى جناب القمص وشركاه، أن ينشروا ترجمتهم العربية الكاملة لقوانين الإيمان هذه، إن كانوا يرون أي خطأ أو نقص في هذه الترجمة التي أقدمها لهم وللمسلمين وللمسيحيين أيضا، حتى يعلموا مدى كذب القمص ومقدار خداعه.
يقول قانون الإيمان الصادر عن مجمع نيقية (The Nicene Creed):
“I believe in one God, the Father Almighty, Maker of heaven and earth, and of all things visible and invisible. And in one Lord Jesus Christ, the only begotten Son of God, begotten of the Father before all worlds; God of God, Light of Light, very God of very God; begotten, not made, being of one substance with the Father, by whom all things were made…etc”.
"أؤمن بإله واحد، الآب القدير، صانع السماء والأرض، وكل ما يُرى وما لا يُرى. وبرب واحد يسوع المسيح، الإبن الوحيد المولود لله، المولود من الآب قبل كل العالمين، إله من إله، نور من نور، نفس الإله من نفس الإله؛ مولود، غير مخلوق، من جوهر واحد مع الآب، الذي به خُلق كل شيء... الخ".
وأظن أن الأمر لا يحتاج إلى أي تعليق آخر على كذب وغش وخداع وتزوير جناب القمص.
غير أن مسلسل الكذب لا يقف عند هذا الحد، وجناب القمص.. رجل الدين المحترم، لا يتورّع عن الكذب وعن المزيد من الكذب، فهو يقول في الحلقة السابعة من حلقاته التي قدمها مع السيدة ناهد متولي ما يلي:
"الأستاذ عباس محمود العقاد، الله يرحمه، الكتاب اسمه "الله" صفحة 171، فبيقول: إن الأقنوم جوهر واحد، فإن الكلمة والآب وجود واحد، وأنك حين تقول الآب، لا تدل على ذات منفصلة عن الإبن، لأنه لا تركيب في الذات الإلهية، أي أن الله غير مركب من ذوات أو نفوس متعددة، هو واحد له عقل وله روح".
ومرة أخرى يلجأ القمص إلى أسلوب الكذب والخداع، فيحاول أن يخدع مشاهديه بإفهامهم أن المفكر الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد كان يؤمن بعقيدة التثليث ويرى أن الآب والكلمة وجود واحد، بينما الذي ذكره الأستاذ العقاد هو ملخص لرأي كهنة المسيحية الذين اختلف بعضهم مع البعض في القرون الخمسة الأولى. ومن الكذب والخداع أن ينسب القمص هذه الآراء للأستاذ العقاد، ويشوّه بذلك سيرته وعقيدته. وقد سمعت أن بعض المصريين يريدون أن يرفعوا دعوى في المحاكم المصرية يتهمون فيها جناب القمص بالكذب والإساءة إلى أدب الأستاذ العقاد بتزوير كتاباته. وسواء أدانت المحاكم المصرية جناب القمص بسبب كذبه وافتراءاته على كتابات الأستاذ العقاد أو لم تدنه، فهذا أمر متروك لهذه المحاكم. وبطبيعة الحال فإن مثل هذا الحكم لا قيمة له بالنسبة للقمص، لأنه لا يقيم في مصر، ولكن الحكم الحقيقي سوف يصدر عليه في محكمة السماء، حيث يعلم القاضي الأعظم نيّات الكذابين والمفترين، وهو وحده الذي يستطيع أن يوقع العقاب، حيث لا يستطيع جناب القمص أن يهرب من المثول أمامه، ولا أن يتهرّب من الإجابة عند السؤال.
وما زلنا في مستنقع الكذب الذي تردّى فيه جناب القمص، حيث إنه روى عن الشيخ محيي الدين ابن العربي مقولة أخرى كما روى من قبل مقولة الأستاذ عباس محمود العقاد. إذ يقول في الحلقة السادسة التي سجلها مع السيدة ناهد متولي ما يلي:
"الشيخ محيي الدين العربي في كتاب فصوص الحكم الجزء الثاني صفحة 35، بيقول إيه محيي الدين العربي؟ بيقول: الكلمة هي الله متجليا، وهي عين الذات الإلهية لا غيرها. وقال أيضا في نفس الكتاب صفحة 143: الكلمة هي اللاهوت".(/44)
وقد بحث الأصدقاء عن هذه الجمل المنسوبة إلى الشيخ محيي الدين ابن العربي في الكتاب المذكور وفي الصفحات التي ذكرها جناب القمص، ولكن لم يعثروا لها على أثر، لا من قريب ولا من بعيد.
وقد قلنا غير مرة إن آراء العلماء في الإسلام ليست ملزمة للأمة، فليس في الإسلام كهنوت، وليس من حق أحد مهما بلغ علمه ومهما علا مقامه أن يفرض رأيه على المسلمين، والنبي الذي بعثه الله تعالى لهذه الأمة، لم يعط لنفسه هذا الحق وإنما أعطاه الله تعالى له في كتابه العزيز حيث يقول ]وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ[ (المائدة:92)، ويقول ]مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ[ (النساء:80)، ويقول ]وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[ (الأحزاب:36)، ويقول أيضا ]فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[ (النساء:65). إذن الطاعة الواجبة والاتباع الملزم في الأمور الدينية يكون لله تعالى وللنبي الذي بعثه الله تعالى لهذه الأمة، وأما اتّباع أولي الأمر فيكون في الأمور الدنيوية المنظمة لأحوال المجتمع والتي تقوم على الشورى. أما آراء العلماء فهي كلها اجتهادية، تخضع للصواب كما تخضع للخطأ، وليس من حق أي مجمع للمشايخ أو للعلماء أن يفرض رأيه على الأمة كما هو الحال في المسيحية. وجناب القمص يعرف ذلك جيدا، ولكنه لا يكف عن محاولاته لخداع المسلمين، ولا يتوقف عن محاولاته التي تهدف إلى إقناعهم باتباع خرافاته وعقائده المغلوطة، اعتمادا على أقوال بعض العلماء، حتى ولو لم يكن لهذه الأقوال من أثر في صفحات الكتب التي يستشهد بها.
وأسلوب الغش والخداع الذي يتبعه جناب القمص يظهر بوضوح حين يستشهد جنابه برأي بعض الفرق المنحرفة أو المغالية، ثم ينسب هذا الرأي إلى المسلمين أو إلى طائفة من المسلمين، وذلك كما فعل عندما أراد أن ينسب إلى المعتزلة أنهم يؤيدون نظرية الحلول والتجسد التي يؤمن بها جنابه، فزعم أن المعتزلة قالوا "إن كلام الله حل في الشجرة، أي تجسّد فيها". أما المرجع الذي نقل عنه هذا الكلام فهو ليس كتابا من كتب المعتزلة، وليس قولا من أقوال رؤسائهم وقادتهم، وإنما هو من كتاب "الملل والأهواء والنّحل"، الذي جمع فيه مؤلفه آراء الفرَق والنّحل المختلفة، بما فيها الفرق الشاذة والنّحل المنحرفة. ويريد القمص بذلك أن يوحي للمسلمين أن الآراء التي ينقلها من ذلك الكتاب تُعبّر عن رأي علماء المسلمين. ويعلم جناب القمص تمام العلم أن في هذا الأسلوب خداع للمسلمين، وخداع لجميع مشاهديه حتى من المسيحيين الذين يسمعون كلامه ويصدقونه. وماذا يمكن أن يقول القمص لو أنني نقلت رأيا من آراء فرقة مسيحية من الفرق المسيحية التي يعتبرها القمص فرقا كافرة ومهرطقة ومنحرفة مثل "شهود يهوه" مثلا، ثم زعمت بعد ذلك أن رأي هذه الفرقة هو رأي المسيحية التي يؤمن بها القمص؟ ألن يعتبرني القمص إنسانا غشاشا ومغالطا ومخادعا؟ وإن لم يكن هذا هو الغش والخداع، فما هو الغش والخداع في نظر جناب القمص؟
إننا لا نهدف هنا أن نبين فقط كذب القمص وخداعه لمجرد إثبات أنه يكذب ويخادع، فالكذب والخداع هذا سوف يحاسبه الله تعالى عليه حسب نيّته، والله تعالى شديد العقاب كما أنه أرحم الراحمين، ولذلك فإننا نترك أمر القمص إلى صاحب الأمر. إن هدفنا من بيان الكذب والخداع في كلام القمص هو أن ننبّه أولئك الذين انخدعوا بكلامه وصدقوه إلى ضرورة مراجعة حساباتهم وعقائدهم، والسيد المسيح يقول: "ماذا ينتفع الإنسان إذا ربح العالم كله وخسر نفسه" (متّى26:16)، ونحن نُذكّر هؤلاء الذين يصدقون القمص بقول السيد المسيح ونقول لهم: ماذا ينتفع الإنسان إذا صدّق كلام القمص كله وخسر نفسه؟
وبعد..(/45)
لقد انتهينا من تناول العقائد المسيحية التي حاول جناب القمص أن يثبت صحتها، وهي تتلخص في موضوعات ثلاثة هي: الثالوث، والتجسد، والكفارة. وقد عالجنا هذه الموضوعات على مدى ثلاثين حلقة من حلقات برنامج "أجوبة عن الإيمان". وأردنا أن نخصص الحلقة الأخيرة من هذه الحلقات لكشف كذب وخداع القمص زكريا بطرس. وبطبيعة الحال فإننا نأسف أن يتصف رجل دين بهذه الصفات، وكنا نتمنى أن يلتزم جناب القمص بأبسط قواعد الأخلاق والصفات الكريمة، التي يحض عليها كل دين من الأديان، مهما شابه من متناقضات، ومهما ناله من خرافات، فإن الأديان جميعها تحترم المبادئ الأخلاقية النبيلة وتحض عليها. ولكن يبدو أن جناب القمص يتّبع بإخلاص النصيحة التي يدّعي متّى أنها من قول المسيح حيث يزعم أنه قال: "ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب، فكونوا حكماء كالحيّات، بسطاء كالحمام" (متّى:16:10). وبطبيعة الحال، فلن يكون هناك أي شعور من حب لدى الغنم تجاه الذئاب، ولكن يملأهم الإحساس بالخوف والحقد والرغبة في الانتقام وإيقاع الأذى والضرر، تعبر عنها الحيّات بملمسها الناعم من الناحية الظاهرية، وسمها القاتل الموجود في داخلها والقابع في أنيابها. وهكذا كان القمص ومن هم على شاكلته من دعاة المسيحية الذين يتحدثون برقة الحمام وينفثون سموم الحيّات. أضف إلى هذا تأسّيه بما كان يستخدمه بولس من منطق في تبرير الكذب، حيث إنه لا يمانع في التحايل بالكذب طالما كان هذا الكذب يؤدّي إلى ازدياد صدق الله. يقول بولس: "إن كان صدق الله قد ازداد بكذبي لمجده فلماذا أُدان أنا بعد كخاطئ" (رومية7:3). هذه هي السياسة التي برع فيها جناب القمص، سياسة الكذب من أجل صدق الله ومجده الذي يتحدث عنهما بولس. ولكن أي صدق هذا وأي مجد هذا الذي يقوم على الكذب ويتأسس على الغش والخداع؟ ومن هو ذلك الإله الذي يحض الدعاة لدينه أن يلجأوا إلى الكذب من أجل أن يزداد مجده؟ لا يمكن أن يكون هذا الإله هو رب العالمين القدّوس المجيد الذي من أسمائه "الحق" لأن كل كلامه حق، ويقوم على الحق، وجاءت جميع رسله بالحق.
إننا نؤكد احترامنا وتقديرنا وإعزازنا للمسيح عيسى ابن مريم u والدين الكريم الذي كان يدين به والذي دعا قومه إليه. ولكننا لا نعرف من هو يسوع الذي اخترعته الأناجيل التي كتبها بشر من أمثال لوقا اليوناني ويوحنا الروماني، ولا نعترف برجال من أمثال بولس الذي يصف سيده وسيدنا المسيح ابن مريم u بأنه لعنة حيث يقول: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب ملعون كل من عُلّق على خشبة" (غلاطية13:3). ونحن نقول ملعون كل من لعن نبيا من أنبياء الله.
إننا نربأ بإخواننا المسيحيين أن يتّبعوا مثل هذه العقائد الفاسدة، ونهيب بهم أن يعيدوا التفكير فيها حتى لا يُكتبوا عند الله من لاعني الأنبياء. ولكن إذا كانت هذه هي إرادتهم وهذا هو اختيارهم، فهم أحرار في عقيدتهم، وليس من حقنا أن نحاسبهم على ما يعتقدونه، لأن حسابهم سوف يكون أمام رب العالمين. ونحن لم نتوجه إليهم بأي كلمة إلا كلمة النصيحة المخلصة، ولم نخاطبهم بأي لفظ جارح، وقد تحاشينا ما استطعنا استخدام الألفاظ الجارحة، وكنا نتوجه بالكلام إلى جناب القمص بكل احترام لأنه من رجال الدين، وتركنا السب والشتم لأنه لغة السفهاء من الناس، ولا يلجأ إليه إلا من أعوزته الحجة وافتقد المنطق. ونحن نشكر جناب القمص أنه أتاح لنا فرصة الرد عليه وتفنيد العقائد الباطلة التي يدعو الناس إليها.
إن معركتنا مع جناب القمص لم تنته بعد، وسوف نعود للرد على ما يدّعيه من استحالة تحريف الكتاب المقدس، وسوف نبين له وللمشاهدين جميعا من مسلمين ومسيحيين مدى التحريف الذي أصاب الكتاب المقدس، فتابعونا لكي تشاهدوا بأنفسكم كيف يخبو الباطل أمام الحق، وكيف يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.(/46)
الرد على افتراءات برنامج زكريا بطرس فى قناة الحياة الفضائية 2( أسئلة عن الإيمان )
أجوبة عن الإيمان
مصطفى ثابت
agweba@yahoo.com
الرد على إفتراءات برنامج زكريا بطرس فى قناة الحياة الفضائية ( أسئلة عن الإيمان )
( 11 )
التقينا قبل الآن في عشر حلقات في هذه السلسلة من حلقات "أجوبة على الإيمان" التي نرد بها على القمّص زكريا بطرس في حلقاته التي قدمها بعنوان "أسئلة عن الإيمان". وقد تكلمنا حتى الآن في الحلقة الأولى عن حديث الإفك الذي يتولى جناب القمّص نشره في العالم الإسلامي والأساليب التي يتبعها لتحقيق ذلك، ثم تناولنا بعد ذلك موضوع الصلب والفداء من بداية الحكاية التي حكاها القمّص عن آدم وحواء، وقد أوضحنا أنه حسب ما جاء في التوراة، لم يكن آدم وحواء يعرفان الفرق بين الخير والشر، وعلى ذلك فقد كان من السهل على الشيطان أن يخدعهما فوقعا في الخطأ ولكن بدون قصد. ثم تحدثنا بعد ذلك عن الإنسان والشيطان، وأوضحنا فساد رأي القمّص الذي يدّعي بأن الشيطان كان رئيس الملائكة ولكنه عصى الله تعالى، وذكرنا أن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ثم قدمنا بعد ذلك مقارنة بين التفسير المادي لجنة آدم التي ذكرتها التوراة والتفسير المجازي لهذه الجنة حسب ما جاء في القرآن المجيد. وقد أثبتنا بعد ذلك خطأ مبدأ توارث الخطية وتعارض ذلك مع مبدأ العدل الذي تقره جميع الأديان. وتناولنا بعد ذلك في حلقتين موضوع الرحمة والعدل وكيف أن الرحمة لا تتعارض مع العدل، وفي حلقتين أخرييين شرحنا الخلل في عقيدة الصلب والفداء التي قدمها جناب القمّص، ثم تكلمنا بعد هذا عن معنى العدل، ونريد في هذه الحلقة أن نتناول موضوع الرحمة والتكفير عن الذنوب، وما معنى تكفير الإنسان عن ذنوبه، ومعنى تكفير الله تعالى عن ذنوب عباده.
وقد سألت السيدة ناهد متولي جناب القمّص سؤالا هاما فقالت:(/1)
"بيقولوا ألاَ تكفي التوبة للغفران، فلماذا الصلب"؟ فرد عليها القمّص قائلا: "التوبة لازمة للغفران، لكن الغفران لا يأتي بمجرد التوبة فقط. طبعا الاعتراض بتاع التوبة جاي من سورة البقرة آية 27، إنت قلتيها في جلسة قبل كده ]فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[ تاب عليه، إنه التواب الرحيم، لكن هل دي معناها الغفران؟ تاب. التوبة، فعل إنسان، والغفران، عمل إلهي. فأنا لازم أتوب، بس التوبة ما هياش كل حاجة، لكن محتاجين إلى..، يعني التوبة ندامة على الماضي، والتوبة اعتراف أو عزيمة على إنه ما يغلطش في المستقبل، يعني يقولك خلاص أنا تبت عن اللي فات، وتوبة آخر نوبة ما عدتش أعمل كده. ده توبة. لكن هل التوبة، بتعالج، الغلط اللي حصل؟ يعني مثلا، إنت ماشية بعربيتك، جه واحد خبط لك العربية، بوّظها. فينْزل يقولك: أنا متأسّف خالص، وما عدتش تاني مرة أخبط لك عربيتك. بس مصلّحش العربية. ما عوضكيش عن العربية. صح؟ العربية total loss فقدان تام. ييجي يقولك: أنا متأسف، خلاص، أنا عرفت غلطتي، متأسف يا مدام، أنا آسف، وثقي إن أنا بعد كده مش حخبط لك عربيتك تاني، استفدنا إيه؟ ولا حاجة. إذن الندامة مطلوبة، والعزيمة مطلوبة، إنه ما يغلطش تاني، لكن لا بد من التعويض. التعويض هو الذي فعله المسيح، مات عوضا عنّا. لأن كان محكوم علينا بالموت، ولا يمكن أن يغفر الخطية إلا بتنفيذ الحكم، وبعدل الله. فجاءت الرحمة، وأعطى نفسه فداء عنا، هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. ماشي؟" فتقول السيدة ناهد: "ماشي. احنا وضّحنا الحقيقة دي برضه في حلقات قبل كده، بس برضه نحب نعيدها عشان كل اللي معانا يفهموا بالظبط إيه، عشان بنلاقي السؤال ده كتير جدا يابونا، ربنا تاب علينا، ربنا غفر الخطية". فيقول القمّص: "هوه صحيح. بس لازم محتاجين إلى كفارة. التوبة كويسة بس محتاجة إلى كفارة". ثم يشرح القمّص مبدأ الكفارة من الوجهة المسيحية، ثم يتساءل قائلا: "طب هل القرآن فيه كفارة؟ طبعا. في سورة المائدة آية 89 بيقول ]لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ[، اللغو يعني إيه؟ الكلام غير المقصود يعني، ]بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ[، في الأقسام اللي بتحلفوها يعني، ]لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ[، يعني لو حِلفانة ما لهاش، مش صادق فيها، يعني أي كلمة تتقال، ما بيحاسبكمش، ]وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ[، يعني بما عمدتم، عن عمد، واحد حاطط في دماغه إنه يروح يحلف في المحكمة، ]يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ[، القسم، لو انت أقسمت باطل، وانت متعمّد، حايحاسبكم على كده. طب وبعدين؟ العلاج إيه؟ العلاج؟ آه، شوف العلاج، في نفس الآية: ]فَكَفَّارَتُهُ[، كفارته، التكفير عن القسم، إيه بقى؟ ]إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ..[، ]أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ[، رقبة عبد يعني يحرر واحد، ]فَمَن لَّمْ يَجِدْ[، التلاتة دول، ]فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ[. يبقى إذن الحلفان محتاج لكفارة من أربعة. فما بال خطية ضد الله؟ آدي كفارة. واضح؟ طب بصي بقى حاجة تانية. في سورة التغابن آية 9 بيقول إيه؟ ]وَمَن يُؤْمِنم بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ[ الله يكفر عنه سيئاته، ]وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ[ يبقى الله لازم يكفّر عن سيئات الإنسان، يكفّر، ...، يبقى فيه تكفير، مش كده؟ وقلنا التكفير ده مش زي التكفير والهجرة. ومن أجل هذا فيه ذبائح الضحية، الأضحى، عيد الأضحى، والذبائح اللي احنا اتكلمنا عليها مرات قبل كده. ف إزاي الإنسان يتجاهل هذه الكفارات، ويقول التوبة بس هي اللي تغفر؟" فتسأل السيدة ناهد: "يعني التوبة لوحدها ما تنفعش؟" فيجيب القمّص: "لكن لازمة، كبداية. عمل إنساني". فتعلق السيدة ناهد قائلة: "لكن عمل الله إنه يكفّر عن سيئاتنا، أظن كده وضحت".(/2)
وكالعادة، فإني أنقل كلام القمّص بنصه ولفظه، وذلك من أجل تحقيق المبدأ الذي يقول: "كلامك يدينك". فهذا مثال صارخ على براعة جناب القمّص في تقديم أفكار صحيحة، تبدو أنها منطقية، ولكنها تقوم على أساس خاطئ، ويخرج منها في النهاية بقاعدة تبدو أنها صحيحة، لأنها مبنية على الأفكار الصحيحة التي قدمها، ولكنها خاطئة لأن أساسها خاطئ، ومع ذلك فإنه يبني على تلك القواعد عقائد في غاية الأهمية. والفكر الصحيح في مقالة القمّص هو أن من يتسبب في الإضرار بشخص آخر فلا بد أن يعوضه عما سببه له من ضرر، ولا يكفي مجرد الاعتذار أو الوعد بعدم تكرار الضرر. أما الأساس الخاطئ فهو أن هذا المثال لا ينطبق على الله تعالى، فلا أحد من المخلوقات مهما كان يستطيع أن يتسبب في الإضرار بالله U، ولو كان هناك إله يصيبه ضرر بسبب السيئات التي ترتكبها مخلوقاته، فإن مثل هذا الإله لا يستحق العبادة، ولا يمكن أن يكون هو الله تعالى الغني عن العالمين.
إن جناب القمّص يقدم لنا صورة غريبة ومستهجنة للمسيحية فيما يختص بأنواع الخطايا والتكفير عنها، وإذا كان جناب القمّص يستنكر على من حطم سيارة السيدة ناهد أن يعتذر فقط عن فعله دون تعويضها، فماذا لو كان قد قال لها إنه سوف يعوضها، وذلك بإنه سوف يحطم رأس ابنه؟ فهل كان هذا يُدخل السرور والرضا في نفس السيدة ناهد؟ أم أنها كانت ستقول عن ذلك الشخص إنه مجنون، فاقد العقل، وإنه ظالم وقاس وقاتل، ذلك الذي يقتل ابنه فداء لسيارة؟
ولكن جناب القمّص يقول إن القرآن الكريم قد أمر بالكفارة، وهو بذلك يريد أن يخدع المشاهد المسلم ويصوّر له الأمور على غير حقيقتها، ويقنعه بضرورة الكفارة من أجل مغفرة الخطايا، حتى يقنعه بعد ذلك بمبدأ الكفارة الخاطئ الذي تقدمه المسيحية المغلوطة التي يؤمن بها. فالكفارة عند جناب القمّص تعني تقديم العوض عن كل خطية مهما كانت، والعوض يجب أن يتضمن سفك الدم، وإلا فإن الإله الذي يقولون عنه إنه إله محبة لا يستطيع أن يغفر الخطية بدون كفارة، وذلك لمجرد جملة ذكرها كاتب مجهول في مقالة قرر بعض الناس أن يعتبروها جزءا من الكتاب المقدس، وهي جملة: "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة". ومن الواضح أن جناب القمّص وأتباعه لا يفهمون معنى التوبة ومعنى الكفارة.
أما التوبة فتعني الرجوع أو العودة، وهي عمل يقوم به العبد كما يقوم به الله تعالى. يُقال تاب العبد إلى الله، ويُقال أيضا تاب الله على العبد. وحينما يتوب العبد إلى الله فإنه يعود إليه بعد أن شعر بابتعاده عن الله تعالى لأحد الأسباب التالية: (1) بسبب ارتكابه السيئة، (2) أو بسبب إحساسه بالتقصير في حق الله لأنه لم يستطع أن يوفيه حقه من الشكر على نعمه رغم قيامه بشكره بقلبه وفكره ولسانه وعمله، (3) أو بسبب قصوره البشري الذي يمنعه من أداء ما يود ويتوق أن يؤديه في سبيل الله تعالى ونصرة دينه ونشر توحيده. والسبب الثاني والثالث لا يتضمن أي شر ولا ارتكاب أي سيئة، وإنما هو إحساس العبد بالمزيد من الحب لله تعالى والاعتراف بفضله وإحسانه. وحين يتوب الله تعالى على العبد فإنه يعود إليه بالعفو والمغفرة والرحمة، بمعنى أنه سبحانه يزداد قربا منه. فقد قال رسول الله r: ’’يقول الله U من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأَزيدُ، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر. ومن تقرّب مني شبرا تقرّبت منه ذراعا، ومن تقرّب مني ذراعا تقرّبت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيَني بقُراب الأرض خطيئة لا يُشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة‘‘ (صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار). هذا هو إله المحبة الحقيقي، العَفُوُّ الذي يحب العفو، الغفور الذي يتوق إلى المغفرة، الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، وليس هو ذلك الإله الذي ينسبون إليه حب سفك الدماء، حتى إنه لا يغفر ولا يرحم بدون سفك الدماء.
ونحن حين نقول ذلك فإننا لا نسيء بكلمة ولا بحرف إلى الله تعالى إله المسيحية الحقة، فإله المسيحية هو إله الإسلام، وهو الله تعالى رب العالمين. فهو الذي قال في الكتاب المقدس إنه يريد رحمة لا ذبيحة، وإنه لا يُسر بموت الشرير وهلاكه، وإنما يريد أن يعود الشرير عن طرقه ويحيا، أي أنه يريد أن يتوب الشرير وينال الحياة الأبدية. أما الضالون من البشر، فهم الذين ينسبون إلى الله أمورا لا تليق به، ولا تتفق مع صفاته القدسية، ولا تتلاءم مع عفوه ومغفرته ورحمته.(/3)
والكفارة أيضا عمل يُنسَب إلى العبد كما يُنسب إلى الرب. فالعبد يكفّر عن ذنوبه والله تعالى يكفر عن ذنوب عبده. وتكفير العبد عن ذنوبه يعني أنه يتوب ويأتي من الأعمال الطيبة ما يزيل أثر عمله السيء، وتكفير الله عن ذنوب عبده يعني أنه سبحانه يستر ويغطي ذنوب عبده، أو أنه يعفو عنها ويمحوها، أو أنه يغفرها ويزيل أثرها. أما تكفير العبد عن ذنوبه فهو يتوقف على نوع هذه الذنوب، فإذا كانت هذه الذنوب تتضمن إساءة إلى حقوق الله تعالى فقط، فتكفيرها يقتضي التوبة وأداء الصالحات من الأعمال الحسنة، فالله تعالى يقول: ]إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ[ (هود:114)، كما يقول أيضا: ]إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا[ (الفرقان:70). أما إذا كانت ذنوب العبد تتضمن إساءة إلى حقوق الله تعالى بالإضافة إلى الإساءة إلى حقوق العباد، فتكفيرها يقتضي أيضا التوبة وأداء الصالحات من الأعمال، ولكن يُشترط أن تتضمن هذه الأعمال الصالحة رد حقوق العباد الذين أساء إليهم أو تعويضهم عنها. ومن هنا كانت الآية التي ذكرها جناب القمّص والتي تتضمن كفّارة القسَم. يقول تعالى ]لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ[ (المائدة:89). فالإساءة المذكورة في هذه الآية هي في حق الله تعالى كما أنها في حق المجتمع أيضا، فهي في حق الله تعالى لأن الإنسان لم يحفظ قسمه، والله تعالى يقول ]وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ[، والتكفير عن الإساءة في حق الله تعالى كما سبق ذكره هو في التوبة وأداء الأعمال الصالحة. كذلك فهي إساءة في حق المجتمع، لأن قوله تعالى ]عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ[ يعني صدرت منكم عهود مؤكدة أقسمتم عليها بأغلظ القسم، وهذه العهود المؤكدة بالأقسام تختص عادة بأفراد المجتمع، كأن يقسم الإنسان عمدا في المحكمة، كما ذكر جناب القمّص، ولذلك ينبغي أن تتضمن الأعمال الصالحة التي يقوم بها المرء أداء حق المجتمع. ولما كان حق المجتمع في هذه الحالة ليس شيئا ماديا، أمر الله تعالى بأداء عمل صالح ينفع المجتمع، وقد حدد الله تعالى هذا العمل بإطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لا يستطيع القيام بأحد هذه الأعمال، فعليه على الأقل أن يصوم ثلاثة أيام، فالصيام يؤدي إلى التقوى.
أما إذا حدث أن حطم أحد سيارة السيدة ناهد متولي، فهذا خطأ شخصي نتج عنه خسارة للسيدة ناهد متولي، وينبغي تعويضها عنه، بالإضافة إلى الاعتذار أيضا، ولكنه لا يتضمن إساءة إلى حق الله تعالى، إلا إذا فعله المرء عن قصد وسوء نية، فهنا ينبغي أن يتوب المرء أيضا بالإضافة إلى أداء العمل الصالح الذي يتضمن الاعتذار للسيدة ناهد وتعويضها عن الخسارة التي تكبّدتها.(/4)
ومن هذا يتبين الخطأ الفادح في كلام القمّص الذي يقول إن التوبة لازمة ولكنها ليست كافية لأنه لا بد من الكفارة، والكفارة كما يفهمها جناب القمّص هي في التعويض، مع أن التعويض لا يجوز إلا في حالة وقوع الضرر، ومن المستحيل أن يقع أي ضرر على الله تعالى بسبب خطية الإنسان. فالكفارة لا تعني التعويض في كل حالة، وإنما تعني التوبة وأداء الصالحات من الأعمال. أما الكفارة التي يحدثنا عنها جناب القمّص، بموت المسيح على الصليب، والتي يدّعي أن فيها تعويضا، فلا نجد فيها تعويضا عن شيء. وجناب القمّص يعلم هذا جيدا، ولذلك نراه يقول إن المسيح مات عوضا عنا، وذلك ليقحم مبدأ التعويض في الكفارة، ولكن المسيح لم يمت "عوضا" عنه وإنما، بفرض موته فعلا على الصليب، فقد مات "بدلا" عنا وليس "عوضا" عنا، وبالتالي فليس في الموضوع كله أي تعويض، والمثال الذي قدمه جناب القمّص عن تحطيم السيارة لا ينطبق، لأن التعويض معناه أن تنال السيدة ناهد متولي ما يعوضها عن سيارتها التي تحطمت، ولكن إذا افترضنا أن الشخص الذي حطم سيارتها يمتلك سيارة مشابهة تماما للسيارة التي تحطمت، فهل التعويض يكون في إعطائها السيارة عوضا عن سيارتها المحطمة، أم يكون في تحطيم سيارته التي يمتلكها؟ وإذا افترضنا أن الشخص الذي حطم سيارتها يمتلك سيارة مشابهة تماما للسيارة التي تحطمت، ولكنه يستطيع أن يعوض السيدة ناهد بسيارة أجمل وأفضل من سيارتها، فهل يكتفي بالتعويض أم يتطلب الأمر أن يحطم سيارته أيضا. المقصود هو أن الله تعالى يستطيع أن يعفو ويغفر ويرحم، وبذلك فإنه يهب الإنسان الحياة الأبدية، وذلك إذا تاب الإنسان عن سيئاته وعمل عملا صالحا، أي عندما يكفّر الإنسان عن سيئاته، فإن الله تعالى بدوره يعفو عنه ويغفر له ويشمله برحمته، أي أنه سبحانه يكفّر عن سيئات الإنسان. إن هذا ما حدث مع آدم u، حسب ما أكده القرآن المجيد، إذ أنه تاب إلى الله تعالى فتاب الله عليه، دون أن يضطر إلى أن يتجسد ويقتحم جسد إنسان، ودون أن يلجأ إلى سفك دم إنسان بريء.
إن العفو عن الذنوب معناه أن يستر الله الذنوب ويمحوها فلا يكون لها أثر يراه الناس، وغفران الذنوب معناه أن يزول أثر الذنوب فلا يكون لها أثر عند الله تعالى. وكل من العفو والغفران هما من رحمة الله التي وسعت كل شيء، فإن الله الرحمن الرحيم قد وسعت رحمته كل شيء، وكل شيء يعني كل شيء بما في ذلك جميع صفاته الأخرى، فإن كل صفة من صفاته تنبثق من صفة الرحمة، وعلى هذا فلا تعارض ولا تناقض بين صفاته، لأنها جميعها تنبثق من الرحمة، حتى ولو كانت تبدو في ظاهرها كما لو أنها تتعارض مع الرحمة، فإن هذا التعارض الظاهري إنما هو نتيجة سوء الفهم. فالله تعالى يصف نفسه بأنه غافرُ الذنب وقابلُ التوب شديدُ العقاب ذو الطَّوْل، وجميع هذه الصفات تنبثق من الرحمة، فمن رحمته أنه يغفر الذنب، ومن رحمته أنه يقبل التوب، ومن رحمته أيضا أنه شديد العقاب، يطول عقابه كل من يستحق العقاب، وذلك لأن الهدف من العقاب عند الله تعالى هو إيصال الرحمة، وليس مجرد الثأر والتشفي. يقول تعالى ]مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وءَامَنْتُمْ[ (النساء:147)، أي أن العذاب ليس هو الهدف، وإنما الهدف هو الإيمان بالله وشكر نعمه وأفضاله، فمن يؤمن بالله ويقدّر نعمته وفضله سوف يعامل الناس أيضا بالرحمة، وسوف تتجلى في تصرفاته جميع الصفات الإلهية، أي أنه يتخلق بأخلاق الله تعالى، كما سبق وشرحنا ذلك في حلقة سابقة. كذلك يقول تعالى ]وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[ (السجدة:21). وهذه الآية الكريمة تشرح فلسفة العذاب وأهدافه، فالغرض من العذاب هو ]لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[ أو كما قال الكتاب المقدس "أن يرجع الشرير عن طرقه ويحيا". وعلى هذا فحتى العذاب ينبثق من رحمة الله تعالى، لأن هدفه الإصلاح والتطهير من سموم الإثم، وليس هدفه هو الانتقام أو الثأر، أو توقيع العذاب لمجرد العذاب أو نتيجة لصدور حكم أرعن يفتقد إلى الحكمة والعدل.(/5)
عجيب حقا أمر هذا القمّص ومسيحيته المغلوطة التي تنسب إلى الله أعمالا يأنف هو منها، ويأنف منها كل إنسان شريف ويأنف منها كل أب محب لأبنائه. وإني أريد أن أسأل جناب القمّص، وأسأل كل أب يؤمن بالمسيحية التي يؤمن بها هذا القمّص، ماذا يكون تصرفه في الحالة التالية: نفترض أن أبا حنونا محبا لأسرته ولأولاده، ثم حدث أنه أحضر سما سائلا في زجاجة لقتل الفئران التي تفّشت في منْزل الأسرة، وكان لا بد من حفظ هذا السم السائل في ثلاجة المنْزل حتى لا يفسد ويفقد تأثيره، فبطبيعة الحال لا بد أنه سوف يخبر جميع أفراد أسرته عن هذا السم ويحذرهم من خطره ويعلمهم الطريقة الصحيحة لاستعماله. ثم نفترض أن أحد أبنائه أحس بالعطش في إحدى الليالي، فذهب إلى البراد وفتحه باحثا عن مشروب يروي به عطشه، فوقع نظره على زجاجة السم، وهنا حدثته نفسه بأن هذا السائل ليس سُمًّا وإنما هو شراب لذيذ، وأن أباه قد كذب على أسرته حين حذرهم منه، وأنه خدعهم لأنه يريد أن يبقيه لنفسه ويحرمهم منه. وهنا تناول الابن زجاجة السم وشمها فوجد رائحتها طيبة، ثم ذاق منها بطرف لسانه فوجد طعمها لذيذا، فرفعها على فمه وراح يعب منها إلى أن أفرغها في جوفه. وبعد برهة، بعد أن بدأ السم يسري في أحشائه وأحس بالألم، راح يصرخ ويتأوه، فسمع أباه صراخه وأسرع إليه. وهنا أدرك الأب أن ابنه قد عصاه وخالف أمره وشرب السم. فماذا يفعل القمّص زكريا بطرس لو كان هو ذلك الأب المحب الحنون؟ وماذا يفعل كل أب مسيحي يؤمن بمسيحية القمّص لو أنه كان في ذلك الموقف؟ هل يقف ويقول لابنه العاصي: إنك عصيتني فعليك أن تعاني آلام السم عقابا لك، أم أنه يذهب فيقتل ابنه البكر فداء لابنه الخاطئ، أم أنه يأخذه فورا إلى المستشفى، وهو يعلم أنه سوف يعاني هناك الكثير من العذاب والآلام؟ إنه يعلم أنهم سوف يحددون إقامته في غرفة غير غرفته، وسوف يجبرونه على أن ينام في سرير غير سريره، وسوف يمنعونه من الخروج أو اللعب مع أصحابه، وسوف يمنعونه من تناول الأطعمة التي يحبها، وسوف يحرمونه من شرب العصائر والمياه الغازية التي يفضلها، وسوف يسقونه أشربة مرّة، وسوف يعطونه أدوية لا طعم لها ولا تغني من جوع، وسوف يثقبون جسده بالإبر والحقن، وسوف يضعون في فمه خرطوما يصل إلى جوفه لغسل بطنه، وسوف يعطونه حقنا شرجية لغسل أمعائه، وهكذا يظل الابن يعاني من كل هذه العذابات إلى أن يتم شفاؤه ويزول أثر السم من جسمه. ورغم أن الأب يعلم يقينا أن ابنه سوف يعاني من كل هذه الآلام، ولكنه لحبه لابنه، ولحرصه على مصلحته، ولرحمته به، فإنه يخضعه لكل هذه الآلام من أجل تحقيق شفائه، لأنه بعد أن يتم شفاؤه ويعود إلى بيت أبيه لن يشك مرة أخرى في كلامه ولن يعصي له أمرا أبدا.
إذا كان القمّص زكريا بطرس سوف يتصرف كهذا الأب المحب لابنه، وإذا كان كل إنسان مسيحي سوف يتصرف نفس هذا التصرف القائم على المحبة، فكيف يتصرف الله الودود الرحيم الذي هو أرحم الراحمين؟ هل من اللائق أن نقول بأنه سوف يقول لابنائه العصاة: اذهبوا عني يا ملاعين إلى جهنم النار الأبدية؟ أم أنه يخضعهم للعذاب الذي ينبثق من رحمته سبحانه وتعالى، والذي يكون الغرض منه هو نزع سم الإثم من نفوسهم حتى يعيشوا بعد ذلك في جنة ربهم؟
إنني أترك إجابة هذا السؤال لجناب القمّص، ولضميره، ولقلبه، ولعقله، كما أتركها أيضا لكل أب مسيحي، يحب أبناءه ويحرص على سلامتهم، ويعمل لما فيه خيرهم.
( 12 )
هذا لقاؤنا الثاني عشر في سلسلة حلقات "أجوبة عن الإيمان" التي نرد بها على الحلقات التي قدمها القمّص زكريا بطرس بعنوان "أسئلة عن الإيمان". ونريد في هذه الحلقة أن نتناول الموضوع الذي تقوم عليه المسيحية اليوم، وهو موضوع موت المسيح على الصليب. فهل مات المسيح على الصليب كما يقول بذلك جناب القمّص، وكما تؤمن بذلك المسيحية وتعتبر أن هذه العقيدة هي العقيدة المحورية في المسيحية، والتي بدونها لا يكون للمسيحية وجود ولا قيمة، أم أن الله تعالى نجاه من هذه الميتة اللعينة، أي الموت على الصليب؟ إننا نريد أن نبحث هذا الموضوع من وجهة النظر الإسلامية ومن وجهة النظر المسيحية أيضا. ولما كان الموضوع في غاية الأهمية فسوف نخصص له حلقتين أو ثلاثة حتى نوفيه حقه من البحث والتمحيص.
ويبدو أن جناب القمّص لديه ولع شديد بالاستشهاد بآيات القرآن الكريم لكي يثبت عقائده المسيحية لمشاهديه من المسلمين، ولا مانع من هذا بشرط أن يكون هذا الاستشهاد صحيحا وسليما ولا ينطوي على تزوير وتحريف أو لوي وتشويه المعاني. وكالعادة.. تقدم السيدة ناهد متولي الأسئلة ويتولى جناب القمّص الإجابة. والسؤال الذي تقدمه السيدة ناهد هذه المرة هو: "يقول القرآن أن المسيح لم يُصلب، وما صلبوه يقينا، فما ردك على ذلك"؟(/6)
ويرد جناب القمّص بأنه يود أن يذكر بقية الآيات التي تذكر أن المسيح لم يصلب لكي يعرف المشاهد المسلم أن القمّص وفريق العمل الذي يعمل معه مدركون لأبعاد هذه الحقيقة من القرآن، فيذكر سورة النساء الآية 157. وللأسف فإن جناب القمّص لا يذكر الآيات التي يستشهد بها كاملة، وإنما يقتطع منها بعض الكلمات التي ليست على هواه، ولذلك فسوف أقدم للمشاهد الآيات التي ذكرها القمّص كاملة.
يقول تعالى: ]وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْج وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمٍ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا إِتِّبَاعِ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا[
ثم يذكر قوله تعالى في الآية 54و55 من سورة آل عمران: ]وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ~ إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِليَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا[
ثم يذكر الآية 33 من سورة مريم حيث يقول تعالى على لسان المسيح ابن مريم ]وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا[
ثم سورة المائدة الآية 117 التي تقول ]وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَني كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ[.
وبعد ذكر هذه الآيات يدعونا جناب القمّص لسماع رأي فقهاء المفسرين فيقول إن الإمام الرازي في تفسيره الجزء الثاني وصفحة 457 يقول: "روى ابن عباس ومحمد بن اسحاق أن معنى ]مُتَوَفِّيكَ[ أي مميتك"، وقال وهب: "تُوفي المسيح ثلاث ساعات"، وقال ابن اسحاق: "تُوفي سبع ساعات". أما الإمام البيضاوي في تفسيره للقرآن على ذات الاية الجزء الثاني صفحة 128 فيقول: ’’قال قوم: "صُلِبَ الناسوت وصعد اللاهوت"‘‘. ويعلق جناب القمّص على هذا التفسير فيقول إن البيضاوي اقترب جدا من الحقيقة، ويستنتج من كلام البيضاوي أن قوله تعالى ]وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ[ وقوله ]وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا[ ينطبق على اللاهوت ولا ينطبق على الناسوت، أي أنهم قتلوا وصلبوا الجزء الإنساني في المسيح، ولكنهم لم يقتلوا ولم يصلبوا الجزء الإلهي المتجسد فيه، إذ يؤكد على أن اللاهوت لا يموت.
ويشرح جناب القمّص اختلاف جوهر اللاهوت عن جوهر الناسوت فيشبه ذلك بالحديد والنار، ويقول إن الحديد يتأثر بالنار فيمكن طرقه وتشكيله، ولكن النار لا تتأثر بهذا الطرق لأنها من جوهر يختلف عن جوهر الحديد، وكذلك فإن اللاهوت المتجسد في المسيح لا يتأثر بالموت ولا بالصلب لأنه من جوهر يختلف عن الناسوت. ويبدو أن جناب القمّص في غاية السرور والسعادة بما نقله البيضاوي في تفسيره، ويعترف بأن ما قاله البيضاوي هو ما يقول به المسيحيون بفارق بسيط، وهو أن اللاهوت لم يصعد لأنه ظل في الناسوت بعد موته وصلبه، فهو لا يحتاج للصعود لأنه موجود في كل مكان.
والغريب أن جناب القمّص يدّعي أنه لا يفسر القرآن برأيه، وأنه يستشهد فقط بأقوال المفسرين، مع أنه من الواضح أنه يفسر بل ويحرّف معاني الآيات والكلمات، ولم يذكر لنا تفسير أحد من العلماء لقوله تعالى ]وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ[. وقد أعجبه بالطبع القول الذي ذكره البيضاوي نقلا عن "قوم" لم يُعرّفهم لنا ولم يذكر من هم أولئك القوم، فهو لا ينقل عن الرسول r، ولا ينقل عن علماء المسلمين، ولا ينقل عن المفسرين، وإنما ينقل عن "قوم" مجهولين أغلب الظن أنهم من النصارى الذين يؤمنون بموضوع الثالوث المسيحي وتجسد اللاهوت في الناسوت كما يؤمن بذلك جناب القمّص وأتباعه. وهكذا نرى جناب القمّص يستدل بآراء النصارى ليثبت للمسلمين صدق آراء النصارى!! وكما يقول المثل.. "شر البلية ما يضحك"!! فلا شك أن المنطق الذي يتّبعه جناب القمّص يثير الضحك والأسى في نفس الوقت، فهو يثير الضحك بسبب وضوح ضحالة وسخافة وعبثية المنطق الذي يتّبعه جناب القمّص، كما أنه يثير الأسى لأن بعض المسلمين يقعون فريسة لهذا المنطق المغلوط، ويصدقون أن هذه الآراء الواهية الخاطئة هي آراء المفسرين المسلمين، فهذا هو ما يحاول جناب القمّص أن يوحي به لمشاهديه من المسلمين.
وتسأل بعد ذلك السيدة ناهد متولي فتقول: "برضه في الآية نفسها بتقول أنه شُبّه لهم، إيه شُبّه لهم دي"؟ فيقول جناب القمّص: "نرجع للإمام الرازي ونشوف شُبّه لهم ده رأيه فيها إيه". وقبل أن يترك كلام البيضاوي لا ينسى أن يكيل له المديح مرة أخرى فيقول: "هوه طبعا البيضاوي فسّر كويس، شُبّه لهم أنهم قتلوا اللاهوت، أو صلبوا اللاهوت، شُبّه لهم، لكن ما اتصلبش في رأي البيضاوي لأنه صعد".(/7)
وما دام جناب القمّص معجب أشد الإعجاب بكلام البيضاوي، ويعترف بأنه "فسر كويس"، فنحن نريد أن نشاطر جناب القمّص عظيم إعجابه، ونقول إنه بذلك وقع في الحفرة التي كان يحفرها. لقد اعترف بأن قوله تعالى ]شُبِّهَ لَهُمْ[ يعني "خُيِّل لهم" أنه قد قُتل وقد صلب، ولكنه في الحقيقة لم يُقتل ولم يُصلب. وجميع المفسرين المسلمين متفقون على هذه النتيجة لقوله تعالى ]شُبِّهَ لَهُمْ[، ولو أنهم يختلفون على الوسيلة التي تم بها هذا "التخيل" أو هذا "التصوّر". فالبعض يقول إن الله تعالى ألقى شبه المسيح على شخص آخر، وهذا الشخص الآخر هو الذي قُتل وصُلب. وقد عارض الكثير من المفسرين هذا الرأي، بما فيهم الإمام الرازي الذي استشهد به جناب القمّص، والذي استنكر مبدأ إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر، فقال كما ذكر القمص:
"إن جاز أن يُقال إن الله تعالى يُلقي شبه إنسان على آخر، فهذا يفتح باب السفسطة، فلربما إذا رأينا زيْدًا، فلعله ليس بزيْد، ولكن الله ألقى شبه زيْد على شخص آخر. وإذا تزوج رجل فاطمة، فلعله لم يتزوج فاطمة، ولكن الله ألقى على خديجة شبه فاطمة، فتزوج خديجة وهو يظن أنها فاطمة. لو جاز إلقاء شبه أحد على شخص آخر، فعندئذ لا يبقى الزواج، ولا الطلاق، ولا الامتلاك، موثوقا به".
ولا شك أن كلام الإمام الرازي على جانب كبير من الصحة، ولذلك فإننا نستبعد أيضا هذا الرأي الذي يستبعده الرازي، وعلى هذا فلا بد أن تكون هناك وسيلة أخرى، خُيّل لهم بواسطتها أنهم قتلوا المسيح u وصلبوه. ونستطيع أن نضرب لذلك مثالا لما حدث لسيدنا رسول الله وصاحبه أبي بكر إذ هما في الغار بعد هجرتهما من مكة، فجن جنون قريش وأرسلوا وراءهما قصاصي الأثر ليأتوا برسول الله حيا أو ميّتا. وجاء المشركون بالفعل إلى باب الغار، حتى إن أبا بكر كان يخشى أن ينحني أحدهم وينظر في فتحة الغار فيراهما، فطمأنه الرسول r بقوله: ’’لا تحزن إن الله معنا‘‘. ولكن السؤال المهم هنا هو: لماذا لم ينحن أحد من المشركين لينظر ما إذا كان أحد بداخل الغار؟ والجواب هو أنه قد شُبِّه لهم، أي خُيِّل لهم، أنه لا يوجد أحد في الغار، وذلك بسبب العوامل والمؤثرات التي رأوها فصرفت أذهانهم عن أن يتصوروا أو يتخيلوا وجود الرسول r في الغار، وكانت تلك العوامل والمؤثرات هي بيت العنكبوت الذي بنته على فتحة الغار، وبيضة الحمامة التي وضعتها أيضا هناك. كذلك في حالة المسيح u، خُيِّل لهم أنهم قد قاموا بقتل المسيح وصلبه، وذلك بسبب العوامل والمؤثرات التي رأوها، فظنوا أنهم قد قتلوه وصلبوه، ولكنهم في الحقيقة لم يستطيعوا أن يقتلوه ولم يصلبوه. فما هي تلك العوامل التي جعلتهم يتخيلوا أنهم قتلوه وصلبوه؟
أولا: لقد قبض عليه الجند الذين أُرسلوا لإحضاره للمحاكمة، وذلك بعد أن قبّله يهوذا، أحد تلاميذه الذي خانه، وكان قد اتفق مع الجند على أن يلقوا القبض على الشخص الذي يقبّله، وتم هذا العمل أمام الجميع. ورغم أن هذه الواقعة مذكورة في الأناجيل إلا أن هناك اتفاقا عليها، بينما الروايات التي تزعم أن شبهه قد أُلقي على شخص آخر كلها مختلفة، ومتعارضة، فهي تزعم أحيانا أن الذي أُلقي عليه شبهه هو يهوذا الخائن، وأحيانا تقول إنه أحد تلاميذه المخلصين وقد تطوّع لذلك العمل، وأحيانا تذكر أن اسمه سمعان، وأحيانا تقول إنه ليس سمعان ولكنه سرجيوس. وكل هذه الأقوال المتضاربة ليست من قول الرسول r وإنما ذكرها بعض المفسرين مرددين بعض الأقاويل من الإسرائيليات التي كان الناس يتناقلونها، ومن الواضح أن اختلافها وتناقضها وتعارضها مع بعضها البعض هو أبلغ دليل على كذبها وخطئها وعدم صحتها. ولذلك فلا مانع من أن نقبل رواية الأناجيل في هذا الشأن لأنها تتفق مع ما هو معقول، ولا يوجد اختلاف عليها.
ثانيا: إن الشخص الذي تم القبض عليه أحضروه أمام علماء اليهود في حضور الحاخام الأكبر، وقد سألوه العديد من الأسئلة، وكان يجيب عليهم دون أن يصرخ ويقول لهم إنه ليس المسيح وإنما هو فلان الفلاني، مما يدل على أنه كان بالفعل هو المسيح u.
ثالثا: نفس هذا الشخص أحضروه أمام الحاكم الروماني بيلاطس البنطي، الذي تولى محاكمته، وأدرك أنه بريء من التهم التي ألصقها به اليهود. وهنا أيضا لم يصرخ ولم ينف أنه المسيح، ولم يقل إنه شخص آخر غير المسيح.
رابعا: نفس هذا الشخص أخذوه لتنفيذ حكم الصلب عليه، ودقوا في يديه المسامير، وعلقوه بالفعل على الصليب، ومع ذلك لم يبد أي تصرّف يُفهم منه أنه ليس المسيح u، بل كان يدعو الله أن يغفر لهم ويقول إنهم لم يكونوا يعلمون ماذا يفعلون.
خامسا: نفس هذا الشخص كان وهو معلق على الصليب، يتكلم مع أحد اللصين اللذين صُلبا عن يمينه وعن يساره، وكان قد آمن به، فقال له: "غدا تكون معي في الفردوس".(/8)
ورغم أن كل هذه الأمور قد جاء ذكرها في الأناجيل، فليس هناك ما يمنع قبولها، إذ لا ينبغي رفضها لمجرد أنها جاءت في الأناجيل، وإنما يمكن أن نرفضها إذا كانت تختلف مع ما هو معقول، أو إذا كانت تختلف مع نص صريح من وحي الله تعالى جاء في الكتاب المقدس أو في القرآن الكريم. وليس هناك ما هو غير معقول في أن يقبض الجند على نبي من أنبياء الله، أو أن يُقدم ذلك النبي للمحاكمة، أو أن يتعرّض ذلك النبي للتعذيب والابتلاء الشديد. ولعل ما حدا ببعض الناس إلى القول بأن المسيح u لم يُعلق على الصليب هو سوء فهمهم لمعنى قوله تعالى ]وَمَا صَلَبُوهُ[، إذ ظنوا أن القرآن المجيد ينفي تعليق المسيح على الصليب. والحقيقة أن هناك فرقا شاسعا بين الصلب والتعليق على الصليب، فالصلب معناه الموت أثناء التعليق على الصليب، أما مجرد التعليق على الصليب بغير الموت فلا يُعتبر صلبا، وإنما يعتبر تعليقا فقط. والفرق بين التعليق والصلب مثل الفرق بين الغطس والغرق، فكل من الغطس والغرق يعني نزول المرء تحت الماء، ولكن إذا خرج المرء من الماء حيا يُقال إنه غطس، ولا يُقال إنه غرق، أما إذا مات وهو تحت الماء فحينئذ فقط يقال إنه غرق. كذلك الحال بالنسبة للتعليق والصلب، كلاهما يعني تعليق المرء على الصليب، فإذا نزل المرء من على الصليب حيا، يُقال إنه عُلّق على الصليب، ولا يُقال إنه صُلب، أما إذا مات المرء وهو معلق على الصليب، فحينئذ فقط يُقال إنه صُلب. ويؤكد القرآن المجيد على هذا المعنى في العديد من الآيات الكريمة، إذ يقول تعالى على لسان فرعون مخاطبا السحرة الذين آمنوا بموسى u: ]لأٌقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ[ (الشعراء:49)، ومن الواضح أن المقصود بكلمة ]لأُصَلِّبَنَّكُمْ[ هنا هو الموت والقتل على الصليب وليس مجرد التعليق فقط. كذلك يقول تعالى ]إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ (المائدة:33). ومن الواضح هنا أيضا أن المقصود بكلمة ]يُصَلَّبُوا[ هو الموت والقتل على الصليب وليس مجرد التعليق فقط. والقرآن المجيد ينفي صلب المسيح في قوله تعالى ]وَمَا صَلَبُوهُ[ ولكنه لا ينفي مجرد تعليقه فقط على الصليب.
وعلى هذا، فلا معنى للقول بأن الله تعالى قد ألقى شبه المسيح على شخص آخر، وإنما يكون معنى قوله تعالى ]وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ[ أن اليهود لم يفلحوا في تحقيق قتله عموما، وخاصة لم يحققوا قتله على الصليب، وإنما علقوه فقط، فلما أُغمي عليه شُبّه لهم أنهم قد قتلوه على الصليب، أي أنهم تخيلوا أنهم قد حققوا صلبه، ولكنه لم يُصلب في حقيقة الأمر، لأن الله تعالى لم يقبض روحه، بل ظل حيًّا على الصليب، وأُنزل حيًّا من على الصليب، وبذلك فقد أفسد الله تعالى تدبير اليهود، وهذا معنى قوله تعالى ]وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[، أي أن اليهود دبّروا أمر قتله على الصليب، فدبر الله تعالى أمر نجاته من القتل على الصليب، وخُيّل لهم أنهم حققوا قتله على الصليب، ولكنهم لم يكونوا متيقنين من ذلك، بل كانوا في شك منه، ولذلك فإنهم لا يتبعون في ذلك إلا الظن، والحقيقة أنهم ما قتلوه يقينا.(/9)
هذا هو المعنى الذي يتفق مع كلام الله تعالى في القرآن الكريم، ويتفق مع العقل، ويتفق أيضا مع الأحداث التاريخية التي وصلت إلينا. وليست كل عبارة جاءت في الأناجيل تكون كاذبة أو خليقة بأن نرفضها، وإنما يتحتّم أن نرفضها إذا كانت تتعارض مع وحي الله تعالى الواضح في الكتاب المقدس أو في القرآن الكريم، أو إذا كانت تتعارض مع العقل وتتناقض مع المعقول من الأمور. وليس في تعليق المسيح u على الصليب ما يتناقض مع المعقول من الأمور، فكثير من الأنبياء قد تعرّضوا للأذى الشديد، فصبروا على ما أصابهم في سبيل الله. وها هو سيد الخلق أجمعين r، لم يُستثن من المعاملة الوحشية التي تلقاها من قومه. وفي إحدى المناسبات بينما كان يصلي، وضع جماعة من الكفار وشاحًا حول عنقه وشدّوه عليه حتى جحظت عيناه. ثم حدث أن جاء أبو بكر T فأبعدهم عنه باكيًا وقال: "أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله"؟! وفي مرة أخرى كان الرسول R ساجدًا في صلاته، فجاءوا بأمعاء بعير وألقوها على ظهره، فلم يستطع النهوض حتى جاءت ابنته فاطمة وأزالت هذه الأثقال عنه. وفي حادثه ثالثة كان يمر بالطريق، فتبعته جماعة من الصبيان أخذوا يصفعون رقبته صائحين بالناس أنه يدّعي النبوة. هكذا كان الرسول R يلقَى العداوة والكراهية من هؤلاء الناس، وكان يبدو في أيديهم بلا حول ولا قوة. كان الناس يرجمون بيته بالحجارة من أسطح المنازل المجاورة، وكانوا يلقون على مطبخه الرّوَث والقاذورات ونفايات الحيوانات المذبوحة. وكثيرًا ما كانوا يحثون عليه التراب أثناء أدائه الصلاة. وحدث أن رجمه الغوغاء بالحجارة عندما ذهب إلى الطائف، فشُجّت رأسه، وتدفقت الدماء من رأسه إلى أن وصلت إلى قدميه. وها هو في غزوة أُحُد تتعاوره الأحجار حجرًا بعد حجر، فأحدث الأوّل به جرحًا عميقًا، وجعل الثاني حلقتي المغفر تدخلان في خده، وبينما كانت السهام تتساقط غزيرة متسارعة والرسول r مثخن بالجراح، كان يدعو الله قائلاً: ’’ربِّ اغفر لقوْمي فإنهم لا يعلمون‘‘ (مسلم، كتاب الجهاد والسير). ورغم كل ما أصاب الرسول r من أهوال ومشاق وآلام في سبيل الله تعالى، فإنه سبحانه لم يُلق شبهه على أحد لينقذه مما أصابه، ولكنه مع ذلك يقول ]وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ[ (المائدة:67)، أي أنه سبحانه يعصمه من القتل بأيدي الناس، وهذا هو ما حدث رغم أن الجيوش قد جُيّشت من أجل قتله، وجاءت الأحزاب من جميع أنحاء جزيرة العرب من أجل القضاء عليه، وألقى اليهود عليه حجرا كبيرا فنجاه الله تعالى، وحاولت امرأة يهودية أن تقتله بالسم فحفظه الله تعالى. وقال الله تعالى في حقه r ما قال في حق المسيح u، إذ قال ]وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[ (الأنفال:30).
لقد مكر الذين كفروا في حق المسيح u كما مكر الذين كفروا في حق الرسول r، وفي الحالتين كان الله خير الماكرين، ولكنه لم يُلق شبه نبيه على أحد، فما كان الله تعالى ليرضى أن يهين صورة نبيه بأن يجعلها على شخص آخر أقل مكانة وأقل درجة من مكانة نبيه، وإنما دبر سبحانه في الحالتين نجاة نبيه من التدبير السيء الذي خطط له أعداء الله، فأفسد تدبيرهم ونفّذ تدبيره، وأفشل مآربهم وحقق مشيئته. نعم لقد قاسى كل منهما آلام الاضطهاد والتعذيب، ولكن هكذا الأنبياء يكونون دائما هم القدوة والمثل الذي يقتدي به أتباعهم المؤمنون. لقد عُلّق المسيح u على الصليب، ولكنه لم يُصلب، إذ نجاه الله تعالى من الموت على الصليب، وهذا ما كان يمكر أعداؤه لتحقيقه. ورُجم الرسول r بالحجارة، ولكنه لم يُقتل، إذ نجّاه الله تعالى من الموت قتلا، فهذا ما كان يمكر أعداؤه لتحقيقه أيضا. لقد تعرّض المسيح u مرة واحدة لحادثة الصلب التي نجاه الله تعالى منها، ولكن الرسول r تعرّض مرات ومرات لمحاولات القتل بيد أعدائه، بداية بمحاولة قتله عندما أحاطوا بداره وانتظروه أن يخرج ليقتلوه، فخرج دون أن يتنبهوا لخروجه وهاجر إلى المدينة، وانتهاءً بالمحاولات التي بذلها أبو عامر الراهب ومنافقو المدينة للقضاء عليه والتآمر مع الروم لغزو المدينة.
وما دام الله تعالى قد أحبط مكر اليهود فلم يتمكنوا من صلب المسيح u، ولم يستطيعوا أن يحققوا موته على الصليب، فقد أثبت سبحانه بذلك أيضا فساد عقيدة الكفارة وخطأ مبدأ الصلب والفداء. وبذلك، على الأقل من وجهة النظر الإسلامية، نستطيع أن نقول بأن المسيح u لم يمت على الصليب. وما دام جناب القمّص مولعا بإيراد رأي العلماء المسلمين من أجل إقناع مشاهديه من المسلمين بما يقوله، فلا بأس من إيراد رأي بعض العلماء المسلمين في الزمن القديم وفي العصر الحديث الذين نهجوا أيضا نفس المنهج، وأكدوا أن المسيح u لم يمت على الصليب، وإنما توفاه الله تعالى وفاة طبيعية، دون أن يتمكن أحد من قتله أو صلبه،
( 13 )(/10)
في الحلقة السابقة تناولنا موضوع موت المسيح على الصليب، أو بمعنى أصح، عدم موت المسيح على الصليب، من وجهة النظر الإسلامية، وقلنا إن الله تعالى لم يُلق شبه المسيح على أحد، وإنما دبر من الظروف ما جعل اليهود يتصورون أنهم صلبوا المسيح، ولكنهم علقوه فقط على الصليب ولم ينجحوا في صلبه. وقلنا أيضا في الحلقة السابقة إن "الصلب" في اللغة العربية معناه الموت على الصليب، وليس مجرد التعليق على الصليب. والقرآن المجيد ينفي الصلب عن المسيح في قوله تعالى ]وَمَا صَلَبُوهُ[، ولكنه لا ينفي مجرد التعليق على الصليب.
ويدّعي جناب القمّص أن اليهود نجحوا في قتل الناسوت وصلبه، ولكن شُبه لهم أنهم قتلوا اللاهوت، مع أنهم لا يستطيعون ان يقتلوا اللاهوت ولا أن يصلبوه. غير أن القرآن المجيد لا يتفق مع جناب القمّص، فالقرآن يتكلم عن الناسوت، يعني عن المسيح الإنسان.. رسول الله.. فينفي عنه القتل والصلب، إذ يقول تعالى ]وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمٍ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا[ (النساء:157). حقا ما أعظم هذا القرآن الكريم الذي تدل كلماته على أنه فعلا من لدن العليم الخبير. لقد احتار الكثير من المفسرين في تبرير وجود كلمتي "رسول الله" في كلام اليهود، فهم لم يكونوا يؤمنون بأنه رسول الله، فلماذا قالوا: إنا قتلنا المسيح ابن مريم رسول الله؟ ولو كانت الجملة: "إنا قتلنا المسيح ابن مريم وما قتلوه وما صلبوه"، لكانت الجملة صحيحة، ولكن الله وضع هاتين الكلمتين "رسول الله" لأنه سبحانه كان يعلم أن أقواما من أمثال القمّص زكريا بطرس سوف ينسبون إلى المسيح طبيعتين، طبيعة الناسوت وطبيعة اللاهوت، وسوف يزعم هؤلاء أن الذي قُتل وصُلب هو الناسوت، كما يزعم بذلك جناب القمّص. وبنفي القتل والصلب عن "رسول الله" يتأكد أن الإنسان.. الذي هو رسول الله.. هو الذي لم يُقتل ولم يُصلب، وبذلك يتبين خطأ جناب القمّص في قوله إن الذي صُلب هو الناسوت، فإن الناسوت هو رسول الله، وهذا هو الذي ينفي الله عنه القتل والصلب. وعفوا يا جناب القمّص، لقد سقط دليلك، وانهارت حجتك، وضاع أملك في أنك تخدع مشاهديك من المسلمين باستشهادك بالقرآن المجيد، وعليك أن تبحث عن دليل آخر، أو تخترع حجة أخرى، أو تفتعل برهانا آخر تثبت به كلامك الخاطئ، ولكنك لن تجد هذا بين دفتي الكتاب العزيز.
ثم يزعم جناب القمّص أن المسيح قد مات ثم بعثه الله تعالى، ويذكر تدليلا على ذلك قوله تعالى ]إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِليَّ[ ويربط بين هذا وقوله تعالى على لسان المسيح ابن مريم ]وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا[ (مريم:33). وهو بذلك يحاول أن يثبت بأن القرآن يؤيد الفكرة الخاطئة لدى إخواننا المسيحيين بأن المسيح مات يوم الجمعة على الصليب، ثم قام من الأموات يوم الأحد، ثم صعد بعد ذلك إلى السماء وجلس عن يمين الرب. ولا شك أن جزءا من هذه الأفكار الخاطئة قد انتشر بالفعل بين المسلمين، وذلك عندما انتشر الإسلام في الدول المسيحية مثل مصر والشام، ودخلت أعداد كبيرة من المسيحيين في الإسلام، ويبدو أن بعضهم لم يستطع أن يتخلى تماما عن الأفكار الخاطئة التي كان يؤمن بها، وهكذا تسربت هذه المفاهيم الخاطئة إلى أفكار المسلمين، حتى إن الكثير من المسلمين صاروا يؤمنون فعلا بأن المسيح ابن مريم لم يمت كما مات بقية الأنبياء، وأنه صعد بجسده البشري إلى السماء، وأنه يعيش فيها منذ ألفين عام. ويستغل جناب القمّص وأمثاله هذا المفهوم الخاطئ لكي يثبت للمسلمين عظمة مكانة المسيح فوق مكانة رسول الله r الذي كان بشرا، وعاش ومات كما يموت جميع البشر.
ولكن الواقع أن القرآن قد بيّن وفاة المسيح بشكل يفوق غيره من الأنبياء، وذلك لأن الله تعالى كان في سابق علمه أن بعض الناس سوف يقعون في هذا الخطأ. ولذلك فقد أكّد الرسول r أيضا على وفاة المسيح، فعندما كان يحاور وفد نصارى نجران قال لهم: "ألا تعلمون أن الابن يرث من صفات أبيه"؟ قالوا بلى، قال: "ألا تعلمون أن عيسى قد أتى عليه الفناء وأن الله حي لا يموت"؟ وكذلك فقد جاء في ابن كثير قوله r: "لو كان موسى وعيسى حيّيْن لما وسعهما إلا اتّباعي".
واليوم.. قَلَّ أن تجد بين علماء الدين المتنورين، أو من بين فئات المسلمين المثقفين ثقافة دينية صحيحة، من يتمسك بخرافة حياة المسيح في السماء أو نزوله منها بشخصه في آخر الزمان. ونقتبس فيما يلي جزءا من كتاب "مقارنة الأديان" للأستاذ الدكتور أحمد شلبي.. أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية بكلية دار العلوم-جامعة القاهرة (الطبعة الثامنة عام 1984) يقول فيه:(/11)
”ثالثا: ماذا كانت نهاية عيسى بعد النجاة: هل رفع إلى السماء حيا بجسمه وروحه؟ هل استوفى أجله على الأرض وهو مختفٍ ثم مات ودُفن جسمه ورُفعت روحه إلى بارئها؟
كان هناك اتجاه شاع بين الناس بأن عيسى عليه السلام عندما نجا من المؤامرة رُفع بجسمه وروحه إلى السماء، وكان هذا الرأي يصوّر اختفاءه الذي تحدثنا عنه، ولكن هذا الاتجاه واجه دراسة واسعة قام بها المفكرون في العصر الحديث، واعتمدوا في كلامهم على نصوص قديمة ودراسات موثقة، وأوشك هذا الاتجاه الجديد أن يقضي على المزاعم القديمة التي كانت تقول برفع السيد المسيح بجسمه وروحه. وعلى كل حال فينبغي أن نورد دعائم الرأي القديم، وأن نناقش هذه الدعائم لنسهم في تأصيل الرأي الجديد الذي نرتضيه.
بُني الرأي القديم على فهم غير دقيق للآيات والأحاديث التالية:
• قوله تعالى: ] وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا $ بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ[ (النساء 157-158).
• وقوله:] إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا[ (آل عمران55)
• ما ورد في البخاري ومسلم من أن رسول الله r قال: والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينْزل فيكم ابن مريم حاكما عادلا مقسطا، يكسر الصليب ويقتل الخنْزير....
• ما ورد في مسلم من أن عيسى سينْزل في آخر الزمان فيقتل المسيح الدجال.
مناقشة هذه الأدلة وردها:
ويناقش جمهور المفكرين المسلمين هذه الأدلة فيقولون إن عيسى بعد أن نجا من اليهود عاش زمنا حتى استوفى أجله، ثم مات ميتة عادية ورُفعت روحه إلى السماء مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء، وقد ورد النص برفع عيسى- مع أن روحه سترفع بطبيعة الحال لأنه نبي- تكريما لمكانته بعد التحدي الذي واجهه من اليهود، فذكر الله نجاته، ثم مكانته التي استلزمت رفع روحه.
ويقولون عن الآية الأولى] بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ[ إنها تحقيق الوعد الذي تضمنته الآية الثانية ]إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا[ فإذا كان قوله تعالى ]بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ[ خلا من ذكر الوفاة والتطهير واقتصر على ذكر الرفع فإنه يجب أن يُلاحظ فيها ما ذُكر في قوله ]إِنِّي مُتَوَفِّيكَ...[ جمعًا بين الآيتين.
ويرى هؤلاء العلماء أن الرفع معناه رفع المكانة وقد جاء الرفع في القرآن بهذا المعنى كثيرا، قال تعالى:
في بُيُوتٍ أّذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ (سورة النور الآية 36)
نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّنْ نَّشَآءُ (سورة الأنعام الآية 83)
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (سورة الانشراح الآية الرابعة)
وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (سورة مريم الآية 57)
يَرْفَعُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (سورة المجادلة الآية 11)
وإذن فالتعبير بقوله ]وَرَافِعُكَ إِلَيَّ[ وقوله ]بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ[ كالتعبير في قولهم: لحق فلان بالرفيق الأعلى، وفي ]إِنَّ اللهَ مَعَنَا[ (سورة التوبة الآية 55) وفي ]عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ[ (سورة القمر الآية 55)، وكلها لا يُفهم منها سوى الرعاية والحفظ والدخول في الكنف المقدس (الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت: الفتاوى ص56).
وهناك آية كريمة أقوى دلالة من آيات الرفع، ولكنها مع هذا لا تعني سوى خلود الروح لا الجسم، وهي قوله تعالى: ]وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ $ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمْ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ[ (سورة آل عمران الآية 169)
فمع أن الآية قررت أنهم أحياء فليس معنى هذا حياة الجسم، فجسم الشهيد قد وُوري التراب، ومع أنها قررت أنهم ]عِنْدَ رَبِّهِمْ[ وأنهم ]يُرْزَقُونَ[... فليس المقصود هو العندية المكانية، ولا الرزق المادي، وإنما المقصود تكريم الروح بقربها من الله قرب مكانة والاستمتاع باللذائذ استمتاعا روحيا لا جسمانيا.
وعن الحديثين يجيب الباحثون بإجابتين:
أولا: هما من أحاديث الآحاد وهي لا توجب الاعتقاد، والمسألة هنا اعتقادية كما سبق.(/12)
ثانيا: الحديثان ليس فيهما كلمة واحدة عن رفع عيسى بجسمه، وقد فُهِمَ الرفع من نزول عيسى، فاعتقد بعض الناس أن نزول عيسى معناه أنه رُفِعَ وسينْزل، وهكذا قرر هؤلاء أن عيسى رُفِعَ لمجرد أن في الحديثين كلمة ينْزل، مع أن اللغة العربية لا تجعل الرفع ضرورة للنّزول. فإذا قلت نزلت ضيفا على فلان، فليس معنى هذا أنك كنت مرتفعا ونزلت. وإذا رجعنا إلى مدلول هذه الكلمة (نزل - وأنزل) في القرآن الكريم، وجدنا أنه لا يتحتم أن يكون معناها النّزول من ارتفاع، بل قد يكون معناها: جعل، أو قدَّر، أو وقع، أو منح، قال تعالى:
]وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ[ (سورة الحديد الآية25) أي جعلنا في الحديد قوة وبأسا.
وقال: ]وَقُل رَّبِّي أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ[ (سورة المؤمنون الآية29) أي قدِّر لي مكانا طيبا.
وقال: ]فإِذّا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ[ (سورة الصافات الآية172) أي وقع.
وقال: ]وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ[ (سورة الزمر الآية السادسة) أي منحكم وأعطاكم.
وهكذا يتبين لنا أن كلمة ينْزل في الحديثين - لو صح هذان الحديثان- ليست إلا بمعنى يجيء، ومن الممكن أن يُحيي الله عيسى ويرسله على شريعة محمد قبل قيام القيامة، وليس ذلك بمستبعد قط على الله، والاستنتاج الذي قال به هؤلاء خروج بالكلمات عن مدلولها، فالرفع ليس من كلمات الحديث الشريف بل من تفكير بعض قارئي الحديث، وليس من حقهم أن يضيفوا إلى الحديث ما ليس منه وما لا تستدعيه ألفاظه‘‘.
ثم يستطرد الأستاذ الدكتور أحمد شلبي في نفس المرجع فيقول:
”رفع روح عيسى لا جسمه:
ونجيء الآن لإيراد بعض التفاصيل والأدلة التي ترى أن عيسى u مات كما مات كل الأنبياء والصالحين وغيرهم، وأن جسمه قد دفن كما دفنت أجسام الأنبياء وغيرهم، وأن الذي رُفع هو روحه:
وبادئ ذي بدء أذكر أن ندوة كبيرة أقامتها مجلة "لواء الإسلام" في أبريل سنة 1963 عن هذا الموضوع، وقد اشترك فيها مجموعة من العلماء الأفذاذ، واتفق الجميع على مبدأين مهمين هما:
1- ليس في القرآن الكريم نصٌّ يُلزم باعتقاد أن المسيح u قد رفع بجسمه إلى السماء.
2- عودة عيسى u جاءت بها أحاديث صحاح، ولكنها أحاديث آحاد، وأحاديث الآحاد لا توجب الاعتقاد، والمسألة هنا اعتقادية فلا تثبت بهذه الأحاديث (عدد ذي الحجة 1380هـ أبريل1963 ص263).
وسنقتبس مما قاله هؤلاء العلماء بعد قليل عن موت عيسى ودفنه وصعود روحه إلى بارئها مع أرواح الأنبياء والصديقين والشهداء.
وعلى كل حال فالعلماء الذين يرون أن الذي رفع هو روح عيسى لا جسمه يعتمدون أساسا على الآيات القرآنية التالية:
3- إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ (آل عمران 55).
فهذه الآية تذكر بوضوح ما سبق أن ذكرناه، أي وفاة عيسى وتطهيره وحمايته من أعدائه، وتجعل عيسى ضمن أتباعه إلى الله مرجعهم.
4- مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبُ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (المائدة 117).
وواضح من الآية وفاة عيسى ونهاية رقابته على أتباعه بعد موته وترك الرقابة لله.
5- وقوله تعالى حكاية عن عيسى:
وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا
والآية واضحة الدلالة على أن عيسى ككل البشر يولد ويموت ويُبعث، وكل ما يخالف ذلك تحميل للفظ فوق ما يحتمل.
وقد اشترك في هذا الرأي كثير من العلماء في العصور الماضية وفي العصر الحديث، وفيما يلي نسوق بعض تفاسير لهذه الآيات الكريمة كما نسوق آراء العلماء الأجلاء.
يقول الإمام الرازي (تفسير الفخر الرازي) في تفسير الآية الأولى: ]إِنِّي مُتَوَفِّيكَ[ أي مُنهي أجلك، ]وَرَافِعُك[ أي رافع مرتبتك ورافع روحك إليّ، ]وَمُطَهِّرُكَ[ أي مخرجك من بينهم، ومفرِّق بينك وبينهم، وكما عظَّم شأنه بلفظ الرفع إليه خبَّر عن التخليص بلفظ التطهير، وكل هذا يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منْزلته، ويقول في معنى قوله تعالى: ]وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا[ المراد بالفوقية، الفوقية بالحجة والبرهان. ثم يقول: واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله: ]وَرَافِعُك[ هو رفع الدرجة والمنقبة لا المكان والجهة، كما أن الفوقية في هذه الآية ليست بالمكان بل بالدرجة والمكانة.(/13)
ويقول الألوسي (انظر روح المعاني للألوسي) أن قوله تعالى: ]إِنِّي مُتَوَفِّيكَ[ معناها على الأوفق أني مستوف أجلك، ومميتك موتا طبيعيا، لا أسلط عليك من يقتلك، والرفع الذي كان بعد الوفاة هو رفع المكانة لا رفع الجسد خصوصا وقد جاء بجانبه قوله تعالى: ]وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا[ مما يدل على أن الأمر تشريف وتكريم.
ويرى ابن حزم (الفصل في الأهواء والملل والنحل - عند الكلام عن المسيحية) وهو من فقهاء الظاهر: إن الوفاة في الآيات تعني الموت الحقيقي، وإن صرف الظاهر عن حقيقته لا معنى له، وإن عيسى بناء على هذا قد مات.
وقد تعرّض الأستاذ الإمام محمد عبده إلى آيات الرفع وأحاديث النّزول، فقرر الآية على ظاهرها، وأن التوفي هو الإماتة العادية، وأن الرفع يكون بعد ذلك وهو رفع الروح (إقرأ تفسير المنار عند شرح الآيات السابقة).
ويقول الأستاذ الشيخ محمود شلتوت (الفتاوى ص2 وما بعدها) أن كلمة "توفى" قد وردت في القرآن كثيرا بمعنى الموت حتى صار هذا المعنى هو الغالب عليها المتبادر منها، ولم تستعمل في غير هذا المعنى إلا بجانبها ما يصرفها عن هذا المعنى المتبادر، ثم يسوق عددا كبيرا من الآيات استُعمِلت فيه هذه الكلمة بمعنى الموت الحقيقي، ويرى أن المفسرين الذين يلجأون إلى القول بأن الوفاة هي النوم أو أن في قوله تعالى: ]مُتَوَفِّيك وَرَافِعُك[ تقديما وتأخيرا، يرى أن هؤلاء المفسرين يحمِّلون السياق ما لا يحتمل، تأثرا بالآية: ]بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ[ وبالأحاديث التي تفيد نزول عيسى. ويرى على ذلك بأنه لا داعي لهذا التفكير، فالرفع رفع مكانة، والأحاديث لا تقرر الرفع على الإطلاق.
ويقول فضيلته إنه إذا استدل البعض بقوله تعالى: ]وَجِيهًا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ[ (سورة آل عمران الآية45)، على أن عيسى رفع إلى محل الملائكة المقربين، أجبناه بأن كلمة ]الْمُقَرَّبِينَ[ وردت في غير موضع من القرآن الكريم دون أن تفيد معنى رفع الجسم. قال تعالى:
6- وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (سورة الواقعة الآيتان 10-11).
7- فَأَمَّا إِن كَانَ مِن الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (سورة الواقعة الآيتان 88-89).
8- عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (سورة المطففين الآية 28).
أما السيد محمد رشيد رضا، فقد أضاف إلى هذه الدراسة نقطة جديدة هي أن مسألة الرفع بالجسم والروح هي في الحقيقة عقيدة النصارى، وقد استطاعوا بحيلة أو بأخرى دفعها تجاه الفكر الإسلامي كما استطاعوا إدخال كثير من الإسرائيليات والخرافات، وفيما يلي نص كلام هذا الباحث الكبير: ليس في القرآن نص صريح على أن عيسى رُفع بروحه وجسده إلى السماء، وليس فيه نص صريح بأنه ينْزل من السماء، وإنما هي عقيدة النصارى، وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهور الإسلام بثَّها في المسلمين (تفسير المنار ج10 من المجلد الثاني والعشرين).
ويضيف هذا الباحث قوله: وإذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يصلح العالم فمن السهل أن يصلحه عل يد أي مصلح ولا ضرورة إطلاقا لنُزول عيسى أو واحد من الأنبياء (تفسير المنار الجزء الثالث).
ويقول الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي: ليس في القرآن نص قاطع على أن عيسى عليه السلام رُفع بجسمه وروحه وعلى أنه حيٌ الآن بجسمه وروحه، والظاهر من الرفع أنه رفع درجات عند الله، كما قال تعالى في إدريس: ]وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا[، فحياة عيسى حياة روحية كحياة الشهداء وحياة غيره من الأنبياء (نقلا عن كتاب الفتاوى للشيخ شلتوت ص74).
ويقول الأستاذ عبد الوهاب النجّار (قصص الأنبياء ص511): إنه لا حجة لمن يقول بأن عيسى رُفع إلى السماء لأنه لا يوجد ذكر للسماء بإزاء قوله تعالى: ]وَرَافِعُك إِلَيَّ[ وكل ما تدل عليه هذه العبارة أن الله مُبعده عنهم إلى مكان لا سُلطة لهم فيه، وإنما السلطان فيه ظاهرا وباطنا لله تعالى، فقوله تعالى: ]إِلَيَّ[ هو كقول الله عن لوط: ]إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي[ (سورة العنكبوت الآية 26) فليس معناه إني مهاجر إلى السماء بل هو على حد قوله تعالى: ]وَمَن يَّخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلى اللهِ وِرَسُولِهِ..[ (سورة النساء الآية 100).
ويقول الأستاذ الشهيد سيد قطب (في ظلال القرآن الجزء الثالث ص87) عند تفسير الآية الأولى من الآيات الثلاث السابقة:
لقد أرادوا قتل عيسى وصلبه، وأراد الله أن يتوفاه وفاة عادية ففعل، ورفع روحه كما رفع أرواح الصالحين من عباده، وطهره من مخالطة الذين كفروا، ومن البقاء بينهم وهم رجس ودنس.
ونجيء الآن إلى الباحث الأستاذ محمد الغزالي وله في هذا الموضوع دراسة مستفيضة نقتبس منها بعض فقرات بنصوصها:(/14)
9- أميل إلى أن عيسى مات، وأنه كسائر الأنبياء مات ورُفع بروحه فقط، وأن جسمه في مصيره كأجساد الأنبياء كلها: وتنطبق عليه الآية: ]إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ[ (سورة الزمر الآية 30) والآية: ]وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ[ (آل عمران 144) وبهذا يتحقق أن عيسى مات (لواء الإسلام العدد السابق ص 254).
10- ومن رأيي أنه خير لنا نحن المسلمين وكتابنا (القرآن الكريم) لم يقل قولا حاسما أبدا أن عيسى حي بجسده، خير لنا منعا للاشتباه من أنه وُلد من غير أب، وأنه باق على الدوام مما يُرَوّج لفكرة شائبة الألوهية فيه، خير لنا أن نرى الرأي الذي يقول إن عيسى مات، وإنه انتهى، وإنه كغيره من الأنبياء لا يحيا إلا بروحه فقط، حياة كرامة وحياة رفعة الدرجة.
11- وأنتهي من هذا الكلام إلى أني أرى من الآيات التي أقرؤها في الكتاب أن عيسى مات، وأن موته حق، وأن موته كسائر النبيين (المرجع السابق ص 255).
وبعد.. لقد أثيرت هذه المسألة منذ سنين في فتوى أجاب عليها الأستاذ المراغي والأستاذ شلتوت كما رأينا، وقد قامت ضجة على إثر إذاعة هذه الفتوى، شأن كل جديد يخرج للناس. ومرّ الزمن ورجحت هذه الفكرة وأصبحت شيئا عاديا يدين بها الغالبية العظمى من المثقفين، وطالما وقف كاتب هذه السطور يرفع صوته بها في قاعات المحاضرات بأعرق جامعة إسلامية في العالم وهي جامعة الأزهر وبغيرها من الجامعات وقاعات المحاضرات، وكان الناس يتقبلون هذه الآراء قبولا حسنا، والذي أرجوه أن يرفق المعارضون في تلقي الآراء الجديدة، وأن يفحصوها بروح هادئة. والله يهدينا سواء السبيل.
ونختم هذا البحث بأن نقرر أن الاعتقاد بأن عيسى رفع بجسمه وروحه اعتقاد متأثر بالفكر المسيحي الذي يرى أن عيسى هو الإله الابن نزل من السماء ثم رُفع ليعود للجلوس بجوار الإله الآب. أما المسلمون الذين يعتقدون أن الله واحد، وأنه في كل مكان، وليس جسما، فكيف يوفّقون بين هذا وبين رفع عيسى ليكون بجوار الله؟ فالله -مرة أخرى- في كل مكان. ولو بقي عيسى على الأرض لكان مع الله أيضا. فكيف يوفقون بين هذا وبين قوله تعالى: ]وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الْخُلْدَ[ (الأنبياء:34)‘‘.
* * *
كان هذا هو الكلام الذي نقلناه عن الأستاذ الدكتور أحمد شلبي، وذكر فيه آراء العلماء في الزمن القديم وفي الزمن الحديث عن وفاة المسيح. ولا يحتاج الأمر إلى تعليق آخر.
( 14 )
هذا لقاؤنا الرابع عشر في حلقات "أجوبة عن الإيمان" التي نرد بها على جناب القمص زكريا بطرس في حلقاته التي قدمها بعنوان "أسئلة عن الإيمان". وهذه الحلقة هي الثالثة التي نبحث فيها ما إذا كان المسيح قد مات على الصليب، وقد بحثنا هذا الموضوع من وجهة النظر الإسلامية في الحلقتين الماضيتين، وفي هذه الحلقة نريد أن نبحث الموضوع من وجهة النظر المسيحية. فهل نجا المسيح من الموت على الصليب، كما أعلن ذلك القرآن المجيد، أم أن الله أراد له أن يموت فداء عن البشرية كما يدّعي بذلك جناب القمص؟
ولا شك أن هذه مهمة صعبة، لأن المصدر الوحيد الذي يقبله جناب القمص هو الكتاب المقدس بشقيه العهد القديم والعهد الجديد الذي يحتوي الأناجيل الأربعة وسفر أعمال الرسل والرسائل التي كتب أغلبها بولس الرسول. ولما كان بولس الرسول هو في حقيقة الأمر مؤسس الديانة المسيحية المنتشرة الآن، لأنها تقوم على كتاباته التي أدخلت مبادئ لم يتناولها السيد المسيح نفسه، لذا فإن الاعتماد على كتابات بولس لن يؤدي إلى كشف الحقيقة التي نبحث عنها. ومن هنا نجد أنه ينبغي علينا أن نركز الاهتمام على ما جاء في الأناجيل الأربعة، نتلمس من خلالها بعض الأضواء التي قد تصلح لتنير لنا طريق البحث عن الحقيقة.
ولما كنا على يقين من أن موت السيد المسيح على الصليب أمر يتعارض مع المشيئة الإلهية، فإننا نقطع بأنه لا بد أن تحتوي الأناجيل على أمور تختلف وتتناقض مع موضوع موت المسيح على الصليب، بل تشير من قريب أو من بعيد إلى نجاته من هذه الميتة اللعينة، التي يريد جناب القمص وأتباعه أن يلصقوها بالمسيح u.(/15)
أولا: وبادئ ذي بدء نود أن نناقش الجملة التي كثيرا ما يستشهد بها جناب القمص لكي يوهم مشاهديه أن الغرض والهدف من مجيء المسيح هو أن يموت ويسفك دمه فداء عن البشرية. وقد جاءت هذه الجملة في إنجيل يوحنا 16:3 حيث تقول: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية، لأنه لم يُرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم". ومن الواضح أن هذه الجملة لا تذكر شيئا عن صلب المسيح ولا عن موته فداء عن البشرية، وإنما تذكر أن الله "بذله" لكي لا يهلك من يؤمن به، أي أن الغرض المطلوب هو الإيمان بالمسيح، وشأنه في ذلك شأن كل نبي يبعثه الله، إذ ينبغي أن يؤمن به قومه إذا كانوا يريدون أن ينالوا الهداية من الله. فمن غير المعقول أن ينال أحد الحياة الأبدية وهو يرفض الإيمان بنبي بعثه الله تعالى، بل يعاديه ويكذبه. أما كلمة "بذل" التي يحاول جناب القمص أن يوحي بأنها تعني قتله أو صلبه، فهي لا تعني ذلك بالمرة، بل تعني "قدّم"، "أعطى"، "أرسل"، "بعث"، وما شابه ذلك. والترجمة الإنجليزية تقول “gave” أي "قدّم" أو "أعطى"، والفقرة التالية لها تقول “sent” أي "أرسل" أو "بعث"، وكل هذه الكلمات لا علاقة لها بموضوع القتل أو الصلب.
ثانيا: ومن هذا يتبين أن الإرادة الإلهية ومشيئة الله لم تكن تهدف قتل المسيح أو صلبه، وإنما كانت تتوجه إلى حفظه والعمل على سلامته حتى يؤدي الرسالة التي بُعث من أجلها، وهي أن يبشر القبائل الإسرائيلية بقرب مجيء ملكوت الله. وهناك عدة حوادث معينة تبين أن المشيئة الإلهية لم تكن تهدف إلى قتل المسيح، بل قدّر الله تعالى أن يصون سلامته وقرر حفظه من كل سوء.
فمثلا يحكي لنا إنجيل لوقا أن الروح اقتاد المسيح في البرية أربعين يوما وإبليس يجرّبه. وكان من ضمن تجارب إبليس له أنه "اقتاده إلى أورشليم، وأوقفه على حافة سطح الهيكل، وقال له: "إن كنت ابن الله، فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل، لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك، وأنهم على أياديهم يحملونك، لكي لا تصدم بحجر رجلك" (لوقا 4: 9-11). إذن ما كتبه الله تعالى وما قدّره هو أن ملائكته سوف يحفظون المسيح ويحملونه على أيديهم حتى لا تصطدم قدمه بحجر. يعني لو حدث أنه سقط من فوق جبل أو من على سطح الهيكل فإن ملائكة الله سوف يحفظونه من كل سوء ويحملونه على أيديهم، فكيف يُقال بعد هذا أن الله أرسله لكي يموت ويسفك دمه فداء للبشرية؟ لو كان ذلك حقا لما كتب الله أن يوصي ملائكته كي يحفظوه ويحملوه على أيديهم فلا تصطدم قدمه بحجر. وقد يُقال إن الله كتب هذا وقدّر أن تحفظه الملائكة لأنه كان يريده أن يموت على الصليب، ولكن هذا القول يحمل إساءة بالغة لله تعالى، لأن موت المسيح على الصليب لم يكن ليتم بغير أن يعصي اليهود أمر الله ويرتكبوا خطيئة قتله على الصليب، ولا يليق بالله تعالى أن يضع خطة لنجاة البشرية لا تتحقق إلا بشرط ارتكاب الناس المعصية. ولكن إذا حدث أن سقط المسيح من على جبل أو من مكان عال مثلا، فإنه سوف يموت ويُسفك دمه بغير أن يرتكب أحد أية معصية لله. ومع ذلك، فحتى هذه كتب الله أن تحفظه منها الملائكة فلا تصطدم قدمه بحجر، فكيف يمكن أن تتركه الملائكة لكي يموت على الصليب؟ هل لديك جواب يا جناب القمص؟؟
ثالثا: في الماضي كان الآباء يضحّون بأبنائهم ويقدمونهم قرابين لله، وكان ذلك يحدث عند مولد الابن أو في طفولته، وحسب ما جاء في الكتاب المقدس، فقد أمر الله إبراهيم أن يذبح ابنه اسحاق وهو لا يزال طفلا صغيرا. ولو كان الله يريد أن يقدم ابنه ليموت فداء للبشرية لسمح بقتل المسيح بعد مولده، خاصة وأن الفرصة كانت مواتية لذلك. فقد علم هيرودس بخبر مولد المسيح من المجوس الذين جاءوا من الشرق، ويقول إنجيل متى عن ذلك: "فلما سمع هيرودس الملك اضطرب وجميع أورشليم معه. فجمع كل رؤساء الكهنة وكتَبَة الشعب وسألهم أين يولد المسيح، فقالوا له: في بيت لحم اليهودية" (متى2: 3-5). وأراد هيرودس أن يقتل المسيح الوليد، فاستدعى المجوس سرا وطلب إليهم أن يبحثوا عن الصبي ويخبروه عندما يجدونه. وبالفعل وجد المجوس الصبي وأمه وأعطوه الهدايا التي جاءوا بها. ويقول عن ذلك إنجيل متى: "ثم إذ أُوحي إليهم في حلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس انصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم" (متى 12:2). ولو كان الله يريد أن يقدم ابنه لكي يُقتل فداء عن البشر، لترك المجوس يعودون إلى هيرودس ويخبرونه بمكان المسيح، ولكنه أَوْحَى إليهم في حلم ألا يعودوا إلى هيرودس، مما يدل على أن إرادة الله تعالى لم تكن تتوجّه إلى قتل الصبي وإنما إلى المحافظة عليه والإبقاء على حياته.(/16)
رابعا: عندما أدرك هيرودس أن المجوس سخروا منه ولم يعودوا إليه استولى عليه الغضب الشديد وأمر بقتل جميع الصبيان الذين وُلدوا في بيت لحم وجوارها من ابن سنتين وما دون ذلك. فماذا حدث؟ لم يترك الله ابنه يموت أو يُقتل بيد جنود هيرودس مما يدل على أن مشيئة الله لم تكن متوجّهة إلى قتله، علما بأن هذه كانت أيضا فرصة أخرى لكي يموت المسيح بغير أن يشترك الشعب كله في حمل خطيئة قتله. إن ما حدث هو أن الله أرسل ملاكا ليظهر في الحلم ليوسف الذي تزوج السيدة مريم، وأمره أن يأخذ الطفل ويذهب به إلى مصر، وكان في هذه الرحلة نجاته من القتل بيد الجنود، مما يضيف دليلا آخر على أن المشيئة الإلهية لم تكن تتجه إلى قتله وإنما إلى الحفاظة على سلامته وصونه من أن يموت بيد أحد من البشر. يقول إنجيل متى: "وبعدما انصرفوا، إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا: قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك لأن هيرودس يطلب الصبي ليهلكه، فقام وأخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف إلى مصر، وكان هناك إلى وفاة هيرودس" (متى2: 13-15).
خامسا: أثناء محاكمة السيد المسيح أمام بيلاطس البنطي الحاكم الروماني، أرسلت إليه امرأته تحذره من أن يُنْزل أي عقوبة بالمسيح، وأخبرته أنها تألمت جدا في رؤيا من أجله. والرؤيا التي رأتها زوجة الحاكم إما أن تكون من الله تعالى أو من الشيطان، وليس هناك من احتمال ثالث. وبطبيعة الحال، لا يمكن أن تكون الرؤيا من الشيطان، لأن الشيطان لا يمكن أن يكون في جانب العدل، فالعدل كان يقضي ببراءة المسيح وعدم الإساءة إليه أو الإضرار به. ومن سوء الأدب في حق الله تعالى أن يُقال إن الشيطان أراد أن يحقق العدل فعمل على تبرئة المسيح، بينما لم يهتم الله تعالى بإحقاق الحق، بل أراد أن ترتكب جموع الشعب خطيئة قتل المسيح من أجل أن تتحقق خطة الفداء. إن هذا الفكر الساقط خليق بأن يكون فكر الشيطان وليس فكر الله الذي هو العدل المطلق وإله المحبة. ويترتب على هذا أن تكون الرؤيا التي رأتها زوجة الحاكم من الله تعالى، وهي بهذا تشابه الرؤيا التي رآها يوسف النجار زوج السيدة مريم عندما أحاط الخطر بالمسيح الوليد، فوجهه الله تعالى عن طريق الرؤيا إلى الذهاب إلى مصر، حيث كان في هذا تحقيق نجاة المسيح من الخطر المحدق به. وهنا أيضا أحاط الخطر بالسيد المسيح u، فاليهود أرادوا أن يحققوا قتله وصلبه، وعلت أصوات الغوغاء مطالبة الحاكم: "اصلبه اصلبه"، ولكن الله أراد تحقيق نجاته، فجعل امرأة الحاكم ترى رؤيا تألمت فيها كثيرا من أجل المسيح، وكانت الرؤيا من الهول والشدة بمكان حتى إنها أرسلت إلى زوجها تحذره أثناء ممارسة عمله في نظر القضية. ولعل سائلا يسأل: ألم يكن من الأوْلى أن يرى الحاكم بنفسه تلك الرؤيا لو أنها كانت من الله فعلا؟ والجواب على هذا السؤال يعزّز الرأي الذي نطرحه، لأن ذلك الحاكم كان فيما يبدو ضعيف الشخصية، فلم يكن رجلا حريصا على إعلاء جانب الحق مهما تكن النتائج، ولو أنه رأى الرؤيا بدلا من زوجته، فربما كان قد تجاهلها إزاء ضغط جموع الناس عليه وتهديدهم إياه كما حدث بالفعل. ولو أنه كان قد رأى الرؤيا وتجاهلها، لما عرفنا بأمر هذه الرؤيا أبدا. ولذلك فقد أرى الله تعالى هذه الرؤيا لزوجته، وجعل أثرها عليها شديدا حتى إنها أرسلت إليه تحذره أثناء نظره في القضية، وأخبرته عن هذه الرؤيا، وبعملها هذا فقد أخبرت العالم كله عن هذه الرؤيا، وبذلك فقد بيّنت أيضا للدنيا كلها أن إرادة الله تعالى كانت تتوجّه إلى تحقيق نجاة المسيح وليس إلى تحقيق قتله وصلبه. ولو كان ذلك الحاكم ذا شخصية قوية لما جرأت زوجته على أن ترسل إليه وهو جالس على منصة القضاء لتخبره عن حلم رأته وتحذره من الإضرار بالسيد المسيح، فإن هذا يُعتبر تدخلا سافرا في شؤون عمله، وإحراجا له أمام حاشيته، بل وتدخلا في إجراءات النظر في القضية نفسها، وما كان لأي قاض أو حاكم يحترم نفسه وعمله أن يسمح لأحد بهذا التدخل السافر في عمله. وفي نفس الوقت، فإن هذا التصرّف من جانب الزوجة يدل على أن تأثير الرؤيا عليها كان شديدا، بل كان مهولا، حتى إنها لم تكترث لكرامة زوجها، ولم تأبه بما يمكن أن ينتج عن تدخلها في إجراءات النظر في القضية، وإنما أصرت على أن تُبلغ زوجها بهذه الرؤيا، وحرصت على أن تحذّره من الإساءة أو الإضرار بالسيد المسيح. وكل هذا يدل بوضوح على أن الله تعالى كان يريد نجاته من القتل والصلب. وفي هذا يقول إنجيل متى: "وإذ كان جالسا على كرسي الولاية أرسلت إليه امرأته قائلة: إياك وذلك البار، لأني تألمت اليوم كثيرا في حلم من أجله" (19:27).(/17)
سادسا: لا شك أن السيد المسيح قد قام بعمل الكثير من المعجزات وقدم لقومه الكثير من الآيات التي تدل على صدقه وأنه مُرسل من عند الله تعالى، ومع ذلك حين سأله بعض الناس أن يقدم لهم آية قال لهم: "جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطى له آية إلا آية يونان النبي، لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال" (متى 12: 39-40). ويونان النبي هو ذو النون أي يونس u الذي التقمه الحوت فنجّاه الله تعالى من الموت وأبقاه حيا في بطنه وأخرجه حيا سليما من بطنه. والمسيح u يقدم نفس مثال يونان النبي ويقول إن الآية التي وقعت ليونان هي وحدها التي يقدمها لذلك الجيل الشرير الفاسق، فكما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، كذلك سوف يكون هو أيضا في بطن الأرض. ومن المعروف أن يونان دخل حيا في بطن الحوت، وظل فيها حيا طوال مدة بقائه فيها وخرج منها حيا، ووجه المماثلة بين السيد المسيح ويونان النبي أن المسيح سوف يدخل أيضا بطن الأرض حيا ويظل فيها حيا طوال مدة بقائه فيها وسوف يخرج منها حيا. إن آية يونان النبي ليست في بقائه مدة معينة في بطن الحوت (أي ثلاثة أيام وثلاث ليال)، ولكن في بقائه حيا طوال هذه المدة المعينة. وكذلك فإن نفس هذه الآية سوف تحدث للمسيح ويبقى حيا في بطن الأرض طوال المدة التي يبقاها في بطن الأرض. وإن لم يكن الأمر كذلك، فلا يكون هناك وجه للمماثلة بين يونان النبي ويسوع المسيح، حيث إن المسيح لم يدخل بطن الأرض إلا في مساء يوم السبت، إذ يقول إنجيل متى: "ولما حل المساء، جاء رجل غني من بلدة الرامة اسمه يوسف، وكان أيضا تلميذا ليسوع، فتقدم إلى بيلاطس يطلب جثمان يسوع، فأمر بيلاطس أن يُعطى له، فأخذ يوسف الجثمان وكفّنه بكتان نقي، ودفنه في قبره الجديد الذي كان قد حفره في الصخر، ودحرج حجرا كبيرا على باب القبر ثم ذهب" (27: 57-60). ويتضح من هذا بجلاء أن دخول يسوع بطن الأرض وقع في مساء يوم السبت، وبقي فيها يوم السبت وليلة الأحد، وخرج منها عند فجر يوم الأحد، أي قبل أن يبدأ يوم الأحد. يقول متّى: "وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظرا القبر، وإذا زلزلة عظيمة حدثت لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه، وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج، فمن خوفه ارتعد الحراس وصاروا كأموات، فأجاب الملاك وقال للمرأتين لا تخافا أنتما فإني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب، وليس هو ههنا لأنه قام كما قال" (28: 1-6). ومن هذا المقطع يتضح أن المسيح كان قد خرج من القبر عند فجر يوم الأحد. وما دام قد ثبت عدم المماثلة بين المسيح ويونان النبي في المدة التي قضاها كل منهما، فلا بد أن تكون المماثلة في الكيفية التي كان كل منهما عليها (أي بقاؤه حيا). وحتى لو كان المسيح قد قضى في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال، فإن آية يونان النبي لم تكن في قضائه مدة معينة في بطن الحوت، وإنما في بقائه حيا في بطن الحوت، والمشابهة في الآية تقتضي أن يكون المسيح قد دخل بطن الأرض حيا، وبقي فيها حيا، وخرج منها حيا. وبهذا ينبغي أن يُفهم التعبير "قام من الأموات" باعتبار أنه تعبير مجازي وليس حرفيا.
سابعا: عندما علم المسيح بأن أعداءه على وشك القبض عليه، وأن المصير الذي ينتظره هو القتل، حزن واكتأب وقال: "نفسي حزينة جدا حتى الموت"، أي أنه يكاد يموت من الحزن على ما ينتظره. فهل من يكون على أهبة الاستعداد لتحقيق المهمة التي جاء من أجلها يشعر بالحزن والاكتئاب أم يشعر بالفرح والسعادة؟ والحجة التي يسوقها جناب القمص ومن هم على شاكلته هي أن الذي حزن واكتأب هو يسوع الإنسان وليس يسوع الإله. ولكن هذه حجة واهية، لأن هؤلاء الذين ينسبون إلى الإنسان يسوع هذا القول، إنما يتهمونه أيضا بأنه جبان رعديد، يخشى الموت في سبيل الله، وعلى هذا فقد كان من الخطأ اختياره أصلا لكي يحل فيه اللاهوت، لأنه ليس أهلا لحمل هذه المسؤولية والمهمة التي من المفروض أنها سوف تحمل الخلاص لكل البشرية بأجمعها. إن الجنود البواسل يضحون بأنفسهم للدفاع عن بلادهم، والطيارون اليابانيون في الحرب العالمية الثانية كانوا يضحون بأنفسهم في عمليات انتحارية من أجل تحقيق النصر لبلادهم، بل إن الكثير من الشباب الذين يفجرون أنفسهم بين يوم وآخر ليقتلوا أنفسهم ويأخذوا معهم الآخرين، يفعلون ذلك بغير أن تكون أنفسهم حزينة حتى الموت، لأنهم يظنون أنهم يقومون بعمل مجيد في سبيل الله أو في سبيل ما يؤمنون به من مبادئ، بصرف النظر عما إذا كان إيمانهم هذا صحيحا أو معيبا. فما بال الإنسان يسوع يجبن عن التضحية في سبيل الله، لو أنه كان يعلم أن هذه هي خطة الله من أجل فداء البشرية. إن تصرف يسوع هذا لدليل واضح على أن مشيئة الله لم تكن أن يموت على الصليب فداء للبشرية.(/18)
ثامنا: تذكر لنا الأناجيل الأربعة أن يسوع أخذ يصلي ويدعو الله أن يجيز عنه كأس الموت على الصليب، فكيف يمكن أن يدعو إنسان بشيء يتعارض مع مشيئة الله، لو أن مشيئة الله كانت فعلا في تحقيق هذا العمل؟ ناهيك أن يكون الله الذي ظهر في الجسد هو الذي يدعو بهذا الدعاء؟ ثم ألم يقل المسيح للناس أن: "كل من يسأل يأخذ ومن يطلب يجد ومن يقرع يُفتح له"؟ فكيف يمكن أن يدعو الابن فلا يسمع له الأب ولا يأبه لسؤاله؟ أليس هو القائل: "أي إنسان منكم إذا سأله ابنه حبزا يعطيه حجرا وإن سأله سمكة يعطيه حية"؟ (متّى9:7) وها هو الابن يسأل الله أن يجيز عنه كأس الموت على الصليب، لذلك لم يكن من المعقول بتاتا أن يخذله الله ولا يستجيب لدعائه، لأنه لم يكن من المعقول أيضا أن يدعو بشيء يتعارض مع مشيئة الله تعالى.
تاسعا: نقرأ في رسالة العبرانيين أن الله استجاب لدعاء المسيح حيث يقول: "الذي قدم في أيام جسده بدموع وطلبات كثيرة للقادر على أن يخلصه من الموت، وسُمع له من أجل تقواه" (عبرانيين7:5). وهنا نجد جناب القمص وأعوانه يقدمون تفسيرات تضحك منها الثكلى، وذلك بسبب ما تثيره من سخرية وما تحمله من تفاهة ولما تدل عليه من تخبط وحيرة. فماذا يقولون؟ يقولون مرة إن الله سمع دعاءه، ولكن ليس بمعنى أنه استجابه ولكن بمعنى أنه استمع إليه فقط، وليس هناك بالطبع أشد حماقة من هذه الإجابة. ولذلك نراهم يقولون مرة أخرى إن الله استجاب لدعائه بأن أقامه من الأموات. ولكن للأسف هذه الإجابة لا وزن لها، لأنه كان يعلم أنه سوف يقوم من الأموات، وقد أخبر بهذا مسبقا، فماذا يضطره إلى أن يدعو بشيء يعرف أنه حتما سوف يتحقق؟ وأخيرا تفتّقت قريحة جناب القمص عن سبب يشرح به معنى استجابة الدعاء، فقال إنه لم يكن يدعو للنجاة من الموت على الصليب، ولكنه كان يدعو للنجاة من الموت بسبب الضرب بالسياط، حيث زعم، بغير أن يقدم أي دليل تاريخي على زعمه هذا، أن الكثيرين كانوا يموتون من الضرب بالسياط، ولذلك فإن الموت الذي كان يدعو الله أن ينجيه منه هو الموت بالسوط وليس الموت بالصلب. ولكن من الواضح أن جناب القمص قد نسي عدة أشياء هامة، إذ أنه نسي أن يقدم دليلا واحدا على صحة زعمه، كما أنه نسي أيضا أن يشرح لنا أن خطة الفداء التي حدثنا عنها على مدى ست حلقات كانت تتطلب أن يموت المسيح على الصليب بالذات وليس بأي طريقة أخرى. وأخيرا فإنه نسي أيضا أن يشرح لنا لماذا لا يحقق موت المسيح بأي وسيلة خطة الفداء لإزالة حكم الموت من البشرية. ويبدو أن جناب القمص قد نسي أيضا أن يقول لنا إن الحكم الأصلي بالموت الذي صدر على آدم وحواء كان "موتا تموتا على الصليب"، ولذلك فلا بد أن يضيف جناب القمص شرطا رابعا في الفادي، إذ لا يكفي أن يكون إنسانا، ولا يكفي أن يكون طاهرا بلا خطية، ولا يكفي أن يكون غير محدود، وإنما يشترط فيه أيضا أن يموت على الصليب. إنه لا يسعنا إزاء هذا إلا أن نقول لجناب القمص: إلعب غيرها، وابحث عن سبب آخر تبرر به دعاء المسيح.
عاشرا: عندما كان المسيح معلقا على الصليب سخر منه رؤساء الكهنة وقالوا جملة فيها تحد لله تعالى ذكرها مرقس في إنجيله حيث قال: "قد اتّكل على الله فلينقذه الآن إن أراده لأنه قال أنا ابن الله" (43:14). والإله الذي يعجز أو يتردد في قبول مثل هذا التحدي هو إله ضعيف خانع لا يستحق أن يكون إلها إلا لمرضى العقول والقلوب. ولا شك أن الله القوي القدير قد قبل التحدي، ولا شك أنه أنقذ نبيه الحبيب، ليس بالطريقة التي كان يتوقعها أولئك الكهنة القتلة، ولكن بالطريقة التي تحفظ حياته، إذ أنهم توهموا أنه قد مات على الصليب، أي شُبّه لهم موته، بينما أبقاه الله حيا، فأنزلوه من على الصليب حيا، وأدخلوه في القبر الذي كان غرفة واسعة حيا، وخرج منه حيا، وحقق الله بذلك وعده وكلمته. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ولا شك أن جناب القمص وأعوانه هم من هؤلاء الذين لا يعلمون، فعسى أن يهديهم الله حتى يعلموا معنى ما يقولون، وإنهم ليقولون على الله منكرا من القول وزورا.
( 15 )(/19)
هذه هي الحلقة الخامسة عشرة في هذه المجموعة من الحلقات التي تردّ على جناب القمّص زكريا بطرس في الحلقات التي قدمها بعنوان "أسئلة عن الإيمان"، والتي حدثنا فيها على مدى ست حلقات عما أسماه "حقيقة الصلب والفداء". وقد سألَتْه السيدة ناهد متولي سؤالا في غاية الأهمية وهو: ما هي بركات الفداء؟ ولا شك أن هذا السؤال محوري وأساسي ويترتب على إجابته أن يقبل الإنسان عقيدة الصلب والفداء أو لا يقبل. وعادة فإن الإنسان بطبيعته، سواء كان مؤمنا أو غير مؤمن، عالما أو جاهلا، حين يرى شيئا فيه مصلحته وفائدته فإنه يسعى لكي يقتنيه ويتملكه. فمن منا يكون جوعانا ويُقدّم إليه أحدٌ طعاما حلالا طيبا شهيا ولا يأكله؟ ومن منا يكون فقيرا أو حتى غنيا ويعرض عليه أحد مبلغا كبيرا من المال الحلال فلا يقبله؟ وعلى هذا، إن كان لعقيدة الصلب والفداء بركات فلا بد أن نقبلها. فما هي يا ترى هذه البركات؟ يقول جناب القمّص إن هذه البركات هي النتيجة والهدف من موت المسيح على الصليب، وقد راح يعددها كما يلي:
أولا: لكي يغفر لنا خطايانا.
ولكن ما الدليل على ذلك؟ إن هناك الكثير من الأديان في الأرض، كالهندوسية والبوذية والزرادشتية واليهودية والإسلام وغيرها. ولكن ليس في أي منها هذه العقيدة المستهجنة التي تصم الله تعالى بأنه لا يستطيع أن يمارس صفة الرحمة، إلا إذا أشبع صفة العدل أولا. فهذه العقيدة تسيء إلى الله تعالى وتجعله مثل المدمنين والسكيرين والمقامرين الذين يريدون أن يمارسوا قوة إرادتهم ويمتنعوا عن هذه الأفعال القبيحة، ولكن العادة التي تمكنت منهم تمنعهم من ذلك لأنها تريد أن تُشبَع أولا. وبالإضافة، في كل هذه الأديان، كما هو في الإسلام، الوسيلة هي أن يكفّر الإنسان بنفسه عن خطاياه، أي يعمل على تغطيتها وإزالة أثرها، وذلك بأن يمتنع عن ارتكاب الخطية، ويعزم على عدم العودة إلى ارتكابها، ويشعر بالندم والأسف على أنه ارتكبها، ويطلب من الله تعالى أن يغفر له خطيئته، فيغفرها الله بفضله ورحمته، ويكفّر له خطيته، أي يغطيها ويزيل أثرها؛ إلا إذا كانت الخطية في حق أحد من الناس أو في حق المجتمع، فعلى المذنب أن يكفّر عن ذلك بأن يعوّض من أخطأ في حقه، سواء كان الفرد أو المجتمع، بالإضافة إلى الخطوات الأربع التي سبق أن ذكرناها. أما المسيحية التي يدعونا إليها جناب القمّص فتقول إن الوسيلة الوحيدة لمغفرة الخطايا هي أن يحل الله في جسد إنسان، ويدفع بذلك الإنسان البرئ إلى الموت على الصليب، بغير أن يتأثر هو بهذا الموت أو الصلب، وذلك حتى يتحقق عدله أولا، ثم بعد ذلك يستطيع أن يغفر الخطايا. وهذه صورة ترفضها النفس السوية التي تفهم ما ينبغي أن يليق بالله وما لا يليق به، أما النفس المضللة التي يخدعونها بالكلام عن المحبة وأن الله تحمّل كل هذا العذاب والشقاء من أجل أن يغفر لنا خطايانا، إلى آخر هذا الكلام الذي لا قيمة له، فهي نفس مسكينة مضللة لا نملك إلا أن ندعو لها الله بالهداية والرشاد.(/20)
وقد يسأل سائل: وما هو الدليل على أن الله يغفر الخطايا في الإسلام؟ نقول إن الإنسان قد يرى ذلك الدليل في الدنيا، وقد يراه في الآخرة. ولكن على الأقل باب التجربة مفتوح أمامه لكي يرى ذلك الدليل في الدنيا. فالإسلام يذكر أن النفس الإنسانية تمر بثلاث مراحل، أدناها النفس الأمّارة بالسوء، وأعلاها النفس المطمئنة، وبينهما النفس اللوّامة. ويستطيع المرء أن يشعر في أي مرحلة هو. فإذا كان المرء يتّبع شهواته ونزواته، ويُشبع مصلحته وأنانيته بصرف النظر عن مصلحة الآخرين، فهو في مرحلة النفس الأمّارة. وإذا كان يشعر بوخز الضمير ويحس بالندم على ما اقترف من عمل قبيح، حتى ولو لم ير الناس ذلك العمل القبيح، فإنه يكون في مرحلة النفس اللوّامة. وإذا امتنع الإنسان عن اقتراف الإثم تماما، بل وابتعد بنفسه وسما بذاته حتى عن مقدّمات الإثم، وكان يجد في نفسه كراهية شديدة لارتكاب الإثم كما يجد كراهية في تناول السموم القاتلة، وكان يفر من الإثم ويبتعد عنه كما يفر من الثعبان السام والوحش المفترس وكما يبتعد عن النار الحارقة، وفي نفس الوقت يشعر أنه يعيش في صحبة الله تعالى وفي معيته، فهو في مرحلة النفس المطمئنة. وقد وضع الله تعالى في الإسلام من التعاليم والتوجيهات ما هو كفيل بأن يعلو بالإنسان من مرحلة النفس الأمّارة إلى مرحلة النفس اللوّامة، ثم يتقدم ويسمو به من مرحلة النفس اللوّامة إلى مرحلة النفس المطمئنة. قد يستطيع الإنسان أن يصل إلى مرحلة النفس المطمئنة وقد لا يستطيع، ولكن على الأقل المجال أمامه مفتوح، والوسائل متاحة، وباب الأمل غير مسدود، والاستمرار في المحاولة والتصميم على الوصول له قيمته، وسوف يأخذه الله في الحسبان، وعلى المرء أن يسعى وليس عليه إدراك النجاح. والكثيرون الكثيرون من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين قد وصلوا من قبل إلى هذه المرحلة، ولذلك يأمرنا الله تعالى أن ندعو في كل صلاة، بأن نستعين بالله، ونسأله أن يكون لنا هاديا على الصراط المستقيم، صراط أولئك الذين أنعم عليهم سبحانه بهذه النعمة وذلك الفضل العظيم.
ثانيا: يقول لنا جناب القمّص إن البركة الثانية من بركات الصليب هي أن الله قد أعاد العلاقة بينه وبين الإنسان، "وفتح السكّة وعمل مصالحة بنفسه، كما يقول بولس: "إن الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه غير حاسب خطاياهم" (2كورنثوس19:5). أي أن الدليل على أن الله قد صالح العالم هو أنه غفر لهم خطاياهم. وبهذا نكتشف أن البركة الثانية هي في الحقيقة مجرد تكرار للبركة الأولى، وحيث إنه لم يثبت أي دليل على وجود البركة الأولى، فلا يوجد أيضا أي دليل على وجود البركة الثانية. أما من ناحية أن الله مصالح العالم بنفسه، فهذا صحيح، من قبل خطية آدم ومن بعدها، وحسب الكتاب المقدس لا دخل للخطية في خصام الله للعالم أو مصالحته. إذ يقول الكتاب أن الله خلق الإنسان ليعمل الأرض، والمرحلة التي قضاها الإنسان في الجنة كانت مرحلة إعداد لكي يحقق هذا الغرض، ولهذا "خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرا وأنثى خلقهم (خلقهم وليس خلقهما، أي أنه يتكلم عن كل البشر وليس عن آدم وحواء فقط)، وباركهم الله وقال لهم أثمروا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض" (تكوين27:1). وما كان الله ليبارك مخلوقات هو في خصام معهم. صحيح أنه يكره لعباده أن يرتكبوا الآثام والمعاصي، لأنهم بذلك يضرّون أنفسهم ويُبعدون أنفسهم عنه، ولكن لأنه يحبهم فهو يريد منهم أن يتوبوا ويعودوا عن الإثم والمعصية، ويطهروا أنفسهم من أثر الخطية، ويقبلوا عليه فيقبل هو أيضا عليهم ويضمهم إليه بكل شوق ومحبة وحنان. وهذا هو بالضبط ما يفعله إخواننا المسيحيون حين يقعون في الخطية، حتى بعد هذه التمثيلية التي اخترعها المخترعون عن الفداء والصليب. فإذا ادّعى جناب القمّص أن الله يغفر خطايا المسيحيين ولا يغفر خطايا المسلمين، فعليه أن يقدم الدليل على ذلك، وهو لن يستطيع ذلك حتى ولو قضى عمره في جهنم النار الأبدية.
ثالثا: يقول جناب القمّص إن البركة الثالثة التي حققتها عقيدة الصلب والفداء، هي تحقيق الخلاص. فيقول: "أعطانا الخلاص، الخلاص اللي بندوّر عليه من زمان، الخلاص من الخطية، الخلاص من الشيطان، الخلاص من الموت الأبدي، خلاص!".(/21)
ويُذكّرني جناب القمّص بصديق عزيز عرفته منذ أيام الطفولة، وهو إنسان طيب ومخلص، خفيف الظل يحب المرح ويبذل أقصى ما في وسعه لمساعدة الآخرين، ولكن فيه عيبا صغيرا، وهو أنه يحب الكذب، غير أن كذباته كانت تثير الضحك ولا تضر أحدا بتاتا، وكنا عندما نجتمع مع بعض الأصدقاء، يأخذ صاحبنا هذا في سرد الحكايات الكاذبة علينا لنضحك ونمرح. وفي مرة قال لنا إنه لم يجد أحدا يكذب عليه، ففكر أن يكذب على نفسه، وأقنع نفسه بأنه على موعد مع صديق له بميدان التحرير في القاهرة، ورغم أنه يسكن بالقرب من هليوبوليس، إلا أنه ارتدى ملابسه ونزل في حر الصيف، وركب الباص وذهب إلى ميدان التحرير لمقابلة صديقه في الموعد المحدد، ووقف في حر الصيف ينتظر صديقه، وبالطبع فإن صديقه لم يحضر لأن الموضوع كله كان كذبة كذبها على نفسه. وضحكنا جميعا ونحن نعلم أن كل هذه القصة لم تحدث، لأنه بالطبع كان يكذب علينا.
ووجه الشبه بين صديقي هذا وجناب القمّص، هو أن كليهما كان يكذب ويكرر الكذب حتى يصدقه، مع أن صديقي هذا كان يكذب كذبات بريئة من أجل الضحك والمرح فقط، أما كذبات جناب القمّص فهي تحيد بالمرء عن الطريق المستقيم. فجناب القمّص يقول لنا إن بركة الصلب والفداء أعطتنا الخلاص، (1) الخلاص من الخطية، (2) الخلاص من الشيطان، (3) الخلاص من الموت الأبدي. فهل يقدم لنا جناب القمّص دليلا واحدا على ما يدّعيه من خلاص؟ هل جناب القمّص وأتباعه ممن يؤمنون بالصلب والفداء، الذين نالوا البركات التي يزعم أنها من بركات الصليب، هل نالوا الخلاص من الخطية وآثارها؟ هل لا يأكلون من عرق جبينهم ولا يقضون أيام حياتهم بالتعب؟ هل السيدات المسيحيات المؤمنات بالصليب لا تكثر أتعاب حبلهن ولا يلدن بالوجع؟ وهل صحيح أن هؤلاء المسيحيين المؤمنين قد انفكت عقدتهم وتحرروا من الخطية فلم يعودوا يرتكبون الخطايا ولا الآثام، أم أنهم كبقية خلق الله من اليهود والهندوس والمسلمين وغيرهم من أتباع بقية الأديان؟ أين هو الدليل يا جناب القمّص على أن ما تقوله حقيقة وليس ترديدا للأكاذيب التي ظل غيرك يرددها طوال مئات من السنين؟ وأين الدليل على أنك قد نلت الخلاص من الخطية؟
وهل صحيح يا جناب القمّص أن الإيمان بعقيدة الصلب والفداء قد أعطاكم الخلاص من الشيطان؟ هل أصبحتم الآن آمنين من إغواء الشيطان، فلا يستطيع الشيطان أن يؤثر عليكم، وقنع بممارسة نشاطه على المسلمين فقط وأتباع الأديان الأخرى؟ إن المثل العامي يقول: "أسمع كلامك أصدقك، أشوف أمورك أستعجب"، فإن من يرى أعمال المسيحيين في القرن العشرين فقط يأخذه العجب والدهشة من الخراب والدمار الذي نشروه في العالم من خلال حربين عالميتين تسببتا في قتل خمسين مليون قتيل ومئات الملايين من الجرحى، ولا يزال الأبرياء في مصر يفقدون حياتهم أو يعيشون مقطوعي الأرجل أو الأيدي بسبب الألغام التي زرعها المتحاربون المسيحيون، سواء كانوا من الألمان أو الطليان أو الإنجليز في الحرب العالمية الثانية. وقل لي بربك يا جناب القمّص: من غير المسيحيين اخترع الإرهاب وخطْف الطائرات وترويع المدنيين الآمنين؟ من الذي كان يضرب المدنيين في لندن بالقنابل ومن الذي حوّل المدن الألمانية إلى أتون من النار في الحرب العالمية؟ وإن كنت تحتجّ بأن هؤلاء كانوا أهل سياسة ولم يكونوا أهل دين، فهل تعني أنهم كانوا كافرين بهذه المسيحية التي تدعونا إليها؟ وهل تزعم يا جناب القمّص أن من اخترعوا القنابل النووية وأسقطوها على هيروشيما ونجازاكي وحصدوا أرواح مئات الألوف من المدنيين لم يكونوا يؤمنون بعقيدة الصلب والفداء؟ إن تاريخ المسيحية والمسيحيين يا جناب القمّص مخضب بدماء الضحايا المساكين، ولا عجب، فجميع هؤلاء الذين سفكوا كل هذه الدماء كانوا يتّبعون الحكمة التي اخترعها كاتب مجهول قال "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة"، ومن هنا فقد تفوّق المسيحيون في العالم كله على جميع البشر في المسكونة في سفك الدماء. وأما الشيطان الذي تزعمون أنكم نلتم الخلاص منه ببركات الإيمان بعقيدة الصلب والفداء، فقد وقف مشدوها في عجب، لا يكاد يصدق أنه من الممكن أن يتفوّق عليه بنو البشر من المؤمنين بعقيدة الصليب!
وتدّعي يا جناب القمّص أنكم نلتم أيضا الخلاص من الموت الأبدي، مع أنكم تموتون كما تموت بقية الحيوانات والحشرات، فهل لديك دليل واحد على نوالكم الخلاص من الموت الأبدي، أم أن هذا الأمرَ مؤجل إلى الحياة الأخرى، ودعواكم فيه كدعوى أتباع بقية الأديان؟
رابعا: وأخيرا يا جناب القمّص تدّعي أن البركة الرابعة، وهي التي تعتبرها البركة العظمى للإيمان بعقيدة الصلب والفداء، هي أنكم نلتم الحياة الأبدية التي كنتم محرومين منها. ولكن هذه البركة مثل سابقتها، لا دليل عليها في هذه الحياة الدنيا، وإنما هي مؤجلة أيضا إلى الحياة الأخرى، ودعواكم فيها كدعوى أتباع بقية الأديان.(/22)
وكما ترى يا جناب القمّص أنه لا توجد أي بركة خاصة لكم، ملموسة أو محسوسة أو مرئية، للإيمان بعقيدة الصلب والفداء، وهي ليست سوى مجرد عقيدة مثل بقية العقائد التي تقوم على الإيمان، سواء كانت عقائد إسلامية أو مسيحية أو يهودية.
ونراك في النهاية يا جناب القمّص تتعجب وتقول: "المشكلة إن ربنا عمل خطة الفداء عشان يقترب إلينا ويخلصنا ويكفّر خطايانا ويدينا حياة أبدية، والمصيبة السودة إن الناس مش قابلة مبادرة الله الحبّية". والمصيبة السودة حقا يا جناب القمّص هي أن خطة الفداء هذه ما كانت لتنجح إلا إذا عصى الناس الله، أي أنها تقوم على ارتكاب المعصية، ولا يمكن أن تنجح إلا بارتكاب المعصية، فهل يمكن أن تكون هذه هي خطة الله؟ المصيبة السودة هي أن خطة الفداء هذه التي اخترعتموها تقوم على الإساءة إلى ذات الله تعالى، وتصوّره والعياذ بالله كالمعتوه الذي لا يعرف ماذا يفعل. فما دام يعلم أن الإنسان سوف يخطئ بسبب الشيطان، فلماذا قرر منذ البداية أن تكون عقوبة الخطية هي الموت الأبدي؟ لو أنه اختار عقوبة أخرى يمكن أن يغفرها بالتوبة والاستغفار لما كانت هناك مشكلة تُحتّم عليه أن يتجسد ويموت على الصليب، ولكنكم أنتم الذين خلقتم المشكلة حين زعمتم أن عقوبة الموت تعني الموت الأبدي في جهنم النار الأبدية. لقد أوقعتموه بذلك في حيص بيص، خاصة وقد زعمتم أيضا أن صفة العدل لديه تتعارض مع صفة الرحمة، ثم رحتم تخترعون القواعد وتضعون القوانين، فزعمتم أيضا أن الخطية تُقاس بقيمة الْمُساء إليه، مع أن هذا يخالف جميع القوانين والأعراف المعمول بها، وبذلك جعلتم من خطية إنسان واحد خطية غير محدودة باعتبار أن الله غير محدود. ثم أضفتم إلى كل هذه الاختراعات كذبة أخرى على لسان شخص مجهول الهوية زعمتم أن ما كتبه يُعتبر كلاما مقدسا، وكان ما كتبه هو "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة". وبذلك فقد وضعتم إلهكم في مشكلة عويصة: فجعلتموه عاجزا عن أن يمارس الرحمة قبل أن يُشبع صفة العدل أولا. وهو لا يستطيع أن يغفر قبل أن يسفك دم إنسان بريء طاهر لم يرتكب إثما، وبذلك ناقضتم بأنفسكم صفة العدل التي جعلتموها الصفة الأولى الغالبة على جميع الصفات الأخرى لديه. فماذا كان من أمر ذلك الإله العاجز ذي الصفات المتناقضة؟ إنه يريد أن يغفر ولكنه لا يستطيع، فلا بد أولا من سفك دم إنسان بريء. وهنا يأتي ذلك الإنسان البريء، ويخلص إلهكم من مشكلته، فيقول له: يا أبتي لا تحزن ولا تيأس، فسوف نجد مخرجا من هذه الورطة، وهي أنك تأتي وتتجسّد فيّ، فأنت غير محدود، وأنا إنسان مثل الإنسان الذي تريد أن تفديه، وعليك أن تسفك دمي يا أبتي حتى تنحل عقدتك، وتُشبع عدلك بالانتقام من الخطية الملعونة، وبعدها تستطيع أن تغفر لهؤلاء البشر الذين تحبهم "موت"!.
وهكذا نبتت خطة الفداء، غير أن أحد أركانها الهامة كان ناقصا، فقد سأل الابن أباه قائلا: ولكن هناك مشكلة يا أبتاه. فسأل الأب ابنه قائلا: ما هي تلك المشكلة يا ابني الحبيب الذي بك سُررت؟ فسأل الابن: من الذي سوف يسفك دمي؟ لو أنك فعلت هذا لقال الناس ماذا حدث لهذا الأب المعتوه الذي سفك دماء ابنه؟ ولو أنا فعلت هذا لقال الناس ماذا حدث لهذا الابن المجنون الذي أقدم على الانتحار؟ فماذا نفعل؟ ولقد كانت بالفعل مشكلة عويصة، حتى إنها كادت تقضي على الفكرة كلها، وأدت بالفعل إلى تأجيل التنفيذ لمدة أربعة آلاف سنة انقضت بعد وقوع خطيئة آدم. ويبدو أن الموظف القديم في بلاط الأب، الذي كان يعمل عنده رئيسا للملائكة، والذي أدرك منذ زمن طويل عجز ذلك الإله وتناقض صفاته، فحاول أن يقوم بانقلاب ضده ويستولى على العرش، ولكنه لسبب أو لآخر لم ينجح في انقلابه، فنَزل إلى الأرض.. أقول يبدو أنه كان يعلم عن طريق جهاز مخابراته بما يجري بين الابن وأبيه، ولعله أراد أن يتوَدّد قليلا إلى الأب حتى يعيده إلى منصبه الرياسي القديم، فعرض عليه خدماته وقال له: أنت تعلم أن كل بني البشر تحت سلطتي الآن، وأنا أستطيع أن أساعدكما في تنفيذ خطة الفداء التي تريدان تنفيذها أو أعمل على فشلها. فلو أن اليهود قبلوا المسيح وآمنوا به ولم يصلبوه، فلن تنجح خطة الفداء، ولن يُسفك ذلك الدم البريء الطاهر، وبذلك لن تحصل المغفرة. أما إذا تدخلت أنا، ومنعتهم من الإيمان بالمسيح، ودفعتهم أنا إلى صلبه وسفك دمه، فسوف تنحل العقدة وتنجح خطة الفداء. فتم الاتفاق وكان ما كان!!(/23)
هل رأيت المصيبة السودة يا جناب القمّص؟ هل رأيت على ماذا تقوم خطة الفداء التي تدعونا إلى الإيمان بها؟ لو أن ذرة من العقل بقيت في رأسك يا جناب القمّص، لكنت تلفظ هذه العقيدة كما تلفظ السم من فيك. والمصيبة السودة حقا يا جناب القمّص هي أنك لا ترى المصيبة السودة التي تؤمن بها وتدعو الناس إليها. المصيبة السودة هي أن بعض الأبرياء من المسلمين سليمي النية انخدعوا بكلامك وظنوا أن التراب تبر وأن ما يلمع هو ذهب، مع أنه حديد ملتهب يحرق ويميت. المصيبة السودة يا جناب القمّص هي أنك أنت وأمثالك لا ترتدعون عن نشر هذه الخزعبيلات، ولا تمتنعون عن إضلال الناس. ولكن تأكد يا جناب القمّص، كما ذكرت لك في البداية، إنني وغيري من المخلصين المحبين حقا للإنسان والإنسانية، سوف نتصدى لك في كل مكان، وسوف نكشف جميع ألاعيبك ومصايبك السودة، وأعود وأكرر أنك أنت الذي بدأت بالعدوان، وأنت الذي فتحت على نفسك هذه الجبهة التي أنت لست أهلا لها، وأنت الذي تطاولت على الإسلام، فأعطيتني الحق في الدفاع والهجوم، وقد حذرتك منذ البداية أني لن أدير لك الخد الآخر، ولن أكيل لك الصاع صاعين، بل سوف أكيله صاعات وصاعات، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
كلمة أخيرة أوجهها إلى إخواننا الأقباط والمسيحيين في مصر وجميع أنحاء العالم. لم يكن القصد أبدا من سلسلة "أجوبة عن الإيمان" هو جرح مشاعركم، ولا التعدّي على معتقداتكم، فلكل إنسان الحق في أن يؤمن بما يشاء، ومن حقه أن يدعو الآخرين أيضا إلى الإيمان بما يؤمن هو به، ولكن عليه أن يحترم مشاعر الآخرين، ولا يسيء إلى مقدساتهم. ولو كان جناب القمّص قد اتبع هذا لكنا احترمناه، واستمعنا إليه كما نستمع إلى الألوف من المبشرين بالمسيحية في العالم. ولكنه أساء الأدب، وتحدّى المسلمين وعلماءهم، وتحدّى شيخ الأزهر، وطالب أن يتولى المسلمون الرد عليه، ثم راح يتعمّد تكرار كل ما سبق الرد عليه من اعتراضات أثارها أعداء الإسلام، سواء كانوا من المستشرقين الغربيين أو من الهندوس. واستخدم من الألفاظ والنعوت في حق نبينا ورسولنا محمد r أسوأ الألفاظ، وراح يحط من قيمة الدين الإسلامي، ويتهم القرآن الكريم، ثم يدّعي أنه كان يسأل "أسئلة عن الإيمان". ولذلك فإن كلامنا كله موجه إليه، وليس إلى الشرفاء من أتباع المسيح u، ولا إلى الكرام من رجال الدين المسيحي الذين يعملون على تعليم أبناء كنيستهم شئون دينهم ومكارم أخلاقهم.
ومرة أخرى أدعو المسلمين جميعا أن يهبوا لهذا الجهاد الجديد، جهاد القلم واللسان، لا بالسيف والسنان، ولا بالعنف والإرهاب، ولا بالتكفير والتفجير. فليطرح المسلمون خلافاتهم جانبا، وليتخلوا عن أساليب التكفير لبعضهم البعض، وليتحدوا من أجل مواجهة هذا الخطر الجديد. كان الله في عونهم، وسدد خطاهم، وأيدهم بروح من عنده.
( 16 )
التقينا قبل الآن في العديد من حلقات هذا البرنامج الذي اخترنا له اسم "أجوبة عن الإيمان"، للرد على الحلقات التي قدمها جناب القمص زكريا بطرس بعنوان "أسئلة عن الإيمان"، واشترَكَت في تقديم البرنامج مع جناب القمص السيدة ناهد محمود متولي التي أعلنت في الحلقة الأولى من البرنامج أنها قد تحوّلت من الإسلام إلى الدين المسيحي. ونحن بالطبع نحترم إرادة السيدة ناهد متولي، بل ونلتمس لها العذر، لأنها ربما لم تجد فيما كان متاحا لها من مصادر ومعلومات الردود الشافية المقنعة التي تقنعها بوجود الخلل في عقيدة الصلب والفداء التي حدثنا عنها جناب القمص على مدى ست حلقات، وقمنا بالرد عليه في الحلقات الخمس عشرة الماضية.
ولما كان من الواضح أن السيدة ناهد محمود متولي تريد أن تتحرّى الحق، وتحترم عقلها وفكرها، ولا تريد أن تؤمن بشيء يتناقض مع العقل ويتعارض مع الحق، فنحن نطلب منها أن تسأل نفسها بعض الأسئلة، كما نطلب من كل إنسان مسيحي شريف أن يسأل نفس الأسئلة: هل من العدل أن يكون حجم العقوبة يزيد زيادة فاحشة عن حجم الجريمة؟ يعني هل من العدل أن تكون عقوبة مخالفة إشارة المرور مثلا أو مخالفة القانون بسرقة قالب شيكولاته من محل تجاري هي السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة ثم الإعدام بعد انتهاء مدة السجن، بل وإعدام كل الذرية التي تولد في هذا السجن؟ هل يصح أن يُنسب إلى الله تعالى مثل هذا التصرّف؟ وهل إذا تصرّف كائن ما بهذا الأسلوب فهل يصح أن يكون هذا الكائن هو الإله المعبود أم أنه يكون كائنا ظالما، فاقد العقل، عديم الرحمة، بعيدا عن أبسط قواعد العدل؟ هل يصح أن يكون هذا الكائن هو الإله العادل؟(/24)
وإذا افترضنا، جدلا، لسبب أو لآخر أن العقوبة قد قُضيت عن المذنب، ألا يكون من مقتضيات العدل أن تُرفع عنه العقوبة أم تظل هذه العقوبة مستمرة عليه وعلى نسله وذريته؟ فلو كان الله قد تجسد بالفعل في الإنسان يسوع المسيح، ومات هذا الإنسان نيابة عن الإنسان الخاطئ، وفدى البشرية حقا كما يقول جناب القمص، ألم يكن من العدل أن تزول العقوبة وينعدم أثرها، أم أنكم ترون أن العدل هو أن تستمر العقوبة حتى بعد أن تم الفداء؟ أرجو من السيدة ناهد محمود متولي ومن كل المسيحيين الشرفاء العقلاء المفكرين أن يجيبوا على هذه الأسئلة، ليس بصورة علنية أمام كاميرات التلفاز والقنوات الفضائية، ولكن أمام ضمائرهم وعقولهم، وأمام الإله الذي يعبدونه ويصفونه بأنه إله محبة. هل الإله الذي هو محبة يمكن أن يكون بهذه القسوة فيحكم على الإنسان وعلى كل ذريته وعلى البشرية جمعاء بهذا الحكم القاسي الجائر، لمجرد أن آدم وحواء خالفا أمر الله؟ وما دمتم تؤمنون بأن المسيح قد دفع الثمن بدلا منكم، وأن العدل قد تحقق، فلماذا لم يرفع الله عنكم هذا الحكم؟ أين هي الرحمة ولماذا لم تظهر في هذه الدنيا؟ لماذا يأكل المسيحيون المؤمنون من عرق جبينهم طوال حياتهم ثم يموتون بعد ذلك كما يموت الكافرون من غير المسيحيين؟ ولماذا لا تزال النساء المسيحيات المؤمنات يُعانين من ألام الحمل وأوجاع الولادة، تماما كما تعاني كل أنثى تحمل وتلد، سواء كانت من البشر المؤمن أو الكافر أو حتى من الحيوانات؟ ولعله قد قيل لكم إن هذا الحكم سوف يُرفع في الحياة الأخرى، وأنتم معشر المسيحيون المؤمنون الذين آمنتم بموضوع الصلب والفداء، سوف تنالون الحياة الأبدية التي وُعدتم بها. وحتى لو كان هذا صحيحا فإنه لا يزال يخالف قواعد العدل، لأن من مقتضيات العدل أن تزول العقوبة بعد دفع الثمن، وليس من العدل أبدا أن تستمر العقوبة لحظة واحدة بعد أن تم دفع الثمن.
كيف يمكن قبول هذا الظلم والجور والقسوة من الله تعالى الرحيم الكريم، خصوصا وأنتم تؤمنون بهذه الكفارة التي تظنون أنها رفعت عنكم آثار الخطية التي ورثتموها؟ لقد صدر عليكم الحكم بأن تأكلوا من عرق جبينكم مثل بقية الناس، ولكن هذه العقوبة لم تُرفع عنكم بعد إيمانكم بالمسيح وبالكفارة، ولن تُرفع عنكم في الحياة الأخرى، لأن في الحياة الأخرى لن يكون هناك أي طعام على الإطلاق. وكذلك الحال بالنسبة للنساء اللاتي كتب الله عليهن أن يلدن بالوجع وتكثر أتعاب حملهن في الدنيا، ولن تُرفع عنهن هذه العقوبة في الملكوت، بل يُفاجأن بأنهن قد حُرمن من الحمل والولادة كلية؟ إن العقوبة التي فُرضت على النساء في الدنيا لن تُرفع عنهن أبدا، لأنهن لن يستبدلن بها حملا بلا آلام ولا ولادة بغير أوجاع، فكما يقول إنجيل متى: "لأنهم في القيامة لا يُزوّجون ولا يتزوّجون" (متى30:22) إن الرجال لن يستبدلوا الطعام الذي كانوا يأكلونه بعرق جبينهم طعاما يأكلونه بكل راحة وبغير تعب. والنساء لن يستبدلن الحمل المؤلم والولادة الموجعة بحمل غير مؤلم وولادة بدون أوجاع. مسكينة هي حقا المرأة المسيحية المؤمنة.. فقد صدر عليها حكم في الدنيا، هو أن تحمل بالألم وتلد بالوجع، ولن يزول هذا الحكم عنها أبدا، مهما كانت درجة إيمانها، ومهما كان الثمن الذي دفعه المسيح بالموت على الصليب، إن كان قد مات فعلا على الصليب، لأنها في الحياة الأخرى لن تكون لديها الفرصة بأن تحمل بغير ألم ولا أن تلد بغير وجع.
وهنا قد يُسرع جناب القمص ليقول إن إعفاء المرأة في الحياة الأخرى من الحمل والولادة كلية، يُعتبر نعمة وراحة لها، وأنها قد حصلت على هذه النعمة ببركة إيمانها بالصلب والفداء. ولكن يا جناب القمص.. أنسيت أن هذه النعمة وهذه الراحة (إن كانت تُعتبر حقا نعمة وراحة) سوف تتمتع بها أيضا النساء الكافرات؟ أم أن نيافة القمص يرى أن عقوبة آلام الحمل وأوجاع الولادة سوف تستمر مطبقة على النساء الكافرات وهن يعانين عذاب الحريق في أتون نار جهنم الأبدية؟ وما الفرق يا جناب القمص بين النساء المؤمنات اللاتي ينلن هذه النعمة والراحة في الحياة الأخرى، وبين النساء الكافرات التي ينلن نفس هذه النعمة والراحة حين يصلن إلى سن اليأس في هذه الحياة الدنيا؟ وكيف يكون الحرمان من الحمل والولادة كلية نعمة خاصة بالمسيحيات المؤمنات في الفردوس، مع أنهن ينلن نفس هذه النعمة والراحة في الحياة الدنيا حين ينقطع منهن الحيض، ويشترك معهن في نوالها جميع النساء من كل الأديان الأخرى؟ وهل يمكن أن يُقال عن المرأة العاقر إنها تتمتع في الدنيا بنوال هذه النعمة والراحة، شأنها في ذلك شأن المسيحيات المؤمنات في الحياة الأخرى؟ هل لديك جواب على هذه الأسئلة يا جناب القمص؟(/25)
إنني أتمنى أن يقدم جناب القمص أجوبة شافية مقنعة على هذه الأسئلة، وأن يعلن هذه الأجوبة في حلقاته التي يقدمها حتى نستطيع أن ندرسها ونحللها ونفهمها ونقتنع بها إن كانت أجوبة صحيحة، أو نفنّدها ونبين مواطن الخطأ والخطل والخلل فيها إن كانت أجوبة غير صحيحة. ولكني أقول له مقدما إنه لن يصح إلا قول الله تعالى، وكل عقيدة تختلف مع قول الله يكون من المستحيل أن تكون صحيحة، لأن مؤلفها يكون مثل المجرم الذكي الذي يرتكب جريمة يظن أنها الجريمة الكاملة، ولكن مهما كانت درجة ذكائه، فلا بد أن يترك أثرا يدل عليه، وخاصة مع انتشار الوسائل التقنية الحديثة. لقد تغير العالم يا جناب القمص، ولم يعد الأمر كما كان في الزمن الماضي أيام جاليليو، عندما أجبرت الكنيسة هذا العالم الجليل على أن ينكر العلم الذي اكتشفه ورآه، بعد ما عرف أن الأرض ليست هي مركز الكون، غير أن رجال الكهنوت لم يكونوا ليقبلوا هذه الإهانة للسيد المسيح ولله الخالق الذي خلق الإنسان ووضعه في كوكب لم يكن هو مركز الكون. غير أن الحقيقة ظهرت رغم أنوفهم، والحق اتضح رغم إرادتهم، فقد ينجح البعض في خداع بعض الناس لبعض الوقت، ولكنهم لن ينجحوا في خداع كل الناس لكل الوقت.
