والصلاة على الرسول المصطفى القائل: (أعجزا الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام).
وإلى كل مريض نسأل الله له الشفاء، يذكّر بقضية أيوب عليه السلام ودعائه وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين .
ألا أيها المقصود في كل حاجة شكوت إليك الضر فارحم شكايتي
ألا يا رجائي أنت تكشف كربتي فهب لي ذنوبي كلها واقضي حاجتي
**وقال الإمام أحمد: عن جابر بن سمرة قال: شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر فقالوا: إنه لا يحسن يصلى. قال: الأعاريب! والله ما آلو بهم صلاة رسول الله صلى صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين. فسمعت عمر يقول: كذلك الظن بك يا أبا إسحاق.وفي "صحيح مسلم" أن عمر بعث من يسأل عنه أهل الكوفة فأثنوا خيرا إلا رجلا يقال له: أبو سعدة، أسامة بن قتادة. قام فقال: أما إذا نشدتنا، فإن سعدا لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، ولا يخرج في السرية. فقال سعد: اللهم إن كان عبدك هذا قام مقام رياء وسمعه، فأطل عمره، وأدم فقره، وعرضه للفتن. فأصابته دعوة سعد، فكان شيخا كبيرا يرفع حاجبيه عن عينيه، ويتعرض للجواري في الطرق فيغمزهن، فيقال له في ذلك فيقول: شيخ كبير مفتون أصابته دعوة سعد.
وعن قيس : أخبرني سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (اللهم استجب لسعد إذا دعاك). وعن ابن المسيب : أن رجلاً كان يقع في علي وطلحة والزبير، فجعل سعد ينهاه ويقول : لا تقع في إخواني، فأبى، فقام سعد وصلى ركعتين ودعا، فجاء بختي يشق الناس، فأخذه بالبلاط فوضعه بين كركرته والبلاط حتى سحقه، فأنا رأيت الناس يتبعون سعداً ويقولون :هنيئاً لك يا أبا إسحاق، استجيبت دعوتك .
* من آداب الدعاء وأسباب الإجابة
1- الإخلاص لله.
2- أن يبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويختم بذلك.
3- حضور القلب في الدعاء.
4- الدعاء في الرخاء والشدة.
5- لا يسأل إِلا الله وحده.
6- الاعتراف بالذنب والاستغفار منه والاعتراف بالنعمة وشكر الله عليها.
7- عدم تكلف السجع في الدعاء.
8- الدعاء ثلاثاً.
9- استقبال القبلة.
10- الجزم في الدعاء واليقين بالإجابة.
11- الإلحاح في الدعاء وعدم الاستعجال.
12- رفع الأيدي في الدعاء.
13- التضرع والخشوع والرغبة والرهبة.
41- ردُّ المظالم مع التوبة.
15- عدم الدعاء على الأهل، والمال، والولد، والنفس.
16- خفض الصوت بالدعاء بين المخافتة والجهر.
17- أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
18- الابتعاد عن جميع المعاصي.
19- أن يكون المطعم والمشرب والملبس من حلالٍ.
20- لا يدعو بإِثمٍ أو قطيعة رحمٍ.
21- أن يبدأ الداعي بنفسه إذا دعا لغيره. (قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بدأ بنفسه بالدعاء وثبت أيضاً أنه لم يبدأ بنفسه،كدعائه لأنس، وابن عباس، وأم إسماعيل، وغيرهم).
22- بأن يتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى،أو بعملٍ صالحٍ قام به الداعي نفسه، أو بدعاء رجلٍ صالحٍ حيٍّ حاضر له.
23- الوضوء قبل الدعاء إن تيسر.
24- أن لا يعتدي في الدعاء.
أوقات وأحوال وأماكن يُستجاب فيها الدعاء
1- ليلة القدر.
2- جوف الليل الآخر.
3- ودبر الصلوات المكتوبات.
4- عند النداء للصلوات المكتوبة.
5- عند نزول الغيث.
6- عند زحف الصفوف في سبيل الله.
7- عند شرب ماء زمزم مع النية الصادقة.
8- إذا نام على طهارةٍ ثم استيقظ من الليل ودعا.
9- بين الأذان والإقامة.
10- ساعةٌ من كلِّ ليلةٍ.
11- عند الدعاء بـ "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين".
12- ساعةٌ من يوم الجمعة.
13- وأرجح الأقوال فيها أنها آخر ساعةٍ من ساعات العصر يوم الجمعة وقد تكون ساعة الخطبة والصلاة.
14- دعاء الناس عقب وفاة الميت.
15- الدعاء بعد الثناء على الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير.
16- عند دعاء الله باسمه العظيم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
17- الدعاء في شهر رمضان.
18- عند اجتماع المسلمين في مجالس الذكر.
19- في السجود.
20- عند الاستيقاظ من النوم ليلاً والدعاء بالمأثور في ذلك.
21- دعاء الصائم حتى يفطر.
22- دعاء الصائم عند فطره.
23- دعاء الإمام العادل.
24- دعاء الإمام الولد البار بوالديه.
25- الدعاء عقب الوضوء إذا دعا بالمأثور في ذلك.
26- عند الدعاء في المصيبة بـ :"إِنا لله وإِنا إِليه راجعون اللهم أجُرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها".
27- الدعاء حالة إقبال القلب على الله واشتداد الإخلاص.
28- دعاء المظلوم على من ظلمه.
29- الدعاء على الصفا.
30- الدعاء على المروة.
31- الدعاء عند المشعر الحرام.
32- دعاء الوالد لولده وعلى ولده.
33- دعاء المسافر.
34- دعاء المضطرِّ.
35- الدعاء بعد رمي الجمرة الصغرى.
36- الدعاء بعد رمي الجمرة الوسطى.(/8)
37- الدعاء داخل الكعبة ومن صلى داخل الحجر فهو من البيت.
38- دعاء المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب.
39- دعاء يوم عرفة في عرفة.
* الدعاء من الكتاب:
1- {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 25- 28].
2- {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16].
3- {رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53].
4- {رَبَّنَا ءاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].
5- {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
6- {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286].
7- {حَسْبِي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129].
8- {عسى ربي أن يهديني سواء السبيل} [القصص: 22].
9- {رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 21].
10- {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
11- {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47].
12- {رَبَّنَا ءامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 109].
13- {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 65- 66].
14- {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
15- {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28].
16- {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127-128].
17- {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40].
18- {رَبَّنَا ءامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].
19- {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
20- {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24].
21- {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4].
22- {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89].
23- {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].
24- {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس: 5-86].
25- {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 147].
26- {رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 118].
27- {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
28- {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 191-194].
29- {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].(/9)
30- {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
31- {رَبَّنَا ءاتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10].
32- {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
33- {رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97-98].
34- {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41].
35- {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}[الشعراء: 83-85]، {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87].
36- {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100].
37- {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8].
38- {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 16].
39- {رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت: 30].
40- {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 47].
41- {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة:5].
42- {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].
43- {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38].
* الدعاء من السنة:
1- "اللهم آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار". رواه البخاري ومسلم.
2- اللهم أكثر مالي، وولدي، وبارك لي فيما أعطيتني" (يدل عليه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأنس "اللهم أكثر ماله، وولده وبارك له فيما أعطيته) البخاري. [وأطل حياتي على طاعتك وأحسن عملي] واغفر لي". البخاري في الأدب المفرد برقم 653 في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 2241، وفي صحيح الأدب المفرد ص 244، وما بين المعكوفين يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل: من خير الناس؟ فقال: "من طال عمره وحسن عمله" الترمذي وأحسن.
3- اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات". رواه البخاري ومسلم.
4- اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء". رواه البخاري ومسلم ولفظه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جهد البلاء، ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء.
5- "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمةُ أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كلِّ خيرٍ، واجعل الموت راحةً لي من كل شرٍّ". أخرجه مسلم.
6- "اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة". الترمذي 5/534 وغيره ولفظه "سلو الله العافية في الدنيا والآخرة" وفي لفظ: "سلوا الله العفو والعافية فإن أحداً لم يعط بعد اليقين خيراً من العافية" انظر صحيح الترمذي 3/180 و 3/185 و 3/170 وله شواهد انظرها في مسند الإِمام أحمد بترتيب أحمد شاكر 1/156 - 157
7- "رب أعني ولا تُعن عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، وامكُر لي ولا تمكُر عليَّ، واهدني ويسِّر الهدى إِليَّ، وانصرني على من بغى عليَّ، ربِّ اجعلني لك شكَّاراً، لك ذكَّاراً، لك رهَّاباً، لك مِطواعاً، إِليك مخبتاً أوَّاها منيباً، ربِّ تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبِّت حجتي، واهد قلبي، وسدِّد لساني، واسلل سخيمة قلبي" أبو داود 2/83 والترمذي 5/554 وابن ماجه 2/1259 والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 1/519 وانظر صحيح الترمذي 3/178 وأحمد 1/127.
8- "اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شر ما استعاذ منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأنت المستعان، وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله". الترمذي 5/537 وابن ماجه 2/1264 بمعناه.
9- "اللهم إني أسألك الهدى، والتُقى، والعفاف، والغِنى". أخرجه مسلم.
10- "اللهم اهدني وسددني، اللهم إني أسألك الهدى والسداد". أخرجه مسلم.
11- "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك". أخرجه مسلم.(/10)
12- "اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار، وفتنة القبر، وعذاب القبر، وشر فتنة الغنى، وشر فتنة الفقر، اللهم إني أعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل قلبي بماء الثلج والبرد، ونقِّ قلبي من الخطايا كما نقَّيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب. اللهم إِني أعوذ بك من الكسل والمأثم والمغرم". رواه البخاري ومسلم.
13- "اللهم إني أعوذ بك من شرِّ ما عملتُ، ومن شرِّ ما لم أعمل". رواه مسلم.
14- "لا إِله إِلا الله العظيم الحليم، لا إِله إِلا الله رب العرش العظيم، لا إِله إِلا الله ربُّ السماوات، وربُّ الأرض، وربُّ العرش الكريم". البخاري 7/154، ومسلم 4/2093.
15- "اللهم رحمتك أرجو فلا تكِلني إلى نفسي طرفة عينٍ، وأصلح لي شأني كله، لا إِله إِلا أنت". أبو داود 4/324، وأحمد 5/42 .
16- "لا إله إِلا أنت سبحانك إِني كنت من الظالمين". الترمذي 5/295 والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 1/505 وانظر صحيح الترمذي 3/168 ولفظه "دعوة ذي النون إذْ دعا وهو في بطن الحوت: لا إِله إِلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. فإنه لم يدعُ بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له".
17- "اللهم مصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك". مسلم 2045.
18- "يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك". الترمذي 5/235 وأحمد 4/182 والحاكم 1/525 و 528 وصححه ووافقه الذهبي، وانظر صحيح الجامع 6/309 وصحيح الترمذي 3/171. وقد قالت أم سلمة رضي الله عنها "كان أكثر دعائه صلى الله عليه وسلم".
19- "اللهم إِني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك. أسألك بكلِّ اسم هو لك سمَّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حُزني، وذهاب همي". أحمد 1/391، 452 والحاكم 1/509 وحسنه الحافظ في تخريج الأذكار. انظر تخريج الكلم الطيب ص 73.
20- "اللهم إِني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والبخل، والهرم، وعذاب القبر، اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها. أنت وليُّها ومولاها. اللهم إِني أعوذُ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوةٍ لا يُستجاب لها". أخرجه مسلم.
21- "اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلِّها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة". أحمد 4/181 والطبراني في الكبير، قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 10/178 رجال أحمد وأحد أسانيد الطبراني ثقات
22- "اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي، ومن شر منيي". أبو داود 2/92 والترمذي 5/523، والنسائي 8/271 وغيرهم وانظر صحيح الترمذي 3/166 وصحيح النسائي 3/1108.
23- "اللهم إِني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ في قضاؤك. أسألك بكلِّ اسم هو لك سمَّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حُزني، وذهاب همي". أحمد 1/391، 452 والحاكم 1/509 وحسنه الحافظ في تخريج الأذكار. انظر تخريج الكلم الطيب ص 73.
24- "اللهم رب جبرائيل، وميكائيل وربَّ إِسرافيل، أعوذ بك من حرِّ النار ومن عذاب القبر".
25- "اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي
26- "اللهم إني أسألك علماً نافعاً، وأعوذ بك من علمٍ لا ينفع".
27- "اللهم إني أعوذ بك من البرص، والجنون، والجذام، ومن سيء الأسقام". أبو داود 2/93 والنسائي 8/271 وأحمد 3/192 وانظر صحيح النسائي 3/1116 وصحيح الترمذي 3/184.
28- "اللهم إِني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحبَّ المساكين، وأن تغفر لي، وترحمني، وإِذا أردت فتنة قومٍ فتوفَّني غير مفتونٍ، وأسألك حبَّك، وحبَّ من يُحبك، وحبَّ عملٍ يُقربني إلى حبك
29- "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفَّني إذا علمت الوفاة خيراً لي، اللهم إِني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الرِّضا والغضب، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قُرَّة عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرِّضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذَّة النظر إلى وجهك، والشوق إِلى لقائك، في غير ضرَّاء مُضرَّةٍ، ولا فتنةٍ مُضلةٍ، اللهم زيِّنا بزينة الإِيمان، واجعلنا هُداةً مهتدين".
30- "اللهم احفظني بالإِسلام قائماً، واحفظني بالإِسلام قاعداً، واحفظني بالإِسلام راقداً، ولا تُشمت بي عدواً ولا حاسداً. اللهم إني أسألك من كلِّ خيرٍ خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كلِّ شرٍّ خزائنه بيدك".(/11)
31- "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تُبلِّغنا به جنَّتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا، اللهم متِّعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوَّاتنا ما أحييتنا، واجعلهم الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا".
32- "اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من أن أردَّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر".
33- "اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت وبك خاصمت. اللهم إني أعوذ بعزتك لا إِله إِلا أنت أن تُضلَّني. أنت الحيُّ الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون".
34- "اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كلِّ إثمٍ، والغنيمة من كلِّ برٍّ، والفوز بالجنة، والنجاة من النار".
35- "اللهم أعنا على ذكرك، وشُكرك، وحُسن عبادتك".
36- "اللهم إِني أسألك إِيماناً لا يرتدُّ، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة محمدٍ صلى الله عليه وسلم في أعلى جنة الخلد".
37- "اللهم قني شرَّ نفسي، واعزم لي على أرشد أمري، اللهم اغفر لي ما أسررت، وما أعلنت، وما أخطأت، وما عمدت، وما علمت، وما جهلت".
38- "اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت ولا مُضلَّ لمن هديت، ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرِّب لما باعدت، ولا مباعد لما قرَّبت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إِني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذٌ بك من شر ما أعطيتنا وشرِّ ما منعتنا، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفَّنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدُّون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أُوتوا الكتاب، إله الحقِّ [آمين]".
39- "اللهم اجعل أوسع رزقك عليَّ عند كبر سني، وانقطاع عمري".
40- "اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في داري، وبارك لي في رزقي".
41- "اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك، فإِنه لا يملكها إلا أنت".
42- "اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول".
43- "اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يُسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع. أعوذ بك من هؤلاء الأربع".
44- "اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين، وغلبة العدو، وشماتة الأعداء".
45- "اللهم اغفر لي، واهدني، وارزقني، وعافني، أعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة".
46- "اللهم متِّعني بسمعي، وبصري، واجعلهما الوارث مني، وانصرني على من يظلمني، وخذ منه بثأري".
47- "اللهم إني أسألك عيشةً نقيةً، وميتةً سويَّةً، ومردّاً غير مُخزٍ ولا فاضح".
48- "اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والبخل، والهرم، والقسوة، والغفلة، والعيلة، والذلة، والمسكنة، وأعوذ بك من الفقر، والكفر، والفسوق، والشقاق، والنفاق، والسمعة، والرياء، وأعوذ بك من الصمم، والبكم، والجنون، والجذام، والبرص، وسيء الأسقام".
49- "اللهم إني أعوذ بك من الفقر، والقلة، والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أُظلم".
50- "اللهم إِني أعوذ بك من التَّردِّي، والهدم، والغرق، والحرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت لديغاً".
51- "اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإِنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة، فإِنها بئست البطانة".
52- "اللهم إني أعوذ بك أن أُشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم".
53- "اللهم انفعني بما علَّمتني، وعلِّمني ما ينفعني، وزدني علماً".
54- "اللهم إِني أسألك من الخير كله: عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشرِّ كله عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم. اللهم إِني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك، وأعوذ بك من شرِّ ما استعاذ بك منه عبدك ونبيُّك. اللهم إني أسألك الجنة، وما قرَّب إليها من قولٍ أو عملٍ، وأعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قولٍ أو عملٍ، وأسألك أن تجعل كلَّ قضاءٍ قضيتهُ لي خيراً".
55- "اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء". الترمذي 5/575 وابن حبان، والحاكم، والطبري، وانظر صحيح الترمذي 3/184.
56- "اللهم إنك عفوٌّ كريمٌ تحبُّ العفو فاعف عني". الترمذي 5/534 تحقيق إبراهيم عطوه، مطبعة مصطفى البابي، وانظر صحيح الترمذي 3/170.(/12)
57- "اللهم ارزقني حبك، وحُبَّ من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أُحبُّ فاجعله قوةً لي فيما تحب، اللهم ما زويت عني مما أحبُّ فاجعله فراغاً لي فيما تحبُّ".
58- "اللهم طهرني من الذنوب والخطايا، اللهم نقِّني منها كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد".
59- "اللهم إني أعوذ بك من البخل، والجبن، وسوء العمر، وفتنة الصدر وعذاب القبر".
60- "اللهم رب السماوات [السبع] ورب الأرض، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيءٍ، فالق الحبَّ والنوى، ومنزل التوراة والإِنجيل والفرقان، أعوذ بك من شرِّ كلِّ شيءٍ أنت آخذٌ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيءٌ، وأنت الآخر فليس بعدك شيءٌ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيءٌ، وأنت الباطن فليس دونك شيءٌ، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر".
61- "اللهم ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجِّنا من الظلمات إلى النور، وجنِّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا، وأبصارنا، وقلوبنا، وأزواجنا وذرياتنا، وتُب علينا إِنك أنت التَّوَّاب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمك مثنين بها عليك قابلين لها وأتممها علينا".
62- "اللهم جنبني منكرات الأخلاق، والأهواء، والأعمال، والأدواء".
63- "اللهم قنِّعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف عليَّ كل غائبةٍ لي بخيرٍ".
64- "اللهم حاسبني حساباً يسيراً".
65- "اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء، ومن ليلة السوء، ومن ساعة السوء، ومن صاحب السوء، ومن جار السوء في دار المقامة".
66- "اللهم إني أسألك الجنة وأستجير بك من النار" (ثلاث مراتٍ).
67- "اللهم فقِّهني في الدِّين".
68- "اللهم اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإِسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدِّي، وخطئي وعمدي، وكلُّ ذلك عندي".
69- "اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت. فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم".
70- اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني"."واجبرني وارفعني".
71- اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تُهنَّا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وأرض عنا".
72- "اللهم أحسنت خلقي فأحسن خُلُقي".
73- "اللهم ثبِّتني واجعلني هادياً مهديّاً".
74- "اللهم آتني الحكمة التي من أُوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً".
75- "اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإِحسان إلى يوم الدين.
76- "اللهم إني أسألك يا الله بأنك الواحد الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يُولد، ولم يكن له كفواً أحد، أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم".
77- "اللهم إني أسألك بأنَّ لك الحمد لا إِله إِلا أنت [وحدك لا شريك لك] المنَّان يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإِكرام، يا حيُّ يا قيُّوم، إِني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار".
78- "اللهم إني أسأل علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبَّلاً".
79- "اللهم إِنِّي أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إِله إِلا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد".
80- "ربِّ اغفر لي، وتُب عليَّ، إِنك أنت التَّوَّاب الغفور".
81- "اللهم إني أسألك خير المسألة، وخير الدعاء، وخير النجاح، وخير العمل، وخير الثواب، وخير الحياة، وخير الممات، وثبِّتني، وثقِّل موازيني، وحقق إِيماني، وارفع درجاتي، وتقبَّل صلاتي، واغفر خطيئتي، وأسألك الدرجات العُلى من الجنة، اللهم إني أسألك فواتح الخير، وخواتمه، وجوامعه، وأوله، وظاهره، وباطنه، والدرجات العلى من الجنة آمين. اللهم إني أسألك خير ما آتي، وخير ما أفعل وخير ما أعمل، وخير ما بطن، وخير ما ظهر، والدرجات العلى من الجنة آمين. اللهم إني أسألك أن ترفع ذكري، وتضع وزري، وتصلح أمري، وتطهر قلبي، وتحصِّن فرجي، وتُنوِّر قلبي، وتغفر لي ذنبي، وأسألك الدرجات العلى من الجنة آمين. اللهم إني أسألك أن تبارك في نفسي، وفي سمعي، وفي بصري، وفي روحي، وفي خلقي، وفي خُلُقي، وفي أهلي، وفي محياي، وفي مماتي، وفي عملي، فتقبَّل حسناتي، وأسألك الدرجات العلى من الجنة آمين".(/13)
* كان في الأمم السابقة أولياء صالحون , وعباد زاهدون , وكان جريج العابد أحد هؤلاء الصالحين الذين برَّأهم الله عز وجل , وأظهر على أيديهم الكرامات , بعد أن تربص به المفسدون , وحاولوا إيقاعه في الفاحشة , ثم تشويه سمعته بالباطل , وهكذا أهل الفجور في كل زمان ومكان , لا يهنأ لهم بال , ولا يطيب لهم عيش إلا بأن يشاركهم الآخرون في غيهم وفسادهم , والقصة أخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة , عيسى ابن مريم , وصاحب جريج , وكان جريج رجلا عابدا , فاتخذ صومعة فكان فيها, فأتته أمُّه وهو يصلي , فقالت : يا جريج , فقال : يا رب أمي وصلاتي , فأقبل على صلاته , فانصرفت , فلما كان من الغد أتته وهو يصلي , فقالت : يا جريج , فقال : يا رب أمي وصلاتي , فأقبل على صلاته , فانصرفت , فلما كان من الغد أتته وهو يصلي , فقالت : يا جريج , فقال : أي رب أمي وصلاتي , فأقبل على صلاته , فقالت : اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات .
فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته , وكانت امرأة بغي يُتَمثَّلُ بحسنها , فقالت : إن شئتم لأفْتِنَنَّه لكم , قال : فتعرضت له فلم يلتفت إليها, فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته , فأمكنته من نفسها , فوقع عليها , فحملت , فلما ولدت قالت : هو من جريج , فأتوه فاستنزلوه , وهدموا صومعته , وجعلوا يضربونه , فقال : ما شأنكم , قالوا : زنيت بهذه البغي فولدت منك , فقال : أين الصبي , فجاءوا به , فقال : دعوني حتى أصلي , فصلى , فلما انصرف أتى الصبي فطَعَنَ في بطنه , وقال : يا غلام , من أبوك ؟ قال : فلان الراعي , قال : فأقبلوا على جريج يقَبِّلونه ويتمسحون به, وقالوا : نبني لك صومعتك من ذهب , قال : لا , أعيدوها من طين كما كانت , ففعلوا ) .(/14)
الدعوة بالقدوة
الدعوة إلى الله تعالى تستوجب اقتداء الدعاة بالأنبياء والرسل، وفي مقدمتهم الرسول القدوة عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: >> لّقّدً كّانّ لّكٍمً فٌي رّسٍولٌ اللَّهٌ أٍسًوّةِ حّسّنّةِ لٌَمّن كّانّ يّرًجٍو اللَّهّ $ّالًيّوًمّ الآخٌرّ $ّذّكّرّ اللَّهّ كّثٌيرْا=>21<= << (الأحزاب).
وتتجلى الدعوة إلى الله تعالى بالقدوة في إعطاء المثل علماً وعملاً، إيماناً ودعوة، قولاً وسلوكاً، مصداقاً لقول الله عز وجل: >> $ّمّنً أّحًسّنٍ قّوًلاْ مٌَمَّن دّعّا إلّى اللَّهٌ $ّعّمٌلّ صّالٌحْا $ّقّالّ إنَّنٌي مٌنّ الًمٍسًلٌمٌينّ =>33<= << (فصلت).
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: "أي هو في نفسه مهتد بما يقوله فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعد، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه، بل إنه يدعو إلى الخير، ويترك الشر، ويدعو الخلق إلى الخالق تعالى، وهذه عامة في كل من دعا إلى ذلك وهو في نفسه مهتد"(1).
ويقول سيد قطب في تفسيره لهذه الآية: "إن كلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تُقال في الأرض، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الكلمة، ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات فتصبح الدعوة خالصة لله ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ"(2).
والدعوة إلى الله بالقدوة الحسنة تصلح النيات، وتوفر الأوقات، وتختزل الطاقات، وتمكّن الداعية من أداء أدوار عدة متكاملة من أهمها: "تطبيق الإسلام خُلقاً ومعاملة وعفة لجذب الناس إليه بالأمثلة الحية، من هنا يأتي النصر المبين والفتح والتمكين إن شاء الله"(3).
وتتمثل الدعوة إلى الله تعالى بالقدوة الحسنة في الكلام، والسلوك، والقول، والعمل والحال والمقال، والتطابق والتكامل في كل ذلك.
وفي حال التناقض السلوكي يحل غضب الله ومقته، قال تعالى: >> يّا أّيٍَهّا الَّذٌينّ آمّنٍوا لٌمّ تّقٍولٍونّ مّا لا تّفًعّلٍونّ (2) كّبٍرّ مّقًتْا عٌندّ اللَّهٌ أّن تّقٍولٍوا مّا لا تّفًعّلٍونّ (3) << (الصف).
وقد وصف القرآن الكريم سلوك علماء بني إسرائيل الشاذ بقوله: >> أّّتّأًمٍرٍونّ النَّاسّ بٌالًبٌرٌَ $ّتّنسّوًنّ أّّنفٍسّكٍمً $ّأّّنتٍمً تّتًلٍونّ الًكٌتّابّ أّّفّلا تّعًقٌلٍونّ =>44<= << (البقرة).
إن من واجب الدعاة إلى الله في العصر الحاضر القيام بالدعوة الإسلامية عن طريق القدوة الحسنة لأنها السبيل الوحيد لهداية الناس، وإصلاح أحوالهم الدينية والدنيوية، ولن يتحقق ذلك إلا بالعلم النافع، والعمل الصالح، والصبر على الدعوة، وعلى أذى الناس.=>
عمر الرماش
(1) تفسير ابن كثير، ج4، ص 100 .
(2) في ظلال القرآن الكريم، سيد قطب، ج5، ص 3121.
(3) عبدالرحمن الميداني: بصائر للمسلم المعاصر، ص 23.(/1)
الدعوة إلى الإيمان
محمد إسماعيل السيد أحمد
قال - تعالى - وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ {106} أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ {107} قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {108} (يوسف/106-108)
معاني المفردات:
وما يؤمن أكثرهم بالله: في إقرارهم بوجوده وخالقيته.
إلاّ وهم مشركون: بعبادة غيره أو باتخاذ الأحبار أربابا ونسبة التبني إليه - سبحانه وتعالى - عما يقولون. وقيل الآية في مشركي مكة. وقيل في المنافقين. وقيل في أهل الكتاب.
أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب أليم: عقوبة تغشاهم وتشملهم.
أو تأتيهم الساعة بغتة: فجأة من غير سابقة علامة.
وهم لا يشعرون: بإتيانها غير مستعدين لها.
قل هذه سبيلي: يعني الدعوة إلى التوحيد والإعداد للمعاد، ولذلك فسر السبيل بقوله:
أدعو إلى الله: وقيل هو حال من الياء.
على بصيرة: بيان وحجة واضحة غير عمياء. (أنا) تأكيد للضمير المستتر في:
أدعو: أو (على بصيرة) لأنه حال منه أو مبتدأ خبره على بصيرة
ومن اتبعني: عطف عليه.
وما أنا من المشركين: وأنزهه تنزيها من الشركاء.
شرح الآيات:
لقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - حريصا على إيمان قومه، رغبة في إيصال الخير الذي جاء به إليهم ورحمة لهم مما كان ينتظر المشركين من نكد الدنيا وعذاب الآخرة، ولكن الله العليم بقلوب البشر الخبير بطبائعهم وأحوالهم، يُنهي إليه - صلى الله عليه وسلم - أن حرصه على إيمانهم لن يسوق الكثرة المشركة إلى الإيمان.
وحتى الذين يؤمنون، كثير منهم يتدسس الشرك - في صورة من صوره إلى قلوبهم. فالإيمان الخالص يحتاج على يقظة دائمة تنفي عن القلب، أولا بأول، كل خلجة شيطانية وكل اعتبار من اعتبارات هذه الأرض، في كل حركة وكل تصرف لتكون كلها لله خالصة له دون سواه ((وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون))!! مشركون بالله في أحد أنواع الشرك: قيمة أو سببا أو خضوعا لقوة غير قوة الله أو رجاء يتعلق بغير الله، او في جهاد لتحقيق نفع أو دفع ضرر، ولكن لغير الله، قال - عليه الصلاة والسلام -:
"الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل. " رواه أبو يعلى الموصلي بإسناده. وقال: " من حلف بغير الله فقد أشرك. " رواه الترمذي بإسناد صحيح عن ابن عمر. وقال أيضا: " إن الرقى والتمائم شرك. " أخرجه أحمد وأبو داود عن ابن مسعود. وقال أيضا: " إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد: من كان أشرك في عملٍ عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك. " أخرجه أحمد عن أبي سعيد عن أبي فضالة. وجاء في الحديث "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: " الرياء، يقول الله - تعالى -يوم القيامة: إذا جاء الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء؟ "
فهذا هو الشرك الخفي الذي يحتاج إلى اليقظة الدائمة للتحرز منه ليخلص الإيمان.
وإذا كانت هذه آيات القرآن الذي يحمل دليل الرسالة وكانت الآيات التي يحفل بها الكون معروضة للأنظار، يمرون عليها وهم عنها معرضون، ويشركون بالله شركا ظاهرا أو خفيا، وهم الأكثرون، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ماض في طريقه هو ومن اهتدى بهديه لا ينحرفون ولا يتأثرون بالمنحرفين:
((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين))
أي هذه سبيلي التي أدعو إليها، سبيل واحدة مستقيمة لا عوج فيها ولا شك ولا شبهة:
((أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني)) فنحن على هدى من الله ونور، نعرف طريقنا جيدا ونسير فيها على بصيرة وإدراك ومعرفة، فهو اليقين البصير المستنير، ننزه الله عما لا يليق بألوهيته، وننفصل وننعزل ونتميز عن الذين يشركون به:
((وما أنا من المشركين)).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
http://www.motamani.com المصدر:(/1)
الدعوة إلى الله توجيهات وضوابط
حمل أمانة تبليغ الرسالة، وتوضيح الحق للناس من لوازم الانتماء إلى خير أمة، فما مقاصد هذه الرسالة؟ وما أهمية هذه الدعوة وما ثمراتها، وما ركائزها؟ وما صفات الداعية المربي؟ وما العوائق والشبهات التي تعترض طريق الدعوة وكيف يتغلب عليها الداعية؟ هذا بعض ما سنعرفه في هذا الدرس .
حمل الأمانة :لابد من تحمل الأمانة وتبليغ الرسالة، لابد من البعد عن السلبية التي يعيشها المسلمون، لابد أن نوضح الحق للناس ونحمل الرسالة؛ وبحمل هذه الرسالة نتشرف بالانتماء إلى خير أمة كما قال تعالى:} كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...[110]{ [سورة آل عمران].فإذا لم نأمر بالمعروف وننه عن المنكر فلا يكون لنا مثل هذا الشرف.
وبحمل هذه الرسالة نُعذر أمام الله إذا نحن أخلصنا النية، إن الله سبحانه ذكر في إحدى الآيات أن الناس على ثلاثة أقسام: صالح، ومصلح، وفاسد، فيقرر بأن الإعذار يوم القيامة يكون بدعوة الفاسدين وبالإنكار عليهم، وبأمرهم بالمعروف؛ يقول تعالى:} قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ[164]{ [سورة الأعراف].
فالدعوة إلى الله ذات مقصدين :
·الأول: عذر الداعي أمام الله يوم القيامة .
·الثاني: عودة الناس إلى ربهم، وأن ينيبوا إليه ويبلغوا رسالته .
أهمية حمل الدعوة :
? وبحمل هذه الرسالة ننجو في الحياة الدنيا ويصلح مجتمعنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيّن في أحد الأحاديث التي رواها البخاري أن الناس على قسمين: منهم صالح، ومنهم فاسد وهم كقوم تقاسموا سفينة فكان بعضهم في أعلى السفينة، وبعضهم في أسفل، فالذين في أسفل السفينة أرادوا أن يأخذوا من ماء البحر خرجوا على سطحها وغرفوا من ماء البحر، فظنوا بظنهم البشري المحدود أنهم يفعلون خيرًا إذا هم خرقوا في السفينة خرقًا في أسفلها ليحصلوا على الماء مباشرةً حتى لا يؤذوا الذين من فوقهم، فإن تركهم الذين في أعلى السفينة فإن السفينة تغرق، وإن أنكروا عليهم وأخذوا على أيديهم فإن السفينة تنجو؛ وذلك مثل الأخذ على يد الظالم والفاسق .
يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا] رواه البخاري .
هذا الحديث يوضح بأن حمل هذه الأمانة، وتبليغ هذه الرسالة، وأمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر فيه صلاح المجتمع الذي هو مثل السفينة في هذا الحديث، وبحمل هذه الرسالة نبلّغ ما نزل إلينا من ربنا، ونحقق البلاغ المطلوب الذي أُمرنا به، يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:} يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ...[67] {[سورة المائدة].
? وبحمل هذه الرسالة نكون من أنصار الله الذين يقبلون عليه وعلى وحيه ولا يتولون عنه: فينطبق عليهم قوله تعالى:}... وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[38]{ [سورة المائدة].
? وبحمل هذه الرسالة نحقق صفة الطموح العالي الذي يمتدحه الله في المؤمنين: حيث يصفهم بأنهم يقولون:} وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا[74] {[سورة الفرقان]. إنهم يقولون: اجعلنا قدوات للأتقياء من المؤمنين.. هذا الطموح العالي .. لا نريد أن نكون قدوة للفاسدين فحسب، ولا للصالحين فحسب، إنما قدوة للأتقياء من المؤمنين .
?وبحمل هذه الرسالة نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يحمل همّ هذا الدين وهمّ إيصاله إلى الآخرين طوال وقته: فالدين كان يسري في مشاعره ودمه وفي حياته كلها، كان صلى الله عليه وسلم يهتم كثيرًا إذا لم يستجب الناس للدعوة، حتى وصل الأمر إلى أن يطمئنه الله، ويقول له:} فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا[6]{ [سورة الكهف]. أي: فلعلك مهلك نفسك من الأسف عليهم إن لم يستجيبوا لك .(/1)
عظيم الأجر: الداعي إلى الله يحصل على أجر عظيم، يجد نتيجته في الآخرة، يقول صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا] رواه مسلم. إنه أجر عظيم عندما نتفكر فيه.. إنك إذا دللت إنسانًا على خير فإنك تحصّل مثل أجره؛ دللته على الصلاة فصلى، أو نصحته بالصيام فصام، أو نصحته بالزكاة فزكى، أو نصحته بقراءة القرآن، وبالذكر والدعاة ففعل؛ فلك مثل أجر ما يفعله، ولو كنا نتذكر هذا الأجر دائمًا؛ ما فرطنا فيه لحظة واحدة .وأما في الحياة الدنيا فهناك نتائج كثيرة لمن يحمل هذا الدين .
من فوائد الدعوة:
الطمأنينة القلبية للداعي إلى الله: لأنه يؤدي بعض الواجب على الأقل، فالذي لا يؤدي هذا الواجب تجده يلوم نفسه، وغير مطمئن البال؛ لأن الموقف السلبي محزن ومؤثر جدًا، وذلك مثل أثر التعطّل عن العمل الدنيوي يأتي بالأمراض النفسية لأولئك المتعطلين، والدراسات الحديثة في الطب النفسي تؤيد ذلك؛ فالعاطلون عن العمل وإن كانوا يحصلون على الدخل المادي نفسه مثلهم في ذلك مثل أولئك الذي يعملون؛ إلا أنهم يعانون من أمراض نفسية كثرة غير ما يعانيه الذين يعملون؛ فالذي يعمل يؤدي واجبه، ويحقق غاية في نفسه ورغبة فطرية في ذاته .
الداعي إلى الله يتعلم من المدعوين: حيث يسألونه ويجيب، يجيب عما يعلم ويبحث عما لا يعلم؛ والمثال واضح على ذلك: فالعالم الداعي إلى الله يزداد علمه؛ بينما القاعد في زاوية من زوايا بيته لا يفتح صدره لطلبة العلم ولا للناس؛ يضعف علمه وينسى كثيرًا. فالعالم الداعي تجده عندما يقبل رمضان؛ يدرس أحكام رمضان بالتفصيل، وعندما يأتي الحج؛ يدرس أحكام الحج بالتفصيل، وعندما وبذلك يزداد علمه يومًا بعد يوم .
الداعي إلى الله يتمثل صفات المدعوين التي تنقصه : وليس من الضروري أن يكون الداعي إلى الله أفضل من المدعوين في كل صغيرة وكبيرة؛ ولكن يجب أن يتمثل الداعي ما يدعو إليه لكي يكون ذلك أعون على إجابة دعوته، والاقتناع بما يدعو إليه من قبل المدعوين.
الدعوة إلى الله تحرك الإيمان وتزيده، وتزيد الإنسان هدى إلى هداه: انظروا إلى قوله تعالى:}وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ[17]{ [سورة محمد]. و قوله تعالى:}إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى[13]{ [سورة الكهف].
الدعوة إلى الله تجعلك تحت المجهر البشري: فتُلاحظ في كل تصرفاتك كبيرها وصغيرها، فينظر إليك النقاد والحساد ويقدمون لك النقد والتجريح، ويتقدم إليك الأحباب والأصحاب بالنصح والتوجيه، فاقبل النصح ، واستمع إلى النقد والتجريح، وتعلم مما تسمع ولا تهمله .
الداعي إلى الله عندما يتعامل مع الناس فإنه يتربى على صفات جديدة لا يمكن أن يتربى عليها أو يكتسبها بمفرده: فمثلاً ضبط النفس لا يكون إلا مع التعامل مع الآخرين، وكذلك الحميّة، والأخوة، وقبول النصح، والاهتمام بالغير، وغير ذلك .. كل هذه الصفات لا يتعلمها الإنسان وحده، وإنما لابد أن يتعامل مع الناس ويعلمهم؛ فيتربى من خلال التعامل معهم .
والدراسات الحديثة في الطب النفسي تنحو إلى علاج بعض الناس بالعلاج الجماعي، والمسلمون بالدعوة إلى الله والتعامل مع الناس يمارسون سببًا مهمًا في الوقاية من الأمراض النفسية التي يعاني منها أولئك المنعزلون .. تلك بعض الفوائد التي يستفيد منها الداعي إلى الله من خلال تعامله مع الناس .
ركيزتان : للدعوة إلى الله أسلوب ذي ملامح، أذكر منه ركيزتين مهمتين له، وهما:
الركيزة الأولى : الدفع بالتي هي أحسن: لأنك إذا دفعت الذي أساء إليك بالتي هي أحسن فإنه ينقلب إلى صديق عزيز، ولو كان من أعدى أعدائك، يقول تعالى:} وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ[34]وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[35]{ [سورة فصلت].
الركيزة الثانية: هي اختيار الزمان والمكان المناسب .. واختيار الأسلوب المناسب: ومما يوضح ذلك:
? قول عبد الله بن عباس رضي عنهما ينصح آخر:' لَا أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِي الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ فَتُمِلُّهُمْ وَلَكِنْ أَنْصِتْ فَإِذَا أَمَرُوكَ فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ 'رواه البخاري .(/2)
وعلى الداعية أن يختار الوقت المناسب لإعطاء كلمته عندما يصغي إليه الناس ويستمعون، فَعَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ قَالَ:' أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا' رواه البخاري.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتخير فرصًا معينة ليعظ؛ فما كان الرسول يعظ طوال وقته وهو أعظم واعظ، وأكبر مؤثر، وأفضل داعية، والصحابة أفضل المستمعين، لقد كان الناس يحبون أن يستمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل يوم ومع ذلك كان يتخولهم بالموعظة مخافة السآمة عليهم .
..
من صفات الداعية المربي: الداعية المربي: هو الذي يتفاعل مع الناس عن قرب ومن خلال منهج وبرنامج مرتب، وهناك صفات يجب أن تتوفر في الداعية المربي، ومنها:
أن يكون هناك فارق وتميز بين المتلقي والمربي يحسه المتلقي .
أن يكون عند المربي ما يعطي: وبعض الناس يريد أن يربي وليس عنده علم، ولا تجارب، والشاب الذي يريد أن يسير في طريق الدعوة على هذا الدين ويوجه ويربي غيره، لابد أن يكون له حصيلة من العلم، ويسعى دائمًا لتنمية ذاته وزيادة حصيلته، ولا يقنع بالحد الأدنى .
أن يكون حسن الإعطاء للناس: فيكون رفيقًا في طريقة العرض، دقيقًا في اختيار الزمان والمكان.
أن تكون عنده صفة الاهتمام بالآخرين: ولديه القدرة على القيام بذلك، وأن يكون حسن الإعطاء متابعًا راعيًا لمن يعطيهم، يستحدث أساليب ويبتكر طرائق، ويصبر على المتابعة ويقترب إليهم، فيسألهم عن أحوالهم، ويتعرف على أسماء من يدعوهم، ويوثق معهم الصلات . فالمربي لابد أن يكون لديه المقدرة على أن يستوعب الناس ليعطيهم .
أن يكون قادرًا على المتابعة والتوجيه المستمر: فهناك أناس عندهم كل هذه الصفات لكنهم يتحمسون ثم يفترون، يقدم أحدهم درسًا ثم يتوقف، يقدم محاضرة ثم يتوقف، يعمل حلقة فيتوقف، يتحمس قليلاً ثم يقف، فليس عنده استمرار، ولابد أن يكون الداعية قادرًا على متابعة الأمور، والتوجيه المستمر المتتابع .
أن يكون قادرًا على القيادة التي تقدر على فرض الطاعة: ليس بالقوة على طريقة:'أنا أميرك؛ فاسمع'. ولكن الطاعة التي تنبع من الذات؛ لأنه يحس فعلاً أن المربي إنسان يهتم به ويحرص عليه .
وهذه الصفات صفات لشخصية معينة قد لا تكون إلا في قلائل، والذي لا تكون عنده ينبغي أن يسعى لأن يتربى عليها في المستقبل.
شبهات على طريق الدعوة : المطلوب منا جميعًا أن نحمل هذا الدين بالصورة التي تناسب أوضاعنا، كلٌ حسب مواهبه والقدرات التي عنده. وتعترض شبهات ومداخل للشيطان، تعترض أشياء من مداخل الشيطان والشبهات التي تدخل على الشباب فيحجموا عن الدعوة وحمل هذا الدين:
الشبهة الأولى : هي التسويف والتأجيل: فبعض الشباب يقول: عندما أتزوج، وبعضهم يقول: عندما أتخرج، وبعضهم يقول: عندما أنتهي من تجارتي .. وهكذا يضع له عقبة يريد أن يتجاوزها .
فإذا تخرج قال: عندما أكمل الدراسات العليا، وإذا انتهى من الدراسات العليا قال: عندما أعمل في وظيفتي وأستقر وأتزوج، وعند تزوجه يقول: عندما يكبر أولادنا ونربيهم وهذا أهم، وبعد ذلك يقول: البركة في أولادنا..وهكذا يستمر التأجيل حتى الموت .
وتجد هذه الحالة موجودة عند كثير من الناس، فتجد من يقول: يا أخي البركة في الشباب. فتقول : وأنت لماذا لا تحمل هذا الدين؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم حمله وهو في الأربعين، بل وأخذ عمر يدعو إلى أن توفي وهو في الستين .
إن هؤلاء الناس أصحاب الشخصيات الانهزامية ضعفاء يسوّغون واقعهم بهذا التسويف والتأجيل .(/3)
ومن باب التأجيل الذي يظن بعض الناس أنه شرعي قول من يقول: عندما أتعلم وأطلب العلم الشرعي هنا أبدأ أدعو الناس. وهذا الكلام فيه شيء من الصواب، ولكن الذي يظهر من كلام هذا الإنسان أنه يقول: إن الإنسان لا يمكن أن يدعو إلا إذا حصل على مقدار معين من العلم، وهذا ليس مطلوبًا من الناس جميعًا؛ فالناس مطلوب منهم أن يبلغوا هذا الدين بما لديهم، ويسعوا إلى تحصيل ما ليس لديهم، ولا يكون ذلك مسوغًا لمجرد التسويف، فإن تحصيل العلم أمره نسبي، فإن الذي تخرج من كلية الشريعة ـ مثلاً ـ قد يرى نفسه غير متمكن من العلم حتى إن صاحب الدكتوراه، قد يعتبر نفسه غير متمكن، هذا الشعور الذي ينتاب بعض الناس يجب ألا يكون، والمطلوب أن أقدم ما عندي وليس المطلوب إعطاء الفتاوى وأن أتصدّر المجالس، بل إن هذا أمر محظور، فليس المطلوب أن يجيب الداعية على كل سؤال، وأن يفتي في كل مسألة، بل لا غضاضة عليه من أن يحوّل من يسأله إلى أهل العلم والفتوى؛ فالدعوة يستطيع أن يقوم بها كل مسلم على أي مستوى من العلم، يقول صلى الله عليه وسلم: [بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً...]رواه البخاري . ولكن للفتوى أهلها .
الشبهة الثانية : أن يسوّغ الإنسان لنفسه خلوده إلى الراحة وكسله عن واجب الدعوة، بأنه أفضل من غيره: فهو يؤدي الفرائض ويطالع في كتب العلم، ويحضر مجالس الذكر، يجتنب المنكرات، ويعمل الصالحات؛ إنه أفضل من غيره، وليس من ضرورة أن ينصح فهناك من ينصح؛ ويعظ.
وهذا قد نظر في أمر الدين إلى من هو دونه، وكان عليه أن ينظر إلى الدعاة العاملين الذين يجوبون الأرض، ويبذلون وقتهم في دعوة الناس يحرصون على نقل هذا الدين وينشرونه في الآفاق .
إننا يجب أن ننظر إلى الذي يبذل فعلاً ليل نهار وهمه نقل هذه الدعوة وهذا الدين، لماذا لا نقتدي بهؤلاء في بذلهم؟ انظروا إلى أعداء الله، انظروا إلى أصحاب الأفكار الهدامة يتحملون السجون، ويتحملون المصاعب، ويتحملون التشريد لأجل فكرة سيطرت على أذهانهم! فأين المسلمون الذي يحملون هذا الدين؟ أين من يحمل هذا الهمّ حقيقة وينشره بين الناس .
الشبهة الثالثة : قول بعض الناس: أنا لا أصلح لدعوة الآخرين؛ لأن فيّ عيوبًا، أو لأن شخصيتي غير مؤثرة في الناس: وهذه قناعة عند بعض الناس قد تكون ناتجة عن ضعف في نفسه، فمن منا ليس فيه عيوب؟! فإذا كان منك عيوب فسارع إلى إصلاحها، ولكن لا تتوقف عن نقل الدعوة للآخرين .
• ثم هناك نقطة أخرى: إن الدعوة تأخذ صورًا شتى؛ ولو فرضنا أن شخصيتك غير مؤثرة؛ فإن هناك أساليب للدعوة لا تتوقف على الشخصية، قد تكون لديك القدرة أن تدل الناس على مكان الدعوة، فمن الممكن أن يشتري الإنسان كتبًا ويهديها إلى الناس؛ وقد لا تكون لديك القدرة على نقل المعلومة أو شرحها، ولكن يمكنك أن تدل على الكتاب الذي يتضمنها، وتكون بذلك قد دعوت غيرك؛ فهناك أساليب وصور مختلفة للدعوة تستطيع أن تدعو بأي صورة من الصور وبما يناسب .
فالمطلوب منا أن نكون أناسًا نسعى لنشر هذا الدين ولو لم نكن في الصدارة، بل قد تكون الصدارة مضرة، وقد تؤثر على النية في بعض الأحيان، قد تؤثر على النفس وتصيبها بالغرور، وقد تؤثر على كل شيء في الإنسان؛ فلا تظن أن الصدارة شرف في كل الأحوال، وإنما هي تكليف عظيم جدًا صعب على الإنسان أن يتحمله !
الشبهة الرابعة :هرب المرء من الدعوة: لأنه يظن أن الدعوة ستجر عليه المشاكل، وتسبب له ما لا يمكن أن يتحمله من سجن وتشريد وغيره. إن سنة الله أن يبتلى المرء، وقد يكون الابتلاء بسب الدعوة إلى الله، أو بسبب أمور شخصية، وإن الصبر هو الواجب على كل حال، يقول سبحانه: { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا[39] } [سورة الأحزاب] .
الشبهة الخامسة: من الناس من يتعلل بالآية: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ...[105] } [سورة المائدة]. فيقول:علي نفسي ويدع الدعوة والإصلاح . ولقد لاحظ أبو بكر رضي الله عنه أن أناسًا يفهمون هذه الآية خطأ، فقام خطيبًا، فقال: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ...[105] } [سورة المائدة]. وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:[ إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ] رواه الترمذي وابن ماجة وأبو داود وأحمد وبأسانيد صحيحة .
فإذاً: هذا الفهم خاطئ؛ وكل ذلك من مداخل الشيطان التي يدخل بها على أناس فيصرفهم عن الدعوة إلى الله .
احذر أخي الداعية :(/4)
احذر من الشوائب التي تشوب النية من رياء وسمعة: فلابد من الإخلاص؛ وهذا الأمر من أصعب الأمور على النفس، ولا يمكن لأحد أن يقطع أن نيته خالصة كاملة؛ فهو يحتاج أن يراجع النفس دائمًا؛ وللشيطان مداخل عليه سواء قبل أن يعمل، أو أثناء العمل، أو بعده؛ ولذلك لابد أن نتربى جميعًا على أن الهدف هو رضا الله والجنة، وأن نحمل هذا الدين، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على أن يكون الهدف هو رضا الله والجنة: { اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ...[111] } [سورة التوبة]. وكانت التربية على الوعد بالجنة لا الوعد بالتمكين والنصر؛ فما كان ذلك التمكين والنصر إلا في العهد المدني بعد أن تربوا.
لابد من البعد عن التعصب لقوم أو لوطن أو جماعة: فالأصل هو اتباع الحق بدليله، ولا يكون المرء مقلدًا لأناس معينين دون اتباع الحق .
احذر من النعرات القومية والإقليمية في الدعوة إلى الله: هذه النقاط الحمر التي وضعها الاستعمار على خارطة العالم الإسلامي ينبغي أن لا تؤصل؛ ومن باب أولى فإن على الدعاة أن لا يؤصلوها؛ فالدعوة الإسلامية عالمية لكل الأقوام من عرب وعجم، ومن بيض وسود، وبعض الناس يفهمها فهمًا نظريًا؛ ولكن عندما نأتي إلى التطبيق فإننا نجده يختلف عن الفهم النظري؛ فلنراجع أنفسنا في هذه النقطة ولننتبه لها .
لابد أن نبتعد عن الغرور والكبر: فالذي يسير في هذه الدعوة قد تكون له صدارة، وقد تكون له وجاهة، وقد يُدخل عليه منها؛ فيتكبر ويغتر بنفسه؛ فينظر إلى نفسه أنه أفضل من الآخرين .
والكبر كما عرّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ] رواه مسلم. فالمتكبر هو الذي يُعرض عن الحق إذا جاءه، ويحتقر الناس فينظر إليهم احتقارًا! والمفروض أن ننظر إلى الناس نظرة إشفاق لا نظرة احتقار، ولهذا الأمر علاج، وهو تقوى الله .
وعلينا أيضًا: أن نراجع النفس ونحاسبها دائمًا، ولا ننشغل بأخطاء الآخرين عن عيوبنا. وعلى الإنسان أن ينشغل بعيوبه قبل أخطاء الآخرين؛ فلا يكون دائمًا سباقًا في أن يقول: فلان يقول كذا، أو أولئك يعملون كذا؛ فلا ينظر إلى عيوبه ولا يصححها، ولا يروض النفس على تفهم أخطاء الآخرين، بل عليه أن يروّض النفس على أن الإنسان خطّاء، ويرجع إلى الحق إذا تبين، ثم يتذكر أن صحة العمل وحدها لا تكفي ولابد من خلوص النية .
احذر من النفسية المتشائمة: التي تنظر إلى الواقع، أو المستقبل نظرة تشاؤم سوداء؛ وهذه توجد عند بعض الناس، وتنبع من أسباب كثيرة؛ فبعض الناس يُخفق في دعوة إنسان فيعمم القضية، فيستبعد قبول الناس الحق، هذه النقطة لابد أن نبتعد عنها فقد تكون بسبب إخفاق بعض الدعاة .. يخطئون فيعممون القضية وينظر بعضهم إلى بعض بمنظار السوء دون أن يرجعوا إلى أخطائهم ويقوّموها .
لابد للداعية إن أخطأ أن يراجع نفسه دائمًا، وإذا أخفق في قضية، فعليه أن يراجع نفسه دائمًا حتى يصحح وضعه .
احذر من الفهم المغلوط لنصوص آخر الزمان: فإن بعض الناس قد يقف عند: [بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا] رواه مسلم . ولا ينظرون إلى صفة الذين سيعود بهم الإسلام وهم: [ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ] رواه الترمذي . إنهم ييأسون من الإصلاح بل يخذلون من أراد الإصلاح! بحجة أن هذا الزمن هو زمن الفتنة ولا حيلة في الإصلاح.
ومن أدراك أن الزمن الذي يتحدث عنه الحديث هو الزمن الذي نعيشه؟ ثم إن النص فيه حرصٌ على الإصلاح ومدحٌ للمصلحين، ولقد مر بالمسلمين عهد دخل الروافض إلى الحرم المكي، وقتلوا آلاف المسلمين في يوم واحد، قتلوهم مثل النعاج بالآلاف وهم في أيام الحج، وحملوا معهم الحجر الأسود وهم قائلون: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ وأخذوا الحجر الأسود ووضعوه في شرق الجزيرة لأكثر من ست عشرة سنة؛ إنهم القرامطة . أين نحن من هذا الذي حدث؟ ولقد احتل الصليبيون بيت المقدس سنوات طويلة، ومضت قرون والقدس بأيدي الصليبيين حتى أتى صلاح الدين فحررها. ومن قبل جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل .
بل إن الأيام تأتي بخير؛ فلينظر كل منا إلى تقارير الغربيين ولقد اطلعت على أحد تقاريرهم في بريطانيا حيث يوازنون وضع الطلبة المسلمين بما كانوا عليه قبل عشرين سنة، فقولون: الآن نرى الشباب المسلم يصلي في الكلية، ويعتز بأنه يصلي ولا يتأثر بأن الناس يرونه؛ بينما لم نكن نرى هذه الظاهرة قبل عشرين عامًا. هم يدركون أن هناك واقعًا آخر مختلفًا في رجعة المسلمين إلى دينهم.(/5)
وانظروا إلى المجلات والجرائد وغيرها من الأخبار التي تتكلم عن التطرف وغيره، فذلك كله يدل على أن هناك شيئًا، وأن هناك اتجاهًا إسلاميًا إنه تيار إسلامي كبير جدًا يحتاج من العلماء المسلمين التوجيه والإرشاد؛ فنحن الآن في رجعة، ونحن الآن في قوة وتقدم ولسنا في تآمر . وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم ممن يدعون إلى هذا الدين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
من رسالة:'الدعوة إلى الله توجيهات وضوابط' للدكتور/ عبد الله الخاطر(/6)
الدعوة إلى الله عز وجل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين.
إن من أعظم الأمور التي يعتصر لها القلب وتضطرب لها النفس، أن ترى الأمة التي كانت في الصدارة بين الأمم قد تراجعت عن ريادتها وقيادتها، وصارت في آخر الأمم، فإذا هي أمة ضعيفة مهزومة بعد أن كانت قوية منتصرة مرحومة، ترى أبناءها بعد التقدم والسير إلى الآخرة قعدوا وأخلدوا إلى الأرض وصدق فيهم الحديث :
عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)[رواه أبو داود وأحمد].
وبعد أن كانت تُنصر قبل خروجها من دارها، أصبحت تُغزى في قعر دارها كما صح عن: جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ)[رواه البخاري ومسلم].
ومن أعظم أسباب هذه المصائب والمحن انشغال أبنائها عن الدعوة إلى الله، فإنَّ الله جل وعلا ابتلى الناس فلم يخلقهم ليكون الهدى والخير غالبا دائما أو ليكون الشر والفُحش مهزوما دائما؛ بل المسألة اقتضت حكمة الله جل وعلا أن يكون فيها جذب تارة وتارة، وذلك لحكم عظيمة ومن أعظمها أن يبتلي الله جل وعلا الناس ليعلم الصادقين منهم والمجاهدين وليبلوا أخبارهم، قال جل وعلا {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الملك:2]، وقال جل وعلا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}[الفرقان:31] وقال جل وعلا {وَكَانَ فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ}[النمل:48]، وقال أيضا جل وعلا {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ}[القصص:4]، وهذا وأمثاله كثير في القرآن ليبين أنه جل وعلا أراد إرادة كونية أن يكون في الأرض شر وفساد وبعد عن الله جل وعلا، ليميز الله الخبيث من الطيب، وليأخذ العباد بأسباب الدعوة إلى الله جل وعلا ليحتاج الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد؛ جهاد النفس وجهاد الشبهات وجهاد الشهوات وجهاد أعداء الله باللسان والسنان.
فالأمة الآن تحتاج إلى مزيد من الدعوة وإلى مزيدٍ من نشر الخير لمن له قدرة على البيان وعلى نشر الخير والتعاون عليه.
فالدعوة إلى الله جل وعلا مأمور بها في القرآن ومأمور بها في السنة ليتحقق التدافع الذي جعله الله جل وعلا سمة للمكلفين، يدفع الخيرُ الشرَّ فتعظم الأجور ويظهر الصادق من غيره، وتعظم الحسنات وتُكَفَّر السيئات.
قال تعالى:{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }[البقرة:251]
الدعوة إلى الله جل وعلا جاءت في النصوص بهذا الاسم: الدعوة إلى الله، قال جل وعلا {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف:108]وقال جل وعلا في وصف نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام {وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}[الأحزاب:46]،
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)[رواه أبو داود]
والعلماء ورثوا الأنبياء في العلم وفي العمل، وإذا كان الأنبياء أمروا بالدعوة في كل حال لتبليغ رسالة الله جل وعلا فإن العلماء في مكانهم في نشر دين الله جل وعلا وتعليم الناس الخير، وقال جل وعلا في وصف عيسى عليه السلام {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}[مريم:31]، قال بعض أهل العلم {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا} أي جعلني معلما للناس الخير أينما كنت، وهذه هي حقيقة البركة التي يَعظم أثرها وتنتشر في الناس البركة زيادة الخير ونماؤه، وزيادة الخير ونماؤه لا يكون إلا بالدعوة إلى الله عز وجل والدلالة عليه وتعليم الإسلام وأركان الشريعة وبفتح أبواب الخير.(/1)
ولهذا نرى أنه في القرآن وفي سنة النبي صَلَّى الله عليه وسلم ذُكر هذا اللفظ (الدعوة إلى الله) ومعنى ذلك الدعوة إلى دين الله جل وعلا كاملا تاما، وطلب الناس أن يسيروا إلى الله جل وعلا بطاعة أمره واجتناب نهيه وتحقيق الإخلاص له جل وعلا، دعاهم إلى أن يفروا إلى الله جل وعلا {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}[الذاريات:50]، وهذا في الحقيقة تحقيق للغرض من النجاة من الابتلاء؛ لأن الناس ابتلوا بهذه الحياة، ومن ينجو في هذا الابتلاء؟ هو من يطيع الله جل وعلا ويطيع رسوله صَلَّى الله عليه وسلم، يطيعهم بتصديق الأخبار الغيبية وامتثال الأوامر الشرعية والانتهاء عن المناهي، فمن صدَّق بالخبر وأطاع الأمر وانتهى عن النهي فقد أجاب الله جل وعلا بدعوته، ومن خلط بين هذا وهذا فقد خلط، ومن دعا إلى تصديق الأخبار وهي العقيدة وبامتثال الأمر واجتناب النهي فقد دعا إلى الله جل وعلا.
فإذن حقيقة الدعوة إلى الله هي طلب الداعي أن يمتثل الناس ما أمر الله جل وعلا به، أو أن يصدقوا ويؤمنوا ما أخبر الله جل وعلا به، فهذه هي حقيقة الدعوة، ولهذا نرى أنَّ الدعوة تكون في جميع أمور الدين ليست الدعوة في باب دون باب، أي إلى الإسلام كافة، قال سبحانه {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}[يوسف:108], وقال {وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ}[الأحزاب:46]، وقال جل وعلا {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}[الرعد:7], وقال جل وعلا {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلىَ النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}[غافر:41]،
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: (لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا فَقَالَ أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقِيلَ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ قَالَ فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)[رواه البخاري ومسلم]
وهذا وغيره يدل على أن الدعوة إلى الله معناها الدعوة إلى عموم الدين، فحينئذ:
من دعا إلى العقيدة وإلى إخلاص الدين لله وإلى توحيد الله جل وعلا والبراءة من الشرك والبعد عن مظاهره وعن موبقاته فقد دعا إلى الله جل وعلا.
من رد الشبهات في التوحيد والعقيدة فقد دعا إلى الله جل وعلا.
من دعا إلى امتثال الفرائض والإتيان بها "الصلاة والزكاة والصيام والحج وبر الوالدين والصدق في الحديث وأداء الأمانة وإيفاء الوعد وصدق العهد ونحو ذلك" فقد دعا إلى الله جل وعلا.
ومن دعا إلى إصلاح الباطن بإصلاح السريرة والخوف من الجليل جل وعلا، وإصلاح أعمال القلوب بإقامة القلب على حب الله جل وعلا وحسن التوكل عليه والإنابة إليه والإقبال عليه والأنس به جل وعلا والهرب من غيره إليه فقد دعا إلى الله جل وعلا.
ومن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقد دعا.
ومن جاهد في سبيل الله فقد دعا.
وهذا يعني أن الدعوة إلى الله جل وعلا غير مختصة بباب دون باب.
فباب الدعوة إلى الله باب واسع كل مسلم قادر على أن يدخل منه.
عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ قُلْتُ فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ قَالَ أَعْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا قُلْتُ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ قَالَ تُعِينُ ضَايِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ قَالَ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ قَالَ تَدَعُ النَّاسَ مِنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ)[رواه البخاري ومسلم](/2)
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنْ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ)[رواه الترمذي]
فإذا تبين ذلك فإن الدعوة إلى الله جل وعلا بمعنى طلب انتشار دين الله وأن يؤمن الناس بالقرآن والسنة وبهذا الدين وأن يلتزموا بتلك الأوامر وأن يجتنبوا تلك النواهي، هذا واجب؛ لأن الله جل وعلا أمر به وما أمر الله جل وعلا به فالأصل فيه الوجوب، قال جل وعلا {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104]، وقال جل وعلا {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[التوبة:71]، قوله جل وعلا هنا {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} قال البغوي وغيره من أهل العلم: اللام هنا للأمر فمعنى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} يعني أن الله يأمر عباده أن يكون منهم أمة يدعون إلى الخير وأن يكون منهم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهذا يعني أن الوجوب وجوب كفائي على مجموع الأمة فإن قام به من يسدّ الحاجة امتثل الواجب وإلا فإنه يأثم من يقدر على الدعوة ولا يدعو.
هذا الوجوب الكفائي إذا نظرنا إليه مع كثرة فروع الدين بل مع كثرة ما يُطلب في دين الله جل وعلا أن يدعى إليه وجدنا أنه لا يمكن أن يقوم بالدعوة إلى الله جل وعلا على كمالها واحد في كل باب، أو عشرة في كل باب، أو مئة في كل باب، هذا غير متيسر إلا لمن كان إماما في الدين وتلك رتبة عظيمة لا يبلغها إلا الأفراد في القرون.
وإذا كان كذلك فإن أهل العلم يدور كلامهم على أن الدعوة إلى الله جل وعلا بحسب الاستطاعة، فمن كان عنده علم بتوحيد الله جل وعلا فنشره فإنه معلم للخير وداعٍ إلى الله جل وعلا، ومن كان عنده علم بالحديث فنشره فإنه معلم للخير وداعٍ إلى الله جل وعلا، ومن كان عنده علم بالفقه فنشره فإنه معلم للخير وداعٍ إلى الله جل وعلا، ومن كان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر فهو أيضا داع إلى الله جل وعلا، ومن كان يرقق القلوب لتقبل على الله جل وعلا فهو داع إلى الله جل وعلا، ومن كان يأخذ بالوسائل المفيدة ليستفيد غيره منها فإنه أيضا يدخل في سلك من يدعو إلى الله جل وعلا، ومن يدل على هؤلاء ويرشد إليهم فإنه أيضا يدخل في سلك من يدعو إلى الله جل وعلا.
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ)[رواه البخاري]
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ)[ رواه الترمذي]
يعني دعا النبي صَلَّى الله عليه وسلم لهذا الذي سمع ولم يفقه تمام الفقه لكنه بلغ كما سمع دعا له بأن ينضره ، ومعنى (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي) هذا معناه الدعاء له بأن يزين الله وجهه يوم القيامة وأن يبعث فيه النور في الدنيا، فإذا كان هذا الفضل فيمن سمع فأدى وهو ليس بعالم فيما سمع وفيما أدى، فكيف بفضل من وعى بعده تلك المقالة، فعمل بها وعلمها لاشك أن فضله عظيم.(/3)
وهذا يدلك على أن هذا الوجوب الكفائي للدعوة إلى الله جل وعلا لا يختص بفئة دون فئة -يعني من أهل العلم أو من عامة المسلمين-؛ بل هو مرتبط بمن علم لهذا في الحديث (سمع مقالتي فوعاها فبلغها) ومعنى (سمع فوعى) أنه يكون علم شيئا من دين الله فوعاه بدليله واتضح له بحجته فحينئذ إذا نقل ودعا إلى هذا الذي سمعه ووعاه فإنه حينئذ يحظى بهذا الفضل العظيم، وهذا مما ترى أنه لا يمكن خاصة في هذا الزمان للدعوة وانتشار للخير إلا بهذا التعاون، إذا كان واحد أو اثنان أو ثلاثة أو جماعة أو جماعات يقولون: سنعمل كل شيء فهذا لا يكون كما نرى حال بعض الطوائف أو الأفراد يحتكرون الدعوة في بلدهم وربما يصل الاحتكار إلى غيرها من البلاد وينفرون أو يعادون غيرهم من أهل العلم الفضل؛ حتى رأينا في بعض البلاد يوجد أحد طلبة العلم أو بعض المشايخ أو الدعاة؛ فإذا بأصحاب هذه الدعوات يحذرون منهم وينفرون عنهم رغم أن البديل قد يكون شابا ما زال في أول الطريق أو شخص لا يعرف إلا الولاء لهذا الفرد أو هذه الجماعات فيقع علي أيدي هؤلاء من الفتن والصد عن دين الله ما الله به عليم. بل الواجب التعاون على البر والتقوى، هذا إذا كان هؤلاء الأفراد أو هذه الجماعات على منهج أهل السنة والجماعة، فهذا يحاضر بما فتح الله عليه، وهذا يأمر بالمعروف، وهذا ينشر كتابا وهذا يؤلف، فلا يظلم بعضنا بعضا في ذلك؛ بل كل من بذل الخير ونشر دين الله جل وعلا أو أعان على ذلك فإنه يشكر عليه ونرجوا أن يكون داخلا في تحقيق هذه الخيرية وهذا الفضل العظيم.