والحقيقة أن الإنسان يجب ألا يستغرب من سذاجة بعض الناس في الإيمان بأشياء قد تبدو أقرب إلى الخرافة منها إلى الحقيقة. إذ يبدو أن بعض الناس لديهم ولع بالإيمان بالأمور الغريبة أو الظواهر العجيبة، بينما يبدو أن البعض منهم يكتفون بوراثة الإيمان من الأهل والآباء والأجداد، ويقتنعون بما سمعوه في مجتمعهم، سواء كان ذلك المجتمع هو مجتمع الكنيسة أو المسجد. ولعل هذا ما دفع بعض الناس إلى اعتبار الشيطان كائنا ذا قدرات تنافس قدرات الله تعالى، حتى إن بعض الناس يعبدون الشيطان من دون الله. وجناب القمص يريد منا أن نؤمن بأن الشيطان كان رئيسا للملائكة، ولكنه فسد ودخله الغرور، وحاول أن ينافس الله تعالى في حكمه ومكانته، وكان هذا سبب سقوطه وتحوّله من رئيس للملائكة، الذين يُضرب بهم المثل في الخير والطيبة والوداعة، إلى شيطان رجيم يدفع إلى الشر والسوء والفساد. كذلك يريد منا جناب القمص أن نؤمن بأن الله محبة، وأنه يحب الجنس البشري بشكل خاص، حتى إنه على استعداد لأن يحل في جسد إنسان ويدفع به إلى الموت لكي يتمكن هو من مغفرة خطايا البشر. ولكن جناب القمص يقول لنا إن الله الذي هو محبة لم يتأثر لا بالموت ولا بالصلب، ولم يشعر بأي ألم ولم يعان من أية متاعب، وإنما كان الإنسان البريء هو الذي دُقّت يداه ورجلاه بالمسامير، وكان الإنسان هو الذي تألم وتعذّب، وكان الإنسان هو الذي بُصق عليه وتُوّج بإكليل الشوك، وأما إله المحبة الذي هو موجود في كل مكان كما يقول جناب القمص، فكان قابعا داخل المسيح لا يشعر بشيء ولا يتأثر بشيء. ونحن لا نعرف أين هو دليل المحبة في كل هذه التمثيلية التي حكاها لنا جناب القمص، سواء كانت تمثيلية الصلب والفداء أو تمثيلية الثالوث والتجسّد. والغريب أن كل نقيصة تُنسب ليسوع الإنسان، وكل ضعف يوصف به يسوع الإنسان، وكل عجز يكون من شأن يسوع الإنسان، بينما يُنسب الحب والتضحية للآب الذي يُقال إنه بذل ابنه الوحيد، بينما يقول لنا جناب القمص إن الآب هو نفسه الابن، والابن حل في جسد إنسان، والإنسان هو الذي قام بكل العمل وتحمل كل الألم ولم يشعر الابن بشيء، فأين هي التضحية، وأين هو البذل، وأين هي المحبة؟(/26)
إننا نؤمن بلا شك أن الله هو منبع المحبة في الكون، فهو الرحمن الرحيم الولي الودود والحليم الكريم، ولذلك فإن الإسلام لا ينسب إلى الله تعالى عملا فيه ظلم وقسوة، كما يفعل جناب القمص. وإلا فكيف يبرر جناب القمص هذا الحكم الظالم القاسي الذي أصدره إله المحبة الذي يؤمن به على الجنس البشري؟ وإذا كان إله المحبة يحب فعلا الجنس البشري، فلماذا لم يصدر عليه حكما أقل قسوة أو أكثر رحمة؟ إننا عندما نقارن بين خطيئة الشيطان وخطيئة الإنسان، نجد أن خطيئة الشيطان أكبر حجما وأشد فسادا وأسوأ تأثيرا. ومع ذلك، فلم يحدث شيء للشيطان سوى إنه فقد وظيفته ونزل إلى الأرض، وأما الإنسان فقد حُكم عليه حسب كلام القمص بالموت الروحي أي الانفصال عن الله، وبالموت الأدبي أي الخزي والعار، ثم بالموت المادي أي العذاب المستمر بغير انقطاع في جهنم النار الأبدية. فهل هذه المعاملة القاسية الظالمة تُعبر عن محبة الله للإنسان؟ هل الحب يعني أن يترك الإله آدم وحواء يقعان تحت تأثير الشيطان وخداعه بغير أن يحذرهما منه؟ هل الحب يعني أن يترك الإله آدم وحواء ينجبان ذرية وهما تحت هذا الحكم القاسي، فترث الذرية هذا الحكم أيضا؟ هل الحب يعني أن يعاني الجنس البشري كله من ويلات هذا الحكم القاسي؟ هل الحب يعني أن يحل الإله في جسد إنسان ويدفع بهذا الإنسان إلى الموت والصلب والعذاب والشقاء بغير أن يتاثر هو بأي شيء من كل هذا؟ إن كان هذا هو الحب الذي يريد منا جناب القمص أن نتعلمه من الإله الذي يصفه بأنه محبة، فليس بيدنا سوى أن نترحم على شاعر الأغاني الذي كتب للسيدة أم كلثوم أغنية "حب إيه اللي انت جاي تقول عليه".
الغريب أن هذا الحب الذي يحدثنا عنه جناب القمص يبدو أنه موجّه للشيطان أكثر مما هو مُوجّه للجنس البشري. فلم نسمع أن على الشيطان أن يأكل طعامه بالتعب وبعرق جبينه، ولم نسمع بأن على الشيطانات أن يحملن بالألم ويلدن بالوجع، بل على العكس.. إننا نقرأ في الكتاب المقدس أن الشياطين يتسلطون على البشر ويدخلون أجسامهم ويعيشون فيها ويسببون لهم الكثير من المتاعب والآلام والأمراض، وكأن الآلام والأوجاع التي كتبها عليهم إله المحبة لم تكن كافية فأضاف إليها الآلام والأوجاع التي تسببها الشياطين. حتى الحيّة التي ترمز للشيطان أعفاها الله من حكم اللعنة الذي أصدره على الأرض وعلى البشرية كلها، إذ كان من المفروض أن يكون الحكم على الحيّة هو: "على بطنك تسعين وترابا تأكلين"، ولكن الحيّات في العالم لا تأكل التراب، وكثير من الحيّات التي تعيش في البحار لا تسعى على بطونها بتاتا، وإنما تسبح في الماء شأنها في ذلك شأن بقية الأسماك. فلماذا كل هذا الانحياز إلى جانب الشياطين؟ حتى خطة الفداء التي يقول جناب القمص إن الله وضعها من أجل تخليص العالم من حكم اللعنة، ما كانت لتنجح لولا تدخل الشيطان، فلو أن الناس آمنوا بالمسيح كما آمن أهل نينوى بيونان النبي، لما كان من الممكن أن تنجح خطة الفداء، فكان لا بد من أن يتدخل الشيطان لكي يصرف الناس عن الإيمان بالمسيح ويدفعهم لأن يصلبوه، وبذلك يتم سفك دمه لأنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة، ولا يستطيع إله المحبة أن يغفر خطايا البشر، وعجبي!!
غير أن أعجب العجائب وأغرب الغرائب في العقائد المسيحية هي عقيدة الثالوث والتجسد. والثالوث معناه، حسب كلام القمص، أن الله واحد لا شريك له، ولكنه في نفس الوقت مُكوّن من ثالوث. وقد حدثنا جناب القمص على مدى ثمان حلقات عن هذا الموضوع، أربع منها عن الثالوث وأربع عن التجسد. ولا شك أن الشخص المسلم حين يسمع كلمة الثالوث يتصور على الفور أن إخواننا المسيحيين يعبدون ثلاثة آلهة، ولكن جناب القمص يؤكد أن هذا الفهم غير صحيح، وأن المسيحية تؤمن بإله واحد لا شريك له. وقد قامت السيدة ناهد متولي بتقديم العديد من الأسئلة المعدّة من قبل بالطبع، وتفضل جناب القمص بالإجابة عليها ليشرح معنى الثالوث، ومعنى التجسد. وسوف نذكر أسئلة السيدة ناهد وملخص لردود القمص عليها، ثم نبين الخطأ في هذه الردود، إن كان بها خطأ.
وكان السؤال الأول هو: "لماذا تعقيد المسيحية بتعبير الثالوث؟ لماذا لا تقول إن الله واحد وانتهى الأمر؟(/27)
وردّ جناب القمص فقال إن هناك حقيقة جوهرية لا بد أن ندركها، وهي أننا إذا أردنا أن نعبر لطفل صغير عن حقيقة علمية أو شعورية، فيجب أن نبسّطها له، ولكن بعد أن ينضج الشخص ويتكامل، يريد أن يفحص ويفهم جوهر الشيء. وكذلك الحال عند فهم الله. فلما كانت البشرية في مرحلة الطفولة الفكرية، كانت تُعطى لها الحقائق مُبسّطة، فيُقال لها إن الله واحد يملأ الدنيا وحسب، ولكن بعد أن بدأت البشرية تنضج، ومع الحضارة والثقافة والعلم والمنطق والإدراك، فهي تريد أن تفحص وتفهم ما هو الله؟ وهل هو مثلنا؟ هل له وجود؟ هل هو عاقل؟ هل هو حي؟ أم أنه فكرة؟ ثم يشرح لنا جناب القمص أن الكتاب المقدس أوضح حقيقة أن البشرية كانت في مرحلة الطفولة وأنها بدأت تنضج، ولذلك فالمسيحية تقول إن الله واحد وأنه أيضا ثالوث. ويستشهد جناب القمص بما جاء في الكتاب المقدس من كلام بولس الرسول في رسالته الأولى لأهل كورنثوس (3: 1و2) فيقول: "وأنا أيها الأخوة لم أستطع أن أكلمكم كروحيين (أي ناضجين في الروح) بل كجسديين، كأطفال في المسيح (ولذلك أكلمكم ببساطة) سقيتكم لبنا لا طعاما لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون".
هذا ملخص وافٍ وأمين لما أجاب به القمص، والفكرة التي يطرحها جنابه واضحة، وهي أن البشرية كانت في الماضي في مرحلة طفولة فكرية، فكان يقال لها إن الله واحد وكفى، ولكن بعد أن نضجت البشرية أصبح من الممكن أن يُقال لها إن الله واحد وثالوث أيضا. طبعا جناب القمص لم يشرح بعد معنى الثالوث، وهو سيفعل ذلك فيما بعد، ولكنه أراد هنا أن يشرح فقط لماذا لم يقل الله من قبل إن الله ثالوث، واكتفى فقط بأن يقول إنه واحد. إذ حسب كلام القمص كانت البشرية في مرحلة طفولة فكرية، ولكن لما نضجت البشرية في عهد السيد المسيح، حسب كلامه، أصبح من الممكن أن تفهم البشرية حقيقة الأمر، وتفهم أن الله واحد وثالوث أيضا.
ولكن الغريب في الأمر أن جناب القمص يروي لنا ما كتبه بولس الرسول في رسالته إلى أهل كورنثوس، ويقول إن بولس نفسه يذكر أنهم لم يكونوا بعد ناضجين في الروح، ولذلك لم يستطع أن يكلمهم كروحيين بل كجسديين، أي أنهم كانوا لا يزالون أطفالا في المسيح، ولذلك فإنه كان يسقيهم لبنا لا طعاما، أي أنه كان يكلمهم ببساطة، لأنهم لم يكونوا بعد يستطيعون أن يهضموا الطعام الذي يقدمه لهم، أي لا يستطيعون أن يفهموا الكلام الذي يحدثهم به.
وهكذا نرى أننا أمام بعض المتناقضات، فمن ناحية يقول القمص إن البشرية كانت في مرحلة الطفولة الفكرية قبل المسيحية، ولكن لما وصلت البشرية إلى مرحلة النضج الكافي، جاءت المسيحية لتشرح للبشرية أن الله ثالوث كما أنه واحد. ومن ناحية أخرى يقول إن الناس لم يستطيعوا أن يفهموا كلام بولس لأنهم كانوا لا يزالون أطفالا في المسيح. فإذا كانوا لا يزالون أطفالا ولا يستطيعون أن يهضموا الطعام الذي يقدمه لهم، فلماذا جاءت المسيحية في ذلك الوقت؟ ولماذا لم تتأخر إلى أن ينضج الناس ويستطيعوا أن يفهموا معنى الثالوث؟
وقد يقول جناب القمص إن جزءا كبيرا من البشرية قد نضج بالفعل، وأصبح مستعدا لفهم معنى الثالوث، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن جميع البشرية قد نضجت بالفعل، وقد تصادف أن أهل كورنثوس كانوا من بين هؤلاء الذين لم ينضجوا بعد، ولذلك كان بولس يكلمهم كأطفال في المسيح. قد يكون الأمر كذلك فعلا، ولذلك فإننا نتوقع أن يكون السيد المسيح نفسه قد تولى شرح عقيدة الثالوث، وقام بتفهيم الناس الذين نضجوا معنى الثالوث. كذلك نتوقع أن يكون موضوع شرح الثالوث هو الموضوع الغالب على تعليم السيد المسيح، لأنه لم يأت إلا بعد أن نضجت البشرية، وأصبحت قادرة على فهم معناه. ولكن شيئا من هذا لم يحدث، ولم يتحدث السيد المسيح بتاتا في أي من مواعظه عن موضوع الثالوث، بل والأهم من كل هذا أنه لم ينطق أبدا بالمرة بكلمة الثالوث. أليس هذا أمر غريب وعجيب حقا؟(/28)
ومع ذلك، فإن جناب القمص ينسب إلى السيد المسيح أنه هو أول من ذكر الثالوث، ونراه يحكي لنا ما رواه إنجيل متّى في الإصحاح (19:28) الذي قال: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس". ويؤكد جناب القمص على أن المسيح لم يقل "بأسماء" وإنما قال "باسم"، مما يدل على أن الآب والابن والروح القدس لم يكونوا ثلاثة وإنما كان هذا الثالوث واحدا. فما هي حقيقة الأمر؟ هل كان الثالوث ضمن تعليم السيد المسيح؟ هل هو الذي علم الناس هذا الثالوث؟ هل الثالوث يعني ثلاثة أم يعني واحدا فقط؟ وإن كان يعني واحدا فما الحكمة من اعتباره ثالوثا؟ هذه كلها أسئلة مهمة، وقد تولى جناب القمص الإجابة عليها، وسوف نتناول في الحلقات القادمة هذه الإجابات التي قدمها جناب القمص لنرى ما إذا كان جناب القمص قد أجاب بالحق والصواب أم أنه قد خانه التوفيق وابتعد عن الصواب كما هي عادة القمص عندما يقدم لنا تفسيرا لإحدى العقائد التي اخترعها الإنسان ولم تأت من عند الله العزيز الحكيم.
( 17 )
هذه هي الحلقة الثانية التي نتناول فيها موضوع الثالوث الذي حدثنا عنه جناب القمص زكريا بطرس في حلقاته التي قدمها باسم "أسئلة عن الإيمان"، ونحن نرد عليه بهذه الحلقات التي اخترنا لها اسم "أجوبة عن الإيمان"، وذلك لكي نفنّد ما يقوله القمص، ونكشف الخلل والخطأ في ما يقدمه لنا من عقائد ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يقل بها أي نبي من الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى منذ عهد آدم إلى عهد المسيح u.
وقلنا في الحلقة السابقة إن جناب القمص أجاب على سؤال من السيدة ناهد متولي تقول فيه: "لماذا تعقيد المسيحية بتعبير الثالوث؟ ولماذا لا تقول إن الله واحد وانتهى الأمر"؟ فقال إن البشرية لم تكن قد نضجت فكريا بعد، فكان من الضروري تبسيط الأمور لها لكي تستطيع أن تستوعب معناها، ولذلك كان يُقال في الماضي إن الله واحد يملأ الدنيا وحسب. ولكن لما نضجت البشرية في عهد المسيحية أصبحت قادرة على أن تفهم معنى الثالوث، وعلى ذلك جاءت المسيحية بتعبير الثالوث لكي يفهم الناس من هو الله في حقيقة الأمر. وقد نسب جناب القمص إلى السيد المسيح أنه كان أول من ذكر الثالوث، فحكى لنا ما رواه إنجيل متّى في الإصحاح (19:28) الذي قال: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس". وقلنا إن جناب القمص حرص على أن يؤكد أن السيد المسيح لم يقل "بأسماء" وإنما قال "باسم"، مما يدل في رأيه على أن الآب والابن والروح القدس لم يكونوا ثلاثة وإنما كان هذا الثالوث واحدا. فهل صحيح هؤلاء الثلاثة ليسوا ثلاثة وإنما هم واحد؟ وهل صحيح أن الدليل على أنهم واحد وليسوا ثلاثة هو أن السيد المسيح قال "عمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" ولم يقل "عمّدوهم بأسماء الآب والابن والروح القدس"؟ ما هي حقيقة الأمر؟ هل كان الثالوث ضمن تعليم السيد المسيح فعلا؟ هل كان هو الذي وضع عقيدة الثالوث؟ هذه كلها أسئلة مهمة، وسوف نحاول في هذه الحلقة دراسة الإجابات التي قدمها جناب القمص لنرى ما إذا كان جناب القمص قد أجاب بالحق والصواب أم أنه قد خانه التوفيق وابتعد عن الصواب كما هي عادة القمص عندما يقدم لنا تفسيرا لإحدى العقائد التي اخترعها الإنسان ولم تأت من عند الله العزيز الحكيم.
أولا: هل كان الثالوث من تعليم السيد المسيح؟
لو كان "الثالوث" من تعليم السيد المسيح، لوجدنا أنه يتكلم عنه في معظم كلامه وأكثر مواعظه. فالمفروض أن البشرية قد نضجت، كما يقول القمص، وأصبحت في شوق أن تفهم من هو الله، ولذلك فمن الأوْلى أن يتولى السيد المسيح بنفسه شرح مفهوم الثالوث لكي تطفئ البشرية ظمأها للمعرفة وتعرف حقيقة الله تعالى. ولكن ها هي الأناجيل الأربعة تشهد بكذب هذا الافتراض، وتؤكد أن المسيح لم يتحدث قط في موضوع الثالوث، ولم يشرح أبدا ما هو الثالوث، ولم يقل بالمرة أن الثالوث هذا واحد أو ثلاثة، بل ولم ينطق بتاتا بكلمة "ثالوث". أليس هذا شيئا عحيبا يا جناب القمص؟
ثانيا: هل المسيح هو الذي وضع عقيدة الثالوث"
لو أن البشرية كانت قد نضجت بالفعل وأصبحت تتوق للفهم كما تقول يا جناب القمص، فلماذا سكت المسيح عن شرح عقيدة الثالوث، إن كانت هناك بالفعل عقيدة تختص بهذا الموضوع؟ ألا يدل هذا يا جناب القمص على أن هذه العقيدة ليست من تعليم السيد المسيح، وإنما هي من العقائد التي أُضيفت وأُقحمت ظلما وعدوانا على المسيحية، ونُسبت كذبا وزورا للسيد المسيح؟
ثالثا: هل ذكر كلمة "بِاسم" بدلا من "بأسماء" تدل على أن الثلاثة واحد؟(/29)
وبالطبع فإن جناب القمص سوف يحتج بأن السيد المسيح نفسه هو الذي ذكر الآب والابن والروح القدس، وهذا صحيح، ولكن هل مجرد ذكر ثلاثة أشياء يجعل منها عقيدة إيمانية؟ لقد تكلم المسيح كثيرا عن الآب، وتكلم أيضا عن الابن، وتكلم كذلك عن الروح القدس، وصحيح أنه ذكر هؤلاء الثلاثة في عبارة واحدة، ولكن من الذي قال إن ذكرهم في عبارة واحدة يجعل منهم إلها واحدا؟ يقول جناب القمص إن السيد المسيح قال: "عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" ولم يقل: "عمدوهم بأسماء كذا وكذا وكذا". ويعلق جناب القمص على هذا فيقول: "ما هو لو كانوا تلاتة كان قال "بأسماء"، ولكن لأن الثالوث ده واحد يبقى "باسم". وهذا الكلام الذي يقوله القمص غير صحيح بالطبع. وهكذا يعطينا جناب القمص مثالا صارخا على كيفية اختراع العقائد التي يبنونها على افتراضات خاطئة. أليس من الصحيح يا جناب القمص أن أقول مثلا: "أنا أدعوك باسم الحرية والإخاء والمساواة أن تُخلص لوطنك"، مع أن الحرية تختلف عن الإخاء وكل منهما يختلف عن المساواة؟ فالثلاثة ليست واحدا، ومع ذلك فقد استعملت كلمة "بِاسم" ولم أقل "بأسماء". أليس من الصحيح أن أقول: "أنا أستحلفك باسم الله وكتابه وآياته أن تقول الحق"، مع أن ذات الله تعالى تختلف عن كتابه وتختلف عن آياته؟ ورغم أن هذه الثلاثة ليست واحدا في الجوهر والذات، إلا أنها واحد في الهدف، أي أن الله يأمر بالحق، وكتابه يأمر بالحق، وآياته تأمر بالحق. وكون أن بينهم هدفا مشتركا لا يجعل من الثلاثة واحدا في الذات. وهذا بالضبط ما قصده السيد المسيح حينما قال: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس"، لأن هؤلاء الثلاثة يحضّون على التوبة وطلب المغفرة، والمعمودية كانت من أجل التوبة ومغفرة الخطايا، فيكون معنى الجملة: "عمّدوا الأمم كما قال الآب، وكما قال الابن، وكما قال الروح القدس"، أو "عمّدوهم من أجل الآب، ومن أجل الابن، ومن أجل الروح القدس"، أو "عمّدوهم لكي يكونوا محبوبين لدى الآب، ولدى الابن، ولدى الروح القدس"، أو "عمّدوهم كي يشهد لهم الآب، ويشهد لهم الابن، ويشهد لهم الروح القدس". كل هذه الاحتمالات واردة وصحيحة وهي لا تجعل من الثلاثة واحدا في الذات، ولكنهم واحد في الهدف، أو في الغرض، أو في العمل، أو في كونهم يشهدون للشخص الذي يتعمّد من أجل مغفرة الخطايا. وهذا هو ما قاله يوحنا في رسالته الأولى (7:5) حيث كتب يقول: "الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب والكلمة والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم واحد" أي أنه اعترف أوّلا بأنهم ثلاثة، لأن لهم ذوات مختلفة، فكل ذات منهم تختلف عن الذات الأخرى، ولكنهم في نفس الوقت واحد من حيث إنهم يشهدون للمؤمنين. وعلى كل حال يا جناب القمص، لقد ثبت أن هذه الجملة المذكورة في رسالة يوحنا لم تكن موجودة في النسخ القديمة، وإنما هي إضافة تمت فيما بعد، ولذلك فقد تم حذف هذه الجملة من الترجمات الحديثة.
وبهذا الشرح يتضح يا جناب القمص أن السيد المسيح لم يُعلم الناس أبدا عقيدة التثليث، أو الثالوث كما تسميها، ولن تجد في الأناجيل الأربعة أنه نطق ولو مرة واحدة فقط بكلمة "ثالوث". وعلى هذا فلا تتهم أحباءكم المسلمين بأنهم لا يريدون أن يفهموا. يقول جناب القمص:
"ما هي القضية والمشكلة إن أنا لما آجي أكلم أي أخ أو أخت من أحبائنا المسلمين، هوه قافل ودانه. ليه؟ حاكم عليّ مبدئيا إني كافر ومُشرك، فمش عايز يدّيني ودانه لَحْسن يبقى مُشرك زيّي، فاتح شفتيه عشان يتكلم ويكسّر اللي انت بتقوله، لكن معندوش استعداد إن هوّه يسمع ويفهم خشية إنه يقتنع".
ومن الواضح أن كلامك خطأ للمرة الثانية يا جناب القمص، فأحباؤكم المسلمين يسمعون جيدا، ويفهمون جيدا أيضا، ولذلك فإنهم يرون الخلل فيما تقوله، ويعلمون الخطأ فيما تحاول أن تدعوهم إليه. وحبذا يا جناب القمص، لو أنك أنت الذي فتحت عقلك لتفهم حقيقة ما تقوله، بدلا من أن تفتح شفتيْك لتدعو الناس إلى ما هو غير صحيح، مما يحط من شأن الله تعالى، وينال من وحدانيته، ويُشرك معه الإنسان العاجز فيجعل منه إلها آخر. تعالى الله عما يشركون!
ويحاول جناب القمص أن يشرح للسيدة ناهد متولي فكرة الثلاثة الذين هم واحد فيقول:(/30)
"الكتاب بيقول إن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله. طبعا الله ليس له صورة ومثال، يعني لا مناخير ولا عنين، مفيش. إمّال قَصَدْ بكده إيه؟ يقولك لأ، قَصَدْ بذلك إن الإنسان ذو عقل ونطق وروح. آدي إيه؟ التلاتة: عقل، ونطق، وروح. والإنسان أيضا جسد له وجود جسداني مادي، وله عقل بيفكر بيه، وله روح بيحيا بيه. يبقى الإنسان الواحد فيه التلاتة. ما نقدرش نقول إيه: "ناهد تلاتة"، لأ، ناهد واحد، بس لها عقل. وجود مادي، موجود قدام عينيّه، وعقل بتفكر بيه وبتتكلم بيه، وروح بتحيا بيه. يبقى الكائن، الكائن الحي، لا بد إنه يكون له وجود حقيقي، ولا بد إنه يكون عاقل، ولا بد إنه يكون حي. فده بالظبط الله بالفكر الناضج".
وبصرف النظر عن الأغلاط والتخبطات في كلام القمص، الذي يقول مرة إن الثلاثة هم عقل ونطق وروح، ومرة أخرى يقول إنهم وجود وعقل وروح، فدعونا نقبل الصيغة النهائية التي قررها القمص لله تعالى والتي يرى أنها تُعبر عن "الفكر الناضج"، وهو يقصد بالطبع فكر المسيحية الناضج الذي يؤمن به نيافته. فهو يرى أن الله: "له وجود، الله ما هواش مجرد فكرة، ....، لا الله موجود، كائن مالي السما والأرض، ....، والله عقل، ولاّ يخلق إزاي بشر عاقلين؟" والله حي. إذن فكر المسيحية الناضج، الذي وصلت إليه البشرية بعد أن اكتمل نضجها، والذي أصبحت تستطيع أن تستوعبه بعد نضوجها، والذي يظن جناب القمص أنها لم تكن تستطيع أن تستوعبه في فترة طفولتها الفكرية، هو أن الله موجود، وأنه عاقل، وأنه حي، وهذا هو الثالوث المسيحي كما يزعم جناب القمص.
غير أن هذا الذي يسميه القمص ثالوثا ليس ثالوث وجود، ولكنه ثالوث صفات. أي أنه لا توجد ثلاث ذوات أو ثلاثة آلهة، وإنما توجد ثلاث صفات، وهذه الصفات الثلاث هي صفات لذَاتٍ واحدة. ولو كان الأمر كذلك يا جناب القمص لما كان هناك اعتراض على ذلك، سوى أن الفكر المسيحي الناضج قد ضيّق الصفات الإلهية وحصرها في ثلاث صفات فقط، هي الوجود والعقل والحياة، ولقام الاعتراض على ادّعاء القمص أن البشرية في طفولتها لم تفهم هذا الثالوث، واقتضى الأمر الانتظار أكثر من 4000 سنة من بعد آدم حتى تنضج البشرية، فيأتي الدين المسيحي لكي يُعلم البشرية شيئا كانت تعلمه منذ البداية. فهل كان آدم يجهل أن الله موجود وأنه عاقل، وأنه حي؟ وهل كان نوح أو البشرية التي في عهده تجهل هذه الحقيقة؟ وهل كانت البشرية في عهد إبراهيم أو موسى أو داود أو سليمان أو زكريا تجهل هذه الحقيقة؟ وهل أحباؤكم المسلمون يرفضون هذا الثالوث لأنه لا يعني سوى هذه الحقيقة؟ لا يا جناب القمص. فالمسلمون يقرأون في كتابهم العزيز على رأس كل سورة آية البسملة، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم، وهذه الآية تبين ثلاث صفات لله تعالى، فهو الله أي أنه كائن له صفة الوجود، وله صفة الرحمانية، وله صفة الرحيمية. فآية البسملة تذكر لله تعالى ثلاث صفات، ومع ذلك لم يقل أحد من المسلمين العقلاء إن الله ثالوث. قد تكون جملتك صحيحة لو أنها كانت: إن الله واحد له ثلاث صفات، ولا يمكن أن يُقال إن هذه الصفات الثلاث هي واحدة وإنما هي ثلاث، لأن كل صفة منها تختلف عن الأخرى. ولتقريب المعنى أكثر لكي يستطيع أن يستوعبه جناب القمص يمكن أن نقول: إن الله واحد وهو ثالوث الصفات، ولكننا لا نستطيع أن نقول إن الله واحد وهو ثالوث، ثم نسكت. فالجملة الأولى، أي إن الله واحد وهو ثالوث الصفات، تعني أن الله كائن واحد له ذات إلهية واحدة، ولكن له ثلاث صفات مختلفة. وأما الجملة الثانية، أي إن الله واحد وهو ثالوث، فهي جملة متناقضة، لأنها تعني أن الله كائن واحد وفي نفس الوقت تعني أنه ثلاثة كائنات، وهذا ما يرفضه الفكر المسلم، كما يرفضه العقل السليم. وعلى هذا، فإن كلمة "ثالوث" إذا استُخدمت في جملة فيها ذكر الله تعالى لا بد أن تأتي مميزة ولا تأتي مطلقة، أي لا يصح أن نقول إن الله ثالوث ونسكت، وإنما لا بد أن نضيف تمييزا لكلمة ثالوث، فنقول إن الله ثالوث الصفات، أو إن الله ثالوث البركات، أو إن الله ثالوث الرحمات، ولكن لا يمكن أن نقول إن الله ثالوث الوجود، ولا أن نقول إن الله ثالوث ونسكت بعدها، فالجملة في هذه الحالة تعني أنه ثالوث الوجود، لأن كلمة ثالوث في هذه الحالة تكون صفة لله، وليست تمييزا للصفات وغيرها.(/31)
والمثال الذي قدمه جناب القمص للسيدة ناهد متولي عن نفسها يؤيد ما أقوله. فهو يقول: "ما نقدرش نقول ناهد تلاتة، لأ.. ناهد واحد"، أي أن لها ذات واحدة، ولكن لها: "وجود مادي موجود قدام عينيّة، وعقل بتفكر بيه وبتسأل بيه وبتتكلم بيه، وروح بتحيا بيه". هذه الصفات الثلاث التي ذكرها جناب القمص للسيدة ناهد متولي هي صفات تتصف بها ذاتها ولكنها ليست ثلاث ذَوات لها. لذلك لا نستطيع أن نقول إن السيدة ناهد ثلاثة، وإنما هي شخص واحد فقط، وذات هذا الشخص تتصف بأنها كائن موجود، ولكن هذا الوجود ليس هو ذات الكائن، وإنما هو صفة لذات الكائن، فالشيء قد يكون له وجود ولكن قد لا يكون له ذات، وإنما يكون مجرد فكرة كالسلام مثلا، كما قال جناب القمص، وقد يكون خُلُقا كالصدق مثلا، وقد يكون عاطفة، كالحب أو الكراهية مثلا، فكل هذه الأمور لها وجود ولكن ليس لها ذات. وعلى نفس النمط نستطيع أن نقول إن للسيدة ناهد متولي عقل، تفكر به وتسأل به وتتكلم به كما يقول جناب القمص، ولكن هذا العقل ليس هو ذات السيدة ناهد متولي، وإنما تستخدمه السيدة ناهد كوسيلة للتفكير والسؤال والكلام، وشأنه في ذلك مثل العين التي تستخدمها السيدة ناهد لرؤية الطلعة البهية لجناب القمص، أو مثل أرجلها التي تستخدمها في الانتقال من مكان لآخر. وبنفس الأسلوب نقول إن للسيدة ناهد متولي روحا تحيا بها، ولكن روحها ليست هي ذاتها، وإنما هي وسيلة الحياة للسيدة ناهد، وإذا فارقتها بعد عمر طويل، تفقد ذاتها الحياة في هذه الدنيا، وتُعتبر ذاتها بالنسبة لأهل الدنيا ذاتا ميتة. فالروح إذن وسيلة للحياة، تماما كما أن الجهاز الهضمي وسيلة لهضم الطعام، وجهاز الإخراج وسيلة لإخراج فضلات الطعام، والجهاز التناسلي وسيلة للعمل على بقاء النوع، وهكذا. إذن فالذات واحدة، ولكن لها صفات متعددة، اختار جناب القمص أن يذكر منها ثلاثة هي الوجود، والعقل، والحياة. فإذا أراد جناب القمص أن يطبق هذا الكلام على الله تعالى، فعليه أن يضع في اعتباره دائما أن الله ذات واحدة ولها صفات متعددة، سواء اعتبرها ثلاثا أو أكثر، فهذا لا يغير شيئا من الأساس الذي نتحدث عنه، وهو أن الله واحد، وأن كلمة "ثالوث" إن كان لا بد من استخدامها، فلا يصح أن تُستخدم في وصف الله تعالى وإنما تستخدم في وصف صفاته، إذا كانت المسيحية الناضجة ترى أنه ثالوث الصفات.
غير أن جناب القمص، ببراعته المعتادة في خداع المشاهد والسامع والقارئ لكلامه، لا يقصد أبدا أن الله ثالوث الصفات، وإنما هو يقدم للمشاهد أمثلة تبدو أنها معقولة ولا غبار عليها، ثم ينتقل به دون أن يشعر ليضع في ذهنه ما يعني أن الله ثالوث الوجود. وتعالوا لنرى كيف يفعل هذا.
يقول جناب القمص: "الله موجود، كائن مالي السما والأرض، مش كده؟ فله وجود، هذا الوجود بنسميه الآب لأنه مصدر الوجود".
الله موجود، هذا حق، ولكن هذا الوجود هو صفة لذات الله، وليست الصفة هي مصدر الوجود، وإنما ذات الله هي مصدر الوجود. وعندما نقبل كلام القمص، فإننا نقبل ضمنيا أن ذات الله وصفة الله قد أصبحتا شيئا واحدا، وهذا خطأ مهما استشهد عليه جناب القمص بعلماء الدنيا كلها، لأنه يترتب على هذا أن الله إذا كان ثالوث الصفات، فهو يكون أيضا ثالوث الذات، وهذا محال. أما أن يُقال إن الثالوث هو واحد والواحد ثالوث، وأن هذا سر لا يفهمه إلا المؤمنون من أمثال جناب القمص، فهذا هو الكلام الذي لا يمكن أن يقبله أي مسلم أبدا، لأن الثالوث يعني ثلاثة عددا، والثلاثة عددا لا يمكن يكونوا واحدا عددا. والفقرة التي استشهد بها جناب القمص من رسالة يوحنا تعترف بهذا فتقول "وهؤلاء الثلاثة هم واحد" أي أن هؤلاء الثلاثة عددا هم واحد في الهدف، أو في الغرض، أو في العمل، ولكنهم ليسوا واحدا عددا. ونحن هنا أمام ثلاث صفات عددا، أي الوجود والعقل والحياة، فإذا كانت هذه الصفات الثلاث عددا هي عين الذات الإلهية التي هي من المفروض أن تكون واحدة عددا، لترتب على هذا أن تكون الثلاثة عددا تساوي الواحد عددا وهذا محال. وأرجو يا سيادة القمص ألا تستشهد بما تنسبه للمعتزلة بأنهم قالوا إن الصفات الإلهية هي عين الذات الإلهية، فقد تقصّيتُ هذا الأمر وعرفت أن المعتزلة لم يقولوا هذا. ولكن حتى ولو كانوا قالوه فقد أخطأوا، وقولهم لا يُعتدّ به، وهو ليس ملزما لجميع المسلمين، خاصة وأنه يتعارض مع العقل والمنطق ومبادئ الحساب التي تقول إن الثلاثة لا يمكن أن تساوي واحدا من الناحية العددية.(/32)
مرة أخرى أشرح لك القضية يا جناب القمص. أنت تقول إن الله واحد لا شريك له، ونحن نتفق معك في هذا، أي أن الله ذات واحدة عدديا. ثم أنت تقول إن لله ثلاث صفات هي الوجود والعقل والحياة، ونحن لا نمانع في أن نقول إن الذات الإلهية الواحدة يمكن أن تتصف بهذه الصفات الثلاث وبغيرها، والمسلمون يعرفون بوجه عام أن لله تسعا وتسعين صفة، بل وأكثر من ذلك، ولكن ليس موضوعنا الآن أن نعدّد صفات الله. فإذا جئتَ بعد هذا لتقول إنكم تطلقون على صفة الوجود اسم
الآب لأن الآب هو مصدر الوجود، فأنتم في الحقيقة تعتبرون أن صفة الوجود هي مصدر الوجود. ولما كانت الذات الإلهية هي بالفعل مصدر الوجود، فيترتب على هذا أن تكون صفة الوجود والذات الإلهية هما اسمين لشيء واحد، أي أن الصفة هي عين الذات الإلهية. وحيث إنك أقررت أن للذات الإلهية ثلاث صفات عددية هي الوجود والعقل والحياة، فتكون النتيجة أن الصفات الثلاث عدديا تساوي الذات الإلهية الواحدة عدديا، أي أن الثلاثة عدديا يساوي الواحد عدديا، وهذا محال.
ومرة أخرى نبسّط الموضوع أكثر حتى يستطيع جناب القمص أن يفهمه: لو أن في يدي اليمنى كمية عددية وفي اليد اليسرى كمية عددية أيضا، ولكني لا أعرف ما هو العدد في اليد اليمنى ولا العدد في اليد اليسرى. فحينئذ لا أعرف ما إذا كانت الكمية في اليد اليمنى تساوي الكمية التي في اليد اليسرى أو تختلف عنها. فإذا عرفت أن العدد في اليد اليمنى هو خمسة، والعدد الذي في اليد اليسرى هو أيضا خمسة، فالآن أعرف أن الكمية الموجودة في اليد اليمنى تساوي الكمية الموجودة في اليد اليسرى.
وبنفس المنطق لو افترضت أن ما في اليد اليمنى هو الذات، وما في اليد اليسرى هو الصفة، فلا نعرف إذا كانت الذات تساوي الصفة أو تختلف عنها. ولكن إذا قلنا إن الذات هي مصدر الوجود، والصفة هي مصدر الوجود أيضا، فيترتب على هذا أن تكون الذات تساوي الصفة. وحيث إنك تقول إن الله واحد عدديا، أي أن له ذاتا واحدة، وفي نفس الوقت تقول إن له ثلاث صفات، وحسب كلامك فإن الذات تساوي الصفة، فيترتب على هذا أن الواحد عدديا يساوي الثلاثة عدديا وهذا محال.
إن المخرج الوحيد من هذه الورطة يا جناب القمص، هو أن تعترف كما اضطرت المسيحية إلى الاعتراف بأن الذات الإلهية هي متعددة أيضا، فهم في الواقع ثلاثة آلهة ولكن تجمعهم ألوهية واحدة، فهناك الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم في ألوهية واحدة. أما أن تزعم بأن المسيحية التي تدعونا إليها تؤمن بإله واحد لا شريك له، فهذا غير صحيح إلا إذا وجدت طريقة حسابية لإثبات أن الثلاثة عدديا تساوي الواحد عدديا.
ولما كان جناب القمص يستخدم الفكاهة أحيانا في حديثه، فلا بأس من أن ننهي هذه الحلقة بذكر حادثة طريفة وقعت بالفعل في مدينة لندن العاصمة البريطانية. إذ حدث أن ذهب إمام مسجد لندن إلى إحدى المكتبات المتخصصة في بيع الكتب المسيحية، لشراء بعض الكتب التي كان في حاجة إليها. ويبدو أنه لم يجد ما كان يبحث عنه، ولكنه وجد بعض الكتيبات الصغيرة التي تبحث في بعض الموضوعات المسيحية، وكان ثمن كل منها جنيها استرلينيا واحدا. فانتقى ثلاثة كتب منها وذهب إلى صاحب المكتبة ليدفع له ثمنها. ووضع الرجل الكتب الثلاثة في حقيبة وناولها إياه وهو يقول: "ثلاثة جنيهات"، يقصد ثمن الكتب الثلاثة. فأعطاه إمام المسجد جنيها واحدا على سبيل المزاح ليرى كيف يكون تصرفه. فنظر الرجل إلى الجنيه وقال: عفوا، ولكنك أخذت ثلاثة كتب. فقال إمام المسجد: نعم، أعرف هذا. فقال الرجل: عليك إذن أن تدفع ثلاثة جنيهات. فقال إمام المسجد: ألستم تقولون في المسيحية إن الثلاثة تساوي واحد والواحد يساوي ثلاثة؟ إذن فاعتبر أن هذا الجنيه يساوي ثلاثة جنيهات. فابتسم الرجل وقال: يا صديقي.. هذا الكلام في الكنيسة، أما هنا فالواحد يساوي واحد والثلاثة تساوي ثلاثة. وضحك الرجلان ودفع إمام المسجد الجنيهين الباقيين وانصرف.
( 18 )
بفضل الله تعالى نلتقي مرة أخرى في هذه السلسلة من الحلقات بعنوان "أجوبة عن الإيمان" لنرد بها على الحلقات التي قدمها جناب القمص زكريا بطرس بعنوان "أسئلة عن الإيمان". وقد تناولنا في الحلقتين السابقتين موضوع الثالوث، وذكرنا أن كلمة "ثالوث" تعني مجموعة من ثلاثة أشياء أو ثلاثة أشخاص. فإذا جاء ذكر الله تعالى مع كلمة "ثالوث" فإنها تعني أن الله ثالوث الذات، أي أنه ليس إلها واحدا، والعياذ بالله، بل هو ثلاثة آلهة. ولذلك لا بد أن تُذكر كلمة "ثالوث" مميزة إذا جاءت في حق الله تعالى، كأن يقال: الله ثالوث الصفات، أي أنه ذو صفات ثلاث، أو أنه ثالوث البركات، أي أن له بركات ثلاث، وهكذا.(/33)
كذلك فقد ذكرنا أن القمص زكريا بطرس يخدع مشاهديه ويدّعي أن المسيحية التي يدعو إليها تؤمن بإله واحد لا شريك له. فمن ناحية نراه يقول إن الله واحد له صفات ذاتية، أي صفات خاصة بذَاته، وهذه الصفات أنه كائن له وجود، وأنه عاقل، وأنه حي. ومن ناحية أخرى نراه يقول إن هذا الوجود نسميه الآب لأنه مصدر الوجود. والخلل في هذا الكلام هو أن وجود الله صفة من الصفات العديدة التي تتصف بها ذاته، وذاته سبحانه وتعالى هي مصدر الوجود، فإذا اعتبرنا أن صفة الوجود هي مصدر الوجود، لتحتم أن تكون صفة الوجود هي نفسها ذات الله تعالى التي هي بالفعل مصدر الوجود. ويترتب على هذا أن صفة الله تكون هي نفسها ذات الله. وعلى هذا، عندما نقول إن الله ثالوث الصفات، وهي الوجود والعقل والحياة، فمعنى هذا أحد أمرين: (1) إما أن الله ثالوث الذات كما أنه ثالوث الصفات، ما دامت الصفة هي عين الذات؛ (2) أو أن ثالوث الصفات يساوي واحد الذات، ما دامت الصفات هي عين الذات. ويترتب على هذا أن تكون الصفات الثلاث عدديا تساوي الذات الواحدة عدديا، وهذا محال.
ويذكر جناب القمص أن صفة الوجود تسمى الآب على سبيل التشبيه، لأن الآب هو مصدر الوجود. وصفة العقل تسمى الابن على سبيل التشبيه أيضا، لأن العقل ابن الوجود، لأنه خرج من الوجود. وأما الروح فيقول إنها تسمى الروح القدس لأن الله حي، أي أنه موجود حي بالروح.
وما قلناه عن صفة الوجود يتكرر ذكره عن كل من صفة العقل وصفة الحياة. فهذه الصفات هي صفات للذّات الإلهية. فالذّات الإلهية هي التي تُوصف بالوجود، والذّات الإلهية هي التي تُوصف بالعقل أو بالحكمة، والذّات الإلهية هي التي تُوصف بالحياة. فإذا قلنا إن صفة الوجود تُسمى الآب لأنها مصدر الوجود، تصبح صفة الوجود والذات الإلهية شيئا واحدا. وإذا قلنا إن صفة العقل تُسمى الابن لأنها تخرج من الوجود الذي هو الآب الذي هو مصدر الوجود، حسب كلام القمص، فمعنى هذا أن الابن يخرج من الذات الإلهية التي هي في الحقيقة مصدر الوجود. وكل ما يخرج من الذات الإلهية، إن كان يخرج منها شيء، فهو ذات إلهية. ولكن الذات الإلهية لا تتجزأ ولا يخرج منها شيء ولا يدخل إليها شيء فهي ذات كاملة، وبالتالي فلا يمكن أن "تخرج" منها صفة، وإنما يمكن أن "يكون" لها صفة. وعلى هذا يكون تسمية صفة العقل باسم الابن غير صحيحة لأن صفة العقل هي من صفات الذات الإلهية ولا تخرج منها.
وعلى أي حال، فقد يرى جناب القمص أن المسألة هنا تبدو شكلية، وقد يكون جناب القمص أساء اختيار بعض الألفاظ هنا أو هناك، وقد يتهمنا بأننا نريد أن نتمسك باللفظ لمجرد تصيّد الأخطاء، ولكن ليس هذا هو المقصود لأن الغرض هو الوصول إلى الحقيقة وليس مجرد تصيّد الأخطاء. إن جناب القمص يريد أن يقول إن المقصود بكلمة "الآب" هو صفة الوجود للذات الإلهية، والمقصود بكلمة "الابن" هو صفة العقل للذات الإلهية، والمقصود بكلمة "الروح القدس" هو صفة الحياة للذات الإلهية. وحيث إن هذه الصفات الثلاث صفات لنفس الذات الإلهية، فلا يكون هناك ثلاث ذوات إلهية وإنما هي ذات واحدة، لها ثلاث مسمّيات هي الآب والابن والروح القدس، فهذه الثلاثة هي إله واحد.
ولو كانت الأمور بهذه البساطة لما كانت هناك مشكلة، لأن الألفاظ والكلمات لها مدلولات، ولا يمكن أن استخدم كلمة معينة بغير مدلولها المرتبط بها، إلا إذا بيّنت في كلامي أني أقصد معنى آخر ومدلولا آخر لهذه الكلمة. فمثلا لا أستطيع أن أقول إن جناب القمص مجنون، ثم أقول بعد ذلك إني أقصد أن أثني على عقلية وذكاء القمص. إن هذا المنطق مرفوض، لأن كلمة "مجنون" لها معنى خاص ومدلول خاص مرتبط بها، فلا يجوز لأحد أن يستخدم كلمة بغير مدلولها، إلا إذا ذكر في الجملة أو في السياق ما يدل على أنه قد صرف مدلول الكلمة ومعناها عن معناها الأصلي إلى معنى آخر. وهذه القواعد والروابط موجودة في معظم اللغات، إن لم تكن فيها كلها. ومن هنا جاءت أساليب التشبيه الثلاثة:
(1) نقول: فلان شجاع مثل الأسد. وهنا نريد أن نشبه شجاعة فلان بشجاعة الأسد، فنذكر المشَبَّه وهو "فلان"، ونذكر المشبَّه به وهو "الأسد"، ونذكر وجه الشبه وهو كلمة "شجاع"، ونذكر أداة التشبية وهي كلمة "مثل". هذا هو أول أنماط التشبيه. وفي هذه الحالة يكون وجه الشبه أي كلمة "شجاع"، وتكون أداة التشبيه أي كلمة "مثل"، بمثابة قرائن تجعلنا نفهم المعنى المقصود من استخدام كلمة "الأسد".
(2) النمط أو الأسلوب الأكثر بلاغة من الأسلوب الأول هو أن نحذف وجه الشبه، فنقول: فلان مثل الأسد، فنذكر المشبّه والمشبّه به وأداة التشبيه فقط، فيفهم السامع أن المقصود تشبيه فلان بالأسد من حيث الشجاعة والقوة والجرأة والإقدام، وغيرها. وهنا تكون القرينة التي تجعلنا نفهم المعنى المقصود من استخدام كلمة "الأسد" هي كلمة "مثل".(/34)
(3) الأسلوب الأشد بلاغة من الأسلوبين السابقين هو أن نحذف أداة التشبيه أيضا فنقول: فلان أسد. ولكن ما العمل وقد حذفنا القرائن التي كنا نستخدمها من قبل لنفهم المعنى المقصزد من استخدام كلمة "أسد"؟ الجواب هو أن القرينة هنا ضمنية يدل عليها استحالة أن يكون المشبه قد تحوّل فعلا إلى المشبه به، يعني من المستحيل أن يتحول فلان إلى أسد فعلا، وعلى هذا تكون القرينة هنا ضمنية. ورغم أن هذا الأسلوب هو أشد الأساليب بلاغة، إلا أنه أخطرها أيضا عندما يسيء الإنسان فهمها ويأخذها على معناها الحرفي، وهذه هي آفة الآفات في فهم التعبيرات الدينية، لأنه في العادة يكون الكلام الإلهي وكلام أنبيائه هو أبلغ الكلام، وبالتالي يكون مليئا بالتشبيهات والكنايات والاستعارات. وعدم فهم هذه التشبيهات يؤدي إلى الشطط، كما أن عدم الالتزام بمدلول الكلمات أو استعمالها بدون قواعد يؤدي أيضا إلى الخطأ والشطط. فلا يجوز مثلا أن أقول "فلان حمار" وأقصد بهذا التعبير مدحا له. لأن المفهوم الشائع لهذا التعبير هو الذم، فإذا كنت أقصد المدح فلا بد من ذكر التفصيل، فأقول إن فلان هذا مثل الحمار في كثرة ما يؤديه من أعمال بكل صبر ودون شكوى. ولذلك لا يصح لي أن أقول إن جناب القمص مجنون، ثم أزعم بعد ذلك أنني كنت أقصد الثناء على ذكائه وسرعة بديهته.
الغرض من كل هذا الشرح السابق هو بيان أن للألفاظ وللكلمات معاني معينة ومدلولات محددة، ولا يجوز لأحد أن يستعمل هذه الكلمات بغير معانيها الأصلية إلا إذا ذكر القرائن التي تدل على صرف معانيها إلى معان أخرى. فكلمة "الآب" مثلا لها مدلول معين، وهو الأب الذي هو رب الأسرة والذي أنجب أطفالها. وحين نقول إن الله هو أب الوجود أو إن الخلق عيال الله، فإن القرينة هنا ضمنية وهي استحالة أن يكون الله قد تزوج وأنجب الوجود، ولكن لأن الله هو مصدر وجود كل موجود، والأب في البيت هو مصدر وجود الأسرة والأولاد، فيمكن تشبيه هذا بذاك. كذلك يمكن أن يقال: "لم ينطق ببنت شفة"، ويُفهم أنه لم ينطق بكلمة، وذلك لأنه من المستحيل أن تكون كلمة "بنت" قد جاءت عن طريق الزواج والإنجاب. كذلك حين يقال: "فلان ابن الله"، فيُفهم أن فلانا هذا عزيز عند الله كما أن الابن عزيز لدى أبيه، لأنه من المستحيل أن يكون فلان هذا هو ابن الله بالمعنى المعروف لكلمة ابن الذي جاء عن طريق الزواج والإنجاب. أما عندما نقول إن العقل هو ابن الله، فهذا لا يستقيم، لأن العلاقة بين عقل الله وذاته ليست مثل العلاقة بين الأب وابنه، فالعقل لا يخرج من ذات الله كما يخرج الابن من ذات الأب. ولكن يمكن أن نقول إن الكلمة بنت العقل باعتبار أنه بغير وجود العقل لا يمكن أن توجد الكلمة، فالعقل بمثابة أب للكلمة، والكلمة هي بنت العقل. كذلك لما كان الروح هو سبب الحياة، وبغير الروح لا توجد حياة (بشرية على الأقل)، فيمكن أيضا القول بأن الحياة هي بنت الروح، وهكذا.
من هذا نفهم أنه من الممكن أن نطلق على الله تعالى لفظ "أب الوجود" لأنه مصدر وجود كل موجود، ولكن لا بد من الحذر عندما نقول "الله أب" ونسكت، لأن كلمة "أب" لها مدلول ومفهوم خاص ويُخشى أن يُساء فهمها، فلا بد أن نذكر معها قرينة تبين المقصود من معناها. كذلك لا نستطيع أن نطلق لفظ "الابن" على العقل، وإنما نطلق على الكلمة تعبير "بنت العقل" لأنها من نتاج العقل. ولفظ "الكلمة" يمكن اعتباره مؤنثا أو مذكرا، فكل ما ليس له أعضاء تذكير أو تأنيث يمكن اعتباره مذكرا أو مؤنثا، فنقول مثلا هذا الحائط أو هذه الحائط، هذا السبيل أو هذه السبيل، هذا الطريق أو هذه الطريق، هذا القمر أو هذه القمر، وهكذا. وعلى هذا يمكن أن نقول إن الكلمة ابن العقل، ولكن لا نستطيع أن نقول إن الكلمة هو الابن ونسكت، فإن هذا يفتح الباب للمفاهيم الخاطئة، خاصة حين يقال إن الله هو الآب. وحينما نذكر لفظ "الكلمة" باعتبارها جاءت في صيغة مذكرة، فيجب ألا نربط بهذا الاستعمال أي معنى خاص، كما يفعل جناب القمص حين يؤمئ إلى أن الكلمة هو المسيح ابن مريم باعتبار أن لفظ الكلمة جاء في صيغة مذكرة. لا يا سيدي. إن الكلمة يمكن اعتبارها في صيغة مؤنثة أو مذكرة، ولذلك فهي تُجمع جمع مؤنث سالم أو جمع تكسير، فإذا كانت في صيغة مؤنثة فجمعها "كلمات"، وإذا كانت في صيغة مذكرة فجمعها "كَلِمٌ"، ولو أن العرف جرى على تبادل الاستعمال.
وهناك سؤال آخر أثارته السيدة ناهد متولي وهو: "بعض الأحباء في الإسلام بيقولوا طب لما السيد المسيح هو عقل الله واتجسّد وجِه على الأرض، طب الله بقى كان من غير عقل"؟ فيجيب القمص ويقول إن هذا السؤال جوهري، ثم يشرح إجابته فيقول إن الله ليس مادة، وليس محدودا، الله روح يملأ الوجود، ووجود الله في حيز لا يمنع وجوده في حيز آخر.(/35)
وهنا يخطئ جناب القمص مرة أخرى (كعادته). وهذا يبين خطورة استعمال الألفاظ ذات المعاني المتعددة في حق الله تعالى، التي تفتح أبواب الشرك الخفي دون أن يفطن لها الإنسان. إن الكلمة بنت العقل كما أنها بنت الشفة، وليست الكلمة هي عقل الله، وليس الكلمة (بصيغتها المذكرة) هو عقل الله حتى يقال إنه تجسد أو لم يتجسد. وعلى كل حال فإن موضوع التجسد قد أفرد له جناب القمص أربع حلقات وسوف نتناوله بالتعليق فيما بعد إن شاء الله.
والخطأ الثاني في كلام جناب القمص هو قوله "الله روح يملأ الوجود، ووجود الله في حيز لا يمنع وجوده في حيز آخر". فمن أين علم أن الله روح يملأ الوجود؟ إما أنه نقل هذا الكلام عن كلام إنسان آخر مثله، أو أنه نقله عن الله تعالى، وفي الحالتين لا بد أن يكون الكلام مجازيا وليس حقيقيا. فنحن نعلم أن الله ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[، فلا نستطيع أن نقول إنه على وجه الحقيقة مادة أو أو أنه روح، فهو يختلف عن المادة وعن الروح. ولكن لما جرى فهم الناس عموما على أن المادة محدودة والروح غير محدودة، ولما كان الله تعالى غير محدود أيضا، فيمكن تشبيه الله بالروح تجاوزا أو مجازا فقط، ولكن هذا لا يعني أنه روح على وجه الحقيقة. وعلى هذا فلا يصح أن نقول إنه يملأ الوجود، فالوجود الذي نعرفه هو الوجود المادي الذي نراه ممثلا في هذا السديم الذي تنتشر فيه الكواكب والنجوم والمجرات، ولكننا لا نعلم ما إذا كان هناك وجود آخر غير مادي. وكذلك حين نقول إنه يملأ الوجود المادي الذي نعرفه، أو نقول إن وجود الله في حيز لا يمنع وجوده في حيز آخر، فهذا معناه أن الله مادة، وهذا غير صحيح. ما نستطيع أن نقوله على وجه الحقيقة هو إن الله ليس مادة وليس روحا وليس كمثله شيء. ولما كنا لا نعرف كنه الله ولا نعرف ما هو، فلا يمكن أن نخوض في أمور تتعلق بذاته، لأننا لا نستطيع أن نتصور شيئا لا يمكن مقارنته بما هو موجود ولا يمكن إدراكه بحواسنا. ورسول الإسلام r قال: "تفكروا في خلقه ولا تفكروا في ذاته"، فالعقل الإنساني لا يستطيع أن يستوعب شيئا إلا عن طريق المقارنة، ولما كان الله تعالى ليس كمثله شيء، فلا يمكن مقارنته بشيء، ولذلك لا يمكن إدراك كنهه أو فهم ذاته، ولكن نستطيع أن نفهم صفاته وندرك أثر هذه الصفات بحواسنا المختلفة. فمثلا من صفات الله أنه الخالق، ونستطيع أن ندرك أثر هذه الصفة فيما نراه من موجودات ومخلوقات. ومن صفات الله تعالى أنه محبة، ونستطيع أن ندرك أثر هذه الصفة في مشاعر الحب التي نشعر بها تجاه الآخرين أو نتلقاها منهم، وهكذا. نعم نستطيع أن ندرك ونفهم أثر بعض الصفات الإلهية، ولكننا لا نستطيع أن ندرك ولا نفهم كنه الله ولا ذاته. إن الله تعالى يجل عن المكان والزمان، ونحن محصورون داخل حدود المكان ونطاق الزمان، فلا نستطيع أن نفهم كيفية الوجود الإلهي، وعلى هذا فمن الخطأ القول بوجود الله في حيز، أو عدم وجوده في حيز آخر.
ويريد جناب القمص أن يستدل بالتعبيرات الإسلامية لبيان صحة الجملة الخاطئة التي ذكرها فيقول:
"وعند إخواننا المسلمين، يقولك إن الله في الثلث الأخير من الليل بينْزل إلى السماء الدنيا"، فتوافقه السيدة ناهد وتقول: "أيوه ده مظبوط يا أبونا"، فيتساءل هو قائلا: "طب والسماء العليا فيها مين"؟ فتضحك السيدة ناهد فيقول لها: "شوفتي بقى؟ ما هي لو اتخدت حرفيا ما تمشيش. يقولك مثلا "الرحمن على الكرسي استوى"، استوى يعني جلس، مش كده؟ قعد على كرسي. الرحمن، ربنا يقعد على كرسي؟ طب الكرسي بتاعه ده خشب ولا حديد؟ ولا ألومنيوم؟ ولا ميتالك؟ ولا إيه يعني؟ فتضحك السيدة ناهد وتقول: "ولا حجمه أد إيه"؟ فيقول القمص: "لازم يكون غير محدود". ثم يعود القمص إلى حديثه العقلاني فيقول: "ما تتفهمش كده، لكن ده معناه الرحمن على الكرسي استوى يعني ابتدا يملك ويحكم، فخرجت الكلمة عن لازم معناها إلى المعنى اللي هي عايزة تفيده. وجلس على الكرسي مش معناه إن الحتت التانية مش موجود فيها. إذن الكلام: الله وجوده في مكان لا يمنع وجوده في كل مكان".(/36)
طبعا هذه التعبيرات، مثل "الله ينْزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، والرحمن على العرش استوى"، وغيرها من التعبيرات المشابهة، لا يفهمها المسلمون بحرفيتها، ولا أنها تتضمن انتقالا في حركة مكانية، فالله تعالى كما قلنا يجل عن المكان والزمان. ولكن لا نستطيع أن نقول أيضا إن الله موجود في مكان معين وجودا مادّيا، ولما كنا نجهل كنه الله، فنحن بالتالي لا نعرف كيفية وجوده. فلنتذكر دائما أن الله تعالى يجل عن المكان والزمان، فهو يحتوي المكان والزمان، ولكن المكان لا يحتويه كما لا يمر عليه الزمان. وما دام المكان لا يحتويه فلا نستطيع أن نقول إنه موجود في الأماكن القذرة وفي الروث وغيرها، فهذا الوجود مادي، أما كيف يحتوي وجوده المكان والزمان، فهذا ما لا نستطيع أن نتصوره، لأننا مقيدون بقيود الزمان والمكان. فكل ما نستطيع أن نقوله هو أن الله موجود، أما كيفية وجوده فلا نعلمها.
ثم تسأل السيدة ناهد سؤالا آخر فتقول:
"ألا يمكن أن تتخلى المسيحية عن الثالوث أم أن هناك حتمية لهذه العقيدة"؟ فيقول القمص: "حنتخلى عن إيه في الثالوث؟ احنا قلنا الثالوث هو وجود الله ككائن، الله كائن، فله وجود حقيقي. نقدر نتخلى عنه؟ الله الكائن الموجود عاقل. نقدر نتخلى عن كلمة العقل؟ لا سمح الله يبقى من غير عقل؟ مش ممكن. طيب الله الموجود والعاقل، المفروض يكون حي، له روح، حياة، عشان كده خلق البشر أحياء. نقدر نتخلى عن الروح؟ إطلاقا. يبقى إذن لما نقول الله واحد مثلث الأقانيم، أتخلى ازاي عن واحدة منهم؟ الوجود لا يمكن التخلي عنه. العقل لا يمكن التخلي عنه. الروح لا يمكن التخلي عنه". ثم يقدم جناب القمص مثال المثلث ذي الأضلاع الثلاثة، ويقول إنه إذا تخلى عن أي ضلع فلن تبقي المساحة المعينة على شكل مثلث. فتعلق السيدة ناهد بقولها: "هوه عشان أحباءنا في الإسلام بيقولوا الله وبس، الله واحد لا إله إلا هو، لا شريك له وبس، فعشان احنا نيجي نقول لهم ده الله تلاتة في واحد، يبقى برضه عايزة ...." فيقاطعها القمص مصححا ويقول: "ثالوث بدل تلاتة"، فتصلح السيدة ناهد نفسها وتقول: "آه ثالوث واحد".
وهكذا تظهر بوضوح وجلاء خطورة الفكر المسيحي الناضج الذي يحدثنا عنه جناب القمص، وكيف أنه يخلط بين الذات الإلهية وبين الصفات الإلهية. إن الذات الإلهية واحدة، والله واحد أحد لا شريك له، وهو ليس ثنائيا ولا ثالوثا ولا مربعا، ولا شيء من هذا القبيل. إن الله الواحد هذا متعدد الصفات، قد يقول بعض الناس أنه ثنائي الصفات، أو ثلاثي الصفات، أو متعدد الصفات، ولكن لا نستطيع أن نقول عنه أن الله ثنائي أو ثالوث أو متعدد. وإذا استخدمنا أي كلمة من هذه الكلمات في حق الله تعالى، بغير أن نضع لها تمييزا يبينها مثل كلمة "الصفات" مثلا، فإنها سوف تنسحب على ذات الله، شئنا ذلك أم أبينا، وسواء اعترفنا به أو لم نعترف. والمثال واضح تمام الوضوح في كلام السيدة ناهد حين قالت إن المسلمين يقولون الله واحد وحسب، الله واحد لا إله إلا هو، لا شريك له، وحسب. "فعشان احنا نيجي نقول لهم ده الله تلاتة في واحد" فطبعا لن يقبل أي مسلم عاقل هذه العقيدة، ومقاطعة القمص للسيدة ناهد ومحاولته إصلاح ما صدر منها بقوله: "ثالوث بدل تلاتة" لا يغير من الواقع شيئا. فإذا وُصف الله بكلمة ثالوث فهو ثلاثة في واحد، كما قالت السيدة ناهد. أما إذا وُصفت الصفات بكلمة ثالوث، فلا ضير في هذا سوى أن فيه تضييق وحصر لصفات الله تعالى. ومرة أخرى نقول إن وجود الله وعقل الله وحياة الله هذه كلها صفات للذّات الإلهية وليست هي الذات الإلهية، إذ يمكن وصف ذات الله بأنه موجود وأنه عاقل وأنه حي، ولكن ليس الوجود هو ذاته، ولا العقل هو ذاته، ولا الحياة أو الروح هو ذاته. وليس المطلوب من المسيحية أن تتخلى عن إحدى هذه الصفات، ولها أن تطلق لفظ "الثالوث" على صفات الله كما تشاء، ولكن عليها أن تتخلى عن وصف الله تعالى نفسه بأنه ثالوث. فهل يمكن أن تفعل هذا لتثبت أنها دين توحيد بالفعل؟ ولا تقول إن الله واحد مثلث الأقانيم، ثم يتضح فيما بعد أن هذه الأقانيم هي الذات الإلهية في صورة أب وابن وروح القدس؟ هل لديك إجابة يا جناب القمص؟
إن الخلط بين الذات والصفات هي آفة المسيحية المغلوطة التي يدعونا إليها جناب القمص، تماما كما يخلط بين المثلث وأضلاعه. فالذات شيء، والصفات شيء آخر، تماما كما أن المثلث شيء والأضلاع شيء آخر. المثلث مساحة، ولكن الضلع ليس مساحة وإنما هو خط بين نقطتين، وكما لا يمكن التخلي عن أحد الأضلاع لتعريف المثلث، كذلك لا يمكن التخلي عن إحدى الصفات لتعريف الذات الإلهية، ولكن كما يظل ضلع المثلث يختلف عن مساحة المثلث رغم أنه يُعرّفها، كذلك تظل الصفات تختلف عن طبيعة الذات الإلهية رغم أنها تُعرّفها.(/37)
لقد استطعنا في هذه الحلقة أن نحصر المشكلة ونضع أيدينا على الحل. وكان جناب القمص يقول إننا نريد أن نفهم بعضنا البعض لكي نقف على أرضية مشتركة، والحل يا جناب القمص أن تمتنعوا عن القول بأن الله ثالوث، وتقولوا إن الله ثالوث الصفات. فهل يضيركم هذا؟ نرجو أن نسمع إجابة من جناب القمص ومن جميع المسيحيين الشرفاء، والعقلاء أيضا.
( 19 )
يسعدنا أن نلتقي بكم مرة أخرى في هذه السلسلة من الحلقات التي تحمل اسم "أجوبة عن الإيمان" والتي نرد بها على جناب القمص زكريا بطرس في الحلقات التي قدمها باسم "أسئلة عن الإيمان". وهذه هي الحلقة الرابعة التي نتناول فيها موضوع الثالوث. وكنا قد ذكرنا أن كلمة الثالوث حينما تأتي وصفا لله تعالى، أي حين نقول إن الله ثالوث، فهذا يعني أنه ثلاثة آلهة، أي أنه متعدد الذات. أما إذا جاءت كلمة الثالوث وصفا للصفات الإلهية، أي نقول إن الله واحد ثالوث الصفات، فهذا يعني أنه إله واحد الذات ولكن له ثلاث صفات، فلا ضير في هذا سوى أنه يُعتبر تضييقا وحصرا لصفات الله في ثلاث فقط.
ولكن جناب القمص يقول إن الله واحد مثلث الأقانيم، فهل يشابه هذا القول الجملة الأخرى التي تقول بأن الله واحد ثالوث الصفات؟ نعم بالطبع يشابهها، ولكنه لا يتفق معها. فهذا ليس ذاك. فما معنى كلمة "أقنوم"؟ وهل تحمل في طياتها معنى كائن عاقل؟ إن كان الرد بالنفي، يعني لا، كلمة أقنوم لا تحمل في معناها كائنا عاقلا، فلماذا نستخدم كلمة غريبة لا تُستخدم إلا في حق إله المسيحية؟ ولماذا لا نستخدم كلمة "الصفات" بدلا منها؟ وإذا كان الرد بالإيجاب، كما هو الحال، فمعنى هذا أن هناك ثالوثا من الآلهة يُكوّنون فيما بينهم ألوهية واحدة.
فيا جناب القمص.. إذا كانت كلمة "الأقانيم" تدل على كائنات عاقلة، فهي لا تدل على الصفات الإلهية، فالصفة ليست ذاتا عاقلة ولا تتحول إلى ذات عاقلة. وهذا هو السبب في أن المسيحية التي يدعونا إليها جناب القمص، ويدّعي أنها دين توحيد، ترفض استعمال تعبير ثالوث الصفات بدلا من ثالوث الأقانيم، لأنها تريد أن تثبت أن الأقنوم هو ذات عاقلة تحل في جسد إنسان، أما الصفة الإلهية فهي ليست ذات عاقلة، ولا يمكن أن تحل الصفة الإلهية في جسد إنسان، وإنما يظهر أثرها عليه فقط.
هذا هو بيت القصيد، وهذا هو سبب اختلاف الإسلام مع المسيحية المغلوطة التي يدعونا إليها القمص زكريا بطرس. أما المسيحية التي دعا إليها السيد المسيح u فكانت دين توحيد حقا، ولذلك لم يذكر المسيح هذه الأمور التي يحدثنا فيها جناب القمص، ولم يتكلم عنها في مواعظه، ولم يشرح عقيدة الثالوث التي يريد أن يقنعنا بها نيافة القمص، بل ولم يذكر المسيح مطلقا كلمة "الثالوث" ولم ينطق بها لسانه قط ولو مرة واحدة، فهل من المعقول أن تكون هذه العقيدة من تعليم المسيحية التي دعا إليها السيد المسيح؟ مستحيل. إن جناب القمص يعترف بنفسه، حسب ما هو مكتوب في كتابه الذي يؤمن به، في العهد القديم وفي العهد الجديد، حيث يقول:
"في إنجيل معلمنا مرقص إصحاح 12 وعدد 29، واحد جه يسأل السيد المسيح، يهودي، بيقول له: إيه أعظم الوصايا اللي في العهد القديم، إيه أعظم وصيّة؟ فأجاب المسيح، نقول من الكتاب بقى: فأجاب يسوع: إن أول كل شيء، كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد. وتحب الرب من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك، الرب الواحد، ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى. يبقى السيد المسيح بيعيد اللي في العهد القديم اللي هوه في سفر التثنية إصحاح 6 والعدد 4 و 9 بيكرره بنفس الصورة ويقول الرب إلهنا رب واحد".
فإذا كانت البشرية قد نضجت عندما جاءها المسيح، وانتهت مرحلة طفولتها الفكرية، فلماذا لم ينتهز المسيح الفرصة ويعلم الناس حقيقة عقيدة اللاهوت ويقول لهم: قد سمعتم أنه قيل للقدماء إن الرب إلهكم رب واحد، ولكني أقول لكم إن الرب إلهكم رب واحد مثلث الأقانيم؟ أليس هو القائل: "قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل ومن قتل يكون مستوجب الحكم، وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيه باطلا يزم مستوجب الحكم ... قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزن وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه"؟. فما دام المسيح كان حريصا على تصحيح المفاهيم القديمة، فلماذا نسي أن يتكلم عن عقيدة "مثلث الأقانيم" التي يحدثنا عنها جناب القمص، لو أنها كانت فعلا عقيدة المسيحية الصحيحة التي دعا إليها السيد المسيح، وليست هي عقيدة المسيحية المغلوطة التي يدعو إليها القمص زكريا بطرس؟(/38)
غير أن جناب القمص لا يكتفي بهذا، بل يؤكد أن القرآن يتحدث عن الثالوث تماما كما يؤمنون هم به. والمثل يقول: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، ولا شك أن القمص قد صنع ما شاء، ونسب إلى القرآن المجيد أنه يؤمن بالثالوث. وسوف أنقل إلى القارئ نص كلامه في هذا الشأن، ولكني أريد أن أنبه أولئك المسلمين الذين تسربت إليهم بعض الأفكار المسيحية عن الله تعالى، والذين يقولون إن لله يدا وإن له وجها وغير ذلك أن يعيدوا تقييم معتقداتهم عن الله تعالى، وعليهم أن يتخلوا عن هذه الأفكار غير الإسلامية، وإلا فعليهم أن يكونوا أمناء مع أنفسهم ويعترفوا أنهم من أتباع القمص زكريا بطرس. يقول جنابه:
أنا حستشهد بآيات قرآنية عشان خاطر أخويا المسلم مقتنع بالقرآن مِيّه المية، وبعدين حيشوف إن القرآن بيتكلم عن الثالوث زي احنا ما بنؤمن بيه. تصوري؟ ناهد: بالظبط. القمص: تصوري؟ إنه بيؤمن بالثالوث زي احنا ما بنؤمن بيه؟ فين ده؟ دا كلام فارغ، دا ادعاء. ناهد (تضحك): طب يا ريت قدسك تقول الشاهد كامل، السورة ورقمها والآية، عشان أنا نفسي أحبائي في الإسلام يرجعوا للآيات دي ويشوفوا المفسرين نفسهم المسلمين بيقولوا إيه. القمص: حلو أوي. أهم آية في القرآن فيها الثالوث ده هي سورة النساء آية 171: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. ناهد: مظبوط. القمص: طبعا عزيزي المشاهد أول ما يقولك إيه، إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، يقول شفت، أيوه، رسول الله أهوه، مش كده؟ (ناهد تضحك) القمص: حاضر، رسول الله. احنا بنؤمن إن المسيح، المسيح، نؤمن إنه رسول لأنه مرسل إلى البشر، نؤمن إنه هوّه نبي لأنه تنبأ عن حاجات مستقبلية، نؤمن إن هوّه كاهن لأنه قدّم نفسه ذبيحة عوضا عنا، بنؤمن بكل حاجة. ناهد: دا لا ينفي إن هوّه ابن الله أو الله في الجسد. القمص: الصفة إيه هيه؟ تكون زي ما تكون، لكن إحنا بنتكلم عن إن المسيح، المسيح، هو جسد إنسان بشري عادي زيي وزيك، عادي، بس من غير خطية. هذا الجسد أخده من مريم العذراء. عادي، زيي وزيك بس من غير خطية، لإنه من غير زرع بشر، مش من أب. ناهد: آه، همه مؤمنين بالنقطة دي، ماهي واردة في القرآن، مفيش خلاف عليها. القمص: مفيش خلاف. فنفخنا فيها من روحنا فتمثل لها بشرا سويا. فإذن المسيح إنسان عادي بس بدون خطية. وحل فيه.. ناهد: اللاهوت. القمص: وتجلى فيه الله. يبقى المسيح جسد، لكن تجلى فيه الله. دا موضوع طويل تاني وناخد له حلقة عن تجلي الله للجبل وتجلى لموسى إلى آخره. لكن اللي أنا عايز أقوله الآية دي: سورة النساء 171، انا عايز أكمل حديثي فيها. إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله. فسيبنا من رسول دلوقت. O.K رسول، لكن خلينا في الله، فيه الله أهوه. الآية دي ما بتقولش إن المسيح هو الله، لأ، لكن أنا عايز أقول إن الآية دي بتثبت إن فيه وجود الله، اللي المسيح رسوله، خلاص؟ ناهد: أيوه. القمص: هذا الإله، اللي هوّه الله، له كلمة، يقولك: وَكَ لِ مَ تُ هُ. إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمتهُ. الهاء دي بتعود على مين بقى؟ ناهد: على الله طبعا. القمص: على الله. ليه؟ لأنها ضمير، مفرد، غائب، مذكر، متّصل، كلمتهُ، وتعود إلى أقرب اسم، الله. رسول الله، وكلمة الله. واحنا بنقول إن المسيح كلمة الله، مش كده؟ إذن موجودة: كلمتهُ. وروحٌ مِ نْ هُ، الهاء في منه هيّه ضمير، متصل، مفرد، غائب، مذكر، يعود على الله. إذن الله ذات، له كلمة، وله روح. هوه ده الثالوث اللي احنا بنقول عليه. ناهد: لأ فيه برضه هنا استفسار صُغير يا ابونا لأن أحباءنا في الإسلام بيقولوا طب ما احنا كلنا فينا روح من الله. القمص: أيوه كويس. ناهد: يعني المفهوم اللي سايد إن الله لما خلق آدم نفخ فيه من روحه. القمص: برافو. ناهد: فبيقول كلنا فينا روح الله. القمص: دا صح. بس فيه اختلاف. ناهد: آه، ماهو احنا عايزين نفهم بقى نقطة الاختلاف. القمص: حلو. ونفخنا فيه نسمة حياة، فنسمة الحياة دي الروح البشرية، نسمة الحياة الروح البشرية. نسمة الحياة، نفخ في آدم نسمة حياة فصار آدم نفسا حيّة، فدي نسمة من الله بتعطي حياة، دي الروح البشرية، لكن الروح الإلهية، روح الله، دا حاجة تانية، مش كده؟ روح الله، مش نسمة من الله، دا روح الله. ناهد: يعني احنا دلوقتي كلنا فينا نسمة الحياة اللي من الله، لكن روح الله دا شيء مختلف تماما، ياريت يوْصل المعنى! القمص: يبقى إذن في الآية القرآنية دي، النساء آية 171، فيها ذات الله، وأن هذا الله له كلمة وله روح، خلاص؟ يبقى ده اللي في الإسلام.(/39)
وهكذا يخرج جناب القمص بهذه النتيجة التي وصل إليها، وهي أن القرآن المجيد يؤكد أن الله تعالى ذات له وجود، وأن له كلمة، وأن له روح لأنه حي، وأن هذا هو نفسه الثالوث الذي تؤمن به المسيحية، الوجود: أي الآب، الكلمة: أي الابن، والروح: أي الروح القدس. ولم يكتف القمص بهذه النتيجة التي وصل إليها، وإنما استشهد أيضا ببعض الشهادات المثيرة، فيستكمل كلامه ويقول:
فيه بقى شوية شهادات جميلة عن الثالوث بهذا المعنى. فيه الدكتور الشقنقيري، الدكتور محمد الشقنقيري. دا أستاذ الشريعة الإسلامية في جامعة باريس، وأيضا كان في كلية حقوق جامعة عين شمس. الراجل ده قال، في الأهرام، بتاريخ 26/5 سنة 1985، عمل مقال، نَشر في الغرب في باريس، في الجامعة بتاعته، وترجمه أستاذ تاني في جريدة الأهرام، الأستاذ دا اللي ترجمه اسمه الدكتور محمد بدر، أستاذ تاريخ القانون في كلية الحقوق جامعة عين شمس، وظهر في الأهرام بهذا التاريخ. بيقول إيه بقى شوفي الكلام! بيقول إيه؟ دا الشقنقيري بقى بيقول: "نعرف، أن القرآن، يقول عن يسوع، أنه كلمةُ الله، وروحُه". (نعرف أن القرآن يقول أن يسوع، هو كلمة الله وروحه. اللي هيه الآية 171 في النساء، ويكمل بقى يقول إيه): "وترجمة هذه التسمية لا تنال المسيحي بأية صعوبة" (مش صعبة على المسيحي، عارفها، إن المسيح كلمة الله وروحه، مفيهاش صعوبة على المسيحي، بيقبلها)، "ومن ثم، كان الاعتراض، على المسلمين". (المسلمين. ناهد: دي غريبة. القمص يُكمل: "لاضطرارهم، لاضطرارهم إلى الاعتراف بألوهية المسيح". (ده الشقنقيري بس بيشرح نفسه، يعني ما قلهاش كده حط قضية لكن بيشرحها، بيقول إيه؟) "ما المسيح؟ (سؤال، وهوّه بيجاوب، يقول إيه؟) "يجيب المسلم إنه، كلمة الله، وأنه، روح الله". (يبقى حسب القرآن، لما تسألي واحد مسلم يقول المسيح إيه؟ كلمة الله، وروح الله، مش كده؟) "ولكن" (بيكمل بقى كلامه بيقول) "ولكن هذه الكلمة، وهذا الروح، أمخلوقة؟ أم غير مخلوقة؟" (ده سؤال جوهريّ. كلمة الله مخلوقة؟ ولاّ مش مخلوقة؟ روح الله مخلوقة؟ ولاّ مش مخلوقة؟ شايفة الإنسان اللي بيفكر؟ إحنا عايزين ناس تفكر، عايزين ناس تفكر، عشان توْصل للحقيقة. ديكارت بيقول أنا أفكر، أنا أشك، فأنا أفكر، فأنا موجود. يبقى الإنسان اللي ما بيشكّش ولا بيفكرش، وجوده زي عدمه. ناهد: للأسف، للأسف آه. القمص: للأسف الشديد. وأنا آسف أقول إن كتير من إخوانّا المسلمين لا عايزين يشكّوا ولا عايزين يفكّروا، ولا عايزين يعرفوا. ناهد: بياخدوها بالتسليم الكامل كده. القمص: هيّه كده وخلاص، لا، دا إيمان العجائز، لكن مش إيمان إنسان مُتفتّح بتاع القرن الحادي والعشرين. فنرجع مرجوعنا لمين؟ للشقنقيري. فبيقول) "هل هذه الكلمة، وهذا الروح، مخلوقة؟ أم غير مخلوقة؟ (ويكمل، بيقول) "إذا كان، روح الله، غير مخلوق" (إذا كان روح الله ده غير مخلوق) "فلا إشكال" (مفيش إشكال. ناهد تضحك: طب إزاي؟ القمص: الله؟ مش احنا بنقول الله كيان؟ وفيه روح؟ ناهد: أيوه. القمص: هل روح الله ديّة، الله خلقها؟ ولاّ هيه موجودة ويّاه؟ ناهد: بكل تأكيد هيه موجودة معاه. القمص: فإذا قلنا إن روح الله مش مخلوقة يبقى مفيش مشكلة، يبقى روح الله مش مخلوقة، أزلية، زي الله. شوفي الحتة اللي بيوْصل لها بقى الشقنقيري بقى، لحد كده آمنا والمنطق بسيط، شوفي الحتة اللي جاية بقى، القنبلة، يقولك) "إذن، فالمسيح هو الله" (ليه؟ لإنه هوّه روح الله، بشهادة القرآن. [ضحك من الطرفين]. ناهد: أهو دا حقيقي غذاء لبن لكن فيه كل الغذا. القمص: الروح ده مخلوق، ولاّ مش مخلوق؟ روح ربنا؟ لو قلنا مش مخلوق، هوه بيدي الافتراضين، لسة جاي الكمالة. لو قلنا مش مخلوق، يبقى حلو، يبقى المسيح مش مخلوق، يبقى المسيح هو الله. مش المسيح بالجسد، لأ، بالروح القدس، المتجلي فيه. لإن احنا إيماننا بنقول: عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد، الله، ظهر في الجسد. الله موجود، والجسد موجود، الله ظهر في الجسد، صح؟ فالشقنقيري بيقول، روح الله، المسيح روح الله بشهادة القرآن، سورة النساء آية 171، طيب روح ربنا ده مخلوق، ولاّ مش مخلوق؟ لو قلنا مش مخلوق، يبقى خلاص، يبقى إذن اللي ماهوش مخلوق يبقى هوّه الله، فيبقى المسيح هوّه الله. ببساطة كده. طب ولو قلنا لأ، مخلوق. خدي بالك) "وإذا كان روح الله مخلوقا" (هاه؟ أسهل إن احنا نقول مخلوق ونخلص يا أخي. أنت حتدوشنا ولاّ إيه؟) "إذا كان روح الله مخلوقا، فيكون، روح الله، وكلمة الله مخلوقين" (آه، ما احنا اتفقنا بقى، حنقول إنهم مخلوقين وخلاص. شوفي بقى يكمل يقول إيه) "إذن، فالله، قبل أن يخلق كلمته، وقبل أن يخلق روحه، كان بلا عقل، وبلا روح، وذلك غير مُتَصوّر" (ناهد: أكيد. القمص: مش ممكن. تاني؟ نلخصها بقى ببساطة؟ ناهد: آه. القمص: سورة النساء بتقول إن المسيح هوّه روح الله وكلمة الله، كلمة منه وروح منه. سورة النساء والآية 171، بتقول(/40)
كده. طب نيجي بقى، الروح والكلمة دُولتْ، اللي بتقول إن همّه المسيح، مخلوقين ولا مش مخلوقين؟ لو قلنا مش مخلوقين، يبقى هوّه الله. لإن هوّه دا تجسّد في الجسد يبقى هوّه روح الله. طب لالالالالالأ، دول مخلوقين. مخلوقين؟ آه. يبقى ربنا كان من غير عقل ومن غير روح (ضحك) وهذا لا يمكن أن يُتصوّر. ناهد: طبعا لا يمكن. القمص: منطق. منطق بسيط. الكلام دا منشور في الأهرام، في يوم 26/5 سنة 85).
وكالعادة، فقد نقلتُ حديث القمص بنصه ولفظه. وأنا أحب أن أطمئنه أن هناك الكثير من بين المسلمين من يفكر ويفكر ويفكر أكثر من ديكارت. وحبذا لو تفكر أنت أيضا قليلا يا جناب القمص لتعلم من هو ذلك الإله الذي تعبده. هل هو الله تعالى خالق هذا الكون؟ أم أنه شخص آخر اخترعه بولس الذي لم ير المسيح ولم يقابله ولم يسمع منه كلمة واحدة؟ ولكن لعلك تعترض عليّ وتقول إنك لم تستشهد بكلام بولس بل استشهدت بكلام القرآن، فما دخل بولس في الأمر. هذا صحيح. إنك استشهدت بكلام القرآن المجيد، ولكنك تفهمه بالعقلية التي لوّثها بولس بتعاليمه الوثنية عن الله تعالى. فإن بولس كان يعيش في مجتمع يوناني وكان متأثرا بالثقافة اليونانية الوثنية، وغير اسمه من شاؤل، الاسم العبراني، إلى بولس، الاسم اليوناني، ولو أنه ادّعى أن المسيح هو الذي أمره بهذا في رؤيا اخترعها، وصدقته القلة من أتباع المسيح لأنه كان يضطهدهم، لذلك فقد "أرادوا" أن يصدقوه. ولذلك لو حذفت من العهد الجديد كل ما كتبه بولس وتلميذه لوقا لكان من الصعب أن تجد عقيدة الثالوث في الإنجيل.
ولكن دعنا من بولس وتعالى للقرآن المجيد، وسورة النساء والآية 171، وهي تقرر ثلاث صفات للمسيح u: (1) أنه رسول الله؛ (2) أنه كلمة الله؛ (3) أنه روح من الله. أما أنه رسول الله فهذه لا خلاف عليها وأنتم تقرّون وتعترفون بها، ولا داعي أن أسرد لك الشواهد من الإنجيل ومن كلام المسيح نفسه الذي يدل على أنه مُرسل من الله. وأما كونه كلمة الله، فهذا حق. ولكن هل هو وحده كلمة الله؟ يقول تعالى في الكتاب العزيز: ]إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[ (يس:82). وبطبيعة الحال فإن الله تعالى ليس في حاجة إلى أن ينطق بكلمة "كن" لكي يخلق شيئا، وإنما هذا تعبير مجازي يدل على أمره سبحانه، كما يدل على أن له القوة والقدرة والسلطان على تحقيق كلمته. فكل شيء مخلوق بكلمة الله، أي بأمر الله وقوته وقدرته. ويقول تعالى عن المسيح: ]إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ[ (آل عمران:59). إذن فالمسيح كلمة الله، وآدم كلمة الله، وكل شيء مخلوق يُعتبر كلمة الله، حتى أنت وإبليس أيضا يمكن اعتباركما تجاوزا كلمة الله، ولو أن تعبير كلمة الله يستخدم للشيء الطيب. وخلْق الله تعالى يجل عن الحصر، وبالتالي فلا يمكن حصره أو عدّ كلمات الله، ولذلك يقول U: ]قُلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا[ (الكهف:109)، ويقول أيضا: ]وَلَوْ أَنَّمَا في الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ[ (لقمان:27). فالمسيح u ليس سوى كلمة من كلمات الله، وليس هذا تحقيرا له ولا إقلالا من شأنه، وإنما هذا تقرير بأنه خَلْق من خلق الله، تماما كما أنك أنت وإبليس تُعتبران كلمتين من كلمات الله، وهذا ليس تشريفا لكما وإنما لأنكما محسوبين أيضا من خلق الله. ولكن، من هو ذلك العبقري يا جناب القمص الذي اخترع مقولة إن الكلمة هي العقل، أو أن الكلمة تُعبر عن العقل، أو أنها تُظهر العقل؟ هل تحب أن أذكّرك يا جناب القمص بكلامك؟ لقد قلتَ في أول حلقة قدمتَها عن موضوع الثالوث ما يلي بالنص وبالحرف:
"والعقل، الله عقل، ولاّ يخلق إزّاي بشر عاقلين؟ والعقل ده، بناخد له كلام بلاغي، ونقول الابن؟ إزاي بقى الابن؟ أقولك. لما الواحد يقعد ساكت، حد يعرف دا عاقل ولاّ مجنون؟ لأ طبعا، لما يتكلم يبتدي يبان عقله، إذا كان ترلللي ولاّ مجنون، مش كده؟ فالكلمة بتعبر عن العقل، بتظهره".(/41)
وهكذا يا جناب القمص يتبين من الذي قال إن الكلمة تعبر عن العقل وتظهره، ولكن ليس معنى هذا أنك أنت هو العبقري الذي اخترع هذه المقولة، فأنت لست سوى ناقل فقط، وللأسف فإنك تنقل عن غيرك بدون تفكير وبدون عقل. وأنت تتهم المسلمين بأنهم لا يريدون أن يفكروا، ومن لا يشك ولا يفكر فهو من وجهة نظرك وجوده مثل عدمه. فلماذا لا تستفيد يا جناب القمص بهذه النصائح التي توجهها للمسلمين؟ ولماذا لا تطبقها على نفسك أولا؟ هل تفعل مثل المسلمين الذين تتهمهم السيدة ناهد متولي بأنهم "بياخدوها بالتسليم الكامل كده"، وتقول أنت عنهم "هيّه كده وخلاص"؟ لعلها هي كانت تأخذ العقائد الإسلامية بالتسليم الكامل، أو لعلها لم تجد من يجيب لها على التساؤلات التي كانت تراودها، فهي معذورة إذا كانت ابتلعت العقائد التي ملأوا بها رأسها بدون شرح أو تفسير مقنع. ولكنك أنت يا جناب القمص رجل دين، والناس يظنون فيك أيضا أنك رجل فكر، وأحيانا تبدو أنك تفكر وتستعمل عقلك. فكيف فات عليك الخطأ الفاحش في هذه الجملة التي لم تخترعها عبقريتك، ولكنك نقلتها من السابقين؟ هل تأخذ العقائد الدينية التي ينبني عليها مصيرك في الحياة الآخرة كما تقول السيدة ناهد متولي: "بالتسليم الكامل"، أم أنها "هيه كده وخلاص"؟
سوف أثبت لك يا جناب القمص، وأنا لست قمّصا مثلك، ولست عالما من العلماء الذين تخرجوا في المعاهد الدينية وكليات اللاهوت، فما أنا إلا إنسان مسلم يستعمل عقله كما سبق وقلت لك في أول حديث للرد على كلامك، ومع ذلك فسوف أثبت لك خطأ كلامك، وأبين الخلل الذي تبنون عليه العقائد الخاطئة التي تؤمنون بها. ولكن من حسن حظك أن وقت البرنامج قد انتهى، وسوف أضطر أن أؤجل كلامي إلى الحلقة القادمة، ولعلها تكون فرصة طيبة لك، أن تعاود التفكير أنت أيضا فيما تقوله وفيما تؤمن به، فمن يدري.. لعلك تنجح مرة في استخدام عقلك وتكتشف الحقيقة بنفسك.
( 20 )
لقاؤنا يتجدد معكم في هذه الحلقات من سلسلة "أجوبة عن الإيمان" لنرد بها على الحلقات التي قدمها القمص زكريا بطرس بعنوان "أسئلة عن الإيمان". وهذه هي الحلقة الخامسة التي نعالج فيها موضوع الثالوث. وكنا قد ذكرنا في الحلقة الماضية التفسير الذي قدمه جناب القمص للآية 171 من سورة النساء التي تقول ]إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ[. وذكرنا أنه قال إن هذه الآية تَذكر الثالوث المسيحي كما يؤمن به جنابه، وكما يؤمن به المسيحيون الذين يؤمنون بمسيحيته، مع أن هناك الكثير من الفرق المسيحية نفسها تتهم جناب القمص بأنه ليس موحّدا وبأنه يؤمن بثالوث من الآلهة، ويقولون عن أنفسهم إنهم هم الموحدون لأنهم لا يؤمنون بألوهية المسيح التي أعلنت السيدة ناهد متولي في أول حديثها مع القمص أنها تؤمن بالمسيح كربّ وإله ومخلّص.
والغريب في الأمر أن جناب القمص يظن بقوله هذا أنه استطاع أن يكتشف أخيرا ما لم يدركه الأوائل، وما لم يفهمه الأواخر، وما لم يره ألوف الملايين الذين يقرأون القرآن الكريم، والذين قرأوا هذه الآية الكريمة ولم يفهموا ذلك الفهم الملتوي الذي فهمه منها جناب القمص. وطبعا اكتشافه هذا لا يرجع إلى عبقريته وإنما يرجع إلى التأثير الملوث الذي تركته عليه الأفكار الوثنية التي أدخلها بولس على المسيحية. ويقول جناب القمص إن الآية الكريمة تذكر وجود الله تعالى، ]إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ[ أي أنها تؤكد وجود الله الذي أرسل المسيح، كما تؤكد أيضا أن له كلمة ]وَكَلِمَتُهُ[، وأن له روح ]وَرُوحٌ مِّنْهُ[. فالله هو الوجود، وهو الذي يطلقون عليه لفظ "الآب" لأنه مصدر الوجود كله، والكلمة هو الذي يطلقون عليه لفظ "الابن" لأن الكلمة تعبر عن العقل كما يعبر الابن عن أبيه، والروح يعني أن الله حي بالروح ولذلك يطلقون عليه لفظ "الروح القدس". وفي رأيه أن هذا الثالوث المسيحي الذي يؤمنون به مذكور بكل وضوح في هذه الآية من القرآن الكريم.
أما أن الله كائن موجود فهذا لا خلاف عليه، وأما تشبيه الله تعالى بالأب فهو مكروه ومستهجن لدى المسلمين لأنه إنقاص من شأن الله تعالى، فلا يصح تشبيه الله بشيء آخر لأن كل شيء آخر هو دون الله، ولله المثل الأعلى. ولكن لا مانع من تشبيه بعض أعمال الله تعالى بأعمال الإنسان، كما يُقال مثلا "الخلق عيال الله" أي أن الله تعالى يعول خلقه كما يعول الأب أبناءه. وكلمة "عيال" في هذا الحديث الشريف ليست تعبيرا عن الأبناء وإنما تعبير عن الإعالة والرزق، وكلمة الخلق هنا لا تعني الإنسان فقط، وإنما تعني جميع المخلوقات التي يتكفل الله تعالى برزقها وحياتها، من حيوانات وحشرات ونباتات، بالإضافة إلى الإنسان.(/42)
أما لفظ "الكلمة" الذي جاء في الآية الكريمة في حق السيد المسيح، فهذا أيضا لا خلاف عليه بين المسلمين والمسيحيين، ولكن الخلاف كل الخلاف في فهم كل فريق منهم لمدلول اللفظ ومعناه. فالمسلمون يفهمون "كلمة الله" بأنها تعني "أمر الله". وقد ذكرت في الحلقة السابقة أن الله تعالى حين يريد أن يحقق شيئا يقول له كن فيكون، سواء كان هذا الشيء ماديا، كأن يكون خلقا فيخلقه، أو يكون هذا الشيئ غير مادي، كأن يكون نصرا لأوليائه أو فشلا لأعدائه، فيحققه. يقول تعالى ]إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئًا أَن يَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ[ (يس:82). ولا يعني هذا أنه ينبغي على الله أن ينطق بكلمة "كن" لكي تتحقق إرادته، وإنما تعني الآية أن كل شيء يتم بأمره، وأنه سبحانه له القوة والقدرة والسلطان أن يحقق كلمته وينفّذ مشيئته. وعلى هذا فكل شيء مخلوق هو في واقع الأمر كلمة الله، لأنه مخلوق بأمر الله. وكل شأن من شؤون الخلق يريده الله فإنه في حقيقة الأمر كلمة الله، لأنه يتحقق بأمر الله. وقد قال الله تعالى عن المسيح u ]إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ[ (آل عمران:59). وعلى هذا يكون المسيح كلمة الله، ويكون آدم كلمة الله، وكل مخلوق يعتبر أيضا كلمة الله، وخلق الله يجل عن الحصر، وعلى ذلك فلا يمكن لأحد أن يحصر كلمات الله، ولا يمكن لكتاب أن يحتوي كلمات الله، ولا يمكن لأي حاسوب أن يقوم بعدّ كلمات الله. ولذلك يقول U: ]قُلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا[ (الكهف:109)، ويقول أيضا: ]وَلَوْ أَنَّمَا في الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ[ (لقمان:27). وعلى ذلك فالسيد المسيح ليس إلا كلمة من كلمات الله، وقد خُلق بكلمة الله كما يُخلق كل مخلوق آخر بكلمة الله، وجُعل نبيا ورسولا بكلمة الله كما اصطفى سبحانه كل نبي ورسول آخر بكلمة الله. والآية التي نحن بصددها، أي الآية 171 من سورة النساء تنص على هذا، إذ تقول: ]إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلى مَرْيَمَ[، أي أنه خُلق بأمر الله، وجاءت به البشرى إلى مريم بأمر الله، وجُعل رسولا بأمر الله. وهو في هذا ليس فريدا بين البشر، فكل مخلوق قد خُلق بأمر الله، سواء كان حشرة أو حيوانا أم حجرا أصمَّ، وسواء كان إبليسا أو شيطانا أو قمّصا، فكل شيء قد خُلق بأمر الله.(/43)
ولعل جناب القمص يعترض هنا ويقول: "ولماذا لم يذكر القرآن المجيد عن أحد سوى المسيح u أنه كلمة الله، أفلا يدل هذا على خصوصية معيّنة للمسيح على سائر الخلق والبشر؟" والجواب على الاعتراض في غاية البساطة، وهو أن الله تعالى ذكر في أكثر من موضع في الكتاب العزيز أنه إذا أراد أن يحقق شيئا يختص بإرادته سبحانه فإنه يقول له كن فيكون، أي أنه يتحقق بأمر الله، وعلى هذا فليس هناك من داع يستدعي تكرار هذا القول في حق كل مخلوق أو في حق كل نبي ورسول يختاره الله تعالى. أما المسيح عيسى ابن مريم بالذات، فقد اتهمه قومه بأنه ابن زنى والعياذ بالله، وهذا هو ما يؤمن به اليهود الذين رفضوا الإيمان به، فحسب شريعة التوراة التي يؤمنون بها "لا يدخل ابن الزنى في جماعة الرب حتى الجيل العاشر" (تثنية2:23)، وعلى هذا يستحيل من وجهة نظرهم أن يكون المسيح ابن مريم رسولا من الله. وقد جاء نبي الإسلام r الذي بعثه الله تعالى ليكون رحمة للعالمين، ليكون رحمة أيضا للمسيح ابن مريم، فأتى بالكتاب العزيز الذي يشهد للمسيح ابن مريم ويمجّده ويرفع عنه اتّهام اليهود الكاذب، ويقرر أنه لم يكن ابن زنى، بل كان بالفعل رسول الله، وعلى هذا فقد اختاره الله بكلمته، أي بأمره سبحانه، ليكون رسولا، وخلقه بكلمته، أي بأمره، ولو كان ابن زنى كما يدّعي اليهود، لَمَا أخبر الله تعالى مريم عن نبأ ولادته، ولذلك تقرر الآية الكريمة أن الله تعالى ألقى كلمته إلى مريم، أي أنه أبلغ مريم عن أمره بولادة المسيح، فالمسيح هو نتاج كلمة الله التي ألقاها إلى مريم، أي هو نتاج أمر الله الذي أبلغه إلى مريم. وحيث إنه لم يحدث لأحد من الرسل سواه أن اتهمه قومه بأنه ابن زنى، لم يكن هناك من داع أن يذكر الله تعالى في حق كل نبي أو رسول أنه كلمة الله. أما كون المسيح قد خُلق بغير أب، فهذا أيضا قد تم بأمر الله، وهو يقول إن مَثَله في ذلك كمثل آدم الذي خلقه من تراب وقال له كن فيكون. وليس الأمر بمستغرب ولا مستبعد على الله تعالى، فالبشر الآن يستطيعون أن يستنسخوا بعض المخلوقات، وقد ينجحون في جعل بويضة الأنثى تنقسم بغير تلقيح، وهذا يحدث فعلا في بعض الديدان وبعض الكائنات الأخرى، وهناك العديد من الحالات التي سجلتها كتب الطب عن إناث ولدن بغير أن يمسّهن رجل، وما لا نعرفه اليوم من العلوم قد نعرفه غدا. وعلى هذا فليست ولادة المسيح بغير أب هي فريدة في ذاتها، وإنما هي نادرة الحدوث بين البشر، وهي بلا شك قد حدثت بأمر الله وكلمته، ولم يكن u ابن زنى كما يدّعي اليهود.
هذا هو ما يفهمه المسلمون من لفظ "كلمة الله"، أما جناب القمص فيفهم منها شيئا آخر. إنه يفهم أن الكلمة تعبير عن العقل، وأنها هي التي تُظهر العقل، وحيث إن الله كائن موجود وعاقل، فهي تعبر عن عقل الله، فعقل الله هو الكلمة. وهو يرى أنه لما كان عقل الله قد نتج عن وجود الله، فهو بمثابة الابن له، وما دام جناب القمص قد أطلق على وجود الله لفظ الآب، فلا مانع من أن يطلق على عقل الله لفظ الابن، فهو يرى أن العقل قد خرج من وجود الله كما يخرج الابن من الأب.
وتذكرني مفاهيم القمص هذه ببعض الأطباق الشهية، منها سَلَطة الخضراوات، حيث تجتمع في هذا الطبق مجموعة من الخضراوات وتُخلط ببعضها البعض، ثم يُضاف إليها الزيت والليمون فتكون طبقا شهيا. وأيضا يوجد طبق سَلَطة الفواكه، حيث تجتمع فيه مجموعة من الفواكه وتُخلط ببعضها البعض، وقد يضاف إليها السكر أو الكريمة فتكون أيضا طبقا شهيا. ووجه الشبه بين هذه الأطباق ومفاهيم القمص أن هذه المفاهيم تبدو كمجموعة من الأفكار التي اختلطت ببعضها البعض فأصبحت سَلَطة من الأفكار، ولكنها بلا معنى ولا طعم ولا مضمون.
إن مفاهيم جناب القمص تبدو دائما عبارة عن بناء لا يقوم على أساس سليم، وبمجرد نفخة من الهواء ينهد الأساس وينهار البناء كله. فجنابه يرى أن الكلمة تعبر عن العقل، والعقل يخرج من الوجود، وعلى ذلك فالكلمة هي العقل، وما دام عقل الله هو الله تكون الكلمة هي الله أيضا. فالأساس الذي بنى عليه مزيج الأفكار هذا هو أن الكلمة تعبر عن العقل، والمثال الذي قدمه لنا بحسب نص قوله كما يلي:
"والعقل، الله عقل، ولاّ يخلق إزّاي بشر عاقلين؟ والعقل ده، بناخد له كلام بلاغي، ونقول الابن؟ إزاي بقى الابن؟ أقولك. لما الواحد يقعد ساكت، حد يعرف دا عاقل ولاّ مجنون؟ لأ طبعا، لما يتكلم يبتدي يبان عقله، إذا كان ترلللي ولاّ مجنون، مش كده؟ فالكلمة بتعبر عن العقل، بتظهره".(/44)
ويبدو أن جناب القمص لم يسمع عن الدكتورة هيلين كيلر، التي كانت في صباها فتاة صغيرة تلعب في حديقة خلف منْزلها مع أصحابها، وكان ذلك على أثر نهاية الحرب العالمية الثانية، فوجدن شيئا لفت انتباههن فالتقطته إحداهن فإذا به ينفجر، ونتج عن ذلك أن مات أصحابها، أما هي فقد فقدت النطق والسمع والبصر، ولكنها لم تفقد عقلها حتى إنها استطاعت فيما بعد أن تتغلب على المعوقات التي أصابتها، وحصلت على أعلى الدرجات الأكاديمية وهي درجة الدكتوراة. فكيف عبرت الدكتورة هيلين كيلر عن عقلها؟ لم يكن ذلك بالكلمة وإنما باللمسة. وليس التعبير باللمس وقفا على المعوقين فقط، وإنما يستعمله البشر العاديون، فتلامس اليدين عند المصافحة تعبير أيضا عما في العقل من مشاعر، وتلامس الأجساد بالأحضان عند لقاء الأهل والأصدقاء تعبير أيضا عن المشاعر، وربْت الأم طفلها تعبير عن المحبة كذلك. وبغير التلامس نجد أننا نستعمل إشارات اليدين وتعبيرات الوجه للتعبير أيضا عما في نفوسنا دون أن ننطق ببنت شفة، فالكلمة ليست وحدها هي بنت العقل، بل يمكن أن تغيب الكلمة تماما، وحينئذ تكون الإشارات والحركات هي التي تعبر عن العقل. وعلى هذا لا يجوز أن يقال إن الكلمة تعبر عن العقل، لأن الواقع يقول إن الكلمة واللمسة والحركة كلها تعبر عن العقل. فهل نحتاج إلى ثالوث آخر من هذه الثلاثة للتعبير عن العقل يا جناب القمص؟
ثم نأتي إلى الشهادة التي يستشهد بها جناب القمص للدكتور محمد الشقنقيري أستاذ الشريعة الإسلامية في جامعة باريس. ولسنا ندري ما إذا كان الدكتور الشقنقيري هذا مسلما أم أنه بسبب لقمة العيش قد تحوّل إلى الإيمان المسيحي، أو لعله من أساتذة الجامعات الملحدين أو الذين لا يؤمنون بأي دين، وما أكثر هؤلاء الذين يتخلون عن دينهم وعقيدتهم، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، وذلك لأنهم يرون أن الدين سبب للتخلف وأنه أفيون للشعوب.
يقول الدكتور الشقنقيري: "نعرف أن القرآن يقول عن يسوع إنه كلمةُ الله وروحُه. وترجمة هذه التسمية لا تنال المسيحي بأية صعوبة. ومن ثم، كان الاعتراض على المسلمين لاضطرارهم إلى الاعتراف بألوهية المسيح. ما المسيح؟ يجيب المسلم أنه كلمة الله وأنه روح الله. ولكن، هذه الكلمة وهذا الروح، أمخلوقة؟ أم غير مخلوقة؟ إذا كان، روح الله غير مخلوق فلا إشكال. (ويشرح جناب القمص للسيدة ناهد هذا الكلام وهو يكاد يرقص طربا فيقول لها: "فإذا قلنا إن روح الله مش مخلوقة يبقى مفيش مشكلة، يبقى روح الله مش مخلوقة، أزلية، زي الله. شوفي الحتة اللي بيوْصل لها بقى الشقنقيري بقى، لحد كده آمنا والمنطق بسيط، شوفي الحتة اللي جاية بقى، القنبلة، يقولك") إذن، فالمسيح هو الله. وإذا كان روح الله مخلوقا، فيكون روح الله وكلمة الله مخلوقين. إذن، فالله، قبل أن يخلق كلمته، وقبل أن يخلق روحه، كان بلا عقل وبلا روح، وذلك غير مُتَصوّر.
هذه هي شهادة الدكتور محمد الشقنقيري، ومن الواضح أنه يعبر في هذا المقطع عن الفكر المسيحي. ولا يهمنا إذا كان هو نفسه قد تحوّل إلى المسيحية أم إلى الإلحاد، فنحن هنا نناقش الفكر ولا نناقش اختيار الشخص، فحق الاختيار بين الإيمان والكفر قد كفله الله تعالى لكل إنسان حين قال ]وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شّآءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شّآءَ فَلْيَكْفُرْ[ (الكهف:29). ولكن ما لوحظ على جناب القمص، وهو يسرد على مسامعنا شهادة الدكتور الشقنقيري، أنه شديد الطرب والسعادة، حتى لتكاد أن تزهق روحه لفرط سعادته بهذه الشهادة التي يصفها بأنها جميلة. ولذلك فقد راح يُثني الثناء الجميل على الدكتور الشقنقيري وهو يقول للسيدة ناهد متولي: "شايفة الإنسان اللي بيفكر؟ إحنا عايزين ناس تفكر، عايزين ناس تفكر عشان توْصل للحقيقة. ديكارت بيقول أنا أشك، فأنا أفكر، فأنا موجود. يبقى الإنسان اللي ما بيشكّش ولا بيفكرش، وجوده زي عدمه". فتوافقه السيدة ناهد وهي تبدي أسفها قائلة: "للأسف، للأسف آه". فيشاركها القمص الأسف ويتحسّر على أحوال المسلمين فيقول: "للأسف الشديد. وأنا آسف أقول إن كتير من إخوانّا المسلمين لا عايزين يشكّوا ولا عايزين يفكّروا، ولا عايزين يعرفوا". وتصدق السيدة ناهد على كلامه مؤكدة: "بياخدوها بالتسليم الكامل كده". فيقول القمص مستنكرا: "هيّه كده وخلاص، لا، دا إيمان العجائز، لكن مش إيمان إنسان مُتفتّح بتاع القرن الحادي والعشرين".(/45)
وطبعا من يقول شيئا يوافق به أراء وأفكار جناب القمص، يكون إنسانا متفتحا ومفكرا عظيما من عظماء المفكرين في القرن الحادي والعشرين. أما من يعارض أفكار القمص ويفنّدها ويبين الخلل فيها، فلعله يكون لدى جناب القمص أغبى أغبياء القرن الحادي والعشرين. وإن ما يثير العجب فعلا يا جناب القمص، هو أنك شغوف بكيل التهم للمسلمين بأنهم لا يقرأون، وأنهم إذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يقبلون الحقيقة، وأخيرا تقول إنهم لا يريدون أن يشكوا ولا يفكروا، وفي رأيك أن من لا يشك ولا يفكر فإن وجوده مثل عدمه. ولكن لماذا لم تشُكّ أنت ولماذا لم تفكر؟ ولماذا تقبل كلام دكتور مسلم دون بحث وتمحيص؟ هل لأنه دخل المسيحية حديثا فينبغي من باب المجاملة التجاوز عن أخطائه؟ أم لعله يريد أن يتشبه بمعظم الأكادميين الغربيين الذين يتخذون من نقد الخطاب الديني وسيلة للظهور بمظهر التحضّر الغربي، أم يا ترى لأن لقمة العيش التي كان يأكلها في مصر عندما كان يقوم بالتدريس في جامعة عين شمس لم تكن في ليونة وسهولة لقمة العيش التي أصبح يأكلها في فرنسا؟ كان الواجب عليك يا جناب القمص أن تفكر قليلا فيما يقوله الدكتور الشقنقيري، ثم تسأل نفسك: هل الإله الذي تعبده ينطبق عليه ما يقوله الشقنقيري أم لا؟ وهل ترضى يا جناب القمص أن تعبد إلها مثل ذلك الذي يتحدث عنه الدكتور الشقنقيري؟ ولكن يبدو أنك ترضى، ومن الواضح أنك لا تمانع في ذلك بتاتا، بل إنك تبدو فرحا فخورا بذلك. فالإله الذي يتحدث عنه الشقنقيري هو فعلا الإله الذي اخترعته المسيحية المغلوطة، هو الإله الذي اخترعته مجموعة من الكهان الذين ظنوا أنهم يمجّدون المسيح ويرفعون من مقامه، فإذا بهم يخفضون من مقام الله ويسيئون إليه. ولو كان ما ذكرته هو كلام الشقنقيري فعلا، فإنه يكون قد جعل من نفسه بوقا من أبواقكم، يطنطن بما تؤمنون به دون تفكير، مع أنه يعيش في القرن الحادي والعشرين، إن كان لا يزال على قيد الحياة منذ عام 85 عندما نُشر مقاله في جريدة الأهرام.
يتساءل الدكتور الشقنقيري: هل كلمة الله مخلوقة أم غير مخلوقة؟ وهل روح الله مخلوق أم غير مخلوق؟ والإجابة التي يعرفها كل صبي مسلم هي أن الله تعالى هو خالق كل شيء، فلا بد أن تكون كلمة الله مخلوقة، ولا بد أن يكون روح الله مخلوقا. فالمسيح الذي هو كلمة الله وهو روح منه، ويقول الله تعالى عنه: ]إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ[ (آل عمران:59). وبالتالي فقبل أن يُخلق المسيح، من الطبيعي أنه لم يكن له وجود، سوى في علم الله، شأنه في ذلك شأن كل ما هو موجود، وكل ما كان موجودا، وكل ما سوف يكون موجودا، فالله تعالى لا يعزب ولا يغيب عن علمه شيء. فأين هي المشكلة؟ وعلى هذا يا جناب القمص، إن "القنبلة" التي ذكرتَ للسيدة ناهد أن الدكتور الشقنقيري قد فجّرها طلعت "فشنك"، أي أنها كانت مجرد قنبلة صوتية لا أكثر ولا أقل، وربما أقل. ولا ندري من أين جاء الدكتور الشقنقيري باستنتاجه الغبي حين يقول: "وإذا كان روح الله مخلوقا، فيكون روح الله وكلمة الله مخلوقين. إذن، فالله، قبل أن يخلق كلمته، وقبل أن يخلق روحه، كان بلا عقل وبلا روح، وذلك غير مُتَصوّر". لماذا أقحم الدكتور الشقنقيري العقل هنا واستبدله بكلمة الله؟ لأنه في الحقيقة يقول ما تقولونه أنتم، ويردد ما ترددونه من فكر بولس الذي تلوث بوثنية اليونان، ذلك الفكر الذي لم يتخل عن تصوّره للآلهة اليونانية القديمة، فيتصوّر الله تعالى وكأنه إنسان له عقل يفكر به، وله روح يحيا بها، كما سبق وقلت أنت يا جناب القمص. وللأسف الشديد، إن بعض المسلمين أيضا ممن يسمون أنفسهم أهل الظاهر، قد تأثروا بهذا الفكر الوثني فيقولون إن لله يدا ولكن لا نعلم كنهها، كما أن له وجه لا نعلم كنهه، وبالتالي فلا مانع أن يكون له عقل لا يعلمون كنهه، وله روح لا يعلمون كنهها. أما أنتم يا جناب القمص فكنتم أذكى من هؤلاء، واستغللتم وجود الآية 171 من سورة النساء، وخلطتم بين الحقيقة والمجاز، وبين الكلام اللازم معناه والكلام البلاغي كما قلتَ سابقا يا جناب القمص، وخرجتم بهذه النتيجة الخاطئة، وهي أن المسيح هو كلمة الله التي خرجت من عقله، وهو روح الله التي يحيا بها، وبالتالي جعلتموه إلها بل هو الله ذاته، لأن في مفهومكم وحسب تصورات بولس اليونانية الوثنية، عقل الله وروح الله لا بد أن يكونا غير مخلوقين، وبالتالي فهما أزليان، والأزلي غير مخلوق، فيكون هو الله.(/46)
لا يا جناب القمص. لا وألف لا. هذه وثنية يونانية لا يقبلها المسلمون الذين تعلموا التوحيد الحق من كتابهم العزيز ومن نبيهم خاتم النبيين r. إن العقل وسيلة للإنسان لكي يعقل به ويفكر به ويزن الأمور ويختار ما يراه صحيحا، والله تعالى غني عن أن يحتاج إلى وسيلة، فهو كائن كامل، لا نقول إنه عاقل، لأن العقل ليس إلا وسيلة، والله لا يحتاج في ذاته إلى أية وسيلة، وإنما نقول إنه الحكيم بغير أن يحتاج إلى عقل، وهو العليم بغير أن يحتاج إلى عقل، وهو الرشيد بغير أن يحتاج إلى عقل، تماما كما أنه القوي بغير أن يحتاج إلى عضلات، وهو السميع بغير أن يحتاج إلى آذان، وهو البصير بغير أن يحتاج إلى عيون، وهو الحي بغير أن يحتاج إلى روح، وهو المتكلم بغير أن يحتاج إلى صوت أو لسان.
هذا هو الله الحق، هذا هو الله الواحد الأحد الذي ليس كمثله شيء ولم يكن له كفوا أحد. أما ذلك الإله الذي يحتاج إلى عقل يفكر به، ويحتاج إلى روح ليحيا بها، فهذا كان يعيش في الأزمان الغابرة، وفي العقليات المتخلفة من الوثنيين الذين كانوا يعيشون في اليونان من قبل ميلاد المسيح u. أما الآن، فلا تنس كلامك يا جناب القمص، وتذكر أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين.(/47)
الرد على افتراءات برنامج زكريا بطرس فى قناة الحياة الفضائية1 ( أسئلة عن الإيمان )
أجوبة عن الإيمان
مصطفى ثابت
agweba@yahoo.com
الرد على إفتراءات برنامج زكريا بطرس فى قناة الحياة الفضائية ( أسئلة عن الإيمان )
( 1 )
لوحظ في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تزايد الهجوم على الإسلام، وكأن الإسلام الآن أصبح هو العدو اللدود بعد أن نجح الغرب في القضاء على انتشار الخطر الشيوعي، وبعد أن تفكك الاتحاد السوفيتي وسقط حائط برلين. ومع انتشار التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال والإعلام التي أتاحتها الإنترنت، والمحطات الفضائية، بدأت تُشَن حملة واسعة ضد الإسلام. بدأت بشكل هادئ في أول الأمر، وتحولت بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) لتكون بأسلوب سافر، وفي كثير من الأحوال بأسلوب سافل أيضا. وأولئك الذين يشنون هذه الحملة الشعواء على الإسلام يتّبعون كل ما لديهم من وسائل، بما في ذلك وسائل التدليس والكذب والخداع والإفك.
ويذكرنا حديث هؤلاء عن الإسلام، وانتقاداتهم لحياة الرسول r وعلاقاته مع أزواجه، بحديث الإفك عن السيدة عائشة، الذي أثاره بعض المنافقين، ووقع فيه أيضا بعض المسلمين. ولا شك أن حديث الإفك ذلك قد أحزن الرسول r وأحزن المؤمنين المخلصين، ولكن الله تعالى أظهر الحق في نهاية الأمر، وكشف الكذابين والدجالين والمدلسين والمخادعين. ويُسَرّي الله تعالى عن المسلمين فيقول لهم: ]إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ[ ثم يقول تعالى في الآية التالية ]لَوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ[ (سورة النور: 11-12)
واليوم، نسمع مرة أخرى حديث الإفك، بشكل جديد، وبتكنولوجيا حديثة، وبأسلوب أشد خبثا، وبتدبير أكثر مكرا، ولكنه أولا وأخيرا هو أيضا من حديث الإفك، وسوف يكون مآله بإذن الله تعالى نفس مآل جميع أحاديث الإفك في الماضي، فسوف ينكشف الحق ويظهر صدق الإسلام، وسوف ينكشف أيضا الباطل ويظهر كذب الكذابين.
وفي الحقيقة، إن الحملة الشرسة التي تُوجّه ضد الإسلام اليوم ليست جديدة، وهي ليست سوى معركة في حرب طويلة بدأت بعد عصر النهضة في أوربا. كانت أوربا المسيحية تعيش في عصور الظلام، واستمرت في هذا الحال لمدة ألف سنة تقريبا، من القرن السادس إلى القرن السادس عشر. ثم بدأ المارد الذي كان يغط في سُبات عميق يستيقظ، وينهض، ويغزو العالم، ويسيطر ويستعمر الشعوب. وطبعا كلمة يستعمر الشعوب هي كلمة تقوم على الكذب والخداع والتدليس، لأن الاستعمار معناه الإعمار والبناء والتقدم، ولكن استعمار الغرب للشعوب كان عبارة عن استغلال الشعوب ونهب ثرواتها والاستيلاء على خيراتها. وفي خلال ثلاثة قرون، استطاع الغرب المسيحي أن يستولى على العالم بأجمعه، وخضعت له الشعوب، وأصبحت دولة مثل بريطانيا تسمى باسم الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. في نفس الوقت، وبكل أسف، تحول المسلمون ليكونوا كما وصفهم سيدنا رسول الله: "غثاء كغثاء السيل"، والغثاء هو ما يحمله السيل من قاذورات وأوساخ.
وكان من الطبيعي، بعد أن انتفخ الغرب المسيحي واستولى على العالم، أن يعمل على نشر المسيحية في العالم، وهكذا بدأت حملات التبشير تغزو كل البلاد التي غزتها الجيوش من قبل. فإن محاولات التنصير كانت دائما تصحب هجمات الاستعمار. ولذلك رأينا في القرن التاسع عشر نشاطا بالغا للحملات التبشيرية في الهند وجنوب شرق آسيا، كما انتشرت أيضا الأنشطة التبشيرية في أفريقيا على أوسع نطاق.
ثم انشغل العالم بعض الشيء في القرن العشرين ببعض المشاكل، فكانت الحرب العالمية الأولى في العقد الثاني، ثم تلا ذلك الأزمة الاقتصادية التي أثرت في العالم كله في العشرينيات، ثم تلا ذلك الحرب العالمية الثانية في أواخر الثلاثينيات والأربعينيات، ثم ظهر الخطر الشيوعي في الخمسينيات والستينيات حيث اندلعت الحرب الباردة بين المعسكرين المسيحيين في الشرق والغرب. ومع حلول السبعينيات بدأت عوامل التفكك تظهر في المعسكر الشرقي، وما أن جاءت الثمانينيات حتى اندحر فيها العدو الشيوعي وزال خطره. وهنا كان لا بد للغرب المسيحي أن يعمل على رأب الصدع الذي أصابه، ويتحول مرة ثانية إلى الإسلام والمسلمين، خاصة وأنه كان يستغله أسوأ استغلال للدفاع عن مصالحه، والوقوف كسد أيديولوجي منيع ضد انتشار الأيديولوجية الشيوعية، ثم عملوا على تشجيع التطرف والعنف بين الجماعات الإسلامية، واستخدموها في أفغانستان لمحاربة الاستعمار الشيوعي. وأهرق المسلمون دماءهم في أفغانستان، وظنوا أنهم كانوا يجاهدون في سبيل الله، ولكنهم في الحقيقة كانوا يدافعون عن المصالح الاستعمارية الكبرى، التي استعملتهم واستغلت دماءهم في محاربة الاستعمار الشيوعي السوفيتي.(/1)
وبعد أن تم القضاء على الخطر الشيوعي، تحوّل الغرب المسيحي لمحاربة أصدقاء الأمس الذين كان يعتبرهم مجاهدين، فإذا به الآن يعتبرهم إرهابيين. وبعد أن لعب صدام حسين الدور المطلوب منه في تقليم أظافر الخطر الشيعي الذي تفجر مع ثورة الخميني، تحول الغرب للقضاء على صدام حسين والقضاء أيضا على من سماهم بالإرهابيين، مع أنه كان السبب الأول في خلقهم وتدريبهم وتسليحهم.
غير أن المعركة لم تكن معركة بالسلاح فقط، فقد كان استخدام السلاح ضد من يحمل السلاح، ولذلك كان لا بد من فتح جبهة أخرى ضد الإسلام والمسلمين، وهي جبهة التبشير المسيحي. وبذلك عاد النشاط التبشيري مرة أخرى بعد أن مر بفترة من الهدوء النسبي في القرن العشرين. وشهد العالم الإسلامي هجمة جديدة للتبشير المسيحي، بدأ الإعداد الجيد لها في الثمانينيات واستمرت في التسعينيات، ثم أسفرت عن وجهها في القرن الواحد والعشرين، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر كما سبق ذكره.
وكان مما ساعد على انتشار هذه الحملة الجديدة ضد الإسلام العديد من العوامل، منها:
(1) الدول التي كانت تهتم بالأمور الإسلامية، إما أنها تحولت إلى مسالمة الغرب ومصادقته، وبالتالي عزلت نفسها عن معركة التبشير ضد الإسلام، أو أنها احتضنت فلول الجماعات الإسلامية، فوضعت نفسها تحت مطرقة الغرب وأسلحته.
(2) الكثير من العلماء المسلمين لم يشاءوا أن يصرفوا أوقاتهم وجهودهم في الاهتمام بهذه الأمور، خاصة وأن لديهم من شؤون المسلمين ما يهمهم ويشغلهم عن الاهتمام بشؤون غير المسلمين.
(3) الكثير من الجماعات الإسلامية ظلت تحلم بأن السيف هو الوسيلة الوحيدة لفرض وجودها، عملا ببيت الشعر المشهور للشاعر أبي تمام الذي يقول فيه:
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
فكان أن تعرضت لمطرقة الغرب وسندان الحكومات التي تعيش تحتها، حتى اضطر بعضها إلى إعلان التوبة، أو استمر يعطي للغرب الذريعة باتهامها بالإرهاب ويتيح له الفرصة للقضاء عليها.
(4) ومع انتشار الإنترنت كوسيلة للاتصال وجمع المعلومات، ومع انتشار الفضائيات التي يسهل استخدامها بعيدا عن أية رقابة ولا تدخل من الحكومات في البلاد الإسلامية، بدأت الحملة المسيحية الجديدة تعمل لنشر المسيحية في العالم الإسلامي وفي الوطن العربي بشكل خاص.
وبطبيعة الحال، لا بأس من أن يعمل أصحاب أي دين على نشر أفكار دينهم، ما داموا يحترمون المشاعر الدينية للآخرين، ولا يحاولون الإساءة إلى معتقدات الآخرين أو استخدام الأساليب الوضيعة من افتراء الأكاذيب واتباع أساليب الخداع. وهنا طلع علينا القُمّص زكريا بطرس يقدم لنا المسيحية التي يؤمن بها، وراح يحدثنا أولا عن التثليث، وعن تجسد السيد المسيح، وعن عقيدة الفداء التي استلزمت صلب المسيح ليكون كفارة عن خطيئة آدم التي يقول إن الجنس البشري قد توارثها. واستمع الكثيرون إلى القُمّص زكريا بطرس، ولكن لوحظ أنه لم يكن يخاطب أتباعه من المسيحيين البعيدين عن الكنيسة فيعمل على إعادتهم إلى الطريق الصحيح كما يراه ويؤمن هو به، وإنما كان يخاطب المسلمين ويحاول إقناعهم بصدق عقائده المسيحية. ولا بأس كما قلنا في أن يدعو الإنسان الآخرين إلى ما يؤمن به من عقائد وتعاليم، ولكنا رأينا القُمّص زكريا بطرس راح يوجه انتقادات لاذعة إلى الإسلام، ويتناول بالتجريح مشاعر ومقدسات المسلمين، ويصف رسول الرحمة بالإرهاب. ولو أنه كان موضوعيا في انتقاداته لما أثار حفيظة أحد، ولكنه راح عن قصد يردد ما سبق أن رد عليه علماء المسلمين من افتراءات وأكاذيب، معتمدا في ذلك على ما جاء في بعض الكتب الإسلامية التي ظهرت في عهود التخلف، أو يستدل بكتب كأنها إسلامية وهي ليست كذلك، فهي إما أن تكون لملاحدة، أو تكون بمسميات إسلامية وهي غير إسلامية، وكان يستعين ببعض العقائد التي تسربت بكل أسف إلى مفاهيم المسلمين، نتيجة لدخول أعداد كبيرة من النصارى في دين الإسلام، ولم يستطع هؤلاء التخلي كلية عما ورثوه من عقائد ومفاهيم، ومع مرور الوقت وجدت تلك العقائد والمفاهيم الخاطئة طريقها إلى الكتب والمفاهيم الإسلامية، وهي معروفة باسم "الإسرائيليات". وبمعنى آخر، راح القُمّص زكريا بطرس يصطاد في الماء العكر، لكي يسيء إلى الإسلام ويعمل على تنصير المسلمين.(/2)
ومن الواضح أن القُمّص زكريا بطرس لم يقم بهذا العمل بمفرده، وإنما كان هناك الكثير من فرق العمل التي تعمل معه، وتستخرج له المواد اللازمة، وتسجل له النصوص التي يستعين بها. وكُنّا على استعداد أن نسمع له ونحترمه لو أنه التزم بالموضوعية وابتعد عن التزوير والإسفاف، ولكنه لم يلتزم لا بالصدق ولا بالموضوعية، ولا ابتعد عن التزوير والإسفاف. ولعل هذا لم يكن خطأ صادرا عنه، بل كان خطأ من يُعدّون له المواد ومن يكتبون له الموضوعات التي يقدمها. وفي أيّ من الحالتين، فإن الإساءة إلى الإسلام والمسلمين قد وقعت، وبذلك فقد أتاح لنا الفرصة أن نَرُدَّ عليه، ونُفنّد عقائده، ونفضح الأكاذيب التي قدمها، والتي استطاع بها أن يخدع بعض المسلمين. وقد ظل القُمّص ينادي بأن يرد عليه علماء المسلمين، ويتحدّى علماء الأزهر الشريف، ويتحدى الدكتور زغلول النجار، بل وطالب فضيلة الشيخ الدكتور سيد طنطاوي شيخ الأزهر أن يرد عليه. ولعله لا يعلم أنه بذلك قد تجاوز قدره، وأساء الأدب بهذا التحدي، فمن يكون القُمّص زكريا بطرس لكي يتحدى مثل هؤلاء الأفاضل من العلماء؟ إنه ليس إلا قمّصا لا غير، لم يصل إلى أن يكون أسقفا أو كاردينالا، وبالطبع لم يصل إلى كرسي البابوية، فما باله يتحدى شيخ الأزهر وعلماءه؟ وهل يرضى الأخوة المسيحيون أن يخرج علينا واحد من أئمة المساجد مثلا ليتحدى قداسة البابا شنودة وأساقفة الدين المسيحي؟
وعلى أية حال، إنني أقول لجناب القُمّص، إنني قبلت التحدي وسوف أتصدى له، وأنا مجرد واحد من ملايين المسلمين. وقد يقول إنني مجرد فرد لا شأن لي، وقد يقول إنني لا أمثل المسلمين فلا يحق لي أن أتكلم باسمهم. وأحب أن أطمئنه أنني لا أتكلم باسم أحد ولا نيابة عن أحد، وإنما أنا مجرد إنسان مسلم أتاه الله عقلا يستطيع أن يستخدمه في التفكير، ولذلك سوف أتولى تحليل العقائد المسيحية التي قدمها لنا جناب القُمّص، وسوف أبين له وللناس كلهم، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، أين هي مواطن الخلل في المنطق الذي استعمله جناب القُمّص. وإنني أرجو من جناب القُمّص، ومن حضرات المشاهدين، المسلمين منهم والمسيحيين، وأيضا من أولئك المسلمين الذين خدعهم المنطق المغلوط الذي قدمه جناب القُمّص، فتركوا الإسلام وقبلوا المسيحية، إنني أرجو منهم جميعا أن يتفكروا فيما أقدمه، ويسمعوا ما أقدمه بأذن ناقدة، ثم يردوا عليّ إن كانوا يستطيعون الرد، فإن لم يفعلوا، ولن يفعلوا، فكل ما أرجوه هو معاودة التفكير، وعدم الإساءة إلى الإسلام والمسلمين، وكما يقول المثل: من كان بيته من زجاج فلا يقذف الناس بالحجارة، أو إذا كان من الممكن استعارة كلمات السيد المسيح التي يقول فيها في إنجيل متّى (3:7):
"لا تدينوا كي لا تُدانوا، لأنكم تُدانون بالدينونة التي بها تدينون، وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم. ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها. أم كيف تقول لأخيك دعني أخرج القذى من عينك، وها الخشبة في عينك. يا مرائي، أخرج أولا الخشبة التي في عينك وحينئذ تبصر جيدا أن تخرج القذى من عين أخيك".
لا شك أن كل مسلم يحترم المسيح u، ويحترم دين المسيح الذي أنزله الله تعالى عليه. ورغم أن المسلمين على قناعة بأن دين المسيح قد أصابه التحريف، وأن الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على المسيح قد ضاع ولم يبق منه إلا آثار من أقوال جمعها بعض الناس في كتب اعتبرتها الكنيسة أناجيل معتمدة، رغم كل ذلك فإن المسلمين يحترمون ما يريد النصارى أن يؤمنوا به، ومن أراد أن يعبد إلها من ثلاثة أقانيم فهو حر، ومن أراد أن يعبد بقرة بثلاثة أرجل فهو حر أيضا، ولكن إذا تطاولتَ على ديني، فإنك تعطيني الحق أن أعاملك بالمثل، لأنك أنت الذي بدأت بالعدوان، فأصبح من حقي أن أدافع. وعفوا يا جناب القُمّص، فلن أستطيع أن أدير لك الخد الآخر هذه المرة، ولن أكيل لك الصاع صاعين، بل سأكيله صاعات وصاعات، وكما يقول المثل: على نفسها جنت براقش.
إن المسيحية التي يدعونا إليها القُمّص تقوم على الكثير من المغالطات المنطقية:(/3)
أولا: تحريف تفسير بعض الفقرات في الكتاب المقدس لاستخراج معان معينة لم تأت في النص. فمثلا، إذا افترضنا أن كاتبا كان يكتب أقصوصة أو بعث إلى أحد أصحابه برسالة وكتب فيها يصف أن رجلا من أهل الريف أخذ ابنته وذهب إلى السوق واشترى أشياء وحملها هو وابنته إلى المنْزل فكتب يقول: "وقال الأب لابنته أم الخير: احملي البصل، فلما حملته ووصلا إلى الحظيرة قال لها ضعي البصل". ثم نفترض أن مثل هذه القصة أو الرسالة، لسبب أو لآخر، أصبحت جزءا من كتاب مقدس يؤمن به جناب القُمّص، وأراد أن يفسرها ليحقق بها غرضا معينا، نراه يستعمل منطقا غريبا في تفسيرها فيقول: إن الرجل يعني الله لأنه الأب، وابنته أم الخير هي مريم لأنها أم يسوع، ويسوع هو مصدر كل الخير في العالم، ولما قال لها احملي البصل، كان يقصد أن تحمل بالكلمة، أي تحمل يسوع في رحمها، لأن البصل جسم حي يرمز لجسد يسوع الحي، وأيضا البصل طعام فهو يعطي حياة، وكذلك قال يسوع إنه الطريق والحياة، ومن هنا كان البصل رمزا ليسوع، وقد وضعت البصل في الحظيرة، أي أنها ولدت يسوع في حظيرة.
قد يستغرب المشاهد من هذا المنطق، وقد يظن أنني أبالغ في وصف المنطق الذي استعمله القُمّص زكريا بطرس، ولكن هذا هو ما حدث بالضبط، وسوف أبين للمشاهد صدق كلامي عندما أتناول ما قاله وما قدمه جناب القُمّص.
وقد يعترض أحد فيقول إن الكتب المقدسة لا يمكن أن تحتوي على حكايات أو حواديت من صنف حدوتة "أم الخير"، ولكن المشاهد سوف يندهش عندما أقدم له الحواديت والكلمات المكتوبة في بعض الخطابات التي يتصور القُمّص أنها وحي مقدس. وعلى سبيل المثال، فليقرأ المشاهد الجزء الأخير من الرسالة الثانية إلى تيموثاوس حيث يقول فيها:
"سلم على فرسكا وأكيلا وبيت (فلان الفلاني) أُنيسيفورُس، (فلان) أراستُس بقي في كورِنثوس، وأما (فلان) تُروفيمُس فتركته في (البلد الفلانية) ميليتُس مريضا. بادر أن تجيء قبل الشتاء. يسلم عليك (فلان وفلان وعلان وترتان) أفْبولُس وبوديس ولينُس وكلافَدِيَّة، والإخوة جميعا" (2تي19:4)
فهل يمكن أن يتصوّر عاقل أن هذا الكلام من وحي الله تعالى؟ ومع ذلك فإن بعض الناس يعتبرونه وحيا مقدسا، ولا يستبعد على مثل هؤلاء أن يعتبروا حدوتة مثل حدوتة "أم الخير" وحيا مقدسا أيضا.
ثانيا: المغالطة المنطقية الأخرى التي تقوم عليها المسيحية التي يدعونا إليها القُمّص زكريا بطرس هي تقديم أفكار صحيحة تبدو أنها منطقية، ولكنها تقوم على أساس خاطئ، ويخرج منها في النهاية بقاعدة تبدو أنها صحيحة، لأنها مبنية على الأفكار الصحيحة التي قدمها، ولكنها خاطئة لأن أساسها خاطئ، ومع ذلك فإنه يبني على تلك القواعد عقائد في غاية الأهمية. وقد يكون من الصعب الآن تقديم مثال على هذه المغالطات نظرا لأنها تحتاج إلى شرح طويل، ولكني أعد المشاهد أنه سوف يرى بنفسه حجم المغالطات التي يقدمها جناب القُمّص، وسوف يلمس بنفسه الخلل الذي يقوم عليه منطقه، وما أقامه عليه من عقائد.
ثالثا: المغالطة الثالثة التي يستعملها جناب القُمّص أنه يخلط كثيرا بين الحقيقة والمجاز، حتى إن الحقيقة عنده تكون أحيانا مجازا، وفي كثير من الأحيان يعتبر أن المجاز حقيقة. وقد اتبع جناب القُمّص هذه المغالطات بكثرة عند كلامه عن موضوع ما ظن أنه تجسّد السيد المسيح.
رابعا: إنه كثيرا ما يتعمد تزوير النص وتحريفه لكي يستخدمه في إثبات وجهة نظر معينة، فمثلا يذكر للقارئ أن في القرآن المجيد آية تقول: "الرحمن على الكرسي استوى"، ثم يفسر كلمة استوى على أنها تعني القعود على الكرسي، ثم يطلق لسخريته العنان في الاستهزاء بمن يؤمن بأن الله يقعد على الكرسي، وما إذا كان له مقعدة يقعد بها على الكرسي، إلى آخر ما شابه ذلك من أساليبه السفيهة. مع أن الآية القرآنية هي ]الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[، والاستواء لا يعني القعود على كرسي بمقعدة. وبهذا يتبين أن جناب القُمّص لا يستعمل عقله كثيرا في التفكير، ولا يسمو فكره ليصل إلى مستوى رأسه، إذ ينحدر مستوى تفكيره أحيانا حتى يصل إلى مستوى المقعدة.
خامسا: كثيرا ما يتهم جناب القُمّص المشاهدين المسلمين أنهم لا يقرأون، وإذا قرأوا فإنهم لا يفهمون، وإذا فهموا فإنهم لا يقبلون الحقائق التي يقدمها، وهي بالطبع ليست حقائق، وإنما هي أكاذيب وأغاليط سوف نكشف عنها له وللمشاهد.(/4)
سادسا: جناب القُمّص، ومن يستخرجون له المواد التي يستعملها، لديهم ولع شديد باستخراج بعض التفاسير التي تتفق مع مفاهيمهم المغلوطة، ثم يتولى جناب القُمّص تقديمها على أنها المعنى الوحيد الذي يجمع عليه كل المفسرين وكل المسلمين. وهو بذلك يخدع المشاهد لأنه يوحي إليه بشيء يغاير الحقيقة، ولا يقول له إن رأي المفسرين ليس هو رأي القرآن، وإنما المفسرين اجتهدوا، منهم من أصاب ومنهم من أخطأ، فمن أصاب له أجران ومن أخطأ فله أجر الاجتهاد، ولكن كلام المفسرين ليس ملزما للمسلمين. وهنا يختلف المسلمون عن النصارى، وخاصة أتباع المذهب الأرثوذوكسي والكاثوليكي، حيث يتحتم على الجمهور المسيحي قبول تفاسير البابوات وتفاسير المفسرين. ولكن الإسلام لا يُلزم المسلمين بمثل هذا المبدأ أبدا.
وأخيرا، أقول عن حديث الإفك الذي قدمه لنا القُمّص زكريا بطرس ما قاله القرآن المجيد عن حديث الإفك الذي أذاعه بعض الموتورين من المنافقين، حيث قال تعالى عنه ]لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ[. إن جناب القُمّص أتاح لنا فرصة عظيمة لكشف ألاعيب المسيحية المغلوطة التي يؤمن بها، كما أنه أتاح أيضا فرصة عظيمة للكثير من المسلمين الذين كانوا تحت تأثير فهم خاطئ لبعض الأمور في التراث الإسلامي أن يصححوا مفاهيمهم. وأيضا أتاح فرصة عظيمة للمسلمين أن يتّحدوا للدفاع عن دينهم وشرف نبيهم r وكرامة الكتاب المجيد الذي يؤمنون به.
أيها المسلمون في كل مكان! لقد دق ناقوس الجهاد من أجل نصرة الدين، ليس بالسيف ولا بالسنان، ولا بالعنف والإرهاب، ولا بالتكفير والتفجير، ولكن بالمنطق وباللسان، تماما كما فعل جناب القُمّص، الذي كثيرا ما كانت جراحات لسانه أشد وطأة وأكثر خطرا من جراحات السيف والسنان. إنني أدعو المسلمين جميعا أن يهبوا لهذا الجهاد المجيد، وليطرحوا خلافاتهم جانبا، وليتناسوا ولو مؤقتا، ما يفصلهم عن بعضهم البعض، وليتخلوا عن أساليب التكفير لبعضهم البعض، ولنتحد جميعا لمواجهة هذا الخطر الجديد، الذي كشّر عن أنيابه، وكشف عن مخالبه، وظن أن الإسلام والمسلمين قد صاروا لقمة سائغة يمكن أن يلوكها أو يتلمّظ بها. وندعو الله تعالى أن يؤلف بين قلوب المسلمين، وأن يوحّد كلمتهم، وأن يكفيهم شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم، وأن ينصرهم نصرا عزيزا على كل من تسوّل له نفسه أن ينال من شرف سيدهم وحبيبهم رسول الله r، أو يدنس طهارة وقدسية كتابهم العزيز، أو يحط من شأن دينهم الكريم الذي ارتضاه الله لهم. وفقنا الله، ووفق الله المسلمين في عمل كل ما فيه رضاه، ونصرهم سبحانه على أعدائهم وأعداء الدين. آمين.
( 2 )
تكلم جناب القُمّص زكريا بطرس في بداية حديثه في سلسلة "أسئلة عن الإيمان" عن فكرة الثالوث، وبيّن أن المسيحية التي يؤمن بها لا تدعو إلى عبادة ثلاثة آلهة، وإنما هو إله واحد في ثلاثة أقانيم. وراح على مدى أربع حلقات يحاول شرح هذه الفكرة مستخدما أسلوبه الجذاب مع السيدة ناهد محمود متولي. وكما بينتُ في الحلقة السابقة، كان أسلوب جناب القُمّص يقوم على ست قواعد، ولا مانع من الإشارة السريعة إليها لتذكير المشاهد الذي لم ير الحلقة الماضية، بالأسلوب المنطقي المغلوط الذي يستعمله جناب القُمّص، إذ يعتمد في حديثه على ما يلي:
أولا: سوء تفسير بعض المقتبسات من الكتاب المقدس ليخرج بمعنى لا يحتمله النص.
ثانيا: يقدم أفكار تبدو أنها صحيحة ولكنها تقوم على أساس خاطئ، ثم يخرج منها بقاعدة يبني عليها عقيدة.
ثالثا: يخلط كثيرا بين الحقيقة والمجاز.
رابعا: يتعمد تحريف النص لاستعماله في إثبات وجهة نظره.
خامسا: يتهم المشاهد المسلم بأنه لا يقرأ، وأنه إذا قرأ لا يفهم، وإذا فهم لا يقبل الحقيقة.
سادسا: يستخدم أراء بعض المفسرين ويعتبرها ملزمة لجميع المسلمين، كما هو الحال عندهم في المسيحية حيث يلتزم شعب الكنيسة بتفسير المفسرين.
وبعد الحلقات الأربع الأولى عن التثليث، راح جناب القُمّص يحدثنا في أربع حلقات أخرى عن التجسد، وكيف أن الله قد تجسد في جسد يسوع، وشرح السبب الذي دعاه إلى ذلك وهو تحقيق الكفارة، وهي أن المسيح قد مات على الصليب فداء عن الناس، وبذل نفسه كفارة عنهم ليغفر الله لهم الخطية التي ورثوها عن آدم. وعلى مدى ست حلقات أخرى، حدثنا جناب القُمّص عن الكفارة وشرح أن الكفارة هي المحور الذي يدور حوله الكتاب المقدس كله، وهي العمود الفقري الذي تقوم عليه المسيحية. ولذلك رأيتُ أن أبدأ بتناول هذه الحلقات الست التي تتعلق بالعمود الفقري الذي تقوم عليه المسيحية التي يؤمن بها جناب القُمّص، لنرى في النهاية هل هناك فعلا أساس سليم وقوي تقف عليه هذه المسيحية، أم أن عمودها الفقري مخلوع ومفكك ولا ترتبط فقراته بعضها ببعض.(/5)
وأنا حين أتكلم عن المسيحية فإني أتكلم عن ذلك الوجه من المسيحية التي قدمها لنا القُمّص زكريا بطرس، فالمسيحية لها أوجه كثيرة، وكما يقول المثل "لها ستون وجه" أي لها أوجه كثيرة. وعلى ذلك فأنا أؤكد احترامي لكل مسيحي لا يؤمن بما يؤمن به جناب القُمّص، وأحترم أيضا حق كل إنسان في أن يؤمن بما شاء من عقائد، مهما كانت سفيهة أو مغلوطة، فحق الاعتقاد من حقوق الإنسان الأساسية، ولا بد من احترامه، ومن حق كل إنسان أن يعبر عما يؤمن به من عقائد، مهما كانت سفيهة أو مغلوطة، كذلك فإن من حقه أن يدعو الآخرين إليها، ولكن ليس من حقه تسفيه آراء الآخرين، ولا جرح مشاعرهم، ولا التحقير من مقدساتهم. فإذا فعل أحد ذلك، فإنه يعطي للآخرين الحق في أن يعاملوه بالمثل، ويردوا عليه بنفس أسلوبه، ويكيلوا له بنفس مكياله، وهذا ما يقرره الكتاب المقدس الذي يقول: "بالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم" (متى3:7). وقد وقع جناب القُمّص في هذا الخطأ في حق الإسلام والمسلمين، وبذلك فقد أتاح لنا الفرصة للرد عليه، خاصة وأنه كان يتحدى ويطالب وينادي بأن يرد عليه أحد. فشكرا يا جناب القُمّص على هذه الفرصة العظيمة التي أتحتها لنا، ولكن عليك أن تتحمل وزر ما فعلت، ولا تدعو أتباعك أن يهرعوا إلى السلطات لوقف الرد عليك، ولا تطلب منهم أن ينظموا المظاهرات ويعتصموا في الكاتدرائيات ويسجلوا الاعتراضات. لقد بدأت أنت بالعدوان، ونحن لا نفعل شيئا سوى أننا نستجيب لندائك ونقبل تحديك ونرد عليك بما تستحقه، ولكن بالعقل والمنطق وليس بالأكاذيب والمغالطات.
موضوع الحلقات الست التي تناولها القُمّص بطرس من الحلقة التاسعة إلى الحلقة 14 هو موضوع خطيئة آدم عندما أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها، ولأن الله عادل، كان لا بد أن يوقع العقاب، والعقاب هو الموت، ونتيجة لذلك ورث الجنس البشري كله الطبيعة البشرية الخاطئة، كما ورث أيضا حكم الموت الأبدي في نار جهنم، ولكن الله رحيم كما هو عادل، ولذلك رحمته اقتضت أن يتجسد ويحل في المسيح ليموت على الصليب، وبذلك يرفع حكم الموت من على البشر، وبذلك يكون نفذ عدله بتوقيع العقوبة على المسيح، وفي نفس الوقت نفذ رحمته بأنه رفع العقوبة من على البشر، لأنه يحبهم ولأن الله محبة.
بدأ جناب القُمّص في الحلقة التاسعة فراح يحدثنا عن الحكاية من البداية. فيقول:
"إن الله لما فكر يخلق إنسان، خلقه على أبدع صورة ومثال، على رأي القرآن برضه يقولك في أحسن تصوير، مش كده؟"
لا يا جناب القُمّص، مش كده! فالقرآن لم يقل في أحسن تصوير وإنما قال ]في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ[، ولعلها كانت زلة لسان، ولم يكن التزوير متعمّدا، ولكن لو كنتَ اكتفيتَ بتقديم عقائدك دون أن تحاول الاستدلال على صحتها بالقرآن المجيد، لما وقعت في هذا الخطأ.
ثم يستطرد جناب القُمّص فيقرأ من الكتاب المقدس:
"فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه"، ثم يعلق على ذلك فيقول: "مش مناخير وعنين ولكن على صورة البهاء، العظمة، العقل، الخلود، الإنسان مخلوق عاقل زي الله، خالد زي الله، مش كده؟".(/6)
لأ يا سيدي مش كده! من أين جئت بهذا الكلام، هل قال الكتاب المقدس أن الله خلق الإنسان عاقل زي الله وخالد زي الله؟ أم أن هذا هو مفهومك وتفسيرك الذي تريد أن تقحمه على الكتاب المقدس؟ إذا كان الله خلق الإنسان عاقل زي الله، فلا بد أنه كان يعرف الخير والشر، ولكن الكتاب المقدس يقول إن الإنسان لم يكن يعرف الخير والشر قبل أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر، ولذلك بعد أن أكل منها يقول الكتاب عنه: "وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر" (تكوين23:3)، إذن الإنسان لم يكن عاقلا مثل الله قبل أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر. ثم تقول إن الإنسان خالد زي الله، ولكن الكتاب المقدس يبين أن الله لم يخلق الإنسان ليكون خالدا مثل الله، إذ يقول: "وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حية" (تكوين7:2)، أي أن الله خلق آدم من مادة، من تراب، ولو كان الله يريده أن يكون خالدا، لخلقه مثل الملائكة، ولما قال له بعد صدور الحكم عليه: "حتى تعود إلى الأرض التي أُخذتَ منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود". أي أن العقاب الذي أصدره الله عليه سوف يستمر حتى يعود إلى الأرض، وعودته إلى الأرض ليست بسبب العقاب ولكن بسبب أنه تراب فإلى التراب يعود. فأين الخلود الذي تدّعي به يا جناب القُمّص؟ اقرأ كتابك جيدا، وحاول أن تفهم ما هو مكتوب وليس ما تريد أن تلصقه بالنص. ليس هناك أي كلمة تشير من قريب أو بعيد إلى أن الله خلق الإنسان ليكون خالدا، بل بالعكس، هناك نص صريح على أنه سيعود إلى التراب لأنه خلق من تراب، ليس لأنه أخطأ، ولكن لأنه خُلق من تراب. فهل تريد منا أن نصدقك ونكذب الكتاب المقدس الذي تؤمن به، أم تريد منا أن نصدقك ونكذب ما قاله الله تعالى في جميع الأديان من أن هذه الحياة الدنيا هي فترة مؤقتة وسوف تنتهي لتبدأ بعد ذلك حياة أخرى، تقول عنها جميع الأديان أنها هي التي سوف يكتب لها الخلود؟
إن ما تقوله يا جناب القُمّص هو محاولة "فاشلة" لتبرير وجود الموت، فقد ظننت كما يظن البعض أن الموت يتعارض مع محبة الله للإنسان، ولذلك كان لا بد من اختراع سبب للموت بعيدا عن الله الذي تصفونه بأنه "محبة"، وكان المخرج من هذه الورطة هو أن تنسبوا سبب الموت لخطيئة آدم. وقد تحتج عليّ وتقول إن الكتاب يقول: "وأوصى الرب الإله آدم قائلا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلا، أما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتا تموت" (تكوين16:2)، ولعلك تستنتج من ذلك أنه لو لم يأكل آدم من الشجرة لعاش إلى الأبد، ولكن هذا الاستنتاج خاطئ لسببين، أولا: إن آدم لم يمت في اليوم الذي أكل فيه من الشجرة؛ ثانيا: إن الله بيّن وشرح معنى قوله "موتا تموت"، كما بيّن أيضا وشرح سبب عودته إلى التراب، فقال: "ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكا وحسكا تُنبت لك وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزا" (تكوين17:3) كانت هذه هي العقوبة التي عبر الرب الإله عنها بقوله: "موتا تموت"، وسوف تستمر هذه العقوبة "حتى تعود إلى الأرض التي أُخذتَ منها"، أما لماذا يعود إلى الأرض؟ فيجيب الكتاب المقدس على ذلك بقوله: "لأنك تراب وإلى تراب تعود" (تكوين17:3).
وهنا قد يحلو لجناب القُمّص أن يتهمني بالجهل، وأني لا أقرأ، وإذا قرأت لا أفهم، فيقول إن كلمة "يوم" في قوله "يوم تأكل منها" لا تعني يوم 24 ساعة، ولكن تعني ألف سنة، وبالتالي يكون قصد الرب الإله هو أنك سوف تموت في خلال ألف سنة. فإذا قلنا من أين أتيت بهذا المعنى؟ كانت الإجابة مثيرة للضحك والعجب، إذ سوف يذكر على الفور قول بطرس الرسول في رسالته الثانية الإصحاح 3 والعدد 8 حيث قال: "أن يوما واحدا عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيوم واحد" (2بطرس8:3). وعلى هذا يكون قوله "يوم تأكل منها موتا تموت" أي أنك إذا أكلت منها فإنك سوف تموت خلال ألف سنة.(/7)
هذا هو الأسلوب الذي يتّبعه جناب القُمّص، إذ أنه يستعمل فقرات لا علاقة لها بالموضوع ويلوي معناها لتنطبق على الموضوع الذي يتكلم عنه. وتصوروا يا حضرات المشاهدين، هذا الرب الإله العاقل الحكيم، الذي يصدر حكما على إنسان، ولا يشرح له ما يقصده بكلمة "يوم تأكل منها"، وما إذا كان المقصود منها يوم كما هو معروف أو أن المقصود ألف سنة. ثم تأتي من بعد آدم أجيال وأجيال، وهم لا يعرفون أن كلمة يوم تعني ألف سنة، ثم يأتي موسى ويكتب التوراة، أي الكتب الخمسة الأولى من العهد القديم، ولكنه لا يذكر شيئا عن أن اليوم يساوي ألف سنة، ثم تمر أجيال وأجيال ويأتي أنبياء يكتبون ويضيفون إلى العهد القديم، ولا يقولون شيئا عن أن اليوم يساوي ألف سنة، ثم تمر أجيال وأجيال، ثم يأتي السيد المسيح، ولا يذكر شيئا عن أن اليوم يساوي ألف سنة، ثم يأتي بطرس الرسول بعد أكثر من 4000 سنة بعد آدم، ويرسل لأصحابه رسالة ورسالتين، وفي الرسالة الثانية يذكر جملة تدل على أن الزمن لا يعني شيئا بالنسبة لله، وأن اليوم عنده كألف سنة والألف سنة كاليوم، وهنا تنفك العقدة، ويجد جناب القُمّص بطرس وزملاؤه معنى لتحديد طول اليوم الخاص بآدم فيقول إنه ألف سنة، مع أن الجملة التي كتبها بطرس الرسول لا تعني ذلك أبدا، بل إنها تعني أن الزمن لا يعني شيئا عند الله. فهل يوجد ما يثير الضحك أكثر من هذا؟
ثم يا جناب القُمّص، لقد شنّفت آذاننا بأن الله محبة، فلماذا تنسب إلى الله القسوة والظلم والسادية الفظيعة هذه؟ هل الله الذي هو محبة يتمتع بعقاب مخلوقه آدم الذي خلقه بمحبة كما تقول؟ لعلك تقول إن الله عادل أيضا، وأن عدله يستدعي تنفيذ العقوبة. ولن أخوض معك في هذه القضية الآن، ولكن العدل كما تراه أنت، وكما يراه كل إنسان عاقل، هو تطبيق العقوبة كما جاءت في القانون، والقانون الذي وضعه الله هو: "يوم تأكل منها موتا تموت". ولو سلمنا معك أن آدم كسر القانون وعصى الله، يكون من مقتضيات العدل أن يُطبق الحكم، وهو: "موتا تموت". فهل هذه هي العقوبة التي طبقها الله؟ إن كتابكم المقدس ينسب إلى الله أنه قال: "لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك". طيب وما ذنب الأرض؟ وهل لعنة الأرض كانت داخلة ضمن القانون الذي وضعه الله؟ وليس هذا فقط، وإنما يسترسل الرب الإله في تفصيل العقوبة التي لم تأت في القانون الذي وضعه بنفسه، فيقول: "بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، شوكا وحسكا تنبت لك وتأكل من عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزا"، وهو لم يكتف بهذا، بل إن هذا الرب الإله الرحيم العادل يقول للمرأة: "تكثيرا أكثّر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك"، مع أن المرأة المسكينة لم تكن تعرف أن كل هذه البلايا سوف تنصب على رأسها. كل ما كانت تعرفه هو ما قالته للحية: "من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمسّاه لئلا تموتا". فهل من العدل أن يضع الله قانونا للعقوبة ثم عند التنفيذ يطبق عقوبة أخرى إضافية؟ هل يقبل أحد أن يقول القانون: من خالف إشارة المرور يدفع 100 جنيه غرامة، ولكن عندما يقع أحد في هذه الخطيئة، يتبين أنه سوف يقضي كل أيام حياته في الأشغال الشاقة المؤبدة، وأن زوجته سوف تُطرد من البيت، وأن أولاده سوف يُشرّدون، ثم عليه أيضا أن يدفع غرامة المائة جنيه؟ هل هذا هو العدل الذي تنسبونه إلى الله الذي هو محبة؟ اتفضل جاوب يا جناب القُمّص، هل هذا هو الحب الذي يحمله الرب الإله في الكتاب المقدس؟ وهل هذا هو العدل الذي تصرون على التمسك به وبضرورة تطبيقه؟ ولعلك تقول إن مخالفة إشارة المرور لا تعادل خطيئة آدم، هذا صحيح، ولكن مهما عظمت الخطيئة، فإن العدل يقتضي ألا يُزاد في حجم العقوبة عند التطبيق، وإنما يجب أن يُكتفى بتطبيق العقوبة التي جاءت في نص القانون دون أي زيادة، لأن أي زيادة هي مخالفة للعدل، بل هي عين الظلم.
ثم هل من العدل يا جناب القُمّص محاسبة إنسان لا يعرف الفرق بين الخير والشر؟ أنت تدّعي أن الله خلق الإنسان عاقل مثل الله، ولكن كتابك المقدس يقول إنه لم يكن يعرف الخير والشر، وكل ما قاله له الرب الإله هو أن يأكل من جميع شجر الجنة، ولكن لا يأكل من شجرة معرفة الخير والشر لأنه يوم يأكل منها موتا يموت. لم يحذره مثلا من أن يسمع لكلام الشيطان، بل لم يخبره أصلا بأن هناك شيطان يريد أن يوقعه في الخطيئة. لم يقل له إن عليه أن يتأكد من مصدر كل طعام تعطيه له زوجته حواء. فماذا حدث؟ تقول يا سيدي بأسلوبك المسرحي إن الشيطان:(/8)
"راح لحوا، لأن حوا بتحب الاستطلاع، قال لها هوه ربنا قال لكم ما تكلوش من جميع شجر الجنة؟ قالت لأ، مين قالك كده؟ قالنا تاكلو من جميع شجر الجنة ما عدا شجرة واحدة بس، الشجرة دهي، شجرة معرفة الخير والشر. فالشيطان قالها: ليه؟ اشمعنى دي؟ قالت له ربنا قال يوم ما تاكلوا منها موتا تموتا. قالها لا. ابتدا يكذّب ربنا، قال لها لن تموتا، إمّال ربنا منعنا منها ليه؟ آه.. لا.. إنت مش فاهمة. أنا عارف ربنا، أنا كنت عنده فوق، ربنا ده مكّار، خايف، لما تاكلوا من الشجرة دي، تبقوا زيّه، تعرفوا الخير والشر، كده لوحدكم. لما تاكلوا من الشجرة دي، تستقلوا عن الله. سماها تستقلوا عن الله لكن هية في الحقيقة تنفصلوا عن الله".
طيب. لدينا الآن اثنان متهمان بمعصية الله، ألا يقتضي العدل الإلهي أن نبحث في الظروف التي وقعت فيها الجريمة، إن كانت هناك جريمة؟ اثنان لا يعرفان الفرق بين الخير والشر، جاء إليهم الشيطان في صورة حية من مخلوقات الله الذي يحبهما، وقال لهما إنه كان فوق عند ربنا، وإنه عارف إنهما إذا أكلا من الشجرة لن يموتا، وسوف يعرفان الخير والشر مثل الله. فهل يقع اللوم على آدم وحواء لأنهما يريدان أن يكونا مثل الله ويريدان أن يعرفا الخير والشر؟ هل يقع عليهما اللوم لأنهما سمعا لكلام مخلوق من مخلوقات الله الذي هو محبة، لا يعرفان عن ذلك المخلوق شيئا ولم يحذرهما أحد منه؟ أين العدل يا جناب القُمّص؟ إذا كان هناك أحد مسئول عن وقوع آدم في الخطيئة حسب الرواية التي رويتها بلسانك، فهو الرب الإله الذي خلق الشيطان، وسمح له أن يضل آدم وحواء، ولم يحذرهما منه. لا شك أنهما خُدعا، ولكن لم تكن لديهما النية على ارتكاب المعصية، وإنما ظنا أنهما يقومان بعمل طيب، إذ يجب أن نضع في الاعتبار أنهما لم يكونا يعرفان الخير والشر.
ثم يقول الكتاب المقدس: "فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت. وأعطت رجلها أيضا معها فأكل، فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر" (تكوين6:3).
إذن حسب كلام الكتاب المقدس، كان الشيطان على حق، لأنهما أكلا من الشجرة ولم يموتا، وانفتحت أعينهما وصارا يعرفان الخير والشر فعلا، بدليل اعتراف الرب الإله الذي قال: "هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر" (تكوين 23:3). ثم ما ذنب آدم الذي سمع لكلام زوجته؟ هل كان يعلم أن ما يأكله من يدها هو من الشجرة المحرّمة؟ الكتاب المقدس لا يبين هذا الأمر، بل يبين أنه لم يكن حاضرا عندما كان الشيطان يتكلم مع حواء، لأن الكتاب يقول إن الحية تكلمت مع المرأة، ولو كان آدم موجودا لاشترك في الحديث، ولكن الكتاب يبين أنه لم يشترك في الحديث بتاتا، مما يدل على أنه لم يكن موجودا، وبالتالي فإنه لم يكن يعلم أن الثمرة التي أعطتها له حواء كانت من الشجرة المحرمة. ومما يدل على ذلك أن الله لما سأله: "هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها" لم يقل نعم أكلت منها، لأنه لم يكن يعرف أنه أكل منها إلا بعد أن انفتحت عينه، فعرف أن حواء أعطته الثمرة المحرمة دون علمه، ولذلك قال لله: "المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت" (تكوين12:3)، أي ما ذنبي أنا، أنت لم تحذرني من هذه الأمور ولم تلفت نظري إليها.
إن أي محكمة أرضية تتمسك بأهداب العدل لا بد أن تحكم لآدم بالبراءة، ومع ذلك نجد أن الكتاب المقدس ينسب للرب الإله العادل أنه لعن الأرض وحكم على آدم أن يأكل شوكا وحسكا وأعشاب الحقل، وأن يقضي كل أيام حياته بالتعب، ويأكل خبزه من عرق جبينه. والغريب أن هذا الرب الإله لم يعترف بتقصيره في تحذير آدم وحواء من الشيطان، وكيف أنه تركهما يقعان في حبائله دون أن يلفت نظرهما إلى الخطر الذي يمكن أن يصيبهما من كلامه.
ثم يأتي جناب القُمّص زكريا بطرس فيتساءل عن السبب في خلق الشيطان، فيقول:
"طب ما هو عارف إن الشيطان حيوقع الإنسان، حيغوي الإنسان ويوقعه، حيوقعه حيوقعه، طب خلقه ليه، سمح له ليه؟" ثم يجيب جناب القُمّص على السؤال الذي وضعه بنفسه فيقول: "الحقيقة إن ربنا مخلقش الشيطان، إمّال إيه؟ الشيطان خلق نفسه؟ لأ. الله خلق ملاك، وكان الشيطان رئيس الملائكة".
(3 )(/9)
ذكرنا في الحلقة الماضية أن القمّص زكريا بطرس كان يحاول أن يثبت أن آدم وحواء قد وقعا في الخطية عمدا، وعلى ذلك فكان لا بد من تطبيق العقوبة عليهما لأن الله عادل. ولكننا أثبتنا من الكتاب المقدس أن ما حدث يتنافى مع عدل الله تعالى، لأن من مقتضيات العدل أن تُوَقّع العقوبة كما جاءت في نص القانون، وكان نص القانون هو "يوم تأكل منها موتا تموت"، لذلك كان ينبغي أن يموت الإنسان دون أي زيادة إضافية في العقوبة. بينما يرى جناب القمّص، أن العدل الذي يفهمه هو، والذي تعلمه من كتابه المقدس، لا يمنع أن تُضاف عقوبات أخرى عند توقيع العقوبة رغم أنها لم تأت في نص القانون. وطبعا لو طبقنا هذه القاعدة القانونية التي يؤمن بها جناب القمّص في مجتمعاتنا المدنية وفي الاتفاقات بين الأفراد أو بين الدول، لتحوّل العالم إلى فوضى وظلم واستبداد ما بعده استبداد. فمثلا، إذا اتفقت مع عامل على أنه يؤدي لي مهمة معينة في خلال ثلاثة أيام مقابل مبلغ 500 جنيه، مع وجود شرط جزائي، وهو أنه إذا تأخر العامل في إنجاز العمل في المدة المتفق عليها تُوَقّع عليه غرامة تأخير بواقع 100 جنيه عن كل يوم تأخير. ثم نفترض أن العامل تأخر يومين، يكون من العدل خصم مبلغ 200 جنيه من المبلغ المتفق عليه. ولكن حسب عدل الكتاب المقدس، يحق لي أن أخصم منه 400 جنيه أو أكثر، وأن أقوم بضرب العامل ووضعه في السجن، وأن أذهب إلى بيته وأشعل فيه النار، وأجعل حياة زوجته وأولاده جحيما لا يطاق. فهل ترضى يا جناب القمّص أن يطبق أحد عليك مثل هذا العدل؟ وإذا كنت تستنكر هذا التصرف وترفضه، كما يستنكره كل إنسان عاقل، فكيف تسمح لنفسك أن تنسب مثل هذه التصرفات الحمقاء إلى الرب الإله الذي تؤمن به؟ وهل هناك شريعة في العالم تأمر بتطبيق هذا الظلم؟ إنك تتهم المسلمين بأنهم لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، أليس من الأولى بك يا جناب القمّص أن تتفكر قليلا فيما تؤمن به من أفكار عقيمة لا تصلح للتطبيق، ولا تليق بالعقلاء، ولا يجوز أن تُنسب للرب الحكيم؟
وكما حاول جناب القمّص أن ينسب وجود الموت إلى خطيئة آدم، لأنه ربما ظن أنه لا يصح لإله المحبة أن يميت مخلوقاته التي يحبها، فإنه حاول أيضا أن يقنعنا بأن الله لم يخلق الشيطان، وإنما خلق ملاكا، وجعله رئيسَ الملائكة، ولكن الكبرياء طغى عليه، فعاقبه الله بأن أنزله إلى الأرض، وهو الذي أوقع آدم في الخطية. وكأنه يقول إن الله ليس مسؤولا عن ضلال آدم وإنما الشيطان هو المسؤول. فإذا سألنا جناب القمّص من أين أتى بهذه المعلومات، نراه يقول إن هذا جاء في سفر إشعياء الإصحاح 14، وفي سفر حزقيال الإصحاح 28. ويستخدم جناب القمّص مواهبه المسرحية فيقرأ لنا من سفر إشعياء، ولا ينسى أن يُدخل تفسيراته بين الكلام، ولذلك وضعنا كلامه بين قوسين، فيقول:
"كيف سقطتِ من السماء يا زُهرةُ بنتَ الصبح (ده تشبيه عن رئيس الملائكة)، كيف قُطعتَ إلى الأرض يا قاهرَ الأمم. وأنت قلتَ في قلبكَ أصعد إلى السماوات، أرفعُ كُرسيَّ فوق كواكب الله وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال. أصعدُ فوق مرتفعات السحاب (شوفي الحتة اللي جاية دي بقى) أصير مثل العليّ (كبرياء، عايز يبقى زي ربنا). لكنكَ انحدرتَ إلى الهاوية إلى أسافل الجب".
بعد أن قرأ جناب القمّص هذا المقطع راح يسلينا مرة أخرى بمواهبه المسرحية بقراءة جزء آخر من سفر حزقيال في الإصحاح 28، لكي يثبت لنا أن الرب الإله لم يخلق الشيطان، وإنما خلق ملاكا وجعله رئيس الملائكة، ولكنه سقط فجعل من نفسه شيطانا. ونذهب إلى سفر إشعياء لنبحث عن النص الذي قرأه جناب القمّص فنجد أنه كان يتكلم عن ملك بابل، حيث يقول في نفس الإصحاح مخاطبا النبي إشعياء في عدد 3:
"ويكون في يومٍ يريحك الرب من تعبك ومن انزعاجك ومن العبودية القاسية التي استُعبدتَ بها. أنك تنطق بهذا الهجو على ملك بابل وتقول كيف باد الظالم بادت المُغَطْرِسَةُ. قد كسّر الرب عصا الأشرار قضيب المتسلطين. الضارب الشعوب بسخَطٍ ضربة بلا فتور المتسلط بغضب على الأمم باضطهاد بلا إمساك ... وهكذا إلى آخر الجزء الذي قرأه القمّص. وبعده في العدد 16 يقول: "الذين يرونك يتطلعون إليك، يتأملون فيك. أهذا هو الرجل الذي زلزل الأرض وزعزع الممالك. الذي جعل العالم كقفر وهدم مُدُنَه، الذي لم يُطلق أسراه إلى بيوتهم ... إلى آخره".
فالحديث كله عن ملك بابل الظالم الذي استعبد شعب بني إسرائيل ولم يطلق الأسرى. ولكن جناب القمّص، والمفسرين الذين على شاكلته، يلوون كلمات النص ويطبقونها على الشيطان. هذا هو الأسلوب الذي كثيرا ما يتبعه جناب القمّص، وهذه هي آفة المسيحية التي يقدمها لنا جناب القمّص. تحريف مقاصد الكلمات ولوْي معانيها لفرض معنى معين يريدون أن يلبسوه لكلام الكتاب المقدس.(/10)
ويذكرني هذا بحدوتة أم الخير، ولحضرات المشاهدين الذين لم يسمعوا من قبل عن أم الخير أقول إنه يُحكى أن كاتبا كان يكتب قصة، وبعد مرور بضعة قرون، تسربت هذه القصة إلى الكتب المقدسة، وأصبحت جزءا منها، ووصل ذلك الكتاب المقدس إلى أيدي شخصية ظريفة مثل شخصية القمّص زكريا بطرس، فراح يفسرها ليؤيد بها مفاهيم دينه، فماذا فعل؟ كانت القصة كالتالي: ذهب الأب وابنته أم الخير إلى السوق لشراء بعض الأغراض، وأثناء العودة قال الأب لابنته: يا أم الخير احملي كيس البصل، فحملته إلى أن وصلا إلى الحظيرة، فقال لها ضعي البصل في الحظيرة". وانتهت القصة، فماذا يفعل بها ذلك الظريف ظُرف جناب القمّص، يقرأها بأسلوب مسرحي، ثم يقول الأب ده يعني الله الآب، وأم الخير يعني مريم أم الإله، لأن يسوع هو منبع الخير، فأم الخير تبقى مريم، فالآب قال لمريم احملي يسوع، فكيس البصل يعني يسوع، مش البصل فيه حياة، وهو طعام حين يأكله الإنسان ينال الحياة، كذلك حين يأكل الإنسان جسد يسوع ويشرب دمه ينال الحياة الأبدية.
وهكذا تتحول حدوته لا قيمة لها ولا أساس، إلى نبوءة عظيمة تقوم عليها عقائد خطيرة. هذه هي المسيحية التي يقدمها لنا جناب القمّص، أقاصيص وحواديت وتفاسير ما أنزل الله بها من سلطان، واختراعات لعقائد وتعاليم بعيدة كل البعد عن العقل والمنطق، لماذا؟ لأنها من تأليف الإنسان، وليست من الله سبحانه وتعالى.
نفس هذا الكلام يكرره جناب القمّص مرة أخرى عندما يحدثنا عن الشيطان المزعوم الذي جاء ذكره في سفر حزقيال الإصحاح 28 فيقول:
"الله بيكلم الملاك، كان اسمه ساتانا إيل، جت منين؟ ساتان يعني شيطان، وإيل يعني الله" ثم يعود إلى أسلوبه المسرحي فيقرأ علينا النص ويُسقط منه بعض الأجزاء، ويضيف عليه شرحه وتفسيره الذي وضعناه بين قوسين، فيقول: أنت خاتم الكمالْ ملآنٌ حكمةً وكاملُ الجمال. كنتَ في عدن جنة الله ..... أنت الكروبُ (شوفي بقى الإثبات إن ده الملاك، كروب- شاروبيم يعني ملاك) أنت الكروب المنبسط المظلل، وأقمتك على جبل الله المقدس كنتَ ..... أنت كامل في طرقك من يوم خُلقتَ حتى وُجِدَ فيك إثمٌ (اللي هوه الكِبْر) .... فأخطأت فأطرحك من جبل الله وأبيدك أيها الكروب المظلل .... قد ارتفع قلبك لبهجتك (آدي الكبرياء) أفسدت حكمتك لأجل بهائك (لما شفت نفسك بهي وجميل دخلك الغرور، فالشيطان حطّ بذرة الغرور في الإنسان) سأطرحك إلى الأرض .... قد نجّست مقادسك بكثرة آثامك ...... وتكون أهوالا ولا توجد بعد إلى الأبد" وتسأل السيدة ناهد: إزاي لا توجد بعد إلى الأبد، فيشرح لها قائلا: يعني لا توجد في محضري إلى الأبد.
وهكذا نرى نفس التزوير وتحريف المعاني، ونفس حدوتة أم الخير موجودة هنا، فلأن النص به كلمة كروب، والكروب يعني ملاك، يبقى لا بد من لوي معنى النص لكي ينطبق على الشيطان، مع أن الفقرة السابقة مباشرة للنص الذي قرأه جناب القمّص تقول: وكان إليّ كلام الرب قائلا يا ابن آدم، ارفع مرثاة على ملك صور وقل له، هكذا قال الرب. أنت خاتم الكمال، ملآنٌ حكمة وكامل الجمال ... إلى آخر النص.
فالكلام كله عن ملك صور، ولا يوجد أي ذكر لساتانا إيل الذي ادّعى جناب القمّص أن الكلام موجّه إليه. وبنفس منطق القمّص، أم الخير تصبح السيدة مريم، وكيس البصل يصبح يسوع، لأن أبوها قال لها احملي كيس البصل، والحمل معناه الحمل في الرحم، فلا بد أن تكون القصة كلها عن مريم وعن حملها ليسوع. منطق غريب وعجيب حقا ذلك الذي يستعمله جناب القمّص، ولكن هكذا تقوم المسيحية التي يؤمن بها، وهذه هي المسيحية التي يدعو المسلمين للإيمان بها.
ومع ذلك سوف نفترض أن كلامه صحيح، وسوف نقبله على علاته وعيوبه، لمجرد المناقشة والتحليل. فهل يا سيدي القمّص، سكت الله عن توضيح أصل الشيطان منذ عهد آدم إلى عهد إشعياء النبي؟ هل ترك الله الناس يجهلون حقيقة الشيطان لمدة 3500 سنة إلى أن جاء إشعياء وحزقيال ليكتبوا عنه، هذا بافتراض أنهم كانوا يكتبون عنه وليس عن ملك بابل وملك صور كما يقول الكتاب المقدس. هل هذا هو الرب الحكيم الذي هو محبة، يترك شعبه في جهل وفي ضلال طوال هذه المدة ولا يُعرّفهم حقيقة الشيطان، وأنه كان رئيس الملائكة كما تزعم يا سيدي القمّص، أو كما يزعم من سبقوك في تفسير الكتاب المقدس الذين دوّنوا آراءهم فاعتبرها الناس أنها وحي مقدس؟ وهل رئيس الملائكة الذي هو "خاتم الكمال الملآن حكمة وكامل الجمال" الذي يقول عنه الله "أنت كامل في طرقك من يوم خُلقتَ" هل يمكن لهذا الكائن أن يرتكب الإثم ويأخذه الغرور ويتسلط عليه الكبرياء؟ ومن أين عرف بهذه الآثام؟ هل كان هناك شيطان آخر أضله، أم أنه تعلمها من الله، والعياذ بالله؟(/11)
يا للداهية ويا للمصيبة الكبرى!! إذا كان يمكن لخاتم الكمال الملآن حكمة وكامل الجمال الكامل في طرقه، أن يرتكب الإثم، فما هو الضمان أن لا يرتكب ملاك آخر الإثم أيضا، ثم يضل المؤمنين الطيبين من أمثال القمّص زكريا بطرس بعد أن يدخل فردوس النعيم في ملكوت الحياة الأخرى؟ بل ما هو الضمان أن لا يتحوّل جناب القمّص زكريا بطرس نفسه إلى شيطان يضل بقية المؤمنين في فردوس النعيم؟ بل الأدهى من هذا وذاك، ما هو الضمان أن لا يتسرّب الإثم إلى الرب الإله نفسه، فيتحوّل إلى شيطان والعياذ بالله؟ إذا كان خاتم الكمال الملآن حكمة، الكامل الجمال، الكامل في طرقه، يمكن أن يتسرب إليه الإثم فليس هناك ضمان لأي شيء، ويصبح الدين كله أكذوبة كبيرة وأسطورة غبية سفيهة لا يؤمن بها إلا السفهاء من الناس. مش كده؟ مش كده يا جناب القمّص؟ هل هذه هي المسيحية التي تدعو إليها المسلمين؟
ألم يخبرك الذين يكتبون لك ويعدّون لك المواد التي تتفضل بقراءتها أن في القرآن المجيد آية تبين وظيفة الملائكة وأنهم كما يقول الله تعالى ]لا يَعْصُونَ اللهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[ (التحريم:6). هذه هي الحكمة الحقيقية يا جناب القمّص، وهذا هو كتاب الحكمة الذي يبين أن الملائكة لا يمكن أن يعصوا الله تعالى، وأن الله أعطاهم القدرة على أن يفعلوا كل ما يأمرهم به. فالملائكة مسخّرون في تحقيق مشيئة الله، وليس لهم إرادة منفصلة عن إرادة الله، ولا يمكن أن يعصوه أبدا في كل ما يأمرهم به. وأما هذه الأفكار الهابطة التي يقول بها جناب القمّص عن الملائكة، والتي لا تليق أبدا بحكمة الله، فهي نفسها التي تسربت إلى مفاهيم بعض المسلمين القدماء، وشاعت تلك الخرافات حتى أخذها بعض المفسرين على أنها حقائق، وراحوا يفسرون كتاب الله العزيز تماما كما يفهم جناب القمّص كتابه المقدس، فاخترعوا قصة ما أنزل الله بها من سلطان، وقالوا إن ملاكين أرادا أن ينْزلا إلى الأرض ويعيشا معيشة بني آدم، ولكن الله حذرهما من الوقوع في الإثم، غير أنهما أصرّا على طلبهما فسمح الله لهما بالنّزول إلى الأرض، فقابلا امرأة بغية على جانب كبير من الجمال، كانت هي الشيطان في زي امرأة، فأرادت أن تزني معهما، ولكنهما رفضا أن يقعا في الخطيئة، فسقتهما خمرا حتى إذا سكرا رضيا أن يزنيا معها، وبعد ذلك راحا يعلمان الناس السحر. فعاقب الله المرأة بأن جعلها كوكب الزُّهرة الذي يظهر عند الصباح، وعاقب الملاكين بأن علقهما في بئر لينالا فيه العذاب كل صباح حين يظهر كوكب الزهرة. ومن هنا سُمّي الشيطان باسم "زُهرة بنت الصبح"، كما جاء في سفر إشعياء.(/12)
هذه هي التفاسير التي جاءت من الإسرائيليات، والتي يحلو للقمص أن يقتبس منها كثيرا، ويقول إنه لا يأتي بشيء من عنده وإنما كُتُب المسلمين بتقول كده. ما هو للأسف أن هذه الكتب مملوءة بالإسرائيليات التي تسربت إلى كتب المسلمين من كتبكم وأفكاركم يا جناب القمّص. هذه الأفكار التي تسيء إلى الله تعالى، وتصوّره والعياذ بالله في صورة إنسان أحمق لا يعرف ماذا يفعل. ألا تتفق معي يا جناب القمّص أن الله بكل شيء عليم؟ وما دام يعلم الغيب فكيف فات عليه أن يعلم أن رئيس ملائكته سوف يسقط ويتحوّل إلى شيطان؟ ولعلك تريد أن تتعلم ما هو الشيطان وكيف جاء إلى الوجود؟ عليك إذن أن تقرأ التفاسير الصحيحة الخالية من خرافات الإسرائيليات، لتعرف أن الشيطان في اللغة العربية يُطلق على كل ما هو بعيد عن الله وكل ما يسبب الأذى أو الهلاك، فأنت تكون شيطانا إذا كنت بعيدا عن الله، أو إذا عملت على إضلال الناس وتسببت في هلاكهم. والصديق الذي يضر صاحبه يكون شيطانا بالنسبة له، والمرض الذي يؤذي المريض يكون شيطانا كذلك، والحيوان الذي يؤذي الإنسان يكون شيطانا، والأفكار التي تجول بخاطرك وتدفعك إلى عمل السيئات تكون شيطانا، والشهوات والغرائز التي تدفعك إلى معصية الله تكون شيطانا، وهكذا. ولعلمك يا جناب القمّص، فإن الله تعالى حينما خلق الإنسان خلق له أيضا غرائزه وشهواته، وهذه الغرائز والشهوات ليست أمرا سيّئا في ذاتها، فليست هي من فعل الشيطان، وإنما هي من فضل الله ونعمته، بل إن حياة الإنسان والإنسانية كلها لا تستقيم بغيرها. فتصوّر مثلا حياة الإنسان الذي لا توجد لديه شهوة الجنس، كيف يمكن له أن يعمل على استمرار النوع؟ وتصوّر حياة الإنسان الذي لا توجد له شهوة التملك، كيف يمكن له أن يحافظ على بيته وأمواله وأولاده؟ وتصوّر حياة الإنسان الذي لا توجد له شهوة حب النفس، كيف يمكن له أن يحافظ على حياته ويعتني بنفسه؟ وتصوّر حياة الإنسان الذي لا توجد له شهوة الأكل والشرب، كيف يمكن أن يحافظ على حياة جسده ويستمر على قيد الحياة؟ إن وجود كل هذه الشهوات وغيرها ضروري لفائدة الإنسان، وإشباع هذه الشهوات أمر هام وحيوي. والغرض من شريعة الله هو تنظيم إشباع هذه الشهوات، فإذا أحسن الإنسان استعمال هذه الشهوات والرغبات والغرائز، وعمل على إشباعها بالطرق الصحيحة التي بينها الله تعالى في شريعته، فإنه ينال السعادة في الدنيا وفي الآخرة. وإذا أساء الإنسان استعمال نفس هذه الشهوات والرغبات والغرائز، وعمل على إشباعها بغير الطرق التي بيّنها الله تعالى في شريعته، فإنه ينال الخزي والهوان في الحياة الدنيا وفي الآخرة. فوجود الشهوات والرغبات والغرائز في حد ذاته ليس بشيء سيئ، ولا هو ضار بالإنسان، ولا هو من عمل الشيطان، وإنما هو من فضل الله تعالى ومن نعمته. ولعلك تذكر العائلة التي حدثتنا عنها، تلك العائلة الطيبة الغنية التي زرتها في مقتبل شبابك، وكان لديهم نقطة حزن، وهي أن لديهم شاب عمره 16 أو 17 سنة، ولكنه لا يتحرك إلا إذا حركوه، ولا ينام إلا إذا أناموه، ولا يستيقظ إلا إذا أيقظوه، ولا يذهب إلى المرحاض إلا إذا أخذوه إليه، ولكنه لا يؤذي أحدا بل هو مثل الكرسي، حيثما يذهبون به إلى أي مكان يذهب معهم دون أي اعتراض، وإذا تركوه ظل على حاله لا يتحرك. لقد كان وجود هذا الشاب هو نقطة الحزن لدى تلك العائلة الطيبة، وقد ذكرتَ أن هذا الشاب البائس كان فاقد العقل. لا، هو لم يكن فاقد العقل، بل كان فاقدا للشهوات والرغبات والغرائز، وعندما تغيب هذه النعم، لا يستطيع العقل أن يعمل، فيتوقف عن النمو والتقدم والرقي. إذن الشهوات والرغبات والغرائز هي نعمة من الله تعالى، ولكنها تتحول إلى مصدر شر أو إلى شيطان إذا أساء الإنسان استخدامها، وتتحول إلى مصدر خير وسعادة إذا أحسن الإنسان استخدامها. فالله تعالى يقول في سورة الشمس: ]وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا & فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا & قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا & وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[.(/13)
هذا قبس بسيط من نور تعاليم الإسلام يا جناب القمّص، ولك أن تقارن بين سمو هذه التعاليم الراقية، وبين ما تقدمه لنا من أفكار متهافتة عن رئيس للملائكة تحول إلى شيطان يضل الناس. لك أن تقارن بين إله خلق ملاكا وجعله رئيسا للملائكة، ولعله لم يكن يعلم أنه سوف يفسد ويدخله الكبرياء، وإن كان يعلم فلماذا خلقه؛ وبين إله خلق نوازع ورغبات وغرائز في الإنسان لتساعده على الحياة والتقدم والرقي، وأنعم عليه بالشريعة التي تُعرّفه كيف يستعمل هذه النوازع والرغبات استعمالا طيبا فيسعد ويفلح ]قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[، وعلمه أيضا أن سوء استخدام هذه الغرائز والنوازع سوف يؤدي به إلى الشقاء والخيبة ]وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[. هذا هو إله المحبة الحقيقية، إله الحكمة والعدل المطلق، وليس الإله الذي يحكم بالعذاب الأبدي في بحيرة النار والكبريت على إنسان غلبان لا يعرف الخير والشر، لمجرد أول خطية يرتكبها وهو لا يعلم ما إذا كان ما يفعله هو خيرا أم شرا.
المهم. يقول لنا جناب القمّص "إن آدم سقط في الخطية، وأن هذا السقوط يستلزم عقوبة، لأن أجرة الخطية موت، ولكن الله في محبته لازم يغفر، وعشان يغفر لازم يكون فيه خطة فداء، وهذا هو ما سوف نتكلم عنه بتسلسل في الحلقات الجاية. مش كده؟" نعم. كده يا جناب القمّص.
( 4 )
الأسلوب الذي يتبعه جناب القُمّص في استدلالاته، وهو أولا: سوء تفسير بعض المقتبسات من الكتاب المقدس ومن القرآن الكريم ليخرج بمعنى لا يحتمله النص. وقد رأينا حقيقة ذلك في الحلقة السابقة عندما فسر جناب القُمّص، أو نقل عن المفسرين، تفسيرهم للكلام الذي قيل في حق ملك بابل وملك صور، فحوّله ولوَى معانيه ليستدل به على أن الشيطان كان رئيس الملائكة. ثانيا: يقدم جناب القُمّص أفكارا تبدو أنها صحيحة ولكنها تقوم على أساس خاطئ، ثم يخرج منها بقاعدة يبني عليها عقيدة. ثالثا: يخلط كثيرا بين الحقائق والتشبيهات، وسوف نرى في هذه الحلقة مثالا على ذلك. رابعا: يتعمّد أحيانا تحريف النص ليتفق مع وجهة نظره، وسوف نرى أيضا مثالا على ذلك في هذه الحلقة. خامسا: يتهم المشاهد المسلم بالجهل، وأنه لا يقرأ، وإذا قرأ لا يفهم، وإذا فهم فهو لا يقبل الحقيقة. سادسا: يستخدم آراء بعض المفسرين ويعتبرها ملزمة لجميع المسلمين، كما هو الحال عندهم في المسيحية، حيث يلتزم شعب الكنيسة بتفسير المفسرين. وسوف نرى أيضا في هذه الحلقة أمثلة كثيرة من هذا النوع.
يتكلم جناب القُمّص في هذه الحلقة عن جنة آدم وكيفية دخول الخطية إلى حياة الإنسان، فيقول إنها دخلت حياة الإنسان بحسب الشيطان، حيث إنه أعطى ثمرة الشجرة المحرّمة إلى حواء لتأكل منها. ويذكر جناب القُمّص أن الشجرة المحرمة لم تكن شجرة تفاح ولا شجرة مانجو، ولكنها كانت شجرة طبيعية استُخدمت فقط كرمز، مع أن الكتاب المقدس واضح تمام الوضوح في أنها كانت شجرة معرفة الخير والشر، وأن آدم وحواء بعد أن أكلا منها انفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، وحتى الله نفسه قال "هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر" (تكوين23:3). فمن نصدق يا ترى؟ جناب القُمّص الذي يقول إنها كانت شجرة طبيعية، أم نصدق الكتاب المقدس الذي يقول إنها شجرة معرفة الخير والشر، ويقدم الدلائل على أن من يأكل منها تنفتح عينه ويصير عارفا للخير والشر؟ طبعا جناب القُمّص يعلم تماما أنه ليس هناك من شجرة تجعل من يأكل منها يعرف الخير والشر، وأن هذه فكرة أسطورية خرافية ولا يصح أن تكون موجودة في كتاب مقدس، فيحاول أن يقنعنا بأنها كانت شجرة عادية طبيعية. طبعا هو معذور، فماذا يفعل؟ يعترف بالحقيقة ويقول إن كتابه المقدس يحتوي على خرافات؟ طبعا لا. لا بد أنه يدافع عنه، فهو معذور.
بعد ذلك يشرح جناب القُمّص كيف دخلت الخطية إلى حياة الإنسان فيقول إنه لما آدم وحواء أكلا من الشجرة المحرّمة، فقد كسرا الوصية وشقا عصا الطاعة، وبذلك دخلت الخطية في حياتهما، والخطية هنا كما يقول: "جُرثومة". ثم يقول جناب القُمّص بالنص:
"في الكتاب المقدس، في سفر يشوع بن سيراخ، وهو من أسفار إيه إل ... مش موجودة في الكتاب، الأسفار القانونية الثانية، تقول كدة: "لأن جرثومة الخطية متأصلة فيه".(/14)
ونحن نسأل يا جناب القُمّص، أين هذا السفر المسمّى بسفر يشوع بن سيراخ؟ ولماذا لا نجده في الكتاب المقدس الذي تؤمن به؟ فماذا حدث له؟ هل نُسخ يا ترى أم أنهم نسوا أن يطبعوه. لقد قضيت يا جناب القُمّص أياما وأسابيع وحلقات بعد حلقات تحدثنا حديثا واهيا متهافتا عما أسميته بالنسخ في القرآن، ورحت تنقل عن بعض علماء العصور الوسطى الذين قالوا بوجود النسخ في القرآن، ورحت تتحدى وتسخر وتهزأ وتسأل عن الآيات المنسوخة. وقد رد عليك بعض الأخوة وشرحوا لك أنه لا يوجد نسخ في القرآن، وأن الذي قال بوجود النسخ في القرآن هم بعض العلماء الذين لم يفهموا بعض الآيات التي تحتوي على أحكام معينة، فظنوا أنها تتعارض مع أحكام في آيات أخرى. لقد كان رأيهم بوجود النسخ في القرآن مجرد اجتهاد من جانبهم، وهم قد أخطأوا في هذا الاجتهاد فلهم أجر على اجتهادهم على كل حال. وقيل لك إن الكثير من علماء المسلمين في العصر الحديث كتبوا العديد من الكتب لبيان عدم وجود أي نسخ في القرآن، غير أنك أردت أن تصطاد في الماء العكر، فرحت تتحدث عن القرآن الكريم باعتباره كتابا ينسخ بعضه بعضا، إلى أن وقعت في نفس الحفرة التي أردت أن تحفرها للقرآن، واعترفت بلسانك بوجود سفر من الأسفار المقدسة، التي يعتبرها بعض المسيحيين من وحي الله تعالى، بينما لا يعتبرها الآخرون كذلك. فماذا حدث لتلك الأسفار المقدسة، هل نُسخت؟ وهل نُسخت لفظا وبقيت حكما، حتى إنك تستشهد بها؟ أم أنها نُسخت لفظا وحكما؟ وهل هذا هو الكتاب الذي تريد من المسلمين أن يتخلوا عن قرآنهم الكريم ليقبلوه باعتباره كتابا مقدسا، وهو يحتوي على أسفار مقدسة لدى البعض وغير مقدسة لدى البعض الآخر؟ ألم أقل لك يا جناب القُمّص أن من كان بيته من زجاج فلا يقذف الناس بالحجارة؟ والمسيح قال: من كان منكم بلا خطية فليلقها بحجر، ورغم أنك محمّل بالخطايا باعترافك، فإنك مع ذلك تقذف بالأحجار يمينا وشمالا، وطبعا لا بد أن تقع بعض هذه الأحجار فوق رأسك يوما ما، وها قد جاء اليوم لتعلن بنفسك، وتعترف بلسانك، بوجود النسخ في الكتاب المقدس.
ثم نعود إلى الموضوع الأصلي، وهو كيف دخلت الخطية إلى حياة الإنسان، فتقول:
"المرض اللي كان عند الشيطان كان مرض إيه؟ الكبرياء. فهو حط العدوى في آدم وحوا، لما خد الثمرة وأكل منها وأعطى حوا، فسال عليها لعاب الكبرياء، فأكلت فصار فيها ميكروب وجرثومة الكبرياء، ... ، فأصبحت جرثومة الخطية في دم البشرية، مش بس آدم وحوا، النسل أيضا أصبح بهذا الشكل".
ومن الواضح يا جناب القُمّص أنك تخلط بين التشبيهات والحقائق، وتمزج بين الحقيقة والمجاز، فليس للخطية ميكروب ولا جرثومة، وهي لا تنتقل بالعدوى وإنما بالممارسة، والخطية لا يمكن أن تكون في دم البشرية، لمجرد أن آدم وحواء قد أخطآ، فالكتاب المقدس مملوء بالشواهد التي تدل على أن الآباء لا يحملون أمام الله وزر أخطاء الأبناء، كما لا يحمل الأبناء وزر أخطاء الآباء. يقول الكتاب المقدس: "لا يقولون بعد الآباء أكلوا حِصْرِما وأسنانُ الأبناء ضرِسَت، بل كل واحد يموت بذنبه، كل إنسان يأكل الحِصرِم تضرَسُ أسنانُه" (إرميا29:31)، ويقول كذلك: "النفس التي تخطئ هي تموت. الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن، بر البار عليه يكون وإثم الشرير عليه يكون" (حزقيال20:18). هذا هو العدل الذي يليق بأن يُنسب إلى الله تعالى، وأما أن يخطئ إنسان واحد، فيُدان الجنس البشري كله، فهذا ظلم عظيم على الجنس البشري بأكمله، ولا يليق أن يُنسب الظلم إلى إله العدل والمحبة.(/15)
والغريب يا جناب القُمّص أنك تحاول أن تستشهد بما كتبه بعض علماء المسلمين، مثل ما قاله الترمذي: "جحد آدم فجحدت ذريته، وأخطأ آدم فخطئت ذريته"، أو ما قاله الرازي في تفسير الآية 28 من سورة يوسف ]إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ[ حيث قال الرازي: "أي ميالة إلى القبائح، راغبة في المعصية، والطبيعة البشرية تواقة إلى اللذات". ولتعلم يا جناب القُمّص أن أقوال العلماء من المسلمين هي مجرد اجتهاد من جانبهم، وهم قد يصيبون وقد يخطئون في اجتهادهم، وبالتالي فإن قولهم ليس ملزما لجميع المسلمين. وحيث إنك مولع بالاستشهاد بأقوال العلماء، فإني أقول لك مرة أخرى إن أقوالهم ليست ملزمة، وعلى هذا فلن أحاول أن أجيب عليها أو أبررها أو أخطئها أو أفندها، وتكفيني أقوالك أنت أو ما تسوقه من آيات القرآن المجيد. وأما استشهادك بالآية ]إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ[، فلا يعني أن نفس كل إنسان أمارة بالسوء، بل إن النفس لدى المرأة التي قالت هذه الجملة هي الأمّارة بالسوء، فهي التي كانت تريد أن ترتكب الزنى مع يوسف u، وكانت تعيش في مجتمع منحط أخلاقيا، وإلا، فلماذا لم يوافق يوسف على ارتكاب الزنى معها لو أن نفسه هو أيضا كانت أمّارة بالسوء؟ ألا تقرأ كتابك المقدس يا جناب القُمّص لتعرف أنه قال للمرأة: "كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله"؟ (تكوين9:39). فهل هذه النفس الكريمة التي تمتنع عن ارتكاب الفحشاء تكون أمّارة بالسوء؟ من الواضح أن الرازي قد أخطأ في تفسير الآية إن كان قد عممها على جميع الناس، فالمثال الذي قدمه يوسف u يثبت لك أنت وهو أنكما مخطئان في فهمكما للنفس البشرية. ولكن أنت طبعا معذور يا جناب القُمّص، فأنت تردد ما كتبوه لك، وتقرأ ما سبق إعداده لك، ولم تقم بنفسك لتبحث وتتعلم وتتعرف على حقائق الأمور، مع أنك تتهم المسلمين بأنهم لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وكان الأوْلى بك أن تخرج الخشبة التي في عينك قبل أن تنظر إلى عيون الآخرين وتظن أن فيها قذى. ولو أنك قرأت وبحثت يا جناب القُمّص لعلمت أن القرآن الكريم يتحدث أيضا عن النفس اللوّامة، التي تلوم نفسها على فعل المعصية لأنها تكره المعصية وتستنكر ارتكاب الإثم، ولكنها لضعفها قد تقع في المعصية، فتسرع بالتوبة والندم والاستغفار، وتلوم نفسها على ضعفها. ولو أنك قرأت أكثر لعلمت أن القرآن الكريم يتحدث أيضا عن النفس المطمئنة، التي استطاعت أن تتغلب على الإثم، وصارت مطمئنة في حضن محبة الله تعالى، فلا يستطيع الشيطان أن يؤثر عليها، فيقول الله لها: ]يَآ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ & ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً & فَادْخُلِي في عِبَادِي & وَادْخُلِي جَنَّتي[ (الفجر:27)
العجيب يا جناب القُمّص أنك رجل دين، كما يبدو من ملابسك، ومن لقبك الذي ينادونك به، مع أنك تقاعدت عن وظيفة القُمّص، كما سمعت، أو أنك طُردت من الخدمة كما يقولون. وعلى أي الأحوال، كان ينبغي عليك أن تستزيد من المعرفة وتوسع أفق قراءاتك، ولا تكتفي بما يعدونه لك لتردده أمام الكاميرات، إذ من العيب الكبير على رجل دين أن يتكلم في مسائل الدين وهو يجهل إلى حد كبير، الكثير مما يتكلم عنه. عيب يا أبونا عيب! إن هذا قد يكون مقبولا من الصغار، سواء صغار السن أو صغار المقام، ولكن أنت تبدو وقد تخطيت الخمسين أو الستين من العمر، ومقامك كبير بين الناس الذين يصدقون ما تقول، فكان من الواجب عليك أن تكون أكثر ثقافة وأوسع اطلاعا، أو على الأقل تحصر نفسك في المسيحية التي تؤمن بها، ولا تقحم نفسك فيما أنت لست أهلا له، وما قد يعلو على مفاهيمك ومداركك.(/16)
ثم ماذا أقول يا جناب القُمّص عن سوء القصد وخُبث النيّة؟ أنا لا أتهمك أنت بهذا، فأنت معذور كما قلتُ، وإنما هؤلاء الذين يكتبون لك المواد، ويُعدّون لك البرامج، ويستخرجون لك الآيات التي تستشهد بها، ألم يقرأوا الآية كلها التي انتزعوا منها جزءا وتركوا بقيتها؟ فلماذا فعلوا هذا؟ هل لأن بقية كلمات الآية ليس لها علاقة بالموضوع أم لأنهم يريدون أن يغشوا المشاهد ويخدعوا السامع ويُلبسوا الحقائقَ ثوبَ الباطل؟ إن الآية يا جناب القُمّص هي ]وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ[، ومن الواضح أن في الآية استثناء، فليست كل نفس أمّارة بالسوء، والله تعالى لم يخلق النفس أمّارة بالسوء، وإنما كما ذكرت لك في الحلقة الماضية، خلق الله في النفس الشهوات والغرائز والنوازع، لتدفع الإنسان إلى التقدم والرقي. وهذه الشهوات والغرائز في حد ذاتها ليست سيئة ولا فاسدة، بل هي مفيدة وضرورية ولا بد من وجودها لفائدة الإنسان نفسه. فلو لم تكن شهوة الجنس موجودة لما استطاع الإنسان أن يحافظ على استمرار نوعه، ولو لم تكن شهوة حب النفس موجودة لما استطاع الإنسان أن يحافظ على حياته ويعتني بنفسه، ولو لم تكن شهوة التملك موجودة لما استطاع الإنسان أن يحافظ على بيته وأمواله وأولاده، ولو لم تكن النفس تواقة إلى اللذات، لما استطاع الإنسان أن يتناول أطايب الطعام وأنواع الشراب والعصائر، ولكان مثل البهيمة التي تأكل نفس العشب كل يوم طوال أيام حياتها. فهذه الشهوات يا جناب القُمّص ضرورية لحياة الإنسان، وهي من نعم الله تعالى عليه، وهي في ذاتها خير لأنها تفيد الإنسان وتفيد المجتمع الذي يعيش فيه، ولكن سوء استخدامها هو الذي يضر ويسيء إلى الإنسان وإلى المجتمع، فهي مثل السيارة مثلا الآن، تساعد على انتقال المرء من مكان إلى مكان بسرعة وبراحة، ولكن سوء استخدامها يؤدي إلى عواقب وخيمة للفرد وللمجتمع. وإذا نظرت حولك فيما خلق الله للإنسان، لوجدت أنه سبحانه قد سخّر للإنسان كل شيء، فنعَمه أكثر من أن تُعد أو تُحصى، ولكن سوء استخدام الإنسان لهذه النعم هو الذي يضره ويجلب عليه الخسران. إن النار تحرق وتدمر وتخرّب عند إساءة استعمالها، ولكنها تعطي الدفء عند شدة البرد، وتدير الآلات الضخمة من أجل زيادة الإنتاج. وهكذا الشهوات والغرائز والنوازع، إذا استعملها الإنسان الاستعمال الصحيح، عاش حياة طيبة في الدنيا والآخرة، وإذا أساء استعمالها، انقلبت حياته إلى هم وغم وعاش في خزي وهوان في الدنيا والآخرة، أما هي في حد ذاتها فهي من نعم الله تعالى وفضله، وبدونها لصار الإنسان مثل الحجر الأصم الذي لا يتحرك ولا يضر ولا ينفع.(/17)
ولذلك، حينما خلق الله الإنسان، وخلق له هذه الشهوات والغرائز، وأعطاه هذه النوازع والدوافع، أعطاه أيضا شريعة تنظم له كيفية إشباع هذه الشهوات دون الاقتراب من سوء استعمالها، وعبّر عن ذلك بوصف "الجنة"، فشريعة الله وقوانينه جنة، وهي تحتوي على كثير من الأوامر والنواهي التي تنظم حياة الإنسان القائمة على حسن استعمال هذه الشهوات والغرائز والنوازع والدوافع، وهذه الأوامر والنواهي مثل الأشجار المتفرعة، فهذه مجموعة الأوامر التي تختص بالعبادات، أو شجرة العبادات، وهذه مجموعة الأوامر التي تختص بالمعاملات، أي شجرة المعاملات، وهذه مجموعة الأوامر التي تختص بشئون الزواج والأسرة وتربية الأبناء، أي شجرة الأسرة، وهذه أيضا مجموعة النواهي والمحرّمات التي يجب تجنبها حتى لا يضر الإنسان نفسه، أي الشجرة المحرمة. وكل هذه الأشجار تحتويها الشريعة، أي الجنة التي عندما يعيش فيها الإنسان يعيش في نعيم مقيم. ولما قال الله تعالى لآدم: ]اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ[، كان يخاطبه بأسلوب مجازي جميل، فيقول له إنه يستطيع أن يشبع جميع شهواته، ويرضي جميع غرائزه، أي يأكل من جميع أشجار الجنة، ويستمتع باللذات التي خلقها الله تعالى له، إذا اتبع الطريق الصحيح الذي عرّفه الله تعالى إياه، ثم حذّره من الاقتراب من الشجرة المحرّمة، أي من مجموعة النواهي أو حدود الله التي يجب ألا يقترب منها الإنسان، كما يقول تعالى ]تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا[ (البقرة:187). فإذا عاش الإنسان في جنة الشريعة هذه، وأكل من جميع أشجارها ما عدا الشجرة المحرّمة، فإنه يُشبع غرائزه ويستمتع بالحياة، ويعيش مستورا بمحبة الله وينعم بقربه، فيصبغه الله بصبغته ]صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً[ (البقرة:138)، ويزوّدُه بزاد التقوى ]وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[ (البقرة:197)، ويَكسيه أيضا بخير لباس وهو لباس الرحمة والمحبة والتقوى ]وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ[ (الأعراف:26). ولذلك طالما بقيَ الإنسان في هذه الجنة، يقول الله تعالى له ]إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى & وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُ فِيهَا وَلا تَضْحَى[ (طه:118). أما الخروح من هذه الجنة فهو يؤدي إلى المعاناة والشقاء، ولذلك يقول تعالى للإنسان ]فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى[ (طه:116). ولكن مع مرور الزمن، يحدث أن ينسى الإنسان بعض الأمور، وقد يجتهد في تفسير بعض الأوامر فيخطئ، ولكنه ليس خطأ تعمّد، ولا خطأ تمرّد، وإنما خطأ نسيان دون قصد، وهذا ما صدر من آدم u، إذ يقول تعالى عنه ]وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا[ (طه:115)، أي أنه لم يكن يقصد أن يرتكب المعصية، وإنما فعلها من باب النسيان، ولم يكن له عزم على ما فعل. فقد كان يود الخلود لرسالته، ويبتغي النجاح في مهمته، وهي تحقيق الخلافة في الأرض، فلهذا خلقه الله وجعله خليفة في الأرض. وعندما يتبين للإنسان أنه أخطأ حتى ولو بدون قصد، ويتضح له أنه عصى حتى ولو بغير تعمّد، فإن الإنسان السوي يخجل من معصيته، ويستحي من ذنبه، ويعتبره عورة ينبغي أن يخفيها، ويسأل الله تعالى أن يستره ولا يفضحه. وهكذا إذا نُزع عن الإنسان لباس التقوى، تظهر سوءاته وعوراته، فيسرع بتغطية تقصيره، ويهرع إلى أوامر الله تعالى، أي إلى أوراق الاستغفار ليغطي بها سوءته، فالاستغفار يعني طلب التغطية، فيطلب من الله تعالى المغفرة والرحمة. ولذلك يقول تعالى ]فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ[. لقد زال عنهما لباس التقوى فبدت لهما سوءات المعصية التي كانت بغير قصد وبسبب النسيان، فطفقا يسألان الله تعالى المغفرة لكي يغطي ذنبهما ويعيد إليهما لباس التقوى، فالعودة إلى ارتداء لباس التقوى هي التوبة، وإعادة لباس التقوى إلى الإنسان هي قبول توبته من الله تعالى. ولذلك قالا ]رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنْفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (الأعراف:23)، فتقبّل الله تعالى توبتهما، وأعاد لهما لباس التقوى، إذ يقول سبحانه ]فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[ (البقرة:37). وهكذا، أصبحت القصة كلها عبرة وموعظة لبني آدم كي يكونوا على حذر من فتنة الشهوات والغرائز، فلا يسيئون استعمالها. فهي كالنار، تفيد إذا أحسن الإنسان استعمالها، وتحرق وتُهلك إذا أساء الإنسان استخدامها. ونفس هذه الشهوات والغرائز التي تسبب السعادة واللذّة والنعيم للإنسان تتحول فتكون شيطانا يسبب الخزي والهوان والهلاك للإنسان، ولذا(/18)
يحذر الله تعالى بني آدم فيقول ]يَا بَني آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ (أي من جنة شريعة الله التي فيها ينالون رضوانه) يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا (أي لباس التقوى والقرب من الله تعالى) لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا[ (الأعراف:77). وهنا لمحة جميلة تبين حكمة العقاب والغرض منه، فالغرض من نزع لباس التقوى ليس هو الانتقام أو التشفّي أو إيقاع الضرر، وإنما ]لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا[ أي لكي يري المخطئ نتائج خطئه قبل أن يراها الآخرون، ويدرك المسيء عواقب إساءته قبل أن يفتضح أمره، فيعمل على تدارك الأمر، ويلتمس تغطية تلك السوءة بالتوبة وبالاستغفار، أي بطلب استعادة لباس التقوى لكي يغطي به تلك العورة التي بدت له، فلا تظهر أمام الآخرين.
ما أعظم هذه التعاليم، وما أسمى هذه المفاهيم، وما أروع هذه التوجيهات، وما أنبل هذه الإرشادات، وما أحلى هذه الاستعارات، وما أجمل هذه الكنايات والتشبيهات، التي تعطي الكلام روعة وحلاوة، وتكسبه جمالا وطلاوة. ولك يا جناب القمّص أن تقارن بين ما يقدمه القرآن المجيد من تعاليم ومفاهيم، وبين ما يقدمه الكتاب المقدس من حكايات وأساطير، على الأقل فيما يختص بقصة آدم وجنته. فإذا نظرت إلى كتابك بعيون الكناية والمجاز، فلعلك تجد في القصة شيئا يستحق الاهتمام، وإذا نظرت بعيون المادية والحرفية، فلن تجد في القصة إلا خرافة وأوهام.
ومرة أخرى أطلب من حضرات القراء أن يتفكروا فيما أقول، وليقارنوا بين ما سمعوه من جناب القمّص في شرحه وفهمه للكتاب المقدس، وبين ما قدمت من شرح وفهم للقرآن المجيد. ثم لهم بعد ذلك أن يقرروا أي المفاهيم هي التي تليق بجلال الله تعالى، وأي التعاليم هي التي يمكن أن تصدر عن إله الحكمة والمحبة والرحمة. عسى أن يوفق الله الجميع لما فيه الخير والسداد، ويهدي القلوب إلى طريق الحق والرشاد. آمين.
( 5 )
والموضوع الذي نعالجه هو موضوع خطية آدم التي يدّعي جناب القمّص أن الجنس البشري كله قد ورثها منه، وأن الله قد جعل عقوبة لهذه الخطية وهي الموت، ولذلك يعتقد جناب القمّص بحسب التعاليم التي يؤمن بها من الكتاب المقدس أن الجنس البشري كله أصبح يستحق العقوبة لأنه ورث الخطية، ولما كان الله قاضيا عادلا، فإن عدله يستلزم تطبيق العقوبة. غير أن الله رحيم أيضا، ورحمته تريد أن تغفر هذه الخطية، لأنه يحب بني آدم، ولكن وقف العدل في الطريق، ومنع الله من ممارسة صفة الرحمة حتى يطبق العدل أولا. وهكذا، يصوّر لنا جناب القمّص الله تعالى وكأنه قد أصبح في ورطة شديدة ويريد أن يجد منها مخرجا.
يقول جناب القمّص أن آدم وحوا عصيا الله، وأكلا من شجرة معرفة الخير والشر التي نهاهما عنها، ونتيجة لذلك، لعن الله الأرض بمن فيها، وقال إنها سوف تنبت شوكا وحسكا، وإنه ينبغي على الإنسان أن يأكل من عشب الحقل، ويأكل خبزه بعرق جبينه كل أيام حياته، كذلك فقد أظهر الرب الإله غضبه على حواء وعلى كل نساء العالمين، فقال إنه سوف يكثّر أتعاب حبلها ويجعلها تلد بالوجع، ويكون اشتياقها إلى الرجل الذي جعله يسود عليها. ويستغرب الإنسان العادي من هذا الغضب المتفجر الذي صبّه الله على رأس آدم وحواء، مع أن جناب القمّص يقول لنا إن الله قاض عادل، ولم يكن في حيثيات الحكم سوى أنهما إذا أكلا من الشجرة فسوف يموتان، دون أي ذكر للعنة الأرض، أو تكثير آلام الحبل، أو وجع الولادة، أو الأكل بعرق الجبين. بل لقد أصاب بركان الغضب الذي تفجر جميع الثعابين والحيات في العالم، إذ صدر حكم ذلك الرب الذي يقول عنه جناب القمّص إنه قاض عادل، بأن تمشي الثعابين على بطنها وتأكل ترابا، وذلك لمجرد أن الشيطان اتخذ صورة الحية عندما أغوى آدم وحواء. ولكن ما ذنب الثعابين والحيات في العالم، وما هي الخطيئة التي ارتكبوها؟ لكن العجيب في الأمر أننا لا نرى أي حية تأكل ترابا، بل تأكل حيوانات أو طيور أو حشرات، ولكن لا توجد في العالم كله حية واحدة تأكل ترابا، فماذا حدث لهذا الشق من الحكم؟ هل نسي الله تطبيقه أم أنه غفر للحيات ولم يغفر لآدم وحواء؟ هل لديك جواب يا جناب القمّص؟؟
ويتفضل جناب القمّص فيشرح لنا معنى حكم الموت الذي صدر على آدم وحواء، وبالتالي حسب زعمه، على جميع أفراد الجنس البشري كله، فيقول:
"إيه الموت ده؟ نوعه إيه؟ (ثم يتولى جناب القمّص الإجابة على نفسه فيقول) الموت ده.. حكم الموت ده له 3 أنواع، مهمين أوي إن احنا نعرفهم عشان حيترتب عليهم إيه.. 3 نتائج، أول حكم وأخطر حكم وأخطر نوع هو الموت الروحي، وهو الانفصال عن الله".
ويشرح جناب القمّص معنى الموت الروحي والانفصال عن الله فيقول:(/19)
"الله موجود في كل مكان، لكن علاقة الحب اللي كانت بينا وبينه الخاطي رفضها، مش عايز يخضع لربنا، عايز يعيش على مزاجه، يعمل اللي في دماغه، يمشي حسب أهواؤه، يمشي حسب ملذاته، يمشي حسب غرائزه، يمشي حسب شهواته. يبقى فين ربنا في حياته؟ فتجيب السيدة ناهد متولي وتقول: كده يبقى انفصل عن الله.
ثم يشرح جناب القمّص النوع الثاني من الموت فيقول:
"الموت الثاني هو الموت الأدبي أو العار، الكتاب بيقول عار الشعوب الخطية".
ثم يشرح جناب القمّص النوع الثالث من الموت فيقول:
"العقوبة اللي بعد كده بقى جهنم الأبدية. تبقى عقوبة الخطية انفصال عن الله، خزي وعار، وجهنم النار الأبدية. بيقولك إيه بقى في جهنم النار الأبدية، يقولك: "الله يقول للأشرار اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية" ده في متّى الإصحاح 25، وفي متّى 13 يقول إيه: "فيطرحونهم في أتون النار، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان".
وقد آثرت أن أنقل كلام جناب القمّص بالحرف الواحد حتى لا يظن المشاهد أني أتجنى عليه، وحتى لا يتهمني أحد بأني أبالغ في وصف التعاليم التي ينسبها جناب القمّص إلى الكتاب المقدس. ولكي يرى المشاهد مدى الإساءة البالغة التي يسيئون بها إلى الله تعالى، ويقدمونه في صورة ممقوته، ممسوخة ومشوّهة، فتعالى الله رب العالمين عما يصفون!
وأرجو من حضرات المشاهدين أن يتصوروا وجود ذلك الإله، الذي يقول عن نفسه إنه قاض عادل، فيخلق اثنين من البشر، ولا يعلّمهما شيئا، ولا يحذّرهما من أحد، ولا يُعرّفهما الخير والشر، وإنما يسمح لهما أن يأكلا من جميع شجر الجنة ما عدا شجرة واحدة، ويقول لهما "يوم تأكلا منها موتا تموتا"، فيأكلان منها بناء على نصيحة من مخلوق من مخلوقات ذلك الإله خدعهما، فتكون النتيجة أن يلعن هذا الإله الأرض، ولا يحكم على الخاطئيْن فقط بالموت، بل يحكم أيضا بالموت على آلاف الملايين من البشر من ذريتهما، ويتبين فيما بعد أن حكم الموت لا يعني الفناء ونهاية الوجود فحسب، بل يعني الانفصال عن الله، والخزي والعار، والعذاب المتواصل في النار الأبدية، لجميع الجنس البشري بأكمله. فهل يمكن أن يكون لدى مثل هذا الإله ذرّة من العدل؟ وهل يمكن أن يوصف مثل هذه الإله بالحكمة أو بأن لدية نتفة من العقل؟ تعالى الله عما يصفون!
يا ناس! اتقوا الله! ولا تنسبوا إليه عقائد عقيمة مخزية، يخجل منها أسوأ دكتاتور في العالم، وينفُر أشد المستبدين استبدادا من أن يتّصف بها. وكل هذا لكي تأتوا بعد ذلك وتقولوا إنه أراد أن يرفع عنكم كل هذه البلاوي التي اخترعتموها بأن يأتي ويتجسّد في المسيح، ويُصلب ويموت حتى يحقق عدله ورحمته؟ وأنت يا جناب القمّص، الذي دعوتنا في برامجك أن نترك الإسلام ونتخلى عنه، من أجل ماذا؟ من أجل الإيمان بإله ذي وجهين، أحدهما ظالم مستبد شديد القسوة عديم الحكمة، والآخر تدّعي أنه محب ورحيم؟ هل فقدت عقلك وحكمتك أنت الآخر لتدعو الناس إلى قبول مثل هذا الإله الظالم الرهيب الإرهابي المتعطش إلى سفك الدماء، حتى ولو اقتضى الأمر أن يسفك دماء ابنه الوحيد البريء؟
ولماذا كل هذه المسرحية السخيفة العابثة؟ ألم يكن هذا الإله يعلم الغيب، ويعلم ماذا سيحدث لآدم وحواء، وماذا سيحدث للبشرية؟ ولنفرض أن آدم وحواء قد أخطآ، أما كان من الأفضل أن ينفذ فيهما حكم الموت، أي الفناء وعدم الوجود، ثم يعيد عملية الخلق مرة أخرى، فيخلق آدم جديدا وحواء جديدة، ولا يكرر خطأه معهما في هذه المرة، فيحذرهما من الملائكة التي تتحوّل إلى شياطين، ويلفت نظرهما إلى عواقب المعصية، ويشرح لهما نتائج عدم الطاعة، ويعلمهما الفرق بين الخير والشر؟
وأنت تقول يا جناب القمّص إن الله جعل حكم الخطية هو الموت، فلماذا وضع هذا الحكم أصلا، إذا كان سيؤدي في النهاية إلى أنه يضحي بابنه الوحيد ويجعله يُقتل على الصليب فداء للناس، وهو في الحقيقة ليس فداء للناس، وإنما هو تصحيح للخطأ الذي ارتكبه هو عندما أصدر مثل هذا الحكم. فلو أنه أصدر حكما آخر معقولا، يتسم بالعقل والحكمة التي يجب أن يتصف بها الإله، لما كان هناك ما يدعو إلى هذه القسوة الفظيعة والبشاعة المروعة في تعذيب الناس في أتون النار الأبدية أو في سفك دماء إنسان بريء، لكي يحقق عدله.(/20)
أمن أجل خطية واحدة، يحكم هذا الإله على الناس جميعا بالعذاب الأبدي المتواصل في النار الأبدية، فيقول لهم "اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية"؟ ولعلك يا جناب القمّص تقول: إن الله قال إن أجرة الخطية هي موت، والله لا يستطيع أن يغير كلامه. لا يا جناب القمّص. إن هذا أسوأ مثل يمكن أن يحتذي به أحد، بل يجب إذا أساء أحد الحكم في أمر من الأمور، أو اتخذ قرارا غير صائب، فعليه أن يغيره ويرجع عنه، فهذا شأن العقلاء من الناس، والآلهة أولى أن تكون أكثر عقلا وأشد حكمة. ثم، ألا تقرأ كتابك المقدس يا جناب القمّص؟ ألا تعرف أن الرب قال لموسى: "رأيت هذا الشعب وهو شعب صلب الرقبة، فالآن اتركني ليحمي غضبي عليهم وافنيهم فأصيّرك شعبا عظيما. فتضرّع موسى أمام الرب إلهه وقال: لماذا يا رب يحمي غضبك على شعبك الذي أخرجته من أرض مصر بقوة عظيمة ويد شديدة؟ لماذا يتكلم المصريون قائلين أخرَجَهم بخُبث ليقتلهم في الجبال ويُفنيهم عن وجه الأرض. إرجع عن حُمُوّ غضبك، واندم على الشر بشعبك ... فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه" (الخروج32: 9-14).
انظر يا جناب القمّص إلى كتابكم المقدس، ولك أن تفخر بحكمة موسى الذي تدّعون أنه كتب هذا الكلام، وتعتبرونه كلاما مقدسا، عندما وجد أن الرب إلهه سوف يسيء التصرّف، وسوف يحمو غضبه على شعبه ويفنيهم، فخاف من شماتة المصريين، حتى لا يقولوا إن الرب أخرجهم بخبث ليقتلهم في الجبال ويفنيهم، فنصحه نصيحة مخلص أمين أن يرجع عن حمو غضبه، ويندم على الشر الذي كان ينوي أن يفعله بشعبه. وهنا أدرك الرب الإله مدى خطأه واندفاعه الأرعن، فسمع لنصيحة موسى، ورجع عن حمو غضبه، وندم على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه.
يا حسرتاه على ذلك الكتاب الذي ينسب مثل هذه الخرافات إلى الله العزيز الحكيم! ويا حسرتاه على أن موسى لم يكن موجودا مع آدم وحواء عندما أصدر الإله حكمه عليهما، وإلا لنصحه أن يرجع عن حُموّ غضبه ويندم على الشر الذي يريد أن يطبقه على رأس البشرية كلها. ويا حسرتاه على أن ذلك الإله راح في حمو غضبه يلعن الأرض ومن فيها، ويحكم بالموت على كل الجنس البشري، ويقضي عليهم بالعذاب الأبدي في النار الأبدية التي في بحيرة النار والكبريت، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان!!! ألم يكن من الأفضل يا جناب القمّص لو أن هذا الإله قد تحلى بشيء من حكمة موسى واستطاع أن يتمالك نفسه عند حمو غضبه؟ بل ألم يكن الأفضل من هذا وذاك أن يفكر ذلك الإله قليلا قبل أن يصدر قرارات خطيرة مثل هذه، فيحكم على البشرية كلها بالحريق في النار الأبدية؟ وإذا قلنا إن الفاس وقعت في الراس، كما يقولون في الأمثال، ألم يكن من الحكمة أن يرجع ذلك الإله عن هذه القرارات الغاشمة الظالمة، ويندم على هذه الأفعال الطائشة المستبدة؟ أم أنكم ترون أنه كان يريد أن يتجسد في المسيح بأي وسيلة، وبأي حجة، مهما كانت بشعة وقاسية، ومهما كانت كريهة وممقوتة.(/21)
لا شك يا جناب القمّص أن الرب الذي تذكرون أنه أراد أن يتجسد من أجل حبه للبشرية، كانت لديه خطة عمل عندما بدأ الخلق، فماذا كانت تلك الخطة، ولماذا خلق الإنسان بالذات؟ يقول كتابكم المقدس: "وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى الدبابات التي تدب على الأرض" (تكوين26:1). وحتى الآن يصوّر الكتاب المقدس الأمر كأنه فكرة عابرة خطرت على بال الله تعالى دون أي تخطيط سابق لها. ثم يقول: "فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرا وأنثى خلقهم، وباركهم الله وقال لهم أثمروا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض" (تكوين27:1). ويبدو من هذه الفقرة أن الغرض من خلق الإنسان هو أن يتكاثر ويملأ الأرض ويخضعها ويتسلط على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض. ونجد تأييدا لهذا الكلام في الإصحاح الثاني من سفر التكوين حيث يقول الكتاب: "كل شجر البرية لم يكن بعد في الأرض، وكل عشب البرية لم ينبت بعد لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض، ولا كان إنسان ليعمل الأرض. وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حيّة" (تكوين5:2). وبصرف النظر عن أن هذا الكلام غير صحيح وغير علمي، ويناقض جميع الاكتشافات العلمية منذ أول اكتشاف للخليقة حتى يومنا هذا، وبغض الطرف عن أنه لا يوجد عالم جيولوجي واحد في العالم كله يقول إن الإنسان خُلق قبل النباتات والحيوانات، ويمكنك يا جناب القمّص أن تزور أي متحف للتاريخ الطبيعي في بلاد الغرب التي تمرح فيها، أو تقرأ شيئا عن تاريخ الديناصورات التي نجد حفرياتها وبقاياها في أماكن كثيرة، لتعلم أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون كلاما من وحي الله تعالى لأنه محض هراء ولا أساس له من الصحة من الوجهة العلمية والواقعية، إلا أننا سوف نتجاوز عن كل هذا لأن هذه الأخطاء العلمية لا تتعلق بموضوعنا، فنحن نريد أن نعرف لماذا خلق الله الإنسان، والكتاب يقول إنه خلقه ليعمل الأرض. ثم يقول الكتاب بعد سقوط آدم المزعوم: "وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أُخِذَ منها" (تكوين22:3).
من كل هذا يا جناب القمّص نعلم أن الرب الإله خلق الإنسان ليعمل الأرض، وأنه وضعه في جنة عدن لفترة مؤقتة وهو يعلم أنه سيخرج منها ليعمل الأرض التي أُخذ منها، أي أن الإنسان بخطيئته في الجنة (إن كان قد أخطأ فعلا) قد حقق الغرض الذي خلقه الله من أجله، وهو أن يعمل الأرض. فلو لم يخطئ الإنسان لظل يعيش في الجنة، ولظلت الأرض بدون أن يعملها أحد. فإذا كان الإنسان بخطيئته قد حقق غرض الله من خلقه، فلماذا كل هذا الغضب واللعنات التي صبها على الأرض وعلى البشرية كلها وقضى بتعذيبها في النار الأبدية؟ هل لديك جواب على هذا يا جناب القمّص؟(/22)
ولعلك يا جناب القمّص تتساءل عن الغرض الذي من أجله خلق الله الإنسان كما يقدمه الإسلام العظيم. ألا فاعلم يا عزيزي أن الله خلق الإنسان من أجل غرض عظيم وهدف نبيل، وهو عبادة الله تعالى. وبالطبع فإنك مثل من هم على شاكلتك من الناس، سوف تسرع لتقول: وهل الله محتاج لعبادة الإنسان؟ بالطبع لا، فهو يقول: ]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ & مَآ أُرِيدُ مِنْهُمْ مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ & إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[ (الذاريات:56-58). إن العبادة يا جناب القمّص ليست في إقامة الشعائر وأداء الطقوس، وإنما هذه الشعائر والطقوس وسيلة من الوسائل التي تعين الإنسان على عبادة الله. فما معنى العبادة إذن؟ إن العبد هو الشخص الذي يملكه سيده، فيُسَخّر كل عمله في خدمة سيده، ويكون رهن إشارته في كل وقت وفي كل آن. وقد يملك السيد عقارا، وقد يملك أرضا، وقد يملك مالا، وقد يملك متاعا، وقد يملك حيوانا أليفا أو داجنا، ولكن لا تُطلق كلمة "عبد" على أيّ من هذه الأشياء التي يملكها السيد، وإنما تُطلق كلمة "عبد" على الإنسان فقط الذي يملكه السيد، وذلك لأن العبد يشترك مع سيده في الكثير من صفاته وأخلاقه. أي لا بد أن تكون هناك صفات مشتركة بين السيد وبين من يمكن أن يُسمّى عبدا. ومن هنا يكون التعبد هو توافق صفات العبد مع صفات السيد المعبود، وبهذا يكون معنى قول الله تعالى بأنه خلق الإنسان لكي يعبده، أي أنه خلقه لكي تتوافق صفاته مع صفات الله تعالى، أي خلقه من أجل أن يتصف بصفات الله الربانية فيكون إنسانا ربانيا، ليس بمعنى أن الله تعالى يحل فيه والعياذ بالله، وإنما بمعنى أن تتجلى وتظهر فيه الصفات الربانية، في حدود بشريته الإنسانية. فتتجلى على الإنسان الصفات الإلهية، كما تتجلى الشمس في المرآة الصغيرة. فإذا وجّهت المرآة الصغيرة نحو الشمس ونظرت فيها، فإن الشمس التي يبلغ حجمها مليون مرة قدر حجم الأرض، تظهر في تلك المرآة الصغيرة. إنها ليست الشمس حقيقة، ولكنها تتجلى في المرآة. كذلك فإن العبد الحقيقي هو الذي تتجلى فيه الصفات الربانية، في حدود بشريته، بدون تجسد ولا حلول. فكما يكون الله رحيما يكون الإنسان رحيما أيضا، وكما يكون الله غفورا يكون الإنسان غفورا أيضا، وكما يكون الله كريما، يكون الإنسان كريما أيضا، وكما يكون الله حليما يكون الإنسان حليما أيضا، وكما يكون الله ودودا يكون الإنسان ودودا أيضا، وهكذا تتجلى الصفات الإلهية ويظهر أثر الأسماء الحسنى على ذلك العبد الذي يتجه نحو الله تعالى، تماما كما تظهر الشمس في المرآة التي تتجه نحو الشمس. وعلى هذا تكون العبادة هي التخلق بأخلاق الله تعالى، أي بالشكل الذي حث به رسول الإسلام r المؤمنين بقوله: "تخلقوا بأخلاق الله"، وكما لخص هو كل مهمته ورسالته في جملة صغيرة حيث قال: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".(/23)
هذه يا جناب القمّص التعاليم الإسلامية العظيمة عن عبادة الله الحكيم الرحيم الحليم الغفور الودود، الذي له الأسماء الحسنى والصفات العظمى، وليس هو ذلك الإله الممسوخ المشوّه الذي تقدمه لمشاهديك يا جناب القمّص، وتصوّره على أنه والعياذ بالله إله ظالم مستبد، يخلق إنسانا مسكينا ضعيفا، لا حول له ولا قوة، ولا علم له ولا معرفة، ولا يعرف الفرق بين الخير والشر، ثم بعد أول خطأ غير مقصود يصدر منه، يلعن الأرض بما فيها، ويتفجر حمو غضبه على المرأة المسكينة هي الأخرى فيكثّر أتعاب حبلها وآلام ولادتها، بل وينال غضبه أيضا الحيات والثعابين في العالم، فيضطرهم إلى المشي على بطونهم وأكل التراب، ثم ينسى ويتغاضى عن موضوع أكل التراب بالنسبة للحيات، ولكنه لا ينسى ولا يتغاضى عن تعذيب البشرية كلها في أتون جهنم النار الأبدية. ثم تأتي سيادتك يا جناب القمّص وتحاول أن تقنعنا بأن مثل هذا الإله الظالم الغاشم المستبد هو قاض عادل. لا، بل الأغرب من هذا أنك تحاول يا جناب القمّص أن تقنعنا بأنه إله محبة. لا شك طبعا أن الله تعالى إله رحمة وإله محبة، ولكنكم بتفسيركم المشوّه للكتاب المقدس، وبرغبتكم المستميتة الخائبة في إثبات تجسد الله في جسد المسيح، وفي محاولاتكم الفاشلة لرفع السيد المسيح إلى مصاف الآلهة وجعله ابنا لله، اضطررتم أن تنسبوا لله تعالى أوصافا حمقاء، وقدمتم لنا إلها آخر مشوها، غير الله تعالى الذي أنزل توراته على موسى u، والذي أنزل إنجيله على عيسى u. ثم تأتي بعد ذلك يا جناب القمّص لتقول لنا إن هذا الإله الظالم المستبد هو إله محبة، لأنه قدم ابنه الوحيد ليكون فداء عن خطايا البشرية، فتجسد في صورة إنسان كان بريئا هو الآخر، ولكنه اقتحم عليه إنسانيته، وتلبّس في جسده، ليموت على الصليب ويفدي البشرية المعذبة التي سبق وأصدر عليها حكم العذاب في أتون النار الأبدية. ولو كان هذا هو الحق يا جناب القمّص، ولو افترضنا جدلا أن ذلك الإله الظالم المستبد قد تجسد بالفعل ليفدي البشرية، ويمنع عنها ذلك العقاب الأبدي اللانهائي المستمر في أتون النار الأبدية، لما دل ذلك على أنه إله محبة، وإنما يدل على أنه أدرك خطأه، وعرف مقدار ظلمه، وفهم حقيقة استبداده ورعونته وجنونه، وأراد أن يصلح ما أفسده بحمو غضبه وقلة حكمته.
دعك من هذا الإله يا جناب القمّص، فليس له وجود إلا في مخيلة من اخترعوه، وتَوَجه إلى الله تعالى رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، واعبده مخلصا له الدين، واستعن به لكي يهديَك إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن ينجيك أنت وأمثالك من صراط المغضوب عليهم ومن صراط الضالين. آمين
( 6 )
وقد بدأ جناب القمّص حلقاته بأن حدثنا عن مفهوم الصيغة التي يؤمن بها من المسيحية عن اللاهوت، وأنا أقول الصيغة التي يؤمن بها من المسيحية، لأن المسيحية ليست هي فقط ما يؤمن به جناب القمّص، وإنما لها أشكال وألوان، ولكل شكل ولون عقائد ومفاهيم، وهي إذا كانت عند البعض شرقا، فهي عند الآخرين غرب، وإذا اعتبرها البعض شمالا، اعتبرها البعض الآخر جنوبا. وليست هذه مبالغة أو افتئاتا على المسيحية، فهذه هي الحقيقة التي يدركها جيدا جناب القمّص، ويعرف أن الصيغة التي يؤمن بها من المسيحية هي مجرد صيغة من مئات الصيغ التي يزعم أتباع كل صيغة أنها هي المسيحية الصحيحة التي جاء بها السيد المسيح.
المهم. حدثنا جناب القمّص بعد ذلك عن حتمية تجسد الإله كما يتصوره، وذلك لكي يفدي البشرية على حد قوله، إذ يقول إن آدم أخطأ، وكان الحكم الذي وضعه الرب للخطيئة هو الموت، أي الانفصال عن الله تعالى، والخزي والعار، ثم العذاب الأبدي في أتون جهنم النار الأبدية، ليس لآدم فقط وإنما للبشرية كلها. وقد بينت في الحلقة السابقة كيف أن هذا الحكم يتعارض مع حكمة الله تعالى ولا يليق بأن يصدر عن إنسان عاقل حكيم، فضلا عن أن يُنسب إلى الله تعالى رب العالمين. ولكن، دعونا نستمر مع جناب القمّص إلى باب الدار كما يقولون في الأمثال.
يقول جناب القمّص إن الله عادل، فهو كما قال عنه الكتاب المقدس: "الله قاض عادل" (مزامير11:7)، ولذلك إذا حكم فلا بد أن ينفّذ حكمه. ولكن الله أيضا رحيم، فلا بد أن يرحم، إذ يقول الكتاب المقدس: "الرب إله رحيم رؤوف غافر الإثم والمعصية والخطية" (الخروج24: 7،6). وهنا تقول السيدة ناهد متولي إن أحباءنا في الإسلام يتمسكون بهذا ويقولون إن الله غفر الإثم. فيقول جناب القمّص:(/24)
"ده اعتراض مهم أوي، وينبغي إن احنا نوضّحه. مش كده؟". أيوه كده يا جناب القمّص. فماذا قال جناب القمّص؟ قال بالحرف الواحد: "دلوقتي لما الله أصدر حكم الموت، بييجي الإنسان يتوب، بننتظر من الله يغفر، طب وحكم الموت يروح فين؟ العدل ده؟ حيروح فين؟ يرجع في كلامه؟ إنت تُبت.. خلاص أنا مسامحك.. خلاص يا ابني مسامحك؟ لا راد لكلام الله ولا مبدل لكلماته، أصدر حكم يبقى هوه الحكم، مش كده؟... ومن هنا نشأت المشكلة بين الرحمة والعدل. لو العدل أخد قصاصه يبقى مفيش رحمة، ولو الرحمة غفرت وسامحت يبقى مفيش عدل، وحاشا لله إن أي صفة من صفاته تُمَس. وهوه عشان النقطة دي بالذات كانت قصة الفداء كلها، إن عشان خاطر ربنا يغفر ويرحم، لازم يبقى فيه فدية تتحمل الحكم بتاع العدل".
ليتني يا حضرات المشاهدين كنت أستطيع أن أسمعكم كلمات جناب القمّص بصوته حتى تعلموا أني لم أنقص منها شيئا ولم أضف إليها شيئا، ولتروا بأنفسكم وتسمعوا بآذانكم الخلل الذي في تصوّر جناب القمّص ومن هم على شاكلته. لقد طلع علينا جناب القمّص بمفهوم عجيب وغريب عن العدل، مفهوم لا نراه مكتوبا في أي قانون من قوانين العالم المتحضر، ولا حتى في العالم المتخلف. مفهوم لا يعمل به أحد من البشر في العالم، إلا المجانين أو الطغاة المستبدين. فيقول إن العدل يقتضي أنه إذا صدر حُكم فيجب أن يُنفّذ الحكم، أي إذا صدر الحكم بعقوبة معينة فالعدل هو أن تُنفّذ هذه العقوبة. هل هذا مفهوم العدل عندك يا جناب القمّص، وعند المسيحية التي تدعونا إليها، أنه لا بد من تنفيذ عقوبة الحكم الصادر؟ أم أن العدل يقتضي أولا ألا يصدر الحكم أصلا إلا بعقوبة تتساوى مع الجرم؟ ألم تقرأ في كتابك المقدس يا جناب القمّص أن العين بالعين، والسن بالسن؟ هذا هو العدل يا جناب القمّص، وهو أن تكون العقوبة مساوية للجرم الذي وقع أو معادلة له. ليتك يا جناب القمّص تتعلم من حكمة القرآن الكريم، ولا تعتمد فقط على من يكتبون لك المواد التي تقرأها ويعدّون لك البرامج التي تقدمها. يقول القرآن الكريم في سورة الشورى: ]وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا[ هذا هو العدل يا جناب القمّص، أما تنفيذ العقوبة أو عدم تنفيذها فهذا ليس عدلا، وإنما هو حكمة. إذا اقتضت الحكمة تنفيذ العقوبة، لأن في تنفيذها إصلاح المذنب، فيجب تنفيذ العقوبة. وإذا اقتضت الحكمة عدم تنفيذ العقوبة والعفو عن المذنب لأن العفو عنه يؤدي إلى إصلاح المذنب، أو إلى منع فساد يكون أكبر من فساد المذنب، فيجب عدم تنفيذ الحكم. ولذلك يقول تعالى ]وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا[، وهذا هو العدل، وأما الحكمة فهي ]فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[، أي أن العفو الذي ينتج عنه إصلاحٌ هو عين الحكمة، ويكون من الظلم المخالف للعدل ألا يعفو الإنسان في هذه الحالة. أما إذا كان العفو يؤدي إلى فساد وظلم، فيجب تنفيذ العقوبة لمنع الظلم، لأن الله لا يحب الظالمين.
هذه يا جناب القمّص حكمة الإسلام العظيم، الذي تتهمه بأنه دين إرهاب، هذه هي الحكمة التي لا تأتي إلا من عند أحكم الحاكمين. أما ما تدعونا إليه، فهو من أفكار البشر التي أقحموها على الكتاب المقدس، فحرّفوا الحكمة التي أنزلها الله تعالى فيه، والتي لا تزال آثارها تشهد بجريمة التزوير والتحريف. وأما الأفكار البشرية التي كتبها بولس، أو التي أُقحِمت على الكتاب وفُرضت على الناس باعتبارها أسفارا مقدسة، فهي أيضا تشهد بجريمة التزوير والتحريف، لأنها تخالف العقل والمنطق والواقع الحياتي لجميع الناس.(/25)
إن دساتير الدول وقوانينها لا تنص أبدا على أن العدل هو في حتمية تطبيق العقوبة وتنفيذ الأحكام، وإنما العدل هو ألا تصدر الأحكام إلا على أساس عادل، ولا تُنفّذ العقوبة إلا إذا كانت تتساوى مع الجرم الذي وقع. إنك يا جناب القمّص من مواليد مصر، كما تدل على ذلك لهجتك المصرية، فهل رأيت في مصر قانونا ينص على أن العدل هو في تنفيذ العقوبة؟ وقد سافرت إلى أستراليا وإلى قبرص وإلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث تعلمت فيها ما تعلمت، فهل رأيت في تلك البلاد قانونا ينص على أن العدل يحتم تنفيذ العقوبة في جميع الأحوال. إن الكثير من الدول تعطي رئيس الدولة حق العفو، وفي الولايات المتحدة الأمريكية حق العفو في يد رئيس كل ولاية. ألم تقرأ في كتابك المقدس يا جناب القمّص أن بيلاطس، الحاكم الذي قدّموا أمامه السيد المسيح لمحاكمته، فلم يجد عليه علة أو ذنبا، وأراد إطلاق سراحه، ولكن الغوغاء من الناس صاحوا: اصلبه اصلبه، فلما أراد أن يطلقه بمناسبة عيد الفصح، قالوا لا، اطلق لنا براباس؟ فهل كان في العفو عن مذنب وإطلاق سراحه منافاة للعدل؟ وإن كان، فلماذا لم يعترض عليه المسيح؟ ولماذا سكت يوحنا المعمدان عن عادة إطلاق سراح أحد المذنبين في العيد، وهو الذي لم يسكت عن أعمال هيرودس وفضحه في كل مكان؟ ولو كان العدل يقتضي تنفيذ الحكم كما تدّعي يا جناب القمّص، فلماذا لم يعدل السيد المسيح نفسه؟ العجيب يا جناب القمّص أنك تكرر قولك بأن المسلمين لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، مع أن هذا القول يبدو أنه ينطبق على جنابك. وأنا الحقيقة في غاية العجب والدهشة، وأريد أن أسألك: ألا تقرأ كتابك المقدس يا جناب القمّص؟ لا شك أنك قرأته مرات ومرات، فما بالك تقرأ ولا تفهم المكتوب فيه؟ إن كنت لم تقرأ، فالجاهل معذور، وإن كنت قرأت وفهمت، فما كان لك أن تخطئ هذا الخطأ الفاحش. صحيح أنت إنسان، ويمكن أن تنسى أو تخطئ، ولكنك أيضا رجل دين، وتدعو المسلمين أن يتركوا إسلامهم ويتّبعوا مسيحيتك، واستطعت بأسلوبك البارع والمخادع أن تقنع بعض المسلمين باعتناق المسيحية، ولا لوم عليك في هذا، ولكن كان ينبغي عليك أن تقول لهم كل الحقيقة، وحسب القاعدة التي وضعتها جنابك ومن هم على شاكلتك ممن وضعوا أساس المسيحية الخاطئة التي لا يعرفها السيد المسيح، كان ينبغي عليك أن تقول لهم إن السيد المسيح نفسه لم يطبق العدل، وكان يكفي أن تقرأ عليهم ما جاء في إنجيل يوجنا الإصحاح الثامن، وهو كما يلي:
"ثم حضر أيضا (أي يسوع) إلى الهيكل في الصبح وجاء إليه جميع الشعب فجلس يعلمهم. وقدّم إليه الكتبة والفرّيسيون امرأة أُمسِكت في زنا، ولما أقاموها في الوسط قالوا له يا معلم، هذه المرأة أُمسكت وهي تزني في ذات الفعل، وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه تُرجَم، فماذا تقول أنت؟ قالوا هذا ليجرّبوه لكي يكونَ لهم ما يشتكون به عليه، وأما يسوع فانحنى إلى أسفل وكان يكتب بأصبعه على الأرض. ولما استمروا يسألونه انتصب وقال لهم: من كان منكم بلا خطية فليرمها أولا بحجر. ثم انحنى أيضا إلى أسفل وكان يكتب على الأرض. وأما هم فلما سمعوا وكانت ضمائرهم تُبَكّتهم خرجوا واحدا فواحدا مبتدئين من الشيوخ إلى الآخرين. وبقيَ يسوع وحده والمرأة واقفة في الوسط. فلما انتصب يسوع ولم ينظر أحدا سوى المرأة قال لها يا امرأة أين هم أولئك المشتكون عليك، أما دانك أحد؟ فقالت لا أحد يا سيد. فقال لها يسوع ولا أنا أَدينك، اذهبي ولا تخطئي أيضا".
والآن يا جناب القمّص، سؤالنا هو: لماذا لم يدن يسوع المرأة؟ إن كنت تقول إن الخطاة تسربوا الواحد تلو الآخر، ولم يستطع أي منهم أن يرمها بحجر، فهذا مفهوم، ولكنه هو الذي بلا خطية، لماذا لم ينفذ الحكم، بل لم يدنها أصلا؟ لعلك تقول إنه جاء ليموت من أجل البشر لا ليقيم عليهم الحد، ولكن يا سيدي هذا كان قبل واقعة الصلب، حيث كان ناموس موسى لم يُنسخ بعد، وكان لا يزال واجب العمل به، وتصديقا لذلك قال المسيح: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء" (متّى17:5). أليس الإله الذي تجسّد فيه هو الذي أنزل هذا الناموس على موسى؟ أليس هذا هو حكمه الذي قرره بنفسه؟ فلماذا تخلى عن العدل، وغيّر كلامه، وبدّل كلماته، ولم ينفذ الحكم؟
وهل نسيت يا جناب القمّص ما ذكرناه في الحلقة السابقة، وما كان من أمر موسى في سفر الخروج حين قال له الرب: "رأيت هذا الشعب وهو شعب صلب الرقبة، فالآن اتركني ليحمي غضبي عليهم وافنيهم فأصيّرك شعبا عظيما. فتضرّع موسى أمام الرب إلهه وقال: لماذا يا رب يحمي غضبك على شعبك الذي أخرجته من أرض مصر بقوة عظيمة ويد شديدة؟ لماذا يتكلم المصريون قائلين أخرَجَهم بخُبث ليقتلهم في الجبال ويُفنيهم عن وجه الأرض. إرجع عن حُمُوّ غضبك، واندم على الشر بشعبك ... فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه" (الخروج32: 9-14).(/26)
ألم تقرأ أيضا يا جناب القمّص في سفر يونان كيف أن الرب أرسل يونان النبي (أي يونس u) إلى أهل نينوى ليخبرهم بحكم الله عليهم، وهو "بعد أربعين يوما تنقلب نينوى" (يونان4:3)، "فآمن أهل نينوى بالله ونادوا بصوم ولبسوا مسوحا من كبيرهم إلى صغيرهم، وبلغ الأمر ملك نينوى فقام عن كرسيه وخلع رداءه عنه وتغطى بمسح وجلس على الرماد، ونودي وقيل في نينوى عن أمر الملك وعظمائه قائلا لا تذق الناس ولا البهائم ولا البقر ولا الغنم شيئا، لا ترع ولا تشرب ماء، وليتغط بمسوح الناس والبهائم ويصرخوا إلى الله بشدة ويرجعوا كل واحد عن طريقه الرديئة وعن الظلم الذي في أيديهم، لعل الله يعود ويندم ويرجع عن حمو غضبه فلا نهلك. فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه" (يونان3: 5-10).
وماذا يا جناب القمّص عن سفر حزقيال والإصحاح 18؟ ألم تقرأ فيه ما يلي: "النفس التي تخطئ هي تموت ... فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحفظ كل فرائضي وفعل حقا وعدلا فحياة يحيا، لا يموت. كل معاصيه التي فعلها لا تُذكر عليه، في برّه الذي عمل يحيا. هل مسرّةً أُسَرّ بموت الشرير، يقول السيد الرب، ألا برجوعه عن طرقه فيحيا. وإذا رجع البار عن بره وعمل إثما وفعل مثل كل الرجاسات التي يفعلها الشرير، أفيحيا؟ كل برّه الذي عمله لا يُذكر، في خيانته التي خانها وفي خطيّته التي أخطأ بها يموت. وأنتم تقولون ليست طريق الرب مستوية، فاسمعوا الآن يا بيت إسرائيل، أطريقي هي غير مستوية؟ أليست طرقكم غير مستوية؟ إذا رجع البار عن برّه وعمل إثما ومات فيه فبإثمه الذي عمله يموت. وإذا رجع الشرير عن شره الذي فعل وعمل حقّا وعدلا فهو يُحيي نفسه، رأى فرجع عن كل معاصيه التي عملها فحياة يحيا، لا يموت" (حزقيال18: 20-27)
فأين ذلك المفهوم الغريب عن العدل الذي تحدثنا عنه يا جناب القمّص؟ إن الكتاب المقدس، سواء كان في العهد القديم أو في الأناجيل، يبين أن العدل لا يعني حتمية تنفيذ العقوبة، وأن الله لا يُسرّ بموت الشرير، بل برجوعه عن طرقه وتوبته فيحيا. وأنت يا جناب القمّص تقول لنا ساخرا بالحرف الواحد:
"دلوقتي لما الله أصدر حكم الموت، بييجي الإنسان يتوب، بننتظر من الله يغفر، طب وحكم الموت يروح فين؟ العدل ده؟ حيروح فين؟ يرجع في كلامه؟ إنت تُبت.. خلاص أنا مسامحك.. خلاص يا ابني مسامحك؟ لا راد لكلام الله ولا مبدل لكلماته، أصدر حكم يبقى هوه الحكم، مش كده؟"
لأ طبعا مش كده وألف مش كده. ويا ترى هل تنتظر من الناس أنهم يصدقونك ويصدقون هذه الصورة القبيحة القميئة لإله قاسٍ ظالم مستبد يعتبر أن العدل هو في تنفيذ العقوبة مهما كانت، أم يصدقون هذه المقتطفات والاقتباسات التي قدمتها لك وللناس كي يعرفوا حقيقة المسيحية التي تدعو إليها؟ إنك أنت ومن هم على شاكلتك تريدون أن تبالغوا في حكم العقوبة، وفي شدتها، وفي قسوتها، وفي هولها، وفي مصيبتها، وفي شمولها لكل البشرية، كي تأتوا بعد هذا وتقولوا مش مهم كل هذا، فإن إله المحبة قد تجسد في المسيح وجاء ليحمل عنكم العقوبة، ويموت فداء لكم. إنها كذبة كبرى تلك التي اخترعتموها من أجل أن تبرروا تجسد الله في المسيح، ولأنها فكرة بشرية فلا بد أن ينكشف زيفها، وتظهر تناقضاتها، ويتبين خطؤها، لأن من اخترع هذه الكذبة لم يدرك أنه يسيء إساءة بالغة إلى الله تعالى، ويصمه بأقذع الصفات.
إن العدل الذي تحدثنا عنه يا جناب القمّص، ليس في تنفيذ الحكم تحت جميع الظروف، وإنما في عدم صدور الحكم أصلا إلا بما يتفق مع قواعد العدل. ومع ذلك، وحتى إذا كان الحكم قد صدر حسب قواعد العدل، فلا ينبغي أن يُنفذ في كل حالة. وعليك أن تتعلم يا جناب القمّص من يونان النبي، الذي اغتاظ لأن الله لم ينفذ حكمه الذي أصدره على أهل نينوى بل رجع عنه، فقال له الرب: "هل اغتظت بالصواب"؟ أي هل لك حق أن تغتاظ؟ ثم علمه درسا مفيدا، حبذا لو تقرأه يا جناب القمّص لتتعلم أنت أيضا كيف أن الرحمة لا تتعارض مع العدل، بل هي فوق العدل. يقول الكتاب المقدس أن الله أنبت يقطينة على يونان النبي لتظلله من الشمس ففرح بها فرحا عظيما، ولكن الله أعد دودة صغيرة عند طلوع فجر الغد فضربت اليقطينة فيبست، وطلعت الشمس على يونان وأرسل الله ريحا حارة فضربت الشمس رأس يونان، فطلب لنفسه الموت وقال موتي خير من حياتي، لأنه حزن على اليقطينة التي ماتت. فقال الله ليونان: أنت شفقت على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولم تربها، التي بنْت ليلة كانت وبنْت ليلة هلكت. أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من مائة وعشرين ألف نسمة من البشر الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم وبهائم كثيرة؟ (راجع القصة في الإصحاح الرابع).(/27)
أرأيت يا جناب القمّص؟ أرأيت كيف يغير الله حكمه من أجل مائة وعشرين ألف من البشر، كانوا خاطئين وكانت طرقهم رديئة وكان الظلم في أيديهم، ولكنهم تابوا وندموا وطلبوا الغفران من إله المحبة الذي لم يتجسد ولم يدخل في جسم إنسان، فرحمهم ولم ينفذ حكمه فيهم، ولم يقل لهم كما قلت أنت "طب وحكم الموت يروح فين؟ العدل ده حيروح فين؟ انتم عايزني أرجع في كلامي ويطلع القمّص زكريا بطرس غلطان؟ مش ممكن! أنتم تتوبوا وأنا خلاص أسامحكم؟ أقولكم روحوا يا ابني انت وهوه خلاص سامحتكم؟ طب ولو عملت كده مين يصدق القمّص زكريا بطرس؟؟
وعفوا يا جناب القمّص إذا كنت قد استشهدت بكلامك مع شيء من التصرف!!
والآن نعود مرة أخرى إلى آدم وحواء، اللذين تقول عنهما أنهما أخطآ، ولنفترض أنهما أخطآ، فهل هذا الإله الرحيم الشفوق يصدر هذا الحكم القاسي الذي فسرته أنت يا جناب القمّص بأن الموت يعني الانفصال عن الله، والخزي والعار، والعذاب لهما ولجميع البشرية في أتون جهنم النار الأبدية إلى أبد الآبدين؟ حتى الأطفال الذين يموتون في سن الطفولة دون أن يعرفوا شيئا عن فلسفات جناب القمّص زكريا بطرس؟ يا للهول ويا للقسوة!
لو أنك يا جناب القمّص اكتفيت بتفسير الموت على أنه الانفصال عن الله، لقلنا نعم، جايز. ولو أردت أن تضيف أيضا الخزي والعار، لقلنا لا مانع ولا ضير، فلا شك أن موت الخطية يعني البعد عن الله، ومن يبتعد عن الله لا بد أن ينال الخزي والعار. ولكنك أضفت العذاب في النار الأبدية وجمعت كل البشرية في هذا العذاب، وترى أن هذا يتساوى مع حجم خطيئة فرد أو فردين، وهذا يا جناب القمّص هو عين الظلم بل وقسوته، ولا يمكن أن نقبل بأن يُنسَب هذا الظلم إلى الله الغفور الرحيم، حتى ولو كان على استعداد أن يتجسد مئات المرات، ويُصلب ألوف المرات، فإن هذا لا ينفي الظلم الذي ارتكبه بإصدار مثل هذا الحكم الجائر الظالم المستبد.
حبذا يا جناب القمّص لو أنك أعدت التفكير في الموضوع كله برمته، وحبذا أيضا لو أعادت السيدة ناهد متولي وكل أولئك الذين خدعتهم بكلامك وأسلوبك الذي يبدو للوهلة الأولى أنه صحيح، ولكن بعد التفكير والتمحيص، يتبين أنه يسيء أكبر إساءة إلى الله تعالى، ويصفه بأقذع الأوصاف. ولن يغير من الأمر شيء أن تتشدق بعد ذلك بأن إله المسيحية إله محبة، فقد كان الأولى به أن يكون عادلا أولا، فلا يصدر حكما جائرا، قبل أن يكون إلها للمحبة.
عسى أن يهديكم الله تعالى إلى الحق، ويفتح أعينكم لتروا الحق الذي أفسدته فلسفات الإغريق وملاحدة اليونان ووثنيات الرومان، فتعبدون الله الواحد الذي لا يتجسد، إله المحبة والرحمة والعدل. آمين.
( 7 )
جناب القمّص يتّبع في حديثه أسلوبا يبدو أنه منطقي، ولكنه مغلوط ومخادع، فهو يعتمد في حديثه على ما يلي؛ أولا: سوء تفسير بعض المقتبسات من الكتاب المقدس ومن القرآن الكريم، ليخرج بمعنى لا يحتمله النص، كما فعل ذلك حين فسر كلام الكتاب المقدس عن ملك بابل وملك صور بأنه يتعلق برئيس الملائكة الذي تحوّل إلى شيطان. ثانيا: يقدم جناب القمّص أفكارا تبدو أنها صحيحة، ولكنها تقوم على أساس خاطئ، ثم يخرج منها بقاعدة يبني عليها عقيدة خطيرة. ثالثا: يخلط كثيرا بين الحقائق والتشبيهات. رابعا: يتعمّد أحيانا تحريف النص ليتّفق مع وجهة نظره. خامسا: يتهم المسلمين بالجهل، وأنهم لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يريدون أن يقبلوا الحقيقة. سادسا: يستخدم آراء بعض المفسرين ويعتبرها ملزمة لجميع المسلمين كما هو الحال عندهم في المسيحية، حيث يلتزم شعب الكنيسة بتفسير المفسرين، وإلا يُعتبر المرء كافرا ومرتدا ويُفصل من الكنيسة، وبهذا لا يستطيع أحد أن يستعمل عقله، بل عليه أن يقبل ما قرره المفسرون وحسب. وقد بينت في حلقات سابقة أن الوضع في الإسلام يختلف عن الوضع في المسيحية، فتفسيرات المفسرين غير ملزمة لجميع المسلمين، والمفسرون علماء أجلاء اجتهدوا بغرض تبسيط المفاهيم الدينية أو لشرح معاني ما فهموه من القرآن المجيد، ولكنهم معرّضون للصواب والخطأ، وقد اختلفوا مع بعضهم البعض، ونقل بعضهم عن المفاهيم المسيحية السائدة والأفكار الإسرائيلية، وهذه كلها تُسمّى الإسرائيليات. وعلى هذا، ومع كل الاحترام والتقدير لأولئك المفسرين، فإن أقوالهم ليست من أسس الإسلام، وهي غير ملزمة لجميع المسلمين، وبالتالي فرأيهم ليس حجة لجناب القمّص كي يحتج به، وهو بالطبع يفعل هذا ليُكسب أقواله شرعية ومصداقية لدى بعض الناس الذين يجهلون هذه الأمور، وذلك من أجل أن يخدعهم ويزيّن لهم أقواله، ولكن نحن له بالمرصاد، وسوف ينكشف الكذب ويفتضح الدجل ويظهر الحق بإذن الله.(/28)
كنا قد تحدثنا في الحلقة الماضية عن أن العدل لا يعني حتمية تنفيذ العقوبة التي صدر بها الحكم، ولكن العدل هو أن لا يصدر الحكم أصلا إلا بعقوبة تتساوى مع الجرم الذي وقع، أما تنفيذ الحكم وإيقاع العقوبة فهو ليس عدلا، وإنما هو حكمة. فإن كان من الحكمة تنفيذ العقوبة، لأن ذلك سوف يُصلح من شأن الجاني أو المجتمع، فيجب أن تنفذ العقوبة، وإن كان من الحكمة عدم تنفيذ العقوبة، لأن الجاني قد أدرك خطأه، أو لأن تنفيذ العقوبة سوف يؤدي إلى فساد أكبر من فساد الجاني، فيجب ألا تنفذ العقوبة. وكان جناب القمّص قد زعم أن حكم الله لا بد أن ينفذ، لأنه لا راد لكلام الله ولا مبدل لكلماته. والغريب أنه يستشهد بآيات قرآنية لا علاقة لها بموضوع تنفيذ العقوبة التي صدر بها أي حكم. وهذا يبين حقيقة ما ذكرته عن أسلوبه وهو أنه يسيء تفسير بعض المقتبسات من الكتاب المقدس ومن القرآن الكريم ليخرج بمعنى لا يحتمله النص. ومع أنه لم يفسر النص القرآني في هذه الحالة، إلا أن استشهاده بالنص كان غرضه أن يوحي بمعنى معين للسامع أو المشاهد، وهذا المعنى لا يحتمله النص، تماما كما أقول مثلا (وهو مجرد مثال) في حق جناب القمّص أن تصرفه هذا يذكرني بالآية التي تقول: ]أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزَّهُمْ أَزًّا & فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا[ (مريم:84)، فأنا لا أقدم للآية أي تفسير، وإنما أترك السامع والمشاهد ليستنتج ما يشاء. لماذا لا تستشهد بكتابك المقدس يا جناب القمّص عندما تريد أن تبرهن على صحة عقيدة تؤمن بها، بدلا من هذا الأسلوب الملتوي الذي تريد أن تؤثر به على مشاهديك من المسلمين؟
وقد بينت لجناب القمّص في الحلقة الماضية أن الله أصدر عدة أحكام بالموت والهلاك، ولكنه لم ينفذها، فقد أراد أن يهلك قوم موسى الذين عبدوا العجل، ولكن موسى تشفع لهم فعفا الله عنهم. وحكم بهلاك قوم يونس وتدمير مدينتهم نينوى ولكنهم تابوا فعفا عنهم. والمسيح نفسه لم ينفذ الحكم على امرأة قُبِض عليها وهي تزني، مع أن الشريعة التي أنزلها الإله الذي كان متلبسا فيه، كما يؤمن بذلك جناب القمّص، كانت تنص على حتمية توقيع العقوبة. والأمثلة على ذلك كثيرة في الكتاب المقدس مما يجعلنا نتساءل: ألم يقرأ جناب القمّص جميع هذه الأمور في كتابه المقدس؟ بالطبع لا بد أن يكون قرأها، وفي هذه الحالة يكون هناك 3 احتمالات: إما أنه لم يفهمها، فيجب عليه ألا يتهم المسلمين بأنهم إذا قرأوا لا يفهمون؛ وإما أنه فهمها وحرّف معانيها ليُصدق الأكذوبة التي يعيش فيها، وهي حتمية تنفيذ العقوبة في كل حالة، أو أنه فهمها وأراد إخفاءها عن سامعيه ومشاهديه حتى لا يظهر الخلل فيما يقول به. لا يا جناب القمّص. لا تظن أن المسلمين لقمة سائغة تستطيع أن تلوكها، أو أنك تستطيع أن تخدعهم بهذا الأسلوب، واعلم يقينا أن فيهم من يعرف كتابك المقدس خيرا مما تعرفه أنت، وهم لن يتركوك لتخفي الحقائق وتنشر الأكاذيب، وإنما سوف يلاحقونك ويكشفون كل زيف فيما تقول، ويظهرون الحق، فالحق من أسماء الله الحسنى، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
بعد ذلك حكى لنا جناب القمّص مثالا لكي يشرح موضوع أن العدل يتناقض مع الرحمة، ولا يمكن تحقيق الاثنين معا إلا إذا تطوّع أحد ليتحمل العقوبة حتى يأخذ العدل قصاصه، فيمكن بعد ذلك تطبيق الرحمة. واسمح لي يا جناب القمّص أن أسألك بإخلاص: ألا تشعر بأن ذلك الإله الذي تتضارب صفاته لا يستحق العبادة؟ ألا تنفر نفسك من إله يعجز عن أن يمارس صفة من صفاته لأن صفة أخرى تمنعه وتريد هي أن تتحقق أولا؟ ألا يذكرك مثل هذا الإله بمدمن المخدرات الذي يريد أن يمتنع عن تناول المخدرات، ولكن العادة تمنعه من ذلك وتريد أن تُشبَع أولا؟ ألا تفكر في كثير من السكيرين والمقامرين الذين يريدون أن يتوقفوا عن سكرهم وقمارهم، ولكنهم لا يستطيعون ذلك لأن هناك دافعا آخر يمنعهم ويريد أن يُشبَع ويتحقق أولا؟ ألا تستهجن نفسك أن تكون أنت أحد هؤلاء؟ ألا تشمئز نفسك من أن يصيبها هذا الخلل فتفقد كرامتك واحترامك لنفسك وتتحوّل إلى إنسان عاجز عن أن يتحكم في نوازعه ودوافعه؟ فكيف بالله عليك يا جناب القمّص تنسب مثل هذه الصفات الدنيئة إلى الإله الذي تعبده، ثم تزعم بعد هذا أن هذا الإله هو إله المحبة؟ إن هذا الإله المريض يجب ألا يكون له وجود إلا في مخيلة المرضى من الناس، وحاشا لرب العالمين أن يتصف بصفات المدمنين والسكيرين والمقامرين.
أما المثال الذي قدمه جناب القمّص فهو كما رواه للسيدة ناهد متولي كما يلي:(/29)
"أنا استلفت ألف جنيه من حضرتك، وصرفت الفلوس دي على ابن عندي عيان، وورايا ديون وحاجات. مدّيكي ميعاد وجه ميعاد السداد ومفيش عندي فلوس أسَدّد، فات سنة مفيش، فات سنتين مفيش. يا عم هات الفلوس، مفيش.. حجيب منين؟ ده أنا مديون لغيرك وغيرك كمان، ديون ماشية. وأنت إنسانة حقانية وعادلة وعايزة حقك برضه لمصلحتك وأولادك. فبتشتكيني في المحكمة فبروح قدام القاضي. إنت أخدت ألف جنيه من المدام دي؟ أيوه حصل. يعني معترف، والاعتراف ده سيد الأدلة. أنا ما بنكرش، حبقى قسيس وانكر؟ مقدرش. طيب ادفع لها الفلوس. ياريت يا حضرة القاضي، أنا بتمنى، ده أنا غلبان ومديون لفلان وفلان وابني عيان ومش عارف عندي إيه ومشاكل كتير طيب، أجيب منين؟. القاضي شاف فيّ الصدق وشاف فيّ الاعتراف. بس المحكمة بالعدل، لكن الراجل ده كان عنده رحمة، بقى في مشكل، وشايف مشكلتي وشايف احتياجي. حيسجني بالفلوس؟ لا انتِ استفدتِ حاجة، وأنا كما حزوّد المشكلة لأن عيلتي محتاجة للي يصرف عليها. فالراجل ده من رحمته يوْجد الحل، لأنه لو حكم عليّ بالسجن أنتِ مش حتستفيدي، ولو قال لي طب مع السلامة روح شوف عيالك يبقى ظلمِك، فالراجل يعمل إيه؟ يقول لي أنت مديون بكام؟ أقول له مديون بألف. إنتي لكِ الألف دول يا ست؟ تقولي له أيوه، يروح مطلع من جيبه دفتر الشيكات، وكاتب لك شيك بألف جنيه. فتقول السيدة ناهد: يبقى كده أنا خدت حقي. فيقول القمّص: خدتِ حقك وأنا اترحمت. ده مش كده وبس. يقول لي أنا عارف إنك غلبان ومسكين ومحتاج فلوس، خد كمان شيك بألف جنيه ده عشان تغطي نفسك. ده حق ده رحيم. هكذا الأمر مع الله، صدر حكم بالموت، الله لا يعود في كلامه أبدا، ده ملك الملوك ورب الأرباب، لا راد لكلامه، بس لازم يوْجد حل عشان يدّي الرحمة".
هذا هو المثال الذي قدمه جناب القمّص، وهو المثال الذي يقدمونه دائما لشرح فكرة العدل والرحمة. والقصة من فوق السطح تبدو معقولة ولكنها ملآنة بالمغالطات وتفيض بالمفارقات. والإنسان السوي يا جناب القمّص، حينما يضرب مثلا أو يعطي تشبيها، فيجب أن ينطبق كلامه على الحالة التي يريد أن يشرحها، ولكن مثالك بعيد كل البعد عن فكرة عدل الله تعالى ورحمته.
أولا: أنت قلت في مثالك إنك استلفت من السيدة ناهد متولي ألف جنيه، يعني ذنبك يتعلق بالسيدة ناهد، فلما لم تستطع أن تدفع لها حقها اشتكتك في المحكمة عند القاضي. ولكن الحالة التي لدينا تختلف عن ذلك، إذ أن الخطأ الذي وقع فيه آدم لم يكن في حق حواء، وإنما كان في حق الله، أي في حق القاضي نفسه.
ثانيا: يبدو أن السيدة ناهد متولي غلبانة مثلك، وهي في حاجة إلى استعادة الألف جنيه من أجل أولادها، ولكن الله ليس "غلبانا" مثلكما، وليس في حاجة إلى أن يستعيد شيئا من آدم.
ثالثا: القاضي الذي في المحكمة يحكم بين طرفين أمامه، هما أنت والسيدة ناهد، فلا يستطيع أن يحكم لطرف على حساب الطرف الآخر. وأما الله فهو ليس قاضيا عادلا وحسب، وإنما هو العدل المطلق، وهو لا يحكم بين طرفين أمامه، وإنما هو خصم وحكم في نفس الوقت، وبهذه الصفة يستطيع أن يتنازل عن حقه كما فعل القاضي في مثالك يا جناب القمّص.
رابعا: قل لي يا جناب القمّص، لو أنك استلفت مبلغ الألف جنيه من ذلك القاضي الرحيم، ولم تستطع السداد، وهو يعرف حالتك ويعرف مدى عجزك عن السداد، فهل كان يحكم عليك بالسجن لعدم السداد، أم يتنازل عن حقه ويعطيك أيضا ألف جنيه أخرى لتقضي بها أمورك؟ وهل تستطيع في هذه الحالة أن تقول عنه إنه غير عادل لأنه لم يضعك في السجن، أم تقول إنه عادل ومحسن ورحيم؟
خامسا: لو كانت السيدة ناهد مليارديرة، وأنت استلفت منها ألف جنيه ولم تستطع السداد، هل كانت تطالبك بالسداد وتأخذك إلى المحكمة، أم أنها كانت تتنازل عن حقها من باب الإحسان يا جناب القمّص؟
سادسا: إن مثالك هذا يسيء جدا إلى الله تعالى، إذ يصوّره على أنه كائن أناني، يريد أن يحصل على حقه بأي وسيلة، حتى ولو اضطر أن يضحي بابنه الوحيد.
سابعا: استدلالك بأن الله لا يعود في كلامه أبدا، وأنه لا بد أن ينفذ عقابه لأنه ملك الملوك ورب الأرباب، لا يقوم على أساس ويتعارض مع الحكمة. فإن الملك لا يعود في كلامه إذا أمر بالإنعام على شخص وتبين فيما بعد أنه لا يستحق، ولكن إذا أمر الملك بعقوبة فمن حقه أن يصدر أمرا بالعفو أيضا.
ثامنا: كيف تُعلّمون أتباعكم فضيلة العفو يا جناب القمّص، إذا كان من تتخيلون أنه إله محبة، لا يتنازل عن حقه أبدا إزاء إساءة من إنسان غلبان، حتى ولو اقتضاه هذا أن يسخط نفسه في شكل إنسان، أو يقتحم جسد إنسان بريء ويدفع به إلى القتل على الصليب لكي يقتص لحقه؟(/30)
تاسعا: مما يدل على خطأ المثال الذي قدمته عن الله تعالى أن بطرس الرسول سأل السيد المسيح كم مرة يغفر لأخيه إذا أخطأ في حقه، هل يغفر له سبع مرات؟ فقال له: "لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات". فإذا كان المسيح يحض الإنسان على أن يغفر لأخيه 490 مرة، فهل يكون العدل عندكم أن يعذب الله البشرية كلها في أتون جهنم النار الأبدية لأول خطأ صدر من آدم؟
عاشرا: ألم تقرأ المثال الذي قدّمه المسيح عن ملكوت الله، إذ قال: "لذلك يشبه ملكوت السماوات إنسانا مَلِكا أراد أن يحاسب عبيده، فلما ابتدأ في المحاسبة قُدّم إليه واحد مديون بعشرة آلاف وزنة، وإذ لم يكن له ما يوفّي، أمَر سيده أن يُباع هو وامرأته وأولاده وكل ما له ويُوَفي الدّيْن، فخر العبد وسجد له قائلا يا سيد تمهّل عليّ فأوفيك الجميع. فتحنّن سيد ذلك العبد وأطلقه وترك له الدّيْن" (متّى23:18). فهل كان هذا الملك غير عادل عندما تنازل عن الدّين؟ وما هو وجه الشبه بين هذا المثال وملكوت السماوات لو أن العدل يعني أن ينفذ الملك العقوبة في كل حال؟ أرجو يا جناب القمّص ألا تخدع من سوف يسألونك هذا السؤال فتقول لهم إنني اقتبست جزءا من المثال وتركت الجزء الباقي، لأن الملك في النهاية أمر بتنفيذ العقوبة على ذلك العبد. وأنا بالطبع لم أترك الجزء الباقي من المثال، وإنما أردت فقط أن أبين لك ولأتباعك أن مبدأ العفو عن المذنب جائز ولا يناقض العدل أبدا، لأن الرحمة دائما فوق العدل. أما بقية المثال فهي كالتالي: "ولما خرج ذلك العبد وجد واحدا من العبيد رفقائه كان مديونا له بمئة دينار، فأمسكه وأخذ بعنقه قائلا: أوفني ما لي عليك. فخر العبد رفيقه على قدميه وطلب إليه قائلا تمهّل عليّ فأوفيك الجميع، فلم يرد بل مضى وألقاه في سجن حتى يوفيَ الدّيْن. فلما رأوا العبيد رفقاؤه ما كان حزنوا جدا وأتوْا وقصّوا على سيدهم كل ما جرى. فدعاه حينئذ سيده وقال له أيها العبد الشرير، كل ذلك الدّيْن تركته لك لأنك طلبت إليّ، أفما كان ينبغي أنك أنت أيضا ترحم العبد رفيقك كما رحمتك أنا؟ وغضب سيده وسلمه إلى المعذبين حتى يوفيَ كل ما كان له عليه. فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته".
هذه هي بقية المثل يا جناب القمّص، وكما ترى فإني لا أخفي شيئا، ولا أستشهد بجزء من آية مثل ]إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ[ وأترك الباقي كي أخدع السامعين والمشاهدين ليفهموا معنى خاطئا للآية. وكما ترى، لقد وضع الملك ذلك العبد في السجن لأن العبد لم يرحم كما رُحم، وليس لأن الملك أراد أن يطبق العدل حسب مفهومك أنت، ويقتص منه كل حقه. وعلى أي حال فإن ذلك العبد معذور، لأنه لم يسمع مواعظك، ولم ير صورتك البهية وأنت تشرح للسيدة ناهد مفهوم المسيحية للعدل، وإلا لوقف ذلك العبد وقال للملك: "يا جلالة الملك، لقد سمعتُ من جناب القمّص زكريا بطرس أن العدل يعني تنفيذ العقوبة، وأنت يا جلالة الملك لم تكن عادلا حين عفَوْت عني وتركت لي الديْن، ولكني أردت أن أكون مسيحيا صالحا، وأردت أن أكون عادلا كما أن إله المسيحية عادل، فطالبت ذلك العبد بما لي عنده، فلما لم يستطع السداد ألقيت به في السجن، فهكذا يُنفّذ العدل في المسيحية، فلماذا تغضب مني يا جلالة الملك"؟
فما رأيك في هذا يا جناب القمّص؟ هل لديك إجابة؟
نعم.. لعلك تتمحّك الآن في قصة إبراهيم u وابنه، وتقول كما قلت في حديثك:
"بغض النظر عن الاختلافات وما إذا كان الابن هو إسحاق أو اسماعيل، فإن الله طلب منه أنه يقدّم ابنه، "... رأى في المنام أنه إيه.. بيدبحه، فخده وراح. ولما وَتَلَهُ للجبين، يعني نزّله ورفع السكين، سمع صوت، انظر، ما تعملش حاجة لابنك، التفت، لقى إيه؟ الفدا.. الفداء. كان لازم الفداء ده؟ ليه.. طب ما ربنا قال له ادبحه، وربنا يقول له خلاص ما تدبحوش، وخلصت العملية". وهنا تضحك جنابك مع السيدة ناهد وتقول: "ما هو لو كان ربنا يقول كلام ويرجع فيه ويقول كلام ويرجع فيه، الحكاية تبقى.. ما فيش قوانين في الدنيا، مش كده؟ لكن ربنا عشان خاطر يفدي أو ينقذ هذا الشخص ويخلصه من حكم الذبح قال: فديناه بذبح عظيم. يبقى كده نفّذ الاتنين الحكم والفداء، الحكم في الفادي والرحمة للمخطئ. لكن ما فيش إطلاقا إن ربنا.. بمجرد إن هوه يتوب يقول له طب روح.. خلاص".(/31)
ولتعلم يا جناب القمّص أنه لم يكن هناك خاطئ يستحق الرحمة في قصة إبراهيم وابنه، فاستدلالك بها ليس في محله. ثم هل ما تقوله يا جناب القمّص حق أم كذب؟ هل "ما فيش إطلاقا إن ربنا.. بمجرد إن هوه (أي الإنسان) يتوب يقول له طب روح خلاص"؟. فعلا يا جناب القمّص. أنت على حق، وما تقوله هو الحق. ولكنه يختص بالمسيحية التي تؤمن بها أنت، والتي لم تأت من عند الله ولكنها من أفكار البشر، ولذلك لم يذكر العهد القديم ولا الأناجيل هذه العقائد التي تروّجها يا جناب القمّص. فلا يوجد إطلاقا في مسيحيتك أن الإنسان يتوب فيغفر له الله الغفور الرحيم، ولذلك فإنك تحاول أن تشوّه النص الذي جاء في العهد القديم والذي يقول "الرب إله رحيم ورؤوف ... غافر الإثم والمعصية والخطية" (خروج34: 6-7)، فتقول: "هوه بيغفر، يقدر يغفر، بس لازم يِوْجد الفدا.. الحل". هذه هي الزيادة التي أدخلتها يا جناب القمّص على النص، وذلك من أجل أن تبرر الفداء، الذي تزعم أنه اقتضى التجسد، الذي تزعم أن الإله الابن قام به، وذلك من أجل أن تبرر مذهب التثليث في المسيحية التي تؤمن بها.
كلمة أخيرة أود أن أقولها عن موضوع الآية ]وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ[، إذ يقول تعالى:
]فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى في الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَآ أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُني إِنْ شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ & فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ & ونَادَيْنَاهُ أَن يَآ إِبْرَاهِيمُ & قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ & إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلآءُ الْمُبِينُ & وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ[ (الصافّات: 102-107).
إن العظيم في الأمر هو أن الله تعالى أراد أن يبين لإبراهيم وإسماعيل، وبالتالي لجميع من يأتي بعدهما، مدى إخلاص كل منهما وطاعته لله تعالى. وكان إبراهيم قد أثبت من قبل طاعته وولاءه لله تعالى، وذلك حين أمره الله أن يأخذ ابنه الوحيد اسماعيل ويتركه في واد غير ذي زرع في وسط الصحراء الجرداء، فكان هذا حكما بتعريضه للموت والهلاك، كالقتل أو الذبح، ولكن إبراهيم أطاع الأمر وأثبت ولاءه لله تعالى. وكان على إسماعيل أن يثبت أيضا نفس هذه الطاعة والولاء. فكانت الرؤيا لإبراهيم أنه يذبح إسماعيل، وهنا أثبت إسماعيل أيضا طاعته وولاءه لله تعالى بأن قال ] يَآ أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُني إِنْ شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ[. ولما أراد كل منهما أن ينفذ الرؤيا حرفيا، قال الله تعالى لإبراهيم ] قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ[، ولم يقل قد صدّقتما الرؤيا، مع أن كليهما كانا مشتركين في التنفيذ الحرفي، إذ لم يكن الغرض هو تنفيذ الرؤيا حرفيا، وإنما كان الغرض إثبات طاعة وولاء إسماعيل، أما إبراهيم، فكان قد صدّق الرؤيا من قبل، أي أنه كان قد حققها حين أطاع أمر الله بترك إسماعيل في ذلك الوادي دون ماء أو طعام، وقد أبقى الله تعالى على حياة إسماعيل، لأن من نسله سوف يأتي نبي عظيم، الذي شُبّه بالذبح العظيم، وذلك لأن الذبح قربان يتقرّب به الإنسان إلى الله تعالى، فهو وسيلة من وسائل التقرّب إلى الله، وكذلك فإن النبي العظيم الذي سوف يأتي من ذرية إسماعيل سوف يكون هو وحده الوسيلة لمعرفة الله الواحد والتقرب إليه، وهو الذي سوف يدعو البشرية كلها إلى عبادة الله الواحد الأحد، ولذلك فهو الذي يستحق أن يوصف بإنه ذبح عظيم، أي أنه قربان عظيم، أي أنه هو الوسيلة العظيمة لمعرفة الله والتقرب إليه. أما الكبش أو الخروف فلا يستحق أن يوصف بأنه ذبح عظيم، لإنه مجرد وسيلة فقط من وسائل التقرب إلى الله تعالى. وبالتالي فإن موضوع هذه القصة لا يتعلق بشيء عن موضوع الفداء الذي يتكلم عنه جناب القمص.
بقي أن أهمس في أذنك برجاء يا جناب القمّص، وهو أن تطلب ممن يعدّون لك البرامج، ويكتبون لك المواد التي تقرأها، أن يضعوا الحركات من فتح وكسر وضم وتشديد فوق الحروف حتى تستطيع أن تقرأها قراءة صحيحة، فالآية التي ذكرتها في حديثك هي ] فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ[، وليست "ولما وتَلَهُ للجبين"، فإن الخطأ في قراءة آيات القرآن الكريم، سواء كان متعمّدا أو غير متعمّد، فهو يؤذي مشاعر المسلمين، ولك جزيل الشكر.
( 8 )(/32)
تعرضنا في الحلقتين الماضيتين لموضوع العدل والرحمة، وأوضحنا أن الرحمة لا تناقض العدل، وأن العدول عن تنفيذ العقوبة لا يتعارض مع العدل، وأن الكتاب المقدس نفسه يذكر أن الله عدل عن تنفيذ العقوبة في عدة مواضع بالنسبة لبني إسرائيل الذين عبدوا العجل، ومدينة نينوى التي تاب أهلها فعفا عنهم. وفي الأناجيل نقرأ أيضا أن المسيح نفسه لم ينفذ العقوبة على امرأة ضُبطت وهي تزني، وكان يُعلّم الناس العفو عن المسيء، وضرب مثلا يتبين منه أن العفو وعدم تنفيذ العقوية لا يتناقض مع العدل. وهكذا يتبين أن الفكرة التي قدمها لنا جناب القمّص زكريا بطرس والتي تقوم عليها عقيدة الفداء، وهي أن العدل يتناقض مع الرحمة، هي فكرة نابعة من عقول البشر الذين جاءوا بعد المسيح، وشوهوا المسيحية الجميلة التي جاء بها السيد المسيح، ليخلقوا مسيحية ممسوخة لا تقوم على منطق ولا أساس سماوي. وفي هذه الحلقة سوف نكشف زيف عقيدة أخرى اخترعها البشر وهي، مبدأ الفداء والأسس التي يقوم عليها.
يقول لنا جناب القمّص زكريا بطرس إن مبدأ الفداء الذي من أجله تجسد المسيح ومات على الصليب هو المحور الذي يدور حوله الكتاب المقدس، وعندما تسأله السيدة ناهد متولي أن يقدم الأدلة من الكتاب المقدس ومن القرآن الكريم، يقول إن الكتاب المقدس مملوء بالأدلة التي تتكلم عن الفداء. وللأسف إن جناب القمّص يكذب ولا يقول الحقيقة، وأنا أتحداه أن يقوم بعملية حسابية بسيطة، يجمع فيها عدد المرات التي تكلم فيها العهد القديم والأناجيل عن وحدانية الله وكل ما له علاقة بعبادة الله وحده، ثم يجمع عدد المرات التي تكلم فيها العهد القديم والأناجيل عن عقيدة الفداء المزعوم التي يتجسد فيها الله في شكل إنسان لكي يموت نيابة عن البشر، ثم عليه أن يخبرنا ويخبر العالم كله بالنتيجة. وأنا أقول له مقدما إنه لن يجد في العهد القديم أي تعليم صريح يتكلم عن عقيدة الفداء هذه، وكل ما هناك مجرد ذكر لأمور يفسرها جناب القمّص على مزاجه، ويتخذ منها رموزا يدعي أنها ترمز لعقيدة الفداء، تماما كما ذكرنا فيما سبق عن قصة أم الخير. ولحضرات المشاهدين الذين لم يتابعوا حلقاتنا من قبل نقول إن أحد القصاصين كان يكتب قصة، فكتب فيها إن رجلا من الفلاحين ذهب مع ابنته إلى السوق ليشتري بعض الأغراض وأثناء عودتهما قال الأب لابنته، وكان اسمها "أم الخير": احملي كيس البصل يا أم الخير وضعيه في الحظيرة، فلما وصلا إلى الحظيرة، وضعت أم الخير كيس البصل في الحظيرة. ونكتفي يهذا الجزء من القصة التي نفترض أنه لسبب أو لآخر، تسربت هذه القصة إلى بعض الكتب التي يعتبرها بعض الناس أنها مقدسة. ثم يأتي جناب القمّص فيفسرها ويدّعي أنها كانت ترمز لولادة السيد المسيح، وذلك لأن فيها بعض الألفاظ التي تتشابه مع قصة ولادة المسيح، فيقول إن الأب هو الله الآب، وابنته أم الخير هي مريم، لأن الخير يرمز للسيد المسيح، ولما قال لها الأب أن تحمل كيس البصل كان يقصد أن تحمل السيدة مريم بالسيد المسيح بقوة الروح القدس، لأن البصل طعام يعطي الحياة لمن يأكله، وأن وضع أم الخير كيس البصل في الحظيرة كان نبوءة تدل على أن مريم سوف تضع المسيح في حظيرة.
وهكذا يا حضرات المشاهدين يقوم جناب القمّص بالربط بين بعض الكلمات المتشابهة ليخرج علينا بعقائد جديدة ما أنزل الله بها من سلطان، وينسبها للكتاب المقدس، وتقوم كلها على تحميل النص ما لا يحتمل. وحين تسأله السيدة ناهد متولي أن يذكر للمشاهدين ما جاء في الكتاب المقدس عن عقيدة الفداء يذكر لها 3 وقائع فقط لا غير، وهي كما يلي:
(1) أن آدم وحواء بعد أن أخطآ عرفا أنهما عريانان، فخاطا لأنفسهما مآزر من ورق الشجر، ولكن عندما تطلع الشمس كان ورق الشجر يجف فتنكشف عورتهما، فصنع الرب لهما أقمصة من جلد وألبسهما. ثم يتساءل جناب القمّص بعبقريته المهولة: طب جاب الجلد منين؟ ثم يرد فيقول: من الذبيحة من الفداء، وهو يقصد أن هذه الذبيحة ترمز لموت المسيح على الصليب! وعفا الله عنك يا أم الخير.(/33)
(2) أن آخر ضربة من الضربات التي أنزلها الله بفرعون والمصريين هي قتل الابن البكر للناس والحيوانات والبهائم، وتصادف هذا أن يكون في عيد الفصح لدى اليهود، فقال الرب لموسى أن يضع اليهود علامة من دم خروف الضحية على بيوتهم، حتى عندما يمر ملاك الموت يرى العلامة فيعبر عن هذا البيت، وأما البيت الذي لا توجد عليه علامة يكون بيت للمصريين فيدخل فيه ويقتل ابنهم البكر. ويلوي جناب القمّص هذه الواقعة ليقول إن الخروف يرمز للفداء، أي أنهم ذبحوا الخروف بدلا من ابنهم البكر فكان فدية، وبذلك يتركهم ملك الموت ويعبر عنهم. مع أن القصة لا تمت بصلة إلى هذه العقيدة الشاذة التي ينسبها جناب القمّص إلى خروف الفصح، وملاك الموت لا يحتاج إلى علامة من دم حتى يدخل أو يعبر، وإنما أراد الله أن تكون هذه آية للمصريين ليروا أن بيوت بني إسرائيل التي عليها هذه العلامة لم يدخلها الموت. وهكذا نرى نفس الأسلوب في تفسير قصة أم الخير.
(3) أن شريعة موسى كانت تحتوي على تقديم فدية عندما يخطئ واحد من اليهود، ويدّعي جناب القمّص أن هذه الفدية ترمز للفدية التي قدمها المسيح بموته على الصليب، مع أن ملايين اليهود الذين مارسوا هذه الشعيرة وألوف الملايين من المسلمين الذين مارسوا أيضا هذه الشعيرة ويمارسونها في عيد الأضحى، لم يكتشفوا هذا السر الخطير الذي اكتشفه جناب القمّص ومن يؤمنون بهذه المسيحية المشوهة التي اخترعوها لتحقق ما يريدون أن يقحموه على الكتاب المقدس من عقائد وأفكار من صنع البشر، ومسّاك الله بالخير يا أم الخير!