فالواجب على العبد أن يتقدم ولا يتأخر ويمضي ولا يلتفت, ويطرق أبواب الخير فما فتح له من باب فليلزمه ويدعو الله بالثبات.
عن خالد بن معدان قال: إذا فَتَحَ أَحَدُكُم بابَ خيرِ؛ فليسرع إليه فإنه لا يدري متى يُغلق عنه.
و قال أيضا: العَيْنُ مَالٌ والنَّفْسُ مَالٌ, وخيرُ مَالِ العبدِ ما انتفع به وابتذله, وشر أموالك ما لا تراه, ولا يراك, وحسابه عليك ونفعه لغيرك.( 1)
ومما يُؤْثَرُ أن عبد الله العمري العابد, أنه كتب إلى مالكٍ يحضه على الانفراد والعمل, فكتب إليه مالك: إن الله قَسَّمَ الأَعْمَالَ كما قَسَّمَ الأرزاق, فَرُبَّ رَجُلٍ فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم, وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم, وآخر فتح له في الجهاد, فنشر العلم من أفضل أعمال البر, وقد رضيت بما فُتِحَ لي فيه, وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه, وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر.( 2)
وهذه الكلمة عظيمة ونابعة من علم غزير وراسخ، وذلك أنه لا يمكن أن يُطلب من كل أحد حتى من أهل العلم أن يفعل كل شيء، ومن طلب ذلك فإنه يطلب فوق المستطاع؛ ولكن المطلوب من هذه الأمة في تحقيق الواجب الكفائي أن تتعاون على الخير، وأن تبذل النصيحة، وأن ترشد، ومن أراد خيرا أن تعين عليه إذا كان على الصواب والسنة، وإذا كان على غير ذلك يرشد ويبين له حتى يستقيم وتكون دعوته خالصة صالحة.
ولهذا يجب على جميع طوائف أهل السنة ممن نهج النهج السليم وسار على طريق السلف الصحيح ألا يخلوا أنفسهم من الخير، وأن يوطنوا أنفسهم على أن يكون همهم خدمة دين الله جل وعلا، تحس به ليلا ونهارا وإذا وجدت مجالا فتبذله، قد تبذله بكلمة، وقد تبذله بالإرشاد إلى خير، قد تبذله بنشر كتاب، قد تبذله بإهداء شيء، المهم أن تفكر دائما في بذل الخير وفي انتشار الهدى؛ لأن هذا واجب علينا جميعا وليس لنا مناص منه؛ لأن الله جل وعلا أمر بذلك، ولهذا نجد أن في سير الأنبياء ما يحرك الهمة، كما في كتاب الله جل وعلا وفي سنة رسوله صَلَّى الله عليه وسلم ما يحرك الهمة للدعوة إلى الله جل وعلا. خُذ مثلا:
أول رسل الله جل وعلا نوح عليه السلام، في سورة نوح أكثرها في دعوته -في دعوة نوح- بلفظ الدعوة، وطريقة الدعوة، والبذل فيها، وكيف صبر، وكيف [...]، وكيف حضهم، وكيف رغبهم، إلى آخر ما اشتملت عليه تلك السورة العظيمة، قال جل وعلا مخبرا عن قول نوح {ربِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا(5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَاءِي إِلاَّ فِرَارًا(6)وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهْم لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا(7)} هل انقطع؟ قال {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا(8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا(9)فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10)يُرْسِلُ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح:5-11] إلى آخر الآيات، فهذا نوح عليه السلام أول الرسل وصفه الله جل وعلا بأنه دعا إليه، وأنه بذل الليل والنهار والجهار، وهذا يحرك الهمة لمن عنده رغب في أن يكون من الدعاة إلى الله جل وعلا؛ يعني أن الطريق ليست واحدة، وأن هذا للمرء فيه قدوة فيما يأتي وفيما يذر.(/4)
وآخر رسل الله جل وعلا محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي عليه الصلاة والسلام وصفه الله جل وعلا بأنه داعية {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}[يوسف:108] {وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}[الأحزاب:46]، دعا إلى أي شيء؟ دعا -وهو أعظم ما دعا إليه- إلى توحيد الله جل وعلا، وإلى البراءة من الأوثان والأصنام والشرك والمشركين، دعا إلى طاعة الله جل وعلا، إلى الإيمان بالقرآن إلى الإيمان بما فيها الكتاب العظيم، دعا إلى الفرائض، دعا إلى مكارم الأخلاق، دعا إلى الانتهاء عن ما حرمه الله جل وعلا، هذه الدعوة الشاملة هي طريقه وسبيله وسبيل من اتبعه إلى يوم القيامة.
ولاشك أن الداعي إلى الله جل وعلا والذي ينشر دين الله جل جلاله أنه في أعلا مراتب الفضل والفضيلة والأجر والثواب من الله جل وعلا، قال سبحانه {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ}[فصلت:33]، وهذه الآية من سورة فُصِّلت يبين فيها جل وعلا أنه لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى جل وعلا {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:114]، وهذا يدل على أن أجره بلا حد، عن الحسن البصري: أنه تلا هذه الآية: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فقال: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خِيَرَة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، هذا خليفة الله.[تفسير بن كثير]
، فإذا كانت الدعوة أحسن القول وأفضل القول فإن معنى ذلك أن الداعية -كما قال الحسن-: هو أحسن الناس كلاما وأحسن الناس عملا إذا صدق عمله قوله.
ومن فضل الدعوة إلى الله أن الدعوة إلى الله جل وعلا هي عمل الأنبياء والمرسلين عليهم السلام قال جل وعلا {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي}[يوسف:108]
فبيَّن أنه عليه السلام ومن اتبعه أنهم موصوفون بصفتين:
الصفة الأولى: أنهم يدعون إلى الله.
والصفة الثانية: أنهم على بصيرة.
فقال {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} وللعلماء هنا وجهان من الوقف:
منهم من يقول الأحسن أن تقف على {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} فتقرؤها هكذا {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} ثم تقول {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي}، وهذا معناها أن سبيله الدعوة إلى الله، وهو عليه السلام ومن اتبعه موصوفون بأنهم على بصيرة؛ يعني على علم نافذ صحيح لا شبهة فيه؛ لأن البصيرة للقلب كالبصر للعين يبصر به الأشياء.
الثاني أن تصل {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} يعني أنه موصوف بالدعوة هو ومن اتبعه بالدعوة وبالبصيرة.
وهذا الثاني أحسن في هذا المقام ليكون من اتبعه عليه السلام موصوفا بصفتين صفة الدعوة وبصفة البصيرة.
فالداعي إلى الله عز وجل عليه البلاغ والهداية إلى الله مصروفة وأن قلوب العباد بيد رب العباد يقيم من شاء ويخفض من شاء.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ)[رواه مسلم](/5)
والقلوب كالأرض منها الصالح لاستقبال الماء ومنها من لا ينتفع به، ومنها تنبت ثمرا حلوا ومنه المر الحنظل، كما قال تعالى في سورة الرعد {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الرعد:4] فهذه أرض واحدة، والماء واحد، والشكل واحد، لكن هذه أخرجت ثمرا حلوا وهذا مر أو حامض؛ وكذلك قلوب العباد، هذا يسمع الموعظة والدعوة فيلين قلبه لذكر الله جل وعلا ويعزم على الصلاح والتوبة والإنابة والمشي في سبيل الأخيار، وهذا يسمعها فيكون قلبه أصد عن دين الله جل وعلا من قبل ما سمع، يرى أنه استثقال ويرى أنه أبعد ما يكون عن هذا الكلام، القلوب التي اختلفت، الوحي واحد والأداة واحدة لكن القلوب اختلفت، ولهذا الأرواح اختلفت الأنفس اختلفت، ولهذا الداعي إلى الله جل وعلا والذي يُعَلِم الناس الخير مثَّله النبي صَلَّى الله عليه وسلم بالأرض الطيبة وهذا فضل عظيم للداعي إلى الله جل وعلا وإلى معلم الناس الخير.
الدعوة إلى الله والدعاة إلى الله مفلحون بنص الآية {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104]، والفلاح في الدنيا وفي الآخرة، والفلاح هو الفوز والنجاة.
فالدعوة إلى الله جل وعلا أيضا عنوان خيرية هذه الأمة قال جل وعلا {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران:110]، قال بعض أهل العلم: قدَّم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان لأن الإيمان بالله قاصر على من آمن، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مؤمن وإيمانه تعدى خيرا فنشر ما آمن به، ولذلك قُدِّم على سائر المؤمنين، وهكذا كان فضل العلماء أعلى من غيرهم لأنهم عَلِمُوا وعَلَمُوا {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة: 11]، أهل الإيمان مرفوعون لكن أهل العلم من أهل الإيمان رَفَعهم الله جل وعلا على غيرهم درجات، وهكذا يشترك أهل الإيمان في كثير من الأجور؛ لكن من دعا لأمر بالمعروف ونهي عن المنكر فإنه عنوان خيرية هذه الأمة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ}[آل عمران:110]،
من فضل الدعوة والدعاة أنّ الداعية إلى الله جل وعلا ومعلم الناس الخير يصلي عليه الله وملائكته ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف الماء،
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ)[رواه الترمذي]
وهذا كما قال عيسى عليه السلام {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ}[مريم:31]، يعني معلما للناس الخير أينما كنت، والداعية إلى الله يعلِّم الناس الخير ولكن فرق بين معلم ومعلم وما بين داع وداعٍ، ولهذا يعظم صلاة الله جل وعلا على العبد وهي الثناء عليه جل وعلا في الملإ الأعلى، صلاة الملائكة وأهل السماء والأرض في الدعاء له بالرحمة واستغفار الحيتان والنمل من الكائنات غير المكلفة يستغفرون للعبد ويلعنون الكافر ويلعنون المنافق ويلعنون من ينشر الشر كما في قوله في آية البقرة {وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ}[البقرة:159]،
ومن فضل الدعوة إلى الله أن الداعي إلى الهدى وإلى الخير له مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا)[رواه مسلم]
وللدعوة إلى الله آداب ، منها:
- الأدب الأول: الرفق بالخلق عند بيان الحق،
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ فَقُلْتُ بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ قُلْتُ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ)[رواه البخاري ومسلم](/6)
لكن قد يدعو داعي البيان للحق والنصرة له في تقوية الحق بكلام شديد، كما وقع من بعض الأئمة عند نصرهم للعقيدة الحقة ، لكن بقدر الاحتياج ، ويُقَدِّر ذلك العالم في وقته.
- الأدب الثاني: الصبر، وهو: حبس الإنسان نفسه على الثبات على الحق بياناً ونصرة، مع تحمّل الأذى، فإنه لابد أن يلقى الأهوال ويواجه الصعاب، وأن يؤذى بأنواع من الأذى. قال الله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[لقمان:17].
الأدب الثالث: الحكمة، والحكمة في أصلها: وضع الشيء في مواضعه. {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }[النحل125].
وعليه فينبغي أن يكون المرء حكيماً في نشر الحق، فيعرف ما الذي يخرجه في أوقاته، وما الذي يؤخره، وله أن يُقسِّط الحق على أوقات وعلى أماكن وعلى أحوال؛ حتى يوصل ما يريد.
- الأدب الرابع: المداراة للناس، بعيداً عن المداهنة، فإن المداراة من حيث الأصل هي: الدفع برفق، كما قاله الحافظ ابن حجر في (( فتح الباري ))، فيدفع المرء مضرةً ومشكلة بمداراة لأهلها، سواء أكان موقفاً أم كلمة أم عبارة أم غير ذلك.
واستعمال المداراة قد يجنب المرء أخطاراً وأضراراً، كبطش ذي سلطان أو صاحب شوكة. والأصل في المداراة: أنها سلوك حسن في الشرع، وعند العقلاء، وقد قامت عليه الدلائل،
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ أَوْ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ الَّذِي قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْكَلَامَ قَالَ أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ)[رواه البخاري ومسلم]
وكذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في مداراة قريش
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: (يَا عَائِشَةُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ)[رواه البخاري ومسلم]
وقال الحسن البصري: (كانوا يقولون: المداراة نصف العقل، وأنا أقول: هي العقل كلُّه).
فيجب على طالب العلم أن يهيئ نفسه للدعوة إلى الله عز وجل بطلب العلم النافع والتحلي بالصفات الحميدة ومتابعة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم فإن هذا شرف لا يعدله شرف وفضل لا يساويه فضل فتحل به يا طالب العلم ولا تترك الساحة لأصحاب الأهواء وأهل الجهل؛ ممن إفسادهم أعظم من إصلاحهم.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)[رواه البخاري والمسلم]
أسأل الله أن يصلح أحوالنا ويوفقنا إلى الخير، ويعيننا عليه فهو نعم المولى ونعم النصير.
________________________________________
( 1) سير أعلام النبلاء (4/540)
(2 ) سير أعلام النبلاء (8/114)(/7)
بِسمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
دعوة إلى تحقيق كتب التراث الإسلامي المطبوعة بدون تحقيق علمي
د.حسام الدين عفانه
جامعة القدس
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
وبعد …
[ هذا التراث الضخم الذي آل إلينا من أسلافنا صانعي الثقافة الإسلامية العربية جدير بأن نقف أمامه وقفة الإكبار والإجلال ثم نسمو برؤسنا في اعتزاز وشعور صادق بالفخر والغبطة والكبرياء .
إن هذه الصيحات التي يرددها دعاة الاستعمار الثقافي يبغون بها أن ننبذ هذا التراث ونطرحه وراءنا ظهرياً صيحة في واد . وكم لهم من محاولات يائسة يدورون بها ذات اليمين وذات الشمال كي يهدموا هذا الصرح . ولكن تلك المحاولات لم تجد لها صدى إلا عند من أمكنهم أن يضفوا على أنفسهم ظل الاستعباد الثقافي من ضعاف القلوب وأرقاء التفكير ... وهم فيما بين ذلك يحاولون أن يضعوا من ثقتنا في هذا التراث الضخم فلا يزالون يوجهون إليه المطاعن والمثالب ويهونون من شأنه تهويناً .
إن كل فكرة علمية جديرة بالاحترام ولكن الفكرة المغرضة التي يبعثها الشر أو المنفعة الذاتية الصرفة فكرة لا تستحق الاحترام بل يجب مناهضتها والقيام في وجهها . أرادوا كثيراً فسمعنا وقرأنا كثيراً ولكن ثقافتنا الإسلامية العربية ليست من الهون بحيث تحنى الرأس لأمثال هذا الضعف المتخاذل .
فالشكر الصادق لهؤلاء القوم الذين أيقظوا فينا ذلك الشعور بالعزة ووجهونا أن نفتح عيوننا على تلك الكنوز التني تتكشفت لنا ولا تزال تتكشف .
وما أجدرنا أن ننهض بعبء نشر ذلك التراث وتجليته ليكون ذلك وفاءً لعلمائنا ووفاء لأنفسنا وأبنائنا .
وقد ناديت في مقدمة إحدى منشوراتي أن تلتزم كلياتنا الجامعية ذات الطابع الثقافي الإسلامي تكليف طلبة الدراسات العالية أن يقوم كل منهم بتحقيق مخطوط يمت بصلة إلى موضوع الرسالة التي يتقدم بها فقلت :[ وإنه لما يثلج الصدر أن تتجه جامعاتنا المصرية اتجاهاً جديداً إزاء طلابها المتقدمين للإجازات العلمية الفائقة إذ توجههم إلى أن يقدموا مع رسالاتهم العلمية تحقيقاً لمخطوط يمت بصلة إلى موضوع الرسالة . وعسى أن يأتي اليوم الذي يكون فيه هذا الأمر ضريبة علمية لا بد منها ] .
وإني لمؤمن أن سيأتي ذلك اليوم فننعم بكثير من المتع الثقافية التي حالت بيننا وبينها هذه الحرب العلمية الظالمة ] من مقدمة عبد السلام هارون لكتابه تحقيق النصوص ونشرها ص5-6 .
ومن المعلوم أن ما خلفه علماؤنا المتقدمون من المخطوطات يعد بالملايين وما زال معظم هذه المخطوطات قابعاً في مراكز المخطوطات والمكتباب يحتاج لمن ينفض عنه الغبار ويبعث فيه الحياة من جديد فهذا التراث الضخم والذي بلغت عدته 262 مليون مجلد مخطوط كما أحصيت حتى سنة 1948 ويقال بعد ذلك أنها أحصيت بمئات الملايين . انظر منهج البحث العلمي د. ثريا ملحس ص246 .
وإن من أحسن ما يقدمه المرء لأمته أن يسهم في الإخراج إلى حيز الوجود - محققاً ومصفىً - ذخائر الماضي من تراث أمجادنا العلمي الذي كان من مظاهر عزها وأساساً لنهضتها وثمرة يانعة لحياتها وثقافتها ليتسنى الوقوف على أصالته وما برز به من نظريات وحلول لمختلف القضايا النازلة . مقدمة تحقيق مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول ص19 .
ولما كانت لديَّ رغبة أكيدة في خوض مجال تحقيق التراث الإسلامي العظيم وكانت لي ثلاث تجارب في ذلك وهي :
1. تحقيق الجزء الأول من كتاب بيان معاني البديع في أصول الفقه لمحمود بن عبد الرحمن الأصفهاني وكان ذلك في مرحلة الدكتوراة . ويقع في مجلدين كبيرين بلغت صفحاتهما 1250 صفحة .
2. تحقيق شرح الورقات في أصول الفقه لجلال الدين المحلي .
3. تحقيق رسالة بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود للعلامة محمد بن عبدالله الغزي التمرتاشي
كما وأنني تعاملت مع فهرسة المخطوطات ومصوراتها المحفوظة لدى مؤسسة إحياء التراث الإسلامي والبحوث الإسلامية في بيت المقدس حيث قمت بالإشتراك مع موظفين من المؤسسة بفهرسة مخطوطات المؤسسة المصورة وبلغت عدتها قريباً من أربعة آلاف مصورة . وقد سمي فهرس مخطوطات فلسطين المصورة .
وقد صدر الجزء الأول منه وهو خاص بالفقه وأصوله وجاء في مقدمته ما يلي :[ إن التراث الضخم الذي آل إلينا من علمائنا الأفذاذ لجدير بأن نقف أمامه وقفة إكبار وإجلال لتلك الجهود التي بذلها أولئك النوابغ من العلماء وإن من بعض الواجب علينا أن نعتز ونفتخر بهذا التراث العظيم وأن نعمل على إحيائه والمحافظة عليه وتيسير سبل الاستفادة منه خدمة للعلم وأهله ووفاء لأولئك العلماء الأعلام.(/1)
ومن هذا المنطلق قررت مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية في بيت المقدس نشر فهارس مخطوطاتها المصورة فعهدت إلى الأخوين د. حسام الدين عفانه الأستاذ المشارك في جامعة القدس والسيد محمد الصفدي الموظف في المؤسسة والأخت انتصار الصلاح الموظفة في المؤسسة للقيام بإعداد فهارس للمخطوطات المصورة من عدد من المكتبات الخاصة والعامة في فلسطين والمحفوظة لدى المؤسسة
وها نحن نقدم للباحثين والدارسين الجزء الأول من هذه الفهارس والتي من المتوقع أن تصدر في اثني عشر جزء يضم كل واحد منها 300 مخطوط ما عدى الجزء الأول فيضم 183 شملت ما يلي :
- أصول الفقه 70 مخطوطاً .
- الفقه المقارن 10 مخطوطات .
- الفقه المالكي 3 مخطوطات .
- الفقه الحنبلي 13 مخطوطة .
- القواعد الفقهية 9 مخطوطات .
- الفرائض ( المواريث ) 40 مخطوطة .
- متفرقات فقه 38 مخطوطة ] مقدمة الجزء الأول ص2.
لكل ما مضى فإني أشجع طلبة الدراسات العليا خاصة والباحثين عامة على خوض غمار هذا الفن
- تحقيق التراث - على وفق قواعده وأسسه التي وضعها كبار المحققين ...
كما وأني لأرجو من جامعتنا أن تتولى جانباً مهماً في هذا المجال فتقرر في مناهجها للدراسات العليا تدريس مساق حول تحقيق التراث الإسلامي وتوليه العناية الفائقة .
وقد بدأت بوادر ذلك تتحقق حيث قررت جامعة الخليل تدريس هذا الموضوع المهم ضمن مساق البحث العلمي لطلبة الماجستير في معهد القضاء العالي . وكذلك فعلت جامعة القدس حيث يدرس المساق لطلبة الماجستير تخصص دراسات إسلامية معاصرة وقد قمت بتدريس المساق في الجامعتين المذكورتين ولله الحمد والفضل .
هذا مع العلم أن تدريس تحقيق التراث قد سبقتنا إليه الجامعات العريقة في العالم العربي والإسلامي فقد ذكر المحقق الكبير عبد السلام هارون أنه قام بإلقاء محاضرات في هذا الفن على طلبة الماجستر بكلية دار العوم في الخمسينات من القرن الميلادي الماضي . انظر تحقيق النصوص ص 6-7 .
وكذلك فإن هذا الموضوع يدرس في عدد كبير من الجامعات العربية والإسلامية ولكن ثمرات ذلك ما زالت دون المستوى المطلوب في إخراج كنوز تراثنا الإسلامي العظيم .
يقول الدكتور حميش عبد الحق :[ تحتوي خزانة التراث الفقهي على كتب هامة من تراثنا الإسلامي الخالد الذي ألفه سلف هذه الأمة عبر القرون الماضية وهذه الكنوز ادخرت لهذه الأمة لتستفيد منها ولتعمل بما فيها .
لهذا اتجه العلماء وطلاب الدراسات العليا نحو تحقيق الكتب القديمة من أجل إحياء التراث الإسلامي النافع الذي يستفيد منه الناس وينفعهم في دينهم ودنياهم .
لكن هذا الاتجاه نحو تحقيق التراث نراه يسير سيراً بطيئاً فإن عدداً ضخماً من المخطوطات لا يزال غير منشور على أهميته وبعضه أصل في الفن الذي يتناوله .
لهذا صار لزاماً على المعنيين بهذا الأمر تشجيع تحقيق المخطوطات وتذييل الصعوبات التي يواجهها طلاب العلم الذين يقبلون بحماسة على العمل ولا يجدون ما يحققونه فيتولون وقلوبهم تفيض بالأسى حزناً ألا يجدوا ما يحققون ] مقدمة كتاب المعونة على مذهب عالم المدينة 1/7 .
إذا تقرر هذا فأود الحديث هنا عن بعض القضايا الهامة :
أولاً : تحقيق التراث فن قائم بذاته له أصوله وقواعده ويمكن تعريفه بأنه العلم الذي يبحث فيه عن قواعد نشر المخطوطات أو هو دراسة قواعد نشر المخطوطات . تحقيق التراث ص36 .
والغاية المرجوة من هذا الفن هي تقديم المخطوط صحيحاً كما وضعه مؤلفه دون شرحه . قواعد تحقيق المخطوطات ص82 .
وقد وضع في هذا العلم عدد كبير من المؤلفات والأبحاث ذكر أهمها د. عبد الهادي الفضلي فقال :
[ وفي النصف الأول من القرن العشرين الميلادي وفي العام الذي صدر فيه كتاب نقد النصوص الفرنسي المشار إليه سابقاً وبالتحديد في عام 31/1932 ألقى المستشرق الألماني د. برجستراسر محاضرات في أصول نقد النصوص ونشر الكتب على طلبة الماجستير بقسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة .
وكانت محاضراته المادة الأولى باللغة العربية لعلم تحقيق التراث والمنطلق الأول للمثقفين العرب للتعامل مع هذه المادة تأليفاً وتدريساً .
وتتابع التأليف والكتابة في هذا العلم وكالتالي :
1. في سنة 1944 نشر د. محمد مندور مقالين في قواعد نشر النصوص في العددين 277 و280 من مجلة الثقافة المصرية عند نقده لكتاب قوانين الدواوين لابن مماتي ت606 هـ والمنشور بتحقيق عزيز سوريال عطية سنة 1943 .
وفي السنة نفسها أعاد نشر المقالين ضمن كتابه في الميزان الجديد .
2. في سنة 1951 نشرت قواعد موجزة لنشر المخطوطات في مقدمة الجزء الأول من تاريخ مدينة دمشق وكانت تلكم القواعد قد وضعت من قبل لجنة ألفها المجمع العلمي العربي بدمشق لذلك .
3. في سنة 1953 تحدث د. إبراهيم بيومي مدكور عن بعض قواعد النشر في مقدمته لكتاب الشفا لابن سينا .
4. في سنة 1954 نشر الأستاذ عبد السلام هارون الطبعة الأولى من كتابه تحقيق النصوص ونشرها .(/2)
5. في سنة 1955 نشر د. صلاح الدين المنجد ما وضعه من قواعد تحقيق المخطوطات في الجزء الثاني من المجلد الأول من مجلة معهد المخطوطات العربية التي تصدر في القاهرة .
ثم أعاد نشرها في السنة نفسها بكتاب مستقل يحمل عنوان قواعد تحقيق المخطوطات .
6. ومنذ سنة 64/1965 أملى أستاذنا د. مصطفى جواد آراءه في أصول تحقيق النصوص على طلبة ماجستير اللغة العربية بجامعة بغداد حتى وفاته سنة 1969 رحمه الله تعالى .
وقد قام بنشرها زميلنا د. محمد علي الحسيني ضمن كتابه دراسات وتحقيقات المطبوع سنة 1974 .
7. في سنة 1969 قام د. محمد حمدي البكري بإعداد ونشر محاضرات المستشرق الألماني برجستراسر التي ألقاها على طلبة ماجستير اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة سنة 31/1932 بعنوان أصول نقد النصوص ونشر الكتب .
8. وفي سنة 1972 وضع د. شوقي ضيف كتابه البحث الأدبي عاقداً الفصل الثالث منه لتوثيق النصوص وتحقيقها .
9. في سنة 1975 نشر د. نوري حمودي القيسي ود. سامي مكي العاني مؤلفهما الموسوم بمنهج تحقيق النصوص ونشرها .
10 . في سنة 1977 نشر د. عبد الرحمن عميرة كتابه أضواء على البحث والمصادر عاقداً الباب الثالث منه لتحقيق المخطوطات .
11. في سنة 1979 نشر الأستاذ أحمد الجندي مقالاً في المجلة العربية السعودية بعنوان تحقيق التراث .
12. وفي سنة 1980 ألقى د. حسين نصار بحثاً بعنوان منهج تحقيق التراث العربي وقواعد نشره في الندوة الأولى عن التراث التي عقدت في القاهرة ] تحقيق التراث ص27-28 .
وأوسع كتاب تناول موضوع تحقيق المخطوطات فيما اطلعت عليه هو كتاب تحقيق التراث للدكتور
عبد الهادي الفضلي فقد احتوى زبدة مؤلفات وأبحاث الذين تقدموه وفصَّل الكلام في التحقيق فتحدث عن نشأة التحقيق وتطوره وعن تعريف التحقيق وشروطه وعن مقدمات التحقيق وخطواته ومكملاته .
ومن الفوائد المهمة لهذا الكتاب أنه ذكر لنا فهارس المطبوعات العربية فبلغت 65 فهرساً
وذكر قائمة بأسماء الدوريات العربية المعنية بشؤون المخطوطات فبلغت 73 دورية
وذكر الدوريات الأجنبية المعنية بشؤون المخطوطات فبلغت 30 دورية
وذكر الفهارس العامة للكتب التي تعنى بالمخطوطات فبلغت ثمانية فهارس
وذكر قائمة للمكتبات التي توجد فيها المخطوطات الإسلامية في مختلف أنحاء العالم فبلغت 219 مكتبة .
وذكر بياناً بأسماء بعض فهارس المخطوطات العربية في البلاد العربية وقد اشتمل على 101 فهرس . وذكر بياناً بأسماء بعض فهارس المخطوطات العربية في البلدان غير العربية فبلغت 78 فهرساً . انظر تحقيق التراث ص62-98 .
ثانياً : تحقيق كتب التراث المطبوعة بغير تحقيق
من المعروف أنه بعد أن انتشرت الطباعة في العالم الإسلامي أقبل كثير من أصحاب المطابع والناشرين على طباعة كتب التراث الإسلامي بمختلف علومها وفنونها فنشرت آلاف الكتب بل مئات الآلاف ولكن عدداً كبيراً من هذه الكتب طبع بدون أدنى تحقيق علمي وقليل منها لقي عناية من المصححين والمدققين والمحققين .
وهذا العدد الهائل من الكتب التي طبعت بدون تحقيق وجد فيه خلل كبير كنقص وسقط من كلام المؤلف ووجد عدد كبير من الأخطاء المطبعية وكذلك بعضها فيه تقديم وتأخير وبعضها فيه طمس لبعض الكلام وبعضها فيه تحريفات كثيرة وبعضها لم تضبط فيه الكلمات المشكلة ومعظمها يخلو من استعمال علامات الترقيم مما يؤدي إلى صعوبة في فهم مراد المؤلف حيث إن علامات الترقيم يتوقف الفهم عليها أحياناً وهي دائمأً تعين مواقع الفصل والوصل وتسهل فهم الإدراك عند سماع الكلام أو قراءته مكتوباً انظر كيف تكتب بحثاً أو رسالة ص108 .
وإن كثيراً من التعقيد وغموض المعاني في كتب التراث الإسلامي يعود إلى فقدان أمثال هذه العلامات حيث تتصل الجمل والعبارات بعضها ببعض وتتداخل تداخلاً تاماً بحيث لا يدرك الفواصل بينها ومقاطع الوقف فيها إلا ذو ممارسة ودربة طويلة . كتاب البحث العلمي ص123 .
ومعظمها لم تخدم أدنى خدمة علمية ولم تفهرس فهرسة صحيحة فإن بعض الكتب الكبيرة يجد الباحث عناءً كبيراً في الوصول إلى مسألة معينة بسبب عدم وجود فهرسة صحيحة للكتاب .
وحتى لا يظنن أحد أن كلامي هذا فيه مبالغات أسوق للقارئ عدداً من الشواهد من كلام جماعة من أهل العلم الذين حققوا كتباً سبق طبعها بدون تحقيق ثم حققت على وفق قواعد تحقيق المخطوطات لتبين للقارئ مدى حاجة الكتب المطبوعة بدون تحقيق إلى إعادة نشر وطبع وتحقيق علمي فمن ذلك :(/3)
1. قال د. محمد الزحيلي ود. نزيه حماد في مقدمة تحقيقهما لكتاب شرح الكواكب المنير للعلامة ابن النجار الحنبلي ما نصه :[ وهذا الكتاب الذي نذكره قد سبق إلى نشره لأول مرة الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله تعالى حيث قام بطبعه بمطبعة السنة المحمدية بالقاهرة سنة 1372هـ/1953م عن نسخة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية الأسبق رحمه الله تعالى . ولكن هذه النسخة كانت مخرومة خرماً كبيراً يبلغ ثلث الكتاب فطبعت على حالها ثم قدر للشيخ الفقي أن يطلع على نسخة مخطوطة أخرى للكتاب في المكتبة الأزهرية بالقاهرة فطبع القدر الناقص عنها وأكمل الكتاب فجزاه الله كل خير .
وبعد الاطلاع على الطبعة المذكورة ودراستها تبين لنا أنها مشحونة بالأخطاء والتصحيفات والخروم في أكثر من خمسة آلاف موضع مما يجعل الاستفادة منها وهي بهذه الحالة غير ممكنة .. لهذا كان لا بد من تحقيق الكتاب تحقيقاً علمياً على أصوله المخطوطة حيث إن تلك الطبعة لا تغني عن ذلك شيئاً ... وقد يظن بعض الناس أن في كلامنا هذا شيئاً من المبالغة ولكنهم لو قارنوا بين تلك الطبعة وبين طبعتنا أو نظروا في هوامش كتابنا حيث أشرنا فيها إلى فروق وخروم الطبعة الأولى لعلموا مبلغ الدقة في هذا الكلام .
ومن طريف ما يذكر أن الشيخ عبد الرحمن بن محمد الدوسري قد اطلع على طبعة الشيخ الفقي كما اطلع على نسخة مخطوطة للكتاب وقعت تحت يده في مكتبة خاصة بخط عبد الحي بن عبد الرحيم الحنبلي الكرمي نسخت سنة 1137هـ وكتب عليها أنها مقابلة على نسخة مصححة على خط المؤلف فقابل المطبوعة عليها فعثر على 2758 غلطة في المطبوعة . فطبع بياناً بهذه الأغلاط وتصويبها على الآلة الطابعة وقد راجعنا ذلك البيان وصورناه من مكتبة الشيخ عبد الله بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى جزاه الله خيراً . ثم أشرنا في هوامش طبعتنا إلى تلك التصويبات .
من أجل ذلك كانت الحاجة ملحة إلى تحقيق الكتاب ونشره بصورة علمية أمينة ] شرح الكوكب المنير 1/8-9 .
2. وقال د. محمد سليمان الأشقر في مقدمة تحقيقه لكتاب المستصفى من علم الأصول للإمام الغزالي ما نصه :[وتمتاز هذه النسخة بأنها تشتمل على فصل مكون من ثماني أوراق تقريباً كانت النسخة البولاقية خالية عنها وهذا الفصل ألحقه الغزالي بكتابهه ضمن أبواب الاجتهاد قال في أوله :[ هذا فصل به تمام كشف القناع عن غموض المسألة ألحقناه بعد الفراغ من تصنيف الكتاب وانتشار نسخه ] وهذا يفسر سبب خلو النسختين المطبوعتين من هذا الفصل .
وتمتاز هذه النسخة المخطوطة أيضاً بأنها وجدت فيها على التمام مواضع كثيرة كانت ساقطة من النسختين المطبوعتين . وربما كان الساقط في كل موضع سطراً أو سطرين . وقد كثرت هذه الإسقاطات في النصف الثاني من الطبعتين المصريتين فأمكن تدراكه من هذه النسخة والحمد لله .
وبذلك رجع النص إلى الصحة التامة والوضوح إن شاء الله بعد أن كان القارئ يحار بسبب الاضطراب الذي يحسه لانقطاع تسلسل الكلام في تلك المواضع ] المستصفى 1/22.
3. وقال الشيخ مشهور حسن آل سلمان في مقدمة تحقيقه لكتاب تقرير القواعد وتحرير الفوائد لابن رجب الحنبلي ما نصه :[ طبع هذا الكتاب أكثر من مرة وأشهر طبعاته طبعة الأستاذ طه عبد الرؤوف سعد وقد ظهرت أول مرة في القاهرة عن مكتبة الخانجي سنة 1352هـ - 1933م في 454 صفحة .
وشاب هذه الطبعة نقص في عبارات وتحريف وتصحيف في مواطن كثيرة في عدة كلمات نبهنا عليها في هوامش الكتاب . ولم يخل هذا السقط والتحريف والتصحيف من جميع طبعات الكتاب قال د. عبد الله الغفيلي عن كتابنا هذا :[ وقد طبع عدة مرات منها طبعة بالقاهرة سنة 1352 هـ - المطبعة الخيرية ولكن جميع الطبعات لا تخلو من السقط والتحريف والتصحيف وهو جدير بأن يعنى به ويطبع طبعة علمية محررة ومحققة ] 1/23 .
ثم ذكر ما تمتاز به طبعته لهذا الكتاب بما يلي :
[ أولاً قمت بمقابلة الكتاب على ثلاث نسخ خطية .
ثانياً : أثبت الفروق بين النسخ الخطية وطبعة الأستاذ طه عبد الرؤوف سعد في الهامش ونبهت على التحريفات والتصحيفات والسقط الواقع في المطبوع ] 1/28 .
4. وقال الشيخان شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط في مقدمة تحقيقهما لكتاب زاد المعاد للعلامة ابن القيم ما نصه :[ وقد سبق لهذا الكتاب أن طبع أكثر من مرة ولكنه في كل هذه الطبعات لم يأخذ حظه من التحقيق والتصحيح والتمحيص فجاءت كلها مليئة بالخطأ والتصحيف والتحريف وسوء الإخراج وعدم العناية بتحقيق نصوصه الحديثة وتمييز صحيحها من سقيمها مما حدا بالناشر أن يطرح فكرة تحقيقه ونشره نشرة صحيحة وفق القواعد العلمية في التحقيق ] 1/7 .(/4)
وقالا في هامش نفس الصفحة :[ حتى الطبعة التي عني بتحقيقها الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله فهي مشحونة بالخطأ بالرغم من ادعائه اعتمد على نسختين خطيتين موجودتينم بدار الكتب المصرية وأنه راجع أحاديثها على اصولها من الكت بالستة وغيرها ] .
5. وقال العلامة أحمد محمد شاكر في مقدمة تحقيقه لكتاب إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام للعلامة ابن دقيق العيد ما نصه :[ وقد طبع هذا الشرح قديماً في الهند .
ثم طبعه الشيخ محمد منير الدمشقي في مصر سنة 1342-1344 ونفذت الطبعتان فعز وجودهما .
ولكن الشيخ منير الدمشقي لم يعن بتصحيحه العناية الواجبة لمثل هذا الكتاب فكانت الأغلاط فيه كثيرة ولعل عذره أنه اعتمد مطبوعة الهند وحدها فلم يتجشم مشقة الرجوع إلى أصول مخطوطة منه جيدة .
ثم إنه رحمه الله زاد في أواخر الأبواب أحاديث تناسب كل باب ( مما انفرد به البخاري فقط أو مسلم فقط أو غيرهما مما صح سنده ومتنه ) كما هو نص قوله في مقدمة طبعته .
وهذه الزيادات لم يكن الكتاب بحاجة إليها لأن مقصد المؤلف واضح :( اختصار جملة من أحاديث الأحكام مما اتفق عليه الشيخان ) فلم تكن هذه الزيادات من شرط الكتاب ولم تكن استيعاباً لجميع أحاديث الأحكام ] ص8-9 .
ثم قال :[ ولطالما فكرت في طبعه وإخراجه إخراجاً علمياً متقناً محققاً على النحو الواجب من التحقيق العلمي في إخراج كتب السنة وآثار سلفنا الصالح رضي الله عنهم حتى تهيأت الفرصة المناسبة لذلك والحمد لله . فقام بطبعه وتصحيحه والتعليق عليه الأخ الشيخ محمد حامد الفقي ورغب إلى أن أشركه في مراجعته على أصوله الصحيحة .
وكان أول ما يجب للتحقيق والتصحيح : الرجوع إلى أصول مخطوطة من الكتاب يمكن الوثوق بها في إخراجه على أصله دون تغيير أو تحريف إن شاء الله .
فكان لدي في مكتبتي الخاصة نسختان منه مخطوطتان وفي دار الكتب نسخ عدة فحصتها كلها وتخيرت أصحها وأوثقها . وتفضلت الدار بتصوير صورة شمسية منها لي .
فصارت الأصول المخطوطة بين يدي ثلاثة أراها كافية إن شاء الله لتحقيق الكتاب وإخراجه إخراجاً صحيحاً على النحو الذي يرضيني وعلى ما في الوسع والطاقة ] 9-10 .
6. وقال د. محمد الحجي في مقدمة تحقيقه لكتاب الذخيرة للقرافي بعد أن وصف النسخ المخطوطة التي اعتمد عليها في التحقيق :[ وقد رجعنا عند المقابلة إلى المقدمة الثانية للذخيرة في الأصول التي نشرها سنة 1973 طه عبد الرؤوف سعد ضمن شرح تنقيح الفصول وإلى الجزء الأول الذي طبعته كلية الشريعة بالأزهر عام 1381 /1961 بإشراف الشيخين عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد السميع أحمد إمام ثم أعادت طبعه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بمطبعة الموسوعة الفقهية عام 1402/1982 فألفيناه رغم جهود الشيخين واجتهاداتهما مليئاً بالتصحيف والبتر والعذر لهما أنهما لم يطلعا في إعداده إلا على مخطوطة دار الكتب المصرية وهي كثيرة القلب والحذف والبياضات ] الذخيرة 1/19 .
7. وقال د. عبد المحسن التركي والشيخ شعيب الأرنؤوط في مقدمة تحقيقهما لشرح العقيدة الطحاوية تحت عنوان الطبعات السابقة لهذا الشرح ما نصه :[ الطبعة الأولى في سنة 1349هـ في المطبعة السلفية بمكة المكرمة طبعت بعناية العالم العلامة الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ رحمه الله وأجزل مثوبته ذكر ناشرها : أنه لما كانت النسخة الخطية لشرح العقيدة الطحاوية التي جرى عليها الطبع كثيرة الغلط والتحريف حيث إنها لم تصحح ولم يوجد لها أصل صحيح للمقابلة عليه فقد اعتنى صاحب الفضيلة الشيخ عبد الله بن حسن بن حسين آل الشيخ بتصحيحه فشكل لجنة من المشايخ وطلبة العلم النجديين والحجازيين لا يقل عددهم عن العشرة فقرئت على فضيلته بمسمع من المذكورين فصححت بقدر الطاقة والاجتهاد .
قلنا : وهذه التصحيحات التي انتهوا إليها بحسب اجتهادهم لا نعرف عنها شيئاً لأنه لم يرد في التعليقات ما يدل عليها أو يشير إليها ولو كان الأصل الذي اعتمدوه بين أيدينا لأمكننا الوقوف على هذه التصحيحات ومعرفة قدرها وقيمتها .
2. الطبعة الثانية طبعت بمصر في دار المعارف سنة 1373هـ بتحقيق كبير المحققين في عصره الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله وقد ذكر في مقدمته أنه لم يجد للكتاب مخطوطة معتمدة حتى الأصل الخطي الذي طبعت عنه الطبعة السالفة لم يقف عليه فاعتمد النسخة المطبوعة في مكة فاجتهد في تصحيح كلام الشارح قدر الطاقة وقابل الأحاديث والآثار التي فيه على ما كان بيده من الأصول المنقول عنها وكان رحمه الله يتمنى أن يوفقه الله إلى أصل متقن لهذا الكتاب يكون عمدة في تحقيقه وتصحيحه ليخرجه إخراجاً سليماً .(/5)
3. الطبعة الثالثة بدمشق سنة 1381هـ نشرها المكتب الإسلامي بتحقيق جماعة من العلماء وتخريج أحاديثها للشيخ ناصر الدين الألباني وقد اعتمد في هذه الطبعة على نسخة خطية حديثة العهد كتبت سنة 1322هـ وهي نسخة كثيرة الأخطاء والتحريفات مما دفع اللجنة القائمة على طبعه أن تعتمد طبعة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله وتثبت زيادات طفيفة جاءت في هذه النسخة وما جاء فيها من تحريفات وأخطاء فقد صححت بالاعتماد على طبعة الشيخ أحمد شاكر .
4. الطبعة الرابعة طبعت بالشام سنة 1401هـ بتحقيق وتخريج الشيخ شعيب الأرنؤوط وقد اعتمد في هذه الطبعة على نسخة الشيخ أحمد شاكر لكنه استدرك فيها أخطاء وتحريفات وقعت في مطبوعة الشيخ شاكر وكان يعتمد في التصويب على المراجع والمظان التي بين يديه مما نقل عنه المصنف لكنه لم يشر إلى تلك التصويبات في التعليقات ولا المصادر التي نقل التصويب عنها مما أفقدها قيمتها العلمية .
5. الطبعة الخامسة طبعت في مصر سنة 1402هـ بتحقيق د. عبد الرحمن عميرة نشرته مكتبة المعارف بالرياض وقد ذكر المحقق أنه عثر على مخطوط لهذا الشرح بمكتبة جلال الدين السيوطي بمحافظة أسيوط في صعيد مصر ! وقال : وقد تكون هذه المخطوطة أكثر نسخ المخطوط دقة ووضوح ألفاظ ومع ذلك فلم يتخذها أصلاً بل جعلها في المرتبة الثانية ورمز لها بحرف (ب) واتخذ مطبوعة المكتب الإسلامي أصلاً ورمز لها بحرف (أ) وقارن بين النسختين وأثبت الفروق بالهوامش كذا فعل مع أن المنهج العلمي المتبع في التحقيق هو اتخاذ الأصل الخطي أصلاً والاعتماد عليه وعدم الاعتداد بما طبع إلا عندما يوجد في الأصل المعتمد تحريف أو سقط يمكن تداركه من المطبوع فيؤخذ عنه ويشار إلى ذلك .
ولم يصف هذه النسخة الخطية التي اعتمدها وصفاً دقيقاً ينبئ عن قيمتها ومنزلتها وتاريخ نسخها ولا صور نماذج منها تعين الباحث على التعرف عليها .
وفي بعض ما قارناه في هذه الطبعة تبين أنه لم يتخذ طبعة المكتب الإسلامي أصلاً بل لفق وأصلح وبدل من غيرها أشياء دونما إشارة إلى ذلك .
6. الطبعة السادسة طبعت في بيروت سنة 1405هـ نشر دار البيان وذكر في صفحة العنوان : حققه وخرج أحاديثه وعلق بشير محمد عيون وقد قمنا بمقابلة هذه المطبوعة على الأصل الذي اعتمده الناشر فوجدنا خلافاً كبيراً بين الأصل المعتمد وبين المطبوع مما يدل على أن هذه الطبعة لم يراع فيها التحقيق العلمي المتقن وأن الناشر قد لفقها من الأصل الذي اعتمده ومن طبعة شاكر ومن طبعة مكة ولم يشر في تعليقاته لا من قريب ولا من بعيد إلى ما وقع في الأصل من الأخطاء غير القليلة ونقص كثير من الكلمات وأحياناً زيادات انفردت بها ] مقدمة تحقيق شرح العقيدة الطحاوية 110-113 .
ثم ذكر المحققان ما تمتاز به طبعتهما من أمور فقالا :( 3. إخراج النص إخراجاً صحيحاً موثقاً كما كتبه المؤلف وذلك بالإعتماد على أربع نسخ خطية منها نسخة كتبت في حياة المؤلف وقوبلت على نسخته وهي النسخة المرموز لها ب( أ) ، وبالرجوع إلى المصادر التي أخذ عنها المؤلف وبذلك أمكن تدارك عدد غير قليل من الأخطاء والتحريفات التي وقعت في الطبعة السابقة مع الإستفادة مما فيها من تعليقات مفيدة ) . مقدمة شرح العقيدة الطحاوية ص 122 .
8. وقال د. عدنان درويش ومحمد المصري في مقدمة تحقيقهما لكتاب الكليات للكفوي ما نصه :[ طبع الكتاب إذن سبع مرات وعرفه الناس في جيل سبق جيلنا وأفادوا منه في دراساتهم وكتاباتهم فأخذوا منه وأحالوا عليه كما أفاد منه كثير ممن لم يعان الكتابة والتأليف بالرجوع إليه كلما دعت حاجة إلى الكشف عن أمر يتعلق بالمعارف الإنسانية باعتباره معجماً موسوعياً للمصطلحات في مختلف العلوم والفنون عند العرب والمسلمين .
بيد أن سوء إخراج الكتاب في طباعته السبع تلك لم يتح له الذيوع والانتشار اللذان يستحقهما في أوساط المثقفين غير المختصين وأنصاف المثقفين من جيلنا في عصرنا الحاضر فالورق من نوع رديء والحروف دقيقة لا تخلو من رداءة أيضاً وقد اكتظت بها الصحائف اكتظاظاً بلا علامات ترقيم تفصل الفقر فتيسر على القارئ توضح العبارة وتحديد المعاني وليس ثمة إشارات إلى بداءات الفصول .
وجل هذه الطبعات لم يبرأ من آفتي التصحيف والتطبيع مما قد يضلل القارئ أو يصيب المعاني بالخلل .
تلك الأمور اجتمعت وتضافرت فكانت كافية لتحفزنا على إصدار نشرة جديدة للكتاب الهدف منها تيسير الرجوع إليه والإفادة منه ثم تنقيته من شوائب التصحيف والتطبيع .(/6)
وثمة أمر كان أقوى من تلك الحوافز السابقة لزَّنا إلى إصدار هذه النشرة الجديدة ذلك أننا حظينا بنسخة خطية منه تتصف بالأصالة والنسب فهي مضاهاة بنسخة قوبلت على نسخة المؤلف إذن فلا بد من اختبار أصالة النسخة ونسبها فقابلناها على المطبوع فإذا فيها تقديم وتأخير في الترتيب وزيادات يبدو أن من قابل النسخة أضافها حين ضاهاها بنسخة المؤلف لذا رأينا أن لا بد من الاهتمام بها وإثبات ما ينبغي له أن يثبت مما تفرضه أمانة العمل في تحقيق النصوص ] ص6.
9. وقال العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في مقدمة تحقيقه لكتاب الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء للحافظ ابن عبد البر ما نصه :[ لما توجهت رغبتي إلى خدمة كتاب الإنتقاء استصحبت معي في أسفاري النسخة المطبوعة بعناية الأستاذ حسام الدين القدسي التي سبق ذكرها في ص14 لرشاقة الكتاب وطلاوته وفخامته في موضوعه وهو يترجم لثلاثة أئمة من أئمة المتبوعين في الإسلام ولنخبة مختارة من كبار أصحابهم وتلامذتهم .
وقرأته وفصلته وضبطت فيه الألفاظ التي تحتاج إلى ضبط بقدر ما تيسر لي وحضرني اعتماداً مني على هذه النسخة المطبوعة نظراً إلى أن الأستاذ القدسي قام بطبعها والاعتناء بها فتكون متمتعة بالمقابلة الدقيقة والصحة التامة والضبط المتقن الشديد الذي أعهده في الأستاذ حسام الدين القدسي .
ولكني أثناء قراءتي للكتاب وضبطي لألفاظه كانت تمر بي كلمات وعبارات أتوقف في صحتها كثيراً وبعضها أجزم بوقوع التحريف فيها وبعضها لا أفهم معناه إذا بقيت العبارة كما هي أو يكون المعنى فيه غامضاً أو فاسداً .
ولما فرغت من خدمة الكتاب بين السفر والحضر قدمته إلى المطبعة وسعيت إلى تصوير النسخ المخطوطة الثلاث من إستنبول والأسكوريال رغبة في التثبت من صحة بعض الكلمات أو الجمل التي توقفت فيها أو صححتها باجتهادي ونظري الضعيف ولما وصلت إلي المصورات عن النسخ الثلاث وجاءني الكتاب من المطبعة مصفوفاً مرتباً كما رسمت له وأثبته قابلته وراجعت ما كنت توقفت فيه أو جزمت بتحريفه أو وقوع السقط فيه تبين لي أن الكتاب فيه من التحريف والقلب والإبدال والسقط في الإسناد والخبر والأسماء والعبارات : الشيء الكثير جداً وخاصة في القسم الذي لم يعلق عليه شيخنا الكوثري رحمه الله تعالى ] ص20-21 .
10. وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط في مقدمة التحقيق للكتاب الكبير سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي ما نصه :[ وقد أدى التهاون بمقابلة المنسوخ على الأصل إلى وقوع ما يزيد على مئة سقط يترواح ما بين كلمة وجملة وسطر في الجزء الأول من هذا الكتاب المطبوع بدار المعارف بمصر سنة 1953 وقد بيناه في مواضعه من طبعتنا هذه ودللنا عليه كما بينا أيضاً السقط والتحريف اللذين وقعا في الجزأين الثاني والثالث من الطبعة المذكورة .
وقد قال أئمة النقد : لا يجوز أن ينخدع في الاعتماد على نسخ الثقة العارف دون مقابلة ولا على نسخ نفسه بيده ما لم يقابل ويصحح فإن الفكر يذهب والقلب يسهو والنظر يزيغ والقلم يطغى ] سير أعلام النبلاء 1/155 .
11. وقال العلامة الشيخ يوسف القرضاوي في تقديمه لكتاب أصول الشاشي الذي حققه محمد أكرم الندوي ما نصه :[ ولكن هذا الكتاب على أهميته العلمية والعملية وطباعته عدة مرات في الهند وباكستان لم يقدر له أن يطبع طبعة محققة تحقيقاً علمياً عصرياً يليق به حتى هيأ الله له الأخ الفاضل البحاثة محمد أكرم حفظه الله فقام على خدمة الكتاب تحقيقاً وتعليقاً وتفسيرأً وتخريجاً وقد قيل : من حقق كتاباً فكأنما أحيا موؤودة ] ص3-4 .
12. وذكر الشيخان زهير الشاويش وشعيب الأرنؤوط في مقدمتهما لشرح السنة للإمام البغوي عند ذكر مؤلفات البغوي ومنها تفسيره المسمى معالم التنزيل :[ وقد طبع أكثر من مرة وجميع طبعاته لا تخلو من تحريف وتصحيف وهو جدير بأن يعنى به ويطبع طبعة علمية محررة ] شرح السنة 1/30 .
13. وذكر الأستاذ على شيري في مقدمته لتحقيق تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي وهو من أمهات المعاجم العربية فقال تحت عنوان طبعات تاج العروس :[ طبع منه ثلاث طبعات الطبعة الأولى ناقصة طبع من الكتاب خمسة أجزاء في سنة 1287هـ بالمطبعة الوهبية بمصر وأشرفت على طبعه هيئة علمية معنونة باسم جمعية المعارف بالقاهرة وانتشرت هذه الطبعة مع ما فيها من التحريف والغلط والتصحيف والسقطات وقد توقفت المطبعة عن إتمامه لجسامته وكثرة نفقته وصعوبة الحصول على نسخة وغيرها من الأمهات المعتمدة في التحري والتحرير وتخليصه من شوائب التحريف والتغيير .
الطبعة الثانية كاملة من عشرة أجزاء كان الفراغ منها في سنة 1307 بالمطبعة الخيرية بخطة الجمالية من القاهرة المعزية . وهي النسخة التي اعتمدنا أصلاً لعملنا وعليها قام تحقيقنا وسميناها المطبوعة المصرية .تتميز هذه الطبعة بما يلي :
- في الصفحة 41 سطراً وفي كل سطر حوالي عشرين كلمة . وهي من الحجم الكبير .(/7)
- خالية تماماً من الضبط وهذا ما زاد العمل فيها صعوبة .
- ليس فيها أدنى تبويب أو تنظيم فقد ملئت الصفحات بالسطور وتلاصقت الكلمات ببعضها أو كادت دون تقسيم للفقرات أو الجمل أو المعاني .
- اختلطت فيها العبارات بحيث انتفت علامات الفصل بينها من نقطة أو فاصلة أو أي شيء يفيد في تقسيم المعاني وإيضاحها وهذا ما أدى إلى اضطراب في المعاني وتشويه في العبارات حتى أنه تصعب معها القراءة الصحيحة أحياناً حتى في كتاب عادي فكيف به وهو كتاب لغة بل معجم لغوي ضخم .
- الطبعة مليئة بالأخطاء والسقط والتحريف .
- وضع الشارح القاموس متن القاموس بين قوسين ( ) فإننا نجد كثيراً من الأقواس التي وضعت لتميز نص القاموس قد اختفت بحيث شوشت العبارة وتداخل متن القاموس مع الشرح وبات من الصعوبة بمكان البحث فيها .
- الطبعة غير مبوبة حتى يكاد الباحث أن يضيع بين المواد فما عسى من يريد الانتفاع به .
الطبعة الثالثة : ناقصة غير كاملة تقوم بإصدارها ونشرها وزارة الإرشاد والأنباء في دولة الكويت وقد باشرت بإصدارها سنة 1965 حيث صدر الجزء الأول وبلغ حتى الآن ما صدر منها 26 جزءاً حسب تقسيم الناشر .تتميز الطبعة بما يلي :
- مضبوطة ضبطاً كاملاً .
- حجم كبير في الصفحة حوالي 23 سطراً على عمودين عدد الكلمات في كل عمود حوالي 6 كلمات .
- حرف كبير مقروء .
- مبوبة بشكل جديد بحيث قسمت البواب والفصول والمواد بشكل واضح يسهل الرجوع إليها دون عناء .
ورغم الجهد الكبير الذي بذله محققوها والذي لا بد لنا وللأمانة العلمية من تقييمه وتثمينه عالياً وقد كان اهتمامنا بها كبيراً في عملنا فقد سهلت أمامنا الطريق وشجعتنا على التصدي لكتاب تاج العروس .
ومع اعترافنا بأهمية العمل في الطبعة الكويتية نضع الملاحظات التالية :
- اشترك في تحقيق تاج العروس جماعة من اللغويين ورغم حرصهم على اتباع منهج واحد فقد ظهرت فروقات كثيرة عند التطبيق نشأت عن اختلاف أساليبهم في العمل وهو ما اعترف به صراحة الأستاذ مصطفى حجازي .
- ورغم مراجعته فأجزاؤه المحققة مليئة بالأخطاء والسقط والتحريف وعثرات بالضبط .
- أخطاء في تخريج الآيات القرآنية .
- أخطاء فنية في ترقيم الحواشي لتتطابق مع أرقامها في المتن وسقوط كثير من الأقواس التي وضعت لتميز متن القاموس عن الشرح مما أخل بالعبارة وشوه المعنى .
- ومما وقع في هذه الطبعة من هفوات وأخطاء وسقط نشير إلى بعض منها على سبيل المثل لا الحصر وقد أشرنا إلى كل ما وقع فيها تقريباً في نسختنا ] تاج العروس 1/38-40 .
ثم ذكر أمثلة للأخطاء التي وقعت في الطبعة المذكورة .
14. وقال الشيخ علي الحلبي في مقدمة تحقيقه لكتاب الحوادث والبدع لأبي بكر الطرطوشي تحت عنوان نقد الطبعة الأولى ما نصه :[ صدرت الطبعة الأولى للكتاب في تونس سنة 1959 نشريات كتابة الدولة للتربية القومية بتحقيق محمد الطالبي .
وهذه الطبعة حوت ألواناً من الخلل العلمي في التحقيق من ذلك كثرة التحريف الواقع في المتن مع أنه يذكر في الحاشية الصواب من النسخة الأخرى التي اعتمد عليها دون تنبيه عليه .
وكذا بالنسبة للأحاديث النبوية فكثير منها لم يعزه لمصادره ولا أقول : لم يبين درجتها الصناعية فهذا أمر لا قبل له به .
ومن عجب عزوه في كثير من المسائل لكتابات المستشرقين ودراساتهم وهي التي تحوي الغث والقبيح ] الحوادث والبدع ص11 .
15 . وقال د. عبد الفتاح محمد الحلو في مقدمة تحقيقه لكتاب الجواهر المضية في طبقات الحنفية
لعبد القادر القرشي ما نصه :[ طبع كتاب الجواهر المضية بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية الكائنة في الهند بمحروسة حيدراباد الدكن وتم طبعه في أواخر شهر ربيع الثاني سنة 1332 هـ ويقع في جزئين ] 1/83 .
ثم قال :[ ورغم ما بذل في إخراج هذا الكتاب فقد جاء غاية في التصحيف والتحريف والاضطراب ويبدو أن النسخة التي طبعت عنها الدائرة شأنها شأن معظم نسخ الكتاب تحمل هذه السمة بالإضافة إلى ما سبق بيانه من قول حاجى خليفة ومما بينت بعضه سابقاً ولقد حاول مصححا الكتاب أن يستدركا الأخطاء التي وقعت في التراجم وقت طباعة أبواب الكنى والأنساب والألقاب والأبناء فكثرت إلى حد يشعرك بأنه يجب استئناف طبع الكتاب وأدى هذا إلى اخطاء جديدة واضطراب واضح ] 1/84(/8)
16. وذكر سامي ابن العربي محقق كتاب ارشاد الفحول للشوكاني في مقدمته ما نصه :[ وكنت كلما اطلعت على النسخ المطبوعة من هذا الكتاب أجد فيه سقطاً وتحريفاً يؤدي إلى الإخلال بالمعنى مما جعلني أتمنى من ربي عز وجل أن يمن علي بالقيام بتحقيقه وتيسيره لإخواني طلبة العلم والعلماء ] ص8 . ثم قال تحت عنوان النسخ المطبوعة والمآخذ عليها بعد أن ذكر أن الكتاب طبع خمس طبعات مختلفة وذكر أن الطبعة الخامسة التي طبعت بتحقيق د. شعبان اسماعيل هي أفضل نسخة مطبوعة لإرشاد الفحول لكنه قد وقع في أخطاء كثيرة تجعل الكتاب بحاجة إلىإعادة تحقيق ثم ذكر أمثلة كثيرة للأخطاء ثم قال :[ مع أن الشيخ شعبان – حفظه الله تعالى – قد اعتمد في تحقيقه على مخطوطة قيمة إلا أنني – بفضل الله – قد استدركت عليه أخطاء في المتن تصل إلى سبعمائة خطأ وقد قمت بحصرها ... ] ثم ذكر مئة نموذج من هذه الأخطاء . مقدمة إرشاد الفحول 1/25-42 .
وبعد هذه النقول من كلام المحققين التي تدل دلالة واضحة على أنه يبقى العمل على تحقيق كتب التراث التي طبعت بدون تحقيق والتي تدل على عدم الوثوق بتلك الكتب التي طبعت دون تحقيق .
أسوق مثالاً واحداً على ما يمكن أن تخدم به كتب التراث إذا لقيت التحقيق العلمي الرصين .
قال الشيخ مشهور آل سلمان في مقدمة تحقيقه لكتاب تقرير القواعد لابن رجب الحنبلي ما نصه :
[ تمتاز نشرتنا من هذا الكتاب بالآتي :
أولاً : قمت بمقابلة الكتاب على ثلاث نسخ خطية سبق صفها .
ثانياً : أثبت الفروق بين النسخ الخطية وطبعة الأستاذ طه عبد الرؤوف في الهامش ، ونبهت على التحريفات والتصحيفات والسقط الواقع في المطبوع .
ثالثاً : أثبت ما على حواشي النسخ الخطية أو بعضها من تعليقات نفسية فيها زيادة إيضاح أو بيان وهم أو تعقب للمصنف أو ذكر للراجح في المذهب .
رابعاً : حاولت جاهداً توثيق النقولات من الكتب التي نقل منها المصنف وتعبت في ذلك إذ أغلب نقولات المصنف كانت بالفحوى والإيماء والإشارة إلا في القليل النادر إذ ينقل فيه المصنف كلام العلماء بالنص . واستعنت بما نقله المصنف في ذيل طبقات الحنابلة من فروع هي اختيارات للمترجمين عنده وفي بعض الأحايين يتعقبهم وينكت على كلامهم فإن فعل أشرت أو نقلت كلامه وأنشط في بعض المسائل فأثبت مظانها من الكتب المشهورة في المذهب ولعلي أذكر أحياناً فيها اختيارات بعض المحققين من العلماء أو الراجح فيها وفق الدليل أو مذاهب العلماء الأخرى ولعلي أزيد بعض المسائل مما لها صلة بالقاعدة فاتت المصنف وهذا في القليل النادر كما في مبحث القرعة .
خامساً : أثبت شرح الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين حفظه الله على الكتاب وذلك بتفريغ ما أملاه على مواطن عديدة منه ثم قمت بتوزيعها على مواطنها من الكتاب ووضعت علامة ( ع ) عقب كلامه .
سادساً : خرجت الأحاديث والآثار التي ذكرها المصنف وبينت درجتها من حيث الصحة والحسن والضعف وأثبت نص الأحاديث والآثار التي أومئ إليها المصنف ولم يذكر لفظها .
سابعاً : عرفت بالأعلام غير المعروفين وبالكتب التي لم تطبع وحاولت ذكر نسخها الخطية إن ظفرت بذلك .
ثامناً : أثبت في الحواشي رسالة بتمامها للإمام ابن رجب هي قاعدة في إخراج الزكاة على الفور بتحقيق د. الوليد آل فريان واستفدت من تعليقاته عليها . انظر ( التعليق 3/287-292 ) ونقلت جل ما يلزم من كتابه كتاب القول الصواب في تزويج أمهات أولاد الغياب انظر ( 3/173-176 ) .
تاسعاً : صنعت فهارس علمية تحليلية للكتاب وأفردت لها مجلداً خاصاً واشتملت هذه الفهارس على الآتي :
أولاً : تحقيق فهرست تقرير القواعد وتحرير الفوائد لجلال الدين أبي الفرج نصر الدين البغدادي وهو عبارة عن ترتيب مسائل القواعد على الأبواب الفقهية المعتادة .
ثانياً : فهرس الآيات القرآنية ورتبته على حسب ترتيبها في القرآن الكريم .
ثالثاً : فهرس الأحاديث الشريفة ورتبته على الحروف .
رابعاً : فهرس الآثار السلفية ورتبته على حسب قائليها .
خامساً : فهرس القواعد الفقهية ورتبتها على الحروف واستخرجت منها ما لم يكن واضحاً أو كان في أثناء في الشرح .
سادساً : فهرس الفوائد الفقهية والعلمية ورتبتها على الحروف لأن الفهرس الأول مرتب على الأبواب وهذا الفهرس أوسع منه .
سابعاً : اختيارات أئمة الحنابلة وفقهائهم ورتبته على أسماء الأئمة والفقهاء ثم ذكرت المباحث تحت اسم كل عالم وفقيه ورتبتها على الحروف .
ثامناً : مذاهب الصحابة وعلماء الأمصار وسائر الفقهاء من غير الحنابلة ورتبته كالذي قبله .
تاسعاً : فهرس الأعلام ورتبته على الحروف .
عاشراً : فهرس الطوائف والفرق والمذاهب والجماعات ورتبته على الحروف .
حادي عشر : فهرس كتب الإمام أحمد ورتبته على أسماء أصحاب المسائل للإمام .
ثاني عشر : فهرس الكتب ورتبته على الحروف .
ثالث عشر : فهرس الغريب والمصطلحات العلمية ورتبته على الحروف(/9)
رابع عشر : وأخيراً فهرس الأسماء المتعقبين من العلماء والمصنفين ورتبته على أسماء من تعقب من العلماء وأدرجت تحت كل اسم عالم المسائل الفقهية ورتبتها على الحروف ونصصت على المسألة وعلى اسم المتعقب ] تقرير القواعد 1/ 28 - 31 .
ويضاف إلى ذلك ضعف الطلبة العام وخاصة في التأليف والكتابة مما يجعل كتابات الطلبة في المواضيع ضعيفة جداً وقد رأينا هذا الضعف خلال مناقشة عدد من الرسائل وهذا الضعف يلمسه جميع الأساتذة الذين يشاركون في مناقشة الرسائل .
لذا فإنني أرى أن تدريس طلبة الدراسات العليا مساق تحقيق المخطوطات وفق قواعده العلمية الصحيحة وتأهيلهم للتحقيق تأهيلاً نظرياً وعملياً مما يجعلهم قادرين على القيام بتحقيق المخطوطات فعلياً تحت إشراف الأساتذة الذين لديهم تجربة عملية في التحقيق أرى أن كل ذلك يسهم في إحياء التراث الإسلامي وينفع الطلبة ويفيدهم أكثر مما لو كتب أحدهم في موضوع ما .