هذه هي الوقائع الثلاث التي ذكرها جناب القمّص عن عقيدة الفداء، التي يدّعي أن محور الكتاب المقدس يدور حولها. وهو لا يكتفي بهذا فحسب، بل يدّعي أن هذه العقيدة موجودة أيضا في القرآن الكريم، فيقول إنه في الآية 32 من سورة المائدة يقول تعالى ]مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَني إِسْرَآئِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ في الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا[. وهنا تتجلى العبقرية القمّصية في التفسير فيسأل: لماذا على بني إسرائيل بالذات، ثم يجيب على نفسه: لأنهم هم الذين صلبوا المسيح!!. ثم يستمر في تفسيره العبقري فيقول: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، يعني من قتل نفسا بريئة طاهرة ما عملتش فساد في الأرض ولم ترتكب الإثم، (مع أن الآية لا تشترط أن تكون النفس المقتولة بريئة وطاهرة ولم تفسد، إذ يمكن أن تكون تلك النفس سارقة أو مرتشية أو تغتاب الناس أو تسيء معاملة الجيران، ومع ذلك فلا يصح قتلها بغير أن تكون قد قتلت نفسا، أو أفسدت في الأرض فسادا شديدا يعادل قتل النفس). ثم يقول: فكأنما قتل الناس جميعا، وهنا نجد أنه يفسرها بمعنى أنه قد قتل الناس جميعا بالفعل. ثم يقول: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، أي أن من أحيا هذه النفس البريئة الطاهرة فقد أحيا الناس جميعا، ويستنتج من هذا عقيدة الفداء المزعومة، فيقول: من هي النفس البريئة الطاهرة التي قُتلت ثم عادت إلى الحياة غير المسيح؟ أي أنه افترض أن المسيح قد مات وعاد إلى الحياة بالفعل، مع أن هذه هي النتيجة التي يريد أن يصل إليها من المقدمات التي يحدثنا عنها. وهكذا نراه يستخدم النتيجة في إثبات صحة المقدمة، وهذا خطأ منطقي، لأنه لا بد أن تكون المقدمات صحيحة لتصل إلى صحة النتيجة وليس العكس. يعني مثلا إذا أردنا أن نثبت جرم أحد المجرمين، فقلنا إن الرجل كان موجودا في مكان الجريمة، ولم يكن أحد سواه هناك، فهذا يدل على أنه ارتكب الجريمة. فهنا ذكرنا مقدمات صحيحة ووصلنا إلى النتيجة المترتبة عليها وهي ارتكاب الجريمة. أما جناب القمّص فيقول: حيث إن الرجل ارتكب الجريمة فلا بد أنه كان في مكان الجريمة، أي أنه يستخدم النتيجة لإثبات صحة المقدمة، ثم يقول بعد ذلك، وحيث إنه ثبت أن الرجل كان في مكان الجريمة فلا بد أن يكون هو الجاني، وهو بذلك يستخدم المقدمة لإثبات صحة النتيجة. وكذلك في التفسير الذي يقدمه للآية يستخدم النتيجة، وهي ما يزعمه من قتل المسيح وعودته إلى الحياة، ليثبت المقدمة وهي فكرة الكفارة والفداء، ثم يعود ويقول إن وجود فكرة الكفارة والفداء هي من أجل بيان صلب المسيح. ومع ذلك فهو يدّعي أنه يتكلم بالمنطق ويخاطب عقلية القرن الواحد والعشرين.(/34)
ويضيف جناب القمّص استدلالاته العبقرية على وجود مبدأ الفداء في الإسلام، فيستشهد بما فعله عبد المطلب جد الرسول r حين نذر أن يذبح ابنا من أبنائه الذكور إذا رزقه الله بعشرة من البنين، فخرجت القرعة على عبد الله أصغر أبنائه وأحبهم إليه، فأراد أن يفديه بذبح عشرة من الجمال، ولكنه حين اقترع خرجت القرعة على عبد الله، فزاد عدد الجمال إلى عشرين وثلاثين إلى أن بلغت مائة فخرجت القرعة على الجمال، وبهذا نجا عبد الله من القتل. وجناب القمّص يرى بذكائه الخارق أن هذا دليل على وجود مبدأ الفداء في الإسلام الذي أتى به محمد r الذي لم يكن قد ولد بعد!! أرأيتم يا حضرات المشاهدين كيف أن القمّص يلوي الحقائق ويزيفها ليخرج بالنتيجة التي يريد أن يؤيد بها فكره الذي لا يقوم على أساس ولا منطق؟
كذلك فإنه يدّعي أن ذبح الذبائح عند المسلمين دليل على وجود فكرة الكفارة في الإسلام، وذلك لأن الذبائح تُكفّر عن الذنوب، حيث جاء في الكتاب المقدس مبدأ "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة". وحينما نتقصّى عن ذلك المبدأ العجيب، نجد أن الله لم يعلمه لآدم، ولم يعلمه لنوح، ولم يعلمه لإبراهيم، ثم أنزل على موسى التوراة ولم يذكر فيها هذا المبدأ العجيب، ولم يعلمه لأحد من الأنبياء بعد موسى، ولم يعلمه حتى للمسيح، ولم يعلمه أيضا لتلاميذ المسيح، وإنما عُثر على هذا المبدأ في رسالة من مؤلف مجهول، لا يُعرف من كتبها على وجه التحديد، ولو أن البعض يقول إن بولس هو الذي كتبها، ولكن هناك أدلة على غير ذلك. وليس هذا كلامي يا جناب القمّص، فأنا لا آتي بشيء من عندي، ويمكنك أن تراجع نسخة الكتاب المقدس الأمريكي الجديد The New American Bible، المطبوع في نيويورك في 27 يوليو (تموز) عام 1970، ويحمل موافقة رئيس أساقفة واشنطن، لتعلم يا جناب القمّص أن رسالة العبرانيين مجهولة المصدر. وهذه هي الرسالة التي جاء فيها هذا المبدأ العجيب: "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة"، وكأن الله، تعالى عن ذلك، كان مثل دراكيولا، متعطشا للدماء، فلا يعفو ولا يغفر إلا إذا سفك له الإنسان دماء ضحية بريئة، ولذلك فهو أيضا لا يستطيع أن يعفو ولا يغفر إلا إذا سفك دماء ابنه البريء!!
ألا فاعلم يا جناب القمّص أن الذبيحة في الإسلام تُسمّى "قربانا"، لأنها وسيلة للقرب من الله تعالى، والإنسان حين يذبح الضحية فكأنه يقول يا رب إني أموت عن خطاياي كما تموت هذه الضحية، ومنذ الآن فإني أبدأ صفحة حياة جديدة في طاعتك، حياة تقوم على البر والتقوى وعمل ما تحب وترضى. فليس ذبح الضحية في حد ذاته هو الذي يأتي بالمغفرة، وليس في دم الضحية من شيء يستجلب المغفرة من الله تعالى، وإنما العمل الذي يقوم على التقوى هو الذي يتقبله الله. ولذلك يقول تعالى عن هذه الذبائح والأضحيات ]لَن ينَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَآؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتَكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ[ (الحج:37). وفي قوله تعالى ]سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ[ قاعدة تنسف نسفا فكرة الفداء التي تقوم عليها المسيحية الباطلة. فالآية الكريمة تقرر أن الله تعالى سخّر لنا هذه الحيوانات، وجعلها في خدمتنا وتحت تصرّفنا، لأنه كرّمنا وجعلنا أفضل منها، ولذلك فقد وضع الله تعالى مبدأ التضحية بالأدنى في سبيل الأعلى والأعظم. فالأمّة إذا تعرضت للعدوان تضحّي ببعض أبنائها في الحرب في سبيل مصلحة الأمّة والحفاظ على كيانها، ولكن الإنسان الذي يضحّي بالأمة في سبيل مصلحته يُعتبر خائنا. كذلك فإن المرء إذا أصاب إصبعه تسمّما يهدد سلامة اليد، فقد يضطر إلى التضحية بالإصبع ويبترها في سبيل المحافظة على اليد، ويضحي باليد في سبيل المحافظة على الذراع، ويضحي بالذراع في سبيل المحافظة على الجسد، ولكنه لا يضحي برأسه في سبيل المحافظة على إصبعه، إذ لا يفعل ذلك إلا المجانين أو من يريدون الانتحار. فالله تعالى سخر هذه الحيوانات التي هي أدنى من الإنسان لكي تكون وسيلة يتقرّب بها إلى الله، ويتعلم أن يضحي بشهوات نفسه، التي هي أدنى، في سبيل الحصول على رضا الله تعالى الذي هو أعلى وأعظم وأكبر من الإنسان، فقال ]لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ[.
هذه هي فلسفة التضحية والفداء في الإسلام يا جناب القمّص، وليست هي في سفك الدماء لإله متعطش للدماء، لا يغفر إلا إذا سُفك الدم. كذلك فإن مبدأ الفداء الذي تقوم عليه مسيحيتك يقلب الأمور، ويجعل التضحية بالأعلى في سبيل الأدنى، أي تضحية ابن الله البريء من أجل الإنسان الخاطئ. وأنت تسمّي هذا محبة، ويكررها قساوسة المسيحية في كل مناسبة، للتدليل على محبة الله للإنسان، مع أن التضحية بالأعلى من أجل الأدنى يدل على الخبل والجنون والخيانة.(/35)
وبعد أن نسب جناب القمّص إلى الله تعالى أنه قضى بالموت والعذاب الأبدي في جهنم النار الأبدية على كل البشرية، يقول إن الله يريد أن يغفر للبشرية، ولكنه لا يستطيع ذلك لأنه لا بد أن ينفذ العدل أولا قبل أن يرحم ويغفر، فلا بد أن يجد فاديا يُنفذ فيه حكم الموت هذا، فيستطيع بعد ذلك أن يغفر للبشرية. ثم يتساءل جناب القمّص عن شروط هذا الفادي ويقول إن الخطية يقاس حجمها وجُرمها، وكبرها أو صغرها، بالشخصية الْمُساء إليها. ولا أعلم من أين أتى بهذه القاعدة التي لم تأت في أي كتاب سماوي أو غير سماوي، اللهم إلا الكتب التي تقوم على الأفكار الإنسانية أو الشيطانية. ثم يقدم مثالا على ذلك فيقول: لو أنه أخطأ في حق شخص عادي بسيط مثل الفرّاش الذي يعمل في مكتبه، فماذا يكون علاجها أو فداؤها؟ ورقة بخمسين جنيه أو مائة جنيه ويقول له خد دول لأولادك، اشرب بهم شاي، فيسأل الفراش: ليه يابيه عشان إيه ده يا بيه؟ فيقول له: أنا غلطت في حقك يا ابني وشتمتك، فيقول: ياريت تشتمني كل يوم يا بيه. ثم يقول: لو أنا ارتكبت الجرم ده نفسه أو قلت الشتيمة دي ضد رئيسي أنا، أقوله خد الميت جنيه دول؟ طبعا لأ، العملية كبرت. ولو أنا أخطأت بنفس الجرم ده ضد رئيس الجمهورية؟ فتقول السيدة ناهد متولي: تروح ورا الشمس. فيضحك الإثنان ثم يقول جناب القمّص: فلما الخطية كبرت، كبرت بحجم من يُساء إليه وقيمة من يُساء إليه. طب تعالوا بقى للي يغلط في حق ربنا، أي إنسان مهما كان برضه ولو رئيس جمهورية برضه محدود، لكن الله غير محدود، يبقى الخطأ اللي في حقه يكون إيه؟ غير محدود. ما هو أي حاجة مضروبة في ما لانهاية تبقى ما لانهاية. يبقى خطيتي واحدة في حق الله غير المحدود أصبحت خطية غير محدودة تستوجب عقوبة غير محدودة، موت أبدي. طب لما نيجي نفديها بقى نفديها بفادي شكله إيه؟ غير محدود أيضا. ثم يقدم مثالا آخر فيقول للسيدة ناهد: يعني لو أنا أخدت منك عربية رولزرويس وخبطتها في شجرة، أروح أجيب لك عربية فيات وأقولِك معلش خدي العربية دي بدالها؟ ما ينفعش. العربية رولزرويس تفديها بعربية رولزرويس. خطية ضد الله تبقى محتاجة إلى فداء غير محدود على قد الله، الأمر المستحيل إنه يبقى فيه فادي على الأرض غير محدود، يبقى فيه لازمة إن الله الغير محدود هوه اللي يفدينا، هوه بنفسه اللي يفدي. يبقى ده أول شرط إن الفادي يكون غير محدود، لأن الخطية غير محدودة، وعقوبتها غير محدودة، وفداءها لا بد أن يكون غير محدود، ولا يوجد غير محدود إلا الله، ومن هنا كانت حتمية تجسد الله في المسيح.
أرأيتم يا حضرات المشاهدين كيف أن جناب القمّص يقدم أفكارا تبدو أنها صحيحة، ولكنها تقوم على أساس خاطئ، ولا تجد لها تأييدا لا في الواقع ولا في أي كتاب سماوي، ثم يخرج منها بقاعدة يبني عليها عقيدة خطيرة. ونريد أن نسأل جناب القمّص ما يلي:
أولا: من أين أتى جنابه بهذه القاعدة القمّصية، وهي أن الخطية تقاس بحجم وقيمة من يُساء إليه؟ هل هي موجودة في التوراة أو في الأناجيل الأربعة أو في القرآن الكريم؟ وإذا كانت موجودة، فلماذا لم يذكر لنا ولا مرجع واحد يؤيد به كلامه؟
ثانيا: هل تتفق هذه القاعدة التي اخترعها مع قواعد العدل الذي كان يحدثنا عنه؟ وهل تأخذ الحكومات بهذه القاعدة القمّصية عند وضع القوانين، فنجد مثلا قانونا يقول إذا أنا سرقت من إنسان غلبان عشرة جنيه كانوا كل ما يملكه، فيُحكم عليّ بست شهور سجن، أما إذا ارتكبت نفس الجرم وسرقت عشرة جنيه من جناب القمّص، فيُحكم عليّ بست سنين سجن؟ هل هذا هو المنطق الذي تدّعي أنك تكلم به عقول الناس في القرن الواحد وعشرين يا جناب القمّص؟
ثالثا: هل إذا حملت ابنك وليدك فبال عليك وبللك، فهل تعاقبه أم تعطيه لأمه كي تغير له ملابسه؟ فإذا جئت أنا وفعلت نفس فعل وليدك عليك، فهل يكون تصرفك هو نفس تصرفك تجاه وليدك، مع أن الفعل واحد في الحالتين، والْمُساء إليه واحد أيضا؟ وهل تتوقع من الملك الذي يبلله وليده أن يصدر مرسوما ملكيا بإنزال العقوبة عليه، أما إذا بلل أحدا من الخدم فلا إثم عليه؟ وألا ترى أن الملك الذي يأخذ بالقاعدة التي اخترعتها يكون سفيها أو مجنونا؟ يا سيادة القمّص؟
رابعا: في مثال العربية الرولزرويس، أنت أسأت إلى السيدة ناهد متولي وعانت هي خسارة حين حطمت سيارتها، فمن العدل أن تعوضها بمقدار الخسارة التي عانتها بسببك. ولكن هل نسيت يا جناب القمّص أن الله لا يعاني من أي خسارة إذا أخطأ الإنسان، ولا يستفيد شيئا من طاعته؟ أم أن فكرة التجسد التي ملكت عليك تفكيرك جعلتك تظن أن الله زي حضرتك، تضيق حكمته ويتدنى تفكيره إلى مستوى تفكيرك وحكمتك؟(/36)
خامسا: ألم يخبرك أولئك الذين يكتبون لك المواد ويعدون لك البرامج أن هناك حديثا قدسيا يقول: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضُري فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد هذا في مُلكي شيئا. يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من مُلكي شيئا"؟
هذا يا جناب القمّص هو الإله الحق الذي يستحق العبادة، هذا هو إله الإسلام وإله المسيحية الحقة وإله الأديان كلها، فهو الله تعالى رب العالمين. هذا هو الرب الذي أمر موسى بعبادته وقال يخاطب شعبه: "اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد" (تثنية4:6)، وهو نفس الرب الذي سجد له السيد المسيح وقال إن أعظم الوصايا هي أن تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك. هذا هو الرب الإله الحكيم، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول. وأما الإله الذي اخترعتموه فلا وجود له في هذا الكون، إلا في مخيلة أولئك الذين ضلوا عن الله الواحد الحق، فلا يمكن أن يكون هذا إله محبة، الذي يعتبر أن خطيئة إنسان محدود، خطيئة غير محدودة.
أفق يا جناب القمّص، أفق فإنك في القرن الواحد والعشرين، ولست في زمن بولس الرسول، فلا تنسب إلى الله ما تستحي أن تتصف أنت به من سوء الفكر وقسوة الحكم.
( 9 )
تكلمنا في الحلقات الماضية عن الخلل في عقيدة الفداء في المسيحية، وهي التي تقوم على أن آدم أخطأ فحكم الله عليه بالموت، وتبين فيما بعد أن هذا الموت لا يعني انتهاء الوجود وحسب، وإنما يعني الانفصال عن الله، والخزي والعار، والعذاب الأبدي في نار جهنم الأبدية، وأوضحنا أن هذا يتنافى مع العدل، لأنه من مقتضيات العدل أن يكون القانون واضحا، فلا تكون مثلا عقوبة مخالفة إشارة المرور 100 جنيه، ثم يفاجأ الجاني بأن الغرامة تحتوي أيضا على أنه يجب أن يدفع ألف جنيه إضافية ويُباع بيته ويُفصل من عمله. وعلى هذا، إذا افترضنا أن آدم قد أخطأ، وكان قد قيل له إن عقوبة الخطية هي الموت، لكان من العدل أن لا يُفجأ بعد ذلك بأن عليه أن يُطرد من الجنة، ويعيش كل أيام حياته في تعب وهَمّ، وأن لا يأكل إلا شوكا وحسكا وعشب الحقل، ويأكل خبزه بعرق جبينه، وأيضا زوجته حواء تُطرد هي الأخرى من الجنة، وتُكَثّر كثيرا أتعاب حبلها، وتلد بالوجع وبآلام شديدة، ثم بعد كل هذا يموت أيضا كل منهما. ولا يُكتفى بكل هذا الظلم فحسب، بل يتبين أن هذا الموت ليس هو نهاية لوجودهما، وإنما عليهما أن يعيشا إلى أبد الآبدين يتعذبان في أتون جهنم النار الأبدية. وكأن كل هذا الظلم لم يكن كافيا فطبقه الله على كل البشرية بأكملها. وقد ذكرنا أن هذه القسوة لا تليق بالله تعالى الرحيم الرؤوف الذي يصفه الكتاب المقدس فيقول: "الرب إله رحيم ورؤوف بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء، حافظ الإحسان إلى ألوف، غافر الإثم والمعصية والخطية" (خروج6:34). وهذا يتناقض تماما مع تفسير جناب القمّص زكريا بطرس للموت، والذي معناه الحياة الأبدية في تعذيب مستمر في جهنم النار الأبدية.
ثم أوضحنا بعد ذلك أن العدل لا يعني حتمية تنفيذ العقوبة، وإنما العدل هو ألا يصدر الحكم أساسا إلا بعقوبة تتناسب مع حجم الجرم الذي ارتُكِب. أما تنفيذ الحكم أو عدم تنفيذه، فهذا يتوقف على الحكمة، فإن كان من الحكمة تنفيذ الحكم لأن في هذا إصلاح للجاني وحماية للمجتمع، فيجب تنفيذ الحكم، ولكن إذا كان الجاني قد انصلح وكان تنفيذ الحكم سوف يؤدي إلى فساد أكبر من فساد الجاني فمن الحكمة عدم تنفيذ الحكم. ولكن للأسف رأينا أن المسيحية بعد أن حادت عن الطريق المستقيم الذي جاء به السيد المسيح u، قد دخلها التحريف والتزوير والأفكار البشرية، وكان كل هَمّ قساوستها من أمثال القمّص زكريا بطرس أن يخدعوا العامة من الناس ببعض الألفاظ الخاوية عن محبة الله، فينفخوا في حجم العقاب ويشددونه بقسوة يخجل منها أسوأ الظالمين والمستبدين، وذلك لكي يقولوا بعد ذلك إن إله المحبة رفع عنكم كل هذا العقاب، وفداكم بأنه أرسل ابنه الوحيد لكي يموت على الصليب ويحمل عنكم كل هذه اللعنات التي نزلت على رؤوسكم.(/37)
وأوضحنا بعد ذلك أن الرحمة لا تتناقض مع العدل، فإن العدل من الرحمة، ولكن الرحمة أعم وأشمل وأوسع من العدل، وذكرنا أن الصورة التي يرسمها دعاة المسيحية المحرّفة عن الله تعالى صورة سيئة للغاية ومخزية، إذ يقدمونه على أنه إله تتناقض صفاته مع بعضها البعض، ولا يستطيع أن يمارس صفة الرحمة لأن صفة العدل تمنعه من ذلك، فرغم أنه إله رحيم إلا أنه لا يستطيع أن يرحم إلا إذا أشبع صفة العدل أولا. وقلنا إن هذه الصورة القبيحة تجعل من الله تعالى، والعياذ بالله، مثيلا للمدمنين على المخدرات والسكارى والمقامرين، الذين يريدون أن يتوقفوا عن فعل هذه المساوئ، ولكنهم لا يستطيعون أن يمارسوا إرادتهم ولا أن يتحكموا في صفاتهم الإنسانية النبيلة، وذلك لأن الصفات التي اكتسبوها بحكم العادة تتحكم فيهم وتمنعهم من ذلك، فتعالى الله عما يصفون.
وقد ذكرنا بعد ذلك أن ما يقوله دعاة المسيحية المحرّفة من أمثال القمّص زكريا بطرس عن استحالة امتناع الله تعالى عن تنفيذ حكم العقوبة، إنما هو كذب وافتراء على الله تعالى. وقدمنا أمثلة من العهد القديم ومن الأناجيل على أن الله قد امتنع عن تنفيذ حكم بإهلاك بني إسرائيل الذين عبدوا العجل، وذلك بعد أن تشفّع لهم موسى u، وأيضا امتنع عن تنفيذ حكم العقوبة بتدمير مدينة نينوى بعد أن تاب أهلها، وإصحاح 18 من سفر حزقيال زاخر بالمواقف التي يذكرها الله تعالى بأنه لا ينفذ حكم الموت إذا تاب المخطئ ورجع عن طريق الشر. وأيضا في الأناجيل رأينا أن المسيح نفسه، قبل واقعة الصلب المزعوم عندما كان لا يزال تحت حكم الشريعة، قد امتنع عن تنفيذ الحكم في امرأة قُبض عليها وهي تزني، وأوصى أتباعه أن يغفروا ويسامحوا بعضهم البعض، وقدم لهم مثالا عن ملك تنازل عن كل الديْن الذي كان له عند أحد عبيده، وحثّهم على أن يتصرفوا على هذا المنوال.
بعد هذا طلع علينا جناب القمّص باختراع جديد، وهو أن حجم الجريمة لا يقاس بمقدار الضرر الناتج عنها للمُساء إليه، كما هو الحال في جميع القوانين في العالم، وكما هو الحال أيضا في تصرفات جميع الناس مع بعضهم البعض، وإنما يقاس حجم الجريمة بقيمة من يُساء إليه. وخرج من هذا بنتيجة عجيبة وهي أن الفداء عن الجريمة يجب أن يتناسب مع قيمة المُساء إليه. والمثال الذي قدّمه هو أنه لو أخطأ في حق الفراش الذي يعمل في مكتبه فيمكن أن يعوّضه بخمسين أو مائة جنيه تكفيرا عن خطئه، ولكن إذا ارتكب نفس الخطأ في حق رئيسه يكون حجم الخطأ أكبر، وإذا ارتكب نفس الخطأ في حق رئيس الجمهورية يكون الخطأ أكبر وأكبر، وإذا كان الخطأ في حق الله يكون حجم الخطأ غير محدود لأن الله غير محدود، وبالتالي يجب أن يكون التعويض أو الفداء غير محدود. وهكذا يتبين أن جناب القمّص يخترع حكايات وحواديت قد تبدو أنها معقولة للوهلة الأولى، ولكنها لا تقوم على أساس سليم، ثم يبني على هذه الحكايات والحواديت نتائج خطيرة وعقائد هامة. وقد أوضحت لجناب القمّص الخلل في تفكيره، وذكرت له لو أنه كان يحمل وليده فحدث أن بال عليه وبلله فماذا يكون تصرّفه؟ سوف يعطيه لأمه لتغير له ملابسه. فهل إذا قمت أنا بنفس الفعل الذي قام به وليده، فبللته، أي أن الفعل واحد في الحالتين والْمُساء إليه واحد في الحالتين، فهل يتساوى الخطأ في الحالتين؟ وإذا وقع نفس الخطأ من وليد الملك فبلله، هل يصدر مرسوما ملكيا بإلقاء وليده في السجن لأن قيمة الْمُساء إليه الآن أصبحت أكبر وأعظم من قيمة جناب القمّص؟
لقد خرج علينا جناب القمّص نتيجة لهذا الفكر الفاسد بقاعدة وهي أن حجم الخطأ يُقاس بقيمة من يُساء إليه، وذلك لأنه بطبيعة الحال يريد أن يدلل على ضرورة أن يتجسد الله في المسيح، فلا بد أن ينفخ في حجم الخطأ الذي ارتكبه الإنسان، فيصل به إلى أنه خطأ غير محدود لأن الله غير محدود، وبالتالي لا بد أن يكون الفداء غير محدود أيضا، وحيث إنه لا يوجد غير محدود إلا الله تعالى، فلا بد أن يتجسد الله بنفسه ويقتحم جسد إنسان لكي يَصلُح أن يكون هو الفداء المطلوب. وهكذا يضع جناب القمّص القواعد والقوانين، ويضع القانون الأول وهو أنه يُشترط أن يكون الفادي غير محدود.(/38)
ويستمر جناب القمّص في سلسلة أحاديثه بتقديم سلسلة أخطائه، فيقول إن الشرط الثاني الذي يجب أن يتوفر في الفداء هو أنه ينبغي أن يكون من جنس الخاطئ، أي لا بد أن يكون إنسانا. وكعادته عندما يبتكر لنا قواعد من أعماق مخه وتفكيره، أو من تفكير من سبقوه من الضالين عن طريق المسيح المستقيم، فإنه لا يقدم لنا شواهد من الكتاب المقدس ليدلل بها على صحة منطقه، وإنما يعطينا أمثلة ويقص علينا حكايات وحواديت. والمثال الذي يقدمه هذه المرة هو أنه لو أخذ من السيدة ناهد متولي عربية رولزرويس وخبطها في شجرة فيجب أن يقدم لها عربية رولزرويس ولا يقدم لها عربية فيات أو نصر أو رمسيس، وأنه إذا كسر لها نجفة فيجب أن يعوّضها بنجفة ولا يكتفي بأن يعطيها لمبة، أي أن الفداء يجب أن يكون من جنس المفدي عنه. ورغم أن استدلاله يبدو صحيحا للوهلة الأولى إلا أنه لا ينطبق على الله تعالى. صحيح إذا تسبب إنسان في خسارة لإنسان آخر فيجب أن يعوّضه عن خسارته بنفس قيمة الخسارة التي لحقت به، ولكن جناب القمّص نسي أنه حينما يخطئ الإنسان في حق الله تعالى فإنه لا يُلحق بالله أي خسارة، وإنما الخسارة تصيب الإنسان نفسه. فمثلا، إذا قلت لك يا جناب القمّص، لا تمش في الطريق المعوج الذي تمشي فيه، لأن فيه حُفر وعقارب وثعابين سوف تضرّك، ومن الأفضل لك أن تمشي في هذا الطريق المستقيم الذي يوصلك إلى غايتك، ولكنك بعنادك المعروف وإصرارك على ارتكاب الخطأ عصيت أمري وأصررت على مشيك في الطريق المعوج، فكانت النتيجة أنك وقعت في حفرة وقطمت رقبتك، وجاءت العقارب لتأبرك وأخذت الثعابين تنهش في جسمك وتتلذذ بأكل لحمك السمين الطري. فهل تضررت أنا بعصيانك أم أنك أنت الذي أسأت إلى نفسك بعنادك وإصرارك على السير في الطريق المعوج؟ هكذا أيضا الحال مع الله تعالى. وقد ذكرت لك الحديث القدسي الذي يقول: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضُري فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي: لو أنّ أولَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما زاد هذا في مُلكي شيئا. يا عبادي: لو أنّ أولَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من مُلكي شيئا". وهكذا ترى يا جناب القمّص أن الشرط الثاني الذي اشترطت وجوده في الفادي الذي زعمت ضرورة وجوده، لا أصل له ولا محل له من الإعراب.
ثم نأتي إلى الشرط الثالث الذي اشترطه جناب القمّص في الفادي المزعوم فيقول إنه يجب أن يكون طاهرا خاليا من الإثم، وحيث إن الأرض كلها خلت من الطاهرين حسب زعمه، فلا بد أن يكون المسيح وحده هو الإنسان الطاهر الأوحد لكي ينطبق عليه سيناريو الفيلم الذي يؤلفه لنا دعاة المسيحية الفاسدة. والغريب أن جناب القمّص يستدل من القرآن الكريم على طهارة السيد المسيح، وربما يكون هذا هو الأمر الوحيد الذي نتفق فيه مع جناب القمّص، ولكن نختلف معه في أن يكون المسيح وحده من دون الناس هو الطاهر الأوحد، وإنما جميع الأنبياء طاهرون وخالون من الإثم والمعصية التي تُرتكب بقصد التمرّد على أمر الله، أو الخروج المتعمّد على وصايا الله بقصد المعصية، وهذه هي المعاصي والذنوب التي تستجلب غضب الله تعالى، وأما ما يرتكبه الإنسان من خطأ دون قصد أو بغير سوء نية فلا يستجلب غضب الله تعالى، فهو سبحانه عليم وحكيم، فهو يعلم ما في القلوب، وهو حكيم يحاسب الناس على حسب نياتهم، وليس هو كذلك الإله الغليظ القاسي الذي يحاسب الإنسان على أول هفوة فيحكم عليه بالعذاب الأبدي في نار جهنم الأبدية. وسوف يتولى بعض الأخوة الرد على ما زعمه جناب القمّص من أن البشر جميع خطاة بما فيهم الأنبياء والقديسون، وسوف يبينون له وللمشاهد الكريم الخلل أيضا في هذا التفكير. ولكن دعونا الآن نحلل ادعاءات القمّص بأن المسيح لم يخطئ ولم يرتكب أي إثم، وليكن ذلك من الأناجيل وليس من القرآن الكريم الذي يشهد بعصمة وطهارة جميع الأنبياء.
أولا: يدّعي جناب القمّص أن المسيح بدون خطية لأنه وُلد من العذراء مريم، فالكتاب يقول عن مريم "روح الله يحل عليكِ وقوة العليّ تظلّلُكِ". والسؤال يا جناب القمّص هو: أنت تؤمن بأن كل من وُلد من ذرية آدم كان خاطئا لأنه ورث الخطية، وبالتالي كانت مريم أيضا حسب مفهومك مولودة بالخطية، وبالتالي فإن من يولد منها لا بد أيضا أن يكون مولودا بالخطية. فهل إذا حلت عليها روح الله وظللتها قوة العليّ تصبح طاهرة ويمكن أن تلد إنسانا طاهرا؟ إن قلت لا، يكون المسيح مولودا بالخطية ولا يصلح للفداء لأنه ليس طاهرا، ولا أظنك تقول بهذا. وإن قلت نعم، فإنك تنسف مبدأ الفداء والتجسد المزعوم، لأنه كان من الممكن أن تحل روح الله على آدم وتظلله قوة العليّ، وتنتهي المشكلة حيث بدأت.(/39)
ثانيا: لعلك تقول يا جناب القمّص إن مريم كانت هي العذراء الوحيدة التي لم يمسها رجل، ولذلك حين يحل عليها روح الله وتظللها قوة العلي، يكون المولود منها طاهرا من الخطية. ولن أناقشك يا جناب القمّص فيما إذا كانت مريم هي فعلا العذراء الوحيدة التي أنجبت، مع أن الوثائق الطبية تكذب هذا، ولكن دعنا من الأطباء ووثائقهم العلمية، فهي فقط لمن يحترمون العلم والعقل، ودعنا نوافقك على مبدأك رغم أنه يتعارض مع العلم والعقل. دعني أسألك يا جناب القمّص: ما هي الحكمة العجيبة أن ينتظر الله أكثر من أربعة آلاف سنة حتى تحل روحه على العذراء مريم، مع أن حواء كانت عذراء قبل أن يعرفها آدم لينجب منها، وكان من الممكن أن يحل عليها روح الله وتظللها قدرة العلي، فتنجب ذرية طاهرة، وينفض المشكل.
ثالثا: إذا قلت إن حواء أخطأت ولكن مريم لم تخطئ، يكون هذا اعترافا منك بأنه من الممكن أن يكون إنسان آخر غير المسيح طاهرا لم يرتكب الإثم، وفي هذه الحالة ينهار الأساس الذي تبني عليه قضيتك، وبالتالي فمن الممكن أن يكون الكثير من البشر أيضا لم يخطئوا وخاصة الأنبياء الذين تزعم أنهم أخطأوا جميعا.
رابعا: المسيح مولود من امرأة، وكتابك المقدس يستنكر أن يكون مولود المرأة طاهرا، إذ يقول: "فكيف يتبرر الإنسان عند الله وكيف يزكو مولود المرأة" (أيوب4:25). وأيضا يقول الكتاب المقدس: "من يخرج الطاهر من النجس، لا أحد" (أيوب4:14).
خامسا: يقولون إن الاعتراف سيد الأدلة، والمسيح اعترف بأنه ليس صالحا، فمن نصدق، القمّص زكريا بطرس أم السيد المسيح نفسه؟ وأنت تعرف بالطبع ما أقصد يا جناب القمّص، ولكن دعني أذكر النص حتى يستطيع حضرات المشاهدين أن يحكموا لك أو عليك. في إنجيل مرقس 17:10 جاء ما يلي: "وفيما هو خارج إلى الطريق ركض واحد وجثا له وسأله أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية، فقال له يسوع لماذا تدعوني صالحا، ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله". والآن يا جناب القمّص، إذا قلت إن هذا كان تواضعا من يسوع، فإنك تصمه بالكذب لأنه قال غير الحق. وإذا قلت إن الذي تكلم كان الناسوت وليس اللاهوت فهذا يعني أن الناسوت لم يكن صالحا، فكيف يحل اللاهوت في ناسوت غير صالح؟ أجبنا يا جناب القمّص!
سادسا: سمعتك مرة في أحد أحاديثك تقول يا جناب القمّص إن القرآن الكريم ذكر أن بعض الأنبياء كانوا يستغفرون الله، واستنتجتَ من هذا أنهم كانوا خاطئين لأنهم كانوا يستغفرون الله. ولن أناقشك في هذا المنطق الآن، ولكن قل لي يا جناب القمّص، بنفس المنطق الذي تفكر به، ماذا تستنتج من أن يسوع تعمّد على يد يوحنا المعمدان؟ ألم تكن معمودية يوحنا المعمدان من أجل مغفرة الخطايا؟ يقول إنجيلكم: "كان يوحنا يُعمّد في البرية ويكْرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا" (مرقس4:1). فما هي الحاجة لأن يتعمّد يسوع "بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا" إن كان كما تقول طاهرا بلا خطية؟ وإذا كان عندك رد، أفلا تطبق أيضا هذا الرد على الأنبياء الذين يستغفرون الله تعالى؟
سابعا: الوصية الخامسة من الوصايا العشر تقول: "أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض" (خروج 12:20)، ويقول يسوع: "فإن الله أوصى قائلا أكرم أباك وأمك، ومن يشتم أبا أو أما فليمت موتا" (متّى 4:15). فما رأيك يا جناب القمّص فيمن يقول لأمه: "مالي ولك يا امرأة"، كما قال يسوع لأمه حسب كلام يوحنا (4:2)؟ هل كان يشتم أمه أم أنه كان يكرمها؟ وهل تُعلّمون أولادكم في المسيحية التي تدعون الناس إليها أن يعاملوا أمهاتهم بهذا الشكل ويخاطبوهم بهذه اللغة الوقحة؟ وهل صحيح أن أيام يسوع لم تطل على الأرض لأنه لم يكرم أمه؟
ثامنا: هل سلاطة اللسان وسب الناس وشتمهم من الأخلاق الحميدة يا جناب القمّص؟ وما رأيك في المعلم الذي يسأله الناس أن يريهم آية فيسبّهم ويقول لهم أنتم: "جيل شرير وفاسق" (متّى39:12)؟ وما رأيك فيمن يسبّ رجال الدين لأنه يختلف معهم ويراهم على خطأ، هل يكون من حقه أن يقول لهم: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون" (متّى13:23)؟ وهل من حقه أن يشتمهم فيقول: "أيها القادة العميان" (متّى16:23)؟ وهل من حقه أن يسبهم فيقول: "أيها الجهّال والعميان" (متّى19:23)؟ وإن كانوا هم على خطأ من ناحية العقيدة، فهل من حقه أن يسبّهم ويسبّ آباءهم أيضا فيقول: "أيها الحيات أولاد الأفاعي" (متّى 33:23)؟ وأنا طبعا أختلف معك في العقيدة وأراك على خطأ يا جناب القمّص، فهل هذا يعطيني الحق أن أقول لك "يا شرير، يا فاسق، يا مرائي، يا جاهل، يا أعمى، يا حيّة؟ يا ابن الأفعى"؟ هل هذه أخلاق الطاهرين من الناس الذين يصلحون لكي يحل فيهم اللاهوت يا جناب القمّص؟(/40)
تاسعا: صحيح أن كتابكم المقدس يصم بعض الأنبياء بارتكاب المعاصي والخطايا، ولكن ما رأيك يا جناب القمّص فيمن يتهم نبيا بأنه ارتكب إثما لم يرتكبه. فمثلا كتابكم يتهم النبي داود بأنه ارتكب الزنى والعياذ بالله، ولكن إذا اتهمته أنا بأنه كان لصا وقاتلا أيضا، أفلا أكون قد افتريت عليه الكذب؟ فما رأيك فيمن يتهم الأنبياء كلهم بأنهم سُرَّاق ولصوص كما فعل يسوع (يوحنا8:10)؟ ألا يكون مفتريا الكذب؟
عاشرا: ما رأيك فيمن يقول: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس (أي الشريعة) أو الأنبياء" (متّى17:5)، ويأمر الناس باتباع الشريعة حتى ولو كان من يأمرهم بها هم رجال الدين الفاسدون، فيقول: "على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيّون، فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه" (متّى2:23)، ولكن حينما يأخذون إليه امرأة كانت تزني، ويقولون له: "يا معلم هذه المرأة أُمسكت وهي تزني في ذات الفعل، وموسى أوصانا في الناموس أن مثل هذه تُرجم، فماذا تقول أنت"؟ فيمتنع عن تطبيق الناموس الذي قال إنه لم يأت لينقضه، ويقول للمرأة: "اذهبي ولا تخطئي أيضا" (يوحنا11:8).
وأخيرا: يُقال إن المرأة الزانية قد تابت، وقد يكون هذا صحيحا، ولكن ألم يكن من الأوْلى به، ابتعادا عن الشبهات، أن لا يسمح لها بأن تدهن قدميه بالزيت وتمسح رجليه بشعرها، خاصة وأنه لم يتزوج، وهناك من يتهمونه بالعجز الجنسي، ويقول الخبراء في أمور الجنس إن مثل هؤلاء الذين يعانون من العجز الجنسي يجدون إشباعا عن طريق ما كانت تقوم به هذه المرأة من أعمال؟
والقائمة يا جناب القمّص طويلة، ولكن الوقت لا يسعفنا، فهناك من يتهمه بالجبن لأنه كان يخفي عن الناس أنه المسيح المنتظر، وهناك من يتهمه بالكذب لأنه كان يقول إنه لن يصعد إلى العيد ثم يصعد بعد ذلك، وهناك من يتهمه بالإرهاب لأنه كان يحض أتباعه أن يبيعوا ملابسهم من أجل أن يشتروا سيوفا، وهناك من يتهمه بالعنف لأنه قلب موائد الصيارفة في المعبد، وهناك من يتهمه بالعمل على نشر الفساد والفوضوية في الأرض لأنه قال: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا" (متّى34:10)، وقال أيضا: "جئت لألقي نارا فماذا أريد لو اضطرمت" (لوقا49:12).
ونحن إذ نؤمن بطهارة المسيح u كما نؤمن بطهارة جميع الأنبياء والمرسلين، لنتساءل كيف تكون هذه الشخصية التي أطلقتم عليها اسم "يسوع" تجمع كل هذه النقائص والمثالب والعيوب والذنوب، ومع ذلك تؤمنون بطهارتها وحدها من دون الناس جميعا؟ وإذا كان من يجمع كل هذه النقائص والذنوب طاهرا، فلا بد أن الشيطان الذي حدثتنا عنه يا جناب القمّص، يشعر بأنه لا يزال رئيس الملائكة!!
من الواضح يا حضرات المشاهدين أن المسيحية التي يدعونا إليها جناب القمّص، لا تقوم على أي أساس سليم، وإنما هي حواديت يخترعونها ثم يستنتجون منها قواعد يبنون عليها عقائد خطيرة، لا تليق بعدل الله تعالى ولا بحكمته ولا برحمته، فعسى أن يهدي الله الضالين إلى صراطه المستقيم، وعساه أن يقطع دابر الكذابين والمخادعين، وأن يهدي المخدوعين والمضللين إلى الدين القويم. آمين.
(10 )
نلتقي مرة أخرى في هذه الحلقة العاشرة من حلقات "أجوبة عن الإيمان" لنستأنف الرد على حلقات القمّص زكريا بطرس التي قدمها بعنوان "أسئلة عن الإيمان". وقد تحدث جناب القمّص عن موضوع "حقيقة الصلب والفداء" فحاول أن يشرح لمشاهديه أن القرآن الكريم يؤيد موضوع صلب المسيح وبالتالي فقد قام المسيح بعملية الفداء التي قدم فيها نفسه ليموت نيابة عن الناس جميعا، وبذلك.. حسب ما يعتقد جناب القمّص، فإنه حقق العدل الإلهي الذي كان يتطلب ضرورة تطبيق العقوبة، حتى يتمكن الله من استعمال الرحمة لكي يغفر الخطية التي ارتكبها آدم وحواء، وتوارثها من بعدهم جميع أفراد الجنس البشري، كما يقول القمّص.
ونحن نريد أن نحلل هذا الكلام ونبحث ما إذا كان المنطق الذي يستخدمه جناب القمّص منطقا صحيحا أو مغالطا ومخالفا لكل عقل ونقل ومنطق وتفكير. وجناب القمّص يبدو أنه حريص كل الحرص على تطبيق العدل الإلهي، ولا يرضى أبدا أن يكون للرحمة عمل ولا تأثير قبل تنفيذ العقوبة حتى يتحقق العدل أولا، فإن هذا العدل يتعلق بالله تعالى، وهو سبحانه بلا شك الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة. ولكن كان الأجدر بجناب القمّص أن يشرح لنا أولا ما هو العدل الذي يفهمه جنابه قبل أن يلصقه بالله تعالى، فلعل العدل الذي يفهمه جناب القمّص والذي تقدمه المسيحية، ليس بعدل على الإطلاق.(/41)
إن العدل قيمة أخلاقية، مثله كمثل الصدق، والأمانة، وغيرها من الخصال الكريمة، ولا يمكن أن يكون للعدل مفهوم في دين من الأديان، وله مفهوم آخر مختلف في بقية الأديان، كما أن الصدق لا يمكن أن يعني قول الحق في دين من الأديان، ويعني قول الكذب في دين آخر، أو أن الأمانة هي أن يرد المرء ما استُؤمن عليه إلى صاحب الأمانة عند طلبها، ولكن في دين آخر يكون مفهومها هو أن تُسلب الأمانة. والعدل الذي تعرفه الدنيا كلها هو أنه إذا تحدد أجر معين يتناسب مع تأدية عمل معين، فإن العدل هو تقديم ذلك الأجر دون أي نقصان لمن يؤدي ذلك العمل. وأيضا إذا تقرر تنفيذ عقوبة معينة تتناسب مع ارتكاب جُرم معين، فإن العدل هو تنفيذ هذه العقوبة دون أية زيادة، فيمن يرتكب ذلك الجرم. هذا هو العدل الذي تقوم عليه القوانين والاتفاقيات بين الأفراد وبين الدول، وهو نفسه العدل الذي تعرفه جميع الأديان، سواء كانت أديانا سماوية أو وضعية. فمثلا إذا اتفق طرفان على أن يقوم الطرف الأول بتأدية عمل معين ويتقاضى عليه عشرة قروش من الطرف الثاني، فإن العدل يقتضي أن يدفع الطرف الثاني العشرة قروش المتّفق عليها دون أي نقصان إذا ما أدى الطرف الأول العمل المطلوب منه. فإذا شاء الطرف الثاني أن يدفع للطرف الأول أجرا أكبر مما تم الاتفاق عليه، كأن يدفع خمسة عشر قرشا أو عشرين قرشا، فإن هذا لا يتعارض مع العدل، وإنما يسمى إحسانا، ولا يعني بتاتا أن العدل لم يُطبّق أو أن الاتفاق لم يُنفّذ. كذلك إذا كان القانون ينص على عقوبة معينة تتناسب مع جريمة معينة، مثل عقوبة الحبس ستة شهور مثلا لمن يسرق بضاعة من محل تجاري، فإن العدل يقتضي ألا يتم حبس المجرم أكثر من ستة شهور. أما إذا تم الحكم بحبس المجرم أربعة شهور أو أقل، أو إذا تم العفو عن المجرم نظرا لظروف خاصة تبرر تخفيض العقوبة أو إلغاءها، فإن هذا لا يتعارض مع العدل، وإنما يُسمى رحمة، وذلك لأن الاعتبارات التي اقتضت تخفيض العقوبة أو إلغاءها أكبر وأعظم وأهم من تنفيذ العقوبة، وبالتالي فإن الحكمة تقتضي تنفيذ الأوْلى والأهم قبل المهم، ولا يتعارض هذا مع العدل، بل إنه يتفق مع الحكمة والرحمة. كذلك إذا كان القانون ينص مثلا على تطبيق عقوبة الإعدام على من يقتل إنسانا بريئا، فلا يكون من العدل تطبيق نفس عقوبة الإعدام على من يسرق قالب من الشكولاتة من محل تجاري، ففي هذه الحالة نرى أن العقوبة لا تتناسب مع الجريمة، وعدم تناسب العقوبة مع العدل يتناقض مع العدل.(/42)
ولأن أفكار جناب القمّص عن العدل ليست من وحي السماء، ولا هي من أقوال نبي مُرسل من عند الله، فإنها لا تتفق مع هذه القواعد التي ينبني عليها العدل المعروف لدى الناس والمعمول به في جميع أنحاء العالم. ولذلك راح جناب القمّص وأخذ ينفخ في الخطيئة التي ارتكبها آدم وحواء، وراح يخترع لها القواعد والأسس لكي يعتبرها خطيئة كبيرة مهولة غير محدودة بزعم أنها كانت في حق الله غير المحدود. وقد أثبتنا لجناب القمّص وللمشاهدين الكرام أن المبدأ الذي اخترعه جناب القمّص، أو بالأحرى الذي اخترعته المسيحية التي يدعو إليها جناب القمّص، وهو أن الجرم يُقاس بقيمة الْمُساء إليه، لا أساس له بتاتا في أي دين، ولا في القوانين المعمول بها في العالم، ولا في المعاملات بين الأفراد. إن جناب القمّص يحاول عبثا أن يقنعنا بهذا المبدأ الذي ما أنزل الله به من سلطان، ولا نطق به نبي من أنبياء الله، ولا جاء في أي كتاب من الكتب المقدسة، بل ولم تنص عليه التوراة ولا الأناجيل التي يؤمن بها القمّص وأتباعه. إن العدل الإلهي يختلف تماما عن العدل الذي اخترعه جناب القمّص، كما أن العدل الذي يعرفه العالم ويطبقه يختلف أيضا عن العدل الذي يدّعيه القمّص. إن العدل الحقيقي ينص على أن الجرم يُقاس بمقدار الضرر الذي يسببه وليس بقيمة الْمُساء إليه كما يزعم جناب القمّص. وعلى هذا، فإن العقوبة في كل نظام يقوم على العدل لا بد أن تتناسب مع الضرر الناتج عن الجرم بشرط أن يكون فاعل الجرم على وعي تام بما يفعل. وقد ذكر جناب القمّص مثالا ليؤيد به وجهة نظره فقال إنه إذا أساء إلى الساعي الذي يعمل في مكتبه فأخطأ في حقه، فإنه يستطيع أن يرضيه بأن يعطيه مبلغ خمسين جنيها أو مائة جنيها تعويضا عن الإساءة، ولكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إذا ارتكب نفس الخطأ في حق رئيسه، أو إذا ارتكب نفس الخطأ في حق رئيس الجمهورية، أو إذا ارتكب نفس الخطأ في حق الله تعالى. وقد يكون هذا الكلام صحيحا عند بعض البشر الذين يُفرّقون بين كرامة الإنسان البسيط والإنسان الذي له مكانة عالية في المجتمع. ولكن، عند الله الذي هو العدل المطلق، فإن الإساءة إلى الساعي البسيط تتساوى مع الإساءة إلى أي شخص آخر مهما كان مستواه الاجتماعي. أما جناب القمّص، فيرى أن قيمة الجرم تزيد وتكبر حسب قيمة الْمُساء إليه. ويترتب على كلام القمّص أن قيمة الجرم تتساوى إذا وقع نفس الجرم في حق نفس الشخص، وهذا النوع من العدل لا يمكن أن يكون إلا من فكر ضال ومنطق ساقط وتفكير تافه. وللتدليل على ذلك نقدم المثال التالي: إذا كان جناب القمّص يحمل طفله الرضيع، وحدث أن بال عليه الطفل وبلله، فكل ما سوف يفعله هو أن يعطي الطفل لأمه لتغير له ملابسه، ثم يذهب هو لتغيير ملابسه المبتلة. فإذا جئت أنا وقمت بنفس العمل الذي قام به الطفل، فبللت جناب القمّص، فهل يرى نيافته أن الجرم متساو لأن الشخص الْمُساء إليه في الحالتين هو نفس الشخص، والعمل الذي وقع في الحالتين هو نفس العمل؟ من الواضح أن المنطق الذي يستخدمه جناب القمّص ليس بمنطق على الإطلاق، ولا يقوم على أي أساس سليم من عقل أو من نقل.(/43)
والمشكلة في عقيدة الصلب والفداء التي يقدمها جناب القمّص على أنها من عقائد المسيحية، مع أن المسيحية الحقيقية بريئة تماما من مثل هذه العقائد الخاطئة، هي أنها تدّعي بأنها تقوم على العدل، وتحرص على تطبيق العدل قبل الرحمة، مع أنها تتناقض مع أهم أساس من أسس العدل، وهو أن تكون العقوبة متناسبة مع الجرم. فهل معصية الله، بافتراض أن آدم وحواء قد عصيا الله فعلا، هل هذه المعصية تبرر العقوبة التي يزعم جناب القمّص أن الله طبّقها على آدم وحواء وعلى جميع أفراد الجنس البشري، وهي الموت الروحي بمعنى الانفصال عن الله، والموت الأدبي بمعنى نوال الخزي والعار، ثم بعد ذلك العذاب الأبدي المتواصل بلا انقطاع في نار جهنم الأبدية؟ هل هذا هو العدل الذي يحدثنا عنه جناب القمّص؟ هل هذا هو العدل الذي تُعلمنا إياه المسيحية؟ هل هذا هو العدل الذي يتفق مع محبة الله؟ تصوروا مثلا الأم التي تُعلّم طفلها الصغير المشي، فتشرح له كيفية المشي، ثم تقول له إذا لم تتبع أمري في المشي وسقطت فسوف ألقي بك من النافذة عقابا لك، فهل تُعتبر مثل هذه الأم إنسانة عاقلة، تتبع قواعد العدل وأحكامه؟ وإذا وضع أحد الملوك قانونا بأن من يخطئ في حق الملك يعتبر مخطئا في حق جميع أفراد المملكة، وبالتالي يكون عقابه أن يقوم كل فرد في المملكة بضربه ضربا مبرحا متواصلا بلا انقطاع، فهل يوافق جناب القمّص على أن تصرّف هذا الملك يتفق مع قواعد العدل الذي يؤمن به؟ وهل يوافق أخواننا المسيحيون على أن المسيحية التي يؤمنون بها تعتبر هذا التصرّف تصرفا عادلا يتفق مع العدل الذي يرضون أن يتصف به الله تعالى الذي تقوم كل أعماله على المحبة؟ أجيبونا يا سادة، أو على الأقل أجيبوا ضمائركم وعقولكم، وما لا ترضون به لأنفسكم فلا تنسبوه إلى الله، وما لا تعتبرونه عدلا فلا تصفوا به الله.
وإذا كان هذا هو العدل الذي يَرضَى جناب القمّص بإلصاقه بالله تعالى، فهل تحقق هذا العدل بالفعل؟ هل نفذ الله العقوبة في الشخص الذي ارتكب الجرم، كما تقتضي قواعد العدل المعمول به في جميع الأديان السماوية، وكما تقتضي قواعد العدل المعمول به في جميع القوانين البشرية؟
إن جناب القمّص يعترف بنفسه أن العدل الذي يتشدق به، ويصر على أن يكون فوق الرحمة، ويؤكد على ضرورة تنفيذه قبل أن يتمكن الله تعالى من استخدام صفة الرحمة الموجودة فيه، هذا العدل لم يتم تنفيذه لأنه لم يُنفذ في الجاني، وإنما تم تنفيذه في إنسان بريء لم يرتكب إثما ولم يقترف جُرما، هو السيد المسيح u. فهو حسب كلام جناب القمّص "إنسان، زيي وزيّك، ولكن بدون خطية، وحل فيه اللاهوت الغير محدود". وقد يظن البعض أنه ما دام اللاهوت الغير محدود قد حل فيه، فإن هذا اللاهوت هو الذي تحمّل العقوبة حتى يتم تنفيذ العدل الذي يحدثنا عنه جناب القمّص، ولكننا نُفاجأ بأن اللاهوت لم يتحمّل أي شيء، ولم يعانِ من أي شيء، ولم يمسه أي شيء، وإنما الذي تحمّل كل شيء هو الإنسان، والذي عانى من الآلام كلها هو الإنسان، والذي دفع الثمن وقدم العوض حسب المفهوم المسيحي هو الإنسان، والذي وقعت عليه اللعنة حسب نص التوراة وحسب ما يقوله بولس هو الإنسان، أما اللاهوت فلم يتأثر بأي شيء من هذا كله. إذ يخبرنا جناب القمّص أن مَثَل اللاهوت والناسوت كمثل النار والحديد، فإذا وضعنا الحديد في النار، نجد أن الحديد يتأثر بالنار، وبذلك يمكن أن نطرق الحديد ونشكّله، ولكن تظل النار كما هي لا تتأثر بالطرق، بل إنها تظل محتفظة بكل خواصها، فهي تلسع وتحرق، ولكنها لا تتأثر بالحديد وما يحدث له، بل إن النار لا تختلط بعنصر الحديد، ولا يتحوّل عنصر الحديد إلى نار. أي أن اللاهوت يظل كما هو لاهوت، ويظل الناسوت أيضا كما هو ناسوت. وهذا يعني أن الذي تأثر بالصلب وما صاحبه من آلام وموت وقيامة ولعنة وغيرها، بافتراض أن كل هذا قد حدث فعلا، هو الناسوت. أما وجود اللاهوت فلم يكن إلا كالعامل المساعد الذي يساعد على حدوث التفاعل ولا يتأثر به.
وما دام قد تبين أن اللاهوت لم يتأثر بالصلب، وأنه بالتالي لم يتأثر بالموت، فهذا يعني أن الذي تأثر بالصلب وتأثر بالموت وتأثر باللعنة هو الناسوت وحده فقط، وهو مجرّد إنسان لا حول له ولا قوة، ولا دخل له في ترتيب عملية الصلب والفداء. بل إن التجسد، بافتراض أنه وقع، قد وقع له دون استشارته ودون استئذانه ودون موافقته. وأنا أتحدى جناب القمّص، وكل فريق العمل الذي يعمل معه ويُعد له البرامج التي يقدمها، أتحداهم جميعا أن يقدموا دليلا من العهد القديم أو من الأناجيل الأربعة على أن الجانب الإنساني في شخصية المسيح، أي الناسوت كما يقولون، قد تم استشارته في عملية التجسد، وأنه قدم موافقته عليها، وأن هذا التجسد المزعوم قد تم بعد أن وافق عليه يسوع الناسوت.(/44)
وبطبيعة الحال، فإن جناب القمّص وفريق العمل الذي يعمل معه سوف يسرع لكي يشنّف آذاننا بإسماعنا الجملة التي يحلو لهم ذكرها وتكرارها في هذه المناسبة، وهي التي جاءت في إنجيل يوحنا وتقول: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا 16:3). وكأني بهم يقولون: انظر، إن المسيح هو ابن الله الذي بذله لكي لا يهلك كل من يؤمن به، والذي يقول هذا الكلام هو المسيح نفسه، مما يدل على أنه يوافق على ما حدث، وإلا لكان قد سجّل اعتراضه. والرد على هذا هو أن الذي يتكلم والذي قال هذه الجملة هو اللاهوت وليس الناسوت، وذلك حسب كلام القمّص نفسه، وحسب كلام إنجيل يوحنا نفسه، الذي ذكر أن الكلمة كان عند الله وأن الكلمة كان الله، وأنه هو الذي تجسد، إذ يقول إنجيل يوحنا (14:1): "الكلمة صار جسدا وحل بيننا". ولكن أين الدليل على أن المسيح الإنسان أو الناسوت هو الذي يتكلم؟ أين الدليل على أن الناسوت كانت له إرادة مستقلة عن إرادة اللاهوت؟ وما هي الشواهد من الكتاب المقدس على أن الناسوت لم يكن خاضعا لنفوذ اللاهوت وتحت سيطرته؟
وتسأل السيدة ناهد متولي جناب القمّص سؤالا في غاية الأهمية، فتقول:
"السؤال المهم جدا.. يقولون: ما ذنب المسيح البريء حتى يدفعه الله للصلب عن الناس؟ يعني معروف إن السيد المسيح مالوش خطية، وإنسان طاهر وبريء، ذنبه إيه يتصلب عن الناس"؟ ويرد عليها جناب القمّص فيقول: "سؤال وجيه.. سؤال وجيه، يعني هل ده يبقى ربنا عادل.. إن هوه يدفع واحد بريء بدل الناس الأشرار"؟
ونتوقع من جناب القمّص أن يسرد على مسامعنا الأدلة من الكتاب المقدس إجابة على هذا السؤال الهام، ولكنه يفاجئنا بأنه يستخرج أدلته من القرآن المجيد، مما يدل على أنه لا يوجد أي إجابة في الكتاب المقدس على سؤال السيدة ناهد. ولا عجب بالطبع أن يخلو العهد القديم والأناجيل الأربعة من إجابة على هذا السؤال، لأن هذا السؤال لم يكن له ما يبرره في العهد القديم ولا في الأناجيل الأربعة، وإنما أصبح له ما يبرره بعد أن اخترع بولس فكرة الفداء وتبرير موت المسيح على الصليب التي اقتضت تجسد الله وبالتالي فكرة التثليث. ولكن على أي حال.. لقد استعان القمّص بالقرآن المجيد، فماذا كانت إجابته؟ يقول:
"سورة البقرة آية 60 تقول: ]كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ[ يقتلون النبيين بغير الحق يعني إيه؟ بيعملوا إيه في النبيين؟ بيقتلوهم، مش كده؟ طب وازّاي ربنا يسمح بقتل النبيين وهم أبرياء"؟ ويضحك جناب القمّص ضحكة الزهو والانتصار، ثم يستكمل حديثه فيقول: "تاني.. حتة تاني.. البقرة آية 86 ]أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ[ بيكلم اليهود، ]أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ[ بيقتلوا الأنبياء؟ يعني قتل الأنبياء جائز وهم أبرياء، وقتل المسيح مش جائز بقى؟ مش انتوا بتقولوا المسيح نبي؟ طب أهو اتقتل، فيها إيه"؟ فتقول السيدة ناهد متولي وهي تضحك: "يعني مش أول واحد"، فيؤكد القمّص بقوله: "مش أول واحد.. مش أول واحد بريء، ولكن الله بيكافئ النبي، وسوف يدين الظالم والقاتل، O.K.؟"
هذه هي الإجابة التي قدمها جناب القمّص على السؤال الذي وجّهته إليه السيدة ناهد متولي، وقد آثرت أن أنقلها بنصها ولفظها حتى يتبين المشاهد أني لا أتقوّل شيئا ولا أنسب قولا لجناب القمّص. إن الصبي الصغير يستطيع أن يرى الخلل والخطل في كلام القمّص، ولذلك فإن الإنسان ليعجب، أشد العجب، أية غشاوة تلك التي على عيون هؤلاء حتى إنهم لا يرون الخطأ الواضح في هذا المنطق المغلوط!! إن السؤال هو: ما ذنب المسيح البريء حتى يدفعه الله للصلب عن الناس؟ فكيف تكون الإجابة هي أن قتل الأنبياء جائز؟ ألا يعلم هؤلاء أن الذين قتلوا الأنبياء كانوا من الكافرين والفاسقين والظالمين، فكيف يتساوى فعل هؤلاء مع فعل الله تعالى؟ ألا يعلم هؤلاء أن الله لا يمكن أن يقوم بأعمال الكفرة والفسقة والظلمة؟ ألا يعلم هؤلاء أن هناك فرقا بين أن يسمح الله تعالى بقتل الأبرياء سواء كانوا من الأنبياء أو من البشر العاديين، وبين أن يخطط الله ويدبر ويدفع نبيا لكي يُقتل ظُلما على الصليب؟ إن الله يسمح بوقوع الشر والظلم لأنه قدّر أن يكون للإنسان إرادة حرة يستعملها إذا شاء لمقاومة الشر وتلافي الظلم، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان الإنسان مسؤولا عن أعماله، ولانتفى أيضا وجود الشر، لأن الله لا يفعل إلا الخير، ولا يأمر إلا بالخير.(/45)
غير أن جناب القمّص يريد منا أن نصدق أن الله تعالى والعياذ بالله كان يدبر الشر، وكان يخطط لكي يُقتل المسيح على الصليب. جناب القمّص يريد منا أن نؤمن كما يؤمن هو، وكما تؤمن المسيحية التي يدعونا إليها، أن الله تعالى الذي يقول عنه إنه عادل، يمكن أن يدفع بإنسان بريء لكي يموت على الصليب، ولا يرى أن هذا العمل يتنافى مع العدل، ولا يعتبر أنه عين الظلم الذي لا يمكن أن يُنسب إلى الله تعالى ولا يليق به. جناب القمّص يريد منا نحن المسلمين أن نؤمن بدين ينسب إلى الله تعالى نفس الفعل الذي يقوم به الظالمون والعصاة الأشرار، وهو قتل الأنبياء الأبرياء، فيا للمأساة.. ويا للكارثة!! يبدو أنه في المسيحية التي يؤمن بها جناب القمص لا مانع ولا غضاضة من أن يبعث المدّعي العام أو ممثل النيابة بالمتهم إلى حبل المشنقة وهو يعلم أنه بريء. يبدو أن جناب القمّص ومن يتبعونه لا يرون أي غضاضة في تصرّف بعض الأشرار الذين يدفعهم الشيطان لقتل نبي بريء، ولذلك فإنهم لا يستبعدون أن يدفع الله أيضا بعض الأشرار لقتل نبي بريء. ألا يعلم هؤلاء أنهم يساوون بذلك بين فعل الله وفعل الشيطان؟ ثم بعد ذلك يقول لنا جناب القمّص: "ولكن الله يكافئ النبي، وسوف يدين الظالم والقاتل"، فبأي حق يدين الظالم والقاتل، بينما هو نفسه، حسب زعم جناب القمّص ومسيحيته التي يؤمن بها، هو الذي خطط ودبّر ودفع الظالم والقاتل ليقتل المسيح على الصليب، فهو الذي دبّر خطة الفداء المزعوم لكي يتم سفك دم هذا الإنسان البريء لكي يستطيع هو أن يغفر للبشر الحكم الجائر الذي أصدره، أو بالأحرى، الذي أصدره جناب القمّص على البشرية بأكملها بالعذاب الأبدي المتواصل في أتون جهنم النار الأبدية بلا توقف وبغير انقطاع، وذلك لمجرد أن اثنين من مخلوقاته أخطآ وعصيا أمره.
أي عدل هذا الذي تتحدثون عنه وتنسبونه لله تعالى يا جناب القمّص؟ إن عدلكم هذا يقوم على أربعة أسس كلها خاطئة وكلها تتنافى مع العدل الحق، وهي كما يلي:
1) عندكم يُقاس الجرم بقيمة الْمُساء إليه، بينما يقوم العدل الحقيقي على أن الجرم يقاس بمقدار الضرر الذي يتسبب عنه، وليس بقيمة الْمُساء إليه.
2) عندكم لا تتناسب العقوبة مع الجرم، بينما يقوم العدل الحقيقي على ضرورة تناسب العقوبة مع الجرم.
3) عندكم تُنفذ العقوبة في إنسان بريء، بينما يقوم العدل الحقيقي على ضرورة تنفيذ العقوبة في من ارتكب الجرم، أو في العفو عنه في الظروف التي تقتضي العفو.
4) عندكم يتصرف الله تعالى مثل الشيطان، والعياذ بالله، فيدفع الأشرار من الناس لقتل إنسان بريء، وذلك حتى تنجح خطته التي وضعها من أجل تحقيق الفداء، بينما لا يليق بالإنسان السوي أن يتصرف مثل الشيطان، فليس من العدل أن يتشبه الإنسان بالشيطان، ناهيك أن يفعل ذلك الله تعالى الذي هو العدل المطلق.
فإذا كان هذا هو العدل الذي ترضى به يا جناب القمّص، وإذا كان هذا هو العدل الذي تقول به المسيحية التي تفتخرون بها، فنحن نقول لكم: هنيئا لكم هذا العدل، وهنيئا لكم هذه المسيحية، ولكن احتفظوا بها لأنفسكم. أما نحن معشر المسلمين، فنحن نبرأ إلى الله تعالى من هذه الصيغة الساقطة المخزية لمفهوم العدل، ولا نملك إلا أن ندعو لكم الله الهادي أن يهديكم لتتعلموا المعنى الصحيح للعدل الحق، وتعرفوا الإله العدل الحق، وتقبلوا دين العدل والحق(/46)
الرد على الأحمدية حول حقيقة الإسراء والمعراج
فؤاد العطار
Anti_ahmadiyya@yahoo.com
يتلخص كلام القاديانيين المأخوذ عن خليفتهم الثاني في نقطتين:
(1) الإسراء و المعراج حادثتان منفصلتان
(2) الإسراء و المعراج لم تكونا بالجسد بل كانتا بالكشف الروحاني
و هاتان النقطتان هما خلاف قديم جداً حول هذه المسألة فقد قال بهذا القول قلة قليلة من السلف و الخلف، و هم بهذا خالفوا الصواب و رأي الجمهور. و القاديانيون تبنوا هذا الرأي لأنهم شغوفون بتحويل كل معجزة في القرآن إلى رؤيا منامية، و من ذلك قصة موسى عليه السلام و الخضر و قصة عصى موسى عليه السلام إلخ. و ما تبنيهم لهذا الرأي إلا ليدافعوا عن خلو جعبة الميرزا من أية آية حقيقية تدعم دعاويه المتهافتة.
أما النقطة الأولى فليس فيها كثير شذوذ، لكنها مردودة لأنها تخالف الأحاديث الصحيحة التي ذكرت الإسراء و المعراج كحادثة واحدة، و منها ما رواه البخاري و غيره في صحيحه (( أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به بينما أنا في الحطيم وربما قال في الحجر مضطجعا إذ أتاني آت فقد قال وسمعته يقول فشق ما بين هذه إلى هذه فقلت للجارود وهو إلى جنبي ما يعني به قال من ثغرة نحره إلى شعرته وسمعته يقول من قصه إلى شعرته فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض فقال له الجارود هو البراق يا أبا حمزة قال أنس نعم يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح فقيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية......)).
و أما النقطة الثانية فمردودة لأنها تخالف ظاهر الآيات الكريمة (سُبْحانَ الَّذِيْ اَسْرَى بِعَبْدِه) فالتسبيح لا يكون إلا للأمور العظيمة، و ليس في الرؤيا أمراً خارقا. ثم إن قوله (بعبده) دليل ظاهر على إسراء الروح و الجسد لأن العبد هو مجموع الروح و الجسد. و كذلك قوله تعالى (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) دليل ظاهر على إسراء الجسد، فالبصر من أدوات الجسد لا الروح.
و قد حاول القاديانيون أن يجعلوا الكشف أمراً خارقاً للعادة فقالوا ((والكشف أو الرؤيا.. تحدث للإنسان المصطفى وهو في حالة اليقظة الكاملة... يرى الشيء ويعي أحداث الكشف.. وحده في خلوة بعيدا عن الناس، أو أمام الناس ولا يدرون بما يجري معه، أو أمام الناس ومعهم ويشتركون مع).(
قلت: لا أدري ما هو الفرق العظيم بين الرؤيى المنامية و الخيالات التي في اليقظة!؟ هل إثبات أن الإسراء و المعراج كانا خيالات في اليقظة يبرر تكذيب الكفار لهذه الحادثة؟! إن التمسك بهكذا حجج سقيمة دليل على خلو جعبة القوم من أية أدلة شرعية أو عقلية.
و الأدهى من ذلك تعديدهم لأنواع الكشف الروحاني و كأن الله سبحانه قد أطلعهم على تفاصيله، و ادعاؤهم أن حادثة تمثل جبريل عليه السلام بالبشر و سؤاله عن الإيمان و الإسلام و الإحسان كان كشفاً جماعياً رآه الرسول (ص) و الصحابة معاً !! و كذلك ادعؤهم أن قصة موسى عليه السلام مع الخضر هي عبارة عن كشف زمني رآه موسى عليه السلام، ففتى موسى هو عيسى (ع)، و الخضر هو محمد (ص) !! أقول: إن هكذا تأويلات سخيفة هي دليل كاف على باطنية هذه النحلة القاديانية و على عدم انتمائها إلى الإسلام.
أما الملاحظ في تفسيرات القاديانيين بشكل عام فهو خلطهم بين الأحاديث الصحيحة و الضعيفة و الموضوعة و الإستدلال بما يشاؤون منها، فلا ضير عندهم من طرح معنى ظاهر في حديث صحيح و ذلك لمخالفته حديثاً أو أثراً موضوعاً. و هذا يدل على أن القوم لا يبالون بمعرفة الحق بل بإثبات ما تشتهيه نفوسهم المريضة و عقولهم السقيمة.
و يلاحظ أيضاً تخبطهم في الإستدلالات و التفسيرات، فمثلاً في تفسيرهم للمسجد الأقصى في آية الإسراء تجدهم يجمعون ثلاثة تأويلات دفعة واحدة و هي:
(1) المسجد الأقصى هو مسجد الرسول (ص) في المدينة المنورة، فقالوا ((لذلك نعتها الله.. أي المدينة المنورة.. بالمسجد الأقصى من حيث القدسية والبركة)).
(2) المسجد الأقصى هو بيت المقدس. فقالوا ((والمسجد الأقصَى يشير أيضا إلى بيت المقدس نفسها)).(/1)
(3) المسجد الأقصى هو مسجد الغلام في قاديان. فقالوا ((هذا وإن إسراء الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى المسجد الأقصى يشير أيضا إلى أنه عندما تضعف شوكة الإسلام، وتغطي الأرض ظلمة الهجران لكتاب الله ودينه وشرعه، وعندما يلقي المسلمون بأنفسهم تحت سيطرة الغرب الصليبي.. تسري بركات المصطفى (صلى الله عليه وسلم) إلى رجل من أمته.. هناك في أقصى بلاد الإسلام ........)) إلى قولهم ((وسوف تبدو عزة الله تعالى وحكمته في إحياء الإسلام وتجديده ببركة محمد صلى الله عليه وسلم في بعثته الثانية وعلى يد الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام)).
و في النقطة الثالثة حاول القاديانيون حشر تفسير غلامهم الدجال حول المقصود بالمسجد الأقصى في سورة الإسراء، حيث يقول الغلام في كتابه (خطبة إلهامية) ما يلي:
http://img144.imageshack.us/img144/7157/alaqsainqadian4vppn4.jpg
قلت: إن كل هذا التخبط لا يعكس إلا تخبط عقول هؤلاء في الغي و الباطنية و السخافة، و لا أرى حاجة في الرد على هكذا تخبط فعرضه على الناس كاف لفضح شذوذ أصحابه و عبادتهم لأهوائهم.
أما بخصوص النقطتين الأولى و الثانية في بداية حديثي فلا أرى التركيز عليها في الرد على القاديانية، لأنهما ليستا من خصائص القاديانية وحدها، فقد قال بهذا القول بعض الناس من قبل و من بعد.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(/2)
الرد على الحزب الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله وعلى اله و صحبه و من والاه و بعد
فقد و قع في يدي مطوية للحزب الإسلامي بعنوان(ماذا يعني انتمائي الى لحزب الإسلامي؟ ) ولعلك أخي القارئ الكريم الفطن تجيب على هذا السؤال بعد قراءة هذه السطور ان شاء الله.
و قد قرأت فيها و الله عجبا:موبقات و طامات تسر أعداء الله و تحزن و تقلق أوليائه،وكنت أظن أن حكاية قولهم يغني عن رده و لكن-ومع الأسف-مرت كلماتهم المعسولة المسمومة على كثير من إخواننا المصلين الذين سلموا زمام أمرهم لمن و ثقوا بهم و بعلمهم و أحبوهم في الله و لله، ولهذا قررت أن أكتب هذه الكلمات نصحا لإخواننا و ذبا و ذودا عن دين الله من تحريف الحزبيين الجدد.
بأدلة القران أبطل سحركم ...... وبه أزلزل كل من يلقاني
هو ملجئي هو مدرئي هومنجني...... من كيد كل منافق خوان
قالوا:
1-( وليس لدى المسلمين أية نظرة عدوانية أو استعلائية لبقية الشعوب أو الديانات )
هذه و الله كلمات شرك و ردة لا ينطق بها إلا رقيق دين لا خلاق له في الإسلام،
أما علمتم أن (أوثق عرى الإيمان الحب في الله و البغض في الله)،
أما قرأتم كتاب الله(لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)المجادلة(22)
الله أكبر،أبجرة قلم تهدمون ركن الإسلام العظيم : الولاء و البراء حقا إنكم لترومون أمرا عظيما جسيما و لكن هيهات هيهات (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)الحجر(9)
الله أكبر،أين أنتم من هؤلاء الفجرة الذين يسبون الله و ينسبون له الزوجة و الولد؟!.
الله أكبر ألا تعادون من قتلوا الأنبياء و حرفوا دين الله؟
الله أكبر ألا تعادون من لعن على لسان داود و عيسى بن مريم؟
الله أكبر، ألا تعادون من عادى الله و أبغض؟
الا تكفرون بالطاغوت؟
(ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله و اجتنبوا الطاغوت..)
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ:أجمع العلماء سلفا وخلفا من الصحابة والتابعين و الأئمة و جميع أهل السنة أن المرء لا يكون مسلما إلا بالتجرد من الشرك الأكبر و البراءة منه)الدرر(545:11)
بعد أن كرمنا الله بالإسلام تريدون منا أن لا نستعلي على الجاهليين؟
أبعد أن كرمنا الله بالإسلام تريدون منا أن لا نستعلي على من قال فيه ربنا(أولئك كالأنعام بل هم أضل)
اين أنتم من كلام السيد-رحمه الله-: إن أولى الخطوات إلى طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته ، وألا نعدِّل في قيمنا وتصوراتنا قليلاً أو كثيرًا لنلتقي معه في منتصف الطريق .كلا ! إننا وإياه على مفرق الطريق ، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق ! (المعالم)
أتظنون أنا نعادي هؤلاء لأنهم قتلوا إخواننا ودنسوا أرضنا و هتكوا أعراضنا و نهبوا خيراتنا فقط؟، لا و الله انا نعاديهم لاجل ذا و لاعظم من ذا أن جريمتهم الكبرى هي الشرك بالله، انهم يسبون ربنا الذي خلقنا و علمنا و هدانا، انهم يحاربون دينه و يصدون عن سبيله(قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)التوبة(29)
وهذه كلمات نافعات لشيخ من شيوخ الإسلام ممن فدى دينه بنفسه و ما غير و لا بدل،يقول الشيخ الشهيد-نحسبه ولا نزكيه على الله- سليمان بن عبد الله آل الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم رحمك الله : أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم ، خوفاً منهم ومدارة لهم , ومداهنة لدفع شرهم(ولعل هذه هي حجج كبرائكم) , فإنه كافر مثلهم ؛ وإن كان يكره دينهم ويبغضهم , ويحب الإسلام والمسلمين , وهذا إذا لم يقع منه إلا ذلك , فكيف إذا كان في دار مَنَعَة واستدعى بهم , ودخل في طاعتهم وأظهر الموافقة على دينهم الباطل , وأعانهم عليه بالنصرة والمال ووالاهم , وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين , وصار من جنود القباب والشرك وأهلها(جنود أمريكا و الطاغوت اليوم) ؛ بعد ما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله .(/1)
فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر , من أشد الناس عداوة لله ولرسوله ( , ولا يستثني من ذلك إلا المكره , وهو الذي يستولي عليه المشركين , فيقول له : أكفر أو افعل كذا و إلا فعلنا بك وقتلناك ، أو يأخذونه فيعذبوه حتى يوافقهم ، فيجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان ، وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلاً : أنه يكفر ، فكيف بمن أظهر الكفر خوفاً وطمعاً في الدنيا , وأنا أذكر بعض الأدلة على ذلك بعون الله وتأييده .
الدليل الأول : قوله تعالى : {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } فأخبر تعالى أن اليهود والنصارى , وكذلك المشركين ، لا يرضون عن النبي ( حتى يتبع ملتهم ويشهد أنهم على حق , ثم قال تعالى : {قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير } [ البقرة : 120 ] وفي الآية الأخرى {إنك إذاً لمن الظالمين} [ البقرة : 145 ] .
فإن كان النبي ( لو يوافقهم على دينهم ظاهراً من غير عقيدة القلب , لكن خوفاً من شرهم ومداهنة , كان من الظالمين , فكيف بمن اظهر لعبَّاد القبور والقباب(وامريكا و الروافض وطواغيت العرب) , أنهم على حق وهدى مستقيم , فإنهم لا يرضون إلا بذلك .
الدليل الثاني : قول تعالى : {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [ البقرة : 217 ]فأخبر تعالى أن الكفار لا يزالون يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا , ولم يرخص في موافقتهم خوفاً على النفس والمال والحرمة .
بل أخبر عمن وافقهم بعد أن قاتلوا ليدفع شرهم , أنه مرتد , فإن مات على ردته بعد أن قاتله المشركين , فإنه من أهل النار الخالدين فيها , فكيف بمن وافقهم من غير قتال ؟(كحال الحزب الاسلامي اليوم!) فإذا كان من وافقهم بعد أن قاتلوا لا عذر لهم من غير خوف ولا قتال , أنهم أولى بعدم العذر , وأنهم كفار مرتدون .
الدليل الثالث : قوله تعالى : {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا تقاة } [ آل عمران : 28 ] فنهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصدقاء و أصحاباً من دون المؤمنين , وإن كانوا خائفين منهم , وأخبر أن من فعل ذلك فليس من الله في شيء , أي : لا يكون من أولياء الله الموعودين بالنجاة في الآخرة {إلا تتقوا منهم تقاة }.
وهو : أن يكون الإنسان مقهوراً معهم , لا يقدر على عدواتهم , فيظهر لهم المعاشرة (لا التدين بدينهم كما يفعل الحزب الاسلامي اليوم من التدين بدين الغرب الديمقراطية)وقلبه مطمئن بالبغضاء و العدواة , وانتظار زوال المانع , فإذا زال رجع إلى العدواة والبغضاء , فكيف بمن اتخذهم أولياء من دون المؤمنين من غير عذر , إلا استحباب الدنيا على الآخرة , والخوف من المشركين , وعدم الخوف من الله ؟ فما جعل الله الخوف منهم عذراً , بل قال تعالى : {إنما ذالكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم و خافون إن كنتم مؤمنين}[ آل عمران : 175 ] .
الدليل الرابع : قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين }[ آل عمران : 149] فأخبر تعالى : أن المؤمنين إن أطاعوا الكفار(سواء كانوا أعضاء في الامم المتحدة أو الجامعة العربية أو غيرها) فلا بد أن يردوهم على أعقابهم عن الإسلام ، فإنهم لا يقنعون منهم بدون الكفر , وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك صاروا من الخاسرين في الدنيا والآخرة , ولم يرخص في موافقتهم وطاعتهم خوفاً منهم .
وهذا هو الواقع , فإنهم لا يقنعون ممن وافقهم إلا بالشهادة أنهم على حق , وإظهار العداوة والبغضاء للمسلمين , وقطع اليد منهم(وقد تبرأ مسيئكم من المجاهدين و سمى الجهاد أعمال عنف) ؛ ثم قال تعالى : {بل الله مولاكم وهو خير الناصرين}[ آل عمران : 150 ] . فأخبر تعالى أنه ولي المؤمنين وناصرهم , وهو خير الناصرين , ففي ولايته وطاعته كفاية , وغنية عن طاعة الكفار , فيا حسرة على العباد الذين عرفوا التوحيد و نشؤوا فيه , ودانوا به زماناً , كيف خرجوا عن ولاية رب العالمين وخير الناصرين , إلى ولاية القباب وأهله(وأمريكا و عملائها) , ورضوا بها بدلاً من ولاية من بيده ملكوت كل شيء , بئس للظالمين بدلاً .(/2)
الدليل الخامس : قوله تعالى : {أفمن اتباع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم و بئس المصير }[ آل عمران : 162 ] فأخبر تعالى أنه لا يستوي من اتبع رضوان الله , ومن اتبع ما يسخطه و مأواه جهنم يوم القيامة , ولا ريب أن عبادة الرحمن وحده ونصرها , وكون الإنسان من أهلها من رضوان الله , وأن عبادة القباب والأموات , ونصرها والكون من أهلها , مما يسخط الله , فلا يستوي عند الله من نصر توحيده ودعوته بالإخلاص , وكان مع المؤمنين , ومن نصر الشرك ودعوة الأموات , وكان مع المشركين (ولعلهم عندمشائخ الحزب الاسلامي يستوون).
فإن قالوا خفنا , قيل لهم كذبتم , وأيضاً : فما جعل الله الخوف عذراً في اتباع ما يسخطه , واجتناب ما يرضيه و وكثيراً من أهل الباطل : إنما يتركون الحق خوفاً من زوال دنياهم ، و إلا فيعرفون الحق ويعتقدونه , ولم يكونوا بذلك مسلمين .
الدليل السادس : قوله تعالى : {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كن مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأوهم جهنم وساءت مصيراً } [ النساء : 97] أي : في أي فريق كنتم ؟ أفي فريق المسلمين , أم في فريق المشركين ؟ فاعتذروا عن كونهم لم يكونوا في فريق المسلمين بالاستضعاف , فلم تعذرهم الملائكة { قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأوهم جهنم وساءت مصيراً }.ولا يشك عاقل : أن أهل البلدان الذين خرجوا عن المسلمين ، وصاروا مع المشركين , وفي فريقهم وجماعتهم , أعظم ممن ترك الهجرة مشحة بوطنه وأهله وماله , هذا مع أن الآية نزلت في أناس من أهل مكة ، أسلموا أكرهوهم على الخروج معهم , فخرجوا خائفين , فقتلهم المسلمون يوم بدر ، فلما علموا بقتلهم تأسفوا , وقالوا : قتلنا إخواننا , فأنزل الله فيهم هذه الآية .
فكيف بأهل البلدان , الذين كانوا على الإسلام , فخلعوا ربقته من أعناقهم ، وأظهروا لأهل الشرك الموافقة على دينهم , ودخلوا في طاعتهم وآووهم ونصروهم , وخذلوا أهل التوحيد , وابتغوا غير سبيلهم و خطؤوهم , وظهر فيهم سبهم وشتمهم وعيبهم والاستهزاء بهم , وتسفيه رأيهم في ثباتهم على التوحيد , والصبر عليه وعلى الجهاد فيه(كأن الشيخ رحمه الله يصف حال حزبكم اليوم) , وعاونهم على أهل التوحيد طوعاً لا كرهاً , واختباراً لا اضطراراً ؛ فهؤلاء أولى بالكفر والنار , من الذين تركوا الهجرة شحاً بالوطن , وخوفاً من الكفار , وخرجوا في جيشهم مكرهين خائفين .
فإن قال قائل : هلا كان الإكراه على الخروج عذراً للذين قتلوا يوم بدر ؟ قيل : لا يكون عذراً , لأنهم في أول الأمر لم يكونوا معذورين , إذ أقاموا مع الكفار , فلا يعذرون بعد ذلك الإكراه , لأنهم السبب في ذلك , حيث أقاموا معهم وتركوا الهجرة .
الدليل السابع : قول تعالى : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جماع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً } [ النساء : 140] فذكر تعالى : أنه نزل على المؤمنين في الكتاب , أنهم إذا سمعوا آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها , فلا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره , وأن من جلس مع الكافرين فهو مثلهم , ولم يفرق بين الخائف وغيره إلا المكره (ولا أظن أن أحدا أكره مسئ عدو الحميد(أمين حزبكم)على الجلوس على طاولة مجلس الكفار الانتقالي), وهذا وهم في بلد واحد في أول الإسلام .
فكيف بمن كان في سعة الإسلام وعزه وبلاده , فدعا الكافرين بآيات الله المستهزئين بها إلى بلاده , واتخذهم أولياء وأصحابا وجلساء , وسمع كفرهم واستهزاءهم وأقرهم , وطرد أهل التوحيد و أبعدهم ؟!
الدليل الثامن : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [ المائدة : 51 ] فنهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء , وأخبر أن من تولاهم من المؤمنين فهو منهم , وهكذا حكم من تولى الكفار من المجوس و عباد الأوثان فهو منهم .
فإن جادل مجادل : في أن عبادة القباب , ودعاء الأموات مع الله ليس بشرك(وتحكيم غير شرع الله ليس بشرك) , وأن أهلها(زملائكم الرافضة في مجلس الكفر) ليسوا بمشركين , بَان أمرُه , و اتضح عناده وكفره ؛ ولم يفرق الله تعالى بين الخائف وغيره , بل أخبر الله تعالى : أم الذين في قلوبهم مرض يفعلون ذلك خوفاً من الدوائر , فزال ما في قلوبهم من الإيمان بوعد الله الصادق , بالنصر لأهل التوحيد , فبادروا وسارعوا إلى الشرك , خوفاً أن تصيبهم دائرة , قال تعالى : { فعسى الله أن يأتي بالفتح من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } [ المائدة : 52 ] .(/3)
الدليل التاسع : قوله تعالى : { ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون } [ المائدة : 80 ] . فذكر تعالى : أن موالاة الكفار موجبة لسخط الله , والخلود في النار , بمجردها , وإن كان الإنسان خائفاً , إلا المكره بشرطه , فكيف إذا اجتمع ذلك مع الكفر الصريح , وهو معاداة التوحيد وأهله , والمعاونة على زوال دعوة الله بالإخلاص , وعلى تثبيت دعوة غيره ؟! .(الله أكبر ألا تفقهون يا أعداء أنفسكم؟!)
الدليل العاشر : قوله تعالى : { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون } [ المائدة : 81 ] فذكر تعالى : أن موالاة الكفار , منافية للإيمان بالله والنبي , وما أنزل إليه , ثم أخبر : ن سبب ذلك كون كثير منهم فاسقين , ولم يفرق بين من خاف الدائرة ومن لم يخف , وهكذا حال كثير من هؤلاء المرتدين قبل ردتهم , كثير منهم فاسقون ؛ فجر ذلك إلى موالاة الكفار , والردة عن الإسلام ، نعوذ بالله من ذلك .
الدليل الحادي عشر : قوله تعالى : { إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } [ الأنعام : 121 ] وهذه الآية نزلت لما قال المشركون : تأكلون ما قتلتم , ولا تأكلون ما قتل الله , فأنزل الله هذه الآية , فإذا كان من أطاع المشركين في تحليل الميتة مشركاً , من غير الفرق بين الخائف وغيره , إلا المكره , فكيف بمن أطاعهم في تحليل موالاتهم , والكون معهم , ونصرهم , والشهادة أنهم على حق , واستحلال دماء جماعة المشركين ؟ فهؤلاء أولى بالكفر والشرك , ممن وافقهم على أن الميتة حلال .
الدليل الثاني عشر : قوله تعالى : {واتلوا عليهم نبأ الذي آتيناه آيتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } [ الأعراف : 175 ] وهذه الآية نزلت في رجل عالم عابد , في زمان بني إسرائيل ، يقال له : (( بلعام )) وكان يعلم الاسم الأعظم ؛ (و لعل الرجل أعلم من مسيء عدو الحميد)قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : لما نزل بهم موسى عليه السلام – يعني بالجبارين – أتوه بنوا عمه وقومه , فقالوا : إن موسى رجل حديد ، ومعه جنود كثيرة , قال : إني إن دعوت الله ، ذهبت دنياي وآخرتي , فلم يزالوا به حتى دعا عليهم , فسلخه الله مما كان عليه ، فذلك قوله تعالى : {فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين }.
وقال ابن زيد : كان هواه مع القوم , يعني الذين حاربوا موسى وقومه ؛ فذكر تعالى : أمر هذا المنسلخ من آيات الله , بعد أن أعطاه الله إياها , وعرف وصار من أهلها , ثم انسلخ منها , أي : ترك العمل بها , وذكر في انسلاخه منها , ما معناه ، أنه مظاهرة للمشركين ومعاونتهم برأيه ، والدعاء على موسى عليه السلام ومن معه ، أن يردهم الله عن قومه , خوفاً على قومه , وشفقة عليهم , مع كونه يعرف الحق ويقطع به ، ويتكلم به ويشهد به , ويتعبد , ولكن صده عن العمل به : متابعة قومه ، وعشيرته ، وهواه ، وإخلاده إلى الأرض , فكان هذا انسلاخاً من آيات الله .
وهذا هو الواقع من هؤلاء المرتدين , وأعظم ، فإن الله تعالى أعطاهم آياته التي فيها الأمر بتوحيده ودعوته وحده لا شريك له , والنهي عن الشرك به ، ودعوته , والأمر بموالاة المؤمنين , ومحبتهم ونصرتهم ، والاعتصام بحبل الله جميعاً ، والكون مع المؤمنين , والأمر بمعاداة المشركين وبغضهم ، وجهادهم وفراقهم ، والأمر بهدم الأوثان , وإزالة القحاب واللواط ، والمنكرات , وعرفوها وأقروا بها , ثم انسلخوا من ذلك كله , فهم أولى بالانسلاخ من آيات الله , والكفر والردة , من بلعام أو هم مثله .
الدليل الثالث عشر : قوله تعالى : {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون} [ هود : 113 ] فذكر تعالى : أن الركون إلى الظلمة والكفار والظالمين ، موجب لمسيس النار ؛ ولم يفرق بين من خاف منهم وغيره إلا المكره , فكيف بمن اتخذ الركون إليهم ديناً ورأياً حسناً (و زعم أن من الواجبات المتحتمات على المسلم اليوم الدخول في العمل السياسي و الاشتراك في برلمانات الكفار!!), وأعانهم بما قدر عليه من مال ورأي ، وأحب زوال التوحيد وأهله , واستيلاء أهل الشرك عليهم ، فإن هذا من أعظم الكفر والركون .(/4)
الدليل الرابع عشر : قوله تعالى : {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم , ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين } [ النحل : 106 - 107 ] فحكم تعالى حكماً لا يبدل : أن من رجع عن دينه إلى الكفر فهو كافر ، سواء كان له عذراً خوفاً على نفس أو مال أو أهل أم لا , وسواء كفر بباطنه وظاهره , أم بباطنه دون ظاهره , وسواء كفر بفاعله أو مقاله , أو بأحدهما دون الآخر ، وسواء كان طامعاً في دنيا ينالها من المشركين أم لا , فهو كافر على كل حال , إلا المكره , وهو في لغتنا : المغصوب .
فإذا أكره إنسان على الكفر , أو قيل له اكفر و إلا قتلناك , أو ضربناك , أو أخذه المشركون فضربوه (و القوم أكرموكم و أعطوكم رواتبكم بالدولار فأين حجة الإكراه؟!), ولم يمكنه التخلص إلا بموافقتهم , جاز له موافقتهم بالظاهر , بشرط أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان , إي ثابتاً عليه معتقداً له , فأما إن وافقهم بقلبه , فهو كافر ولو كان مكرهاً .
وظاهر كلام أحمد : أنه في الصورة الأولى , لا يكون مكرهاً حتى يعذبه المشركون , فإنه لما دخل عليه يحيى بن معين وهو مريض , فسلم عليه فلم يرد عليه السلام , فما زال يعتذر ويقول حديث عمار , وقال الله : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}فقلب أحمد وجهه إلى الجانب الآخر , فقال : يحيى لا يقبل عذراً , فلما خرج يحيى , قال أحمد : يحتج بحديث عمار , وحديث عمار مررت بهم وهم يسبونك , فنهيتهم فضربوني , وأنتم : قيل لكم نريد أن نضربكم ؛ فقال يحيى : والله ما رأيت تحت أديم السماء أفقه في دين الله منك .
ثم أخبر تعالى : أن هؤلاء المرتدين الشارحين صدورهم بالكفر , وإن كانوا يقطعون على الحق , ويقولون : ما فعلنا هذا إلا خوفاً , فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم .
ثم أخبر تعالى : أن سبب هذا الكفر والعذاب , ليس بسبب الاعتقاد للشرك , أو جهل بالتوحيد , أو البغض للدين , أو محبة الكفر , وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا فآثره على الآخرة ؛ وعلى رضا رب العالمين فقال : : { ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين }فكفرهم تعالى , وأخبر أنه لا يهديهم مع كونهم يعتذرون بمحبة الدنيا , ثم أخبر تعالى : أن هؤلاء المرتدين لأجل استحباب الدنيا على الآخرة , هم الذين طبع الله على قلوبهم وسمهم وأبصارهم , وإنهم الغافلون ؛ ثم أخبر خبراً مؤكداً محققاً : أنهم في الآخرة هم الخاسرون .
الدليل الخامس عشر : قوله تعالى عن أهل الكهف : {إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذاً أبدا} [ الكهف : 20 ] فذكر تعالى عن أهل الكهف : أنهم ذكروا عن المشركين : أنهم إن قهروكم وغلبوكم , فهم بين أمرين , إما أن يرجموكم أي يقتلوكم شر قتلة برجم ؛ وإما أن يعيدوكم في ملتهم ودينهم { ولن تفلحوا إذاً أبدا}.
أي : وإن وافقهم على دينهم , بعد أن غلبوكم وقهروكم , فلن تفلحوا إذاً أبداً , فهذا حال من وافقهم بعد أن غلبوه , فكيف بمن وافقهم وراسلهم من بعيد , وأجابهم إلى ما طلبوا من غير غلبة ولا إكراه , ومع ذلك يحسبون أنهم مهتدون ؟! (ولدين الله ينصرون و يتبجحون بذلك و يفرحون).
الدليل السادس عشر : قوله تعالى : {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} [ الحج : 11 ] فأخبر تعالى : أن من الناس من يعبد الله على حرف , أي على طرف , فإن أصابه خير أي نصر وعز وصحة , وسَعَة وأمن وعافية ونحو ذلك , اطمأن به , أي ثبت وقال هذا دين حسن , ما رأينا فيه إلا خيراً , وإن أصابته فتنة , أي : خوف ومرض وفقر ونحو ذلك , انقلب على وجهه , أي ارتد على دينه , ورجع إلى أهل الشرك , فهذه الآية مطابقة لحال المنقلبين عن دينهم في هذه الفتنة سواء بسواء .
فإنهم قبل هذه الفتنة , يعبدون الله على حرف ، أي على طرف , ليسوا ممن يعبد الله على يقين وثبات , فلما أصابتهم هذه الفتنة انقلبوا عن دينهم , وأظهروا الموافقة للمشركين , وأعطوهم الطاعة , وخرجوا عن جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين , فهم معهم في الآخرة كما هم معهم في الدنيا فـ{ـخسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين } هذا مع أن كثيراً منهم في عافية ما أتاهم من عدو , وإنما ساء ظنهم بالله , فظنوا أن يديل الباطل وأهله على الحق وأهله , فأرادهم سوء ظنهم بالله , كما قال تعالى : {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين} [ فصلت : 23] .(/5)
وأنت يَا مَنْ مَنّ الله عليه بالثبات على الإسلام , احذر أن يدخل في قلبك شيء من الريب ، أو تحسين هؤلاء المرتدين , وأن موافقتهم للمشركين وإظهار طاعتهم رأياً حسناً , حذراً على الأنفس والأموال والمحارم , فإن هذه الشبهة , هي التي أوقعت كثيراً من الأولين والآخرين في الشرك بالله ، ولم يعذرهم الله بذلك ، و إلا فكثير منهم يعرفون الحق , ويعتقدونه بقلوبهم , وإنما يدينون لله بالشرك , للاعتذار الثمانية التي ذكرها الله في كتابه , أو لبعضها , فقال : {قل إن كان آبائكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } [ التوبة : 24] .
الدليل السابع عشر : قوله تعالى : {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم , ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم , ذلك بأنهم اتبعوا ما اسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم } [ محمد : 25 – 28 ] . فذكر تعالى عن المرتدين على أدبارهم : أنهم من بعد ما تبين لهم الهدى ارتدوا على علم , فلم ينفعهم عملهم بالحق مع الردة , وغرهم الشيطان بتسويله وتزيين ما ارتكبوه من الردة .
وهكذا حال هؤلاء المرتدين في هذه الفتنة(وهو حالهم اليوم) , غرهم الشيطان فأوهمهم أن الخوف عذر لهم في الردة , وأنهم بمعرفة الحق ومحبته والشهادة لا يضرهم ما فعلوه , ونسوا إن المشركين من يعرفون الحق ويحبونه ويشهدون به , ولكن يتركون متابعته والعمل به محبة للدنيا , وخوفاً على الأنفس والأموال , والمآكل و الرياسات .
ثم قال تعالى : {ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر }فأخبر تعالى : أن سبب ما جرى عليهم من الردة , و تسويل الشيطان والإملاء لهم , هو قولهم للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر , فإذا كان مَنْ وَعَدَ المشركين ، الكارهين لما أنزل الله , طاعتهم في بعض الأمر , كافراً , وإن لم يفعل ما وعدهم به , فكيف بمن وافق المشركين الكارهين لما أنزل الله , من الأمر بعبادته وحده لا شريك له , وترك عبادة ما سواه , من الأنداد والطواغيت والأموات , وأظهر أنهم على هدى , وإن أهل التوحيد مخطئون في قتالهم , وأن الصواب في مسالمتهم والدخول في دينهم الباطل , فهؤلاء أولى بالردة من أولئك الذين وعدوا المشركين بطاعتهم في بعض الأمر , ثم أخبر تعالى عن حالهم الفظيع عند الموت , ثم قال : (ذلك ) أي الأمر الفظيع عند الوفاة{بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم}.
ولا يستريب المسلم أن اتباع المشركين , والدخول في جملتهم , والشهادة أنهم على حق , ومعاونتهم على زوال التوحيد وأهله , ونصرة القباب و القحاب واللواط , من اتباع ما يسخط الله , وكراهة رضوانه , وإن ادعوا أن ذلك لأجل الخوف , فإن الله ما عذر أهل الردة بالخوف من المشركين , بل نهى عن خوفهم , فأين هذا ممن يقول : ما جرى منا شيء ونحن على ديننا ؟! .
الدليل الثامن عشر : قوله تعالى : {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون }[ الحشر : 11 ] فعقد الله تعالى الأخوة بين المنافقين والكفار ، وأخبر أنهم يقولون لهم في السر : لئن أخرجتم لنخرجن معكم , أي : لئن غلبكم محمداً ( وأخرجكم من بلادكم { لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً } أي : لا نسمع من أحد فيكم قولاً , ولا نعطي فيكم طاعة { وإن قوتلتم لننصرنكم }أي : إن قاتلكم محمد ( لننصركم , ونكون معكم , ثم شهد إنهم لكاذبون في هذا القول .
فإذا كان وعد المشركين في السر بالدخول معهم , ونصرهم والخروج معهم إن جلوا , نفاقاً وكفراً وإن كان كذباً , فكيف بمن أظهر ذلك صدقاً ؟ وقدم عليهم ودخل في طاعتهم , ودعا إليها ونصرهم , وانقاد لهم وصار من جملتهم , وأعانهم بالمال والرأي ؟ هذا مع أن المنافقين لم يفعلوا ذلك , إلا خوفاً من الدوائر , كم قال تعالى : {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة}[ المائدة : 52 ] .
وهكذا حال كثير من هؤلاء المرتدين في هذه الفتنة , فإن عذر كثير منهم هذا , هو العذر الذي ذكره الله عن الذين في قلوبهم مرض , ولم يعذرهم الله به , قال تعالى : {فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ,ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسم بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين }[ المائدة : 52 - 53 ] .(/6)
ثم قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين }فأخبر تعالى أنه لا بد عند وجود المرتدين , من وجود المحبين المجاهدين ؛ ووصفهم بالذلة والتواضع للمؤمنين , والعزة والغلظة والقسوة على الكافرين , بضد من كان تواضعه وذله ولينه , لعباد القباب(الروافض زملاؤكم) , وأهل القحاب واللواط(الامريكان ) , وعزته وغلظته على أهل التوحيد والإخلاص ، فكفى بهذا دليلاً على كفر من وافقهم , وإن ادعى أنه خائف , فقد قال تعالى : {ولا يخافون لومة لائم} وهذا بضد من يترك الصدق والجهاد خوفاً من المشركين .
ثم قال تعالى : {يجاهدون في سبيله} أي في توحيده صابرين على ذلك ابتغاء وجه ربهم , لتكون كلمة الله هي العليا {ولا يخافون لومة لائم} أي لا يبالون بمن لامهم وآذاهم في دينهم , بل يمضون على دينهم يجاهدون فيه , غير ملتفتين للوم أحد من الخلق , ولا لسخطه ولا لرضاه , وإنما همتهم وغاية مطلوبهم رضا سيدهم و معبودهم , والهرب من سخطه , وهذا بخلاف من كانت همته وغاية مطلوبه , رضا عباد القباب , وأهل القحاب واللواط , ورجاءهم والهرب مما يسخطهم , فإن هذا غاية الضلال والخذلان .
ثم قال تعالى : {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم}[ المائدة : 54]فأخبر الله تعالى : أن هذا الخير العظيم , والصفات الحميدة , لأهل الإيمان الثابتين على دينهم عند وقوع الفتن , ليس بحولهم ولا بقوتهم , وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء , كما قال تعالى : {يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم}[ آل عمران : 74] .
ثم قال تعالى : {إنما وليكم اله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}[ المائدة : 55] فأخبر الله تعالى خبراً بمعنى الأمر , بولاية الله ورسوله والمؤمنين , وفي ضمنه النهي عن موالاة أعداء الله ورسوله والمؤمنين , ولا يخفى أي الحزبين أقرب إلى الله ورسوله , وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة , أهل الأوثان والقباب ، و القحاب واللواط , والخمور والمنكرات ؟ أم أهل الإخلاص , و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ؟ فالمتولى لضدهم واضع للولاية في غير محلها , مستبدل بولاية الله ورسوله والمؤمنين , المقيمين للصلاة المؤتين للزكاة , على ولاية أهل الشرك والأوثان والقباب .
ثم أخبر تعالى : أن الغلبة لحزبه ومن تولاهم , فقال : {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}[ المائدة : 56] .
الدليل التاسع عشر : قوله تعالى : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم }الآية [ المجادلة : 22] فأخبر تعالى : أنك لا تجد من كان يؤمن بالله واليوم الآخر يوادّ من حاد الله ورسوله , ولو كان أقرب قريب , وأن هذا مناف للإيمان مضاد له , لا يجتمع هو والإيمان إلا كما يجتمع الماء والنار , وقد قال تعالى في موضوع آخر : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } [ التوبة : 23] .
ففي هاتين الآتيين : البيان الواضح أنه لا عذر لأحد في الموافقة على الكفر , خوفاً على الأموال والآباء , والأبناء والإخوان , والأزواج , والعشائر(والوحدة الوطنية ،وحدة العراق..) , ونحو ذلك مما يعتذر به كثير من الناس , إذا كان لم يرخص لأحد في موالاتهم , واتخاذهم أولياء بأنفسهم , خوفاً منهم وإيثاراً لمرضاتهم , فكيف بمن اتخذ الكفار الأباعد أولياء , وأصحاباً , واظهر لهم الموافقة على دينهم , خوفاً على بعض هذه الأمور , ومحبة لها , ومن العجب : استحسانهم لذلك , واستحلالهم له , فجمعوا مع الردة استحلال الحرام .
الدليل العشرون : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} إلى قوله : { ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } [ الممتحنة :1] أي أخطأ الصراط المستقيم , فأخبر تعالى : أن من تولى أعداء الله ، وإن كانوا أقرباء وأصدقاء , فقد ضل سواء السبيل , أي : أخطأ الصراط المستقيم , وخرج عنه إلى الضلال , فأين هذا ممن يدعي أنه على الصراط المستقيم , لم يخرج عنه , فإن هذا تكذيب لله , ومن كذب الله فهو كافر , واستحلال لما حرم الله من ولاية الكفار , ومن استحل محرماً ثم ذكر تعالى : شبهة من اعتذار بالأرحام والأولاد , فقال : { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير } [ الممتحنة : 3] فلم يعذر الله تعالى من اعتذار بالأرحام والأولاد , والخوف عليهما , ومشقة مفارقتهما , بل أخبر أنها لا تنفع يوم القيامة , ولا تغني عن عذاب الله شيئاً , كم قال تعالى في الآية الأخرى : { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [ المؤمنون : 101] .(/7)
الدليل الحادي والعشرون: من السنة ما رواه أبو داود وغيره . عن سمرة بن جندب رضي الله عنه , عن النبي ( أنه قال : (( من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله )) فجعل ( في هذا الحديث من جامع المشركين , أي : اجتمع معهم وخالطهم وسكن معهم , فهو مثلهم , فكيف بمن أظهر لهم الموافقة على دينهم , وآواهم وأعانهم , فإن قالوا خفنا قيل لهم كذبتم .
وأيضاً : فليس الخوف بعذر كما قال تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } [ العنكبوت : 10] فلم يعذر الله تبارك وتعالى من يرجع عن دينه عند الأذى , والخوف , فكيف بمن لم يصبه أذى ولا خوف , وإنما جاء إلى الباطل محبة له وخوفاً من الدوائر , والأدلة على هذا كثير , وفي هذا كفاية لمن أراد الله هدايته .
وأما من أراد الله فتنته وضلالته , فكما قال تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون , ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : 96 - 97 ] فنسأل الله الكريم المنان : أن يحيينا مسلمين , وأن يتوفانا مسلمين , وأن يلحقنا بالصالحين , غير خزايا ولا مفتونين , برحمته وهو أرحم الراحمين , وصلى الله على محمد)أنتهى كلامه رحمه الله
2-(…والتوجه الجماهيري لنصرة المنهج الإسلامي و المشروع السياسي المعتدل الوسطي العصراني)
اعلم أخي القارئ الكريم أن (العصراني)لفظ من ألفاظ الذم و الجرح التي لا يوصف بها إلا المحرفون لهذا الدين السائرون في ركب الغرب الكافر،و للشيخ علي الخضير-فك الله أسره-كلام مهم في شرحه الماتع على كتاب التوحيد يصف حال هؤلاء، أسوقه بطوله،يقول حفظه الله:
(وظهر في الآونة الأخيرة تيار ونابتة جديدة هم من قسم المغرورين المعاصرين وهم المسمون بالعصرانيين وهؤلاء في باب التوحيد من غلاة المرجئة لأن التوحيد عندهم الكلمة ، من قال لاإله إلا الله بلسانه فهذا يكفي ،فهم كرامية هذا العصر ولا كرامة لهم ،
ولهم عقائد ومناهج و أصول في العقيدة والفقه هي :
1 ـ ففي باب التوحيد والإيمان من غلاة المرجئة (كرامية ) ويضاف إلى ذلك التميّع والانهزامية فيهما ،
2ـ السعي إلى إلغاء باب الكفر بالطاغوت وباب المرتد من كتب الفقه وإلغاء باب التكفير بحق وتسمية ذلك تطرف وغلو ،وخارجية وحرورية وتيار تكفيري ،
3ـ إلغاء باب الجهاد وتسميته تطرف وغلو ،واستبداله بالجهاد السياسي الهش على الطريقة العلمانية ،
4ـ في باب المصدر والتلقي ،فهم معتزلة يقدمون العقل على النقل ،وزادوا على المعتزلة القدماء بالسير على ما يسمى بالمنهج التجريبي وهو أن الأصل الشك في كل شئ حتى المسلمات العقدية إلى أن تثبت ،وزادوا على المعتزلة تقديم الهوى ومتطلبات العصر الحديث على النص ،
5ـ وفي باب الفقه تتبع الرخص ، والأخذ بأسهل ما قيل وأنسب وأخف ما قيل بحيث يركبون من ذلك فقها جديدا ويميلون فقهيا إلى أن يوافق الاطروحات العلمانية وما يوافق النظام العالمي الجديد ،وما يوافق الأهواء ، وتسمية ذلك فقه تيسير ،خصوصا قضايا المرأة والحكم والسياسة وما يُسمونه بالفن والغناء والتمثيل وما يتعلق بالحرية ،والتصوير ،والأزياء واللباس
وطريقتهم في ذلك استعراض خلاف العلماء ،وكل قول قيل وكل شاردة وواردة وكل هفوة وزلة ، فما وافق الوقت والعصر فهو الراجح فهذه أسباب الترجيح عندهم وهذا أصل مبتدع في هذا الباب ومن باب المكر والحيلة فبدل أن يقولوا هذا يوافق العصر والهوى يجعلون لافتة لهم للوقاية من الشناعة والذم فيقولون قال به العالم الفلاني ،
6 ـ موقفهم من الإجماع التشكيك والرد ،لأنه عائق في بعض القضايا المهم عندهم ،
7ـ موقفهم من الاجتهاد فتحه على مصراعيه لكل من هب ودب ،واتخاذه ذريعة رسمية لكي يقولوا ما يناسبهم باسم الاجتهاد ،
8ـ موقفهم من الصحابة والسلف عموما التحقير والازدراء
9ـ موقفهم من التاريخ الإسلامي تناوله بحقد وتشويه ودس
10ـ موقفهم من أي دولة إسلامية ترفع شعار الإسلام الصحيح وتطبق الشريعة تطبيقا صادقا ، موقفهم موقف العداء كموقف العلمانيين وكموقف الغرب التشويه والتشنيع والاتهام بالغلو والتطرف
11ـ من أصولهم محاولة تعويد الناس على الخلاف وإطلاع العامة على ذلك لكي لا ينبذهم الناس ويرفضونهم وإنما يتسترون خلف لأفتة أن المسألة فيها خلاف فلماذا التشدد والمعارضة
12ـ موقفهم من العلماء وطلبة العلم مختلف حسب مصالحهم ،فالعلماء وطلبة العلم عندهم ثلاثة أقسام :(/8)
أـ قسم يحاولون إسقاطهم وتشويه سمعتهم وذلك عبر ثلاث مراحل المرحلة الأولى محاولة إلصاق تهمة أنهم يكفرون الحكام ، فإذا لم تنجح هذه المرحلة انتقلوا إلى المرحلة الثانية وهو اتهامهم بأنهم يكفرون العلماء وقد تقتضي المرحلة أن يُعيّنوا علماء مشهورين لإتمام قوة الإسقاط ، فإذا لم تنجح هذه المرحلة انتقلوا إلى مرحلة اتهامهم بأنهم يكفرون المجتمعات وعموم الناس وهذا آخر سهم في هذا الباب ،وبالطبع يحاولون اصطياد كلمات من المتشابه والكلام العام لهؤلاء العلماء المراد إسقاطهم أو حمّال الأوجه للتدليل على صدق الاتهام ،
ب ـ القسم الثاني علماء لهم اجتهادات واختيارات لكن لم يُراعوا فيها السياسة الشرعية ،فهولاء يحاول العصرانيون اجتذابهم وتبنيهم لأن هذه الاختيارات تخدم مذهبهم ،
ج ـ القسم الثالث يعتبرونهم حياديين بالنسبة لهم ، لا لهم ولا عليهم فهؤلاء إن كانوا من المشهورين اهتموا بحيادهم وفرحوا به ،لأن المرحلة تقتضي تقليل الجبهات ،وإن كانوا ليسوا من المشهورين فيتركونهم ،
13ـ موقفهم من الصحوة محاولة تمييعها وتشتيتها وتهيئتها لتقبل الواقع والتنازلات ،
14ـ موقفهم من المرتدين و أهل البدع مهزوز ، فيميلون إلى التعاطف معهم والدفاع عنهم وعن رموزهم ، والتعاطف مع الأقليات المنحرفة ،
15ـ رفع شعار الحرية والحوار لكن بغير الضوابط الشرعية ،
16ـ موقفهم من الشعائر الدينية والأركان الخمسة أما بالنسبة للتوحيد فقد سبق ،
أ ـ أما الصلاة فيميلون إلى التسهيل فيها حسب الإمكان والمتاح من الأقوال التيسيرية ،فصلاة الجماعة في المسجد سنة ويجوز إمامة المرأة للرجال ،ويجوز الجمع مطلقا ،وتارك الصلاة مطلقا ولو مدى الحياة لا يكفر ،
ب ـ الزكاة وهى الشعيرة الوحيدة التي يميلون إلى التشدد فيها على خلاف بينهم أيضا،لأن الذي يناسب المعنيين اليوم مع التدهور الاقتصادي الإكثار في جبي الأموال ،وتوسيع الأموال الزكوية ،مع أن بعضهم أكثر تعاطفا مع الناس فيميل إلى التقليل من ذلك
ج ـ الحج ولهم منسك عجيب فيه قائم على تقصد الترخص ،فالوقوف في عرفة ومزدلفة يكفي فيه لحظات ودقائق ،ويجوز تقديم الهدي قبل عرفة ويجوز الذبح بغير بهيمة الأنعام ،والرمي للجمرات على مدار أربع وعشرين ساعة ،وليس بواجب لأنه من الشعائر الخاصة بإبراهيم عليه السلام ،ويجوز تقديم طواف الإفاضة قبل عرفة قياسا على تقديم المفرد والقارن للسعي ،والرمي صباح يوم الثاني عشر ثم التوكيل في بقية الحج ، وهذا المنسك قابل للتطوير نحو تيسير أكثر إذا تم اكتشاف قول شاذ في المستقبل ،
د ـ في الصيام أيضا تقصد للترخصات ،
والخلاصة أنهم اتخذوا دينهم لعبا ،
هذه هي أُصولهم وقد يستحدثون أُصولا أُخرى لأنهم لازالوا في طور التكوين وعمرهم الزمني لا يتجاوز سنوات وقد ساهمت بعض الصحف والفضائيات في نشر مذهبهم ،ولهم قيادات عالمية وإقليمية ومحلية في كل مكان فيه صحوة قوية ، ويبدؤون مع المبتدئ بتعويده على الخلاف وتشكيكه في كل قول فقهي وأن المسألة فيها خلاف وتعويده على الانهزامية والنقاش في المسلمات كخطوة أُولى لتعويده على ما يسمى بالمنهج التجريبي )انتهى كلامه.
3-(ولم يعرف عنهم-أي قادة الحزب-أنهم والو ظالما أو أعانوا على ظلم)
وهذه ومقلب القلوب صلافة وجه و سوء أدب وأستخفاف بذكاء القارئ أيما استخفاف و صدق حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم(إذا لم تستح فافعل ما شئت)، أمين حزبهم في مجلس الكفرة الفجرة يهش و يبش في و جوه أعداء الله:بريمر الصليبي،كوفي عنان الدجال،الشيوعيين،عبدة القبور…الخ يتحاكمون الى الطاغوت و يبشرون بدين الكفار المسمى بالديمقراطية.
ألم تعينوا أعداء الله على المجاهدين؟الم تمنعوا أهل السنة من إلقاء دروس الحديث و العقيدة في المساجد؟
5-(الاهتمام بالنشاطات الفنية التي تخدم الإسلام و لا سيما الخط و الرسم و الإخراج و فنون الإعلام المختلفة و اتي تتمكن من ايصال الرسالة الإسلامية بطرق فنية هادفة ومؤثرة و تكون وسيلة فعالة في استيعاب قطاعات واسعة من الشعب)
و من أجل هذا الهدف السامي!!يستخدم الحزب الإسلامي المعازف و الأناشيد الهابطة المسماة زورا بالإسلامية وجميع المؤثرات الصوتية و المرئية من الرسوم الثابتة و المتحركة غير عابئين بالنهي الإلهي و النبوي المعروف لكل مسلم.(راجع كلام الشيخ علي أعلاه عن العصرانيين)
6-(وان حزبنا هو امتداد متصل السند من لدن رسول الله صلى الله عليه و سلم)
لعل البيقوني –رحمه الله- اراد حزبكم لما قال:
وكل مل لم يتصل بحال…….أسناده منقطع الاوصال
وصدق حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)
ومن لطيف ما سمعت أن د.مسئ عبد الحميد أجاز بعض أتباعه بالاجازة العامة على غرار أئمة الحديث في العراق فسئلت عن سنده فتبين لي فيه لطيفة و نكتة طريفة وهي أن سنده صوفي مسلسل بالهالكين،لا يفرح به الاجاهل محروم.(/9)
6-ذكر هؤلاء نماذج عملية للأعمال الجماعية التي يدعو الحزب أفراده للقيام بها ولم يذكروا الجهاد مع أن العدو الصائل في البلد بصول و يجول ويعمل ليل نهار لينحي الاسلام عن مركز القيادة و القوم مشغولون بالاعمال الفنية الهادفة!!والخطب السياسية الجوفاء.(/10)
الرد على الداعين لنصرة حزب حسن نصر
بدعوى أنهم شيعة يقاتلون يهود فالواجب درء الخطر الأعظم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
وبعد :
إذا أرادت الثورة الخمينية من المسلمين أن يعينوا جيشها في لبنان حزب حسن نصر فيجب عليها أن تفعل ما يلي :
1- تأمر أولياءها وفيهم فرع لحزب حسن نصر في العراق أن يرفعوا سكاكينهم عن رقاب أهل السنة في العراق ، فإنّه لهم يعد خافيا أنهم يبيدون السنّة بصورة منظمّة إبادة جماعيّة ، بل يبيدون كلّ معارض للتوسّع الإيراني لإحتلال العراق ، وصل إلى درجة إغتيال كلّ من كان له دور في حرب الثمانينات الميلادية ضد التوسع الإيراني !
وأن يُطلقوا من في سجون قوات بدر ، وجيش المهدي ، والمجلس الأعلى للثورة ، وحزب حسن نصر فرع العراق ، وكلّهم تحت قيادة الحكومة العراقية بزعامة المالكي وحزبه ، فالمسلمون تحت وطأتها يُسامون سوء العذاب ، حتى إنّ ذلك بالشهادات المتواترة أشدّ مما في سجون الصليبيّن!
2- تأمرهم أن يجاهدوا مع أهل السنة في العراق وأفغانستان ، عوضا عن العمل جواسيس للمحتل يدلّونهم على ملاذ المجاهدين لقتلهم ، بل يتولّون قتلهم بأنفسهم منذ قدوم المحتل للعراق .
3- تعلن الجهاد لتحرير فلسطين حقّا، وتسمح بفتح جبهات قتاليّة في جنوبه ، لاتشترط الخضوع لهيمنة حزبها هناك ، ويمكن الوصول بسهولة عن طريق سوريا لو أرادت حقا ، والأمة لم تزل متعطشة لذلك ،ولكن هيهات أن يُسمح بِه فليس هدفهم تحرير فلسطين !!
4- تكفّ عن مؤامراتها ودسائسها ضد أهل السنة داخل إيران ، وخارجها .
5- تكفّ عن مؤامراتها ودسائسها ضد عقيدة المسلمين وثوابت دينهم .
نقول هذا مع أننا نعلم أنّهم لن يفعلوا ذلك ، حتى يلج الجمل في سمّ الخياط.
ولكن من أجل أن نبيّن حقيقة الواقع الذي يريد من يريد أن يزيّفه هداهم الله هذه الأيام ، بعرضه على أنّه صراع بين الشيعة واليهود ! وأنّه ينبغي أن نؤجّل الكلام عن الشيعة إلى وقت آخر في أقلّ تقدير ، إنْ لم ندْعُو إلى الوقوف معهم ضد الخطر الأعظم !!
كلاّ ليس هذا هو الواقع ، بل هو بعيد عنه بعدَ المشرقين ، ولا هؤلاء مجرد شيعة ينتمون إلى التشيّع المعروف في كتب الفرق المعروفة عند أهل السنّة ، حتى يقال إنهم من الأمّة ، وقائل هذا جاهلٌ لايدري شيئا عن حقيقة الحال .
بل الواقع أنّ هذه الثورة الخمينيّة ، التي استولت على آلة الدولة في إيران ، ثورة سياسية عنصرية الروح ، تنزع إلى التعصّب الساساني البغيض ، وتوظّف التشيع لأطماع توسعيّة ذات أهداف خبيثة ، وفي غاية الخطورة على الأمّة .
ثم إن التشيّع الذي توظفّه وتنشط في نشره ، ليس هو المعروف عند أهل السنة قديما ، بل هو دينٌ باطنيّ ، يشتمل على ما ينقض دين الإسلام من الطامّات العظيمة .
أعظمها دعوى تحريف القرآن ! والغلوّ إلى درجة عبادة غير الله تعالى ! وتكفير الصحابة إلا أربعة أو سبعة ! والطعن في أمهات المؤمنين ! تكذيبا للقرآن ، و التنكّر لتاريخ الإسلام كلّه ، فهو عندهم تاريخ بدأ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخيانته ، ثم أصبح تاريخ أمّتنا استمرارا لهذه الخيانة ، وعبر جميع دوله وممالكه ، لم يكن سوى تاريخ الخونة ، إذ هو توارث للخيانة الأولى في ترك عقد الولاية لعلي رضي الله عنه ، ولهذا فلا يؤخذ عندهم الدّين إلاّ من علي وفاطمة والحسن والحسين وذرية الحسين إلى صاحب السرداب ، وكل ما سوى ذلك فهو ضلال ، ثم عامّة ما يروونه عن هؤلاء الأخيار كذبٌ ، فضلا عما يربّون عليه أجيالهم من حمل الأحقاد على أمتنا ، والتربص بها للإنتقام ، ولهم من التأويلات الباطنية ، والعقائد المنحرفة الغريبة ، ما يجزم به المطلع على دينهم أنه لافرق بينهم وبين الفرق الباطنية المعروفة ،وأنّ من ينسبهم إلى التشيّع القديم ، إما هو جاهل بعلم الفرق ، أو جاهل بواقع دينهم .
وقد صنعت هذه الثورة لها جيوشا سريّة ، في عدة بلاد ، منها لبنان ، فحزب حسن نصر جيش إيراني في لبنان ، كما يوجد مثله في الجزيرة العربية يتربّصون بالمسلمين الدوائر ، كما أنّ هذه الثورة استغلت الحملة الصهيوصليبية فتحالفت معها ، على أمّتنا ، لتكوين دويلة تابعة لها في العراق ، كان أعظم من اصطلى بنارها في العراق وهي في طور التكوين بعدْ هم المسلمون ، بينما سلِم منهم المحتلون الصليبيون ، والصهاينة ، كما أنّ أولياءهم التابعين لدولتهم ، في أفغانستان ، لايجاهدون الاحتلال ، ولايعينون المجاهدين ، بل يعينون المحتلين على المجاهدين ، كما في العراق.(/1)
فمساعدة حزب حسن نصر ، إنما هو إنقاذ لهذه الثورة الخمينية من دائرة السوْء التي دارت عليها ، بعد أن أبادت أكثر من مائة ألف مسلم لوحدها ومائة ألف أخرى بخيانتها وتحالفها مع الصليبين في العراق ولازال الذبح في أهل السنة في العراق تجري به دماؤهم أنهارا ، فهم لايفرّقون بين الأطفال الرضّع ، ولا الشيوخ الركعّ ، بل يدخلون الأحياء السنيّة فيذبحون من فيها ، وما يفعلونه في العراق ، وحزب حسن نصر جزء من هذه الثورة الخبيثة ، أشدّ والله مما يفعله اليهود في إخواننا الفلسطينيين.
فضلا عما فعلوه من جرائم إثر دخولهم أفغانستان بين يدي القوات الصليبية ممهدين لها إسقاط الإمارة الإسلامية في أفغانستان ، فكل معونة تذهب لحزب حسن نصر فإنها إنما تذهب لهذه الثورة الخبيثة ، التي ظهرت خيانتها للأمة ، عندما تحالفت مع الصهاينة والصليبين لاجتياح العراق وأفغانستان ، وماترتب على ذلك من سفك دماء المسلمين ، وانتهاك إعراضهم ، وتحطيم لقوّة الأمّة ، وتمزيقها .
ثم لما أراد جيشها في لبنان أن يستعرض في عمل دعائي شيئا من قوته ليستدر عطف العالم الإسلامي المخدوع بسبب زيف وسائل الإعلام الرافضيّة ، سُلّط عليهم أخوة القردة والخنازير في ردة فعل لم يكن يحسب حسابها ، ولا أرادها .
وهو أي حزب حسن نصر أصلا لم يعلن جهاداً إسلاميا على الصهاينة ، ولا تحرّك لتحرير فلسطين ، ولم يدعُ الأمّة لذلك ، ولو فعل لوجب عليه أن يفتح المجال لمن يريد أن يقاتل الصهاينة في الجنوب من المجاهدين ، ويسهّل لهم الوصول ، فلم تزل هذه أمنية المجاهدين السنة ، الذين تطاردهم جميع الدول حول الكيان الصهيوني لتمنعهم من الوصول إلى ضرب الكيان الصهيوني ، كما كان ولايزال حزب حسن نصر يمنعهم .
ومن المعلوم أنّ حزب حسن نصر ، كان يغلق هذا الباب تماما على مجاهدي السنة، ولايسمح بفتح جبهة جهاد للصهاينة أخرى خارجة عن سيطرته وتحت إمرته ، لأنه إنما ينفذ أجندة إيرانية ، ويحقق مكاسب سياسية للثورة الخمينية فحسب ، فيريد أن يضمن أن تكون العمليات تصب في هذا الهدف السياسي لاغير .
ولهذا فهو في الأحداث الجارية الآن في لبنان ، إنما زعم أنه يأسر صهاينة ليحرر أسراه، فليست القضية أنها حرب لفلسطين أصلا حتى يقال يستعان بهم على قتال الصهاينة! مع أن جهاد الصهاينة واجب قبل هذه الأحداث وبعدها ، ولا علاقة له بالثورة الخمينية أصلا ، بل إنّ حزبها هناك من معوّقاته ، وهذا معلوم يعلمه كلّ من له إحاطة بالواقع هناك .
وليعلم الجميع أن هذا الجيش الإيراني في لبنان حزب نصر إنما هو ورقة تلعب فيها إيران في تنافسها مع الغرب الصليبي على الهيمنة على الأمّة ومحاربة عقيدتها ، وكانت تريد أن تستعمله لصفقة مع الصهيوصليبية تحصل بها على أطماعها في العراق ، وغيره ، ولتحقق هيمنتها على الخليج ، وتخدم أطماعها التوسعيّة ، على حساب أهل السنة ، وبعد تقديم دماءهم ثمنا ، ووحدة العراق قربانا.
فهذا هو التوصيف الشرعي لما يجري : جيش إيراني في لبنان ، لم يدعُ إلى جهاد لتحرير فلسطين ، وإنما قد وُضع هناك ليحقق مكاسب سياسية لثورة لها مشروعها العنصري الخاص، الذي يضرب عرض الحائط بأهداف الأمّة ، وغايات دينها ، بل يناقضها تماما .
وهي مع ذلك ثورة ذات تاريخ حافل بالخيانات ، وأيديهم ملطّخة بدماء المسلمين ، و أستعدادها لعقد صفقة مع الصهيوصليبية على حساب أهل الإسلام ليس له حدود ، ولا يردعها عن فعله أيّ رادع ، فهي لا تشعر بأيّ إنتماء لحضارتنا ولا ماضينا ، لا في عقيدتها يظهر ذلك ، ولا في تاريخها ، ولا واقعها .
ولايجوز خداع المسلمين بالتكتم على حقيقة هذه الثورة وأهدافها ، ولا تزييّف وعيهم بزعم أن هذا الحزب يخوض حربا لصالح الأمة ، وأنه يجب أن يُعان ، وقائل ذلك غير ناصح لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو يقول بغير علم ماليس بالحق ، ويصف واقعا مغايرا للحقيقة تماما ، فيه من الغش ومناقضة النصيحة الواجبة شرعا ما فيه ، إذ قوله يكذبّه الشرع ، وتناقضه معرفة الواقع ، وكذا الخلفيّة التاريخيّة لهذا الحزب ، وللثورة الذي ينتمي إليها ، ولحقيقة وجوده في لبنان .
والعجب والله من هؤلاء الداعين إلى تأييد حزب حسن نصر ، حزب الثورة الخمينية اليوم ، وكانوا في صمت مطبق عن مجازرها في المسلمين في العراق وغيره ، وقد اعتاد المسلمون أن لايجدوا منهم عونا في محنتهم ، إما إذا احتاج أعداء الإسلام لسانهم ، غدوْا لهم خير سند !! فياللأسى .
بل أمر هؤلاء الخمينية ، كسائر أعداء الإسلام سواء ، وفيهم نزل قول الحق سبحانه وتعالى : {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}
منقول عن موقع طريق الإسلام(/2)
الرد على الفئة الضالة " هيئة خدام المهدي " ونقض افتراءاتها على دين الإسلام
حامد بن عبد الله العلي
الحمد لله وبه أستعين ، والعاقبة للمتقين ، ولاعدوان إلا على الظالمين ، الصلاة والسلام على خاتم النبيين ، وإمام المرسلين ، سيدنا وسيد ولد آدم أجمعين ، محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وصحابته الغر الميامين ، وبعد :
فقد نشرت صحيفة الوطن الكويتية يوم أمس الثلاثاء 6 جمادى الآخرة 1426هـ ، بيانا لمن أطلقوا على أنفسهم " هيئة خدام المهدي" ، تفوهوا فيه بالسوء ، وخاضوا فيه بالباطل ، واتهموا في بيانهم ـ كاذبين ـ جماعة من شيوخ أهل السنة في الكويت بأسماءهم ، بأنهم يكفّرون المسلمين ـ بينما هم يكفّرون كلّ من لايقول بالإمامة ، أيْ تكفير عامة المسلمين ، كما صرح بذلك من تولىّ كبر ضلالهم في شريط مسموع وسننقل من مصادرهم ما يوضح عقيدتهم في تكفير أهل الإسلام ـ ونشرُوا من الفرية على الدين ، والعدوان على عقيدة المسلمين ، والتأكيد على عقائدهم الضالة ، معلنين مجاهرين بضلالهم هذا المبين ، ما يستوجب الرد عليهم ، وبيان خطورة مذهبهم المترنّح ، الذي بلي وتعفّن في معابد الجهل ، وهياكل الضلال عن الحق ، بعدما رضع من رجيع الكذب ، وصديد الدجل المتقيّح
غير أننا ينبغي أن ننبهّ على ثلاثة أمور مهمة ، بين يدي هذا المقصود :
أحدها : أن هذه الهيئة الضالّة ، ومجلتها التي تسمى " المنبر " قد تبرأ منها ـ لغلوّها ووقاحتها ـ كثيرٌ من الشيعة أنفسهم ، من عقلاءهم ، ففيهم من يرى ـ كما سمعت ذلك من بعضهم مشافهة ـ أن التشيع بحاجة اليوم أكثر مما مضى إلى حركة تصحيحيّة جذريّة ، تتبرّأ مما في تراثه من العقائد الجاهليّة المناقضة لصريح القرآن ، المشكّكة بكل ثوابت هذا الدين ، والممزوجة بالعداوة ، والتنكّر ، لتاريخ هذه الأمة العظيمة كلّه ، بدءا من الخلافة الراشدة ، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى يوما هذا .
الثاني : أن تكفير الشيعة بمجرد الإنتماء إلى التشيّع ، محرم ، مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة ، فالتشيّع درجات ، والتكفير عند أهل السنة والجماعة ، ينبني على ما ينقض الإيمان : من قول ، أو فعل ، أو شك ، أو اعتقاد ، كاتخاذ الوسائط التي تُصرف إليها العبادة ـ حتى لو كانوا أنبياء أو ملائكة ـ لتقرب إلى الله تعالى ، أوالقول بتحريف القرآن ، أو تكفير الصحابة ، أو قذف أمهات المؤمنين ، ونحو ذلك مما يصير به المسلم مرتدا ، وبعد إقامة الحجة فيما يشترط فيه البيان ، على ما هو مبيّن في باب الردة في كتب الفقه ، والأصل في أهل الشهادتين الإسلام ، ولايزول اليقين بالشك .
أما قول الفئة الضالة ، بأنه ( من نافلة القول أن كل طائفة من الطوائف الإسلامية تعتبر الأخرى ضالة وفي النار لورود حديث صحيح ثابت مجمع عليه عن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم يقول فيه : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاواحدة ) ، ففيه من المغالطة انه ليس حديثا مجمعا عليه ، بل قد ضعّف الزيادة التي فيها ( كلها في النار إلا واحدة ) ، بعض العلماء من أهل السنة ، وبعضهم حكم عليها بالوضع ، وإن كان الصحيح ثبوتها .
غير أن معنى الحديث عند أهل السنة ، على معنى الوعيد الذي قد يتخلف لأسباب كما يتخلف الوعيد على الكبائر : كما قال شيخ الإسلام رحمه الله :
( ليس كل من خالف فى شىء من هذا الاعتقاد ـ أي إعتقاد أهل السنة ـ يجب أن يكون هالكا ، فإن المنازع قد يكون مجتهدا مخطئا يغفر الله خطأه ، وقد لا يكون بلغه فى ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة ، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته ، واذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لايجب أن يدخل فيها المتأول ، وذو الحسنات الماحية ، والمغفور له ، وغير ذلك ، فهذا أولى ، بل موجب هذا الكلام ، أن من اعتقد ذلك نجا فى هذا الاعتقاد ، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجيا ،ـ وقد لا يكون ناجيا ، كما يقال من صمت نجا )
والحاصل أن أهل السنة لايجزمون على مخالفيهم بدخول النار على كلّ حال ـ مالم يرتد ويموت على الردة ـ كما لايحكمون على جميع الطوائف المخالفة لأهل السنة بالكفر ، ويعذرون المخطيء بالجهل ، والتأويل ، ويعدون المخالفة للإعتقاد الصحيح ، خطأ تارة ، وضلالا تارة ، وكفرا تارة ، ثم لايقتضي ذلك عندهم ـ وإن كان كفرا ـ أن يكون الواقع فيه كافرا ، فقد يكون معذروا بتأويل ، أو جهل ، أو إكراه .
الثالث : أن ثمة دلائل كثيرة تتعاظم مع الأيام ، وهي تشير إلى مؤامرة تهدف إلى إثارة الفتنة في بلاد الإسلام ، بتحريك طائفة الشيعة في كل بلد ، لإشغال المنطقة عن مواجهة الخطر الأعظم الذي دهمها وهو هذا المشروع الصيهوصليبي ، ثم استغلال هذه الطائفة في مخطط بالغ الخطورة سنبيّنه بعد ، والواجب على العقلاء أن يتنبّهوا لذلك ، فيقطعوا السبيل على مثيري هذه الفتنة .(/1)
وأجدني مضطرا ، قبل تفصيل الرد على عقائدة هذه الهيئة الضالّة ، أن ألقي الضوء على تطور المذهب الشيعي في جانبه السياسي ، مع ربط ذلك بالمخطط الغربي الذي نعيش أحداثه العاصفة ساعتنا هذه :
علاقة التشيّع بالمخطط الغربي لتقسيم دول المنطقة :
كان الجانب السياسي لدى الشيعة يسيطر عليه عقيدة " الغيبة والإنتظار " ، طيلة قرون مضت ، إذ كانت عقيدة الإمامية قائمة على أن الإمام المعصوم المنصوص عليه هو الذي يتولى أمر الأمة ، وأن الأرض لايجوز أن تخلو من إمام معين من قبل الله تعالى ، فليس في الأمر شوى ولا انتخاب ، بل كل النشاط السياسي برمته في الدولة ، لايجوز أن يقوده إلا الإمام المعصوم حتى من الخطأ والنسيان ، وما على غيره من الرعيّة إلا الإنقياد التام فحسب ، ولهذا فليس في العقيدة الشيعية السياسية في الأصل شورى ، ولا رقابة على سلطة ، فضلا عن تداولها ، ولاتعترف العقيدة الشيعية السياسية بأي دولة إلاّ دولة المعصوم أصلا ، فهو خوارج على كل نظام سياسي لايرجع إلى إمامة المعصوم أو النيابة عنه ، بأصل عقيدتهم !
ولمّا كان نصب الدولة ، والجهاد ، وإقامة الحدود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإقامة الجمعة .. إلخ ، وسائر الولايات السياسية تابعة لمنصب الإمام المعصوم ، وقد خلى هذا المنصب منذ أن اضطرت الشيعة لتفسير انقطاع تسلسل الإمامة ، بولادة ابن للحسن العسكري ، ثم غيابه ، وأنه المهدي المنتظر الغائب في السرداب ، فقد بقيت الشيعة خارج الحياة السياسية ، تسيطر عليها عقيدة الغيبة والإنتظار كما ذكرنا.
غير أنه قد تطور الفكر الشيعي بعد ذلك ، وحاول كثير من المفكّرين ، اقتحام السور المضروب على عقيدة الغيبة والإنتظار ، حتى وصل تطور الفكر السياسي إلى فكرة " ولاية الفقيه " التي كان الشيخ احمد بن محمد مهدي النراقي (توفي 1245هـ أول من دعا إليها ، في كتابه :(عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام) ، وبحث مشكلة الإمامة أو السلطة و الولاية العامة وضرورتها في (عصر الغيبة) وذلك على نفس الأسس الفلسفية والمبادئ التي توجب (الإمامة ) للأئمة المعصومين عندهم .
قال أحمد الكاتب في كتابه " تطور الفكر الشيعي " : ولم يتوقف النراقي وهو يؤسس لشرعية (ولاية الفقيه الكبرى) التي تضاهي الإمامة العامة الكبرى ، عند شروط :(العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينية) التي أدت بالأجيال الشيعية الامامية الأولى ، وخاصة بعد الحيرة التي أعقبت وفاة الإمام الحسن العسكري دون ولد ظاهر ، إلى القول بفرضية وجود (الإمام محمد بن الحسن العسكري) ثم أدت بهم إلى القول بنظرية (التقية والانتظار) التي كانت تحرم الثورة والإمامة والجهاد والحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلاة الجمعة وتبيح الخمس والزكاة والأنفال وما إلى ذلك في (عصر الغيبة) .
وقام النراقي بإعطاء الفقهاء منصب (الإمامة الكبرى) ومسئولياتها العامة ، وقال بصراحة :· كلما كان للنبي والإمام فيه الولاية ، وكان لهم ، فللفقيه أيضا ذلك ، إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما وقال:· ان كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم ولا بد من الإتيان به ولا مفر منه ، اما عقلا أو عادة من جهة توقف أمور العباد والمعاش لواحد أو جماعة عليه ، وإناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا به ، أو شرعا من جهة ورود أمر به أو إجماع أو نفي ضرر أو إضرار أو عسر أو حرج أو فساد على مسلم ، أو دليل آخر.. أو ورود الإذن فيه من الشارع ولم يجعل وظيفة لمعينٍ واحد أو جماعة ولا لغير معين ، أي واحد لا بعينه ، بل عُلمَ لا بدية الإتيان به أو الإذن فيه ، ولم يُعلم المأمور ولا المأذون فيه .. فهو وظيفة الفقيه وله التصرف فيه والإتيان به .
ثم جاء الخميني فزاد في مبدأ ولاية الفقيه بضرورة الإمامة في عصر الغيبة ، وقال ان ما هو دليل الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر (ع) سيما مع هذه السنين المتمادية ، ولعلها تطول - والعياذ بالله - إلى آلاف السنين، والعلم عنده تعالى وقال : · أية حاجة كالحاجة إلى تعيين من يدبر أمر الأمة ويحفظ نظام بلاد المسلمين طيلة الزمان ومدى الدهر في (عصر الغيبة)مع بقاء أحكام الإسلام التي لا يمكن بسطها إلا بيد والي المسلمين وسائس الأمة والعباد؟ واستشهد بقول السيدة فاطمة الزهراء (ع) في خطبتها المعروفة :( والطاعة نظاما للملة والإمامة لماً من الفرقة) كدليل على لزوم بقاء الولاية والرياسة العامة، وقال: ... أما في زمان الغيبة فالولاية والحكومة ، وان لم تجعل لشخص خاص ، لكن يجب بحسب العقل والنقل ان تبقيا بنحوٍ آخر، لما تقدم من عدم إمكان إهمال ذلك ، لأنها مما يحتاج إليه المجتمع الإسلامي... والعلة متحققة في زمن الغيبة ، ومطلوبية النظام وحفظ الإسلام معلومة لا ينبغي لذي مسكة (عقل) إنكارها أ.هـ(/2)
والمقصود أن تطور الفكر السياسي الشيعي وصولا إلى نظرية ولاية الفقيه ، ثم توافق ذلك زمانا مع سقوط الشاه ، واجتماع عوامل عدة أدت إلى نجاح الثورة الخمينية ، فسيطرة الشيعة على آلة الدولة في إيران ، تلك الأرض المترامية الأطراف الغنية بالموارد الطبيعية الضخمة ، والموقع الجغرافي الاستراتيجي ، والشعب الحيوي ، الذكي ، والمبدع ، بالحضارة الضاربة في عمق التاريخ ، أدّى أن يتطلع الخمينيون إلى تسخير آلة الدولة ، وموارد الأرض ، وطاقات الشعب ، لتصدير العقيدة إلى الخارج ، وبسط الهيمنة العقائدية على الخليج ، فالجزيرة ، فالعالم الإسلامي.
ولم يكن ثمّة خطّة توسّع أفضل ، ولا أيسر وأقل تكلفة ، من استغلال الحماقة التي ارتكتبتها الإدارة الأمريكية في اجتياح العراق ، فحصلت إيران على فرصتها التاريخية في تحويل العراق لاسيما جنوبه إلى نسخة أخرى من الدولة الخمينية ، تمهيدا لتوسّع آخر ينساب على طول الخليج مرورا بالكويت إلى البحرين ، حيث تنتشر الأحزاب الشيعية التي تُعَدّ امتدادا استراتيجيا لإيران .
ويتزامن هذا مع مخطط أمريكي قديم يهدف إلى تقسم المنطقة :
ففي السبعينات نشرت جريدة النهار البيروتية ، مقالا هاما لعلياء الصلح، بنت رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رياض الصلح ، وقد ذكرت فيه أن ثمة مخططا امريكيا سريا يقضي بتقسيم المملكة العربية السعودية الى ثلاث دويلات..
ثم في صيف 1987 نشرت مخططات في أمريكا ودول غربية ، تهدف إلى تفكيك دول عربية وشرق اوسطية غير عربية، والعربية هي، سوريا والسعودية والعراق وايران وسلطنة عمان واليمن ودولة الامارات العربية المتحدة وقطر والكويت.
ثم نشرت مجلة المستقبل العربي ـ الصادرة عن مركز الدراسات العربية الوحدوية في نوفمبر ـ 1992 بحثا لسفير سوري سابق ، هو خير الدين عبدالرحمن ، ذكر فيه :
لقد تبنت ادارة الرئيس الامريكي ريغان المخطط الاستراتيجي للتغيير في خريطة الشرق الاوسط.. والخليج العربي خاصة، واسرائيل لكي تتسع بآفاق حدودها الوهمية والتي لا تقبل برسمها املا في الاتساع.. ونال المخطط موافقة الكونغرس الامريكي بالاجماع عام 1983 والتصديق عليه، واطلق عليه مشروع الشرق الاوسط اليهودي الامريكي والذي وضعه هو (برنار لويس) القاضي بتقسيم منطقة الشرق الاوسط بأكملها ، والتي اطلق عليها بعد حادثة 11 سبتمبر خريطة الشرق الاوسط الجديدة.. وحسب الوثائق المنشورة من قبل لم تعد جديدة..
والغريب في الأمر ، أنه بعد تحرير الكويت زارت نائبة وزير الخارجية الامريكية الكويت ، فوجه لها هذا السؤال في احدى الديوانيات الكبيرة: هل مخطط التقسيم للمنطقة العربية مازال قائما؟ فأجابت بصحة المخطط وضرورة انجازه.. والتقسيم المخطط له سيشمل تركيا وايران وافغانستان بالاضافة الى الدول العربية في المشرق وفي افريقيا ابتداء من مصر المخطط لها ان تكون من دول ثلاث .
ينذر هذا المخطط الرهيب بتقسيم منطقة الشرق الاوسط بأكملها من جديد، وهذا ما دفع (زبيغينيو بريجنسكي) مستشار الرئيس الامريكي الاسبق للامن القومي لأن يتوقع نشوب حرب أخرى في المنطقة على غرار الحرب الايرانية العراقية .
كما جاء في كتاب أسرار سياسية عربية ص 183 ، خريطة صهيونية لتقسيم شبه الجزيرة العربية والخليج وفيها الغاء الكويت وقطر والبحرين وسلطنة عمان واليمن والامارات العربية المتحدة .
وتضم ثلاث دويلات فقط هي :
دويلة الاحساء الشيعية
ودويلة نجد السنية
ودويلة الحجاز..
وضع الخريطة المستشرق الصهيوني برنار لويس سنة 1980 واعتمدها الكونغرس الامريكي بالاجماع في جلسة سرية عام 1983،.. وعرضت للتنفيذ منذ عام 1991 على نار هادئة حتى زاد اشتعالها في أتون العراق خلال عامين لتطبيق هذا المخطط .. منقول بتصرف من مقال الكاتب عبدالله خلف في صحيفة الوطن الكويتية بتاريخ 11/7/2005
والحاصل أن المخطط الشيعي الإيراني قد أصبح جزءا من مشروع غربي واسع ، يستهدف تقسم المنطقة ، وإضعافها ، وتفتيتها ، واستعمال المخطط الشيعي الإيراني في هذا المشروع الشيطاني ، وهذا هو الذي يفسّر ما يجري الان على المشهد السياسي من طهران مرورا بجنوب العراق إلى الكويت فالمنطقة الشرقية في البحرين .
وما تحمله الأيام القادمة أشد مما مضى ، ومن الواضح أن الفتنة أطلت بقرونها ، وتوشك أن تعصف بالمنطقة برمتها ، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من شرورها ، ويرزقنا العفو والعافية في الدارين ، والثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد آمين .
وهذا أوان الردّ على الهيئة الضالّة ، فقد تضمت المجلة الناطقة باسم هذه الهيئة ، وهي مجلة المنبر ، من الفِرى على دين الله ، وإهدار كلّ محكماته ، ما يصعب حصره ، ولكنها ترجع في الجملة إلى :
1ـ التشكيك في القرآن الكريم ، وإنكار أنه محفوظ من كلّ تحريف .
2ـ الشرك الأكبر في دعاء غير الله تعالى وتوجيه العبادة إلى سواه .(/3)
3ـ الطعن في الصحابة وتكفيرهم وتكفير المخالفين والمنكرين لإمامة علي رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
4ـ وقذف وتكفير أمهات المؤمنين رضي الله عنهن .
ومن الواضح أن هذه المجلة يدور الفكر الذي تقدمه على هدم ثلاثة أمور لا يقوم دين الإسلام إلا بها :
الأول : القرآن العظيم .
الثاني : الصحابة الذين نقلوا الدين ، ومن العجائب أنهم يقولون نحن لا نطعن في الصحابة الذين ماتوا في زمن النبوة ، بل الذين بقوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، والهدف واضح ، وهو أن الذين بقوا هم الذين نقلوا دينه من بعده ، فالطعن فيهم طعن في القرآن وفي السنة وفي الدين كله .
الثالث : تشويه صورة بيت النبوة نفسه ، بالطعن في أمهات المؤمنين .
أما التشكيك في القرآن :
فقد جاء في هذه المجلة الصادرة عن هيئة خدام المهدي قولها ( كان أعداء علي عليه السلام كثيرين ، ومبغضوه أكثر ، وكان من السهل التأثير على كتّاب الوحي ، والحفظه ، لتحريف القرآن ، وحذف الآيات التي ذكر فيها علي ، وهكذا صار القرآن محرفا ، والأمة كقطيع الإبل السائبة ) المنبر عدد 18
وقد اتفق العلماء على أن المشكك في حفظ القرآن كافر ، لانه :
أولا : مكذب للقرآن في قوله تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) .
ثانيا : مبطل لآية الإسلام الخالدة التي تحدى الله تعالى بها الإنس والجن إلى قيام الساعة قال تعالى ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ، ومعلوم أن كل نبي آتاه الله آية مؤقتة بزمنه ، لان أحدا منهم لم تكن رسالته خالدة ، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد جعل الله تعالى رسالته باقية ، فكانت آيته العظيمة وهي القرآن باقية ببقاء رسالته ، ولهذا فمن يشكك في حفظ الله للقرآن ، ويدعي أن الصحابة غيروه ، وبدلوه ، وعبثت به الأيدي ، فهو مبطل لآية الإسلام ، وكفى بهذا كفرا مبينا .
ثالثا : أن إدعاء إمكان تحريف القرآن ، فضلا عن القول بتحريفه ، إبطال للشريعة كلها ، لان كل آية سيحتمل وقوع التحريف فيها على هذا القول ، فتذهب فائدة الانتفاع به ، وتبطل الشريعة ، وكفى بهذا شركا وافتراءا على دين الله .
رابعا : لم يشكك في حفظ القرآن ، إلا المستشرقون بغية هدم الدين ، وهؤلاء الضالون السبئية ساروا معهم في هذا الكفر المبين ، وبهذا يعلم أن الهدف واحد وهو القضاء على دين الإسلام ، بالتشكيك بأعظم ما فيه وهو كتا ب الله تعالى .
أما الشرك في عبادة الله تعالى :
فقد ورد في المجلة ما يلي :
1ـ (الزوجة الهندوسية نادت يا حسين الشيعة ، فظهر لها جسم نوراني ، وأعاد الرأس المقطوعة إلى مكانها ، فوقف الزوج حيا ، وانتقم من القتلة المنبر عدد 24 )
2ـ (الام تعلقت بضريح باب الحوائج للعباس عليه السلام ، فأعاد الحسين عليه السلام ولدها إلى الحياة المنبر عدد 23 ) .
وهذا كله من الشرك في عباده الله تعالى ، لان الدعاء عبادة ، وفي الحديث ( الدعاء هو العبادة ) والشرك هو توجيه العبادة لغير الله تعالى ، كما قال تعالى ( قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا ) وقال ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ) وقال ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) وقال ( وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) ، وقال ( إياك نعبد وإياك نستعين ) , وقال ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) والصلاة إنما هي دعاء من أولها إلى آخرها ، وقال تعالى على لسان ابراهيم عليه السلام إمام الموحدين ( الذي خلقني فهو يهدين ، والذي هو هو يطعمني ويسقين ، وإذا مرضت فهو يشفين ، والذي يميتني ثم يحيين ، والذي اطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) .
وفي الحديث الصحيح ( إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ) ،والنصوص في هذا الباب كثيرة ، وهي دالة بلا ريب ، أن كل من يوجه دعاءه لغير الله تعالى ، فيما لايجوز سؤاله من غير الله تعالى ، فهو مشرك ، لانه عابد لذلك الغير مع الله تعالى
ومن هؤلاء المشركين ، الداعين لغير الله تعالى ، من يقول : نحن لا ندعوهم لاعتقادنا أنهم يخلقون ويرزقون ويحيون ويميتون ، وإنما نستشفع بهم إلى الله تعالى ، ومع أنهم يكذبون في هذا الزعم ، بل هم يعتقدون أنهم يخلقون ويرزوقون ويحيون ويميتون ، ويعلمون الغيوب ، وهذا شرك في الربوبية مع ما فيه من شرك في الالوهية ، ولكن ـ على سبيل التنزل ـ نقول لهم حتى لو زعمتم أنكم إنما تدعونهم من دون الله تعالى ، بقصد الاستشفاع بهم إلى الله ، فهذا لاينفعكم ، بل هو أيضا شرك في عبادة الله تعالى .(/4)
بل هذا الذي تقولونه ، هو مقصد الكفار الأولين ومرادهم ، بعينه لايعدوه قيد أنملة ، فلم يكن مراد كفار قريش في شركهم وعبادتهم غير الله تعالى ، أن آلهتهم تخلق أو ترزق، أو تنفع أو تضر بنفسها، فإن ذلك يبطله ما ذكره الله عنهم في القرآن، وأنهم أرادوا شفاعتهم وجاههم، وتقريبهم إلى الله زلفى، كما قال سبحانه وتعالى في سورة يونس عليه الصلاة والسلام: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ فرد الله عليهم ذلك بقوله: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الارْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ، فأبان سبحانه أنه لا يعلم في السموات ولا في الأرض شفيعا عنده على الوجه الذي يقصده المشركون، وما لا يعلم الله وجوده لا وجود له؛ لأنه سبحانه لا يخفى عليه شيء، وقال تعالى في سورة الزمر: ( تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) .
فبين سبحانه في هذه المواضع ، أن العبادة لاتكون إلا له وحده، وأنه يجب على العباد إخلاصها له جل وعلا؛ لأن أمره للنبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص العبادة له، أمر للجميع .. ومعنى الدين هنا هو العبادة، والعبادة هي اسم يجمع كل ما يتقرب به إلى الله من الاعمال والاقوال الظاهرة والباطنة ، ويدخل فيها الدعاء والاستغاثة، والخوف، والرجاء والذبح والنذر.
كما يدخل فيها الصلاة والصوم وغير ذلك، مما أمر الله به ورسوله، ثم قال عز وجل بعد ذلك: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) ، أي يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى فرد الله بقوله سبحانه: ( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) ، فأوضح سبحانه في هذه الآية الكريمة: أن الكفار ما عبدوا الأولياء من دونه إلا ليقربوهم إلى الله زلفى.
والمقصود أن هذا هو زعم الكفار المشركين بالله تعالى منذ القدم ، يزعمون أنهم يعبدون ما يعبدونه من دون الله ، ليقربهم إلى الله زلفى ، ولكن الله تعالى ، قد أبطل ذلك بقوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ 9 ، فأوضح سبحانه كذبهم في زعمهم أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى، وكفرهم بما صرفوا لها من العبادة .
وبذلك يتضح جليا أن الكفار الأولين إنما كان كفرهم وشركهم ، باتخاذهم المعبودات من دون الله ، شفعاء بينهم وبين الله ، كما يشفع المقربون عند الملوك ، فقاسوه عز وجل على الملوك والزعماء، وقالوا: كما أن من له حاجة إلى الملوك والرؤساء يتشفع إليه بالخواص ، والوزراء ، والمقربين ، فهكذا نحن نتقرب إلى الله بعبادة أنبيائه وأوليائه، وهذا هو الكفر بعينه ، والشرك باسمه ورسمه .
لأنه سبحانه لا شبيه له، ولا يقاس بخلقه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه في الشفاعة، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وهو أرحم الراحمين، لا يخشى أحدا ولا يخافه ، ولايتوقف عطاؤه على إذن آذن ، ولا مكره له سبحانه ، يحمله أن يعطي مالايريد أن يعطي ، او ما لايحب أن يفعل ، ولهذا صح في الحديث ( إذا دعا أحدكم ربه فليعزم المسألة ولايقول اللهم أغفر إن شئت ، فإن الله تعالى لامكره له ) .
لأنه سبحانه هو القاهر فوق عباده، والمتصرف فيهم كيف يشاء، بخلاف الملوك والزعماء فإنهم لا يقدرون على شيء ، فلذلك يحتاجون إلى من يعينهم على ما قد يعجزون عنه، من وزرائهم وخواصهم وجنودهم، كما يحتاجون إلى تبليغهم حاجات من لا يعلمون حاجته، فيحتاجون إلى من يستعطفهم ويسترضيهم من وزرائهم وخواصهم .
أما الله تعالى فهو سبحانه غني عن جميع خلقه، وهو أرحم بهم من أمهاتهم، وهو الحكم العدل، يضع الأشياء في مواضعها، على مقتضى حكمته ، وعلمه ، وقدرته، فلا يجوز أن يقاس بخلقه .
ولهذا أوضح سبحانه في كتابه: أن المشركين كانوا يعتقدون في الله تعالى ، أنه هو الخالق الرازق ، وأنه هو الذي يجيب المضطر، ويكشف السوء، ويحيي ويميت، إلى غير ذلك من أفعاله سبحانه .(/5)
وإنما الخصومة بين المشركين وبين الرسل في إخلاص العبادة لله وحده، كما قال عز وجل: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وقال تعالى: ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالارْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالابْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الامْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وكلها تدل على أن النزاع بين الرسل وبين الأمم، إنما هو في إخلاص العبادة لله وحده، كقوله سبحانه: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ، وما جاء في معناها من الآيات .
وقد بين سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه الكريم شأن الشفاعة، فقال تعالى في سورة البقرة: ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) ، وقال في سورة النجم: ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ) .
وقال في سورة الأنبياء في وصف الملائكة: ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) ، وأخبر عز وجل أنه لا يرضى من عباده الكفر، وإنما يرضى منهم الشكر، والشكر هو توحيده والعمل بطاعته، فقال تعالى في سورة الزمر: ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) .
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" أو قال "من نفسه"
وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا
أما الطعن في الصحابة :
فقد أوردت مجلتهم ، نقولا كثيرة لا تحصى في الطعن في الصحابة ، وقد وصل الأمر إلى اتهام الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه ، بانه مصاب الشذوذ الجنسي ، و كذا كل من يدافع عنه من علماء المسلمين ، فهو مثله !!
قذف" هيئة الخدام الضالّة " الصريح لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها :
كما نشرت مجلة المنبر الصادرة عن هيئة خدام المهدي ، في عددها لشهر شعبان 1425هـ ـ بلتويح واضح ـ وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عديم الشرف وأنه ليس مثل عشائر العرب الذين يجعلون الشرف أغلى من الروح والحياة ، وذلك بإبقاءه على عائشة رضي الله عنه زوجة له إلى وفاته ، مع أنها كانت ـ كما تفتري المجلة بغاية الإنحطاط والسقوط والحقد ـ كانت تمارس مهنة ترويج الدعارة في المجتمع المدني أيام الصحابة .
والتي وصفت نفسها بأنها مجلة فكرية ثقافية شهرية ، قالت تحت اسم مستعار كما يبدو ( سعيد السماوي ) ما يلي :
" من دون أي خجل ، ومن دون أي حياء ، امتهنت عائشة مهنة "التسكع " !!! بالجواري حيث تأخذهن وتزينهن ، وتعمل لهن عمليات المكياج المناسبة ، من أجل إغواء الشباب في الطرقات ، وجذبهن إليها(هكذا يبث حقده على النبي صلى الله عليه وسلم بوصف زوجته بهذه الأوصاف ) لأنها لم تعد ( جذابة ) ، كما كانت شابة ، رغم سوادها ودمامتها !! فهل عرفتم الآن لماذا تبرأتم من " ماما عائشة " ، لأنني بصراحة لست مستعدا لأن تكون أمي متسكعة ، ولا أتصور أن أي شخص يمكن أن يقبل أن يحترم أمه ، أو أخته ، أو زوجته ـ لاحظ الطعن الواضح في النبي صلى الله عليه وسلم ـ إذا كانت هذه القذارة هي مهنتها ؟!
وأي صاحب غيره ـ لاحظ كيف يعود يلمز في شرف النبي صلى الله عليه وسلم ـ يقبل أن تكون إحدى محارمه تمارس مهنة ( قـ... ) ص 25
ويقول سابقا لهذا الكلام : ( حقائق مؤلمة ، ولكن من يقدر على إنكارها ، وبالنسبة لي شخصيا فإنه لو كانت أمي التي ولدتني بهذه الصفات التي سأنقلها عن عائشة ، وبهذا الحجم الهائل من الانحلال الأخلاقي ، فإنني لن أتردد في البراءة منها ، ولولا أنه لا يجوز لي قتلها كنت فعلت ـ لاحظ كيف يعود ويكرر الهمز واللمز في النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ـ لان الشرف عندنا نحن أبناء عشائر العرب أغلى من الروح والحياة ) ص 19
وواضح جدا ولا يحتاج إلى إيضاح ، أنه يريد أن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم ليس عربيا ولم يكن عنده ما عند الكاتب من الشرف الذي هو أغلى من الروح عند عشائر العرب ، ولهذا كانت زوجته عائشة ـ رضي الله عنها ولعن من سبها ـ تفعل ما تفعل وبقيت عنده لم يتركها حتى مات !!
وفيما يلي بيان منزلة الصحابة وحكم من يطعن فيهم :
فضل الصحابة :(/6)
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله : ( فإن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من السابقين والتابعين لهم بإحسان . وأخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه ؛ وذكرهم في آيات من كتابه .
مثل قوله تعالى { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } .
وقال تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا } .
وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه } .
وقد اتفق أهل السنة والجماعة على ما تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما واتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة عثمان بعد عمر رضي الله عنهما .
وقال صلى الله عليه وسلم { عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة } .
وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه آخر الخلفاء الراشدين المهديين . وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا : أبو بكر ثم عمر ؛ ثم عثمان ؛ ثم علي رضي الله عنهم . ودلائل ذلك وفضائل الصحابة كثير ؛ ليس هذا موضعه .
وكذلك نؤمن " بالإمساك عما شجر بينهم " ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب وهم كانوا مجتهدين ؛ إما مصيبين لهم أجران ؛ أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم ؛ وما كان لهم من السيئات - وقد سبق لهم من الله الحسنى - فإن الله يغفرها لهم : إما بتوبة أو بحسنات ماحية أو مصائب مكفرة ؛ أو غير ذلك . فإنهم خير قرون هذه الأمة كما قال صلى الله عليه وسلم { خير القرون قرني الذي بعثت فيهم ؛ ثم الذين يلونهم } وهذه خير أمة أخرجت للناس . ونعلم مع ذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية وممن قاتله معه لما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق } .
وفي هذا الحديث دليل على أنه مع كل طائفة حق ؛ وأن عليا رضي الله عنه أقرب إلى الحق . وأما الذين قعدوا عن القتال في الفتنة ؛ كسعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهما رضي الله عنهم فاتبعوا النصوص التي سمعوها في ذلك عن القتال في الفتنة وعلى ذلك أكثر أهل الحديث .
وكذلك " آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم " لهم من الحقوق ما يجب رعايتها فإن الله جعل لهم حقا في الخمس والفيء وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لنا : { قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد . وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد } . وآل محمد هم الذين حرمت عليهم الصدقة هكذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل ؛ وغيرهما من العلماء - رحمهم الله - فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد } .
وقد قال الله تعالى في كتابه : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } وحرم الله عليهم الصدقة لأنها أوساخ الناس وقد قال بعض السلف : حب أبي بكر وعمر إيمان ؛ وبغضهما نفاق . وفي المسانيد والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس - لما شكا إليه جفوة قوم لهم قال : { والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي } . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله اصطفى بني إسماعيل ؛ واصطفى بني كنانة من بني إسماعيل ؛ واصطفى قريشا من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش ؛ واصطفاني من بني هاشم }
انتهى كلام شيخ الاسلام ابن تيمية .
قلت : ومعلوم أن الطعن في الصحابة الكرام ، هو اتهام لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه بالفشل في رسالته ، وأنه لم يقدر أن يؤسس له اتباعا مخلصين ، فكان ـ على زعم هؤلاء المنافقين الذين يطعنون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، الذين هم خاصة أتباعه الذين لايفارقونه حضرا ولا سفرا ، وأصهاره ، ووزراءه ،كانوا لايؤمنون بما يقول ، بل يضمرون النفاق والخيانة له طيلة وقت صحبتهم له .(/7)
ثم إنه بعد موته ، خانوه في أعظم أمور الدين ـ ويزعم هؤلاء الذين يطعنون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن الامامة هي أعظم أمور الدين ـ خانوه في هذا الامر العظيم ، وبذلك يكون الصحابة رضي الله عنهم ، قد أثبتوا للناس جميعا ـ كما هو لازم قول هؤلاء ـ أن النبي الذي اصطفاه الله على البشر أجمعين ، كان مثالا لاكبر فشل في التاريخ ، وكان دينه الذي فضله الله تعالى على كل الاديان ، كان أسوأ الاديان حظا من التوفيق الالهي ، فلم يحمله بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا الخونة ، ولم ينشره في الارض إلا أهل النفاق والريب فيه ، وأن القرآن الذي هو أعظم الكتب ، صار بيد أشد الناس خيانة في التاريخ ؟؟!!
فتأمل ما الذي يؤدي إليه الطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، من الشناعات التي لايقرها شرع ولا عقل ، والله ثم والله ، لايطعن فيهم إلا حاقد على هذا الدين ، ساع في إفساده وإبطاله .
والطعن في الصحابة نفاق ، كما قال صلى الله عليه وسلم : رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يحب الأنصار إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق, فمن أحب الأنصار أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله)) ، وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم قد أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) ،
و الطعن في الصحابة عموماً طعن في القرآن وتكذيب للآيات من سورة الحشر فقد أثنى الله عز وجل علي المهاجرين من أصحاب نبيه بقوله للفقراء والمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون )
وأثنى الله تعالى عن الأنصار من أصحاب نبيه بقوله: والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) ، الدار والإيمان اسمان من أسماء هذه المدينة المباركة .
ثم وصف الله تعالى حال المؤمنين من بعدهم المؤمنون الذين لزموا الجماعة وتمسكوا بالسنة المؤمنون الذين أعظم ما في قلوبهم حب الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين والدعاء للصحابة والاستغفار لهم قال تعالى: والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا انك رؤوف رحيم [الحشر:10]
كفر من يقذف عائشة رضي الله عنها :
قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول ص 571 : قال القاضي أبو يعلى : "من قذف عائشة رصي الله عنها بما برأها الله منه كفر بلا خلاف"
وقال في الصارم المسلمون ص 566 : "روى عن محمد بن زيد بن علي بن الحسين أخي الحسن بن زيد أنه لما قدم عليه رجل من العراق فذكر عائشة بسوء، فقام إليه بعمود فضرب به دماغه فقتله، فقيل له : هذا من شيعتنا ومن بني الآباء ! فقال : هذا سمى جدي (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم )قرنان، ومن سمى جدي قرنان استحق القتل" .
وروي عن أخيه الحسن بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب :"أنه كان بحضرته رجلا فذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة ، فقال : يا غلام اضرب عنقه ، فقال له العلويون : هذا رجل من شيعتنا ، فقال : معاذ الله ، هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال الله تعالى : (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات..)الآية(سورة النور 26)، فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم خبيث ، فهو كافر فاضربوا عنقه . فضربوا عنقه ، وأنا حاضر .
وقال ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة ص 101 :"علم من حديث الإفك أن من نسب عائشة المشار إليه أن من نسب عائشة إلى الزنا كان كافرا، وقد صرح بذلك أئمتنا وغيرهم لأن في ذلك تكذيب النصوص القرآنية ، ومكذبها كافر بإجماع المسلمين، وبه يعلم القطع بكفر كثيرين من غلاة الروافض، لأنهم ينسبونها إلى ذلك قاتلهم الله أنى يؤفكون"
نبذ من مراجع الشيعة التي تستقي منها الهيئة الضالة عقائدتها :
الشرك في الدعاء :
في كتاب مستدرك الوسائل ص 310 باب الصلاة : " ثم تضع خدك الأيمن على الأرض وتقول مائة مرة في سجودك يا محمد يا علي يا علي يا محمد اكفياني فإنكما كافياي ، وانصراني فإنكما ناصراي ، وتضع خدك الأيمن على الأرض وتقول مائة مرة : أدركني ، وتكررها كثيرا ، وتقول : الغوث ، الغوث ، الغوث ، حتى ينقطع النفس "
الغلو في علي رضي الله عنه ، والأئمة حتى نسبة صفات الربوية إليهم :(/8)
وفي كتاب الرجعة ص 205 أن عليا رضي الله عنه يقول " وأنا لي الكرة بعد الكرة ،والرجعة بعد الرجعة ، وأنا صاحب الرجعات والكرات ،وصاحب الصلوات والنقمات ، والدولات العجيبات ، وأنا قرن من حديد ، وأنا عبدالله ، وأخو رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأنا أمين الله ، وخازنه ، وعيبة سره ، وحجابه ، ووجهه ، وصراطه ، وميزانه ، وأنا الحاشر إلى الله ، وأنا كلمة الله التي يجمع بها المتفرق ، ويفرق بها المجتمع ، وأنا أسماء الله الحسنى ، وأمثاله العليا ، وآياته الكبرى ، وأنا صاحب الجنة والنار ، أسكن أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، وإلي إياب الخلق جميعا ، وأنا الإياب الذي يؤوب إليه كل شيء بعد القضاء ، وإلي حساب الخلق جميعا ، وأنا صاحب الهنات ، وأنا المؤذن على الأعراف ، وانا أمير المؤمنين ، ويعسوب المتقين ، وآية السابقين ، ولسان الناطقين ، وخاتم الوصيين ، ووارث النبيين ، وخليفة رب العالمين ، وصراط ربي المستقيم ، وقسطاسه ، والحجة على أهل السموات والأرضين وما بينهما ، وأنا الذي احتج الله به عليكم في ابتداء خلقكم ، وأنا الشاهد يوم الدين ، وأنا الذي علمت علم المنايا والبلايا والقضايا ، وفصل الخطاب والأنساب ، واستحفظت آيات النبيين المستحقين ، المستحفظين ، وأنا صاحب العصا والميسم ، وأنا الذي سخرت لي السحاب ، والرعد ، والبرق ، والظلم ، والأنوار ، والرياح ، والجبال ، والبحار ، والنجوم ، والقمر ، وأنا قرن الحديد ، وأنا فاروق الأمة ، وأنا الهادي ، وأنا الذي أحصيت كل شيء عددا ، وأنا الذي أنحلني ربي اسمه ، وكلمته ، وحكمته ، وعلمه وفهمه "
وفي كتاب الرجعة أيضا ص 201 " في ذكر بعض ما جاء في رجعة أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، وأنه دابة الأرض "
وفي مصابيح الأنوار الحديث 222 " ما رويناه بطرق عدة أنهم يعلمون ما كان ، وما يكون ، وما هو كائن ، ويعلمون ما في السموات وما في الأرضين ..
ثم أورد أن هذه العقيدة الشيعية معارضه لما ورد في القرآن من اختصاص الله بعلم الغيب ، ثم أجاب عن الإشكال بأجوبه منها " الثالث أن لهم عليهم السلام حالتين ، حالة بشرية يجرون فيها مجرى البشر في جميع أحوالهم ، كما قال تعالى " قل لا أقول لكم عندي خزائين الله ولا أعلم الغيب " ولهم حالة روحانية برزخية أولية تجري عليهم فيها صفات الربوبية " !!
وفي كتاب الاختصاص عن جعفر عليه السلام " يا مفضل والله ما استوجب آدم أن يخلقه الله بيده وينفخ فيه من روحه إلا بولاية علي ، ولا كلم الله موسى تكليما إلا بولاية علي ، ولا أقام الله عيسى ابن مريم للعالمين إلا بالخضوع لعلي ، ثم قال : أجمل الأمر ما استأهل خلق من الله النظر إليه إلا بالعبودية لنا " !!
وفي كتاب علل الشرائع ص 196 " حدثنا محمد بن الحسن رضي الله عنه ، قال حدثنا محمد بن الحسن الصفار ، قال حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن موسى بن سعدان ، عن عبدالله بن القاسم الحضرمي ، عن سماعة بين مهران قال : قال أبو عبدالله ( ع) ، إذا كان يوم القيامة وضع منبر يراه جميع الخلائق يقف عليه رجل يقوم ملك عن يمينه ، وملك عن يساره ، فينادي الذي عن يمينه يقول : يا معشر الخلائق هذا علي صاحب الجنة ، يدخل الجنة من يشاء ، وينادي الذي عن يساره يا معشر الخلائق ، هذا علي صاحب النار يدخلها من يشاء "
وفيه أيضا ص208 " وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي يا علي : إن الله تبارك وتعالى حملني ذنوب شيعتك ، ثم غفرها لي ، وذلك قوله تعالى " ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر "
وفي كتاب نور العين ص 49 " إن من زار الحسين كمن زار الله في عرشه "
دعوى الإتحاد بين الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا ، الأئمة :
وفي كتاب شرح الزيارة الجامعة الكبيرة ص 107 " وإلى الأول أشار الصادق عليه السلام ، بقوله لنا مع الله حالات نحن فيها هو ، وهو نحن ، إلا أنه هو هو ، ونحن نحن "
استعمال طلاسم السحر :
وفي بحار الأنوار ج 94 ،ص 193 ، الطلسم التالي " بسم الله الرحمن الرحيم ، أي كنوش أي كنوش أرشش عطنيطنيطح ياميططرون فريالسنون ما وما ساما سويا طيطشا لوش خيطوش مشفقيش مشاصعوش أوطيعينوش ليطفيتكش هذا هذا وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ..."
المراجع الشيعية التي قالت بتحريف القرآن :
***أولاً: أبو الحسن علي بن إبراهيم القمي المتوفى عام 307 هـ وله كتاب في التفسير هو تفسير القمي .
قال المجلسي :" علي بن إبراهيم بن هاشم ، أبو الحسن القمي من أجله رواه الأمامية ومن أعظم مشايخهم أطبقت التراجم على جلالته ووثاقته ، قال النجاشي في الفهرست : ثقة في الحديث ثبت معتمد صحيح الذهب سمع فأكثر وصنف كتباً " مقدمة البحار ص 128(/9)
وقال الشيخ طيب الموسوي الجزائري في مقدمة للتفسير " لا ريب في أن هذا التفسير الذي بين أيدينا من أقدم التفاسير التي وصلت إلينا ، ولولا هذا لما كان متناً متيناً في هذا الفن ، ولما سكن إليه جهابذة الزمن فكم من تفسير قيم مقتبس من أخباره ، ولم تره الا منوراً بأنواره كالصافي ومجمع البيان والبرهان … ثم قال بعد ذلك . وبالجملة فإنه تفسير رباني ، وتنوير شعشعاني عميق المعاني قوي المباني عجيب في طوره ، بعيد في غوره لا يخرج مثله إلا من عالم ولا يعقله إلا العالمون " مقدمة تفسير القمي بقلم طيب الموسوي الجزائري ص 14-16.
***ثانياً : أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني المتوفى عام 328هـ ومن مؤلفاته : الكافي.
قال الطوسي : " محمد بن يعقوب الكليني يكنى أبا جعفر الأعور جليل القدر ، عالم بالأخبار وله مصنفات منها الكافي " رجال الطوسي ص 495.
وقال الأردبيلي :" محمد بن يعقوب بن إسحاق أبو جعفر الكليني ، خاله علان الكليني الرازي، وهو شيخ أصحابنا في وقته بالري ووجههم وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم ، صنف كتاب الكافي في عشرين سنة " جامع الرواة 2/218، الحلي ص14.
وقال آغا بزرك الطهراني موثقاً الكافي :" الكافي في الحديث وهو أجل الكتب الأربعة الأصول المعتمدة لم يكتب مثله في المنقول من آل الرسول لثقة الإسلام محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني ابن أخت علان الكليني المتوفي سنة 328هـ " الذريعة 17/245.
كما قيل في الكافي والثناء عليه " هو أجل الكتب الإسلامية ، وأعظم المصنفات الإمامية ، والذي لم يعمل مثله ، قال المولي محمد أمين الاسترآ بادي في محكى فوائده : سمعنا عن مشائخنا وعلمائنا أنه لم يصنف في الإسلام كتاب يوازيه أو يدانيه " " الكنى والألقاب للعباس القمي ج3ص98 ومثله في مستدرك الوسائل ج3ص532.
وقيل أيضاً :" الكافي … أشرفها وأوثقها وأتمها وأجمعها لاشتماله على الأصول من بينها وخلوه من الفضول وشينها " الوافي ج1ص6.
وذكر الخوانساري أن المحدث النيسابوري قال في الكافي بعد الكلام على الكليني والثناء عليه " وكتابه مستغن عن الإطراء لأنه رضي الله عنه كان بمحضر من نوابه عليه السلام وقد سأله بعض الشيعة من النائية تأليف كتاب " الكافي " لكونه بحضرة من يفاوضه ويذاكره ممن يثق بعلمه ، فألف وصنف وشنف ، وحكى أنه عرض عليه فقال : كاف لشيعتنا " ( روضات الجنات ج6ص116) .
***ثالثاً: محمد باقر المجلسي المتوفى سنة 1111هـ ومن مؤلفاته : بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار . وكتاب : مرآة العقول في شرح أخبار الرسول . وكتاب جلاء العيون ، وكتاب الأربعين وغيرها من الكتب . قال الأردبيلي : محمد باقر بن محمد تقي بن المقصود علي الملقب بالمجلسي مد ظله العالي ، استاذنا وشيخنا شيخ الأسلام والمسلمين ، خاتم المجتهدين الإمام العلامة المحقق المدقق جليل القدر عظيم الشأن وفيع المنزلة وحيد عصره ، فريد دهره ، ثقة ثبت عين كثير العلم جيد التصانيف ، وأمره في علو قدره وعظم شأنه وسمو رتبته وتبحره في العلوم العقلية والنقلية ودقة نظره وإصابة رأيه وثقته وأمامته وعدالته اشهر من أن تذكر وفوق ما يحوم حوله العبارة … له كتب نفيسة … منها : كتاب بحار الأنوار المشتمل على جل أخبار الأئمة الأطهار وشرحها كتاب كبير قريب من ألف ألف بيت " جامع الرواة 2/78-79 وتنقيح المقال للمامقاني :2/85
***رابعاً : أبو عبدالله محمد بن محمد بن النعمان المشهور بالمفيد والمتوفى عام 413هـ ومن مؤلفاته : الإرشاد – أمالي المفيد – أوائل المقالات وغيرها .
قال يوسف البحراني في كتاب لؤلؤة البحرين ص356-357 :" قال شيخنا في الخلاصة : محمد بن محمد بن النعمان يكنى أبا عبدالله ويلقب بالمفيد … من أجل مشائخ الشيعة ورئيسهم وأستاذهم وكل من تأخر عنه أستفاد منه وفضله أشهر من أن يوصف ".
وقال عباس القمي :" شيخ مشايخ الجلة ، ورئيس رؤساء الملة ، وفخر الشيعة ومحيي الشريعة ، ملهم الحق ودليله ، ومنار الدين وسبيله ، اجتمعت فيه خلال الفضل انتهت إليه رئاسة الكل واتفق الجميع على علمه وفضله وفقهه وعدالته وثقته وجلالته كان رحمه الله كثير المحاسن جم المناقب ، حاضر الجواب ، واسع الرواية خبير الرواية بالأخبار والرجال والأشعار ، وكان أوثق أهل زمانه بالحديث وأعرفهم بالفقه والكلام وكل من تأخر عنه أستفاد منه " [ الكنى والألقاب 3/164]
***خامساً: حسين محمد تقي الدين النوري الطبرسي المتوفي سنة 1320هـ ومن مؤلفاته :
مستدرت الوسائل – فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب [ كتاب كامل يثبت فيه من روايات أئمة الشيعة المنسوبة إليهم يثبت أن التحريف واقع في القرآن وحشد لذلك مئات الروايات ] .(/10)
قال أغا بزرك الطهراني :" الشيخ ميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي بن الميرزا علي محمد تقي النوري الطبرسي إمام أئمة الحديث والرجال في الأعصار المتأخرة ومن أعاظم علماء الشيعة وكبار رجال الأسلام في هذا القرن … كان الشيخ النوري أحد نماذج السلف الصالح التي ندر وجودها في هذا العصر فقد أمتاز بعبقرية فذة وكان آية من آيات الله العجيبة ، كمنت فيه مواهب غريبة ، وملكات شريفة أهلته لأن يعد في الطليعة من علماء الشيعة الذين كرسوا حياتهم طوال أعمارهم لخدمة الدين والمذهب ، وحياته صفحة مشرقة من الأعمال الصالحة ومن تصانيفه : فصل الخطاب في مسألة تحريف الكتاب .[ نقباء البشر ج2ص543،545،549،550].
وفيما يلي النصوص من كتب الشيعة التي تدل على قولهم بتحريف القرآن :
النص الأول :
القمي في تفسيره (1/10) قال :
" وأما ما هو خلاف ما أنزل الله فهو قوله "{ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }" فقال أبو عبدالله عليه السلام لقارئ هذه الأية : " خير أمة " ، يقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهما السلام ؟ فقيل له : وكيف نزلت يا ابن رسول الله ؟ فقال : إنما نزلت "{ كنتم خير أئمة أخرجت للناس }" ألا ترى مدح الله لهم في أخر الآية : تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ".
ومثله آية قرئت على أبي عبدالله عليه السلام : "{ الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً }" فقال أبو عبدالله عليه السلام : لقد سألوا الله عظيماً أن يجعلهم للمتقين إماماً . فقيل له : يا أبن رسول الله كيف نزلت ؟ فقال : إنما نزلت "{ الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين وأجعل لنا من المتقين إماماً }".
وقوله :"{ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله }" فقال أبو عبدالله : كيف يحفظ الشئ من أمر الله وكيف يكون المعقب من بين يديه ؟ فقيل له : وكيف ذلك با أبن رسول الله ؟ فقال : أنما نزلت "{ له معقبات من خلفه ورقيب من يديه يحفظونه بأمر الله }" ومثله كثير .
وأما ما هو محرف فهو قوله "{ لكن الله يشهد بما أنزل إليك في علي أنزله بعلمه والملائكة يشهدون }" وقوله :"{ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك في علي فإن لم تفعل فما بلغت رسالته}".
وقوله :"{ إن الذين كفروا وظلموا آل محمد حقهم لم يكن الله ليغفر لهم }" وقوله :"{ وسيعلم الذين ظلموا آل محمد حقهم أي منقلب ينقلبون }" وقوله :"{ ولو ترى الذين ظلموا آل محمد حقهم في غمرات الموت }".
النص الثاني :
الكليني في الكافي ( 1/457) :
عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام قال : وإن عندنا لمصحف فاطمة (ع) وما يدريهم ما مصحف فاطمة ( ع ) ؟ قال : قلت وما مصحف فاطمة ( ع ) ؟ قال : مصحف فاطمة فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله مافيه من قرآنكم حرف واحد . قال : قلت هذا والله العالم .
النص الثالث :
الكليني في الكافي أيضاً ( 4/456) :
عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله عليه السلام قال : " إن القرآن جاء به جبرئيل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم سبعة عشر ألف آية" . مع أن عدد آيات القرآن ستة ألاف آية فانظر إلى الفرق يارعاك الله .
النص الرابع :
الكافي أيضاً ( 4/433) :
عن محمد بن سليمان عن بعض أصحابه عن أبي الحسن عليه السلام قال : قلت له : جعلت فداك إنا نسمع الآيات من القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها ولا نحسن أن نقراها كما بلغنا عنكم فهل نأثم ؟ فقال : لا ؛ اقرأوا كما تعلمتم فسيجيئكم من يعلمكم.
النص الخامس :
الكافي (4/452 ) :
عن عبدالرحمن بن أبي هشام عن سالم بن سلمة قال : قرأ رجل على أبي عبدالله عليه السلام وأنا أستمع حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس . فقال أبو عبدالله عليه السلام : كف عن هذه القراءة . أقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم عليه السلام . فإذا قام القائم عليه السلام قرأ كتاب الله عز وجل على حده وأخرج المصحف الذي كتبه علي عليه السلام وقال : أخرجه علي عليه السلام إلى الناس حين فرغ منه وكتبه وقال لهم هذا كتاب الله عز وجل كما أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم وقد جمعته بين اللوحين فقالوا : هوذا عندنا مصحف جامع لا حاجة لنافيه . فقال : أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبداً .
النص السادس :
الكافي ( 1/441) :
عن جابر قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : لما أدعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب وما جمعه وحفظه كما أنزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب عليه السلام والأئمة من بعده عليهم السلام .
النص السابع :
الكافي ً (1/441) :
عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال : ( ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن ظاهره وباطنه غير الأوصياء ) .
النص الثامن :(/11)
قال أبو القاسم الكوفي في كتابه الاستغاثة ص 25 عند الكلام على أبي بكر الصديق رضي الله عنه : ( ومن بدعه أنه لما أراد أن يجمع ما تهيأ من القرآن صرخ مناديه في المدينة من كان عنده شيء من القرآن فليأتنا به ثم قال : لا نقبل من أحد منه شيئاً إلا شاهدي عدل وإنما أراد هذه الحال لئلا يقبلوا ما ألفه أمير المؤمنين عليه السلام إذ كان ألف في ذلك الوقت جميع القرآن بتمامه وكماله من ابتدائه إلى خاتمته على نسق تنزيله فلم يقبل ذلك خوفاً أن يظهر فيه ما يفسد عليهم أمرهم فلذلك قالوا : لا نقبل القرآن من أحد إلا بشاهدي عدل ) أ.هـ
النص التاسع :
قال الشيخ المفيد في كتابه أوائل المقالات ص 13 :
( واتفقوا أي الإمامية على أن أئمة الضلال خالفوا في كثير من تحريف القرآن وعدلوا فيه عن موجب التنزيل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ) .
النص العاشر :
قال الأردبيلي في كتابه ( حديقة الشيعة ) ص 118-119 بالفارسية نقلاً عن الشيعة والسنة ص 137 ( إن عثمان قتل عبدالله بن مسعود بعد أن أجبره على ترك المصحف الذي كان عنده وأكرهه على قراءة ذلك المصحف الذي ألفه ورتبه زيد بن ثابت بأمره )
وقال البعض : إن عثمان أمر مروان بن الحكم وزياد بن سمرة الكاتبين له أن ينقلا من مصحف عبدالله ما يرضيهم ويحذف منه ما ليس بمرض عندهم ويغسلا الباقي .
النص الحادي عشر :
قال الطبرسي في كتابه الاحتجاج (1/370) :
( إن الكناية عن أسماء أصحاب الجرائر العظيمة من المنافقين في القرآن ليست من فعله تعالى وإنها من فعل المغيرين والمبدلين الذين جعلوا القرآن عضين واعتاضوا الدنيا من الدين وقد بين الله تعالى قصص المغيرين بقوله : ( الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ) وبقوله : ( وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب) وبقوله : ( إذ يبنون ما لا يرضى من القول ) .
النص الثاني عشر :
قال الطبرسي أيضاً في الإحتجاج (1/224) : ( ولما أستخلف عمر سأل علياً أن يدفع لهم القرآن فيحرفوه فيما بينهم فقال أبا الحسن : إن كنت جئت به إلى أبي بكر فأت به إلينا حتى نجتمع عليه فقال علي عليه السلام :هيهات ليس إلى ذلك سبيل إنما جئت به إلى أبي بكر لتقوم الحجة عليكم ولا تقولوا يوم القيامة : إن كنا عن هذا غافلين أو تقولوا ما جئتنا به . إن القرآن الذي عندي لا يمسه إلا المطهرون والأوصياء من ولدي
فقال عمر : فهل وقت لإظهار معلوم ؟ قال عليه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : نعم إذا قام القائم من ولدي يظهره ويحمل الناس عليه فتجري السنة به ) .
النص الثالث عشر :
يقول الطبرسي أيضاً ( 1/377-378) من كتاب الاحتجاج:
( ولوشرحت لك كل ما أسقط وحرف وبدل وما يجري في هذا المجال لطال وظهر ما تحظر التقية إظهاره من مناقب الأولياء ومثالب الأعداء ) .
النص الرابع عشر :
ذكر الكاشاني في مقدمة تفسيره الصافي (1/32): ( المستفاد من جميع هذه الأخبار وغيرها من الروايات من طريق أهل البيت عليهم السلام أن القرآن ليس بتمامه كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله ومنه ما هو مغير محرف وأنه قد حذف منه أشياء كثيرة منها اسم على عليه السلام في كثير من المواضع ومنها لفظة آل محمد صلى الله عليه وسلم غير مرة ومنها أسماء المنافقين في مواضعها ومنها غير ذلك وأنه ليس على الترتيب المرضي
عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم وبه قال علي بن إبراهيم القمي ) أ.هـ
النص الخامس عشر :
قال الكاشاني أيضاً في الصافي (1/33) :
( لم يبق لنا اعتماد على شيء من القرآن إذا على هذا يحتمل كل آية منه أن يكون محرفاً ومغيراً ويكون على خلاف ما أنزل الله فلم يبق لنا في القرآن حجة أصلاً فتنتفي فائدته وفائدة الأمر باتباعه والوصية بالتمسك به إلى غير ذلك ) .
النص السادس عشر :
الكاشاني (1/34) :
( وأما اعتقاد مشايخنا في ذلك – يعني تحريفه القرآن فالظاهر من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني طاب ثراه أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن لأنه كان روى روايات في هذا المعنى في كتابه الكافي ويتعرض للقدح فيها مع أنه ذكر في أول الكتاب أنه كان يثق بما رواه فيه وأستاذه علي بن إبراهيم القمي فأن تفسيره مملوء منه وله غلو فيه والشيخ الطبرسي فأنه أيضاً نسج على منوالها في كتاب الاحتجاج ) أ.هـ
النص السابع عشر :(/12)
قال المجلسي في مرآة العقول في شرح أحاديث الرسول الجزء الثاني عشر ص 525:إن القرآن الذي جاء به جبرائيل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم سبعة عشر ألف آية ) قال عن هذا الحديث ( موثق في بعض النسخ هشام بن سالم موضع هارون بن سالم فالخبر صحيح ولا يخفى أن هذا الخبر وكثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن وتغييره وعندي أن الأخبار في هذا الباب متواترة معنى وطرح جميعها يوجب رفع الاعتماد عن الأخبار رأساً بل ظني أن الأخبار في هذا الباب لا يقصر عن أخبار الإمامة فكيف يثبتونها بالخبر ) أ.هـ ومعنى كلامه : كيف يثبتون الإمامة بالخبر إذا طرحوا أخبار التحريف ؟ .
النص الثامن عشر :
قال الجزائري في كتابه الأنوار النعمانية ( 2 / 357 ) : " إن تسليم تواترها عن الوحي الإلهي وكون الكل قد نزل به الروح الأمين يفضي إلى طرح الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن كلاماً ومادة وإعرابا، مع أن أصحابنا رضوان الله عليهم قد أطبقوا على صحتها والتصديق بها " .
النص التاسع عشر :
الجزائري ( 2 / 358 ) من الأنوار النعمانية :
" والظاهر أن هذا القول إنما صدر منهم لأجل مصالح كثيرة منها سد باب الطعن عليها بأنه إذا جاز هذا في القرآن فكيف جاز العمل بقواعده وأحكامه مع جواز لحوق التحريف لها " .
النص العشرون :
نعمة الله الجزائري الأنوار أ ( 1 / 97 ) :
" ولا تعجب من كثرة الأخبار الموضوعة فإنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم قد غيروا وبدلوا في الدين ما هو أعظم من هذا كتغييرهم القرآن وتحريف كلماته وحذف ما فيه من مدائح آل الرسول صلى الله عليه وسلم والأئمة الطاهرين وفضائح المنافقين وإظهار مساويهم كما سيأتي بيانه في نور القرآن " .
النص الحادي والعشرون :
قال أبو الحسن العاملي في مقدمة تفسيره ( مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار ) ص 36 :
" اعلم أن الحق الذي لا محيص عنه بحسب الأخبار المتواترة الآتية وغيرها أن هذا القرآن الذي في أيدينا قد وقع فيه بعد رسول الله صلى الله عليهوسلم شيء من التغيرات ، وأسقط الذين جمعوه بعده كثيراً من الكلمات والآيات وأن القرآن، المحفوظ عما ذكر الموافق لما أنزله الله تعالى ما جمعه إلا علي عليه السلام وحفظه إلى أن وصل إلى ابنه الحسن عليه الصلاة والسلام وهكذا إلى أن وصل إلى القائم عليه السلام وهو اليوم عنده صلوات الله عليه "
ثم ذكر الفصول الأربعة التي اشتمل عليها كتابه حول إثبات تحريف القرآن وفي الباب الرابع منها الرد على من قال بعدم التحريف من الشيعة كالسيد المرتضى والطبرسي صاحب مجمع البيان .
النص الثاني والعشرون :
قال الخراساني ، بيان السعادة في مقامات العباد ( 1 / 12 ) :
" اعلم انه قد استفاضت الأخبار عن الأئمة الأطهار بوقوع الزيادة والنقيصة والتحريف والتغيير فيه بحيث لا يكاد يقع شك في صدور بعضها منهم " .
والمقصود بهذا الكلام القرآن الكريم !!
النص الثالث والعشرون :
قال النوري الطبرسي في كتابه " فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب ) ص 31 :
" قال السيد الجزائري ما معناه أن الأصحاب قد أطبقوا على صحة الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن "
النص الرابع والعشرون :
ذكر الطبرسي في كتابه " فصل الخطاب " أقوال علماءهم في تحريف القرآن ص 29 وما بعدها فقال :
" وقال الفاضل الشيخ يحيى تلميذ الكركي في كتابه الإمامة في الطعن التاسع على الثلاث بعد كلام له ما لفظه : " مع إجماع أهل القبلة من الخاص والعام أن هذا القرآن الذي في ايدي الناس ليس هو القرآن كله وأنه قد ذهب من القرآن ما ليس في أيدي الناس " .
ومعلوم عند السنة والشيعة أن الثالث هو عثمان بن عفان الخليفة الراشد الثالث رضي الله عنه.
النص الخامس والعشرون :
قال نعمة الله الجزائري في كتابه الأنوار النعمانية ج 2 ص 363 :
" فإن قلت كيف جاز القراءة في هذا القرآن مع ما لحقه من التغيير ؟ قلت : قد روي في الأخبار أنهم عليهم السلام أمروا شيعتهم بقراءة هذا الموجود من القرآن في الصلاة وغيرها والعمل بأحكامه حتى يظهر مولانا صاحب الزمان فيرتفع هذا القرآن من أيدي الناس إلى السماء ويخرج القرآن، الذي ألفه أمير المؤمنين عليه السلام فيقرأ ويعمل بأحكامه " .
النص السادس والعشرون :
قال المفيد في أوائل المقالات ص 91 دار الكتاب الإسلامي بيروت :
" إن الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وسلم باختلاف القرآن وما أحدثه الظالمين – كذا كتبت- فيه من الحذف والنقصان " .
النص السابع والعشرون :
قال السيد عدنان البحراني في كتاب ( مشارق الشموس الدرية ) ص 126 بعد أن ذكر الروايات التي تفيد التحريف في نظره :(/13)
" الأخبار التي لا تحصى كثيرة و قد تجاوزت حد التواتر ولا في نقلها كثير فائدة بعد شيوع القول بالتحريف والتغيير بين الفريقين وكونه من المسلمات عند الصحابة والتابعين بل وإجماع الفرقة المحقة وكونه من ضروريات مذهبهم وبه تضافرت أخبارهم " .
النص الثامن والعشرون :
قال يوسف البحراني في كتابه " الدرر النجفية " ص 298 بعد ذكر الأخبار الدالة على تحريف القرآن في نظره قال :
" لا يخفى ما في هذه الأخبار من الدلالة الصريحة والمقالة الفصيحة على ما اخترناه ووضوح ما قلناه ولو تطرق الطعن إلى هذه الأخبار على كثرتها وانتشارها لأمكن الطعن إلى أخبار الشريعة كلها كما لا يخفى إذا الأصول واحدة وكذا الطرق والرواة والمشايخ والنقله ولعمري إن القول بعدم التغيير والتبديل لا يخرج من حسن الظن بأئمة الجور وأنهم لم يخونوا في الأمانة الكبرى مع ظهور خيانتهم في الأمانة الأخرى التي هي أشد ضرراً على الدين ) .
النص التاسع والعشرون :
قال أبو الحسن العاملي في المقدمة الثانية – الفصل الرابع التفسير مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار :
" وعندي في وضوح صحة هذا القول – تحريف القرآن وتغييره – بعد تتبع الأخبار وتفحص الآثار بحيث يمكن الحكم بكونه من ضروريات مذهب التشيع وأنه من أكبر مقاصد غصب الخلافة "
النص الثلاثون :
روى العياشي في تفسيره ( ج1 : ص : 25 ) عن أبي جعفر أنه قال : " لولا أنه زيد في كتاب الله ونقص منه ما خفي حقنا على ذي جحى ، ولو قام قائمنا فنطق صدقه القرآن " .
النص الواحد والثلاثون :
قال الحاج كريم الكرماني الملقب بمرشد الأنام في كتابه " إرشاد العوام ) ص 221 ج 3 ، باللغة الفارسية :
" إن الإمام المهدي بعد ظهوره يتلو القرآن فيقول : أيها المسلمون هذا والله هو القرآن الحقيقي الذي أنزله الله على محمد والذي حُرف وبُدل )
النص الثاني والثلاثون :
قال ملا محمد تقي الكاشاني في كتاب هداية الطالبين ص 368 باللغة الفارسية ما نصه :
" إن عثمان أمر زيد بن ثابت الذي كان من أصدقائه وهو عدواً لعلي أن يجمع القرآن ويحذف منه مناقب آل البيت وذم أعدائهم ، والقرآن الموجود حالياً في أيدي الناس والمعروف بمصحف عثمان هو نفس القرآن الذي جمعه بأمر عثمان " .
وقد قال بعض الشيعة بعدم تحريف القرآن ، كما ذكر نعمة الله الجزائري في الأنوار النعمانية ج2 ص 357 : " مع أن أصحابنا رضوان الله عليهم قد أطبقوا على صحتها – أي أخبار التحريف – والتصديق بها ، نعم قد خالف فيها المرتضى والصدوق والشيخ الطبرسي وحكموا بأن ما بين دفتي المصحف هو القرآن المنزل لاغير ولم يقع فيه تحريف ولا تبديل "
تفضيل كربلاء على الكعبة :
وفي الأنوار النعمانية ج 2 ص 85 " ثم إنه عليه السلام تنفس فقال : يا مفضل إن بقاع الأرض تفاخرت ففخرت الكعبة على بقعة كربلاء ، فأوحى الله عز وجل إليها أن اسكني يا كعبة ولا تفخري على كربلاء فإنها البقعة المباركة التي قال الله فيها لموسى أني أنا الله ، وهي موضع المسيح وأمه وقت ولادته ، وأنها الداليةالتي غسل بها رأس الحسين بن علي عليه السلام وهي التي عرج منها محمد صلى الله عليه وسلم "
تكفير ولعن الصحابة رضي الله عنهم :
في كتاب للأليء الأخبار ج 4 ص 93 " تنبيه إعلم أن أشرف الأماكن والأوقات والحالات وأنسبها للعن عليهم ـ عليهم اللعنة ـ إذا كنت في المبال ، فقل عند كل واحد من التخلية والاستبراء والتطهير مرارا بفراغ من البال : اللهم العن عمر ثم أبا بكر وعمر ، ثم عثمان وعمر ، ثم معاوية وعمر ، ثم يزيد وعمر ، ثم ابن زياد وعمر ، ثم ابن سعد وعمر ، ثم شمرا وعمر ، ثم عسكرهم وعمر ، اللهم العن عائشة وحفصة وهند وأم الحكم والعن من رضي بأفعالهم إلى يوم القيامة "
وفي الأنوار النعمانية ج 1 ص 53 " ولاتعجب من هذا الحديث ، فإنه قد روي في الأخبار الخاصة أن أبابكر كان يصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والصنم معلق في عنقه ، وسجوده له "
وفي كتاب إلزام الناصب ج 2 ص 266 " قال المفضل يا سيدي ومن فرعون ومن هامان ، قال عليه السلام : أبو بكر وعمر "
وفي كتاب كشف الأسرار للخميني 126 ، " بعد سماع ذلك الكلام من ابن الخطاب ـ يعني عمر رضي الله عنه ـ إن هذا الهذيان الذي ظهر من بقايا الكفر والزندقة "
وفي كتاب الأنوار النعمانية ج 1 ص 63 عن عمر رضي الله عنه " ولكن كان به داء دواؤه ماء الرجال وغير ذلك مما يستقبح منا نقله " ثم قال " نعم روى العياشي منهم حديثا حاصل معناه ، أن الإسم الذي هو لفظ أمير المؤمنين قد خص الله به علي بن أبي طالب ، وبهذا لم تسم الرافضة أئمتهم بهذا الإسم ومن سمى نفسه به غير علي بن أبي طالب فهو مما يؤتى في دبره ، وهذا شامل لجميع المتخلفين من الأموية والعباسية "(/14)
وفي كتاب الروضة من الكافي حديث القباب ج 8 ص 231 " عن عجلان أبي صالح قال دخل رجل على أبي عبدالله عليه السلام ، فقال له : جعلت فداك هذه قبة آدم عليه السلام ، قال : نعم ولله قباب كثيرة ، ألا إن خلف مغربكم هذا تسعة وثلاثون مغربا أرضا بيضاء مملوءة خلقا يستضيئون بنوره لم يعصوا الله عز وجل طرفة عين ، ما يدرون خلق آدم أم لم يخلق ، يبرؤون من فلان وفلان " يعني أبا بكر وعمر رضي الله عنهما .
وقد ورد أيضا هذا الخبر الغريب في بصائر الدرجات الكبرى للصفار ص510-513 والروضة من الكافي للكليني ص 347 ، وكتاب الخرايج والجرايح للراوندي ص 127 ومختصر بصائر الدرجات لحسن الحلي ص 12 . وقرة العيون للكاشاني ص 433 والبرهان للبحراني 1/48، 4/216 ومرآة العقول –شرح الروضة- للمجلسي 4/347 .
وفي الروضة من الكافي ج 8 ص 245 حديث رقم 341 ـ حنان عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال : كان الناس أهل ردة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة فقلت : ومن الثلاثة ؟ فقال : المقداد بن الأسود ، وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي رحمة الله وبركاته عليهم "
وفي كتاب مرآة العقول ج 26 ص 488 " عن أبي عبدالله عليه السلام في قوله تبارك وتعالى " ربنا أرنا الذين اضلانا من الجن والإنس " قال هما ، ثم قال : وكان فلان شيطانا "
قال الشارح " قوله عليه السلام : هما أي أبو بكر وعمر ، والمراد بفلان عمر أي الجن المذكور في الآية عمر ، وإنما سمى به لانه كان شيطانا ، إما لأنه كان شرك شيطان ، لكونه ولد زنا ، أو لأنه كان في المكر والخديعة كالشيطان ، وعلى الأخر يحتمل العكس بأن يكون المراد بفلان أبا بكر "
وفي كتاب التفسير للعياشي ج 3 ص 22 " عن عبدالرحمن بن سالم الأشل ، عنه عليه السلام ، قال " والتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا " عائشة هي نكثت إيمانها " وعزاه المحقق إلى بحار الأنوار أيضا 32 / 286 ـ 238
وفي التفسير للعياشي ج 1 ص 342 " عن عبدالصمد بن بشير عن أبي عبدالله عليه السلام قال : أتدرون مات النبي صلى الله عليه وسلم ، أو قتل ، إن الله تعالى يقول " أفإن مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم " فسم قبل الموت ، إنهما سقتاه ، فقلنا إنهما وأبوهما شر من خلق الله " وعزاه المحقق أيضا إلى بحار الأنوار 22 ـ 516/23 ، 28ـ 21/29
وفي بحار الأنوار " عن أبي بصر قال : يؤتى بجهنم لها سبعة أبواب : بابها الأول للظالم وهو زريق ، وبابها الثاني لحبتر ، وبالباب الثالث للثالث ، والباب الرابع لمعاوية ، والباب الخامس لعبدالملك ، والباب السادس لعسكر بن هوسر ، والباب السابع لأبي سلامة فهي أبواب لمن اتبعهم " ثم قال في الشرح " الزريق كناية عن أبي بكر ، لأن العرب تتشاءم بزرقة العين ، والحبتر هو عمر ، والحبتر هو الثعلب .. وعسكر بن هوسر كناية عن بعض خلفاء بني أمية أو بني العباس ، وكذا أبي سلامة .. ويحتمل أن يكون عسكر كناية عن عائشة وسائر أهل الجمل إذ كان اسم جمل عائشة عسكر ، وروي أنه كان شيطانا "
وفي كتاب الإختصاص ص 19 " حديث الغار محمد بن عيسى بن عبيد ، عن علي بن أسباط ، عن الحكم بن مروان ، عن يونس بن صهيب ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وقد ذهب به إلى الغار ، فقال : مالك أليس الله معنا ؟ تريد أن أريك أصحابي من الأنصار في مجالسهم يتحدثون ، وأريك جعفر بن أبي طالب وأصحابه في سفينة يغوصون ؟ فقال : نعم أرنيهم ، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وعينيه فنظر إليهم ، فأضمر في نفسه أنه ساحر " وعزاه المحقق أيضا إلى بحار الأنوار ج 8 ص 217
وفي كتاب إحقاق الحق للتستري ص 316:" كما جاء موسى للهداية وهدى خلقا كثيرا من بني إسرائيل وغيرهم فارتدوا في أيام حياته ولم يبق فيهم أحد على إيمانه سوى هارون(ع) كذلك جاء محمد صلى الله عليه وسلم وهدى خلقا كثيرا لكنهم بعد وفاته ارتدوا على أعقابهم".
وفي كتاب السقيفة لسليم بن قيس ص 92 والأنوار النعمانية للجزائري 1/81 عن علي بأبي طالب رضي الله عنه :"أن الناس كلهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرأربعة"
وفي روضة الكافي للكليني ص 115 وتفسير العياشي 1/199 واختيار معرفة الرجال ص 6-8-11 ، وعلم اليقين للكاشاني 1 / 743-744 ، وتفسير الصافي 1/148-305، وقرة العيون له ص 426، والبرهان للبحراني 1/ 319، وبحار الأنوار للمجلسي 6/749، وحياة القلوب له 2/837، والدرجات الرفيعة للشيرازي ص 223، وحق اليقين لعبدالله شبر 1/ 218-219 عن محمد بن علي الباقر :"كان الناس أهل ردة بعد النبي إلا ثلاثة" !!
البراءة من أبي بكر وعمر :
قال المجلسي في كتابه الإعتقادات ق 17 ومن ضروريات دين الإمامية البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية ...(/15)
وفي كتاب الأصول من الكافي للكليني 2/389 : بسنده عن الصادق أو الباقر ، قال : من قال : اللهم إني أشهدك وأشهد ملائكتك المقربين وحملة عرشك المصطفين أنك أنت الله لا إله إلا أنت الرحمن الرحيم وأن محمدا عبدك ورسولك وأن فلان إمامي ووليي ـ يعني إمام الزمان ـ وأنا أباه رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي والحسن والحسين وفلانا وفلانا –حتى ينتهي إليه ـ إمام الزمان ـ أوليائي على ذلك أحيا عليه وأموت وعليه أبعث يوم القيامة وأبرأ من فلان وفلان وفلان فإن مات من ليلته دخل الجنة"
والمقصود بفلان وفلان وفلان أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم
رمي الجمار على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما :
وفي كتاب بصائر الدرجات الكبرى للصفار ص 306-307. والاختصاص للمفيد ص 277 . وانظر : مختصر بصائر الدرجات للحلي ص 111. وبحار الأنوار للمجلسي 8/ 214 " عن عيسى بن عبدالله بن أبي طاهر العلوي عن أبيه عن جده "أنه كان مع أبي جعفر محمد بن علي الباقربمنى وهو يرمي الجمرات وأن أبا جعفر عليه السلام رمى الجمرات قال : فاستتمها ثم بقي في يده بعد خمس حصيات فرمى اثنتين وثلاثة في ناحية فقال له جدي : جعلت فداك لقد رأيتك صنعت شيئا ما صنعه أحد قط . رأيتك رميت الجمرات ثم رميت بخمسة بعد ذلك ثلاثة في ناحية و اثنتين في ناحية ؟ قال : نعم إنه إذا كان كل موسم أخرج الفاسقين الغاصبين ثم يفرق بينهما هاهنا لا يراهما إلا إمام عادل فرميت الأول –أبا بكر- اثنتين والآخر -عمر- ثلاثة لأن الآخر أخبث من الأول".
إبليس يروى أن ابا بكر وعمر رضي الله عنهما أشد منه عذابا في النار :
ومن عجائب خيال كذابيهم ما ذكره مؤلف كتاب الاختصاص ص 108-109 ، وهو أيضا في كتاب حق اليقين للمجلسي ص 509-510" .
" أن إبليس اللعين أخيره أنه لما أهبط بخطيئته إلى السماء الرابعة نادى : إلهي وسيدي ما أحسبك خلقت خلقا هو أشقى مني؟ فأوحى الله تبارك وتعالى :بلى قد خلقت من هو أشقى منك فانطلق إلى (مالك) يريكه ، فانطلقت إلى مالك ، فقلت : السلام يقرأ عليك السلام ، ويقول : أرني من هو أشقى مني ، فانطلق بي مالك إلى النار فرفع الطبق الأعلى ، فخرجت نار سوداء ظننت أنها أكلتني وأكلت مالكا، فقال لها : اهدئي، فهدأت ثم انطلق بي إلى الطبق الثاني فخرجت نار سوداء هي أشد من تلك سوادا وأشد حمى فقال لها : اخمدي فخمدت ، إلى أن انطلق بي إلى الطبق السابع وكل نار تخرج من طبق هي أشد من الأولى فخرجت نار ظننت أنها أكلتني وأكلت مالكا وجميع ما خلقه الله عز وجل فوضعت يدي على عيني وقلت : مرها يا مالك أن تخمد وإلا خمدت فقال : إنك لن تخمد إلى الوقت المعلوم فأمرها فخمدت فرأيت رجلين في أعناقهما سلاسل النيران معلقين بها إلى فوق وعلى رؤوسهم قوم معهم مقامع النيران يقمعونهما بها ، فقلت : يا مالك من هذان؟ فقال : أو ما قرأت على ساق العرش ؟ -وكنت قبل قد قرأته قبل أن يخلق الله الدنيا بألفي عام- لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وأيدته ونصرته بعلي فقال : هذان من أعداء أولئك وظالميهم ." ثم قال المجلسي في كتابه حق اليقين ص 510 : (اللذان ظلماه أبو بكر وعمر ).
توابيت في النار لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما :
ورووا في كتبهم كما في كتاب الخصال للصدوق 2/398-399 ، وعقاب الأعمال له ص 483-487-488 ، وجامع الأخبار للشعيري ص 143-144 . و البرهان للبحراني 4/527-528 وحق اليقين للمجلسي ص 502 . وحق اليقين لعبدالله شبر 2/171-172 عن رجل يدعى إسحاق بن عمار الصيرفي قال : إن موسى الكاظم أخبره أن في النار واديا يقال له : سقر ، لو تنفس لأحرق ما على وجه الأرض وفي ذلك الوادي جبل وفي الجبل شعب وفي الشعب قليب وفي القليب حية يتعوذ جميع أهل ذلك القليب من خبث هذه الحية ونتنها وقذرها وما أعد الله في أنيابها من السم لأهلها وإن في جوف تلك الحية لسبعة صناديق فيها خمسة من الأمم السالفة ، واثنان من هذه الأمة ، قال : قلت : جعلت فداك ومن الخمسة؟ ومن الإثنان؟ قال : وأما الخمسة : فقابيل الذي قتل هابيل ، ونمرود الذي حاج إبراهيم في ربه ، فقال أنا أحيي وأميت ، وفرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى وبهوذا الذي هود اليهود ، وبولس الذي نصر النصارى ومن هذه الأمة أعرابيان) ثم فسر المجلسي كتابه حق اليقين ص 502 ، الأعرابيين : أبو بكر وعمر.
دعاء صنمي قريش :
ومن الأدعية المشهورة لدى الشيعة دعاء صنمي قريش الذي أوله : " اللهم صل على محمد وعلى آله محمد، والعن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وإفكيهما، وابنتيهما...إلخ". ويقصدون أبا بكر وعمر رضي الله وعائشة وحفصه رضي الله عنهم أجمعين .(/16)
ولهذا الدعاء منزلة خاصة عند الشيعة ، حتى ذكروا أن عليا رضي الله عنه وحاشاه ، كان يحتفي به كثيرا ، ففي كتاب البلد الأمين للكفعمي ص511 والمصباح له ص511 ونفحات اللاهوت للكركي ق74/ب وعلم اليقين للكاشاني 2/701 وفصل الخطاب للنوري الطبرسي ص 221 – 222 أن عليا كان يقنت في الوتر بدعاء صنمي قريش ، وأنه كان يقول الداعي به كالمجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم !
ومن ترغيبهم في هذا الدعاء ما ذُكر في كتاب ضياء الصالحين ص 513 أنه من تلى هذا الدعاء كتب الله له سبعين ألف حسنة، ومحى عنه سبعين ألف سيئة، ورفع له سبعين ألف درجة، ويقضى له سبعون ألف ألف حاجة ّ!
وقد تواطأ كتّاب الشيعة على ذكر هذ الدعاء وتبجيله فقد ذكر أو شرح ، في الكتب التالية : البلد الأمين للكفعمي ص 511 والمصباح للكفعمي ص 551 ، ونفحات اللاهوت للكركي ق 74/ب ، وعلم اليقين للكاشاني 2/701 ، وفي قرة العيون له ص426 ، وفصل الخطاب للنوري الطبرسي ص 221-222 ، والذريعة إلى تصانيف الشيعة لآغا بزرك الطهراني 8/192 ، وأمل الآمال للحر العاملي 2/32 ، و البلد الأمين ص 511-514 ، وفي فصل الخطاب للنوري الطبرسي ص 9-10 ، وفي مفتاح الجنان ص 113-114 لأسد الله الطهراني الحائري ، في صحيفة علوية ص 200-202 لسيد مرتضى حسين ، في "شرعة التسمية في زمن الغيبة"(ق 26/أ) لوالداماد الحسيني ، و في "مرآة العقول"(4/356) للمجلسي، و في "إحقاق الحق"(ص 58 ، 133-134) للتستري ، وفي مقدمة العاملي على تفسير البرهان(ص 113-174 – 226-250-290-294-313-339)، وفي "إلزام الناصب"(2/95) للحائري، وافي "فصل الخطاب"(221-222) للنوري الطبرسي، وفي "حق اليقين"(1/219) لعبدالله بن شبر ، وغيرهم
كراهية العرب :
وفي كتاب الغيبة ص 284 " عنه عن علي بن أسباط عن ابيه اسباط بن سالم عن موسى الأبار عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال : اتق العرب فإن لهم خبر سوء أما إنه لايخرج مع القائم منهم واحد "
وفي كتاب الغيبة ص 154 " وبه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن عاصم بن حميد الحناط عن أبي بصير قال : قال أبو جعفر عليه السلام : يقوم القائم بأمر جديد ، وكتاب جديد ، وقضاء جديد ، على العرب شديد ، ليس شأنه إلا السيف لايستتيب أحدا ، ولا تأخذه في الله لومة لائم "
الطعن في أهل السنة والجماعة وسبّهم بأقبح السبّ :
في كتاب الروضة من الكافي ج 8 ص 285 " حديث رقم 431 علي بن محمد عن علي بن العباس ، عن الحسن بن عبدالرحمن عن عاصم بن حميد عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال : قلت له إن بعض أصحابنا يفترون ويقذفون من خالفهم ، فقال لي : الكف عنهم أجمل ، ثم قال : والله يا أبا حمزة إن الناس كلهم أولاد بغايا ما خلا شيعتنا "
وفي كتاب التفسير للعياشي ج 2 ص 398 " عن ابراهيم بن أبي يحيى عن جعفر بن محمد عليه السلام ، قال : ما من مولود يولد إلا وإبليس من الأبالسة بحضرته ، فإن علم الله أنه من شعيتنا حجبه عن ذلك الشيطان ، وإن لم يكن من شيعتنا أثبت الشيطان إصبعه السبابة في دبره فكان مأبونا ، وذلك أن الذكر يخرج للوجه ، فإن كانت امرأة أثبت في فرجها ، فكانت فاجرة " وهو في بحار الأنوار أيضا 4 ـ 121/64
تكفير من يقدم غير علي رضي الله عنه عليه واستباحة دمه
في كتاب الانوار النعمانية ج 2 ص 307 " وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن علامة النواصب تقديم غير علي عليه ، ثم ذكر أن المقصود من جزم بذلك فأخرج المقلد ، ثم قال " ويؤيد هذا المعنى أن الأئمة عليهم السلام وخواصهم أطلقوا لفظ الناصبي على أبي حنيفة وأمثاله ، مع أن أباحنيفة لم يكن ممن نصب العداوة لأهل البيت عليهم السلام بل كان له إنقطاع إليهم ، وكان يظهر لهم التودد .. ومن هذا يقوى قول السيد المرتضى وابن أدريس قدس الله روحيهما ، وبعض مشايخنا المعاصرين بنجاسة المخالفين ( أي السنة ) كلهم ، نظرا إلى إطلاق الكفر والشرك عليهم في الكتاب والسنة ، فيتناولهم هذا اللفظ حيث يطلق ، ولأنك قد تحققت أن أكثرهم نواصب بهذا المعنى .
الثاني في جواز قتلهم وإستباحة أموالهم ، قد عرفت أن أكثر الأصحاب ذكروا للناصبي ذلك المعنى الخاص في باب الطهارات والنجاسات ، وحكمه عندهم كالكافر الحربي في أكثر الأحكام وأما علي ما ذكرناه له التفسير ، فيكون الحكم شاملا كما عرفت ، روى الصدوق طاب ثراه في العلل مسندا إلى داود بن فرقد قال : قلت لأبي عبدالله عليه السلام ، ما تقول في قتل الناصب ؟ قال : حلال الدم ، لكنّي أتقى عليك ، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطا أو تغرقه في ماء لكي لايشهد به عليك فافعل ، فقلت : فما ترى في ماله ؟ قال : خذه ما قدرت"
وفي كتاب الحدائق النضرة ص 136 " وليت شعري أي فرق بين من كفر بالله سبحانه وتعالى ورسوله ، وبين كفر بالأئمة عليهم السلام ؟ مع ثبوت كون الإمامة من أصول الدين ، بنص الآيات والأخبار الواضحة الدلالة كعين اليقين "(/17)
ثم قال " ورابعا : أما ما استتند إليه من ورود الأخبار الدالة على تحريم الغيبة بلفظ المسلم ففيه : أولا : أنك قد عرفت أن المخالف كافر ، لاحظ له في الإسلام بوجه من الوجوه ، كما حققناه في كتابنا الشهاب الثاقب "
وفي كتاب نور البراهين ج1 ص 57 / 58 " وأما طوائف أهل الخلاف على هذه الفرقة الإمامية ، فالنصوص متظافرة في الدلالة على أنهم مخلدون في النار ، وأن أقرارهم بالشهادتين لا يجديهم نفعا إلاّ في حقن دمائهم ، وأموالهم ، وإجراء أحكام الإسلام عليهم، روى عنه صلى الله عليه وسلم " ولاية أعداء علي ومخالفة علي سيئة لاينفع معها شيء ، إلا ما ينفعهم بطاعاتهم في الدنيا بالنعم والصحة والسعة ، فيردوا الآخرة ولا يكون لهم إلا دائم العذاب ، ثم قال : إن من جحد ولاية علي عليه السلام لايرى بعينه الجنة أبدا ، إلا ما يراه مما يعرف به أنه لو كان يواليه لكان ذلك محله ومأواه ، فيزداد حسرات وندماات ، وروى المحقق الحلي في آخر السرائر مسندا إلى محمد بن عيسى قال : كتبت إليه أسأله عن الناصب هل احتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت وإعتقاد إمامتهما ؟ فرجع الجواب : من كان على هذا فهو ناصب ، وروى المصنف طاب ثراه في كتاب العلل : أن الناصب من كره مذهب الإمامية ، ولاشك أن جلهم بل كلهم ناصب بالمعنييْن ، وتواترت الأخبار ، وانعقد الإجماع على أن الناصب كافر في أحكام الدنيا والآخرة " .
في الانوار النعمانية ص 287 ج 2 ، قال : " والأشاعرة لم يعرفوا ربهم بوجه صحيح ، بل عرفوه بوجه غير صحيح ، فلا فرق بين معرفتهم هذه ، ومعرفة باقي الكفار ، لأنه ما من قوم ولاملة إلا وهم يدينون بالله تعالى ، ويثبتونه ..
ثم قال : " ووجه آخر لهذا ، لا أعلم إلا إني رأيته في بعض الأخبار ، وحاصله أنا لم نجتمع معهم على إله ، ولا على نبي ، ولا على إمام ، وذلك أنهم يقولون إن ربهم هو الذي كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيه وخليفته أبو بكر ، ونحن لانقول بهذا الرب ، ولا بذلك النبي ، بل نقول إن الرب الذي خليفة نبيه أبوبكر ، ليس ربنا ، ولا ذلك النبيّ نبيّنا " !!!
خاتمة
وبعد فقد تبين أن هذه الهيئة الضالّة مارقة من الإسلام ، تستمد عقائدها من أسوء نحلة ، وأقبح دين ، وأنها مشبوهة الأهداف ، خبيثة المقاصد ، غايتها تأجيج الفتنة في بلاد الإسلام ، تحدوها أحقاد دفينة ، تملأ أرجاء صدرها ضغينة مسودّة على أمة الإسلام ، فالواجب التحذير منها ، بل قطع دابرها بما أمكن .
والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير وصلى الله عليى نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..(/18)
الرد على القس لبيب ميخائيل
محمود القاعود
Moudk2005@yahoo.com
الحملة على الإسلام مستمرة منذ ظهور الإسلام وحتى يومنا هذا ، ولكن فى أيامنا تلك اتخذت أشكالاً عديدة ، وكلها تعبر عن الحقد الأسود على الإسلام ورسول الإسلام .. هذه الحملة تنم عن عمل جماعى منظم يستهدف فى الأساس القضاء على الإسلام وقد وقع تحت بصرى منشور بذئ لشخص يدعى الدكتور القس لبيب ميخائيل ، ويعرف نفسه بأنه حاصل على دكتوراه فى اللاهوت من أمريكا .
هذا المنشور عنوانه : " قراءة فى التوراة .. رد كامل على ما كتبه " الدكتور مصطفى محمود " فى مجلة أكتوبر بالعددين الصادرين فى 13 يوليو و 3 أغسطس 1997 م "
وبالطبع فكما هى عادة النصارى ، لم يرد هذا القس على ما أثاره الدكتور مصطفى محمود ، من حجج قاطعة وبراهين ساطعة ، حول تحريف الكتاب المقدس ، وتحول صوب الإسلام !!
يقول : " الذى أعيدت كتابته هو القرآن فى أيام الخليفة عثمان بن عفان .. " ويستشهد بقول الشيخ عبدالفتاح القاضى ، ثم يواصل قائلاً : " عثمان بن عفان أحرق نسخ القرآن الأصلية المتداولة ، وأعاد كتابة القرآن .. أما كتاب العهد القديم فلم يحاول أحد إعادة كتابته ، لأن الله أوصى اليهود " لا تزيدوا على الكلام الذى أما أوصيكم به ولا تنقضوا منه " ( تثنية 2 : 4 ) وقد أطاع اليهود وصية الله وحفظوا العهد القديم من كل تحريف " !!!!!!!
يحاول القسيس الموتور أن يوهم القارئ بأن عثمان بن عفان رضى الله عنه قد أحرق أصول القرآن الكريم ، وأنه كتب قرآناً آخر !!!
ما ذكره القسيس لعمرى هو أكبر دليل على اختلال عقله وسوء تفكيره وقلة حيلته ... فهذه القصة ، التى يعيد ويزيد النصارى حولها الأكاذيب ، والتى لا تعبر إلا عن حقد دفين وجهل مفضوح ..
كل ما فى الأمر ، أن عثمان بن عفان نسخ عدة نسخ من القرآن الكريم الذى راجعه النبى صلى الله عليه وسلم فى حياته ، وأرسل هذه النسخ إلى جميع الأقطار ، وأمر بحرق ما يخالف هذه النسخة الأصلية التى نُسخت إلى عدة نسخ ... فهل فى هذا ما يستدعى هياج من طمس الله على قلوبهم ؟؟؟
النكتة الكبرى أو الأكذوبة المفضوحة ، هى قول القسيس الموتور : " أما كتاب العهد القديم فلم يحاول احد إعادة كتابته لأن الله أوصى اليهود ... "
ولأُبين له وهو صاحب الدكتوراة فى اللاهوت ، أنه يتعامى عن الحقيقة ، إما لأنه لا يفهم أو لأن حقده عماه عن الفهم .
ورد بسفر التثنية النص التالى :
((( مات هناك موسى عبد الرب فى أرض موآب حسب قول الرب ، ودفنه فى الجواء فى أرض موآب مقابل بيت نفور ، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم .
وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات .. ولم تكل عيناه ولا ذهبت نضارته .
فبكى بنو إسرائيل فى عربات موآب ثلاثين يوماً فكملت أيام بكاء مناحة موسى ))) " تثنية 34 : 5 – 8 "
ومن خلال هذه النصوص يتضح لنا أن التوراة محرفة مليون بالمائة ؛ فالله لم يوحى هذا الكلام ، الذى يتضمن تاريخ وفاة موسى ، وعمره وقت الوفاة ، وأوصافه عند وفاته بل والمكان الذى دفن فيه موسى ، وزاد على هذا كله وصفه لحالة بنى إسرائيل عقب وفاة موسى !!!!!
لايمكن بأى حال من الأحوال أن تكون هذه الأقوال من وحى الله لموسى عليه السلام وإنما من كلام المحرفين الذين كتبوا التوراة بأيديهم .
فهل فات هذا على القس لبيب ميخائيل ؟؟!! أم أنه يتعامى ويعتقد أن الناس تقرأ كلامه ببلاهة ونطاعة ؟؟!!
ويحاول القس الذى لا هو لبيب ولا أى شئ على الإطلاق ، يحاول أن يلعب مع المسلمين لعبة قديمة ، وهى أن القرآن الكريم يشهد للتوراة بالصحة !!!
وكثيراً ما نسمع هذا السخف من النصارى ، لأنهم لم يستطيعوا إثبات صحة كتابهم ، فتوهموا أنه من الممكن أن يجدوا ضالتهم فى القرآن الكريم ، فى حين أن القرآن الكريم يقصد التوراة التى أُنزلت على موسى والإنجيل الذى أُنزل على عيسى ، وفوق ذلك توعد هؤلاء المحرفين إذ يقول تعالى :
" فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ " ( البقرة : 79 )(/1)
يقول القس لبيب ميخائيل : " قلت فى مقالك الأول – موجهاً حديثه للدكتور مصطفى محمود – عن التوراة : " إن إله التوراة إله ندمان يفعل الفعل .. ثم ما يلبث أن يدرك أنه أخطأ ويندم عليه ويرجع عنه " .. وأنت مخطيء كل الخطأ في تفسيرك لكلمة " ندم الرب " التي تتكرر في التوراة .. فكلمة " ندم " معناها بحسب ما جاء في قاموس المنجد " حزن " و " أسف " و " تحسر " ، والقرآن يذكر أن الله تحسر على عباده فيقول : " يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا بهم يستهزؤن " ( سورة يس 36: 30) ويفسر الأستاذ الشيخ حسنين محمد مخلوف في كتابه " كلمات القرآن تفسير وبيان " معنى كلمة " يا حسرة " ، " يا تندما" .. فإله القرآن تحسر على العباد بمعنى أنه ندم .. فلماذا تحاول الحط من قدر إله التوراة لأنه ندم .. أي تحسر وحزن ، والقرآن يصف الله بأنه تحسر على العباد ؟ "
انظروا ماذا يفعل العجز بالنصارى .. يحاول الموتور أن يُلصق عيوب التوراة المحرفة بالقرآن الكريم ويلغو حول الآية القرآنية الكريمة : " يا حسرة على العباد " ، فى حين أن الآية لا يوجد بها كلمة ندم ، ثم إن الله تبارك وتعالى لم يقل أنا أتحسر أو إني أتحسر ، ولكنه سبحانه قال : " يا حسرة " أى أن حال هؤلاء يستدعى تحسر المتحسرين .
أرأيتم بلاغة القرآن الكريم ؟؟
انظروا إلى الجانب الآخر الذى يمثله الكتاب المقدس ماذا يقول عن ندم الله ؟؟
" وكان كلام الرب إلى صموئيل قائلاً : ندمت على أنى قد جعلت شاول ملكاً لأنه رجع من ورائى ولم يقم كلامى " ( صموئيل الأول 15 : 10 )
" وبسط الملاك يده على أورشليم ليهلكها . فندم الرب عن الشر . وقال للملاك المهلك الشعب : كفى " ( صموئيل الثانى : 24 : 17 )
" لما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم الله على الشر الذى تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه " ( يونان : 3 / 10 )
هذه النصوص تُثبت عدم إدراك الله سلفاً لكل ما يحدث من خلقه وأنه يُفاجأ بالأحداث وما لم يكن فى حُسبانه وعلمه ، بل والأغرب أنه يندم أو " معدش يعملها تانى " !!!
فى حين أن القرآن الكريم يقول : " يا حسرة على العباد " ولا يوجد بالآية ما يشير – مجرد إشارة – إلى أن الله قال : " أنا ندمان " أو " إني أتندم " أو " ندم الله "
ولو أن هذا الموتور كان يفهم فى اللغة العربية لما قال ذلك ، ولكنه معذور ؛ فماذا سيقول لتلاميذه الذين عجزوا عن الرد على الدكتور العظيم / مصطفى محمود ، فاعتقد أنه سيأت بما لم تستطعه الأوائل ، فلم يجد سوى هذه الآية الكريمة التى أثبتت جهله وغباؤه فى آن واحد .
والشئ بالشئ يُذكر ، فقد ذكرنى كلام لبيب بما قاله معتوه النصارى زكريا بطرس حينما أراد ذات مرة أن يُدافع عن اسفاف الكتاب المقدس ، وأن الله يندم ، فقال أن القرآن الكريم قال أن الله يندم ودليله على ذلك الآية الكريمة : " فلما آسفونا انتقمنا منهم " ( الزخرف : 55 )
والسؤال هنا هل قال الله فى هذه الآية الكريمة : " أنا نادم أو إني أتندم ؟؟؟
الآية واضحة وضوح الشمس وتفسيرها لا يحتاج لذكاء أو لتفكير ، فمعنى الآية : فلما أغضبونا وغاظونا انتقمنا منهم بأشد أنواع العقاب ( صفوة التفاسير )
ويقول القرطبى فى تفسيره : ( وقيل : " آسفونا " أى أغضبوا رسلنا وأولياءنا المؤمنين ؛ نحو السحرة وبنى إسرائيل . وهو كقوله تعالى : " يؤذون الله " و " يحاربون الله " أى أولياءه ورسله . )
ولكن هذه هى حيلة العاجز الفاشل المحتال الذى يطرح قذاراته على الآخرين .
ويستكمل القس لبيب ميخائيل هذيانه الذى جعلنى أُصاب بنوبة ضحك هيستيرية :
" إن إله التوراة ليس دكتاتوراً ظالماً .. وليس إلها " غليظ القلب " ، إنه إله رؤوف رحيم .. وبالقطع أن خالق .. المشاعر الطيبة فى الإنسان ، هو إله الرحمة والحنان(/2)
ولكى يصور للإنسان المحدود الفهم ما يشعر به من نحوه حين يتردى فى حضيض الظلم والرذيلة والفساد ، استخدم لغة بشرية ، وكلمات إنسانية للتعبير عن إحساسات قلبه الكبير ، فقال تبارك اسمه أنه " ندم " أى حزن وتأسف .. وحين تردت البشرية التى وجدت قبل الطوفان إلى أعماق الفساد والهوان ، تقول التوراة : " فحزن الرب أنه عمل الإنسان وتأسف فى قلبه " ، وهو نفس تعبير القرآن " يا حسرة على العباد " .. وماذا ننتظر من غله رؤوف حنان وهو يرى خليقته وقد أفسدها الشيطان وتردت إلى حضيض الهوان ؟ هل تتنتظر منه أن يصفق بيديه طربا؟ أنه يعلن حزن وأسف قلبه ليعلن للإنسان مدى الانحطاط الذى وصل إليه .. ولا يتنافى هذا قط مع علمه السابق بكل شئ .. وفى كل ذكرت التوراة " ندم الرب " كانت تعنى حزن قلب الله الكبير على الإنسان المتمرد الساقط .. أو أسفه على ما كان يمكن أن يقع على الناس من عقاب شديد من جراء إثمهم وخطيئتهم كما فى حال أهل نينوى .. إله التوراة لا يتغير . نقرأ عنه فى التوراة " ليس الله إنسانا فيكذب ولا ابن إنسان فيندم " ( العدد 23 : 19 ) " لأنى أنا الرب لا أتغير " ( ملاخى 3 : 6 )
ونسأل هذا الموتور إذا كان الله صاحب القلب الكبير – كما تقول – والحنين والطيب ، يعلم ما سيحدث من خلقه لماذا يتندم ؟؟!!ولن تُفيد كلماتك القليلة المرتعشة : " ولا يتنافى هذا قط مع علمه السابق بكل شئ " فأنت تضع الكلام دون أى سند أو دليل حتى تنفى التهمة فتجلب تهمة أخرى ، وهى أنك من أجهل ما يكون ..
ويمارس القس التزوير كما هى عادة النصارى ، ويقول : " تأسف فى قلبه " وهو نفس تعبير القرآن " يا حسرة على العباد " !!!!
الحق يُقال أن مكان القس لبيب ميخائيل هو مستشفى الأمراض العقلية ، قسم الحالات المستعصية .. فماذا بعد أن قال أن كلام القرآن الكريم هو نفسه كلام التوراة المحرفة ؟؟!! فالتعبيرين مختلفين تماماً فتعبير التوراة المحرفة يُقلل من شأن الرب ويصوره أنه إنسان يندم ولا يعلم شئ .
أما تعبير القرآن الكريم فهو ينزه رب العالمين ويدعو الناس إلى التحسر على حال هؤلاء الذين ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون .
والفقرة التى ذكرها القسيس المريض – عقلياً- من سفر العدد تُثبت تحريف التوراة ، فكيف تُثبت فقرة فى التوراة أن الله يندم وأخرى تقول أن الله لا يندم ؟؟!!!
والندم لا تعنى الحزن ، وإنما تعنى عدم العلم بالشئ ، وأن الوقوع فيه أو عمله يستوجب الحزن والأسى ، فهل الله الندمان – فى التوراة – لا يعلم ما كان سيقع ؟؟ ألا لعنة الله على المبرراتية الخائبين .
النصارى دائماً يقفون على حافة الهاوية ولكنهم لا يعقلون
يعتقد النصارى أنهم حينما يكتبون منشورات بذيئة ويعنونوها بعبارة ( الرد على ... ) فإنهم بذلك قد قاموا بالرد !!!
هذا ما يصوره لهم خيالهم المريض
القس لبيب ميخائيل كتب منشوراً بعنوان الرد على الدكتور مصطفى محمود ، وبعد أن فرغنا من قراءته تبين لنا أنه لم يرد على أى شئ مما قاله الدكتور مصطفى محمود ، اللهم إلا إذا كان يعتبر التدليس والافتراء نوع من الرد .
يحاول القس لبيب ميخائيل عبثاً أن يحول كل شئ إلى رموز كما هى عادة النصارى ، الدكتور مصطفى محمود يناقش الطقوس العجيبة الغريبة الواردة بالعهد القديم ، وأنها لا يمكن أن تصدر عن رب العالمين ، والقس يقول أنها ترمز إلى دم المسيح !!!!
الحق يُقال لو أن هذا القسيس كان يحترم القراء ما جرؤ أن يكتب هذا الهذيان .(/3)
يقول القس : " ولو إنك عرفت أن خطة الله الأزلية لخلاص الإنسان من ثقل وعقاب خطاياه ، ومن دينونة الله مركزها شخص يسوع المسيح الذى يسميه القرآن عيسى بن مريم .. وأن التوراة بنبواتها ، وطقوسها ، وشخصياتها ، ورموزها كانت تشير إلى هذا الشخص الفريد المنزه عن الخطأ ، الذى كان مجيئه إلى العالم معروفا منذ الأزل كما قال بطرس الرسول : " عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التى تقلدتموها من الآياء . بل بدم كريم كما حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح معروفا سابقا قبل تأسيس العالم " ( 1 بطرس 1: 18 – 20 ) .. لو أنك عرفت هذا الحق الإلهى لما قلت إن إله التوراة إله مادى " يفرح برائحة الشواء على المذابح " .. فالذبائح التى كان كهنة اليهود يقدمونها على المذبح تشير كلها إلى المسيح " الذبح العظيم " .. ولما وُلد يسوع المسيح من مريم العذراء ، ومات مصلوبا على الصليب .. بطلت الحاجة إلى هذه الذبائح .. وقد قرر كاتب الرسالة إلى العبرانيين هذا الحق بكلماته الموحى بها فقال : " لأنه لا يمكن أن دم ثيرات وتيوس يرفع خطايا " ( عبرانيين 10 : 4 ) ، ولما كان اليهود ينسون ما ترمز إليه الذبائح التى يقدمها كهنتهم ، كان الرب يقول لهم : " اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات . وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أسر " ( أشعياء 1 : 11 ) . فاذا كانت التوراة قد ذكرت عن الذباح " تنسم الرب رائحة الرضا " ( تكوين 8 : 21 ) أو أنها كانت تقدم للصفح عن خطايا من يقدمها .. فذلك لأن تلك الذبائح كانت ترمز إلى يسوع المسيح الذبيح الأعظم "
تأملوا يا قراء هذا التدليس جيداً وانظروا إلى القسيس الذى فقد صوابه بسبب حجج الدكتور مصطفى محمود ، ويقول " فذلك لأن تلك الذبائح كانت ترمز إلى يسوع المسيح الذبيح الأعظم " !!!
ونسأل القسيس : هل الذبائح التى أمر سفر اللاويين المرأة الحائض أن تقدمها للكاهن ليذبحها تكفيراً عن الحيض ، هل كانت ترمز إلى دم المسيح ؟؟!!!
ولماذا لم ترد إشارة واحدة فى العهد القديم كله تقول أن هذه الذبائح ترمز إلى دم المسيح ؟!!!أم أنها تفسيرات شيطانية من عند نفسك ، حتى تقول أنك قد رددت على قذائف الدكتور مصطفى محمود ؟؟!!
ما هذا المنطق السقيم ؟؟ وكيف تستقيم ديانة إذا كانت تعتمد على الرموز ؟؟ والأغرب أنهم يريدون الاستشهاد على الفداء من العهد القديم ، ويريدون الاستشهاد على صحة الكتاب المقدس من القرآن الكريم !!! هذا كله لأن العجز قد بلغ مداه والافلاس قد تجاوز المدى .
يواصل القسيس : " ودعنى أذكرك بأن القرآن أقر مبدأ الفداء حين قال بعد أن أمر الله إبراهيم بعدم ذبح ابنه : " وفديناه بذبح عظيم " ( الصافات 37 : 107 ) ، فالله هو الفادي ، وقد دبر الفداء لابن ابراهيم " بذبح عظيم وبالرجوع إلى الإصحاح 22 : 13 من سفر التكوين نرى أن هذا الذبح كان كبشا أعده الله فى الغابة وأصعده إبراهيم محرقة عوضا عن ابنه ، وان هذا الكبش كان يرمز إلى يسوع المسيح الذى أشار إليه يوحنا المعمدان الذى يسميه القرآن يحيى بن زكريا قائلا: " هوذا حمل الله الذى يرفع خطية العالم " 0 يوحنا 1 : 29 ) . وقد أكد يسوع المسيح أن إبراهيم رأى بعين الإيمان يوم الفداء الذى اكمله بموته الكفارى على الصليب إذ قال لليهود : " ابوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومى فرأى وفرح " ولما قال له اليهود " ليس لك خمسون سنة بعد . أفرأيت إبراهيم . قال لهم يسوع الحق الحق أقول لكم : قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن " ( يوحنا 56 – 58 )
اللهم ثبت عقولنا فى رؤوسنا .. أرأيتم .. " الكبش يرمز إلى يسوع المسيح " تماماً مثلما قال يوحنا اللاهوتى أن رب الأرباب هو الخروف !!!
ويقول : " القرآن أقر مبدأ الفداء ... " والمتأمل لقول القس يعتقد أن القرآن قد أقر مبدأ أن المسيح جاء ليخلص البشرية كما يزعمون ، ولكن ويا للأسف القس مُصر على أن يُضحكنا على جهله المنقطع النظير ، فهل معنى أن نجد فى آية قرآنية كريمة كلمة " وفديناه " هل معنى ذلك أن القرآن يقر مبدأ الفداء ؟؟!!!!
الآية الكريمة تتحدث عن انقاذ الله لاسماعيل عليه السلام من الذبح ، ولا يوجد بها ما يشير لا رمزاً ولا تلميحاً ولا تصريحاً إلى المسيح عليه السلام ..
قلت سابقاً أن مكان هذا القسيس مستشفى الأمراض العقلية قسم الحالات المستعصية ولكنى أقول أن مكانه مع ثلة من الحشاشين الذين يروق لهم هذا الكلام بحيث تأت بشئ بعيد كل البعد عن موضوع الحديث وتثبت أن بينهما علاقة !!!
وسأثبت للقسيس الموتور أنه لا فداء ولا يحزنون ، وذلك من كتابه المقدس نفسه
" فرأت المرأة ( حواء ) أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون . وأن الشجرة شهية " فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التى أخذ منها فطرد الانسان وأقام شرقى جنة العدن " ( تكوين 3 : 23 -24 )
من خلال هذا يتضح لنا أن الانسان طُرد من الجنة وهذا هو العقاب فلا خطيئة موروثة ولا أى شئ .(/4)
وبخلاف هذا فقد ورد فى العهد القديم ما ينفى مبدأ الفداء نفياً قاطعاً ، ولا يجعل أمثال القس لبيب يزعموا أن العهد القديم به نصوص ترمز إلى الفداء
1 – قرر الله ((( لا يُقتل الأباء عن الأولاد . ولا يُقتل الأولاد عن الآباء . كل إنسان بخطيئته يُقتل ))) ( تثنية 24 / 16 )
2 – وأمر الرب ((( لا يُقتل الآباء من أجل البنين ، والبنون لا يُقتلون من أجل الآباء . إنما كل إنسان يُقتل بخطيئته ))) ( الملوك الثانى 14 / 6 )
3 – أنتم تقولون ((( لماذا لا يُحمل الابن إثم الأب . فرد الله قائلا: النفس التى تُخطئ هى تموت الابن لا يحمل من إثم الأب والأب لا يحمل من إثم الابن ))) ( حزقيال 18 / 21 )
هذا هو ما ورد بالعهد القديم وهو ما يتفق مع القرآن الكريم (( كل نفس بما كسبت رهينة ))
فأين إذن الخطيئة الموروثة ؟؟!!!
والعهد الجديد نفسه ينفى مبدأ الفداء ، إذ يقول المسيح ((( ابن الإنسان يأتى فى مجد أبيه مع ملائكته . حينئذ يُجازى كل واحد حسب عمله ))) ( متى 16 / 27 )
وبعد هذه النصوص الواضحة ، يأتى القس لبيب بسخفه واستظرافه غير المقبول ليُحدثنا عن وهم كبير يُدعى الفداء !!!!
مشكلة النصارى أنهم يعتقدون أنهم يتحدثون إلى سكان الخانكة ، ولكن الله يفضحهم دائماً ...
أدعو القراء إلى نوبة من الضحك الهيستيرى بعد قراءة النص التالى للقس لبيب ميخائيل إذ يقول :
تستمر فتقول- موجهاً حديثه للدكتور مصطفى محمود - في مقالك إن إله التوراة " يدركه التعب إذ اشتغل بعض الوقت فيحتاج إلى الراحة " وتذكر الآية " لأنه فى ستة أيام صنع الرب السماء والأرض وفى اليوم السابع استراح وتنفس " ( خروج 31 : 17 )
كل ما هدفت إليه في مقالك هو تشويه التوراة ..نعم كان غرضك بذر بذور الشك في مصداقية
وحيه ، لتزرع الشك فى قلوب غير الدارسين من المسيحيين .. ولتضع سياجا يمنع المسلمين من قراءة كتاب الله .. الكتاب المقدس الكريم ، الذى شهد عنه القرآن والذي لم يجرؤ محمد نبى الإسلام على انتقاده ، بل فى لحظة شكه فيما أنزل إليه رجع إلى الذين يقرأونه " فإن كنت فى شك مما أنزلنا فسئل الذين يقرأون الكتاب من قبلك ، لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين " ( يونس 10 : 94 )
بذر بذور الشك فى وحى التوراة هو هدفك الأصيل ، وهو هدف غير نبيل . إن كلمة " استراح " لا تعنى أن الله تعب واحتاج إلى الراحة .. حاشاه .. فهو " إله الدهر الرب خالق أطراف الأرض لا يكل ولا يعيا ( إشعياء 40 : 28 ) .. وفى قصة الخلق التى سجلها التوراة لا نجد نصا يرينا أن الله قام بمجهود حين خلق السموات والأرض والحيوان ، والطيور ، والأسماك ، والأشجار .. لقد خلق الكل بكلمة كن فكان .. ما عدا الإنسان .. فالإنسان لم يخلق بكلمة كن فكان ، الله خلق الإنسان من تراب الأرض على أحسن تقويم ، ونفخ فى أنفه نسمة حياة فصار نفسا حية ( تكوين 2 : 7 ) وهذا ما يقوله القرآن " إذ قال ربك للملائكة أنى خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحه فقعوا له ساجدين " ( سورة ص 38 : 71 و 72 )
لم يقم الله تبارك وتعالى بمجهود حين خلق الخليقة .. لم يتعب وبالتالى لم يكن بحاجة للراحة .. كلمة " استراح وتنفس " التى ذكرتها فى مقالك تعنى الرضا عن ما عمل ، والإعلان بأن ما عمله حسن جدا .. وقد استعملت كلمة استراح فى الكتاب المقدس فى أكثر من آية ، والآيات التى ذُكرت فيها لا تعنى الراحة بعد الشغل والتعب بل تعنى راحة الرضى والسرور .. نقرأ فى رسالة فليمون 1 : 7 كلمات بولس الرسول إلى فليمون " لأن أحشاء القديسين قد استراحت بك ايها الأخ " .. فقولك يا دكتور مصطفى " إن إله التوراة يدركه التعب إذا اشتغل .. فيحتاج للراحة " .. قول يخرج تماما عن نطاق قواعد التفسير الصحيح للكلمة المقدسة " انتهى
اضحكوا يا قراء وتهللوا وكبروا ، فقد أثبتنا محنة العقل النصرانى
القس يدافع باستماتة عن أشياء لا تقبل الدفاع
القس يلف ويدور ولم يقدم أى جواب على ما طرحه الدكتور مصطفى محمود
القس يقول أن غرض الدكتور مصطفى محمود من الكتابة أن يشكك غير الدارسين من المسيحيين ، والحقيقة أن أى قارئ للكتاب المقدس لا يساوره الشك فقط ، وإنما يؤمن إيمانا مطلقا بأن هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن رب العالمين .
يقول القس : " .. والذى لم يجرؤ محمد نبى الإسلام على انتقاده ، بل فى لحظة شكه فيما أُنزل إليه رجع إلى الذين يقرأونه " ويستشهد بالآية القرآنية الكريمة :
" فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ " ( يونس : 94 )
أيها القسيس ألا تستحى من كذبك المفضوح ؟؟ ألا تخجل من نفسك وأنت تمارس الكذب بطريقة وقحة للغاية ؟؟
محمداً صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه قرآناً يكفركم تماماً :(/5)
"لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " ( المائدة : 17 )
" لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار " ( المائدة : 72 )
" لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " ( المائدة : 73 )
" وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ " ( التوبة : 30 )
هذا هو القرآن الكريم يا لبيب ، هل بعد ذلك تأتيك الجرأة والوقاحة أن تقول أن القرآن الكريم يشهد للكتاب المقدس ؟؟؟
فإذا كان القرآن الكريم يكفر من اتخذوا المسيح بن مريم إلهاً ، فما هو معتقدك بالضبط حتى نقول لك إذا كان القرآن الكريم يشهد له أم لا ؟؟!!!
واللى اختشوا ماتوا
محمداً لا ينتقد ، بل الله هو الذى ينتقد ...
محمداً مجرد رسول ، وما على الرسول إلا البلاغ .
والآية الكريمة التى استشهدت بها تُثبت غباؤك وجهلك واستظرافك غير المقبول
يقول الإمام القرطبى :
" قوله تعالى ( فإن كنت فى شك مما أنزلنا إليك ) الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد غيره ، أى لست فى شك . قال أبو عمر محمد بن عبدالواحد الزاهد : سمعت الإمامين ثعلباً والمبرد يقولان : معنى " فإن كنت فى شك" أى قل يا محمد للكافر فإن كنت فى شك مما أنزلنا إليك ( فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) أى يا عابد الوثن إن كنت فى شك من القرآن فاسأل من أسلم من اليهود ، يعنى عبدالله بن سلام وأمثاله ؛ لأن عبدة الأوثان كانوا يقرون لليهود أنهم أعلم منهم ، هل يبعث الله برسول من بعد موسى . وقال القُتبى : هذا خطاب لمن كان لا يقطع بتكذيب محمد ولا بتصديقه صلى الله عليه وسلم ، بل كان فى شك ..
وقال الحسين بن الفضل : الفاء مع حرف الشرط لا توجب الفعل ولا تثبته ، والدليل عليه ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزلت هذه الآية : " والله لا أشك – ثم استأنف الكلام فقال – لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين " أى الشاكين المرتابين . ( ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين ) والخطاب فى هاتين الآتين للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد غيره . ( القرطبى ج 7،8 )
ما يستشهد به لبيب ميخائيل يدينه من حيث لا يدرى
ثم الضحوكة الكبرى قوله : " إن كلمة ( استراح ) لا تعنى أن الله تعب واحتاج إلى الراحة .. حاشاه " !!!!
فماذا إذن يكون معنى كلمة الراحة يا حضرة القس ؟؟!!
يقول كلمة " استراح وتنفس " التى ذكرتها فى مقالك تعنى الرضا عن ما عمل والإعلان بأن عمله حسن جدا" !!!!!!!!
القس يضع قاموساً جديداً يقول فيه أن استراح تعنى الرضا!!!
رحمك الله يا أمير الشعراء ، يا من قلت :
(( ياله من ببغاء عقله فى أُذنيه ))
ويواصل هذيانه عن معنى كلمة الراحة : " بل تعنى راحة الرضى والسرور "
لا أملك إلا أن أقول شفاك الله يا من لست لبيباً أو فهيماً ، أو زادك خبالاً فوق خبالك .
وليت شعرى ما هى قواعد التفسير الصحيح للكلمة المقدسة ؟؟؟
أهى الإتيان بشئ لا يمت للشئ بصلة وأثبت أن بينهما صلة ؟؟!!!!
أم أنها أن تأتى بمعنى كلمة استراح وتدلس عليها وتقول أنها تعنى " الرضى والسرور " ؟؟!!!
إننى أتحدى القسيس الموتور أن يأت لى بقاموس واحد فقط يوجد به أن معنى كلمة الراحة تعنى الرضا أو السرور .. أتحداه أن يفعل ولن يفعل
بدل أن يعترف القس بأنه على باطل يبرر تبريرات تُضحك عليه الكثير
القس يسقط ويتهاوى ويتخبط
وانظروا يا قراء إلى مزيد من التخبط
يقول القس : " تستطرد في مقالك فتذكر آية جاءت في سفر زكريا : " اسكتوا يا كل البشر قدام الرب لأنه قد استيقظ من مسكن قدسه " ( زكريا 2: 13) ، وتقول " لا ينام الرب ليتيقظ ..
وهو الذي تبرأت ذاته عن كل العوارض "
أجل ، إن الرب لا ينام ، وقد ذكر الكتاب المقدس هذا الحق بكلماته : " إنه لا ينعس ولا ينام حافظ إسرائيل ( مزمور 121 : 4 ) وكلمة استيقظ التى استخدمتها لتثبت أن إله التوراة ينام لا تعنى النوم بحال من الأحوال .(/6)
.. نقرأ في الكتاب المقدس هذه الآيات
) استيقظى يا رباب ويا عود " ( مزمور 57: 8 "
) استيقظى يا ريح الشمال " ( نشيد الإنشاد 4: 16 "
استيقظ ياسيف على راعي وعلى رجل رفقتي يقول رب الجنود " ( زكريا 13: 7 )
ولا تعني كلمة " استيقظ " أن الرباب والعود ناما ، أو أن روح الشمال نامت ، أو أن السيف نام
إنك أخطأت التفسير لسبب بسيط هو عدم معرفتك بقواعد وقوانين تفسير الكتاب المقدس الكريم "
إذن فما رأى القس لبيب ميخائيل فيما يقوله داود لربه :
((( استيقظ وانتبه إلى حكمى يا إلهى ))) ( مزمور 25 / 23 ) ؟؟؟
ولماذا لم يضع القس معنى لكلمة استيقظ مثلما اخترع تعريف لكلمة استراح ؟؟!!!
ويقول داود لربه ((( لماذا ترد يدك ويمينك . اخرجهما من وسط حضنك ))) ( مزمور 74 / 11 )
ألا يذكركم هذا القول يا قراء بما نسمعه فى المعسكرات " إيدك جنبك ، أقف انتباه ، شد نفسك " ؟؟!!!
وتصوروا أنهم يعتقدون أن الله سيوحى بالتطاول على مقامه الكريم ليُكتب فيما يُسمى الكتاب المقدس !!!!
ماذا تعنى " لماذا ترد يدك ويمينك " ؟؟؟؟ هل ترمز اليد إلى الفداء واليمين إلى الصليب ؟؟؟!!! والحضن يعنى القيامة من الأموات !!!!!
فطالما أن الهبل هو السائد ، فلنتحدث بعبط وحمق " وكله كلام مقدس " !!!
يا لبيب شئ من العقل ، وشئ من الحياء والخجل(/7)
لبيب ميخائيل يعتقد أنه حينما يهذى بكلام لا منطقى ولا معقول ، فإنه بذلك قد قام بالرد على الدكتور مصطفى محمود !!! ولا يوجد اكبر دليل على أن القس عاجز بل ومحتال سوى هذا الرد المزعوم ؛ والذى يُضحك الناس كثيراً على جهله وافترائه وكذبه المفضوح . الدكتور مصطفى محمود يتحدث عن عنصرية إله التوراة وأنه لا يعرف من خلائقه سوى اليهود قائلاً : " وهو إله عنصرى متحيز لا يعرف من مخلوقاته إلا بنى إسرائيل ، وهو يشرع الفضائل للتداول الداخلى بين أفراد هذه العشيرة الإسرائيلية " للأجنبى تقرض بربا ولكن لخيك لا تقرض بربا " ( تثنية 23 ) لا تأكلوا جثة ما .. تعطيها للغريب الذى فى أبوابك فيأكلها " ( تثنية 14 الاية 21 ) أبناء المستوطنين النازلين عندكم تستعبدونهم إلى الدهر .. وتتخذون منهم عبيداً وإماءً ..وأما إخوتكم من بنى إسرائيل فلا يتسلط إنسان على أخيه بعنف " ( لاويين 25 ) أهى عنصرية ؟؟ وإذا جاز لليهودى أن يفكر بطريقة عنصرية ويتصور الرب رباً له وحده ولجنسه من بنى إسرائيل ، والفضائل للتداول الداخلى فقط بين عائلته الإسرائيلية ، فكيف يجوز على الله رب العالمين ورب الإنس والجن والنمل والسمك والطير والنجوم والأفلاك وملائكة العرش ورب ما نعلم ومالا نعلم .. كيف يجوز لهذا الرب أن يأمر بالفضيلة بطريقة عنصرية ، فاليهود وحدهم يتقارضون بدون ربا .. ويأكلون اللحم .. أما الآخرون من الأمم فحلال سرقتهم واستغلالهم وإلقاء المزابل والجثث المنتنة المتعفنة إليهم ليأكلوها هذه الآيات تحمل فى ثناياها روح التلمود الذى كتبته الأقلام اليهودية فيما بعد فالتلمود هو الكتاب الشرعى الذى أحل لليهود دم الأمم ومالها وكرامتها وعرضها .. " بعد هذا الكلام المفحم . ماذا ياتُرى سيكون رد القس لبيب ميخائيل ؟؟؟ انظروا ماذا قال : " فى غمرة هجومك على التوراة وإله التوراة يا دكتور مصطفى ترخى لقلمك العنان فتقول أن إله التوراة إله عنصرى متحيز لا يعرف من مخلوقاته إلا بنى إسرائيل وهو يشرع الفضائل للتداول الداخلى بين أفراد هذه العشيرة الإسرائلية " هنا أذكرك بالقول المأثور : " من كان بيته من زجاج فلا يقذف الناس بالحجارة " اقول هذا لسببين : السبب الأول ، أن القرآن يذكر عنصرية إله التوراة فى مجال المدح وليس فى مجال الذم وهذه آيات القرآن " يابنى إسرائيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العالمين "( سورة البقرة 2 : 47 ) ومرة ثانية يكرر الآية نفسها فى نفس السورة : " يا بنى إسرائيل اذكروا نعمتى عليكم وأنى فضلتكم على العالمين " ( سورة البقرة 2 : 122 ) . ومرة ثالثة يقول : " ولقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين " ( سورة الجاثية 45 : 16 ) . ثلاث آيات قرآنية تؤكد أن الله فضل بنى إسرائيل على العالمين بماذا تصف إله القرآن يا دكتور مصطفى وأنت تقرأ هذه الآيات ؟ اتقول عنه أنه إله عنصرى متحيز لأنه فضل بنى إسرائيل على العالمين ؟ وكيف تصف إله التوراة بالعنصرية والتحيز لبنى إسرائيل فى مجال النقد وتتناسى أن القرآن فضل بنى إسرائيل على العالمين ؟ وتابع معى قراءة آيات القرآن : " وإذ قال موسى لقومه يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين " ( سورة المائدة 5 : 20 و 21 ) يقرر بكلمات صريحة أن الله أسبغ نعمته على بني إسرائيل القرآن فضلهم على العالمين وأنه أعطاهم الكتاب – أي كتاب العهد القديم – والحكم أي المُلك وأنه أعطاهم النبوة أي جعل الأنبياء الحقيقيين منهم وحدهم وأنه وأنه كتب لهم أرض كنعان ، وأطلق عليها اسم الأرض المقدسة ، وأمرهم بدخولها .. فالأرض المقدسة أعطيت لبنى إسرائيل بعقد موقع عليه من الله كان الأجدر بك يا دكتور مصطفى وأنت عالم بهذه الآيات القرآنية أن تسأل : لماذا فضل الله بنى إسرائيل على العالمين .. بدلا من أن تقول عنه إنه إله عنصري .. وسأقدم لك الجواب الصحيح " انتهى ولنبدأ مع الرد المُضحك للقس لبيب ميخائيل . القس استشهد على عنصرية إله الإسلام بالآيات التى يقول فيها الحق سبحانه أنه فضل بنى إسرائيل على العالمين ، وبذلك فبيتنا من زجاج ولا يبنبغى أن نقذف بيوت الناس بالحجارة !!! الآيات الكريمات لا يوجد بها ما ورد بالتوراة على الإطلاق ، ولا يوجد بها أن يقرض اليهودى الأجانب بربا ، ولا يوجد بها أن يُعطوا الغرباء النتن ليأكلوه ، ولا يوجد بها أن يستعبد اليهود أبناء المستوطنين إلى الدهر ولا أن يتخذوا منهم عبيداً وإماءً الآيات الكريمات تذكر بنى إسرائيل بما فعله الله معهم ، وأنه فضل آباؤهم على العالم فى زمانهم ، ورغم ذلك فهم لا يذكرون نعمة الله ، وأنه جعل منهم أنبياء وملوك وآتاهم الكتاب .. ولايوجد بالآيات الكريمات أنه دعاهم إلى استعباد الناس ، بل تذكير بجميل صنع الله معهم ، ولأن طبعهم متمرد وجاحد فهم ينكرون أى فضل لله عليهم .. ثم الم(/8)
يأت القس نبأ الآيات القرآنية التى تتحدث عن بنى إسرائيل وكفرهم وظلمهم ؟؟ يقول الحق سبحانه : (( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِين َ)) ( البقرة : 65 ) (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ )) ( المائدة : 18 ) (( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ )) ( المائدة : 60 ) (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )) ( المائدة : 64 ) (( لُعِن َ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ )) ( المائدة : 78 / 81 ) (( فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ )) ( الأعراف 166 )(/9)
فهل استطاع القس لبيب أن يرد ؟؟ لا .. بل أضحكنا على جهله ، فراح يستشهد على عنصرية إله القرآن – على حد زعمه – بما ينفى العنصرية تماماً ويتحدث القس عن عنصرية إله التوراة قائلاً : " لا عنصرية فى الأمر ، بل تدبير إلهى متقن لخلاص وفداء الإنسان .. تدبير كان لابد أن يتركز بوضوح فى شعب معين ، وعلى أرض معينة ، وتسبقه نبوات صريحة تصف كل ما يتعلق بالمخلص الآتى ، حتى إذا ما جاء لا يخطئ أحد فى معرفته .. وكان الشعب الذى اختاره الله فى واسع حكمته هو بنى إسرائيل ، ولذا فضلهم على العالمين .. ولما جاء المسيح يسوع أعلن بكلمات صريحة أنه الفادى والمخلص الموعود وأكد أن " الخلاص من اليهود " ( يوحنا 4 : 22 ) ولعل هذا يريك لماذا أعطى الله بنى إسرائيل الكتاب الذى تضمن الناموس ، والفرائض ، والأحكام ، والنبوات ، وفضلهم على العالمين " أ.ه ونسأل : ما علاقة هذه الأفلام بكلام الدكتور مصطفى محمود ؟؟!! إلى الآن لم يرد القس على كلام الدكتور مصطفى محمود ، ولم يجرؤ أن ينفى العنصرية عن إله التوراة ، بل برر هذه العنصرية البغيضة . ما علاقة هذا الكلام باستعباد اليهود لأبناء المستوطنين طوال الدهر ؟؟!!! ما علاقة هذا الكلام بأن يُعطى اليهود الجثث المنتنة للغرباء ليأكلوها ؟؟!!! ما هذا التخلف ؟؟؟ يواصل القس على الطريقة الشهيرة (( لا تعايرنى ولا أعايرك الهم طايلنى وطايلك )) فيحاول عبثاً إثبات أن إله القرآن عنصرى فيقول : " وهنا – السبب الثانى الذى يوقفك ولا شك موقف الحرج هو أن إله القرآن أكثر عنصرية من إله التوراة فهو " استخدم كلماتك " متحيز لا يعرف من مخلوقاته غير المسلمين وهو يُشرع الفرائض ليفعلها المسلمون " ونقول للقس : هذه مماحكة سخيفة وتقليد أعمى لما كتبه الدكتور مصطفى محمود ، وحين عجزت عن الرد أخذت كلامه وحاولت إلصاقه بالإسلام . والسؤال لك يالبيب – وليس لك من اسمك نصيب – إذا كان الله أرسل رسوله الكريم بدين الإسلام ، فهل يُشرع للمجوس أو اليهو أو النصارى ؟؟؟!!! إنه يُشرع لجميع الناس ومن دخل الإسلام جاز عليه التشريع . والإسلام دين عالمى لجميع الناس ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، بعكس النصرانية التى كانت خاصة باليهود فقط وحولها بولس الكذاب إلى ديانة عالمية . ويُواصل القس كلامه المُضحك : " هو إله يأمر المسلمين بأن يُقاتلوا اليهود والمسيحيين حتى يصيروا أذلاء قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ( محمد ) ولا يدينون دين الحق ( الإسلام ) من الذين أتوا الكتاب ( اليهود والمسيحيين ) حتى يُعطوا الجزية عن يد ( عن قهر ) وهم صاغرون ( أذلاء ) سورة التوبة 9 : 29 " ونقول لك يالبيب ، لتعرف أولاً أن هناك فارق كبير بين ( قاتلوا ) وبين ( اقتلوا ) ، فلو كانت ( اقتلوا ) لما كان هناك يهودى ولا نصرانى على وجه الكرة الأرضية . ولكن قاتلوا هنا تعنى محاربة هؤلاء الذين يحاربوننا من الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يُحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق وحتى يعيشوا فى سلام وهم على ضلالهم يدفعوا الجزية وهم صاغرون هؤلاء الذين أمرنا ربنا بقتالهم قال عنهم : " ولا يزالون يُقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا " ( البقرة : 217 ) أى أنهم هم الذين يُقالوننا ، فماذا نفعل معهم ؟؟؟ أنُدير لهم خدودونا ليصفعوها ؟!!! والغريب أن القس لبيب يتعامى عن فظائع كتابه ويحاول بشتى الطرق أن يلصقها بالإسلام ! إقرأ يا لبيب الإرهاب الوارد بكتابك والدعوة للقتل لا القتال .. أجل القتل إقرأوا معى : ((( فالآن (( اقتلوا )) كل ذكر من الأطفال وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر ((اقتلوها )) ولكن جميع الأطفال من النساء اللواتى لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهن لكم حيات ))) ( عدد 31 / 17 ، 18 ) ارهاب ما بعده ارهاب ودعوة لقتل الأطفال والنساء والحوامل ، وخطف البنات ... فهل فات هذا على القس لبيب ؟؟؟ أم أنه ( يسوق الهبل على الشيطنة ؟؟!! ) يقول لبيب : " وإله القرآن متحيز للإسلام " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين " ( آل عمران 3 : 85 ) إذن فما ذا عسى رب العزة أن يقول ؟؟؟ أيقول ومن يبتغ غير النصرانية ديناً فلن يُقبل منه ؟؟!!! ما هذا العبط والاستخفاف ؟؟ ويواصل القس : " وإله القرآن يأمر المسلمين أن لا يتخذوا اليهود والمسيحيين أصدقاء يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ( جمع ولى وهو الصديق والمتولى أمر غيره ) بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين " ( سورة المائدة 5 : 15 ) ولعلك توافقنى الرأى أن ملوك وأمراء العرب ضربوا بهذا الأمر القرآنى عرض الحائط عندما احتل صدام حسين بجيشه ارض الكويت ، واتخذوا النصارى الأمريكيين والأوربيين أولياء ليخلصوهم من العدو المسلم صدام حسين " ليت شعرى ما علاقة صدام حسين بالرد على الدكتور(/10)
مصطفى محمود ؟؟!!! أم أن العجز يجعلك تستشهد بأشياء لا تخدم قضيتك على الإطلاق الآية الكريمة لا يوجد بها أى دعوة للعنصرية ، والله لا يأمر المسلمين أن يستعبدوا اليهود والنصارى ، وإنما يأمرنا ألا نتخذهم أولياء لأنهم أولياء بعض القسيس يترك فضائح كتابه ويتحدث عن صدام حسين !!!!! يقول القس : " وإله القرآن يأمر بقتل وتعذيب من يحاربه أو يحارب محمدا رسوله إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ( أي تُقطع أيديهم اليمني وأرجلهم اليسرى ) أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ( المائدة 55 : 33 ) ألا ترى معي أن إله القرآن أكثر عنصرية من إله التوراة.. على الأقل أن إله التوراة لم يأمر اليهود أن يقاتلوا الذين لا يدينون بالديانة اليهودية ، ولا يحرمون ما حرَّم موسى .. ولم يأمرهم أن يقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف !!" وصل القس لبيب إلى قمة العجز والإفلاس حين قال أن إله القرآن أكثر عنصرية من إله التوراة " وهذا اعتراف خطير من القس بأن إله التوراة إله عنصرى يالبيب إله القرآن الكريم لا يعرف العنصرية إله التوراة المحرفة هو الذى يأمر بالقتل وقد أوردت لك النص سابقاً وهل تعتبر الدفاع عنصرية ؟؟ فماذا برأيك يكون جزاء الذين يُحاربون الله ورسوله ؟؟ ماذا يكون جزاء الذين يسعون فى الأرض فساداً من قتل وسفك للدماء وتدمير لكل شئ ؟؟ ماذا يكون جزاءهم ؟؟ إن إله التوراة المحرفة عنصرى لدرجة لا تُصدق بل وإرهابى وسافك للدماء ، إنه يأمر بقتل الأطفال والنساء الحوامل ، ونذكر النص مرة أخرى : " فالآن (( اقتلوا )) كل ذكر من الأطفال . وكل امرأة عرفت رجلاً بمضاجعة ذكرا(( اقتلوها )) ولكن جميع الأطفال من النساء اللواتى لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهن لكم حيات " ( عدد 31 / 17 ، 18 ) إنه إله سفاح وليس عنصرى انظروا إلى ديانة السيف : " وحرموا كل ما فى المدينة من رجل وامرأة ، من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير (( بحد السيف )) " ( يشوع 6 : 21 ) ((( بحد السيف ))) أرأيتم؟؟ بحد السيف أرأيتم يا قراء ؟؟ أرأيتم كيف أن النصارى يعتقدون أنهم يُخاطبون مجموعة من السذج والحمير ؟؟ يعتقد القس لبيب أن كذبه سيدخل فى عقول الناس دون كشف أو تمحيص ، ولكن كيف وربنا كتب عليهم الفضيحة فى الدنيا والآخرة إن بيت الإسلام من فولاذ وبيت النصرانية من زجاج مكسور وأقول للقس لبيب : " العب غيرها
القس لبيب ميخائيل أقل ما يُوصف به أنه سفيه أو معتوه .. ليس هذا تجنياً على شخصه بل كتابته هى التى تقول ذلك ، ولا يوجد أكبر دليل على ما أقوله سوى ما زعم القس أنه رد على الدكتور مصطفى محمود .
نحن أتباع الإسلام العظيم ، نتمنى الخير لجميع الناس ، ومن أجل هذا أكتب للقس لبيب وأرد عليه لعل الله يهديه . يقول القس لبيب موجهاً حديثه للدكتور مصطفى محمود :
" استطردت فى هجومك على التوراة فذكرت ما قاله فى سفر التكوين 9:13 عن قوس قزح ، وقلت " قوس قزح ظاهرة طبيعية تحدث أينما التقى بخار الماء المعلق فى الجو بأشعة الشمس ، فيؤدى انكسار الشعة على ذرات الماء المعلقة إلى انحلال النور الأبيض إلى ألوان الطيف السبعة التى تظهر فى قوس قزح وليس من شروط هذه الظاهرة العلمية أن يأتى نوح ويحدث الطوفان فتوضع القوس فى السماء ميثاقا إلهيا بين الله والأرض
"
من قال لك أن هذه الظاهرة كانت موجودة قبل الطوفان وهل افهم من كلامك أنك تنكر حدوث الطوفان ؟؟ إننى لا أرى ما يمنع إطلاقا أن يستخدم الله ظاهرة طبيعية ليذكر الناس حين تهطل المطار الغزيرة ، أنه جل شأنه لن يغرقهم مرة ثانية بالطوفان .. فهو تبارك اسمه يستخدم الظواهر الطبيعية لإظهار مجده وجلاله . والقرآن فيه الكثير من الآيات التى تثبت ما أقول .. والله لا ينسى يادكتور وكلمات الوحى دقيقة . فالله تبارك اسمه يقول " اذكر ميثاقى " ( تكوين : 15 : 9 ) ولا يقول " اتذكر " والفرق بين معنى الكلمتين كبير .. الحقيقة أن القرآن هو الذى ينسى المنافقون " نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون " ( سورة التوبة 9: 67 ) . والآية القرآنية تضع نسيان الله على نفس مستوى نسيان الإنسان . ولست أرى داعيا للتوسع فى الحديث عن " قوس قزح " فقد كفيتنى مؤونة الاستطراد بكلماتك عن هذا الموضوع إذ قلت : " وعلمنا الظاهر فى النهاية أتفه من أن ينقض آية من آيات الله " وفى هذا صدقت " انتهى(/11)
اللهم ثبت عقولنا فى رؤوسنا ، القس لبيب يحاول فى كل رد مزعوم أن يُقحم افتراءات عقله المريض على الإسلام . يهلوس ويدعى أنه يرد ، ثم يُقحم الإسلام فى الموضوع .. يقول القس : " من قال لك أن هذه الظاهرة كانت موجودة قبل الطوفان ؟ " ونسأل القس : ومن قال لك أنها لم تكن موجودة قبل الطوفان ؟؟؟ الدكتور مصطفى محمود لا ينكر الطوفان لأنه ورد فى القرآن الكريم ، لكنه ينكر إسفاف الكتاب المقدس واستخفافه بالعقول . الدكتور مصطفى محمود بين كذب وتدليس الكتاب المقدس وأثبت أن ظاهرة قوس قزح ليس لها علاقة بالطوفان . يقول القس فى سخف منقطع النظير وعجز لم يرد له مثيل : " إننى لا أرى ما يمنع إطلاقا أن يستخدم الله ظاهرة طبيعية ليذكر الناس حين تهطل الأمطار الغزيرة ، أنه جل شأنه لن يغرقهم ثانية بالطوفان.. "
اللهم زد هذا القس خبالاً فوق خباله .. أين ردك على كلام الدكتور مصطفى محمود ؟؟؟؟ أم أنك ترى أنه لا مانع وكل شئ وارد ومفيش حاجة بعيدة وهذا الكلام الفارغ ؟!!! وما علاقة الآية القرآنية التى أقحمتها بموضوع الرد ؟؟؟ لو أنك تعرف اللغة العربية يالبيب ، لما قلت هذا الهراء الذى يُضحك الناس على جهلك الفاحش . إن الله ينسى تعنى أنه ترك هؤلاء الذين تركوا طاعته وأخرجهم من رحمته ، وإلا لو كان معناها أنه ينسى بحيث لا يتذكر فالكفار هم أول من يدخلون الجنة والعياذ بالله لأن الله ينسى على حد زعمك يا سفيه !!! يا لبيب : لماذا تصر على أن تُضحك الناس على جهلك ؟؟ يقول القس : " ولست أرى داعيا للتوسع فى الحديث عن قوس قزح ... " وأقول : إنك لا تستطيع أن تتوسع لأنك أثبت جهلك وفشلك وسقوطك بهذا الرد المزعوم . ويتحدث القس السفيه عن أخطاء مزعومة يراها فى القرآن الكريم كما يصور له عقله المريض ؛ فيتحدث عن كلمة علقة ، وكروية الأرض وغروب الشمس فى عين حمئة ، وما تحدث عنه هذا السفيه رد عليه علماء الأمة منذ مئات السنين ، ولو أنى ذكرت الرد أكون بذلك أضيع وقت القارئ فيما لا يفيد لأنى لن آتى بجديد
.
الدكتور مصطفى محمود يتحدث عن الطقوس البهلوانية الواردة فى سفر اللاويين إصحاح 14 من ذبح للعصافير والخرفان والدم ... إلخ هذا الهجص والعبط ، والقس يستخف بعقول القراء ويقول أن هذا الهراء يرمز إلى المسيح !!!! وفى محاولة منه لتبرير لا منطقية كتابه ولا معقوليته تحول صوب القرآن الكريم ، فقال : " أرى لزاماً على أن أذكر الآيات القرآنية ووصفها لإله القرآن ، فإله القرآن يأمر بالفسق : " وإذا أردنا ان نهلك قرية امرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " ( الإسراء 17 : 16 ) ونقول للقس الفاشل الذى عجز عن الرد على الدكتور مصطفى محمود ، وحول كل شئ فى الوجود إلى رموز ثم اندار صوب الإسلام : إن الله لا يأمر بالفحشاء والقرآن الكريم صريح فى ذلك " قل إن الله لا يأمر بالفحشاء " والآية التى ذكرتها تعنى أن الله إذا أراد أن يهلك قرية أمر مترفيها بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى ونهاهم عن الفحشاء والمنكر والبغى ، وإذا لم يسجيبوا وعصوا الله حق عليهم القول فيدمر الله هذه القرى الظالمة . هذا هو إله القرآن الكريم الذى تفترى عليه يا لبيب ، فلماذا تدلس من أجل الدفاع عن عقيدتك الوثنية الضالة ؟؟؟؟(/12)
وأيضاً يتحدث القس عن مكر الله وتبديل آيات القرآن الكريم ( يقصد الناسخ والمنسوخ ) وقد رد على على هذه الافتراءات علماء الأمة فلا داع للتكرار وهنا أجد لزاماً على أن أذكر القس لبيب ميخائيل بإله الكتاب المقدس ، لأنه نسى فضائح كتابه ، وحاول عبثاً أن يقول لنا كلنا فى الهم سواء 1 – يقول الرب : أنا لافرايم كالعث . ولبيت يهوذا كالسوس " ( هوشع 5 : 12 ) هل هناك إله بهذه الصورة الحقيرة ؟؟؟ كالعث والسوس !!!! 2 – " أنا عرفتك فى البرية ، فى أرض العطش ، لما رعوا شبعوا . شبعوا وارتفعت قلوبهم ، لذلك نسونى . فأكون لهم (( كأسد)) . أرصد على الطريق(( كنمر )) . أصدمهم(( كدبة )). وآكلهم (( كلبؤة )) " ( هوشع 13 : 5 – 8 ) وإذا كان هذا الإله يُوصف بالأسد والنمر والدبة واللبؤة ، فلماذا لا يودعون هذا الإله فى حديقة الحيوان ؟؟؟!!! فطالما أنه لبؤة وأسد ونمر ودب ، فلابد من وضعه بالقفص !!! وتلك النجاسة الواردة فى هذا الكتاب اللا مقدس تتناقض مع ما جاء فى أشعياء " بمن تشبهون الله . وأى شبه تعادلون " ( 40 : 80 ) إننى أتحدى أى نصرانى على وجه الكرة الأرضية أن يأتى لى بنص من القرآن الكريم أو من الأحاديث الشريفة يُوصف الله فيه بأنه مثل اللبؤة أو الدبة أو الأسد أو السوس أو العث أو النمر أين العقول يا نصارى ؟؟؟؟ يقول القس الضال المضلل وبئس ما قال ، خاصة إذا علمنا أنه قام بتحريف آية قرآنية لتخدم غرضه القذر : " وإله القرآن يعذب المرتدين عن الإسلام بأيدى المسلمين : " وان نكثوا (((( إيمانهم ))) من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا أئمة الكفر انهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون .. قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين " ( سورة التوبة 9 : 14 ) يعتقد القس لبيب ميخائيل أنه يستطيع تحريف القرآن الكريم مثلما حرف كتابه المقدس ، فقد قام بحذف آية قرآنية كاملة من وسط الآيتين ، ووضع همزة تحت الألف بدلاً من فوقها فى كلمة ((( أيمان ))) وحولها إلى ((( إيمان ))) والآيات صحيحة هكذا :
(((وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ )))
الآيات تتحدث عن المشركين وتوضح أنهم هم من بدءوا المسلمين العداء السافر ، وحاولوا إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم وتهجيره . القسيس الوقح حرف الآية وقال " إله القرآن يعذب المرتدين عن الإسلام " وكلمة الأيمان التى حرفها القس تعنى : العهود التى قطعها المشركون على أنفسهم ، ولكنهم نقضوا عهدهم ، ولا يوجد بالآية الكريمة ما يشير أو يلمح إلى أن المشركين اعتنقوا الإسلام وارتدوا عنه ، كما يزعم السفيه لبيب ميخائيل . يا لبيب : أولى لك أن تكشف عن الكذب والتدليس والافتراء فى كتابك اللا مقدس ولا تجعل شيطانك يقودك إلى الهاوية . يا لبيب : لقد أضحكنا عليك الناس فى الدنيا فماذا عساك أن تفعل فى الآخرة ؟؟
يتمتع النصارى بقدر كبير جداً من الوقاحة ، ويصدق فيهم دائماً قول رسولنا المعظم : " إذا لم تستح فاصنع ما شئت ". والقس لبيب ميخائيل لا يستحى على الإطلاق ، بل ويهذى بكلام غير مفهوم ، لايمكن أن يصدر من إنسان عاقل .
يوجه القس لبيب حديثه للدكتور مصطفى محمود قائلاً : " تقول فى مقالك أن التوراة جدفت على الملائكة وتصور هذا التجديف فى أنها جعلت الملائكة الذين جاءوا يبشرون إبراهيم بميلاد إسحق يأكلون . عجب وأى عجب لقد أعلن القرآن بأن الملائكة جاءوا لإبراهيم فى صورة رجال " هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون ، فراغ إلى أهله بعجل سمين " ( سورة الذاريات 51 : 24-26 ) . فإذا كان القرآن قد قرر أن الملائكة وهم أرواح ظهروا فى أجساد بشرية وحلوا ضيوفا على إبراهيم . ألا يكون من التجديف أن يُقال أنهم أكلوا ؟ إن حديث التوراة عن ضيوف إبراهيم أصدق من حديث القرآن .. قصة التوراة فى سفر التكوين الأصحاح 18 : 1- 8 الذى نقل عنه القرآن ، وادخل عليها التحريف " انتهى(/13)
يا رب أفرغ علينا صبراً ، فقد أصابنا هذا القسيس بالقرف بسبب كثرة استخفافه بالعقول ، ولا مبالاته بشعور القراء ، والذين أصابهم القرف أيضاً من هرائه وسخفه وفحشه . الدكتور مصطفى محمود يقول : " نرى الملائكة الذين جاءوا يبشرون إبراهيم بميلاد اسحاق يأكلون العجل المشوى واللبن والزبد الذى قدم لضيافتهم ومن صفات الملائكة الثابتة أنهم لا يأكلون ولا يتزوجون " والقس يقول : " إن حديث التوراة عن ضيوف إبراهيم أصدق من حديث القرآن " أين إذن الرد المزعوم يا سفيه ؟؟؟؟ لم يجرؤ القس أن ينفى أن الملائكة تأكل ، ولكنه أتى بكلام ليست له أية علاقة بموضوع الدكتور مصطفى محمود .
ولأن القرآن الكريم يبطل المخططات الفاشلة للقس ، فقد ذكر آية واحدة من سورة الذاريات ، ولم يذكر بقية الآيات حتى يُخيل للقارئ أن الملائكة أكلوا ، والآيات الكريمات تنفى نفياً قاطعاً أن الملائكة قد أكلوا . يقول رب العزة : (( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ )) ومن خلال الآيات يتضح لنا أن القرآن الكريم ينفى نفياً قاطعاً أن الملائكة قد أكلوا ، وأنهم عندما رفضوا الأكل أوجس إبراهيم – عليه السلام – منهم خيفة وشعر بالفزع . فأى حديث أصدق يا لبيب ؟؟؟ القرآن الكريم أم التوراة المحرفة؟؟؟
القرآن الكريم ينزه الملائكة والتوراة المحرفة تقول أنهم أكلوا وشربوا ، بقى أن تقول التوراة المحرفة أن الملائكة كانوا يدخنون " سجائر " ماركة " مارلبورو " !!! ويحاول القس لبيب أن يتحايل على معنى كلمة " الروح " الواردة بملوك 22 : 21 / 22 ) : ( ثم خرج الروح ووقف أمام الرب وقال أنا أغويه ، وقال له الرب بماذا . فقال أخرج وأكون روح كذب فى أفواه جميع أنبيائه . فقال إنك تغويه وتقتدر فاخرج وافعل هكذا ) يقول القس :
" لا يمكن أن يكون الروح القدس كما ذكرت .. ولا الروح الأمين .. ولا أى ملاك من الملائكة القديسين .. الغواية من عمل الشيطان " أ . ه ما قاله القس يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الكتاب المقدس محرف . فإذا كان الشيطان هو الذى يقوم بالغواية ، فلماذا هذا اللبس ؟؟ ولماذا أطلق عليه المحرفين " الروح " ؟؟؟؟ إن ردود النصارى تُثبت سقوطهم الذريع وفشلهم المريع . والأضحوكة الكبرى هى حديث القس لبيب عن خطايا الأنبياء ، فبماذا بررها ؟؟؟!! يقول :(/14)
" وقد أوحى الله لموسى النبى كاتب هذه التوراة بتسجيل ما فعله نوح ولوط ويهوذا أولا ليرينا ضعف الإنسان أمام شهواته ونزواته .. وثانيا ليرينا أصل الموآبين والعمونيين الذين جاءوا من لوط .. وثالثا ليربط بين يهوذا ونسله .. ويعلن لنا أنه مع تدهور الإنسان ووصوله إلى أعماق الهوان ، فإن نعمة الله يمكن أن تخلصه وترفعه إلى مستوى الأبناء .. كما رفعت " ثامار " التى ولدت ليهوذا " فارص " الذى من نسله جاء المسيح حسب الجسد أما داود النبى الذى زنى بامرأة الضابط " أوريا " ، وأرسل زوجها " أوريا " ليموت بسيف بنى عمون .. فكانت خطيئته فظيعة تستوجب عقابا إلهيا معادلا لفظاعتها لأن داود عرف أن الله قال فى الوصايا العشر " لا تزن .. لا تقتل " ، لكنه عصى وصايا الله ، وانجذب وانخدع من شهوته وزنى بامرأة أوريا ، ثم دبر الخلاص من أوريا بقتله فى الحرب .. لكن عين الله الساهرة ، رأت ما فعل داود ، وقبح فى عينى الله القدوس " انتهى واسأل : ما علاقة هذا العبط والخبل بتبرير خطايا الأنبياء ؟؟؟!!! ألم يجد رب العالمين سوى هؤلاء السفلة الزناة العصاة القتلة ليجعلهم أنبياء ؟؟؟!!! يقول القس " ليرينا ضعف الإنسان أمام شهواته ونزواته " وكأنه يتحدث عن مجرم قاتل يسألوه عن سبب القتل فيجيب : " الظروف هى السبب " !!! ولم يجد رب العالمين طريقة يرينا بها أصل الموآبيين والعمونيين إلا بأن جعل لوط يزنى بابنتيه ، بحيث يقتدى أى إنسان بما فعله لوط ويزنى ببناته !!!!! القس المجنون يُهلوس بما لا يعى ، ويتحدث عن عين الله الساهرة الحارسة ، ولكنه لم يبرر خطايا الأنبياء بل زينها للقراء !!! وإذا كان هذا حال الأنبياء ، فماذا سيكون حال البشر ؟؟!!! وألا يجعل هذا من الله ( سئ الاختيار ) – وحاشاه – بحيث أنه لم يستطع أن يختار مجموعة من الصالحين يرسلهم لهداية الناس ؟؟؟ ويواصل القس هذيانه : " ذكر خطايا الأنبياء يؤكد صدق وحى الكتاب المقدس ، كتاب الله الذى ليس عنده محاباة ، ويعلن عن قداسة الله الذى تعالى عن الشر علوا كبيرا وتنزه عن الخطأ تماما " !!!!!! ونقول للقس : " إن ذكر خطايا الأنبياء يؤكد زيف وتحريف الكتاب المقدس ، لأنه ألصق بأنبياء الله فظائع لا يُصدقها إنسان عاقل ، وذكر خطايا الأنبياء يعود لحاجات فى أنفس المحرفين الضالين الذين شوهوا كل شئ ، حتى يستحلوا الزنى والقتل والسرقة والاغتصاب .. فإذا كان أنبياؤهم قد فعلوا كذلك فلماذا لا يقومون بما قام به أنبياؤهم ؟؟؟!!!! ثم أى قداسة لله تتحدث عنها ؟؟!!! أتتحدث عن وصف الله " باللبؤة " و " الأسد " و " السوس " و " العث " وأنه يُصفر ويزمجر ويتعب ويندم وأنه لا يعلم الغيب ..... إلخ ؟؟؟؟ وفى محاولة مفضوحة من القس الوقح ليدارى فضائح وفظائع كتابه المحرف يقول : " ولو أنك قرأت القرآن بوعى وفهم قبل أن تكتب سؤالك ، لرأيت أن إله القرآن اختار رجلا ضالا أو بلغتك كبشا ضالا لينادى للعرب بالإسلام .. يقول إله القرآن للنبى محمد " ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ( سورة الضحى 93 : 6 و 7 ) . كان محمد " ضالا " ومع ذلك اختاره إله القرآن للمناداة بالإسلام " انتهى
ونقول : ولأن أنبياء الكتاب المقدس مجموعة من السفلة والزناة واللصوص والزناة والقتلة والسفاحين ، اعتقد القس المعتوه أن القرآن الكريم يُشنع على الأنبياء مثلما فعل المحرفين . " ووجدك ضالا فهدى " يقول الشيخ الصابونى : " أى ووجدك تائها عن معرفة الشريعة والدين فهداك إليها كقوله تعالى " ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان " قال الإمام الجلال : أى وجدك ضالاً عما أنت عليه الآن من الشريعة فهداك إليها ، وقيل ضل فى بعض شعاب مكة وهو صغير فرده الله إلى جده ، وقال أبو حيان : لا يمكن حمله على الضلال الذى يقابله الهدى ، لأن الأنبياء معصومون من ذلك . قال ابن عباس : هو ضلاله وهو فى صغره فى شعاب مكة ، وقيل : ضل وهو مع عمه فى طريق الشام " ( راجع صفوة التفاسير ) أرأيت يالبيب كيف أنك عاجز ومحتال ؟؟ يا لبيب بيت الإسلام من فولاذ ، أما بيت النصرانية الحمقاء فمن زجاج مكسور
الآن وصلنا إلى الهزيمة الساحقة للدعى الوقح لبيب ميخائيل ؛ فعندما عجز عن الرد على كلام الدكتور مصطفى محمود حول التوراة تحول إلى المصطفى صلوات ربى وسلامه عليه ، معتقداً بحمقه وجهله أنه سيجد ضالته ويقول لنا : كلنا فى الهم سواء !! أو كما يقول المثل : " لا تعايرنى ولا أعايرك الهم طايلنى وطايلك " !!
يقول القس لبيب : " كيف يقول نبى الإسلام أن إله القرآن أمر قائلا " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا " ( سورة النساء 3 : 3 ) ويعصى هو هذا الأمر فيتزوج أربعة عشر إمرأة وقد جاء فى تاريخ اليعقوبى " لأحمد بن أبى يعقوب الكاتب العباسى المعروف ( طبعة بيروت 1970 م أن النبى تزوج إحدى وعشرين امرأة .(/15)
كيف سمح محمد لنفسه عصيان أمر إله القرآن وتزوج هذا العدد الكبير ؟! وهل استطاع أن يعدل بين هذا العدد الكبير من النساء "
ونقول للقس العاجز المحتال : محمداً صلى الله عليه وسلم لم يعص أمر الله ولم يتزوج احدى وعشرين امرأة .
تزوج المصطفى من أمهات المؤمنين بالإضافة للسيدة ميمونة بنت الحارث التى وهبت نفسها للنبى والسيدة مارية القبطية التى كانت من السرارى ، فأين هم ال 21 إمرأة ؟؟!!
وعندما تزوج المصطفى من هؤلاء لم تكن الآية الكريمة :
(( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ ))
لم تكن قد نزلت بعد ، والدليل على ذلك هو قول رب العزة للمصطفى :
(( لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا )) ( الأحزاب : 52 )
ومعنى هذا أن الآية الكريمة فى سورة النساء نزلت بعد زواج المصطفى ، وأنه لم يعص أمر الله ، فأين عقلك يا لبيب ؟؟
والمصطفى صلوات ربى وسلامه عليه كان يعدل بين نسائه والدليل ما روته كتب السيرة من تخصيص وقت لكل واحدة منهن وعدم التفريق بينهن فى المعاملة والمساواة التامة بينهن .
وفى محاولة يائسة من القس العاجز لتبرير جريمة داود الواردة بالكتاب المقدس من أنه قتل جاره وزنى بزوجته يقول : " وهناك تشابه كبير بين قصة زنى داود النبى بامرأة الضابط أوريا بعد أن اشتهاها وهو يراها على السطح تستحم ، وبين اشتهاء النبى محمد لزوجة ابنه المتبنى زيد بن حارثة .. الفارق بين قتل أوريا ، وقتل زيد أن قتل أوريا كان قتلا جثمانيا ، أما قتل زيد فكان قتلا نفسيا .. ومعنويا .. وأدبيا " ويذكر القس الروايات الموضوعة التى رواها الطبرى عن زواج المصطفى بزينب بنت جحش ونقلتها عنه الدكتورة عائشة عبدالرحمن فى كتابها ( نساء النبى ) .