وأخيراً أرجو من الأخوة الزملاء قراءة هذه الأفكار بتجرد عن الأفكار السابقة لديهم حول الموضوع وإبداء ملحوظاتهم وآرائهم مع شكري وتقديري واحترامي .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
17 شوال 1422 هـ كتبه الدكتور حسام الدين عفانه
وفق 1/1 /2002 م الأستاذ المشارك في الفقه والأصول
كلية الدعوة وأصول الدين / جامعة القدس(/10)
الدعوة الإسلامية بين جوهرها في منهاج الله وبين مسيرتها المعاصرة
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
لقد تأثر المسلم اليوم تأثَّراً كبيراً بتاريخ العمل الإسلامي في القرنين الأخيرين، وبخاصة القرن العشرين، بكل ما حمل العمل الإسلامي من عاطفة البذل دماً ومالاً، ومن الخطأ والصواب، ومن الفرقة والتمزّق.
لقد كان التأثَّرُ فكريّاً ونفسيّاً، وكان يختلف من فئة إلى فئة، ومن رجل إلى رجل، ومن مرحلة إلى مرحلة، ومن بيئة إلى بيئة.
وكان لاضطراب الفكر والتصوّرات وتناقضها، وكثرة الآراء والفتاوى وتصادمها، أسوأ الأثر على نفوس الناشئة وعقولهم وآمالهم.
وكان لكثرة الشعارات واختلافها تأثير آخر. وزاد التأثير سوءاً حين استمرَّتْ الشعارات تُدوّي حتى بُحَّتْ الحناجر، ثمَّ انكشفت الشعارات بعد عشرات السنين عن هزائم وفواجع، وعن سقوط الديار وضياع الثروات، وعن كثرة القيل والقال، وانعكس ذلك في نفوس كثيرة إلى إحباط يقترب من اليأس.
ومما كان له أثر كذلك عدم معرفة الأخطاء وعدم الاعتراف بها إذا عُرِفَتْ، وعدم معالجتها، حتى تراكمت أكواماً تحجب الرؤية السليمة وتزيد النفوس إحباطاً.
كثير من المسلمين الذين يُصلُّون ويؤدُّون الشعائر، رضوا بأن يؤدُّوا الشعائر ثم يقبعوا في بيوتهم لا يبالون بما يجري من حولهم، إلا بمجالس الشكوى والتذمّر، ونقد الآخرين والعتب على هؤلاء وهؤلاء، دون أن يسألوا أنفسهم ماذا عملوا هم أنفسهم. يريدون أن يعمل غيرهم ليظلّوا هم قابعين يقتلون وقتهم دون إنتاج في الحياة يخدم الأمة أو الدين. أو يقتلون الوقت بأعمال متفلتة، أو عمل جامد متوقف ! أو عمل مخالف لدين الله يحمل الفتنة وبذور الشرّ.
وجاءت أمور بعد أمور تلهي المسلم عن واجباته الشرعية والتكاليف الربانية بألف وسيلة ووسيلة، حتى انغمس الكثيرون في أسباب اللهو والتلهّي والانصراف عن الجد، والانصراف عن الآخرة إلى الدنيا تحت شعار الإسلام!
وكثيرون يفرغون نشاطهم في أمور لا تحتل المرتبة الأولى في الواجبات والتكاليف، ولكنَّها الأيسر والأدنى، والأبعد عن جديّة المسؤوليات. يأخذون ببعض السنن ويتركون الواجبات والفرائض.
إذا جاء رمضان المبارك امتدت الولائم واشتدَّ الإسراف، وهرع مئات الألوف إلى العمرة، ولا بأس في ذلك لو لم يتركوا واجبات هي في دين الله أحقُّ بالوفاء.
وظنَّ الكثيرون أنَّ الدعوة الإسلامية هي انتماء لهؤلاء أو هؤلاء. ومن خلال هذا الانتماء تتجمّع الحشود والأعداد الغفيرة، وتتنافر مع حشود أخرى وأعداد غفيرة، وتتمزّق الجهود، ويدور الصراع، وينعكس ذلك كله على نفوس كثيرة من المسلمين، ينعكس بصورة سلبية تزرع النفور والإدبار عن العمل والبذل، وتضيع مصالح المسلمين بين الكبر والاستكبار، والجهل والغفلة.
وما عانى منه العمل الإسلامي من ابتلاء بعد ابتلاء ومحن بعد محن، وارتجال بعد ارتجال، وعاطفة هائجة بعد عاطفة، في أجواء التفلّت والعصبية الجاهليّة المحرّمة، كل ذلك زرع في بعض النفوس الخوف والتردد والعزوف.
وظنَّ بعضهم أن العمل الإسلامي والدعوة الإسلامية تربية فحسب، أو دراسة فحسب، وتلاوة كتاب الله أو حفظه، ودراسة ما يكتبه رجال جماعتهم أو حزبهم، عازفين عما يكتبه مسلمون آخرون ليسوا من جماعتهم ولا من حزبهم. فنشأت بذلك اتجاهات فكرية متنافرة تحت شعارات متقاربة، وهاجت فتن وفتن.
وأصبح العمل الإسلامي يكاد يجمّد كثيراً من الطاقات وهي تخضع لا شعوريّاً إلى العوامل السابقة، من إحباط ويأس، وخوف وتردد وحَيْرة. واكتفى الكثيرون بالتلاوة أو شيء من الدراسة مع الشعائر، وأقبلوا على الدنيا يعطونها وقتهم وجهدهم ومالهم، ويفرغون فيها آمالهم الحقيقية، ويعطون للإسلام أماني عاطفية، وأوهاماً وأحلاماً، وهم غارقون فيما غرقوا به، خدعوا أنفسهم بمسوّغات زيّنها لهم الشيطان وجنوده من الإنس والجنّ.
ولو أن أحدهم وقف مع نفسه وسأل : ماذا بذلت لنصرة دين الله وقد انتسبت إلى دعوته وحمل رسالته ؟! لو سأل نفسه هذا السؤال لوجد أنه بذل بذلاً لا يقيم دعوة ولا ينصر ديناً، ولو قارن بذله مع ما يبذله الذين انتسبوا إلى دعوات التنصير وغير التنصير لعرف الفرق الهائل بين البذلين، ولأدرك حقيقة الفرق الهائل بين ما حققه هو ومن معه وبين ما بلغه أولئك!
ومضى الحال على ذلك سنين طويلة، حتى اعتاد الملايين من المسلمين الركون إلى الدنيا وأحلامها الوردية، والركون إلى ما هم عليه من جهد ميّت وبذل جامد وركود. وحسبوا أن ذلك هو الدعوة الإسلامية.
وعندما يرون النهج والخطة ويعتقدون أنَّ فيه الحياة والنجاة، فمنهم من يحوّل العمل إلى عواطف وارتجال بما استقرَّ في نفوسهم من ذلك من ضغط الواقع،أو إلى شعارات تثير الفتن، وتوهن القوى، دون أن يُتابعوا النهج أو الخطة، ودون أن يلتزموا، ويظلّ شياطين الإنس والجنِّ يزيّنون لهم أعمالهم. وتصبح الأعمال فردية متناثرة.(/1)
انتسبوا إلى دعوة الله ورسالته ليحملوها ويبلغوها إلى النَّاس كافّة، وقد فصّل الله سبحانه وتعالى الدرب كلّه، في تفصيل بعد تفصيل، ووضوح بعد وضوح، ومع ذلك تجد الكثيرين ممن ينتسبون إلى دعوة الله، لم يدركوا حقيقة الدعوة الإسلامية، وركنوا إلى مجرّد القراءة والدراسة، دون أن ينهضوا إلى التكاليف الرّبّانيّة المفصّلة. وربما نهض النشيط بعد ذلك إلى عمل آخر متفلّت عن النهج والخطة، خارج عن الدرب، فذهب هذا يميناً وهذا شمالاً، وتناثرت الجهود وضاعت. وفي اللحظات الأولى يفرحون بما أتوا ويحبّون أن يُحْمدوا. وبعد سنين طويلة يكتشفون أن الجهود لم تثْمر، وأن الخسائر واضحة، والهزائم متتالية، والفواجع ساحقة، ولكن لات ساعة مندم!
عجباً كلّ العجب :
الآيات في كتاب الله بيّنة ترسم الدرب الحقَّ الجامع !
وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلّم جليّة فاصلة حاسمة !
والأحداث والنكبات تدقُّ وتقرعُ لتُوقِظَ الغافلين !
عجباً كل العجب ! ففضل الله عظيم على المؤمنين أن يسَّر لهم كلّ ما ينذرهم ويوقظهم، ويهديهم وينير لهم الدرب، ليكونوا أمّة واحدة، وصفَّاً واحداً كالبنيان المرصوص !
عجباً كلَّ العجب ! كتاب مبين !
وحديث شريف !
وسنة نبويّة !
ونكبات وقوارع !
ويظلُّ المسلمون متفرّقين، ممزّقين، وتظلُّ الجهود تتناثر، ويظلُّ الغافلون غافلين. ويظلّ بعضهم يسأل : لماذا نهزم ؟! متى يأتي النصر ؟!
ونقول لمن يسأل : يأتي النصر حين تفيق وتنهض، وتمضي على الصراط المستقيم، إلى هدف ربَّاني بعد هدف ربَّاني، لتكون الدعوة إلى الله ورسوله دعوة منهجيّة تمثّل الهدف الذي يصاحب كلّ الأهداف، وليكون البناء والإعداد، والتربية والتدريب الهدف الرباني الثاني الذي يصاحب سائر الأهداف مع الهدف الأول. وتمضي في جهد وبذل وجهاد على عمل منهجي إلى سائر الأهداف الربانية لتحقيقها في الواقع البشري ماضياً إلى الهدف الأكبر والأسمى في الدار الآخرة ! ليكون العمل ليس مجرّد دراسة وقراءة، ولا شعارات وعواطف، ولكنه عمل بناء وإعداد متعدد المراحل.
هذا هو النهج، وهذا هو الصراط المستقيم الذي بيّنه الله لنا وفصّله، ليجمع المؤمنين في الأرض كلها أمة واحدة وصفّاً واحداً كالبنيان المرصوص. الطريق ممتدّ مشرق لمن أراد أن يمضي عليه، ويضع جهده وبذله فيه، فلا يقعد مع الشعائر وحدها تاركاً سائر المسؤوليات والتكاليف، ولا يقعد مع الدراسة وحدها تاركاً سائر التكاليف، أو تاركاً الصراط المستقيم والنهج الممتدُّ عليه، لِيُزَيّن شياطين الإنس والجن كلَّ يوم عملاً متفلّتاً من النهج، يغذّيه الهوى والارتجال والعواطف الهائجة، أو تغذّيه العصبيات الجاهلية من حزبيّة ووطنيّة وإقليمية وقومية وعائلية ومصالح دنيوية مخفيّة بين دويّ الشعارات !
نجاة المسلمين اليوم بترك الارتجال وعواطفه المائجة الهائجة، وترك العصبيات كلّها، وصبّ الجهود ليلتقي المؤمنون الصادقون على نهجٍ بيّنٍ مُشْرِقِ، وعلى أهداف محدّدة جليّة، وعلى خطة عمليّة، يجهرون بها كلهم، صوتاً واحداً ودعوة واحدة.
أمام المؤمنين فرصة صادقة إذا أرادوا النجاة. فالدرب واضح، وما كان الله سبحانه وتعالى ليذر المؤمنين تائهين دون أن يُبيّن لهم الدرب الحقّ، درب النجاة والنصر !
أيها المؤمنون ! هذا هو درب النجاة والنصر، فالتزموه ! ولا تدعوا شياطين الإنس والجنّ تُزيّن لكم الفُرْقة والعصبيات ولا القعود والركون !
ومن أراد أن يقف في مرحلة على الصراط المستقيم دون أن يتابع السير، ومن أراد أن يتراجع، ومن أراد أن ينحرف، فذلك شأنه وحسابه عند الله، ولا يتّهم الكِتاب والسُّنَّة.
وسنظلُّ نقول للمسلمين جميعاً :
النهج والتخطيط !
الإدارة والنظام !
الصراط المستقيم !
إلى الكتاب والسنّة ومدرسة النبوة الخاتمة لِيُجْلى ذلك كلُّه !
إلى ردِّ الأمور كلّها إلى منهاج الله !
إلى التبرّؤ من العصبيات الجاهلية !
إلى صدق النيّة الواعية التي تعرف الهدف والدرب خالصة لله سبحانه وتعالى دون شرك أبداً.
ولا أعتقد أنَّ ذلك يمكن أن يتمّ بسهولة، فأمامه عقبات وعقبات، ولكنّه الحقّ ! وهو سبيل النجاة في الدنيا والآخرة !
وأول الأمر من أجل ذلك، من أجل تحقيقه، من أجل النجاة من فتنة الدنيا ومن عذاب الآخرة، أوّل الأمر وآخره :
" حتى نغيّر ما بأنفسنا "
فهناك المعركة الأولى والجهاد الأول الذي يمضي مع كلّ مراحل الجهاد :
( المجاهد مَنْ جاهد نفسه في الله )
[ عن فضالة بن عبيد : الترمذي ]
ولنتذكر قوله سبحانه وتعالى :
( ولو ترى إذ وقفوا على النَّار فقالوا يا ليتنا نُرَدُّ ولا نُكذّبَ بآيات ربِّنا ونكون من المؤمنين )
[ الأنعام : 27]
وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
( بل بدا لهم ما كانوا يُخْفون مِنْ قبلُ ولو رُدُّوا لعادوا لما نُهو عنه وإنَّهم لكاذبون )
[ الأنعام : 28](/2)
أيها المؤمنون ! استيقظوا وأفيقوا قبل أن يأتي الطوفان! الدعوة الإسلامية يجب أن تقدّم الإسلام كما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، دون تأويل فاسد ولا تبديل ولا انحراف. يجب أن يُعرض الإسلام كلّه بنقائه وصفائه على الناس كافة وأن نكون أمناء فيما نقول ونمارس.
ليست قضيّة الدعوة الإسلامية أن نصبَّ الجهود كلَّها في قضيّة جزئية لنثبت للعالم أنَّ هذه القضية الجزئية أو تلك متوافرة عندنا، ثمَّ نأخذ قضية جزئيّة أخرى، وهكذا. لكننا نعرض الإسلام كما أُنزِلَ على محمد صلى الله عليه وسلم ونعرض أيَّ قضيّة جزئية من خلال الإسلام كلّه وعرضه كلّه، ومن خلال النهج العام والخطة المتكاملة للعرض والدعوة والبلاغ، والتربية والبناء، والإعداد والتدريب، وسائر قضايا النهج المتكامل، لتأخذ هذه القضايا الجزئية ارتباطها الصادق بالإسلام، بالإيمان والتوحيد، بالدار الآخرة ، بالنهج كلّه.
الدعوة الإسلامية لا تدخل فيها التنازلات عما جاء به الوحي الكريم، ولا المساومات عليه. نعرضه بتكامله واضحاً صريحا قويّاً. وإنَّ أيَّ إخفاء لحقائق هذا الدين يصيبنا بما أصاب أهل الكتاب حين حرّفوا وأخفوا وبدّلوا.
إنَّ مجاملة أعداء الله ومحاولة التقرّب إليهم. بحمل شعاراتهم وأفكارهم، ومحاولة إثبات أن هذا أو ذاك هو من الإسلام بتأويل فاسد لبعض الآيات والأحاديث، إنما هو فتنة يجب التبرّؤ منها. فأعداء الله يعرفون من ديننا الكثير، فإنَّ تلك المجاملات والتنازلات والادعاءات تجعلنا نخسر أمرين أساسين خسارة تورثنا الهزيمة بعد الهزيمة : الخسارة الأولى رضا الله، والخسارة الثانية احترام الأعداء لنا الذين يعرفون أننا بدَّلنا وغيَّرنا.
إنَّ شياطين الإنس والجنّ يستدرجون بعض المسلمين ليتنازلوا عن بعض قواعد الإسلام، ويزيّنون لهم ذلك، حتى إذا أفلحوا في خُطْوةٍ دفعوهم إلى خُطْوةٍ أًُخرى، وهكذا. إنها خطوات الشيطان : خطوة خطوة !
( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خُطوات الشيطان ومن يتّبع خُطوات الشيطان فإنَّه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحدٍ أبداً ولكنَّ الله يُزكّي من يشاء والله سميع عليم )
[ النور : 21]
كلَّما طلع شعار من الغرب هرعنا إليه لنتمسَّك به تحت شعار الإسلام، فإذا تبدّل الشعار بدَّلنا وأقبلنا على الشعار الجديد. نبدّل الشعارات كما نبدّل أشكال الملابس التي تأتينا من الغرب، يوماً نرفع الاشتراكية، ويوماً نرفع الديمقراطية، ويوماً نرفع العلمانيّة، ويوماً نرفع الحداثة، وغيرها !
في بعض المؤتمرات كان داعية مسلم يدعو إلى الديمقراطية ! فعجبت وقلت له : للديمقراطية دول تدعو لها، وأنت داعية مسلم، فلمَ لا تدعو إلى الإسلام ؟! فقال : إننا نريد الحرية والعدالة والمساواة ! فقلت إذا لم تكن هذه في الإسلام فأعلن عن ذلك ؟! وإن كانت في الإسلام أصدق وأبرَّ وأغنى فلِمَ نعزوها ظلماً وخداعاً إلى الديمقراطية ؟!
هل الديمقراطية من الإسلام أم ليست منه، ويطول الخلاف، ويبقون في خلافهم لا تُطبّق الديمقراطية ولا يُطبّق الإسلام. وهذا يظلُّ شعاراً وذاك شعاراً. ومثل ذلك مع سائر الشعارات. لم تتحوّل الديمقراطيّة إلى الإسلام، ولو ألصقوا بها كلمة " الشورى "، الديمقراطية بقيت هي الديمقراطية بجذورها الوثنيّة وأساليبها العصريّة المزخرفة وشرورها الممتدة في الأرض. ولكن الشورى أخذها بعضهم ليحوّلها إلى ديمقراطية ويبعدها عن أُسسها الربَّانيّة، فخسروا كلَّ شيءٍ.
المذاهب الفكرية الغربية، والفلسفية والأدبية والنقدية، كلُّها نبعت ونمت من أصول وثنيّة، ومضت مع أحداث الصراع بين الوثنية والنصرانية الوافدة، فانحرفت النصرانيّة، وأخذت الكثير من الوثنية، وامتدَّ الصراع بين الكنيسة الكاثوليكية والعلماء، ثم بينها وبين الملوك والحكام، فَشُوِّهَتْ معانٍ كثيرة من معاني الإيمان، وغاب التوحيد الحقّ بصفائه وجلائه وبدأ الشرك ينفث سمومه وينثر بذور العلمانيّة من خلال فلسفات ماديّة ومثالية، حتى استقرَّت العلمانية وامتدت، وسيطرت على ميادين الحياة الغربية كلها : الفكرية والفلسفية، والقانونية والتربوية والاجتماعية والأدبية والنقد، وعلى مذاهب ذلك كلّه، وكذلك على أنظمة الحكم وفلسفتها، وعلى الإعلام. ثمَّ تطورت حتى نشرت الجنس والفاحشة والخمر أساساً للحياة والحريّة الفردية والنشاط العام. فامتدت الجريمة والمخدرات، والظلم والعدوان في حروب عاصفة تذهب بأرواح الملايين، لا يستفيد من ذلك كلّه إلا حفنة من عصابات المجرمين في غابات المطامع والشهوات والنساء والمال.
يجب أن تعود الدعوة الإسلامية كلّها صفا واحداً، صافياً نقياً، تحمل رسالة واحدة، وتسير على درب واحد وصراط مستقيم، إلى أهداف ربَّانيّة محدّدة. هذا وإلا الهلاك !
وكلُّ مسلم سيحاسَبُ يوم القيامة عن نيّته، وكلمته، وموقفه، وما بذل وجاهدَ في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا !(/3)
الدعوة الإسلامية عبر شبكة الانترنت
محمد درويش
al_qasem777@yahoo.com
في ظل عصر ما يسمى بالعولمة حيث تطورت وسائل الاتصالات والأنظمة الالكترونية لتصبح الأداة الأكثر أهمية في العصر الحديث ، تبرز ملامح ومتغيرات لهذا التطور العالمي المتسارع تنعكس على جميع مجالات الحياة المختلفة .
ومن أهم الوسائل التي ظهرت في عالم الاتصالات والأنظمة الالكترونية ، هي ما يسمى بالشبكة العالمية " الانترنت " ، الاداة التي أبهرت العالم بإمكانياتها واتساعها وانتشارها
ويعتبر ظهور هذه الشبكة تطورا كبيرا وعميقا شمل جميع المجالات ووسّع الأفق لكل المسارات ، وذلك لأن الانترنت وفّر ما لم يكن يحلم به أحد ، من سرعة اتصال وعرض معلومات وتبادل بيانات ونشر أفكار بل وحضارات ومعتقدات .
من هنا تأتي أهمية استخدام هذه الشبكة العالمية في مجال نشر الدعوة الاسلامية ، خاصة وأن الخطاب الاسلامي يعتبر خطابا عالميا شاملا لكل الناس وهذه الخصيصة تجعل من شبكة الانترنت أرضية مناسبة وخصبة لنشر الدعوة الاسلامية الى العالمين .
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو كيف السبيل الى ذلك ؟
وللإجابة على هذا السؤال في هذا الوقت ، وأعني في هذا الوقت أي بعد أن بدأت بالفعل مجموعة من المواقع تجربتها في هذا المجال رغم تباينها في النجاح وتعدد غاياتها واهدافها ووسائل عملها ، يجب الانطلاق من عدة محاور :
أولا : التجارب الحالية :
بدأت فعلا عدة جهات في السنوات السابقة بإنشاء مواقع لنشر الدعوة الاسلامية عبر الانترنت، والحمد لله تجاوز عدد لا بأس به منها مرحلة البداية والتأسيس والشهرة لتصبح مواقع منافسة على مستوى جيد في الاداء والتنوع .
كما انها قامت بدور كبير جدا وعلى المستوى العالمي بنشر الدعوة الاسلامية وبالطريقة المرجوة المناسبة وأمثلة تلك المواقع كثيرة يعلمها كثير من الناس .
ومع هذا الدور الكبير التي تقوم به وما تزال تلك المواقع في نشر الدعوة الاسلامية ، إلا أننا بحاجة الى المزيد من المواقع لا من حيث العدد فقط بل من حيث التنوع والتخصص والإثراء وبالتالي التكامل والشمول .
ثانيا : متطلبات الدعوة الاسلامية :
إن الدعوة الاسلامية في هذا العصر المليء بالمغريات والمعتقدات ، والذي يتعرض فيه الإسلام والمسلمون الى غزو ثقافي مكثف على جميع المستويات ، تحتاج الى عمل مؤسسي وجماعي منظم وموجه على المستويين الشعبي والرسمي ، لكي يصل الى درجة التأثير المحلي والعالمي ، ومن هذا المنطلق يجب استخدام جميع الوسائل المتاحة عبر الانترنت ، والتي ستعطي الفرصة المناسبة مع الوسائل الاخرى لهداية البشر ان شاء الله ، ولإثبات أن هذا الدين هو المنقذ الوحيد لها وهو الدين الوحيد الذي يصلح للتطبيق في كل زمان ومكان .
ثالثا : تكثيف الجهود لتتناسب مع حجم المتطلبات :
رغم ما ذكرت سابقا عن التجارب المنافسة والقوية التي بدأت فعلا في مجال الدعوة الاسلامية عبر شبكة الانترنت ، إلا أن المتطلبات لهذه الدعوة المباركة تحتاج الى تكثيف الجهود أكثر فأكثر للاستفادة من هذه الوسيلة المهمة على أكمل وجه .
ومن الأمور التي تحتاج منا إلى وقفة وتدعونا بإلحاح إلى تكثيف الجهود في هذا المجال :
1. الإبداع والتميز في عرض الدعوة : فهناك حاجة الى الإبداع في العرض وجذب الناس الى الدعوة الاسلامية وهذا الأمر يحتاج بالغالب الى متخصصين لديهم درجة عالية من الإخلاص والإرادة لتحقيق نقلات نوعية فيها إبداع وتميز في العرض .
2. الأخذ بعين الاعتبار أن الخطاب الدعوي عبر الشبكة يجب أن يكون على مستوى العصر فهناك تطورات مستمرة في الحياة وهذه التطورات يجب ان تأخذ بعين الاعتبار حيث يتحقق الجمع بين الأصالة والمعاصرة .
3. رفع مستوى الأداء والتقييم ومن خلال هذا التقييم العملي والعلمي البنَّاء يكون التطوير المستمر وهذا ينعكس مباشرة على الأداء .
4. المرونة المناسبة التي تزيد من رقعة الانتشار العالمي .
5. تعدد الوسائل واختلافها لتتناسب مع اكبر شريحة ممكنة من البشر .
6. وفي هذا السياق ممكن إنشاء رابطة للمواقع الإسلامية يكون الهدف منها التقييم المستمر والعناية بتكامل الجهود وشمولها وتشجيع التنافس ضمن معايير عالية الجودة.(/1)
الدعوة الإسلامية في مواجهة التنصير ... ... ... الدعوة الإسلامية في أشد الظروف وأصعبها، التنصير في العالم الإسلامي، شهود يهوه، فرقة نشيطة، واجب المسلمين، الحالة غير ميئوس منها، انتصار الإسلام.
الدعوة الإسلامية في أشد الظروف وأصعبها:
إن جمهورية جنوب أفريقيا هي بمثابة محيط من النصرانية، وإذا كانت ليبيا تتباهى بوجود أعلى نسبة من المسلمين بها بين سائر بلدان قارة أفريقيا، فإن جمهورية جنوب أفريقيا تتباهى أيضاً بوجود أعلى نسبة من النصارى بها بين بلدان القارة الأفريقية، حيث يشكل المسلمون ( بالكاد ) - 2% - من مجموع السكان، أننا أقلية محرومة من حق الانتخاب: فمن الناحية العددية لا نساوي شيئاً، ومن الناحية السياسية لا نساوي شيئاً أيضاً.
فلو اننا تظاهرنا بالسكون فقد نعذر!. ولكن لا، إنه يتعين علينا أن نعلن إرادة ربنا، لابد أن نظهر الحق سواء أحببنا أم لا، وقد قال عيسى - عليه السلام -: ( وتعرفون الحق، والحق يحرركم )( يوحنا 32:8 ).
التنصير في العالم الإسلامي:
لقد فقدنا مهارة وبراعة نشر الدين لأننا توقفنا لقرون طويلة عن دعوة من حولنا إلى الإسلام، إن النصارى يطرقون أبوابنا، والذين عميت قلوبهم وبصيرتهم، والذين يحاولون تجنب الخطر برفضهم مواجهته (( كالنعام )) في وسطنا هم فقط الذين لا يقدرون ( حجم الخطر )، فقد كان يوجد في الكويت أسرة نصرانية عربية واحدة منذ حوالي خمسين عاماً، واليوم هناك خمسة وثلاثون كنيسة في هذا البلد الصغير ( هذه الإحصائية ترجع إلى سنة 1981).
إن شهود يهوه: إحدى الفرق النصرانية التي نشأت في الولايات المتحدة الأمريكية منذ مئة عام مضت؛ يزعمون أن ثاني تجمع لهم خارج الدولة التي نشأوا فيها هو في دولة نيجيريا المسلمة.
وفي أندونيسيا - أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان المسلمين - هناك ستة آلاف منصر يبلغون دينهم، ويعملون طوال اليوم، وهم ليسوا قساوسة أو أصحاب أبرشيات أو كهنة يقومون بالخدمة متصلين بكنائسهم، ولكنهم دعاة ناشرون لدينهم ( صليبيون يعملون بتعصب وحماسة ( ضمن خطة للدعوة ) بين غير النصارى، ويضايقون باستمرار الوثنيين ( الهمج غير المتمدنين كما يسمونهم)).
إن هؤلاء المنصرين لديهم عدد من المهابط للطائرات الخاصة بهم أكثر مما تملكه الحكومة الإندونيسية!!.
ولديهم سفن للتنصير، ترسوا بعيداً عن الجزر، لأن إندونيسيا دولة تتكون من أكثر من ألفي جزيرة، ليس بها موانئ أو أرصفة كثيرة، وهم يدعون أبناء البلد لتناول الشراب أو الطعام، ولحضور حفلات الترفيه على متن السفن، ثم يدعونهم " بخبث ومهارة " إلى كفرهم، وهم يهدفون من خلال عمليتهم التي يرمز اليها سراً بـ( الإسراف في القتل ) إلى تحويل إندونيسيا إلى أمة نصرانية بحلول القرن القادم.
ومن بين الستمائة ألف منصر - الذين يثيرون الاضطراب في كل مكان من العالم - فإن أكثر من نصفهم مشغولون بمهامهم في أفريقيا.
إن أفريقيا: القارة الوحيدة المسلمة اليوم، تتعرض للغارة من قبل الصليبين العصريين، الذين يهدفون إلى جعلها قارة نصرانية أيضاً بحلول القرن القادم.
إن درعنا وسيفنا وترسنا في هذه المعركة العقائدية هو القرآن الكريم، الذي طالما رتلناه لقرون طويلة من دون العمل به، ولكن يجب علينا اليوم أن نستثمره في ساحة القتال.
شهود يهوه:
انتشرت فجأة وبسرعة مقلقة منذ مئة عام أكثر من مئة فرقة وطائفة نصرانية جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية.
ومؤسس فرق (( شهود يهوة )) هو القاضي ( رثرفود )، لقد كان هذا القاضي لا يشبع من مطالعة الكتب، وكان كاتباً كثير التأليف، ولقد تعثر في كلمة (( جيهوفة )) التي أبهجته لدرجة كبيرة، فصنع منها ديانة!!
لقد ابتدع القاضي (( رثرفود )) ومن بعده (( تشارلز ت. رسل )) كنيسة جديدة، فريدة من نوعها في العالم، من حيث تنظيمها وإدارتها، وهناك الكثير الذي يمكننا أن نتعلمه ( نحن المسلمون ) من طريقتهم، فلتقرأ كتاب (( ثلاثون عاماً كخادم لبرج المراقبة ))، ( إنني لست معجباً بعقيدتهم، ولكن تعجبني طريقتهم في العمل )، فلتقرأ كيف أوشكت هذه الفرقة الفاسدة على إخضاع ألمانيا قبل زمن ( هتلر ).
فرقة نشيطة:
لقد حقق (( شهود يهوة )) نجاحاً غير عادي بالنسبة لكل الفرق الدينية التي ظهرت خلال المئة عام الماضية.
فالبهائيون يتحركون ببطْ ء شديد إذا ما قورنوا بـ(( شهود يهوة )).
وهؤلاء (( الشهود )) هم أكثر إعداداً واستعداداً في معركتهم ضد النصارى الآخرين، وضد المسلمين أيضاً.
والسبب في ذلك: هو أنهم ينخرطون خمس مرات أسبوعياً في نظام يتخذ الفاعلية تجاه تحقيق الأهداف، وذلك في (( قاعات اجتماعات الملكوت ))، وفي نهاية كل أسبوع ينفذون ما تعلموه في هذه الاجتماعات.
يفترض علينا كمسلمين أن (( نجتمع )) خمس مرات يومياً بأدائنا الصلاة، ولكننا ضللنا عن المقصد الحقيقي من هذه الدعامة من دعائم الإسلام، فقد أصبحت صلاتنا خالية جوفاء من معناها الحقيقي.(/1)
إنهم يطرقون أبواب الناس سائلين: ( ما اسمه )؟ ( أي ما اسم الإله )، فيجيب النصراني العادي: ( الرب )، فيردون عليه بأن: ( الرب ليس اسماً، فما اسمه؟ )، فيقول النصراني العادي - محاولاً الإجابة للمرة الثانية -: ( الأب )، فيسالونه: ( هل أبوك هو الرب؟! لا طبعاً فما اسمه؟! إن اسمه (( جيهوفة ))!).
هذا ما يقوله (( شاهد يهوة )) لكل من المسلمين وغير المسلمين على السواء.
واجب المسلمين:
نحن كمسلمين ( اليوم ) لم نفعل شيئاً حقاً من أجل ملايين الضالين في العالم، يجب علينا أن ننقذهم من ( الشرك ). إن الذين يتخذون آلهة بشرية ويعبدونها من دون الله في أرض الله أكثر من هؤلاء الذين يعبدون الله الواحد الحق - سبحانه وتعالى -، والشقاء الذي يعيش فيه العالم الإسلامي هو بسبب إهمالنا الكامل في العمل بالإسلام، والدعوة إليه، إن نشر الإسلام هو فرض على المسلم، إذا سقطت هذه الدعامة عندك فأنت على خطر عظيم، ولتعلم أن عقاب الله يأتي بغتة.
وإذا سألت: كيف لك أن تقوم بدورك في دعوة النصارى؟!
فالإجابة ببساطة هي: أن تحفظ ( على الأقل ) آية واحدة من كتاب القرآن الكريم، وهي: (( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام أنظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ))( المائدة 75).
انك بهذه الآية الوحيدة فقط ثم بقذيفة من العلم الشرعي - ولو كان قليلاً - مهيأ لاقتلاع كل نوع من أنواع الشرك بالله التي ابتلي بها عباد الله.
يقول - عز وجل -: (( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ))( الصف 9 ).
ألا تؤمن بوعد الله؟!! (( وعد الله حقاً ))( النساء 122 ).
الحالة غير ميئوس منها:
إن واجبنا هو أن نبلغ الرسالة بصوت مسموع واضح، وأن نترك الباقي ( الهداية ) على الله - سبحانه وتعالى -، والحالة غير ميئوس منها.
يجب أن نجد طرقاً وأساليب ووسائل للاتصال بالكفار، وتبليغهم الدعوة.
افتح القران الكريم، واجعل من تعرف من النصارى يقرؤون الآيات التي تقول: (( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم )( مريم 34-36 ).
انتصار الإسلام:
(( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ))( الصف 9).
قبل أن تنقضي عشرون سنة على نزول هذه الآية كان قد تحقق الوعد المذكور، وقد ضعضعت الدولتين العظيمتين في تلك الأيام وهما فارس والإمبراطورية الرومانية بيد المسلمين، وسادت قوة الإسلام لقرون من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي.
ويا للحسرة على المسلمين اليوم فقد فترت همتهم، ولكن لا تخف ولا تحزن، فالعالم الإسلامي ينهض الآن، وهناك رجاء، وأصحاب الرؤى والبصائر من غير المسلمين في الغرب أيضاً قد تنبأوا بأن يعلو قدر الإسلام عالياً من جديد.
يقول هـ و ج و ولز ( مؤلف إنجليزي يعتبر أحد أبرز كتاب الروايات ): ( إن أفريقيا مجال طيب لجميع الأديان، ولكن الدين الذي سيقبله الأفريقي هو الدين الذي يناسب حاجاته بشكل أفضل، وكل من يحق له الكلام في هذا الموضوع يقول: إنه الإسلام ).
ويقول برنارد شو: ( لو قدر لأي دين أن يغزو انجلترا، بل أوروبا في خلال المئة عام المقبلة، فالإسلام هو ذلك الدين ).
إنه بدون أي جهد حقيقي من المسلمين يخبرنا الغربيون بأنفسهم: أن الإسلام اليوم هو أسرع الأديان نماء في العالم،
وأرجو ألا يجعلنا هذا الخبر السار نهدأ، ونشعر بالسعادة، وأننا بخير.
إن وعد الله حق، وما قدره الله سيكون، ولكن مطلوب من جانبنا أن نبذل قليلاً من الجهد.
إنه قدرنا: أن نغلب وننتصر، ونحل محل، ونطرح كل فلسفة ومذهب وضعي وديانة، مهما كان مقدار شدة كراهية الكافرين لرسالة الإسلام.
الشيخ أحمد ديدات ... ...(/2)
الدعوة الإسلامية والغزو الثقافي
أ. د. جعفر شيخ إدريس
أُلقي هذا البحث في المؤتمر العالمي للدعوة الإسلامية الذي عُقد بالخرطوم (22-26 جمادى الأولى عام 1401هـ الموافق 28 مارس- 1 أبريل 1981م) بمناسبة القرن الخامس عشر الهجري. ثم نُشر في مجلة هذه سبيلي، العدد : 5 ، 1403-1983، ثم نشرته رابطة الشباب المسلم العربي في عام 1987م على شكل كEتيب صغير.
.
مقدمة
مقتضيات العصر وأهواء العصر :
مكونات الحضارة الغربية :
هذه هي أهم مكونات الحضارة الغربية … فماذا نأخذ من هذه الحضارة وماذا ندع ؟
ولكن أصحيح أن هذا التصور الإلحادي لازمة العصر ؟
ما هي أسباب هذه التبعية :
ما الحل إذن ؟
كيف نواجه الحضارة الغربية ؟
مقدمة
ما من شك في أن الغرب بشقيه الرأسمالي والشيوعي يرمي العالم الإسلامي كل يوم بوابل من سهامه الفكرية في صورة نشرات خبرية وأحاديث إذاعية ، وتمثيليات ومقالات ، وصور ، وكتب ، ومحاضرات جامعية ، ودروس مدرسية وغير ذلك من أشكال الفكر والدعاية .
وما من شك في أن هذه مصيبة كبيرة
ولكن المصيبة الكبرى هي قبولنا نحن لهذا الفكر كله ، وعدم التفرقة بين ما كان منه سماً قاتلاً ، وما كان بلسماً شافياً ولذلك فإن عبارة (الغزو الفكري) لا تصف الواقع وصفاً دقيقاً[1].
إذ لو كنا ننظر إلى الفكر الغربي المسلط علينا على أنه غزو لأعددنا لمواجهته ما استطعنا من قوة ، ولقاومناه بقدر الوسع والطاقة ، ولكن مشكلتنا أننا لا نعتبره غزواً يَستعبِد بل قوة تُنقذ وتُحضر وتُحرر ، ولها فإننا لا نكتفي بما يوجهه الغرب إلينا من قذائف ، بل نسعى للاستزادة من فكره وحضارته..
أ- بالذهاب إليه في موطنه لنتعلم منه ليس فحسب العلوم النافعة ولكن التصورات الفلفسية والقيم الخلقية والقوانين والعادات والتقاليد .
ب- وبأن نكون رسله المخلصين إلى بلادنا نبث بين أبنائنا ما تلقياناه عليه ونترجمه إلى لغاتنا الإسلامية ونشرحه وندعوا إليه وندافع عنه فعل المقلد المعجب المشدود الذي لا ينقد ولا يجتهد ولا يُقوّم..
جـ- وباستجلاب كتبه ودورياته وصحفه ومجلاته .
د- وبدعوة أبنائه في شكل مدرسين وأساتذة جامعات وخبراء في شتى المجالات.
فإذا صح أن الفكر الغربي يغزونا ، فصحيح أيضاً أن أقوى أدواته لغزونا هم أناس من بني جلدتنا ، إنهم حكامنا وإداريونا ومدرسونا وكتابنا ومحررو صحفنا وإعلاميونا بل وضباطنا وأطباؤنا ومهندسونا وسائر أفراد الطبقة القائدة في بلادنا إلا من رحم ربك وقليل ما هم. ومع هذا أقول إن حل مشكلة (الغزو الثقافي) الغربي للعالم الإسلامي لا تكون بقطع الوشائج الفكرية بيننا وبين الغرب ، فإن ذلك غير ممكن وغير مفيد . وإنما يكون بدراسة الحضارة الغربية دراسة تحليلية عميقة للتفرقة بين ما كان منها نافعاً يؤخذ أو ضاراً يترك بميزان علمي خلقي يقبله كل عاقل . وبدراسة الأسباب العميقة لتيعيتنا لهذه الحضارة وسيطرتها علينا ثم بالتماس الحلول التي تؤدي إليها تلك الدراسة . ثم بالعزيمة الصادقة القوية على وضع هذه الحلول موضع التنفيذ . وسأحاول في هذا المقال أن أضيف إضافة متواضعة إلى الجهود التي بُذلت في هذا السبيل ، ومن الله العون وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل .
مقتضيات العصر وأهواء العصر :
أنصار الفكر الغربي في بلادنا وكثير من أئمته في بلاده يُصورون الحضارة الغربية على أنها حضارة العصر ، لا يمعنى أنها الحضارة السائدة والمسيطرة فيه ، فذلك أمر حسي لا ينكره إلا مكابر ، ولكن بمعنى أن فكرها وقيمها هي القيم التي يقتضيها العصر .
والإنسان بطبيعه يميل إلى أن يكون ابن عصره ، يلبس كما يلبس أبناء العصر ، ويسكن كما يسكنون ، ويتكلم كما يتكلمون ، ويتعلم كما يتعلمون ما يُعينه على أن يعيش كما يعيشون ، والأمم تميل مثل هذا الميل فلا تريد التخلف عن ركب الأمم المعاصرة لها في مسكن ولا ملبس ولا قوة ولا علم يسهل الحياة ويوسع الآفاق وينير البصائر ، ولكن البون شاسع بين المعاصَرة والإمَّعِيَّة.
إن المفهوم الصحيح للمعَاصَرة كما أتصوره هو أن تكتسب الأمة تلك العلوم والمهارات والأدوات والأشياء التي يقتضيها العصر ، يقتضيها بمعنى أن الأمة التي لا تكتسبها تكون متخلفة بالقياس إلى أمم معاصرة لها في إنتاجها المادي ، وقوتها التسعكرية ، وأثرها الثقافي ، وتكون لذلك أمة ضعيفة لا تستطيع الدفاع عن نفسها ، بل أن تنشر فكرها وثقافتها .(/1)
فإذا شعرت أمة كالأمة الإسلامية أنها تخلفت عن ركب التاريخ فعزمت على اللحاق به فمن الطبيعي أن تنظر في حال الأمم التي سبقتها لتعرف سر تفوقها فتتعاطااه كي تكون مثلها ، ولكن هذا هو الموطن الذي زلت فيه أقدام كثير من القادة والمفكرين من أبناء الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم التي أرادت أن تحذو حذو الغرب لتلحق به ، وسبب الزلة أنهم حسبوا أن كل ما في الغرب فهو من لوازم العصر ومقتضياته ولم ينظروا نظرة الباحث المتروي الذي يحاول جهده أن يفرق بين مقتضيات العصر وأهواء العصر ، أو بين أسباب التقدم الحقيقية وملابساته العرضية . فكان مثلهم كمثل رجل سبقه آخر في مباراة الجري فقال لكي أكون عداء مثله فلا بد أن اتخذ قميصاً كقميصه وتُباناً كتبانه[2] شكلاً ولوناً وحجماً . لا تستغربوا ما أقول فأنا أصور واقعاً ولا أرسم "كركتيراً) . ألم يروِ لنا الفيلسوف والأديب المصري الشهير الدكتور زكي نجيب محمود عن نفسه أنه مر عليه زمان كان يرى فيه " أنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بتراً ، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علماً وحضارة ووجهة نظرٍ إلى الإنسان والعالم ، بل إني تمنيت عندئذ أن نأكل ما يأكلون ونجدُّ كما يجدون ونلعب كما يلعبون ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون ، على ظن مني آنئذ أن الحضارة وحدة لا تتجزأ ، فإما أن نقبلها من أصحابها وأصحابها اليوم هم أبناء أوروبا وأمريكا بلا نزاع وأما أن نرفضها وليس في الأمر خيار بحيث ننتقي جانباً ونترك جانباً كما دعا إلى ذلك الداعون إلى اعتدال" [3].
إن هذا الأستاذ ليس شاذاً بين مثقفي العالم الإسلامي ، وأقواله هذه ليست فلتات عابرة وإنما هي تعبير عن حال فريق كبير من مثقفي هذه الأمة وعوامّها .
ولكن أصحيح أن كل ما في الغرب من فكر هو من مقتضيات العصر ، بحيث يصبح الذي يرفضه متخلفاً عن ركب عصر ، أو عائشاً خارج التاريخ كما يقولون ؟ لكي نجيب على هذا السؤال لابد أن نلقى على الفكر الغربي نظرة تحليلية فاحصة لنرى مم يتكون هذا الفكر؟ ولنعرف مكوناته لازم لعصرنا وأيها طارئ عليه.
مكونات الحضارة الغربية :
أن الحضارة الغربية تتكون على وجه الإجمال مما يلي :
أولاً : حقائق رياضية أو طبيعية أو اجتماعية أو نفسية تبثت صحتها بالتجربة الحسية أو البرهان العقل .
ثانياً: نظريات عملية عن الطبيعة أو الإنسان فرداً وجماعة وهي ثلاثة أنواع:
أ- نوع نجح في تفسير كثير من الظواهر ولم نجد ما يدل على بطلانه وإن كنا لا نقطع بصحته .
ب- نوع ما زال في طور التجربة
جـ- نوع ثبت بطلانه .
ثالثاً: تقنية تكاد تشمل كل جوانب الحياة أدى إليها تطور العلوم الطبيعية والرياضية .
رابعاً: مهارات تقنية وإدارية على تلك العلوم .
خامساً: تصورات دينية أو فلفسية للوجود ومكانة الإنسان فيه وللقيم الخلقية والجَمالية ولعلاقة الفرد بالمجتمع .
سادساً: أوضاع سياسية واقتصادية وعلاقات اجتماعية وعادات وتقاليد تسوغها تلك التصورات .
ثامناً: ولكن الفكر الغربي بشقيه الليبرالي الرأسمالي والأممي الشيوعي ليس مجرد خليط من الأفكار والتصورات المتماثلة القوة والفاعلية ، بل إن منه ما يمكن اعتباره الفكر المسيطر المهيمن على غيره ، والذي يمثل الأصل والإطار التصوري اشامل للفكر الغربي ، ويمثل في ذات الوقت معياره التقويمي للحق والباطل ، وللخير والشر ، لما ينبغي أن يبحث وما ينبغي أن يهمل ، ولِما يقبل وما يرفض ، بل ويمثل الإطار الذي توضع فيه الحقائق العلمية ومن ثم تفسر تفسيراً يتناسب معه وتستنتج منها نتائج توافقه .
هذا الفكر السائد المهيمن فكر إلحادي مادي فحواه :
أ- أن الواقع الموضوعي يتكون في النهاية من لبنات مادية متناهية الصغر في حجمها متحركة في فراغ .
ب- أن كل ما في الوجود فهو إما هذا اللبنات ، وإما أشياء مركبة منها ، وإما علاقات بينها وما سوى ذلك فلا وجود حقيقي له .
جـ- إن طبيعة هذه المركبات سواء كانت أجساماً جامدة أو كائنات حية ، أو جماعات بشرية تفسرها في النهاية طبيعة اللبنات المكونة لها ، هذا على الرأي السائد بين جمهرة المشتغلين بالعلوم الطبيعية وهنالك رأي لكثير من فلاسفة العلوم يقول أن المركبات تكتسب بحكم تركيبها طبيعة جديدة لا يمكن ردها إلى الأجزاء المكونة.
د- أنه ينبغي لذلك أن نلتمس تغسير الظواهر النفسية والاجتماعية والحيوية والفيزيائية في أسباب ضمن هذا الكون المادي ، أي أن الكون المادي كون مكتف بنفسه ، غير محتاج إلى قوة خارجه تخلقه أو ترسم مساره أو تدير أمره .
هـ- ولذلك فإن كل عبارة تنطوي على دعوى تخالف في ظاهرها هذا التصور ، فإما أن نحكم ببطلانها وإما أن نُعيد تفسيرها ، بحيث نجد لها مكاناً داخل هذا الإطار الإلحادي المادي .
و- وكل ظاهرة يُدَّعي أنها خارقة لقوانين الطبيعة فهي إما كذب أو وهم لا أساس له .(/2)
ز- وكل تفسير للظواهر النفسية أو الاجتماعية … الخ بأسباب خارج هذا الإطار لا يُعتبر تفسيراً علمياً، أي أن التفسير العلمي هو بالضرورة تفسير إلحادي ، حتى أن كلمة العلم أصبحت في العالم كله تقريباً عَلَماً على هذا التصور الإلحادي للعلم ، ولهذا أمكنت المقابلة بين العلم والدين.
هذه الفلسفة الإلحادية تمثل كما قلت إطار الفكر الغربي كله ، بما في ذلك الحقائق العلمية ، فحتى هذه توضع داخل هذا الإطار ومن ثم ينظر إليها من خلاله ، وتفسر تفسيراً يتناسب معه ، ولا يستنتج منها إلا النتائج التي توافقه ، إن كثيراً من الناس يعتقدون أن الحقائق الجزئية المشهودة هي وحدها المهمة وأن لها الغلبة على التصورات الفلسفية ، ولكن الحقيقة أن الإطار التصوري الخاطئ يؤثر على نظرة الإنسان إلى الحقائق الجزئية ، ويحجب عنه مدلولاتها الحقيقية .
(ولقد أتوا على القريةِ التي أُمْطِرت مطَرَ السَّوءِ أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجُون نُشُوراً) [الفرقان:40]
أفلم يكونوا يرونها ؟ بل كانوا يرونها ، وكيف لا يرى الإنسان بلداً كاملاً وهو يمر عليه ذاهبا وآيباً؟ ولكنهم لم يستنتجوا من رؤيتهم لها العبرة التي ينبغي أن تُستخلص لإن تصورهم المُنكِر للبعث يمنعهم من هذا الاستنتاج ، ويقف بهم عند حدود الظواهر .
(يعلمون ظاهراً من الحياةِ الدنيا وهم عن الآخرةِ هم غافلون) [الروم:7] .
المثقفون في الغرب كله بشطريه - إلا فئة قليلة - متأثرون على درجات متفاوتة بهذه الفلسفة الإلهية ، فمنهم من يقبلها قبلاو كاملا ويعلن كفره بالله وبالدين في صراحة ، ومنهم من يعتبرها منهجا علميا ينتهجه إذا دخل معمله أو كتب بحثه ، أو ناقش زملاءه ، ثم يخلعه إذا ذهب لكنيسته أو بيعته ، ومنهم من يقبله حقيقة ولكنه ينتمى إلى الدين اسماَ لأنه يفسر كل المفاهيم الدينية تفسيراَ لا يخرجُ عن هذا الإطار .
أنا لا أُنكِر أن من المفكرين الغربيين من ينكر الفلسفة المادية وينتقدها ، ولكني أقول ما كل من ينكر الفسلفة المادية فهو مؤمن بل إن من أشد ا‘داء الفلسفة المادية قوم ملحدون ، والذين ينكرونها على أساس ديني ينتمون إلى أديان شركية خرافية.
هذه هي أهم مكونات الحضارة الغربية … فماذا نأخذ من هذه الحضارة وماذا ندع ؟
يرى فريق من المثقفين في العالم الإسلامي - كما رأينا من قبل- أننا ينبغي أن نأخذ هذه الحضارة كلها بما في ذلك إطارها الفلسفي ، ونطرح كل ما خالفها من دين وتراث وعادات وتقاليد، لماذا ؟ لأن إطارها الفسلفي هو الذي يمثل فلسفة العصر ، لا يمعنى أن التصور السائد بين جمهرة المشتغلين في الغرب بالعلوم الطبيعية أو البشرية وفلسفتها ، فذلك أمر هين وقد يكون حقاَ ، ولكن بمعنى أنها التصور الذي يقتضيه العصر والذي يعتبر متخلفا عن عصره كل من لا يقول به .
ولكن أصحيح أن هذا التصور الإلحادي لازمة العصر ؟
إن هذا التصور ليس جديداَ وإذا ثبت أنه ليس جديداَ فقد ثبت أنه ليس مما أنتجه عصرنا ، وإنما هو مما أخذه بعض أبناء هذا العصر عن أسلافهم الملحدين ثم روجوا له وألبسوه ثوب العلمية والمعاصرة .
ودليلنا على عدم جدته أن الناس منذ قديم العصور منقسمون في تصوراتهم للوجود إلى فريقين : فريق يرى الكون المادي فقيراَ غير مُكتَفٍ بنفسه ، شاهداً على خالقه ، الذي ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، وأن هذا الكون المرئي ليس كل ما خلق هذا الخالق الحكيم ، فإن له مخلوقات أخرى منها ملائكة ومنها جن ، ومنه جّنة تختلف طبيعة الأشياء فيها عن تلك التي نعرفها في عالمنا هذا وإن اتحدت الأسماء .
وفريق يرى أنه لا حق إلا ما أدرك بالحس المباشر وأن الكون غنيٌ بذاته ، وأنه لا خالق ولا بعث ولا ملائكة ولا جن .
وفريق ثالث يتردد بين هذين الموقفين اللذين لا يمكن الجمع بينهما فيميل هنا تارة وهنالك تارة أخرى فتأتي أقواله متناقضة ومواقفه متعارضة .
لنا على على قِدم هذا التصور الإلحادي أدلة كثيرة ، نكتفي ببعض ما رواه لنا القرآن الكريم من أقوال الأمم الكافرة ، وببعض ما قاله أصحاب الفلسفة المادية من فلاسفة اليونان وببعض أقوال الذين تأثروا بهؤلاء ممن سُموا بفلاسفة الإسلام .
يروي لنا القرآن الكريم أن الكفار من بني إسرائيل بنوا كفرهم على أساس أنهم لم يروا الله الذي يحدثهم عنه موسى :
(وإذ قلتم يا موسى لن نُؤمِنَ لك حتى نرى الله جَهْرَةَ) [البقرة:55]
وكرر بعض كفار العرب نفس القول فاشترطوا لإيمانهم أن يأتي الرسول بالله والملائكة قبيلاَ
(وقال الذين لا يرجون لقاءَنا لولا أُنزِلَ علينا الملائكةُ أو نرى ربنا، لَقَدِ استكبروا في أنفسهم وعَتَوْ عُتُواَ كبيراً) [الفرقان:21]
(أو تُسقِطَ السماءَ كما زعمتَ عَلَينا كِسَفاَ أو تَأْتِي بالله والملائكة قبيلاً) [الإسراء:92] .
واشترطوا لإيمانهم بالبعث أن يُبعث من مات من آبائهم كي يروهم عيانا :(/3)
(وإذا تُتلى عليهم آياتُنا بينات ما كانَ حُجَّتَهُم إلا أن قالوا ائْتُوا بئَابآئِنَا إن كنتم صادقين) [الجاثية:25] .
وفي مجال الزعم بأن الكون مكتف بنفسه غير محتاج إلى قوة من خارجه قالوا :
(وقالوا ما هي إلا حياتُنَا الدنيا نموتُ ونحيا وما يُهلكُنآ إلا الدهر) [الجاثية:24] .
وكذلك فسروا حوادث التاريخ بأنه مصادفات من فعل الدهر لا أقدار خالق حكيم .
(وما أرسلنا في قرية من نبيٍ إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون . ثم بدلنا مكان السيئةِ الحسنةَ حتى عَفَوا وقالوا قد مَسَّ ءَابآءَنا الضرآء والسرآءُ فأخذناهم بَغْتَةُ وهم لا يشعرون) [الأعراف:94-96] .
قال ابن كثير : " وقالوا قد مسنا البأساء والضراء ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الزمان والدهر ، وإنما هو الدهر تارات وتارات …"[4]
وأما الفكر اليوناني الذي يمثل أقوى جذور الفكر الغربي المعاصر فقد كان فكراَ شركياَ إلحادياَ وقد وجدت في هذا الفكر جذور الفلسفة المادية الإلحادية في شكل المذهب الذري الذي قال به ليوسيبس في حوالي منتصف القرن الخامس قبل المبلاد ، كما قال به من بعده واشتهر به ديمقريطس ، خلاصة هذه الفلسفة أن كل الموجودات تتكون من ذرات مادية صلدة لا تنقسم ، وأن هذه الذرات أزلية في ذاتها وفي حركاتها وأنه لا خالق لها ومدبر لأمرها . وأرسطو الذي انتقد هذا المذهب كان هو نفسه معتقداَ بأزلية الكون وأزلية الحركة وهو اعتقاد يتنافي مع وجود الخالق ويتسق اتساقاً تاماً مع المادية الإلحادية.
وكما أن بعض من سموا بفلاسفة الإسلام من أمثال ابن سينا تأثروا بالفلسفة الأرسطية وقالوا كما قال بأزلية العالم ، فقد تأثرت بعض الفرق الإسلامية بالمذهب الذرى فقالوا إن الكون مكون من ذرات وأن الخَلْقَ إنما هو جمع وتفريق لهذه الذرات . ولم يقتصر تأثر المسلمين بالفلسفة المادية الإلحادية على هذا فقط بل إن بعض من سموا بفلاسفة الإسلام كانوا يحاولون جهدهم أن يفسروا كل شيء إسلامي في هذا الإطار الإلحادي اليوناني ، فقالوا لذلك إن الملائكة هي قوى الخير والجن قوى الشر ، والله هو العقل الفعّال والوحي قوى نفسانية إلى غير ذلك من المسائل التي كفّرهم بسببها علماء الإسلام .
الفريق الثاني من المتأثرين بهذا التصور هو فريق المنتسبين إلى الإسلام صدقاً أو نفاقاً ، والذين يتصورون الوجود ، بل ويحاولون تفسير الإسلام ضمن هذا الإطار الإلحادي كما فعل أسلافهم ممن سموا بفلاسفة الإسلام - هؤلاء في نظري أخطر من الفريق الأول ، فالفريق الأول عدو سافر ، وهذا عدو مستتر . فنقل الإلحاد إلى جماهير المسلمين بوساطتهم أيسر وتلبيسهم عليهم أشد. ولا يستغربن أحد ما أقول، فإن مؤرخي الفكر الغربي يَرُدون جذور الإلحاد إلى فلسفات "ديكارت" و"كانت" رغم أنهما كانا يؤمنان بوجود الله ، ولكن العبرة ليست بما يؤمن به الكاتب في داخل نفسه بل بما يدل عليه قوله وما يلزم عن هذا القول.
أنا لا أريد أن أقول إن كل ما يفسر الإسلام ضمن هذا الإطار ملحد حقاً ، مظهر للإسلام - إن أظهره - نفاقاً ، ذلك لأنني أظن أن الكثيرين منهم يقبلون هذا الإطار على أنه الإطار العلمي وهم حين نحسن الظن بهم يريدون أن يُبينوا أن لا تعارض بين الإسلام والمنهج العلمي والحياة المعاصرة ، ولذلك فإنهم يقدمون تفسيراتهم هذه على أنها التفسير الذي يقتضيه العلم وتقتضيه مسايرة الإسلام لظروف العصر لا على أنه التفسير الإلحادي للدين وهم في هذا سالكون منهج كثير من المفكرين المسيحيين مشابهون لهم أو متَشبهون بهم .
هذا الفريق نوعان منهم من قبل هذا الإطار لا في مجال التشريع العملي فحسب بل وفي مجال العقيدة أيضا ، ومنهم من قبل لوازمه في مجال التشريع ، وإن لم يقبلها في محال العقيدة أو ظل على الأقل صامتا عنها في هذا المجال .
ولبيان خطر هذا التصور في مجال العقيدة وشناعته أقول :(/4)
إن الإيمان بالله واحداُ لا شريك له هو لُب الإسلام وعماده ، فهو الإطار الذي يحوي كل تفاصيله ، وهو الأساس الذي تبنى عليه كل فروعه ، وهو المقدمة التي تستخلص منها كل نتائجه . والعلم بالله تعالى هو أشرف العلوم وأنفعها لأنه كلما ازداد علم الإنسان بالله ازداد إيمانه به وثقته فيه توكله عليه وحبه له وخوفه منه ، ورجاؤه وشكره وطاعته وسائر الحالات والصفات المعبرة عن إخلاص العبودية له تعالى . وقد تفضل الله تعالى فعرفنا بنفسه في كتابه المنزل ، وعلى لسان نبيه المرسل . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعرف الناس بالله وأشدهم له خشية ، وكان أصحابه من بعده أعرَف هذه الأمة بربها وأشدها له خشية. والطريقة التي سار عليها هؤلاء الأصحاب في فهم ما قاله الله تعالى عن نفسه ، وما قاله عنه رسوله أن يُثبتوا له كل صفة أثبتها لنفسه في القرآن أو السنة على أنها صفة حقيفية وأن ينفوا عنه كل ما نفاه عن نفسه. فإذا قال تعالى إنه سميع بصير حي قيوم ، أثبتوا له هذه الصفات، وإذا قال إنه تعالى يُحب ويرضى ويكره ويغضب قالوا عنه ما قال عن نفسه، وإذا أثبت لنفسه وجهاً ويداً قالوا إن له وجهاُ ويداُ، وإن قال (الرحمن على العرش استوى) أثبتوا لله صفة الإستواء وآمنوا بأن العرش والكرسي من مخلوقاته، ولم يُمثلوا شيئاً من هذه الصفات الإلهية بصفات المخلوقين لأنهم يعلمون أن الله ليس كمثله شيء ، ولم ينفوها عنه أو يؤولوها تأويلاً يُبطل حقيقتها لأنهم يعلمون أن ذاتاً بلا صفات حقيقية هي وهم لا حقيقة له. على منهج هؤلاء الصحابة الكرام سار من جاء بعدهم من كبار التابعين وتابعيهم وسائر أئمة أهل السنة والجماعة . ولكن هذا العلم بالله تعالى الذي هو أشرف العلوم وأهمها لا يكاد اليوم يُوجد إلا عند قلة من الناس وذلك لأسباب تاريخية منها تأثر المسلمين بعقائد ومذاهب جاهلية أهمها الفلسفة اليونانية المادية . لقد أثرت هذه الفلسفة في علم الكلام، وصار علم الكلام - مع الأسف - هو المختص بموضوع العقيدة وصفات الخالق تعالى، ولكن هذا الاتجاه المنحرف يُعضّد اليوم بأسباب جديدة هي تأثر المسلمين المتزايد بالتصورات الغربية المادية .
لقد كانت المعرفة الصحيحة بالخالق تعالى تقول إنه هو الحق ، وكانت تقول إن أصدق كلمة قالها الشاعر " ألا كل شيء ما خلا اللهَ باطل " وإذا كان الله تعالى هو الحق ، بإطلاق ، فإذا أثبت نفسه صفة كانت في حقه صفة حقيقية يتصف بها على وجه الكمال اللائق به سبحانه ، وإذا اتصف المخلوق بهذه الصفة كانت في حقه أيضا صفة حقيقية على وجه النقص اللائق بالمخلوق . فالله تعالى عليم حكيم رحيم سميع بصير والمخلوق موصوف بالعلم والحكمة والرحمة والسمع والبصر ، فالأوصاف في الحالين أوصاف حقيقية لا مجازية ولكنها في حق الله تعالى أحق لأنه هو الحق بإطلاق ، وهي في حقه أوصاف كمال لا يماثلها ولا يدانيها أوصاف المخلوقين .
ثم تغير الحال ، فاعتبر الناس -بلسان الحال إن يكن يكن بلسان المقال- وجود المخلوقات المشهودة هي الوجود الحقيقي ، فصفاتها هي الصفات الحقيقية ، وما لم يكن هاديا مشهودا فهو إلى الفكرة الذهنية أقرب منه إلى الحقيقة الواقعية ، ونتج عن هذا التصور اتجاهان منحرفان :
اتجاه يقول بما أن الصفات على الحقيقة إنما هي صفات الأجسام المشهودة فلا بد أن يكون الله جسماً، وإذا نسب لنفسه يداً فلا بد أن تكون كيدنا لحماً ودماً، وإذا قال إنه سميع بصير فلا بد أنه يسمع بأذنين مثل آذاننا ويرى بعينين مثل عيوننا، تعالى الله عن قولهم علوا كبيراً، هؤلاء هم الذين سُموا في تاريخ الإسلام بالمُشَبِهة والمُجَسِمَة.
واتجاه يقول بما أن الصفات على الحقيقة إنما هي صفات الأجسام المشهودة ، وبما ان الله تعالى ليس كهذه فإنه لا يتصف بها حقيقة بل مجازاً ، ولذلك فقد رفض الغلاة منهم أن يُثبتوا لله تعالى أي صفة من الصفات فرفضوا حتى القول بأنه موجود، لأن هذا بزعمهم تشبيه له بالمخلوقات، وهؤلاء هم الذين عُرفوا في تاريخ الإسلام بالجهمية .
ولذلك فإن أهل السنة حين يبينون عقيدتهم يميزون أنفسهم عن هذين المذهبين الضالين ، فيقولون إنهم يثبتون لله ما أثبت لنفسه من غير تشبيه ولا تمثيل (وهو المذهب الأول) ولا تحريف ولا تعطيل (وهو المذهب الثاني) .(/5)
وقد أثر هذا الاتجاه الأخير في كثير من الفرق الإسلامية حتى تلك التي تنتسب منها إلى أهل السنة والجماعة فلجأوا إلى مثل تأويلهم التعطيلي لبعض الصفات التي ظنوها لا تكون حقيقة إلا في حق المخلوقين، فقالوا مثلاً عن قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) أي استولى فكان رد أئمة أهل السنة عليهم أولا أن الاستواء لا يعني الاستيلاء في اللغة فالتفسير خطأ إذن من حيث اللغة ، وثانيا على فرض أنه الاستيلاء فهل تقولون إن الله تعالى استوى كاستيلاء البشر ؟ إن قلتم نعم صرتم مشهبة وإن قلتم استولى استيلاء لا كاستيلاء البشر؟ فلماذا لا تقولون استوى لا كاستواء البشر كما قال سلف الأمة الراشدين .
لكن هذا المذهب التعطيلي يعود إلى الظهور من جديد فينتشر بين كثير من المتدينين من المسلمين وغيرهم ، وما ذلك إلا لأنه يجد سنداً من التصور المادي المعاصر ، هذا التصور الذي يقول كما رأينا سابقا إن الوجود الحقيقي إنما هو وجود الذارت المادية ومركباتها ، ومن البديهي أنه لا مجال للخالق في نطاق هذا التصور ، إذا قلنا إن صفاته صفات حقيقية ، لابد إذن من تأويل هذه الصفات واعتبارها مجازاً أو رموزاً ولكن هذا معناه أن الخالق تعالى يكون مجرد فكرة في الأذهان لا وجود حقيقي لها في الأعيان . فلا يوصف لذلك بصفة ثبوتية فيقال إنه كذا وكذا ، بل تكون كل صفاته سلوبا فيقال أنه ليس كذا وليس كذا ، هكذا قالت الجهمية في الماضي ، وهذا يقول رجل كالأستاذ محمد أسد : إنه يقول عن الله تعالى ما ترجمته "… إننا لا نستطيع أن نتخيله " وهذا صحيح ، إذا كان المقصود به أن تكون له صورة كيفية في أذهاننا ، ثم يقول "كل ما نستطيع أن نعرفه عنه أنه ليس كذا وكذا"[5]. ثم يمضي لذلك فيؤول صفاته الثبوتية كالاستواء والسمع والبصر بل ويُؤول السماوات والكرسي .
وما يقال عن الله تعالى يقال عن عالم الغيب كله تقريبا . إن المحاولة دائما هي تأويل هذه الحقائق بحيث تصبح قابلة لأن تكون جزءاً من الأطار المادي. يقول الشيخ محمد عبد ه عن الملائكة في كلام طويل في تفسيره : "فكل أمر كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده فأنما قوامه بروح إلهي سمى في لسان الشرع ملكاً. ، ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمى هذه المعاني القوى الطبيعية ، والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه هو أن في باطن الخلقة أمرا هو مناطها ، وبه قوامه ونظامها ، لا يمكن لعاقل أن ينكره، وإن أنكر غير المؤمن بالوحي تسميته ملكاً وزعم أنه لا دليل على وجود الملائكة أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي تسميته قوة طبيعية أو ناموساً طبيعياً ، لأن هذه الأسماء لم ترد في الشرع ، فالحقيقة واحدة والعاقل من لا تحجبه الأسماء عن المسميات"[6] ثم انتقد تعريف الملائكة بأنها أجسام نورانية قابلة للتشكل بأن النور وحده لا قوام له يكون به شخصاً ممتازاً بدون أن يقوم بجرم آخر، وأن الشيء الواحد لا يمكن أن يتقلب في أشكال من الصور مختلفة[7].