ونقول للقس : رمتنى بدائها وانسلت
يقول الشيخ الصابونى فى صفوة التفاسير حول تفسير الآية الكريمة " وتُخفى فى نفسك ما الله مبديه " : قال فى التسهيل : الذى أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر جائز مباح لا إثم فيه ولا عتب ، ولكنه خاف أن يقول الناس تزوج امرأة ابنه إذ كان قد تبناه ، فأخفاه حياءً وحشمة وصيانة لعرضه من ألسنتهم ، فالذى أخفاه صلى الله عليه وسلم هو إرادة تزوجها ليبطل حكم التبنى فأبدى الله ذلك بأن قضى له بتزوجها ، ويتشبث أعداء الإسلام بروايات ضعيفة واهية ، لا زمام لها خطام ، للطعن فى الرسول الكريم والنيل من مقامه العظيم ، وجدت فى بعض كتب التفسير !! من هذه الروايات الباطلة التى تلقفها " المستشرقون " وخبّوا فيها وأوضعوا ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى " زينب " وهى متزوجة بزيد بن حارثة فأحبّها ووقعت فى قلبه فقال " سبحان مقلب القلوب " فسمعتها زينب فأخبرت بها زيداً ، فأراد أن يطلقها فقال له الرسول ( أمسك عليك زوجك ) حتى نزل القرآن يعاتبه على إخفائه ذلك .. إلخ وهذه روايات باطلة لم يصح فيها شئ كما قال العلامة " أبو بكر بن العربى " رحمه الله ، والآية صريحة فى الرد على هذا البهتان ، فإن الله سبحانه أخبر بأنه سيظهر ما أخفاه الرسول ( وتخفى فى نفسك ما الله مبديه ) فماذا أظهر الله تعالى ؟ هل أظهر حب الرسول وعشقه لزينب ، أم أن الذى أظهره هو أمره عليه السلام بالزواج بها لحكمة عظيمة جليلة هى إبطال " حكم التبنى " الذى كا شائعاً فى الجاهلية ولهذا صرح تعالى بذلك وأبداه علناً وجهاراً ( فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم ) يا قوم اعقلوا وفكروا ، وتفهموا الحق لوجه الحق بلا تلبيس ولا تشويش وتبصروا فيما تقولون فمن غير المعقول أن يعاتب الشخص لأنه لم يحاهر بحبه لزوجة جاره ؟ وحاشا الرسول الطاهر الكريم أن يتعلق قلبه بامرأة هى فى عصمة رجل ، وأن يخفى هذا الحب حتى ينزل القرآن يعاتبه على إخفائه ، فإن مثل هذا لا يليق بأى رجل عادى ، فضلاً عن أشرف الخلق عليه أفضل الصلاة والتسليم ، وغاية ما فى الأمر – كما نقل فى البحر – عن على بن الحسين أنه قال : " أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها ، فلما اتاه زيد يشكوها إليه وقال له : اتق الله وأمسك عليك زوجك ، عاتبه الله وقال له : أخبرتك أنى مزوجكها وتخفى فى نفسك مالله مُبديه "
فهل بعد هذا القول قول آخر يا لبيب ؟؟؟؟ ولكنك مثل رفيقك فى درب الحمق والضلال المعتوه زكريا بطرس .(/16)
ويقول القس أن محمداً قتل زيداً قتلاً نفسيا ومعنوياً وأدبياً ، وهو بهذا القول يكشف عن عدم إيمانه بواقعة داود المفتراة الواردة بالكتاب اللا مقدس ، والدليل أنه أتى بكلمة قتل ليُحاول أن يُلصق بنبينا الأعظم ما ألصقه الكتاب المقدس بداود .
ونسأل أى قتل فى أن إنسان طلق زوجته بإرادته ؟؟؟!!!
أى قتل فى أن يتزوج إنسان زوجة ابنه بالتبنى والتى طلقها ؟؟؟!!!
أى قتل يا سفيه ؟؟؟ أم أن الكتاب المقدس أفقدك صوابك ؟؟؟
ويواصل هذيانه :
" والذى يوقفنا طويلا عند هذا الزواج ، هو الوحى الذى نزل على محمد يؤكد له أن إله القرآن زوجه زينب بنت جحش القرشية التى اشتهاها ، وأسرت قلبه .. وهذا الوحى بالقطع ضد كلام يسوع المسيح : " من يتزوج مطلقة فإنه يزنى " ( متى : 5 / 32 )
ونقول لهذا السفيه : المصطفى لم يشته زينب بنت جحش ، والدليل أنه هو الذى زوجها لزيد ، فإذا كان اشتهاها فلماذا لم يشتهيها وهى لم تتزوج بعد ؟؟؟؟!!! ما رأيك يا سقيم ؟؟؟
ثم من قال لك أن المسيح عليه السلام قال هذا القول السقيم : " من يتزوج مطلقة فإنه يزنى " ؟؟؟؟
المسيح عليه السلام لم يقل هذا إطلاقاً ، لأنه بهذا القول السقيم حول حياة المرأة المطلقة إلى جحيم ، فإما أن تنتحر أو أن تتحول صوب بيوت الدعارة ... فبالله عليكم هل يُمكن نسب هذا القول إلى نبى من أنبياء الله ؟؟!!!
إن ما جاء به محمداً من عند ربه يبطل الحياة الخنزيرية التى يحياها النصارى .
ويواصل السفيه قائلاً : " وهناك أمر آخر فى غاية الخطورة فى قصة زواج محمد وزينب بنت جحش .. فزيد الذى تبناه محمد أمام الملأ فقد زوجته الجميلة " زينب " ، وفقد معها تبنى محمد له ، إذ قال الوحى الذى نزل على محمد " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ عليما " ( سورة الأحزاب : 33 / 40 )
ونقول لهذا المخمور : زيد هو الذى طلق زوجته ، والقرآن الكريم نزل نافياً بنوة زيد لمحمد صلى الله عليه وسلم ، حتى لا يقول السفهاء أمثال لبيب ميخائيل أنه تزوج من مطلقة ابنه .
وفى أكثر فقرة أضحكتنى على سفاهة القس لبيب ميخائيل يقول :
" القصة قصة الشهوة .. وكما اشتهى داود النبى " بتشبع " حين رآها تستحم فوق السطح وزنى بها .. وقتل زوجها الضابط أوريا .. كذلك اشتهى النبى محمد " زينب بنت جحش " وتزوجها وقتل زوجها " زيدا " أدبيا ومعنويا ونفسيا
الفارق الكبير هو .. أن إله الكتاب المقدس القدوس ، عاقب داود على سقطته عقابا شديدا .. أما إله القرآن فقال لمحمد " فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها "
وكما سبق وأوضحنا بأن هذا السفيه والذى نشك فى قدراته العقلية ، يحاول باستماتة أن يقول لنا : " كلنا فى الهم سواء " ولكن هيهات ، فكيف لانسان قاتل مجرم بل وزانى نضعه فى مقارنة مع من تزوج مطلقة ابنه بالتبنى زواجاً شرعياً وبخلاف ذلك فهو الذى زوجها لابنه بالتبنى من قبل ذلك ؟؟؟؟
ونسأل لبيب ما هو عقاب داود يا تُرى ؟؟؟؟
لقد جاء عن دواد ما يلى : " واختار الرب داود عبده " ( مزمور 78 :70 ) فهل يختار الرب هذا المجرم القاتل الزانى ؟؟؟!!! أين عقلك يا سفيه النصارى ؟؟؟
ويواصل لبيب ميخائيل قيئه : " وأمر آخر لا يقل خطورة عن الأمر الأول .. هو أن اعجاب محمد بزينب زوجة ابنه المتبنى زيد .. وزواجه منها ، يفتح الباب أمام كل مسلم أن يشتهى زوجة صاحبه الجميلة .. ويدفعها إلى أن تذيق زوجها المر حتى يطلقها .. ثم يتزوجها بضمير مستريح .. فقد فعل النبى محمد قبله ذات الفعل ومحمد أسوة حسنة للمسلمين كما قال القرآن " لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة " ( سورة الأحزاب 33 : 21 )
صدقت يا رسول الله يا من قلت : إذا لم تستح فاصنع ما شئت .
أين ردك يا سفيه النصارى على قتل داود لجاره والزنى بزوجته ؟؟؟؟
محمداً صلى الله عليه وسلم قال : ( من خبب زوجة امرئ أو مملوكه فليس منا ) أى أنه منع ما يُصوره لك عقلك المريض ، وعقاب من حرض امرأة على زوجها عقاب عسير جداً ، فى الجانب المقابل الكتاب المقدس يُقنن الدعارة والزنى ويجعل أى نصرانى يرى جارته تستحم يقتل زوجها ويزنى بها والرب يبارك المولود الناتج عن هذه العلاقة الآثمة ، أليس كذلك يا سفيه النصارى ؟؟؟!!!
يتضح لنا من خلال ردنا على القس لبيب ميخائيل أن العقل النصرانى فى محنة كبيرة جداً لن يخرج مها إلا إذا لفظ هذا الكتاب اللامقدس ، وأن يُعمل النصارى عقولهم بدلاً من إعمال أحذيتهم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى صحبه وآله وسلم .(/17)
الرد على الملحدين
الحمدلله رب العالمين له النعمة والفضل وله الثناء الحسن صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين .
أما بعد يا أخي المسلم أن من الواجبات الكفائية معرفة العقائد الايمانية بدلائلها النقلية الواردة في القرآن والحديث، والادلة العقلية الى الحد الكافي لرد الملحدين، أي يجب أن يكون في المسلمين من يعرف الادلة الكافية لابطال تمويهات الملحدين من الشيوعية ونحوهم من سائر أعداء الاسلام والمحرفين للدين المنتسبين اليه وهم ليسوا منه، والسعي في ذلك أمرٌ مهم عظيم في الدين .
قال الله تعالى: " فلو لا نَفَرَ من كل فرقة منهم طائفة ٌ ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون " ( سورة التوبة \122)
إذ ليس محور الاعتقاد على الوهم، بل على ما يقتضيه العقل الصحيح السليم الذي هو شاهد للشرع، والشرع لا يأتي الا بمجوزات العقل، والشرع شرع الله.
وإنه مما لا يخفى عليك أخي المسلم أنك عندما تناقش واحدا من الملحدين وتريد أن تثبت له أن لهذا العالم خالقا وهو الله وأنه موجود ٌ لا يشبه الموجودات فعليك بيان ذلك بالدليل العقلي لأن الملحد لا يؤمن بالقرءان ولا بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
النقاط الثمانية هي:
1- بيان سبلِ المعرفة للعبد
2-إثبات أن العالم مخلوق ٌ أي له بداية
3- إثبات وجود الله عقلاً
4- إثبات أن الله هو خالق العالم وأنه لا يشبه المخلوقات
5- إثبات وجود سيدنا محمد
6- إثبات أن سيدنا محمداً هو نبيّ ٌ
7- إثبات أنه صادق في جميع ما أخبر به وبلّغه عن الله
8- إثبات أن القرءان الكريم منزَلٌ من عند الله
1- بيان سبل المعرفة للعبد:
أ-الحواس السليمة : وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس. لو قال لك أحدهم: " هذه الطبشورة بيضاء، كيف عرفنا أن ّ لونها أبيض؟
عن طريق النظر وهو من الحواس.
ب- العقل السليم : العقل صفة راسخة في الانسان يميّز بها بين القبيح من الحسن. وذوو العقول ثلاثة: الملائكة، والإنس، والجن، وأما البهائم فليسوا من ذوي العقول.
إن العلم الحاصل بالعقل إما أن يكون بديهيا أي ضروريا أو اكتسابيا. فالعلم الضروري ما لم يقع عن نظر ٍ واستدلالٍ كالعلم الحاصل بالحواس الخمس وكالعلم بان الكلَ أعظم ُ من جزئه وأما العلم الاكتسابي فهو الموقوف على النظر والاستدلال كالعلم بأن العالم حادث ٌ ( أي مخلوق ).
<>
إذا قال لك شخص ٌ إنه يوجد داخل هذه الساعة فيل ٌ طوله 4 أمتار وعرضه 3 أمتار، هل تصدقه؟ هل تقول له دعني أفتح الساعة لأرى إن كان هناك فيل، كيف تعرف أن ذلك غير صحيح؟ عن طريق العقل.
والحكم العقلي ينقسم الى ثلاثة أقسام: وجوب واستحالة وجواز.
الواجب العقلي: ما لا يتصور في العقل عدمه وهو الله وصفاته.
المستحيل العقلي: ما لا يتصّور في العقل وجودُه كوجود ِ الشريك لله.
الجائز العقلي: ما يتصوّرُ في العقل وجوده تارة وعدمه تارة أخرى كالبشر.
ج- الخبر المتواتر :هو الخبر الذي نقله جمع كثير عن جمع كثير ٍ بحيث تُحيلُ العادة تواطؤَهم على الكذب، بل يتحتّم ُ موافقته للواقع، فإن ما كان بهذه الصفة في الطبقة الاولى والوسطى والاخيرة يوجب العلم اليقيني. وأما ما كان في الطبقة أقلّ من هذا القدر ثم حصلت تلك الكثرة فإنه ليس موجِبا للعلم ( أي العلم اليقيني ) كخبر النصارى بقتل عيسى عليه السلام وصلبه فإنّه لم يحصل تواترٌ بذلك في الطبقة الاولى ولا يُنظر الى كثرة الطبقة التي بعدها فلا يُسمى هذا الخبر متواترا مفيدا للعلم.
والخبر المتواتر موجب ٌ للعلم الضروري كالعلم بالملوك الخلية في الازمنة الماضية والبلدان النائية.إذا شخص أنكر الخبر المتواتر يكون وكانه يُنكر أن ّ أمه ولدته لأنه لم يشاهدها وهي تلده.
أما الاشاعة فهي تُنقلُ عن جمع ٍ عن جمع أقل ّ حتى نَصل الى إثنين أو ثلاثة من الكذّابين.
2- إثبات أن العالم مخلوق ٌأي له بداية:
عندما نقول عن شيء مخلوق معناه أنه وجد بعد أن لم يكن موجودا. والدليل العقلي على حدوث العالم هو:
إن العالم مؤلف من جواهر وأعراض. فالجوهر أي الجسم هو ما يقوم بنفسه كالجدار، والعرَضُ ما لا يقوم بنفسه بل يقوم بغيره كاللون والحركة والسكون.
إن الجسم لا يخلو من الحركة والسكون وهما حادثان لأنه بحدوث أحدهما ينعدم الاخر فما لا يخلو من الحادث حادث فالاجسام حادثة.
وفي هذا البرهان ثلاث قضايا:
الاولى : أن الاجسام لا تخلو من الحركة والسكون وهي ظاهرة مدْركة بالبديهية فلا تحتاج الى تأمل ٍ فإن من قال عن جسم انه لا ساكن ولا متحرك كان للواقع مكابرا.
<>(/1)
الثانية: قولنا إنهما حادثان يدل على ذلك تعاقبهما وذلك مشاهدٌ في جميع الاجسام فما من ساكن الا والعقل قاض بجواز حركته كالسماء، وما من متحرك الا والعقل قاض بجواز سكونه كالنجوم فالطارئ منهما حادث بطريانه والسابق حادث لعدمه لانه لوثبت قدمه لاستحال عدمه لان القول بذلك يؤدي الى التسلسل وهو محال.
الثالثة: قولنا ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لانه لو لم يكن كذلك لكان قبل كل حادث حوادث لا اول لها، ونقول في إبطال القول بحوادث لا أول لها ما كفى وشفى فنمثّل ذلك بملتزم قال: لا أعطي فلانا في اليوم الفلاني درهما حتى أعطيه درهما قبله ولا أعطيه درهما قبله حتى أعطيه درها قبله وهكذا لا الى أول فمن المعلوم ضرورة أنّ إعطاء الدرهم الموعود به في اليوم الفلاني محال لتوقفه على محال وهو فراغ ما لا نهاية له بالاعطاء شيئا بعد شيء، ولا ريب أن من ادّعى وجود حوادث لا أول لها مطابق لهذا المثال.
فملخص ذلك نقول بإثبات حدوث الحركة والسكون يثبت حدوث الاجسام لأن ما قام به الحادث فهو حادث فإذا العالم مؤلف من حوادث فهو حادث.
3- إثبات وجود الله عقلا :
إن ّ الذين ينفون وجود الله، ليبرروا اعتقادهم بعد أن أثبتنا لهم حدوث العالم على أقسام:
أ ) بعضهم يقول إنّ الطبيعة خلقت العالم
ب ) وبعضهم يقول إنّ العالم خلق نفسه
ج) وبعضهم يقول إنّ العالم وجد صدفة عن طريق big bang theory
اعلم رحمك بتوفيقه أنّ وجود العالم دليل على وجود الله لانه لا يصح في العقل وجود فعل ما بدون فاعل كما لايصح وجود ضرب بلا ضارب ووجود نسخ وكتابة من غير ناسخ وكاتب أو بناء بلا بان فمن الأولى أنّه لا يصح في العقل وجود هذا العالم بلا خالق، والعلم بذلك مركوز في فطرة طباع الصبيان، فإنك إذا لطمت وجه الصبي من حيث لا يراك وقلت إنه حصلت هذه اللطمة من غير فاعل البتة لا يصدقك، وهذا الامر- أي حدوث العالم- عليه كل الطوائف التي تنتحل الأديان ولم يخالف في ذلك الا الفلاسفة.
أ ) ولا يصح كون ذلك الفاعل طبيعة لان ّ الطبيعة لا إرادة لها فكيف تخلق؟ كيف تخصص المعدوم بالوجود بدل العدم ثم بحالة دون حالة؟
ومعلوم ٌ أن ّ الحوادث جائزة الوجود إذ يجوز عقلاً أن تستمر في العدم ولا توجد، فاذا اختصت بالوجود الممكن افتقرت الى مخصص ثم يستحيل أن يكون المخصص طبيعة لا اختيار لها ولا ارادة فلا يتأتى منها تخصيص الجائز بالوجود بدلَ العدم وبوقت دون وقت أوبصفة دون صفة كتخصيص الانسان بالمشي على رجليه بدل المشي على البطن كالحيّة.
فإن قال الملحدون كالشيوعيون إنها قديمة أزلية قلنا لا تصح الازلية إلا لموجود ذي حياة وعلم وإرادة وقدرة والطبيعة ليست كذلك.
وإن قالوا حادثة قلنا الحادث محتاج لمحدِث ٍ فهي تحتاج في وجودها لمحدث أزلي فاعل بالارادة والاختيار , والالزام احتياج ذلك المحدث الى محدث ومحدثه الى محدث الى غير نهاية وذلك قول ٌ بوجود حوادث لا أول لها وقد تبين بطلان ذلك بالدليل العقلي.
ثم ّ إنّ الطبيعة جزء من العالم، وسوف يظهر لنا بالدليل العقلي أن ّ العالم كله لم يخلق نفسه فإذا جزء العالم لا يمكن أن يكون قد خلقه.
ب ) وكذلك لا يصح في العقل أن يكون الشيء خالق نفسه لأن في ذلك جمعاً بين متناقضين: لأنك اذا قلت " خلق زيد نفسه " جعلت زيداً قبل نفسه باعتبار ومتأخراً عن نفسه باعتبار.
- فباعتبار خالقيته جعلته متقدما
- وباعتبار مخلوقيته جعلته متأخراوذلك محال عقلا.
وكذلك لا يصح في العقل أن يخلق الشيء مثله أي مشابهه لان أحد المِثلين ليس بأوْلى بأن يخلق مثله من الآخر فالأب والإبن لا يصح أن يخلق أحدهما الاخر لأن كلا منهما كان معدوماً ثم وجد.
فمن فكّر بعقله علم أن ّ هذا العالم كان بعد أن لم يكن وما كان بعد أن لم يكن فلا بد له من مكون أي محدث من العدم (الخالق) موصوف بالحياة والعلم والقدرة والارادة لأن ّ من لم يكن بهذه الصفات كان موصوفاً بأضدادها، وأضدادها نقائص و ءافات تمنع صحة الفعل.
ج) ولا يصح ّ أن يكون وجود العالم بالصدفة لأن العقل يحيل وجود شيء ما بدون فاعل لانّه يلزَم من ذلك محالٌ وهو ترجّح وجود الجائز على عدمه بدون مرجّح وذلك لأن وجود الممكن وعدمه متساويان عقلاً فلا يترجّح أحدهما على مقابله إلا بمرجح. كما أنّه تبين بما تقدّم استحالة استناد وجود الممكن العقلي إلى ممكن حادث قبله بالتسلسل إلى غير نهاية.
وإن ّ النظرية المسمّاة الانفجار الكبير ( Big Bang) نظريةٌ فاسدة تقول بأن ّ الكون كان عبارة عن مادة واحدة مضغوطة، انفجرت انفجاراً كبيراً وأخذت الجزيئات الأولى تتجّمع بشكل إلكترونات وبروتونات، ثمّ ظهر غاز الهيدروجين وغاز الهليوم، فكان الكون، كما يزعمون عبارة عن تجمعات من هذين الغازين، ثمّ أخذت هذه الغازات الساخنة تتجمع وتتكاثف بفعل الجاذبية مشكلة ً ما يشبه الدخان وظهر منها النجوم والكواكب والارض ونظامنا الشمسي الخ !!!(/2)
وهي مجرد نظرية لا يقبلها العقل السليم. الكيمائيون والفيزيائيون والبيولوجيون ونحوهم يُقسّمون العلم إلى حقائق علمية ٍ لا شك ّ فيها وإلى نظريات ٍ. وتعريف النظرية عندهم أنّها مجموعة قوانين والقانون هو مجموعة فرضيات، والفرضية هي شيء غير أكيد. فلنأخذ الكيمياء على سبيل المثال: L1+L2 = L3+ PP3
هذه حقيقة (fact ) يعني لو علمناها قبل 10 سنوات أو الأن أو بعد 10 سنوات نصل الى النتيجة ذاتها لانها حقيقة ٌ علمية ٌ.
ولكن في النظرية يعرضون رأيهم بما حصل داخل الانبوب الذي فيه التفاعل لتفسير ما حصل كأن يتكلّموا عن الالكترونات والبروتونات، ولكن لم يُشاهد أحد منهم إلكترونا، كل هذه ءاراء ونظريات أشخاص. يقول إميل جبر ضومط في كتابه مرشد المعلمين في أصول تدريس العلوم ( منشورات دائرة التربية في الجامعة الاميركية ) الجزء الاول ص 100: أما النظريات فهي افتراضات غير قابلة ٍللاثبات النهائي بالاختبار العملي كالافتراض عن منشأ الكون.
و نردّ على هذه النظرية بما يلي:
1- من أين أتت النجوم؟
2- من أين أتى الغبار؟
3- في الفيزياء يقولون إذا كان هناك جُسيْمان ِ (particules ) وصار هناك تنافر (repulsion) لا يقتربان من بعضهما أكثر من مسافة معينة، ولا يصير انفجار، فكيف سيقتربان أكثر من هذا حتى يصير انفجار ٌ من قوة التنافر.
4- لو جئنا ببالون مليء بالغاز وانفجر، ماذا يحصل للغاز، هل يتجمّع في مكان معيّن؟ لا بل ينتشر!!
5- من نَفْس ِ غيمة ِ الغبار والغاز ِ يخرج أشياء لها طبيعة ٌ متشابهة ٌ، ولكن ّ الأرض لا تشبه الكواكب !!
وهذه النظرية مخالفةٌ لقول الله تعالى: " قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين ".
ثم إنّ هذه النظرية يعتمد عليها كلّ النظريات الاخرى كنظرية النشوء والإرتقاء ونظرية اينشتاين وغيرها، فلمّا تبين فساد هذه النظرية ظهر لنا أنّ بقية النظريات المذكورة سابقا بُنيت على باطل وهي باطلة.
4- إثبات أن الله خالق العالم وأنه لا يشبه المخلوقات
واعلم أن الله واحد لا شريك له في الألوهية لأنه لو كان للعالم خالقان وجب أن يكون كل واحد منهما حيّا قادراً عالماً مريداً مختاراً، والمختاران يجوز اختلافهما في الاختيار لأنّ كل ّ واحد منهما غير مجبر على موافقة الاخر في اختياره. فلو أراد أحدهما خلاف مراد الآخر في شىء لم يَخلُ أن يتِم مراد أحدهما ولم يتم َ مراد الآخر فإنّ الذي لم يتم مراده عاجز ٌ ولا يكون ُ العاجزُ إلهاً ولا قديماً وهذه الدلالة معروفة عند الموحّدين تسمى بدلالة التمانع، وهو مأخوذ من الآية {لو كان فيهما آلهة ٌ الا الله لفسدتا} .
يجب لله القدم ُ بمعنى الازلية. أما برهان قدمه تعالى فهو لم يكن قديماً للزِم حدوثه فيفتقر ُإلى محدث فيلزَم الدور أو التسلسل وكلٌ منهما محال ٌ.
ولما ثبت َ وجوب ُ القدم لله عقلاً وجب له البقاء لأنه لو أمكن أن يلحقه العدم لانتفى عنه القدم.
ويجب لله المخالفة للحوادث لأن مماثلة شيء لاخر معناه كون الشيئين ِ بحيث يسدّ أحدهما مسدّ الاخر أي يصلح كل ٌ لما يصلح له الآخر فإن شيئاً من الموجودات لا يسد مسدّه في شيء من الأوصاف.
5- إثبات وجود سيدنا محمد:
وذلك عن طريق الخبر المتواتر الذي هو أحد سُبُل المعرفة للعبد.
6- إثبات أنّ محمداً هو نبي:
يّبعث الله الانبياء رحمة للعباد إذ ليس في العقل ما يُستغنى به عنهم لأن العقل لا يستقل بمعرفة الاشياء المنجية في الاخرة، ففي بعثة الأنبياء مصلحة ضرورية لحاجاتهم لذلك فالله متفضل بها على عباده. ثمّ السبيل الى معرفة النبي المعجزة، وهي أمر خارق للعادة موافق للدعوى سالم من المعارضة بالمثل يظهر على يد من ادعى النبوّة، فما ليس بخارقٍ للعادة بأن كان معتادا لا يسمى ّ معجزة.
أما أنه ادعى الرسالة فبالمشاهدة للمعاصر، ولغيره بالتواتر اللفظي والمعنوي ثم ّ إن ّ معجزاته قسمان:
أ ) باقية دائمةٌ يشاهدها من كان في عصره ومن سيكون ُ بعده وذلك هو القرءان العظيم:
من ءايات رسول الله سيدنا محمد التي تحدّى بها كافة العرب: القرءان، فإنّهم مع تميزهم بالفصاحة والبلاغة لم يقدِروا على معارضته بالمثل.
وعجزهم عن ذلك متواتر ٌ بإنصرافهم عن المعارضة الى المقارعة مع توفر مقتضيات ِ المعارضةِ منهم من حيث قوة الفصاحة.
مع ما فيه من أخبار الأولين مع كونه أميّا غير ممارس للكتب ِ والانباءِ عن الغَيْبِ في أمور كثيرة تحقق صدقه فيها في الاستقبال.
ب ) غير دائمة ٍ وهو ما صدر عنه من الخوارق الفعلية ِ
إبطال شبهة يوردها بعض الملحدين: قال بعض الملاحدة: وقوع الخارق على يد من ادّعى النبوة لا يكفي دليلا على صدقه لاننا نشاهد كثيرا من الخوارق يُتوصّل اليها بالسحر".
فالجواب: هذه الاشياء تُعارَض ُ بالمثل فيعارض ساحرٌ ساحراً بخلاف المعجزة. فهل استطاع أحدٌ من المكذّبين المعارضين للأنبياء في عصورهم وفيما بعد إلى يومنا هذا أن يأتي بمثل معجزةٍ للأنبياء؟(/3)
فإن قال الملحدُ إنّ هذه الحوادث َمن قبيل الخُرافات ِ التي تروى من غير أساس ٍ .
فالجواب أنّ هذا من الخبر المتواتر ِ الذي يفيد ُ علماً قطعياً ( وليس من الأخبار التي تحتمل ُ الصدق والكذبَ )( كأخبار البلاد والاماكن النائية والملوك الماضية التيِ
تناقلتها الكافةُ عن الكافةِ ) فكما أنّ هؤلاء الملحدين يقطعون بصحّة بعض أخبار أئمتهم كلِينين وماركس، وبعض حوادث من قبلهما كنابليون، ولم يَرَوْهم ولم يشهدوا تلك الحوادثَ، كذلك نقطعُ بصحّة حوادثِ الأنبياء التي تناقلتها الكافةُ عن الكافة.
7- ثبات أنّه صادقٌ في جميع ما أخبر به وبلّغه عن الله:
فإذا عُرِف معنى المعجزة كما شرحنا دلّ العقل ُ على أنّ الذي قام بدعوى النبوّة ِ
يتحتم تصديقه فيما دعا إليه من وجود صانع للعالم هو الله الذي تجب ُ عبادته وأنّ هذا النبيّ مُبلّغ ٌ عنه وكان ذلك في تقدير ِ منزلة ِ قول الله: " صدق عبدي في كلّ ما يُبلّغُ عنّي "، أي لو لا أنّه صادق ٌ في دعواه لما أظهر الله له هذه المعجزةَ َ.
8- القرءان الكريم :
إنه من المعلوم والثابت الذي يُذعن له كل منصف ويصدق به كلّ عاقل ٍ أنّ القرءان الكريم استمرت ومازالت رُغم توالي الحُقُب ِ ومرور ِ السنين بما فيه من الاعجاز العظيم على مختلف أغراضِ العلم , كيف لا وهو الكتابُ الذي يقول ُ الله فيه: " قل لئن اجتمعت الانس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ٍ ظهيراً ". الاسراء \88 .
وسنتكلم ان شاء الله عن ثلاثة وجوه ٍ من الاعجاز ِ في القرءان الكريم:
أ ) أحدها ما يتضمن الإخبار َ عن الغيب وذلك مما لا يقدِرُ عليه البشرُ، ولا سبيل لهم إليه.
من ذلك قوله تعالى: " غُلِبت الروم ُ * في أدنى الارضِ وهم من بعدغَلَبِهِم سَيَغْلِبون * في بضع ِ سنين ". ( الروم ) فظهرت الروم على فارسَ بعدما هُزموا قبل ذلك ببضع سنين. ( تسع سنين )
ب ) الوجه الثاني: الإعجاز اللغوي فهو في أعلى طبقات ِ البلاغةِ والفصاحة ِ التي لا يأتي بمثلها بشرٌ ولهذا كان فيه تحدٍ لكفّار قريش.
وإنّ من شواهد ِ ما نقول ُ ما ذكره الأصمعي أنه سمِع في البيداء فتاةً تُنشدُ الشعر فقال: يا جارية ما أبلغك ِ"، قالت: وَيْحَكَ وهل هذا بلاغة ٌ في جَنْبِ قولهِ عزّ وجلّ: " وأوحينا إلى أم ّ موسى أن أرضعيه فإذا خِفتِ فألقيه في اليم ّ ِ ولا تخافي ولا تحزني إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين ". ( القصص ) فقد جمع فيها بين أمرين : قوله أرضعيه وقوله فألقه في اليم، ونهيَيْنِ قوله ُ: " ولا تخافي ولا تحزني " وبشارتين قوله:" إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " في ءاية واحدة.
حتى أن بعض كفار قريش لما سمع القرءان مدحه وأثنى عليه منهم الوليد ُ بن ُ المغيرة لما سمع الاية: { إن الله يأمر ُ بالعدل ِ والاحسان ِ وإيتاءِ ذي القُربى وينهى عن الفحشاءِ والمنكر ِ والبغي يَعِظُكُم لعلكم تذكرون}، فقال : إن به لحلاوة ً وإن عليه لطلاوة ً، وإن أوله لمثمر ٌ وإن آخرَه لمُغدِقٌ وما هذا بقول بشر ٍ.
ج) الوجه الثالث : هو الإعجاز العلمي ُ، فقد جاءت أبحاث ٌ وتجارب ُ عديدة ٌ موافقةٌ لما نصّ عليه القرءان ومن ذلك:
1- أثبت أهل الطِبِ أن الإحساس بألم ِ الحريق محصور ٌ بالجلد لأن نهايات الاعصاب ِ المتخصصةِ بالاحساس بالحرارة ِ والبرودةِ محصورة بالجلد ولو ذاب الجلد ُ فلن يشعر َالانسان ُ في الدنيا بألم ِ الحريق ِ والله تعالى يقول ُ في القرءان: " كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب". ( سورة النساء).
2- أثبت الطِبُ الجَنينيُ أن الجنين َ يُحفظ ُ في بطن أمه من وصول النور إليه بواسطة أغشية ٍ ثلاثةٍ وتُشكِل ُ هذه الأغشية ُ الثلاثة ُ .. ثلاث طبقاتٍ مظلمة ٍ تمنع ُ وصول النور الى الجنين. هذه الأغشية عُرفت بواسطة أجهزة مِخبريةٍ متطورة ٍ وهذه الأجهزة لم تكن في زمن ِ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا حتى قبل سبعين َ عاما ً لم تكن هذه الاشياء ُ معروفة ً وقد قال الله تعالى في القرءان: " يَخلُقُكم في بطون ِ أمهاتكم خلقاً من بعد خلق ٍ في ظلمات ٍ ثلاث ".( سورة الزمر).(/4)
الرد على مرجئة السلفية
أدعياء السلفية
بقلم؛ إبراهيم بن عبد العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم
شيخنا الفاضل ظهرت في الآونة الأخيرة في مجتمعنا (فلسطين) فرقة تطلق على نفسها (السلفية) تعتبر الحكام الحاليين أولي أمر تجب مبايعتهم، ويحرم الخروج عليهم تحت أي ظرف، إلا إن استحلوا ترك الحكم بما أنزل الله استحلالاً قلبياً، وينسبون هذا القول إلى أهل السنة والجماعة، وإن كل من يخالف هذا القول يعتبر خارجياً تكفيرياً تجب معاداته والتحذير منه،فما صحة ما يدعون إليه مع بيان حكم التعامل معهم أو تكثير سوادهم؟حفظك الله تعالى، ونفع بعلمك آمين.
* * *
الحمد لله رب العالمين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا،من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذه جماعة بدأت بالانتشار فعلاً في مجتمعنا، وقد سمعنا عنها العجب العجاب،وقد نقل لنا كثير من طلاب العلم بعض ما يدعون إليه أبرزه ما تضمنه في سؤالك حفظك الله تعالى.
وكنت أود الرد على بعض شبهاتهم التي يلبسون بها على العامة بشكل مفصل، ولكن سؤالك دفعني للرد على هذه المسألة بشكل خاص وهأنذا أرد على سؤالك رداً موجزاً ألقي الضوء على أهم ما قعّدوا عليه قولهم مستعيناً بالله سبحانه راجياً الأجر والمثوبة منه.
أولاً:
هذا القول بناء على مذهبهم الفاسد الذي يقضي بإخراج العمل من الإيمان، وجعل الإيمان يقوم على تصديق القلب، وإقرار اللسان، وأما العمل عندهم فهو شرط كمال وهو مذهب المرجئة الضالين المخالفين لأهل السنة والجماعة، إذ الإيمان عند أهل السنة هو قول وعمل يزيد وينقص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في العقيدة الواسطية: (ومن أصول أهل السنة والجماعة : أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية).
فانظر يرحمك الله تعالى كيف جعل ابن تيمية رحمه الله هذا التعريف من أصول أهل السنة والجماعة، أي من القواعد التي يقوم عليها دينهم، وكما هو معروف في الأصول أن الشيء يعرف بما يبينه ويحده، وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن حقيقة الإيمان عند أهل السنة تقوم على ثلاثة أركان وهي عمل القلب، عمل اللسان، عمل الجوارح، فعمل الجوارح من أركان الإيمان، والركن كما هو معلوم، الجانب الأقوى الذي إذا ترك عدم الأصل وإن أتي بسائر الأركان، مثال ذلك الصلاة، فلو صلى رجل من غير ركوع مع إتيانه بسائر أركان الصلاة، لا يعتبر قد صلى لمَ؟ لأنه ترك ركناً من أركان الصلاة، وهكذا من لم يأت بعمل الجوارح لا يعتبر مؤمناً وإن أقر بلسانه، وصدق بقلبه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول، ويعلم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله من تمام الإيمان، وأنه لم يكن يجعل كل من أذنب ذنباً كافراً، ويعلم أنه لو قدر أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك ونقر بألسنتنا بالشهادتين، إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه فلا نصلي ولا نصوم ولا نحج ولا نصدق الحديث ولا نؤدي الأمانة ولا نفي بالعهد ولا نصل الرحم ولا نفعل شيئاً من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك ونأخذ أموالهم، بل نقتلك أيضاً ونقاتلك مع أعدائك، هل كان يتوهم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم؛ أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم أهل شفاعتي يوم القيامة ويرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار، بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك) أهـ
والمتأمل في قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يجده يرد على طائفتين من الناس، الأولى الخوارج الذين يكفرون الناس بالكبائر، الثانية المرجئة الذين يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، بل ويجعل ضلال هؤلاء معلوماً من الدين بالضرورة، أي لا يخفى على عوام أهل السنة ناهيك عن أن يخفى على خواصهم، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين قال: هل كان يتوهم عاقل؟! أي لا يخفى هذا الأمر إلا على من سلب الله منه العقل نعوذ بالله سبحانه من الضلال بعد الهدى.(/1)
وما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، هو عين مذهب أهل السنة والجماعة، بل كل من يخالف ذلك يعتبر خارجاً عن مذهب أهل السنة بقدر مخالفته لهم، خاصة إن كان خلافه لهم يتعلق بأصل من أصولهم،كالمسألة التي نحن بصددها.ومن الأدلة الشرعية على دخول الأعمال في مسمى الإيمان قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
وإنما أداة حصر تدل على القصر، أي يبين الله سبحانه أن الإيمان مشتمل على عمل الباطن وعمل الظاهر، فقوله: {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} عمل الباطن وهو القلب، وقوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} عمل الجوارح، ثم قال سبحانه: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً}. فالمؤمنون الحق، أي الذين تحققوا على حقيقة الإيمان، أي هم الذين يجمعون بين عمل الباطن وعمل الظاهر، وقال سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}، ففي هذه الآية الكريمة يقسم الله سبحانه وتعالى بنفسه لرسوله صلى الله عليه وسلم نافياً الإيمان عن الزاعمين له حتى ينقادوا ظاهراً وباطناً إلى حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقوله سبحانه: {حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}. دليل على انقياد الظاهر. وقوله سبحانه: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ}. دليل على انقياد الباطن. والفرق بين الآيتين، أن الآية الأولى دلت على إثبات الإيمان لمن جمع بين عمل الظاهر وعمل الباطن، والآية الثانية،دلت على نفي الإيمان عن الذين لا ينقادون إلى حكم الله ظاهراً وباطناً.
ولكن قد يقول البعض: إن نفي الإيمان هنا يدل على نفي الكمال وليس الحقيقة.
أقول: هذا أيضاً بناء على أصل مذهبهم القائم على إخراج العمل عن مسمى الإيمان،وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة ولنأخذ على سبيل المثال هاتين الآيتين: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً * وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}.
جاء في سبب نزول هاتين الآيتين في تفسير "الدر المنثور في التفسير بالمأثور"؛ أخرج الطيالسي وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الدلائل عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين : فرقة تقول : نقتلهم . وفرقة تقول : لا . فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ..} الآية كلها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنها طيبة، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة) .
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن سعد بن معاذ الأنصاري أن هذه الآية أنزلت فينا {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}؛ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال : (من لي بمن يؤذيني ويجمع لي في بيته من يؤذيني ؟ فقام سعد بن معاذ فقال : إن كان منا يا رسول الله قتلناه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا فأطعناك . فقام سعد بن عبادة فقال : ما بك يا ابن معاذ طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن عرفت ما هو منك . فقام أسيد بن حضير فقال : إنك يا ابن عبادة منافق تحب المنافقين . فقام محمد بن مسلمة فقال : اسكتوا أيها الناس، فإن فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأمرنا فننفذ لأمره . فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} الآية) .(/2)
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال : ( إن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا فيهم بأس، وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله . . . ! تقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم، فكانوا كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهى واحداً من الفريقين عن شيء . فنزلت {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} إلى قوله { حتى يهاجروا في سبيل الله } يقول : حتى يصنعوا كما صنعتم، {فإن تولوا } قال : عن الهجرة " ).
وأخرج أحمد بسند فيه انقطاع عن عبد الرحمن بن عوف " أن قوما من العرب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فأسلموا وأصابهم وباء المدينة حماها فأركسوا، خرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر من الصحابة فقالوا لهم : ما لكم رجعتم ؟ قالوا : أصابنا وباء المدينة فقالوا : ما لكم في رسول الله أسوة حسنة . فقال بعضهم : نافقوا . وقال بعضهم : لم ينافقوا، إنهم مسلمون . فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي سلمة عن عبد الرحمن: أن نفرا من طوائف العرب هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمكثوا معه ما شاء الله أن يمكثوا، ثم ارتكسوا فرجعوا إلى قومهم، فلقوا سرية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفوهم فسألوهم : ما ردكم ؟ فاعتلوا لهم فقال بعض القوم لهم : نافقتم، فلم يزل بعض ذلك حتى فشا فيهم القول، فنزلت هذه الآية {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}، قال : قوم خرجوا من مكة حتى جاؤوا المدينة، يزعمون أنهم مهاجرون ثم ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فاختلف فيهم المؤمنون فقائل يقول : هم منافقون . وقائل يقول : هم مؤمنون، فبين الله نفاقهم، فأمر بقتلهم، فجاءوا ببضائعهم يريدون هلال بن عويمر الأسلمي وبينه وبين محمد عليه السلام حلف، وهو الذي حصر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه، فدفع عنهم بأنهم يؤمون هلالا وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}، قال : ذكر لنا أنهما كانا رجلين من قريش، كانا مع المشركين بمكة، وكانا قد تكلما بالإسلام ولم يهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيهما ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما مقبلان إلى مكة، فقال بعضهم : إن دماءهما وأموالهما حلال . وقال بعضهم : لا يحل ذلك لكم . فتشاجروا فيهما، فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِؤ حتى بلغ { ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم}.
وأخرج ابن جرير عن معمر بن راشد قال : بلغني أن ناسا من أهل مكة كتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد أسلموا، أو كان ذلك منهم كذبا، فلقوهم فاختلف فيهم المسلمون فقالت طائفة : دماؤهم حلال . وطائفة قالت : دماؤهم حرام . فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك في الآية قال : هم ناس تخلفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا، فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ من ولايتهم آخرون، وقالوا : تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا فسماهم الله منافقين، وبرأ المؤمنين من ولايتهم، وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا .
وأخرج ابن جرير عن السدي قال : كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة، فقالوا للمؤمنين : إنا قد أصابنا أوجاع في المدينة واتخمناها، فلعلنا أن نخرج إلى الظهر حتى نتماثل ثم نرجع، فإنا كنا أصحاب برية . فانطلقوا واختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت طائفة : أعداء الله منافقون، وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم . وقالت طائفة : لا، بل إخواننا تخمتهم المدينة فاتخموها، فخرجوا إلى الظهر يتنزهون فإذا برئوا رجعوا . فأنزل الله في ذلك {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.(/3)
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال : أخذ ناس من المسلمين أموالا من المشركين فانطلقوا بها تجارا إلى اليمامة، فاختلف المسلمون فيهم، فقالت طائفة : لو لقيناهم قتلناهم وأخذنا ما في أيديهم . وقال بعضهم : لا يصلح لكم ذلك، إخوانكم انطلقوا تجارا . فنزلت هذه الآية {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
وما نستفيده من هاتين الآيتين، أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في الحكم على طائفة تخلفت عن نصر المؤمنين مع إظهارها للإسلام، فقالت طائفة من المسلمين: هم مسلمون لأنهم يشهدون شهادة الحق، وقالت الطائفة الأخرى:هم منافقون خارجون عن الإسلام بسبب تخاذلهم وعدم نصرهم للمؤمنين وتوليهم للكافرين، فأنكر الله سبحانه على المؤمنين هذا الخلاف الذي الأصل فيه أن لا يكون، ثم بين حكمه في هؤلاء المتخلفين بأنهم منافقون ظاهرو النفاق.
ودليل أن هؤلاء مظهرون للإسلام وقوع الخلاف في الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فلو أنهم كفروا كفراً صريحاً بأن أعلنوا الردة لما وقع الخلاف بين الصحابة، ولكنهم لما أظهروا الإسلام، وجاءوا بما يناقضه اختلف الصحابة فيهم على قولين، فمنهم من اعتبرهم لم يخرجوا عن الإسلام بسبب إتيانهم بالشهادتين، ومنهم من حكم عليهم بالكفر وهم الذين أيدهم الله بقوله، وهذا التأييد من الله تضمن معنى الإنكار إذ جاء بصيغة الاستفهام الإنكاري وهو قوله سبحانه: {فما لكم}، وهذا القول هو أن العمل من الإيمان وأنه من أتى بما يناقضه يحكم عليه بالكفر، إلا أن يكون معذوراً شرعاً، كأن يكون جاهلاً أو متأولاً أو مكرهاً،أو مخطأً، وهذا ما قرره علماء أهل السنة والجماعة خلافاً للمرجئة الذين لا يكفرون إلا بالاعتقاد والاستحلال القلبي.
ولكن قد يستدرك علينا بقولهم: إننا نقول؛ الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.
فأقول: هذا القول صحيح وأنتم تقولونه، ولكن ما يهمنا هو، هل تقولون كما يقول أهل السنة والجماعة: إن العمل شرط صحة في الإيمان، أم هو شرط كمال، فإن قالوا: هو شرط كمال، وهذا هو قولهم. قلنا هذا هو معتقد المرجئة،لأن ما كان شرط كمال لا يكون جزء الشيء، بل هو مكمل له، وعليه فلا يزول الشيء بزوال كماله، بل يزول بزوال موجبه، وعليه يكون قولهم مجرد لفظ يلبسون به على العامة، وهو غير مراد في مسألة التحقيق فافهم ذلك وكن منه على ثبت، والله يتولاك برعايته.
ثانياً:
لقد وصف الله سبحانه المتحاكمين إلى غير شرعه بصفات عديدة كلها تدل على الكفر والزندقة والردة والعياذ بالله، منها:
1) الكفر: قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
2) الظلم: قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
3) الفسق: قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
هذه كلها ألفاظ تدل على الكفر الأكبر، إذ الخطاب بها موجه إلى اليهود والنصارى وسيأتي تفصيل لذلك إن شاء الله تعالى.
4) النفاق: قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً}.
5) عدم الإيمان: قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}.
6) الجاهلية: قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُون}.
7) الطاغوت: قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}.
فهذه ألفاظ تدل كلها على الكفر الصراح.
ولكن قد يستدرك علينا بقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (كفر دون كفر).
أقول: هذا الأثر إما أن يراد به الحكم، وإما أن يراد به الحاكم فأما الحكم فغير مراد قطعاً إذ وصفه الله سبحانه بالطاغوت والجاهلية ولا يقال طاغوت أصغر وطاغوت أكبر، أو جاهلية صغرى وجاهلية كبرى، فالطاغوت هو شرك محض، إذن فلا يبقى إلا الحكم على الحاكم ، والقول بإطلاق عدم كفر الحاكم غير مراد،إذ ليس كل حاكم كفره أصغر إذ هنالك تفصيل، ولا يحصر الكفر بالاستحلال،وهذا القول كما سبق من معتقد المرجئة وليس من معتقد أهل السنة والجماعة.(/4)
بل القول بأن الحاكم لا يكفر إلا إذا أعتقد بقلبه صحة الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه، يخرج من هذه القاعدة اليهود الذين نزلت الآيات بحقهم لأنهم لا يعتقدون في قلوبهم صحة ما يحكمون به بل يعتقدون الحق وذلك من عموم الأدلة الدالة على معرفتهم التامة بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وأن ما جاء به هو من عند الله تعالى قال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، فاليهود لم يعتقدوا صحة دينهم وما يتحاكمون إليه، بل اعتقدوا الحق ومع ذلك فهم كافرون الكفر الأكبر ولا يخالف مسلم ذلك.
وعليه: فلا يشترط في تكفير الحاكم الذي لا يحكم بالإسلام أن يكون معتقداً ذلك بقلبه، بل نحكم بكفره لمجرد تركه لحكم الله سبحانه إلا أن يكون معذوراً كأن يكون جاهلاً، أو مكرهاً، أو مخطأ، أو متأولاً، وأما من حكم بغير شرع الله عالماً بذلك مصراً عليه مظهراً العداوة للمؤمنين، والموالاة للكافرين، وأرغم الناس على ذلك طواعية غير مكره فما يمنعنا من تكفيره؟ إلا أن نكون معتقدين معتقد المرجئة الذين لا يكفرون بالنواقض حتى يعتقد الإنسان ذلك بقلبه، عصمنا الله سبحانه من الفتن ما ظهر منها وما بطن. وأما الأثر الوارد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فلا يؤخذ على عمومه، إنما هو خاص بحكام معينين حملهم على ذلك ما استثنى من الأعذار.
وما يؤكد أن مظهر الكفر كافر إلا أن يكون مكرهاً قوله تعالى: { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، فهذه الآية صريحة الدلالة بأن الذين يظهرون الكفر يكفرون إلا أن يكونوا مكرهين على الكفر وقلوبهم مطمئنة بالإيمان ، وهذا بلا شك ينص على الكفر الظاهر دون الباطن، أي من أظهر الكفر ويكون حال إظهاره للكفر مكرهاً عليه مبغضاَ في الباطن له فهذا ليس بكافر.
وأما من أظهر الكفر غير مكره فهذا من شرح بالكفر صدراً فيحكم بكفره، وإظهار الكفر لا يكون باللسان فحسب بل يكون بالعمل كذلك، ودليل على أن المقصود بالكفر كفر الظاهر أن الآية نزلت كما نقل أهل التفسير بحق عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه، إذ أظهر الكفر لقومه بسبب ما لقي من الأذى وكان قلبه مطمئناً بالإيمان .
ثالثاً:
قد سبق القول بأن الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه كفر، وثمة قضية ثانية، وهي التفريق بين ترك الحكم واستبداله، فإنه من استبدل الحكم بما أنزل الله سبحانه بقوانين وضعية يكون قد نصب نفسه شريكاً لله سبحانه إذ التشريع يختص الله به قال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، فليس الحكم إلا لله وقد قرن الله سبحانه بين الحكم والعبادة، أي من يتحاكم إلى غير شرع الله سبحانه يكون عابداً لما يتحاكم إليه، إذ العبادة هي التذلل والخضوع، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه، لذا جعل الله سبحانه الحكم بغير ما شرع طاغوتاً إذ قال سبحانه: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}، والواجب على أهل الإيمان هو الكفر بالطاغوت قال تعالى: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، وفي الآية التي قبلها قال سبحانه: {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ}.
ومع هذه الآيات لنا وقفات:
1) أن الكفر بالطاغوت من شرط الإيمان، ويوضح ذلك تقديم الله سبحانه للكفر بالطاغوت على الإيمان به إذ قال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ}. فالكفر بالطاغوت نتيجة الإيمان بالله سبحانه، إذ لا يكون الكفر بالطاغوت، إلا من خلال الإيمان بالله.(/5)
2) أن مما أوجبه الله سبحانه علينا الكفر بالطاغوت قال سبحانه: {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ}، أي أمروا أن يكفروا به، ولازم الكفر بالطاغوت بغضه وإظهار المعاداة لأهله كما قال سبحانه حاكياً عن إبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.
وعليه فالواجب على المسلم الكفر بالطاغوت لا موالاته والمنافحة عنه وإظهار العداوة لأعدائه كما يفعل أولئك المجرمون الذين يقيمون الولاء والبراء في الطواغيت .
3) أن الله سبحانه جعل الناس قسمين، إما متحاكمين لشرعه وهم عباده وأولياؤه، وإما متحاكمين للطاغوت وهم عباد الشيطان والعياذ بالله قال تعالى: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً). أي يضلهم بسبب بعدهم عن التحاكم إلى شرع الله، إذن فالتحاكم إلى الطاغوت إرادة الشيطان المخالفة لإرادة الرحمن ولا عجب في ذلك فالله سبحانه يقول: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}، وقال سبحانه حاكياً عن إبراهيم: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً}.
وعليه فالإنسان إن كان معرضاَ عن عبادة الله سبحانه، فهو خاضع لعبادة الشيطان، فإن كل من خرج عن طاعة الله فهو داخل في طاعة الشيطان وذلك لأن الشيطان يأمر بمعصية الله ولا شك بأن الخروج عن حكم الله هو دخول في حكم غيره وهذا هو ما قصدت، وهو أن المتحاكم إلى غير شرع الله معرض عن عبادته سبحانه، ومن هذه حاله فهو عدو لله و لرسوله وللمؤمنين، وهذا من تجب معاداته حتى يؤمن بالله وحده.
4) أن التشريع شرك لأنه مما أختص به الله سبحانه نفسه إذ قال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، وقال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
والحكام المتحاكمين إلى غير شرع الله قد شرعوا لنا من الدين ما لم يأذن به الله سبحانه، فهم مشرعون تشريعات مناهضة لتشريع الله سبحانه، ومن أصول أهل السنة والجماعة نبذ الشرك والتبرؤ منه وتحذير الناس من خطورته وما يترتب عليه من مصائب جمة، وهذه قضية تساهل فيها كثير من أهل العلم، إذ نرى كثيراً منهم يركز على شرك القبور والمقامات وقد يكون في كثير من أحواله غير موجود، في الوقت الذي يقللون فيه من شرك الحاكمية.
بل من المفجع أن بعضهم ذهب إلى أن القول بتوحيد الحاكمية بدعة ضلالة، ولا أدري ماذا يريدون بذلك، هل يريدون أن الله قد يشاركه في الحكم غيره، أم أن هذا التقسيم مخالف لأصول أهل السنة والجماعة.
فإن كان الأول فهذا الكفر بالله الصراح .
وإن كان الثاني، فنقول: ما هو الدليل على تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات،؟ بل أين الدليل على القول بتوحيد الأسماء والصفات؟
فإن قالوا: النصوص تدل على ذلك.
قلت: كذلك النصوص تدل على توحيد الحاكمية.
فإن قالوا: لم يثبت عن العلماء أنهم قالوا بتوحيد الحاكمية.
قلت: فالقول بتوحيد الحاكمية كالقول في توحيد الأسماء والصفات، فإن التوحيد إما أن يكون متعلقاً بالله سبحانه وأسمائه وصفاته، وهذا توحيد الربوبية، وإما أن يكون متعلقاً بتوحيد العبادة، وهذا ما يسمى بتوحيد الألوهية، ولا قسم ثالث، فالأسماء والصفات أما أن تندرج تحت توحيد الربوبية، وإما أن تندرج تحت توحيد الألوهية وليست قسماً ثالثاً، وأما إفراد العلماء لها قسماً مستقلاً فبسبب وقوع الخلاف فيها، فأراد العلماء أن يبينوا أن القول في الأسماء والصفات كالقول في الذات، وأن هذا من الإيمان بالله سبحانه، وهكذا اليوم غاب عن كثير من الناس أن الحكم لا يكون إلا لله وأن الانقياد إلى غير حكم الله سبحانه شرك، وعليه، فلا يكون الحكم إلا لله الذي هو الحق والعدل البعيد عن الجاهلية والكفر والظلم والفسق .
رابعاً:
الأصل في تنصيب الإمام، إقامة الدين، والذود عن الإسلام وأهله.(/6)
فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا، وإن قال بغيره فإن عليه منه). رواه مسلم وأبو داود وغيرهما.
فالإمام جنة يتقى به ويقاتل من ورائه، فهو يعمل على إعلاء كلمة التوحيد ونشرها في الأمم، ويقاتل الناس عليها، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله).
فالإمام مسؤول عن تبليغ الدين ونشره والذود عنه، والمسلمون على ذلك بايعوه، ومن مستلزمات البيعة الحفاظ على معتقد المسلمين ودمائهم وأموالهم وأعراضهم ، وهذه كلها تدخل ضمن مسؤولية الإمام، بل إن من أعظم ما أنيط بالحاكم من أعمال الحفاظ على وحدة المسلمين كما في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا بويع للخليفتين فاقتلوا الآخر منهما). رواه مسلم.
وهذا من باب الحفاظ على وحدة المسلمين، وما نستفيده من الحديث من الناحية المسلكية ما يلي:
1) أنه لا يجوز أن يكون للمسلمين إمامان، وذلك حفاظاً على وحدتهم التي فيها قوتهم، فإن تعدد الأئمة في الأمة الواحدة يوجب خلافها المؤدي إلى هلاكها قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، وهذا واضح لا يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته، فإذا كان وجود إمامين في الأمة يؤدي إلى هلاكها بسبب عوامل اختلافها.
فكيف بحال الأمة اليوم؟ نسأل الله سبحانه العافية، فقد أصبحت الأمة تعيش في دويلات متفرقة تفتقر إلى أبسط شؤون الحياة، والظاهر فيها السلطنة وخروج بعضها على بعض، فهي تجتمع على موالاة الكافرين والعمل على تمرير مخططاتهم في الوقت الذي يعادي فيه بعضها بعضاً عصبية ابتغاء نيل متاع الحياة الدنيا وزينتها، بل أصبح الولاء والبراء قائماً في هذه الدول التي لا صلة لها بالدين اللهم إلا بالتسمية، وغالب أهلها يقومون على أساس التقوقع في هذه الدول دون الرابط الشرعي، فهذا فلسطيني وذاك أردني، وهذا، وهذا، وهذا، فلا يحق للفلسطيني العيش في غير الأرض التي يولد فيها إلا بإذن الدولة التي يقيم فيها مع مراعاة عدم التمتع بحقوق المواطنة، والحق للدولة بإخراجه في أي وقت، وهذا عام في عامة المسلمين.
فأي فرقة أعظم من هذه الفرقة؟ وأي اختلاف أعظم من هذا الاختلاف؟ وأي جاهلية أعظم من هذه الجاهلية؟ ألم يقل صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح (إذا رأيتم الرجل يتعزى بعزاء الجاهلية، فأعضوه بهن أبيه و لا تكنوا) صححه الألباني في الصحيح الجامع.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قتل تحت راية عمية، يدعو عصبية، أو ينصر عصبية، فقتلة جاهلية) رواه مسلم .
فأين المسلمون المتعصبون لقومياتهم من هذه الأحاديث؟ هل رضي أولئك أن يموتوا ميتة جاهلية؟ هل رضوا بأن يكونوا من الجاهلين؟ فإن كل من اتصف بهذه الصفات ففيه جاهلية أجل فيه صفات من الجاهلية الأولى ويخشى على دينه، ثم ماذا نقول بمن تزّيا بزي أهل العلم،وادعى ظلماً بأنه على نهج السلف،وقد أخذ يزين للظالمين ظلمهم ويبارك لهم طغيانهم ويتفنن بإصدار الفتاوى الهالكة ضد من أنكر أعمالهم، ولو كان ذلك بالكلمة العابرة، فهم عنده أولو الأمر والنهي الذين لا أمر فوق أمرهم، ولا نهي مع نهيهم وبعد ذلك كله يقول متنطعاً هذه ليست فرقة ولا اختلاف، بل هذا عين الحق. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
2) جواز قتل المسلم المبايع من قبل المسلمين إذا بويع وكان للمسلمين إمام غيره، وهذا واضح من قوله صلى الله عليه وسلم: (فاقتلوا الآخر منهما).
ومن المعلوم أن الآخر حصلت له الخلافة بمبايعة بعض الناس له وهذا مفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم (بويع) وهذا لا يتم إلا من خلال فعل المبايعة وهي لا تكون إلا من خلال أناس يبايعونه على الخلافة.
إذن فالإسلام يجيز قتل الخليفة الثاني ومن بايعه وذلك حماية لوحدة الأمة، ومن تبدر هذا الأمر علم يقيناً بأن المسألة عظيمة للغاية وذلك،أن الله سبحانه عظم قتل المسلم بغير الحق وتوعد كل من فعل ذلك بجهنم وبالغضب واللعنة والعذاب الأليم قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}، وقد دلت الأحاديث على تعظيم قتل المؤمن بغير حق، وما يتعلق بالقاتل من أحكام في الدنيا والآخرة.(/7)
من ذلك ما رواه ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله للدينا وما فيها أهون على الله من قتل مسلم بغير حق). رواه النسائي والترمذي وغيرهما وصححه الألباني .
وفي حديث آخر عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قلت: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه). رواه البخاري.
وفي هذا الحديث يأمر صلى الله عليه والسلم المسلمين بأن يقتل بعضهم بعضاً، وهو واضح من قوله: (فاقتلوا الآخر منهما) وهذا يعني قتل الآخر ومن معه من المسلمين، ولولا أن وحدة المسلمين أعظم من أن يقتل بعضهم بعضاً لما أمر صلى الله عليه وسلم بقتل الخليفة الآخر.
وقد جاء في الحديث الصحيح عن عرفجة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهى جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان). رواه مسلم.
وبهذا يعلم خطورة الأمر وحرمة تعدد الخلفاء في الأمة الواحدة.
3) لا يشترط من القول بوجوب الخروج على الخليفة الثاني أن يكون كافراً، فقوله صلى الله عليه وسلم: (فاقتلوا الآخر منهما). لا يدل على كفره، و إنما القتل بسبب إتيانه بفعل يستحق عليه القتل وذلك من خلال قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة). رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
فبين صلى الله عليه وسلم أن التارك لدينه المفارق للجماعة مهدور الدم وإن كان من المسلمين، وهذا رد على من يشترط بالخروج على الحاكم تحقق خروجه من الملة وسيأتي زيادة تفصيل لذلك في النقطة التالية إن شاء الله تعالى.
4) إن الخليفة الثاني لا تنعقد له البيعة وإن بويع له من قبل بعض المسلمين ، فلا تجب طاعته، بل تجب منابذته والخروج عليه، ولا يصح السكوت عليه إلا لعذر شرعي،أو مصلحة شرعية راجحة، وأما القول بأن تعدد الخلفاء جائز وطاعتهم واجبة ما استلموا زمام الحكم وإن أتوا بكل ناقض من نواقض الإيمان، وتركوا شروطه حتى يستحلوا ذلك بقلوبهم، فهذا قول فاسد يؤدي إلى هدم الدين وطمس معالمه، ونشر الفساد والانحلال في الأمة التي جعلها الله سبحانه خير أمة أخرجت للناس،،بل يهدم أبسط قواعد الدين وهو القيام بالعدل ونشره في الناس كآفة، ولكن من يضلل الله فما له من هاد، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
والشاهد في هذه القضية أن الحاكم يبايع من قبل الأمة لإقامة دين الله سبحانه، والذود عنه، والدفاع عن المسلمين وأعراضهم وأموالهم، فإن تخلف الحاكم عن ذلك فلا عبرة من وجوده، ولا يخالف الأمراء في دول الكفر بل الأمراء في دول الكفر خير منه، فهم يخلصون لبلدانهم، ويعملون على حماية شعوبهم. بل يجعلون ولاءهم وبراءهم في مصلحة شعوبهم، وأما هؤلاء الحكام فهم يعملون على قطع كل صلة تربطهم بشعوبهم إلا ما كان يصب في مصالحهم الشخصية ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
خامساً:
طاعة الحكام منوطة بطاعتهم لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك التزامهم بأحكام الله سبحانه وهذا واضح من قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، وفي الحديث الصحيح : (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) صححه الألباني في الصحيح الجامع .
فطاعة الحكام منوطة بطاعتهم لله ورسوله، فإن خرجوا عن طاعة الله ورسوله فلا طاعة لهم، ويؤكد ذلك ما رواه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فقلت: يا رسول الله إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: تسألني يا ابن أم عبد ماذا تفعل؟! لا طاعة لمن عصى الله). رواه أحمد، وابن ماجه، وغيرهما، وصححه الألباني.
وهذا الحديث يدلنا على أمور عدة وهي:
1) أنهم لا يلتزمون السنة، بل يبتدعون البدع في الدين، والبدعة هي التقرب إلى الله سبحانه بعبادة لا دليل عليها لا من الكتاب ولا من السنة، إذن فهم عابدون لله ولكن على غير ما شرع .
2) أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها، أي أنهم يصلون ، ولكن يتساهلون في أدائها.
3) أن من فعل ذلك فلا طاعة له، ولفظ طاعة، هنا يقع اسماً للا النافية للجنس ، فدل ذلك على العموم،أي لا طاعة في كبير ولا صغير، فقد نفى صلى الله عليه وسلم عنهم جنس الطاعة ولا استثناء في ذلك هنا.(/8)
4) إذا كان لا طاعة لمن خالف السنة وأظهر البدعة، وأخر الصلاة عن وقتها، فكيف بمن بدل دين الله سبحانه، أحل ما حرم الله، وحرم ما أحل الله، ووالى الكافرين، وعادى المؤمنين، وأشاع الفساد في الأرض؟!
وبذلك يتبين دجل الذين يقولون بوجوب طاعة أولي الأمر مطلقاً وإن أتوا بكل ما يناقض الإسلام،ما لم يعتقدوا صحة ذلك بقلوبهم.
سادساً:
دلت الأحاديث الصحيحة على وجوب الخروج على الحاكم إن أظهر الكفر البواح من ذلك ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وقال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان). رواه مسلم .
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (سيكون عليكم أمراء تعرفون وتنكرون، فمن نابذهم نجا، ومن اعتزلهم سلم، ومن خالطهم هلك).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. قيل : يا رسول الله ألا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان).
فبين الرسول صلى الله عليه وسلم وجوب طاعة الحكام إلا أن يظهروا الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، ومن الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، استبدال شرع الله سبحانه،وقد سبق ذكر المسألة مع ذكر الأدلة عليها ولا يشترط في إظهار الحاكم للكفر البواح أن يكون كافراً في الباطن، بل قد يكون مسلماً ومع ذلك يكون مظهراً للكفر البواح، فقد ينتفي عنه الكفر لوجود معارض كالجهل، أو التأويل وما إلى ذلك ولكن لا نستطيع أن ننفي عنه الكفر ظاهراً، فكل من أتى كفراً يعتبر مظهراً للكفر وإن لم يعتقد صحته، وهذا فيما يتعلق بالحكم على المسألة أما حكمنا عليه بالكفر فينظر، فإن انتفت موانع التكفير وثبتت شروطه حكمنا عليه بالكفر.
والشاهد هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا) والرؤية هنا الرؤيا العينية، وليست القلبية، إذ لو كانت الرؤيا القلبية لما استطعنا الحكم عليه بالكفر حتى يصرح هو أو نشق عن قلبه، وهذا يرجع إلى أصول المرجئة الذين يجعلون للإيمان ركنين، التصديق بالقلب، والنطق باللسان، على خلاف أهل السنة الذين يجعلون العمل من الإيمان، وأنه من أتى ناقضاً من نواقضه يكفر إلا أن يكون معذوراً وقد بينا الأمور التي يعذر بها المسلم، والشاهد من هذه المسألة أنه إذا ظهر من الحاكم الكفر البواح وجب الخروج عليه وإن لم يعتقد ذلك بقلبه، وما ينبني على هذه المسألة أنه من وجب الخروج عليه سقطت ولايته، ومن سقطت ولايته فلا يعتبر أميراً للمسلمين تجب طاعته، بل من يقول بذلك فعليه أن يراجع حساباته بنفسه قبل أن يحاسب عليها في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ولكن هنالك مسألة لا بد من ذكرها وهي: أن الحاكم، وإن وجب الخروج عليه لإظهاره للكفر البواح، فلا يخرج عليه حتى تتحقق شروط الخروج وهي:
1) إظهار الكفر البواح، وقد مضى القول فيه.
2) المقدرة العلمية والعملية، فأما الأولى فهي مبنية على النقطة قبلها وهي تحقق الكفر البواح، وهذا لا يكون إلا من خلال أهل العلم الذين يفرقون بين الكفر البواح وغيره، حتى لا يقول في دين الله من ليسوا من أهله فتفسد البلاد والعباد. وأما الثانية فهي مبنية على القواعد العامة منها قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه). مسلم .
3) أن لا تكون فتنة الخروج على الحاكم أعظم من فتنة الحاكم، وذلك أن الهدف من الخروج عليه تحقيق المصلحة الشرعية، وهي إقامة دين الله، فإن غلب على الظن أن الخروج على الحاكم سيؤدي إلى نتائج سلبية فلا يصح الخروج عليه، ويجب الصبر.
4) أن تقام الحجة على الحاكم وذلك من منطلق قوله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}، وقوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).
إلا أنه لا يعني عدم تحقق هذه الشروط القعود والتخاذل بل الواجب العمل على تحقيق الاستطاعة ضمن الضوابط الشرعية وهذا من منطلق القاعدة الشرعية التي تنص على: (الوسائل لها حكم المقاصد). وقاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
سابعاً:(/9)
وهنالك دليل آخر على عدم صحة ولاية هؤلاء الحكام وهو دليل متضمن وإن كان بعيداً عن الواقع، ومفاده أن من معتقد أهل السنة والجماعة خروج المهدي ، وهو الإمام الذي يقيم الله سبحانه على يديه الخلافة على منهاج النبوة، وهذا ما نرجحه من عموم الأدلة، منها ما جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء إن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
فقد بشر الله سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وهذه الخلافة حتماً ستلغي تلك الإمارات المتناثرة وتجمعها تحت إمرة الخليفة الراشد وهذا يدل على عدم مشروعية تلك الإمارات، وإلا لكان المهدي من الخوارج كما يزعمون، ومن كان هذا وصفه فلا يكون خليفة راشداً،ومن باب آخر فإنه يجب على كل مسلم أن يكون تحت إمرة هذا الخليفة ومن خرج عن إمارته فمات فميتة جاهلية.
كما دل على ذلك ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة، لا حجة له. ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية) رواه مسلم .
وعليه فإن هذه الإمارات ليست على هدي النبوة، فهي إمارات ساقطة لا يجوز مناصرتها أو الذود عنها، أو الولاء والبراء فيها، والواجب على كل مسلم أن يكون مع الحق، وأن ينصر الحق.
ثامناُ:
نقول لهؤلاء، أي الذين يعتبرون الحكام ولاة أمور شرعيين، إذ يوجبون على الناس طاعتهم ويحرمون الخروج عليهم، بل يذهبون إلى أبعد من هذا الحد، إلى عدم جواز الإنكار عليهم إلا سراً ومن خلال أهل العلم (المقربين من الأمراء)، ما هو الواجب على المسلمين أمام هذه الفتن التي تعترفون بوجودها وأهوالها؟ بل ما هو دور العلماء في المجتمع؟ وما هو دور طلبة العلم؟ كيف السبيل إلى القضاء على مظاهر الشرك التي لا يخلو درس من دروسكم إلا وأشرتم إلى خطورته وأخذتم تقسمونه وتبينون أنواعه؟ ما هو السبيل إلى تحكيم شرع الله إذا رفض حكامكم المسلمون ولاة أموركم ذلك؟ ما هو سبيل النجاة؟
فلن يجد هؤلاء جواباً على هذه الأسئلة.
بل ما الذي يحملهم على التغيير وهم يعتبرون الحكام حكاماً شرعيين؟ فهم لا يعملون على تغيير الحكام لأن ذلك خروج عليهم فهم يصفون من ينادي بذلك بالتكفيري والخارجي، أي خارج عن طاعة أولي الأمر، ولا يتورعون عن وصفهم بكلاب أهل النار، إذن فمن يخرج على الحاكم فهو من كلاب أهل النار وهم بلا ريب لا يريدون أن يتصفوا بهذا الوصف، بل هم يفرون منه أيما فرار، ويظهرون العداوة والبغضاء لكل من خالفهم، ويحذرون منه ومن علمه، بل يعتبرون تنفير الناس عنه من أعظم القربات التي يتقربون بها إلى الله سبحانه، فمن كان هذا حاله فهو حتماً لا يعمل للتغيير اللهم إلا أن يعمل على تغيير الناس وذلك من خلال دعوتهم للتبرئ من الخوارج (كلاب أهل النار) الذين يطالبون بالخروج على الحكام واستبدالهم بحاكم شرعي،وإعطاء الولاء والطاعة لأولي الأمر ومباركة أعمالهم ، أجل هذا هو واقعهم، وهذه هي دعوتهم، وهذا ما يريدونه ويعملون على تحقيقه نسأل الله العافية والثبات على الحق حتى الممات.
تاسعاً:
وهذه النقطة تتعلق بالشق الثاني من السؤال وهو ما يتعلق بالتعامل معهم وتكثير سوادهم، والجواب عليها يكون من عدة نقاط هي :
1) هم أناس يجترئون الكذب على منهج السلف الصالح، إذ ينسبون القول بأن العمل شرط كمال إلى مذهب أهل السنة والجماعة، ويريدون بذلك، إخراج العمل عن مسمى الإيمان، فهم لا يكفرون إلا بالاستحلال القلبي، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة، فأهل السنة والجماعة يجعلون العمل من الإيمان، ولذا ثبت عن كثير منهم كالإمام أحمد في أحد القولين عنه أنه كفر تارك الصلاة الكفر الناقل عن الملة، وإن كان تركه للصلاة كسلاً، وإلى هذا ذهب في العصر الحاضر كثير من أهل السنة منهم سماحة الشيخ ابن باز وفضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمها الله تعالى، والصلاة من أعمال الجوارح، بل من قرأ حكم تارك الصلاة لفضيلة الشيخ ابن عثيمين يجد أن الأدلة التي استدل بها على كفر تارك الصلاة أقل قوة من الأدلة الدالة على كفر مستبدل حكم الله سبحانه، وعليه، فإن نسبة قولهم هذا الذي هو في حقيقة الأمر مذهب المرجئة إلى أهل السنة والجماعة (السلف الصالح) كذب وافتراء.(/10)
2) هؤلاء قوم يفصلون الدين عن الدولة، أي يجعلون الدين لأولي الأمر وليس للمسلمين عامة، فلا يجوز لأي إنسان أن يتدخل في الدين أو يعترض على أولي الأمر، لأن ذلك يعد خروجاً عليهم، ومن فعل ذلك فهو (من كلاب أهل النار). ولذا نجدهم يشتد نكيرهم على المخالفين لهم خاصة في هذه المسألة ، ومن هذه حالهم فلا ريب أنهم لا يعملون لإصلاح المجتمع أو تغييره،بل قد يعملون لمصلحة الحكام أعاذنا الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
3) هؤلاء قوم ظالمون لأنهم راكنون إلى الظالمين قال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}، والحكام ظالمون بلا ريب لقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، والركون إلى الظالمين ظلم، بل توعد الله سبحانه من فعل ذلك بالعذاب الأليم، ودليل ركونهم إلى الظالمين مدافعتهم عنهم وإقامة الولاء والبراء فيهم، فمن قال عن الحكام: هم ألوا أمر،فهذا سلفي على منهج أهل السنة، ومن قال: إنهم ظالمون فاسقون، فهذا تكفيري خارجي لا بد من التحذير منه والتشهير به، فأي ركون بعد هذا؟!
4) وعليه فإن كل من أعانهم على ظلمهم، أو عمل على تكثير سوادهم، أو ترك الإنكار عليهم فحكمه حكمهم، بل هو شريك لهم في ظلمهم وتطاولهم على عباد الله الصالحين، ولا أرى سبباً يجعل الناس يلتفون حولهم إلا المصالح الدنيوية، فهم تجمعهم المصالح، وتفرقهم الأهواء، وكثير منهم يقول سراً، نعلم أنهم على غير الحق ولكن نريد... وهذا والله هو النفاق بعينه، كيف يكثر سوادهم على ما هم عليه من الآثام والظلم ومعاداة الناس بغير الحق، والحكم الفصل الذي ليس بالهزل أن كل من ناصرهم أو عمل على تكثير سوادهم متهم، متهم، متهم.
والله سبحانه أعلى واعلم
وصلِ اللهم على محمد بن عبد الله النبي الأمي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين
ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين
وكتب: إبراهيم بن عبد العزيز
الأربعاء 9 /ربيع أول /1425 هـ
الموافق 28 /4/ 2004 م
تم تنزيل هذه المادة من
شبكة أهل السنة الإسلامية
http://www.asunnah.net(/11)
الرد على من أجاز الاحتفال بالمولد النبوي
***الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :
***فقد أرسل إلي سائل ، اعتراضا لبعض المتحمسين لبدعة المولد ، على من يحرم هذه البدعة من العلماء المحققين ، وقد تضمن كلام المعترض ، خلطا في المسائل والدلائل ، وخروجا عن موضع النزاع ، واستدلالا بأمور لا يصح الاستدلال بها ، إما بسبب ضعف طريق الثبوت ، أو خطأ في وجه الدلالة ، مع ما في اعتراضه من الخروج عن حدود الأدب ، وادعاء أمور لم يقلها القائلون بأن المولد بدعة ، وهم عامة علماء أهل السنة.
ـــــــــــــــ
***كما أوهم المعترض أن القائلين بتحريم المولد ، يتهمون من يفعل هذه البدعة ، بأنهم زنادقة ، لان أول من احدث هذه البدعة هم زنادقة الباطنية الفاطميين .
*** مع أنه ليس ثمة تلازم بين الأمرين ، فكثير من العادات المنتشرة بين المسلمين اليوم ، أصلها من عادات النصارى ، وقد وقع فيها المسلمون ، كما ورد في الحديث قال صلى الله عليه وسلم ( لتتبعن سنن الذين من قبلكم ) متفق عليه من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه ، مع أنه لا يحكم على من قلد النصارى في تلك العادات بأنه صار نصرانيا ، فكذلك لا يحكم على من قلد زنادقة الفاطميين في بدعة المولد بأنه زنديق .
***كما أنه لاتلازم بين وقوع الشخص في البدعة ، وكونه ضالا آثما ، فقد ذكر العلماء أن الفاضل قد يفعل البدعة ، ويكون مأجورا على نيته ، وحسن قصده ، معذورا بتأويله ، والبحث ليس في حكم من يفعل المولد ، وإنما في حكم فعله في حد ذاته ، هل هو موافق لقواعد الشرع ، متفق مع نصوصه ، أم بدعة وإحداث في الدين ، وأما الحكم على فاعله ، فهذا قد يكون مأجورا ، وقد يكون مأزورا ، وقد يكون معذورا بجهله ، وقد يكون رجلا صالحا أخطأ في اجتهاده ، وقد يكون زنديقا ، فليس البحث في هذا أصلا.
***كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه : ( وكذلك ما يحدثه بعض الناس ، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام ، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما له ، والله قد يثيبهم على المحبة والاجتهاد ، لا على البدع : من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا مع اختلاف الناس في مولده ، فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له ، وعدم المانع منه ، ولو كان هذا خيرا محضا ، أو راجحا ، لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا ، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له منا ) اقتضاء الصراط 295
***ومن عجائب المعترض أنه زعم أن الإمام ابن كثير أثنى على أحد الملوك لعمله المولد ، ثم جعل ثناء ابن كثير عليه ، مناقضا لقول من قال من العلماء إن أول من أحدث الاحتفال بالمولد النبوي هم الزنادقة الفاطميون العبيديون في المائة الرابعة .
قال المعترض : قال ابن كثير : ("..الملك المظفر أبو سعيد كوكيري، أحد الأجواد والسادات الكبراء والملوك الأمجاد، له آثار حسنة (وانظر إلى قوله آثار حسنة) وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالاً هائلاً، وكان مع ذلك شهما ً شجاعاً فاتكاًعاقلاً عالماً عادلاً، رحمه الله وأحسن مثواه.." إلى ان قال "..وكان يصرف في المولد ثلاثمائة ألف دينار" اهـ.
فانظر رحمك الله إلى هذا المدح والثناء عليه من ابن كثير إذ أنه وصفه بأنه
عالم، عادل، شهم ، شجاع، إلى قوله : رحمه الله وأحسن مثواه، ولم يقل: زنديق، فاجر، فاسق، مرتكب الفواحش والموبقات ) انتهى كلام المعترض .
***والجواب : أن الإمام ابن كثير في كتابه البداية والنهاية ، ينقل التاريخ ، ولايعني نقله لحدث تاريخي ، أنه يقر ما فيه ، وأما ثناؤه على صفات الملك الحميدة ، فلا يتناقض مع كون المولد بدعة ، فالشخص قد يجمع بين الصواب و الخطأ ، والسنة والبدعة .
***وهذا الملك (كوكبري) كانت لديه بدع أخرى أيضا ، كما قال ابن كثير في المصدر نفسه ( ويعمل للصوفية سماعا من الظهر إلى الفجر يرقص بنفسه معهم ) انتهى ، مع ما له أيضا من الخير والإحسان والبر والجهاد .
***هذا مع أنه قد يمدح بعض الملوك أو السلاطين لاعمال يقومون بها ، هي مذمومة لو فعلها غيرهم ، والبدعة قد يفعلها جهلة الملوك ، بحسن قصد ، فيثابون على قصدهم الحسن ، وإن كان ما فعلوه بدعة يجب النهي عنها .
***كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ، ويكون له فيه أجر عظيم ، لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قدمت لك أنه يحسن من بعض الناس ، ما يستقبح من المؤمن المسدد ، ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء : إنه أنفق على مصحف ألف دينار ، ونحو ذلك فقال دعه ، فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب ، أو كما قال ، مع أن مذهبه : أن زخرفة المصاحف مكروهة ، وقد تأول بعض الأصحاب أنه انفقها في تجديد الورق والخط ) اقتضاء الصراط ص 297(/1)
*** فحتى لو فرض أن الإمام ابن كثير أثنى على الملك الذي احتفل بالمولد ، فلما يتضمنه ذلك من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته ، وهذا قليل في الملوك ، فحسن من هذا الوجه الثناء به على ذلك الملك ، وإن كان قد يستقبح من المؤمن المسدد ، مع أن هذا لايعني إقرار الإمام ابن كثير بدعة المولد ، بل ثناؤه كان على حسن قصد الملك ، لا على بدعة المولد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
***هذا وقد اتفق السلف الصالح على ذم البدع ، والنهي عنها والتحذير منها ، وأما ما ورد عن بعض الصحابة أو العلماء من استحسان بعض البدع ، فالمقصود الإطلاق اللغوي ، وليس المعنى الشرعي .
***وقال ابن رجب ( فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه ، فهو ضلالة والدين بريء منه ، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة ، وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع ، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية ، فمن ذلك قول عمر ـ رضي الله عنه ـ لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد وخرج ورآهم يصلون كذلك ، فقال : ( نعمت البدعة هذه ) جامع العلوم والحكم ص 252
***وقال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : ( كل ما لم يشرع من الدين فهو ضلاله ، وما سمي بدعة ، وثبت حسنه ، بأدلة الشرع فأحد الأمرين فيه لازم ، إما أن يقال ليس ببدعة في الدين ، وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة كما قال نعمت البدعة هذه ) مجموع الفتاوى 10/471 ـ 22/
234
***وقال الشاطبي في معرض رده على المستحسن للبدع بقول عمر رضي الله عنه ، فقال ( إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه ، لأنها بدعة في المعنى ) الاعتصام 1/195
***وكذلك قصد الشافعي عندما قال ( المحدثات من الأمور ضربان : ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا ، فهذه البدعة ضلالة ، وما أحدث لا خلاف فيه لواحد من هذا ، فهذه محدثة غير مذمومة ـ قد قال عمر رضي الله عنه في قيام رمضان نعمت البدعة هذه ، يعني إنها محدثة لم تكن ، وإن كانت فليس فيها رد لما مضى ) ابن عساكر في تبيين كذب المفتري ص 97
***يقصد البدعة في اللغة ، وليس الإحداث في الدين ، ويدل على هذا أن الإمام الشافعي نفسه يقول ( وهذا يدل على أنه ليس لاحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا بالاستدلال إلى أن قال : ولا يقول بما استحسن ، فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق ) الرسالة 504
***وأما الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله ، الذي قسم البدع إلى خمسة أقسام واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة ، فهو إنما نظر إلى العمل من حيث وجه الإحداث فيه ، وكونه أمرا مبتدأ ، سواء كان عبادة أو غيرها ، ولهذا فقد أدخل المصالح المرسلة في هذا التقسيم .
***وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( كل بدعة ضلالة ) قاعدة كلية عامة تستغرق ، جميع جزيئات وأفراد البدع ، لان لفظ كل من الفاظ العموم ، وقد ذكر أهل اللغة أن فائدة لفظ كل هو رفع احتمال التخصيص إذا جاء مضافا إلى نكره ، أو جاء للتأكيد.
***ولان كل عند أهل اللغة والأصول لاتدخل إلا على ذي جزئيات وأجزاء ، ومدلولها في الموضعين الإحاطة بكل فرد من الجزئيات أو الأجزاء .
***ولأنها إذا أضيفت إلى نكره كما في قوله تعالى : ( كل امرئ بما كسب رهين ) و( كل شيء فعلوه في الزبر ) و( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) و( كل نفس ذائقة الموت ) فإنها تدل على العموم المستغرق لسائر الجزئيات وتكون نصا في كل فرد دلت عليه تلك النكرة ، مفردا كان أو تثنية أو جمعا ، ويكون الاستغراق للجزئيات بمعنى أن الحكم ثابت لكل جزء من جزيئات النكرة ، وإذا طبقنا هذا على حديث ( كل بدعة ضلالة ) فإنه يعني أنه لايمكن أن تخرج أي بدعة عن وصف الضلال ، كما لاتخرج أي نفس عن كونها ذائقة الموت ، وكل إنسان عن كونه طائره في عنقه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
***وأما ما نقله المعترض من أن بعض العلماء قسموا البدع إلى حسنة وسيئة على غير معنى اللغوي بالبدعة ، فلاحجة في قول أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، بل الحجة في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك احتجاجه بقول من قال بجواز الاحتفال بالمولد ـ مثل الإمام السيوطي وغيره ـ لاحجة فيه ، بل هو مخالف للأدلة ، وما كان عليه الصحابة ، والقرون المفضلة ، ولا يلزم من ذلك الطعن على من أجازه من العلماء ، ورميهم بالبدعة والضلالة ، كما تقدم إيضاح ذلك.
ـــــــــــــــــــ
***والبدع أقسام :
@منها بدع اعتقادية : كإنكار القدر وتعطيل الصفات أو تأويلها ، وجعل الإيمان مجرد القول والاعتقاد ونحو ذلك .
@ومنها بدع قلبيه : كالخوف من صاحب القبر الفلاني ، ورجائه أو الخشية منه ونحو ذلك .(/2)
@ومنها بدع قوليه : كالذكر المبتدع عند الصوفية ودعاء الموتى والاستغاثة بالمقبورين ونحو ذلك .
@ومنها بدع بدنية : كصلاة الرغائب ، والجثو أو السجود للولي الفلاني ، وقصد المشاهد والمقامات المبتدعة ، وإقامة الموالد ونحو ذلك .
@ومنها بدع مالية : كإخراج الخمس للإمام عند الرافضة والإسماعيلية والإنفاق على بناء الأضرحة وتشييدها ونحو ذلك .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
***ومن عجائب ما ذكره المعترض ، أنه قرر أن كل ما له أصل في الشرع ، فلا يكون بدعة بحال من الأحوال ، وهذا يعود بالأبطال على قول النبي صلى الله عليه وسلم ( كل بدعة ضلالة ) لان غالب أصحاب البدع إنما يستدلون بما له أصل في الشرع ، ولكنهم ينزلون النصوص غير منازلها ، كما قال تعالى ( يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) .
ــــــــــــــــــــــــ
*** ومن الأمثلة على هذا ما أحدثته الطرق الصوفية من الأذكار والصلوات التي ما أنزل الله بها من سلطان ، زاعمين أن أصل ذلك موجود في الشرع ، وهو الآيات والأحاديث التي ندبت إلى ذكر الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .
@فأحدثوا صلاة احمد البدوي : ( اللهم صل على نور الأنوار، وسر الأسرار ، وترياق الاغيار ) أفضل الصلوات ص 84
@وصلاة الدسوقي : ( اللهم صل على الذات المحمدية ، اللطيفة الاحدية ، شمس سماء الأسرار ، ومظهر الأنوار ، ومركز مدار الجلال ، وقطب فلك الجمال ) المصدر السابق ص 85
@وصلاة محي الدين بن عربي : ( اللهم أفض صلة صلواتك ، على أول التعينات المفاضة من العماء الرباني ، وآخر التنزلات المضافة إلى النوع الإنساني ، المهاجر من مكة ، كان الله ولم يكن معه شيء ثاني .... ) المصدر السابق 86
@وصلاة الشاذلي ، وصلاة البكري ، والصلوات الزاهرة ( اللهم صل على الجمال الأنفس ، والنور الأقدس ، والحبيب من حيث الهوية ، والمراد في اللاهوتية .. ) المصدر السابق ص 131
ــــــــــــــــــــــــــــ
***وهكذا فتحوا الباب لكل بدعة وبلاء ، فابتدعت كل طائفة المحدثات ، وضيعوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، بين تلك الأهواء .
***وابتدعو لهم طرقا صوفية ، اتخذوا فيها دين الله تعالى هزوا ولعبا ، وصار ذكر الله تعالى ، صياح وزعيق كزعيق المجانين ، مثل الطريقة النقشبدنية التي أحدثت أسرع طريقة ذكر للوصول إلى الجذبة ( أي يجذبه الله تعالى إليه ) وخلاصتها : يدير المريد وجهه إلى اليمين حتى يصبح ذقنه فوق كتفه اليمنى ، ويلفظ كلمة ( لا ) ثم يدير وجهه بسرعة إلى الإمام ويضع ذقنه على صدره ، ويلفظ كلمة إله ، ثم يدير وجهه بسرعة أيضا إلى اليسار ، حتى تكون ذقنه فوق كتفه اليسرى ، ويلفظ كلمة إلا ، ثم يدير وجهه بسرعة دائما ، إلى الإمام ويضع ذقنه فوق صدره ، ويلفظ كلمة الله ، ويعيد الكرة ، ويقولون إن القيام بهذه العملية واحدا وعشرين مرة ، يمكن يوصل إلى الجذبة !!
ـــــــــــــــــــــــــ
***ثم زادوا البدع ، فأحدثوا الذكر مع الرقص ، ولهذا فالصوفية تنقسم إلى قسمين :
@الصوفية الجالسة .
@ والصوفية الراقصة .
***والصوفية الجالسة تنقسم إلى قسمين :
@ الجالسة الصامتة .
@ والجالسة الصائته .
*** فالصامتة يقرؤون أورادهم جلوسا صامتين ، كالنقشبندية والخوفية ، وقد يجهرون بعض الاحيان ، وقد يقفون حسب توجيه الشيخ .
***والصائته ، يقرؤون أصواتهم جلوسا مع الجهر بالصوت ، كالتيجانية والنعمتللاهية ، وقد يقفون ويرقصون حسب توجيهات الشيخ .
***وأما الصوفية الراقصة ، وعليها أكثر الطرق ، وكلها صائته ، فهم يبدؤون الحضرة في اكثر الاحيان جلوسا ، ثم ينهضون للقفز والرقص ، وقد يصاحب قفزهم الطبول والزمور والدفوف .
***وأحدثت كل طريقة من الطرق ، أساليب مبتكرة للرقص والذكر ، وانتشر الأمر عليهم ، وكثرة الطرق وتفرعت ، وتحولت إلى ضلالات وظلمات بعضها فوق بعض.
***وكل هذا من شؤم البدع ، وما جلبته على المسلمين من الضلال المبين .
ــــــــــــــــــــــــــ
***والمقصود أن المعترض زعم أن الصحابة رضي الله عنهم قد زادوا في الدين أمورا ، مستدلا بذلك على أن الزيادة فيه جائزة ، مما يفتح باب كل بدعة وضلالة ، فيزاد في الدين ، وينقص ، ويبدل بغير ضابط ، سوى ظن المبتدع أن فعله راجع إلى أصل شرعي ، وكفى بهذا الصنيع ضلالا مبينا .
***وقد احتج بأن الصديق رضي الله عنه جمع المصحف ، بأن عثمان رضي الله عنه ، زاد الأذان الثالث يوم الجمعة ، وأن عمر رضي الله عنه أخر مقام إبراهيم ، وأن عليا رضي الله عنه انشأ صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من عند نفسه ، وأن ابن عمر رضي الله عنهما زاد البسملة في التشهد ، وزاد في التلبية ألفاظا ، وأن ابن مسعود رضي الله عنه زاد بعد (ورحمة الله وبركاته) في التشهد ( السلام علينا من ربنا ) .
***والجواب :(/3)
أما جمع الصديق رضي الله عنه للمصحف ، و زيادة عثمان رضي الله عنه لاذان الجمعة وتأخير عمر رضي الله عنه للمقام ، فإن هذه سنة الخلفاء الراشدين المهديين ، الذين أمرنا بالأخذ بسنتهم ، فالأخذ بسنتهم أخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فهي مكملة لها ، فرع عليها ، كما قال صلى الله عليه وسلم ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) رواه أحمد والترمذي وأبو داود من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه .
***وقد جاء في المدونة ( في قطع شجر الحرم ) كتاب الحج : ( قال مالك : بلغني أن عمر رضي الله عنه لما ولي حج ودخل مكة آخر المقام إلى موضعه ، الذي هو فيه اليوم ، وكان ملتصقا بالبيت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعهد أبي بكر وقبل ذلك ، وكان قدموه في الجاهلية مخافة أن يذهب به السيل ، فلما ولي عمر أخرج أخيوطه كانت في خزانة الكعبة ، قد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت ، إذ قدموه مخافة السيل ، فقاسه عمر ، فأخره إلى موضعه اليوم ، فهذا موضعه الذي كان في الجاهلية وعلى عهد إبراهيم عليه السلام ) انتهى
***فعلى هذه الرواية يكون عمر رضي الله عنه قد رد المقام إلى ما كان عليه في زمن إبراهيم عليه السلام ، وقد ذكر العلماء أنه أخره رضي الله عنه لئلا يطأه الناس بأقدامهم ، ولتوسعة المكان للطائفين .
***وأما ما ورد عن ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما في صيغ التشهد ، فهذا إن صح إسناده ، فهو في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والعلماء متفقون على أن جواز كل التشهدات التي وردت عن الصحابة ، لأنها كلها ـ إن صح الإسناد ـ محمولة على سماعها من النبي صلى الله عليه وسلم ، لان أفعال الصلاة وأقوالها توفيقية ، وما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك مع صحة إسناده ، فهو داخل في هذه القاعدة ، وليس هو من الإحداث في الدين .
***ومعلوم أن الصحابة كانوا أشد الناس حرصا على الائتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل أقواله وأفعاله ، فكيف بالصلاة التي هي أعظم أركان الدين ، فكانوا لا يفعلون شيئا فيها إلا اقتداء به صلى الله عليه وسلم .
***والعجب من استدلال المعترض بأن الصحابة زادوا على صيغ التشهد ، على جواز الزيادة في الدين ، فهل هو يجيز لكل من يشتهي إضافة صيغة تشهد ، أن يضيفها إلى كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، فتصبح أقوال الصلاة نهبا للأهواء ؟! فهذا مخالف لاجماع العلماء ، ويقتضي بطلان فائدة قول النبي صلى الله عليه وسلم ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) رواه البخاري وغيره من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه .
***وأما زعمه المعترض أن عليا رضي الله عنه أنشأ صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من عند نفسه ، وعلمها الناس ، فلا يصح ذلك عنه رضي الله عنه ، مع أنه ـ حتى لو صح ـ فإن ما يعلمه الصحابة للتابعين ، في الأمور التي لامدخل للعقل فيها ، هو في حكم الرفع ، أي محمول على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا أمر متقرر لانزاع فيه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
***هذا وقد سبق أن أرسل سائل سؤالا قال فيه : لماذا صار الاحتفال بالمولد بدعة لانه لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، مع أن تنقيط المصحف أيضا لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن بدعة ، أرجو بيان الفرق ؟
***والجواب :
***من المعلوم أن السنة في تعريف العلماء هي ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو ترك ، وزاد من زاد من العلماء الصفة الخلقية والخلقيه ، وتفصيل ذلك في كتب الأصول ومصطلح الحديث .
***وهل الترك من الفعل ، فيه خلاف ، وبعض العلماء يجعل الترك من الفعل ، لان الترك لا يكون سنة إلا إذا كان مقصودا ، وهو الكف عن فعل الشيء ، والكف فعل ، لانه امتناع مع قصد ، ولهذا قيل الأصح أن يقال الكف ، لأنه ترك يتضمن قصدا ، وليس مجرد الغفلة عن فعل الشيء.
*** والكف عن فعل شيء ، لا يتحقق إلا بعد وجود الداعي إلى فعله ، فيكف الإنسان عن فعله ، فيدل على أنه تركه عمدا ، قاصدا لتركه .
***فإذا كان هذا النوع من التروك من النبي صلى الله عليه وسلم ، كان من سنته ، لان سنته هي فعل ما فعل ، وترك ما تركه قاصدا تركه مع قيام الداعي إلى فعله .
***لكنه إن كان في أمور العادات ، فلا يستدل بالترك على التحريم ، بل على الإباحة ، أما إن كان في شأن العبادة ، فإن الترك يدل على تحريم الفعل ، لان الأصل في العبادات التوقيف ، فقد دلت النصوص على أن الله تعالى لا يعبد إلا بما شرع ، وسيأتي إيضاح هذه النقطة .
هذا إذا تركه مع وجوده في زمن النبوة ، وتوفر الداعي إلى فعله ، أما إن لم يتوفر الداعي إلى فعله ، أو لم يكن موجودا في زمنه صلى الله عليه وسلم ، فلا يكون مجرد تركه صلى الله عليه وسلم سنة .(/4)
***مثل تركه الطواف في الطابق الثاني في الحج ، ومثل تركه مكبرات الصوت للآذان ، فالأول لم يتوفر الداعي إلى فعله ، والثاني لم يكن موجودا في زمنه ، ولهذا لم يكن فعل هذا ، أو ذاك ، بدعة .
ــــــــــــــــــــــ
*** وبهذا يعلم أنه إن كان الفعل الذي تركه صلى الله عليه وسلم ، في شؤون العبادة ، فإن تركه إياه يدل على أنه لم يؤذن له في التعبد لله تعالى به ، وتعبدنا به إذن ، هو البدعة التي قال صلى الله عليه وسلم عنها ( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه ، وقال ( من أحدث في امرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها .
ـــــــــــــــــــ
***فالبدعة هي التعبد لله تعالى بما ليس على هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك يكون ـ أعني وقوع التعبد على غير الهدي النبوي ـ بفعل ما تركه النبي قاصدا تركه ، مع قيام الداعي إلى فعله .
*** أوترك ما فعله صلى الله عليه وسلم قاصدا بفعله التقرب إلى الله تعالى وبيان حدود العبادة .
***فالقسم الأول هو : فعل ما تركه صلى الله عليه وسلم قاصدا مع قيام الداعي إلى فعله في شؤون العبادة .
***والقسم الثاني : ترك ما فعله صلى الله عليه وسلم تقربا إلى الله تعالى مبينا حدود العبادة .
***ومن الأمثلة على الأول إضافة ألفاظ إلى الأذان ، حتى لو كانت أذكارا مستحبة ، كإضافة التسبيح والتحميد ، أو إضافة ( أشهد أن عليا ولي الله ) أ و ( حي على خير العمل ) كما تفعل الرافضة ، أو إضافة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم جهرا مع قول المؤذن ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ترك ذلك ، مع وجود الداعي إلى فعله ، ولكنه تركه ، فعلمنا أنه غير متعبد به ، وأن فعله يصدق عليه أنه إحداث في الدين .
***ومن الأمثلة أيضا إحداث أذان لصلاة العيد ، أو لصلاة الكسوف ، ونحو ذلك .
***ومن الأمثلة على الثاني أي ترك ما فعله صلى الله عليه وسلم ، إنقاص الأذان بترك بعض ألفاظه .
***وقد يجتمع في البدعة ، فعل وترك ، وذلك في تغيير هيئة العبادة عما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم .
***مثل ترك الخطبة بعد صلاة العيد ، وفعلها قبل صلاة العيد ، كما فعل مروان بن الحكم ، كما روى أبو داود (أخرج مروان المنبر في يوم عيد فبدأ بالخطبة قبل الصلاة فقام رجل فقال يا مروان خالفت السنة أخرجت المنبر في يوم عيد ولم يكن يخرج فيه وبدأت بالخطبة قبل الصلاة فقال أبو سعيد الخدري من هذا قالوا فلان بن فلان فقال أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) ورواه مسلم ( أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان فقام إليه رجل فقال الصلاة قبل الخطبة فقال قد ترك ما هنالك فقال أبو سعيد أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) وهو في صحيح البخاري بألفاظ أخرى .
***ففي هذه المثال ، فعلت بدعتان ، بدعة ترك ، وبدعة فعل ، بدعة ترك الخطبة بعد صلاة العيد ، وبدعة فعلها قبل صلاة العيد .
***ولهذا قال من قال من العلماء إنه ما من بدعة إلا وتميت سنة ، لأنها تثمر ترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم أيضا .
***والحاصل أن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود الداعي إلى فعله في زمنه ، في شؤون العبادة ، فإنما تركه لبيان حدود العبادة ، وهو من تمام بيانه الذي ذكره الله تعالى في قوله (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلا لتبين لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ، وحينئذ فلا يجوز فعله ، وهو من معنى الإحداث في الدين .
***أما ما تركه لانه لم يكن ثمة داع إلى فعله ، أو كان من قبيل الوسائل التي لا تقصد بذاتها ، فلا يكون فعله من باب الإحداث في الدين .
***ومثال الأول ترك النبي صلى الله عليه و سلم جمع القرآن مكتوبا في الصحف ، لانه لم يكن ثمة حاجة إليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد كان الحفاظ متوافرين ، والقرآن محفوظ في صدورهم .
***وإنما جاءت الحاجة في زمن الصديق ، كما روى البخاري :(/5)
***أن زيد بن ثابت رضي الله عنه أرسل إلي أبو بكر ، مقتل أهل اليمامة ، فإذا عمر بن الخطاب عنده ، قال أبو بكر رضي الله عنه ، إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن ، قلت لعمر كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عمر هذا والله خير فلم يزل عمر ، يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر ، قال زيد قال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل ، لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري ، لم أجدها مع أحد غيره ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم ) حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه .
***وإنما لم يكن جمع القرآن في الصحف بدعة، لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه كفا عن فعله قاصدا التعبد لله تعالى بذلك ، وإنما تركه لانه لم يكن ثمة داع لفعله في زمنه صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن فعله بعد النبي صلى الله عليه وسلم بدعة إذن .
***قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : ( البدعة في الدين هي مالم يشرعه الله ورسوله ، وهو مالم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب ، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب وعلم الأمر بالأدلة الشرعية ، فهو من الدين الذي شرعه الله ـ إلى أن قال ـ سواء كان هذا مفعولا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن ) مجموع الفتاوى 4/107ـ 108
***وقال أيضا : ( السنة هي ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة لله ورسوله ، سواء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعل على زمانه ، أو لم يفعله ولم يفعل على زمانه ، لعدم المقتضي حينئذ لفعله أو وجود المانع منه ، ...... فما سنه الخلفاء الراشدون ليس بدعة شرعية ينهى عنها ، وإن كان يسمى في اللغة بدعة فكونه ابتدئ ) مجموع الفتاوى 21/317ـ 319
***ومثل هذا تنقيط المصحف ، فإن القرآن كان محفوظا في الصدور في زمن النبوة ، وكان يقرؤه العرب الفصحاء بسليقتهم لا يحتاجون إلى تنقيط ، ولم يكن ثمة داع لتنقيطه ، لانه لم يكن مجموعا في صحف أصلا ، وإنما احتيج إلى تنقيط المصحف بعد ذلك ، عندما انتشرت العجمة ، وقل في الناس حفظ القرآن في الصدور ، ولهذا فإن تنقيطه عند قيام الحاجة إلى ذلك ، لا يكون بدعة .
***وأيضا فإنه وسيلة لتصحيح القراءة ، وباب الوسائل غير توقيفي ، فيجوز استعمال الوسائل التي تحقق مقاصد الشريعة ، حتى لو لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل مكبرات الصوت للآذان والصلاة ، ومثل نقل العلوم الشريعة بوسائل الاتصال الحديثة ، ومثل استعمال لغة الإشارة لتفهيم الصم تعاليم الإسلام ، ونحو ذلك من الوسائل الكثيرة التي لا تحصى ، والتي لا يقصد بها التعبد بذاتها على أنها عبادة ، وإنما تتخذ وسائل فحسب ، وكلما طرأت وسيلة أفضل منها تركت سابقتها ، مما يدل على أنه لا يقصد التعبد بها لذاتها ، فمثل هذا لا يدخل في باب الابتداع في الدين .
ــــــــــــــــــــــــ
***وهذا بخلاف الاحتفال بالمولد ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تركه مع إمكان فعله في زمنه ، ووجود الداعي إلى ذلك ، فلم يكن أحد يحب النبي صلى الله عليه وسلم كما يحب الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك لم يشرع لهم الاحتفال بمولده ، فدل على أنه قصد هذا الترك ، وأن فعله بدعة .
***وقد شرع لهم التعبد لله تعالى بتعظيم عيد الأضحى والفطر ويوم الجمعة ، كما شرع لهم أيضا ترك التعبد بتعظيم يوم الثاني عشر من ربيع الأول ، أو تخصيصه بشيء من العبادات ، فالواجب اتباع هديه في الأمرين ، في الفعل والترك .
***وهذا من تمام الائتساء به ، كما قال تعالى ( ولكم في رسول الله أسوة حسنة ) وقال تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) .
*** مع أنه تكرر عليه يوم مولده منذ بعثته ، ثلاث وعشرون مرة ، في ثلاث وعشرين سنة ، مدة رسالته صلى الله عليه وسلم ، غير أنه لم يحتفل ولا مرة واحدة بمولده صلى الله عليه وسلم .
***ثم جاء الخلفاء الراشدون ، فتركوا أيضا الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم ، ومضى على هذا الترك القرون المفضلة ، حتى جاء الفاطميون الباطنيون الرافضة فأحدثوا هذه البدعة ، فهم أول من أحدث بدعة الاحتفال بالمولد النبوي ، فكيف تقاس هذه البدعة ، على مسألة تنقيط المصحف ، وما بينهما كما بين المشرقين .(/6)
***وكيف ندع ـ ليت شعري ـ هدي النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، وصحابته الكرام ، ونستبدله ببدعة أحدثتها أضل فرقة ، فحق للعقلاء إن فعلنا ذلك ، أن يتمثلوا فينا بقول الشاعر :
نزلوا بمكة في قبائل هاشم *** ونزلت بالبيداء أبعد منزل
***والخلاصة : أن بدعة الاحتفال بالمولد النبوي ، محدثة على غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما تنقيط المصحف فوسيلة لتعليم القراءة الصحيحة ، ولم تفعل في زمنه صلى الله عليه وسلم لعدم الحاجة إليها ، وليس لان النبي صلى الله عليه وسلم قد تركها قاصدا ذلك ، تعبدا لله تعالى بتركها .
***وأخيرا نختم بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، وقد بين فيه أن دين الإسلام ، قائم على أصلين .
قال :
فَصْلٌ : الْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى الشَّرْعِ وَالاتِّبَاعِ لا عَلَى الْهَوَى وَالابْتِدَاعِ
فَإِنَّ الإسلام مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ .
وَالثَّانِي : أَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نَعْبُدَهُ بالأهواء وَالْبِدَعِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمر فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُون ، إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ...الآية )
وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه )
. فَلَيْسَ لاحَدِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ إلا بما شَرَعَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ لا يَعْبُدُهُ بالأمور الْمُبْتَدَعَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيَةَ " قَالَ " التِّرْمِذِيُّ " : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَفِي مُسْلِمٍ " أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : ) خَيْرُ الْكَلامِ كَلامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرُّ الأمور مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ (انتهى كلام شيخ الإسلام .
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(/7)
الرد على من أنكر توحيد الأسماء والصفات
الموضوعات
• ... المقدمة
• ... الفصل الأول ماذا يعني توحيد الأسماء والصفات؟
• ... توحيد الأسماء والصفات من المعلوم بالدين ضرورة
• ... رد صفة من صفات الله الثابتة كفر
• ... القرآن كله بيان لصفة الله
• ... بدأ الإسلام وسيعود قريباً
• ... الفصل الثاني من أصول الضلال: اتباع التأويل الفاسد والإجتهاد المرجوح
• ... المتأول المجتهد معذور
• ... لا يجوز اتباع أخطاء العلماء
• ... القول بجواز اتباع أخطاء العلماء من أكبر أصول الضلال
• ... الفصل الثالث آثار الإيمان بصفات الله تعالى في قلب المؤمن
• ... لكل صفة من صفات الله أثر في قلب المؤمن
• ... أين دعاة الحاكمية من هذه الصفات؟
• ... الفصل الرابع منهج القرآن في تثبيت دعائم الإيمان
• ... جهاد السلف في مجال العقيدة
• ... مذاهب الكفر والزندقة المعاصرة
المقدمة
الحمدلله الذي عرف نفسه لعباده بما أوحى إلى رسله، وبما نصب في الأرض والسموات من عظائم قدرته، وبديع صنعه، فقال عن نفسه في كتابه { قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد } وجعل ثواب قراءة هذه السورة على قصرها يعدل ثواب قراءة ثلث القرآن، وقال عن نفسه مادحاً { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } .
والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة الذي وصف ربه أكمل وصف وأحسنه فقال : [ إن الله يقبض يوم القيامة الأرض وتكون السماوات بيمينه ثم يقول : أنا الملك ! ! ] ( رواه البخاري ) . وقال : [ يد الله ملأى سحاء الليل والنهار ] . وقال : [ تركتكم على المحجة لا يزيغ بعدي إلا هالك ]
وبعد، فإني استمعت إلى شريط مسجل زعم المتكلم أن توحيد الأسماء والصفات لم يكن معلوماً عند سلف الأمة، وأن هذا التوحيد من الأمور الثانوية التي لا يضر الجهل بها ولا يجوز الاهتمام بها ولما كان هذا الكلام يهدم الدين من أساسه، إذ هدم العقيدة هدم لأصل الدين الأصيل حيث تنشأ بعد ذلك أجيال جاهلة لا تفرق بين توحيد وشرك ولا بين الخالق والمخلوق ولا بين أهل الإيمان وأهل الكفران لذلك رأيت من واجبي قياماً بالأمانة والميثاق الذي أخذه الله على من حمل علماً أن يبلغه للناس ولا يكتمه كما قال جل وعلا { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } أن أرد هذا الباطل وأن أدافع عن دين الله وعقيدة الإسلام نصحاً للأمة وإحقاقاً للحق، وإزهاقاً للباطل والله المستعان .
عبدالرحمن عبدالخالق
الكويت شوال لعام 1402 هـ
الفصل الأول ماذا يعني توحيد الأسماء والصفات ؟
توحيد الأسماء والصفات من المعلوم بالدين ضرورة
فأما توحيد الأسماء والصفات فهو من المعلوم من الدين ضرورة وهو أصل الدين الأصيل، وغاية التوحيد، لأن معرفة الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا هو أشرف العلوم، ومنتهى الإرادات وعلى أساس هذه المعرفة يقوم الإيمان الصحيح والتوحيد الخالص والمقصود بتوحيد الأسماء والصفات إثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسله ونفي ما نفاه عن نفسه سبحانه وتعالى، ونفاه عنه رسله، وهذا القسم من أقسام التوحيد لا شك أنه أعلاها وأولها وأهمها، لأنه على أساس العلم الصحيح السليم بالله يكون الإيمان الصحيح فلا إيمان بغير علم، والعلم بصفات الله هو أساس الإيمان ولا شك أن توحيد الأسماء والصفات أشمل وأعم مما نسميه بتوحيد الألوهية والربوبية لأن العلم بكون الله هو الإله الحق، الذي لا تجوز العبادة لأحد إلا له سبحانه وتعالى والتوجه إليه على هذا الأساس فرع من العلم بأسماء الله وصفاته، وكذلك الإيمان بربوبية الله وأنه الخالق الباريء المصور . . كل هذا جزء من توحيد الأسماء والصفات، ولذلك فما سمي بتوحيد الربوبية هو جزء مما يسمى أيضاً بتوحيد الأسماء والصفات وهذا يعني أن توحيد الأسماء والصفات أشمل وأعم من توحيد الألوهية والربوبية .(/1)
* وهذه الأسماء والاصطلاحات لا شك أنها أسماء واصطلاحات لم يتكلم بها الله ولا رسوله على هذا النحو وإنما أطلقها علماء السلف رضوان الله عليهم وليس هذا من البدع المحدثة بل هو من التقسيمات العلمية التي تيسر سبيل المعرفة كما يقال علم التفسير وأصول التفسير، وعلم الحديث، ومصطلح الحديث، والفقه وأصول الفقه وعلم التوحيد، وكل هذه الأقسام لم تأت في القرآن أو في السنة، ولم يعلم الرسول الأمة الدين مقسماً على هذا النحو فيعطيهم مثلاً درساً في التفسير وآخر في الحديث وثالثاً في السيرة . . وإنما كان العلم الشرعي جملة واحدة ثم حدثت هذه الأقسام والتفريعات والاصطلاحات لتيسير تعلم العلوم، وكذلك الشأن في قولنا توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية والربوبية إنما هي فصول في علم واحد وهي مسائل الإيمان بالله ولأن الإيمان بالله يندرج تحته فصول كثيرة من العلوم لهذا احتاج العلماء إلى هذه الاصطلاحات فقالوا توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وجاء أيضاً من قال توحيد الحاكمية وهذا عندما نشأ في المسلمين من فرق بين أمور الدين وأمور الدنيا، وظن أن للمسلم الخيار في أن يتحاكم إلى شرع الله أو شرع غيره، فجاء من قال من العلماء المحدثين أن الإيمان بالله يقتضي أن نؤمن بأنه لا حكم إلا له كما قال تعالى : { ألا له الخلق والأمر } وقال { والله يحكم لا معقب لحكمه } فأطلق من هذه الآيات وما شابهها وسمي نوعاً جديداً من أنواع التوحيد هو ( توحيد الحاكمية ) ولا شك أن المعني الذي قصده من أطلق هذا اللفظ صحيح وإن كان الاصطلاح نفسه واللفظ حادث وكما أسلفنا ليس هذا من باب الابتداع وإنما هو من المصالح الشرعية لتقريب المعنى المراد إلى الذهن، وتفصيل العلوم وإيضاح المراد .
* وكما أسلفنا فتوحيد الأسماء والصفات أشمل وأعم أقسام التوحيد بل كل أنواع التوحيد تتدرج تحت هذا النوع وهو يعني الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه ووصف به رسوله، وكذلك تسمية الله سبحانه بما سمى نفسه، وبما سماه به رسوله، وقد أطلق علماء السلف هذا الاسم ( توحيد الأسماء والصفات ) عندما نشأ في المسلمين من يفرق بين صفة لله وصفة، فما وافق عقولهم قبلوه وما لم يوافق ردوه ومن الصفات التي ردها كثير من الزنادقة ومن لف لفهم وسار خلفهم من الجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم : صفات الغضب والرضا، والفرح والضحك، والحب والبغض والمقت، وكذلك صفة العلو والاستواء على العرش والنزول إلى السماء الدنيا، وكذلك صفة اليد، والقدم والساق والأصابع، والوجه وقالوا كل هذه الصفات إثباتها لله يقتضي التجسيم والتشبيه، والحال أنها صفات ثابتة لله سبحانه وتعالى بالنصوص القطعية في الكتاب والسنة، وليس هذا مجال سرد هذه النصوص، وإنما أحببنا هنا فقط بيان السبب في إطلاق اسم ( توحيد الأسماء والصفات ) الذي جعله علماء السلف نوعاً من أنواع التوحيد التي يجب العلم والإيمان بها .
رد صفة من صفات الله الثابتة كفر
وقد كفر علماء السلف من رد صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى مهما كانت هذه الصفة كما فعل خالد بن عبدالله القسري أمير واسط عندما نفى الجعد بن درهم صفة الحب والمخالة عن الله تبارك وتعالى . . فقتله خالد بن عبدالله القسري أمام الناس في يوم أضحى قائلاً ( أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم لأنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ) ، وكذلك أفتى الإمام أحمد بن حنبل بكفر جهم بن صفوان ومن شايعه ممن نفوا صفة العلو عن الله تبارك وتعالى وكتب رسالته المشهورة ( الرد على الزنادقة ) فسمى الذين نفوا صفة العلو بأنهم زنادقة . وأما الإمام أبوحنيفة رحمه الله فقد كان أشد من هؤلاء جميعاً في تكفير من نفى صفة لله عز وجل . يقول صاحب شرح العقيدة الطحاوية روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق بسنده إلى مطيع البلخي أنه سأل أبا حنيفة عمن قال : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ؟ فقال : قد كفر لأن الله يقول { الرحمن على العرش استوى } وعرشه فوق سبع سماوات .
قلت فإن قال : إنه على العرش ولكن يقول : لا أدري العرش في السماء أم في الأرض ؟ قال هو كافر لأنه أنكر أنه في السماء فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر ( شرح الطحاوية من 322، 323 ) .
ولا شك أن نفي صفة اليد عن الله تبارك وتعالى كفر لمن جحد ذلك لأن الله أثبت ذلك لنفسه في آيات كثيرة كقوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } .(/2)
وقوله تعالى لإبليس : { قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين } ( ص : 75 ) وآيات كثيرة أخرى وكذلك جاء في الصحيحين عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع والماء والثرى على إصبع والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلائق على إصبع فيقول أنا الملك : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه } ( اللؤلؤ والمرجان رقم 1774 ) .
وأحاديث كثيرة لا تحصى كثرة تثبت صفة اليد لله سبحانه وتعالى في كل دواوين الإسلام في الصحيحين والسنن والمسانيد . .
ولا شك أن جاهل هذه الصفة جاهل، وجاحدها كافر، والإيمان بها واجب على نحو الإيمان بصفات الله كلها دون تشبيه أو تحريف كما قال الإمام مالك في كلمته المشهورة عندما سأله سائل { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى ؟ فقال الاستواء معلوم، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ! ويعني بالسؤال عنه أي الكيفية لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى وأما الاستواء فقد مدح الله به نفسه في سبع آيات من القرآن فإثبات ذلك والعلم به واجب وإنكار هذا كفر ولكن كيفية الاستواء لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وكذلك اليد لا يعلم ذلك إلا الله كما قال عنه نفسه جل وعلا { ولا يحيطون به علماً } وأما الإيمان بما وصف الله نفسه فواجب على كل مسلم .
القرآن كله بيان لصفة الله
وأما قول القائل في درسه إن القرآن لم يتعرض إلا قليلاً لصفة الله فجهل عظيم لأن القرآن كله بيان لصفة الله عز وجل فهو إما إخبار عن ذات الله وصفاته، أو عما صنعه بأوليائه من الرسل والمؤمنين، وهذا بيان أفعاله وإكرامه وإحسانه، أو عما أحله بأعدائه وهذا من صفاته، فالقرآن من أول بسم الله الرحمن الرحيم إلى { من الجنة والناس } كله بيان لصفات الله سبحانه وتعالى .
الكلام في الأصول أشد خطراً من الكلام في الفروع :
وبعد فإذا كان صاحب الكلمة المشار إليها آنفاً يتورع أن يفتي في الفروع أو يجتهد فيها، ويرى عليه لزاماً إتباع مجتهد أو تقليد عالم فقد كان الأولى به أن يصنع ذلك في أصول الدين ومسائل الإيمان لأن أصول الدين ومسائل الإيمان أشد خطراً فهي التي ينبني عليها الكفر والإيمان فما سند القائل من أن توحيد الأسماء والصفات ليس مهماً، ولم يتكلم من السلف الصالح في القرون الثلاثة الأولى ؟ !
فمن قال بهذا من العلماء المجتهدين الذين يقلدهم ؟ والعجيب جداً أنه لا يرضى لدينه في الأمور الفقهية إلا رجلاً كابن باز ولكنه يطلب من الناس أن يسألوا آباءهم في الأمور الاعتقادية فيقول : سلوا آباءكم هل يؤمنون بأن لله يداً أم لا ؟ ! سبحان الله ومتى كانت الأمهات الجاهلات والآباء مصدراً للتشريع في العقائد وأصول الدين ؟ !
بدأ الإسلام وسيعود قريباً
وبعد فمن غربة الدين أن يتكلم به كل متكلم وأن يفتي فيه كل جاهل وأن يعلو منابره من يطعن فيه ويهدم أصوله وفروعه، وأن يبقى الدين الحقيقي غريباً طريداً فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله .
الفصل الثاني من أصول الضلال : اتباع التأويل الفاسد والإجتهاد المرجوح
زعم الذي أنكر توحيد الأسماء والصفات أو جهله أن هذا النوع لو كان هاماً ويتوقف عليه كفر وإيمان لما جهله وضل عنه أناس فاضلون وعلماء أجلاء شهد لهم المسلمون بالخير والفضل . . والذي قاله هذا أصل عظيم من أصول الضلال والباطل، وذلك أن الحق هو ما قرره الله ورسوله، وكل ما خالف الحق فباطل لقوله تعالى : { فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون } فإذا شهدنا وعلمنا أن عقيدة ما، أو قولاً ما هو الحق وأن هذا ما قرره الله ورسوله وجب علينا أن نشهد بما شهد به الله ورسوله، ولو خالف ذلك من خالف، وذلك أن لا أحد معصوم عن الخطأ بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، والعالم المجتهد معذور فيما خالف فيه الحق سواء كان متأولاً أو مجتهداً أو ناسياً، أو جاهلاً بدليل ما أو حكم ما . ولا يجوز لمسلم استبان له الحق أن يتركه لقول قائل كائناً من كان هذا القائل ولو فعل لكان ضالاً معرضاً عن كلام الله وكلام رسوله .
المتأول المجتهد معذور(/3)
ولكن المسلمين مجمعون على أن المتأول المجتهد معذور في اجتهاده وتأويله ما دام أنه مريد للحق ساع إليه وسواء كان اجتهاده وتأوله في أمور الاعتقاد أو أمور العمل . ولو أن كل مسلم طلب منه أن يفهم الحق على حقيقته، وأن يعلم حكم الله في كل مسألة لكان هذا تكليفاً بما لا يطاق، والحال أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها . فإذا كان العالم مريداً للحق ساعياً إليه وأخطأ بتأويل أو اجتهاد فإنه معذور عند الله سبحانه وتعالى وهذا ما أجمعت الأمة عليه عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم [ إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران ] ( رواه البخاري ومسلم ) . ولقوله تعالى : { وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم } ولقوله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } .
يقول ابن تيمية رحمه الله ( الفتاوى ص282 ج3 ) : " ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة فإن الله تعالى قال : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم " .
واستطرد رحمه الله قائلاً :
" والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم وإذا كان هؤلاء الذين قد ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسولهم صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفة الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم ؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها، وإذا كانت فيها بدعة محققة " .
وقال أيضاً رحمه الله :
" وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التفكير لم يكفر بذلك كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق . فقال النبي صلى الله عليه وسلم [ إنه قد شهد بدراً، وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ] . وهذا في الصحيحين وفيهما أيضاً من حديث الإفك : أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة : إنك منافق تجادل عن المنافقين . واختصم الفريقان فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم إنك منافق، ولم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم لا هذا ولا ذاك، بل شهد للجميع بالجنة . وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلاً بعدما قال لا إله إلا الله، وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره وقال يا أسامة، أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟ وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة : تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ومع هذا لم يوجب عليه قوداً، ولا دية، ولا كفارة، لأنه كان متأولاً ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذاً . فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضاً من أهل الجمل وصفين ونحوهم، وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم، وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون، أمر بالإصلاح بينهم بالعدل، ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض، ويتوارثون ويتناكحون، ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك " . انتهى عنه بلفظه .
لا يجوز اتباع أخطاء العلماء(/4)
ومع أن المجتهد معذور ومأجور، والمتأول كذلك معذور فإنه لا يجوز لنا اتباع ما علمنا أنه خطأ أو مخالف للكتاب والسنة ولذلك قال الإمام الشافعي " أجمع المسلمون أنه لا يجوز لمسلم استبانت له سنة رسول الله أن يتركها لقول قائل كائناً من كان " فكيف إذا استبان لنا عقيدة رأي بعض العلماء خلافها وعلمنا نحن ثبوتها بالقرآن والسنة ؟ ! ولذلك فنحن نقول لمن يريد أن يميع حقائق الدين اتباعاً في زعمه لبعض التأويلات والفتاوى أما أن تعتقد أن هذه التأويلات هي الحق فيجب عليك عند ذلك اتباعها، وأما أن تعتقد أنها باطل فيجب عليك اجتنابها . وأما صاحب التأويل فهو معذور عند الله إن كان من علماء المسلمين وممن يريد الحق ويسعى إليه . وأما نحن فلا نكون معذورين إذا استبان لنا الحق فتركناه اتباعاً لفلان أو فلان .
القول بجواز اتباع أخطاء العلماء من أكبر أصول الضلال
وختاماً لا شك أن إجازة اتباع ما ثبت أنه خطأ من أقوال العلماء والفقهاء من أكبر أصول الضلال، ولو جاز لنا أن نتبع ذلك لبدلنا العقائد والشرائع جميعاً، فقد أفتى بسقوط الصلاة عن الجنب الذي لم يجد ماء، وبجواز نكاح المتعة، وبأن معراج الرسول وإسراءه كان مناماً، وبانعقاد الحلف والتوسل بالنبي وبجواز نكاح أم المزني بها، وبجواز شرب الخمر من غير العنب، وأولت كثير من صفات الله وأسمائه . . وكل هذا ثابت عن علماء فضلاء وصحابة أجلاء فكيف بمن دونهم في العلم والفضل ولو جاز لنا أن نفتي بكل ما قيل لتبدل الدين كله عقيدة وشريعة .
الفصل الثالث آثار الإيمان بصفات الله تعالى في قلب المؤمن
أمرنا الله عز وجل وعلا بالإيمان به سبحانه، كما أمرنا كذلك بالإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وقضائه وقدره، ولا شك أن الإيمان بالله هو ركن الإيمان الأعظم بل سائر أركان الإيمان راجعه إلى الإيمان به جل وعلا .
ولما كنا لم نر الله سبحانه ولا نراه في الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم [ واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا ] . رواه البخاري . . فإن الله سبحانه وتعالى وصف لنا نفسه وأخبرنا عن ذاته العلية لنصدق بذلك أولاً، ونشهد له سبحانه بما شهد لنفسه، وليكون لتصديقنا بما وصف به نفسه أثر في قلوبنا وذلك هو الإيمان . فعندما يخبرنا سبحانه أنه الإله الواحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوءاً أحد يستلزم هذا منا أن ندعوه وحده، ونعبده وحده، ونجعله وحده غايتنا وقبلتنا ولا نشرك معه غيره، ولا ندعي أن سواه مشابه له لأن كل شيء غيره متولد حادث يوجد ما يشابهه ويماثله، وهكذا إذا أخبرنا سبحانه أنه الرحمن الرحيم سكب هذا في قلوبنا من محبته والطمع في مغفرته ورضوانه ما يستعد كل قلب مؤمن لاستقبال ذلك . وكذلك إذا أخبرنا سبحانه وتعالى عن ذاته العليا أنه جبار ذو انتقام شديد العقاب فإن هذا يورث في قلب المؤمن خوفاً منه وتعظيماً له، ومراعاة لحدوده وأوامره، وهكذا يصبح لكل اسم من أسماء الله تعالى وصفة من صفاته جل وعلا أثرها في قلب العباد المؤمنين .
لكل صفة من صفات الله أثر في قلب المؤمن
وقد يظن بعض الجاهلين أن هناك صفات مما وصف الله بها نفسه، أو وصفه بها رسوله لا أثر لها في الإيمان ولا أهمية لذكرها أو استحضارها في القلب وسواء على المؤمن عرفها أم لم يعرفها، أنكرها أو أثبتها، وهذا قد يكون مرده الزندقة واتباع ما تقاولت به ن تسموا بالفلاسفة الذين وصفوا الله تعالى بصفات من عند أنفسهم وأنكروا وجحدوا ما وصف الله به نفسه وصفه به رسوله .
ولا شك أنه ليست هناك صفة لله في القرآن أو في السنة إلا وقد ساقها الله لحكمة ومنفعة وغاية ولولا ذلك لما ساقها ولما ذكرها لأن كلام الله وكلام رسوله ينزه عن العبث واللغو والحشو . ومن ظن أن الله يحشو كلامه بما لا فائدة في ذكره أو لا غاية من ورائه أو لا أهمية له فقد اتهم الله بالنقص واللغو وهذا يصدق في كل ما نكلم الله به في أي موضوع . فكيف إذا تكلم الله بكلام يعظم فيه نفسه، ويعرف فيه خلقه بذاته العلية وصفاته السنية . لا شك أن الله فيما يصف فيه نفسه إنما يرشدنا إلى أعظم باب من أبواب الإيمان وهو الإيمان به سبحانه وتعالى .
ولننظر إلى بعض الصفات التي قد يظن بعض الجهلة والجاحدين أنه لا أهمية لها أو لا يضر جهلها كما لا ينفع العلم بها :
أ- لا تأخذه سنة ولا نوم :(/5)
وصف الله نفسه في أعظم آية من القرآن كما جاء في حديث الصحيحين أنه لا تأخذه سنة ولا نوم فقال سبحانه { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } ولا شك أن نفي الله عن نفسه للنوم وللأقل منه وهو السنة دليل على قيوميته وكمال حياته، وعدم تطرق النقص والغفلة إليه كما قال تعالى أيضاً { لا يضل ربي ولا ينسى } وقال رسوله صلى الله عليه وسلم : [ إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط وبرفعه . . ] الحديث . ولو قال قائل ما فائدة ذكر هذا في الآيات والأحاديث لقلنا أنه لبيان قيومية الله سبحانه وتعالى، وكمال حياته وعدم تطرق الخلل والنسيان والغفلة لذاته، والإيمان بذلك له أثره ولا شك في قلب المؤمن الذي ما أن يشهد لله بذلك حتى يعظم شأنه الله، ويعلم أنه مطلع على خفياته، سميع له في أي ساعة دعاه من ليل أو نهار، وأنه لا يغيب عنه سبحانه عمل عامل من خير وشر . . وهكذا .
ب- يد الله :
ومن الصفات التي جحدتها قلوب النفاة، وأنكرها الزنادقة قديماً، وصف الله نفسه سبحانه بأن له يدين وهذا ما قد مدح الله به نفسه في آيات كثيرة من كتابه وقد مدحه به النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة فمن الآيات قوله تعالى : { تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير } وقوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } وقوله تعالى مادحاً نفسه مبيناً فضله وتفضله على بني آدم إذ خلقه بيديه قال تعالى لإبليس { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } وكذلك لما اتهم اليهود الله سبحانه وتعالى بأنه بخيل وأنه لا ينفق فقالوا { يد الله مغلولة } رد الله سبحانه وتعالى عليهم قائلاً : { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } .
وقد جاءت الأحاديث الكثيرة التي تمدح الله بهذه الصفة وتبين كثرة عطاء الله وقدرته وعظمته من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال صلى الله عليه وسلم : [ قال الله عز وجل : أنفق أنفق عليك ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : [ يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار ] وقال صلى الله عليه وسلم : [ أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنها لم تغض ما في يده وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان يخفض ويرفع ] ( متفق عليه ) .
وكل هذا بيان لعظيم عطاء الله وسعة فضله وأن يده الكريمة جل وعلا دائمة العطاء والإنفاق، ويشبه هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً : [ ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت ثمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ] ( مسلم ) .
وفي هذا الحديث إثبات الكف، وبيان عظيم فضل الله سبحانه وتعالى وإحسانه وأنه يتقبل من العباد صدقاتهم وينميها لهم ويحاسبهم على النماء وينميها ولا شك أن هذا له تأثيره في قلب المؤمن من محبة الله ورضوانه .
وفي مجال قوة الله سبحانه وتعالى وجبروته وبطشه يقول صلى الله عليه وسلم : [ إن الله يقبض يوم القيامة الأرض وتكون السموات بيمينه ثم يقول : أنا الملك ] ( رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما ) ، وفي رواية أخرى [ فيجعلهما في كفة ثم يرمي بهما كما يرمي الغلام بالكرة ] .
وفي هذا بيان لعظمة الله وكمال قدرته وأن السموات والأرض يوم القيامة تكون بيمينه .
وكذلك جاء في حديث عبدالله بن مسعود عن البخاري ومسلم أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع ثم يقول أنا الملك . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه . ثم قرأ : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } .
ولا شك أن أثر الإيمان بهذه الصفة في قلب المؤمن عظيم لأنها تورث القلب المهابة لله والخوف منه وتعظيم أمره وشأنه، وأنه الملك الذي قهر الملوك، وأنه لا مفر من قبضته، ولا ملجأ منه إلا إليه .
أين دعاة الحاكمية من هذه الصفات ؟
ولو أن دعاة الحاكمية الذين لا يرون غيرها من صفة الله عقلوا هذه الصفات ونشروها في الأمة لكان أعظم معين لهم على تذكير الناس بربهم ودفع الناس إلى امتثال أوامره واجتناب نواهيه واستصغار شأن الجبابرة من ملوك الأرض الذين يشرعون لأنفسهم ولشعوبهم ما لم يشرعه الله ! ولاستطاعوا تنفير الناس عن التحاكم إلى الطواغيت بل التحاكم إلى الملك الجبار الذي تتضاءل في يده السموات والأرض .(/6)
ولكن للأسف يقوم أحدهم خطيباً فيقول : " أنا لا أعلم كيف أوحد أن لله يداً، لا أعلم، لا أعلم كيف تتم هذه المسألة ؟ كيف أبني عملاً على هذه القضية " أ . هـ . ونحن نقول : وإذا لم تعلم يكون ماذا ؟ ! وإذا جهلت ؟ ! فما ضر المسلمين جهلك ؟ ! وصغار طلبة العلم يعلمون ذلك، وقد شهد الله لنفسه وشهد رسول لنفسه وعظموا الله بما عظم به نفسه، ولن يضير المسلمين أن يخرج بينهم بين الحين والحين من يجهل صفة الله أو يجحدها أو يشكك فيها وستبقى طائفة على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يقاتل آخرهم الدجال والحمدلله رب العالمين .
الفصل الرابع منهج القرآن في تثبيت دعائم الإيمان
* زعم المبطلون أن العناية بتثبيت أركان العقيدة، والدفاع عن حوزتها، ودفع شبهات الضالين والمنحرفين حولها . زعموا أن هذا مشغلة للمسلمين وانحراف عن السبيل، وغلو مذموم، ولم يكتفوا بذلك بل تطاولوا على كتب علماء السنة فعرضوا بكتاب العقيدة الطحاوية، وبكتاب العقيدة الواسطية وجعلوا الانشغال بهذه الكتب وأمثالها مفسدة وضلالاً وتشدداً وتنطعاً والحال أنها كتب عصم الله بها أجيال المسلمين المهتدية على مدى القرون السالفة من الشرك والوثنيات التي حدثت بعد عصر النبوة ولبست لباس الإسلام . وإمعاناً من هؤلاء المبطلين في الكيد والتضليل زعموا أن طريقة القرآن ليست كذلك موهمين الناس أن القرآن لم يتعرض لبيان العقيدة ومناقشة المبطلين والرد على الشبهات، ولما كان عامة الذين يرددون مثل هذه الأقوال ممن لا فقه لهم بقرآن ولا سنة، ولا بسيرة الصحابة والسلف الذين عاشوا عمرهم مدافعين عن عقيدة الإسلام من انتحال المبطلين، وتأويل المفسدين ولذلك أحببت هنا أن أبين جانباً من منهج القرآن في الرد على شبهات المعاندين وتثبيت دعائم الإيمان لدى المؤمنين .
أولاً : القرآن وثيقة عقائدية :
أعلم أخي أن القرآن يكاد يكون بكامله وثيقة عقائدية لم يترك أهل ملة ودين ممن عاصر نزوله إلا وناقشهم في معتقدهم، وأجاب على تساؤلاتهم، وفند أقوالهم وقد كان منهج القرآن في تثبيت عقيدة الإسلام على شعبتين .
الأولى، الإخبار المجرد عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، كقوله تعالى عن نفسه : { الله لا إله إلا هو الحق القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم } .
وقوله تعالى : { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم . هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون } وقوله تعالى : { قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد } .
وكذلك قوله عن الملائكة : { الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع } . . الآية . وكذلك وصفه وإخباره عن رسله وكذلك عن يوم القيامة وما يكون فيه .(/7)
وأما الطريق الآخر الذي سلكه القرآن في تثبيت دعائم العقيدة فهو هذه الردود الكثيرة على شبهات الضالين فقد ناقش القرآن الكفار من مشركي العرب في عقائدهم ورد على شبهاتهم، وكذلك ناقش النصارى واليهود، والملاحدة، في عقائدهم ورد عليهم وأبطل دعاويهم وادعاءاتهم سواء فيما يختص بصفات الله سبحانه وتعالى أو ما يختص بملائكته، أو رسله أو قضائه وقدره، فلما نسب مشركو العرب الولد لله فقالوا الملائكة بنات الله وكذلك فعل النصارى في عيسى، وفعل اليهود في عزير قال تعالى رداً عليهم : { وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } . . الآيات . وزعم الكفار أن الله عاجز عن إحيائهم بعد الموت فقال تعالى : { وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه وقال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم } . . الآية . واتهم اليهود الله بالبخل فقالوا : { يد الله مغلولة } فقال تعالى رداً عليهم : { غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان } وقالوا أيضاً نحن أبناء الله وأحباؤه فلا يعذبنا فقال تعالى : { بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } . ولما زعم كفار العرب الشفاعة للملائكة والأصنام قال تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } وقال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } ولما احتجوا بالقدر علم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم طريقة الرد عليهم فقال تعالى : { سيقول الذين اشركوا لو شاء الله ما اشركنا ولا اباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا باسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ان تتبعون الا الظن وان انتم الا تخرصون قل فلله الحجة البالغة } . . الآية . ولو قرأنا القرآن متدبرين لوجدنا في سورة البقرة وحدها مائة وستين آية في الرد على شبهات اليهود العقائدية . وفي آل عمران جاءت معظم السورة في الرد على شبهات النصارى، والمشركين . وفي النساء والمائدة مع أنهما من سور الأحكام إلا أنهما مليئتان بالرد على اليهود والنصارى، وعامة شبهاتهم في العقيدة وفيها كذلك الرد على المنافقين الذين ظنوا جواز اتباع الإسلام في العبادات، والتحاكم إلى غيره في المعاملات فبين تعالى كفر من زعم ذلك وحكم بأنه لا إيمان إلا بإخلاص الطاعة لله ووجوب التحاكم في كل شجار إلى حكمه وحكم رسوله كما قال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} .
والمهم من كل ذلك هو ذكر إشارات وتنبيهات فقط أن القرآن وثيقة عقائدية إيمانية، وقد ذكر بعض العلماء أن آيات الأحكام العملية مائتا آية فقط، وباقي القرآن الذي يربو على ستة آلاف آية كلها في مناقشات عقائدية .
ولا شك أن القرآن ناقش العقائد الموجودة في وقته وما سيزعمه الناس بعد وقت نزوله، ورد على كل العقائد الباطلة المعاصرة لوقت النزول، وهكذا أيضاً جادل رسول الله المشركين واليهود والنصارى، والسنة مليئة بمناقشات الرسول وجداله لليهود والمشركين والنصارى .
جهاد السلف في مجال العقيدة
وهكذا أيضاً فعل سلف الأمة الصالحون فعندما خرجوا من هذه الجزيرة اصطدموا بطوائف وملل كثيرة كالمجوس والزنادقة والفلاسفة الملحدين أو ما يسمونهم بالإلهيين، ويخطيء من يظن أن السيف الإسلامي هو الذي حسم المعركة وحده مع كل أولئك وأن انتصار المسلمين بالسيف قضى على تلك العقائد بل كانت هناك معارك مصاحبة ومتوازية مع معركة السيف وهي معركة القلم والعلم والقرآن والعقيدة انتصر فيها علماء المسلمين على دعاة الوثنية والمجوسية، والزندقة والإلحاد، ألفت الكتب الكثيرة في الرد على كل انحراف ينشأ في المسلمين تأثراً بهذه الملل الكافرة، أو على هذه الملل بذاتها .
مذاهب الكفر والزندقة المعاصرة(/8)
ويخطيء من يظن أيضاً أن عقائد الزنادقة، والمجوس والوثنية وسفسطة الفلاسفة قد اختفت من بين المسلمين اليوم ولا حاجة إلى الدراسة والرد على مثل هذه العقائد . فما المغالاة في الأولياء والصالحين والطواف بقبورهم والتوسل والاستشفاع بهم إلا عقائد الوثنية تأثر بها عوام المسلمين وجهالهم بل وبالتالي طائفة من علمائهم والمقدمين المشهورين فيهم وما عبادة الحكام والتحاكم إلى الطواغيت وتقديس الملوك إلا وثنية جديدة وشركاً جديداً قديماً، يسير فيه عامة المسلمين اليوم بجهل منهم أو عناد، وما صرف صفات الله عن معانيها الحقيقية ونفي ما وصف الله به نفسه من اليد والوجه والحب والبغض، والساق والقدم، والمجيء والاستواء والضحك والكلام بصوت يسمعه القريب والبعيد ما نفي ذلك إلا زندقة قديمة انتشرت قديماً وحار بها علماء السنة وكفروا أهلها وقتلوهم شر قتلة وما زال أتباعها إلى اليوم يملأون دور العلم ويفرضون عقيدتهم الباطلة على أجيال المسلمين، ويكفرون من لا يعتقد عقيدتهم، ويرمون بالتشدد والإفراط من يثبت لله ما أثبت الله لنفسه، ومن ينفي عن الله ما نفاه سبحانه عن نفسه، وما وحدة الوجود التي يؤمن بها عامة رجال التصوف الذين ما زالوا يملأون العالم الإسلامي إلا عقائد الهندوس والمجوس، بل إن الفتن العقائدية اليوم هي أبلغ ما يجابه المسلمين من مشاكل فكم من كفر اليوم يلبس لباس الإسلام، ويريد فرض نفسه على ديار المسلمين فما القول بالعصمة والرجعة، وكفر الصحابة وتبديل القرآن، وفشل الرسول في إبلاغ رسالة الإسلام إلا هدم جديد للدين يلبس لباس الإسلام . وما التفريق بين بعض الدين وبعض وجعل الدين هو العبادة فقط وفصل شؤون الاقتصاد والسياسة والاجتماع إلا هدم للدين وإلغاء لدوره الحقيقي من الحياة وما الخرافات والخزعبلات التي تسود عقائد المسلمين إلا جاهليات قديمة تلبس لباساً عصرياً وكل هذا وهذا يحتاج إلى دفاع واللسان آلته وميدانه وما يريد المبطلون اليوم إلا تخريج قطعان من المسلمين لا يدرون إلى أين يساقون وأي عقيدة يعتقدون وبأي زنديق أو مشرك يأتمون ويقتدون .
ونحن بحمدالله في مجال الدعوة نقول كما قال الله لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فنوجب على العالم ما لا يجب على طالب العلم المبتدئ، ونوجب على طالب العلم ما لا يجب على الأمي العامي، وكل عليه أن يدعو بما يسره الله له . وكذلك لا نقول لا يكون مسلماً إلا من قرأ كتب السلف في الردود على أهل الزندقة والباطل بل نقول، لا يكون مسلماً على الحقيقة إلا من آمن بما أخبر الله عن نفسه دون تحريف أو تشبيه أو تعطيل، ومن كانت عنده شبهة وجب عليه معرفة الحق فيها، ووجب علينا تعليمه حتى يفارق الكفر أو الشرك أو الزندقة، ومنهجنا هو بناء المسلم العقائدي الذي يدافع ما استطاع عن عقيدة التوحيد، ويقف صامداً ضد عقائد الوثنية والكفر .(/9)
الرد على من أنكر حجية السنة
مدخل :
السنة شقيقة القرآن ومثيلته في الحجية والاعتبار ، فهما مصدر الدين وكلاهما وحي من الله بأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة . ومنها ما جاء مؤكد لأحكام القرآن ومنها ما هو مبين للقرآن : تفصيلا لمجمله وتوضيحا لمشكله وتخصيصا لعامه وتقيدا لمطلقه وتبينا لمبهمه وردا لمتشابهه إلى محكمه ، ومنها ما جاء بتشريعات مستقلة عنه . وهي حجة شرعية يستوي في ذلك المتواتر منها والآحاد حيث الإعتبار بثقة النقلة وليس بعددهم وحجيتها من أصول الدين وهي مرتبطة بالإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ومنكرها خارج من الملة .وحاول أعداء الإسلام أن يشككوا في هذا ليفتنوا المسلمين فرد الله كيدهم . ومع تفشي الجهل في عصرنا الحالي وجب بيان هذه الحقيقة .
معنى حجية السنة وبيان مكانتها في الإسلام ومنزلتها من القرآن الكريم
1. معنى حجية السنة :
لغة البرهان واصطلاحا أن السنة دليل شرعي يدل على حكم الله تعالى وأن الله قد تعبدنا باتباع ما أمرت به واجتناب ما نهت عنه فهي مصدر للدين أساسي والشطر الثاني له فيجب اعتقاد مضمونها والعمل بمقتضاها في جميع جوانب حياة الناس ومعادهم .
2. مكانة السنة في الإسلام :
أصل الدين ومصدره الوحي وله قسمين متكاملين لا غنى لأحدهما عن الآخر وهما: القرآن والسنة . فالسنة مثل القرآن في الحجية وشطر الدين وأحد الأصلين ومصدر الإسلام مع القرآن وبدونها يتعذر فهم القرآن وعبادة الله حيث يستمد منها العقيدة الصحيحة وأحكام العبادات والمعاملات والأخلاق والآداب والفضائل والقوانين السياسية الداخلية للدولة المسلمة وعلاقاتها الدولية ونظم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية والفكرية وسلوكها في الحرب والسلم حيث هي منهج للحياة كامل . وهذا هو مكان السنة كما فهمها السلف وطبقوها فنالوا خيري الدنيا والآخرة .