يقول تلميذه الأستاذ رشيد رضا - عليه رحمة الله -
"هذا ما كتبه شيخنا في توضيح كلامه في تقريب ما يفهمه علماء الكائنات من لفظ القوى إلى ما يفهمه علماء الشرع من لفظ الملائكة"[8]
وأقول لا بأس على الداعية إلى الإسلام أن يقرب معاني ألفاظه إلى الناس بالمألوف من ألفاظهم ومعارفهم ، ولكن هذا شيء وتفسير حقائق الإسلام بما يوافق أجواء العصر شيء آخر . وما فعله الأستاذ محمد عبده هنا هو من القبيل الثاني لا الأول، والذي يغرى الداعية الحديث بالوقوع في مثل هذا التفسير هو أن كثيرين من معاصرينا يقبلونه ويرتاحون إليه ويعتبرونه التفسير الذي يقتضيه العقل ، ولكنهم إنما يقولون هذا لأنهم متأثرون بثقافة عصرهم، لا لأن عقولهم أكبر من الأسلاف الذي قبلوا حقائق الغيب كما وصفها الله تعالى . إن كل ما يخالف العقل باطل لا محالة ، ولكن ما العقل؟ إن كثيرا من المفكرين يسلمون بمقدمات باطلة في تصورهم للكون ، ثم يعتقدون أن المعقول هو ما كان موافقا لتلك المقدمات فيخلطون بين الممكن عقلاً والممكن في حدود إطارهم التصوري ، بل إن من الخطأ الذي نبه عليه كثير من العماء الغربيين أنفسهم الظن بأن الممكن عقلاً يطابق الممكن في حدود العلم التجريبي .(/6)
هذا خطأ ، لأن دائرة الممكن عقلاً أوسع من دائرة الممكن تفسيره في حدود العلم التجريبي ، إذ لو كان الأمر كذلك لصح أن نقول إن كل ما لا يمكننا تفسيره في حدود علمنا التجريبي ، فهو وهم لا حقيقة له ، ولو آمن العلماء بهذا المبدأ لتوقف العلم عن التقدم منذ زمن طويل ، ولكن القحيقة أن ما لم يمكن تفسيره في حدود العلم بالأمس أمكن تفسيره اليوم وما لا يمكن تفسيره اليوم سيمكن غدا بإذن الله ، وذلك لأن دائرة العلم في اتساع دائم، ولكن العلم التجريبي مهما اتسعت دائرته فلن يستطيع تفسير بعض الحقائق، لا لأن تفسيرها غير ممكن ، ولا لأنها مخالفة للعقل ، ولكن لأنها تقع خارج المجال الذي حدده هذا العلم لنفسه ، وكونها خارج المجال لا يعني أنها أوهام أو دعاوى لا دليل عليها بل إن عليها لأدلةً تتناسب مع طبيعتها ، ولكن هذا ليس مجال الإضافة في هذا الموضوع .
من الخطأ الشائع تسمية أصحاب هذه المدرسة بالعقلانيين إذ ما كل من ادعى الاحتكام إلى العقل بعاقل وكيف يكون عقلانياً من يحد العقل بحدود الفلسفة المادية أو بحدود الممكن تفسير في حدو العلم التجريبي الذي بلغه الناس في زمانه؟ لو كان هؤلاء عقلانيين لصح أن نصف بالعقلانية أولئك الذين أنكروا إسراء الرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة ، لقد أنكروا أمراً لا نعتبره اليوم مستغرباً حتى بوسائلنا المادية ، ولكنهم أنكروه لأن علمهم ضاق فحصر الممكن عقلا في المألوف لديهم من وسائل الانتقال ، وكذلك يفعل اصحاب هذه المدرسة المدرسة اليوم ، فيضيقون بكل أمر جاء به الذين لا يجدون له - إن أخذوه على ظاهره - تفسيرا في حدود معارفهم فيظنون هذا الظاهر مخالفا للعقل فيؤولونه تأويلات تجعله مناسبا لما حسبوه متقضى العقل وإنما هو مقتضى الأُلف والعادة ، ولذلك فإنهم يضيقون بكل ما ورد في القرآن والسنة من أحداث خارقة لمعتاد الناس ويؤولونها تأويلا يجعلها أمرا عاديا ، فالطير الأبابيل هي الجراثيم[9]، ونتق الجبل فوق بني إسرائيل إنما كان زلزالاً وانفلاق البحر لموسى كان جزراً[10].
والنوع الثاني هي الذي لا يهتم بأمثال هذه التصورات الأساسية سواء كانت إسلامية صحيحة أو غربية باطلة ، ويعتبرها كلها لقصر نظره من الكلام النظري الذي لا يؤثر في الواقع العملي ، ولكنه مع ذلك متأثر بنتائج التصور الإلحادي في تصوراته الفكرية وتصرفاته العملية. فهو لا ينظر إلى الفكر الغربي في مجال الاقتصاد أو السياسة أو القانون … الخ على أنه تقاليد حضارية معينة قد تخطئ وقد تصيب، ولكنه يعطيه صفة الإطلاق فبحسب أن اقتصادهم هو الاقتصاد وقانونهم هو القانون ، وإن لم يقل الاقتصاد المطلق أو القانون المطلق فهو يراه على الأقل الاقتصاد أو القانون الذي يقتضيه العصر وتقتضيه الحضارة الإنسانية، ولذلك فإن كل ما في الإسلام مما يخالف التصور الإلحادي ينبغي أن يعاد تفسيره ، بحيث يصبح موافقا لمواصفات الحضارة الغربية ، والغريب أنهم يسمون كل هذا اجتهاداً وتجديداً ، أغريب هو ؟ كلا فإن هذا هو المنهج الذي تسلكه كل الانحرافات فكرية كانت أو حقيقية ، إنها تسمى أباطيلها بأسماء براقة لا تعبر عن حقيقيتها ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم " ليشربنَّ ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها"[11]
ألم يقل الله تعالى عن المنافقين :
(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) [المنافقون:4]
ألم يقل عن أعداء أنبياء الله :
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) [الأنعام:112]
هذه هي النظرة التي جعلت بعضهم يتحرجون وبعضهم ينكرون أشياء مثل تعدد الزوجات ، ورجم الزاني المحصن، و قتل المرتد ، وحجاب المرأة ، وإعفاء اللحي ، وتحريم المعازف والربا واختلاط النساء بالرجال .
وسيقت للدفاع عن هذا الإنكار حجج وتّعٍلاّت من أوهي وأسخف ما يتصوره الإنسان، ولا عجب فإن الداعي إلى الإنكار ليس هو هذه الحجج وإنما معرفة المنكرين بأن هذه الأشياء مما يستبشعه العقل الغربي المعاصر، واقتناعهم بأن كل ما يستبشعه هذا العقل فهو الُمُستبشَع لأنه إنما ُينكر ويُستبشع ما كان مخالفا للعلم معرقلا للحضارة الإنسانية .
ولم يقتصر أثر الفكر الغربي على التصورات الاعتقادية والآراء التشريعية وإنما تعداه إلى الأذواق والظاهر فالزي القومي في كثير من بلاد ا لعالم الإسلامي أصبح دليل التخلف سيما فيما يتعلق بالنساء، وكل ما يفعله الغربيون رجالا ونساء بشعورهم جميل وكل ما نفعله نحن إن لم نقلدهم قبيح ، وإذا احتفلوا برأس السنة الميلادية فينبغي أن نحتفل وأن نحتلف بطريقتهم ، وإذا جعلوا لأبنائهم أعياد ميلاد فكذلك ينبغي أن نفعل ، إلى آخر ما لايكاد يُحصى من أنواع التشبيه .(/7)
إن التقليد في المسائل الشكلية أقل خطراً ما في ذلك شك، ولكنه ربما كان أدل على التبعية العمياء لأنه إن اختلفت للمتابعة في التصورات والتشريعات تأويلات ومسوغات فكرية ، فلا يمكن أن يوجد للتقليد في المسائل المظهرية مسوغ غير الافتنان بالمقلّد، واعتباره المعيار لما ينبغي أن يُفعل وما ينبغي أن يُترك . ولكن التقليد في المظاهر له آثار خطرة قد لا يلتفت إليها كثير من الناس، إذ من الثابت أن هنالك علاقة بين المظهر والمخبر، وعليه فالذي يوافق طائقة معينة في مظر تمتاز به ويُعد شعاراً لها خليق أن يجد في نفسه ميلاً لموافقتها في مخبرها ، ثم أن المظاهر كثيرا ما تكون تعبيراً طبيعياً عن حالات نفسية ومبادئ تصورية ، فالتشبه بأصحاب هذه الحالات والتصورات في مظهرهم ، يساعد على إحداث تلك الحالات والتصورات في المُقلّد .
إن كثيرا من مواقفنا السياسية لها جذور فكرية في هذه التبعية للثقافة أو الحضارة الغربية ، فاتخاذ الشيوعيين وكثير من اليساريين مواثف مؤيدة لموقف المعسكر الشيوعي في القضايا العالمية حتى ما كان منها خاصا بالعالم الإسلامي هو تعبير عن موقف حضاري قبل أن يكون موقفا سياسياً.
لكن هذه التبعية الحضارية ليست قاصرة على الشيوعيين ، فالتبعية الحضارية للمعسكر الغربي نتج عنها نفس الآثار السياسية ، فصلح كامب ديفيد مثلا سبقه صلح مع الحضارة الغربية ، سبقته كتابات لمفكرين مؤثرين كبار بأن هذه الدول الغربية هي المثل الذي ينبغي أن يحتذي ، فكل ما كان أقرب إليها كان أكثر حضارة وأجدر بالاحترام والتوقير، وبما أن إسرائيل هي قطعة من الغرب في البلاد العربية، وبما أن البلاد العربية متخلفة بالقياس إليها فإن معاداتها معاداة للحضارة الغربية ودليل على التخلف .
إن الافتتان بالحضارة الغربية في تصوراتها الاعتقادية وأحكامها التشريعية وقيمها الخُلقية ومظاهرها الذوقية لم ينتج عنه مواقف سياسية موالية للغرب فقط وإنما نتج عنه محاولة لإعادة صياغة المجتمعات الإسلامية كلها في قوالب غربية ، في تركيبها الاجتماعي ، ونظمها القانونية ، وأوضاعها الاقتصادية ، وبرامجها التعليمية ووسائلها الإعلامية على اعتقاد بأن هذه الصياغة شرط ضروري لنهضة الأمم الإسلامية وتحويلها من مرحلة التخلف والرجعية إلى مرحلة التقدم والمعاصرة .
ما هي أسباب هذه التبعية :
إن الإنسان بطبعه يمال إلى حب الموافقة والتقليد ولذلك قيل إن الناس كأسراب القطا، إن الإنسان مخلوق اجتماعي فأكبر عقاب له أن تعزله عن المجتمع في سجن انفرادي ، ولكي يعيش الفرد مع الناس لابد أن يدفع ثمن ذلك موافقة لهم في أفكارهم وعاداتهم ومظاهر حياتهم لأن المجتمع يقسو على من يشذ عنه في هذه الأمور .
والموافقة هذه أمر لا بد منه ، وهي ليس شراً في ذاتها وأنما تكون شراً حين تسود في المجتمع عقيدة باطلة أو فكرة خاطئة أو عادة ضارة وبطلب من الفرد أن يتابع المجتمع فيها. هنا يُمتحن الإنسان، فالكثرة من الناس تخشى المفارقة والتميز وترضى بالمتابعة وإن تبين لها الخطأ ، والقلة من الرجال والنساء التي تمتاز بقوة العزيمة والشجاعة وحب الحق هي وحدها التي تصمد وتقوى على التميز والمفارقة، وإذا ما تميزت وفارقت تبعها غيرها ممن هو أقل منها جرأة ، وتبع هؤلاء غيرهم وهكذا إلى أن يحدث في المجتمع - إن حدث - تيار جديد لا يلبث أن يكون هوالاتجاه الاجتماعي المقبول .والمجتمع ليس كوماً من الأفراد متماثلي الأهمية والأثر الاجتماعي ، ولكنه نظامٌ بعض الطبقات فيه أهم من بعض ، وأشد أثرا على غيرها ، فإذا تغيرت هذه أو سنت للناس سنة جديدة تبعها غيرها. هذه الطبقات القائدة تشمل طبقة فادة الفكر ، وطبقة الحكام ، وطبقة الأثرياء ، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في مبدأ بعثته يوجه الدعوة إلى الأفراد البسطاء فقط وإنما كان يعطي اهتماماً خاصا لرؤساء القبائل ، وفي المدينة وجه رسائله إلى الملوك والرؤساء، على أساس أن إسلام هؤلاء يقود إلى إسلام أتباعهم، ولذلك فإن حكمة الله تعالى اقتضت أن يكون نبيه الخاتم من قريش القبيلة التي قال عنها صلى الله عليه وسلم "الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم"[12]، وفي رواية "الناس تبع لقريش في الخير والشر"[13].
سألت امرأة الخليفة الأول أبا بكر رضي الله عنه "ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال بقاؤوكم عليه ما استقامت أئمتكم. قالت : وما الأئمة؟ قال : أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت : بلى ، قال فهم أولئك على الناس"[14]
الطبقة القائدة قد ترى رأياً أو تسن عادة لأنها توافق مصلحتها وهواها ، وقد ترى الرأي لأنه حق وتسن العادة لأنها تراها حسنة ، ثم يأتي كثير من أفراد الطبقات التابعة فيقلدونها في الرأي أو العادة لمجرد أنها قالت به أو سنته و من غير نظر في صواب الرأي وخطئه وحسن العادة أو سوئها .(/8)
ويبدو أن ما يصدق على الأفراد في نطاق المجتمع القطري أو القومي الواحد يصدق على الأقطار في نطاق المجتمع الدولي ، سيما في عصر كعصرنا تقاربت فيه المسافات وتوثقت الصلات ، وتشابكت المصالح ، واشتد لذلك التأثير المتبادل .
الدول أيضا منها دول قائدة ودول مقودة ، فالدولة الأقوى فكرا في معرفة أمور الدنيا والتصرف فيها ، والأكثر ثراء ، والأشد قوة وبأسا ، وهي الدولة القائدة والرائدة التي يحتاج غيرها إلى فكرها وتجربتها ومالها ومنتجاتها ، وما كان أقل منها في هذه الجوانب فهي الدول التابعة .
فإذا رأت الدول القائدة رأياً ، أو اتخذت في حياتها طريقة ، لأي سبب يخصها ، قلدتها الدول التابعة تقليداً أعمى.
هذا على فرض أن قادة الدول القائدة بقوا في بلادهم ، فكيف إذا نتقلوا إلى البلاد الضعيفة حكاماً ورؤساء، وقادة فكر، كما حدث في العالم الإسلامي في عهود الاستعمار. أو خبراء في شتى نواحي الحياة أو أساتذة أو رجال أعمال كما هو الحال في عالمنا الإسلامي الآن .
إنه حينئذ تجتمع لهؤلاء القادة الوافدين قوتان ، قوة الدولة القائدة التي يمثلونه ، وقوة المركز القيادي الذي يحتلونه في داخل الدولة الضعيفة .
وبما أن الإنسان لا ينفق إلا مما يملك فإن هذه الدول الغربية القائدة إنما تنقل إلينا ما عندها ، معتقدة أن موقفها هو الموقف الطبيعي الذي تُقاس به الأشياء الأخرى ، فدينها هو الدين، واقتصادها هو الاقتصاد، فلسفتها هي الفلسفة، ومصلحتها هي المصلحة، فما عندها يُعرّف بالألف واللام، وأما ما عند غيرها فلا بد من تعريفه بالإضافة ، فيقال دين إسلامي أو بوذي واقتصاد إسلامي وفلسفة عربية أو صينية أو هندية وكذلك قل عن لغتهم وزيهم وفنهم المعماري وعاداتهم الاجتماعية .
أعود فأقول إن تبعية الفرد للمجتمع سيما إذا كان فردا من الطبقة الضعيفة وتبعية الأمة لجماعة الأمم سيما إذا كانت أمة ضعيفة أقول إن هذا سنة اجتماعية لا يمكن التغلب عليها بمجرد الأماني .
ما الحل إذن ؟
إذا كان التحليل الذي أوجزناه سابقا صحيحا ومقبولا ، فإن الحل النهائي الحاسم هو أن يزول التناقض بين الإنتماء إلى الإسلام والإنتماء لمجموعة الدول الضعيفة ، وهذا يكون إما بأن تقوى الدول الإسلامية أو بأن تسلم الدول القوية ، وكلا الأمرين ممكن، بل إن كل واحد منهما يساعد على الآخر . فإذا قويت الأمم الإسلامية احترمتها الشعوب الأخرى واحترمت تبعا لذلك دينها ، أما الآن فإن حال الأمم الإسلامية يفتن الناس عن الإسلام ، وتلك مصيبة علمنا القرآن، الاستعاذة منها :
(ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا) [الممتحنة:5] .
وإذاأسلمت الدول القوية القائدة شجعنا ذلك على العودة إلى الإسلام .
لكن دعونا الآن نحصر أنفسنا في أنفسنا ، ما الحل بالنسبة لنا؟ قلنا أن الحل النهائي الحاسم هو أن نكون أمة قائدة بالوصف الذي ذكرناه آنفا ، ولكن كيف نكون أمة قائدة ومسلمة في نفس الوقت إذا كان تحليلنا يدل على أن ضُعفنا الحالي يغرينا بالتخلي عن ديننا وتقليد غيرنا ؟
والحل في سنة اجتماعية أخرى ، وهي أن بعض الأفراد في المجتمع - وهم في الغالب من أفراد الطبقات الضعيفة- قد يشذون عن قاعدة التبعية والموافقة إذا ما توفرت لهم الأسباب، إن لديهم الاستعداد للاستمساك بالحق متى لاح لهم ، والمل لاحقاقه مهما كلفهم من جهد وسخرية اجتماعية ، حتى لو كلفهم أرواحهم. إذا عرف هؤلاء الحق واستمسكوا به وأعلنوه وصبروا على الأذى الاجتماعي في سبيله، فإنهم يوشك أن يكونوا طبقة قائدة جديدة بفكرها القوى العملي الحركي، وإذا صاروا كذلك أسرع تأثيرهم في بقية العناصر القوية في المجتمع، وهكذا إلى أن يؤول الأمر إليهم ، فإذا آل عملت السنة الاجتماعية الأولى عملها فتبعهم الناس أفواجاً بعد أن كانوا ينضمون إليهم أفراداً أفراداً .
هكذا فعل أنبياء الله ، وهكذا ينبغي أن نفعل إذا أردنا لحالنا أن ينصلح . لقد بعث الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من قريش القبيلة القائدة ، وفي مكة البلدة القائدة - أم القرى - ولكنه لم يكن حاكما ولا كان ثريا ،بدأ الدعوة باللسان - بقوة الفكر - فانضم إليه الأفراد الأقوياء ، كثير منهم من الطبقة الضعيفة وقليل منهم من الأشراف. ودفع الضعفاء الحركة الإسلامية بصبرهم على الأذى والاضطهاد والقتل لأنهم أثبتوا أنهم يدافعون عن حق، ودفع الأشراف الحركة بصبرهم وببذلهم أموالهم واستغلالهم مكانتهم الاجتماعية في سبيل نشر الحق وتثبيته. ثم كانت بيعة العقبة وكانت الهجرة فصارت للدعوة الجديدة أرض مستقلة، وانضم الحكم إلى النبوة ثم كانت غزوة بدر الكبرى وهزيمة المشركين عسكرياً بعد أن هُزموا فكرياً ، ثم توالت الغزوات وتوالت معها الانتصارات حتى فتحت مكة فصارت الدولة الجديدة دولة مهيبة ، عندئذ نزل قول الله تعالى :(/9)
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر:1-3] .
وهكذا فعل موسى ، توجه بالدعوة إلى الرئيس الكبير لعله أن يسلم ففي إسلامه حقن للدماء وانتشار للحق بغير عناء .
(فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه:44] .
ولكن إذا كان فرعون من النوع الذي يعميه العلو في الأرض عن رؤية الحق فما كل أفراد الناس في بلده كذلك ، لقد جئ بالسحرة ليهزموا موسى وكان أكبر شرف يطمعون فيه أن يكونوا من المقربين لفرعون ولكنهم رأوا الحق ناصعاً فقالوا لفرعون وهو يهددهم بتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ثم بالصلب في جذوع النخل ، قالوا له :
(وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا) [الأعراف:126] .
وهم لا يرون من حق إنسان أن يمنع إنسانا من إتباع الحق حين يصدق فجره
بداية الطريق إذن ابتداء حركة من هذا النوع ، ولكن هذه الحركة بحمد الله قائمة بل إنها لحركة تكفل الله تعالى للأمة المحمدية بأن لا يخلو منها زمن من الأزمان ، فقد قال صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"[15] وهذه الطائقة ليست جماعة بعينها واسمها وشعاراتها ولكن يدخل فيها كل إنسان يستمسك بالحق، ويدعو إليه سواء كان من أفراد الطبقة القائدة أو من ضعفاء الناس وسواء كان يعمل مستقلاً أو في جماعة .
وفي العالم اليوم - لا أقول في العالم الإسلامي- بل في العالم كله حركة إسلامية تتمثل في جماعات شتى وأفراد وهيئات رسمية وشعبية كلها تعمل في حدود طاقتها للعودة إلى الإسلام .
فنقطة البداية إن موجودة … إنها الحركة أو الدعوة الإسلامية بالمفهوم الشامل الذي ذكرته ، والمهم أن تتسع رقعتها ويصلب عودها ، بتنمية فكرها وتقويته ، وببذل المال ، وبمساعدة السلطات الحاكمة ما كان ذلك ممكنا .
إذا حدث كل هذا وهو حادث بإذن الله أمكننا أن نسير خطوات أكثر في مواجهة الحضارة الغربية ، لا بإيقاف غزوها لنا فحسب ، بل بهداية أصحابها إلى الصراط المستقيم . إن طموحنا ينبغي أن لا يقف عند حدود الدفاع ورد العدوان بل ينبغي أن يتعداه إلى طلب المعتدي ودعوته ، كيف ؟
كيف نواجه الحضارة الغربية ؟
كيف نواجهها فنكف أثرها السلبي عنا وكيف نواجهها فنقومها ونصلحها لكي تكون حضارة إنسانية حقا.
لقد قلت إن هذا لا يتأتي إلا إذا صرنا أمة قائدة وتحدثت عن الخطوة الأولى نحو تلك القيادة وفيما يلي نستكمل بقية الخطوات وبإيجاز شديد :
أولاً : الحكم بالإسلام ومن أهم عناصر هذا الحكم :
أ- الاستقلال وعدم التبعية للدول الكبرى سواء كانت تبعية سافرة أو مقنعة ، ولعل هذا الاستقلال هو الآن أصعب الأشياء منالا فهو يحتاج مع الأخذ بكل الأسباب المادية اللازمة له إلى إيمان راسخ وتوكل على الله تعالى وتذكر دائم بقوله سبحانه :
(وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [القصص:57] .
ب- حرية سياسية تشعر المواطن بأنه عزيز في بلده ، بين أفراد مساوين في الحقوق الإنسانية وإن علوه ببعض المناصب الدنيوية ، وتمكنه من أن يفكر بحرية ويشارك بفكره وجهده في إصلاح حال بلده ، يقول للمصيب أصبت والمخطئ أخطأت مهما كان منصبه ثم يذهب لينام قرير العين لا يدهمه بالليل طارق يقتاده إلى الحبس إرضاءً لنزوة حاكم . إن فقدان الحرية السياسية يفقد المواطنين الشعور بالإنتماء لبلدهم ويولد فيهم الإحساس بأن البلد مُلك الحاكم ، من رضى عنه نال الحظوة ومن سخط عليه فلأمه الهبل . ولا يُتصور من إنسان يشعر بهذا الشعور أن يقوم بعمل جليل كالذي نريد.
جـ- عدل احتماعي، وهو جزء مكمل ولازم للحرية السياسية ، كما أنه عامل فعّال في زيادة الإنتاج . إن الجور الاقتصادي كالجور السياسي ينافي علاقة الأخوة التي هي العلاقة الأساسية بين المسلمين في الدولة ويولد فيهم مشاعر سلبية لا اجتماعية تؤثر فيما تؤثر إلى إنتاجهم الاقتصادي .
د- أمر بالمعروف ونهي عن المنكر نسخر له وسائل الإعلام ومناهج التربية والتعليم ومؤسساتها وتُستغل لتحقيقه كل الأساليب التي تحبب المعروف إلى الناس وتُكره المنكر إليهم مع عناية خاصة بالصلاة في جماعة .
(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) [الحج:41].
هـ- إقامة الحدود كفاً للمعتدين واستدرارا لرحمة رب العالمين .
ثانياً : تغييرالعلوم إسلامياً :(/10)
أ- بتنقيتها من شوائب التصورات المادية الإلحادية وسائر التصورات المخالفة للإسلام والتي تمثل إطارها الفلسفي وإن لم تبرز في مضمونها الحرفي.
ب- بإطراح كل النظريات التي لم يثبتها واقع والتي تخالف حقائق قررها الإسلام ، ولا بأس من دراستها للنقد .
جـ- باستبدال الإطار الفلسفي الإلحادي بإطار توحيدي .
د- باعتبار الوحي مصدراً من مصادر الحقيقة وهذا يستنتبع إدخال كل ما أثبته القرآن وصحيح السنة في مضمون العلوم ، كل حقيقة بحسب العلم المناسب لها .
هـ- بالسعي نحو الإصالة في كل ما نعالج من مشاكل وما نعطي من أولويات .
و- بصياغة العلوم كلها طبيعيها وإنسانيها بلغة عربية فصيحة حتى تكون اللغة العربية لغة العلوم ، كما هي لغة الدين والأدب.
ثالثاً: دراسة الغرب ، تاريخه ، وواقعه ، مستقبله ، تجاربه ، من وجهة نظر إسلامية ، إننا الآن نقول عن الغرب ما يقوله هو عن نفسه، بل نقول عن الشرق ما يقوله المستشرقون وقد آن لنا أن نعكس الآمر فيكون لنا مختصون بشؤون الغرب يعالجون قضاياه على أساس إسلامي، وأعني بالإسلامية هنا الحقائق التي جاء بها الإسلام كما أعني بها مصالح المسلمين الوضعية.
رابعاً: المرجو من محاولات صياغة العلوم على أساس إسلامي ومن الدراسات الغربية أن تساعدنا في الاستفادة الرشيدة من الحضارة الغربية ، ولكن يمكن أن نجمل فيما يلي ما ينبغي أن يؤخذ وما ينبغي أن ينبذ من هذه الحضارة .
1- أما ما نأخذه فهو:
أ- المنهج العلمي (بعد تنقيته من الشوائب الإلحادية) .
ب- والحقائق الجزئية التي كشفتها العلوم ومعرفتها لا يمكن أن تعزل عن معرفة العلوم التي أدت إليها .
جـ- وما بنى على هذه العلوم من تقنية في صورة آلات ومهارات وما أدت إليه هذه التقنية من تصنيع .
2- ثم لابد لنا من الاستفادة من تجربته في كل مجالات الحياة المعاصرة : المؤسسات التعليمية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية والفنون الإدارية على أن نكيف ما نأخذه مع إطارنا الإسلامي ولا نغير هذا الإطار بالنقل الحرفي لكل ما عندهم كما يحدث الآن في العالم الإسلامي .
2- أما البيانات والفلسفات والآداب والفنون والعادات والتقاليد ، فلا علاقة منطقية أو نفسية بينها وبين ما سبق . ولكنني أرى مع ذلك أن لا تقطع صلتنا بها قطعا كاملا بل ينبغي دراستها باعتبارها واقعا ينبغي أن نعرفه باعتبارها هديا نستهدي به ، ولذلك أرى أن لا يفتح لها باب الولوج إلى الجماهير الإسلامية بل ينبغي أن تكون موضع دراسة المختصين .
4- إن أشد اسلحة الغرب الفكرية خطرا علينا وتدميرا لنا بل خطراً على الغربيين أنفسهم وتدميراً لهم، هو التصور الإلحادي للوجود الذي كاد أن يصبح سمة العصر والذي لا يكاد يخلو منه جانب من جوانب الحياة المعاصرة العلمية أو الفنية أو العلاقات الإنسانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وهو أكبر تحد يواجه الدعوة الإسلامية والمفكرين الإسلاميين ، فإذا نجحنا في التصدي له بالنقد العقلي العلمي المستنير وإذا استطعنا أن تقدم تصورنا الإيماني بديلا لهذا الإطار الإلحادي وأقمنا الحجج العلمية الشواهد الواقعية على أنه الإطار المناسب للمنهج العلمي ولحقائق العلوم الطبيعية والبشرية وللثقافة الإنسانية وبالتالي للحياة السعيدة تكون قد أسدينا خدمة كبيرة لا لأمتنا الإسلامية فحسب ، ولكن للمجتمع الإنساني كله، وذلك أن هذا المجتمع يقترب من الدمار كلما ساد فيه فساد التصور الذي يؤدي إلى فساد السلوك، وكلما خبا فيه نور الرسالة المحمدية.
ولكن هذا عمل عظيم يحتاج إلى صبر ويقين، يحتاج إلى يقين بأنه تصورنا الإيماني هو الحق الذي لا ريب فيه وأن التصور الإلحادي بكل لوازمه وفي كل صوره وأشكاله تصور باطل مفسد .
ويحتاج إلى صبر في مواجهة هذا التصور والتصدي له وعدم مسالمته أو مداهنته بحجة المعاصرة أو الحضارة أو التجيد، مهما طال الزمن وضجت الدعايات وسقط المنهزمون.
والصبر واليقين هما الشرطان اللازمان لكل من يريد أن ينال شرف القيادة الفكرية المقتدية بهدي رُسل الله .
(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24] .
----------------
الهوامش:
[1] عنوان البحث حددته لجنة المؤتمر
[2] التبان هو السراويل القصيرة .
[3] تجديد الفكر العربي ، دار الشروق ، الطبعة السادسة 1980م ، ص 13 .
[4] مختصر تفسير ابن كثير ط3 ، 1399 ، جـ2 ، ص 37 .
[5] The Message of Quran, London, 1980. F.
[6] تفسير المنار جـ1 ، ص 223 ، القارة 1972.
[7] جـ1 ، ص 225 .
[8] جـ1 ، ص 227 .
[9] محمد عبده.
[10] محمد اسد.
[11] حديث صحيح رواه النسائي وابن ماجة وأبو داود
[12] البخاري ، كتاب المناقب ، باب مناقب قريش
[13] مسلم ، كتاب الإمارة(/11)
[14] البخار ي، كتاب المناقب ، باب أيام الجاهلية ، "عن قيس بن أبي حازم قال : دخل أبو بكر على امراة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تكلم ، فقال ما لها لا تكلم ؟ قالوا حجت مصمتة ، قال لها تكلمي ، فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية فتكلمت فقالت من أنت ؟ قال امرؤ من المهاجرين ، قالت أيُ المهاجرين ؟ قال من قريش ، قال من أي قريش أنت ؟ قال إنك لسؤول أنا أبو بكر .
[15] مسلم كتاب الإمارة(/12)
الدعوة العباسية ودورها في نهاية الدولة الأموية[1/2]
الدكتور/ علي الصلابي 3/1/1427
02/02/2006
أولاً : الجذور التاريخية للعباسيين :
(1) العباس بن عبد المطلب بن هشام :
ينتسب العباسيون إلى العباس بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف القرشي (1) وهو عّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أسنّ من الرسول بثلاث سنين (2) وكان من أكبر رجال بني هاشم مكانة، وأكثرهم مالاً في الجاهلية (3)، فقلدوه قيادتهم، فكان رئيسهم المُطاع – بعد وفاة أبي طالب – المتوليَّ لأمورهم (4)، وكانت إليه السَّقاية والرَّفادة وعمارة المسجد الحرام (5)، فإنه كان لا يدع أحداً يُسبُّ في المسجد ولا يقول فيه هُجْراً يحملهم على عمارته في الخير، لا يستطيعون لذلك امتناعاً، لأنَّ ملأ قريش كانوا قد اجتمعوا وتعاقدوا على ذلك، فكانوا له أعواناً عليه، وأسلموا ذلك إليه (6)، وقد حضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم وشهد بدراً مع المشركين مكرها فأسر فافتدى نفسه ورجع إلى مكة، ثم أسلم وكتم إسلامه، ثم هاجر إلى المدينة قبل الفتح بقليل وشهد فتح مكة وثبت يوم حنين (7) مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجله ويقدره وقد كانت وفاته بالمدينة في رجب سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة ودُفن بالبقيع (8)رضي الله عنه.
الأحاديث التي وردت في فضله ومناقبه :
(أ) ما رواه الترمذي وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن العباس مني وأنا منه" (9).
(ب) ما رواه مسلم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة فقيل : منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً، فأغناه الله وأما خالد، فإنكم تظلمون خالداً، فقد احتبس ادراعه واعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي عليّ ومثلها معها" ثم قال : "يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه" (10).
(ج) ومن مناقبه رضي الله عنه ثباته وشجاعته يوم حنين فقد روي أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء، فلمّا التقى المسلمون والكفار، وَلىَّ المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قِبل الكفار، قال عباس : وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكُفُّها إرادة ألاَّ تسرع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أي عباس؛ ناد أصحاب السَّمُرة". فقال العباس – وكان رجلاً صَيَّتاً – فقلت : بأعلى صوتي : أين أصحاب السَّمُرة ؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا : يا لبيك يا لبيك : قال : فاقتلوا والكفّار والدعوةُ في الأنصار، يقولون : يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار ... فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا حين حَميَ الوطيس (11).
(د) ومما يدل على فضله رضي الله عنه ومكانته من النبي صلى الله عليه وسلم توسل عمر رضي الله عنه بدعائه :
فقد جاء في صحيح البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال : اللهمّ إنّا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا (12)، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا قال: فيُسقون (13). فالعباس بن عبد المطلب جد الخلفاء العباسيين وله ينتسبون.
(2) عبد الله بن عباس رضي الله عنهما :
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه لبابة بنت الحارث الهلالية أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، وكان يقال له الحبر والبحر لاتساع علمه وكثرة فهمه وكمال عقله وسعة فضله ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ولازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين وعلم التأويل، وكان عمر رضي الله عنه يجله ويكرمه، وقد شهد رضي الله عنه مع علي الجمل وصفين، وكف بصره في آخر عمره فسكن الطائف وكانت وفاته سنة ثمان وستين من الهجرة فرضي الله عنه (14)، وقد وردت في بيان فضائله أحاديث كثيرة منها : ما رواه البخاري بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء فوضعت له وضوءاً قال من صنع هذا ؟
فأخبر فقال : اللهم فقهه في الدين (15). وقد استفاد العباسيون من انتسابهم إلى جدهم عبد الله بن عباس –حبر الأمة-، فقد سار محمد بن علي العباسي زعيم الدعوة العباسية على فقه جده الحركي، وتتلمذ على معالم مدرسته كما سيأتي بيانه وتفصيله بإذن الله تعالى. وقد ترجمت له في كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ترجمة مستفيضة.(/1)
(3) على بن عبد الله بن عباس بن المطلب الإمام القانت أبو محمد الهاشمي المدني السجاد :
ولد عام قُتل الإمام علي، فتسمى باسمه، حدث عن أبيه ابن عباس، وأبي هريرة وابن عمر، وأبي سعيد وجماعة وأمه ابنة ملك كندة مشرح بن عدي وكان جسيماً وسيماً كأبيه طوالاً، مهيباً مليح اللحية يخصب بالوسمة .
وقال ابن سعد : هو ثقة قليل الحديث. قال عكرمة : قال لي ابن عباس ولابنه علي : انطلقاً إلى أبي سعيد الخُدري، فاسمعا من حديثه، فأتيناه في حائط له (16).
وقال الذهبي: القب بالسّجَّاد لكثرة صلاته (17).
كان علي بن عبد الله بن العباس أجل إخوته قدراً وأعظمهم خطراً وكان مثالاً للرجل الكامل في تمام خلقته وحسنه وورعه ونبله (18)، قال ابن سعد : كان أصغر ولد أبيه سناً وكان أجمل قرشي على وجه الأرض وأوسمه وأكثر صلاة وكان يقال له السجاد لعبادته وفضله وكان زاهداً متقشفاً وأثَّرَ في بنيه وحفدته، فنشأوا على هديه وسمته واقتدوا بمذهبه وسيرته، فكانوا أشهر الناس تلاوة وقياماً وصياماً وصلاحاً (19) حتى قبل فيهم : أفضت الخلافة إليهم وما في الأرض أحد أكثر قارئاً للقرآن ولا أفضل عابداً وناسكاً منهم بالحُميمة (20)وكان عالماً له معرفة ورواية عن أبيه (21) وكان سيداً شريفاً بليغاً (22) وكان كبير المحلَّ عند أهل الحجار (23). روي هشام بن سليمان المخزومي : أن عليَّ بن عبد الله كان إذا قدم مكة حاجاً أو معتمراً عطلت قريش مجالسها في المسجد الحرام وهجرت مواضع حلقها، ولزمت مجلس علي بن عبد الله إجلالاً له وإعظاماً وتبجيلاً، فإن قعد قعدوا وإن مشى مشوا جميعاً، ولم يكن يُرى لِقُرَشيَّ مجلس " ذِكْرٍ " يُجتمعُ إليه فيه حتى يخرج علي بن عبد الله من الحرم (24). فقد جمع علي بن عبد الله العباسي صفات الزعامة من علم وعبادة، وهيبة ومكانة في النفوس ... إلخ.
* رحلته إلى الشام :
أوصى عبد الله بن العباس ابنه علياً بإتيان الشام والتنحي عن سلطان ابن الزبير إلى سلطان عبد الملك، ولما توفي أبوه عمل بوصيته ورحل إلى الشام واستقبله عبد الملك واحتفى به، وكان يجلسه على سريره إذا دخل ويحادثه ويسامره وكان يرعاه ويهدي إليه الجواري، ويقضي حوائجه ويقبل شفاعته (25).
* سعيه للخلافة وضرب الوليد له :
علم الوليد بن عبد الملك في عهده أن علياً يطلب الخلافة ويتنبّأُ بانتقالها إلى بنيه فضيق عليه ونال منه وشهر به، ثم جلده وطرده من بلاد الشام (26) وقد تراجعت منزلة علي في عهد الوليد، وساءت حاله واضطربت وقد التمس الوليد الأسباب للانتقام منه والإضرار به فأذَّله واعتدى عليه، وجاوز القصد في ردعه ومعاقبته، فجلده مراراً ونفاه (27).
* في عهد سليمان وعمر بن عبد العزيز وهشام :
لما استخلف سليمان بن عبد الملك ردّه إلى دمشق، وأخلى سبيله، وأزال عنه ما لحق به من ظلم وهوان وربما اعتذر إليه من تعذيب الوليد له، وتنكيله به، وأنصفه وتألفَّه فصلحت حاله واستقامت، ورجع إلى الحميمة، فأقام بها حّراً عزيزاً، وعاود فيها نشاطه لا رقيب له ولا حسيب عليه.
ولما جاء عهد عمر بن عبد العزيز أمر بالكف عن اضطهاد بني هاشم، وقسم فيهم سهم ذي القربى، فانتعشوا وكتبوا إليه : يشكرون له ما فعله من صلة أرحامهم (28). وأخذ علي بن عبد الله بن العباس، ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يدفعان عنه ويَزعان الناس في اغتيابه (29).
ولما تولي هشام اعتنى بعلي بن عبد الله بن العباس، وأحسن إليه، فكان يتهلَّل له ويُدينه ويحمل عنه دُيونه إذا وفد عليه، وصبر على نشاطه السياسي وتغافل عنه وتغاضى عن أمله في الخلافة، واستهان بعمله للفوز بها، حتى أخطأ في تقدير خطره وقصّر عن إدراك تهديده لملك بني أمية إذ كان يهزأ بما يبلغه من أخبار نزوعه إلى الخلافة ويستخف بتوقعه لتحولها إلى بنيه، وكان ينسب ذلك إلى فساد عقله وضعف رأيه وأضغاث أحلامه في شيخوخته (30). ويرى بعض المؤرخين أن علي بن عبد الله بن العباس كان أوّل من تمنَّى الخلافة من بني العباس وشرع في تأسيس الدعوة لهم على انتقال الخلافة إليهم، وأظهر ذلك وجهر به (31)، هذا وقد توفي علي بن عبد الله بن العباس عام 118ه (32).
(4) محمد بن علي بن عبد الله بن العباس :(/2)
كان محمد بن علي بن عبد الله بن العباس المتوفَّى سنة 125هـ خمس وعشرين ومائة (33)، أنبه إخوته وأفضلهم، وهو الذي رسَّخ قواعد الدعوة لبني العباس، وشيَّد أركانها، ورفع بنيانها، فقد شمَّر لتوطيدها وبثها، فوضع أنظمتها وشعاراتها وأنشأ مجالسها واختار قادتها، ومكّن لها في الكوفة وخراسان، وشحذ عزائم أنصارها وهيَّأهم ليوم إعلان الثورة وتفجيرها، وكان من أجل الناس وأعظمهم قدراً وكان بينه وبين أبيه أربع عشرة سنة، وكان عليُّ يخضب بالسَّواد، ومحمد بالحُمرة، فيظن من لا يعرفهما أن محمداً هو علي (34)، وكان عابداً زاهداً وكان له علم وفقه ورواية وكان ثقة ثبتاً مشهوراً (35)وكان مجاهداً يغزو الصائفة هو وعدة من إخوته ومواليه (36)، وكان سيد ولد أبيه (37)، وخيرهم ديناً، وأسخاهم كفاً وكان سمح النفس شديد الصَّبر (38)، صليب الفؤاد حصين الرأي حسن التدبير، قوي الحُجَّة، سديد المنطق، بليغ القول (39).
(5) علاقته بأبي هشام ووصيته له :
بعد موت محمد بن علي بن الحنفية بالمدينة عام ( 81ه ) افترقت شيعته إلى فرقتين :
الأولى : دامت متمسكة بآرائها الكيسانية، فقد قالت: إنه غائب عنا لكنه حي يرزق بجبله (جبل رضوى) ولا بد من رجعته، فهم لا يوالون غيره، لأنهم ينتظرونه.
والثانية : تحولت إلى القول بإمامة ابنه عبد الله – المكنَّى بأبي هاشم من بعده، وسميت بالفرقة الهاشمية (40). وتعتقد أن أمر الشيعة صار إلى أبي هاشم بوصية من أبيه، وهذه الفرقة تعتبر أكبر الفرق العلوية وأدقها تنظيماً وأكثرها حماساً وقد عرف أبو هاشم هذا برجاحه عقله وسعة علمه، وحسن تدبيره، ومعرفته بأحوال الفرق، فزادت شيعته بعد وفاة والده، فأخذ يدير الأمور، ويبعث الدعاة مع السرية التامة، موضحاً – في نظره – أحقيته بالخلافة، التي هي لهم دون الأمويين ناشراً فظائع ومظالم بعض خلفاء الدولة الأموية (41)، وكان أبو هاشم قدم على سليمان بن عبد الملك بدمشق، فأكرمه وأجازه، وسار أبو هاشم يريد فلسطين أو الحجار، فمرض في الطريق وأحسَّ بالموت، ولم يكن له ولد، فعدل إلى الحُميَمةِ، ونزل على محمد بن علي، فأوصى إليه بالإمامة وسلم إليه كُتُب الدُّعاة وأوقفه على ما يعمل به، وصرف شيعته إليه وأمرهم بالسمع له، وأعلمه أن الخلافة في ولده عبد الله بن الحارثية (42)، وسواء أكانت وصية أبي هاشم صحيحة أم موضوعة فإن بني العباس وشيعتهم اعتمدوا عليها في تقرير حقهم في الخلافة ولم يزالوا يذكرون أن الخلافة أتتهم من جهتها إلى أيام أبي جعفر المنصور (43). وليس من الثابت أن سليمان بن عبد الملك راعه ذكاء أبي هاشم فخافه وفزع منه، ولا أنه أنفذ له من سَمَّهُ بعد أن رحل عنه وإنما مات حتف أنفه (44). وقد أكد جماعة من المؤرخين تحول دعوة أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية إلى العباسيين والتي عمل من أجلها حوالي سبع عشرة سنة، واستقطب فيها كبار الشيعة العلوية من أهل العراق وخراسان وفرقهم على المدن والأقاليم نظم هذه الدعوة ورعاها، وأعدها لليوم المرتقب وقد كانت وفاته عام 98ه بعد موت محمد بن علي بن الحنفية بالمدينة عام ( 81ه ).
(6) أسباب تنازل أبي هاشم لمحمد بن علي العباسي :
وعلى ضوء ما جاء من النصوص التاريخية التي ذكرت تنازل أبي هاشم عن الدعوة لمحمد بن علي العباسي عندما أحس بدنو الأجل، نستطيع أن نقول : ليس هناك ما يمنع من تنازل أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية لمحمد بن علي عن دعوته السرية التي يطلب بها الحق العلوي في الخلافة، لما نراه من أسباب نجملها فيما يلي :
(أ) أن دعوته كانت قابلة للنجاح والفشل، وقد تكون للفشل أقرب، لاسيما وأنها توصف بالغلو (45) وهذا مما يقلل من أهمية هذا التنازل.
(ب) عرف أبو هاشم أنه لا أمل له في الوصول إلى الخلافة، بعد أن عرف قرب أجله، ولم يسعفه الوقت في حرية اختيار شخص آخر ووجد أفضل الخيارات في تلك اللحظة هو محمد بن علي.
(ج) كما أن أبا هاشم لم يكن له ولد يخلفه (46)، فيوصي له بالأمر من بعده.
(د) كان بين أبي هاشم ومحمد بن علي العباسي علاقات ودية ولقاءات علمية وصداقة قوية، الأمر الذي ساعد على تنازل أبي هاشم لمحمد هذا.
(هـ) كان أبو هاشم قد عرف كبار شيعته ودعاته من أهل العراق وخراسان بمحمد بن علي العباسي أثناء ترددهم عليه، كما أخبرهم أن الأمر صائر إليه بعد وفاته (47)، كما تزعم بعض الروايات.(/3)
(و) لما عرف عن محمد بن علي العباسي من رجاحة العقل والدهاء، وحسن التدبير والتصرف....، فقد كان أبو هاشم كثيراً ما يستعين بآرائه حول موضوع الدعوة والدعاة، كان محمد بن علي قد عرف برجاحة العقل وسعة الذكاء، ومعرفته بأحوال الرجال والديار وقد استفاد من الأحداث التي جرت في عصره، وبالأخص ما وقع بين أبناء عمه العلويين والأمويين في صراعهم الدامي من أجل الخلافة، فقد درس أسباب الفشل والنتائج لهذه الأحداث، واستغل ما حصل من القتل والتشريد على إثر ذلك. ولما علم كبار الشيعة العلوية في العراق وخراسان بموت زعيمهم عبد الله بن محمد (أبو هاشم) وانتقال الدعوة إلى محمد العباسي، ساروا إلى الحميمة للتعزية بوفاة إمامهم عبد الله ولتهنئة إمامهم الجديد محمد بتولية قيادة الدعوة " دعوة آل البيت " ومبايعته وتقديم العهد له، ببذل أموالهم وأنفسهم من أجل نجاح هذه الدعوة، وقد رأى محمد بن علي العباسي صدق هؤلاء
الأنصار – وتحمسهم ولمس حبهم لآل البيت، وكرههم لبني أمية وتمنيهم لزوالهم (48).
ثانياً : المشروع العباسي في المرحلة السرية :
عندما نتأمل في مفردات المشروع العباسي في المرحلة السرية نلاحظ أنه يتكون، من قيادة حكيمة، وهيكل تنظيمي واضح المعالم، ومرجعية شرعية وتاريخية، ومبادئ قام عليها المشروع، وقدرة فائقة على التخطيط، ولقاءات دورية بين القيادة، والدعاة والنقباء، وكان المشروع العباسي قد استهدف شرائح من المجتمع عانت من ظلم الأمويين مع الأخذ بالجانب الأمني والاهتمام بالبعد الاقتصادي والإعلامي :
(1) القيادة :
تسلم محمد بن علي العباسي التنظيم السري من أبي هاشم وبدأ مسار التنظيم الجديد يتغير عن القديم في بنيته الفكرية والاجتماعية وغيرها ولكن كان ذلك مع التدريج وقد توفرت صفات الزعامة في شخصية محمد بن علي، من قيادة واعية، وقدره على التخطيط الصحيح، وقد برهن على عبقرية فذة في التنظيم والتخطيط للدعوة، مع قناعة الإتباع بزعامته الروحية والعلمية، فقد اشتهر بالعبادة والعلم، واستمر في تشكيل الحركة على أصول العقائد السنية، واستفاد من مدرسة جده عبد الله بن عباس في ذلك كما سيأتي، وعمل على جذب الأنصار والأخذ بأسباب النصر على الأمويين، وقد استفاد من تشكيلات محمد علي التنظيمية كثير ممن جاء بعده ممن سعى لقيام دولة مع التطوير كالموحدين، والفرق الباطنية وغيرها، وقد استطاع محمد علي العباس أن يحكم قبضته على أمور الدعوة من خلال جهاز بالغ الدقة في التنظيم والإدارة وقد استمر في عمله السري حتى وفاته عام 125ه .
وهناك من العلماء من يرى أن تنظيم الدعوة العباسية قام على ثلاثة أفراد من البيت العباسي لم يقدر أن ينالوا ثمرة غرسهم، وأولهم علي بن عبد الله بن عباس الذي رأس الدعوة أكثر من عشرين سنة، وهو الذي نظم الدعاة والنقباء في كل العراق وخراسان، وولي أمر الدعوة بعده ابنه محمد علي ثم ابنه إبراهيم (49). والذي أميل إليه من خلال البحث أن الزعيم القيادي الكبير للدعوة العباسية في المرحلة السرية هو محمد بن علي العباسي (50)، وكان معه فريق عمل من إخوانه وأبنائه وغيرهم.
(2) الهيكل التنظيمي :
انتقل محمد بن علي بعد دراسة وتفكير إلى تنظيم الدعوة تنظيماً محكماً ورسم لكبار الدعوة الطريق الذي سوف يسيرون عليه للوصول بالدعوة إلى غايتها، وكان ذلك في تمام المائة الأولى من الهجرة النبوية الشريفة (51)، وجعل محمد بن علي العباسي الدعوة تتحرك في ثلاثة محاور، فقد جعل قرية الحميمة مكاناً للتخطيط والدراسة، فهي المركز الأول للدعوة والكوفة للإشراف على الدعوة، ولنقل تعاليم الإمام الصادرة من الحميمة إلى الدعاة في خراسان. وأما خراسان، فقد أصبحت مسرحاً للدعوة، كما أصبحت فيما بعد منطلقاً للعمل العسكري، وقد أكد محمد علي العباسي لقادة الدعوة، عدم ذكر اسمه، وأن تكون دعوتهم غاية في السرية، فهو يقول لأبي عكرمة السراج عندما أرسله إلى خراسان : فلتكن دعوتكم إلى الرضا من آل محمد، فإذا وقعت بالرجل في عقله وبصيرته فاشرح له أمركم ... وليكن اسمي مستوراً عن كل أحد، إلا عن رجل عدلك في نفسك ... وتوثقت منه وأخذت بيعته (52). كما حذر محمد بن علي دعاته من أهل الكوفة قائلاً : ولا تستكثروا من أهل الكوفة، ولا تقبلوا منهم إلا أهل النيات الصحيحة (53)، واحتاط لنفسه أن يبعد الشكوك التي تحوم حول الحميمة، فقد جعل دعاة خراسان يتصلون بالكوفة بدل الحميمة، حتى لا يلفت أنظار الأمويين فينكشف أمره. ولضمان السرية التامة لدعوته، فقد أمر كبار دعاته بأن يسلكوا في طريقهم إليه الطرق الرئيسية وأن يحاولوا التستر بزي التجار، كما يقللون التردد على الحميمة ما أمكن، واختار أبو عكرمة السراج بعد ذلك اثنى عشر نقيباً هم (54).
(1) سليمان بن كثير الخزاعي.
(2) مالك بن الهيثم الخزاعي أبو عيينة.
(3) طلحة بن رزيق الخزاعي.
(4) عيسى بن أعين الخزاعي مولى لخزاعة.(/4)
(5) عمرو بن أعين أبو الحكم، مولى لخزاعة.
(6) لا هز بن قريظ التميمي.
(7) موسى بن كعب التميمي أبو علي.
(8) عيسى بن كعب التميمي.
(9) القاسم بن مجاشع التميمي أبو نصر.
(10) خالد بن إبراهيم، أبو داود، من بني عمرو بن شيبان بن ذهل.
(11) شبل بن طهمان الربعي أبو علي الهروي الشيباني.
(12) قحطبة بن شبيب الطائي، أبو حمزة (55).
وهؤلاء هم رؤساء النقباء هم الذين يعرفون شخصية الإمام وأسرار الدعوة، ويلي هؤلاء نظراء النقباء وعددهم عدد النقباء، ونظير النقيب يخلف النقيب في حالة سفره، أو وفاته (56)، ثم يأتي بعد ذلك الدعاة وعددهم سبعون داعياً (57)، ثم يليهم دعاة الدعاة وعددهم ما يقارب من 36 داعياً (58)، ونظم محمد بن علي العباسي الدعاة تنظيماً دقيقاً يوحي بأنها دعوة دينية كدعوة الأنبياء والرسل – عليهم السلام – يقول في تنظيم ذلك ما نصه (59). بسم الله الرحمن الرحيم ... إن السنة في الأولين، والمثل في الآخرين، وأن الله يقول " واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا " ثم قال في آية أخرى : " وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا " (المائدة ، آية :) وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وافاه ليلة العقبة سبعون رجلاً من الأوس والخزج فبايعوه، فجعل منهم اثني عشر نقيباً .. فإن سنتكم سنة بني إسرائيل وسنة النبي عليه السلام. وبمقتضى هذا التنظيم الدقيق السري توزع الدعاة في العراق وخراسان، حيث وجه للكوفة ميسرة العبدي ( 102 - 105 (60) ) وخلفه بعد ذلك بكير بن ماهان ( 105 - 127ه) (61).
ثم أبو سلمة الخلال ( 1027 - 132 ه ) (62). وأما دعاة خراسان فقد وجه ثلاثة دعاة دفعة واحدة هم : محمد بن خنيس، وحيان العطار، وأبو عكرمة زياد بن درهم – وهو أبو محمد الصادق (63)، وهؤلاءهم رؤساء الدعوة العباسية في الكوفة، وخراسان، ويسمون – أيضاً - رؤساء النقباء وأراد أبو عكرمة السراج أن يعّرف الإمام على مدى تقبل وفرح أهل خراسان بدعوتهم ودعوة آل البيت، فطلب من زعمائهم أن يكتبوا للإمام محمد بن علي بما يؤكد له إيمانهم وإخلاصهم وحبهم لهذه الدعوة التي تهدف إلى خلاصهم من ظلم الأمويين – كما يرون ذلك – فأرسلها إلى الكوفة حيث ميسرة العبدي الذي دفعها بدوره إلى محمد بن علي في الحميمة (64)، ففرح بها واستبشر وسره أن ذلك أول مبادئ الدعوة (65). وأوصى محمد بن علي الدعاة أن يقضوا حوائجهم بالكتمان، وأن يكون ظاهر عملهم التجارة وغايتهم الدعوة إلى آل البيت قائلاً : انطلقوا أيها النفر فادعوا الناس في رفق وستر، فإني أرجو أن يتم الله أمركم، ويظهر دعوتكم ولا قوة إلا بالله (66) ثم قال لهم : فإن سئلتم عن اسمي فقولوا نحن في تقيه وقد أمرنا بكتمان اسم إمامنا (67). وأرسل محمد بن علي دعاته في الآفاق، يدعون الناس سراً، ظاهر أمرهم الاشتغال بالتجارة وباطنه الدعوة للرضا من آل البيت، واصفين إياه بالتقى والصلاح والزهد والورع، وأن غايته تطبيق شرع الله، شعاره العدل والمساواة، ويحق الحق ويبطل الباطل، وسيملأ الدنيا صلاحاً وعدلاً، كما ملأها بنو أمية فسقاً وجوراً – كما يدعون (68) واستخدم الدعاة مهنة التجارة يستخفون وراءها لنشر الدعوة التي أسندت إليهم، وأخذوا يجوبون البلاد طولاً وعرضاً لاستقطاب أكبر عدد من الناس فكانت مهمتهم أسهل، ومراقبتهم أصعب، ثم إن هؤلاء الدعاة لم يكونوا من عامة الناس، بل تسلحوا بسلاح الثقافة والمعرفة والإخلاص للدعوة والتفاني في سبيلها، فبذلوا الأموال ولاقوا السجن والقتل والتمثيل، وكانت لديهم الحنكة لاجتذاب الأنصار (69). ولم يكن من دعاة بني العباس المشهورين أحد ممن اشتهر بالعلم في ذلك العصر بل أغلب الدعاة كانوا رجال إدارة وأهل قيادة وحرب، كأبي مسلم الخراساني وقحطبة بن شبيب، أو من أهل الشرف واليسار كبكير بن ماهان الذي أغدق على الدعوة بماله، فذكر أنه أنفق في نصرة الدعوة أربع لبنات من فضة ولبنة من ذهب (70)، وورد أنه الذي اشترى أبا مسلم الخراساني لما رأى صلاحه لأمر الدعوة (71)، وكأبي سلمة الخلال الذي ذكر أنه رجل شهم، سائس شجاع، متمول، أنفق أموالاً كثيرة في إقامة الدولة (72). كما أن بعض دعاة بني العباس من الموالي الذي يهمهم القضاء على بني أمية ونجاح الدعوة العباسية التي يرفع قادتها شعار المساواة وإنفاق الموالي (73). ونلاحظ أنَّ الأكثرية الساحقة من النقباء كانوا عرباً (74). وقد ذكر الباحثون أسماء وتشكيلات تنظيمية منها :
(أ) كبير للدعاة بالكوفة :(/5)
فقد عين محمد علي العباسي كبيراً للدعاة، وجعل الكوفة موقعاً له ومقاماً، إذ هي أقرب إلى خراسان من الحميمة، وبها شيعة أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية الذين انضموا إلى بني العباس وكان كبير الدُّعاة مسئولاً عن نشر الدعوة والإشراف عليها بخراسان، فكان يرسل إليها وفود الدعاة، وكان يكتب إلى محمد علي بأنباء الدعوة ويعلمه بأحوالها، وكان يلقاه في موسم الحج، وكان يزوره بالحميمة إذا طرأ طارئ واحتاج إلى أن يعرف رأيه فيه، حتى يأخذ به وينفذه. وكان الدعاة من أهل خراسان يمرون بالكوفة، ويعّرجون على كبير الدعاة، فيطلعونه على ما بلغوا في بث الدعوة ويشرحون له ظروفها، ثم يمضون إلى الحجاز، فيقابلون محمد بن علي بالمدينة ومكة في موسم الحج، فيؤدون إليه ما اجتمع لهم من أموال، ويُخبُرونه بأخبار الدعوة ويعرضون عليه مسيرتها ومُلابساتها، ويتشاورون في أمرها حتى يستدركوا النقًّص، ويتلافوا الأخطاء، ويُذلَّلوا الصعاب، ويتجنبَّوا الأخطار، تقوية للدعوة ومداً في تيارها وحماية لها من الانهيار فإذا انقضى موسم الحج زوّدهم بتوجيهاته وإرشاداته، ورجعوا إلى خراسان، فواصلوا القيام بأمر الدّعوة وجدَُّوا في نشرِها (75)، قال البلاذري : (كان محمد بن علي يقدم المدينة في كل سنة فيقيم بها الشهر والشهرين، ويُؤتى بالمال فيفرقه) (76)، ومن أشهر من تولى هذا المنصب في التنظيم العباسي بكير بن ماهان فقد استعمله محمد بن علي العباسي بعد وفاة أبي رباح ميسرة النبَّال، فقد جاء إلى محمد بالحميمة وأخبره عن شيعته بالكوفة، وأوصاه محمد بن علي أن يدعو إلى الرضا من آل محمد، ويذكر جور بني أمية، وأن آل محمد أولى منهم بالأمر، وأوصاه أن يُحذر شيعة بني العباس التحرك في شيء مما يتحرك فيه بنو عمَّهم من آل أبي طالب، فإنَّ خارجهم مقتول، وقائمهم مخذول وليس لهم في الأمر نصيب، وخوّفه جماعة أهل الكوفة وأمره أن لا يقبل منهم أحداً إلا ذوي البصائر، فإنهم لا يُعزُّ به من نصروه ولا يوهنون بخذلانهم من خذلوه (77). وكان بكير بن ماهان رجلاً مُفوَّها، فقام بالدُّعاء وتولى الدعوة بالعراقين. وكانت كتب الإمام تأتيه فيغسلها بالماء، ويعجن بغسالتها الدقيق، ويأمر فيُختبز منه قرص، فلا يبقى أحد من أهله وولده إلاَّ أطعمه منه (78) وهذا يُشير إلى النفوذ الروحي لمحمد بن علي العباسي على أتباعه ولا شك أن هذا الأمر ساهم بشكل كبير في نجاح الدعوة العباسية، وقد أنفق بكير بن ماهان أموالاً طائلة في نصرة الدعوة (79).
(ب) مجالس الدعوة العباسية :
ذكر مصنف أخبار الدولة العباسية أن بكيراً كوّن مجالس الدعوة العباسية المختلفة سنة عشرين ومائة (80)، وفي حديثه عن بعضها تعميم ووهم، فإن مجالس النُّقباء، ومجلس السبعين أُلفا في سنة مائة، روى ذلك أكثر المؤرخين، واتفقوا عليه، ويبدو أن بكيراً جمع رجال المجلسين (81) (81)، وتبادل معهم الرأي في شؤون الدعوة العباسية، وأقرَّهم وأبقاهم في مناصبهم ولم يعزل أحداً منهم، ولا سيما النقباء، فإن أسماءهم عند مُصَنفَّ أخبار الدولة العباسية (82)، وعند غيره من المؤرخين (83) متطابقة، وأما سائر رجال السبعين فإنه استَقَلَّ بسرد أسمائهم إذ لم يشاركه أحد من المؤرخين في ذلك (84)، ويبدو أن بكيراً أنشأ بقية المجالس التي ذكرها مُصَنَّف أخبار الدولة العباسية لأنها لم تُعرف قبل هذا التاريخ، وهي : مجلس نظراء النقُّباء. وهو يتألف من اثنى عشر رجلاً، وقيل من عشرين أو أحد وعشرين رجلاً وقد سمّاهم جميعاً (85) ومجلس الُّدعاة، وهو يتألف من سبعين رجلاً، وقد سمَّى منهم خمسة وستين رجلاً (86) ومجلس دعاة الُّدعاة ولم يُحدَّد عدد رجاله، وقد سَمَّى منهم سبعة وثلاثين رجلاً (87). وفي كل مجلس من هذه المجالس طائفة من رجال مجلس السبعين. ونصَّ على أن النُّقباء الاثنى عشر ليس بين أحد من أهل العلم فيهم اختلاف، فأما نُظراء النُّقباء والسبعون قد اختلف فيهم (88). ثم أخذ بكير البيعة على من حضره من شيعة – بني العباس – على مناصحة إمامهم في السَّر والعلانية، وألا يُطلعوا على أمرهم أحداً خافوا ناحيته ولم يثقوا به، وجمعوا مالاً كثيراً، وأتوه به، وخلف عليهم سليمان بن كثير الخزاعي، وأمرهم إذا حزبهم أمر أن يجتمعوا إليه فيناظروه فيه عنده، وأمرهم أن يأخذوا برأي أبي صالح كامل ابن مظفر فإنه ثقة في رأيه وشفقته، وشخص إلى جرجان، فلما قدِمها أقام بها شهراً، وجمع له شيعتها مالاً وحُلياً ثم سار منها إلى الكوفة، فلما بلغها مكث بها يسيراً، ثم توجَّه إلى محمد بن علي، فدفع إليه ما قدم به (89)، ولبث في الحُميمة زمناً، ثم رجع إلى الكوفة أول سنة (122هـ) اثنين وعشرين ومائة (90) .
(3) البعد التخطيطي وقراءة الواقع عند محمد بن علي العباسي :(/6)
إن التخطيط والتنظيم من الأسس المهمة في نجاح الدعوات وقيام الدول، حيث كتب محمد بن علي كتاباً لقادة التنظيم العباسي ليكون لهم مثالاً، وسيرة يسيرون عليها قائلاً : أما الكوفة وسوادها فشيعة علي وولده، وأما البصرة وسوادها فعثمانية تدين بالكف، تقول كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، وأما الجزيرة، فحرورية ما رقة، وأعراب كأعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى، وأما أهل الشام فلا يعرفون إلا معاوية، وطاعة بني أمية، وعداوة راسخة، وجهلاٍٍ متراكماٍ، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بأهل خراسان، فإن هناك العدد الكثير، والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة، وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم تتوزعها النحل، ولم يقدح فيها فساد، وهم جند لهم ابدان، وأجسام، ومناكب، وكواهل، وأصوات هائلة ... وبعد : فإني أتفاءل إلى المشرق، وإلى مطلع سراج الدنيا، ومصباح الخلق (91).
لقد وصف محمد بن علي للدعاة المكان الذي يمكن أن تنمو فيه الدعوة وتحقق أكبر النجاح للقضاء على الحكم الأموي بعد أن بين الموانع القائمة بكل إقليم على حده، ثم ذكر المؤهلات التي تجعل إقليم خراسان هو المكان المناسب لاحتضان الدعوة العباسية:
هـ. خراسان :
منطقة بعيدة عن عاصمة الدولة وفيها رجال أقوياء حاقدون على الحكم الأموي، والاستقرار في هذه المنطقة شبه مفقود وفيها شيعة متحمسون لنصرة آل البيت وفي خراسان : جمجمة العرب وفرسانها (92)، فقد كانت خراسان موطن المقاتلة العرب الذين مرستهم الحرب الطويلة مع تركستان والذين عبّروا مراراً عن تذمرهم من السياسة الأموية والعسكرية (93)، فقد تضايقوا من سياسة التجمير وهي إبقاء المقاتلة في الثغور وعلى خطوط المواجهة شتاءً في الوقت الذي يرغب المقاتلة في قضاء الشتاء مع عوائلهم.
كان الوالي الأموي يسلبهم حصتهم من الفيء والغنيمة أحياناً أو يأخذ أكثر من حقه منها أحياناً أخرى.
سئمت القبائل من النزاع المستمر بين الشيوخ والرؤساء الطموحين للوصول إلى السلطة حيث خلق هذا بين قبائل خراسان نوعاً من القلق ولذلك وجدت تلك القبائل في الدعوة العباسية أملاً جديداً لحياة أكثر استقراراً ويسراً (94).
ج. الحجاز : فهو إقليم غلب عليه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فأهله يميلون إلى الزهد والعبادة، ويركنون إلى السلم وترك الاشتغال بالسياسة، فهم لا يرون أن الخلافة حقاً من حقوق بني هاشم – وإنما في قريش عموماً – ولهذا فشلت حركة المدينة التي قام بها بعض المعارضين للحكم الأموي، كموقعة الحرة عام 63ه. وفي مكة انتهت خلافة عبد الله بن الزبير عام 73ه دون أن تحقق الهدف المنشود – لأسباب كثيرة مر ذكرها – كما أن أهل الحجاز يعرفون أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وصلوا إلى الخلافة بالشورى، والاختيار والقبول من الأمة الإسلامية من غير تسلط أو سفك دماء.
د. الشام : وأما إقليم الشام " دمشق " التي اتخذها الأمويون عاصمة لدولتهم الإسلامية المترامية الأطراف، وأهل الشام يرون أن عزهم ومجدهم قد جاء عن طريق الأسرة الأموية فهم لا يرون عنها بدلاً.
ب. البصرة : هي في نظر محمد بن علي العباسي لا تصلح لهذه الدعوة، فسكانها خليط من البشر، وفيها عدد من الأجناس والأديان، والبصرة مدينة اقتصادية لا شأن لها بالسياسة، ويقطنها قليل من الشيعة لا يفي بالغرض المطلوب، والكثير منهم منهجهم: "كن عبد الله المقتول".
أ. وأما الكوفة : ففيها شيعة علي وولده، ولا تقبل غير الدعوة لأولاد علي، فأهلها يرون أن الخلافة هي حق من حقوق العلويين دون غيرهم (95).
إن هذا الرأي الذي أدلى به محمد العباسي ليصور بوضوح نزعات الأقاليم الإسلامية ولم يشر هذا الكلام إلى مصر التي كانت قريبة من بلاد الشام فلم يكن بالإمكان اتخاذها مركزاً لحركة معارضة أو لإعلان ثورة (96) أما إفريقيا فلقد كانت قريبة من مصر وبالتالي في قبضة الجيوش الأموية لقربها من الحاميات المتقدمة .
(4) دور "الحميمة" القيادي وأهمية العنصر العربي في البناء التنظيمي :(/7)
وقد أتيح للقيادة العباسية من موقعها في " الحميمة " مراقبة الوضع السياسي عن كثب، والتنبه للثغرات والمشكلات فيه دون أن يكون اختيار خراسان سوى نتيجة لذلك وهي الولاية الأثيرة لدى الأمويين ومركز الخلل في دولتهم المترنحة والصورة الأكثر تعبيراً عنها في صراعاتها وانقساماتها. على أنه ثمة مسألة هامة هي أن اختيار خراسان لا يعني انصراف العباسيين عن الشام، كما لا يعني التوجه نحو الموالي واستغلال أحقادهم على الدولة الأموية، على نحو ما روّج له المستشرقون في هذا المجال ولكنه جاء محصلة للمعطيات السابقة، فضلاً عن المعطى الجغرافي، متمثلاً في بُعد الولاية عن مركز الدولة، ذلك أن الدعوة في – أساسها التنظيمي قائم على العرب – وتوجهها الخراساني إنما كان للقبائل العربية اليمنية (97)، القاطنة بأعداد كبيرة في هذه الولاية، هذا إذا لم نتوقف عند عروبة " النقباء " المتحدرين من كبريات القبائل العربية، إذ أن خمسة منهم إلى خزاعة، وثلاثة إلى تميم، واثنين إلى مزينة، فضلاً عن آخرين من طيء وربيعة .. إلخ (98). ولا يعني هذا أيضاً، أن يكون لبروز شخصيات من أصل غير عربي في الدعوة، من أمثال أبي مسلم الخراساني وأبي سلمة الخلال، دلالات تخالف هذا الواقع، إذ أن قيادة الدعوة كانت تحكم قبضتها على كل الأمور، من خلال جهاز بالغ الدقة في التنظيم والإدارة، وسرعان ما لجأت إلى التخلص من هذين الرجلين القويين بعد إنهاء دوريهما المرسومين ومحاولة كل منهما تجاوز خطوطه المحددة (99)، وهكذا في قرية من أطراف الشام تم للعباسيين إخراج مشروعهم إلى حيز التنفيذ، متحالفين مع الوقت، ومتقنين العمل السري، وراصدين ثغرات الحكم الأموي، بما فيها مساوئ الخلفاء وضيق رؤيتهم السياسية، مما حاد بهؤلاء عن الموضوعية واتخاذ المواقف المسئولة، خصوصاً في تلك المرحلة المتأخرة منه (100)، وقد كانت دراستهم العميقة لأسباب النجاح وعوامل إضعاف الأمويين تدرس بحكمة ووعي فائق وذكاء كبير في مركز القيادة بالحميمة.
أهم مبادئ المشروع العباسي والشرائح المستهدفة بالدعوة :
لكل دعوة أو مذهب منظومة فكرية وشعارات خاصة تنادي بها وتجعلها رمزاً يؤمن بضرورة تحقيقه ومن أهم مبادئ وشعارات الدعوة العباسية التي رفعتها ونادت بها :
الدعوة إلى الإصلاح : ومن شعارات الدعوة العباسية الإصلاح، أو الدعوة إلى الكتاب والسنة وهو شعار عام وهو أشمل شعارات الدعوة العباسية والواقع أن أحداثاً كثيرة تركت في النفوس آثاراً مريرة، مثل حصار الكعبة وانتهاك حرمة المدينة المنورة يوم الحرة، وسفك دماء أهل البيت وسياسة القهر واضطهاد المعارضة، والابتعاد عن سيرة السلف الصالح، وحب الترف واللهو وكثرة مظاهره وكثرة المذاهب وتصارعها وظهور أقوال كثيرة غير مألوفة من قبل، والاعتماد على العصبية في الحكم.
المساواة : وهو شعار المساواة بين الشعوب، وهو شعار ساهم في إنجاح الثورة العباسية وأنصف الشعوب التي أسلمت واندمجت في الحضارة الإسلامية وصارت تتطلع إلى المساواة وهذا الشعار في ذاته مبدأ إنساني جليل لا تزال الأجيال تتعلق به منذ القدم وتتخذه مثلاً أعلى، وهو شعار له معنى خاص في ديننا وهو عدم التفرقة بين الناس بحسب ألوانهم أو دمائهم أو تاريخهم، وبيان أن أكرم الناس عند الله أتقاهم وقد تستر خلف هذا المبدأ دعاة العباسيين وشنعوا به على بني أمية وزعموا أنهم انحرفوا عن هذا المبدأ الإسلامي الأصيل (101).
الإمامة للرضى من آل محمد : وهذا الشعار رضي عنه مجموعة كبيرة من الناس سواء من الشيعة أو السنة وهو أن المبايعة للرضى من آل محمد صلى الله عليه وسلم بدون تعيين اسم ولا تعيين هل هو من البيت العباسي أم من الطالبيين وانتبه الشيعة متأخرين إلى أن العباسيين كانوا يخططون لأنفسهم ولكن بعد فوات الأوان (102).(/8)
فهذه هي أهم المبادئ بالإضافة إلى العدل، ومحاربة الظلم والانتصار لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. واعتمد محمد علي أسلوباً جديداً في بث الدعوة فأوصى أتباعه بكتمان أمرهم وعدم كشف حقيقته لأحد إلا بعد أن يأخذوا عليه العهود والمواثيق المؤكدة (103)، وحتى لا تثير تحركاتهم شكوك السلطة الأموية أوصى أتباعه أن يجوبوا المدن ويعملوا لدعوته بحجة التجارة وأن يستروا اسمه على الجميع، فلم يكن محمد بن علي طيلة المدة التي تولى بها رئاسة الدعوة يعرفه أحد بنسبه واسمه إلا الدعاة (104)، وحتى هؤلاء فإن لقاءه بهم كان قليلاً (105)، وإذا ما استوجب الأمر أن يلتقي بأحدهم فإن ذلك يتم تحت إجراءات أمنية مشددة وغالباً ما يكون في وقت متأخر من الليل بعد أن يكون الجميع قد دخلوا منازلهم (106)، وقد بالغ محمد بن علي في كتمان أمر الدعوة فأوصى أتباعه أن تكون البيعة لشخص مجهول وهي " للرضا من آل محمد " (107)، ويبدو أن هذا الغموض في المبادئ خدم السياسية العباسية في مدة الدعوة السرية وكان له أثر بالغ في نجاحها فشعار " الرضا من آل محمد " يضيق دائرة الخلاف فيحصرها في أهل البيت من قريش، ويخرج الأمويين منها ويبطل حقهم فيها، وفي الوقت نفسه يجعل للعباسيين نصيباً منها على أساس أنهم أحد فرعي أهل البيت، ويتيح لهم كسب أعداد كبيرة من أنصار أهل البيت ومؤيديهم، وهو من الناحية الأخرى يوقف النزاع بينهم وبين العلويين ولو مؤقتاً ويجمعهم تحت راية واحدة (108)، لذلك فقد تجنب العباسيون في هذه المدة كل ما يبين أنهم قاموا لأخذ محل العلويين، فأظهروا أن غايتهم قلب الدولة الأموية، وأخفوا سعيهم لأخذ الخلافة، وحاولوا أن يبينوا للناس أن قضيتهم هي قضية جهاد الحق ضد الباطل (109).
إن الثورة العباسية شأنها شأن الثورات الكبرى في التاريخ، تظهر بأشكال متعددة وتندفع في مجراها قوى متنوعة على الصعد الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولا شك أن الموالى كان لهم حضورهم، إلا أنهم كانوا في صفوف الجنود والأتباع، ولم يكونوا قادة إلا في استثناءات، كانت الثورة العباسية هي ثورة اليمانية الكبرى، كما كانت ثورة الشيعة العباسية والمرجئة والقدرية والخوارج وكان لكل من هذه القوى نصيب فيها، وإن كانت العديد من هذه القوى قد تعرض للتصفية على يد أبي مسلم نفسه فيما بعد (110)، ويقول أبو جعفر المنصور موجهاً كلامه لليمانية معترفاً لهم بدورهم المتميز في نجاح الثورة : فيحق لنا أن نعرف لهم حق نصرهم لنا وقيامهم بدعوتنا ونهوضهم بدولتنا (111)... وقد تكون هذه الصورة التي تجعل من الثورة العباسية ثورة يمانية مبالغ فيها، إذ أن القيسيين والمتذمرين من سياسة نصر بن سيار ومروان بن محمد انضموا كذلك إلى صفوف الثوار العباسيين وعملوا بدورهم على إسقاط الدولة الأموية (112).
باختصار كانت الثورة العباسية هي ثمرة حسن استغلال تراكم معارضات عدة بدأت مُنذ لحظة هذه الثورة بواجهات متعددة ورفعت شعارات مختلفة، حاولت فيها كسب كل المتذمرين ضد الحكم الأموي، فانضم إليها الغلاة والمعتدلون، المسلمون وغير المسلمين، العرب وغير العرب (113) إن هذا التعقيد في الثورة العباسية هو سر نجاحها، فالشعارات التي رفعتها كانت عامة غامضة، لا تختلف ربما عن سواها إلا باكتسبت مضموناً مختلفاً عندما تبنتها قوى متعددة ورأت فيها مشروعها للخلاص، وإنما على قاعدة تلك البنية التنظيمية التي صنعها أناس أكفاء استطاعوا الصمود رغم ما أحاط بهم من أشكال القمع، حتى تحقق الانتصار الكبير (114).
وقد استهدفت الدعوة العباسية في رحلتها السرية من أعداء الدولة الأموية والذي من أهمهم :
(أ) المهالبة الذين حاربتهم الدولة الأموية وتتبعتهم بعد مقتل يزيد بن المهلب، والمهالبة يمنيون.
(ب) الموالي، فقد كان هؤلاء يدفعون من الضرائب مقدارً كبيراً، ولا يعاملون بالتساوي مع العرب وكان عليهم ضغط من كل جهة، فكانوا أعداء الدولة بطبيعة الأمر.(/9)
(ج) وكان بجانب هؤلاء عدو قوي للأمويين وهم الشيعة، فالشيعة العلوية كانت لا تزال تقوم بين حين وآخر بثورات، وكانت ثوراتها تخمد في كل مرة، فتزداد الكراهة وتشتد العداوة (115) فهذه من أهم الفئات التي استهدفتها الدعوة العباسية، فقد كانت تشكل تربة خصبة لحشد الأتباع والمناوئين للدولة الأموية فأي حركة منظمة تريد أن تسقط نظاماً ما لا بد لها من معرفة أعداء ذلك النظام والعمل على حشد القوى ضده مع ضرورة إمساكها بخيوط الثورة بيدها، فهذه بديهة من بديهات العمل السياسي المنظم. كان على رأس الدعوة العباسية رجال من بني العباس، " دهاة أقويا " منظمين عارفين بما يقومون به : أولهم محمد بن علي وأقرباؤه وابنه إبراهيم، ثم تبعهم عدد من إخوة إبراهيم ومن أعمامه وأقاربه، وقد اشتركوا جميعاً في تنظيم الثورة ووضعوا خططها وأشرفوا عليها ووجَهوها كما يجب أن توجه. نعم إنهم تحالفوا مع أعداء بني أمية جميعاً واستفادوا منهم كل الاستفادة، لكنهم هم الموجهون وهم أصحاب الأمر، أما الدعاة والقادة فإنهم يتلقون أوامرهم وينفذونها بحذافيرها، نعم استفادوا من العناصر المعادية لبني أمية، وكانت تلك العناصر يجمعها هدف واحد هو إزالة بني أمية، و تجمعها فكرة واحدة، وهي أن بني أمية أعداء الدين لذا وجب القضاء عليهم (116).
(5) المرجعية الشرعية للدعوة العباسية :
تعتبر مدرسة عبد الله بن عباس الحركية والشرعية هي المرجعية للدعوة العباسية، فقد اهتم علي بن عبد الله بن العباس بتراث أبيه وعلومه، يروي ابن سعد بسند أن موسى بن عقبة قال : وضع عندنا كريب حمل بعير أو عدل بعير، من كتب ابن عباس، قال فكان علي بن عبد الله بن عباس إذا أراد الكتاب كتب إليه : إبعث إليّ بصحيفة كذا وكذا، قال فينسخها فيبعث إليه بأحدها (117) وقد علق الدكتور صالح أحمد العلي على هذا الأثر فقال : غير أن موسى بن عقبة لم يحدد فيما إذا كانت كتب ابن عباس هذه مما ألفه أو مما امتلكه كما أنه لا يذكر مواضيعها، أي فيما إذا كانت في التفسير أم في علوم أخرى (118). وذكر صاحب الوصية السياسية في العصر العباسي بأن محمد بن علي حين نشأ : ألزمه أبوه أصحاب جده – ابن عباس – فكان كذلك حتى علم وفقه فجلس يوماً يفتي في المسجد الحرام بمثل فتيا جده (119)، وقد أبهرت فتواه سعيد بن جبير رضي الله عنه حين سمعه فقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني رجلاً من ولد ابن عباس يفتي بفتواه (120)والمعلوم لدى الباحثين أن عبد الله بن عباس تقدم في التفسير بسبب عوامل متعددة منها؛ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالفقه في الدين والعمل بالتأويل، قرب منزلته من عمر – رضي الله عنه، الأخذ عن كبار الصحابة، قوة الاجتهاد وقدرته على الاستنباط، قدرات ابن عباس التعليمية والتربوية، رحلاته وأسفاره، وتأخر وفاته (121) وكان ابن عباس من علماء المدرسة المكية وقد تميزت هذه المدرسة من بين سائر المدارس بكثرة تناولها للآيات وتفسيرها وأسهمت إسهاماً قيما في الإبانة عن كثير من المعاني التي يحتاج إليها ويرجع ذلك لأسباب عديدة منها؛ إمامة ابن عباس للمدرسة، الأثر المكاني على المدرسة – كونها بمكة – كثرة رحلاتهم وأسفارهم، حرصهم على نشر علمهم، التصنيف والتدوين المبكر لآثار المدرسة (122).. إلخ.
* الفقه الحركي عند ابن عباس :
استفاد العباسيون من فقه جدهم الحركي والذي ظهر عند نصحه للحسين بن علي لما أراد الذهاب للكوفة، فقد قال له : أخبرني إن كانوا دعوك بعد ما قتلوا أميرهم، ونفوا عدوّهم، وضبطوا بلادهم، فسر إليهم، وإن كان أميرهم حيَّا، وهو مقيم عليهم، قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك للفتنة، والقتال (123)، وفي رواية أخرى أنّه قال له : إنّي أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إنّ أهل العراق قوم غدر، فلا تغترنّ بهم، أقم في هذا البلد حتىّ ينفي أهل العراق عدوّهم، ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن، فإن بها حصوناً وشعاباً ولأبيك بها شيعة وكن عن الناس بمعزل، واكتب إليهم وبث دعاتك منهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب (124). ويظهر من فقه ابن عباس الحركي :
(أ) أهمية سيطرة أهل العراق على إقليمهم وتحريره من سلطان بني أمية : وهذا ما قام به العباسيون مع أهل خراسان حيث ضبطوه وحّرروه من سلطان بني أمية فيما بعد .
(ب) استفاد العباسيون من تقييم ابن عباس لأهل العراق ولذلك لم يعتمدوا عليهم في تشكيل القاعدة الصلبة التي قامت عليها دعوتهم.
(ج) بيَّن ابن عباس بأن اليمن بها حصون وشعاب ولأبيك بها شيعة وهذه عوامل مهمة في نجاح الحركة لأن قبضة الدولة الأموية تكون ضعيفة للأسباب الجغرافية والبشرية ولذلك وقع اختيار العباسيين على خراسان، لضعف قبضة الدولة عليها، كما كان بها أنصار لأهل البيت وخصوصاً من القبائل اليمنية المهاجرة هناك.(/10)
(د) وبين ابن عباس بأن يكون صاحب الدعوة في بداية أمرها عن الناس بمعزل وأن يكتب إليهم ويبث دعاته فيهم وهذا الذي فعله محمد بن علي العباسي، فقد كان عن الناس بمعزل وكان يكتب للناس ويبث دعاته من خلال تنظيم محكم انتشرت خلاياه الدعوية في جسم الأمة الإسلامية .
(6) انحراف خطير عن منهج الدعوة وموقف محمد بن علي العباس ضده :
في سنة 118ه بعث بكير بن ماهان عمَّار بن يزداد داعية إلى خراسان وكان نصرانياً من أهل الحيرة ثم أسلم وصار معلماً بالكوفة، فلمّا أتى خراسان تسمَّى بخداش بن يزيد، ودعا الناس إلى بني العباس فأجابوه، ثم انحرف عن الدعوة العباسية، وخرج عن مبادئها وقواعدها وشذَّ عن مراميها ومقاصدها فثار عليه شيعة بني العباس وفتكوا به، ويقال : إنَّ أسد بن عبد الله القسْري هو الذي قبض عليه وقتله (125) وقال البلاذري : وجه بكير عماراً هذا فغيّر سُننَ الإمام، وبدل ما كان في سيرة من قبله، وحكم بأحكام منكرة مكروهة، فوثب عليه أصحاب محمد بن علي فقتلوه، ويقال : بل قتله أسد بن عبد الله وصلبه (126)، وفيما روى ابن جرير الطبري من خبر خداش أنه أعلن دين الخُرّمية وأحّلًّ النساء وأباحهن وذكر لشيعة بني العباس أن محمد بن عليَّ أمره بذلك، فأخذه أسد بن عبد الله القسري، ومثّل به ثم قتله (127)، وروى ابن الأثير أن خّداشاً أجاز لشيعة بني العباس ترك الطاعات والفروض وسوّغ لهم ذلك واحتجَّ له احتجاجاً قبيحاً، يقول : قال لهم : إنه لا صوم ولا صلاة ولا حج، وإن تأويل الصوم أن يُصام عن ذكر الإمام فلا يباح باسمه، والصلاة والدعاء له، والحج القصد إليه، وكان يتأوَّل من القرآن (128) قوله تعالى : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملوا الصالحات " ( المائدة : 93). وكان مروق خِداش من الدَّين وانسلاخه من الإسلام، ومزجه تعاليم الدَّعوة العباسية بتعاليم الخُرَّمّية أكبر الأخطار التي صادفها محمد بن علي، فقد نكب شيعتها وشق صُفُوفهم شقاً وكان من انحازوا إليه منهم كُثراً وكان فيهم بعض النُّقباء والدُّعاة (129)، وروى البلاذري أن محمد بن علي صرف شيعة بني العباس بخراسان عن مقالة خِداش، إذ أرسل إليهم بكير بن ماهان، فرتق فتقهم، ورأب صدعهم، ولم شعثهم وأعادهم إلى منهاج محمد بن علي ودعوته (130)وقد أرسل مع بكير من ماهان رسالة إلى دعاته في خراسان يحذرهم من الدخول في هذه المبادئ المنافية للإسلام، كما أرسل معه رسالة ثانية إلى رؤساء الدعاة (131).
قال في رسالته الأولى : سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ... وأشهد أن الله يبدئ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم فتبارك ذو الفضل العظيم. أما بعد : فإني أوصيكم بتقوى الله الذي لا يزيد في ملكه من أطاع ولا ينقص من ملكه من عصاه، بيده الملك ويبقى ملكه وهو عزيز ذو انتقام وتمسكوا بصالح الذي عاهدتم الله عليه وأدوا الأمانة فيما أمركم به، واعتصموا بحبل الله جميعاً، وخذوا بحظكم منه واشكروا بلاه الذي أصبح بكم من سوابغ نعمه واعتبروا ما بقي بما سلف، وإنما ضرب الله لكم أمثال ما مضى من الأمم لتعقلوا عن الله أمره بأنكم قد رأيتم من الدنيا وتصرفها بأهلها إلى ما صار من مضى منهم، وخير ما يصيب الناس فيما بقي من الدنيا ... ثم اعلموا علماً يقيناً أن لأهل ولاية الله منازل معروفة كأنما ينظرون فيما أعطاهم الله من اليقين إلى عواقب الأمور ومستقرها .. لا تصدقوا كذباً، ولا تجمعوا خبيثاً ولا تخالفوا تقياً ولا تحتقروا يتيماً صغيراً، ولا تنتهيكوا ذمة، ولا تفسدوا أرضاً ولا تشتموا مؤمناً، ولا تقطعوا رحماً، ولا تعصوا إماماً، وأحسنوا مؤازرتهم وصيانة أمرهم، أعينوهم إذا شهدتم وانصحوا لهم إذا رغبتم، اعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله وأوثق التقوى لزوم حقه، وخير الملل ملة إبراهيم وأفضل السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأعظم الضلالة ضلالة بعد هدى... ونفس تناجيها بتقوى خير من نفس أمارة بالسوء، فاتقوا الله، ولا تكونوا أشباهاً للجناة الذين لم يتفقهوا في الدين ولم يعطوا بالله اليقين وأن الله أنزل عليكم كتاباً واضحاً ناطقاً محفوظاً قد فصل فيه آياته، وأحكم فيه تبيانه، وبين لكم حلاله وحرامه، وأمركم أن تتبعوا ما فيه، فاتخذوه إماماً، وليكن لكم قائداً دليلاً، فعليكم به، ولا تؤثروا عليه غيره ... فإن الله بين لكم ما تأتون وما تتقون، فقال لنبي الرحمة " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ". وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم " قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد " أسأل الله أن يجعلنا وإياكم مهتدين غير مرتابين . والسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين (132).(/11)
وقال في رسالته الثانية التي وجهها إلى رؤساء الدعاة : " أما بعد عهدنا الله وإياكم بطاعته وهدانا وإياكم سبيل الراشدين. فقد كنت أعلمت إخوانكم رأيي في خداش، وأمرتهم أن يبلغوكم قولي فيه، وإني أشهد الله الذي يحفظ ما تلفظ به العباد، زكي القول وخبيثه وإني بريء من خداش، وممن كان على رأيه، ودان بدينه، وآمركم ألا تقبلوا من أحد ممن أتاكم عني قولاً ولا رسالة خالفت فيها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والسلام (133). ومن خلال الرسائل السابقة تتضح نزعة محمد علي العباسي السنية وبطلان اتهام الدعوة بالعقائد الفاسدة، والباطنية، وعدم صحة ارتباط الدعوة العباسية بالزنادقة كما زعم بعض المستشرقين من أمثال فلهوزن (134)، فهذا الأمر بعيد كل البعد عن الصحة (135).
|1|2|
________________________________________
(1) نسب قريش ص 18 ، طبقات ابن سعد (
4/5 ) ، شذرات الذهب ( 1/38 ) .
(2) طبقات ابن سعد ( 4/5 ) الدعوة العباسية د . حسين عطوان ص 87 .
(3) تاريخ ابن عساكر نقلاً عن الدعوة العباسية ص 87.
(4) طبقات ابن سعد ( 4/32 ) الدعوة العباسية ص 87.
(5) تهذيب التهذيب ( 5/123 ) الدعوة العباسية ص 87.
(6) أسد الغابة ( 3/109 ) الدعوة العباسية ص 88.
(7) العقيدة في أهل البيت ص 154.
(8) الطبقات ( 4/4/5 ) الاستيعاب ( 3/49/101 ) العقيدة في أهل البيت ص 155.
(9) سنن الترمذي رقم 3759 ، المستدرك ( 3/325 ) صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(10) مسلم كتاب الزكاة باب في تقديم الزكاة ومنعها رقم 983 .
(11) مسلم رقم 1775 ، مصنف عبد الرزاق ( 5/379 380 ) ابن هشام 0 4/87 ) .
(12) فتسقينا : أي بدعائه حياً ، ولو كان يتوسل به ميتاً لتوسل به عمر ولما احتاج لعمه العباس ليدعو
له.
(13) البخاري رقم 1010 .
(14) حلية الأولياء ( 1/314 ) العقيدة في أهل البيت ص 158.
(15) البخاري رقم 143.
(16) سير أعلام النبلاء ( 5/284 ) .
(17) المصدر نفسه ( 5/285 ) .
(18) الدعوة العباسية ، حسين عطوان ص 146.
(19) طبقات ابن سعد ( 5/314 ).
(20) البداية والنهاية نقلاً عن الدعوة العباسية ص 146.
(21) تهذيب التهذيب ( 7/357 ) الدعوة العباسية ص147.
(22) وفيات الأعيان 0 3/276 ) الدعوة العباسية ص 147.
(23) وفيات الأعيان ( 3/276 ) الدعوة العباسية ص 147.
(24) أخبار الدولة العباسية ص 140 الدعوة العباسية ص 147.
(25) الدعوة العباسية ص 148 إلى 152.
(26) الدعوة العباسية ، حسين عطوان ص 154.
(27) المصدر نفسه ص 157 أنساب الإشراف ( 3/79 ) .
(28) طبقات ابن سعد ( 5/391 ).
(29) المصدر نفسه ( 5/391 ) .
(30) الدعوة العباسية ص 159.
(31) الدعوة العباسية ص 159.
(32) سير أعلام النبلاء ( 5/285 ) .
(33) الدعوة العباسية ، د . حسين عطوان ص 164.
(34) أخبار الدولة العباسية ص 164.
(35) تهذيب التهذيب ( 9/355 ).
(36) أخبار الدولة العباسية ص 197.
(37) العقد الفريد ( 5/105 ) الدعوة العباسية ص 165.
(38) أنساب الأشراف ( 3/83 ).
(39) نفس المصدر ( 3/83 ) الدعوة العباسية ص 165.
(40) الهاشمية : هي التي قالت بانتقال محمد بن الحنفية إلى رحمة الله وانتقال الدعوة إلى ابنه عبد الله
الملل للشهرستاني ( 1/150 ).
(41) العلويون والعبّاسيون ودعوة آل البيت ص 51.
(42) نسب قريش ص 75 ، طبقات ابن سعد ( 5/328 ) الدعوة العباسية ص 167.
(43) الدعوة العباسية ص 169.
(44) نسب قريش ص 75 ، طبقات ابن سعد ( 5/328 ).
(45) طبيعة الدعوة العباسية ص 125.
(46) نسب قريش ص 75 للزبيدي ، شذرات الذهب ( 1/166 ).
(47) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 56.
(48) المصدر نفسه ص 57 ، 58.
(49) العالم الإسلامي في العصر العباسي، حسن أحمد ص 114.
(50) الثورة العباسية فاروق عمر ص 112.
(51) تاريخ الطبري نقلاً عن العلويين والعباسيين وأهل البيت ص 61.
(52) طبيعة الدعوة العباسية ، فاروق عمر ص 155.
(53) العلوييون والعباسيون وأهل البيت ص 61.
(54) المصدر نفسه ص 62.
(55) المصدر نفسه ص 62.
(56) أخبار الدولة العباسية ص 216 ، تقويم جديد للدعوة العباسية ص 77.
(57) أخبار الدولة العباسية ص 221.
(58) طبيعة الدعوة العباسية فاروق عمر ص 23.
(59) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 63.
(60) الأخبار الطوال ص 332.
(61) المصدر نفسه ص 334.
(62) تاريخ الطبري نقلاً عن العلويين والعباسين ودعوة آل البيت ص 63.
(63) المصدر نفسه ص 63.
(64) الكامل في التاريخ نقلاً عن العلويين والعباسيين ص 64.
(65) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 64.
(66) الأخبار الطوال ص 332.
(67) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت 64.
(68) المصدر نفسه ص 64.
(69) المصدر نفسه ص 64.
(70) تاريخ الطبري نقلاً أثر العلماء في الحياة السياسية ص 600.
(71) البداية والنهاية نقلاً عن أثر العلماء في الحياة السياسية ص 600.
(72) سير أعلام النبلاء ( 6/7 ).(/12)
(73) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية ص 600.
(74) الثورة العباسية ص 117.
(75) الدعوة العباسية ص 172.
(76) انساب الأشراف ( 3/86 ) تاريخ الموصل ص 49.
(77) أخبار الدولة العباسية ص 194 – 200.
(78) الأخبار الطوال ص 333.
(79) الدعوة العباسية ص 189.
(80) أخبار الدولة العباسية ص 213 ، 215.
(81) أخبار الدولة العباسية ص 213.
(82) المصدر نفسه ص 216.
(83) أنساب الأشراف ( 3/115 ) الدعوة العباسية ص 211.
(84) الدعوة العباسية ص 211.
(85) أخبار الدولة العباسية ص 219 – 220.
(86) أخبار الدولة العباسية ص 221 – 222.
(87) أخبار الدولة العباسية ص 222 – 223.
(88) المصدر نفسه ص 220.
(89) أخبار الدولة العباسية ص 223 – 224.
(90) أخبار الدولة العباسية ص 230.
(91) عيون الأخبار ( 1/204 ) العلويون والعباسيون ص 58.
(92) طبيعة الدعوة العباسية ص 156.
(93) الثورة العباسية ص 114.
(94) الخلافة العباسية ، عصر القوة والازدهار ص 15 ، 16
(95) العلويون والعباسيون ص 58 ، 59 ، 60 .
(96) الثورة العباسية ص 114.
(97) تاريخ الطبري ، نقلاً عن تاريخ بلاد الشام ، إبراهيم بيضون ص 228.
(98) تاريخ بلاد الشام ، إبراهيم بيضون ص 228.
(99) الأخبار الطوال ص 359.
(100) تاريخ بلاد الشام ص 228.
(101) حركة النفس الزكية ص 46 .
(102) حركة النفس الزكية ص 46.
(103) الأخبار الطوال ص 355 ، الوصية السياسية في العصر العباس ص 89.
(104) الوصية السياسية في العصر العباسي ص 89ز
(105) المصدر نفسه ص 89.
(106) المصدر نفس ص 89.
(107) أنساب الإشراف ( 3/82 – 136 ) .
(108) أنساب الإشراف ( 3م82 – 136 ) .
(109) العصر العباسي الأول ص 25.
(110) السلطة والمعارضة في الإسلام ص 527.
(111) نقد وتعريف بتاريخ الموصل ، مجلة المكتبة بغداد ص 1968م ص 194.
(112) طبيعة الدعوة العباسية ص 178.
(113) السلطة والمعارضة في الإٍسلام ص 528 .
(114) المصدر نفسه ص 528.
(115) تاريخ عصر الخلافة العباسية يوسف العش 16.
(116) المصدر نفسه ص 26.
(117) طبقات ابن سعد ( 5/216 ) .
(118) دراسات في تطور الحركة الفكرية في صدر الإسلام ص 91.
(119) الوصية السياسية في العصر العباسي ص 76 ، أخبار الدولة العباسية ص 173.
(120) المصدر نفسه ص 76.
(121) تفسير التابعين ( 1/374 إلى 395 ) .
(122) المصدر نفسه ( 1/407 إلى 413 ) .
(123) البداية والنهاية ( 8/172 ) إحداث وأحاديث فتنة الهرج ص 208.
(124) الكامل في التاريخ( 2/546 ) .
(125) الدعوة العباسية ، حسين عطوان ص 203.
(126) أنساب الإشراف ( 3/117 ) .
(127) تاريخ الطبري ( 7/635 ) .
(128) الكامل في التاريخ ( 3/352 ) .
(129) الكامل في التاريخ ( 3/352 ) .
(130) أنساب الأشراف ( 3/118 ) الدعوة العباسية ص 207.
(131) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 66.
(132) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 66.
(133) المصدر نفسه ص 67.
(134) فتة السلطة ص 187 ، الدولة العربية ص 487.
(135) فتنة السلطة ص 188.
الدعوة العباسية ودورها في نهاية الدولة الأموية [2/2]
الدكتور/ علي الصلابي 5/1/1427
04/02/2006
ثالثاً : إعلان الثورة العباسية : تعمقت الدعوة العباسية في نفوس الأتباع، وتطلع الناس لها، وانتشرت فكرتها، وعلقوا الآمال عليها، فهي دعوة آل البيت، وهي التي سوف تخلصهم من الدولة الأموية وهي بجانب هذا ستعيد لهم عزهم وسلطانهم التليد، فتمسكوا بها وناصروها فاتسعت خلايا الدعوة، وتعمقت جذورها في السهول والجبال فعمت المدن والقرى والأقاليم وفي هذه الأثناء مات صاحب الدعوة ومنظمها محمد بن علي بالحميمة في ذي القعدة سنة 125 ه وأوصى بتولي أمر الدعوة لابنه إبراهيم الذي تسمى بها بعد بالإمام (136)، وكان رئيس دعاة الكوفة بكير بن ماهان موجوداً في هذا الأثناء بالحميمة فحمل هذه الوصية إلى خراسان وأبلغها إلى النقباء فصدقوه ودفعوا إليه ما اجتمع لديه من نفقات شيعته، ورجع إلى الحميمة، حيث طمأن الإمام عن سير الدعوة في خراسان وأبلغه إخلاص هؤلاء الدعاة لإمامهم الجديد وسلم إليه ما لديه من الأموال فعاد إلى الكوفة (137)، ومعه بعض الشيعة العباسيين بعد أن تعرفوا على إمامهم الجديد، وقد حثوه على تعجيل الثورة المسلحة قائلين : وحتى تأكل الطير لحوم أهل بيتك وتسفك دماؤكم، وتركنا زيداً مصلوباً بالكنانة وابنه " يحي " مطروداً في البلاد، وقد شملكم الخوف، وطالت عليكم مدة أهل البيت السوء (138).
كان إبراهيم بن محمد، أرفع إخوته مكاناً وأعلاهم شأناً، وكان عظيم القدر عند أهل المدينة ومكة وكان تقياً ورعاً (139)، جواداً، معطاء (140)، حكيماً، حليماً، وحازماً صارماً، وكان له عناية بالحديث ومعرفة بالبلاغة ورواية للشعر (141)، ولما تولى قيادة الدعوة العباسية سعى في بث الدّعوة ونشرها وجدّ في تقويتها وترسيخها واجتهد في تنظيمها وإحكامها (142).(/13)
ولما مرض بكير بن ماهان أرسل إلى إبراهيم الإمام يستأذنه بتولية زوج ابنته " أبو سلمة الخلال " رئاسة الدعوة بدلاً منه، فكتب إبراهيم إلى أبي سلمة يأمره بالقيام بعمل بكير بن ماهان، كما أرسل إلى خراسان يخبرهم بتولي أبي سلمة أمر الدعوة، فأجابوه بالطاعة والتصديق له، فمات بكير بعد ذلك بقليل سنة 127ه (143) والحديث عن إعلان الثورة يسوقنا إلى التعرف على شخصية مهمة كانت بجانب إبراهيم الإمام، والتي قامت بأهم أدوار هذا العمل الحربي بعد ذلك في تكوين الدولة العباسية والقضاء على معارضيها في أول الأمر، تلك هي شخصية أبي مسلم الخراساني (144).
1. أبو مسلم الخراساني :
اسمه عبد الرحمن بن مسلم، ويقال : عبد الرحمن بن عثمان بن يسار الخراساني، الأمير صاحب الدعوة، وهازم جيوش الدولة الأموية، والقائم بإنشاء الدولة العباسية، كان من أكبر الملوك في الإسلام. كان ذا شأن عجيب ونبأ غريب من رجل يذهب على حمار بإكافٍ من الشاف حتى يدخل خراسان، ثم يملك خراسان بعد تسعة أعوام ويعود بكتائب أمثال الجبال، ويقلب دولة، ويُقيم دولة أخرى (145)، كان قصيراً، أسمر جميلاً، نقي البشرة، أحور العين، عريض الجبهة، حسن اللحية، طويل الشعر، طويل الظهر، خافض الصوت، فصيحاً بالعربية والفارسية، حلوَ المنطق، وكان راوية للشعر، عارفاً بالأمور، لم يُر ضاحكاً، ولا مازحاً إلا في وقته وكان لا يكاد يُقطب في شيء من أحواله، تأتيه الفتوحات العظام، فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الفادحة الشديدة، فلا يرى مكتئباً، وكان إذا غضب لم يستفزه الغضب (146) قال عنه الذهبي : كان أبو مسلم سفاكاً للدماء، يزيد على الحجاج في ذلك، وهو أوَّل من سن للدولة لبس السواد (147).
(أ) الوضع العام عند إعلان الثورة :
كانت الظروف مواتيه لإعلان الثورة المسلحة في خراسان :
فقد قامت حركات تمرد في أنحاء خراسان ضد السلطة الأموية حيث قام بها زعماء القبائل مثل جديع بن علي الكرماني وهناك ثورة قد اشتعلت بالكوفة قام بها عبد الله بن معاوية من ولد جعفر بن أبي طالب وانضم معه الكثير من الغاضبين مما فت من عضد الدولة وأربكها، وقد دخل فيها بعض أفراد الأسرة العباسية ومن بينهم أبو جعفر، والسفاح، وعمهم عبد الله بن علي الذي ربما قصدوا من ذلك إفشال هذه الثورة، وقد حدث ذلك حيث كانت نهايته على أيدي رجال الدعوة العباسية في خراسان، ولآن خراسان لا تحتمل أكثر من دعوة وهي الدعوة العباسية (148).
* وفي الشام حروب طاحنة بين الأمراء الأمويين على السلطة.
* اشتداد العصبية القبلية في خراسان والعراق والشام، فقد كانت تتخبط بالانقسامات والفوضى، وحتى الأندلس وصلت العصبية فيها إلى حروب طاحنة بين المضرية واليمنية (149).
* خروج الضحاك بن قيس الشيباني في العراق والجزيرة (150).
* ثورة الخوارج في كل مكان في العراق، أو الحجاز، واليمن (151).
* عصيان كثير من المدن، في سوريا وفلسطين والأردن حيث خرجت عن طاعة الخليفة (152).
على ضوء هذه الأحداث وغيرها جد إبراهيم الإمام بعد ذلك إلى نقل الدعوة العباسية السرية، إلى طور العمل والنضال الحربي فعرض القيادة العامة للجيش على " سليمان بن كثير " رئيس دعاة خراسان فرفض ذلك، ثم عرضها بعد ذلك على إبراهيم بن سلمة فرفض هو الآخر هذا الطلب (153)، وكانا بالحميمة موفدين من قبل الشيعة العباسية لطلب الموافقة من إبراهيم الإمام لإعلان الثورة المسلحة وأن الدعوة السرية لا تستحق أكثر من هذا (154).
(ب) تعيين أبي مسلم الخراساني على القيادة العامة :
استقر رأي إبراهيم الإمام على تولية القيادة العامة لأبي مسلم الخراساني وكان ذلك عام 128ه، ولم يتجاوز عمره – آنذاك – تسع عشرة سنة (155)، وقد كتب معه كتاباً إلى شيعته في الكوفة قائلاً : إن هذا أبو مسلم، فاسمعوا له وأطيعوا، وقد وليته على ما غلب عليه من أرض خراسان (156) أخذ أبو مسلم هذا الكتاب ليعرضه على الدعاة وكان أول ما عرضه على أبي سلمة الخلال بالكوفة، وهو في طريقة إلى خراسان، ولكنه لم يجد منه قبولاً، فقد استصغره وحقره، وتوجه إلى خراسان بعد ذلك حيث عرض هذا الكتاب على كبار الدعاة فيها، فتخوفوا من عواقب ذلك وردوه، لأنه غلام عديم التجربة، فلا يمكن أن يكون لمثل هذه الأمور الخطرة، فأرسل وأرسلوا إلى إبراهيم الإمام بالحميمة حول هذا الموضوع، فأجابهم الإمام إلى وجوب الالتقاء به عند موسم الحج (157)، خرج هؤلاء والتقوا بإبراهيم الإمام في مكة، فأخبر أبو مسلم أن هؤلاء رفضوا الطاعة، والانقياد له. فقال لهم الإمام : لقد عرضت هذا الأمر على غير واحد لكنهم رفضوا ذلك فاستقر رأيي علي أبي مسلم لتولي رئاسة الجيش، فأمرهم بالسمع والطاعة له (158).
(ج) وصية الإمام إبراهيم لأبي مسلم :(/14)
وكتب إبراهيم الإمام وصية لأبي مسلم جاء فيها : (يا عبد الرحمن إنك رجل منا أهل البيت فاحفظ وصيتي، وانظر هذا الحي من اليمن فأكرمهم، وحل بين أظهرهم، فإن الله لا يسمي هذا الأمر إلا بهم، وانظر هذا الحي من ربيعة فاتهمهم في أمرهم، وانظر هذا الحي من مصر فإنهم العدو القريب الدار، فأقتل من شككت في أمره ومن كان في أمره شبهة ومن وقع في نفسك منه شيء، وإن استطعت ألا تدع بخراسان لساناً عربياً فأفعل، فأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله ولا تخالف هذا – الشيخ – يعني سليمان بن كثير الخزاعي – ولا تعصه، وإن أشكل عليك أمر فاكتف به مني) (159).
إن هذه الوصية غير متفق عليها بين المؤرخين لذلك لا يمكن قبولها دون تمحيص، فالنقد الخارجي للنص يظهر بأنه مذكور دون سلسلة ورواة الطبري، ولا ذِكْر للنص في مصادر مهمة أخرى مثل أنساب البلاذري وأخبار الدولة العباسية، وليس هناك أهمية كبرى لذكرها في كتب تاريخية متأخرة لأن هؤلاء المؤرخين المتأخرين أمثال ابن خلدون وابن كثير وابن الأثير نقلوها ممن ذكرها قبلهم والمهم هنا أن نذكر بأن رواية الدينوري (160)، وكتاب العيون والحدائق (161)لا تذكر النص الذي يأمر فيه إبراهيم أبا مسلم بقتل العرب دون تمييز، ولكن الوارد أن الأمر كان بقتل العرب الذين يرفضون الدخول في الدعوة العباسية أو المشكوك في ولائهم لها : (واقتل من شككت في أمره) (162). أو كما يقول العوفي : لقتل كل المدّعين أو المطالبين بالإمامة (163)، ويؤيد ذلك ما يذكره صاحب أخبار العباس على لسان أبي مسلم : أمرني الإمام أن أترك في أهل اليمن وأتألف ربيعة ولا أدع نصيبي من صالحي مضر وأحذر أكثرهم من اتباع بني أمية وأجمع إليّ العجم (164). ويمكن تلخيص النقد الداخلي للوصية بالنقاط التالية :
* الرواية مجزأة في الطبري إلى قسمين تذكر بينهما حوادث ذات علاقة بتطور الدعوة ولا علاقة لها بالوصية.
* تأتي الوصية تحت عنوان سبب قتل مروان بن محمد لإبراهيم الإمام، مما يدل على أنها أو بعضها على الأقل دعاية ضد العباسيين وضعت من جانب أعدائهم.
* يظهر نص الرواية تناقضات كثيرة فكيف يصح أن يأمر إبراهيم الإمام بقتل كل العرب وهو يدرك أهميتهم ويوصيه في بداية الرواية بتعهد اليمانيين وإلى درجة ما الربعيين.
* وأخيراً لا آخراً فإن سياسة أبي مسلم وسليمان الخزاعي في خراسان لم تسر أبداً حسب الوصية المزعومة فإن الدعاة العباسيين تقربوا لليمانية والربيعية حتى أن أبا مسلم قبل الكثير من المضريين في صفوف الدعوة (165).
(د) موقف سليمان الخزاعي من أبي مسلم :
وأما موقف سليمان الخزاعي من أبي مسلم فلم يكن ودياً أول الأمر حيث طرده ولم يقبله بين صفوف الدعاة قائلاً : (صلينا بمكروه هذا الأمر واستشعرنا الخوف واكتحلنا السهر حتى قطعت فيه الأيدي والأرجل وبريت فيه الألسن جزاً بالسعار وسملت الأعين وابتلينا بأنواع العذاب وكان الضرب والحبس في السجون من أيسر ما نالنا فلما تنسمنا روح الحياة وانفسحت وأينعت ثمار غراسنا طرأ علينا هذا المجهول الذي لا ندري أية بيضة تقلعت عن رأسه ولا من أي عش درج. والله لقد عرفت الدعوة من قبل أن يخلق هذا في بطن أمه) (166). ولكن نفور بعض الدعاة أمثال أبي منصور طلحة بن رزيق وأبي داود خالد بن إبراهيم وغيره من كبرياء سليمان هو الذي دعاهم إلى قبول الشخص الغريب أبي مسلم، فاضطر سليمان إلى الاعتراف بأبي مسلم خوفاً من تشقق الثورة وتصدعها (167). ولعل رفض سليمان الخزاعي لأبي مسلم الخراساني يعود أيضاً إلى حداثة سنه وقلة تجربته التي قد تعرض الدعوة للخطر، هذا بالإضافة إلى أن سليمان طلب من إبراهيم الإمام ممثلاً له : من أهل البيت (168). أي من الهاشميين وخاصة العباسيين ولم يكن يتخيل أنه سيرسل مولى له يمثله في خراسان (169)، وكان موقف أبي مسلم مرناً ويدل على ذكاء حيث تقرب من سليمان وأعلمه بأن الإمام أوصاه بألا يعصي له -أي لسليمان- أمراً ويقدمه في جميع ما يدبرون، وترجّاه كذلك ألاّ يشك فيه : أحسن بي الظن فإني أطوع لك من يمينك. (170) ولم يكن شيعة العباسيين في قرى خراسان ومدنها يطيعون إلا سليمان الخزاعي، صاحبهم والمنظور إليه منهم، ولذلك كتب إليهم سليمان يخبرهم بأمر إبراهيم وإرساله أبي مسلم إلى خراسان (171).
(د) مجلس النقباء في خراسان يرتب أمور الحرب :(/15)
عقد مجلس النقباء اجتماعاً لينظروا في أمر المكان الملائم لإعلان الثورة فيه فكان هناك رأي بضرورة إعلانها بخوارزم : فإنها بلاد منقطعة عن نصر بن سيار فإلى أن يرسل عسكره يكون قد تسامع بنا إخواننا فيأتونا ويكثر جمعنا فنقوى على من يأتينا إلا أن عدداً من النقباء عارضوا ذلك وأكدوا على مرو الروذ لأنها : متوسطة بين مرو بلخ. ثم اقترح عدد آخر مرو الشاهجان لأن بها خلقاً كثيراً من إخواننا وبها السلطان قد وهن أمره ومتى يقوى بها أمرنا يقوى في غيرها. وأبو ذلك سليمان الخزاعي قائلاً : إن قوتنا بها أعظم وعددنا أكبر. ووافقه أبو منصور كامل بن المظفر حيث قال : إذا اجتث الأصل فلا بقاء للفرع إذا ظهرتم بغير مرو تفرغ لكم سلطانكم وساعده عدده عليكم. وهكذا اتفق أمرهم على أن مرو الشاهجان أصلح مكان لإعلان الثورة، وأرسل الدعاة ليخبروا الشيعة بالالتقاء والتجمع في مرو في الوقت المحدد وكان في يوم عيد الفطر سنة 129ه (172)وكان نصر بن سيار منشغلاً بالاستعداد لجديع الكرماني فلما سمع بنبأ تجمع الشيعة في مرو وضواحيها قرر أن يكمن لهم ويلتقطهم جماعة جماعة ويقضي عليهم ولما علم سليمان الخزاعي وأبو منصور كامل بن المظفر بذلك أشارا على أبي مسلم بضرورة التجمع وإعلان الظهور قبل الموعد المحدد وإلا تشتت الشيعة وفشلت الحركة. فأعلنها أبو مسلم ولمّا يبقي في رمضان إلا خمسة أيام وعسكر في حُصَين تابع لسليمان الخزاعي حيث أصبح نقطة تجمع أنصار الدعوة لآل البيت (173). وحين فشا خبر أبي مسلم أقبلت الشيعة من كل جانب إلى مرو فأتاهم عيسى بن شبل وأبو الوضاح وأبو مرة في نحو من ألف رجل : وقد كثر جمعهم وسودوا ثيابهم ونصبوا أعلامهم ونشروا راياتهم فصلى بهم سليمان بن كثير الخزاعي يوم العيد وهي أول جماعة كانت لأهل الدعوة (174). وقد قام النقباء بترتيب نوع من التنظيم السياسي للحركة حيث كلف أبو صالح كامل بن المظفر بتدبير الأمور وكتابة الكتب وبجمع الأموال والغنائم وقسمها وإعطاء الجند وهو صاحب السر كذلك، وعين مالك بن الهيثم : يقوم بأمر العسكر ... ويحكم بين أهله وينقي أهل الريب منه فقبلوا ذلك منه واتفقوا عليه. ثم عين حرساً خاصاً لأبي مسلم من عدة رجال ينتخبون أبا مسلم ويكونون رسلاً يرسلون لتدبير بعض الأمور وكان يؤم الناس في الصلوات سليمان بن كثير الخزاعي (175). وفي ليلة الخميس لخمس بقين من شهر رمضان عقد أبو مسلم راية النصر التي بعثها إليه إبراهيم الإمام وهي اللواء – يدعى الظل – على رمح طوله أربعة عشر ذراعاً. والراية – تدعى السحاب – على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعاً وهما سوداوان وهو يتلوه (176)" أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير " ( الحج ، أية 29) ولبس السواد هو وسليمان بن كثير وإخوة سليمان وحميد بن رزين وإخوه عثمان بن رزين، أوقدوا النيران ليلتهم أجمع للشيعة من سكان حزفان : .. وتأويل أسمى الظل والسحاب، أن السحاب يطبق الأرض، وكذلك دعوة بني العباس، وتأويل الظل أن الأرض لا تخلو من الظل أبداً، وكذلك لا تخلو من خليفة عباسي أبد الدهر (177). كانت دعوة شيعة بني العباس في خراسان قوية، فقد ظهر أمرهم وكثر من يأتيهم وجعلت الدّعاية العباسية وحملتهم الإعلامية تستهدف أفعال بني أمية وما نالوا من أمر رسول الله، حتى لم يبق بلد إلا فشا فيه هذا الخبر وظهر الدعاة ورئيت المنامات وتُدورست كتب الملاحم (178)، وكان اختيار اللون الأسود هو الخطوة الأولى، ثم كانت الخطوة الثانية هي إرسال الرايات إلى خراسان، فكان أن بعث بأبي سلمة إليها : بعد أن دفع له ثلاث رايات سود، وأمره أن يدفع واحدة إلى من بمرو من الشيعة، ويدفع واحدة إلى من بجرجان من الشيعة ويبعث بواحدة إلى ما وراء النهر فشخص أبو سلمة إلى خراسان، فكان أول من قدمها بالريات السود (179). وكان وصول الرايات مترافقاً مع حال الفوضى المستشرية في خراسان، وقد أفاد من ذلك أبو سلمة وسليمان بن كثير، وكانت الفتنة التي نشبت بين نصر وعلي الكرماني ثم ابنه جديع الكرماني تتأجج بفعل تأثير السياسات المركزية (180)، ثم فتحت جبهة جديدة لوالي الأمويين بخراسان بقيادة شيبان الحروري، فكانت الفرصة مواتية لأبي مسلم أكثر، فدخل هذا المعترك بعد أن ضعفت قوة نصر بن سيار وانضمت إلى أبي مسلم كل الفئات الغاضبة في خراسان (181).
(2) جهود نصر بن سيار للقضاء على الدعوة العباسية :(/16)
في عام 129ه كانت أول صلاة عيد علانية للعباسيين وقد أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلى بالناس ونصب له منبراً، وأن يخالف في ذلك بني أمية ويعمل بالسنة فنودي للصلاة، الصلاة جامعة، ولم يؤذن ولم يقم، خلافاً لهم وبدأ بالصلاة قبل الخطبة وكبّر سبعة في الأولى قبل القراءة لا أربعاً وخمساً في الثانية لا ثلاثاً خلافاً لهم. وابتدأ الخطبة بالذكر والتكبير وختمها بالقراءة وانصرف الناس من صلاة العيد وقد أعّد لهم أبو مسلم طعاماً، فوضعه بين أيدي الناس وكتب إلى نصر بن سيّار كتاباً بدأ فيه بنفسه، ثم قال : إلى نصر بن سيّار، بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإنَّ الله تبارك اسمه عيَّر أقواماً في كتابه فقال : " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلمّا جاءهم تذير ما زادهم إلا نفوراً استكباراً في الأرض ومكر السَّيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأوَّلين فلن تجد لسنت الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً " ( فاطر : 42 ، 43 ). فعظم عليه أن قدم اسمه على اسمه، وأطال الفكرة وقال : هذا كتاب له جواب (182)، ثم بعث نصر بن سيار خيلاً عظيمة لمحاربة أبي مسلم وذلك بعد ظهوره بثمانية عشر شهراً، فأرسل أبو مسلم إليهم مالك بن الهيثم الخزاعي، فالتقوا هنالك فدعاهم مالك إلى الرّضا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا ذلك فتصافوُّا من أول النهار إلى العصر، ثم جاءه مدد فقوى مالك عليهم، واستظهر وظفر بهم، وكان هذا أول موقف اقتتل فيه دعاة بني العباس وجند بني أمية (183).. ولما استفحل أمر أبي مسلم بخراسان تعاقدت طوائف من أحياء العرب الذين بها على حربه ومقاتلته، ولم يكره أمره الكرماني وشيبان، لأنهما خرجا على نصر وهذا مخالف له وهو مع ذلك يدعو إلى خلع مروان بن محمد وقد طلب نصر من شيبان أن يكون معه على حرب أبي مسلم أو يكف عنه حتى يتفرغ لحربه، فإذا قتله وتفّرغ منه عاد عدواتهما، فبلغ ذلك أبا مسلم بعث إلى ابن الكرماني يعلمه بذلك، فثني ابن الكرماني شيبان عن ذلك الرأي، وبعث أبو مسلم إلى هَرَاة النضر بن نعُيم، فافتتحها وطرد عنها عاملها عيسى بن عقيل الليثي، واستحوذ على البلد وكتب إلى أبي مسلم بذلك، وجاء عاملها إلى نصر هارباً ثم إن شيبان وادع نصَر بن سيار سنة على ترك الحرب بينه وبينه وذلك عن كره من ابن الكرماني فبعث ابن الكرماني إلى أبي مسلم : إني معك على قتال نصر وركب أبو مسلم إلى خدمة (184) ابن الكرماني فنزل عنده واجتمعا، فاتفقا على حربه ومخالفته وتحّول أبو مسلم إلى موضع فسيح وكثر جنده وعظم جيشه واستعمل على الشرط والحرس والرّسائل والّديوان وغير ذلك مما يحتاج الملك إليه، وجعل القاسم بن مُجاشع التَّميميَّ – وكان أحد النقباء – على القضاء، وكان يُصلي بأبي مسلم الصَّلوات، ويقص بعد العصر، فيذكر محاسن بني هاشم ويذُمُّ بني أُمية. ثم تحول أبو مسلم فنزل بقرية يقال لها آلِينُ (185)وكان في مكان منخفض، فخشى أن يقطع عنه نصر ابن سيار الماء وذلك في سادس ذي الحجّة من هذه السنة، وصلَّى بهم يوم النَّحر القاضي بن مجاشع، وسار نصر بن سيار في جحافل قاصداً قتال أبي مسلم، واستخلف على البلاد نّواباً (186).
(أ) طلب نصر بن سيار المدد من مروان بن محمد :
نشبت الحرب بين نصر بن سيار وبين الكرماني وهو جديع بن علي الكرماني، فقتل بينهما من الفرقين خلق كثير، وجعل أبو مسلم يُكاتب كُلاً من الطائفتين ويستميلهم إليه، يكتب إلى نصر وإلى الكرماني : إنّ الإمام قد أوصاني بكم خيراً، ولست أعدوُ رأيه فيكم. وكتب إلى الكور يدعو إلى بني العباس، فاستجاب له خلق كثير وجمُّ غفير، وأقبل أبو مسلم، فنزل بين خندق نصر بن سيار وخندق جديع الكرماني، فهابه الفريقان جميعاً وكتب نصرُ بن سيار إلى الخليفة مروان بن محمد، الملقب بالحمار يعلمه بأمر أبي مسلم، وكثرة من معه، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد وكتب في كتابه :
أرى بين الرّماد وميض جمرٍ *** فأحْرِ بأن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تُذْكى *** وإن الحرب مبْدؤها الكلام
فقلت من التعجب ليت شعري *** أأيقاظ أمية أم نيام
فكتب إليه مروان : الشاهد يرى مالا يرى الغائب : فقال نصر : إن صاحبكم قد أعلمكم أن لا نصرة عنده (187)وبعضهم يرويها بلفظ آخر.
أرى خَلَلَ الرماد وَميضَ نار *** فيو شك أن يكون لها ضِرام
فإن النارَ بالزندين يوُرَى (188) *** وإن الحرب أولها الكلام
لئن لم يُطفِها عقلاء قوم *** يكون وَقودَها جثت وهام
أقول من التعجُّب ليت شعري *** أأيقاظ أمية أم ينام
فإن كانوا لحينهم نياماً *** فقل قوموا فقد حان القيام
وكتب إليه :
أبلغ يزيد وخير القول أصدَقُهُ *** وقد تبّينت أن لا خير في الكذب
بأن خراسانَ أرض قد رأيت بها *** بيضاً لو أفرخ قد حَُّدثتَ بالعجب
فِراخ عامين إلا أنها كبرت *** لمّا بُطِرنَ وقد سُرْبِلْنَ بالزَّغَبِ(/17)
فإن يطرن ولم يُحْتَلْ لهنّ بهَا *** يُلهبن بِنيرانَ حرب أيَّما لَهَب (189)
فبعث ابن هبيرة بكتاب نصر إلى مروان (190).
(ب) دعاية نصر بن سيار ضد دعوة أبي مسلم الخراساني :
شنّ نصر بن سيار حملة دعاية قوية ضد شيعة بني العباس ووصفهم بأنهم أخلاط من الناس لا أصول لهم، ولا ذمم عندهم، فهم غرباء مجهولون ودُخلاء مغمورون، لا ينتمون إلى العرب المذكورين، ولا إلى الموالي المعروفين، واتهمهم بأنهم ليسوا من المسلمين ولا من الكتابييَّن فهم يعتنقون نحلة مخالفة لكل الأديان، وزعم أنهَّهم يبتغون إبادة العرب واستعبادهم، ويرومون سبي نسائهم وهتك أعراضهم وانتهاك حرماتهم (191) حيث قال :
أبلغ ربيعة في مرو وإخوتهم *** فليغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب
ولينصبوا الحرب إن القومَ قد نصبوا *** حربا يُحّرق في حافاتها الحطب
ما بالكم تَلْحِقون الحرب بينكم *** كأن أهل الحِجاَ عن فِعِلكم غُيُبُ (192)
وتتركون عدّواً قد أحاط بكم *** فيمن تأشَّبَ (193) لا دين ولا حسب
لا عرب مِثلُكُم في الناس تعرفهم *** ولا صريح موالٍ إن هم نُسِبُوا
من كان يسألني عن أصل دينهم *** فإن دينهم أن تهلك العرب
قوم يدينون ديناً ما سمعت به *** عن النبي ولا جاءت به الكتب
ويقسم الخُمس من أموالكم أُسَراً *** من العلوج ولا يبقى لكم نَشَبُ (194)وينكحوا فيكم قسْراً بناتكم *** لو كان قومي أحراراً لقد غضبوا
ذروا التفرق والأحقاد واجتمعوا *** لِيُوصل الحبل والأصهار والنَّسَبُ (195)
إن تُبعدوا الأزده مِنّا لا نُقَّربها *** أو تدن نحمدهم يوماً إذا اقتربوا
أتخذِلُون إذا احتجنا وننصُرُهم *** لبئس والله ما ظنُّوا وما حسبوا (196)
ولكن الرَّبعية لم يعبأوا بنداء نصر في أول الأمر ولم يبالوا بدعوته، ولم يكترثوا لتحذيره بل مضوا يتشبثون بمخالفتهم اليمانية، واستمروا يساندون ابن الكرماني ويعينونه، ويقاتلون المضريَّة معه، فعاد نصر إلى رمي أبي مسلم وشيعة بني العباس بالكفر وألحّ على القدح في عقيدته، ولحَّ في التشهير بغاياتهم، يريد أن يُبغضهم إلى الناس ويُكرههم إليهم ويحملهم على الطعن فيهم، ويدفعهم إلى مكافحتهم، ويحمسهم على محاربتهم فجعل يقذفهم بأنهم وثنيُّون مشركون وأنهم يأمنون بالمانوّيه والمجوسيَّة وغيرهما من الملل الفارسية القديمة وراح يشيع في أصحابه أنهم يقصدون إلى نسف قواعد الإسلام، وهدم دعائمه وتحطيم أركانه وطمس معالمه واستئصال آثاره وأنهم يستهدفون لتقويض سلطان العرب وتمزيق قبائلهم، وقتل رجالهم واسترقاق أبنائهم وأسر بناتهم، ولم يزل يذيع ذلك فيهم ويزينه لهم (197). وقد تأثر الناس بدعاية نصر بن سيار. وبعث نصر إلى القراء، والفقهاء، والأتقياء الذين اعتزلوا الحرب، فجمعهم وقال لهم : (إنكم كرهتم مشاهدتنا في حربنا هذه، وزعمتم أنها فتنة القاتل والمقتول فيها في النار، فلم نرد عليكم رأيكم في ذلك، وهذا حدث قد ظهر بحضرتكم. هذه المُسّوَّدَة، وهي تدعو إلى غير ملتنا وقد أظهروا غير سُنَّتنا وليسوا من أهل قبلتنا، يعبدون الّسنانير، ويعبدون الرؤوس، علوج وأغتام (198)، وعبيد سُقّاط العرب والموالي فهلُمُّوا فلنعاون على إطفاء نائرتهم (199)، وقمع ضلالتهم ولكم أن نعمل بما في كتاب الله وسنة نبيه وسنة العمرين بعده)، فأجابوه إلى مظاهرته على حرب أبي مسلم والجِدَّ معه في ذلك (200).
(ج) الدعاية المضادة للأمويين :
لقد أقلقت هذه الدعاية الأموية الشيعة العباسية، حيث إنهم خشوا تأثر العلماء، والأتقياء، وكذلك العامة من الناس بها، ولذلك قاموا بدعاية مضادة للأمويين حيث عقد اجتماع عام بايع فيه المجتمعون لسليمان الخزاعي واتفقوا على أن يعلنوا مبادئهم وكان من مبادئهم العمل بالكتاب والسنة وتحقيق العدل ورفع الظلم والمساواة بين المسلمين وإنصاف المستضعفين، والبيعة للرَّضا من آل محمد، ثم أعلنوا مبادئهم في معسكرهم وأخذوا البيعة عليها من شيعتهم. فنفوا أراجيف نصر عن دعوتهم ونجوا من تدبيره بالإيقاع بهم، وأزالوا الشبهات عن أنفسهم... وأخذ الناس يقبلون عليهم وينضمون إليهم (201) كما وأن أبا مسلم اتبع أسلوباً آخر ليقابل به دعاية الأمويين فقد كان يحرر الأسرى من الجيش الأموي بعد أن يريهم مدى تقوى الشيعة العباسية وتمسكهم بالإسلام وبعد أن يعاملهم معاملة حسنة وذلك من أجل أن يذهبوا إلى معسكر نصر فيرووا ما شاهدوا. وهذا ما فعله مع يزيد مولى نصر الذي أسر في معركة مع العباسيين بقيادة مالك الخزاعي ثم أطلق سراحه فعاد وامتدح سيرة أبي مسلم وأتباعه وصدق إسلامهم (202).
(د) أسر إبراهيم الإمام صاحب الدعوة العباسية وقتله :(/18)
استطاع الأمويون أن يلقوا القبض على إبراهيم الإمام وتعددت أسباب القبض ومن هذه الأسباب قيل : إن إبراهيم الإمام شهد الموسم عام 131ه واشتهر أمره هنالك، لأنّه وقف في أبهة عظيمة، ونجائب كثيرة وحُرْمة وافرة، فأنِهيَ أمره إلى مروان، وقيل له : إن أبا مسلم يدعو الناس إلى هذا ويُسمُّونه الخليفة. فبعث إليه في المحرم من سنة ثنتين وثلاثين وقتلة في صفر من هذه السنة (203)، وقيل ألقى القبض عليه عام 129ه بعدما أطلع على كتاب من إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم الخُراساني يأمره فيه بأن لا يُبقي أحداً بأرض خراسان ممّن يتكلم بالعربية إلا أباده، فلمّا وقف مروان على ذلك سأل عن إبراهيم، فقيل له : هو بالبلقاء. فكتب إلى نائب دمشق أن يحضره وبعث رسولاً في ذلك ومعه صفته ونعته، فذهب الرسول، فوجد أخاه أبا العباس السفَّاَّحَ فاعتقد أنه هو، فأخذه فقيل له : إنه ليس هو وإنما هو أخوه، فُدلَّ على إبراهيم، فأخذه وذهب معه بأم ولد له يُحبُّها وأوصى إلى أهله أن يكون الخليفة من بعده أخوه أبو العباس السَّفَاحُ وأمرهم بالمسير إلى الكوفة فارتحلوا من فورهم إليها كانوا جماعة، منهم أعمامه السَّتةُ، وهم عبد الله ، وداود ، وعيسى وصالح، وإسماعيل ، وعبد الصمد بنو عليٍّ، وأخواه أبو العباس عبد الله، ويحي ابنا محمد بن علي وابناه محمد وعبد الوهاب وخلق سواهم، فلما دخلوا الكوفة أنزلهم أبو سلمة الخلاَّل دار الوليد بن سعد مولى بني هاشم في بني أوْدٍ وكتم أمرهم نحوا من أربعين ليلة من القواد والأمراء ثم ارتحل بهم بعد ذلك إلى موضع آخر، حتى فتحت البلاد ثم بويع للسَّفاح (204). كانت الدعوة العباسية قد ترسخت جذورها في الأرض، وبات القضاء عليها في منتهى الصعوبة، فلم يغير إلقاء القبض على إبراهيم بن محمد الإمام من الواقع شيئاً أو يُحدث خللاً في مسار الدعوة، إذ جاء الأمر متأخراً (205)، وقد كان إبراهيم هذا كريماً مُمدَّحاً، له فضائل وفواضل، رَوَى الحديث عن أبيه وجدَّه وأبي هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية وعنه أخواه عبد الله أبو العباس أبو هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية وعنه أخواه عبد الله أبو العباس السَّفاح، وأبو جعفر المنصور وأبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم الخراساني، ومالك ابن الهيثم ومن كلامه الحسن : قوله : الكامل المروءة من أحرز دِينه، ووصل رحمه، واجتنب ما يُلام عليه (206) وقد رثاه أحد الشعراء فقال :
قد كنت أحسبني جلداً فضعضعني *** قبراً بحّرانَ فيه عصمةُ الدين
فيه الإمام وخير الناس كلهم *** بين الصفائح والأحجار والطين
فيه الإمام الذي عمت مصيبته *** وعَيَّلتَ كلّ ذي مال ومسكين
فلا عفا الله عن مروان مظلمة *** لكن عفا الله عمّا قال آمين (207)
(3) سيطرة أبي مسلم على خراسان :
سعى نصر بن سيار للوصول إلى هدنة مع ابن الكرماني وشيبان الصغير للقضاء على أبي مسلم واستطاع الأخير أن يفسد تلك المساعي بدسائسه ومكره وخداعه فقد أسرع أبو مسلم فاعترف بابن الكرماني أميراً على خراسان وبدأ هو وأصحابه يصلي وراءه وهكذا نجح أبو مسلم في إشباع رغبة ابن الكرماني المتعطشة للسلطة والإمارة فلم يكن الوقت وقت منافسة على السلطة بل كان الهدف هو ضمان كسب اتباع ابن الكرماني إلى جانب الثورة العباسية وقد كانت هذه خطورة بارعة لضمان وحدة الجند الخرسانية في كتلة واحدة ولما يأس نصر من العون من العراق كتب إلى مروان رسائل لحثه على إمداده ولكن بدون جدوى، ولانشغال مروان بالحروب الداخلية في بلاد الشام والعراق والحجاز وبعد أن فشل نصر في محاولته الأولى لكسب ابن الكرماني وفي محاولته الثانية لكسب شيبان الصغير حاول هذه المرة أن يتقرب نحو أبي مسلم في نفس الوقت الذي ينتظر فيه الإمدادات من الخليفة لقد أمل نصر أن يفرق بين أبي مسلم وابن الكرماني فدبر أمر اجتماع حضرته وفود نصر المضرية ووفود ابن الكرماني ومندوبون عن أبي مسلم الذين امتدحوا وفد ابن الكرماني، وفضلوه على وفد نصر حيث قرر سليمان الخزاعي وطلحة الخزاعي ومزيد السلمي التحالف مع ابن الكرماني ضد نصر وبذلك كسبت الدعوة العباسية مصدر القوة في خراسان إلى جانبها ألا وهو القبائل العربية من أتباع ابن الكرماني (208).