3. منزلة السنة من القرآن :
نص الإمام الشافعي ووافقه جمهور العلماء على ثلاثة أقسام للسنة من حيث دلالتها على العقائد والأحكام الواردة في القرآن الكريم وهي:
أولا: السنة المؤكدة :حيث تدل على الحكم الشرعي كما يدل عليه القرآن وموافقة له في الإجمال والاختصار والشرح للتأكيد مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه ) 1يوافق قوله تعالى ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) 1.
ثانيا :السنة المبينة : التي توضح مراد الله في القرآن وهو أغلب السنة وله أربعة أنواع :
1.تفصيل المجمل مثل نصاب الزكاة .
2.توضيح المشكل مثل بيان المراد من الخيط الأبيض والأسود في وقت الإمساك .
3.تقييد المطلق مثل بيان قطع اليد اليمنى للسارق .
4.تخصيص العام مثل تخصيص ميراث الأولاد لغير القاتل .
ثالثاً :السنة المستقلة بالتشريع :مثل بيان ميراث الجدة وتحريم الذهب والحرير للرجال .
استقلال السنة بالتشريع
أ.معنى استقلال السنة بالتشريع :
يعني أنها جاءت بمعتقدات وأحكام لم ينص عليها القرآن وأنها حجة في إضافة تشريعات حيث أن الكل وحي من الله تعالى .
ب.أقوال العلماء في استقلال السنة بالتشريع :
اجمع العلماء قديما وحديثا على أن السنة تأتي بأحكام لم يثبتها القرآن ولم ينفها وأنها حجة شرعية فيها ملزمة لها
أدلة استقلال السنة بالتشريع :
1.دل القرآن الكريم والسنة والإجماع على أن السنة وحي من الله .
2.إن نصوص القرآن الدالة على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تفرق بين السنة المؤكدة والمبينة والمستقلة بالتشريع .
3.إن نصوص القرآن دلت على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستقلال مثل قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم ..) 2.
4.إن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم بدلالة المعجزة عن الخطأ في التبليغ عن ربه بوحي متلو أو غير متلو مبين أو مؤكد أو مستقل .
5.إن القول بعدم استقلال السنة بالتشريع يقتضي القول بعدم تبيينها لما في القرآن لأن في التبيين نوع استقلال في تفاصيل الحكم المبين كتفاصيل الصلاة مثلا .
قال الإمام الشافعي : ( وما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس لله فيه حكم (أي في القرآن) فبحكم الله سنه، وكذلك أخبرنا الله في قوله : ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله ) 3.
أدلة حجية السنة
إن السنة المطهرة حجة شرعية تعبدنا باعتقاد مضمونها والعمل بمقتضاها وهي شقيقة القرآن ومثيلته في الحجية والاعتبار حيث هما جميعا من عند الله تعالى والأدلة على ذلك من القرآن والسنة والإجماع والعصمة وتعذر العمل بالقرآن وحده :
الأدلة من القرآن :
1.الآيات الدالة على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته والتحذير من مخالفته :
- ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ) 4.(/1)
- ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) 5.
- ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ..) 6.
- ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) 7.
- ( فليحذر الذين يخالفون عن أره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) 8.
2.الآيات الدالة على وجوب الإيمان به أي الإذعان والتصديق والتسليم له واتباعه وقبول شريعته حكمه وقضائه :
- ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) 9.
- ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه)10.
3.الآيات الدالة على أ ن الرسول صلى الله عليه وسلم مبين للكتاب وشارح له شرح معتبر عند الله تعالى ومطابق لما شرعه لعباده وأنه صلى الله عليه وسلم معلم لأمته لأمرين الكتاب والحكمة (وهي السنة) :
- (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك لما لم تكن كعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) 11فالحكمة أي السنة .
- (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) 12فرأى الشافعي وغيره أن الحكمة السنة.
4.الآيات الدالة على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما يصدر عته وأن ذلك من ثمرات محبة العبد لربه:
- ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ) 13.
- ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا )14 قال الترمذي : الأسوة الحسنة في الرسول الاقتداء به والاتباع لسنته وترك مخالفته في قول أو فعل .
5.الآيات الدالة على أن الله أمره بتبليغ رسالته قرآنا وسنة وأنه عصمه من التبديل والتحريف يفيد التمسك بالسنة :
- (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) 15.
- ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس )16.
- ( اتبع ما يوحى إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين )17 .
الأدلة من السنة :
تعددت الأحاديث الدالة على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتنوعت فيمكن تقسيمها موضوعيا إلى :
1.الأحاديث الدالة على أن السنة تماثل القرآن في الحجية وأنه لا يمكن معرفة الشرع من القرآن وحده :
- قوله صلى الله عليه وسلم : ( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أركته يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيهمن حرام فحرموه ، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله ) 2.
- قوله صلى الله عليه وسلم: ( يا أيها الناس إني ما آمركم إلا ما أمركم به الله، ولا أنهاكم إلا عما نهاكم الله عنه ..) 3.
- صلى الله عليه وسلم( من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ) 4.
- قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الدين بدأ غريباً ويرجع غريباً فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسده الناس من بعدي من سنتي ) 5.
2.الأحاديث التي يأمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بسنته ويحذر من اتباع الهوى والاستقلال بالرأي :
- قوله صلى الله عليه وسلم: ( دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم ) 6.
- عن عائشة t قالت : ( صنع رسول الله (ص) شيئا ترخص فيه فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ( ما بال قوم يتنزهون عن الشئ أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية )7 .
- عن العرباض بن سارية t قال : ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل : يا رسول الله ، كأن هذه موعظة مودع ، فماذا تعهد إلينا ؟ فقال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كن عبداً حبشياً ، فإنه من يعش بعدكم سيرى اختلافاً كثيراً. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين: تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ) 8.
3.الأحاديث التي فيها الأمر بسماع السنة وتبليغها ونشرها بين لناس مما يدل على حجيتها:
- قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ( ألا فليبلغ الشاهد الغائب ) 9.
- قوله صلى الله عليه وسلم: ( نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداه ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ) 10.
- قوله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم ارحم خلفائي ، قلنا يا رسول الله ومن خلفاؤك ؟ قال : الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي، ويعلمونها الناس)11.(/2)
- قوله صلى الله عليه وسلم: ( بلغوا عني ولو آية وحدثوا عني ولا تكذبوا فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ) 12.
دليل الإجماع :
فقد أجمع المسلمون سلفاً وخلفاً على أن السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم حجة شرعية كما نقل عن كثير من العلماء مثل الشافعي وابن عبد البر وابن حزم وابن تيميه وابن القيم مثل قول ابن حزم : ولو أن امرأ قال : لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافر بإجماع الأمة وتواتر عن الأئمة الأربعة نحو هذه العبارة ( إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي عرض الحائط ) وقول الشوكاني : ( إن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بالتشريع ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في دين الإسلام ).
عصمة النبي صلى الله عليه وسلم :
دل الشرع وانعقد الإجماع على أن النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء معصومون من جميع ما يخل بتبليغ الرسالة من الخطأ والنسيان والكتمان والتقصير والكذب وتسلط الشيطان والأهواء والشك ومن أدلته :
1.دلالة المعجزة : وهي القرآن الذي تحدى به فصحاء العرب يدل على أنه معصوم في جميع ما يبلغ عنه .
2.أن الله قد شهد له بالبلاغ والصدق وأنه متمسك بما أوحي إليه (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله) وقال : ( والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم *وما غوى وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى )18.
3.أخبر القرآن أنه لا يزيد ولا ينقص في الشرع ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ) 19.
4.قوله تعالى : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) 20.
5.إن الله قد حمى رسوله من إضلال أعداء الإسلام له ( ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ )21 فلا يستطيعون التأثير عليه .
6.إنه صلى الله عليه وسلم معصوم من كيد الشيطان ووسوسته وإغوائه، فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن لكل منكم قريناً . فقالت عائشة : حتى أنت يا رسول الله ، قال: حتى أنا ولكن الله أعانني عليه فأسلم )13 .
7.شهد الله له في آخر زمنه بإكمال الرسالة ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) 22.
- تعذر العمل بالقرآن وحده :
كبيان كيفية الصلاة وعدد ركعاتها وأوقاتها وبيان نصاب والزكاة في قوله تعالى ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة )23 وبيان ما المراد بالحج والعمرة وشروطهما في قوله تعالى ( وأتموا الحج والعمرة لله ..) 24وبيان ما هي السرقة الموجبة للقطع وما نصابها وما هو موضع القطع في قوله تعالى ( والساق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله ..) 24.
هل اختلف المتقدمون في حجية السنة
إن حجية السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما علم من الدين بالضرورة لتظاهر لأدلة على ذلك وهو مرتبطة بأصول العقيدة وهي الترجمة الحقيقية للإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يقع في ذلك نزاع بين المسلمين ممن يعتد بهم في هذا فكانت من المسلمات الأساسية والبديهية ولذا لم يتناولها المصنفون بالبيان . جاء في كتاب مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت ( إن حجية الكتاب والسنة والقياس من علم الكلام ، لكن تعرض الأصولي لحجية الإجماع والقياس ، لأنهما كثر فيهما الشغب من الحمقى من الخوارج والروافض ، خذلهم الله تعالى، وأما حجية الكتاب والسنة فمتفق عيها عند الأمة ممن يدعي التدين كافة، فلا حاجة إلى الذكر )
---------------
ملخص من كتاب حجية السنة للدكتور حسين الشواط(/3)
الرد علي الفرقان الحق د / ابراهيم عوض.
كلمة سريعة
فى الصفحات التالية دراسة وتفنيد لما يُسمَّى بـ " الفرقان الحق " ، وهو عبارة عن مجموعة من السُّوَر تتجاوز الخمسين ، لفَّقَتْها ، فى الفترة الأخيرة على غرار القرآن الكريم ، بعضُ الجهات التبشيرية المتعاونة مع الصهيونية العالمية بتخطيط أمريكى ؛ بغية أن تحلّ مع الأيام فى نفوس المسلمين محل القرآن المجيد.
وفى هذه السُّوَر هجومٌ كله إقذاع وفُحْش على سيد الأنبياء والمرسلين ، واتهامٌ بذىء بالكفر والضلال والنفاق له عليه الصلاة والسلام ، وتسفيهٌ لكل شىء جاء به الإسلام من توحيدٍ ونعيمٍ أُخْرَوِىّ وصلاةٍ وصيامٍ وحجٍّ وجهادٍ وطهارةٍ وتشريعاتٍ أسريةٍ … ، وادِّعاءٌ بأن كتاب الله إنما هو وحىُ شيطانٍ إلى شيطان ، وتمجيدٌ للتثليث النصرانى ومداعبةٌ من طَرْفٍ خفى لليهود …
وقد نبَّه عدد من الصحف العربية مؤخرا لهذا الكتاب ، وقدَّم بعضُها عرضًا سريعا له أبرز فيه الغايات التى يهدف ملفقوه إليها. لكن ْ لم يصل إلى علمى أن أحدًا قد حاول أن يدرس دراسةً تحليليةً هذه السُّوَر التى يقدمها ملفقوها إلى القراء بوصفها وحيا إلهيا ، وهذا ما حَفَزنى للقيام بهذه المهمة تبصرةً للأمة بالأخطار التى تتهدد عقيدتها كى تكون على حذرٍ مما يُخَطَّط لها وتأهُّبٍ يقظٍ لما يمكن أن تتمخض عنه الأيام من مصائب ومؤامرات .
وقد استبان لى بعد الدراسة التى قمت بها لتلك النصوص أن أصحابها لم يكونوا بالذكاء الذى تتطلبه مثل هذه المؤامرة ، إذ إن الثقوب فيها كثيرة وشنيعة .
وهذا من شأنه أن يؤكد لنا أن الأعداء ، رغم تفوقهم العلمى والاقتصادى والعسكرى ، ليسوا معصومين بل كثيرا ما يقعون فى الأخطاء المضحكة ، وأننا نستطيع أن نضع أيدينا على جوانب ضعفهم وأن نستفيد منها ونحوِّلها إلى نقاط قوة لنا لو صحَّتْ منّا العزيمة وتسلَّحنا بالإخلاص والدأب والصبر والإيمان بالله والثقة بأنفسنا والغيرة على حاضر أمتنا ومستقبلها…
كما يؤكد أيضا أن دين الله لا يمكن أن يغلبه غالب مهما تآمر المتآمرون ومهما خطّطوا ومهما رصدوا الإمكانات والجهود . بيد أن هذا لا يعنى أن نغطّ فى نوم عميق ونَنْكِل عن أداء الواجب المَنُوط بنا ، وإلا وَكَلَنا الله للذلة والمهانة واستبدل بنا قومًا غيرنا للتشرف بحفظ دينه والعمل بما فيه من خيرٍ كفيلٍ بإبلاغ من يحرص عليه إلى قمم الذُّرَى العوالى فى القوة والتحضر !
فضيحة العصر - قرآن أمريكى ملفق
قرأت فى بعض الصحف العربية بأُخَرة عن ظهور كتاب بعنوان " الفرقان الحق " يهاجم القرآنَ هجوما شرسا، ويسبّ الرسولَ عليه السلام وأتباعَه أجمعين ، وعلى رأسهم الصحابة الكرام ، مع أن رقبةَ أىّ عِلْج من هؤلاء الذين لفقوا الكتاب لا تساوى قُلامةَ ظُفْر مما يطيِّره المقص من أظافر أرجلهم . وجاء فى بعض ما قرأناه من مقالات عن هذا الموضوع أن جهات تبشيرية وصهيونية محترقة تشرف عليها بعض الدوائر الأمريكية وراء هذا العمل الذى يجسد التعاون الوثيق بين هاتين الجهتين الحاقدتين على سيد الأنبياء عليه السلام والتوحيد النقى الذى جاء به فقَشَع العقائد الوثنية للهمجيين المغرمين بدماء البشر وتقريبها لأربابهم المتوحشين ، وكذلك العُنْجُهيّات القبلية اليهودية التى سوَّلَتْ لبنى إسرائيل ولا تزال أن الله ليس إلا ربًّا خاصًّا بهم دون سائر البشر .
وكدَيْدَنِى فى مثل هذه الأحوال أخذتُ أسأل هنا وههنا عن السبيل إلى الحصول على نسخة من ذلك الكتاب كى أفهم الموضوع من مصدره الأصلى ، حتى ألهمنى الله أن أبحث عنه فى المِشباك ( النِّتْ ) حيث وجدته فى موقع تابع لمركز تبشيرى اسمه :
" American Center of Divine Love "
قلت لنفسى : أقرأ كى ألم بالموضوع ، قبل أن أكتب عنه حسبما اقترح علىّ بعض من يُولُوننى ظنهم الحَسَن ممن يعرفون اهتماماتى بدراسة مثل هذه الكتب والنشرات ، وقرأت فألفيت أصحاب الموقع يعرضونه على أنه وحى سماوى .
أُوحِىَ إلى من ؟ لا أحد يعرف !
متى أُوحِى ؟ لا أحد يعرف !
فى أية ظروف أُوحِى ؟ لا أحد يعرف !(/1)
كما وجدته يفيض بالبذاءات فى حق رسولنا الطاهر النبيل الذى لم تنجب الأرض نظيره فى العبقرية والحنان والرحمة والفهم للطبيعة البشرية والحنو على ضعفها والرقة للمستضعفين والمكسورين والمحتاجين والتحمس لبناء حياة إنسانية مجيدة يسودها العمل والإنتاج والابتكار والعدل والمساواة دون تشنجات صبيانية عاجزة أو تهويمات خيالية فارغة أو أحقاد مريضة أو ادعاءات فارغة . باختصار : حياة إنسانية تنهض على دعامتين من المثالية والواقعية على نحو لم تعرف البشرية ولن تعرف له مثيلا ! فمحمد صلى الله عليه سلم ، فى هذا الوحى الشيطانى البذىء ، كافر ومنافق وضال مُضِلّ يفتري الكذب على الله وسارقٌ قاتلٌ زان ٍ، ومصيره جهنم هو ومن آمن به ، وبئس المصير ! وأتباعه كَفَرَةٌ منافقون ضالون لصوصٌ قَتَلَةٌ مثله ، وصلاتهم وصيامهم نفاق ما بعده نفاق ، وحجهم وثنية ، وجنتهم جنة الزنى والخنا والفجور ، والوحى القرآنى ليس وحيا إلهيا ، بل هو وحى تنزّلت به الشياطين الكاذبون على شيطان كاذب مثلهم !
ولم يكد الذين وضعوا هذا الكتاب السفيه ونسبوه تدليسا وافتراء إلى الله يتركون شيئا فى الإسلام إلا خصصوا للهجوم الحاقد البذىء السفيه عليه سورة أو أكثر أرادوا أن يحاكوا بها السور القرآنية ، وهيهات ، رغم أن كل شىء فى ذلك الكتاب تقريبا مسروق من القرآن الكريم بطريقة القص واللزق كما سنوضح لاحقا ، فضلا عن أن مصطلح " السورة " نفسه مسروق من كتابنا المجيد .
والانطباع الذى يخرج به على الفور من يقرأ هذا الكتاب هو أن ملفِّقيه مجرمون عُتَاة فى السفالة وقلة الأدب وأنهم تربية شوارع ، ولا يمكن أن يكون كلامهم هذا وحيا إلهيا بحال ؛ لأن الألوهية لا يمكن أن تنحدر إلى لغة الصِّيَاعة التى لا يحسنها إلا أرباب السجون المارقون وعصابات الحوارى والمآبين .
وقبل أن نمضى أبعد من ذلك يحسن أن نعرض على القارئ عينة من هذا الوحى المراحيضى كى يستطيع أن يتابعنا فيما يلى عن بينة .
عينة من هذا الوحى المراحيضى
تقول مثلا السطور التى سمَّوْها " سورة الأنبياء " : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين إنكم لتقولون قولا لَغْوًا ما كان شعرا ولا نثرا ولا قولا سديدا ( المقصود بذلك هو القرآن ) * إنْ هو إلا لغوٌ مردَّدٌ ترديدا * يرغِّب التابعين ترغيبا ويهدد المعرضين تهديدا * حَسُنَ وقعا فى نفوس عبادنا الضالين واستمرأه الجاهلون * سمٌّ فى دسمٍ ولكن أكثرهم لا يشعرون فلا يَبْغُون عنه محيدا * وحذرنا عبادنا المؤمنين من الرسل الأفاكين ( يقصدون سيد الرسل والنبيين ) فمن ثمارهم يُعْرَفون . فهل يُجْنَى من الشوكِ العنبُ أو من الَحسَكِ التين * أقوال يرتعد منها عبادنا المؤمنون هَلَعًا من التقتيل ونفورًا من الغزو وأَنَفًا من جنة الزنى والفجور * فإذا سمعوها اقشعرت أبدانهم فَرَقًا واستعاذوا بنا من الشيطان الرجيم * وما دَخَلَ الجنةَ من كرر الصلاة لغوا وأما الذين عملوا بمشيئتنا فأولئك هم عباده المفلحون لهم مقام فى الملكوت ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * إن الظن لا يغنى من الحق شيئا. وما السلام كالقتال وليس من يَلْقَى أخاه المؤمن بغصن الزيتون كمن يُشْرِع عليه سيفا فيقتله ذلك أنه من الكافرين * ونسختم بلَغْوكم قول التوراة والإنجيل الحق فألبستم الحق باطلا وافتريتم أقوالا ما أنزلنا بها من سلطان * وانتحل الوسواس الخناس اسمنا ووسوس فى صدور أوليائه بما ألقى فى رُوعهم من بهت وكفر وهم مصدّقوه فكان بعضهم لبعض ظهيرا * وأَمَرَهم بالمعروف مكرًا منه ونهاهم عن الفحشاء والمنكر والبَغْى قَوْلا إفكًا وحلله لهم تحليلا فكان فعلا مفعولا * وأغوى الجاهلين من عبادنا فاتَّبَعوه وأَبَى الجاهلون إلا ضلالا وكُفُورا * وقد صدَّق عليهم إبليس ظنَّه إذ اتبعوه وأما المؤمنون من عبادنا فما كان له عليهم من سلطان فما أغواهم ولا بدَّد لهم شملا فهم بما أنزلنا موقنون وبحبلنا معتصمون * وما بشرنا بنى إسرائيل برسول يأتى من بعد كلمتنا وما عساه أن يقول بعد أن قلنا كلمة الحق وأنزلنا سنة الكمال وبشرنا الناس كافة بدين الحق ولن يجدوا له نَسْخا ولا تبديلا إلى يوم يُبْعَثون * ولو بشرناهم لما كذّبوا وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه. فأَنَّى نبشِّر بنى إسرائيل برسول ليس منهم وما لسانه بلسانهم وعندهم موسى والأنبياء والمرسلون وقفَّينا على آثارهم بكلمتنا بالحق المبين * وحذّرْنا عبادنا المؤمنين من رسول أفاك تبيَّنوه من ثمار أفعاله وأقواله وكشفوا إفكه وسحره المبين فهو شيطان رجيم لقوم كافرين " .
هذا هو الكلام الذى تفتقت عنه أذهان بل أستاه هؤلاء المآبين ، وزعموا كفرا أنه وحى من لدن رب العالمين !(/2)
على أن لى كلمة فى هذا المقام لا أحب أن تفوتنى ، ألا وهى أن بعض المنتسبين إلى الإسلام يتساءلون فى براءة زائفة : لماذا يصف المسلمون غير المسلمين بأنهم كافرون ؟ ألا يُعَدّ ذلك نفيا للآخر وعدوانا عليه وإهانة له ؟
شفْ يا أخى الرقة والبراءة ورهافة الشعور التى لا تظهر إلا حين يحاول المسلمون أن يدافعوا بعض دفاع عن دينهم ضد بعض ما يوجَّه لهم ولكتابهم ورسولهم من سباب وشتائم !
وواقع الأمر أن ذلك ليس نفيا للآخر ولا عدوانا عليه ولا إهانة له بحال من الأحوال ، فكل أهل دين يعتقدون أنهم على حق ، وبطبيعة الحال فمن لا يؤمن بدينهم يسمَّى عندهم كافرا دون أن يكون فى هذا افتئات على أحد. ذلك أن هذه هى مصطلحات أصحاب الأديان : مؤمن وكافر ومنافق ... إلخ ، بالضبط مثلما كان الشيوعيون يقولون : تقدمى ورجعى ، وطليعى شريف ورأسمالى متعفن ، ومثلما يقول الحداثيون الآن : التنويرية والظلامية ، والفكر المتحضر والفكر المتخلف ... وهَلُمَّ جَرًّا . وهاهم أولاء مزيِّفو هذه السُّخَامات والسَّخَافات يقولون عن نبينا عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات : أفاك وضال وكافر وكذاب وغير ذلك من الشتائم التى وردت فى النص الذى بين أيدينا وفى غيره من النصوص المشابهة الأخرى ، وما خفى مما لا يجرؤون على ترديده على الملإ ويصلنا رغم ذلك بعضُه لهو أشنع وأبشع !
فيا أيها المؤمنون لا يوسوسنّ لكم الشياطين المنتشرون كالوباء بين أظهركم ممن يحملون أسماء مثل أسمائكم ، ولهم سِحَنٌ كسِحَنكم ، ومكتوبٌ فى هويّاتهم الرسمية أنهم مسلمون مثلكم ، بأضاليلهم التى يجهدون بها أن يَحْرِفوكم عن دينكم ويخوفوكم من التمسك بهَدْى نبيكم بشبهة أنه لا ينبغى فى هذا العصر التنويرى الذى يأخذ على عاتقه الدعوة إلى احترام حقوق الآخر أن نسمى هذا الآخر كافرا ! ذلك أنهم يسموننا كفرة ، ولن يَرْعَوُوا عن هذا أبدا حتى لو مزّق الله قلوبهم تمزيقا وبدّلهم قلوبا غيرها.
إننا لا نحجر على أحد أن يعتقد فينا ما يشاء ، فهذا حقه ، وليس من حقنا ولا من حق غيرنا أن نتدخل فيما بين المرء وضميره أو نعتدى عليه أو نُكْرِهه على ما لا يحب من عقيدة أو رأى ، لكننا أيضا لا نريد من أحد أن يحجر علينا فى الرد على التهم والشتائم التى توجَّه إلى رسولنا العظيم ، وأن نبين وجه الوقاحة والبذاءة والبطلان والزيف فيها .
ترى هل فى هذا الكلام صعوبة تَعْسُر على الفهم ؟
هم أحرار، ونحن أحرار ، وللناس آذان تسمع ، وأذهان تفكر ، وعقول تميّز وتحكم ، ولهم وحدهم الحق فى اتباع هذا أو ذاك مما نقوله نحن أو يقوله الآخرون
الضلال المبين
وقبل أن ندخل فى تحليل هذا الوحى الشيطانى ونبين ما يقوم عليه ويغَصّ به من تفاهة وقلة عقل وتناقض وتكذيب للكتاب المقدس نفسه الذى زيَّف الشياطين هذا الوحى لتعضيده وإقناع المسلمين بصحته وبطلان الكتاب الذى نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين على سيد الأنبياء والمرسلين ، والذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه دهر الداهرين ، قبل هذا نرى أنه لا بد من إعطاء القراء الكرام فكرة عن ذلك الوحى المسمى زورا وزيفا بـ " الفرقان الحق " ، وما هو فى الواقع سوى " الضلال المبين " بقَضِّه وقَضِيضه !
إن هذا " الضلال المبين " ( وسيكون هذا هو اسمه هنا من الآن فصاعدا ) يشتمل ، حسبما هو موجود فى الموقع المشار إليه آنفا ، على نحو خمسة وأربعين نصًّا يُطْلَق على الواحد منها " سُورَة " تقليدا مفضوحا للقرآن ، وكل من هذه السُّوَر يتكون من عدد من الآيات يتفاوت ما بين عدد أصابع اليد الواحدة أو أصابع اليدين والقدمين لا يزيد عن ذلك .
إلا أننى قد لاحظت أن ترقيم هذه السُّوَر غير متسلسل دائما حتى إن أول سورة ، وهى " سورة المحبة " ، قد أخذت الرقم ( 2 ) ، كما أن ترقيم السورة الأخيرة ، واسمها " سورة البهتان " ، هو ( 59 ) ، ومعنى ذلك أن هناك فجوة فى بعض الأحيان بين السورة والتى تليها ، فهل ينبغى أن نفهم من هذا أن هناك سُوَرًا ناقصة ؟ لكن لماذا ؟ وما هى هذه السُّوَر ؟ وأين ذهبت ؟ لا أدرى .
كذلك يلاحظ أن أسماء طائفة من سور " الضلال المبين " قد أُخِذَتْ من أسماء سور القرآن الكريم ، مثل " النور والنساء والمنافقين والطلاق " . أى أن من افْترَوْا هذا " الضلال المبين " لم يَسْطُوا فقط على نصوص آيات القرآن ليصنعوا منها هذا الترقيع الرقيع بل سَطَوْا على أسماء بعض سوره الكريمة ، وإن كانوا قد نقلوها من محلها الطاهر الشريف إلى ذلك الكنيف !(/3)
أما الأسماء الأخرى التى لم يأخذوها من أسماء سور القرآن الكريم فمنها " الأساطير والغرانيق والجنة والمحرّضين والكبائر والرُّعاة والشهادة والإنجيل "، وإن كانت كلها رغم ذلك فى الهجوم على القرآن : ففى " سورة الأساطير " مثلا يزعمون أن القرآن ما هو إلا أساطير الأولين كما كان وثنيو العرب يقولون قبل أن يكذّبوا أنفسهم بأنفسهم ويؤمنوا به ، وفى " سورة الغرانيق " يدّعون أنه كان فى القرآن آيتان تمجدان الغرانيق ، أى اللات والعُزَّى ومَنَاة ، ثم حُذِفتا فيما بعد.
أما "سورة الرعاة " فهى هجاء للصحابة والعرب الأوائل الذين حملوا الإسلام إلى العالمين ، والذين يحاول أولئك اللصوص السُّطَاة أن ينالوا منهم بالقول بأنهم لم يكونوا متحضرين ولا أغنياء بل كانوا مجرد رعاة ، وكأن التلاميذ الذين كانوا يلتفون حول المسيح كانوا من أصحاب القصور ومن خريجى الجامعات ، ولم يكونوا من صيادى السمك والعُرْج والبُرْص والعُمْى والمخلَّعين والممسوسين والعشّارين والخطاة على حسب ما جاء فى الأناجيل نفسها ! إننا بطبيعة الحال لا نبغى أن ننال من الفقراء والمساكين والمسحوقين ، فنحن لسنا من أغنياء القوم ولا من السادة ، لكننا أردنا فقط أن ننبه هؤلاء المأفونين إلى مدى السخف والسفالة التى ينساقون إليها فى العدوان على ديننا ورسولنا وصحابته الكرام . وبالمناسبة فلم يكن الصحابة جميعا من الرعاة ، بل كان فيهم التجار والزراع والصناع والعلماء والقادة العسكريون ، وكان منهم الأفراد العاديون والرؤساء ، وكان منهم العرب وغير العرب ، كما كان فيهم كثير ممن كانوا هودا أو نصارى ثم أسلموا... وهكذا يستمر هؤلاء الأفاكون المجرمون إلى آخر السُّوَر الشيطانية المفتراة كذبًا على الله .
وأول ما ينبغى التصدى له فى هذا الوحى الإبليسىّ هو المشاكل الغبية غباء مزيِّفيه التى لا يمكن العثور على مخرج من أىٍّ منها ، بل كلما حاول مخترعوه التخلص من بعض ما جرَّتْهم إليه وجدوا أنفسهم يزدادون تورطا ، شأن البقرة الغبية التى تحاول الانعتاق من الحبل الملتف حول رقبتها ، لكنها بدلا من ذلك تدور فى الاتجاه المعاكس فتجده قد ازداد التفافا حتى خنقها وأودى بحياتها.
فكيف كان ذلك ؟
المعروف أولا أن النصارى لا يؤمنون بنبىٍّ بعد المسيح لأنهم يَرَوْن أنه قد أنهى فصول المأساة البشرية بموته على الصليب وتكفيره من ثَمَّ عن الخطيئة البشرية الأولى ، وأنه لم يعد هناك مجال لأى شىء إلا لمجيئه فى آخر الزمان ، هذا المجىء الذى سيكون بداية لألفيَّةٍ سعيدةٍ يعيش فيها الناس فى هناءة وسلام ، فلا خصومات ولا عداوات حتى ولا بين الحيوانات العجماوات ، حتى إن الذئب والحمل ، كما يقال ، سوف تقوم بينهما صداقة ومودة فيلعبان معا ويأكلان معا فى غاية الانسجام والتفاهم ! أما اليهود فهم أصلا فى انتظار المسيح الأول لا يزالون لأنهم لا يؤمنون بأن عيسى بن مريم هو المسيح الذى أتى ذكره فى كتبهم . وهذا الكتاب الذى نحن بصدده ليس هو الكتاب الذى ينتظره اليهود مع مسيحهم المنتظر ، فهم يريدون مسيحا من بيت داود يعيد إليهم مجدهم ويبنى لهم مملكتهم ، أما كتاب " الضلال المبين " فلا يؤدى إلى هذه الغاية على الإطلاق ولا نعرف له صاحبا ، فهو كطفل السِّفَاح الذى لا تجرؤ أمه العاهرة أن تُقِرّ به وتنسبه إلى نفسها .
كذلك لا يخفى على القارئ أن غرض كل من الفريقين اللذين اشتركا فى تزييف هذا " البهتان الباطل " يتناقض مع غرض الفريق الآخر . وهكذا يأبى الله العلىّ العظيم إلا أن يوقعهم فى شر أعمالهم .
وهذه أولى بركات محمد ودين محمد!
وعلى كل حال فها هم أولاء المؤلفون الأغبياء يكذّبون أنفسهم بأنفسهم إذ يعلنون بملء أفواههم فى القىء المنتن الذى وَسَمُوه بـ " سورة الأنبياء " ( ومن أفواههم النجسة ندينهم ) قائلين على لسان رب العزة إننا "ما بشَّرْنا بنى إسرائيل برسول يأتى من بعد كلمتنا وما عساه أن يقول بعد أن قلنا كلمة الحق من بعدى وأنزلنا سنة الكمال وبشرنا الناس كافة بدين الحق ولن يجدوا له نَسْخا ولا تبديلا إلى يوم يُبْعَثون " . إذن فليس هناك نبى يمكن أن يجىء بعد عيسى عندهم ، وإلا للزمهم أن يؤمنوا بمحمد ، الذى زعموا أنه لم تأت به أية بشارة لا فى التوراة ولا فى الإنجيل .
ليس هذا فحسب ، بل إن كلمة " الفرقان" نفسها مسروقة من القرآن ، لأن كتابهم المقدس بعهديه العتيق والجديد لم ترد فيه هذه الكلمة ، وإلا لذكرها " فهرس الموضوعات الكتابية " . فكيف إذن يزعمون أن الله قد أنزل هذا الوحى مع أنه لم يأت به نبى ، إذ الوحى لا ينزل هكذا من السماء على غير أحد ، اللهم إلا على سُنّة أنبياء آخر زمن من صنف أولئك الأساقفة الذين شرعت أمريكا أم التقاليع والغرائب ترسِّمهم من اللُّوطِيِّين !(/4)
لكن ما هى سُنّة أنبياء آخر زمن هؤلاء ؟ هى سنّة المومس التى تحمل سفاحا ( والمومس لا تحمل بالطبع إلا سفاحا ) ، ولا تريد أن يطّلع الناس على ورطتها وخزيها ، فعندما يَئِين الأوان ويحلّ موعد الوضع تراها تلف الطفل المسكين الذى لا ذنب له فيما اقترفته يدها الأثيمة فى خرقة وتأتى به فى ظلام الليل الدامس إلى باب معبد من المعابد فتتركه هناك أو تلقيه قرب أحد صناديق القمامة ، ثم تنصرف وترقب الموقف من بعيد دون أن يعرف أحد أنها هى صاحبة هذا العار ! إنه شُغْل مومسات كما أقول فى بعض كتبى التى أرد فيها على أمثال هؤلاء النُّغُول ! إن الأنبياء كانوا دائما ما يأتون فى ضحوة النهار ولا يستترون هكذا فى ألفاف الظلمات المتراكبة المتكاثفة المريبة شأن محترفى اللصوص والقتلة الذين يَلْبِدُون للفريسة المسكينة فى حقل من حقول القصب أو الذرة حتى يأخذوها غيلة وغدرا ، ثم بعد أن يرتكبوا جريمتهم الوحشية الخسيسة يعودون لبيوتهم فيمارسون حياتهم لا تُثْقِل ضمائرَهم أيّةٌ من خوالج الندم ، إذ قد ماتت قلوبهم وسَوّسَتْ ضمائرهم.
ثم إن الوحى الذى ينزل على الأنبياء لا ينزل دفعة واحدة هكذا بل يتتابع مصاحبا للحوادث والمناسبات التى تجدّ ، مما يجعله تجسيدا للتجارب التى خاضها النبى مع قومه ، أما هذا " الضلال " فقد صيغ مرة واحدة ثم لُفَّ فى خرقة قذرة نجسة وأُلْقِىَ به عند صندوق قمامة فى سكون الليل البهيم مع انقطاع رِجْل السابلة .
ثم إن ذلك الرِّجْس مخالف فى الواقع لطريقة أهل الكتاب فى تسمية كثير من أسفارهم باسم الأنبياء الذين تُعْزَى إليهم : فهذا سِفْر يشوع ، وهذا نشيد الأناشيد لسليمان ، وهذه نبوة أَشَعْيا ، وهذا إنجيل متى ، وهذه رسالة القديس يعقوب ، وهذه رؤيا القديس يوحنا... وهكذا. وعلى ذلك فإننا نتساءل : أين النبى الذى أتى بهذا الضلال ؟ ما اسمه يا ترى ؟ من أى بلد جاء؟ إلى أى أسرة ينتمى ؟ ما صنعته ؟ ما سيرته ؟ ما أوصافه ؟ ما أخلاقه ؟ ما رأى الناس فيه ؟ ما الذى دار بينه وبين قومه من أخذ ورد ؟ ماذا كانت استجابتهم لما أتاهم به أولا ثم آخرا ؟ ...
ترى أية نبوة هذه يا إلهى ؟
إن القوم لا يحسنون التدليس ، وهم برغم ذلك يتصدَّوْن لحرب القرآن ظانّين أنهم قادرون على محوه من النفوس والصحائف على السواء !
يا لهم من مجانين مسعورين !
وللتفكُّه أذكر أن بعض إخواننا الساخرين أجاب على سؤالى الخاص بشخصية هذا النبى المزعوم قائلا : أتريد أن تعرف مَنْ ذلك النبى ؟ قلت : نعم . قال : ولم لا يكون هو الابن الثانى لله ؟ قلت : لقد قالوا إنه ليس له إلا ابن وحيد مات على الصليب . قال : هذا كان من ألفى سنة . أتظن ذلك الإله لم تشتقْ نفسه للذرية مرة ثانية طوال هذه المدة فأراد أن ينجب ابنا آخر ؟ أم تراه ، حتى لو كان قد حدَّد النسل ، واتخذ الاحتياطات اللازمة لعدم الإنجاب ، لم يحدث أن اخترق طفل جديد هذا الحظر وأفسد تلك الاحتياطات كما يحدث لكثير منا فى مثل هذه الظروف ؟ قلت : وهل يصح أن تقيس الآلهة على أوضاع البشر ؟ قال : لست أنا الذى قاسهم ، بل إلههم هو الذى فعل ذلك . أليس هو الذى أنجب مثلما ننجب ؟ فما الذى يمنع أن يكون له ولد ثان وثالث ورابع ... إلى ما شاء الله ؟ إلى جانب بعض البنات أيضا إرضاءً للسِّتّ التى لا بد أن تتطلع إلى أن يكون لها بنت أو أكثر كى يساعدنها فى أعمال المنزل ... ومضى الصديق الساخر كلما حاولت أن أغلق عليه السبيل فتح بدل الباب أبوابا، حتى وجدت أنه لا بد من غلق هذا الحوار الذى لا يؤذِن بنهاية .(/5)
ثم إن أولئك النُّغُول يرددون ما جاء فى كتابنا العزيز من أنه ما من نبى أُرْسِل إلا بلسان قومه ، فما معنى نزول هذا " الضلال المبين " بالعربية ، بل بالعربية المسجوعة ؟ معناه أنه نزل للعرب ، لأنهم هم الذين يتكلمون العربية . أليس هذا هو ما تقتضيه العبارة التى قالها النغول والتى سرقوها بنصها من القرآن المجيد ووضعوها فى هذا الموضع الدنس ؟ بَيْدَ أننا قد سمعناهم يقولون بلسانهم ( الذى ستقطعه زبانية الجحيم يوم القيامة إن شاء الله ثم تشويه أمام أعينهم وتحشره فى حلوقهم طعامًا نجسًا لأفواهٍ نجسة ) إن النبوة لا تكون إلا فى بنى إسرائيل ، فليس للعرب فيها إذن أى نصيب ( حقدا منهم على إسماعيل وأمه هاجر ، التى يقولون إنها أَمَة ، وابن الأمَة لا نصيب له عندهم فى البركة النبوية ). وبطبيعة الحال فالعرب لا يمكن أن يكونوا قوم نبىّ من بنى إسرائيل ، إذ إن بنى إسرائيل هم ذرية يعقوب ، أما العرب فهم ذرية إسماعيل كما هو معروف . وهذا إن غضضنا الطرف عن تأكيدهم أن باب النبوة مغلق إلى ما قبل يوم القيامة حسب اعتقاد النصارى، ، وإلى مجىء مسيح اليهود حسب اعتقاد بنى إسرائيل ، وهو فى الواقع ما لا يمكن غض الطرف عنه أبدا ، لكنها طبيعة الجدل المفحم التى أتبعها عادة مع هؤلاء المتاعيس حتى أبين للقارئ الكريم كيف أن الأسداد قد ضُرِبَت عليهم أَنَّى اتجهوا وأَنَّى ارتدُّوا .
وهذه ثانية بركات محمد ودين محمد !
وثالثة هذه البركات المحمدية أن هؤلاء الأبالسة الأغبياء ( وهذه أول مرة يقابل الواحد فى حياته أبالسة أغبياء ! لكن ما العمل ، وكل من يقصد دين محمد بِشَرٍّ فإنه لا يُفْلِح أبدا حتى لو كان أبا الأبالسة جميعا ؟ ) ، هؤلاء الأغبياء يَسْطُون على آيات القرآن فى مفارقة غريبة غرابةَ أمرِهم كله وشذوذه ، إذ يتهمونه بأنه وسوسة شيطان إلى شيطان . فإذا كان الأمر كما يقولون فكيف لم يجدوا فى الأرض العريضة كلها ( ولا أقول : فى السماء ، لأن مثل هذا الإجرام لا يمكن أن تصله بالسماء أية آصرة ) إلا هذا الوحى المحمدى الذى يزعمون أنه وحى شيطانى كى يتخذوه وحيا لهم ؟
بالله عليكم أيها القراء مَنِ الشيطانُ هنا ؟
إن المؤمن لينفر من الشيطان ومن كل ما له صلة بالشيطان ولا يفكر مجرد تفكير فى الاقتراب منه أو المرور من الطريق الذى يمكن أن يلقاه فيه . لكن هؤلاء الأبالسة الأغبياء لم يجدوا إلا الوحى القرآنى ليسرقوه ويدّعوه لأنفسهم زاعمين أنه أُنْزِل عليهم من السماء ، مع أن السماء لا يمكن أن ترضى هذا العمل الخسيس . والغريب أن عملهم هذا يزعق بعلوّ حسه شاهدا عليهم بالسرقة والسطو ، ولكن متى كان لدى هؤلاء المجرمين حياء أو خشية من التى يتحلى بها الآدميون حتى ننتظر منهم أن يستحوا أو يختشوا ؟ إنهم من نفس الطينة التى جُبِل منها أمثالهم سارقو فلسطين والعراق وأفغانستان فى عز الظهر الأحمر ، الذين يزعمون مع ذلك أننا نحن الذين نريد أن نقتلهم وندمر حضارتهم ! والمصيبة أنهم بعد ذلك كله يقولون إن هذا " الضلال المبين " هو من عند الله ، أى أن ربهم لص وكذاب متنفِّج ، وأدنى من الشيطان قدرة على صياغة الكلام والمعانى ، ولذلك يسطو على ما كان هذا الشيطان قد أوحاه ، حسب زعمهم ، إلى محمد ثم يدّعيه لنفسه . ثم إنه مُلْقِيه رغم هذا كله فى قعر الجحيم يوم القيامة لقاء ما استعان به ، وذلك على طريقة الأمريكان ، إذ يظلون يعصرون الحاكم من حكام العالم الثالث حتى يستنزفوه لآخر قطرة فيه ثم ينقلبون عليه آخر الأمر ويجزونه جزاء سِنِمّار !
وهذا دليل آخر على أن مزيفى هذا " الضلال " إنما هم الأمريكان ! إنها نفس الأخلاق المنحطة ، وإن كان الشىء من معدنه غير مُسْتَغْرَب !
ولكن ما مغزى عمل هؤلاء الشياطين ؟
إنه دليل لا يُنْقَض على أنهم يَرَوْن فى أعماق قلوبهم أن أسلوب القرآن معجز ، وإن أنكروا هذا بألسنتهم النجسة ، ولذلك استعانوا به رغم اتهامهم للقرآن كله بأنه من وسوسة الشيطان ! وهنا أيضا لن أفعل شيئا آخر غير الاقتباس من كلامهم ، إذ نجدهم فى الفقرة الأولى من " سورة السلام " يدّعون لبهتانهم هذا أنه وحى معجز . إذن فالقرآن معجز فى رأيهم رغم كل الكذب الذى اقترفوه ضد كتاب الله فى نصوصهم المسروقة كلها تقريبا منه ، وهذا نص ما قالوه : " إنا أنزلناه فرقانًا حقًّا بلسانٍ عربىٍّ بيّن الإعجاز لتتبينوا الضلال من الهدى وتعلموا سوء ما كنتم تفعلون " .
ترى ما رأى القارئ الكريم فى ألاعيب هؤلاء النغول الخائبة ؟(/6)
إن المسلمين يقولون ، حسبما يقرأون فى كتاب ربهم وحسبما أكده العلماء الأثبات منا ومنهم ، إن أهل الكتاب أساتذة فى العبث بالوحى الإلهى الذى نزل على رسلهم وتحريفه عن مواضعه ، لكنهم دائما ما يتهموننا بأننا نردد كلاما غير صحيح . فهل ، بعد أن بيّنّا ما صنعوه فى هذا " الضلال المبين " ، يمكن لأحد أن يتمارى فيما يتهمهم به القرآن والمسلمون ؟ هل يحتاج بعد اليوم أحد إلى برهان آخر على ذلك العبث والتزييف والتدليس والانتحال ؟
والغريب بعد هذا كله أنهم قد زيَّفوا ، فيما زيفوا من سُوَر ٍ، سورةً بعنوان " الأساطير " تقول أول آية منها للمسلمين : " يا أهل التحريف من عبادنا الضالين " ! لا بل إنهم يتهمون الرسول بأنه قد حرّف الإنجيل نفسه ! إى والله ، الإنجيل نفسه دون أدنى مبالغة ! وهذا ما قالوه فى الفقرة الأولى من "سورة الإيمان " بالحرف الواحد : " وحرَّفْتُم آيات الإنجيل الحق وكتمتم كلمتنا واتبعتم صراطا ذا عِوَج وأوهمتم أتباعكم أنكم على صراط مستقيم " . ولا أدرى بالضبط ما الذى جرى لعقول القوم فأقدموا على هذه الهلاوس التى ليس لها من حل إلا أخذ صاحبها على الفور لمستشفى المجانين خَبْطَ لَزْق ! وصدق المثل القائل : "رمتْنى بدائها وانسلَّتِ" ! الحقّ أن هؤلاء الناس ( هذا إذا تجاوزنا وألحقناهم بالبشر ) لا يعرفون ما يسمَّى فى اللغات بـ " الحياء " !
على أن سرقتهم لكلمات القرآن وعباراته وتركيباته وصوره وفواصله لا تجعل مع ذلك من " بهتانهم " كلاما معجزا . لماذا ؟ لأنهم يفعلون ما يفعله الخياط الغبى الذى يأتى إلى أفخم الحُلَل والملابس فيقتطع من كل منها مِزْعة ثم يشبك هذه المِزَع بعضها مع بعض . وبطبيعة الحال لن ينتج عن ذلك إلا مرقّعة كمرقّعات الدراويش تبعث على السخرية أو على الرثاء أو عليهما معا !
ذلك أن هؤلاء الأوغاد لم ينجحوا قط فى أن يضعوا ما يسرقونه من نصوص القرآن فى مواضعها وسياقاتها ، بل يضعونها فى إطار يختلف عن إطارها الذى نُقِلَت منه .
علاوة على أن أولئك اللصوص لا يحسنون عملية لزق النصوص المسطوّ عليها ، إذ كثيرا ما تأتى متنافرة لا انسجام بينها .
فضلا عن أن الفواصل ( أى نهايات الآيات ) ، التى يسرقونها هى أيضا من القرآن ، لم يتصادف أن جاءت ولو مرة واحدة كما ينبغى أن تأتى الفاصلة الجيدة قارَّةً فى مكانها حاسمةً فى موسيقيتها ومعناها ، بل يشعر القارئ أنهم قد اجتلبوها اجتلابا ، لا لشىء غير أن يُنْهُوا الآية بسجعة والسلام .
كذلك فإنهم إذا أضافوا شيئا من عندهم كما يقع أحيانا لم يجيئوا إلا بكلام ركيك ثقيل الظل وخيم الأنفاس !
والسورة التى أوردتُها فيما مضى من صفحات تشهد على ما أقول .
زد على ذلك ما تقوم عليه المسألة كلها من سماجة ليس لها من مثيل ، إذ هم يسطون على القرآن ألفاظا وعبارات وتراكيب وصُوَرا وفواصل وينتحلونه لأنفسهم ثم يستديرون له بعد ذلك كله مُزْرِين عليه زاعمين أنه من وسوسة الشيطان ! فالأمر ، كما تَرَوْنَ ، يجرى على أسلوب " حسنة وأنا سيدك ! " .
إنهم أشبه بخادمة لِصَّة دنيئة حقيرة قبيحة سليطة اللسان تسرق من سيدتها بعض ملابسها التى لا تستطيع مع هذا أن ترتديها على ما يقتضيه الذوق الراقى أو حتى الذوق السليم ثم تفتعل مشكلة وتترك العمل عندها ، لتأتى بعد ذلك إلى هذه السيدة نفسها وقد ارتدت ما سرقته منها من ملابس فتختال بها أمام عينيها بُغْية إغاظتها غير واعية بما تثيره فى نفوس الناس المحترمين أهل الذوق الراقى الكريم من تهكم بغبائها وجلافتها ودناءتها فى التصرف واللبس والكلام ، وأنها مهما فعلت واستعرضت وحاولت أن تغيظ سيدتها ليست فى نهاية المطاف غير خادمة لصة حقيرة قبيحة سليطة اللسان ذات ذوقٍ فِجّ متخلف !
ترى هل يفيق هؤلاء اللصوص السفلة إلى مدى الفظاعة التى ارتكسوا فيها حين سرقوا القرآن وانثنَوْا بعد ذلك للمسلمين يشمخون عليهم بفعلتهم الشيطانية ؟
أما أنا فمن معرفتى بهم وبطبائعهم وأساليبهم الساقطة لا أعلّق عليهم أملا ولا أتوقع منهم خيرا ، إذ العاقل لا ينتظر من المرحاض أن يُثْمِر تفاحا وخَوْخا أو أن يُزْهِر وردًا وآسًا ورَيْحَانا !
على أن المسألة لم تنته فصولا بعد ، بل ما زال فى جراب الحاوى مفاجآت مضحكة ... مضحكة من الغم لا من السعادة !
تعالَوْا نَرَ مثلا كيف يبدأ اللصوص السارقون معظم سُوَر " ضلالهم المبين ".(/7)
هل رأيتم أحدا قَطّ يبدأ كلاما جديدا له بواو العطف ؟ إن هذه الواو إنما تعنى أن هناك كلاما سابقا وأن الكلام الحالىّ هو امتداد لفظى ومعنوى له ، وهو ما لا وجود له هنا لأن هذه هى بداية السورة . وهل قبل البداية شىء؟ وعلى رغم وضوح المسألة بل نصاعتها فإن هؤلاء اللصوص لا يراعون هذه البديهية فى عالم النحو والكتابة والأساليب ، فتجدهم يقولون مثلا فى مطلع " سورة الطهر " : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * ودعانا الشيطان ( يقصدون الرسول عليه السلام ) بأسماءٍ قُبْحَى غيّبها بأسماء حسنى مكرًا منه ... إلخ " ، وفى مطلع " سورة الرعاة " نقرأ : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * ومَثَلُ الرسول الصالح كمَثَل راع أورد رعيته وِرْدا طهورا ... " ، وفى" سورة المحرِّضين " نطالع : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * ونَهَيْنا عبادنا عن القتل ووصَّيناهم بالرحمة والمحبة والسلام ... " . وعلى نفس الشاكلة تجرى بدايات سُوَر " الإيمان والحق والطهر والزنى والمائدة والمعجزات والضالين والصيام والماكرين والأمّيِّين والصلاة والملوك والهدى " وغيرها .
ترى علام يدل هذا ؟
إنه يدل على أن الأمريكان والصهاينة رغم كل تقدمهم العلمىّ والتقنىّ والعسكرىّ والسياسىّ والتخطيطىّ لا يستطيعون أن يحبكوا تآمرهم على القرآن الكريم الذى يُضْرَب بهوان أتباعه وتخلفهم فى العصر الحالىّ الأمثالُ والحكمُ والمواعظ .
فعلام يدل هذا مرة أخرى يا ترى ؟
يدل على أنهم فى حربهم للقرآن إنما يحاربون الله ، والله غالب على أمره . ولو كانت حربهم للقرآن حربا لنا نحن العرب والمسلمين لكان القرآن الآن فى خبر " كان " بعد كل تلك الحروب والمعارك الطاحنة التى لم يكفّوا يوما عن شنها عليه طوال الأربعة عشر قرنا الماضية وجنّدوا لها أعتى العقول عندهم من مبشرين ومستشرقين وسياسيين وعسكريين وكل ما يمكن أن يخطر أو لا يخطر على بالك من صنوف العلماء والمتنفذين لديهم . لكن هاهو ذا واحد مثلى لا فى العير ولا فى النفير وليس بين يديه ولا واحد على الألف مما يتصرف فيه أى مستشرقٍ من الكتب والمراجع والمعاجم والموسوعات والدوريات والمعاونين ، هاهو ذا واحد مثلى منقطع عن بلده ومكتبته الخاصة التى كان من الممكن أن تمده على الأقل بالأساسيات التى يحتاجها ك " فهرس الموضوعات الكتابية " أو " دائرة المعارف الكتابية " أو حتى " الكتاب المقدس " نفسه الذى استغرق الأمر منى وقتا طويلا واتصالات متعددة كى أحصل على نسخة منه ، أما " فهرس الموضوعات الكتابية " فقد كَلَّفْتُ بموافاتى بما أحتاجه منه بعضَ من أعرف فى أرض الكنانة من خلال نظام الرسائل الفورية بالمِشْباك ، الذى لا أعرف منه أكثر مما يعرف الجاهل بالسباحة عندما يقعد على الشط مكتفيا بغمس قدمه فى الماء ثم يقول إنه قد نزل البحر وعام فيه مع العائمين ! أقول : ها هو ذا واحد مثلى فى هذه الظروف الشحيحة وبهذه الإمكانات الشديدة الضآلة يكرّ على هذا " الضلال " فيُظْهِر عوراته وسوآته بكل بساطة وسهولة .
والسبب ؟
السبب هو أننى حين أفعل ذلك إنما أدافع عن القرآن ، أى عن قضية موفَّقة مباركة يسندنى فيها ويقينى من العِثار ربُّ القرآن الذى ابتهلتُ إليه أن يسهّل مهمتى فاستجاب بكرم منه وفضل ، وهو سبحانه أهل الكرم والبر والتوفيق .
أما الأمريكان والصهاينة ومن لَفَّ لفَّهم وحذا حَذْوَهم فنبشّرهم بخذلان من الله مبين : " إن الذين كفروا يُنْفِقون أَمْوالَهم ليصُدّوا عن سبيل الله ، فسينفقونها ثم تكونُ عليهم حسرةً ثم يُغْلَبون . والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرون * ليَمِيز اللهُ الخبيثَ من الطيّب ويجعلَ الخبيثَ بعضَه على بعضٍ فيَرْكُمَه جميعا فيجعلَه فى جَهَنَّمَ . أولئك هم الخاسرون " . صدق الله العظيم !
إن الإله الذى لا يعرف كيف يصوغ الكلام ولا يدرى أهو فى أوله أم فى وسطه أم فى آخره لهو إلهٌ سكرانُ أو قد أصابه الخَرَف ! نعوذ بالله من الخرف وآلهة الخَرَف !
لقد كنا نسمع بإله الحرب وبإله الفنون وبإله الحب مثلا ، لكن هذه أول مرة نعرف أن هناك إلها للخَرَف ! ومن يَعِشْ يَرَ!
إن مثل هذا الإله لو كان يعيش بين قبائل أفريقيا المتوحشة قديما لقتلوه لانتهاء عمره الافتراضى ، وربما أكلوا لحمه أيضا رغم أنه لحمٌ عجوز لا ينضج بسرعة وليس له حلاوة مذاق اللحم العَجَّالى ، لكن الأمريكان والصهاينة لا يتنبهون لهذا الأمر على وضوحه البالغ فيُبْقُون على هذا الإله المضطرب الذاكرة والعقل الذى يوقعهم فى مآزق محرجة ليس لها من مخرج !
ألم أقل لكم إن من يتصدى للقرآن فإن مصيره إلى البوار ، وبئس القرار ؟
على أن خيبة هذا الإله لا تقف عند هذا الحد ، بل تتعداه إلى الوقوع فى الأخطاء اللغوية المزرية !
قد يجيبنى بعضهم : وماذا تريد من إله أمريكانى خواجة من أصحاب : " مُشْ فِخِمْتُو يا خبيبى " ؟(/8)
لكننى أستطيع أن أرد عليهم بأن هذا الإله الخواجة لا بد أنه استعان ببعض العرب فى اختراع هذا الوحى الدنس ، وإلا فهذا دليل آخر على أنه ، رغم كل علمه وقوته وتقدمه ، تفوته أشياء مما تفوت عباد الله اللاأمريكيين ، كما حدث فى حكاية البلح الأصفر الذى كان لا يزال على شماريخ النخل فى عز الخريف فى صور القبض على صدام حسين الشهيرة . وأما إن كان قد استعان ببعض العرب ، وهو ما أنا موقن منه إيقانا ، فمعناه أن بركة القرآن قد آتت أُكُلَها وسطعت ( كما يسطع العبيرُ وضياءُ الشمس جميعا ) نتائجُها الطيبةُ الطاهرةُ فأفشلت هذا التآمر الخسيس ، وانقلب السحر على الساحر الخائب الموكوس ، رغم كل ما معه من خبث وسلاح وفلوس !
وبعد ، فهذه عينة من الأخطاء اللغوية التى سقط فيها سقوطَ الجرادل صاحبُنا الإلهُ الخواجة وأذيالُه من بنى جلدتنا الذين أخجلونا وشمّتوا الدنيا فينا بجهلهم بلغة القرآن المجيد الجديرة بالحب بل بالعشق بل بالوَلَه حتى ممن يكره كتابَها العزيزَ والرسولَ الذى أُنْزِل عليه هذا الكتاب ضياءً وهدًى للعالمين :
" وما كان النجسُ والطمثُ والمحيضُ والغائطُ والتيممُ والنكاحُ والهجرُ والضربُ والطلاقُ إلا كومةُ رِكْسٍ لفظها الشيطان بلسانكم " ( الطهر/ 6 ، وصوابها : " كومةَ ركس " بفتح التاء لأنها خبر " كان" ).
و" كى يَشْهَدهم الناسَ " ( الصلاة / 3 ، بفتح سين " الناس " رغم أنها فاعلٌ حقُّه الرفعُ بالضمة ).
و" ذلكم هم المنافقون " ( نفس السورة والفقرة ، وهى غلطة لا يمكن أن يقع فيها إلا إله أمريكانى من الذين يقولون : " يا خبيبى ! يا خَبّة إينى " ، أما لو كان رب العالمين هو الذى أنزل هذا الكتاب لقال : " أولئك / أولئكم هم المنافقون " ، إذ إن الكاف التى فى آخر اسم الإشارة لا علاقة لها بالمشار إليه ، الذى هو هنا " الكافرون " ، بل تتغير حسب طبيعة من نخاطبه : إفرادا وتثنية وجمعا وتذكيرا وتأنيثا، أما الذى يتغير حسب تغير المشار إليه فهو اسم الإشارة نفسه . ومادام " المنافقون " جمعا فينبغى استخدام " أولئك " لهم . ترى أَفَهِم الأوباشُ أم نُعِيد الكلام من البداية ؟ ولا بأس عندنا من الإعادة ، ففى التكرار للحمير إفادة ! )
و" خلقناكم ذكرا وأنثى يتحدان زوجًا فردا " ( الزواج / 3 ، وهو كلام ركيك من كلام الخواجات ).
و" الإنتقام " ( الإخاء / 11 ، بهمزة تحت الألف ، وهو خطأ شنيع صحته " الانتقام " دون التلفّظ بالهمزة لأنها همزة وصل لا تُنْطَق ) .
و" وصَّيناكم بألا تَدِنُوا " ( الماكرين / 6 ، يقصد " بألا تدينوا " ، وهذا أيضا كلامٌ خواجاتى ) .
و" سلبتم أقواتِهم " ( الماكرين / 7 ، وهو جهلٌ مُدْقِع أستغرب كيف يقع فيه شيطان ، والشياطين ، رغم شِرّيرِيّتهم ، لا يخطئون مثل هذه الأخطاء البدائية . لكن يبدو أنه من أولئك الشياطين الفاشلين الذين منهم أحمد الشلبى مورّط أمريكا فى العراق . على كل حال فالصواب هو فتح تاء " أقواتَهم " لأنها ليست جمع مؤنث سالما كما يظن الأغبياء ، بل جمع تكسير ، فلذلك تُنْصَب بالفتحة لا بالكسرة ).
و" بإسمنا " ( الماكرين / 15 ، وهى مثل الهمزة فى " الانتقام " لا ينبغى أن تُلْفَظ ).
و" زَنُوا " ( الماكرين / 17 ، من " الزنى " ، وهو خطأ لا يليق ، صوابه " زَنَوْا " )
و"حضيرة " ( مرتين : الرعاة / 13 ، والمحرّضين / 10 ، والصواب ، كما لا يخفى إلا على جاهل قد طمس الله على عينه وجعل على عقله غشاوة ، هو "حظيرة " ، وهو المكان الذى ينبغى أن يوضَع فيه أمام مذْوَدٍ مملوءٍ تبنًا وبرسيمًا هؤلاء الطَّغَامُ الذين يحاولون بغبائهم أن يطفئوا نور الله بأفواههم النَّتِنَة ) .
و" نقول له : كن ، فيكونَ " ( النسخ / 10 ، بفتح نون " يكون " من غير أى داع ، والواجب ضمّها لأن الفعل المضارع لم يسبقه ناصب من أى نوع ) .
و" أشرك بنا من يشاركنا وِلائِنا لعبادنا " (المشركين / 12 ، بكسر همزة " ولاء " ، وحقها الفتح لأن الكلمة مفعول ثان للفعل " يشاركنا ". وهى ، كما يرى القارئ ، غلطة لا يقع فيها إلا جاهل له فى الجهل تاريخ عريق مؤثَّل ) .
و" مؤمنين منافقين " ( الكبائر / 9 ، ولا أدرى كيف يُوصَف المؤمن بأنه منافق ، اللهم إلا إذا جاز لنا أن نقول : فلان قصير طويل ، وطيب شرير ، وذكى غبى ... إلخ ، أو إلا إذا احتُجَّ علينا بأن قائل هذا هو الله ، الذى لا تُرَد له مشيئة ، فهو لا يُسْأل عما يفعل . لكن فات ذلك المجادلَ الشَّكِسَ أن إرادة الله تعالى لا تتعلق بالمستحيلات وأنها فوق السخافات والسفسطات . أما إذا قيل إنه إله أمريكى يحق له أن يفعل أى شىء دون أدنى حرج ، فإننا نبادر بالموافقة ما دام فاعل هذا من ذلك الصنف من الناس الذين وصف رسولنا الكريم واحدا منهم قديما بـ " الأحمق المطاع " ) .(/9)
و" وزعمتم أنكم آمنتم بالكتاب وبأهل الكتاب الذين هادوا والنصارى " ( الكبائر / 9 ، والمخاطَبون هنا هم المسلمون . وفى الكلام ركاكة لا يمكن بلعها ولا هضمها، علاوة على أن المسلمين لا يقولون أبدا إنهم آمنوا باليهود والنصارى ، إذ ليس اليهود والنصارى كتابا سماويا ولا نبيا من الأنبياء حتى يكونوا موضوعا للإيمان ، فضلا عن أننا ، على العكس من ذلك ، نؤمن بأنهم حرّفوا كتبهم وعبثوا بها وأنهم ما زالوا مقيمين على العبث والتحريف حتى هذه اللحظة باختراعهم هذا " الضلال المبين " وزَعْمهم أنه كتاب من عند رب العالمين ، ناسين أن الكتب السماوية لا تنزل على أهل الأُبْنَة اللوطيين ، حتى لو رأت أمريكا أن ترسّمهم أساقفةً وقِسّيسِين ) .
و" إنْ هو ( أى القرآن ) إلا خير شِرْعة أُخْرِجَت للكافرين " ( البهتان / 9 ، وهو وحىٌ حلمنتيشىٌّ خَدِيجٌ لا رأس له ولا ذَنَب ، ولا يمكن أن يدور إلا فى اسْت أحد الممرورين المضطربين . لا شفاه الله من دائه بل أخزاه وجعله عبرة لغيره من الكافرين المخبولين ! آمين يا رب العالمين . ومن الواضح أن الجهلاء يريدون أن يقولوا إنه " شرّ شرعةٍ أُخْرِجت للكافرين " ).
وكما ثبت أن الإله الذى أوحى بهذا " الضلال المبين " هو إله جاهل باللغة التى لفَّق بها كتابه ، فسأثبت للقراء الآن أنه إله جاهل أيضا بالكتب التى يقول إنه أوحى بها قبل هذا ، وأنه إله لا منطق عنده ولا عقل ، وأنه نسّاء كذلك ، إذ لا يستطيع أن يتذكر ما جاء فى القرآن الكريم فينقل الآيات التى فيه خطأً ، مع أنه ، كما قيل لى ، كان يفتح المصحف وهو يفعل ذلك . فهل نقول إنه لا يعرف الكتابة والقراءة جيدا ؟ أم هل نقول إنه يستعين بمن يقرأون له ، لكنهم للأسف يستغلون جهله وأميته فيخدعونه ولا يعطونه المعلومات الصحيحة التى يطلبها منهم ؟
يقول بعد البسملة التثليثية فى أول ما يسمّى بـ " سورة الحق " ، والحق منها ومن مزيفيها براء : " وأنزلنا الفرقان الحق نورًا على نور محقًّا للحق ومبطلا للباطل وإن كره المبطلون * ففضح مكر الشيطان الرجيم ولو تنزَّل بوحى مَلَكٍ رحيم " . بالله هل هذا إله يدرى ما يقول ؟ ما معنى أنه سيفضح مكر الشيطان الرجيم حتى لو جاء به ملاك رحيم ؟ تُرَى كيف يمكن أن يأتى بالوحى الشيطانى ملاك رحيم ؟ هل الملائكة تتصرف من تلقاء نفسها ؟ بل هل يمكن أن يقع منها أى عصيان لأوامر الله ؟
ومثلُ ذلك رقاعةً وسخفًا قولُهم فى الفقرة الثانية من " سورة الطهر " : " ولو كنتم أنبياءَ وأُوتيتُم الحكمة واطلَّعتم على الغيب وأتيتم بالمعجزات دون محبة فلا حول لكم ولا منّة وإنما أنتم مفترون ". كيف بالله يمكن أن يكون إنسانٌ ما نبيًّا مؤيَّدًا بالحكمة وعلم الغيب والمعجزات جميعا ثم يرفض الله تعالى أن يعترف به نبيا ؟ فمن الذى أرسله إذن وجعله نبيا وأيده بكل هذه المواهب الإعجازية ؟ إن القوم إنما يصدرون هنا عن الفكر الوثنى ، إذ يتصورون أن هناك إلها آخر يمكن أن يرسل نبيا من لدنه على غير هوى الله فيرفض الله من ثم أن يعترف بنبوته .
وفى أول " سورة العطاء " نطالع الآتى : " يا أيها الذين ضلُّوا من عبادنا ، لقد قيل لكم : النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن ... " ، ليعود الإله الغافل فى الفقرة السادسة فيقول بخصوص هذه الآية نفسها : " ورحتم تُضِلّون المهتدين وتفترون علينا الكذب إنه لا يفلح المفترون ". والآن أيدرى القارئ الكريم من أين أتى القرآن بعبارة " النفس بالنفس ... إلخ " ؟ إنها من التوراة ، ونص القرآن هو : " وكتبنا عليهم فيها ( أى على بنى إسرائيل فى التوراة ) أن النفسَ بالنفسِ ، والعينَ بالعيِن ، والأنفَ بالأنفِ ، والأذنَ بالأذنِ ، والسنَّ بالسنِّ ... " ( المائدة / 45 ) ، ولا أحد فى اليهودية أو النصرانية إلا ويؤمن بأن التوراة هى من عند الله . والقرآن لم يقل شيئا آخر غير هذا ، فما معنى كل ذلك ؟ معناه ببساطة أن الإله الذى أوحى هذا الكتاب المسمى بـ " الضلال المبين " هو إله لا عقل لديه ولا ذاكرة ! وقد بلغ به فقدان العقل والذاكرة أَنْ وصف هذا التشريع بأنه " حكم الجاهلية " ، فضلا عن أنه لم يحسن نقل الآية كالعادة كما لا بد أن القراء قد لاحظوا ، إذ نَسِىَ ثلاث جمل كاملة هى : " والعَيْنَ بالعين ، والأَنْفَ بالأنف ، والأُذُنَ بالأُذُنِ " ، وهكذا ينبغى أن يكون الإله والوحى الإلهى ، وإلا فلا .(/10)
تصوَّروا ! تصوروا أن يعيب إلهٌ شريعته التى أنزلها فى كتاب له أرسل به رسولا من رسله أولى العزم هو موسى عليه السلام بأنها " حكم الجاهلية " ؟ جاء ذلك فيما يسمَّى : " سورة الحكم " ، ونص كلام هذا الهَرِم الفاقد الذاكرة كما جاء فى الفقرة العاشرة من السورة المذكورة هو : " أَفَحُكْمَ الجاهلية تبتغون بأن النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن إنْ هو إلا سُنَّة الأولين وقد خَلَتْ شِرْعة الغابرين " . ثم يمضى الإله المسكين فى تخبطاته بصورة تدعو إلى الرثاء قائلا فى الفقرة التى تلى ذلك مباشرة : " فلا تنتقموا وتَصَدَّقوا به فهو كفارة لكم إن كنتم مؤمنين " ، جاهلا فى غمرة نسيانه وخَرَفه أن هذا هو ما يقوله القرآن الكريم فى آية سورة " المائدة " التى سبق الاستشهاد بها قبل قليل ، مع فارق مهم هو أن القرآن لا يوجب هذا كما يريد منا مزيفو كتاب " الضلال " بل يكتفى بالحث عليه لمن أراد أن يحرز أجرا عند الله ينفعه يوم القيامة ، وهو ما يتمشى مع أوضاع المجتمعات البشرية التى لا تستطيع أن تُمْضِىَ أمرها دون محاكم وعقوبات ، وإلا لفسد الأمر وعاث المجرمون من أمثال هؤلاء الملفقين بغيا ونهبا وتقتيلا ، إذ ما الذى يردع المجرم عن عدوانه وغَيّه لو أُلْغِيَت العقوبات ؟ إن هذا ما يتمناه كل مجرم له فى الإجرام تاريخ عريق . أما المبالغة فى الأمر بالتسامح والتظاهر به وتصوُّر أن البشر قادرون عليه فى كل الأحوال فهو نفاق رخيص . وليست العبرة بمثل هذه المبالغة ، بل العبرة أن يكون هناك تشريع يحقق العدل ويأخذ لكل ذى حق حقه مع دعوة الناس إلى الصفح ما أمكن ، وهو ما فعله القرآن . أما الكلام الساذج عن إدارة الخد الأيسر لمن يصفعك على خدك الأيمن فهو سذاجة بل بلاهة بل تنطع . وأتحداكم أن تأتوا لى بمن يدعو إلى هذا لأصفعه وأرى ماذا سيفعل ! إنه ما من دولة نصرانية تخلو من المحاكم والعقوبات والسجون ... إلخ مما هو موجود فى كل البلاد ! بل إن الله نفسه يعاقب الأشرار فى الدنيا والآخرة .
وعلى اعتقادكم فإنه سبحانه لم يسامح البشرَ إلا بعد أن عاقب ابنه عقابا لم نسمع أن أبا طبيعيا عاقبه ابنه ، بله أن يكون هذا الابن ابنًا بريئًا بارًّا لم يرتكب ذنبا فى حق أحد ! ترى لماذا لم يجر الله على سنة التسامح التى تدعون إليها وتظنون أنكم تتفوقون بها علينا ، مع أننا، مهما صدقنا ادعاءاتكم فينا، لم نقترف عشر معشار ما اقترفتموه فى حقنا وفى حق الآخرين من جرائم وفظاعات وحشية ؟ فلماذا التساخف إذن لمكايدة المسلمين ؟
أما إذا كان الأمر مجرد تنطُّع للمباهاة والسلام ، فإنى على استعداد لعظة الأوباش بألا يكتفوا بإدارة الخد الأيسر لمن يصفعهم على الأيمن بل لا بد من إدارة القفا أيضا ليتلقَّوْا عليه ما لذ وطاب من الضرب واللَّطْس ثم إدارة الأرداف كذلك للاستمتاع ببعض الركلات ، مع كم لكمةً من اللكمات المنتقاة وكم بَصْقَةً من البَصْق الذى يعجبك كى يكون أجرهم عند الله عظيما فى ملكوت السماوات ! وسلِّم لى على التسامح .
لو أنكم كنتم صادقين فى هذه المثالية المتنطعة ، فلماذا لا تنسَوْن ما تدَّعون أننا آذيناكم به ولا تزالون حتى الآن تتخذونه ذريعة لسحقنا وسحق أية محاولة منا للنهوض من تخلفنا ؟
هذا ، ولم ندخل بعد فى حكاية " من أخذ منك رداءك فأعطه أيضا إزارك " ، وامش بعد ذلك " بلبوصا " تستعرض على الناس فى الشوارع والمجامع سوأتك وأعضاءك التناسلية والإخراجية ، ثم تعال فقابلنى يوم القيامة !
لقد كان من الممكن أن يجوز علينا هذا الكلام لو أننا لم نَخْبُرْكم ونَخْبُر سلوككم وأخلاقكم ! أمّا ، وقد عرفناكم وكان ماضيكم معنا على مدى قرون زفتًا وقَطِرانا ، فكيف يدور فى وهمكم أننا يمكن أن نصدق حرفا مما تقولون ؟
وعلى كل حال فهذا هو نَصّ سورة " المائدة " الذى سلف الحديث عنه قبل قليل : " فمن تصدَّقَ به فهو كفّارة له ". أستغفر الله العظيم ! رضينا بالله ربًّا، وبالإسلا م دينًا ، وبمحمد نبيًّا ورسولا ، وتبرَّأْنا من كل دينٍ يخالف دين الإسلام !
ليس ذلك فقط ، فالواقع أن هذا الإله إلهٌ هجّاصٌ أيضا . ذلك أنه يزعم أنه قد أيّد هذا " الضلال المبين " بالمعجزات حسبما جاء فى الفقرتين الرابعة والخامسة من " سورة المعجزات " . فأين تلك المعجزات يا ترى ؟ أفتونى بعلم أيها العقلاء ! إن النبى الكذاب الضَّلاِلىّ صاحب هذا الكتاب لم يجرؤ على الظهور للناس الذين يزعم أنه أُرسل إليهم ، فكيف يمكن أن يكون قد أتى بمعجزات أراناها فصدّقْنا به وبها ، ونحن لم نتشرف أصلا بطلعته الغبية ؟ إنه يعرف تمام المعرفة أنه لو فقد عقله وأرانا خلقته فليس له عندنا إلا البراطيش ننهال بها على وجهه السمج حتى تتورم خدود العِلْج الزنيم فى عَلْقَة لم يأكل مثلَها حمارٌ فى مَطْلع أو حرامىٌّ فى جامع !(/11)
وفى تلك السورة نفسها نقرأ هذا الكلام العجيب الذى لا يمكن أن يصدر عن أمّىّ ، بله رب العالمين الذى خلق العقل والبيان ، فلا يُعْقَل من ثم أن يَتَدَهْدَى لهذا الدَّرْك الأسفل من العِىّ والفَهَاهة واللامنطق ، إذ جاء فى الفقرة الثامنة منها وصفًا ل " الضلال المبين " الذى يسمونه كذبًا ومَيْنًا بـ " الفرقان الحق " : " صِنْو الإنجيل ورَجْع الصَّدَى وبيان للناس كافة وتذكرة للكافرين ونور ورحمة وبشير ونذير وهدى للضالين لعلهم يتذكرون ويهتدون ". ترى كيف يكون بشيرا للضالين ؟ إن البشارة إنما تكون للمهتدين لا للضالين . لكن من أين يأتى لمخترع هذا " الضلالِ " المنطقُ والبيانُ " وقد طمس الله على بصيرة المزيِّف الدجال ؟
ثم إنه ، بسلامته ، قد حسم الأمر بالنسبة لنا نحن المسلمين ورمانا ، فى الفقرة الثالثة من " سورة المنافقين " ، فى سَقَر ، إذ قال : " وأوردكم جهنم جميعا وإنْ منكم إلا واردها وكان عليه أمرا مقضيا " ، كما أنه يقول فى الفقرة السادسة منها عنا : " وطبع الشيطان على قلوبكم وسمعكم وأبصاركم فأنتم قوم لا تفقهون . لا جَرَمَ أنكم فى الآخرة أنتم الخاسرون " . فكيف يجىء بعد ذلك ويتكلم عن الهداية ؟ والعجيب أنه رغم هذا يعود فى هذه السورة ذاتها فى الفقرة الثامنة قائلا : " يُلْقِى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم يهتدون كلما أوقدوا نار الكفر أطفأناها ويسعَوْن فى الأرض فسادًا فوَيْلٌ للمفسدين " ، مشيرا إلى أنه سوف يأتى علينا يوم نهتدى فيه ، أى نتخلى عن توحيدنا لصالح التثليث الوثنى الذى نفض معظم الناس عندهم فى الغرب أيديهم منه . فكيف يريد هؤلاء المجانين منا أن نأكل ما رماه الغربيون فى صندوق القمامة منذ قرون ؟ إن المجرمين يتخبطون فى المصيدة التى ساقهم بغضهم وكيدهم لمحمد إليها غير مستطيعين التخلص من ورطتهم .
وتعالَوْا ننظر أيضا فى هذا الاضطراب العقلى الذى تعكسه الفقرة حيث نقرأ أننا نحن المسلمين كلما أوقدنا نار الكفر أطفأها الله سبحانه . فها نحن أولاء ، من وجهة نظر هذا الإله المخبول ، نشعل نار الكفر منذ أربعة عشر قرنا ، فلِمَ لَمْ يطفئها ؟ أم سيقال إن عمال المطافئ الذين يشتغلون عنده كانوا مضربين طوال هاتيك القرون عن العمل أو إن أمريكا ضاربةٌ من يومها على مملكته حصارا اقتصاديا يشمل قطع الغيار الخاصة بعربات المطافئ ، فلذلك لا يستطيع تشغيلها بل تقف فى مكانها لا تَرِيم كقطعة الخردة ؟
ثم إنه فى الآية الثالثة عشرة من نفس السورة يعود فيقول : " يا أيها الذين آمنوا من عبادنا ( المقصود هنا النصارى ، وربما اليهود أيضا ) إذا رُفِع لنا دعاء فإنه يستجاب لكم فيهم ولا يستجاب لهم فيكم فأنتم المقسطون وهم المبطلون " . وإننا لنسأل هؤلاء الأوغاد : لماذا ، بدلا من هذه الخَوْتَة ووجع الدماغ وتزييف الكتب الذى تشغلون أنفسكم به ، لا تَدْعُون أنتم وبقية المغفلين أمثالكم لنا بالهداية وتفضونها سيرة وتنصرفون إلى ما يصلح حالكم ، لا أصلح الله لكم حالا ما دمتم تصرون على الكفر والتآمر على عباد الله الموحدين تريدون أن ترجعوهم كفارا بعد أن أنعم الله عليهم بدين التوحيد؟ ألستم تقولون إن الله أوحى لكم هذا الهباب الذى تسمونه " الفرقان الحق " وأكد لكم فيه أن دعاءكم فينا مستجاب ؟ ألستم تريدون لنا أن نؤمن بتثليثكم ؟ بسيطة ! إن الأمر لا يحتاج لأكثر من دعوة ( أو دعوتين إذا لزم الأمر وكان إلهكم نائما نومة القيلولة مثلا أو كان مشغولا بملاعبة ابنه أو مداعبة زوجته ويحتاج من ثَمّ إلى مزيد من التنبيه ) ، وبعدها تجدوننا قد دخلنا فى دينكم وأصبحنا وثنيين مثلكم ، ويرتاح بالكم وتريحوننا من هذه الشتائم التى لا تأتى معنا بنتيجة ؟ صحيح : لم لا تفعلون ذلك ؟ ولكن لا تنسَوْا أن تعطونى الحلاوة إن وفقكم الله ، ولن يوفقكم أبدا لا فى الدنيا ولا فى الآخرة بمشيئته تعالى وحوله وقوته !
كذلك فهذا الإله الضالّ الُمضِلّ لا يستطيع تذكُّر الآيات القرآنية على وجهها الصحيح فتراه يخطئ فى الاستشهاد بها فى معظم الأحيان رغم حرصه على وضعها بين علامتَىْ تنصيص جريا على أسلوب الباحثين حين يريدون أن يؤكدوا أنهم قد نقلوا النص حرفيا: خذ مثلا قوله فى الاستشهاد ، فى الفقرة الحادية عشرة من " سورة القتل " عندهم ، بالآية السابعة عشرة من سورة " الأنفال " : " ولَمْ تقتلوهم ولكن الله قتلهم "، مع أن بدايتها فى القرآن الكريم بالفاء لا بالواو .
كما أنه فى أول " سورة الضالين " يستشهد بسورة " الصَّمَد " القرآنية على غير ما جاءت عليه فى القرآن ، إذ يقول بعد البسملة الوثنية : " وألبس الشيطانُ الباطلَ ثوبَ الحق وأضفى على الظلم جلباب العدل وقال لأوليائه : أنا ربكم الأحد لم أَلِد ولم أُولَد ولم يكن لى بينكم كُفُوًا أحد " . وليس هذا نَصَّ سورة "الصمد" كما نعرفها فى القرآن منذ أُنْزِلت على خير البرية .(/12)
ثم ما الذى يغيظ أى إله فى قولنا عنه إنه واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، اللهم إلا إذا كان إلها أحمق ؟ فلنتركه لحماقته يهنأ بها كما يحلو له هو ومن يرافئونه على هذا الجنون !
أما فيما يسمى : " سورة الطاغوت " فإنه ، عند مهاجمته لشريعة الجهاد التى يتهمها زورا بالعدوانية والظلم وتقتيل الأبرياء ، ينقل على نحو محرف ما جاء فى سورة " التوبة " من أن " الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتِلون فى سبيل الله فيَقْتُلون ويُقْتَلون وعدًا عليه حقًّا فى التوراة والإنجيل والقرآن " ، إذ يقول : " وافترَوْا على لساننا الكذب : بأنا اشترينا من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيلنا وعدا علينا حقا فى الإنجيل . ألا إن المفترين كاذبون ... " . وواضح أن الأفاكين قد أسقطوا عدة كلمات من الآية القرآنية الكريمة عمْدًا حتى لا يُضْطَّروا إلى الإقرار بأن فى التوراة أمرا ، لا بالقتال دفاعا عن النفس والعِرْض فقط كما فى الإسلام ، بل بالقتل بدافع الكراهية للأمم الأخرى وإبادتها لمجرد الإبادة . وهو ما يعضد قول من قال إن هذا " الضلال المبين " هو ثمرة التعاون الأثيم بين الصهيونية والصليبية ، فلذلك يعملون على إظهار اليهود فى صورة المسالم البرىء. والنص الصحيح لآية سورة التوبة هو : " وَعْدًا عليه حَقًّا فى التوراة والإنجيل والقرآن " . ولم يقتصر الأمر فى السورة على هذا الخطإ ، بل هناك خطأ آخر فى الفقرة العاشرة حيث أوردوا فى وحيهم الشيطانى الآية السابعة عشرة من سورة " الأنفال " التى تبدأ بقوله تعالى : " فلَمْ تقتلوهم ، ولكن الله قتلهم " على النحو التالى : " وما قتلتموهم ولكن الله قتلهم " .
كذلك نجد فى "سورة النسخ " خطأ آخر من ذات النوع ، إذ يقول إلههم المسطول فى الفقرة الثانية عشرة : " وإذا قيل : " هو قولٌ افتراه ( أى الرسول ) " قلتم : " فَأْتُوا بعَشْرِ سُوَرٍ مثله مفتريات إن كنتم صادقين ". وتعليقا على هذا نقول : أوَّلا ليس فى القرآن عبارة " هو قول افتراه ". ثانيا : لم يتخذ ردُّ القرآن على دعوى الكفار بافتراء النبى للقرآن صيغةً واحدةً فى كل مرة ، بل كان يختلف من موضع إلى آخر . ثالثا: العبارة التى أوردها هذا الإله المائق المأفون لم ترد فى القرآن على هذا النحو ، بل نصها فى الآية الثالثة عشرة من سورة " هود " هو : " فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " .
وفى " سورة الوعيد " نقرأ فى الفقرة الأولى قولهم : " يا أيها الذين ضلّوا من عبادنا ( والمقصود نحن المسلمين ورسولنا ) : لقد توعدتم عبادنا المؤمنين بلساننا افتراءً فقلتم : " يا أيها الذين أُوتُوا الكتاب آمِنوا بما نزَّلْنا مصدِّقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردَّها على أدبارها ونلعنهم كما لعنَّا أصحاب السبت لَعْنًا " ، مع أن النص القرآنى يقول : " أو نلعنهم " ( بـ " أو " لا بالواو ) ، كما أنه يخلو من المفعول المطلق : " لَعْنًا ". وفوق ذلك فإن هذه الآية موجهة إلى اليهود ، فما معنى تسميتهم فى " الضلال المبين " بـ " عبادنا المؤمنين " ، والنصارى يعدون اليهود كَفَرَةً كُفْرًا لا كفر بعده ولا قبله ؟ أترك المخابيل مع هذه المسألة وحدها يحاولون أن يجدوا لها حلا ، وهيهات ! وإلا لكانوا مكذِّبين بالمسيح وبالأناجيل .
ولعل القارئ لم ينس أيضا ما نبّهْنا إليه قبل قليل من إسقاط هذا الإله الخَرِف للجمل الثلاث من آية سورة " المائدة " التى تتحدث عن القصاص فى التوراة . ونكتفى بهذه الأمثلة ، ومن يُرِدْ غيرها فليرجع بنفسه إلى هذه النصوص الكفرية المتهافتة السخيفة ! ومرة أخرى أرى أن هذا الإسقاط لبعض كلمات الآية القرآنية هو تعضيد لمن يقولون عن تزييف هذا " الضلال المبين " إنه نتيجة الجهود والمؤامرات المشتركة من جانب اليهود والنصارى فى أمريكا مع الاستعانة بطائفة من العرب الأرجاس الأنجاس !
والطريف المضحك أن كتاب " الضلال المبين " يدور كله من أوله لآخره على المسلمين ونبيهم والكتاب الذى أنزله الله عليه : لا يشتم غيرهم ، ولا يحاول أن يَخْتِل أحدا عن دينه سواهم ، ولا يترك شيئا أىّ شىء فى دينهم دون أن يسفِّهه ويُزْرِىَ به مناديا إياهم فى مفتتح كل سورة تقريبا من سور "ضلالهم المبين" بـ " يا أهل الجهل " أو " يا أهل الظلم من عبادنا " أو " يا أيها الذين ضلُّوا من عبادنا " أو " يا أيها الذين أشركوا من عبادنا الضالين " أو " يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين " أو " يا أيها المنافقون من عبادنا الضالين " أو " يا أيها المفترون من عبادنا الضالين " أو " يا أهل التحريف من عبادنا الضالين "، وكأن الله سبحانه وتعالى لم تعد له شُغْلَة ولا مَشْغَلَة إلا المسلمون .
ولكن لم يا ترى ؟(/13)
السبب هو أن المسلمين يوحّدونه ولا ينسبون له ولدا ، سبحانه ! ولأنهم يصلّون له وحده لا يشركون فى عبادتهم له أحدا من خلقه . باختصار : لأنهم لا يتبعون سُنّة الوثنيين فى أىٍّ من عقائدهم أو عباداتهم أو تشريعاتهم . فهذا التوحيد النقى المطلق هو الذى يغيظ ... يغيظ من ؟ لا ، لا يمكن أن يغيظ هذا الإيمانُ الناصعُ الصافى اللهَ سبحانه وتعالى بل إلها أحمق مغفَّلا كهؤلاء الذين يعبدونه وهم يحسبون ، بعقولهم الزَّنِخَة العَطِنة وقلوبهم السوداء العَفِنة ، أنهم يُحْسِنون صنعا!
هذا إلهٌ متخلفٌ ينبغى أن يُعْهَد به إلى من يُفَهِّمه ويرشده ويُحَضِّره ويُبَصِّره بمصلحته وما يصحّ وما لا يصحّ فى حقه ، بالضبط كما يفعلون بأولياء العهد فى الدُّوَل الملكية ، إذ يُحْضِرون لهم فى صغرهم أساتذة يعلّمونهم فنون البروتوكول ، حتى إذا جاء عليهم الدَّوْر ليحكموا البلاد كانوا جاهزين لتولى أمور المُلْك ولم يكونوا عارا على بلادهم وأُسَرهم . ولكن يبدو أن هذا الإله لم يجد فى صباه من يأخذ بيده ويعلّمه مقتضيات الألوهية على وجهها الصحيح ، فلذلك نراه يفضّل أن يشرك به عبادُه على أن يُفْرِدوه بالألوهية ويخصّوه بالعبادة والدعاء والتمجيد !
إن هؤلاء الأغبياء ما زالوا سادرين فى أوهامهم التى كانت تجوز على المتخلفين فى العصور الوسطى والتى تخلصت منها أوربا عندما أذَّن فيها المؤذن ببزوغ فجر النهضة ، ناسين أننا الآن فى القرن الواحد والعشرين !
صحّ النوم يا أيها المتخلفون !
أو لم تجدوا فى طول الأرض وعرضها على رُحْبها واتساعها من يحتاج إلى الهداية إلا المسلمين ؟ أولم يأتكم نبأ عُبّاد البقر أو عُبّاد النار أو عُبّاد الشيطان أو الشيوعيين مثلا ؟ أَوَقَدْ نَسِيتم ما كنتم تقولونه فى اليهود الذين تتهمونهم بقتل ربكم ؟ ألا يحتاج أىٌّ من هؤلاء أن تُولُوه شيئا من هذا الحنان الزائف الذى تغدقونه علينا بالإكراه والذى تسمونه : " المحبة " ؟
فلنفترض أننا نحن المسلمين ضالون فعلا كما تزعمون كذبًا ومَيْنًا ، أليس ضلالنا هذا أنظف من ضلال هؤلاء الذين ذكرتُهم آنفا؟ إننا على الأقل نعبد الله ونوحّده ولا نشرك به شيئا ، فضلا عن أننا لم نقتل المسيح ولم نطعن أمه فى عِرْضها مما سنتناوله بالتفصيل فيما بعد ، بل نؤمن به نبيًّا من أنبياء الله ونحترمه ونكرّم أمه تكريما لا يكرِّمها إياه أحد من العالمين . فنحن إذن ، على أسوإ الفروض ، أفضل من غيرنا، فلماذا كل هذه البذاءة والسفالة والوقاحة مع رسولنا ومعنا دون الناس أجمعين ؟ ثم تقولون لنا بعد ذلك إن دينكم هو دين المحبة !
أية محبة تلك التى تسوِّل لكم التطاول علينا واتهامنا مع ذلك كله بأننا نحن المعتدون القاتلون اللصوص السارقون ، فى الوقت الذى تهجمون فيه على بلادنا وتدمرونها تدميرا ، وتقتّلون رجالنا ونساءنا وأطفالنا ، وتسرقون بترولنا ، وتحتلون بلادنا ، وتعذّبوننا وتهينوننا وتنتهكون أعراض نسائنا ، وتضربوننا بالقنابل والصواريخ والطائرات والدبابات والبوارج ... إلخ ؟ إن جنودكم اللوطيين ومجنَّداتكم السحاقيات يعتدون على إخواننا وأخواتنا فى السجون والمعتقلات فى أرض الرافدين ( وهذا مجرد مثال ) بكسر عظامهم ، وإبقائهم عرايا فى صَبَارَّة الشتاء مع غمر الزنازين بالماء الوسخ حتى لا يستطيع المساكين النوم ، وتسليط الكلاب المتوحشة عليهم تنهش خُصَاهم وغراميلهم فينزفون حتى الموت ، فضلا عن إكراههم للأب أن يمارس اللواط مع ابنه والعكس بالعكس ، واغتصاب النساء والفتيات العفيفات اللاتى يفضلن الموت بعد خروجهن من المعتقل على الحياة مع هذا العار ، طالبين منهم ومنهن أن يشتموا الله ورسوله ويرددوا أنهم يؤمنون بالصليب وبيسوع ابن الله ، قائلين إنهم جاؤوا إليهم يحملون رسالة المحبة ، وهم لم يحملوا إلا رسالة اللواط والسحاق والتعذيب والتقتيل والتدمير البربرى الذى لا يترك شيئا يمرّ عليه إلا جعله أنقاضًا وأحجارًا لا يُعْفِى من ذلك مدرسة ولا مصنعا ولا متحفا ولا بيتا ولا مسجدا ؟ أية محبة جئتمونا بها أيها الوحوش ؟ لعنة الله عليكم وعلى ما جئتمونا به ! اغربوا عن وجوهنا ، لا نريد أن نراكم !
أىّ جنون ذلك الذى طوّع لكم أننا يمكن أن نترك توحيدنا الطاهر العظيم وندخل معكم فى تثليثكم وتصليبكم ؟ فلتحتفظوا بهذه المحبة لأنفسكم بدلا من اللهاث وراء إضلال من هداهم الله وعافاهم من هذا الرجس وذلك البلاء ، والعياذ بالله !
لماذا لا توجهون دعوتكم هذه إلى من تركوا منكم دينهم واتخذوا الإلحاد دينا بديلا ، وهم الأغلبية الساحقة فيكم ؟
أنتم تقولون فى " ضلالكم المبين " إننا ذاهبون إلى الجحيم ! ماشٍ ، فلتريحوا إذن أنفسكم ولتوفروا جهودكم وأموالكم وأوقاتكم ، ولتنصرفوا عنا ما دام الأمل فينا مقطوعا. أليس هذا ما يقول به العقل يا من عدمتم العقل ؟
والآن إلى بعض ما يقوله هؤلاء الأوساخ فينا وفى رسولنا وديننا عقيدةً وعبادةً وتشريعًا(/14)
" يا أيها المنافقون من عبادنا الضالين : أَنَّى تشهدون بما لم تشهدوا وترددون ما لا تفقهون . لقد شهدتم إفكا وقلتم بَهْتًا ونُكْرا * وبلَّغتم الناس ما ليس لكم به علم . وأنفذتم جاهليتكم على الراسخين فى العلم والدين القويم فأثقلتم كواهلهم وزرا * وشُبِّه لكم الحق فما فهمتم للتجسد معنى وما فهمتم للبنوة مغزى وما أدركتم للفداء مرمى وما علمتم من أمور الروح أمرا * وعلَّم الأميين أمِّىٌّ كافر فزادهم جهلا وكفرا * وأخرجهم من النور إلى الظلمات وأضلهم قسرا " ( الشهادة/ 1- 6 ).
" إن الذين يُقِيمون الصلاة فى زوايا الشوارع والمساجد رياءً كى يشهدهم الناس ذلكم هم المنافقون وهم فى الحقيقة لا يُصَلّون * فمن نوى أن يصلى فليدخل داره وليغلق بابه ويصلِّ خفيةً نجزيه علانية بعين العالمين * تكررون الكلام لغوا كعَبَدَة أوثان تظنون أنكم بالتكرار تُسْتَجَابون * إننا نعلم سُؤْلكم قبلما تَسْألون * وترددون الدعاء طمعًا بدخول الجنة فلن تُفْتَح أبواب الجنة للمنافقين . أما الذين يعملون بمشيئتنا فهم الذين يدخلون " ( الصلاة / 3 – 7 ) .
" يا أيها المنافقون من عبادنا : إن صيامكم غير مقبول لدينا وغير ممنون * فما كان الصوم تضوُّرًا لأجَلٍ معلوم * تتخمون صُوَّما أكثر منكم مفاطر وكالأنعام تَطْعَمون * ترهقون أجسادكم ونفوسكم نهما فكأنكم ما طَعِمْتم من قبل ولن تكونوا من بعد طاعمين * وتأكلون السنة فى شهرٍ جشعا لضَعَتكم وتضوُّركم فخيرٌ لكم ألا تصوموا فإنه لا أجر للضعاء والمتضورين * وتكلِّحون وجوهكم وتصعِّرون خدودكم للناس لتَظْهَروا صائمين إنما يفعل ذلك القوم المنافقون " ( الصيام / 3 - 8 ) .
" يا أهل العدوان من عبادنا الضالين : تسفكون دماء البهائم أضحيات تبتغون مغفرة ورحمة من لدُنّا عما اقترفت أيديكم من قتل وزنى وإثم وعدوان * إنما أضحية الحق قلبٌ طهيرٌ يتفجر رحمة ومحبة وسلاما لعبادنا ورفقا بالبهائم فلن ينالنا لحومُها ولا دماؤها ولكن ينالنا تقوى المتقين " ( الأضحى/ 7 – 8 ) .
" وهبط الذين اتبعوا الطاغوت إلى دركٍ سحيقٍ فاشْتَرَوُا الحربَ بالسلام والسلبَ بالإحسان والزنى بالعفة والكفرَ بالإيمان فخسرت تجارتهم وكسبوا عذابا وبيلا * واقترفوا الفحشاء والمنكر والبغى سعيًا وراء جنة الزنى يوعَدونها وَعْدًا غَرورًا وثوابًا إفكًا من الشيطان ، ألا بُعْدًا لجَنّة الكافرين وتَعْسًا لمن بها يُوعَدون * وافترَوْا على لساننا الكذب : " بأنا اشترينا من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيلنا وعدًا علينا حَقًّا فى الإنجيل " . ألا إن المفترين كاذبون . فإنا لا نشترى نفوس المجرمين إنما اشتراها الشيطان اللعين * وأشركونا فى عصبة تقتل وتسلب عبادنا وفرضوا لنا فى خمس ما يغنم الغزاة المجرمون * وبرّأهم المنافقون فقالوا : " وما قتلتموهم ولكن الله قتلهم ". ألا إنا لا نقتل عيالنا لنغنم مع القتلة والمعتدين " ( الطاغوت / 6 – 1 ) .
" يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين : لقد جعلتم من جناتنا مواخر للزناة ومغاور للقتلة ومخادع رِجْس للزانيات ونُزُل دعارة للسُّكارَى والمجرمين " ( الكبائر / 1 ) ... إلخ .
ومن الواضح أن مَثَلهم حين يتظاهرون بالعيب على دين رب العالمين كَمَثَل المومس التى لا يعجبها عفة الحرائر الشريفات فتذهب تعيبهن قائلةً فى تباهٍ وتشامخٍ كاذبٍ داعرٍ إنها عشيقة لفلان وفلان من أكابر القوم وليست زوجة لرجل لا هو صاحب شهرة ولا ذو منصب كبير من السفلة المجرمين !
ماذا فى إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة والصلاة والصيام ؟
وماذا فى الصلاة فى المساجد بحيث يُزْرِى عليها الكَفَرَة المارقون ؟ ألا يصلون فى الكنائس ؟ أكل من صلى منهم يذهب إلى مخدعه فيصلِّى؟ إن الصلاة فى الإسلام تجوز فى أى مكان : فى الشارع ، وفى الحقل ، وفى المصنع ، وفى ميدان القتال ، وفى السَّفَر ، وفى الحَضَر... ذلك أن الله سبحانه فى كل مكان ، ولا بد من عبادته فى كل حين ، وإلا فلو انتظر الإنسان حتى يعود إلى كِسْر داره ويدخل مخدعه فلن يصلى ركعة واحدة إن شاء الله ، وهذا ما حدث فى بلادكم ، حيث لا تذكرون الله إلا كل أسبوعٍ مرة . وهذا بالنسبة للعجائز وأمثالهم ، أما الشبان والشابات فإنهم لم يعودوا يعبدون الله ولا مرة كل مائة عام ، فقَسَتْ قلوبهم ، فبئس الاقتراح اللعين من القوم الملاعين ! والعبرة فى كل حال بإخلاص النية وتطهير القلب من الرياء ، أما اتهام الآخرين بالنفاق زورا وبهتانا عاطلا مع باطل ، واحتقار عبادة الموحدين وإظهار التنطُّس والاشمئزاز منها ، فهو بعينه الكِبْر وجمود القلب الذى أَصْلَى المسيحُ عليه السلام اليهودَ بسببه قوارصَ الكلمات وقوارضَ اللعنات !
ثم ماذا فى الصيام ؟ أليس فى دينكم صيام أيضا ؟(/15)
وماذا فى الأضاحى ؟ إنكم تُظْهِرون الشفقة عليها ، فهل نفهم من هذا أنكم لا تذبحون الحيوانات ولا تتسمَّمون بها ؟ وهل يكره الله من عباده أن يُطْعِموا من أضاحيهم الفقراء والمساكين ؟ فأين المحبة والرحمة التى تصدِّعون رؤوسنا بها ليل نهار ؟ أم إن اللحم لا يصلح إلا إذا كان من جسد المسيح تأكلونه كما يفعل الوثنيون ؟ كيف يا إلهى يأكل الإنسان جسد ربه ويشرب دمه ؟ ومن غبائكم وجهلكم تسمّونه " الخروف " كما أفهمكم يوحنا فى هلاويسه ( رؤيا / 5 / 6 فصاعدا . وفى إنجيل يوحنا أنه " حَمَل " / 1 / 29 ، 36 ) ، فيا لكم من خرفان غبية بليدة تسمِّى ربَّها خروفا .
يا أكلة الخنزير الذى حرّمته السماء وحلّله لكم ، تقرُّبًا إلى الوثنيين ، بولس اللعين ( كورنتوس 1 / 6 / 12– 13 ، 9 / 19 – 29 ، وكولُسِّى/ 2 كله ) ، ومهّد له الطريقَ قبلا بطرسُ ذو العقل الثخين ( أعمال الرسل / 9 – 16، و 11/ 2 – 10 ) ، والذى يجعلكم تبغضوننا وتحقدون علينا إلى يوم الدين ! إننا حين نذبح الأضاحى إنما نذبحها ليَطْعَم معنا منها المحتاجون والجائعون ، لا ليتمتع برائحتها الله رب العالمين ، وكأنه إله من آلهة الوثنيين حسبما صورتموه فى " الكتاب المقدس " لديكم ، ولذلك تُتْرَك فلا يأكل منها أحد. وهذا معنى قوله تعالى : " لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ، ولكنْ يناله التقوى منكم " ( الحج / 37 ) ، الذى سرقتموه كعادتكم ونقلتموه إلى " ضلالكم المبين " ، دون فهم كالحمار الذى يجلس إلى مكتب ويمسك كتابا بحوافره يظن أنه بذلك سيكون من الآدميين الذين يفهمون ، ثم جئتم تَشْغَبون به علينا فى عنادٍ حَرُون . وهذه أول مرة أسمع بإله يضيق صدره بإطعام الفقراء والمساكين . أىّ إله هذا يا ترى ؟ ومن أية جِبِلَّةٍ جُعِل ؟ هذا إلهٌ قاسٍ غليظ القلب والوجدان ، نعوذ بالله منه وممن صنعوه وعبدوه !
على أن ثمة شيئا خطيرا فات هؤلاء الأوغاد ، ألا وهو أن الإسلام هو الدين الوحيد الذى يشهد كتابه لمريم عليها السلام بالعفة ، فهل من العقل أن يأتى إنسان إلى الشاهد الوحيد الذى يملكه فيسبّه ويتطاول ويتسافه عليه ويكذِّبه ويفترى ضدَّه الأكاذيب ؟ إن ذلك لهو الحماقة بل هو الجنون بعينه ، فضلا عما فيه من قلة أدب ووغادة !
ومعروف ما يقوله ، عن عيسى وأمه ، اليهود الذين يضع الأوغاد الآن أيديهم فى أيديهم ليكونوا علينا إِلْبًا واحدا . إنه عندهم ابن سِفَاح ، وكانوا يعرّضون به قائلين فى وجهه : " لسنا مولودين من زِنًى " ( يوحنا / 8 / 42 ).
وبطبيعة الحال لا يمكن إبطال هذه التهمة بأدلة قانونية ، إذ المعروف أن المرأة لا تحمل ولا تلد إلا إذا اتصلت برجل : عن طريق الزواج أو من خلال علاقة غير شرعية . ولم تكن مريم قد تزوجت بعد ، فلم يبق أمام الناس إلا الباب الثانى ، اللهم إلا إذا ثبت بدليل غير عادى أنها لم تَزْنِ ، وأين هذا الدليل إلا فى القرآن الكريم ، الذى يتطاول عليه بَغْيًا وعَدْوًا أغبى من عرفت الأرض من المخلوقات ؟ لقد ذكر المولى فى كتابه أن جبريل عليه السلام قد أتاها رسولا من الله ونفخ فى جيبها فحملت بعيسى . لكن أحدا لم يَرَ جبريلَ وهو يفعل ذلك ، فلم يبق إذن إلا تبرئة القرآن الكريم لها ، فضلا عما حكاه عن كلام عيسى فى المهد دليلا على عفتها ! والغريب أن هذا الدليل الذى يقول به القرآن لتبرئة مريم غير موجود فى الأناجيل الموجودة فى أيدى النصارى ! فما معنى هذا ؟ معناه أن هؤلاء الحمقى المغفلين يتركون الدنيا كلها ويتفرغون للتطاول والتباذُؤ والتسافُه وإقلال الأدب والحياء على المسلمين ، الذين يمثلون المخرج الوحيد لهؤلاء البهائم من ورطتهم ! وهذا دليل على الخبال الذى هم فيه ، وهو أمر طبيعى جدا ، إذ ما الذى ننتظره لمثل هؤلاء الأباليس ؟ أننتظر أن يوفقهم الله جزاء كفرهم وبغيهم على رسوله والكتاب الذى أنزله عليه نورًا للعيون وهُدًى للقلوب ؟(/16)
ولم يكن اليهود هم الوحيدين الذين ينسبون عيسى عليه السلام إلى أب من البشر ، بل كان الناس جميعا يقولون إن أباه هو يوسف النجار. لا أقول ذلك من عندى ، بل تذكره أناجيلهم التى نقول نحن إنها محرفة فيكذّبوننا عنادا وسفاهة ! لقد كتب يوحنا فى إنجيله ( 1 / 5 ) أن الناس كانت تسميه " ابن يوسف " ، وهو نفس ما قاله متى ( 1 / 55 ) ولوقا ( 3 / 23 ، و 4 / 22 ) ، وكان عيسى عليه السلام يسمع ذلك منهم فلا ينكره عليهم . بل إن لوقا نفسه ( 2 / 27 ، 33 ، 41 ، 42 ) قال عن مريم ويوسف بعظمة لسانه مرارًا إنهما " أبواه " أو " أبوه وأمه ". كذلك قالت مريم لابنها عن يوسف هذا إنه أبوه ( لوقا / 2 / 48 ). ليس ذلك فحسب ، بل إن الفقرات الست عشرة الأولى من أول فصل من أول إنجيل من الأناجيل المعتبرة عندهم ، وهو إنجيل متى ، تسرد سلسلة نسب المسيح بادئة بآدم إلى أن تصل إلى يوسف النجار ( " رجل مريم " كما سماه مؤلف هذا الإنجيل ) ثم تتوقف عنده . فما معنى هذا للمرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة ...؟ لقد توقعتُ ، عندما قرأت الإنجيل لأول مرة فى حياتى ، أن تنتهى السلسلة بمريم على أساس أن عيسى ليس له أب من البشر ، إلا أن الإنجيل خيَّب ظنى تخييبا شديدا ، فعرفت أنّ من طمس الله على بصيرته لا يفلح أبدا . ثم إنهم بعد ذلك ، ويا للغرابة ، يجدون فى أنفسهم النَّتِنة الجرأةَ على التَّسَافُه على رب العالمين وإيذاء رسوله الكريم فى صحائفَ ملفقة زاعمين أنها وحى من لدن رب العالمين ، وكأن الله سبحانه وتعالى لم يجد فى كونه الواسع العريض غير المآبين الموكوسين ليتخذ منهم أنبياءه وينزّل عليهم وحيه الشريف !
لكن خيبة هؤلاء السفهاء لا تنتهى عند هذا الحد ، إذ هم يُصِرّون على أنه عليه السلام قد صُلِب ، ويخطِّئون القرآن لنفيه واقعة الصَّلْب ، بل يكفّروننا نحن ورسولنا لهذا السبب ، مع أنهم لو عقلوا لقبلوا أيديهم ظهرًا لبطن ، ثم عادوا فقبلوها بطنًا لظهر ... وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية . لماذا ؟ لأن العهد العتيق الذى لا يصح لهم إيمان إلا به يؤكد أن من عُلِّق على خشبة فهو ملعون من الله ( تثنية الاشتراع / 21 / 22 ) ، وعيسى ، بنَصّ ما جاء فى " أعمال الرسل " ، قد عُلِّق على خشبة ( 5 / 30 ، و10 / 39 ) ، أى صُلِب .
ولقد شعر اللعين بولس بالوكسة التى وقع فيها محرِّفو الأناجيل ومزيِّفوها حين قالوا بصلبه عليه السلام فأقرّ ، فى رسالته إلى أهل غلاطية ( 3 / 13 ) ، باللعنة التى وقعت على رأس المسيح بتعليقه على الخشبة ، بَيْدَ أنه سارع إلى لىّ الكلام عن معناه مدَّعِيًا أن تحمُّل ذلك النبى الكريم للّعنة إنما كان من أجل البشر. وبطبيعة الحال هو لم يقل عنه إنه نبى بل إله ! إذن فهم أنفسهم يقرون بأن إلههم ملعون ، وهذا يكفينا ، ولا يهم بعد ذلك أن نعرف السبب الذى صار ملعونا لأجله ، فهو لا يقدم فى الأمر ولا يؤخر!
أليس من العار أن يعتقد إنسان أن الرب الذى يؤمن به ويعبده ويبتهل إليه ويطلب منه البركة والخير هو نفسه ملعون ؟ فكيف يطلب منه إذن ما لا يملكه بل ما يحتاج من غيره أن يوفّره له ؟
على رأى المثل : جئتك يا عبد المعين تُعِيننى ، فإذا بك يا عبد المعين تُعَان !
والله إنها لمهزلة !
إنها أول مرة يسمع الواحد فيها بإله ملعون ! ولكن لم لا ، وقد جعلوه خروفا ، كما روَوْا فى أناجيلهم المزيَّفة أنه قد مات على الصليب بعد أن أُهين وضُرِب وشُتِم وبُصِق عليه ووُضِع الشوك على رأسه وسُخِر منه وسُمِّرَت يداه ورجلاه فى الخشب وطُعِن فى خاصرته بالرمح وجعلوا من لا يشترى يتفرّج ، وهو فى حال من العجز تامة لا يستطيع أن يصنع هو ولا أبوه شيئا رغم الآلام التى كانت تعذّبه والصرخات التى كان يرسلها فى الفضاء فى مسامع ذلك الأب القاسى الغبى ؟
أما نحن المسلمين فإننا نرفض الصَّلْب أصلا من جذوره ، ومن ثَمَّ فلا لعنة ولا يحزنون !
وبهذا يتبين للقراء البؤس العقلى الضارب بأطنابه على أولئك الطَّغَام الذين يزعمون أنهم أَتَوْا لهدايتنا ، وهم أضلّ خلق الله ! أترى أحدا قد سمع بمثل هذا البؤس من قبل ؟ ألم أقل إن من يغضب الله عليه لا يفلح أبدا ؟
ومع العَمَى الحَيْسِىّ الذى يسدّ السبيل على هؤلاء الأغبياء نمضى ، فماذا نجد ؟
لقد وردت ، فى الفقرة الحادية عشرة من " سورة الزنى " فى " ضلالهم المبين " ، الكلمة التالية : " ووصينا عبادنا ألا يحلفوا باسمنا أبدا وجوابهم نَعَمْ أَوْ لا . فقلتم بأن من كان حالفا فليحلف باسم الإله أو يصمت . وهذا قول الكفرة المارقين " .
وأول شىء نحب أن نقوله هو : ما علاقة الحلف بالله بالكفر ؟ وإذا لم نحلف بالله إذا أردنا أو أُرِيدَ منا أن نُطَمْئِن الآخرين فبأى شىء نحلف ؟ أنحلف بسيدى سِحْلِف ، الذى يأكل ويَحْلِف ؟
أنا لا أضحك ، ولكنى أحاول تجنب انفقاع مرارتى !(/17)
وطبعا مفهومٌ من الذى يقصده الأوباش بالكفرة المارقين ! إنه نبينا وسيدنا وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم . نعم سيدهم وتاج رؤوسهم ، وإن كانوا لا يستحقون شرف سيادته عليهم .
إن الحَلِف موجود فى كل المجتمعات والعصور والديانات بما فيها شريعة موسى التى أكد المسيح ، حسبما تروى عنه الأناجيل ، أنه ما جاء لينقض أحكامها بل ليتمّمها والتى تنظّم عملية الحلف بتشريعات خاصة به جوازا ووجوبا وحرمة ( تكوين / 25 / 3 ، وخروج / 22 / 1، وعدد / 30 / 2 ).
فمن أين جاءت المشكلة إذن ؟
إن المسيح فى نفس العبارة التى يؤكد فيها أنه ما جاء لينقض الناموس ( أى شريعة موسى ) بل ليتمّمه يسارع فى التو واللحظة بنقض كل ما أكده فى هذا الصدد قائلا إنه إذا كان قد قيل للقدماء كذا فإنه هو يغيّره إلى كذا . وكان من بين ما غَيَّرَ حُكْمَه القَسَمُ ، وهذا نَصّ ما قاله فى هذا الصدد : " قد سمعتم أيضا أنه قيل للأولين : لا تحنث بل أَوْفِ للرب بأقسامك ، أما أنا فأقول لكم : لا تحلفوا البتة : لا بالسماء لأنها عرش الله ، ولا بالأرض فإنها موطئ قدميه ، ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك الأعظم ، ولا تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة منه بيضاء أو سوداء . ولكن ليكن كلامكم : " نَعَمْ نَعَمْ ، ولا لا " ، وما زاد على ذلك فهو من الشرير " ( متى / 5 / 33 – 37 ). وجاء فى "رسالة يعقوب " ( 5 / 12) : " يا إخوتى ، لا تحلفوا لا بالسماء ولا بالأرض ولا بقَسَمٍ آخر، ولكن ليكن كلامكم نعم نعم ، ولا لا ، لئلا تقعوا فى الدينونة ". وهذا كل ما هنالك . فهل فى هذا الكلام ما يفهم منه أن القسم كفر؟ بطبيعة الحال لا يوجد شىء من هذا لا من قريب ولا من بعيد.
هذه واحدة ، والثانية هى أن الله نفسه قد صدر عنه القَسَم حسبما روى لنا العهد الجديد نفسه ، فما القول إذن ؟
جاء على سبيل المثال فى " لوقا " ( 1 / 73 - 74 ) : " ... القَسَمَ الذى حلف ( الله ) لأبينا إبراهيم أن يُنْعِم علينا * بأن نَنْجُوَ من أيدى أعدائنا ... " .
ويقول كاتب " أعمال الرسل " ( 2 / 31 ) : " كان ( داود ) نبيا وعلم أن الله أقسم له بيمينٍ أن واحدا من نسل صلبه يجلس على عرشه ... ".
بل إننا نقرأ فى " رسالة القديس بولس إلى العبرانيين " ( 6 / 13 – 17 ) : " لأن الله عند وعده لإبراهيم ، إذ لم يمكن أن يُقْسِم بما هو أعظم منه ، أقسم بنفسه * ... * وإنما الناس يُقْسِمون بما هو أعظم منهم وتنقضى كل مشاجرة بينهم بالقَسَم للتثبيت * فلذلك لمّا شاء الله أن يزيد وَرَثَة الموعد بيانا لعدم تحوُّل عزمه أقسم بنفسه " .
وهذا ما قلناه قبل قليل ، فلماذا إذن التنطع الكاذب وقلة الأدب والسفاهة مع سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم ؟
كذلك فالملاك ، بنص كلام يوحنا فى " رؤياه " ( 1 / 6 ) ، يقسم بالله " الحى إلى دهر الدهور خالق السماء وما فيها والأرض وما فيها والبحر وما فيه " .
ليس ذلك فقط ، بل هذا هو بطرس ، خليفة السيد المسيح كما يقولون وأكبر حوارييه ومؤسس كنيسة روما ، يحلف كذبا ، فى آخر حياة سيده أمام الجمع الذى جاء للقبض عليه ، ثلاث مرات متتالية إنه لا يعرفه ولا علاقة له به قائلا : " إنى لا أعرف الرجل ! " ، رغم أن المسيح كان قد نبَّهه إلى أنه سينكره فى تلك الليلة ثلاثًا قبل أن يصيح الديك ، ومع ذلك وقع كالجردل فى الإثم الذى نبَّهه إليه نبيُّه ! ( متى / 26 / 72 – 73 ، ومرقس / 14 / 71 ) مستحقا بأثرٍ رجعىٍّ وَسْم السيد المسيح له قبلا بأنه " شيطان " وأنه لا يفطن إلا لما للناس ولا يفطن لما لله ( مرقس / 8 / 32 ) .
فماذا يقول الأوغاد فى هذه أيضا ؟
ثم إننا نسألهم : ألا تحلفون كلكم فى حياتكم اليومية وفى المحاكم وعند ممارسة الأطباء منكم الطب وتَوَلِّى الحكّام حُكْم بلادهم ... إلخ ؟ ألا يُقْسِم النصارى فى كل لحظة أمامنا بـ " المسيح الحى " و" العذراء " و" الإنجيل " ؟
وبعد ، فهل يشجِّع الإسلام على القَسَم كما يوحى كلام هؤلاء المآبين فى " ضلالهم المبين " ؟ كلا على الإطلاق ، ففى القرآن نقرأ قوله تعالى : " ولا تجعلوا الله عُرْضَةً لأيمانكم " ( البقرة / 225 ) ، " واحفظوا أيمانكم " ( المائدة / 89 ) ، " ولا تُطِعْ كلَّ حَلاّف مَهِين " ( القلم / 10 ) ، وفى الحديث مثلا أن الحَلِف إذا كان مَنْفَقَةً للسلعة ، فهو َممْحَقَةٌ للبركة .
إذن فما قاله هؤلاء الفجرة التافهون المتنطعون لا يعدو أن يكون زوبعة فى فنجان !(/18)
أما نَهْى الرسول عليه السلام الذى ذكره الأوغاد الفَجَرة فى سورتهم المفتراة المزيَّفة عن الحَلِف بالآباء وأَمْره عليه السلام لمن يريد الحَلِف أن يحلف بالله بدلا من ذلك أو فلْيصمت ، فمعناه بكل وضوح لمن يريد أن يعرف الحقيقة لا مجرد الشَّغَب على سيد المرسلين هو محاربة العصبية القبلية التى كانت متفشية بين العرب أوانذاك وما يرتبط بها من التعظُّم بالآباء والأحساب والأنساب ، فأراد الرسول الكريم أن يبين لهم أن البشر جميعا هم خلق الله وعياله وأنه لا فضل لأحد على أحد بنسب أو حسب ، وأن توجُّه المؤمن ينبغى أن يكون لله وحده بوصفه عبدا له ينبغى أن يكون دائما على ذكْرٍ منه . وهذا هو المعنى الذى أراده الرسول عليه السلام ، وهو معنى إنسانى عظيم لمن لم يطمس الله على بصيرته ويريد أن يفهم .
وبداية الحديث وختامه يدلان على أنه صلى الله عليه وسلم لا يحبِّذ الحَلِف ، وهذا واضح من استخدام جملة الشرط ، التى تعنى أنه إذا كان لا بد من الحَلِف فليكن باسم الله لا بأسماء الآباء التى من شأنها إحياء النوازع والنعرات الجاهلية لا أن الحلف فى ذاته مرغوب!
ولنفترض أن المسيح قد نسخ حكم التوراة فى الأيمان ، فلم لا يكون من حق سيدنا رسول الله أن ينسخ بدوره ما قاله المسيح ؟
وأغلب الظن أن عيسى عليه السلام ، إن صحّ ما ترويه عنه الأناجيل فى هذا الصدد ، قد لاحظ كثرة لجوء اليهود إلى الحَلِف لأكل حقوق الناس بالباطل ، فأراد أن يضع حدا لهذه الظاهرة ، وإن كان فى عبارته ، كما هى العادة فى الكلام المنسوب إليه فى الأناجيل ، مغالاةٌ أراد أن يوازن بها مغالاة اليهود فى المسارعة إلى استغلال اسم الله فى خداع الآخرين !
فكلا النبيين الكريمين أراد أن يعالج ظاهرة نفسية وخلقية ذميمة رآها منتشرة بين معاصريه .
وبالمناسبة فإنهم يعيبون محمدا عليه الصلاة والسلام بأنه أتى بالنسخ ويكفّرونه من أجل ذلك ( سورة الرعاة / 8 – 10 ) ، مع أن المسيح ، حسبما ورد فى الأناجيل كما رأينا ، هو الذى ابتكره رغم أنه أنكر أن يكون قد أتى لينقض الشريعة أو يَحُلّ الناموس ! وهكذا نرى أنه ما من شىء يقوله هؤلاء الأغبياء زورًا وبهتانًا إلا فضحهم الله فيه ! وبالمناسبة فعلماء الإسلام لا يقولون كلهم بوقوع النسخ فى القرآن .
وأخيرا نود أن نجلِّىَ جانبا من جوانب العبقرية الإسلامية فى مجال القَسَم ، فعلى عادة الإسلام نراه ينتهز هذه السانحة لاستخلاص كل ما يمكن استخلاصه منها من فوائد ، إذ يفرض كفارة على من يُقْسِم ثم يحنث بيمينه ، إذ يُوجِب عليه عتق أحد الأرقاء أو إطعام عشرة مساكين أو كساءهم ... وهَلُمَّ جَرًّا ، نافعا بذلك المجتمعَ ومساكينَه وفقراءه بأيسر سبيل . فانظر إلى هذه العبقرية الخلاقة التى تنجز أضخم الإنجازات بأقل الإمكانات ، بدلا من التوقف عند لطم الخدود وشق الجيوب على قلة الإمكانات وعدم الفرص كما يفعل كثير من العرب والمسلمين اليوم حتى فى ميدان الكرة كما هو معلوم . والنتيجة هى هذا التخلف الشامل الذى نعانى منه على كل المستويات وفى كل المجالات !
فهذا عن القَسَم ، ثم ننتقل إلى تعدد الزوجات ، الذى يعده أهل اللواط والسحاق زِنًى وإشراكا بالله ، فكأنهم يؤلهون المرأة ويعدّون من يأخذ معها زوجة أخرى مشركا . ولو أنهم قالوا إن الأفضل الاقتصار على زوجة واحدة ما لم تكن هناك ضرورة لما وجدوا من يخالفهم ، وهذا هو موقف الإسلام ، أما الزعم بأن الزواج بأكثر من واحدة هو زنى وشِرْكٌ فَجُنونٌ مُطْبِقٌ ليس لصاحبه موضع إلا فى مستشفيات الصحة العقلية والنفسية !
ألا يدرك هؤلاء الأغبياء أنهم بهذا يكفّرون أنبياءهم ويَقْرِفونهم بالفحشاء ؟ ألا يعرف هؤلاء المخابيل أن إبراهيم وموسى وسليمان وداود وغيرهم من أنبياء العهد القديم كانوا من أهل التعديد ، بل كان فى حريم بعضهم عشرات النساء ؟
ألا يعى هؤلاء المناكيد أنهم بهذا يلوّثون عيسى نفسه ، الذى ينتمى إلى داود وسليمان ، وكانا من أهل التعديد كما ذكرنا ؟
لكنْ مَتَى كان عند أولئك البلهاء عقل يميّزون به ؟(/19)
ألا يذكر كتابهم المقدس " فوق البيعة " أن داود قد رأى زوجة قائده العسكرى أوريّا وهى تستحم عارية فى فناء بيتها المجاور لقصره حين صعد ذات يوم إلى سطح هذا القصر ( ولا أدرى لماذا ، إلا أن يكون من أولئك العَهَرة العرابيد الذين يتجسسون على نساء الجيران ، وبالذات اللاتى ليس فى بيوتهن حمّامات فيُضْطَرَرْن إلى الاستحمام عاريات فى فناء البيت " على عينك يا تاجر " ، وكأننا فى فلم من أفلام البورنو والإستربتيز ! ومن يدرى ؟ فربما كان معه منظار مقرِّب حتى تتم المتعة على أصولها ! ) . المهم أنها وقعت فى عينه وقلبه كما لا أحتاج أن أقول ، فأرسل فأحضرها وزنى بها ( بارك الله فيه ! ) ، ثم لم يكتف بهذا العمل الإجرامى الذى يليق تماما بجدّ الرب الذى يعبده هؤلاء المتاعيس المناحيس ، بل كلف رجاله فى ميدان المعركة أن يخلّصوه من الزوج المسكين بوضعه على خط التَّماسّ مع العدو فى قلب المعمعة ، ونجحت مؤامرته الخسيسة وقَتَل العدوُّ أوريّا ، فألحق داود زوجته بحريمه بعد أن تزوجها وبعد أن مرت أيام المناحة والحداد طبعا ( سفر الملوك الثانى / 16 كله ) . انظروا إلى حرصه الجميل على التقاليد! والله فيه الخير ! و" بَتْشاَبَع " هذه بالمناسبة هى أم سليمان النبى الملك ! أَنْعِمْ وأَكْرِمْ بهذا النسب الملكى النبوى الإلهى الشريف ! أى أن نسب المسيح ، حسبما يقول كتابهم ، هو نسبٌ عريقٌ فى الفُحْش والإجرام . أما نحن فننزّهه عن ذلك تمام التنزيه لأن أنبياء الله لا يكونون إلا من ذؤابات قومهم شرفًا وفضلا ونبلا . ولعل هذا هو السبب فى أن السيد المسيح ، كما جاء فى " متى " ( 22 / 45 ) ، قد نفى أن يكون من ذرية داود ! والله معه حق ، فإن مثل هذا النسب لا يشرّف أحدا ، وإن كنا نحن المسلمين لا نصدّق حرفا من هذه الحكايات وأمثالها مما سطرته أيدى اليهود الفَسَقة الفَجَرة لتشويه كل قيمة نبيلة وشريفة فى الحياة ! ثم هم بعد هذا يتهموننا نحن بالكفر والشرك والضلال ! عجبى ! لو كنت من أصحاب الأصوات الجميلة لفَقَعْتُ بالموّال وقلت : " خسيس قال للأصيل : ...! " ، لكنى للأسف لست حَسَن الصوت .
ومن المهازل التى لها صلة بقضية تعدد الزوجات نسبةُ كتابهم المقدس إلى الله أولادا من أمهات شتى ، فضلا بطبيعة الحال عن آدم ، الذى لم تكن له أم . ومن هذا الوادى تسمية العهد العتيق للرجال فى بدء الخليقة بـ " بَنِى الله " فى مقابل تسمية النساء بـ " بنات الناس " ( تكوين / 6 / 2 ) ، وقول الله لبنى إسرائيل : " أنتم بنو الرب إلهكم " ( تثنية الاشتراع / 14 / 1 )، وقوله سبحانه لداود : " أنت ابنى . أنا اليوم ولدتك " ( مزامير / 1 / 7 ) . ليس هذا فقط ، بل يجعله بِكْره ( مزامير / 88 / 27 ) ، ليعود بعد ذلك فيقول إن إبراهيم هو بكره ( إرميا / 31 / 9 ) ، ناسيا أنه قد جعل البكورية فى موضع سابق على هذين الموضعين لإسرائيل ( خروج / 4 / 2 )! يا له من إله مسكين ! إنه يذكِّرنا بخَرَاش الذى تكاثرت الظباء عليه فلم يعد يدرى من كثرتها ماذا يصيد منها وماذا يدع . لقد كثر أبناء الله حتى لم يعد يتذكر مَنِ البِكْر منهم ومن ليس كذلك ! معذور يا ناس ! كان " الله " فى عونه ! فإذا كان الإله ، كما يقول كتابهم ، له كل هؤلاء الأولاد الذين جاء بهم من أمهات شتى ، فمعنى هذا أنه هو أيضا كان من المعدّدين مثل من ذكرنا من الأنبياء السابقين فكيف يجرؤون إذن أن يرموا المسلمين ورسولهم وحدهم بالكفر والزنى لنفس السبب ؟
أإلى هذا الحد ينغِّص حقدُكم على سيد الأنبياء والمرسلين ودينه النقى البرىء من الشرك والوثنيات حياتَكم ويخرجكم عن طوركم فلا تستطيعون تفكيرا ولا تحسنون تعبيرا ، بل يأخذكم البِرْسام فتَهْذُون وتَبْذُؤون متصورين أنكم تقدرون على تلطيخ صورته ؟
هيهات ثم هيهات ثم هيهات ... إلى آخر الهياهيت التى فى الدنيا جميعا !
ثم إنكم بعد ذلك لصائرون إلى المكان الذى يليق بأمثالكم ، وأنتم تعرفونه جيدا . ألا وهو مراحيض الغِسْلِين فى قاع سَقَر !(/20)
لقد كان التعدد هو شريعة الأنبياء إلى أن حرّف أهل التثليث دينهم وابتدعوا أناجيل ما أنزل الله بها من سلطان ونسبوا للسيد المسيح ، عليه وعلى رسولنا أفضل الصلاة السلام ، أقوالا وتشريعات ينقض هو فى بعضها أحكام التوراة ويفسِّرون هم بعضها الآخر بما ينقض التوراة ، ثم جاء بولس الكذاب اللعين فبَرْجَلَ النصرانية وشَقْلَبَ حالها . لقد ابتدأ حياته فى النصرانية بكذبة بائسة مثله وابتلعها القوم بما يدل على خلوّ رؤوسهم من العقل ، وإلا فهل يصدّق أى شخص عنده مُسْكَة من هذا العقل أنه ، عندما شاهد نورا فى السماء قبل تحوله إلى النصرانية مباشرة وسمع صوتا يسأله لماذا يضطهده ، كان سؤاله لهذا الصوت : من أنت يا رب ؟ ( أعمال الرسل / 9 / 3 – 5 ، و 26 / 14 - 15) . أأنا فى حُلْمٍ أم فى عِلْمٍ يا إلهى ؟ أهذا سؤال يُسْأَل ؟ إن هذا الكذاب قد أجاب فى السؤال على السؤال ، وإذن فما معنى السؤال ؟ لكننا لا ينبغى أن نطرح مثل هذا السؤال ، لأن الأباعد لا يدركون معنى لمثل هذا الجواب أو ذاك السؤال ، وإلا لكانوا قد تركوا النصرانية كلها بسبب بولس وما افتراه من جواب فى هيئة سؤال ! حلوة " من أنت يا رب ؟ " هذه ! دمّها مثل الشربات : شربات الطُّرْشِى ، بل شربات الفسيخ !
لقد كان جواز تعدد الزوجات هو تشريع الأنبياء كما قلنا ، لكن مؤلف إنجيل متى عزا لعيسى كلاما فهم منه القوم أنه يحرم التعدد ، مع أن الكلام لم يكن فى التعدد قط ، بل فى الطلاق ! يقول متى ( 19 / 3 – 12 ) : " ودنا إليه الفَرِّيسِيُّون ليجربوه قائلين : هل يحلّ للإنسان أن يطلِّق زوجته لأجل كل عِلَّة ؟ * فأجابهم قائلا : أما قرأتم أن الذى خلق الإنسان فى البدء ذكرًا وأنثى خلقهم وقال : * لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته فيصيران كلاهما جسدا واحدا ؟ * فليسا هما اثنين بعد ، ولكنهما جسدٌ واحد . وما جمعه الله فلا يفرّقه إنسان * فقالوا له : فلماذا أوصى موسى أن تُعْطَى كتابَ طلاق وتُخَلَّى ؟ * فقال لهم : إن موسى لأجل قساوة قلوبكم أذِن لكم أن تطلّقوا نساءكم ، ولم يكن من البدء هكذا * وأنا أقول لكم : من طلَّق امرأته إلا لعلة زنى وأخذ أخرى فقد زنى * فقال له تلاميذه : إن كان هكذا حال الرجل مع امرأته فأجدرُ له ألا يتزوج * فقال لهم : ما كل أحد يحتمل هذا الكلام إلا الذين وُهِب لهم * لأن من الخصيان من وُلِدوا كذلك من بطون أمهاتهم ، ومنهم من خصاهم الناس ، ومنهم من خَصَوْا أنفسهم من أجل ملكوت السماوات . فمن استطاع أن يحتمل فلْيحتمل " . هذا هو نص الكلام الذى ذكروا أن عيسى عليه السلام قد قاله فى تعدد الزوجات وفهموا منه أنه يحرّم هذا النظام الذى أقره الأنبياء جميعا .
ومن الواضح أن عيسى عليه السلام ( إن صدّقنا أنه هو قائل هذا النص ) لم يتطرق لموضوع التعدد من قريب أو بعيد ، إذ كان الكلام كله عن الطلاق .
وإذا كان قد عرَّج على سبيل الاستطراد إلى موضوع الإضراب عن الزواج ، فهذا أيضا لا علاقة له بالتعدد من قريب أو بعيد .
أما قوله : " ذكرًا وأنثى خلقهم " فلا أدرى كيف يمكن أن يؤدى إلى إلغاء التعديد ، إلا إذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق لكل رجلٍ زوجةً باسمه لا يتزوجها إلا هو ، ولا تموت قبله أو يموت هو قبلها ، وإلا إذا كان عدد الرجال فى كل المجتمعات مساويا تماما لعدد النساء فى كل العصور ، وهذا عكس المشاهد للأسف فى هذه الدنيا الغريبة التى يريد بعض المتهوسين أن يصبّوها فى قوالب من حديد كما كان يفعل أهل الصين مع أقدام بناتهم الصغيرات قديما حتى لا تكبر بل تظل دقيقةً مُسَمْسَمَة ، إذ إن النسبة المئوية لعدد من فى سن الزواج فى المجتمعات كلها تميل دائما لصالح المرأة كما تقول الإحصاءات السكانية . ولا ننس بالذات الحروب ، التى يروح فيها من أرواح الرجال أكثر مما يذهب من أرواح النساء .(/21)
ثم جاء بولس ، الذى قلب كيان النصرانية رأسًا على عقب ، فقال فى رسالته الأولى إلى أهل كورِنْتُس ( 7 / 1 – 2 ) : " أما من جهة ما كتبتم به إلىَّ فحسَنٌ للرجل ألا يَمَسّ امرأة * ولكن لسبب الزنى فلتكن لكل واحدٍ امرأته ، وليكن لكل واحدةٍ رجلها "، وإن فُهِمَ من حديثٍ آخَرَ له أن هذا الحظر إنما هو خاصّ بالشمامسة ( تيموتاوس / 1 / 12 ). وهذا كلام يدل أقوى دلالة على أن هذا الرجل لم يكن يتمتع بأى فهم للطبيعة البشرية : فالإنسان لا يتزوج فقط من أجل ألا يقع فى الزنى ، بل لأن الحياة لا يمكن أن تستمر إلا عن طريق لقاء الذكر والأنثى ، كما أن الحب وممارسة الجنس يشكلان متعةً من أحلى متع الحياة الإنسانية وأعمقها ، متعةً ينبغى على المؤمن أن يشكر المولى عليها لا أن ينظر إليها على أنها بلوى أقصى ما يمكنه تجاهها هو الصبر عليها فى مضض وتأفف . ولو أن نصائح بولس الغبية هذه قد أُخِذ بها لكان فيها نهاية الحياة ! إن هذه النصائح المجنونة إنما تنبع فى الحقيقة من النظرة الدونيّة التى تنظر بها النصرانية ورجال الكنيسة إلى المرأة والجسد الإنسانى ، وهذه النظرة قد ورثتها الكنيسة من العهد العتيق وما يقوله عن قصة الخلق وخروج آدم من الجنة بسبب إغراء حواء له بعصيان النهى الإلهى عن الأكل من الشجرة واستحقاق المرأة من ثَمّ ابتلاء الله لها بعبء الحمل والولادة وإيقاع العداوة بينها وبين الرجل ( تكوين / 3 / 6 – 24 ) ، وهو ما يختلف فيه الإسلام عن النصرانية اختلافًا جِذْرِيًّا ، إذ عندنا أن الذنب الذى أخرج أبوينا من الجنة هو ذنبهما جميعا لا ذنب حواء فقط ، كما أن العلاقة بين الرجل والمرأة هى علاقة السكن والمودة والرحمة كما يقول القرآن المجيد ( الروم / 21 ) لا علاقة العداوة والبغضاء. ولقد كانت النتيجة ، وهنا وجه المفارقة ، هو هذا السعار الجنسى الذى اشتهرت به أمم الغرب بعد أن لم تعد تطيق قيود النصرانية التى تعمل على وَأْد التطلعات والغرائز البشرية . ذلك أن غرائز البشر وتطلعاتهم لا يمكن تجاهلها، فضلا عن قهرها أو إلغائها كما يحاول الأغبياء . لكن من الممكن ، ومن المطلوب أيضا ، ترويضها والسمو بها إلى أقصى قدر ممكن ، وهذا ما يفعله الإسلام . ولقد كان رجال الدين النصارى على رأس المنفلتين من هذه القيود الخانقة ، وفضائحهم معروفة للقاصى والدانى فى كل العصور . وهذا أحد الأسباب التى جعلت الأوربيين يكرهونهم ويرَوْن فيهم مثالا للنفاق البغيض ! وما فضائح باباوات روما فى العصور الوسطى واصطحاب بعضهم لعشيقاتهم معهم فى جولاتهم فى أرجاء أوربا لمباركة جموع المؤمنين ، ولا الصلات الجنسية الحرام التى كانت بين بعض آخر منهم وبين أخواتهم بمجهولةٍ لمن عنده أدنى فكرة عن أحوال رجال الدين هناك قبل عصر النهضة الذى تخلص فيه الأوربيون من قيود النصرانية المُعْنِتَة .
وحتى فى موضوع الطلاق لا يعدو الكلام أن يكون عبارات شاعرية ساذجة لا دلالة لها على شىء فى الواقع والحقيقة ، إذ ما معنى أن ما جمعه الله لا يفرّقه إنسان ؟ إن الزواج إنما هو اختيار إنسانى قام أيضا بتوثيقه كائن إنسانى ، فشأنه إذن كشأن أى شىء آخر من شؤون الحياة ، فلماذا أُفْرِد وحده بهذا الوضع دون سائر الأمور الإنسانية ؟ أما إن قيل إن الله هو فى الحقيقة خالق كل شىء ، فإن الرد هو أنه لا مُشَاحّة فى هذا ، لكننا ضد إفراد الزواج بذلك الحكم ، ونرى أن هذا الوضع ينطبق أيضا على عملية الطلاق مَثَله مثَل أى شىء آخر . ثم ما الحكمة فى أن يُعْنِت الله سبحانه وتعالى عبادَه فلا يرضى أن يرحمهم من قيود الزواج إذا ثبت أنه لا أمل فى أن يجلب لطرفيه السعادة ؟
إن كثيرا من البلاد النصرانية قد انتهت إلى أنْ تضرب بهذه الأحكام عُرْض الحائط ، إذ وجدت أنها لا تؤدى إلا إلى التعاسة والشقاء . وفى بعض البلاد يُقْدِم الزوج أو الزوجة فى حالات كثيرة إلى ترك النصرانية جملةً والدخول فى الإسلام ، الذى يجدانه أوفق للطبيعة الإنسانية . فإلى متى هذا الخنوع لبعض الألفاظ الشاعرية التى قد تدغدغ العواطف فى مجال التفاخر الكاذب بمثالية أخلاق دينٍ ما ، لكنها لا تجلب للمتمسكين بها إلا العَنَت والإحباط ؟
إن كثيرا من الأزواج فى المجتمعات النصرانية هم فى الواقع مطلَّقون ، لكنْ طلاقًا غير رسمى ، وهم يسمونه : " انفصالا " . وفى هذه الأثناء التى قد تطول سنين ، كثيرا ما يصعب على الزوج والزوجة ، تحت ضغط الغرائز ، أن يمتنعا عن ممارسة الجنس فى الحرام ، فلماذا كل هذا الإعنات ؟ وحَتَّامَ يستمر هذا العناد والنفاق ؟
إن الطلاق شديد البغض إلى الله كما قال صادقا سيدنا رسول الله ، لكن الظروف قد تضطر الواحد منا إلى فعل ما هو بغيض تجنبا لما هو أفدح وأنكى . ومن هنا كان الطلاق عندنا حلالا رغم كونه بغيضا ، أى أن المسلم لا يُقْدِم عليه إلا إذا سُدَّت فى وجهه جميع السبل الأخرى حسبما يعرف كل من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلامية .(/22)
كذلك يسىء الأوغادُ الأدبَ مع سيدنا رسول الله ، إذ يتهمونه بالكفر والقتل وسفك الدماء والمجىء بدين يقوم على إكراه الناس على اعتناقه برهبة السيف وتهديم بيوت عبادتهم . افترَوْا ذلك عليه فى أكثر من سورة من سورهم المزيفة الكاذبة التى أوحى بها الشيطان إليهم فى أدبارهم ك " سورة القتل " و" سورة الماكرين " و" سورة الطاغوت " و" سورة المحرِّضين " و" سورة الملوك " ، زاعمين أن دينهم يقوم على المحبة والسلام !
وأَوَّلَ كلِّ شىء لا بد أن نلفت الأبصار إلى أن المسيح لم يمض عليه فى النبوة أكثر من ثلاث سنوات ليس إلا ، ومن ثم لا يمكن التحجج بأنه لم يشرع لأتباعه قتال من يعتدون عليهم . كما أنه لم يكن يعيش فى دولة مستقلة ، فضلا عن أن يكون هو الحاكم فيها مثلما هو الحال مع الرسول محمد عليه السلام ، وإذن فقياس الوضعين أحدهما على الآخر خطأ أبلق وأبله معا. وهذا لو أن السيد المسيح ، حسبما تحكى قصةَ حياته الأناجيلُ التى بين أيدينا ، كان فعلا وديعا متسامحا دائما مثلما يحب النصارى أن يعتقدوا ويعتقد الآخرون معهم . فما أكثر الشتائم واللعنات التى كان يرمى بها فى وجوه اليهود بل فى وجوه تلاميذه أيضا ، من مثل قوله لأحد اليهود : " يا مُرَائى " ( متى / 7 / 5 ) ، وقوله لتلاميذه ينصحهم ألا يهتموا بمن لا يستطيعون فهم دعوته : " لا تعطوا القدس للكلاب ، ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وترجع فتمزّقكم " ( متى / 7 / 6 ) ، وقوله لبعض الفَرّيسيّين : " يا أولاد الأفاعى " ( متى / 12 / 3 ) ، وقوله لأهل كورزين وصيدا : " الويل لك يا كورزين ! الويل لك يا بيت صيدا ! " ( متى /11 / 21 ، ولوقا / 10 / 13 ) ، وقوله لمن طلبوا منه آية : " إن الجيل الشرّير الفاسق يطلب آية " ( متى / 12 / 38 ، و 16 / 4 ) ، وقوله عن غير الإسرائيليين ممن يريدون أن يستمعوا لدعوته ليهتدوا بها : " ليس حسنا أن يؤخَذ خبز البنين ويُلْقَى للكلاب " ( متى/ 15 / 26 ) ، وقوله لبطرس أقرب تلاميذه إليه حسبما أشرنا من قبل : " اذهب خلفى يا شيطان " ( متى / 16 / 23 ، ومرقس / 8 / 33 ) ، وقوله لحوارييه : " أحتى الآن لا تفهمون ولا تعقلون ؟ أَوَحَتَّى الآن قلوبكم عمياء ؟ * لكم أعين ، أفلا تبصرون ؟ ولكم آذان ، أفلا تسمعون ولا تذكرون ؟ " ( مرقس/ 8 / 17 ) ، وقوله لبعض الفَرِّيسِيّين : " أيها الجهال ... ويل لكم أيها الفريسيون " ( لوقا / 11 / 39 – 50 ) ، وقوله عن فَرِّيسِىّ آخر : " هذا الثعلب " ( لوقا/ 13 / 32 ). ولا ينبغى فى هذا السياق أن نهمل ما صنعه مع الباعة فى الهيكل حين قلب لهم موائدهم وكراسيّهم وسبّهم وساقهم أمامه حتى أخرجهم من المعبد ( مرقس/ 12 / 15 – 17 ) ، وكذلك قوله لحوارييه : " أتظنون أنى جئت لأُلْقِى على الأرض َسلاما؟ لم آت لألقى سلاما لكنْ سيفا * أتيتُ لأفرِّق الإنسان عن أبيه ، والابنة عن أمها ، والكَنَّة عن حماتها " ( متى / 10 / 34 – 35 ) ، وقوله أيضا فى نفس المعنى : " إنى جئت لألقى على الأرض نارا ، وما أريد إلا اضطرامها " ( لوقا / 12 / 44 ) .
من هذا يتبين أن الصورة الوديعة تمام الوداعة التى يرسمها النصارى للسيد المسيح ليست حقيقية ، بل هى من مبالغاتهم التى اشتهروا بها .
ولست أقول هذا حَطًّا من شأنه عليه السلام ، فهو نبىٌّ كريم لا يكمل إيماننا نحن المسلمين إلا به ، لكنى أريد أن أقول إن الطبيعة الإنسانية لا يمكن أن تتحمل السماحة والصبر إلى أبد الآبدين ، ولا بد أن تأتى على أحلم الحلماء أوقات يضيق منه الصدر ويثور على المجرمين ، وربما غير المجرمين أيضا، مع أن المسيح عليه السلام لم ينفق فى الدعوة ومخالطة الناس فى ميدانها إلا سنواتٍ ثلاثا لا غير .