(أ) خطة أبي مسلم للاستيلاء على العاصمة مرو :(/19)
كانت خطة أبي مسلم وابن الكرماني الآتية هي الاستيلاء على العاصمة مرو. وتختلف الروايات التاريخية في كيفية فتح مرو ولكن الظاهر أن أبا مسلم كان حذراً ومرناً في موقفه تجاه كتلة نصر وكتلة ابن الكرماني فرغم اعترافه بأن ابن الكرماني والياً على خراسان، فإنه كان يؤمل أن يكسب نصراً أو أتباعه إليه بطريقة أو بأخرى فضمن الحماية لوفد نصر الذي حضر الاجتماع الآنف الذكر، كما سمح نصر للشيعة العباسية بالتسوق من أسواق مرو دون مهاجمتهم، ولكن حدث وأن قام نزاع بين بكر بن وائل من ربيعة وبين بعض المضريين في سوق مرو، فساعد نصر المضرية بينما أنجد ابن الكرماني الربعية ودعى ابن الكرماني أبا مسلم إلى مساعدته والانضمام إليه، إلا أن أبا مسلم تشاغل حتى تأكد من احتدام الصراع العنيف فتدخل إلى جانب ابن الكرماني حيث دخلت قواتهما مرو في 130ه وعلى المقدمة أسيد الخزاعي وعلى الميمنة مالك الخزاعي وعلى الميسرة القاسم التميمي وهو يتلو : "ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه " ( القصص، أية : 15). وأمر بالكف عن القتال (209)وأرسل أبو مسلم وفداً إلى نصر يعده الأمان إذا سلم نفسه ولكن نصر شاغل الوفد وهرب إلى نيسابور. ويروى أن لاهز بن قريضى حذر نصر من الاستسلام بتلاوة الآية : " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك" ( القصص، أية : 20) وقد قتل لاهز جزاء عمله (210) وبدا الآن الوجه الحقيقي للدعوة بالظهور بصورة تدريجية ألا وهو الوجه العباسي، فحين جُمع الأنصار لتقديم الولاء أكد أبو مسلم على " الشيعة الهاشمية " مما يشير إلى أن هؤلاء الذين كانوا جند العقيدة العباسية المخلصين هم عماد الثورة وليس الجماعات الأخرى التي استغلت من قبل الثورة وقد أصبحت مرو الشاهجان العاصمة وقراها ثم مرو الروذ وهيرات وابيورد تحت نفوذ الشيعة العباسية (211).
(ب) مقاومة بلخ للقوات العباسية التي وجدت صعوبة في احتلالها وذلك لأسباب ثلاثة.
* أن المقاتلة العرب في بلخ كانوا متحدين لم تتنازعهم العصبية القبلية ولذلك فإن أسد بن عبد الله القسري وطنّهم فيها ككتلة واحدة دون الأخذ بخطة الأخماس التي كانت مستعملة في البصرة ولذلك كان العرب في بلخ موالين للأمير ومخلصين للأمويين.
* أن الجند السوري في بلخ وعدده 2500 كان موالياً لنصر بن سيار.
* أن السكان المحليين في طخارستان وأقاليم أخرى في بلاد ما وراء النهر أظهروا مساعدتهم للوالي الأموي وعلى حدّ قول الطبري، فقد اتفقت مضر واليمن وربيعة والعجم في بلخ على قتال المسودة (212).
إن مقاومة بلخ للدعوة العباسية ظاهرة مهمة وذلك لأنها ربما كانت من أول الأحداث السياسية التي تميط اللثام عن بعض أساليب الدعوة العباسية، فنحن نلاحظ أولاً بأن الدعوة أستغلت العصبية القبلية فنجحت حيث وجدت العصبية وفشلت في بلخ حيث كان العرب متحدين على اختلاف قبائلهم ومخلصين لواليهم الأموي، ثم إن هذه الحادثة تظهر ثانياً بأن الدعوة العباسية لم تكن فارسية موجهة ضد العرب ذلك لأن السكان المحليين الإيرانيين وقادتهم في بلخ وقفوا إلى جانب الأمويين ضد العباسيين. وقد قاتل الموالي مع العرب جنباً إلى جنب لاسترداد بلخ من المسودة، كما وأنها تكشف ثالثاً خطأ ما ذهب إليه بعض المؤرخين من أنه كان هنالك في إيران تذمر عميق ضد الحكم العربي الإسلامي الذي لم يعط الموالي حقهم. فلو كان الأمر كذلك لهبت خراسان وبلاد ما وراء النهر عن بكرة أبيها لتدعم حركة المسودة (213).
رابعاً : تعين قحطبة الطائي قائداً لجيش خراسان المتقدم نحو العراق :
صدرت أوامر إبراهيم الإمام قبل سجنه بتعيين قحطبة بن شبيب الطائي قائداً عاماً للجيش الخراساني المتقدم نحو العراق وبلاد الشام (214)، وكان ذلك بعد استقرار الأمور في خراسان لصالح العباسيين وكانت قيادة الدعوة تهدف من وراء هذا التعيين أمور جد خطيرة منها ألا يتجاوز أبو مسلم خراسان مهما كانت الأحوال، ومنها أن من المناسب أن يكون القائد العام لدخول العراق من أصول عربية، ونلاحظ بعد تولي أبي العباس الخلافة سارع إلى انتزاع القيادة من العسكريين المظفرين إلى أبناء البيت العباسي من الأخوة والأعمام (215).(/20)
وبعد خروج نصر بن سيار من مرو أخذ يتنقل بين المدن يتخذها مقراً له من سرخس، إلى قومس، إلى خوار الري، وينتهز الفرصة للانقضاض على أبي مسلم في مرو، ولما لم يتمكن من استرداد مرو كتب إلى ابن هبيرة مستنجداً فلم يجبه، ثم كتب إلى الخليفة مروان بن محمد، الذي كتب بدوره إلى ابن هبيرة، فأمده بثلاثة آلاف فارس، عليهم القائد ابن غطيف اليماني، فأخذ هذا القائد يتباطأ في سيره ويطيل في الطريق (216). وفي هذه الأثناء كان قحطبة بن شبيب الطائي يلحق الهزيمة تلو الآخري بجيش ابن هبيرة، وكانت آخر معركة لنصر بن سيار في خوار الري حيث اقتتل مع جيش الحسن بن قحطبة، وكاد يقتل لولا أن بعض جند العرب في جيش الحسن انضموا إلى صفوف نصر بن سيار، فهُزم جيش الحسن (217)، ولما لم يصل مدد ابن هبيرة ركب نصر بن سيار جواده وسلك المفازة بين الري وهمذان فمات في جبالها، في شهر المحرم سنة 131ه.
(1) تصفيات في خراسان :
وبعد موت نصر بن سيار زعيم المضرية قضى أبو مسلم على علي بن جديع الكرماني زعيم اليمانية، الذي، كان له دور كبير في انتصار الثورة، ودخل مرو فاتحاً ثم قَّدمها لأبي مسلم، وقد قتل أبو مسلم علياً بن جديع وأتباعه (218)، كما قتل النقيب لاهز بن قريض التميمي بتهمة السماح لنصر بن سيار بالخروج من دار الإمارة، ولأنه كان يعارض تأمير أبي مسلم على الثورة، يوم مؤتمر مكة (219)، كما قتل أبو مسلم عبد الله بن معاوية الطالبي، الذي احتمى بجيش أبي مسلم بعد أن هرب أمام الجيش الأموي من أصبهان إلى خراسان، إما لأنه صاحب ثورة يخشى جانبه، أو لأنه من أصحاب أبي جعفر خصم أبي مسلم (220)، ثم بدأ أبو مسلم بمحاربة شيبان الحروري الذي رفض المبايعة للإمام العباسي، فاستطاع أن يدحره ويشتت شمله (221).
(2) الاتصالات المستمرة بين المراكز الثلاثة للثورة :
ولما سُجن إبراهيم الإمام في حران استمرت الاتصالات بين المراكز الثلاثة للثورة في الحميمة، والكوفة، وخراسان. ففي الحميمة كان أبو جعفر وأخوه عبد الله بن الحارثية وجماعة من أولاد علي بن عبد الله بن العباس، وكان أنشطهم أبو جعفر الذي كان يتصل إذا اقتضى الأمر بسجن حّران (222). أما في الكوفة فقد كاد النقيب أبو سلمة الخلال، وزير الدعوة، الذي ما إن سمع بمقتل إبراهيم الإمام حتى أخذ يبحث عن زعيم علوي يقلده أمر الدعوة إلا أنه فشل ويأتي الحديث عن ذلك عند دراستنا للدولة العباسية بإذن الله تعالى. وشهدت الحميمة مشاورات سرية حول من يخلف إبراهيم الإمام، إذا طرأ عليه طارئ في سجنه، ولا يُعرف مصير هذه المشاورات، فربما أوصى الإمام لأخيه عبد الله بن الحارثية، وقد تداخل الشك أبا مسلم حول صحة الوصية وربما أن العباسيين في الحميمة أجمعوا على عبد الله فعلاً، وربما لأنه الأكثر قبولاً عند أبي مسلم، أو لأن أخواله من العرب اليمانية، ومنهم عدد كبير من جيش الثورة، بما فيهم القائد الأعلى قحطبة بن شبيب الطائي ومجموعة من نقباء الدعوة خاصة سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم وغيرهما (223).
(3) جيوش قحطبة الطائي تدخل العراق :
ما إن جاء عام 132ه حتى كانت جيوش قحطبة الطائي تحتل خراسان بأجمعها مع البلاد التي حولها، بعد حروب شديدة، ثم اتجه قحطبة بجيش الثورة غرباً يريد العراق، فتحرك إليه الخليفة مروان بن محمد بعد أن أمر بقتل إبراهيم الإمام في سجنه واتجه إلى الموصل فنزل على نهر الزاب الكبير، وأمد عامله يزيد بن هبيرة بثلاثين ألف فارس لقتال قحطبة المتقدم إلى الكوفة، حيث التقي جيش ابن هبيرة مع جيش قحطبة قرب الفلوجة، على نهر الفرات وقتل في المعركة القائد قحطبة الطائي، ولكن ابنه الحسن بن قحطبة تولى القيادة، في حين اضطر ابن هبيرة للانسحاب نحو واسط (224)، ودخل الحسن بن قحطبة بجيشه الكوفة التي سيطر عليها محمد بن خالد القسري، ودعا الناس إلى بيعة الرضا من آل محمد (225).
(4) أبو سلمه الخلال يتولى إدارة الأمور :(/21)
أخرج محمد بن خالد القسري أبا سلمة الخلال من مخبئه، وأجلسه مجلس الإمارة، وقدم له الطاعة، ووضع الجيش تحت تصرفه، وأقام أبو سلمة معسكره في حمام أعين في ظاهر الكوفة، ووجه الحسن بن قحطبة إلى واسط ومعه ستة عشر قائداً، لحصار ابن هبيرة ولمنعه من الاتصال بالخليفة مروان ووجه الفرق والكتائب لفتح المدن العراقية؛ إذ بعث حميد بن قحطبة للمدائن ومعه اثنان من القادة مع جنودهما والمسيب بن زهير الضبي ومعه خالد بن برمك إلى دير قنىّ، وبسام بن إبراهيم إلى الأهواز، وشراحبيل إلى عين التمر، وسفيان بن معاوية المهلبي إلى البصرة (226)، وأقر أبو سلمة محمد بن خالد القسري على الكوفة (227). ثم وزع أبو سلمة عماله؛ فقد ولّى عمر بن الزيات حجابته، والمغيرة بن الريان ولاّه الخراج، ثم نقله إلى ديوان الرسائل، فيما ولّى يوسف بن ثابت ديوان الخراج، وعبد السلام بن عبد الرحمن الغامدي ولاّه الصوافي، والقطائع، والخزائن، وولىَّ أبا سلمى بيت المال، وأعطى الجند من ديوان بني العباس، وبعث عمال الخراج إلى الكور (228). كان أبو سلمة قد استقبل إخوة إبراهيم الإمام وأولاده وأعمامه خارج الكوفة وأدخلهم سراً – بعد سجن إبراهيم – وأخفى أمر مجيئهم عن الشيعة العباسية وقادة الجيش، وطلب منهم كتم أمرهم إلى أن يستتب الأمر في واسط لوجود جيش ابن المحاصر، وفي البصرة لوجود جيش أموي بقيادة سلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي (229). ولكن حقيقة الأمر بالنسبة لإخفاء أمر العباسيين في الكوفة من قبل أبي سلمة الخلال، هو انتظار لنتائج اتصالاته السرية لأحفاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والتي جاءت مخيبة للآمال، فقد رد جعفر الصادق على أبي سلمة : إن صاحبكم بأرض الشراة، أما عبد الله بن الحسن فقد فكّر أن يسند الأمر إلى ابنه محمد بن عبد الله " النفس الزكية " ولكن الإمام جعفر الصادق نهاه عن ذلك لما شاوره (230).
خامساً : إعلان قيام الدولة العباسية :
بقى العباسيون في معزلهم بالكوفة مدة أربعين يوماً إلى أن علم بأمرهم بعض قادة الجيش في معسكر حمام أعين، وعلى رأسهم القائد أبو الجهم بن عطية ومعه من القادة موسى بن كعب التميمي وإبراهيم بن محمد الحميري، وأبو غالب عبد الحميد بن ربعي، وسلمة بن محمد، وعبد الله الطائي واسحاق بن إبراهيم، وشراحبيل، وعبد الله بن بسام وغيرهم، وجاءوا إلى العباسيين وبايعوا أبا العباس عبد الله بن الحارثية، وسلموا عليه بالخلافة في 12 ربيع الأول 132ه ثم أخرجوه إلى منبر المسجد لإعلان خلافته، وتسمى أبو العباس بأمير المؤمنين بينما اتخذ أبو سلمة الخلال لقب وزير آل محمد (231)، وجاء في رواية : أن أبا سلمة الخلال عندما ما أراد إخراج الخليفة العباسي نزل إلى السَّرداب وصاح يا عبد الله، مُدَّ يدك، فتبارى إليه الإخوان. فقال أيُّكما الذي معه العلامة ؟ قال المنصور : فعلمت أني أخرت، لأني لم يكن معي علامة، فتلا أخي العلامة وهي : " ونريد أن نمن على اللذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ... " ( القصص : 5 ) فبايعه أبو سلمة وخرجوا جميعاً إلى جامع الكوفة، فبُويع وخطب الناس (232) فكان أول ما نطق به : (الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه فكّرمه وشرّفه وعظمَّه واختاره لنا، وأيَّده بنا، وجعلنا أهله وكهفه والُقوَّام به والذَّابيَّن عنه، والناصرين له وألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحق بها وأهلها خضَّابرحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته واشتقنَّا من نبعته ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتاباً يتلى عليهم فقال : " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " (الأحزاب: 33) وقال : " قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربي " (الشعراء : 214).(/22)
وقال : "ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى" (الحشر، : 7). فأعلمهم الله عز وجل فضلنا وأوجب عليهم حقنا ومودَّتنا وأجزل من الفيء – والغنيمة نصيبنا، تكرمة لنا، وفضلة علينا، والله ذو الفضل العظيم وزعمت السَّبئيَّة الضلال أن غيرنا أحقُّ بالرَّياسة والسيَّاسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم بم ولم أيها الناس ؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم وبصَّرهم بعد جهالتهم وأنقذهم بعد هلكتهم وأظهر بنا الحق وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسداً، ورفع بنا الخسيسة، وأتّم النَّقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبرَّ ومواساة في ديناهم، وإخواناً على سُرُر متقابلين في أُخراهم، فتح الله ذلك مِنَّةً ومنحة لمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما قبضه الله إليه قام بذلك الأمر من بعده أصحابه وأمرهم شورى بينهم، فحَوَوْا مواريث الأمم فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها وخرجوا خِماصاً منها، ثم وثب بنو حرب ومرون فابتزوُّها وتداولوها، فجاروا فيها، واستأثروا بها وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا حتى آسفوه (233)، فلمّا آسفوه انتقم منهم بأيدينا، وردّ علينا حقَّنِا، وتدارك بنا أمَّتَنا وولى نصرنا والقيام بأمرنا؛ ليَمُنَّ بنا على الذين استضعفوا في الأرض وختم بنا كما افتتح بنا وإني لأرْجُو أن لا يأتيكم الجَور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصَّلاحُ، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله، يا أهل الكوفة، أنتم محلُّ محبَّتنا ومنزل مودَّتنا، وأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السَّفَّاح الهائج والثائر المبير) (234)، وكان به وعك فاشتَّد عليه حتى جلس على المنبر ونهض عمُّه داود فقال : (الحمد لله شُكراً شُكراً شكراً الذي أهلك عدوَّنا، وأصار إلينا مِيراثنا من نبينَّا، أيها الناس الآن انقشعت أرْضُها وسماؤها وطلعت الشمس من مطلعها، وبزغ القمر من مبزعه ورجع الحقُّ إلى نصابه في أهل بيت نبيكم، أهل الرَّأفة والرّحمة بكم والعطف عليكم، أيها الناس، إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنُكثر لجُيناً (235) ولا عقيانا (236)، ولا لنحفر نهراً ولا لنبني قصراً، وإنما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقَّنا والغضب لبني عمَّنا ولُسوءٍ سيرة بني أمية فيكم، واستذلالهم لكم واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم، فلكم علينا ذمة الله وذمة رسوله وذمّة العباس، أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل بكتاب الله، ونسير في العامّة منكم والخاصَّة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبَّاً تّبَاً لبني أمية وبني مروان؛ آثروا العاجلة على الآجلة والدارَ الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام وظلموا الأنام، وارتكبوا المحارم وغشوا الجرائم وجاروا في سيرتهم في العباد وسُنَّتِهم في البلاد التي بها، استلذُّوا تسربل الأوزار، وتجلبُب الآصار، ومَرِحوا في أعنَّة المعاصي وركضوا في ميادين الغيَّ جهلا باستدراج الله، وأمنا لمكر الله، فأتاهم بأس الله بياتاً وهم نائمون، فأصبحوا أحاديث، ومزَّقوا كل مُمَّزق، فبُعدا للقوم الظالمين وأدالنا (237)، الله من مروان، وقد غرَّه بالله الغرور، وأرسل لعدوَّ الله في عنانه حتى عثر في فضل خطامه أظن عدو الله أن لن نقدر عليه ؟ فنادى حزبه، وجمع مكايده، ورمى بكتائبه، فوجد أمامه ووراءه وعن يمنيه وشماله من مكر الله وبأسه ونقمته ما أمات باطله ومحق ضلاله، وجعل دائرة السَّوءِ به وأحيا شرفنا وعِزنا وردَّ إلينا حقَّنا وإرثنا، ... فادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد أبدلكم الله بمروان عدوَّ الرحمن وخليفة الشيطان، المُتَّبع للسَّفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد صلاحها، الشابَّ المتكهَّل المقتدى بسلفه الأبرار الأخيار، الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها بمعالم الهُدى ومناهج التُّقى).(/23)
قال : فعجّ الناس له بالدعاء ثم قال : (وأعلموا يا أهل الكوفة أنه لم يصعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد هذا – وأشار بيده إلى السَّفَّاح – وأعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نُسلَّمه إلى عيسى ابن مريم عليه السلام والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا)، ثم نزل أبو العباس وداود حتى دخلا القصر ثم دخل الناس يُبايعون إلى العصر ثم من بعد العصر إلى الليل (238). وخرج أبو العباس يوم السبت من الكوفة إلى معسكره في " حمام أعين " مع الأمير أبي سلمة وجعل على حجابته عبد الله بن بسام، وجعل على الكوفة وأعمالها عمه داود بن علي (239)، وجهز أبو العباس جيشاً قوامه ثلاثون ألفاً لمواجهة جيش الخليفة مروان بن محمد بقيادة الخليفة نفسه في الموصل، وقد أسند أبو العباس قيادة هذا الجيش لعمه عبد الله بن علي ومعه يزيد بن عيسى بن موسى، فتحرك الجيشان للمواجهة فالتقيا على نهر الزاب الأكبر في معركة حاسمة (240).
سادساً : انتصار العباسيين على الأمويين في معركة الزاب : 132ه .
قال تعالى " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " ( آل عمران ، أية : 26 ). حان وقت زوال ملك بني أمية وساق الله لذلك الأسباب ومنها الانهزام الكبير لجيوشهم في معركة الزاب، فقد تحركت جيوش العباسيين لملاقاة جيوش الدولة الأموية التي كان يقودها الخليفة الأموي مروان بن محمد الذي تخندق بين دجلة والزاب الكبير وكان جيشه مؤلفاً من أهل الشام، والجزيرة الفراتية على شكل كتائب منها الصحصحية، والراشدية، والمحمرة، والدوكانية، كما انضم إليه البدو وبعض قبائل الجزيرة. ولقد كانت القوات الأموية والعباسية بنفس العدد تقريباً بين 20000 – 24000 ألف جندي، على أنهم لم يكونوا بنفس الانسجام والقوة المعنوية التي تميز بها جند الدعوة العباسية، وقد عملت العصبية القبلية عملها في جيش مروان الذي كان يتكون في غالبيته من القبائل القيسية (241) وكانت المعركة يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة من سنة 132ه فقال مروان لأهل الشام، قِفوا لا تبدءوهم بقتال، فخالفه الوليد بن معاوية بن مروان – وهو ختن مروان على ابنته – فحمل فغضب مروان وشتمه فقاتل أهل الميمنة، ونودي في الجيش العباسي الأرض فنزل الناس وأشرعوا الرَّماح وجثوا على الرُّكب وقاتلوهم، وجعل أهل الشام يتأخّرون، كأنما يُدفعون، وجعل عبد الله بن علي يمشي قدماً وهو يقول : ياربَّ حتى متى نقتل فيك ؟ ونادى يا أهل خُراسان، يالثارات إبراهيم يا محمد، يا منصورن واشتد القتال بين الناس جدَّاً. فأرسل مروان إلى قضاعة يأمرهم بالنزول فقالوا : قل لبني سليم فلينزلوا. وأرسل إلى السكاسِكِ أن أحملوا. فقالوا : قل لبني عامر فليحملوا، فأرسل إلى السَّكون أن احِمْلوا. فقالوا : قل لغطفان فليحملوا. فقال لصاحب شرطته انزلْ : فقال لا والله لا أجعل نفسي غرضاً. قال : أما والله لأسوءَنك قال : وودت والله أنك قدرت على ذلك (242).
ثم انهزم أهل الشام واتَّبعهم أهل خُراسان في أدبارهم يقتلون ويأسرون، وكان من غرق من أهل الشام أكثر ممن قُتل، وقد أمر عبد الله بن علي بعقد الجسر واستخراج من هلك من الغرقى وجعل يتلو قوله تعالى : " وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون " ( البقرة : 50 ). وأقام عبد الله بن علي في موضع المعركة سبعة أيام وقد قال رجل من ولد سعيد بن العاص في مروان وفراره يومئذ :
لج الفرار بمروان فقلت له *** عاد الظلوم ظَليماَّ هَمُّه الهَرَبُ
أين الفِرار وترك الملك إذ ذهبت *** عنك الهُوين فلا دين ولا حسب
فراشة الحلم فرعون العقاب وإن *** تطلب نداه فكلب دونه كلب
واحتاز عبد الله ما كان في معسكر مروان من الأموال والأمتعة والحواصل ولم يجد فيه امرأة سوى جارية كانت لعبد الله بن مروان، وكتب إلى أمير المؤمنين أبي العباس السَّفاح يخبره بما فتح الله عليه من النّصِر، وما حصل لهم من الأموال؛ فصلَّى السَّفَّاح ركعتين شكراً لله عز وجل، وأطلق لكلَّ من حضر الوقعة خمسمائة خمسمائة، ورفع في أرزاقهم وجعل يتلو (243) قوله تعالى : " فلما فصل طالوت بالجنود " ( البقرة : 249 ).(/24)
كانت هذه المعركة من المعارك الحاسمة فقد بدأت دولة جديدة هي دولة بني العباس، وأنهت دولة قديمة هي دولة بني أمية (244)لقد أرتكب مروان خطأ استراتيجياً كبيراً بعبوره إلى الساحل الأيسر من الزاب الكبير فبسبب ذلك فقد سيطرته وموقعه الحصين ولذلك خسر المعركة وانسحب باتجاه الموصل التي أغلقت أبوابها فاضطر إلى الانسحاب إلى الشام يتبعه عبد الله بن علي العباسي وقد حاول مروان أن يستنجد بالقبائل الشامية في قنسرين وحمص ولكنها لم تستجب له بل على العكس هاجمته لغرض سلب مؤنه وأرزاقه، ولم يستطيع مروان البقاء طويلاً في دمشق حيث انقسم الناس إلى قسمين بين مؤيد للأمويين ومعارض لهم، بل أقسمت بعض القبائل اليمانية يمين الولاء لبني هاشم، فتركها متجها نحو فلسطين فمصر (245)، وسيأتي الحديث عن مقتله بإذن الله تعالى. وقد حصد مروان الثاني ثمار سياسته القبلية باعتماده على قيس وأخذه الناس بالشك والشبهة حتى تفرقوا عنه وقال قولته المشهورة وهو يتراجع باتجاه مصر : انفرجت عني قيس انفراج الرأس ما تبقى منهم أحد وذلك أننا وضعنا الأمر في غير موضعه (246).
وأما دمشق فلم تستسلم أول الأمر لعبد الله بن علي وأعتصم أهلها وراء أسوار المدينة ولكن عبد الله دعى اليمانيين في المدينة وأغراهم ووعدهم خيراً قائلاً : إنكم وإخوانكم من ربيعة كنتم بخراسان شيعتنا وأنصارنا ... فانصرفوا وخلوا بيننا وبين مضر (247). فانضموا إليه ودخل الجيش العباسي مدينة دمشق (248).
(1) حصار واسط ومقتل ابن هبيرة :
أرسل أبو العباس أخاه أبا جعفر لقيادة الحصار المضروب على يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري الذي حصن نفسه في واسط ورفض الاقتراح بالهجوم على الكوفة، كما رفض الالتحاق بمروان الثاني وكان الحسن بن قحطبة قائداً للجيش الخراساني ولكن الخليفة رأى من الأفضل إرسال عباسي لقيادة الجيش وكتب رسالة إلى الحسن الطائي قائلاً : إن العسكر عسكرك والقواد قوادك ولكن أحببت أن يكون أخي حاضراً فاسمع له وأطع وأحسن مؤازرته (249) وكتب إلى أبي نصر مالك بن الهيثم بمثل ذلك، فكان الحسن المدبر لذلك العسكر بأمر أبي جعفر (250). وكان جيش ابن هبيرة كبيراً يتكون من الجند السوري الموجود في العراق ومن أهل خراسان الموالين لبني أمية ومن أهل العراق اليمانيين والقيسيين. على أن ضعفه كان بارزاً يتمثل في العصبية القبلية التي شقته فشلت حركته ولذلك لم يصمد مع ابن هبيرة على القتال إلا الصعاليك والفتيان وقد استطاع أبو جعفر أن يكسب اليمانية في واسط بإغرائهم قائلاً : السلطان سلطانكم والدولة دولتكم. فانشق زياد الحارثي مع اليمانية عن ابن هبيرة وجذب معه شيوخاً آخرين، ويظهر أن هؤلاء الشيوخ كانوا قد سئموا الأمويين وأملوا الخير العميم من دولة ( أهل البيت ) الجديدة (251). لقد دام الحصار حوالي 11 شهراً ولما يفكر ابن هبيرة بالاستسلام حتى سمع بنبأ نهاية مروان فلم يبق مبرر للمقاومة فجرت محادثات للصلح وأعطى أبو جعفر أمانا لابن هبيرة شاور فيه ابن هبيرة الفقهاء والعلماء أربعين يوماً حتى يرى نقاط الضعف والقوة فيه، ثم وافق عليه، وأرسله إلى أبي جعفر لأخذ موافقة الخليفة عليه وقد أورد ابن أعثم الكوفي نص الأمان. على أن السلطة العباسية لم تكن لتحتمل ذلك القائد والوالي ذا النفوذ القبلي الكبير والذي كان يعامل أبا جعفر وكأنه مساوياً له من حيث المنزلة وكان يحف به في ذهابه وإيابه 800 مقاتل بين فارس وراجل (252).
والواقع فإن أبا جعفر أراد أن يكسبه للدولة الجديدة فكان يقول : عجباً لمن يأمرني بقتل مثل هذا. كما أنه كان يستشيره فيشير إليه قائلاً : إن دولتكم هذه جديدة فأذيقوا الناس حلاوتها وجنبوهم مرراتها لتسرع محبتكم إلى قلوبهم ويعذب ذكركم على ألسنتهم (253)، على أن الخليفة أمر أبا جعفر بقتله لأسباب سياسية وتعددت الروايات التاريخية في أسباب قتله فمنهم من يذكر أنه كان بتحريض من أبي مسلم الذي كتب إلى الخليفة : أنه قلّ طريق سهل تلقى فيه حجارة إلا ضّر ذلك بأهله ولا والله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة (254) وقد تردد أبو جعفر في قتله وقال : لا أفعل وله في عنقي بيعة وأمان : فأجابه أبو العباس : والله لتقتلنه أو لأبعثن إليك من يخرجه من عندك ويتولى ذلك عنك (255) وواضح أن الخليفة رأي في ابن هبيرة خطرا على الدولة الجديدة ووافقه في ذلك أبو مسلم (256) قال الذهبي في مقتل ابن هبيرة .. فحاصره المنصور مدة ثم خدعه المنصور وآمنه، ونكث فدخلوا عليه داره فقتلوه صبراً وابنه داود ومماليكه وحاجبه، فسجد لله فنزلوا عليه فهبروه (257)، وكان بطلاً، شجاعاً، سائساً، جواداً، فصيحاً خطيباً (258)، وكان رزقه في السنة ست مائة ألف وكان يفرقها في العلماء والوجوه (259). وهكذا قضى العباسيون على جيب من الجيوب الأموية في العراق وسقطت مدينة واسط (260).
(2) استسلام البصرة :(/25)
اعتصم مسلم بن قتيبة الباهلي بالبصرة ودافع عنها بصفته الوالي الأموي وظل مسلمٌ فيها حتى علم بمقتل ابن هبيرة وحينئذ ترك البصرة إلى الحجاز وعين بدله أحد الهاشميين واليا على البصرة حيث استبدله أبو العباس سفيان المهلبي وبهذا سيطر العباسيون على البصرة، لقد استطاع العباسيون أن يقضوا على فلول الأمويين ومراكزهم الحصينة في العراق وبلاد الشام، وقضوا على آخر خلفائهم مروان الثاني (261).
سابعاً : مقتل مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين 132ه
استولى عبد الله بن علي العباسي على الجزيرة والشام وهرب مروان بن محمد إلى مصر، فتبعته الجيوش العباسية وعبر مروان النيل فلحقه صالح بن علي عّم السَّفَّاح، فأدركه بقرية من قرى الفَيُّوم من أرض مصر يقال لها بُوصير (262)، فوافاه صائماً وقد قدّم له الفطور، فسمع الصائح فخرج وسيفه مصلت، فجعل يضرب بسيفه ويتمثل بقول الحجَّاج بن حكيم :
متقلَّدين صفائحاً هندية *** يتركن من ضربوا كأن لم يولد
وإذا دعوتهم ليوم كريهة *** وأفوك بين مكبر وموحَّد
فقصدته الخيول من كل جانب (263)، وبقي يقاتل حتى قتل وكان من كلامه قبل أن يقتل : (إن الجزع لا يزيد في الأجل وإن الصبر لا ينقص الأجل) وكان يتمثل بهذين البيتين كما جاء في بعض الروايات :
ذلُّ الحياة وهول الممات *** وكلاَّ آراه وخيماً وبيلا
فإن كان لا بد من ميتة *** فسيري إلى الموت سيراً جميلاً (264)
وكان أهله وبناته في كنيسة هناك فأقبل خادمه بالسيف مصلتا يريد الدخول عليهم، فأخُذ وسئل عن مراده فقال : إن مروان أمرني إذا تيقنت موته أن أضرب رقاب نسائه وبناته فأرادوا قتله، فقال : إن قتلتموني لتفقدن ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم – قالوا : فدلنا على ذلك إن كنت صادقاً، فخرج بهم إلى رمل هناك، فكشفوه فإذا فيه القضيب والبُرد والقَعبُ... فأخذوه وكان الذي تولى قتله عامر بن إسماعيل الخُراساني، وهو صاحب مقدمة صالح ولما قتله دخل بيته، وركب سريره، ودعا بعشائه، وجعل رأس مروان في حجر ابنته، وأقبل يوبخَها، فقالت له : يا عامر، إن دهراً أنزل مروان عن فراشه وأقعدك عليه حتَّى تعشيت عشاءه لقد أبلغ في موعظتك، وعمل في إيقاظك وتنبيهك إن عقلت وفكرت، ثم قالت : وا أبتاه وا أمير المؤمنيناه، فأخذ عامراً الرُّعب من كلامها، وبلغ ذلك أبا العباس السَّفَّاح، فكتب إلى عامر يوبخَّه ويقول : أما في أدب الله ما يخرجك عن عشاء مروان والجلوس على مهاده (265). وكان مروان بطلاً شجاعاً، ظالماً، أبيض، ضخم الهامة، ربعة، أشهل العين، كث اللحية أسرع إلى الشيب، ذكره المنصور مرّةً فقال : لله درُّه ما كان أحزمه وأسوسه، وأعفَّه عن الفي (266). وكان نقش خاتمه : أذكر الله يا غافل (267). وقد قيل : إن مروان قتل يوم الإثنين لثلاث عشرة خلت من ذي الحجَّة سنة ثنتين وثلاثين ومائة، وقد جاوز الستين (268)وبموته زال ملك بني أمية، وجميع خلفاء بني أمية من لدن معاوية إلى مروان بن محمد أربعة عشر رجلاً، وكانت مدة خلافة بني أمية منُذ أن خلص الأمر لمعاوية، وإلى أن قتل مروان بن محمد إحدى وتسعين سنة وتسعة أشهر وخمسة (269) أيام منها – خلافة – ابن الزبير تسع سنين وعشرون يوماًثم تفرقت بنو أمية في البلاد هرباً بأنفسهم وهرب عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس وبايعه أهل الأندلس عام 138ه (270)... لقد انقضت تلك السنون وأهلها، فكأنهم على ميعاد (271)وهكذا انتهت دولة بني أمية في المشرق التي عّمرت في الأرض عقوداً مديدة وأعواماً عديدة، وأقاموا فيها المدن المنيعة، والقصور الرفيعة، ولكن ذهبوا وتركوا كل ذلك، ولقد لحقتهم دول وشعوب وأمم وإليك هذا التصوير عن تلك النهايات التي فيها الدروس والعبر لمن ألقى السمع وهو شهيد قال الشاعر أبو العتاهية :
أين القرون الماضية *** تركوا المنازل خالية
فاستبدلت بهم ديارهم *** الرياح الهاوية
وتشتت عنها الجموع*** وفارقتها الغاشية
فإذا محل للوحوش
درجوا فما أبقت صروف *** الدهر منهم باقية
لم يبق بعدهم *** إلا العظام البالية (272)
قال تعالى : " لقد كان في قصصهم عبرة لأُولى الألباب .." ( يوسف ، آية : 111).
|1|2|
________________________________________
(136) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 83.
(137) المصدر نفسه ص 83.
(138) طبيعة الدعوة العباسية ص 83.
(139) أنساب الأشراف ( 3/125 ) الدعوة العباسية ص 236.
(140) أنساب الأشراف ( 3/260 ) الدعوة العباسية ص 236.
(141) مروج الذهب ( 3/260 ) الدعوة العباسية ص 236.
(142) الدعوة العباسية ص 236.
(143) تاريخ الطبري نقلاً عن العلويين والعباسيين ودعوة أهل البيت ص 84.
(144) العلويون والعباسيون ودعوة أهل البيت ص 84.
(145) سير أعلام النبلاء ( 6/48 ) .
(146) المصدر نفسه ( 6/48 ) .
(147) المصدر نفسه ( 6/49 ) .
(148) العلويون والعباسيون ودعوة إلى البيت ص 85.
(149) تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس ص 160 إلى 170.(/26)
(150) تاريخ الطبري ( 8/233 إلى 236 ).
(151) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 85.
(152) تاريخ الطبري ( 8/198).
(153) تاريخ الطبري نقلاً عن العلويين والعباسيين ص 86.
(154) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 86.
(155) الكامل في التاريخ ( 3/453 ) العلويون العباسيون ص 86.
(156) الكامل ( 3/453 ) العلويون والعباسيون ص 86.
(157) تاريخ الطبري ( 8/243 9 العلويون والعباسيون ص 87.
(158) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 87.
(159) تاريخ الطبري نقلاً عن العلويين والعباسيين ص 87.
(160) الأخبار الطوال ص 352.
(161) العيون والحدائق ص 184.
(162) الثورة العباسية ص 124.
(163) المصدر نفسه ص 124.
(164) الثورة العباسية ص 122.
(165) الثورة العباسية ص 124.
(166) الثورة العباسية ص 124.
(167) الثورة العباسية ص 124.
(168) المصدر نفسه ص 124.
(169) المصدر نفسه ص 125.
(170) المصدر نفسه ص 125.
(171) المصدر نفسه ص 125.
(172) تاريخ الطبري ( 8/245 ) ، الثورة العباسية ص 125.
(173) الثورة العباسية ص 125.
(174) تاريخ الطبري ( 8/247 ).
(175) الثورة العباسية ص 131.
(176) تاريخ الطبري ( 8/246 ) .
(177) تاريخ الطبري ( 8/247 ) .
(178) السلطة والمعارضة في الإسلام ص 523 .
(179) أخبار الدولة العباسية ص 245.
(180) السلطة والمعارضة في الإسلام في 523.
(181) العلويون والعباسيون ص 88.
(182) البداية والنهاية ( 13/226 ) .
(183) المصدر نفسه ( 13/227 ) .
(184) الخدمة : حلقة القوم وجماعتهم.
(185) ألين : من قرى مرو على أسفل نهر خارقان معجم البلدان ( 1/66 ).
(186) البداية والنهاية ( 13/229 ) .
(187) البداية والنهاية ( 13/230 ) .
(188) الزندان : هما خشبتان يُستقدح بهما فالسفلى زندة والأعلى زند .
(189) البداية والنهاية ( 13/231 ) .
(190) المصدر نفسه ( 13/231 ) .
(191) الدعوة العباسية ص 208.
(192) الحجا : العقل والفطنة.
(193) تأشب : أي اجتمع إليه والتفَّ عليه من أخلاط الناس.
(194) العلوج : أ ي اجتمع إليه والتفَّ عليه من أخلاط الناس.
(195) أخبار الدولة العباسية ص 313 الدعوة العباسية ص 280 ، 281.
(196) الأخبار الطوال ص 332 ، الدعوة العباسية ص 281.
(197) الدعوة العباسية ص 281 ، أخبار الدولة العباسية ص 282.
(198) الاغتام : جمع أغتم ، وهو الذي لا يفصح ، أي العجمي .
(199) النائرة : الفتنة والشر والشحناء والعداوة .
(200) أخبار الدولة العباسية ص 290 الدعوة العباسية ص 282.
(201) الدعوة العباسية ص 283.
(202) الثورة العباسية ص 133.
(203) البداية والنهاية ( 13/248 ) .
(204) المصدر نفسه ( 13/247 ) .
(205) تاريخ بلاد الشام، بيضون ص 229.
(206) البداية والنهاية ( 13/248 ).
(207) تاريخ الطبري ( 8/339 ).
(208) الثورة العباسية ص 134 ، 135 ، 136.
(209) تاريخ الطبري ( 8/272 ) .
(210) المصدر نفسه ( 8/279 ).
(211) الثورة العباسية ص 137.
(212) الثورة العباسية ص 137 ، نقلاً عن تاريخ الطبري .
(213) الثورة العباسية ص 138.
(214) تاريخ الطبري نقلاً عن الثورة العباسية ص 144.
(215) العالم الإسلامي في العصر العباسي ص 49.
(216) الكامل في التاريخ ( 3/479 ) الجيش في العصر العباسي الأول ص 50.
(217) الكامل في التاريخ ( 3/479 ) .
(218) تاريخ الطبري ( 8/280 ) .
(219) تاريخ الطبري ( 8/279 ) الجيش في العصر العباسي ص 51.
(220) داهية العرب أبو جعفر المنصور ص 94.
(221) البداية والنهاية ( 13/235 ).
(222) الجيش في العصر العباسي الأول ص 51.
(223) المصدر نفسه ص 52.
(224) داهية العرب أبو جعفر المنصور ص 97.
(225) سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية ص 193.
(226) داهية العرب أبو جعفر المنصور ص 98.
(227) سقوط الدولة الأموية للثعالبي ص 194.
(228) تاريخ بلاد الشام ص 259.
(229) العصر العباسي الأول ، عبد العزيز الدوري ص 43.
(230) داهية العرب أبو جعفر المنصور ص 98 – 99.
(231) الجيش في العصر العباسي الأول ص 55 .
(232) سير أعلام النبلاء ( 6/78 ) .(/27)
الدعوة الفردية ... ...
فهذه أمور تتعلق بالدعوة الفردية نذكرها في النقاط التالية:
أولا: مراحل الدعوة الفردية :
1- تكوين العلاقة مع المدعو .
2- زيارته والتحدث معه في أمر معين وتربطه بالدين وتنتهز أي فرصة تقوي إيمانه كعن متوفى فتربط الموضوع بحسن الخاتمه وممكن ترغبه في الإلتزام أو الإلتحاق بالشباب الطيبين وتشعره أنهم كالناس عندهم من المرح والرحلات ولكن في حدود الإنضباط .
3- تحاول أن تقوي إيمانه بطريق مباشر بكتيب أو بشريط فيه قصص أو تذهب به إلى المحاضرات وقد يكون من المناسب ألا تذهب به إلى الدروس الجادة وقد يكون مناسبا .
4- تحاول ربطه بجماعة طيبة وتتابعه بحيث يندمج معهم .
5- تحاول توسيع مفهوم الإسلام عنده مما هو أشمل من أداء الصلاة والصوم وغيرها .
6- تشجعه للقيام للعمل للإسلام والدعوة إليه .
ثانيا: عقبات الدعوة الفردية :
1- الخجل من محاولة عقد الصلة مع من لايعرفهم أويخاف ألا يقابل بشكل جيد .
2- كثرة إنشغال الداعية بأمر دنيوي أو إخروي .
3- عدم الصبر والتحمل من قبل الداعية فقد يتعرض لعدم مبالاة وغيرها من المدعو فقد يواعده فلايجده وقت الموعد .
4- الدعوة الفردية تحتاج إلى نفسية طيبة وتعامل من نوع خاص .
5- تحتاج إلى وقت طويل لكي تبدي ثمارها .
ثالثا: عيوبها :
1- تحتاج إلى وقت طويل .
2- ربما إنتاجها يكون قليلا كأن تعمل سنة مع شخص .
3- تحتاج إلى نوع خاص من المعاملة .
رابعا : صفات الداعية :
1- الإخلاص لله تعالى فيبارك الله في العمل .
2- الصلة بالله بأن يكون الداعية كثير العبادة ويستعين دائما بالله .
3- العلم بأن يتعلمه ويتعلم مايقوم به دينه ولايلزم أن يكون عالما وكذلك العلم بحال المدعو .
4- الصبر بأن يصبر على الأذى والعقبات وكذلك يصبر على ترك جلساته مع الأصدقاء .
5- الحكمة .
6- أن يتخلق بالأخلاق الفاضله .
7- أن يكون قدوة صالحة في كل شئ حتى في الأعمال الدنيوية حتى الإجتهاد في الدراسة .
8- الرفق .
خامسا : أمور مهمة:
1- لاتقتصر على الدعوة الفردية بل إعمل في كل مجالات الدعوة .
2- لاتكن الدعوة الفردية سببا لتركك الإهتمام بنفسك كأن تترك طلب العلم والأعمال الصالحة .
3- لاتكن سببا في ابتعادك عن الرفقة الطيبة وإذا كنت في مجموعة فالأفضل أن تكون تحت متابعة المشرف على المجموعة.
4- لاتحملك على المجاملة على حساب دينك كأن ترى منكرا وتقول ليس الآن كأن يشاهد شيئا محرما وأنت موجود .
5- إذا رأيت أنك ربما تتأثر بالمدعويين فلاتذهب إليهم فربما جعلوك تنتكس بسبب أنك خرجت معهم في رحلة برية مثلا وكنت لوحدك أوكان المدعو ذا تأثير.
6- التنسيق مع الدعاة فلايجتمع داعيتان على شخص واحد .
7- لاتهمل ذوي القربى فهم أولى بالدعوة .
8- النظر إلى ميول المدعو وعمله وظروفه حتى تستطيع أن تمارس الدعوة معه .
9- لاتواجه المدعو بإنتقاده المباشر واجعله مرحلة متأخرة .
10- لاتظهر له أنك أعلم منه أو أتقى لله منه .
11- لاتتبع عثراته لئلا يكون ذلك مخذلا لك عن العمل كأن تخبر عنه أنه يشاهد التلفاز فتقول سبحان الله كل هذا العمل ذهب علي ولم يستفد ,فلايكون مخذلا لك وضع هذا في ذهنك واطرح هذه المواضيع بطريقة مباشره أوغيرها .
12- التدرج وعدم الإستعجال ,فلاتضع في ذهنك أنه بيوم وليلة سيكون عابدا لله فلابد من التدرج .
13- لاتتركه بلا متابعة , فلاتكن رؤيتك لشيء من الصلاح دافعا لك على تركه وتقول انتهى العمل مع هذا الشخص .
14- لابد من مراعاة الفروق الفردية بين المدعوين لابد أن تعرف أنهم يختلفون في قدراتهم كالحفظ مثلا .
15- التأدب بأدب الزيارة عند زيارتك له كمراعاة الوقت المناسب وعدم الإطالة .
16- اقتصد في الموعظة فلاتمله بكثرة ماتقول إلا إذا رأيت تفاعلا وتجاوبا منه .
17- احتفظ بشخصيتك ولاتشوهها بكثرة المزاح واجعله بالقدر المعقول .
18- قد يكون المدعو ممن يعشق الرياضة فإذا علمت أنه في وقت العصر ينظر للمباراة إذاكنت تريد أن تدعوه فمن الأفضل ألا تذهب إليه في هذا الوقت لأنه ليس عنده من الإيمان مايجعله يترك المباراة ويدخلك المنزل فالمتوقع أن يعتذر لشغله أو يرسل لك أنه غير موجود .
19- مشروع مقترح أن يحاول كل واحد منا أن يبدأ في الدعوة الفردية وأن يحدد شخصا من الآن ويضع له مدة معينه يكون قد استطاع بإذن الله ضم هذا الشاب إلى قافلة الملتزمين ويجعل هذا الأمر بمثابة الإختبار له يحدد فيه مدى نجاحه ونذكر بأن هذا الشخص سوف يكون في ميزان حسناتك يوم القيامة إذا أخلصت العمل لله فربما يصوم وأنت مفطر ويقوم وأنت نائم ويجاهد وأنت قاعد فيكون لك مثل أجره .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
كاتب المقال: عبد الرحمن العايد
المصدر: صيد الفوائد(/1)
الدعوة المأجورة(*)
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
كثيرة تلك الدعوات المأجورات، وهي في الغالب واضحة تتميز بالوفود من دول الغرب أو الشرق، أو تكون مبنية على أسس غربية أو شرقية، اغتر بها أوافتتن بعض منتسبي الإسلام وبنيه، وبعضها ربما اتكأ على أهواء متبعة وشبه محلية ليس للشرق أو الغرب فيها كبير يد، بيد أن هذه كذلك ظاهرة.
ويبقى بعد ذلك نوع من الدعوات المأجورة ربما وللأسف سقط في حبالها فضلاء، وتلك الدعوات ربما كانت دعوات للخير في مجملها، إلاّ أن صاحبها ما قام بها رغبة في ثواب الله وحده، بل جعل لله شركاً فيها؛ قام بها لأجل الأجر، وليس بالضرورة أن يكون الأجر مالاً إلاّ أن أصحابها لم يمحضوا قصد وجه الله فيها.
ومن أبرز علامات أولئك الدعاة المأجورين موافقة المستأجر، فإن كان المستأجر هوى العامة، ألفيت دعواتهم تنسجم مع الموج! ووجدت أن الدعوة إلى ترك السباحة عكس التيار البشري الضعيف تلاك على ألسنتهم ولو على حساب السباحة عكس تيار الوحي القوي الصافي الذي تسبح فيه الكائنات جميعاً غير ذلك البشر الضعيف ومن معه من الشياطين، ولكن باسم الشرع والدين!
وأما إذا كان المستأجر هوى النفس وحب الشهرة والذكر، فإنك تلقى أولئك المأجورين على أحوال، فتارة يروجون لما ينال استحسان الجموع، أو ما يطلبه المستمعون، باسم التيسير وترك الشذوذ وعدم مفارقة الجماعة(1)! وتارة أخرى يركبون كل غريبة، ويأتون بكل عجيبة، ويحدثون الضوضاء العظيمة، لتلتفت إليهم الأنظار، ويعللون بأن الحق أحق بالإعلان وإن خالف ما عليه الناس وما ألفته الأعراف والمجتمعات، وحينها تسمع آيات ذم الكثرة، ووتراهم يرددون الأثر: يأتي النبي وليس معه أحد! في تناقض واضطراب منهجي لا يخفى على أهل النظر والعقلاء وإن خفي على الداعية المأجور بتسويل النفس وتزيين الموحين إلى بعضهم زخرف القول غروراً.
ولأن الدعوة المأجورة لا يرجى منها كثير خير جاءت النصوص الكثيرة في التنبيه على أهمية تمحيض قصد الدعوة، ومن جملة ما يدل على ذلك النصوص في نبذ أخذ الأجر على الدعوة، ففي مثل قوله _تعالى_: "وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ" تذكير بديدن الأنبياء وطريقتهم، فالأنبياء جميعهم يعلنون تلك الحقيقة صريحة، فمنهم من يقول: "لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً" [هود: من الآية29]، ومنهم من يقول: "لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً" [الأنعام: من الآية90]، ويقول الله _تعالى_ عن محمد – صلى الله عليه وسلم –: "وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ" [يوسف: من الآية104]، وفي سورة يس يقول الرجل لقومه: "اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ" [يس:21]، والأجر ليس هو المال فقط -وإن وجد من يدعو لأجل المال- بيد أن أولئك الذين يطلبون بدعوتهم منافع دنيوية يعملون لأجلها عدد أكبر.
أما الأنبياء فلا، لا يطلبون أجراً أياً ما كان الأجر على دعوتهم إلاّ أجر الآخرة، ولهذا لما احتاج الناس ليوسف وهو في السجن فجاءه الساقي سائلاً ما طلب أجراً شأن الأنبياء ذوي النفوس العالية صلى الله عليهم وسلم، وكان بإمكانه أن يقول: أخرجوني أخبركم!
وفي نحو هذه الآيات رسالة إلى الدعاة وإلى العلماء وإلى طلاب العلم حاصلها: إياكم أن تطلبوا على دعوة الناس وواجب البلاغ أجراً؛ أي منفعة دنيوية، فالجاه أجر، وحب والتصدير والتسويد أجر، كما أن المال والأعراض أجور.
أذكر بهذا لأن الشيطان ربما سول لبعض الناس سلامة جانبهم، وربما حسن لهم نياتهم إذا لم يتشوفوا لأجر مادي وإن تعلقوا بغيره وعملوا لأجله! وقد قال– صلى الله عليه وسلم – كم ثبت في حديث كعب بن مالك الأنصاري: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه"(2)، وهذا حديث عظيم، قرن فيه بين حب الشرف لدينه، وبين حب المال، فالعمل لهذا كالعمل لهذا، ولهذا تجد بعض من استغنى ممن زين له سوء عمله، لا يطلب مالاً بل ربما قد يدفع المال، ولكنه يريد أجراً من وجه آخر، يريد أن لا تنزل منزلته عند الناس، وهذا ربما أحدث خللاً كبيراً في واقع الدعوة، بعض الناس يقوم بمشروع دعوي مهم جداً ربما كانت تلائمه إدارته، فينمو المشروع ويظل من ابتدأه رئيساً له بحكم نشأته، فيمر الزمان ويكبر المشروع بمساعدة آخرين وتكون من المصلحة أن يتنحى وأن يأتي من هو أقدر على إدارته وأولى به وفقاً لما تقتضيه مصلحة الدعوة، لكنه يتمسك بمشروعه لماذا؟ هو لا يطلب مالاً، ولكنه حب الرياسة وحب الجاه وحب السيادة، أجارنا الله وإياكم.
إن الحظوظ النفسية آفة عظيمة تعرض للمرء فتحرفه عن قصده وهو لا يشعر، ومع عظمها قل أن يسلم منها أحد نسأل الله السلامة والعافية، فلنتفقد أنفسنا، ولنراجع أعمالنا، ولنصدق في المحاسبة، وإلاّ فإن الله لا تخفى عليه خافية، يثيب المخلص ويجزل له، وأما الآخر فهجرته إلى ما هاجر إليه.
________________(/1)
(*) مستلة من كتاب الشيخ آيات للسائلين، وهو الآن في طور التصحيح والإعداد للطباعة.
(1) وهؤلاء لا يعرفون معنى الجماعة ولا يعلمون أن الكثرة غالب ما تجيء في القرآن مذمومة، ورحم الله ابن المبارك حيث يقول: أبو حمزة السكري جماعة!
(2) رواه الإمام أحمد في المسند 3/456، 3/460، والترمذي في سننه 4/588 (2376) وقال حسن صحيح، ورواه الدرامي في سننه 2/394 (2730)، وابن حبان في صحيحه 8/24 (3228)، وغيرهم.(/2)
الدعوة بالتبشير والإنذار
(الجهر بالدعوة ومخاطبة عموم قريش)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوجه في دعوته إلى أهم الدوافع التي تدفع أصحاب العقول السليمة إلى الاستجابة لدعوة التوحيد , وذلك بإثارة الاهتمام نحو مستقبل الناس بعد الموت, حيث الحياة الخالدة في الآخرة , وذلك في النعيم المقيم لمن أجاب واهتدى , والعذاب المقيم لمن عصى وغوى .
ومع تصديق الكفار له في كل أخباره الدنيوية لما تواتر عنه من الأمانة والصدق فإن أغلبهم ردَّ دعوته , وكاده بعض عشيرته الأقربين .
ومن الأمثلة التي تبين موقفه هذا وموقف قومه منه ما أخرجه الإمام البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد إلى الجبل فنادى : ياصباحاه فاجتمعت إليه قريش فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبِّحكم أو ممسيِّكم أكنتم تصدقوني ؟ قالوا : نعم , قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد , فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا تبًّا لك , فأنزل الله عز وجل: (تبت يدا أبي لهبٍ وتب.ما أغنى عنه ماله وما كسبَ.سيصلى ناراً ذات لهب) [المسد :1-3] إلى آخرها.
(صحيح البخاري كتاب التفسير رقم 4971 , ( الفتح 8/737 ))
وكذلك ما أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية
(وأنذر عشيرتك الأقربين) (سورة الشعراء , آية (214) )دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا فاجتمعوا فَعَمَّ وخص فقال: "يابني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار , يابني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار , يابني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار , يافاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئًا, غير أن لكم رحمًا سأبلها بِبَلالها".(صحيح مسلم , كتاب الإيمان رقم 204 , ص 192 .)
فهاتان الروايتان مع روايات أخرى تبين لنا الموقف الصعب الذي كان يواجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه , وقد أمره الله تعالى بدعوة عشيرته الأقربين , وإن في الأمر بالبدء بدعوة الأقربين حكَمًا عظيمة , منها أن بقاء الظلام المحيط بالنور من قرب يحول دون رؤية ذلك النور بوضوح فكان تبديده عاملاً مهمَّا في انتشار ذلك النور , فالبدء بدعوة الأقربين لأنهم محل حكم الناس على الداعية فإذا لم ينجح مع أقاربه كان لذلك أثر في الصد عن دعوته , هذا إضافة إلى أن الدعوة برٌّ وإحسان وأحق الناس ببر الإنسان أقاربه .
ولقد قَدَّم النبي صلى الله عليه وسلم بمقدمة تلزمهم بالإذعان لو كانوا متجردين من الهوى والتقليد , وذلك أنه صور نفسه نذيرًا لقومه ينذرهم من جيش قد اقترب منهم " أرأيتم لو حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا : نعم" فهذا يعني أنهم على استعداد لقبول إنذاره فيما يتعلق بدنياهم , فلما اطمأن إلى ذلك ذكر لهم ماجمعهم من أجله , وهو إنذارهم مما هو أجل خطرًا وأعظم عاقبة فقال : "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" يعني فكما صدقتموني في وقايتكم من مكروه الدنيا فصدقوني في وقايتكم من مكروه الآخرة الذي هو أشد وأبقى .
وفي هذا دلالة على أن من أساليب الدعوة التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشهاد بالأمر المعلوم الذي تمت القناعة به على الأمر الجديد الذي يريد الداعية أن يدعو الناس إليه .
فأهل مكة المكرمة آنذاك كانوا يصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما يقوله من أخبار الدنيا, ولذلك لقبوه بالأمين فاعتمد هذه القناعة الثابتة عندهم لدعوتهم إلى الإيمان بالآخرة .
كما أن في هذا دلالة على أنه مما يجب أن يتزود به الداعية الرصيد الأخلاقي الكبير الذي يجبر خصومه على الاعتراف بفضله في هذا المجال ليتوصل بذلك إلى نشر دعوته السامية .
ولكنّ أفراد عشيرته صلى الله عليه وسلم هؤلاء صمتوا فلم يجيبوا ولم يستجيبوا لدعوته , بل إن عمه أبا لهب لم يكتف بذلك , وإنما ردّ عليه بهذا الرد القاسي السيئ .
ومع هذه المعاملة القاسية فإن النبي صلى الله عليه وسلم ظل صامدًا في دعوته غير عابئ بتحدي قومه ولابصدودهم .
وإذا تأملنا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنه قد بدأ دعوته هذه بتذكير قومه بالنار , وحثهم على استنقاذ أنفسهم منها , وهذا دليل على أهمية هذا الجانب في الدعوة .
وقد جاءت آيات الدعوة متضمنة التحذير من النار , وأحيانًا تأتي بالجمع بين الإنذار من النار والتبشير بالجنة .
هذا وإن قيام الدعاة إلى الله تعالى بالتركيز على شرح محاسن الإسلام أمر حسن , ولكن يجب أن يكون المقام الأول في الدعوة الاهتمام بإيقاظ الناس , واجتذابهم عن طريق التبشير والإنذار.وقد بين الله سبحانه أن هذه مهمة الرسل عليهم السلام : (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيما)( سورة النساء , آية (165))، فمن اهتم بهذا الجانب من الدعوة كان من سالكي منهج الرسل عليهم السلام وحَرِيٌّ به أن يستجاب له إذا خلصت نيته .(/1)
إنه لاشك أن الإسلام يصل بالفرد وبالمجتمع الإنساني إلى أعلى المستويات في جميع المجالات: الأخلاقية والتربوية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها مما تقوم عليه الحياة الكاملة لأن الإسلام دين الله تعالى , وهو سبحانه أعلم بما يصلح عباده في كل أمور حياتهم , بخلاف المناهج البشرية التي مهما علت لايمكن أن توضع في مجال موازنة مع تشريع الله سبحانه خالق البشر .
وإنه من المفيد جدًّا في مجال الدعوة أن يقوم الدعاة ببيان عظمة الإسلام في كل هذه المجالات, من ناحية أثرها في إصلاح الفرد والمجتمع في هذه الحياة الدنيا , ولكن يجب أن لايكون هذا هو الأساس الذي تقوم عليه الدعوة بحيث يُغفل الدعاة مجال الدعوة بالتبشير بالجنة والتحذير من النار , أو يقصرون في ذلك , وذلك أنه بإمكان الكفار أن يدَّعوا بأن لديهم مناهج تقوم بإصلاح الفرد والمجتمع في المجالات المذكورة , وأن يضربوا على ذلك أمثلة واقعية من مجتمعهم المتقدم نسبيًّا في هذه المجالات أو بعضها – وهم لايدركون عظمة الإسلام في هذه المجالات إلا بعد التعمق في دراسته , وقليلاً ما يتم ذلك – ولكن لايستطيعون أن يدَّعوا بأن مناهجهم تلك توصل مطبقيها إلى دخول الجنة والنجاة من النار , فتبقى مناهجهم بذلك مناهج دنيوية , ويبقى في شعور كل مفكر عاقل فراغ في التفكير فيما سيؤول إليه بعد الموت , ولن يجد في كل الحضارات المادية والأفكار البشرية إجابة على سؤاله هذا , وإنما يجده في الدين الإسلامي وحده .
إن في اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم المتكرر طوال حياته الدعوية بالتبشير بالجنة والتحذير من النار دلالة على أهمية غرس الوازع الديني في النفوس حتى يصل المسلم إلى درجة عالية من التضحية بالدنيا من أجل الآخرة , فأما حينما يكون الإعجاب بالإسلام والانجذاب إليه لكونه يحقق لمعتنقيه مناهج عالية في مجالات الحياة الدنيا فقط فإنه لاينتظر من هؤلاء أن يضحوا بحياتهم ومصالحهم الدنيوية من أجل الإسلام .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : "فإني لا أملك لكم من الله شيئًا " دلالة واضحة على أنه لاينجي الإنسان يوم القيامة إلا إيمانه وعمله الصالح , وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لاينقذ من النار حتى أقرب أقاربه, فإن ذلك لايكون لغيره من البشر مهما بلغوا من الولاية والصلاح .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها" يعني إذا كنت لا أستطيع إنقاذكم من النار إلا بدخولكم في الإسلام فإن ذلك لايمنعني من أن أصلكم في الدنيا لقرابتكم مني .
وهذا الاستثناء له أثره الكبير في إبقاء حبل الوصل مع عشيرته , لأنهم – وهم كفار – لايهتمون إلاَّ بالحياة الدنيا , وقد أعلن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لن يتغير شيء في حياته عما كان عليه من صلة رحمه , فلعل بقاء هذا الخيط الذي يعرفونه ويقدرونه يكون سببًا في إيمانهم بما أنكروه من دعوته ولم يقدروه حق قدره .
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أبقى على صلته مع أقاربه وهم كفار , فمن باب أولى لعموم المسلمين وخاصة للدعاة أن يبقوا على صلتهم بأقاربهم المسلمين وإن أنكروا منهم بعض السلوك أو جابهوهم بشيء من النفور والتحدي , من أجل أن تكون هذه الصلة سببًا بعد ذلك في عودتهم إلى الالتزام بالدين واحترام دعاته المخلصين .
وهذا لايتعارض مع المنهج التربوي الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملة بعض المذنبين , كما حدث مع الثلاثة المتخلفين يوم تبوك حيث كان الهجر شاملاً حتى مع أقاربهم .. لايتعارض مع ذلك لأن المقصود في الأمرين واحد وهو الدعوة .
فالإبقاء على صلة الرحم مع من وقعت منهم المخالفات الشرعية يقصد به دعوتهم إلى الهداية والاستقامة , وكذلك الهجر التربوي حينما يكون هو العلاج الناجح في تزكية النفوس وعلاجها من أدوائها فإن المقصود به دعوة أولئك المقصرين إلى الاستقامة على الصراط المستقيم , وكلا المنهجين الدعويين داخلان في الدعوة إلى سبيل الله تعالى بالحكمة(/2)
الدعوة بين تنويع الأساليب وتمييع الحقائق
رئيسي :الدعوة :الاثنين 8 صفر 1425هـ - 29مارس 2004م
إن مما نحتاج إلى إتقانه فن مخاطبة الناس على اختلاف مشاربهم، وتفاوت مستوياتهم، وتنوع انتماءاتهم، وذلك من حيث:
- اختيار المسائل والقضايا المناسبة.
-اغتنام الفرص والأوقات الملائمة.
-اعتبار حال المخاطبين من جهة تفاعلهم، وتقبلهم لما يخاطبون به.
-التعمق في معرفة قدرات عقولهم على تفهم ما يلقى عليهم، وما يراد منهم فهمه وتبنيه.
وغير ذلك من الاعتبارات المهمة، التي لا ينبغي لكل من أراد أن يوصل كلمته، ويجعلها مؤثرة مؤدية للغرض الذي يرنو إليه، ويسعى لتحقيقه أن يهملها ويهمشها، بل عليه أن يكون على دراية تامة وإحاطة قوية بحال من يجتهد لإيصال صوته إليهم، والتأثير به عليهم، خاصة من تصدى لبيان الحق والهدى الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والسعي لإخراج الناس من ظلمات الكفر، أو الجهل، أو البدع والضلال إلى نور الإسلام والسنة والصراط المستقيم .
فكثيرًا ما يكون المرء على معرفة وعلم بما يدعو الناس إليه، ولكن هذا – مع حسنه – لا يكفي وحده، ولا يغني بمفرده، حتى يتقن صاحبه الدور الثاني المهم، وهو القدرة على إيصال هذا الحق إلى الناس بالكيفية المناسبة، والدخول إليهم به من الباب الصحيح الذي يستقبلونه ويتقبلونه .
فالخطوة الأولى في فشل الداعية، أو المربي، أو المعلم، أو المخاطِب بصورة عامة تظهر عندما يكون همه محصورًا في إبداء ما في صدره، وإخراجه للناس، وإيصاله إليهم بأي طريقة كانت، ومن غير مراعاة للظروف المؤثرة إيجابًا أو سلبًا، ومن غير دراية، أو اهتمام بقدرات المخاطبين على تفهم القضية، أو المسألة التي سيوصلها لهم .
فتراه يخاطبهم كلهم بطريقة واحدة، وكيفية متساوية، وبنفس الأسلوب، سواء عنده العالم والجاهل، والمسلم والكافر، وقديم العهد بالالتزام وحديثه، والمبتدع الضال والمتبع السني، والرجل والمرأة.
ولسنا نقصد بمراعاة نفوس الناس، واعتبار أحوالهم وعقولهم أن تميع القضايا، أو تمطط المسائل الشرعية، وتحرف وتغير لأجل إقناع طائفة من الناس مثلًا بأن الإسلام دين اليسر والتسهيل، أو نحو ذلك، فإن ثمة فرقًا بين تحريف الحق وإخضاعه لأهواء الناس، وبين إبقائه على حاله واضحًا جليًا محددًا كما أنزله الله، وبلغه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن يختار 'الأسلوب المناسب' والوقت المناسب لإيصال ذلك الحق ' كما هو في الشرع ' للناس .
فكثيرًا ما يحدث خلط في هذه ا لقضية، ويقع فيها اللبس أو التلبيس، فتزور الحقائق الشرعية، وتغير باسم: سماحة الإسلام ورفقه ويسره، والحكمة في الدعوة إليه.. ونحو ذلك، وهذه الأمور صحيحة في نفسها، ولكن تفسيرها بهذه الكيفية ليس على وجهه الصحيح .
فالإسلام دين الرفق.. نعم ودين السماحة، ودين اليسر، ورفع الحرج، ولكن ليس معنى ذلك أن نأتي إلى حقائقه الثابتة، ومسائله البينة، وقضاياه الجلية؛ ونصرفها عن مدلولها الشرعي الصريح الصحيح، ونؤول معناها، بل نحرفه بغية إقناع الناس بها.
فنحن بهذا العمل – وفي حقيقة أمرنا - لا نقنع الناس بحقائق الإسلام التي أنزلها الله، والتي أراد منهم الإيمان بها، والالتزام بتعاليمها، ولكننا تركنا 'حقائق الإسلام ' الصحيحة جانبًا، وقدمنا لهم ما تشتهيه أنفسهم، وتهواه قلوبهم بـ 'اسم الإسلام' .
وليس هذا هو موطن الحكمة في الدعوة إلى الله، ولكن الحكمة، وحسن التبليغ أن نتقن إيصال الحق البين دون خدش ولا تحريف إلى الناس، فالحكمة إنما تكون في الأسلوب والطريقة، والكيفية والوسيلة التي نوصل بها 'الحق'، ولهذا قال الله سبحانه:{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ... [125]}[سورة النحل] .
فالدعوة إنما تكون إلى:{... سَبِيلِ رَبِّكَ... } التي هي الإسلام الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه:{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ... [153]}[سورة الأنعام] . وكما قال عز وجل:{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[6]صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ[7]}[سورة الفاتحة].
وما أجمل ما كتبه الأستاذ سيد قطب رحمه الله حيث يقول:'إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله، لا لشخص الداعي ولا لقومه، فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه لله، لا فضل له يتحدث به، لا على الدعوة ولا على من يهتدون به، وأجره بعد ذلك على الله، والدعوة بالحكمة، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها، فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة؛ فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه' [4/2201الظلال].(/1)
والحقيقة إن تحريف مسائل الشرع – ولو كانت في عين البعض صغيرة – أمر في غاية الخطورة، وهو في واقع أمره من الكذب على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا، فإن الشارع قد جوز للعالم، أو الداعية أن يكتم بعض العلم لمصلحة معتبرة يراها، وله في بعض الأحيان السعة في هذا الأمر .
ولكنه لم يجوز لهم بحال أن يغيروا أو يبدلوا شيئا مما بينه وقرره الشرع تحت أي دعوى ولا اعتبار لما يتوهمه البعض من المصالح الموهومة المتعلقة بذلك، بل جاء الوعيد الشديد، والتهديد الأكيد الذي يزجر القلوب عن ذلك أشد الزجر، ويردعها عنه أعظم الردع، كل ذلك إبقاء للحق على نصاعته، وحفظا له، وصيانة لمصادره .
فقد بوب البخاري رحمه الله قائلًا: [ بَاب: مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا ، وَقَالَ عَلِيٌّ:' حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ'؟] . وساق تحته حديث معاذ رضي الله عنه عندما كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه :'مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً' . رواه مسلم في مقدمة صحيحه.. هذا فيما يتعلق بترك بيان بعض العلم؛ جلبًا لمصلحة شرعية راجحة، أو درءًا لمفسدة كالتي ذكرها ابن مسعود رضي الله عنه .
أما تحريف الحق وتغييره والتصرف فيه، فهذا ما لا يجوز بحال، وهو من تحريف الكلم عن مواضعه الذي أغرق فيه اليهود، ورفعوا لواءه قاتلهم الله أنى يؤفكون.
فينبغي التفريق بين:
-سعة الأمر في كيفية الدعوة، واختيار الأسلوب المناسب، والوقت الملائم.
- وبين حفظ ما يدعو المسلمُ إليه، وعدم خدشه، وتمييعه.
ونضرب لذلك مثلًا يتضح به المراد أكثر، ويتجلي به المقصود من واقع توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مثل هذه المسائل:
فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ بِهِمْ الْبَقَرَةَ قَالَ فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا فَقَالَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا وَنَسْقِي بِنَوَاضِحِنَا وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ فَتَجَوَّزْتُ فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ ثَلَاثًا اقْرَأْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَنَحْوَهَا] رواه البخاري ومسلم.
فالمفسدة التي وقعت لهذا الرجل، وهي نفوره من الصلاة، وتركه الجماعة، وانفصاله عن إمامه لم يهملها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يغض الطرف عنها، بل اعتنى بها أشد الاعتناء، وأولاها بالغ الاهتمام، ولكنه لم يعالجها بشيء يقدح في حقيقة الصلاة الشرعية المأمور بها، فلم يأمر معاذا بترك شيء من واجبات الصلاة، أو أركانها، أو حتى مستحباتها بل أرشده إلى الإبقاء على الحقيقة الشرعية، والهيئة الصحيحة مع إقامتها بما يتناسب مع من خلفه من الضعفة، وذوي الحاجات، فالصلاة بقيت صلاة على حالها بصورتها وهيئتها.
وهكذا.. ينبغي أن تبقى كل الحقائق الشرعية التي ندعو الناس إليها، ونعلمهم إياها، ولكن نقدمها بالأسلوب المرتجى أن يكون سببًا في تقبلهم لها، واقتناعهم بها .
أما العبث في تلك الحقائق والتصرف بها النقص والزيادة فيها من أجل الناس؛ فهذا ما لا يقره الشرع، وهي هفوة عظيمة، وزلة جسيمة في حقه .
وأوضح من حديث معاذ رضي الله عنه في إيضاح هذه المسألة المهمة حديثُ الأعرابي الذي بال في المسجد:
فعن أنس رضي الله عنه قال:جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ فَزَجَرَهُ النَّاسُ فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ. رواه البخاري ومسلم. وقال لأصحابه رضوان الله عليهم لما زجروا الأعرابي وشددوا عليه: [ إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ] رواه البخاري.(/2)
فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أقر أصحابه على أن ما فعله هذا الأعرابي منكر ينبغي تغييره وإزلته، ولكن نهاهم عن الأسلوب والطريقة التي أرادوا بها تغيير ذلك المنكر، وهي زجرهم وتناولهم للأعرابي، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم الكيفية الصحيحة والأسلوب الأمثل القويم في إزالة ما رأوه من ذلك المنكر، ولهذا ترك الأعرابي حتى فرغ من بوله فدعاه وقال له: [إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ]رواه مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم معلمًا لأصحابه، ومرشدًا وموجهًا لهم لما وقع منهم ما وقع مع هذا الأعرابي: [ إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ] رواه البخاري.
والصحابة إنما وقع منهم الخطأ في هذه الحادثة في الكيفية التي أرادوا بها تغيير ما رأوه من المنكر بمعنى أن ' التعسير ' كان في الأسلوب الذي اتخذوه لذلك، أما كون ما فعله الأعرابي من البول في المسجد منكرًا فهذا شيء لم ينكره عليهم صلى الله عليه وسلم بل أقرهم عليه من خلال تعليمه للأعرابي، وإراقة الماء على بوله، وهذه القصة تشير إلى مثيلاتها وتبين حكم نظيراتها، وقد استطردنا في هذه القضية؛ لأهميتها، وبسبب الخلط الواقع فيها، وسوء فهم الكثيرين لها .
وكما ذكرنا فإن هم الخطيب، أو الداعية، أو الكاتب ينبغي أن لا يكون محصورًا في إيصال ما عنده فحسب دون اعتناء وحرص لفهم المخاطبين لقضيته، واستيعابهم لمقاصده ومسائله، فكثيرا ما تسمع:
'عليك بالبلاغ، ولا يهمك مَن قَبِل ممن لم يقبل'، وهذه الكلمة تحتمل معنى صحيحًا – وإن كان ليس المتبادر إلى الأذهان – وتحتمل معنى خاطئًا:
أما المعنى الصحيح: فهو أن المسلم ينبغي أن تشد همته نحو الدعوة إلى الله، وتبليغ دينه وإيصاله للناس، ويبذل جهده في اختيار الأساليب وتنويعها بحسب أحوال من يخاطبهم، والصبر عليهم في تفهيمهم الحق، ثم بعد ذلك من نكص على عقبيه، وأعرض، فلا يحمل الداعية همّه، ولا يحرف الحق لأجله، أو يشوه صورته، ويمسخ شخصه استعطافًا لقلبه، فيكون معنى العبارة آنفة الذكر من نحو قوله تعالى:{ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ[21]لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ[22]}[سورة الغاشية]. وغيرها من الآيات .
أما المعنى السقيم لتلك العبارة: فهو أن الداعية لا يعتني بأساليب الدعوة، ولا يهتم بوسائلها، ولا ينظر إلى حال من يخاطبهم، ولا يعتبر أحوالهم وعقولهم ومستوياتهم، إنما يقول ما يريد، ويفصح عما يعتقد بكيفية واحدة، وطريقة ثابتة في أي مجلس كان، ومع أي قوم كانوا، ولا يهمه قبول الناس لما يقول، فإذا ما أعرض الناس عن تقبلهم لما عنده ' بسبب أسلوبه في إيصال الحق ' فإنه لا يهتم بذلك، ولا يعبأ، ولا يصلح من حاله، أو يغير من شأنه، إنما يقول:' علينا أن نقول ولا يهمنا القبول'، ولا شك في خطأ هذه الفكرة، وانحرافها عن الجادة .
فإن المسلم الداعية معني ببذل الجهد واستفراغ الوسع في اختيار 'الأسلوب أو الطريقة' التي يبلغ بها دعوته بما يؤدي الغرض، ويوصل إلى المقصد وهو ' هداية الناس ' ودخولهم في ' سبيل الله '، فلا يصح أن يكون المسلم داعية إلى الحق بنيته وقصده، وصادًا عنه بأسلوبه وطريقته .
والبون شاسع بين:
- أن يكون صدود الناس، وعدم قبولهم للحق بسبب إعراضهم، أو استكبارهم، وطمس الله على قلوبهم.
- وبين أن نكون سببًا في التنفير من الحق لفساد طرق الدعوة، أو بسبب فقدان القدرة على تبليغه.
ولأن إفهام الناس الحق، ومحاولة إيصالهم إلى معانيه بالوسائل الصحيحة المناسبة لهم أمرٌ ذو أهمية أرسل الله كل رسول بلسان قومه ليبين لهم، كما قال عز وجل:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[4]}[سورة إبراهيم].
قال سيد قطب رحمه الله عند هذه الآية:'وهذه نعمة شاملة للبشر في كل رسالة فلكي يتمكن الرسول من إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم لم يكن بد من أن يرسل بلغتهم، ليبين لهم وليفهموا عنه فتتم الغاية من الرسالة ...' .
ولا أدل على الاعتناء بطرق دعوة الناس إلى الحق مما تضمنه القرآن الكريم – وهو أساس الدعوة وقطبها – من الأساليب المتنوعة من الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، والإنذار والتبشير، والوعظ والتذكير، ومخاطبة العقول بالحجج العقلية المفحمة القاطعة، والأمر بالتفكر في الآيات الكونية المنصوبة القائمة، والدعوة إلى مقارعة الحجة والبرهان بمثلها، والمجادلة بالتي هي أحسن، وضرب الأمثال، وتصريف الآيات للناس ليفهموا الحق ويعقلوه، وقد جاء ذلك مبينًا في آيات لا تحصى.(/3)
والمقصود: أن القرآن هو أكمل صور الوعظ، وأتم أحوال التذكير، وهو متضمن لكافة أساليب الدعوة التي ينبغي للداعية أن يتمرس فيها، ويتقنها، ويبذل جهده في اختيار أمثلها حسب أحوال من يخاطبهم، ودون إهمال لقدرات فَهْمِ وخلفيات وعلائق من يحب هدايتهم، فإذا اجتهد في ذلك، وسدد وقارب، فأعرض الناس وتولوا؛ تلا قول الله:{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ... [56]}[سورة القصص].
ولا شك أن الموضوع أعمق مما دوناه هنا، وهو بحاجة إلى تقصٍ يكشف عن مكنونه، وفهم يوصل إلى لب مضمونه، ولعل هناك من ينشط لذلك، والله الهادي إلى سواء السبيل .
من:' الدعوة بين تنويع الأساليب وتمييع الحقائق' للشيخ/حسن محمد قائد(/4)
الدعوة ميدان واسع 8/12/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ثم أما بعد:
فهذه وقفة مع حكاية الله _عز وجل_ طرفاً مما دار بين يوسف _عليه والسلام_ وبين صاحبي السجن، أخبر الله _تعالى_ عن يوسف عندما سأله صاحباه تأويل الرؤية أنه قال للسجينين: "لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا"(يوسف: من الآية37) من المفسرين من ذكر أن يوسف يقول للسجينين: لا يأتيكما طعام إلا أخبركما بنوع الطعام الذي سيأتي كما قال عيسى _عليه السلام_: "وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ" (آل عمران: من الآية49) والقول الآخر: إن يوسف يقول لهما بلسان الحال سأعبّر لكم الرؤيا، ولكن ليس الآن، سأؤخرها إلى وقت حضور الطعام، وهم يعرفون متى يحضر الطعام، فقوله: "إلاّ نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما"، معناه: سأنبئكم قبل حضور الطعام، أي لن أؤخر تعبير الرؤيا تأخيراً كثيراً، ولكن عندي موضوع أهم وهو الدعوة إلى الله _جل وعلا_، وهذا هو المعنى الراجح والمعنى الأقوى .. ثم بدأ في دعوتهم إلى الله _جل وعلا_ فلما انتهى من بيان الدعوة قال لهما: "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً" (يوسف: من الآية41).
وهذا الأسلوب من يوسف _عليه السلام_ من باب التشويق؛ لأنه لو أخبرهما بتعبير الرؤيا قبل أن يدعوهما إلى الله لانشغل كل واحد منهما بتعبير رؤيته، فالذي قيل له: إنه سيخرج وسيسقي ربه خمراً سينشغل باله بالخروج والاستعداد له، والذي قيل له: ستصلب سينشغل باله بالقتل ومآله، فإذا حدّثهما عن الدعوة لم يكونا قد هيِّئا لهذا الأمر، فقال لهما: سأؤجل تعبير الرؤيا؛ لأنه يعلم ماذا في الرؤيا، وبدأ يدعوهما والذهن صافٍ وبعيد عن الشواغل، وهذا أسلوب رائع من يوسف _عليه السلام_ وفيه دروس أهمها:
أن الداعية لا يحول بينه وبين تبليغ دعوته أي شيء ما دام على قيد الحياة، العالم الصادق لا يستطيع أحد على سطح الأرض أن يمنعه من تبليغ دعوته ما دامت عينه تطرف وقلبه ينبض ولسانه معه، وهكذا كان يوسف، فمع أنه سُجن غير أنه لم يترك الدعوة إلى الله _جل وعلا_ بل تستطيع إذا ابتليت –وأسأل الله أن يعفيك- أن تدعو إلى الله ولو مع السجان حتى لو حيل بينك وبين الناس وعزلت وحدك، فلا بد أن يأتيك السجان عند أكلك وشربك فتستطيع أن تدعوه.
والدعوة في السجن لها أساليب ووسائل عدة فقد لا تكون بالكلام بل بالخلق وبالمعاملة، فمن عامل الناس بأخلاقه لا بأخلاقهم، اطرد في حياته، وكان لفعله وقوله تأثير، وهناك خلل يقع فيه البعض حيث تتناقض أخلاقه تبعاً لأخلاق الناس، فلو لم يكن مع المسجون إلا أن يتعامل مع السجان بالخلق الصحيح لكان دعوة له كيف إذا أتيحت له الفرصة في الكلام معه ووعظه.
إن الوسائل تختلف، وكذلك الأساليب تتنوع وبعض الأساليب والوسائل أقوى من بعض حتى في السجن فلا عذر لأحد.
وإذا كان الأمر كذلك فما هو عذر هؤلاء الذين لا يبلغون رسالة الله وهم في بيوتهم ومع أهلهم ومع أزواجهم بحجج واهية هم يعرفون عدم صدقها أكثر من غيرهم "بَلِ الْإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ" (القيامة:15).
في صحيح البخاري أن شاباً جاء يعود عمر _رضي الله عنه_ في مرض موته بعد أن طعن، فأثنى عليه خيراً ثم انصرف، فلما أدبر رأى عمر إزاره يمس الأرض، فقال: ردوه علي، ثم قال له: ابن أخي! ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك.
فانظر إلى الخليفة الراشد _رضوان الله عليه_ على أي حال وفي أي وقت يحرص على الدعوة؟ وفي مسألة قد يراها بعض من ينتسب إلى الطيبين اليوم ثانوية!!
أخا الإسلام إن الناس لن يحاسبوك ولكن سيحاسبك الله _جل وعلا_ وهو يعلم هل أنت معذور أو لا فإذا كان يوسف وهو في السجن يبلغ رسالة ربه ومثله فعل عدد من العلماء والمصلحين على مدار التاريخ، فما هي حجتك؟ لماذا لم تُقِم الدعوة بين أهلك وبنيك وأمك وأبيك وأختك وأخيك؟ إن الأقربين أولى بالمعروف.
إننا لم نسمع بنبي جاء بدعوة التوحيد فهيئ له قومه اللاقطات والمنابر وحشدوا له الجموع والطلاب من أجل الاستفادة من علمه بل قال الله _تعالى_: "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلاّ قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون".(/1)
إن الصادق يبلّغ رسالات ربه على أي حال، وفي أي وضع في السجن وفي خارج السجن، بالعبارة المسموعة وبالمقالة المقروءة وبالإشارة المرئية، بل بالسكوت حيث يحسن السكوت وبالمعاملة الطيبة، ولن يملك مخلوق أن يحجر على الناس الدعوة إلاّ في نطاق ضيق مخصوص، فالعاقل من نظر ببصره إلى ميادين الدعوة الأخرى الرحيبة الفسيحة، وأعمل فكره كيف يبلغ رسالات الله فيها واضعاً نصب عينيه قول الله _تعالى_: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن وسبحان الله وما أنا من المشركين".
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحابته ومن اتبع أثرهم إلى يوم الدين.(/2)
الدعوة
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الكريم :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اعلم - يا رعاك الله - أن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى من أجل الأفعال، وأعظم الأعمال التي يؤديها المسلم في دنياه ، و يحتسبها لأخرته ، ويضعها في ميزان حسناته ، بل هي من الهموم التي تقعده وتقيمه ، ويفكر فيها ليل نهار ، يبحث عن نوافذ للأمل ، ومخرج من الضيق ، فالدعاة إلى الله يقومون بمهمة بالغة الشأن ، عظيمة الأهمية ، لا يعلم قدرها إلا من تعلق قلبه بها ، وجعلها محور حياته ، كيف لا وهي مهمة الأنبياء والمرسلين ، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم من المصلحين [ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ] ( يوسف 108)
فالدعاة إلى الله هم الشموع ، التي تحترق لتضيء للناس طريق الهدى والحق الضياء ، وهم وعي الأمة المستنير و فكر الأمة الحر ، وهم قلب الأمة النابض ، وأطباء القلوب المريضة ، والنفوس الجريحة ، بل هم قادة سفينة النجاة في وسط الرياح الهوجاء ، والأمواج المتلاطمة . فالدعاة إلى الله لا يعيشون لأنفسهم ، ولا لملذاتهم ، ولا لشهواتهم ، لأن الذي يعيش لنفسه ، يعيش صغيراً ، ويموت صغيراً ] قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) [ الأنعام 162)
أما الدعاة الصادقون المخلصون ، فإنهم يعيشون لدعوتهم ، لأمتهم ، لمجتمعهم ، فدعوتهم همهم بالليل والنهار وهي فكرهم في النوم واليقظة ، و شغلهم الشاغل في السر والعلن ، يؤثرون من أجلها التعب والنصب ، ويضحون في سبيلها بالوقت والجهد والمال ، بل وبالمهج والأرواح ، ويستعذبون في سبيل نشرها وإبلاغها ، البلاء الشديد والعذاب الأليم .
مناي من الدنيا علوم أبثها وأنشرها في كل باد وحاضر
دعاء إلى القرآن والسنن التي تناسى رجال ذكرها في المحاضر
قال تعالى : [ ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ] ( فصلت 33)
أخي الكريم : إن من يحمل رسالة الأنبياء ، عليه أن يتحرى سلامة المنهج ، وحسن السير على الطريق ، فيتأمل الماضي القريب ، ويعيش المستقبل المأمول ، ويساير الواقع الحاضر بحكمة وروية ، يرى سير الدعوة بين قوتها وضعفها ، بين مدها وجزرها ، وما تموج به الساحة من الآراء ، والمنازع ، ومن الخلل الذي قد يأتي من الجمود على مفاهيم خاطئة ، وعدم المراجعة بين كل فترة وأخرى ، أو من ضعف شبكة العلاقات الاجتماعية ، الناتج عن ضعف التربية ، وقلة الفقه بخفايا النفس البشرية ، أو من الغفلة عن أصحاب المطامع والأهواء .
أيها الأحباب الكرام : لقد كاد معين الدعاة الصادقين في كثير من البلاد ينضب ، فشاعت نتيجة لذلك المنكرات وكثرت الجرائم ، وتجرأ الكثير من الناس على المجاهرة بها في وضح النهار ، وعم الجهل وفشا ، وغُزي المسلمون في عقر دارهم بجحافل من المضللين والمشككين والمفسدين . فتعين علينا حمل الرسالة ، وأداء الأمانة ، والنصح للأمة ، والمساهمة في كشف الغمة ، لندخل بذلك تحت (فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي ) رواه الترمذي .
أيها الأخ الحبيب : والدعوة إلى الله عز وجل التي أهملها المسلمون اليوم ، فريضة حملها رسل الله عليهم الصلاة والسلام ، كما حملها أتباعهم الصادقون ، الذين اقتفوا آثرهم من بعدهم ، واقتدوا بهم في منهجهم ، وسلكوا سبيلهم ، ولم يقعد بهم عن السير في هذا السبيل ما يعرفونه من المخاطر والمكاره التي تحيط بهم ، ولكنه الواجب الذي لا خيار فيه ، وصدق الإيمان الذي يهون معه كل بلاء ، والأمانة التي حملوها من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحملوا تبعاتها ، وأصبحوا مسؤولين عنها أمام الله عز وجل ، وهي بلا شك مسؤولية لها ضخامتها وجسامتها . [ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ] (الأحزاب 72)
والدعوة إلى الله عز وجل التي نعنيها ، والتي يجب على المسلمين القيام بها ، أفراداً وجماعات هي الشاملة لـ:
1. تأسيس مجتمع إسلامي ، كدعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، التي كانت تبدأ - في المجتمع الجاهلي - من دعوة الناس إلى دين الله سبحانه ، وتبليغهم وحيه ، وتحذيرهم من الإشراك به .
2. دعوة الإصلاح في المجتمعات المسلمة ، التي أصيبت بشيء من الانحراف ، وظهر فيها بعض المنكرات ، وضيعت فيها بعض الواجبات .
3. استمرار الدعوة في المجتمعات القائمة بالحق ، للحفاظ على سلامتها ، بالموعظة الدائمة ، والتذكير المستمر ، والتربية والتعليم .(/1)
أخي الكريم : اعلم أن الناس متباينون في طبائعهم ، مختلفون في مداركهم ، في العلم والفهم ، في الأمزجة والمشاعر ، مختلفون في الميول والاتجاهات ، مما يدعو رجل العلم والدعوة إلى تخير المدخل … بل المداخل المناسبة لتلك النفوس المختلفة ، والعقول المتباينة .
نعم ، إن فيهم الغضوب والهادئ ، وفيهم المثقف والأمي ، وفيهم الوجيه ومن هو دونه ، فعلى الداعية الحصيف أن يراعي هذه الفروقات فينزل الناس منازلهم ، ويخاطب الناس بما يعقلون ، بل إن ثمت كلمة رائعة لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، يصف فيها القلوب ، كل القلوب بأنها وحشية تحتاج إلى تأليف وترويض فيقول: القلوب وحشية فمن تألفها أقبلت عليه وصاحب الترويض الناجح هو الذي يحرص على تلمس الجانب الطيب في نفوس الناس ، ويقصد في شيء من العطف على أخطائهم وغفلاتهم ، مقروناً ذلك ببعض العناية بهمومهم واهتماماتهم ، وسوف يصل إلى مصدر النبع الخير في نفوسهم ، وحينئذ يمنحونه حبهم وثقتهم ، فـ" لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم" ( رواه البخاري )
أيها الأخ المبارك : قبل أن أودعك أحب أن أذكرك بمسألة مهمة ، وهي أن الكثير من الناس يظن أن الداعية لا يأمر إلا بالمعروف الذي يفعله ، ولا ينهى إلا عن المنكر الذي يجتنبه ، وهذا غلط بين ، بل الصحيح الذي دلت عليه نصوص لكتاب والسنة ، أن الإنسان يجب عليه أن يأمر بالمعروف ويدعوا إليه ، ولو كان مقصراً فيه ، وأن ينهى عن المنكر ويحذر منه ولو كان واقعاً فيه .
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب *** فمن يعظ العاصين بعد محمد
أخي العزيز : اعلم _ يا رعاك الله - إننا جميعاً دعاة إلى الله سبحانه وتعالى ، كل بحسبه ، وقدرته ، كل بطاقته ، وإمكاناته ، وقد أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته معه بالدعوة إلى سبيله بالحكمة ، ومراعاة أحوال المدعوين ، ووعظهم بالتي هي أحسن ، وإن احتاجت الدعوة إلى مناظرة علمية ، أو مناقشة جدلية، أو خصومة فكرية، فعليه أن يناقش بهدوء، ويجادل بالحسنى ،فلا يغضب، ولا يتعجل، حتى يكسب الخصم ، حيث يقول سبحانه وتعالى [ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ] ( النحل 122 )
لفضيلة الشيخ / إبراهيم الفارس(/2)
الدفاع المشروع بين الشريعة والقانون الدولي العام
قاسم خضير عباس(*)
يطلق الدفاع المشروع على كل قوة لإزالة ضرر ودفع خطر عن النفس أو المال أو العرض، لهذا فهو سلطة وقائية يكون بموجبها للشخص (فعل ما يلزم شرعاً، لدفع خطر حقيقي غير مشروع، حال على حق معصوم)(1).
وقد أوضح عبد القادر عودة في كتابه (التشريع الجنائي الإسلامي) معنى الدفاع المشروع فقال: (الدفاع الشرعي: هو واجب الإنسان في حماية نفسه أو نفس غيره، وحقه في حماية ماله أو مال غيره، من كل اعتداء حال غير مشروع بالقوة اللازمة لدفع هذا الاعتداء)(2).
علماً أن علاء الدين المروادي ذكر في (الإنصاف) أن: (الحنابلة لا يرون الدفاع عن النفس واجباً إلا في حالة الفتنة، ومنهم من يوجب الدفاع عن المال إذا تعلق به حق الغير)(3).
والمعروف أن بعض الفقهاء قد توسعوا في موضوع الدفاع الشرعي، حيث جعلوه موضوعاً عاماً شاملاً يستوعب الدفاع عن دار الإسلام من خطر الأعداء، فيما رأى آخرون أن الدفاع الشرعي والعنف المشروع هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(5).
وهكذا فإن الفقهاء المسلمين قد أجمعوا على حق الدفاع الشرعي ، لدفع الخطر غير المشروع عن الأعراض أو المال أو النفس، لكنهم اختلفوا في اللفظ الدال على هذا الحق، وفي تكييف الخطر المنصب على هذا الحق. فمنهم من جعله خطراً محرماً أو عدواناً أو ظلماً(6)، فيما قال آخرون عن هذا الخطر بأنه: (من أريدت نفسه وحرمته أو ماله)(7)، وذهب غيرهم إلى لفظ آخر وهو الصيال فقالوا: (للمرء قتل ما صال عليه، من آدمي أو بهيمة ولم يندفع إلا بالقتل إجماعاً)(8).
لهذا فإن الشيعة الإمامية أباحوا الدفاع الشرعي، وأوجبوا مسؤولية المعتدي الجنائية والمدنية عن الأضرار التي يصيب بها المدافع(9). وقد استدلوا بأحاديث منها الحديث النبوي: (من قتل دون ماله فهو شهيد)، والحديث المروي عن الإمام الصادق(ع): (أيما رجل عدى على رجل ليضربه فدفعه عن نفسه فجرحه أو قتله فلا شئ عليه). أما الحنفية فقالوا: (ومن قتل دون ماله فهو شهيد)(10)، وقالوا أيضاً: (دم المدفوع هدر ولا شئ بقتله لدليل قوله(ص): (من شهر على المسلمين سيفاً فقد أبطل دمه لأنه باغٍ)(11). كما أن الحنابلة قالوا: (دم المدفوع هدر، وهو إلى النار)(12)، لقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)(13). وقال الشافعية: (إن الصائل يجوز دفعه) (14). وقال الزيدية: (وللمرء قتل ما صال عليه)(15). وقال المالكية: (جاز دفعه بالقتل وغيره)(16). وقال الظاهرية قوله(ص): (من قتل دون ماله فهو شهيد) عموم لم يخص معه سلطاناً من غيره. ولا فرق في قرآن ولا حديث ولا إجماع ولا قياس بين من أريد ماله أو أريد دمه أو أريد فرج امرأته أو أريد ذلك من جميع المسلمين)(17).
ومن المفيد ذكره في هذا الصدد.. أن فقهاء القانون الوضعي أجازوا الدفاع الشرعي، ووضعوا التكييف القانوني له فقالوا بأن: (آثار الإباحة هو أن يخرج الفعل من نطاق نص التجريم فيصير مشروعاً وينتفي الركن الشرعي للجريمة)(18). وقد نص قانون العقوبات العراقي في المادة 42 على أنه: (لا جريمة إذا دفع الفعل استعمالاً لحق الدفاع الشرعي).
ونص القانون السوري سنة 1949 على المعنى نفسه في المادة 183.
علماً أن الدفاع المشروع نراه موجوداً في أغلب القوانين والتشريعات القديمة والحديثة، لكنه يختلف فيها من حيث تكييفه وشروطه وحدوده(19). لهذا يذهب الدكتور حمودي الجاسم في كتابه (التعديلات الواجب إدخالها في قانون العقوبات العراقي) إلى أن: (التشريعات الوضعية توسعت في الدفاع الشرعي فشملت الأشخاص والأموال معاً). علماً أن الغرب أخذ بنظرية الدفاع الشرعي (كالقانون الإيطالي الحديث المادة 52، وقانون الدانمارك سنة 1930 المادة 13، وقانون بولونيا سنة 1932المادة 21، وقانون ليتوانيا سنة 1933 المادة 44، وقانون سويسرا سنة 1937 المادة33، ومشروع القانون الفرنسي الحديث المادة 113 و114)(20).
وهكذا نعرف أن الدفاع الشرعي له تكييفه القانوني في الشريعة الإسلامية قبل القوانين الوضعية بأكثر من 1400 سنة، مما يدل على عظمة الإسلام وسمو قواعده القانونية. خصوصاً وأن بعض الفقهاء - كما قلنا سابقاً - يتوسعون فيه ليشمل الدفاع عن الإسلام والمسلمين ودفع الأخطار الخارجية وفق قواعد القانون الدولي الإسلامي الأخلاقية.
لهذا فإن الموضوعية تحتم علينا أن نتناول الدفاع الشرعي في القانون الدولي العام ، وفق منهجية علمية تستقرئ وتقارن بين القواعد القانونية الموجودة في القانون الدولي الإسلامي وغيره من القواعد الدولية.
تحديد القواعد القانونية الدولية الوضعية
تُعرف القوانين بأنها (القواعد المجردة التي تحكم سلوك الأمة أو داخل مجتمع ما وفقاً لضوابط معينة ارتضاها الناس، والتي تقترن بجزاء توقعه السلطة المختصة في حالة الخروج على هذه القواعد)(21).(/1)
ويطلق تسمية قانون - مفرد قوانين - لغة على (الشرائع والنظم التي تنظم علاقات المجتمع سواء كان من جهة الأشخاص أو من جهة الأموال. والقوانين كثيرة أهمها:
القانون الأساسي أو الدستوري، القانون التجاري، القانون الجزائي، قانون العرف والعادة، القانون المدني)(22). لذا فإن القانون يطلق عادة على كل (قاعدة مطردة تفيد الاستمرار في تطبيق حكم معين وفقاً لنظام ثابت)(23).
أما تسمية الدولي فترجع نسبتها إلى الدول ، والدولي (هو العالمي)(24). وعليه فإن (القانون الدولي العام) هو (مجموعة القواعد التي تنظم العلاقات بين الدول وتحدد حقوق كل منها وواجباتها)(25). ويذهب (شتروب)(26) إلى وصف (القانون الدولي العام) بأنه (مجموعة القواعد القانونية، التي تتضمن حقوق الدول وواجباتها وحقوق وواجبات غيرها من أشخاص القانون الدولي). في حين يذهب (شارل روسو) إلى أن (القانون الدولي العام) هو (ذلك الفرع من القانون الذي يحكم الدول في علاقاتها المتبادلة)(27).
ومن المعروف أن تسمية (القانون الدولي العام) ترجع إلى الفيلسوف الإنجليزي (بنتام)، فقد أطلق على مجموعة القواعد التي تحكم علاقات الدول اسم (International law) . ولكن بعض الفقهاء يذهبون إلى وصف (القانون الدولي العام) بأنه (قانون الشعوب والأمم)، لأن تسمية (القانون الدولي) مشتقة من كلمة (nations) أي الأمم. وقد استعمل هذه التسمية كثير من الكتاب المتقدمين أمثال (دي ماتنز)، و(كلوبر)، و(فاتيل) وغيرهم، ويتجه الاتجاه نفسه (جورج سيل)(28). بلحاظ أن الألمان يأخذون بتسمية (قانون الشعوب) على اعتبار أنها الأصح. ويمكن الإطلاع على تسميات أخرى استعملها بعض الكتاب والفقهاء للدلالة على القانون الدولي، حيث سماه المحامي الهولندي (جروسيوس) (قانون الحرب والسلم)، وسماه (بسكال فيور) (قانون الجنس البشري)، وسماه (ميجل) (القانون السياسي الخارجي) إلى غيرها من الأسماء..
ويرى (روسو) أن أدق تسمية للقانون الدولي العام - باعتباره ينظم العلاقات بين الدول - هي (قانون الشعوب)، لكنه مع ذلك لا يجد حرجاً من استعمال تسمية (القانون الدولي)، لأنها استقرت فقهاً وعملاً وأصبحت لها صفة تقليدية(29).
ويعلق الدكتور أبو هيف على ذلك معتبراً التسمية العربية للقانون الدولي تتفق مع وجهة نظر (شارل روسو)، لأن القواعد القانونية الدولية (تنظم العلاقات بين الأمم والشعوب، التي لا يكون لها كيان قانوني إلا من خلال الدول التي تتبعها)(30).
ومن المعروف أن الشريعة الإسلامية قد اهتمت بشؤون الدول، وبينت حقوقها وواجباتها المختلفة، وكذلك أوجبت القواعد الإسلامية الدولية (على المسلمين الالتزام بها قي معاملة المسلمين وغير المسلمين، محاربين أو مسالمين، سواء أكانوا أشخاصاً أو دولاً، في دار الإسلام أو في خارجها)(31).
وقد احتوت رسائل الفقه الإسلامي أحكاماً وفتاوى عن المرتدين والبغاة وقطاع الطرق، كما أوضحت كتب السير بالتفصيل أيضاً معاملة المسلمين لغيرهم. لهذا يمكن القول أن فقهاء الإسلام قد وضعوا أسس القانون الدولي الإسلامي لتنظيم العلاقات بين الدول(32).
الطبيعة القانونية للقواعد الدولية
الجدير ذكره في هذا الصدد أن القواعد الدولية الإسلامية لا تثير أي تساؤلات حول طبيعتها القانونية، في حين أن قواعد ( القانون الدولي العام) يشوبها بعض الشكوك حول طبيعتها هل هي قواعد أخلاقية أو هي قواعد قانونية بالمعنى المتعارف عليه ؟! فقد ذهب البعض إلى الشك في صفتها القانونية، لعدم وجود مشرع وسلطة قضائية تنفيذية، وعدم وجود جزاء يترتب على مخالفتها(33).
وأتصور أن ذلك لا ينفي صفة القانون عن القواعد الدولية، خصوصاً وأن الرأي الفقهي القانوني السائد قد أقرّ دون تردد الصفة القانونية لها، بلحاظ أن بعض القوانين الداخلية استقرت وأصبحت ملزمة دون وجود مشرع لها كالقانون الإنجليزي. أما عدم وجود سلطة قضائية لتنفيذ القانون الدولي فهي مسألة مبالغ فيها كثيراً، وعلى فرض صحة ذلك فإنه لا ينفي عن القواعد الدولية صفة القانون، لأن القاعدة القانونية موجودة أصلاً قبل تدخل القضاء لتنفيذها، فالقاضي (لا يخلق القانون بل يطبق القانون الموجود)، والشيء نفسه يسري على الجزاء.. فعلى الرغم من أنه يحفظ القواعد القانونية إلا أنه لا ينفي صفة القانون عنها، فهي موجودة (وإن لم يصحبها جزاء)(34).
وهكذا نعرف أن عدم وجود مشرع، وقضاء دولي، وجزاء لا ينفي الصفة القانونية عن القواعد الدولية، علماً أن (التشريع ليس هو المصدر الوحيد للقانون، فقد عرفت المجتمعات المختلفة قواعد القانون قبل التشريع وكانت ولا تزال تتلقى جانباً منها من العرف ومن القضاء. بل إن للعرف دوراً خطيراً في نطاق القانون الدستوري والقانون التجاري.. وعليه فما يصدق على القانون الداخلي يصدق على القانون الدولي)(35).(/2)
ولكن مع ذلك فإن القوانين الدولية تختلف عن القوانين الداخلية في كونها تنشأ عن طريق التراضي بين الدول، (غير أن هذا الاختلاف ظاهري واختلاف درجة لا اختلاف أصل)(36). خصوصاً وأن العالم بدأ يشعر بحاجته للقواعد الدولية ، وحاجته للمنظمات الدولية، (بسبب تزايد إيمان الدول بأهمية التضامن بينها لأجل أمن وتعاون دولي في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية)(37). وقد بدأ منذ أكثر من خمسين عاماً عقل جمعي دولي لإقرار قواعد (القانون الدولي العام)، التي تحث الدول على نبذ الحرب ، والالتجاء إلى الطرق السلمية لفض المنازعات، والحفاظ على السلم والأمن الدوليين(38)، مع إقرار حق الدول في الدفاع الشرعي لرد العدوان، واستعمال العنف كوسيلة لدفع الخطر إذا لم تنجح الوسائل السلمية لحل النزاعات بين الدول.
وللأمانة والموضوعية نقول: إن نظام الأمن الذي اقترحته عصبة الأمم، وكذلك هيئة الأمم المتحدة، لم يكن موفقاً لا نظرياً ولا عملياً في تحريم الالتجاء إلى القوة المسلحة غير المشروعة ، أو في وضع قواعد جديدة تلزم الدول بالتزاماتها وتعهداتها(39). ومن الملاحظ أن هيئة الأمم المتحدة قد وضعت مبدأ عدم تدخلها في الأعمال التي تكون في صميم السلطان الداخلي للدول، إلا في حالة تطبيق تدابير القمع إذا اقتضى الأمر تطبيقها(40) وهذا المبدأ استغلته الولايات المتحدة الأميركية - بعد انحلال الاتحاد السوفيتي السابق- للتدخل في شؤون الدول المعارضة لها(41).
وأرى من خلال ذلك أن الدول الكبرى قد استغلت عيوب القانون الدولي العام، واستعملت الدفاع الشرعي بصورة سيئة، لكي تتدخل في شؤون الدول الأخرى، وتتوسع في تفسير معنى العدوان، وتتذرع بأوهى الأسباب للتدخل في صميم السلطان الداخلي للدول من أجل حماية مصالحها الاقتصادية، وفتح الأسواق العالمية أمام تجاراتها(42).
وعليه لابدّ أن تنصب الجهود الدولية للحد من سلطان الدول الكبرى، وتقييد لجوئها إلى القوة المسلحة قبال دول العالم الثالث، وتحديد مبدأ الدفاع الشرعي بصورة واضحة لردع الدول التي تتذرع به للعدوان على الدول الأخرى.
وفي هذا المجال يعتقد الدكتور أبو هيف أن الحرب والقوة في التعامل الدولي لا زالت (في نظر الكثيرين من رجال السياسة عملاً مشروعاً دائماً من حق الدولة أن تأتيه كلما كانت مصلحتها تقتضي ذلك، ويذهب البعض منهم إلى حد القول بأن الحرب هي أصلح أداة تتوسل بها الدولة لتنفيذ سياستها القومية وتحقيق أغراضها)(43).
ويضيف أبو هيف بأنه: (لم يجرؤ واضعوا عهد عصبة الأمم على النص على تحريم الحرب إطلاقاً في عبارة صريحة قاطعة.. ويلاحظ أن ميثاق الأمم المتحدة لم يفرق في التحريم بين الحرب العدوانية وغيرها)(44).
والمعروف أن ميثاق الأمم المتحدة قد استثنى حالة واحدة تكون فيها الحرب مشروعة، وهي حالة الاضطرار دفعاً لاعتداء، أو كما يقول فقهاء الشريعة الإسلامية: الدفاع الشرعي(45).
ولكن في هذا المجال نقول أن القانون الدولي العام فشل في الحد من الحروب بسبب مصالح الدول، (فالمعيار السياسي قد يتناقض مع المعيار القانوني في حكم استخدام القوة في العلاقات الدولية، فتارة يلتقيان وأخرى يفترقان، وهذا هو سبب التعامل الدولي بالكيل بمكيالين في العلاقات الدولية وازدواجية لغتها السياسية والقانونية)(46).
وبصورة عامة يمكن القول أن عيوب القانون الدولي العام قد استغلّت من قبل بعض الدول للاعتداء على الغير، وزيادة مصالحها وإن كانت غير مشروعة، خصوصاً وأن تياراً كبيراً في الغرب يرى أن المصلحة هي الحق، الذي لابد للقانون أن يتكفل بحمايته(47). ولذا ظهر مصطلح (المصالح الحيوية)، الذي استخدمته ألمانيا النازية لتبرير احتلالها لأراضي الدول المجاورة لها. وقد حاول الفقهاء الألمان (أن يجدوا مبرراً لاتساع دولتهم على حساب جيرانها من الدول الصغيرة، فابتدعوا نظرية المجال الحيوي)(48).
والمعروف أن الفقه الألماني اخذ بنظرية أخرى تدعى (نظرية الضرورة) لتبرير احتلال الدول المجاورة ، وقد طبقها الألمان أثناء الحرب العالمية الأولى، (فاقتحمت جيوشهم دولتي بلجيكا ولكسمبورج المحايدتين على زعم أن سلامة ألمانيا كانت تقتضي احتلالهما عسكرياً، ونشر أحد فقهائهم المعروفين في نفس الوقت كتاباً بعنوان (حق الضرورة) برَّر فيه مسلك دولته ودافع عنه، كذلك شهدت الحرب العالمية الثانية مزيداً من الاعتداءات الألمانية أيضاً باسم الضرورة عندما اكتسحت القوات النازية سنة 1940 الدانمارك والنرويج ثم هولندا وبلجيكا، ولم تكن أي من هذه الدول الأربعة طرفاً في الحرب.. إن القول بوجود حق كهذا معناه هدم قواعد القانون الدولي العام بإيجاد سبب ذي مظهر قانوني تستند إليه الدول لخرق هذه القواعد وتبرير كل ما يقع منها من اعتداءات)(49).(/3)
في الاتجاه نفسه طرحت إسرائيل مصالحها - التي أسمتها حيوية واستراتيجية - وفقاً لشعار (حماية الأمن الإسرائيلي) من أجل التوسع واحتلال الأراضي العربية. وقد عارض الفقيه الأميركي (كونس رايت) هذا التوجه، لأنه يتناقض مع قواعد القانون الدولي العام. ولم تجد إسرائيل أمام الانتقادات الدولية الواسعة لإجراءاتها العدوانية غير التمسك بنظرية (التقادم المكتسب)، لتبرير احتلالها للأراضي العربية. ولكن هذه النظرية لايمكن تطبيقها والاحتجاج بها إلا في حالة التقادم لمدة طويلة مع عدم وجود منازع، بلحاظ أن الدول العربية لم تعترف بحدود إسرائيل، ولم تقبل الهدنة معها منذ احتلال عام 1948م. لذا فإن الإجراءات العدوانية الإسرائيلية تعتبر باطلة قانونياً، مع (انتفاء الأساس القانوني للحجج التي استندت إليها الحكومة الإسرائيلية والمدافعون عن موقفها لضم أراض جديدة)(50).
والمعروف أن المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة أجازت للدول حق الدفاع الشرعي واستعمال القوة لردّ العدوان، وذلك يتشابه مع الدفاع الشرعي الذي أقرّه القانون الدولي الإسلامي، والفرق بينهما هو استناد القواعد الإسلامية الدولية إلى أسس أخلاقية لا تجيز التعسف في استعمال الحق، وهذا غير متوفر في العلاقات الدولية، مما دعا الدول الغربية الكبرى إلى استعمال القوة المسلحة خارجياً لمعاقبة الدول المعارضة لها، وتثبيت وجودها غير المشروع في منطقة الخليج بحجة حماية مصالحها القومية، التي تسميها (مصالح استراتيجية). وقد توافق كل ذلك مع اتهام أي جهد معارض بأنه يندرج تحت قائمة الإرهاب!!. وأعتقد أن ذلك كان السبب في تشويه الحضارة الإسلامية في الغرب، حيث سعى (برنارد لويس) بخبث لتشويه التصورات الإسلامية حول (الثورة والنهوض) واتهام المسلمين بالإرهاب، وذلك في مقال كتبه للتهجم على الإسلام، واستخراج اشتقاقات مضحكة لكلمة ثورة من اللغة العربية، حيث ادّعى أن: لفظة ثورة (ترمز وتشير) عند العرب والمسلمين إلى (الثور والهيجان غير المنطقي والغير واقعي، والهمجي اللامنضبط)!!.
أما (النهوض الإسلامي) فعند (برنارد لويس) مشتق من (نهوض الجمل)!! وهو إيحاء مقصود ندركه نحن المقيمين في الغرب، وندرك أبعاده للنيل من العرب والمسلمين، ونعتهم بالجهل والتخلف.
ويذكر إدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق) سبب عداء (برنارد لويس) للإسلام وللعرب، فهو في كل بحوثه يتعجب ويتساءل بقوله:
(لماذا ما يزال المسلمون يرفضون أن يهدأوا ويقبلوا ملك إسرائيل على الشرق الأدنى)(51).
فهذا هو السبب الحقيقي، إضافة إلى الأسباب الحضارية الأخرى، وراء اندفاع بعض المثقفين الغربيين للهجوم على المسلمين، واتهامهم بالإرهاب، من أجل توسيع حجم المصالح الغربية اللامشروعة في منطقة الشرق الأوسط، والدفاع عن العدو الصهيوني وتأييد توجهاته العنصرية واحتلاله لفلسطين.
لقد شنّ هؤلاء (المثقفون الغربيون) هجوماً عنيفاً على العرب، واللغة العربية، لاتهام المسلمين بأشنع الأوصاف، والتأكيد على أنهم لا يفهمون من معنى الثورة غير هيجان الثور لأنهم إرهابيون!!.
في حين أن هناك مصطلحات عربية وإسلامية، كالفتنة، والملحمة، والخروج، والنهضة، جاءت لتعطي نفس المعنى السياسي الحديث لمصطلح الثورة. ويعلّق الدكتور محمد عمارة في كتابه (مسلمون ثوار) على هذا الموضوع بقوله:
(إنّ كلمة الفتنة استخدمت قديماً بمعنى الاختلاف والصراع حول الآراء والأفكار، وقيام الأحزاب والتيارات الفكرية المتصارعة، واستخدمت بمعنى (الثورة)، أي الوثوب ووقوع الابتلاء والامتحان.. وكلمة الملحمة كانت تعني - ضمن ما تعني - التلاحم في الصراع والقتال في (الفتنة) (الثورة).. وكانت تعني أيضاً الإصلاح العميق الذي يشمل الأمة ويعمّها.. كما استخدمت - قديماً كذلك - لهذا المعنى كلمة (الخروج)، فقيل (خرج) على السلطان بمعنى (ثار)، ضده ووثب عليه... وإلى عصر قريب كانت كلمة (النهضة) تستخدم بمعنى (الثورة)، لأن (النهوض) يعني (الوثوب) و(الانقضاض)... ولقد استخدمها هذا الاستخدام جمال الدين الأفغاني، وكذلك سعد زغلول سنة 1919م)(52).
ضرورة وجود الفقه الدولي الإسلامي وإقرار مبدأ الدفاع الشرعي:(/4)
إن تداخل العالم مع بعضه في علاقات متبادلة يقتضي وقفة جادة ومسؤولة من علماء المسلمين، لإيجاد فقه دولي يهتم بعلاقات الدول الإسلامية مع غيرها من الدول، وتقنين ذلك الفقه وفق المذاهب الإسلامية المتعددة، بحيث يفرز مساحة واسعة لحق الشعوب في تقرير مصيرها واستعمال القوة والعنف المشروع للدفاع عن المقدسات، وكذلك حق الإنسان للتحرر من العبودية والقهر والاستغلال، وإقرار السلم والأمن الدوليين بصورة واقعية حقيقية.. وهذه كلها غايات سعت إليها هيئة الأمم المتحدة ولم توفق في تحقيقها، بسبب مصالح الدول ونظرتها القومية الضيقة، التي حالت دون نشوء علاقات دولية أخلاقية متساوية ومتوازنة، مما أدى إلى التوسع في استعمال العنف غير الشرعي في العلاقات الدولية.
وأعتقد أن ظهور الفقه الدولي الإسلامي وتقنينه ليس عملاً مستحيلاً إذا سعت الدول الإسلامية إلى تنظيم علاقاتها، وعقد معاهداتها، وإرساء عرفها الدولي على أسس اجتهادية معاصرة، إضافة إلى إنشاء مجمعات تهتم بالقانون الدولي الإسلامي، وتقنين قواعده القانونية، التي من شأنها التأثير بالعلاقات الدولية، و بالقانون الدولي العام، وتطويره وتلافي عيوبه من خلال المشاركة الفاعلة في إصلاح النظام القانوني الدولي، على غرار إصلاح النظام القانوني الداخلي للدول، علماً أن القواعد الدولية لا تزال إلى اليوم في حالة عدم ثبات، وفي تطور دائم ومناقشة وشك(53).
مشروعية اللجوء إلى تحكيم غير المسلمين
يمكن أن يثار في هذا الموضوع تساؤل حول شرعية قبول المسلمين بأحكام القضاة الدوليين غير المسلمين، أو الالتجاء إلى القضاء الدولي في محكمة العدل الدولية لحل النزاعات بين دول إسلامية وغيرها من الدول، خصوصاً وأن الشريعة الإسلامية لا تجيز تحكيم غير المسلمين في فض النزاعات وفقاً للآية الكريمة (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) (54).
وعليه لا ولاية للكافر على المسلم، وكل (ما يؤدي إلى مهانة المسلم، أو جماعة المسلمين، أو الأمة الإسلامية، أو يدخل وهناً على الإسلام، بأي وجه من الوجوه، فإن ارتكابه في حال الاختيار، من أعظم المحرمات الدينية، وأشد المنكرات الشرعية)(55).
لذا فإن القاعدة العامة هي عدم جواز التحكيم عند غير المسلمين(56). وعند الضرورة يمكن للفقهاء المسلمين أن يجيزوا التحكيم الدولي غير المسلم بالعناوين الثانوية إذا توقف تحصيل الحق به وفقاً لقاعدة دفع الضرر(57).
وقد ذهب فقهاء المالكية إلى تحكيم غير المسلمين(58) لإنهاء الحرب، لكنهم قيدوا ذلك بقيد الخوف من الأعداء فقالوا: (يجوز عقد هدنة مع غير المسلمين على أن يحكموا بين مسلم وكافر إذا كان هناك خوف منهم).
بلحاظ أن إيران وافقت على تدخل الأمم المتحدة لحل نزاعها وحربها مع العراق ، وقبلت مصر اللجوء إلى لجنة التحكيم الدولية بخصوص طابا بينها وبين إسرائيل، وقبلت البحرين التحكيم الدولي بشأن نزاعها مع قطر حول بعض الجزر في الخليج.
ترابط أحكام الشريعة الإسلامية
الذي أريد قوله وباختصار شديد.. هو ترابط أحكام الشريعة وانسجامها وتداخلها وتنظيمها لكل أنشطة المجتمع المسلم، وعليه فإن من الضروري تصدي الفقهاء لتطبيق القواعد الإسلامية العامة الثابتة ، واستنباط الأحكام الشرعية لاستيعاب تطور العصر وتقدمه. ويدخل القانون الدولي الإسلامي ضمن ذلك لأنه (لا فرق في نظام الإسلام بين الأمور الدينية أو الأمور التشريعية، فكلها ذات صفة إلزامية لامناص منها، وكلها واجبة التنفيذ)(59).
وهكذا فإن الإسلام يعتبر ديناً له نظامه السياسي المحكم، ونظامه الاجتماعي الكامل، بحيث لا تنحصر تعاليمه بعلاقات الإنسان بربه فقط، بل يمتد ذلك إلى تكوين المجتمع المثالي، الذي يتوسل إلى تحقيق أهدافه بتوفير العنصر الأخلاقي في نفس الإنسان(60).
وقد امتدّ العنصر الأخلاقي إلى كل جوانب الحياة، فشمل علاقات المسلمين بغيرهم، فكان بدء تاريخ وجود المسلمين كأمة، وبدء وجودهم الدولي (مقرراً بالهجرة حيث انتقل المسلمون من الموقف السلبي إلى الموقف الإيجابي بمواجهة الأعداء)(61). علماً أن المسلمين عند استعمالهم للقوة المشروعة كانوا مرتبطين بمبادئ أخلاقية، بحيث لم يتعسفوا في استعمال حقوقهم.
ونلاحظ أن الإسلام يمتلك قوى تحريك هائلة، حيث استطاع بنجاح في زمن الرسول(ص) والخلافة الراشدة أن ينقل أحكامه وقواعده العامة خارج دار الإسلام، مما أدى إلى نشوء القانون الدولي الإسلامي وتطور قواعده بعد ذلك.
كما أن الرسول (ص) كان يؤكد دائماً على أخلاقية القواعد الإسلامية ويقول: (اغزوا باسم الله وفي سبيل الله وقاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً).(/5)
لذا تصدّى فقهاء المسلمين لتنظيم العلاقات الدولية زمن الحرب، واستعمال العنف على أسس روحية أخلاقية. كما تصدوا إلى تنظيم القواعد الدولية الإسلامية وقت السلم (كالصلح والأمان وشروطهما والوفاء بالعهود وتبادل السفراء. غير أن الحرب كانت تأخذ مكان الصدارة بسبب الظروف التي أحاطت بالدولة الإسلامية وتربص الأعداء بها في الداخل والخارج)(62). ومع ذلك كانت علاقات المسلمين بغيرهم علاقات سلم وأمان، ولم يكن الجهاد عندهم إلا لرفع راية الإسلام، والحفاظ على إعلاء كلمة لا إله إلا الله(63).
وثيقة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) إلى مالك الأشتر
تعتبر وثيقة الإمام علي بن أبي طالب (ع) إلى مالك الأشتر النخعي، عندما ولاه مصر، من الوثائق السياسية والإدارية المهمة، التي تدل على اهتمام المسلمين بالمبادئ الأخلاقية عند تعاملهم مع الناس، كل الناس، مسلمين وغير مسلمين(64).
ويذهب الدكتور الزحيلي إلى أن جمهور الفقهاء قد تأثروا (بالحالة الواقعية التي سادت علاقات المسلمين بغيرهم في عصر الاجتهاد الفقهي في القرن الثاني الهجري.. فقرروا أن اصل العلاقات الخارجية مع غير المسلمين هي الحرب لا السلم، ما لم يطرأ ما يوجب السلم من إيمان أو أمان)(65).
ولكن التأثر بالحالة الواقعية للفقهاء لم يبعدهم عن مبادئهم الأخلاقية، فكانوا بحق مصداق الآية المباركة الكريمة: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) (66).
لهذا فإن الدولة الإسلامية زمن الرسول (ص) والخلافة الراشدة لم تشن حرباً هجومية على الدول المسيحية الغربية (على الصورة التي هاجمت بها الدول الأوروبية المسيحية الدولة الإسلامية في الحروب الصليبية، متذرعة حماية الأماكن المسيحية المقدسة، ثلاث قرون كاملة، ولم تدخل الدولة الإسلامية في حرب على أساس المبدأ المعروف بمبدأ توازن القوى ، وهو المبدأ الذي تأسست عليه علاقات الدول الأوروبية المسيحية ببعضها)(67).
الحاجة إلى مبادئ السماء
يظل الإنسان دائماً وفي كل مكان بحاجة إلى مبادئ السماء الموجودة في القرآن الكريم، والسنة النبوية لتحقيق السعادة والأمن والسلام في الأرض. علماً أن العلاقات الدولية التي سادت بين المسلمين وغيرهم في الماضي لا تختلف من حيث المضمون عن العلاقات الدولية الحالية، وإن اختلفت معها في الشكل والمظهر(68). فقد كان الرسول (ص) ومعه الصحابة(رض) يطبقون النصوص القرآنية بدقة، مما جعلهم يمتنعون عن مقاتلة من يلقي إليهم السلم، لأن الإسلام لا يجيز للمسلمين أن يعتدوا على أحد، لكنه لا يجيز لهم أيضاً أن يستسلموا باسم السلم والأمن لدولة غير إسلامية، ولا يجيز لهم استعمار دولة أخرى، (وليس للمسلمين أن يتدخلوا في شؤون الدول الأخرى المسالمة إلا لحماية الحريات العامة، وإغاثة المظلومين، ودفع الاعتداء عن المعتقدين بالإسلام، وذلك منعاً للفتنة في الدين.. الإسلام يحترم حق كل دولة في البقاء والسيادة، وفي الدفاع عن أراضيها وسيادتها، وإن العلاقات بين المسلمين وغيرهم تقوم أساساً على السلام، وما الحرب إلا ضرورة يفرضها حق الدفاع عن النفس وعن العقيدة)(69).
من وحي ما أسلفنا نعرف أن فقهاء الشريعة الإسلامية قد اهتموا كثيراً باستنباط قواعد التنظيم بين الدول، حيث أرسوا بذلك القانون الدولي الإسلامي(70)، الذي يستند إلى قواعد أخلاقية لتوطيد السلم والأمن الدوليين لكافة الناس دون تمييز أو عنصرية(71).
لقد كان هذا القانون الإلهي أخلاقياً لأنه لا يجيز أبداً استعمال القوة والعنف للإفساد في الأرض، وإتلاف الحرث والنسل، والتخريب المتعمد في حالتي السلم والحرب(72)، كما أن الحرب في الإسلام لا تكون أبداً من أجل احتلال أراضي الغير والتوسع غير المشروع على حساب الدول الأخرى(73).
والجهاد يكون ضرورة إذا
(ازدحم الكفار على المسلمين بحيث يخاف منه زوال الحق وإثبات الكفر والباطل، فيجب على جميع المسلمين حينئذ مدافعتهم)(74).
وهكذا فإن العلاقات الدولية في الإسلام، المستندة إلى قيم روحية أخلاقية، هي ما تحتاجه الإنسانية في تطلعها للمساواة والحرية، وإقرار السلم والأمن في العالم. لأن (القانون الإلهي إذا نزل يقرر ويبطل، ويزيد وينقص، فيطرح القوانين الباطلة ويضع القوانين الصالحة)(75) من أجل الناس جميعاً.
الهوامش:
(*) كاتب وباحث إسلامي مقيم في الدنمارك.
1- د . داود العطار: الدفاع الشرعي في الشريعة الإسلامية ص18.
2- عبد القادر عودة: التشريع الجنائي الإسلامي ج10 /304.
3- علاء الدين المروادي: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ج10/304. انظر أيضاً ابن قدامة في: المغني ج9/ 164.
5- عبد القادر عودة - ( التشريع الجنائي الإسلامي ) - ج1 ص 472 .(/6)
6- ابن حزم: معجم ابن حزم الظاهري ج2/819.
7-علاء الدين المروادي: مصدر سابق ج10/ 303، انظر أيضاً الفيض الكاشاني: كتاب الحسبة والحدود (مخطوط).
8- أحمد بن يحيى: البحر الزخار ج5 / 268.
9- محمد حسن النجفي: الجواهر : الحدود، وكذلك الفاضل الهندي: كشف اللثام: الحدود.
10- محمد بن أحمد السرخسي الحنفي: المتوفي سنة 482 المبسوط ج24 / 37.
11- الزيلعي: تبيين الحقائق ج6 /110.
12- الشويكي: التوضيح ج2/162.
13- سورة البقرة: الآية 195.
14- الخطيب الشربيني: مغني المحتاج ج4/ 194.
15- أحمد بن يحيى: البحر الزخار ج5/268.
16- الدردير: الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه ج4/356 -357.
17- ابن حزم: المحلى ج11/99. وانظر في تفصيل كل ذلك د. داود العطار: مصدر سابق.
18- محمود نجيب حسني: شرح قانون العقوبات ص 168.
19- محمد كامل مرسي بك: شرح قانون العقوبات - القسم العام ص195.
20- د. داود العطار: المصدر السابق ص 26.
21- د. عبد الباقي نعمة عبد الله: القانون الدولي العام - دراسة مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي ص13.
22- المنجد الأبجدي: الطبعة الأولى، دار المشرق ص782.
23- د. عبد الباقي نعمة عبد الله : المصدر السابق ص 14.
24- المنجد الأبجدي: ص 452.
25- د. علي صادق أبو هيف: القانون الدولي العام ص 13.
26- شتروب: هو أحد الفقهاء الألمان، ويصنف مع (تريبيل) و(دي هولتزندروف) عند الحديث عن تطور القانون الدولي العام. ويعتبر أيضاً بمثابة الإنكليزي (بنتام) الذي له جهود كثيرة في مجال القانون الدولي.
27- د. علي صادق أبو هيف: مصدر سابق ص 13.
28- أنظر مؤلفات شارل روسو، وبول ريتر، وحامد سلطان، وعلي صادق أبو هيف، ومحمد حافظ غانم في (القانون الدولي العام).
29- د. علي صادق أبو هيف: مصدر سابق ص12.
30- المصدر نفسه: ص12.
31- د. سعيد محمد أحمد باناجة: المبادئ الأساسية للعلاقات الدولية والدبلوماسية وقت السلم والحرب بين التشريع الإسلامي والقانون الوضعي ص11.
32- د. نجيب الأرمنازي: الشرع الدولي في الإسلام ص45.
33- د. علي صادق أبو هيف: مصدر سابق ص70.وانظر د. عبد الباقي نعمة عبد الله: مصدر سابق ص31.
34 - د. علي صادق أبو هيف: مصدر سابق ص71-72.
35 - د. عبد الباقي نعمة عبد الله: مصدر سابق ص30.
36 - المصدر نفسه: ص30.
37- د. سعيد محمد أحمد باناجة: الوجيز في قانون المنظمات الدولية والإقليمية ص9.وأنظر د. عائشة راتب: المنظمات الدولية ص30.
38- المادة الثانية الفقرة الثالثة والرابعة من ميثاق الأمم المتحدة تضع قيوداً على الدول لكي تلجأ إلى الطرق السلمية لفض المنازعات بينها، كما أعطت المادة نفسها لمجلس الأمن حق التدخل في أي نزاع يخشى منه قيام حرب.
39- د. وهبة الزحيلي: العلاقات الدولية في الإسلام ص16 نقلاً عن د. عائشة راتب: النظرية المعاصرة للحياد ص257.
40- د. محمد السعيد الدقاق: الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية ص44-47.
41- د. زهير الحسني: مصادر القانون الدولي العام ص10.
42- د. وهبة الزحيلي: العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث ص 15.
43- د. علي صادق أبو هيف: المصدر السابق ص 783.
44- المصدر نفسه: ص 783 - 787 .
45- الدفاع الشرعي في الإسلام هو: (سلطة وقائية يكون بموجبها للشخص أو عليه، فعل ما يلزم شرعاً لدفع خطر حقيقي غير مشروع، حال على حق معصوم، من نفس أو عرض أو مال مسلم أو ذمي أو مستأمن) انظر داود العطار: الدفاع الشرعي في الشريعة الإسلامية ص17-18، ثم قارن مع نص المادة 51 من الميثاق التي أعطت للدول الحق في استخدام القوة في حالة الدفاع الشرعي.
46- د. زهير الحسني: مصدر سابق ص 9.
47 - محمد حسن كمال الدين: حلف الفضول وميثاق الأمم المتحدة ص62.
48- د. علي صادق أبو هيف: مصدر سابق ص197.
49- المصدر نفسه: ص201.
50- د. إبراهيم شحاتة: الحدود الآمنة والمعترف بها - دراسة قانونية للتوسع الإسرائيلي ص48. انظر قرارات الأمم المتحدة: 2253 الصادر في 4/7/1967 و 2254 الصادر في 14/7/1967 ، وقرارات مجلس الأمن 252 / 68 الصادر في 21/5/1968 و 367 / 69 الصادر في 3/7/1969 و298 / 71 الصادر في 2/9/1971 ، وقرارات اليونيسكو رقم 83 الصادر سنة 1970 ورقم 88 الصادر سنة 1971 ، وقرارات المؤتمر العام رقم 17 سنة 1972 ورقم 18 سنة 1974 وكلها تعتبر (الإجراءات الإسرائيلية) باطلة وغير مشروعة خصوصاً في مدينة القدس.
51- إدوارد سعيد: الاستشراق ص64.
52- محمد عمارة: مسلمون ثوار ص10 - 11.
53- د. علي صادق أبو هيف: مصدر سابق ص 75 .
54- سورة النساء: الآية141.
55- الشيخ محمد مهدي شمس الدين: نظام الحكم والإدارة في الإسلام ص494.