بل إنهم ، فى سِيَره التى ألفوها وأطلقوا عليها : " الأناجيل " ، قد نسبوا إليه بعض التصرفات التى أقلّ ما توصف به أنها تصرفات جافية تفتقر إلى اللياقة تجاه أمه عليها السلام : من ذلك أنه ، بينما كان يعظ فى أحد البيوت ذات يوم ، أُخْبِر أن أمه وإخوته بالخارج يريدون أن يَرَوْه ولا يستطيعون أن يصلوا إليه من الزحام ، فما كان منه إلا أن أجابهم قائلا : " إن أمى وإخوتى هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها " ( لوقا / 8 / 19 – 20 ) ، وحين دعت له امرأة بأنْ " طُوبَى للبطن الذى حملك وللثديين اللذين رضعتهما " ردَّ فى جفاء : " بل طوبى لمن يسمع كلمة الله ويعمل بها " ( لوقا / 11 / 27 – 28 ) . وليس لهذا من معنى ، فضلا عن الخشونة التى لا يصح سلوكها تجاه من حَمَلتْنا وربَّتْنا ، إلا أنها لم تكن هى ولا إخوته ممن يسمعون كلمة الله ويعملون بها ! وفى مناسبة أخرى كان هو وأمه فى عرس فى قانا الجليل ، وفرغت الخمر فنبهته إلى ذلك ، فأجابها فى غلظة : " ما لى ولك يا امرأة ؟ " ( يوحنا / 2 / 1- 3 ).(/23)
إننا بطبيعة الحال لا نصدّق بشىء من ذلك ، فقرآننا يؤكد أنه عليه السلام كان بَرًّا بوالدته غاية البِرّ ( مريم / 32 ) ، فكأن مؤلفى الأناجيل قد تعمدوا أن يشوهوا سيرته وصورته !
على أن المسألة لا تنتهى هنا وحسب ، بل إنهم ليصورونه ، عقب مقتل النبى يحيى ( الذى كان أبوه زكريا يكفل مريم عليها السلام ، والذى تعمّد هو على يديه فى نهر الأردن ) ، كما لو كان بلا قلب أو مشاعر ، إذ نراه بعد علمه بمقتل هذا النبى الكريم تلك القِتْلة المأساوية المعروفة يأخذ أتباعه ويمضى بهم خارج المدينة ليمارسوا حياتهم ويأكلوا كما كانوا يفعلون من قبل ، وكأن شيئا لم يقع ( متى/ 14 / 12 وما بعدها ، ومرقس / 6 / 28 وما بعدها ) ، وهو ما يدل على تحجر الإحساس ، أستغفر الله !
كذلك كان سائرا ذات مرة فى الطريق فجاع ، ورأى شجرة تين هناك ، فدنا إليها لعله يجد فيها تينا يأكله ، فلما لم يجد فيها ثمرا دعا عليها ألا تثمر إلى الأبد فلا يأكل أحد منها شيئا ، فيبست التينة لوقتها ، وكان هذا فى رأيه برهانا على قوة الإيمان ( متى / 21 / 19 وما بعدها ، ومرقس / 11 / 12 وما بعدها ) . وإن الإنسان ليتساءل : كيف يمكن أن يُعَدّ هذا برهانا على قوة الإيمان ؟ وما ذنب التينة يا ترى ؟ وما الفائدة التى تعود على الناس أو الحياة من اليبوسة التى أصابتها ؟ ألم يكن هناك برهان آخر أكثر نفعًا ومعقوليةً يمكن أن يقوم به السيد المسيح الذى يضرب النصارى به الأمثال فى الحلم والوداعة ؟
ثم إن هذا التصرف من السيد المسيح يناقض ما أراده من المثل الذى ضربه فى موقف آخر عن التينة ، وخلاصته أن رجلا كانت له شجرة تين مغروسة فى كَرْمه ظلت لا تثمر ثلاث سنين ، فطلب من الكَرّام أن يقلعها ليستفيد من مساحة الأرض التى تشغلها ، لكن الكرّام استسمحه أن يتركها هذه السنة أيضا على أن يقطعها العام القادم إذا لم تثمر ، فأجابه صاحب الأرض إلى طِلْبته ( لوقا / 13 / 6 – 9 ). ومغزى المثل أن الله يعطى الفرصة للعاصين مرة واثنتين وثلاثا قبل أن يأخذهم بذنوبهم . فلماذا لم يطبق المسيح عليه السلام هذا المبدأ مع التينة ، التى ليس لها مع ذلك عقل الإنسان ولا إرادته ؟
خلاصة القول إننا لو قارنّاه برسولنا الكريم ، عليه وعلى ابن مريم السلام ، لوجدنا أن النبى محمدا كان أحلم وأطول بالا وأوسع صدرا ، وظل هكذا ، لا ثلاث سنوات فقط مثله ، بل ثلاثة وعشرين عاما !
أما فى المدينة فقد كانت هناك دولة ، ومن ثم كان لا بد أن تجد نفسها منغمسةً فى حروب عاجلا أو آجلا شأن ما يحدث للدول فى كل مكان وزمان ما دمنا نعيش فى دنيا البشر لا فى دنيا الملائكة .
أما حكاية " من لطمك على خدك الأيمن فحَوِّل له الآخر " فهذا كلام لا يسمن ولا يغنى من جوع ، ولا يترتب عليه إلا خراب المجتمعات والدول ، وفوز الذئاب والكلاب من البشر بكل شىء ، وذهاب الناس الطيبين فى ستين داهية غير مأسوف عليهم من أحد !
ثم أين هذا الصنف الأبله من الناس الذى تضربه على خده الأيمن فيدير لك الأيسر لتَحِنّ عليه بما لذّ وطاب من الصفع والإهانة كيلا يشكو أحد الخدين من التفرقة بينه وبين أخيه ؟ أَرُونِى نصرانيا واحدا يفعل ذلك ! هذه تشنجات لفظية لا أكثر !
بل إن المسيح نفسه لم يفعل هذا ! حتى الصَّلْب ، الذى يزعمون أنه عليه السلام إنما أُرْسِل إلى الأرض ليتحمله فداءً للبشر الخُطَاة ، ظل يسوّف فيه ويحاول تجنبه ما أمكن ، وعندما وقع أخيرا فى أيدى الجنود وأخذوا يعتدون عليه بالشتم والضرب كان يعترض على ما يوجهونه إليه من أذى . بل إنه ، وهو فوق الصليب ، أخذ يجأر إلى ربه كى يزيح عنه تلك الكأس المرة . وهذا كله قد سجَّله مؤلفو الأناجيل أنفسهم !
وعلى كل حال فإن المقارنة بينه وبين الرسول لا تصح إلا على مستوى الحياة الفردية الشخصية ، أما على مستوى الحُكْم فلا ، لأن عيسى عليه السلام ، كما سبق أن وضّحت ، لم يعش بعد النبوة أكثر من ثلاثة أعوام ، ولم يتولَّ أى منصب إدارى ، فضلا عن أن يكون حاكما يرأس دولة ويدبِّر شؤونها ويمارس الحرب والسياسة ويشرّع للناس ويقضى بينهم كرسولنا الكريم .
ترى هل يمكن أن تقوم دولة دون محاكم وقضاة وسجون ؟(/24)
وبالمناسبة فقد أخطأ الأغبياء هنا غلطة سخيفة سخافة عقولهم ، إذ ظنوا أن قوله تعالى لرسوله الكريم : " فإن تنازعتم فى شىء فرُدّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " ( النساء / 59 ) يتناقض مع قوله جل شأنه : " أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون " ( الزمر/ 39 ) ، إذ يتساءلون : كيف يأمر الله رسوله فى موضع بالحكم بين الناس ، ثم يقول فى موضع آخر إن الله هو الذى يحكم بين العباد ؟ ومن هنا اتهموا الرسول بأنه قد نسخ بالآية الثانية ما سبق أن قاله فى الآية الأولى ، وسخروا منه وتطاولوا عليه ( سورة المشركين/ 5 – 6 ). وفات هؤلاء الأغبياء أن الحكم فى آية " النساء " هو الحكم فى خصومات الدنيا ، وهو من مهمة النبى عليه السلام ، بخلاف الحكم فى آية " الزمر " ، التى تتحدث عن الحساب الأخروى ، وهو من اختصاص الله لا يشاركه فيه أحد . فهذان موضوعان مختلفان تماما كما يرى القراء ، بيد أن البهائم لا يفهمون !
كلام السخفاء إذن فى تفضيل المسيح على النبى العربى هو كلام تافه لا قيمة له عند كل من له أدنى فهم للحياة والتاريخ والطبيعة البشرية والمجتمعات الإنسانية !
ثم تعالَوْا بنا إلى واقع الحياة ، فماذا نجد؟
لننظرْ إلى الحروب التى خاضها النصارى وتلك التى خاضها المسلمون ونقارن بينهما .
وأول ما يلفت النظر بطبيعة الحال أن النصارى قد خاضوا الحروب وقاتلوا وقَتَلوا ولم يديروا خدهم لا اليمين ولا الشمال لأحد ، اللهم إلا كِبْرًا وبَطَرًا وتجبُّرا . ومع هذا فإنهم ما زالوا سادرين فى سخفهم ورقاعتهم وسماجتهم ومحاضرتهم لنا عن التسامح والمسكنة والتواضع وإدارة خدك الأيسر لمن يصفعك على أخيه الأيمن وترك إزارك له أيضا إذا أخذ منك رداءك . لقد أبادوا أمما من على وجه الأرض فلم تبق لها من باقية : حدث هذا فى أمريكا على يد الأوربيين الذين هاجروا إليها فى مطالع العصور الحديثة وظلوا يشنون الغارات على الهنود الحمر أصحاب البلاد وينشرون بينهم الأوبئة التى لم يكن لهم بها عهد حتى أفنَوْهم عن بكرة أبيهم تقريبا ، وذلك بمباركة القساوسة الناطقين باسم المسيح وحاملى رسالة التواضع والمحبة والتسامح وإدارة الخد الأيسر ، والتنازل عن الرداء والإزار معا وسير صاحبهما عاريًا حافيًا كما ولدته أمه !
وحدث هذا أيضا فى أستراليا نحو ذلك الوقت !
ولقد ناب المسلمين والعرب من هذه المحبة جانب ، إذ بعد أن انتصر فرديناند وإيزابلا على بنى الأحمر فى شبه جزيرة أيبريا وأصبحت الأندلس نصرانية ، رأينا هذين الملكين ينقلبان على المسلمين الذين بَقُوا فى بلادهم لم يغادروها مع من غادرها، فيغدران بهم ويُثْخِنان فيهم تقتيلا وتنصيرا ، ضاربَيْنِ عُرْضَ الجدار بالمعاهدات التى تكفل للمسلمين الأمان والحرية الدينية والاحتفاظ بممتلكاتهم لا تُمَسّ ، حتى لم يعد هناك بعد فترة وجيزة فى تلك البلاد مخلوق يوحّد الله . والبركة فى محاكم التفتيش التى أقامها خلفاء السيد المسيح ناشرو دعوة التسامح والتواضع والمحبة على الورق وفى عالم الدعاية الكاذبة الفاجرة لا غير ، أما فى دنيا الواقع فإنها لا تسمن ولا تغنى عند اللزوم من جوع أو قتل أو حرق أو سلخ أو تكسير للعظام أو سَمْل للعيون أو تغريق فى البحر أو مصادرة للأملاك أو ... أو ... أو ... !
فانظر إلى ما فعله المسلمون حين فتحوا تلك البلاد تدرك الفرق بين النفاق النصرانى المتشدق زورا وبهتانا بالمبادئ الخلقية الورقية التى لم تعرف السبيل يوما إلى التطبيق على الأرض ، وبين المثالية الإسلامية الواقعية التى لا تعرف هذه الشقشقات اللفظية ، لكنها لا تنزل أبدا إلى هذا الدرْك الأسفل من القسوة والتوحش مهما خالفت عن أمر دينها ولم تلتزم به كما يحدث فى دنيا البشر أحيانا !
إن المسلمين متَّهَمون دائما بأنهم نشروا دينهم بالسيف ، مع أنه لم يثبت قط أنهم أكرهوا شعبا على ترك دينه كما فعل النصارى فى كثير من الدول التى احتلوها مما ذكرنا منه أمثلة ثلاثة ليس إلا .(/25)
ولا يكفّ النصارى أبدا عن الكلام فى الجزية وقسوة الجزية حتى ليخيَّل لمن لا يعرف الأمر أن المسلمين كانوا يصادرون أموال الأمم التى يفتحون بلادها مصادرة ، مع أن المبلغ الخاص بالجزية لم يكن يزيد على بضعة دنانير فى العام عن الشخص الواحد ، فضلا عن أنه لم تكن هناك جزية على الأطفال والنساء والشيوخ والرهبان . وفى المقابل كان غير المسلمين يُعْفَوْن من دفع الزكاة على عكس المسلم ، كما كانوا يُعْفَوْن من الاشتراك فى الحرب . وبهذا يكون المسلمون قد سبقوا كالعادة ، ودون شقشقة لفظية أيضا ، إلى مبدإ الإعفاء من الحرب على أساس مما نسميه الآن : " تحرُّج الضمير " ، إذ لمّا كان أهل البلاد المفتوحة غير مسلمين كانت الحرب تمثّل لهم عبئًا نفسيًّا وأخلاقيا أراد الإسلام أن يزيحه عن كاهلهم بطريقة واقعية سمحة . وفضلا عن هذا فإن المسلمين ، فى الحالات التى لم يستطيعوا فيها أن يحموا أهل الذمة ، كانوا يردون إليهم ما أخذوه منهم من جزية ، إذ كانوا ينظرون إليها على أنها ضريبة يدفعها أهل الذمة لقاء قيامهم بالدفاع عنهم .
ومع ذلك كله يُبْدِئ الشياطين مزيفو " الضلال المبين " ويُعِيدون فى مسألة الحروب الإسلامية مدَّعين بالباطل أن المسلمين كانوا يقتلون أهل البلاد التى يفتحونها إلا إذا دفعوا الجزية : " وحَمَل الذين كفروا على عبادنا بالسيف فمنهم من استسلم للكفر خوفَ السيف والرَّدَى فآمن بالطاغوت مُكْرَهًا فسَلِم وضلَّ سبيلا * ومنهم من اشترى دين الحق بالجزية عن يدٍ صاغرًا ذليلا * ... * وزعمتم بأننا قلنا : قاتلوا الذين لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون صُغْرا " ( سورة الجزية / 5 – 6 ، 12 ) .
والملاحظ أن الشياطين يخلطون عن عمد بين القتال والقتل ، فالآية تقول : " قاتلوا " لا " اقتلوا " ، والفرق واضح لا يحتاج إلى تدخل من جانبى .
ومعنى الآية أنه ينبغى على المسلمين أن يهبوا لمقاتلة الروم ، الذين شرعوا فى ذلك الحين يتدخلون فى شؤون الدولة الإسلامية الوليدة متصورين أنها لقمة سائغة سهلة الهضم لن تأخذ فى أيديهم وقتا ، فكان لا بد من قطع هذه اليد النجسة ، وإلا ضاع كل شىء . كما كان لا بد أيضا من أخذ الجزية منهم عن يدٍ وهم صاغرون جزاءً وفاقا على بغيهم واستهانتهم بالمسلمين وتخطيطهم لاجتياح دولتهم دون أن يَفْرُط منهم فى حقهم أى ذنب !
وعلى أية حال فإن النصارى مأمورون بحكم دينهم أن يدفعوا " الجزية " ( هكذا بالنص ) لأية حكومة يعيشون فى ظلها وأن يعطوا ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله ، حسبما قال لهم المسيح حرفيا ( متى / 22 / 17 – 21 ، و 12 / 24 – 25 ، ومرقس / 12 / 14 – 17 ) .
كما أن بولس ، الذى يخالف فى غير قليل من أحكامه ما قاله نبيُّه ، قد كرر هنا نفس ما قاله السيد المسيح فأمرهم بالخضوع لأية حكومة تبسط سلطانها عليهم وألا يحاولوا إثارة الفتن ، لأن تسلط هذه الحكومات عليهم إنما هو بقَدَر من الله كما قال لهم ، ومن ثم لا ينبغى التمرد على سلطانها ، بل عليهم دفع الجزية والجبايات دون أى تذمر : " لِتَخْضَعْ كلُّ نفس للسلاطين العالية ، فإنه لا سلطان إلا من الله ، والسلاطين الكائنة إنما رتَّبها الله * فمن يقاوم السلطان فإنما يعاند ترتيب الله ، والمعاندون يجلبون دينونة على أنفسهم * لأن خوف الرؤساء ليس على العمل الصالح بل على الشرير . أفتبتغى ألا تخاف من السلطان ؟ افعل الخير فتكون لديه ممدوحا * لأنه خادمُ الله لك للخير . فأما إن فعلتَ الشر فَخَفْ فإنه لم يتقلد السيف عبثا لأنه خادمُ الله المنتقمُ الذى يُنْفِذ الغضب على من يفعل الشر * فلذلك يلزمكم الخضوع له لا من أجل الغضب فقط بل من أجل الضمير أيضا * فإنكم لأجل هذا تُوفُون الجزية أيضا ، إذ هم خُدّام الله المواظبون على ذلك بعينه * أدُّوا لكلٍّ حقه : الجزية لمن يريد الجزية ، والجباية لمن يريد الجباية ، والمهابة لمن له المهابة ، والكرامة لمن له الكرامة " ( رسالة القديس بولس إلى أهل رومية / 13 / 1 – 7 ) .
وهذا الكلام خاص بخضوع النصارى للحكومات الوثنية ، فما بالنا بالحكومات المسلمة المؤمنة الموحِّدة التى لم يسمع أحد أنها فعلت بالنصارى ولا واحدا على الألف مما كانت تلك الحكومات تفعله بهم ؟ أَكُلُّ هذه الضجة لبغضكم القتّال لدين محمد بسبب فضحه لوثنياتكم وتثليثكم وبسبب كَسْبه القلوبَ المتعطشةَ لنور التوحيد واستقامة العقل والضمير ؟
وربما يسأل أحدٌ نفسَه : ولكن لماذا كان حكم النصارى بهذه القسوة مع غيرهم رغم الكلام المعسول عن المحبة والتسامح وما إلى ذلك ؟(/26)
والجواب أوَّلا هو أن هذا الكلام المعسول إنما يخص العلاقات الفردية لا الدولية ، فالنصرانية لم يكن لها أية سلطة على عهد السيد المسيح ، الذى رأيناه هو وحوارييه ، على العكس من ذلك ، يحاكَمون على يد أعدائهم وبمقتضى قوانين هؤلاء الأعداء . وحتى على المستوى الفردى قد وجدنا أن مثل هذه المبادئ لا تؤكِّل عيشا .
وإلى جانب هذا فالنصرانية ديانة لا تقوم على العقل ، بل تطلب من الشخص أن يؤمن دون مناقشة أو تفكير . وهذا أمر طبيعى لأنها مؤسسة على التفكير الخرافى ، إذا صح وصف الخرافات بأنها تفكير ، وعلى ذلك فإنها فى الواقع تفتقر إلى هذا التسامح الذى تدّعيه . ومعروف أنه كلما بالغ الشخص فى الحديث عن مزاياه وأزعج الآخرين بها بداعٍ وبدون داعٍ كان ذلك دليلا على كذبه . فهذا هذا ! ومن ثَمَّ فإنها حين وجدت نفسها ذات سيادة ودولة ورأت أنها لا تملك أية تشريعات تتعلق بالحكم والعلاقات الدولية انكفأت إلى العهد العتيق تستلهمه المشورة فلم تجد إلا الحروب والتشريعات اليهودية التى تتسم بالقسوة الوحشية المفرطة فى معاملة الأعداء فى الحرب وبعد الحرب على السواء دون التقيد بأية التزامات أخلاقية أو إنسانية . ولسوف أقتصر هنا على نص واحد من النصوص التى وردت فى العهد العتيق خاصة بالحرب . جاء فى " سفر تثنية الاشتراع " : " وإذا تقدَّمْتَ إلى مدينة لتقاتلها فادْعُها أولا إلى السلم * فإذا أجابتك إلى السلم وفتحت لك فجميع الشعب الذين فيها يكونون لك تحت الجزية ويتعبدون لك * وإن لم تسالمك بل حاربتك فحاصَرْتَها * وأسلمها الرب إلهك إلى يدك فاضرب كل ذَكَرٍ بحدّ السيف * وأما النساء والأطفال وذوات الأربع وجميع ما فى المدينة من غنيمة فاغتنمها لنفسك ، وكُلْ غنيمةَ أعدائك التى أعطاكها الرب إلهك * هكذا تصنع بجميع المدن البعيدة منك جدا التى ليست من مدن أولئك الأمم هنا * وأما مدن أولئك الأمم التى يعطيها لك الرب إلهك ميراثًا فلا تستَبْقِ منها نسمة * بل أَبْسِلْهم إبسالا ... " ( 20 / 10 – 17 ) .
هذا مثال من التشريعات التى وجدها النصارى تحت أيديهم فطبقوها بمنتهى الدقة والإخلاص ( والمحبة والتسامح والتواضع أيضا من فضلك ! ) متى واتتهم الظروف كما حدث فى أمريكا وأستراليا مثلا ، وكما حدث فى الأندلس عندما سقطت فى أيديهم فنكَّلوا بالمسلمين تنكيلا رهيبا ، وكما حدث كذلك فى فلسطين ، التى امتلخوها من العرب والمسلمين وأعطَوْها لليهود. وكدَيْدَنِهم عملوا على أن يصبغوا هذه الجريمة بصبغة إنسانية فزعموا أنهم إنما يريدون أن يعوّضوا اليهودَ عما ذاقوه من ويلات . على يد من ؟ على يد النصارى أنفسهم ، وليس على أيدى العرب والفلسطينيين ! لكن متى كان الإجرام والتوحش يبالى بمنطق أو عدل أو أخلاق ؟
أما الحرب فى الإسلام فلا تُشَنّ إلا للدفاع عن النفس كما هو معلوم ، وليس بحجة أن الله قد أعطانا بلاد الآخرين والسلام ، استلطافا منه لنا !
أما عند هزيمة العدو فإننا نأسره ولا نقتله ، ثم بعد انتهاء الأعمال القتالية فإما أطلقنا سراح الأسرى دون مقابل ، وإما أخذنا منهم الفدية لقاء تركهم يعودون لذويهم . أما المحو والاستئصال الذى يأمر رب اليهود شعبه به فلا مجال له فى الإسلام !
ومع ذلك كله يظل هؤلاء المناكيد يرددون أكاذيبهم عنا وعن قسوتنا وإكراهنا غيرنا على الدخول فى ديننا ... إلى آخر تلك المفتريات اللعينة .
ولكن ما وجه الغرابة فى هذا ، وقد اجترأوا على الله نفسه فصنعوا كلاما سمجا كله كفر وقلة أدب وسفاهة وتطاول على رسول الله ، ثم ادَّعَوْا أنه من عند رب العالمين ؟ هل من يفعل ذلك يمكن أن يطمئن له عاقل ذو ضمير ؟ هل من يفعل ذلك يمكن أن يكون فى قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ؟
وفى النهاية أرجو أن يكون القارئ قد تنبه لحكاية" الجزية " فى النصوص السابقة المأخوذة من الكتاب المقدس بعهديه العتيق والجديد جميعا ، فإنها تكذِّب الأوغاد المجرمين مخترعى الوحى المزيف وناسبيه لرب العالمين كفرًا منهم وإلحادا ، إذ يزعمون أن الرسول هو الذى اخترع " الجزية " من عنده وأنها لم تنزل من السماء!
وكما يُبْدِئ الأوغاد المجرمون ويُعِيدون فى الزعم بأن الإسلام انتشر بالسيف رغم أنهم هم الذين نشروا دينهم بالسيف والكذب والخداع واستغلال السذاجة عند الشعوب البدائية ... إلخ ، فكذلك نراهم يُبْدِئون ويُعِيدون فى الإزراء على الجنة ونعيمها كما صورها القرآن الكريم ، مدَّعين أنها جنة مادية شهوانية لا تليق بالناس المتحضرين أمثالهم من أصحاب الروحانيات والخلق السامى الكريم !
عجيبٌ أمر هؤلاء الأوغاد عجيبٌ عجيب ! أية روحانيات يتحدثون عنها ، وقد نزلوا بربهم من عليائه إلى دنيا البشر المادية فتجسَّد وأكل وشرب وتجرع الخمر وصنعها آية لضيوف حفل قانا الجليل وتبول وتغوَّط وتألم وحزن ولُعِن وشُتِم وضُرِب وأُهِين وحُوكِم وصُلِب ، ثم مات أيضا " فوق البيعة " كيلا يكون أحدٌ أحسن من أحد ؟(/27)
أَوَبَعْد أن جسَّدتم الله تواتيكم نفوسكم على التظاهر بالاشمئزاز من جنة المسلمين قائلين إنها جنة مادية ؟
وماذا فى الجنة المادية ؟ ألا تحبون الأكل ؟ ألا تحبون الشرب ؟ ألا تحبون الجنس ؟ ألا تحبون التمتع بالظلال والجمال والهدوء ؟ ألا تحبون أن تستمعوا إلى الأصوات العذبة الجميلة ؟ ألا تحبون راحة البال وسكينة النفس بعد كل هذا القلق الذى اصطليناه فى الدنيا ؟ إن من يقول : " لا " لأى من هذه الأسئلة لهو ثُعْلُبَانٌ كذابٌ أَشِرٌ عريقٌ فى النفاق والدجل ! فما الحال إذا عرفنا أن هذه المتع الفردوسية ستكون متعا صافية مبرَّأة من كل ما كان يتلبَّس بها على الأرض من نقصان ونفاد وملل أو كِظَّة وغثيان أو قلق وآلام وأوجاع وإفرازات وعلل وتعب وكدح وصراع وخوف ، وكذلك من كل ما كان يعقبها من إخراج وتجشؤ وفتور وإرهاق ونوم ومرض ... إلخ ؟
لقد ذكر القرآن المجيد أنه فى العالم الآخر سوف " تُبَدَّل الأرضُ غَيْرَ الأرض والسماواتُ " ( إبراهيم / 48 ) ، وأن أهل الجنة " لا يَمَسّهم فيها نَصَبٌ ، وما هم منها بمُخْرَجين " (الحجر/ 48) ، وأنهم سيَبْقَوْن " خالدين فيها لا يَبْغُون عنها حِوَلا " ( الكهف / 108 ) ، وزاد الرسول الكريم فى أحاديثه الأمر بيانا فأوضح أن هذه المتع ستكون متعا خالصة تماما لا يكدّرها مكدِّر عضوىّ أو نفسىّ . فما وجه التنطع والاشمئزاز الكاذب إذن ؟
لقد لاحظتُ أن الذين يُزْرُون على جنة القرآن هم من أشد الناس طلبا للدنيا وتطلعا إليها وانخراطا فيها وسعارا محموما خلف لذائذها ، ومنهم هؤلاء المبشرون الفَسَقَة العَهَرَة الذين كانوا ولا يزالون يمثلون طلائع الاستعمار والاحتلال الغربى لبلادنا وبلاد كل الشعوب المستضعفة ، ذلك الاستعمار الذى يريد أن يستمتع بطيبات الحياة دوننا ويترك لنا الجوع والفقر والجهل والمرض والقذارة والذلة والتخلف والشقاء ! أليس مضحكا أن يأتى هؤلاء بالذات ليُظْهِروا النفور من تلك اللذائذ ؟ فمن هم إذن يا تُرَى الذين سُعِروا بحب الجنس على النحو الذى نعرفه فى بلاد الغرب واقعًا مَعِيشًا وأدبا مكتوبا ولوحاتٍ مصوَّرَةً وأفلاما عارية ومسرحياتٍ عاهرة ؟
أفإن جاء الرسول الكريم وقال لنا إنكم ستستمتعون بهذه الطيبات فى الجنة ، لكنْ مصفَّاةً مما يحفّها هنا على الأرض من أكدار وشوائب ، ومصحوبةً بالمحبة بين أهل الجنة ومشاهدتهم لوجه ربهم العظيم ذى الجلال والإكرام وتمتعهم بالرضا الإلهى السامى عنهم وانتشائهم بالتسبيحات الملائكية حولهم ، نَلْوِى عنه عِطْفنا ونشمخ بأنوفنا ونُبْدِى التأفف والتنطُّس ؟ إن هذا ، وَايْمِ الحق ، لَنِفاقٌ أثيم !
سنسمع المنافقين المنغمسين فى شهوات الجسد يتحدثون بتأفف عن هذه اللذائذ التى لا تليق فى نظرهم ببنى الإنسان ، وهم الذين يمارسون اللِّواط والسِّحاق مما ينزل بهذا الجسد وصاحبه أسفل سافلين .
وعلى أية حال ما وجه النفور من الجسد وإشباع غرائزه فى اعتدال ؟ أليس هذا الجسد هو أحد الوجهين اللذين تتكون منهما الشخصية الإنسانية ؟ فما الذى يمكن أن يكون فى ذلك من عيب ؟ ترى أمن الممكن أن تقوم الحياة البشرية بعيدا عن الجسد؟ كنت أستطيع أن أفهم وجه الاعتراض لو كنا نقول إن المتع الجسدية هى وحدها المتع التى نريدها ، لأن هذا من شأنه أن يُلْغِىَ الجانب الروحى من الإنسان أو على الأقل يتجاهله بما يسىء إلى هذا الإنسان نفسه . أمّا ، ونحن لا نقول بهذا ، فلست أجد أىّ مسوِّغ للاعتراض إلا العناد الأحمق والنفاق البغيض ! وعلى كل حال فالقرآن والأحاديث يلحّان صراحةً على أن أطايب النعيم هى مما لم تره عين أو تسمع به أذن أو خطر على قلب بشر . ثم يستوى بعد ذلك أن تكون هذه المتع الفردوسية متعا جسدية روحية معا أو روحية خالصة الروحانية . ونصوص القرآن والسنة تحتمل هذا وذاك لمن يريد ، وإن كان العبد الفقير يرى أنها ستجمع بين الحسنيين بالمعنى الذى شرحتُه ، أى أنها ستكون متعا جسدية روحية ، لكنْ على نحو غير الذى نعرفه فى هذه الدنيا . المهم أنها ستكون متعا خالصة والسلام !
لقد استند الثعالب المنافقون فى إنكارهم هذا إلى ما نُسِب للسيد المسيح من رده على اليهود الذين أرادوا أن يضيّعوا وقته فى الأسئلة السخيفة فقال لهم إن الناس " فى القيامة لا يزوِّجون ولا يتزوجون " ( متى / 22 / 23 – 30 ) ، إذ كان سؤالهم عن امرأة مات عنها زوجها فتزوجها من بعده إخوته الستة واحدا بعد موت الآخر ، فلِمَنْ من هؤلاء السبعة ستكون زوجةً فى القيامة ؟(/28)
والسؤال ، كما هو جلىٌّ بيِّن ، سؤال سمج سخيف لا يمكن أن يقع إلا فى خيالات المهاويس ولا يراد به إلا التعنت والرغبة فى أن يمسكوا شيئا يتعللون به للتشكيك فى القيامة التى لم يكونوا ، كما جاء فى القصة ، يؤمنون بها لأنهم من طائفة الصَّدُوقِيِّين المنكرين للبعث . وهو أسلوب يبرع فيه أحلاس المجالس والمجامع الذين يعشقون الظهور والرواج عند العامة ، فأراد المسيح أن يقطع عليهم الطريق ولا يعطيهم الفرصة للمضى مع هذا الجدال العقيم ! وبطبيعة الحال لن يكون هناك زواج ولا تزويج ، فنحن لسنا فى الدنيا ، ومن ثم لن نحتاج إلى مأذون أو مسجّل مدنى وشهادات رسمية وما إلى ذلك مما هو معروف هنا فى هذه الحياة الأرضية . وهذا مثل قولنا مثلا إنه لن تكون هناك مطاعم ولا مطابخ فى الآخرة . فهذا شىء ، والخروج من ذلك القول بأنه لن يكون هناك طعام وشراب شىء آخر . وعلى نفس القاعدة فإن قول المسيح إنه لن يكون زواجٌ أو تزويجٌ يوم القيامة لا يعنى أنه لن يكون هناك متع مما يحصِّله الإنسان من الاتصال بالجنس الآخر ، فهذه المتع قد تتم من خلال الزواج ، وقد تتم دون زواج . ومتع الجنة ، كما أشرنا آنفا ، لن يكون فيها شىء من وجع الدماغ الذى شبعنا منه فى الدنيا ، ومن ثم فلا خِطْبة ولا مهر ولا زواج بما يعنيه كل هذا من استعدادات وتكاليف ، فضلا عن أن تكون هناك صراعات بين عدة رجال مثلا على الفوز بامرأة جميلة كل منهم واقع فى غرامها ولا يهنأ له عيش إلا بالزواج منها ، أو بين عدة نساء على الفوز برجل غنى وسيم كلهن مدلَّهات فى هواه فلا تروق لهن الدنيا إلا بالاقتران به .
ومما يؤيد كلامى أن المسيح نفسه فى الفقرات التى سبقت جوابه على سؤال اليهود ، حين أراد أن يوضح ملكوت السماوات ، وهو ما يقابل الجنة عندنا ، ضرب لمستمعيه مثلا من عُرْسٍ أقامه أحد الملوك لابنه أَوْلَمَ فيه وليمةً " على كيفك " قُدِّمَتْ فيها الذبائح والمسمَّنات ، وحضرها المدعوُّون وقد لبسوا الحلل التى تليق بهذه المناسبة السعيدة . فعلام يدل هذا ؟ وهل يختلف يا ترى عما نقوله نحن عن الجنة ؟
أَوَلَمْ يقل المسيح ( مرقس / 14 / 25 ، ولوقا / 22 / 18) إنه سيشرب عصير الكرمة فى ملكوت الله جديدا ، أى على نحو آخر غير ما كان عليه فى الدنيا ، وهو ما يقوله الإسلام ؟
أولم يقل لتلاميذه إنهم سيأكلون ويشربون معه على مائدته فى الملكوت ( لوقا / 22 / 29 – 30 ) ؟ فما الفرق بين الشراب والطعام وبين الجنس ؟ أليست كلها متعا من متع هذه الدنيا التى تتأففون منها نفاقا ورياء ، وأنتم غارقون فيها ، لا إلى أذقانكم فقط كما يقول التعبير المشهور ، بل إلى شُوشَة رؤوسكم ؟
ثم إننا لا ينبغى أن ننسى أن السيد المسيح ، مَثَلُه فى هذا مَثَلُ النبى يحيى ، كان عزوفا عن النساء لأسباب خاصة به قد يمكن أن نجد لها إيماء فى كلامه عليه السلام عن أولئك الذين خصاهم الناس أو خَصَوْا هم أنفسَهم أو كانوا مَخْصِيِّين خِلْقَةً مما مَرَّ بنا من قبل .
ثم أين كان آدم وحواء فى بدء أمرهما ؟ ألم يكونا فى الجنة ؟ فماذا كانا يفعلان هناك ؟ يقول كتابكم المقدس إن هذه الجنة كان فيها أشجار حسنة المنظر طيبة المأكل ، وإن الرجل يترك أباه وأمه ويلزم امرأته فيصيران جسدا واحدا ، وإن آدم وزوجه كانا عريانين لا يشعران بخجل ، وإن الله قد ضمن لهما الخلود فيها... إلخ ( تكوين / 2 / 8 – 9 ، 24 ) . فما معنى كل هذا ؟ وماذا كان أبوانا الأوَّلان يعملان فى الجنة ؟ أكانا يكتفيان بتمضية وقتهما فى التأملات الروحانية واضعَيْن أيديهما على خدودهما ليلا ونهارا ؟
كذلك يتحدث بولس فى رسالته الأولى لأهل كورنتس ( 15 / 35 فصاعدا ) عن " الأجساد الأخروية " التى لا تعرف الفساد ولا التحلل والتى يسميها أيضا بـ " الأجساد السماوية " و" الأجساد الروحانية " .
وفى السِّفْر المسمَّى بـ " رؤيا القديس يوحنا " وَصْفٌ مفصَّلٌ لكثير من متع الفردوس وعذابات الجحيم ، وكلها مادية كالمتع والعذابات التى نعرفها فى دنيانا هذه ، مع التنبيه بين الحين والحين إلى أن كل شىء من هذه الأشياء سيكون جديدا ولا يجرى عليه ما كان يجرى على نظيره فى الأرض من فساد ونقصان ، وهو ما لا يختلف عما قلناه ، فلم التعنت إذن ومهاجمة الإسلام نفاقا وحقدا ؟
سورة افترَوْها وسمَّوْها : " سورة الغرانيق(/29)
وأَصِل الآن إلى آخر قضية أنوى أن أتناولها فى هذه الدراسة ، وهى التهمة التى وجهها هؤلاء المآفين إلى القرآن الكريم وخصّصوا لها سورة افترَوْها وسمَّوْها : " سورة الغرانيق " ، إشارةً إلى ما يقال من أن سورة " النجم " كانت تحتوى فى البداية على آيتين تمدحان الأصنام الثلاثة : " اللات والعُزَّى ومَنَاة " ، ثم حُذِفتا منها فيما بعد . يريدون القول بأن محمدا ، عليه الصلاة والسلام ، كان يتمنى أن يصالح القرشيين حتى يكسبهم إلى صفه بدلا من استمرارهم فى عداوتهم لدعوته وإيذائهم له ولأتباعه ، ومن ثم أقدم على تضمين سورة " النجم " تَيْنِك الآيتين عقب قوله تعالى : " أفرأيتم اللاتَ والعُزَّى * ومناةَ الثالثةَ الأخرى ؟ " ( النجم /19 – 20 ) على النحو التالى : " إنهنّ الغرانيق العُلا * وإن شفاعتهن لَتُرْتَجَى ". والمقصود من وراء ذلك كله هو الإساءة للرسول الكريم بالقول بأنه لم يكن مخلصا فى دعوته ، بل لم يكن نبيا بالمرة ، وإلا لما أقدم على إضافة هاتين الآيتين من عند نفسه .
وهم بهذا يظنون أن محمدا يشبه بولس ، الذى كان يفتخر بأنه يتلون حسب الظروف من أجل إدخال الناس إلى النصرانية بكل سبيل والذى أقدم على إلغاء السبت والختان وأَحَلَّ الخنزير حين رأى أن هذه الأحكام تقوم عقبةً كأداءَ فى طريق الدخول إلى المسيحية ! ونَسُوا أن محمدا نبى من عند رب العالمين ، على عكس بولس ، الذى ما إن دخل المسيحية بكذبته تلك الكبيرة التى لا تدخل العقل ولا تجوز إلا على البُلْه والمعاتيه حتى انطلق كالثور الهائج يقلب كل شىء فيها تقريبا رأسًا على عقب !
وعلى أية حال فهذه بعض من آيات السورة الشيطانية المذكورة : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * يا أيها الذين كفروا من عبادنا : لقد ضلَّ رائدكم وقد غَوَى * وما نطق عن الهوى إن هو إلا وحىٌ إفكٌ يُوحَى * علَّمه مريد القُوَى * فرأى من مكائد الشيطان الكبرى وهو بالدرك الأدنى * وردَّد الكفر جهرا وتلا : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى . إن شفاعتهن لَتُرْتَجَى * كلما مسه طائف من الشيطان زجر صاحبه فأخفى ما أبدى * وإمّا ينزَغَنَّه من الشيطان نَزْغٌ استعاذ بنا على مسمعٍ جهرا * ... * ومن أظلمُ ممن افترى علينا كذبا ثم قال : " أُوحِىَ إِلَىَّ ". وما أُوحِىَ إليه إلا ما تنزَّلَتْ به الشياطينُ افتراءً ومكرا " (1 - 7 ، 15) .
وهذه الفرية هى مما يحلو للمستشرقين والمبشرين أن يرددوها للمكايدة وإثارة البلبلة ، مع أن أقل نظرة فى سورة " النجم " أو فى سيرة حياته صلى الله عليه وسلم كافية للقطع بأن تلك القصة لا يمكن أن تكون قد حدثت على هذا النحو الذى اخترعه بعض الزنادقة قديما وأخذ أعداء الإسلام يرددونها شأن الكلب الذى وجد عظمة فعض عليها بالنواجذ وأخذ ينبح كل من يقترب منه ! بل إن بلاشير فى ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم قد أقدم على شىء بلغ الغاية فى الشذوذ والخيانة العلمية ، ألا وهو إثبات هاتين الآيتين المدَّعَاتَيْن فى نص ترجمته لسورة " النجم " بزعمهما آيتين قرآنيتين كانتا موجودتين فيها يوما .
وقد تناول عدد من علماء المسلمين قديما وحديثا الروايات التى تتعلق بهاتين الآيتين المزعومتين وبينوا أنها لا تتمتع بأية مصداقية . والحقيقة إن النظر فى سورة " النجم " ليؤكد هذا الحكم الذى توصل إليه أولئك العلماء ، فهذه السورة من أولها إلى آخرها عبارة عن حملة مدمدمة على المشركين وما يعبدون من أصنام بحيث لا يُعْقَل إمكان احتوائها على هاتين الآيتين المزعومتين ، وإلا فكيف يمكن أن يتجاور فيها الذم العنيف للأوثان والمدح الشديد لها ؟ ترى هل يمكن مثلا تصوُّر أن ينهال شخص بالسب والإهانة على رأس إنسان ما ، ثم إذا به فى غمرة انصبابه بصواعقه المحرقة عليه ينخرط فجأة فى فاصل من التقريظ ، ليعود كرة أخرى فى الحال للسب والإهانة ؟ هل يعقل أن تبلع العرب مثل هاتين الآيتين اللتين تمدحان آلهتهم ، وهم يسمعون عقب ذلك قوله تعالى : " ألكم الذَّكَر وله الأنثى ؟ * تلك إذن قسمةٌ ضِيزَى * إن هى إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن تتَّبعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس . ولقد جاءهم من ربهم الهدى " ؟ إن هذا أمر لا يمكن تصوره !
كما أن وقائع حياته صلى الله عليه وسلم تجعلنا نستبعد تمام الاستبعاد أن تكون عزيمته قد ضعفت يوما ، فقد كان مثال الصبر والإيمان بنصرة ربه له ولدعوته . ومواقفه من الكفار طوال ثلاثة وعشرين عاما وعدم استجابته فى مكة لوساطة عمه بينه وبينهم رغم ما كان يشعر به من حب واحترام عميق نحوه ، وكذلك رفضه لما عرضوه عليه من المال والرئاسة ، هى أقوى برهان على أنه ليس ذلك الشخص الذى يمكن أن يقع فى مثل هذا الضعف والتخاذل !(/30)
هذا ، وقد أضفت طريقةً جديدةً للتحقق من أمر هاتين الآيتين هى الطريقة الأسلوبية ، إذ نظرت فى الآيتين المذكورتين لأرى مدى مشابهتهما لسائر آيات القرآن فوجدت أنهما لا تمتان إليها بصلةٍ البتة .
كيف ذلك ؟
إن الآيتين المزعومتين تجعلان الأصنام الثلاثة مناطا للشفاعة يوم القيامة دون تعليقها على إذن الله ، وهو ما لم يسنده القرآن فى أى موضع منه إلى أى كائن مهما تكن منزلته عنده سبحانه . ولن نذهب بعيدا للاستشهاد على ما نقول ، فبعد هاتين الآيتين بخمس آيات فقط نقرأ قوله تعالى : " وكم مِنْ مَلَكٍ فى السماوات لا تُغْنِى شفاعتُهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويَرْضَى " . فكيف يقال هذا عن الملائكة فى ذات الوقت الذى تؤكد إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة جديرة بالرجاء من غير تعليق لها على إذن الله ؟
ثم إنه قد ورد فى الآية الثانية من آيتى الغرانيق كلمة " تُرْتَجَى " ، وهى أيضا غريبة على الأسلوب القرآنى ، إذ ليس فى القرآن المجيد أى فعل من مادة " ر ج و " على صيغة " افتعل " . أما ما جاء فى إحدى الروايات من أن نص الآية هو : " وإنّ شفاعتهن لَتُرْتَضَى " ، فالرد عليه هو أن هذه الكلمة ، وإن وردت فى القرآن ثلاث مرات ، لم تقع فى أى منها على " الشفاعة " ، وإنما تُسْتَخْدَم مع الشفاعة عادةً الأفعال التالية : " تنفع ، تغنى ، يملك " .
كذلك فقد بدأت مجموعةُ الآيات التى تتحدث عن اللات والعُزَّى ومناة بقوله عَزَّ شأنُه : " أ(ف)رأيتم ...؟ " ، وهذا التركيب قد تكرر فى القرآن إحدى وعشرين مرة كلها فى خطاب الكفار ، ولم يُسْتَعْمَل فى أى منها فى ملاينة أو تلطف ، بل ورد فيها جميعا فى مواقف الخصومة والتهكم وما إلى ذلك بسبيل كما فى الشواهد التالية : " قل : أرأيتم إن أتاكم عذابُه بَيَاتًا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون ؟ " (يونس / 50) ، " قل : أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حلالا وحراما ، قل : آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله تفترون ؟ " ( يونس / 59) ، " قل : أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشَهِد شاهدٌ من بنى إسرائيل على مِثلِْه فآمن واستكبرتم ؟ إن الله لا يهدى القوم الظالمين " (الأحقاف / 10) ، " أفرأيتم الماء الذى تشربون ؟ * أأنتم أنزلتموه من المُزْن أم نحن المُنْزِلون ؟ * لو نشاء جعلناه أُجَاجًا ، فلولا تشكرون " ( الواقعة / 68 – 70 ) . فكيف يمكن إذن أن يجىء هذا التركيب فى سورة " النجم " بالذات فى سياق ملاطفة الكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم ؟
وفوق هذا لم يحدث أن أُضيفت كلمة " شفاعة " فى القرآن الكريم ( فى حال مجيئها مضافة ) إلا إلى الضمير " هم " على خلاف ما أتت عليه فى آيتى الغرانيق من إضافتها إلى الضمير "هنّ "
وفضلا عن ذلك فتركيب الآية الأولى من الآيتين المزعومتين يتكون من " إنّ ( وهى مؤكِّدة كما نعرف ) + ضمير ( اسمها ) + اسم معرّف بالألف واللام ( خبرها ) " ، وهذا التركيب لم يُسْتَعْمَل ل " ذات عاقلة " فى أى من المواضع التى ورد فيها فى القرآن الكريم ( وهى تبلغ العشرات ) إلا مع زيادة التأكيد لاسم " إنّ " بضميرٍ مثله كما فى الأمثلة التالية : " ألا إنهم هم المفسدون / ألا إنهم هم السفهاء / إنه هو التواب الرحيم / إنك أنت السميع العليم / إنك أنت التواب الرحيم / إنه هو السميع العليم / إنه هو العليم الحكيم / إنه هو الغفور الرحيم / إنى أنا النذير المبين / إنه هو السميع البصير / إننى أنا الله / إنك أنت الأعلى / إنا لنحن الغالبون / إنه هو العزيز الحكيم / وإنا لنحن الصافّون / وإنا لنحن المسبِّحون / إنهم لهم المنصورون / إنك أنت الوهاب / إنه هو السميع البصير / إنه هو العزيز الرحيم / إنك أنت العزيز الكريم / إنه هو الحكيم العليم / إنه هو البَرّ الرحيم / ألا إنهم هم الكاذبون / فإن الله هو الغنى الحميد " . أما فى المرة الوحيدة التى ورد التركيب المذكور دون زيادة التأكيد لاسم " إنّ " بضميرٍ مثله ( وذلك فى قوله تعالى : " إنه الحق من ربك " / هود / 17 ) فلم يكن الضمير عائدا على ذات عاقلة ، إذ الكلام فيها عن القرآن . ولو كان الرسول يريد التقرب إلى المشركين بمدح آلهتهم لكان قد زاد تأكيد الضمير العائد عليها بضميرٍ مثله على عادة القرآن الكريم بوصفها " ذواتٍ عاقلةً " ما داموا يعتقدون أنها آلهة . وعلى ذلك فإن التركيب فى أُولَى آيَتَىِ الغرانيق هو أيضا تركيب غريب على أسلوب القرآن الكريم .
مما سبق يتأكد لنا على نحوٍ قاطعٍ أن الآيتين المذكورتين ليستا من القرآن ، وليس القرآن منهما ، فى قليل أو كثير . بل إنى لأستبعد أن تكون كلمة " الغرانيق " قد وردت فى أى من الأحاديث التى قالها النبى عليه الصلاة والسلام .
وينبغى أن نضيف إلى ما مرّ أن كُتُب الصحاح لم يرد فيها أى ذكر لهذه الرواية ، ومثلها فى ذلك ما كتبه ابن هشام وأمثاله فى السيرة النبوية .(/31)
ولقد قرأت فى كتاب " الأصنام " لابن الكلبى ( تحقيق أحمد زكى / الدار القومية للطباعة والنشر / 19 ) أن المشركين كانوا يرددون هاتين العبارتين فى الجاهلية تعظيما للأصنام الثلاثة ، ومن ثم فإنى لا أستطيع إلا أن أتفق مع ما طرحه سيد أمير على من تفسير لما يمكن أن يكون قد حدث ، بناءً على ما ورد من روايات فى هذا الموضوع ، إذ يرى أن النبى ، عندما كان يقرأ سورة " النجم " وبلغ الآيات التى تهاجم الأصنام الثلاثة ، توقَّع بعضُ المشركين ما سيأتى فسارع إلى ترديد هاتين العبارتين فى محاولة لصرف مسار الحديث إلى المدح بدلا من الذم والتوبيخ (Ameer Ali, The Spirit of Islam, Chatto and Windus, London, 1978, P.134 ). وقد كان الكفار فى كثير من الأحيان إذا سمعوا القرآن أحدثوا لَغْطًا ولَغْوًا كى يصرفوا الحاضرين عما تقوله آياته الكريمة ( فُصِّلَتْ / 26 ) ، فهذا الذى يقوله الكاتب الهندى هو من ذلك الباب .
ولتقريب الأمر أمثِّل لهذه الطريقة بواقعة كنت من شهودها ، إذ كان رئيس ومرؤوسه يتعاتبان منذ أعوام فى حضورى أنا وبعض الزملاء ، وكان الرئيس يتهم المرؤوس المسكين بأنه يكرهه ، والآخر يحاول أن يبرئ نفسه عبثا لأنه كان معروفا عنه خوضه فى سيرة رئيسه فى كل مكان . وفى نوبة يأس أسرع قائلا وهو يؤكد كلامه بكل ما لديه من قوة : " إن ما بينى وبينك عميق ! " ، فما كان من زميل معروف بحضور بديهته وسرعة ردوده التى تحوِّل مجرى الحديث من وجهته إلى وجهة أخرى معاكسة إلا أن تدخل قائلا فى سرعة عجيبة كأنه يكمل كلاما ناقصا : " فعلا ! عميقٌ لا يُعْبَر ". وهنا أمسك الرئيس بهذه العبارة وعدَّها ملخِّصةً أحسن تلخيص للموقف ولمشاعر مرؤوسه المزنوق الذى يحاول التنصل مما يُنْسَب إليه !
ومن ذلك أيضا ما كان بعض أصدقائنا المدرسين يعابث به تلميذاته إذا رآهن قد أسرفن فى التحمس لقاسم أمين وإبراز أهمية الدور التى تؤديه المرأة فى الحياة ، إذ كان ، كلما ردّدن أمامه العبارة المشهورة فى هذا السياق من أن " وراء كل عظيم امرأة " ، يجيبهن مرة : " طبعا وراءه لا أمامه ، فهو صاحب الصدارة والتفوق ، أما هى فتابعة له "، ومرة : " فعلا وراءه ، والزمان طويل " ، ومرة : " وراءه مسوِّدة عيشته " ... وهكذا .
ورغم أننا قد فنَّدنا هذا السخف الساخف فإنّا لنستغرب ذلك الضجيج الذى يُحْدِثه هؤلاء الأوباش حول رسولنا الكريم بسببه . ذلك أنهم يقولون إنه ما من نبى من أنبياء الكتاب المقدس إلا قد ارتكب خطيئة أو أكثر من العيار الثقيل حسبما جاء فى هذا الكتاب ذاته : فإبراهيم تخلى عن زوجته لفرعون مدّعيا أنها أخته وتركها له يفعل بها ما يشاء خوفًا على حياته ، وكان من الممكن أن ينال الملك ما يشتهى منها لولا أن الله قد ضربه هو وأهله ضرباتٍ عظيمة كما يقول مؤلف " سفر التكوين " ( 12 / 11 – 20 ) ، فعرف أن سارة ليست أختا لإبراهيم بل هى زوجته . وموسى يقدم على قتل المصرى بدم بارد وخسّة حقيرة وجبن واضح . وهارون يصنع العجل لبنى إسرائيل ليعبدوه ويرقصوا وهم يطوفون به عراةً أثناء غياب موسى فى الطور عند لقائه بربه . وداود يزنى بامرأة قائده ثم يدبر مؤامرة إجرامية خسيسة لقتله والتخلص منه ليفوز بالزوجة ، وكان له ما أراد . وسليمان ينظم نشيدا كله عهر وإغراء بالفاحشة ، كما ينزل على رغبات زوجاته الوثنيات فيصنع لهن أصناما يعبدنها فى بيته إرضاءً لهن ... إلخ . وهؤلاء المتنطعون يقولون إن وقوع الأنبياء فى الخطايا أمر طبيعى لأنهم بشر . فإذا كان الأمر كذلك فلماذا ، يا أيها المتنطعون ، لا تنظرون بنفس العين إلى غلطة الغرانيق بافتراض أنها وقعت بالفعل ، وبخاصة أنها لا ترقى أبدا إلى ما فَرَط من أىٍّ من أنبياء كتابكم حسبما تقولون أنتم أنفسكم ، فقد حُذِفت الآيتان المذكورتان فى الحال ولم تُسَجَّلا فى القرآن قط ؟
مرة أخرى أكرر أن هذه الرواية هى رواية مكذوبة لا تثبت على محك النقد العلمى : سواء من ناحية السند أو من ناحية المتن والأسلوب كما رأينا ، لكنى أحاول أن أبين للقارئ الفاضل مدى التواء هؤلاء المخابيل وخبث نفوسهم وكيلهم بمكيالين ، وأن أُوقِفَ هؤلاء المخابيل أمام صورتهم فى المرآة ليَرَوْا قبحها ودمامة ملامحها الشيطانية !(/32)
وهنا أحب أن أشير إلى مفارقة غاية فى العجب والغرابة والشذوذ ، فانطلاقا من المفهوم الطاهر للنبوة فى ديننا والإيمان بأن الأنبياء لا يمكن أن يقترفوا مثل هذه الجرائم التى لا تقع إلا من عتاة المجرمين نقوم نحن المسلمين بالدفاع عن أنبياء الكتاب المقدس ضد التهم التى يلصقها هذا الكتاب المحرَّف بهم ، لكن النصارى يردون على هذا الدفاع بالتخطئة مؤكِّدين أن هؤلاء الأنبياء قد ارتكبوا فعلا الخطايا التى تُنْسَب إليهم . ومع ذلك فإنهم عند تناولهم للشبهات الباطلة التى يتعلقون بها للنيل من أخلاق الرسول الأعظم نراهم وقد أخذتهم الحميَّة للأخلاق الكريمة فلا يُبْدُون أى تسامح أو تساهل مع هذه التهم الكاذبة !
أليست هذه مفارقة تحتاج إلى دراسة تحليلية لذلك الالتواء النفسى ؟
ويمكن القارئ أن يرجع مثلا إلى موقع " النور " النصرانى ، ولسوف يجد مقالا بعنوان " عصمة الوحى وخطايا الأنبياء " يتحدث فيه صاحبه عن الخطايا التى اجترحها كل من آدم ونوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط وإخوة يوسف وداود وسليمان وغيرهم مما أشرنا لبعضه آنفا ، مع تسويغ هذه الخطايا بشبهة أنهم بشر ، لكنه عندما يتناول ما يظنه أخطاءً لسيد الأنبياء والمرسلين يحاسبه حسابا عسيرا ، ولا يرضى أبدا بغض البصر أو التسامح تحت أى بند من البنود !
إننى حين أدافع عن سيد النبيين والمرسلين لا أفعل ذلك لمجرد انتمائى لدينه ، بل أفعله إيمانا منى بعظمته وعبقريته وشموخ شخصيته : فقد أتى بمبادئ لا ترقى إليها أية مبادئ فى أى دين أو فلسفة أو مذهب من مذاهب السياسة والتربية والأخلاق .
ثم إنه قد وضع تلك المبادئ موضع التطبيق ، وكان توفيقه فى هذا المجال مذهلا ، ولم يقتصر الأمر معه على مجرد الدعوة لها كما هو الحال مع عيسى عليه السلام ، الذى لم يأت ، حسب ما هو مسطور فى سيرته ، إلا ببعض المواعظ والنصائح المغرقة فى الخيال مما لا يؤكِّل عيشا ! والواقع أنه لو أخذت البشرية مأخذ الجِدّ ما دعا إليه السيد المسيح حسبما جاء فى الأناجيل لما كانت هناك حضارة ولا تقدُّم ولا تمتُّع بأى من خيرات الحياة ، فكل الكلام المنسوب له عليه السلام تنفير من الغنى والقوة والدفاع عن النفس وتبغيض فى الدنيا وطيباتها ، وهو يقول بصراحة لا تحتمل أى تأويل إن مملكته ليست من هذا العالم . كما ينظر إلى الغرائز البشرية نظرة التوجس بل الكراهية ، مع أن هذه الغرائز هى وقود سفينة الحياة ، ولولا هى لما رامت هذه السفينة موضعَها إلى الأبد! كذلك لم يترك المسيح أية تشريعات تقريبا ، وبالذات فى مجال السياسة والحكم وتنظيم المجتمع . ومن ثم فإننا إذا أردنا أن نقيم دولة على المبادئ التى خلَّفها لم نجد ما يمكن أن يساعد فى هذا المجال ! ولكن لا ينبغى فى ذات الوقت أن ننسى أنه عليه السلام لم يُكْتَب له أن يعيش بعد اختياره نبيًّا إلا لسنوات ثلاث ، وهى فترة غير كافية لإنجاز أى مشروع على الإطلاق ! ومن هنا كان من الظلم البين له مقارنة عمله بما أنجزه الرسول الأعظم رغم احترامنا له وحبنا إياه وإيماننا بنبوته .
لكن صورة المسيح التى تعرضها علينا الأناجيل هى للأسف صورة ظالمة ، إذ تظهره عصبيًّا جافى الطبع لا يستقر فى مكان ، ولا عَمَلَ له إلا إبراءُ المرضى الذين يلهثون خلفه هنا وههنا فى فوضى مزعجة ، وإلا لَعْنُ اليهود وسبُّهم ومخالفتهم فى كل ما يتمسكون به من تشريعات ، مع الزعم فى ذات الوقت بأنه ما جاء لينقض الناموس الذى أتى به موسى عليه السلام ، ثم لا شىء وراء ذلك !
طبعا سيقول النصارى إنه قد أتى إلى العالم ليفتدى البشرية من خطيئتها الأولى ، لكن أحدا من غير السذَّج لا يمكن أن يأخذ هذه المزاعم المصنوعة على غرار وثنيات القدماء وخرافاتهم مأخذ الجِدّ !
ومع ذلك فكلُّ إنسانٍ وما يؤمن ! ونحن لا نتدخل فى عقائد غيرنا ، بيد أننا فى الوقت ذاته لا يمكن أن نتسامح مع من يَمَسُّ سيدنا رسول الله بسوء !
أنتم أحرار فى كفركم به يا من لا تؤمنون برسالته ، فهذا اختياركم ، ونحن لا نصادر حق أى إنسان فى الاختيار . لكن هذا شىء ، والتطاول على شخص الرسول الأكرم والقرآن الذى جاء به شىء آخر مختلف تماما .
وأرجو أن تكون الرسالة قد وصلت !(/33)
الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة
أولا : أهمية الموضوع :
وتتضح أهمية موضوع الرسول – صلى الله عليه وسلم- القدوة في النقاط الآتية :
1- إن الناظر في الأوساط التربوية اليوم ليلحظ قلة القدوة الصالحة المؤثرة في المجتمعات الإسلامية، رغم كثرة أهل العلم والتقوى والصلاح .
2- إن المتأمل في خضم الحياة المعاصرة يجد الأمور قد اختلطت، والشرور قد سادت، وأصبح النشء والشباب يُرددون : (نحن لا نجد القدوة الصالحة.. فلماذا؟) .
3- إن كثيراً من الناس اليوم بدلاً من أن يتخذوا سيرة نبيهم وقدوتهم محمد – صلى الله عليه وسلم -، تراهم قد انشغلوا بالمشاهير من الممثلين أو اللاعبين، وما تراهم إلا استبدلوا
الذي هو أدنى بالذي هو خير .
ثانيا : وجوب الاقتداء بالرسول – صلى الله عليه وسلم-:
يجب على كل مسلم ومسلمة الاقتداء والتأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -; فالاقتداء أساس الاهتداء، قال تعالى : "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" [الأحزاب:21] قال ابن كثير : "هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله – صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أُمِرَ الناسُ بالتأسي بالنبي – صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه –عز وجل-" (1).
فمنهج الإسلام يحتاج إلى بشر يحمله ويترجمه بسلوكه وتصرفاته، فيحوِّله إلى واقع عملي محسوس وملموس، ولذلك بعثه – صلى الله عليه وسلم- بعد أن وضع في شخصيته الصورة الكاملة للمنهج- ليترجم هذا المنهج ويكون خير قدوة للبشرية جمعاء .
لقد كان الصالحون إذا ذكر اسم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -; يبكون شوقا وإجلالا ومحبة لَهُ، وكيف لا يبكون؟ وقد بكى جذع النخلة شوقا وحنينا لما تحوَّل النبي - صلى الله عليه وسلم -; عنه إلى المنبر، وكان الحسنُ إذا ذَكَرَ حديث حَنينَ الجذع وبكاءه، يقول : "يا معشر المسلمين، الخشبة تحن إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- شوقا إلى لقائه؛ فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه" (2).
يقول ابن تيمية -رحمه الله- : "وإنما ينفع العبد الحب لله لما يحبه الله من خلقه كالأنبياء والصالحين؛ لكون حبهم يقرب إلى الله ومحبته، وهؤلاء هم الذين يستحقون محبة الله لهم" (3).
ولا بد من تحقيق المحبة الحقيقية لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -; وتقديم محبته وأقواله وأوامره على من سواه (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون اللهُ ورسولُهُ أَحَبَّ إليه مما سواهما..) الحديث (4).
إن واجبنا الاقتداء بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -; وجعلها المثل الأعلى للإنسان الكامل في جميع جوانب الحياة، واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -; دليل على محبة العبد ربه، وسينال محبة الله تعالى لَهُ، وفي هذا يقول الله –عز وجل- " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [آل عمران:31]. فسيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم- كانت سيرة حية أمام أصحابه في حياته وأمام أتباعه بعد وفاته، وكانت نموذجاً بشرياً متكاملاً في جميع المراحل وفي جميع جوانب الحياة العملية، ونموذجاً عملياً في صياغة الإسلام إلى واقع مشاهدٍ يعرفُ من خلال أقوالِهِ وأفعالِهِِ فيتبع رسولَهُ محمداً – صلى الله عليه وسلم-، ويجعل اتِّبَاعَه دليلا على صدق محبته-سبحانه-.
كما أن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم- أصل من أصول الإيمان الذي لا يتم إلا به، عن عمر –رضي الله عنه- قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : ((والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين)) (5).
ولقد كان الصحابة جميعا-رضي الله عنهم- يحبون النبي – صلى الله عليه وسلم- حبا صادقا حملهم على التأسي به والاقتداء واتباع أمره واجتناب نهيه؛ رغبة في صحبته ومرافقته في الجنة، قال تعالى : "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً" [النساء:69] وفي الحديث "المرء مع من أحب" (6).
وجاء في حديث أنس –رضي الله عنه-; بلفظ قال:"شهدت يوم دخل النبي – صلى الله عليه وسلم- المدينة فلم أَرَ يوماً أحسنَ ولا أضوأََ منه" (7)، وفي رواية :"فشهدتُه يومَ دخلَ المدينةَ فما رأيت يوماً قَط كان أحسنَ ولا أضوأَ من يوم دخل علينا فيه، وشهدته يوم مات فما رأيت يوماً كان أقبحَ ولا أظلمَ من يوم مات فيه –صلى الله عليه وسلم-" (8).
ثالثا : أمور مهمة في الاقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم- :(/1)
- ومن الجوانب المهمة في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ أن سيرته - صلى الله عليه وسلم- في إيمانه وعبادته وخلقه وتعامله مع غيره، وفي جميع أحواله كانت سيرة مثالية في الواقع، ومؤثرة في النفوس؛ فقد اجتمعت فيها صفات الكمال وإيحاءات التأثير البشري، واقترن فيها القول بالعمل؛ ولا ريب أن الإيحاء العملي أقوى تأثيراً في النفوس من الاقتصار
على الإيحاء النظري؛ لهذه العلة أرسل الله تعالى الرسل ليخالطهم الناسُ ويقتدوا بهداهم، وأرسل الله سبحانه الرسولَ – صلى الله عليه وسلم- ليكون للناس أسوة حسنة يقتدون به، ويتأسون بسيرته، قال المولى – عز وجل- " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" [الأحزاب:21]، وقد أمرهم -صلى الله عليه وسلم- بالتأسي به فقال :"صلوا كما رأيتموني أصلي" (9)، وقال – صلى الله عليه وسلم- :"لتأخُذُوا مناسِكَكُم" (10).
وقال بعضهم في الاقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم- والتأسي به : إذا نحن أدلجنا وأنت إمَامُنا *** كفى بالمطايا طِيبُ ذِكراكَ حاديا
وإن نحن أضلَلْنَا الطريقَ ولم نجدْ*** دليلا كفَانَا نُورُ وَجْهِكَ هَاديا (11)
ومن الأمور التي يجدر التنبيه عليها أيضا في الاقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم والتأسي به:
- العمل بسنته باطنا وظاهرا: مثل سنن الاعتقاد ومجانبة البدعة وأهلها. والسنن المؤكدة : مثل سنن الأكل واللباس والوتر وركعتي الضحى، وسنن المناسك في الحج والعمرة ..
- تطبيق السنن المكانية : الذهاب إلى مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصلاة في مسجده، والصلاة في مسجد قباء، والصلاة في الروضة الشريفة، وهي من رياض الجنة التي ينبغي التنعم فيها والاعتناء بها، قال – صلى الله عليه وسلم- : ((ما بين بيتى ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي)) (12).
- الإكثار من الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -; كما في قوله : ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا)) (13).
رابعا : حاجة الأمة إلى القدوات دوما بعد الرسول – صلى الله عليه وسلم-:
إن الاقتداء بالرسول – صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله تعالى ليس بالموضوع الهين، فإنه أمر جلل، والأمة الإسلامية اليوم، وهي تشهد صحوة وتوبة وأوبة إلى الله تعالى، وتشهد -في الوقت نفسه- مناهج وطرقاً مختلفة في الدعوة إلى الله.. هي أحوج ما تكون إلى معرفة منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهج الأنبياء الكرام في الدعوة إلى الله؛ فليس هناك منهج يقتدى به في الدعوة والعلم والعمل إلا منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن تبعه من الصحابة الكرام والسلف الصالح .
فمنذ عهد الصحابة –رضوان الله عنهم- ومن تبعهم من الصالحين والعلماء والدعاة وأهل الفضل والتقى على مر العصور خلفوا سيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم- في عطائها وإيحائها وتأثيرها؛ لأنهم ورثة الأنبياء، يقتدي بهم الناس في اتباع هدي الرسول – صلى الله عليه وسلم- والعمل بسنته، وبقيت سيرهم بعد وفاتهم نبراساً يضيء طريق محبيهم إلى الخير، ويرغبهم في السير على منهج الحق والهدى .
وعلى الرغم من اختفاء تلكم الشخصيات عن العيون إلا أن سيرها العطرة المدونة لا تزال بقراءتها تفوح مسكاً وطيباً، وتؤثر في صياغة النفوس واستقامتها على الهدى والصلاح، قال بشر بن الحارث : "بحسبك أقوام تحي القلوب بذكرهم، وبحسبك أقوام تموت القلوب بذكرهم".
ذلك أن القدوة لا تزال مؤثرة وستبقى مؤثرة في النفس الإنسانية، وهي من أقوى الوسائل التربوية تأثيراً في النفس الإنسانية، لشغفها بالإعجاب بمن هو أعلى منها كمالاً، ومهيأة للتأثر بشخصيته ومحاولة محاكاته، ولا شك أن الدعوة بالقدوة أنجح أسلوب لبث القيم والمبادئ التي يعتنقها الداعية.
وفي التأكيد على أهمية القدوة الحسنة في الداعية أو الأستاذ وأثر ذلك في تلاميذه، نقل الذهبي : "كان يجتمع في مجلس أحمد زُهاء خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمس مئة يكتبون، والباقون يتعلّمون منه حُسْنَ الأدب والسَّمت" (14).
وقبل أن نختم موضوعنا يجدر بنا أن نطرح تساؤلا مهما كثيرا ما يرد : ما السبب في قلة القدوة المؤثرة إيجابياً في الوسط التربوي ؟
وتكون الإجابة على هذا السؤال بالأمور التالية (15):
1- عدم توافر جميع الصفات التالية في كثير من الأشخاص الذين هم محل للاقتداء:
أ- الاستعداد الذاتي المتمثل في طهارة القلب وسلامة العقل واستقامة الجوارح.
ب- التكامل في الشخصية أو في جانب منها بحيث يكون الشخص محلاً للإعجاب وتقدير الآخرين ورضاهم، مع سلامة في الدِّين وحسن الخلق .
ت- حب الخير للآخرين والشفقة عليهم والحرص على بذل المعروف وفعله والدعوة إليه، فمن كان على هذه الصفة أحبه الناس وقدروه وتأسوا به، ومن فقد هذه الصفة لم يلتفتوا إليه.(/2)
2- عدم تسديد النقص أو القصور الذي قد يعتري من هم محل للاقتداء كالآباء والمعلمين وأهل العلم في صفة من تلك الصفات مما يصرف الناس عن التأسي بهم، وهذا يرجع إلى عدم إدراك هؤلاء للواجب، أو عدم تصورهم لأثر القدوة في التربية والإصلاح، أو لضعف شخصي ناتج عن استجابة لضغط المجتمع ، أو لسلبية عندهم نحو المشاركة في تربية الناشئة وإصلاح أفراد المجتمع.
3- مزاحمة القدوات المزيفة المصطنعة للتلبيس على الناس وإضلالهم عن الهدى وتزيين السوء في أعينهم، وصرفهم عن أهل الخير وخاصة الله، فقد أسهم الإعلام المنحرف والمشوب في صناعة قدوات فاسدة أو تافهة، وسلط عليها الأضواء ومنحها من الألقاب والصفات والمكانة الاجتماعية ما جعلها تستهوي البسطاء من الناس أو ضعاف النفوس والذين في قلوبهم مرض، وتوحي بزخرف القول الذي يزين لهؤلاء تقليدهم ومحاكاتهم.
4- "العناصر الخيرة قليلة في سائر المجتمعات، فما يكاد العامة يرون نموذجا جيداً حتى يسارعوا إلى الالتفاف حوله والتعلق به" (16).
ومن هنا تأتي الحاجة ملحة لأن نعيد إلى الناس بيان حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم- القدوة والأسوة الحسنة للناس جميعا، ونعنى بتربية الأبناء والشباب، وإعطائهم الصورة الصحيحة للقدوة الصالحة، وإبرازهم الشخصية المستحقة للاتباع والاحتذاء.
ونختم موضوعنا؛ في الرسول – صلى الله عليه وسلم- القدوة، بأن المسلم إذا راقب الله تعالى في عباداته ومعاملاته ودعوته وأَجْرَاها وَفْقَ ما أمر الله عز وجل; وما أمر رسوله – صلى الله عليه وسلم- كان مقتديا برسول الله – صلى الله عليه وسلم- .
اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
==============
الرسول القدوة (2)
ذكرنا فى العدد الماضي أن الاقتداء برسول الله ص فريضة شرعية، وضرورة حياتية، مشددين القول على أن الناس جميعاً في حاجة ماسة اليوم إلى الاقتداء بمحمد ص لتحقيق النجاح المطلق في الحياة، والسعادة في الدنيا والآخرة. وتطرقنا إلى أبرز معوقات هذا الاقتداء، مطالبين بالتمييز بين مجموعة من الصفات المهمة التي يجب أن يقتدي فيها الدعاة برسول الله ص، وهو ما يُعرف ب"القدوة الخاصة" التى يجب على الدعاة عمومًا والقادة خصوصًا الانتباه لها والحرص عليها، ومن هذه الصفات شدة سماعه ص لأصحابه والإقبال على حديثهم بالاهتمام والتصديق، وإشعار كل فرد منهم بأهميته وأهمية ما أتى به من خبر أو اجتهاد أو رأي أو مشورة أو سؤال، والرحمة والشفقة وجميل حسن المصاحبة، وإظهار الحب لجميع الأتباع والشعور العاطفي الفياض بهم، إضافة إلى تيسيره ص على أصحابه وأتباعه وأمته، وهذا من باب الحب والشفقة والرحمة، ومشاركته لهم فى الجهد والمشقة، علاوة على حفاظه ص دائماً على الشورى وحرصه عليها. واليوم نكمل ذكر تلك الصفات:
6 سياسة التفويض: هو أن يكلف القائد شخصا ًأو فرداً ينوب عنه في أداء بعض الأعمال، وهذه السياسة تنبع أساساً من يقين القائد بعدم قدرته على أداء كل الأعمال بمفرده لكنه يعمل من خلال فريق عمل متكامل، ولقد كان رسول الله ص يولي أصحابه أو يفوضهم للقيام بكثير من الأعمال، فأرسل الطفيل بن عمرو الدوسي إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام بعدما أسلم؛ وأرسل مصعب بن عمير سفيراً إلى أهل المدينة يعلمهم الدين ويدعو القوم إلى الإسلام، وكان يعقد السرايا للصحابة، وأمر حذيفة يوم الأحزاب أن يأتيه بخبر القوم، وقام حذيفة بدور المخابرات العسكرية الإسلامية، وهذا غير صنيعه ص يوم بدر عندما خرج بنفسه مع أبي بكر يستكشف، كأنه يومها كان يعلم الناس، وولى على الجيش يوم مؤتة، وكان جيشاً عظيماً قوامه ثلاثة آلاف مسلم وهو أكبر جيش من حيث العدد يتحرك من المدينة وقتها ورتب على القيادة زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة، وفوض عثمان بن عفان بمفاوضة قريش يوم الحديبية، وأمّر أبا بكر على الحج عام الوفود، واستعمل أسامة بن زيد على جيش يضم كبار الصحابة.
وإذا كان التفويض هو أمر طبيعي تحتاج إليه أي قيادة فإنه ينبني على أسس منها: الثقة في الجنود، العلم بمدى كفاءة هؤلاء الجنود، التوظيف الجيد لهذه الكفاءات بما يتناسب مع المهمة التي يقومون بها، إعطاء مساحة من الحرية للقائم بالأعمال لإنجاز مهمته دون الحاجة إلى الرجوع إلى القيادة المركزية في كل كبيرة وصغيرة، وتحمل أخطاء الولاة أو المكلفين بالأعمال والصبر عليهم، مثلما حدث في سرية نخلة عندما قاتل عبد الله بن جحش الأسدي وأصحابه عيراً لقريش في آخر يوم من رجب وهو من الأشهر الحرم، فعاتبهم ص على ذلك وأطلق سراح الأسيرين وأدى دية المقتول إلى أوليائه.(/3)
وعندما بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بعد فتح مكة فأسرهم وعرضهم على السيف وهم يقولون: صبأنا، صبأنا يريدون أسلمنا، ولكنهم لم يحسنوا النطق بها، ولما علم رسول الله ص بالخبر رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ثلاث مرات، لكنه استعمل خالداً بعد ذلك على سرية ليهدم العزى، وأمّره على سرية بعد غزوة تبوك، وأرسله إلى دومة الجندل فأسر أكيدر وجاء به إلى النبي، وهذا الصبر لا يعني عدم محاسبة الولاة أو توجيههم إذا وقعوا في خطأ، ومحاكمتهم لتبرير موقفهم إذا اتهمهم الناس، ومن هذا سؤاله لعمرو بن العاص عندما منع جيشه في إحدى السرايا أن يوقدوا ناراً للتدفئة، ولومه لأسامة بن زيد لما قتل مرداس بن نهيك بعد أن قال لا إله إلا الله في سرية غالب بن عبد الله الليثي، فقال له النبي: هلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟
كما أن الحكمة في التفويض تتجلى في عملية الاختيار المناسب للولاة وتعدد المقاييس في ذلك ورجحان عنصر الكفاءة دائماً على عنصر الثقة والقرب من رسول الله فولى خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وهما حديثا إسلام على من هم أسبق منهما، وولى أسامة بن زيد وهو حدث على من هم أسن منه ويقول: إنه لخليق بالإمارة كما كان أبوه خليقاً بها من قبل، ويطلب منه أبو ذر أن يستعمله فيقول له: إنك ضعيف، وإننا لا نعطي هذا الأمر لمن يطلبه، وفيها إشارة إلى أن القوة والقدرة على القيام بالتكاليف أساس التكليف، قال تعالى إن خير من استأجرت القوي الأمين (26) (القصص).
والحرص على عدم حب الزعامة وطلب الإمارة، وسياسة التفويض هي سياسة إفراز القادة الجدد وتدريبهم والثقة بهم وتحميلهم المسؤولية وإكسابهم الخبرة وتعويدهم على مواجهة الظروف واتخاذ القرارات، وهي سياسة تدل على عدم تمسك القائد العام تمسكاً أبدياً بالقيادة، وعدم شعوره بأنه وحده الزعيم الملهم القادر على حل جميع المشكلات، لكنه قائد تتجلى قدرته الحقيقية في صنع القيادات وثقلها وإحلالها في العمل تدريجياً لمواجهة الأعباء والمسؤوليات.
7 الصدارة تبحث عنه وهو لا يبحث عن الصدارة:
كان ص لا يوطن الأماكن لا يميز لنفسه مكاناً إذا انتهى إلى القوم جلس حيث انتهى المجلس، ويأمر بذلك ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجته صابره حتى يكون هو المنصرف عنه... إذا سكت تكلم جلساؤه لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر على الغريب..وعلى الجفوة في المنطق، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ، كان أشد الناس تواضعاً وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، وكان لا يدع أحدا ًيمشي خلفه، ولا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خدمه...
وكان في بعض أسفاره فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: عليّ ذبحها وقال آخر: عليّ سلخها، وقال آخر: عليّ طبخها، وقال ص: وعليّ جمع الحطب، فقالوا نحن نكفيك، فقال: قد علمت أنكم تكفوني، ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه، وقام وجمع الحطب.
فأين أخلاقه بأبي هو وأمي ودنياي كلها ممن يحبون تصدر المجالس والترفع على القوم، إذا مشوا وسع لهم غيرهم في الطرقات وتبعهم الأتباع، وإذا جلسوا ففي الصدارة، وإذا حدثوا ارتقوا الوسائد العالية بينما العامة على الأرض، ولو كان بهم مرض يعجزهم عن الجلوس على الأرض مع أتباعهم، لم يستأذنوا في ذلك ولم يعتذروا عنه، كأنهم يرونه حقاً مطلقاً لهم أن يتميزوا عن العامة بما فتح الله عليهم من علم، أو وهبهم من حسن حديث، أو كلفهم من مسؤولية.
8 البساطة والتواضع والحضور الدائم في وسط الأتباع:
تأخذ الأمة بيديه ص في طرقات المدينة ليقضي لها حاجتها، قالت عائشة رضي الله عنها: كان يخصف نعله ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، لم يقل لخادمه أف قط، ولم يعاتبه على فعل شيء أو تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم ويشهد جنائزهم ولا يحقر فقيراً لفقره، سهل الدخول عليه ص بغير حرس ولا حاجب.(/4)
تدخل عليه وافدة النساء فتقول: ذهب الرجال بالأجر، وتدخل عليه خولة بنت ثعلبة فتشتكي له من ظهار زوجها لها، ويدخل عليه بلال ليؤذنه بالصلاة، تشعر من كل سطر من سطور سيرته ص أنه بينهم، يناديه أصحابه من وراء الحجرات عند حاجتهم إليه، حتى يضع له الله سبحانه وتعالى الحدود من فوق سبع سماوات لحيائه ص من أصحابه، كان يعطيهم من نفسه كل شيء فينزل قول الله تعالى إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (4) (الحجرات)، يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى" طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستئنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن (الأحزاب :53).
9 إذا أراد شيئاً أو أحبه أستأذن فيه ولم يجعله شرعا أو يصدر به قانوناً أو لائحة تفصيلية:
أُسر زوج ابنته زينب رضي الله عنها يوم بدر، فأرسلت في فدائه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص، فلما رآها رسول الله ص رق لها رقة شديدة واستأذن أصحابه في إطلاق أبي العاص ففعلوه، في مرض موته ص وسلم شعرت نساؤه برغبته أن يمرّض في بيت عائشة رضي الله عنها، لما يعلمن من محبته لها وارتياحه إليها، فأذنّ له في ذلك فخرج إلى بيتها من عند ميمونة يتوكأ على الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
قد تقدم استئذانه من القوم لما أراد إرجاع السبي إلى هوازن. عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله ص أُتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟، فقال الغلام: لا والله لا أوثر بنصيبي منك أحداً، فتله (وضعه) رسول الله في يده.
وفي سنة ست من الهجرة خرج أبو العاص في تجارة إلى الشام، وفي طريق عودته بعث الرسول زيد بن حارثة في سرية فاعترضوا عيره واستاقوها وأسروه، فبعث أبو العاص إلى زينب يستجير بها فأجارته وقبل الرسول وقال للمسلمين: إنكم قد عرفتم مكان هذا الرجل منا، فإن تردوا عليه ماله فإنا نحب ذلك وإلا فماله فيء لكم. فردوا عليه ماله، لا محاباة ولا استثناءات، ولا قوانين يتم تفصيلها وفق الظروف وعلى حسب الأهواء، وهذه هي المساواة الحقيقية التي يريدها الإسلام أن تتمثل في دعاته، وما أعظم الدعاة حينما يتمسكون بها، إنهم يزدادون عظمة من حيث يحسبون أنهم يزدادون تواضعاً ومساواة مع الجنود والأتباع، وليس سر عظمتهم ينبع من تميزهم وعلوهم ولكن سر العظمة ينبع من قربهم حينئذ من خلق رسول الله.
الرسول القدوة (3)
ذكرنا في العدد الماضي أن الرسول ص قد اتبع سياسة التفويض لأصحابه، ودربهم على أسلوب فريق العمل المتكامل ، كما كانت الصدارة تبحث عنه، ولا يبحث عنها، وإذا أراد شيئاً أو أحبه أستأذن فيه، ولم يجعله شرعاً.
واليوم نكمل ذكر الصفات التي يجب أن يقتدي فيها الناس عامة، والدعاة خاصة؛ برسول الله ص:
10 الموازنة بين الدعوة وأعباء القيادة وحقوق الأهل والزوجات:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقاً وخياركم لنسائهم. وقال ص: ولقد أطاف بآل بيت محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم، ويقول: خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي، ويقول: استوصوا بالنساء خيرا.. وقالت عنه عائشة: كان رسول الله ألين الناس، ضاحكاً باسماً.. وأُثر عنه ص قوله: خدمتك زوجتك صدقة، وتقول السيدة عائشة: كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
والمواقف والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصى لكننا نكتفي منها بالقليل مثل: قسمه لزوجاته وخروجهن معه في الغزوات والأسفار، وفي غزوة تبوك خلف علي بن أبي طالب على أهله وأمره بالإقامة فيهم، وغمص عليه المنافقون، فخرج فلحق بالنبي فرده إلى المدينة وقال له: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي.. وفاؤه لخديجة وإكرامه صديقاتها، حلمه على عائشة لما غارت فكسرت الإناء وهو يقول: غارت أمكم.. غارت أمكم، وفي أبوته وحنانه وحبه لأولاده وأحفاده ورفقه بهم؛ رقته لزينب لما أرسلت القلادة ولما شفعت لزوجها، وكان يرق لفاطمة ويكنيها بأم أبيها، واستشعر يوماً خلافاً بينها وبين علي، فذهب يداعب علياً وهو نائم في التراب فقال له: قم يا أبا تراب، وخلَّف عثمان بن عفان رضي الله عنه عن بدر لمرض ابنته رقية التي ماتت فيه، ولما مات ابنه إبراهيم بكى عليه وقال: إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولما كسفت الشمس في اليوم نفسه فظن الناس أنها كسفت حزناً لموت إبراهيم، فقال ص: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تكسفان لموت أحد ولا لحياته.(/5)
فأين هذا الرفق وتلك الرقة مما يقع في كثير من بيوتنا؟ إن الذين يحاولون طمس المشاعر الأبوية النبيلة بحجة التفرغ للعمل الدعوي، إما أنهم يخالفون ما تقدم من منهج رسول الله ص، وإما أن قلوبهم حُرمت الرحمة فلا يصبحون نماذج في ذلك. جاء أعرابي إلى رسول الله فرآه يقبل الحسن أو الحسين، فقال: أتقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم، فقال النبي: أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟!
وقبّل النبي الحسن بن علي وعنده الأقرع ابن حابس التميمي فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فقال النبي: من لا يرحم لا يُرحم، وكان ص يدلع لسانه للحسن فيرى الصبي حمرة لسانه فيهبس (يسرع) إليه، وكان إذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا أرادوا أن يمنعوهما، أشار إليهم أن دعوهما، وذلك في المسجد، فلما قضى الصلاة وضعهما في حجره، وقال: "من أحبني فليحب هذين".
11 اللجوء المطلق إلى الله والتقشف والزهد والورع:
كان رسول الله ص أعبد الخلق لله وأزهدهم لله وأخشاهم وأتقاهم لله؛ يقوم الليل حتى تتورم قدماه، ويُسأل عن ذلك فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً؟. يصلي السنن الراتبة والنفل المطلق ويأمر بصلاة الضحى، ويصبح ويمسي على ذكر، لسانه رطب بذكر الله، يصوم نصف العام، يلجأ إلى الله تعالى بالدعاء ويلح عليه حتى يسقط رداؤه ويشفق عليه أبو بكر رضي الله عنه يوم بدر، ويقنت على قتلة أصحابه في بئر معونة شهراً يدعو عليهم في الصلاة، ويستغفر الله في يومه وليلته مائة مرة أو أكثر من سبعين مرة.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: دخلت على رسول الله ص وقد نام على حصير وقد أثر على جنبه فقلت: يا رسول الله: لو اتخذنا لك وطاءً تجعله بينك وبين الحصير يقيك منه؟، فقال: مالي وللدنيا؟! ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.
وعن أبي أمامة الأنصاري قال: ذكروا عند النبي ص الدنيا، فقال: ألا تسمعون؟ ألا تسمعون !.. إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان.
وفي زهده قال ابن عباس: دخل رسول الله ص يوم فتح مكة على أم هانئ وكان جائعاً فقال لها: أعندك طعام آكله؟ فقالت إن عندي لكسراً يابسة وإني لأستحي أن أقدمها إليك، فقال هلميها، فكسرها في ماء وجاءته بملح، فقال ما من إدام؟ فقالت ما عندي إلا شيء من خل، فقال: هلميه، فلما جاءت به صبه على طعامه فأكل منه، ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: نعم الإدام الخل يا أم هانئ، لا يفقر بيت فيه خل، قال أنس: ما أعلم النبي ص رأى رغيفاً مرققاً، ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط، وقالت عائشة: إنا كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أُوقدت في أبيات رسول الله ص نار، فقال لها عروة: ما كان يعيشكم؟، قالت: الأسودان، التمر والماء.
هكذا كانت حياة حبيبنا المصطفى ص. فضلا ًعن أنها كانت جهاداً مستمراً فهي المنتهى في شظف العيش، وقلة اللين، والزهد في الدنيا، مع أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يفجر له نهراً من أسفل بيته، لكن هكذا كان قلب إمام الدعاة معلقاً بما عند الله.
12 السماحة والعفو وإيثار مصلحة الدعوة وهداية المدعوين على حظ النفس:
قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107) (الأنبياء) وفي الحديث: "... فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال يا محمد: ذلك فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين أي لفعلت والأخشبان جبلان بمكة: أبو قبيس والذي يقابله وهو قيقعان قال النبي : بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئاً".
وما زالت قولته عند فتح مكة مدوية في أفق الزمن: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
وللدعاة أن يتوقفوا طويلاً أمام هذا الخلق الرفيع من رسول الله ص، فليست دعوتنا إلى الناس بالقهر والقسر، ولم يبعثنا الله تعالى معسرين ولكن بعثنا مبشرين وميسرين، وعندما تُغلق القلوب في وجه الدعاة، وتُصم الآذان عن سماع أصواتهم، هل علينا أن نعلن الحرب الشعواء لقتل الناس؟ أم نقابلهم بطول الأمل في هداية الذرية، وحب الخير حتى للمجرمين الذين أساءوا وأهانوا وواجهوا النبي بالأذى، فاستحقوا أن يطبق عليهم الله تعالى الأخشبين؟
على الدعاة الذين يريدون أن ينطلقوا في الأرض، يدعون إلى دين الله تعالى وسنة رسوله ص إذن أن يلينوا للناس، ويعفوا عنهم، ويدركوا كُنه رسالته ، فما هي إلا رحمة للعالمين،، أم أننا قساة لا دعاة، وغلاة لا هداة، ومنفرون لا مبشرون، ومعسرون لا ميسرون؟!
13 الواقعية والمرحلية واتباع التدرج:(/6)
كان رسول الله ص على الحق منذ أول يوم في دعوته، ودينه الذي نزل عليه منذ كلفه الله تعالى بالنبوة في غار حراء هو الدين، والإسلام هو الإسلام لما بدأ الرسول ص دعوته سراً، وكان هو الإسلام نفسه لما بدأ بالجهر بالدعوة مع سرية التنظيم، وكان هو الإسلام نفسه لما أُعلنت المرحلة الجهرية الثانية بإسلام الحمزة وعمر بن الخطاب، وكذلك كان الإسلام يوم كانت المرأة (السيدة سمية رضي الله عنها) تُعذب، ولا يزيد الرسول ص على أن يقول: صبرا آل ياسر.. إن موعدكم الجنة، وكان هو الإسلام لما قال الرسول لخباب بن الأرت: ولكنكم قوم تستعجلون، وهو الإسلام نفسه الذي خرج أهله مستضعفين يبحثون عن أرض جديدة لدعوتهم، ثم يهاجر النبي ويُعز الله الدين وتقوم دولة الإسلام في الأرض وينطلق المسلمون مجاهدين، حتى يقتل المسلم اليهودي لكشفه عورة المرأة المسلمة، وكانت من قبل تنتهك حرمة المسلمة في مكة، فتُعذب سمية وتقتل، وتُلطم أسماء على وجهها، والمسلمون صابرون.
بل كان المسلمون يطوفون بالكعبة وحولها الأصنام، وبجوارها صاحبات الرايات الحمر، حتى عاد الإسلام ليفتح مكة ويهدم الأوثان، وينتشر في الجزيرة كلها؛ ثم يقرر النبي ص: "اليوم نغزوهم ولا يغزوننا.. نحن نسير إليهم.. لا يجتمع في جزيرة العرب دينان"، فلولا المرحلية الواقعية التي انتهجها رسول الله ص، ولولا تدرجه في بناء الدولة على أسس سليمة، ما قامت للإسلام قائمة، ومن ينظر إلى الحديث: نغزوهم ولا يغزوننا، يراه فيه ص يقرر واقعاً، ويعلمنا كيف نفهم فقه الواقع، فنأخذ القدوة في وقت العزة: شجاعة وجهاداً وإقبالاً.
والقدوة في وقت الاستضعاف حكمة وقدرة فائقة على ضبط النفس، وصبر على الأذى، والذين يتعجلون الطريق فيريدون أن يقتدوا برسول الله الفاتح المنتصر قبل أن يقتدوا به في ليل المحنة الطويل وهو يعاني في الحصار الاقتصادي، وأصناف الأذى، فتُكسر رباعيته، وتُشج رأسه، ويُرمى بالحجر، ويُوصف بالجنون، ويُضرب أتباعه بالسياط، وهو صابر محتسب، فإما أنهم حالمون أو واهمون، والذين يسقطون مواقفه في وضع العزة والتمكين على ظرف الاستضعاف الذي تعيشه الأمة فإنهم بذلك ينكرون المرحلية ويتغافلون عن الواقع، ويعرضون الدين لمواجهة قاسية، والذين يسقطون مواقفه ص في زمن المحنة على مواقف تكون فيها الأمة عزيزة قادرة على الدفع والمواجهة، يجردون الدين من قوته والجهاد الإسلامي من مضمونه.
يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: "إن الشريعة تعبدتنا بالوسائل كما تعبدتنا بالغايات، فليس لك أن تسلك إلى الغاية التي شرعها الله لك إلا الطريق التي جعلها الله وسيلة إليها، وللحكمة والسياسة الشرعية معانٍ معتبرة، ولكن في حدود هذه الوسائل المشروعة فقط... ومن الخطأ أن تحسب مبدأ الحكمة في الدعوة إنما شُرع من أجل تسهيل العمل الدعوي، أو من أجل تفادي المآسي، بل السر إنما هو سلوك أقرب الوسائل إلى عقول الناس وأفكارهم، ومعنى هذا أنه إذا اختلفت الأحوال وقامت عثرات الصد والعناد دون سبيل الدعوة، فإن الحكمة حينئذ إنما هي إعداد العدة للجهاد والتضحية بالنفس والمال، إذ الحكمة هي أن تضع الشيء في مكانه".
=============== ...
الرسول القدوة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
في ظل المتغيرات التي تواجه المسلم المعاصر تصبح العودة إلى القدوة النبوية ضرورة ولازم لإعادة صياغة حياة المسلم المعاصر في علاقاته الخاصة وفي تعاملاته وتفاعله مع كل مجريات العصر ..النبي الأمي الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه قدوة المسلمين وسيد ولد آدم حمل إلى العالم رسالة خالدة اصطفاه الله تعالى لها فكان الاصطفاء دليل السمو الذي حمله نبينا الكريم ،مثل قبل البعثة نموذج الطهر والنقاء في التعامل مع الآخرين وبعد نزول الرسالة ظل ورغم احتياجات بناء الدولة الإسلامية وعظم مسؤولية القيادة متودداً للفقراء رحيماً بقلوب الأيتام والضعفاء يقربهم إليه ويشاركهم تقلبات حياتهم ..فماهي ابرز ملامح سيرته العطرة مع أهل بيته ومع الناس كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم؟ وكيف ربا بالقرآن الكريم جيل الصحابة فأخرج من أودية الجاهلية المقفرة مشاعل نور وحضارة قيم غيرت وجه التاريخ ؟ كيف تمثل القرآن خلقا يمشي به في الأرض ؟ ماهو حاله في استقبال شهر رمضان المبارك ؟ما الأعمال التي يحرص على أدائها ؟و الوسائل التي استخدمها لإرشاد المسلمين لاغتنام فرصة هذا الشهر العظيم وتتبع مواطن الأجر العظيم فيه؟
وفي إطار آخر ماموقف المسلمين من الحملات المشبوهة عبر وسائل الإعلام الغربية والانترنت خاصة والتي قذفت من اتجاهات حاقدة تتهم رسول الرحمة والسلام محمد صلى الله عليه وسلم بالعنف والإرهاب وتحاول تشويه سمعة الإسلام عبر اتهام رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.. ماهي أهدافها ؟وهل واجهها المسلمون كما ينبغي؟(/7)
كيف نربي في أبنائنا حب الرسول صلى الله عليه وسلم وحب الاقتداء به؟
هل يمكن للمسلم المعاصر أن يستفيد من سيرته الإيمانية في مناجاته لربه وكمال عبوديته وخضوعه له وفي تأديته لواجباته الأسرية والتزاماته مع أقاربه وأصحابه ومواقفه التاريخية في الحرب والسلم وفي تطبيقاته للأحكام الشرعية وفي تعامله مع الآخر الكافر والمنافق .
خزائن تنعم بكنوز من الفوائد والدرر النبوية التي يمكن لكل مسلم على اختلاف تخصصه ومجال عمله واهتماماته وظرفه الزماني والمكاني أن يطبقها لينعم بحياته ويسعد في آخرته
فاحملوا أقلامكم المسلمة لتنهل من معينه المضيء واقطفوا لنا من بستان قصصه بعضاً من تلك الثمار اليانعة لنكتبها أولاً ثم لنتمثلها سلوكاً في حياتنا ثانياً
أبدأ أنا بإذنه تعالى وتذكروا أن كل ما ستكتبونه أو أكتبه أنا فهو حبا لرسول الله ولنصرته
محمد صلى الله عليه وسلم اسم على مسمى . علم على رمز . ووصف على إمام . جمع المحامد . وحاز المكارم . واستولى على القيم . وتفرد بالمثل . وتميز بالريادة . محمود عند الله لأنه رسوله المعصوم . ونبيه الخاتم . وعبده الصالح . وصفوته
من خلقه . وخليله من اهل الأرض . ومحمود عند الناس لأنه قريب من القلوب , حبيب الى النفوس . رحمة مهداة , ونعمة
مسداة , مبارك اينما كان , محفوف بالعناية اينما وجد . محاط بالتقدير اينما حل وارتحل . حمدت طبائعه لأنها هذبت
بالوحي . وشرفت طباعه لأنها صقلت بالنبوة . فالله محمود ورسوله محمد .
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
اسمه احمد . بشر بذلك عيسى قومه . واسمه العاقب والحاشر والماحي . وهو خاتم الرسل وخيرة الأنبياء . وخطيبهم إذا وفدوا . وإمامهم إذا وردوا .
صاحب الحوض المورود . واللواء المعقود . والمقام المحمود . صاحب الغرة والتحجيل , المذكور في التوراة والإنجيل .
المؤيد بجبريل , حامل لواء العز في بني لؤي . وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي . اشرف من ذكر في الفؤاد . وصفوة الحواضر والبوادي . واجل مصلح وهادي . جليل القدر . مشروح الصدر . مرفوع الذكر . رشيد الأمر . القائم بالشكر .
المحفوظ بالنصر . البريء من الوزر . المبارك في كل عصر .
المعروف في كل مصر . في همة الدهر . وجود البحر . وسخاء القطر . صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه .ما نجم بدا . وطائر شدا .ونسيم غدا .ومسافر حدا .
يقول الله تعالى:" لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ سُورَةُ التَّوْبِةِ : 128 ] ..
إن المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليجد أنها حوت جميع مكارم الأخلاق التي تواطئ عليها فضلاء ونجباء
البشر ونبلاؤهم ، حتى إنها لتجيب على كل ما يختلج في الفؤاد من أسئلة قد تبدو محيرة لمن لم يذق طعم الإيمان بالله
تعالى من الذين كفروا ، والغريب في الأمر أن بعض بني قومنا من المسلمين هداهم الله لا يحفلون بهذه الميزة العظيمة
التي ميزنا الله بها وهي كون النبي صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة حسنة رغم أنها تمثل الرادع الفعلي عن ارتكاب
ما يخل بخلق المسلم ، وهي المحرك الأساس إلى الارتقاء بالذات إلي معالي الأمور وقممها السامقات .
إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرآنٌ يمشي على الأرض وكان خلقه القرآن ، ولذلك تجد كثيراً من عامة المسلمين اليوم إذا سألتهم ولو كان ذلك بطريقة عشوائية عن : من هو قدوتك أو مثلك الأعلى ؟!
لسمعت الإجابة :_ النبي صلى الله عليه سلم ! .
وبقي أن نعلم أن القدوات ثلاثة .. القدوة المطلقة وهو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والقدوة الثانية : من مات على الإسلام الصحيح من سلف الأمة المخلصين ومن كانت سيرته نبراساً لمن بعده كالصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان .. وعلماء الأمة الأربعة فمن بعدهم وشمسهم الوهاجة شيخ الإسلام بن تيميه .. إلى آخر عالمٍ مات منهم .. بالشرط المتقدم .
القدوة الثالثة : من يصلح الاقتداء به في هذا الزمان من الأخيار ، على أن الحي لا تؤمن عليه الفتنة .
سؤال مهم لماذا نتدارس السيرة النبوية ؟؟
_____________
إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مخزون لامثلة شتى
لمختلف حالات النفس البشرية فهي ثمثل انموذجا بشريا
نحتذيه و نترسم خطاه .. ففي سيرته مواقف يحتاجها كل
مؤمن
يحتاجها الداعية في دعوته
يحتاجها العالم و هو يذكر القلوب بالله
يحتاجها المربي و هو يربي الاجيال على طاعة الله
يحتاجها الزوج ..... يحتاجها الاب ......
قال تعالى " لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة "
كيف يكون النبي اسوة حسنة لنا ان لم نعرف ماذا فعل في
بيته و كيف عامل زوجته و كيف عامل اصحابه
كذلك السنة تأتي بالدرجة الثانية من مصادر التشريع بعد
القران و السنة النبوية تعتبر الجانب التفصيلي من الاسلام
و ليس المقصود السنة بمفهومها الفقهي فقط بل المقصود(/8)
طريقة النبي في الحياة كلها .. فقد شهد الله من فوق سبع
سموات انه جعله على صراط مستقيم صراط الله الذي له ما
في السموات و الارض و الى الله تصير الامو
ولله در الشيخ الدكتور عائض القرني على روعة وصفة لقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم ، في رائعته : تاج المدائح :
أنصت لميميةٍ جاءتك من أَمَمِ **** مُدادها من معاني نون والقلم
سالت قريحةُ صبٍّ في محبتكم***** فيضاً تدفق مثل الهاطلِ العممِ
كالسيل كالليل كالفجر اللحوح غدا * يطوي الروابي ولا يلوي على الأكم
أجش كالرعد في ليل السعود ولا *** يشابه الرعد في بطش وفي غشم
كدمع عيني إذا ما عشت ذكركم *** أو خفق قلب بنار الشوق مضطرم
يزري بنابغة النعمان رونقها ***** ومن زهير ؟ وماذا قال في هَرِمِ
دع سيف ذي يزنٍ صفحاً ومادحه ***** وتبّعاً وبني شداد في إرم
ولا تعرج على كسرى ودولته ***** وكل أصْيد أو ذي هالة ٍوكمي
وانسخ مدائح أرباب المديح كما ***** كانت شريعته نسخا لدينهم
رصّع بها هامة التأريخ رائعة ***** كالتاج في مفرق بالمجد مرتسم
فالهجر والوصل والدنيا وما حملت **** وحب مجنون ليلى ضلة لعمي
دع المغاني وأطلال الحبيب ولا***** تلمح بعينك برقا لاح في أضم
وأنس الخمائل والأفنان مائلة ***** وخيمة وشويهات بذي سلم
هنا ضياء هنا ري هنا أمل ***** هنا رواء هنا الرضوان فاستلم
لو زينت لامرء القيس انزوى خجلا ***** ولو رآها لبيد الشعر لم يقم
ميمية لو فتى بوصير أبصرها ***** لعوذوه برب الحل والحرم
سل شعر شوقي أيروي مثل قافيتي *** أو أحمد بن حسين في بني حكم
ما زار سوق عكاظ مثل طلعتها***** هامت قلوب بها من روعة النغم
أثني على من ؟ أتدري من أبجله ؟ ***** أما علمت بمن أهديته كلمي
في أشجع الناس قلبا غير منتقم ***** وأصدق الخلق طرّا غير متهم
أبهى من البدر في ليل التمام وقل * أسخى من البحر بل أرسى من العلم
أصفى من الشمس في نطق وموعظة ** *أمضى من السيف في حكم وفي حكم
أغر تشرق من عينيه ملحمة ***** من الضياء لتجلو الظلم والظلم
في همة عصفت كالدهر واتقدت *** كم مزقت من أبي جهل ومن صنم
أتى اليتيم أبو الأيتام في قدر ***** أنهى لأمته ما كان من يتم
محرر العقل باني المجد باعثنا ***** من رقدة في دثار الشرك واللمم
بنور هديك كحلنا محاجرنا ***** لما كتبنا حروفا صغتها بدم
من نحن قبلك إلا نقطة غرقت **** في اليم بل دمعة خرساء في القدم
أكاد أقتلع الآهات من حُرَقي ***** إذا ذكرتُك أو أرتاعُ من ندمي
لما مدحتك خلت النجم يحملني ***** وخاطري بالسنا كالجيش محتدم
أقسمتُ بالله أن يشدو بقافية ***** من القريض كوجه الصبح مبتسم
صه شكسبير من التهريج أسعدنا **** عن كل إلياذة ما جاء في الحكم
الفرس والروم واليونان إن ذكروا ***** فعند ذكراه أسمال على قزم
هم نمقوا لوحة للرق هائمة ***** وأنت لوحك محفوظ من التهم
أهديتنا منبر الدنيا وغار حرا ***** وليلة القدر والإسراء للقمم
والحوض والكوثر الرقراق جئت به*** أنت المزمل في ثوب الهدى فقم
الكون يسأل والأفلاك ذاهلة ***** والجن والإنس بين اللاء والنعم
والدهر محتفلٌ والجو مبتهج ***** والبدر ينشق والأيام في حلم
سرب الشياطين لما جئتنا احترقت **** ونار فارس تخبو منك في ندم
وصُفّدَ الظلم والأوثان قد سقطت ***** وماء ساوة لما جئت كالحمم
قحطان عدنان حازوا منك عزتهم ***** بك التشرف للتأريخ لا بهم
عقود نصرك في بدر وفي أحد ***** وعدلا فيك لا في هيئة الأمم
شادوا بعلمك حمراء وقرطبة ***** لنهرك العذب هب الجيل وهو ظمي
ومن عمامتك البيضاء قد لبست ***** دمشق تاج سناها غير منثلم
رداء بغداد من برديك تنسجه ***** أيدي رشيد ومأمون ومعتصم
وسدرة المنتهى أولتك بهجتها ***** على بساط من التبجيل محترم
دارست جبريل آيات الكتاب فلم***** ينس المعلم أو يسهو ولم يهم
اقرأ ودفترك الأيام خُط به ***** وثيقة العهد يا من بر في القسم
قربت للعالم العلوي أنفسنا ***** مسكتنا متن حبل غير منصرم
نصرت بالرعب شهرا قبل موقعة *** كأن خصمك قبل الحرب في صمم
إذا رأوا طفلا في الجو أذهلهم ***** ظنوك بين بنود الجيش والحشم
بك استفقنا على صبح يؤرقه ***** بلال بالنغمة الحرّى على الأطم
إن كان أحببت بعد الله مثلك في **** بدو وحضر ومن عرب ومن عجم
فلا اشتفى ناظري من منظر حسن *****ولا تفوه بالقول السديد فمي
# يوم مع حبيبك صلى الله عليه وسلم#
*هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه:
الحمد لله وكفى ؛والصلاة والسلام على النبي المصطفى ؛وعلى آله وصبحه أجمعين ..
وبعد:
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أخاً ناصحا,وأبا ًمشفقا, وزوجاً حانيا,ومعلماً ومربيا,,,(/9)
ومع هذا كله قائدا للبشرية أجمع,ومدبراً للامة وسائساًلها,وقد جمع صلى الله عليه وسلم جوانب العظمة في شخصيته ,ولم يغلب جانبا على آخر, فلقد كان عظيما في نفسه ,عظيما في بيته ,عظيما في أصحابه...
ولقد ملئت كتب السيرة بأخلاقه وآدآبه, حتى كان صلى الله عليه وسلم نموذجا يحتذيه المسلمون عبر تعاقب الاجيال والقرون ,وذلك لماحباه الله من كريم الصفات وعظيم الاخلاق ,ومن ضمن هذه الاحوال ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام من معاملته لازواجه وأهل بيته ....
إن المتأمل لتلك الاحوال ليقف أمامها موقف الاعجاب والاجلال والتقدير لذلكم النبي الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم ,فهو الذي حقق تلك الشخصية الفذة بينما كان يجمع بين تسع من الزوجات في آن واحد, ولعلنا نتذكر المثل الدارج الذي يفيدبأن العظيم لايكون في بيته عظيما ؛ فكيف استطاع عليه الصلاة والسلام أن يظل عظيما في كل هذه البيوت, وأن تظل زوجاته من بعده مقدرات لعظمته مع اختلاف طبائعهن , ومع أن بعضهن عشن بعده نحو خمسين عاما...
فسيرته إنما هي أوثق السير ,مأمونة من الكذب والتمويه على امتداد التاريخ ..
*أهمية الموضوع:
1_إبراز عظمة شخصية النبي صلى الله عليه وسلم في بيته والذب عن عرضه..
2_حاجة المجتمع لقدوة عليا في التعامل الاسري ..
3_تنبيه الازواج الى آداب التعامل مع بعضهم البعض وبيان
حقوق كل منهما على الاخر..[/color]
هذه الوسيلة خاصة بالأطفال ليشتركوا معنا في نصرة خير الأنام صلى الله عليه وسلم
وإليكم صورة أخرى هي مفاجأة وإن شاء الله ستنال إستحسانكم
ولكن لا تنسوا صاحبة الصورة من دعاء في ظهر الغيب
بأن يصلح الله حالها ويجعلها من الصالحين
إنه سميع مجيب .
كيف يحب أبناءنا الرسول صلى الله عليه وسلم؟1
قبل الإجابه إسأل نفسك هل أنت تحب الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ لقد أجري استبيان في جامعة الملك سعود بالرياض حول المثل الأعلى والقدوه عند الطلاب فكانت الإجابه الرياضيون ولم تستحضر شخصية الرسول حتى عند من أجاب أن قدوته رمزا دينيا ووجدوا أنه من الأسباب ضعف اقتداء الوالدين أساسا بشخصية نبي الهدى فابدأ بنفسك أولا وهذه نصف الإجابه عن السؤال
كيف يحب أبناءنا الرسول صلى الله عليه وسلم؟ 2
1ـ تعريف الأبناء بسيرته العطره والتعليق على المواقف الهامه مبرزا جوانب شخصيته عليه الصلاة والسلام
2ـ تشجيع الأبناء على حفظ بعض الأحاديث القصيره المتضمنه للأخلاق والآداب مع المكافاءه في بعض الأحيان بالهدايا والنقود
3ـ قص الروايات التي تبين حب الرسول صلى الله عليه وسلم للأطفال وكيف كان يعاملهم
4ـحثهم على الصلاة عليه عند ذكره
5ـ طاعته في كل جوانب الحياة وتعظيم السنه في نفوسهم
المرجع مسؤلية الأب المسلم لعدنان باحارث
إن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم عبادة عظيمه تفتح لصاحبها أبوابا من الخير والعمل الصالح الذي لايكلفه عنتا
أو مشقه إذ حملت لنا دواوين السنه رصيدا من أخباره وأحواله
والتأسي به صلى الله عليه وسلم تولد محبته التي هي من أعظم أبواب الإيمان بل من شروطه قال صلى الله عليه وسلم
( لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)
الرسول القدوة__
ماذا يعني الإقتداء بالرسول (صلى الله عليه وسلم)؟؟؟؟؟؟
قال تعالى:(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة )وقال:
(إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )
.................
للقدوة والأسوة العملية في المبادئ والقيم دور أساس وفعّال ، فالقدوة تمنح الفكر قيمة عملية ، وتمنح رجالاتها المصداقية والوثاقة . . وتمثل القدوة العملية الصيغة الحية للفكر والمبادئ . .
................................
و ينبغي أن نجيب على السؤال الذي يثيره خصوم الإيمان ، وهو : ما معنى أن يقتدي إنسان بانسان فيقلده ويتبعه خطوة بخطوة . . أليس في ذلك مصادرة لإرادة المقتدي ، وتغييب لعقله واختياره . . أليس هناك تطورات زمنية وظروف مستجدة تختلف عن تلك التي عاشها الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؟
...........................
وللإجابة على هذه الإثارات الصادرة عن فهم سيِّئ لمعنى القدوة والاقتداء بالرسول (صلى الله عليه وسلم) ينبغي الانطلاق من الإيمان بالله تعالى والنبوة أوّلاً ، وأنّ الله سبحانه أعلم حيث يضع رسالته ، فهو الذي اصطفاه واختاره لحمل الرسالة والدعوة إليها . . وتلك المهمة تقتضي أن يكون النبي (صلى الله عليه وسلم) معصوما من ارتكاب المعصية ، أي معصوماً من فعل القبائح والسيئات التي دعا الناس إلى تركها ، وعاملاً بما أمر الناس العمل به . .
وثانياً دراسة السيرة العملية والقولية للرسول (صلى الله عليه وسلم) على ضوء التحليل العلمي والنفسي لنكتشف الاستقامة والكمال البشري في سلوكه فنفهم لماذا القدوة .
والعصمة : هي صفة نفسية وعقلية تعني حصول درجة الكمال الإنساني عند المعصوم
......................................(/10)
. فالانسان بانسانيته التي فطره الله عليها له ماهية ممثلة لنوعه ، كما لأي شيء مادي أو حيواني أو نباتي صورة عُليا ممثلة لنوعه . . فالماء له ماهية ممثلة لنوعه ، والهواء له ماهية ممثلة لنوعه ، والحيوان له بحيوانيته ماهية ممثلة لنوعه ، والنبات بنباتيته له ماهية ممثلة لنوعه . . فالانسان كما هو واضح ومفطور له هوية إنسانية صورتها الحقة في السلوك هي الكمال ، كالصدق والعدل والرحمة ، واستخدام الغريزة بما وضعت له تكوينياً .
وتحقيقها يتأتى باختيار الإنسان بما لديه من ملكات نفسية وعقلية وإرادة وتوازن في بناء الشخصية .
والمعصوم بلطف من الله ، وبفعله الاختياري يحقق العصمة ، يصنع من ذاته الإنسان الكامل ، أو كما يقول أهل الفلسفة والعرفان يحقق الآدمية الكاملة .
ولكي تتحقق العصمة السلوكية من الناحية النظرية لدى الإنسان فإنّه يحتاج إلى توفر شيئين هما :
أوّلاً : العلم والمعرفة التامة بكل مفردة سلوكية ليعرف الحسَن من القبيح ، والحق من الباطل ، والضار من النافع .
ثانياً : تطابق الإرادة مع الحقيقة العلمية تلك بصورة دائمة ، وتحقيق ذلك من الناحية العملية قد يسّره الله بلطفه لأنبيائه ، ليكونوا الممثلين للنوع الإنساني ولصورة الإنسان المطلوب تحقيقها ، وجاءت الشرائع بمنهاج سلوكي لتكون دليلاً للانسان لبناء ذاته ، كما تكون الخارطة دليلاً لبناء الجهاز الآلي ، وادارة عمله وصيانته ، أو كما يهتدي الطيار والبحار بالخارطة في مساره ، فلا يضل الطريق
وتفيد الدراسات النفسية انّ الإنحرافات السلوكية مثل الكذب والسرقة وجريمة القتل والحقد والأنانية واللجوء إلى الخمور أو الزنا واللواط أو ظلم الآخرين ، وارتكاب السلوك العدواني ، إنّما سببه الجهل والتربية السيئة ، والتكوين النفسي والجسدي غير المتوازن ، لا سيما أنشطة الغدد الصماء والجهاز العصبي ومناطق المخ ، وضعف الإرادة ، لذا فتح الله سبحانه باب التوبة والعفو والرحمة ، ليكون أمام الإنسان متسع لتلافي ما صدر عنه من سوء بسبب تلك المؤثرات . .
والمعصوم : قد سلمت فطرته التكوينية من تلك المؤثرات ، وهو بعلمه واختياره النقي صار معصوماً ، أي يسير في سلوكه وفق نقاء الفطرة من غير تلويث ، وبذا فهو يمثل الهوية الانسانية (الآدمية) بصيغتها التكاملية ، وسلوكه يمثل السلوك الصحي السوي ، الخالي من العقد والأمراض النفسية ، والجهل والخطأ . . فهو يشخص بسلوكه قانونية السلوك الإنساني السليم ، لذا فالاقتداء به هو عمل بالسلوك الإنساني السوي ، وممارسة عملية لبناء الذات الإنسانية السويَّة . .
وبذا يكون السلوك النبوي مقياساً للسلوك ، فهو مصحح للسلوك والمحتوى الذاتي للانسان ، وعاصم له من الانحراف ، فهو بيان عملي للمنهج والسلوك السوي علمياً في الحياة .
لذا فاتباعه إذاً ليس تقليداً أعمى يمارسه إنسان لإنسان ، ولا مصادرة للذات الانسانية ، ولا إسقاطاً لهوية الإنسان المقتدي ، كما يدعي خصوم الإيمان ، بل هو عمل بالسلوك السوي المستقيم .
إنّ السيرة النبوية تشكل مقياساً وتفسيراً إسلامياً للقيم والمبادئ والمعتقد الاسلامي بشكله النقي الأصيل . . بعيداً عن عبث العابثين وتفسيرات الفلسفة والرأي والتأويل الخاطئ للنصوص . . فالسيرة صورة تنفيذية مفسِّرة للنص اللفظي ، أو صانعة لمفهوم وتشريع اسلامي مجسَّد بشكله المادي المشرق المحسوس ، كما أن مسألة إثبات ما صدر عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نجدها في مجال السيرة العملية أفضل منها في السنّة اللفظية ، فالمكذوب في مدونات السيرة العملية ورواياتها أقل بكثير منه في السنّة اللفظية والقولية . .
إن مجتمعنا المعاصر أحوج ما يكون إلى الاقتداء بسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) العملية ، وإن إحياء السيرة والسنّة النبوية مسألة أساسية وحضارية . . إنّنا بحاجة إلى تأسيس المشاريع والمؤسسات العصرية لإحياء السنّة . . فقد كان في كل سلوك سلكه الرسول (صلى الله عليه وسلم) مؤسسة خير وإصلاح وتطوير للمجتمع وبناء أخلاقي وحضاري للانسان . .
فكم دافع الرسول (صلى الله عليه وسلم) بمواقفه العملية عن المظلوم ومن ضُيّع حقّه ، وكم اهتمّ بالأيتام ، وكم قضى حوائج المحتاجين ، وأغاث الملهوفين ، وكم صدر عنه ما يؤكد عنايته بالحيوان . . وكم كان له من مواقف لحل المشاكل والإصلاح ، وكم كان من وقته وجهده للعبادة والدعوة إلى الإسلام . .
إن تأسيس المؤسسات ومشاريع البرّ التي تقوم بكل تلك الأنشطة ، ونشر تراث السيرة ، والتثقيف عليه ، والحث على العمل به في حياتنا العملية ، هو بناء لوجودنا الحضاري في مجال الأسرة والمجتمع والدولة ، وفي التعامل مع ذوي القربى والجار والخصم والصديق ، في الأفراح والأحزان ، وهي أساس لتصحيح التقاليد الاجتماعية الخاطئة . .(/11)
إنّ الدعوة إلى الإقتداء بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعميق البحوث والدراسات التحليلية للسيرة هي دعوة لتطوير المجتمع ، والتسامي به نحو إنسانية الإنسان وآدميته(/12)
الرسول – صلى الله عليه وسلم- القدوة
د. عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين 15/10/1426
17/11/2005
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد :
فنحن ننتمي إلى الإسلام، وهذا الانتماء هو الذي شرفنا الله - تبارك وتعالى- به وسمانا به . ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - هو إمام الدعاة، وهو القدوة والأسوة والداعية المعلم الذي أمر الله تبارك وتعالى باقتفاء نهجه، وأن نقتدي به في عبادتنا ودعوتنا وخلقنا ومعاملاتنا وجميع أمور حياتنا، قال تعالى: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [يوسف:108]، وقال تعالى: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" [الأحزاب:21]
أولا : أهمية الموضوع :
وتتضح أهمية موضوع الرسول – صلى الله عليه وسلم- القدوة في النقاط الآتية :
1- إن الناظر في الأوساط التربوية اليوم ليلحظ قلة القدوة الصالحة المؤثرة في المجتمعات الإسلامية، رغم كثرة أهل العلم والتقوى والصلاح .
2- إن المتأمل في خضم الحياة المعاصرة يجد الأمور قد اختلطت، والشرور قد سادت، وأصبح النشء والشباب يُرددون : (نحن لا نجد القدوة الصالحة.. فلماذا؟) .
3- إن كثيراً من الناس اليوم بدلاً من أن يتخذوا سيرة نبيهم وقدوتهم محمد – صلى الله عليه وسلم -، تراهم قد انشغلوا بالمشاهير من الممثلين أو اللاعبين، وما تراهم إلا استبدلوا
الذي هو أدنى بالذي هو خير .
ثانيا : وجوب الاقتداء بالرسول – صلى الله عليه وسلم-:
يجب على كل مسلم ومسلمة الاقتداء والتأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -; فالاقتداء أساس الاهتداء، قال تعالى : "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" [الأحزاب:21] قال ابن كثير : "هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله – صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أُمِرَ الناسُ بالتأسي بالنبي – صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه –عز وجل-" (1).
فمنهج الإسلام يحتاج إلى بشر يحمله ويترجمه بسلوكه وتصرفاته، فيحوِّله إلى واقع عملي محسوس وملموس، ولذلك بعثه – صلى الله عليه وسلم- بعد أن وضع في شخصيته الصورة الكاملة للمنهج- ليترجم هذا المنهج ويكون خير قدوة للبشرية جمعاء .
لقد كان الصالحون إذا ذكر اسم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -; يبكون شوقا وإجلالا ومحبة لَهُ، وكيف لا يبكون؟ وقد بكى جذع النخلة شوقا وحنينا لما تحوَّل النبي - صلى الله عليه وسلم -; عنه إلى المنبر، وكان الحسنُ إذا ذَكَرَ حديث حَنينَ الجذع وبكاءه، يقول : "يا معشر المسلمين، الخشبة تحن إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- شوقا إلى لقائه؛ فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه" (2).
يقول ابن تيمية -رحمه الله- : "وإنما ينفع العبد الحب لله لما يحبه الله من خلقه كالأنبياء والصالحين؛ لكون حبهم يقرب إلى الله ومحبته، وهؤلاء هم الذين يستحقون محبة الله لهم" (3).
ولا بد من تحقيق المحبة الحقيقية لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -; وتقديم محبته وأقواله وأوامره على من سواه (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون اللهُ ورسولُهُ أَحَبَّ إليه مما سواهما..) الحديث (4).
إن واجبنا الاقتداء بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -; وجعلها المثل الأعلى للإنسان الكامل في جميع جوانب الحياة، واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -; دليل على محبة العبد ربه، وسينال محبة الله تعالى لَهُ، وفي هذا يقول الله –عز وجل- " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [آل عمران:31]. فسيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم- كانت سيرة حية أمام أصحابه في حياته وأمام أتباعه بعد وفاته، وكانت نموذجاً بشرياً متكاملاً في جميع المراحل وفي جميع جوانب الحياة العملية، ونموذجاً عملياً في صياغة الإسلام إلى واقع مشاهدٍ يعرفُ من خلال أقوالِهِ وأفعالِهِِ فيتبع رسولَهُ محمداً – صلى الله عليه وسلم-، ويجعل اتِّبَاعَه دليلا على صدق محبته-سبحانه-.
كما أن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم- أصل من أصول الإيمان الذي لا يتم إلا به، عن عمر –رضي الله عنه- قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : ((والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين)) (5).(/1)
ولقد كان الصحابة جميعا-رضي الله عنهم- يحبون النبي – صلى الله عليه وسلم- حبا صادقا حملهم على التأسي به والاقتداء واتباع أمره واجتناب نهيه؛ رغبة في صحبته ومرافقته في الجنة، قال تعالى : "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً" [النساء:69] وفي الحديث "المرء مع من أحب" (6).
وجاء في حديث أنس –رضي الله عنه-; بلفظ قال:"شهدت يوم دخل النبي – صلى الله عليه وسلم- المدينة فلم أَرَ يوماً أحسنَ ولا أضوأََ منه" (7)، وفي رواية :"فشهدتُه يومَ دخلَ المدينةَ فما رأيت يوماً قَط كان أحسنَ ولا أضوأَ من يوم دخل علينا فيه، وشهدته يوم مات فما رأيت يوماً كان أقبحَ ولا أظلمَ من يوم مات فيه –صلى الله عليه وسلم-" (8).
ثالثا : أمور مهمة في الاقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم- :
- ومن الجوانب المهمة في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ أن سيرته - صلى الله عليه وسلم- في إيمانه وعبادته وخلقه وتعامله مع غيره، وفي جميع أحواله كانت سيرة مثالية في الواقع، ومؤثرة في النفوس؛ فقد اجتمعت فيها صفات الكمال وإيحاءات التأثير البشري، واقترن فيها القول بالعمل؛ ولا ريب أن الإيحاء العملي أقوى تأثيراً في النفوس من الاقتصار
على الإيحاء النظري؛ لهذه العلة أرسل الله تعالى الرسل ليخالطهم الناسُ ويقتدوا بهداهم، وأرسل الله سبحانه الرسولَ – صلى الله عليه وسلم- ليكون للناس أسوة حسنة يقتدون به، ويتأسون بسيرته، قال المولى – عز وجل- " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" [الأحزاب:21]، وقد أمرهم -صلى الله عليه وسلم- بالتأسي به فقال :"صلوا كما رأيتموني أصلي" (9)، وقال – صلى الله عليه وسلم- :"لتأخُذُوا مناسِكَكُم" (10).
وقال بعضهم في الاقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم- والتأسي به :
إذا نحن أدلجنا وأنت إمَامُنا *** كفى بالمطايا طِيبُ ذِكراكَ حاديا
وإن نحن أضلَلْنَا الطريقَ ولم نجدْ*** دليلا كفَانَا نُورُ وَجْهِكَ هَاديا (11)
ومن الأمور التي يجدر التنبيه عليها أيضا في الاقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم والتأسي به:
- العمل بسنته باطنا وظاهرا: مثل سنن الاعتقاد ومجانبة البدعة وأهلها. والسنن المؤكدة : مثل سنن الأكل واللباس والوتر وركعتي الضحى، وسنن المناسك في الحج والعمرة ..
- تطبيق السنن المكانية : الذهاب إلى مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصلاة في مسجده، والصلاة في مسجد قباء، والصلاة في الروضة الشريفة، وهي من رياض الجنة التي ينبغي التنعم فيها والاعتناء بها، قال – صلى الله عليه وسلم- : ((ما بين بيتى ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي)) (12).
- الإكثار من الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -; كما في قوله : ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا)) (13).
رابعا : حاجة الأمة إلى القدوات دوما بعد الرسول – صلى الله عليه وسلم- :
إن الاقتداء بالرسول – صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله تعالى ليس بالموضوع الهين، فإنه أمر جلل، والأمة الإسلامية اليوم، وهي تشهد صحوة وتوبة وأوبة إلى الله تعالى، وتشهد -في الوقت نفسه- مناهج وطرقاً مختلفة في الدعوة إلى الله.. هي أحوج ما تكون إلى معرفة منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهج الأنبياء الكرام في الدعوة إلى الله؛ فليس هناك منهج يقتدى به في الدعوة والعلم والعمل إلا منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن تبعه من الصحابة الكرام والسلف الصالح .
فمنذ عهد الصحابة –رضوان الله عنهم- ومن تبعهم من الصالحين والعلماء والدعاة وأهل الفضل والتقى على مر العصور خلفوا سيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم- في عطائها وإيحائها وتأثيرها؛ لأنهم ورثة الأنبياء، يقتدي بهم الناس في اتباع هدي الرسول – صلى الله عليه وسلم- والعمل بسنته، وبقيت سيرهم بعد وفاتهم نبراساً يضيء طريق محبيهم إلى الخير، ويرغبهم في السير على منهج الحق والهدى .
وعلى الرغم من اختفاء تلكم الشخصيات عن العيون إلا أن سيرها العطرة المدونة لا تزال بقراءتها تفوح مسكاً وطيباً، وتؤثر في صياغة النفوس واستقامتها على الهدى والصلاح، قال بشر بن الحارث : "بحسبك أقوام تحي القلوب بذكرهم، وبحسبك أقوام تموت القلوب بذكرهم" .
ذلك أن القدوة لا تزال مؤثرة وستبقى مؤثرة في النفس الإنسانية، وهي من أقوى الوسائل التربوية تأثيراً في النفس الإنسانية، لشغفها بالإعجاب بمن هو أعلى منها كمالاً، ومهيأة للتأثر بشخصيته ومحاولة محاكاته، ولا شك أن الدعوة بالقدوة أنجح أسلوب لبث القيم والمبادئ التي يعتنقها الداعية.(/2)
وفي التأكيد على أهمية القدوة الحسنة في الداعية أو الأستاذ وأثر ذلك في تلاميذه، نقل الذهبي : "كان يجتمع في مجلس أحمد زُهاء خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمس مئة يكتبون، والباقون يتعلّمون منه حُسْنَ الأدب والسَّمت" (14).
وقبل أن نختم موضوعنا يجدر بنا أن نطرح تساؤلا مهما كثيرا ما يرد : ما السبب في قلة القدوة المؤثرة إيجابياً في الوسط التربوي ؟
وتكون الإجابة على هذا السؤال بالأمور التالية (15):
1- عدم توافر جميع الصفات التالية في كثير من الأشخاص الذين هم محل للاقتداء :
أ- الاستعداد الذاتي المتمثل في طهارة القلب وسلامة العقل واستقامة الجوارح .
ب- التكامل في الشخصية أو في جانب منها بحيث يكون الشخص محلاً للإعجاب وتقدير الآخرين ورضاهم، مع سلامة في الدِّين وحسن الخلق .
ت- حب الخير للآخرين والشفقة عليهم والحرص على بذل المعروف وفعله والدعوة إليه، فمن كان على هذه الصفة أحبه الناس وقدروه وتأسوا به، ومن فقد هذه الصفة لم يلتفتوا إليه .
2- عدم تسديد النقص أو القصور الذي قد يعتري من هم محل للاقتداء كالآباء والمعلمين وأهل العلم في صفة من تلك الصفات مما يصرف الناس عن التأسي بهم، وهذا يرجع إلى عدم إدراك هؤلاء للواجب، أو عدم تصورهم لأثر القدوة في التربية والإصلاح، أو لضعف شخصي ناتج عن استجابة لضغط المجتمع ، أو لسلبية عندهم نحو المشاركة في تربية الناشئة وإصلاح أفراد المجتمع .
3- مزاحمة القدوات المزيفة المصطنعة للتلبيس على الناس وإضلالهم عن الهدى وتزيين السوء في أعينهم، وصرفهم عن أهل الخير وخاصة الله، فقد أسهم الإعلام المنحرف والمشوب في صناعة قدوات فاسدة أو تافهة، وسلط عليها الأضواء ومنحها من الألقاب والصفات والمكانة الاجتماعية ما جعلها تستهوي البسطاء من الناس أو ضعاف النفوس والذين في قلوبهم مرض، وتوحي بزخرف القول الذي يزين لهؤلاء تقليدهم ومحاكاتهم .
4- "العناصر الخيرة قليلة في سائر المجتمعات، فما يكاد العامة يرون نموذجا جيداً حتى يسارعوا إلى الالتفاف حوله والتعلق به" (16).
ومن هنا تأتي الحاجة ملحة لأن نعيد إلى الناس بيان حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم- القدوة والأسوة الحسنة للناس جميعا، ونعنى بتربية الأبناء والشباب، وإعطائهم الصورة الصحيحة للقدوة الصالحة، وإبرازهم الشخصية المستحقة للاتباع والاحتذاء .
ونختم موضوعنا؛ في الرسول – صلى الله عليه وسلم- القدوة، بأن المسلم إذا راقب الله تعالى في عباداته ومعاملاته ودعوته وأَجْرَاها وَفْقَ ما أمر الله عز وجل; وما أمر رسوله – صلى الله عليه وسلم- كان مقتديا برسول الله – صلى الله عليه وسلم- .
اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد .
(1) تفسير القرآن العظيم، تحقيق : سامي السلامة (6/391).
(2) سير أعلام النبلاء (4/570)، وفتح الباري (6/602).
(3) مجموع الفتاوى (10/610).
(4) البخاري ح16، ومسلم ح3.
(5) البخاري ج14 و15 ، ومسلم 69 و70.
(6) رواه البخاري (6168).
(7) رواه الحاكم في كتاب الهجرة، رقم (4338)، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجه.
(8) رواه أحمد (3/287).
(9) البخاري (631) ، ومسلم (674).
(10) مسلم (1297).
(11) الفوائد لابن القيم ، (ص:56).
(12) البخاري ح (1196)، ومسلم ح (1391).
(13) مسلم ح (284).
(14) سير أعلام النبلاء (11/316).
(15) النقاط 1-3 يراجع : إجابة سؤال (قلة القدوة المؤثرة)، فضيلة شيخنا الدكتور أحمد بن عبد العزيز الحليبي ، موقع الإسلام اليوم – على الإنترنت ، تاريخ 17/6/1423هـ
(16) الدعوة الإسلامية لمحمد يوسف، ص: 73.(/3)
الرسوم المتحركة وأثرها على تنشئة الأطفال
نزار محمد عثمان*
مدخل:
يلعب الإعلام في عصرنا دوراً هاماً في صياغة الأفراد والمجتمعات، ذلك أنه أصبح أداة التوجيه الأولى التي تَرَاجَع أمامها دور الأسرة وتقلص دونها دور المدرسة، فأصبحت الأسرة والمدرسة في قبضة الإعلام، يتحكم فيها..توجيهاً للأدوار.. ورسماً للمسار... ولما كان التلفاز يقدم المادة المرئية والمسموعة والمقروءة معاً.. كان أكثر وسائل الإعلام نفيراً، و أعظمها تأثيراً، ولما كانت الطفولة ناشدة للهو والترفيه، قابلة للانقياد والتوجيه، وجدت في التلفاز بديلاً مؤنساً عن أُمٍّ تخلت أو أبٍ مشغول(1)، فأصبحت "مشاهدة التلفزيون ثاني أهم النشاطات في حياة الطفل بعد النوم"(2)، بل أثبتت إحدى الدراسات أن نسبة 30% من أطفال أحد أكبر المدن الإسلامية من حيث عدد السكان(3)يقضون أمام شاشات التلفزيون وقتاً أطول مما يقضونه في مدارسهم: "عندما يكمل الطفل دراسته الثانوية يكون قد قضى 22 ألف ساعة من وقته أمام شاشة التلفزيون و11 ألف ساعة فقط في غرف الدراسة"(4)، كما بينت الدراسة أن الرسوم المتحركة تمثل نسبة 88% مما يشاهده الأطفال(5).
إن أهمية دراسة أثر الرسوم المتحركة على الأطفال لا تأتي فقط من كونها تشكل النسبة الأعلى لما يشاهدونه، بل تأتي كذلك من أن قطاعاً كبيراً ـ من الآباء الملتزمين والأمهات الصالحات ـ لا ينتبه لخطورة أثرها على الأطفال، فيلجأ إلى شغل أوقات الصغار بها هرباً من عُري الفضائيات وتفسخها والتماساً لملاذ أمين و حصنٍ حصين.. يجد فيه الأمن على أبنائه، وتأتي كذلك من سرعة تفاعل الأطفال مع مادتها وشدة حرصهم على متابعتها.. وزيادة ولعهم بتقليد أبطالها، "إن أشرطة الأطفال وخاصة الرسوم المتحركة تعمل عملها في تلقين الطفل أكبر ما يمكن من معلومات، وأشرطة الفيديو والتسجيلات تنفذ محتوياتها إلى سمع الطفل وفؤاده وتنقش فيه نقشاً(6)، والطفل يأخذ ويتعلم ويتفاعل بسرعة مذهلة، "إن حصيلة ما يتلقفه الطفل من معلومات ما بين ازدياده ـ أي بعد الفطام ـ إلى سن البلوغ (الرابعة عشرة) تفوق كل ما يتلقاه بعد ذلك من علم ومعرفة بقية عمره مهما امتد عشرات السنين"(7)، إذا وضعنا هذا في الحسبان، فلا عجب أن يعتبر كثيرٌ من علماء الاجتماع تجارب الطفولة محدداً أساسياً من محددات السلوك البشري.
أولاً: إيجابيات مشاهدة الرسوم المتحركة:
إن مشاهدة الرسوم المتحركة تفيد الطفل في جوانب عديدة، أهمها أنها:
[1] تنمي خيال الطفل، وتغذي قدراته(8)، إذ تنتقل به إلى عوالم جديدةلم تكن لتخطر له ببال، وتجعله يتسلق الجبال ويصعد الفضاء ويقتحم الأحراش ويسامر الوحوش، كما تعرفه بأساليب مبتكرة متعددة في التفكير والسلوك.
[2] تزود الطفل بمعلومات ثقافية منتقاة وتسارع بالعملية التعليمية(9): فبعض أفلام الرسوم المتحركة تسلط الضوء على بيئات جغرافية معينة، الأمر الذي يعطي الطفل معرفة طيبة.. ومعلومات وافية، والبعض الآخر يسلط الضوء على قضايا علمية معقدة ـ كعمل أجهزة جسم الإنسان المختلفة ـ بأسلوب سهلٍ جذاب، الأمر الذي يكسب الطفل معارف متقدمة في مرحلة مبكرة.
[3] تقدم للطفل لغة عربية فصيحة ـ غالباً ـ، لا يجدها في محيطه الأسري، مما ييسر له تصحيح النطق وتقويم اللسان وتجويد اللغة، وبما أن اللغة هي الأداة الأولى للنمو المعرفي فيمكن القول بأن الرسوم المتحركة ـ من هذا الجانب ـ تسهم إسهاماً مقدراً غير مباشر في نمو الطفل المعرفي.
تلبي بعض احتياجات الطفل النفسية و تشبع ـ له ـ غرائز عديدة مثل غريزة حب الاستطلاع؛ فتجعله يستكشف في كل يوم جديداً، وغريزة المنافسة والمسابقة فتجعله يطمح للنجاح و يسعى للفوز.
ثانياً: سلبيات مشاهدة الرسوم المتحركة:
لمشاهدة الرسوم المتحركة سلبيات عديدة أهمها:
[1] سلبيات التلفاز: بما أن التلفاز هو وسيلة عرض الرسوم المتحركة؛ فمن الطبيعي أن تشارك الرسوم المتحركة التلفاز سلبياته والتي من أهمها:
(1) التلقي لا المشاركة: ذلك أن التلفاز يجعل الطفل "يفضل مشاهدة الأحداث والأعمال على المشاركة فيها"(10) ـ خلافاً للكمبيوتر الذي يجعل الطفل يفضل صناعة الأحداث لا المشاركة فيها فقط ـ ولعل هذا الأثر السالب لجهاز التلفاز هو الذي يفسر لنا لماذا قنع الكثيرون ـ في أمتنا الإسلامية ـ بالمشاهدة دون المشاركة.
(2) إعاقة النمو المعرفي الطبيعي(11): ذلك أن المعرفة الطبيعية هي أن يتحرك طالب المعرفة مستخدماً حواسه كلها أو جلها، ويختار ويبحث ويجرب ويتعلم (قل سيروا في الأرض فانظروا.. )، لكن التلفاز ـ في غالبه ـ يقدم المعرفة دون اختيار ولا حركة، كما أنه يكتفي من حواس الطفل بالسمع والرؤية، ولا يعمل على شحذ هذه الحواس وترقيتها عند الطفل، فلا يعلمه كيف ينتقل من السماع المباشر للسماع الفعّال، من الكلمات والعبارات إلى الإيماءات والحركات، ثم إلى الأحاسيس والخلجات.(/1)
(3) الإضرار بالصحة: فمن المعلوم أن الجلوس لفترات طويلة واستدامة النظر لشاشة التلفاز لها أضرارها على جهاز الدوران والعينين.
(4) تقليص درجة التفاعل بين أفراد الأسرة: "إن أفراد الأسرة كثيراً ما ينغمسون في برامج التلفزيون المخصصة للتسلية لدرجة أنهم يتوقفون حتى عن التخاطب معاً"(12).
[2] تقديم مفاهيم عقدية وفكرية مخالفة للإسلام: إن كون الرسوم المتحركة موجهة للأطفال لم يمنع دعاة الباطل أن يستخدموها في بث أفكارهم، وللتدليل على ذلك نذكر مثال الرسوم المتحركة الشهيرة التي تحمل اسم "آل سيمسونز The Simpsons لصاحبها مات قرونينق Matt Groening، الذي صرّح أنه يريد أن ينقل أفكاره عبر أعماله بطريقة تجعل الناس يتقبلونها، وشرع في بث مفاهيم خطيرة كثيرة في هذه الرسوم المتحركة منها: رفض الخضوع لسلطة (الوالدين أو الحكومة)، الأخلاق السيئة والعصيان هما الطريق للحصول على مركز مرموق، أما الجهل فجميل والمعرفة ليست كذلك، بيد أن أخطر ما قدمه هو تلك الحلقة التي ظهر فيها الأب في العائلة Homer Simpson وقد أخذته مجموعة تسمي نفسها (قاطعي الأحجار)!! عندما انضم لهم الأب، وجد أحد الأعضاء علامة في الأب رافقته منذ ميلاده، هذه العلامة جعلت المجموعة تقدسه و تعلن أنه الفرد المختار، ولأجل ما امتلكه من قوة ومجد، بدأ Homer Simpson يظن نفسه أنه الرب حتى قال: "من يتساءل أن هناك رباً، الآن أنا أدرك أن هناك رباً، وأنه أنا"، ربما يقول البعض أن هذه مجرد رسوم متحركة للأطفال.. تسلية غير مؤذية، لكن تأثيرها على المستمعين كبير مما يجعلها حملة إعلامية ناجحة..تلقن السامعين أموراً دون شعورهم..وهذا ما أقره صانع هذه الرسوم المتحركة"(13).
كذلك تعمد بعض الرسوم المتحركة إلى السخرية من العرب والمسلمين، ومثال ذلك بعض حلقات برنامج الرسوم المتحركة المعروف باسم سكوبي دو "Scobby Doo " والمملوك لـ William Hanna و Joseph Barbera الذَين طبّقت شهرتهما الآفاق بعد نجاح رسومهما المتحركة "توم أند جيري"، في إحدى الحلقات "يفاخر ساحر عربي مسلم عندما يرى اسكوبي بقوله: "هذا ما كنت أنتظره تماماً، شخصٌ أمارس سحري الأسود عليه"، ويبدي الساحر المسلم رغبته في تحويل سكوبي إلى قرد، لكن السحر ينقلب على الساحر ويتحول الساحر نفسه إلى قرد، ويضحك سكوبي وهو يتحدث مع نفسه قائلاً: "لا بد أن ذلك الساحر المشوش ندم على تصرفاته العابثة معنا"، ومرة أخرى في حلقة سكوبي دو تقوم مومياء مصرية بمطاردة سكوبي ورفاقه. ويرتابون في أن المومياء نفسها حولت صديقهم الدكتور نسيب ـ العربي المسلم ـ إلى حجر، وفي النهاية يستميل سكوبي المومياء ويلقي بها في إحدى شباك كرة السلة، ولكن عندما يكشف النقاب عن المومياء يجد أنها ـ لدهشة سكوبي ـ لم تكن مومياء بل الدكتور نسيب نفسه الذي أراد سرقة قطعة عملة ثمينة من سكوبي متنكراً في زي مومياء، أي أن سكوبي يريد إنقاذ مسلم يود سرقته، لقد بلغ المسلم هذا الحد من الرداءة "(14).
[3] العنف والجريمة: إن من أكثر الموضوعات تناولاً في الرسوم المتحركة الموضوعات المتعلقة بالعنف والجريمة، ذلك أنها توفر عنصرى الإثارة والتشويق الذَيْن يضمنا نجاح الرسوم المتحركة في سوق التوزيع، ومن ثم يرفع أرباح القائمين عليها، غير أن مشاهد العنف والجريمة لا تشد الأطفال فحسب، بل تروّعهم، "إلا أنهم يعتادون عليها تدريجياً، ومن ثم يأخذون في الاستمتاع بها و تقليدها، ويؤثر ذلك على نفسياتهم واتجاهاتهم التي تبدأ في الظهور بوضوح في سلوكهم حتى في سن الطفولة، الأمر الذي يزداد استحواذاً عليهم عندما يصبح لهم نفوذ في الأسرة والمجتمع"(15)، وقد أكدت دراسات عديدة أن هناك ارتباطاً "بين العنف التلفزيوني والسلوك العدواني، ومن اللافت للنظر اتفاق ثلاثة أساليب بحثية هي : الدراسة المختبرية، والتجارب الميدانية، والدراسة الطبيعية على ذات النتيجة العامة، وهي الربط بين العدوان ومشاهدة التلفزيون حيث يتأثر الجنسان بطرق متشابهة"(16)، وقد عانت المجتمعات الغربية من تفشي ظاهر العنف، ونقلت وسائل الاعلام ـ ولا تزال تنقل ـ أخبار حوادث إطلاق النار في المدارس، والسبب ـ كما أخبر مراهق روماني اختطف طفلا عمرة 11 عاماً وضربه حتى الموت ـ هو مشاهدة شيء مشابه على شاشة التلفزيون (17).
[4] إشباع الشعور الباطن للطفل بمفاهيم الثقافة الغربية: إن الطفل عندما يشاهد الرسوم المتحركة التي هي ـ في غالبها ـ من إنتاج الحضارة الغربية، لا يشاهد عرضاً مسلياً يضحكه ويفرحه فحسب، بل يشاهد عرضاً ينقل له نسقاً ثقافياً متكاملاً يشتمل على:(/2)