56- أنظر د. عبد الكريم زيدان: أحكام الذميين والمستأمنين ص 601.وانظر أيضاً د. وهبة الزحيلي: مصدر سابق ص143.(/7)
57 - لقد وصلتني رسالة من آية الله السيد كاظم الحائري رداً على استفساري عن هذا الموضوع فقال سماحته ما نصه:( بسم الله الرحمن الرحيم: إذا توقف إنفاذ الحق على التحاكم لدى الكافر وكان في تركه ضرر مهم فالفقهاء يفتون عادة بجوازه عملاً بقاعدة نفي الضرر).أنظر د. عبد الباقي نعمة عبد الله: مصدر سابق ص137.
58- د. وهبة الزحيلي: مصدر سابق ص77، نقلاً عن الخرشي: 3 / 174 طبعة أولى.
59- المصدر سابق: 9.
60- الشيخ محمد مهدي شمس الدين: مصدر سابق ص43.
61- د. وهبة الزحيلي: مصدر سابق ص11.
62- د. عبد الباقي نعمة عبد الله : مصدر سابق ص52.
63- الماوردي: الأحكام السلطانية ص41.
64- انظر ابن أبي الحديد عند شرحه لنهج البلاغة (عهد الإمام علي إلى مالك الأشتر) المجلد الرابع ص119.
65 - د. وهبة الزحيلي: مصدر سابق ص93.
66- سورة الممتحنة: الآية 8-9.
67- د. وهبة الزحيلي: مصدر سابق ص126.
68- المصدر نفسه: ص7.
69- د. سعيد محمد احمد باناجة: المبادئ الأساسية للعلاقات الدولية والدبلوماسية وقت السلم والحرب بين التشريع الإسلامي والقانون الدولي العام، مصدر سابق ص14 - 15.
70- د. نجيب الأرمنازي: الشرع الدولي في الإسلام ص45.
71- الشيخ محمد أبو زهرة: العلاقات الدولية في الإسلام ص61 - 62.
72- علي علي منصور: مقارنات بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، ص59.
73- محمود شلتوت: الحرب والسلام في الإسلام ص20.
74- السيد آية الله العظمى عبد الأعلى الموسوي السبزواري: جامع الأحكام الشرعية ص204.
75- السيد آية الله العظمى محمد الحسيني الشيرازي: القانون ص138.(/8)
الدكتور محمد ناصر
محمد المجذوب
عرفته لأول مرة قبل خمس عشرة سنة ...
وكان ذلك في بيت الطلبة الأندونيسيين ...
دعاني بعضهم للاستماع إلى محاضرة يلقيها الدكتور محمد ناصر ...
ولم يكن ذلك الاسم غريباً عني ، فقد قرأت عنه الكثير خلال مطالعاتي أنباء الدولة الإسلامية الكبيرة الجديدة أندونيسية ...
وكانت محاضرة رائعة على الرغم من أني لم أفهم حرفاً من لغتها الأصلية ، إلا أن الطالب الذي تابعها بالترجمة كان فصيح العربية مبينها ...
ولم يبق في ذاكرتي شيء من موضوع تلك المحاضرة ، اللهم إلا أطيافاً لا أزال أتذوق جمالها ، ومرد ذلك إلى أمرين أحدهما الأفكار العالية التي عالجها على مدى أكثر من الساعة ، وكلها حول أندونيسية ، والصفة الإسلامية التي يجب أن تتميز بها أبداً وبخاصة في مرحلتها الجديدة بعد الاستقلال ، والثاني عمق الرؤية التي كانت تظلل تلك الأفكار فيخيل للسامع أنها فلذ من قلبه أكثر مما هي كلام يقال ...
وكان للرصانة التي تميز صورة الخطيب ولهجته ضرب من الإيحاء قوي يشد إليه السمع والبصر .. إذ تشعر وأنت تلاحظه وتستمع إليه أنك تلقاء شخصية ثقلت موازينها ، فهي أكبر من الكيان الذي تحتله من ذلك الحجم الأندونيسي اللطيف .. شخصية تتجمع فيها مواهب الجامعي الدقيق العبارة ، والسياسي البعيد الغور ، والمؤمن الذي يسكب على كل من هاتين الصفتين الوقار الموجب للثقة والاحترام .
وتكر الأيام ، ويقدر الله لي الشخوص إلى أندونيسية ، فألقى الدكتور محمد ناصر بمكتبه في المجلس الأعلى للدعوة الإسلامية في جاكرتا ، فإذا هو هوالذي لقيته في المدينة المباركة قبل هاتيك السنين ، لم يتغير على نظري شيء منه ، هدوؤه ورصانته ومظهره الجدي الوقور، بل لكأن الزمن قد وقف به حيث كان يومئذ ، فلم يقربه من الشيخوخة ، ولم يبعده عن سن الشباب ، ولا غرابة في هذه فهي السمة المميزة للجنس الأندونيسي الذي يحتفظ أبداً برونق الشباب ، فلا يكاد يرهقه الكبر...
على أن سنوات الفراق لم تكن لتقطعني عن أخباره ، فأنا أعلم من خلالها ضخامة العبء الذي يتحمله في سبيل الإسلام ، وشدة البلاء الذي يواجهه من أعدائه ، الذين تسللوا إلى القوة عن طريق المنافذ التي خططها لهم الاستعمار، كما فعل في كل قطر إسلامي أكره على مغادرته ، فلم يدعه إلا بعد أن أسلم أزمته إلى تلاميذه الذين فاقوه في عمليات التخريب لكل ما هو إسلامي ...
لقد استطاع خلال المناصب التي شغلها من إدارات ووزارات ورئاسات وغيرها ، أن يرفع راية الإسلام كما أنزله الله ديناً ودولة ، وصدع بكلمة الحق في وجه الزعازع الهائلة من مؤامرات المعادين للحق ، ولم يستطع رأس طواغيتهم سوكارنو وكل الذين آزروه وحرضوه ، إخفات ذلك الصوت إلا بالوسائل التي عرفتها شعوب الإسلام في كل مكان قفز فيه أعوان الشيطان إلى سدة الحكم بالتزييف وبالحديد والنار.. وكان بوسعه وإخوانه أن يستمروا في نطاق السلطة لو رضوا بما عرضه عليهم أولئك الطواغيت من التخلي عن الصفة الإسلامية التي أقاموا جهادهم السياسي على أساسها ، ولكنهم آثروا إسلامهم على كل شيء ، وفارقوا مناصب الحكم ليتابعوا سبيلهم لخدمة الدعوة في أوساط الجماهير ، التي ستظل الممثلة لمادة الإسلام في سائر البلاد الإسلامية ، وعليها يتوقف مصيره أمام الهجمة الشرسة التي يشنها أساطين السلطة الغاشمة على قواعده ..(/1)
وهكذا انحاز محمد ناصر وإخوانه إلى العمل الصامت عن طريق المجلس الأعلى للدعوة الإسلامية الذي تنتشر فروعه على مستوى الجزر المأهولة في أندونيسية ، يبصرون المسلمين بدينهم ، ويعمقون انتماءهم إليه ، ويواجهون بصبرهم ودأبهم واستقامتهم أعنف الحملات الصليبية على هذا الدين ، الذي تضافرت على حربه كل مراكز القوة من حكام داخلين وأعداء خارجين ، ودعاة للنصرانية لا يقبلون هدنة مع الإسلام ، الذي أعلنوا تصميمهم على استئصاله ، وأعدوا لذلك عدتهم الهائلة من أساطين تجوب أقاصي الجزر وأدناها في الجو والبحر والبر ، ومن مؤسسات تعليمية تفوق معاهد الدولة وجامعاتها ، إلى وسائل إعلامية تغطي بصحفها ومنشوراتها وإذاعاتها كل مكان من أندونيسية .. وقد أتقنوا فنون الاستغلال للأوضاع الاقتصادية التي ترهق الطبقات المسحوقة تحت عجلات النظام ، الذي ضيق عليها سبل الحياة فحرمها حتى الضرورات الأولية وبذلك هيأها للسير وراء كل ناعق يضمن لها الحد الأدنى من وسائل العيش ، وأطمع بها أولئك المضللين حتى استطاعوا تحويل الآلاف بل الملايين من الإسلام إلى النصرانية على مرأى ومسمع من الحكام الذين لم يخفوا تأييد النصرانية الغازية ، بل حركوا حتى بقايا الوثنية من باطني جاوة لإعلان نحلتهم ، وللمطالبة بالامتيازات التي تمكنهم من إثبات وجودهم وتثبيت شخصيتهم الطائفية في مجلس الأمة وهي المؤامرة التي نفذت بقوة الحراب فسقط ضحيتها الأعداد من شباب الإسلام الذين هبوا للاحتجاج عليها بتظاهراتهم الصاخبة ، فجوبهت بالجيش يقتحم عليها ساحات الجامعات ويملأ بجرحاهم المستشفيات ..
ثم تأتي مع هذا وذاك فتنة (البانجاسيلا) التي اخترعتها الطغمة السوكارنية ، لتجعل منها منهاجاً جديداً يصرف المسلمين عن دينهم إلى تعاليم يراد منها أن تحل محل الأديان المعروفة في أندونيسية ، فتجعل من المائة والأربعين مليوناً من سكانها عجينة موحدة النوع لا تنظر إلى الحياة كلها إلا من ثقب واحد ، هو الذي يحدده ذلك الميثاق الخماسي العجيب .. وكأن واضعيه إنما أرادوا إحياء بدعة ذلك الأفاق إمبراطور الهند (جلال أكبر) الذي أغواه شياطين الجن والإنس ، فلم ير لتوحيد شعوب الهند سوى إلغاء انتماءاتهم الدينية بتحويلهم إلى ديانة واحدة لفقها من معتقداتهم جميعاً .. فكان أن زاد الطوائف واحدة تمتاز على الجميع بأنها اشد حقداً على الإسلام وعدواناً على المسلمين .
ولقد قيض الله لنا الفرصة المناسبة أثناء زيارتنا أندونيسية ، فلمسنا آثار المجلس الأعلى للدعوة الإسلامية في كل بلد حللناه من تلك الجزر ، والتقينا بما لا يحصى من الشباب العامل في ظله ، فأدركنا الحكمة التي حققها الله في انصراف الدكتور محمد ناصر وإخوانه إلى ذلك السبيل الذي اختاروه مخلصين لخدمة الإسلام وإصلاح شأن المسلمين ، والوقوف بوجه الغزو الصليبي الشرس ، على الرغم من البون الشاسع بين وسائلهم ووسائل المبشرين .. وكل سلاحهم في هذا المعترك هو وعيهم العميق لحقائق الإسلام ، ثم إيمانهم الراسخ بأن الله ناصرهم ما داموا في طاعته ، فهم لا يدخرون وسعاً في بذل كل ما يملكون من مجهود في سبيل الدعوة التي شرفهم الله بخدمتها ..
حوارنا مع الدكتور محمد ناصر
س ـ نرجو التفضل بذكر الاسم والميلاد والبلد والدراسة ؟
ج ـ الاسم محمد ناصر ، وقد ولدت يوم 17 يوليه من عام 1908 في بلدة تدعى (الاهان بانجانغ) من أعمال (مانتجاو) في أندونيسية ، وتقع على ضفاف البحيرة التي تحمل هذا الاسم ، وهي معروفة بطبيعتها الخلابة .
ويفهم من كراسة كتبها عنه الأخ الأستاذ محمد أكوسجئ أن تلك البلدة في ولاية سومطرة الغربية ، وعلى عادة أهلها في تكريمهم للزعماء والقادة اكتسب الدكتور لقب (داتو سينارو بانجانغ).
ويزيد الأستاذ محمد سعيد بأنه نشأ في بيت دين وعلم وجاه ، فجده لأمه واحد من علماء مينانكاب أما أبوه فكان أحد إداري المنطقة ، وبذلك اجتمع في الدكتور محمد ناصر رافدا الدين والجاه ثم الثقافة العامة .
ويقول الدكتور أنه تلقى دراسته الابتدائية في المدرسة الحكومية الهولندية (سولوك) ثم انتقل إلى المرحلة الإعدادية في المدرسة الحكومية (ميولو) في بادانغ ومن ثم التحق بقسم الآداب الغربية الكلاسيكية في المدرسة الثانوية المسماة (الكوميني ميد ليارسكول) في مدينة باندونغ والظاهر أن مركز أسرته قد ساعده على هذا الالتحاق ، إذ كان الوصول إلى المدارس الحكومية محفوفاً بالمصاعب إذا لم يكن التلميذ من أبناء الذوات وموظفي الحكومة أو كبار الملاك أو الأثرياء ، هذا فضلاً عما يقتضيه التغرب من أعباء تبهظ كاهل الأسرة ، وقد جمع الفتى بين الدراستين الحكومية والدينية ، إذ قسم يومه الدراسي شطرين ، فشطره الأول في المدارس الرسمية ، وشطره الآخر في إحدى المدارس الأهلية الإسلامية ، كشأن أبناء الأسر المسلمة الحريصة على دينها حتى الآن .(/2)
يقول الدكتور : إن انتقاله إلى باندونغ المعروفة بلقب (باريس جاوا) آنذاك كان ضرباً من المغامرة وقاه الله شرها بما سبق له من التربية الدينية ، ثم بما أتيح له من الاتصال بأحد فضلاء العلماء هو الشيخ أحمد العالم السلفي ، الذي ضاعف من زاده الروحي بما تلقى على يديه من علوم الشريعة إلى جانب دراسته العامة . وفي هذا الجو الجاد أتم المترجم مرحلته في تخصص التدريس حتى نال إجازته .
س ـ وعن الرجال الذين أثروا في توجيهه يقول الدكتور :
ج ـ أولهم هذا الفاضل الشيخ حسن أحمد ، وكان يدير في باندونغ معهد (برساتوان إسلام) أي معهد الوحدة الإسلامية ، إلى جانب عمله في تأليف الكتب الإسلامية ونشرها ، وقد أعجب الشيخ بالفتى لما وجده من تشبعه بالثقافة وشدة اهتمامه بالعلوم الإسلامية ، فلم يدخر وسعاً في تعميق ذلك الاهتمام وإمداده بالغزير من الخير .
ويثني الدكتور بالحاج أقوس سالم الذي يصفه بالسياسي المسلم الذي جعل همه الأخذ بيد الشباب الناشئ على الثقافة والتربية وإعادته إلى الحظيرة الإسلامية ، وكان من جهوده الموفقة تشجيع هؤلاء الفتيان على إنشاء منظمة (بونغ إسلاميتين بوند) وهو تعبير هولندي يعني (اتحاد الشباب المسلمين) وكان لهذه المنظمة أثر هام إذ خرجت أفذاذ القادة والزعماء الإسلاميين الملتزمين ، الذين تولوا قيادة المسيرة الإسلامية فيما بعد وكان محمد ناصر وهو رئيس فرعها في باندونغ ، التي تعتبر أحد منطلقات الجهاد الإسلامي في أندونيسية .
ثم يذكر من ذوي الأثر في توجيه الشيخ أحمد السركتي الأنصاري السوداني ، الذي وفد إلى أندونيسية لنشر العلم والمعرفة .
ويصف هذا الشيخ بأنه من السلفيين ، وأنه مؤسس مدارس الإرشاد في العديد من مدن جاوة .. وقد أتيح لنا زيارة مؤسسة الإرشاد القائمة في سورابايا ، إحدى أروع حواضر أندونيسية، ولمسنا جهودها المباركة سواء في معهدها التعليمي أو مستشفاها المتكامل ، وضاعف إعجابي هناك تلك العربية السليمة التي سمعناها من كل مسئول لقيناه في تلك المؤسسة وسيما ذلك الحضرمي الكريم الذي أُنسيت اسمه ، وقد سجلت ذلك كله في كتابي (ذكريات لا تنسى ..) ومن هنا تطرقنا إلى السؤال الرابع .
س ـ أهم الأحداث التي عاصرتموها وتفاعلتم معها ؟
ج ـ بعد تخرجي في معاهد العلم الهولندية تفرغت للعلم الإسلامي ، وبدأت ذلك في التدريس ، إذ افتتحت مدرسة (روضة التربية الإسلامية) استأجرت لها مبنى اتخذت قسماَ منه سكناً لي ولزوجتي التي اقترنت بها حديثاً ..
ويقول الأخ الأستاذ محمد سعيد : لقد أقبل الدكتور على عمله في التدريس بجد كبير ، ولم يكتف بالتدريس بل اندفع بالروح التي ألهبها شيوخه في صدره فشرع قلمه للكتابة في الصحف وألف عدداً من الكتب باللغة الهولندية موجهةً إلى خريجي الثقافة الغربية تعرض لهم حقائق الإسلام ومحاسنه .. ومن روائع كتبه أثناءئذ مؤلفه عن المرأة (المرأة المسلمة وحقوقها) و (حضارة الإسلام) الذي اشترك في تأليفه مع البروفيسور الهولندي سخوماكر، ثم كتابه الآخر (هلموا إلى الصلاة) فكان له أثر طيب في خريجي المدارس الهولندية . وقد صدرت هذه الكتب ما بين 1932 ، 1936 .
وهكذا بدأت مسيرته العلمية في الدعوة إلى الإسلام والدفاع عن حقائقه بوجه الحملات المسعورة التي تولى كبرها دعاة النصرانية وأذيالهم من المتخرجين على أيديهم وقد أصدر من أجل ذلك مجلة سماها " الدفاع عن الإسلام " حملت الكثير من مقالاته فضلاً عن كتاباته الأخرى في العديد من الصحف بتوقيع " أ . مخلص ".
وفي تلك الأثناء حدثت هزيمة الهولنديين على يد الغزاة اليابانيين وفي ظل التغيرات الجديدة أسندت إلى الدكتور إدارة التربية التعليم في حكومة بلدية باندونغ.
على أن من أهم الأحداث التي واجهها عقيب ذلك ، فكان لها الأثر العميق في مجرى حياته ، هو انتقاله إلى جاكرتا ، ليتولى سكرتيره الجامعة الإسلامية ، التي أنشئت حديثاً . ففي باندونغ كان متفرغاً للتربية والتعليم وللدفاع عن الإسلام ومصالح المسلمين ، لذلك لم يلتحق بأي من الأحزاب السياسية حتى سنة 1940 إذ انضم إلى (الحزب الإسلامي الأندونيسي) برئاسة الدكتور سوكيمان .. ومن هنا أخذ سبيله إلى العمل السياسي ، فما لبث أن برز كأنموذج للزعيم المسلم النزيه .
وأما الحدث الثاني فقد تمثل في التفاعل الذي حدث بين الدكتور ناصر وسوكارنو يقول الأخ محمد سعيد : لقد شهدت باندونغ حركتها الإسلامية بزعامة محمد ناصر ، على حين قامت فيها حركة قومية بزعامة سوركارنو ، تتخذ من النعرة القومية متكأ لها ..
كان سوكارنو يدعو إلى القومية الأندونيسية كسناد لحركة التحرر ، على حين كان محمد ناصر وصحبه يدعون إلى الإسلام كمنطلق للتحرر، وقد بذل جهداً عظيماً في شرح حقائق الإسلام وفاعيلية تعاليمه في تنظيم الحياة العامة .. وقد بلغ التفاعل بين الحركتين أشده فيما بعد .
حزب ماشومي(/3)
عقيب استقلال أندونيسية عام 1945 وبعد انحسار الاحتلال الياباني اجتمع زعماء الأحزاب والجمعيات الإسلامية السابقة للاحتلال الياباني في مؤتمر عام بمدينة جوكياكارتا بتاريخ 7 نوفمبر 1945 وقرروا نبذ الفرقة والانضمام في عمل سياسي يوحد كلمتهم ، فكان من ذلك (مجلس ماشومي مسلمي أندونيسية) وفي هذا الاجتماع التاريخي انتخب محمد ناصر ممثلاً للشبان المسلمين في ذلك المجلس ، ثم ما لبث أن بويع رئيساً عاماً للحزب لفترة امتدت ما بين 949 و 959 ثم خلفه على رئاسة الحزب الأستاذ برادوتو عندما انضم محمد ناصر إلى الثورة الإسلامية بسومطرة لمواجهة انحرافات سوكارنو .
لقد كان لقيام حزب ماشومي هزة عظيمة ، إذ كان يمثل مسلمي أندونيسية في وحدة متلاحمة ، وكان برنامجه السياسي واضحاً وصريحاً قائماً على الالتزام التام بالإسلام . ومن منطلقاته الرئيسية عدم التعاون مع الشيوعيين ومن يتعاطف معهم . ومعلوم أن ذلك إعلان صريح بالمعارضة لحزب سوكارنو .. الذي اتخذ له واجهة (الديمقراطية الموجهة) فما إن حلت أواخر الخمسينات حتى بلغ الخلاف بين الفريقين أشده ، إذ انطلق سوكارنو في خطه المضاد للإسلام ، راكباً نزواته السياسية وغير السياسية ، ومحتضناً الحزب الشيوعي الذي آثره بالرعاية ، وأصر على اشتراكه في الحكم .. وكان ذلك من سوكارنو إيذاناً بالحرب لحزب ماشومي ، ثم لم يتورع عن استخدام كل أنواع الإرهاب في تعامله مع زعمائه ، ومن ذلك استخدامه شباب الشيوعيين والمرتزقة . للتضييق عليهم وتهديدهم ، مما اضطر كثيراً منهم للنزوح إلى سومطرة ، في حين برزت في الأقاليم انتفاضات بقيادة قواد المناطق العسكريين تطالب بعودة محمد حتا إلى الحكم وإقصاء الشيوعيين عن مراكز السلطة .. بل لقد بلغ الأمر إلى حد إعلان بعض المناطق تمردها ورفضها الخضوع لأوامر السلطات المركزية .. فكان هذا نذيراً بمضاعفات خطيرة تفسح السبيل للاستغلال الأجنبي ، فكان على محمد ناصر وصحبه وجوب التدخل لتلافي ما أمكن من الأخطار المتوقعة ، والعمل على ضبط الأمر في الطريق الصحيح .. وطبيعي أن يكون موقفهم مبنياً في الأساس على الوقوف بوجه الخطر الشيوعي ، الذي كانوا يحسبون له ألف حساب ، وقد برهنت الحوادث التالية على صدق توقعاتهم حين انفجر الانقلاب الشيوعي عام 65 ، واغتال الشيوعيون العديد من قادة الجيش ، وكادوا ينجحون في اغتصاب السلطة لولا رحمة الله ، الذي تدارك الخطر الماحق بيقظة العناصر الإسلامية ، ثم استمرت مواجهة الإسلاميين لنزوات سوكارنو حتى تمت الإطاحة به عام 966 .
س ـ لو تفضلتم بالكلام عن آثاركم العملية والفكرية .
ج ـ وأجاب فضيلته بأن ثمة عدداً من المؤلفات والرسائل منها :
1 ـ (كتاب الصوم) 932 .
2 ـ (إسلاميتين ايديال) 934 .
3 ـ (المرأة المسلمة وحقوقها) 936.
4 ـ (بببلوفيليزم) 941 .
5 ـ (الحضارة الإسلامية) ط3 من مجلدين .
6 ـ (التركيب الطبقي لمجتمع الإسلام) 950 .
7 ـ (البناء وسط الأنقاض) 951 .
8 ـ (خطبة عيد الفطر) 951 .
9 ـ (هل يمكن فصل الدين عن السياسة؟) 953 .
10 ـ (إسهام الإسلام في السلم العالمي) 953 .
11 ـ (الثورة الأندونيسية) 955 .
12 ـ (الدينية أو اللاتينية) 957 ، وقد ترجمت إلى العربية وصدرت منها طبعتان .
وقد صدر له في الستينات الكتب الآتية :
(الأخلاقيات الحديثة) و (العلم والسلطة والمال أمانة) (وحدة الدين والدولة) و(ابذروا البذور) و(الإسلام والنصرانية في أندونيسية) .
وفي السبعينات صدرت له المؤلفات التالية :
(ابنوا العالم بأعمالكم وأضيئوا الزمان بإيمانكم) و (أعيدوا المثالية مرة أخرى) و (معقل الدفاع الفكري) و (الإسلام والفكر الحر) و (القلق الروحي ومسئولية الأسرة الجامعية والمعاهد العليا) و (آثار الرسالة وأسس الدعوة) و (في ظل الرسالة) و (قضية فلسطين) و (المسجد والقرآن والانضباط) و (الخوف والاستعمار) و (الدين والأخلاق) و (الدعوة والتنمية) و (المحمدية رائدة تجديد الفكر الإسلامي) و (اليد التي لم يتقبلها أحد) و (الإيمان مصدر القوة الظاهرة والباطنة) وتبلغ هذه المؤلفات خمسة وعشرين عنواناً ، وتحت بعضها أكثر من كتاب ، ولعلي نسيت بعضها عند النقل ويلاحظ القارئ من خلال هذه العنوانات ملامح الجدة والعمق والشمول التي يمتاز فكر الدكتور محمد ناصر فهي من هذه الناحية لا تخص أندونيسية وحدها بل تمس واقع العالم الإسلامي بأسره ، بل إنها لتتسع حتى تشمل تطلعات الإنسان أياً كان وأينما كان .
وطبيعي أن شخصية هذه بعض آثارها لا بد أن تتعدد أعمالها ذات الأثر العميق في حياة المجتمع لذلك طرحنا بين يدي الدكتور السؤال التالي:
س ـ إن المطالع لترجمتكم لا بد أن يتساءل عن الأعمال التي توليتموها حتى الآن ؟
ج ـ ومضى الدكتور في سرد هذه الأعمال منذ تخرجه في التعليم حتى يوم لقائه هذا :
1 ـ إدارة مدرسة (روضة التعليم) في باندوبغ .
2 ـ مدير مصلحة التربية والتعليم في باندونغ .(/4)
3 ـ أمين سر الجامعة الإسلامية في جاكرتا .
4 ـ عضو المجلس الأعلى الإسلامي الأندونيسي .
5 ـ وزير الإعلام في ثلاث ووزارات .
6 ـ عضو اللجنة الوطنية الأندونيسية ـ البرلمان المؤقت .
7 ـ عضو البرلمان الأندونيسي .
8 ـ رئاسة مجلس وزراء أندونيسية .
9 ـ رئيس حزب ماشومي .
10 ـ عضو المجلس التأسيسي المنتخب .
11 ـ رئيس المؤتمر الإسلامي بدمشق .
12 ـ نائب رئيس المؤتمر الإسلامي حتى الآن .
13 ـ عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي حتى الآن .
14 ـ مستشار عام رابطة العالم الإسلامي .
15 ـ رئيس المجلس الأعلى للدعوة الإسلامية في أندونيسية .
16 ـ مستشار في عدد من المنظمات والمعاهد والجامعات الإسلامية بأندونيسية وبخاصة اتحاد الجامعات الإسلامية الأهلية واتحادات المعاهد الإسلامية .
ونجد فيما كتبه الأستاذ محمد سعيد عن (محمد ناصر) ما لا غنى عن ذكره لسد بعض الفجوات التي تركها جواب الدكتور الآنف ، وبخاصة في الجانب السياسي ، وما رافقه من ألوان الصراع بين إرادة سوكارنو الاستبدادية واستظهاره بالشيوعيين والقوميين ، وبين المنهج الشوري الذي التزم به حزب ماشومي وأنصاره على مستوى الدولة الأندونيسية كلها .
لقد وجد سوكارنو في حزب ماشومي وأنصاره سداً منيعاً بوجه انحرافاته ، فحشد كل ما حوله من الطاقات لتعويق مسيرته الإسلامية ، ولإقامة العقبات في طريقه ، واستعان لذلك بالنصارى والشيوعيين وبذل المستحيل لتفتيت الوحدة الجامعة داخل ماشومي ، حتى استطاع أخيراً انتزاع جماعة نهضة العلماء من صفوفه ، فأعلنت استقلالها عن ماشومي وأصبحت بذلك حزباً سياسياً مستقلاً ، وبذلك أتيح لسوكارنو أن يدعم مركز الشيوعيين ويفتح لهم السبيل للتغلغل في مختلف القطاعات حتى أصبح الشيوعيون أكبر حزب شيوعي في بلد غير شيوعي خلال عقد واحد من السنين ، بعد أن كان موصوفاً بالخروج عن القانون بسبب ثورته التي سدد بها عام 1948 طعنة غادرة إلى قلب أندونيسية قبل أن تستقر أوضاعها ، وعندما كانت مهددة بعودة الاستعمار الهولندي ، الذي حدث فعلاً في شهر ديسمبر من تلك السنة .
وما إن استوثق سوكارنو من قوته بالشيوعيين والقوميين حتى شرع في مطاردة زعماء ماشومي ، وذلك بتسليط الفوضويين ممن يسمونهم (فيلق الطلبة) وميليشية الشيوعيين ، على هؤلاء الرجال يهاجمون بيوتهم لاختطافهم ، مما اضطرهم إلى التواري والهجرة إلى سومطرة وغيرها ، وأشيع أن هناك محاولة لاعتقال محمد ناصر ، فاتصل به سفراء بعض الدول الإسلامية يعرضون عليه حق اللجوء السياسي إلى بلادهم ، ولعل بعض هذه العروض قد أريد بها تنفيذ رغبة سوكارنو ومن وراءه من الدول الشيوعية في استبعاده ليخلو الجو أمام نزوات سوكارنو وأعوانه ، ولكن محمد ناصر قابل تلك العروض بالشكر والاعتذار ، لأنه لا يستطيع مفارقة الساحة وهي أحوج ما تكون إلى العنصر الإسلامي الصادق .
في هذا البحران الهائل من الاضطراب والانحراف انطلقت في سومطرة ثورة أعلنت رفضها لحكومة جاكارتا التي ألفها سوكارنو على أنقاض البرلمان المنتخب ، وشكلت حكومة مناوئة للوضع الاستبدادي ، غير أن قادة الثورة قبلوا نداء رئيس الوزراء جواندا ، الذي أعلن العفو عن الثوار ووعد بالعمل على تصحيح الأوضاع .. ولكن سوكارنو لم يلبث أن نقض ذلك العفو بفرض الإقامة الجبرية على رجال الثورة باسم الحجز السياسي ، ثم ما لبث أن ساقهم معتقلين إلى السجن الحربي الذي لم يغادروه إلا بعد الإطاحة به في أعقاب الإخفاق الذي انتهت إليه محاولة الانقلاب الشيوعي في ذلك العام .
وهكذا تحررت أندونيسية من كابوس العهد السوكارني وتنفس محمد ناصر وإخوانه الصعداء إلى حين ، بعد أن سلب أعوان الطاغية أموالهم وأمتعتهم ومساكنهم فأصبحوا ولا مأوى لهم ، بيد أن البلية الكبرى التي واجهتهم في هذه المرحلة هي الدمار الذي أصاب المجتمع الأندونيسي في العقيدة والأخلاق ، فكان على هؤلاء المصلحين أن يوجهوا طاقاتهم لتدارك هذا الخراب الرهيب .. ومن هنا كان بروز (المجلس الأعلى الأندونيسي للدعوة الإسلامية) الذي أسلفنا ذكره ، ومهمته الأولى بناء الكيان العقائدي للأمة ، وتصحيح المنطلقات الأساسية التي تلاعب بها سوكارنو والذياد عن الإسلام ضد خطر التنصير الذي استفحلت ضراوته في ظل ذلك العهد البغيض .(/5)
ولن يفوتنا أن نذكر بوقف لمحمد ناصر كان ضرباً من الإنقاذ العام لأندونيسية جميعاً ذلك أن المفاوضات التي سبق أن دارت بين هولندة وممثلي الأندونيسيين عام 1945 قد استقرت على قيام عدة دويلات في رباط فيدرالي . ولكن هذا الترتيب قد جوبه بانتفاضات حادة في تلك الدويلات ، إذ أبت جماهيرنا ذلك التقسيم ، وطالبت بتوحيد الجزر كلها في جمهورية واحدة على أن هذا الانتفاض سرعان ما جر اضطرابات أخرى ولا سيما في شرق أندونيسية ، وقد بات الوضع مهدداً بتسلل الشيوعيين للاستغلال الذي هم أتقن الناس له .. فالخطر إذن رهيب ولا بد من تداركه وهذا يقتضي تحويل المسيرة نحو الوحدة ما أمكن ، ولكن وراء التقسيم قوى لا مندوحة من النظر إليها بعين الاعتبار ، وبخاصة أن الجيوش الهولندية ما تزال رابضة تراقب الوضع في حال تهيئها للجلاء ، ولا يستبعد أن تستعيد تدخلها عن طريق بعض المرتزقين من معارضي الوحدة .
في هذا الجو المتلبد بأكداس التوقعات تقدم محمد ناصر بالحل الشافي ، وذلك بأن عرض على البرلمان ـ وهو أحد أعضائه ـ اقتراحاً مفصلاً يقضي بأن تحل كل دولة من مجموعة الاتحاد نفسها ، على أن تشكل عقب ذلك الجمهورية الموحدة .
ووفق الله فاستجابت الحكومات إلى ذلك الاقتراح دون تحفظ ، وأخذت كل دولة بتنفيذ ما يخصها منه ، وتمت صياغة الدستور الجديد على أساس الدولة الموحدة ، وبموافقة الجهات المتعددة ، وبناء على هذا التراضي انتخب سوكارنو رئيساً لجمهورية أندونيسية ، ومحمد حتا نائباً للرئيس ، وأسند إلى محمد ناصر الأمر بتشكيل أول وزارة للدولة الموحدة ، فلم يشرك فيها أحداً من الشيوعيين ولا القوميين ـ جناح سوكارنو ـ لأن هؤلاء قد بدؤوا يتحولون نحو اليسار ..
وهكذا كان مشروع محمد ناصر بمثابة زورق الإنقاذ لجمهور الأندونسيين ، إذ حقق لهم أهم الأهداف وأجلها دون أن تسفك قطرة دم ، أو يراق ماء وجه .. ولولا انحرافات سوكارنو ، ونزواته الاستبدادية وغروره الذي قاده إلى اختلاق ميثاق (البانجاسيلا) الذي سلف ذكره ، إذ أوهمه أنه به يستطيع أن يحول طوائف البلاد كلها عن دياناتهم وتقاليدهم ومواريثهم دفعة واحدة إلى قطيع لا يهمه إلا بطنه ، ولا يفكر ولا ينظر إلا من خلال الثقب الذي يحدده ذلك الميثاق ، الذي سرعان ما ولد مواثيق مماثلة في العديد من بلاد العرب والمسلمين !..
أجل .. لولا تلك الانحرافات وهاتيك النزوات ، وذلك الغرور، لانتهى الأمر بأندونيسية ذات المائة والأربعين مليوناً إلى قيادة المسيرة الإسلامية الحديثة على مستوى العالم كله ..
س ـ إنك تشهد كيف أن المعركة بين الإسلام والجاهلية الحديثة قد بلغت أشدها .. فكيف تتوقع أن تكون النهاية ؟
ج ـ النهاية ستكون نفس ما صارت إليه الجاهلية الأولى ، لأن المعركة فكرية ، والفكر الإنساني قطع مراحل طويلة في مسيرة التقدم والنضج ، والبراهين الناصعة التي قدمها الإسلام عن الكون والعلوم والإنسان تزداد نصاعة وإقناعاً ، وإذا قارنا أوضاع العالم الإسلامي اليوم بما كان عليه قبل نصف قرن من الزمن لما وسعنا إلا أن نحمد الله جل وعلا ، فقد استقلت الشعوب المسلمة وزاد تعداد دولها على الأربعين ، وفتحت أمام أبناء هذه الشعوب فرص التزود بالثقافة الفكرية الرفيعة وطرق البحث والتزود العلمي ، وتخرج الكثيرون من أبناء المسلمين في مختلف التخصصات العلمية البحتة كالطبيعة والفيزياء والذرة ، وكل هذا كفيل بمواجهة ودحض دعاوى الجاهلية الحديثة إن شاء الله .
وقلنا لفضيلة الدكتور :
س ـ هناك تطور ملموس في اتجاهات الشباب المسلم في كل مكان ، فما السبيل إلى ضبطها في طريق الإسلام الصحيح ؟
ج ـ السبيل إلى ذلك هو التدريبات العلمية المنظمة ، والتوجيه المستمر كي يعايش الشباب المسلم جوهر تعاليم الإسلام ، وذلك بعرض النماذج المثالية من حياة الرعيل الأول لشباب محمد صلى الله عليه وسلم ، والمهم في إعداد وتربية هذه الكوادر أن تتاح لهم فرص الاطلاع بالمسئوليات حين تعهد إليهم مهمات محددة لخدمة الأمة " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " وبجب أن تتاح الفرص أمام الكوادر لتدريب أنفسهم على الإحساس بالمسئولية ، إن مجرد القيام بالواجب دون الإحساس بالمسئولية لن يسفر عن قيام زعامة وراثة منضبطة بالإسلام .
س ـ المتصدرون للإصلاح من مفكري الإسلام مختلفون في نظرهم إلى الواقع فمنهم من يرى البدء بتصحيح العقيدة واستبعاد التأثير الصوفي ، وآخرون يرون تجميع القوى لمواجهة العدو المشترك ـ استعماراً أو أفكاراً ـ دون تعرض للخلافات الداخلية ، فما حكمك على الموضوع ؟(/6)
ج ـ في الواقع كثيراًً ما نحس بضيق النفس والشدة حين نرى أنفسنا نواجه ونجابه الكثيرين من الأعداء من مختلف الأشكال والنواحي ، بحيث يتشابه الأمر علينا في تحديد من أين نبدأ ؟ ولكن يجب أن نكون على ثقة ، بأن ما نحتاجه من قوة لمواجهة أي عدو ، لا يمكن أن يفيد دون أن تكون لتلك القوة عقيدة صحيحة . إذن فموضوع تصحيح العقيدة وإن كان مقصوراً على فئة قليلة هي البطانة يعتبر شرطاً ضرورياً على الإطلاق ، وتنشئة الكوادر المبنية على تصحيح العقيدة ليس من الضروري أن يثير التناقض فيما بيننا بله العداوة والخصام والمجابهة الداخلية ، بل علينا أن نسلك الطريق الذي أشار إليه مالك إمام المدينة رحمه الله بقوله (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها) فتنقضي الأشياء التي صلح بها أوائل هذه الأمة ، لأن عيها يتعلق أمر إصلاح الأواخر، وكل ما عدا ذلك لا يلتفت إليه .
س ـ إلى أي حد يمكن للعالم الإسلامي أن يفيد من ثورة إيران الإسلامية ؟
ج ـ إننا مسلمي أندونيسية طبعاً نتعاطف ونعطف على ثورة إيران الإسلامية لأننا نعلم أن إخواننا الإيرانيين لاقوا العنت والعناء الكثير تحت وطأة حكم الشاه الظالم ثلاثين عاماً . وقد سبق أن عانينا شيئاً قريباً من ذلك الظلم أيام الاستعمار الهولندي والاحتلال الياباني ، ثم أخيراً وليس آخراً تحت نظام الديمقراطية الموجهة لسوكارنو ، لذلك فإننا نتعاطف مع إخواننا الإيرانيين الذين يبذلون جهدهم الآن لإعادة تنظيم شئون حياتهم بإقامة دولة عادلة ، والدرس الذي يمكننا أن نفيد منه في أي انتفاضة ضد الظلم والغشامة وهو أن كل سلطة متعسفة ظالمة غير عادلة لا بد لها ـ على المدى القريب أو البعيد ـ من أن تجري عليها سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً .
أما السؤال الخاص بمدى استفادة العالم الإسلامي من الثورة الإسلامية الإيرانية في تطور العمل الإسلامي فهو يتطلب دراسة مستفيضة في وقت ليس بالقصير لأنه ليس بإمكاننا تقييم أمر من الأمور بناءً على معطيات من بلد ما زال يعيش ثورته وقبل أن تستقر الأمور فيه .
وإذا تذكرنا أن هذا السؤال طرح على الدكتور محمد ناصر في مطلع الثورة الإيرانية ثم نظرنا إلى تحفظاته الأخيرة بشأن معطياتها ، أدركنا بعد نظره والعمق الذي تبلغه حنكته السياسية في تقييمه للأمور .
لقد خيبت الثورة الخمينية الكثير من آمال المسلمين بسيرتها المضطربة ، وطريقتها الدموية التي شوهت مفهوم الحكم الإسلامي بنظر الملايين الذين كانوا يتطلعون إلى حقيقته في نطاق التطبيق ، فجاء تطبيقها العملي صورة رهيبة ضاعفت من آلام دعاة الإسلام ، إذ دفعت الحكام المنحرفين إلى زيادة التنكيل بهم ، واتخذوا من أخطاء تلك الثورة ذريعة مسوغة لمحاربة الإسلام نفسه .
س ـ ما توقعاتكم بالنسبة إلى تطبيقات الشريعة الإسلامية في الباكستان ؟
ج ـ إننا نسأل الله مخلصين أن يوفق الباكستان في جهودها لتحقيق تطلعاتها ، لإثبات الشريعة الإسلامية وتعاليم الإسلام ، هي التي تستطيع أن تكون خير نظام للحياة وتلك مهمة صعبة جداً ، لأننا نعيش الآن وسط خضم من الناس لا يعلمون بعامة ما هي حقيقة الإسلام ، إننا لا نواجه الخطأ في فهم الإسلام أو قلة الفهم له فقط بل نواجه أناساً يتعمدون النيل من الإسلام .
إن تدوين الأحكام واختبار الحكام أمر غاية في السهولة ويمكن تحقيقه في أسرع وقت ممكن ، ولكن بناء الأمة التي ستكون المحكومة بذلك الحكم ، بحيث ينطبق عليهم قوله تعالى [فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً] فذلك الذي يتطلب الكثير من الوقت إلى أسلوب في العمل دقيق التخطيط والتوجيه .
س ـ تكاثرت المؤتمرات الإسلامية في أواخر القرن الرابع عشر ولا تزال تتكاثر فما رأيكم إجمالاً في هذه المؤتمرات ؟ .. وما مردودها للإسلام ؟ ثم ما رأيكم في المؤتمرين الأخيرين حول موضوع الغزو الشيوعي لأفغانستان ومحصولهما للقضية ؟
ج ـ إن عقد المؤتمرات يعني أن هناك فكرة هامة وهذا بحد ذاته سيحقق أمرين ، أولاً ـ حدوث لقاءات بين العلماء والمفكرين المسلمين ، القادمين من مختلف بقاع العالم ليتعارفوا بينهم ويتدارسوا أمورهم ، وهذا سيكون المنطلق بإذن الله في المستقبل إلى التعاون والعمل المشترك البناء ، والثاني إتاحة الفرصة للمؤتمرين من أجل البحث في قضايا تهم المسلمين وتتعلق بمصالحهم المختلفة سواء ما يتصل بشئون دينهم واقتصادهم وشئون سياستهم ، ولئن كان مثل هذه المؤتمرات لم تنجح بعد في حل تلك المشكلات ، فإن إحساس الجميع بوجود تلك المشكلات نفسها ، سيفتح الطريق الموصل إلى حلها مستقبلاً .
س ـ يلمس الزائر لأندونيسية شعوراً إسلامياً قوياً .. فهل ترون وراء هذا الشعور رصيداً كافياً من الوعي الإسلامي الصحيح ؟(/7)
ج ـ نعم هناك رصيد كاف إن شاء الله ، وقد حدثت حالات برهنت على ذلك ، وهي أنه كلما حدث ما يمس الكرامة الإسلامية نجد المسلمين شباباً وشيباً يهبون للذود عن تلك الكرامة ، وإليك مثلاً عن ذلك عندما تجرأ أحد القسس النصارى ـ وهو مدرس في مدرسة حكومية للتجارة في ماكاسار ـ على اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يعاشر بعض النساء سفاحاً ، طالبه تلامذته أولاً بسحب اتهامه ذلك ، وحين عارض وأصر طالبوا الكنيسة المسئولة عنه أن تلزمه بسحب كلامه ولما تملصت الكنيسة عن الاعتراف بمسئوليتها آذن التلامذة إخوتهم وكبارهم فهبوا هبة رجل واحد وقدموا مطالبهم باتخاذ الإجراءات الرادعة تجاه هذا القسيس الأرعن ، ولما أحسوا بعدم جدوى ذلك ، أحرقوا عدداً من الكنائس في مدينة ماكاسار (أوجونغ باندتن حالياً) ومثلاً آخر عندما حاول البعض في البرلمان تقديم مشروع بقانون مدني للزواج يسري على كل مواطن إندونيسي بغض النظر عن دينه وعقيدته ، طالب المسلمون بتعديل ذلك المقترح أو سحبه ، أصلاً ولكن أصحاب الاقتراح نظراً لأنهم يملكون أغلبية ساحقة صمموا وأصروا على المواصلة في مناقشة المشروع ، وهنا هب المسلمون والشباب منهم بشكل لافت للنظر وقاموا بالتظاهرات التي عمت شوارع العواصم ، تشدد النكير على المقترح وتنادي بسحبه ، وكان هذا العمل تلقائياً ، دون أن يوعز إليهم أحد بذلك ودون أن يثيرهم لذلك أحد ، وفي إحدى التظاهرات وقفت إحدى الفتيات تصيح منفعلة :
إنني لا أرضى لنفسي قرآناً هو السفاح عينه .
وحين أحس الشباب المسلم أن هناك موعداً في البرلمان لمناقشة المقترح حضروا إلى البرلمان كأي مواطن يشهد جلسة من جلسات البرلمان ، واحتلوا شرفات الضيوف هادئين دون أن يبدو عليهم أي شيء يثير الاشتباه فيهم ، وحين افتتحت الجلسة وكانت برئاسة الحاج أدهم خالد (من نهضة العلماء) وأعلن عن موضوع الجلسة ، إذا بالشرفات تهدر هديراً ، وإذا باللافتات تخرج من وراء القمصان وتنشر، وفيها التنديد بالقانون المقترح ، وقفزوا فوق حواجز المشرفات لينزلوا إلى حلبة البرلمان وهم يرسلون هتافات صارخة أثارت المخاوف في أعضاء البرلمان ورئيسه ، بله وزير الشئون الدينية الحاج الدكتور البروفيسور عبد المعطي علي ، فغادروا قاعة البرلمان لا يلوون على شيء ، بل إن رئيس الجلسة نسي أن يرفعها وهكذا احتل هؤلاء الشبان حلبة البرلمان ولم يمكن إجلاؤهم إلا بعد استقدام فرقة من القوى الضاربة بالمصفحات ، ودخل الجنود حلبة البرلمان وناشدوا الشباب أن يغادروها ، وانفعل أحدهم حين سمع إحدى الفتيات تستصرخ الضمائر تجاه هذا القانون الذي يريد التلاعب بأقدس مؤسسات المجتمع المسلم ، فذرفت عيناه ، وناشدها مغادرة البرلمان وخرجوا وحين وصلوا إلى ساحة البرلمان وكان هناك بركة ماء قالوا : نريد أن نتوضأ ونصلي فقد حان وقت الصلاة ، فلم يسع الجنود إلا أن يستجيبوا لهم وسمحوا لهم بالصلاة ثم غادروا البرلمان سالمين ، واضطرت الحكومة في النهاية ، وبخاصة أولئك الذين يريدون استضعاف المسلمين ، إلى سحب القانون المقترح واستبدال آخر به لم يكن صارخاً بتجاهل تعاليم الإسلام .. فلولا وجود رصيد كاف من الوعي الإسلامي الصحيح لما واجهوا كل هذه التعسفات وهم عزل من السلاح ، ولما تحركوا تلقائياً لمقاومة ذلك المشروع ، علماً بأن النظام القائم ، قائم على القوة والحديد والنار، وأنه يكمم كل وسائل الإعلام من إذاعة وتليفزيون وصحافة وكل نأمة معارضة . أرجو أن يكون في هذا ما يثبت وجود الرصيد الكافي من الوعي الإسلامي الصحيح لدى الإندونيسيين .
س ـ كيف تتصورون مستقبل الإسلام في إندونيسية على المدى القريب ؟
ج ـ الإسلام في إندونيسية في الوقت الحاضر يعاني الكثير من النكسات ، وذلك بعد أن سدد سوكارنو الضربة القاضية إلى حزب ماشومي بتحريض وتأييد الشيوعيين ، وكان الحزب مركز قيادة المسلمين الواعية .(/8)
لم يحل سوكارنو حزب ماشومي ولكنه خيره بين أن يحذف أساسه الإسلامي ليؤذن له بالبقاء ، أو الحظر، فاختار قادة الحزب عدم إلغاء الأساس الإسلامي وحل نفسه ، ولا يزال الوضع القائم حالياً شبيهاً بالبارحة مع فارق واحد وعدم وجود الشيوعية ، ولكن جاء بدلها التنصير والنصرانية والعلمانية ومذاهب الجاوية التي تسمي نفسها (أتباع المعتقدات) والباطنية وغيرها ، وكلها أسماء لمسمى واحد ، وأن ما سوف يحدث على المدى القريب هو الصدام والصراع في المجالات السياسية ، وحيث المسلمون ضعفاء جداً وفي الاقتصاد حيث أصبح 80 % من شئون التجارة والصناعة والأعمال بيد الصينيين ، الذين نالوا حظوة لدى العهد الجديد بفضل ما يقدمون من إتاوات ورشوات . غير أنه على الرغم من كل ذلك فإننا معشر المسلمين غير يائسين ولا متشائمين ، على المسلمين مهما كانوا أن يدافعوا عن دينهم وكيانهم وكيانه ، ونجحوا ولله الحمد وقد صمدوا في الدفاع عن شئون التربية والتعليم ونحن متفائلون أننا سننجح بإذن الله قريباً أو بعيداً ، لقد حاول العلمانيون تطبيق علمانيتهم في التربية والتعليم ولكن الله وفق فأبطل كيدهم ، ونحن واثقون من أن التطورات السياسية ليس من السهل برمجتها ولا التكهن بساعة حدوثها ، وما الذي يمكن تطبيقه وتحقيقه وفي أي ظرف ووقت ، ولكننا أحسسنا الكثير من التحقيق لوعد الله القائل [ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين] فقد حدث قبل أكثر من ثلاثين عاماً مضي أن تكهن بعض رجال الغرب ، قائلاً :
قد يكون من الممكن أن تستقل إندونيسية بعد أربعين عاماً أي سنة 1970 ، ولكن خاب فأله واستقلت إندونيسية سنة 1945 أي بعد 15 عاماً من توقعاته ، وذلك بعد أن اندلعت نيران الحرب العالمية الثانية ووصل لهيبها إلى الشرق الأقصى ، باندلاع حرب آسية الشرق العظمى ، ثم انتهت تلك الحرب بسقوط القنبلة الذرية على ناقازاكي وهيروشيما ، التي مهدت لإندونيسية السبيل للتحرر من ربقة الاستعمار كلياً .
س ـ هل يصح القول بأنكم انصرفتم عن السياسة نهائياً لتتفرغوا لتنظيم الدعوة الإسلامية ؟ وما تعليل ذلك وما مردوده ؟
ج ـ عدم قيامي بالتحرك السياسي المباشر، يعني عدم قيامي بقيادة حزب سياسي كما كنت سابقاً ، ومعلوم أن الحزب السياسي (ماشومي) الذي شاركت في تأسيسه وقيادته مدة عشر سنوات قد أجبر من قبل سوكارنو على الخيار بين أمرين ، إما التخلي عن أساس الإسلام أو الحل ، فاختار الثاني كما أسلفت ، ولكن هذا لا يعني أنني تخليت أصلاً عن التورط في العمل السياسي الوطني والعالمي ، ففي الحالات التي تتعرض فيها للخطر مصالح الإسلام والمسلمين في إندونيسية بخاصة أتصدى للعمل ولتحريك الرأي العام لمواجهته واستخدام كل ما يمكن استخدامه للذب عن مصالح الإسلام ، وإن لم أقد حزباً سياسياً ، وكثيراً ما وفقني الله في هذا وله الحمد والشكر، ثم هل في الإسلام تفريق بين السياسة والدين ، وهل لديه شيء لقيصر وشيء لله ، حتى يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله !.. فالأمر كله لله في الإسلام ، والعمل الإسلامي يشمل كل شيء في هذا الدين والحمد لله رب العالمين(/9)
---
الدلائل الجليّة
على مشروعية
العمليّات الاستشهاديّة
الدكتور أحمد عبد الكريم نجيب
أستاذ الحديث النبوي و علومه في كلّية الدراسات الإسلاميّة بسراييفو ، و الأكاديميّة الإسلاميّة في زينتسا
و مدرّس العلوم الشرعيّة في معهد قطر الديني سابقاً
---
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتنَّ إلا و أنتم مسلمون } [ آل عمران : 102 ] .
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بثَّ منهما رجالاً كثيراً و نساء ، و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } [ النساء : 1 ] .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم - و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } [ الأحزاب :70،71 ] .
أمّا بعد :
فيوماً بعد يوم تُمتهن كرامة الأمة ، و تهون دماء أبنائها و ديارهم و أعراضهم على الأعداء ، و تتداعى علينا الأمم من كلّ حدب و صوب ، تصوّب سهامها إلى نحورنا ، و تلِغ في دمائنا ، و نحن حيارى بلا خيار ، و سكارى بلا قرار .
يستصرخنا القدس و أهله ، تتحشرج في نفوسهم الحسرة ، و تعتلج في حناجرهم الكلمات ، فيغصون بالدموع ، و يبكون الأمس و اليوم و الغد المجهول .
حتّام يا قُدساه جرحُكِ يَنزفُ و إلامَ يَرشُف من دماكِ الأسقُفُ ؟
خمسون عاماً قد مضينَ و نيّفُ و العُرب صرعى و المدافع تقصفُ
و إنّ الله تعالى كتب الجهاد على هذه الأمّة ، و جعله فريضةً قائمة على التعيين أو الكفاية ، ماضيةً إلى يوم القيامة مع كلّ برّ و فاجر لتكون كلمة الله هي العليا و كلمة الذين كفروا السفلى .
و من أعظم ما ابتليت به الأمّة في عصرنا الحاضر ، غياب فريضتين جليلتين تردّت الأمّة بفقدهما في دَرَكات الذل و الهوان ، و تداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها ، و هما تنصيب الإمام العادل خليفة المسلمين ، و النفرة للجهاد في سبيل الله تعالى ، لفتح البلاد و قلُوب العباد ، و الإثخان في أهل الكفر و الإلحاد و العناد .
و ما تَعَيَّن الجهاد في مِصرٍ من الأمصار الإسلاميّة إلا هَبَّ المسلمون لنصرة أهله ، و نفروا خفافاً و ثقالاً ، يدفعون عن إخوانهم صولة العدوّ ، و يشاركونهم شَرف الذود عن حُرُمات المسلمين ، و الإثخان في العتاة المجرمين ، فمنهم من قضى نحبَه و منهم من ينتظر مرابطاً على الثغور في فلسطين و أفغانستان و الشيشان و الفلبين و الصومال و البوسنة و غيرها .
و الأصل في المسلم – و إن لم ينل شَرَف المشاركة الميدانيّة في الرباط في سبيل الله بعد - أن لا يكفّ عن تحديث نفسه بالجهاد ، و تهيئة نفسه له إعداداً و استعداداً ، و التطلّع إلى الشهادة في سبيل الله ، فقد روى أبو داوود بإسناد صحيح عن أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : « مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ » . و من واظب على ذلك ، فلن يدّخر وسعاً في السعي إلى نيل مناه ، و ربّما دَفعه حبّ الشهادة و التطلّع إليها ، إلى أن يجود بنفسه في عمليّة يغلب على ظنّه أن تُقِلّه إلى مراتب الشهادة في سبيل الله ، ليلقى ربّه محباً للقائه ، روى الشيخان و الترمذي و النسائي و أحمد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ » ، و حاشاه تعالى أن يُخلف وعده ، أو يكره لقاء عبدٍ جاد بنفسه في سبيله تعالى .
فليتحين من فاتته المشاركة فيما مضى الفرصة للمشاركة فيما هو آت ، فإن الجهاد ماضٍ و لا بُدّ ، و على الرغم ممّا تمخّض عنه في السابق من خيراتٍ حِسان - رُغم قلّة النصير ، و كثرة النكير - فإنّ جراحات المسلمين لا تزال نازفة في شرق العالم الإسلاميّ و غَربه ، و لا يكاد يلتئم جُرحٌ حتى يُثلَم ثغر جديد هنا أو هناك ، فيهب لسدّه شبابٌ باعوا نفوسهم لله ، و ذاقوا حلاوة التضحية و الجهاد ، فغبّروا أقدامهم في سبيله ، و عفّروا جباههم بتراب الرباط في ميادينه و على ثغوره ، غير آبهين أو مبالين بصَلَف الطغاة ، و ملاحقة البغاة ، و خُذلان بعض الدعاة .(/1)
بل تراهم رهباناً في الليل ، فرساناً في النهار ، يقارعون الباطل ، و يصرخون في وجه أهله ( هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ) [من سورة التوبة الآية 52] .
و إذا لهث القاعدون حول حطام الدنيا ، و تزاحموا بالأكتاف و الأقدام على أبواب الرزق و أسبابه في ديار الكفر ، رأيت أهل الثغور أكثر اطمئناناً و إيماناً و تسليماً ، يستحْلُون مرارة الرباط ، و يحتملون شظف العيش ، و لا يلتمسون من الدنيا و حطامها إلا قُدّرَ لهم تحت ظلال الرماح ، يحدو ركبهم خير البشر ، و أمير الظَفَر صلى الله عليه و سلّم ، الذي قال فيما رواه البخاري معلّقاً و أحمد بإسناد صحيح عَنِ عبد الله ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنه عليه الصلاة و السلام : « جُعِلَ رِزْقِى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِى ، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي » . فطوبى لمن بايعه على ذلك أو بايع من بايع عليه ، ثبت في الصحيحين و سنن النسائي و الترمذي و مسند الإمام أحمد أن يَزِيدَ بْنِ أَبِى عُبَيْدٍ سأل سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه : عَلَى أَيِّ شَيءٍ بَايَعْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ؟ قَالَ : عَلَى الْمَوْتِ .
فيا حُسنَها من بَيعةٍ ، و يا طِيبَها من مِيتة ، ترى مَن ارتضوها يمني نفسه و يؤمّل صاحبه في النصر و التمكين ، و يشدّ على يديه مبايعاً على الصبر و الثبات ، فلا يهولهم جَلل المُصاب ، و لا يسوؤهم الوصف بالعنف و الإرهاب ، و لا يزعزع عزائمهم ، أو يفت في عضُدهم ، سفك الدماء و تطاير الأشلاء ، ما دام ذلك في سبيل الله ، ابتغاءَ مَرضاته ، و رَجاء رِضاه .
و لستُ أُبالي حينَ أُقْتَل مُسلماً على أيّ جنبٍ كان في الله مَصرَعي
و ذلك في ذات الإله و إن يشأ يبارك على أوصال شِلوٍ مُمَزّعِ
... و إذا كان الحقّ تعالى قد ( اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) [ التوبة : 111 ] فلا فرق عند من باع نفسه لربّه ، بين رصاصة يستقبلها في صدرِ مقبلٍ غير مدبر ، و بينَ حزامٍ ينسف به الأعداء و إن قطع النياط و مزّق الأشلاء ، ما دام طعم الشهادة واحداً .
إني بذلت الروح دون كرامتي و سلكتُ دَربَ الموتِ أبغي مَفْخَرا
و غَرَستُ في كفّ المنيّة مُهجتي و رَوَيْتُ بالدم ما غَرَستُ فأزهرا
هذا فداء القدس أن يُجدي الفِدا و لتُربِ كابولٍ أقدّمُه قِرى
روى النسائي و ابن ماجة و أحمد و الدارمي و الترمذي بإسنادٍ صحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ » .
غير أنّ من بايعوا الشهيد على هذه الطريق و خَلفوه عليه ، يعزّ عليهم فراقه ، فيبكيه رفاقه ، و يسوؤهم أن لا تُوارى بين ظهرانيهم رُفاته ، و يسوؤنا أكثَر سماع من يشكك في مشروعيّة عَمَله ، و يصدّ الناس عن بلوغ هدفه ، بدعوى أن فعلته انتحاريّة ، و أن ميتته ميتةٌ جاهليّة .
و كفى بهذا التشكيك حافزاً لنا على البحث في مشروعية العمليّات الاستشهاديّة ، من باب إحقاق الحق و نُصرة المظلوم ، و إنزال من جاد بنفسه ، و ضحّى بدمه ، و بذل روحه رخيصةً في سبيل ربّه منزلته التي وُعِدها ، و ذلك من خلال المقاصد التالية :
المقصد الأوّل
في تعريف العمليّات الاستشهاديّة
اصطلاح العمليّات الاستشهاديّة اصطلاح مركب من :
العمليّات ؛ و هي جمع عمليّة : لفظ مشتق من العمل , يصدق على كل ما يُفعل ، و هو من الألفاظ المحدثة , و يُطلَق على جملة أعمال تُحدث أثراً خاصاً , فيقال : عمليةٌ جراحية ، أو عمليّة حربية [ انظر : المعجم الوسيط مادة : عمل ].
و العمليّة بهذه الصيغة مصدر صناعي دال على معنى خاص لم يكن ليدل عليه لولا زيادة الياء و التاء المربوطة في آخره ، و الفرق بين العمل و العملية كالفَرق بين الإنسان و الإنسانية ، و الحزب و الحزبية ، و الحجة و الحجية , و الحكم و الحاكمية ، و الإله و الإلهيّة ، و ما إلى ذلك .
و الاستشهاد : طلب الشهادة ، و هي القتل في سبيل الله .
روى مسلمٌ و أحمد عَنْ أَبِى مُوسَى الأشعري رضي الله عنه قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً أَىُّ ذَلِكَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي الْعُلْيَا فَهُوَ في سَبِيلِ اللَّهِ » .(/2)
و عليه فإنّ العمليات الاستشهادية : أعمالٌ مخوصة يقوم بها المجاهد في سبيل الله ، مع التيقّن أو غلبة الظن أنّها تُثْخِن في العدو و يَبلُغ القائم بها مراتب الشهداء بالقتل في سبيل الله .
وهي بصورها العصريّة نمط من أنماط المقاومة الحديثة ، عُرفت بعد اكتشاف المتفجّرات في العصر الحديث ، و اشتهرت بعد أن أصبحت من وسائل ما يُعرف بحروب العصابات ، و سُبِق المسلمون إلى استعمالها ، حيث عُرِفت في الحرب الأهليّة الأمريكيّة و حَرب أمريكا في فيتنام و اليابان ، و أنحاء أخرى من العالم قبل أن يستعملها المسلمون الذين لجؤوا إليها لقلّة البدائل و الوسائل المتاحة في أيديهم ، و عدَم تمكنّهم من الصمود و الوقوف في وجوه الأعداء بإمكانيّاتهم المحدودة ، مؤثرين بالإقدام عليها ميتة العزة و الكرامة في سبيل الله ، على العيش في ذل و هوان ، و كأنّهم يتمثّلون قول الأوّل :
لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ و لتَسقني بالعز كأس الحنظلِ
و في المقاصد التالية إن شاء الله تقريرٌ لمشروعيّة هذه العمليّات و فضل القيام بها ، و ما يُحتسب عند الله تعالى من ثواب الشهداء و منازلهم للقائمين بها ابتغاء ما عنده ، قياساً على ما جاء في مسألة المقتحم المغرر بنفسه في صف العدو في كتاب الله تعالى و سنّة نبيّه صلّى الله عليه و سلّم .
المقصد الثاني
الأدلّة على مشروعيّة و فضل الاقتحام على العدو و التغرير بالنفس في ذلك من الكتاب و السنّة و نماذج من سيَر السلف الصالح في إقراره
يدلّ على ما ذهبنا إليه من مشروعيّة و فضل خوض العمليّات الاستشهاديّة ما جاء في قصّة أصحاب الأخدود التي رواهها مسلم و الترمذي و أحمد عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه ، و فيها قَول الغلام للملك : « إِنَّكَ لَسْتَ بقاتلي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ . قال : وَمَا هُوَ قال : تَجْمَعُ النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِى عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِى ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ . ثُمَّ ارْمِنِى فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِى . فَجَمَعَ النَّاسَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قال : بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ . ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِى صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِى صُدْغِهِ فِى مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ : النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ » .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله [ في مجموع الفتاوى : 28 /540 ] بعد ذكر قصّّّة الغلام هذه : ( و فيها أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل لمصلحة ظهور الدين و لهذا أحب الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم فى صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه إذا كان فى ذلك مصلحة للمسلمين ) .
قال الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله [ في شرح رياض الصالحين : 1 / 165 ] : ( إن الإنسان يجوز أن يغرر بنفسه في مصلحة عامَّة للمسلمين ، فإن هذا الغلام دلَّ الملك على أمر يقتله به ويهلك به نفسه ، وهو أن يأخذ سهماً من كنانته... الخ ) .
فانظر – رحمك الله – كيف أقدَم الغلام المؤمن على ما من شأنه أن يقتله يقيناً رجاء مصلحةٍ راجحةٍ و هي إسلام قومه ، الذين دخلوا بسببه في دين الله أفواجاً ، و هذا من شرع من قَبلَنا الذي لا ناسخ و لا معارض له في نصوص الكتاب و السنّة ، و الله أعلم .
و قد حَمَل عددٌ من الصحابة الكرام فمن بَعدَهم قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) [ البقرة : 207 ] على من حَمَلَ على العدو الكثير لوحده وغرر بنفسه في ذلك ، كما قال عمر بن الخطاب و أبو أيوب الأنصاري وأبو هريرة رضي الله عنهم فيما رواه أبو داود والترمذي و ابن حبان و صححه و الحاكم ، [ انظر : تفسير القرطبي 2 / 361 ] .
و روى ابن أبي شيبة في مصنّفه و البيهقي في سننه أنّ هشام بن عامر الأنصاري رضي الله عنه حمل بنفسه بين الصفين على العدو الكثير فأنكر عليه بعض الناس و قالوا : ألقى بنفسه إلى التهلكة ، فرد عليهم عمر بن الخطاب و أبو هريرة رضي الله عنهما بقوله تعالى ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ) [ البقرة : 207 ] .
و روى القرطبي [ في تفسيره : 2 / 21 ] أنّ هذه الآية نزلت فيمن يقتحم القتال ، ثم ذكر قصّة أبي أيّوب رضي الله عنه .(/3)
و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ في سَبْعَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا رَهِقُوهُ قَالَ : « مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رفيقي في الْجَنَّةِ » . فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضاً فَقَالَ : « مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رفيقي في الْجَنَّةِ » . فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبَيْهِ : « مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا » .
و معنى قول أنس : رَهِقوه أي غشيه المشركون و قرُبوا منه ، و قوله صلى الله عليه و سلّم : ( مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا ) أي ما أنصفت قريش الأنصار ، لكون القرشيَّيْن لم يخرجا للقتال , بل خرج الأنصار واحداً تلو الآخر , و روي : ( ما أَنَصَفَنَا ) بفتح الفاء ، و المراد على هذا : الذين فروا من القتال فإنهم لم ينصفوا لفرارهم . [ انظر شرح صحيح مسلم للنووي : 7/430 و ما بعدها ].
و في الصحيحين قصّة حملِ سلمة ابن الأكوع و الأخرم الأسدي و أبو قتادة لوحدهم على عيينة بن حصن و من معه ، و ثناء الرسول صلى الله عليه و سلم عليهم بقوله : « كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ » .
قال ابن النحاس [ في مشارع الأشواق : 1 / 540 ] : و في الحديث الصحيح الثابت : أدل دليل على جواز حمل الواحد على الجمع الكثير من العدو وحده ، و إن غلب على ظنه أنه يقتل إذا كان مخلصا في طلب الشهادة كما فعل سلمة بن الأخرم الأسدي ، ولم يعب النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينه الصحابة عن مثل فعله ، بل في الحديث دليل على استحباب هذا الفعل و فضله فإن النبي عليه الصلاة والسلام مدح أبا قتادة و سلمة على فعلهما كما تقدم ، مع أن كلاً منهما قد حمل على العدو وحده و لم يتأنّ إلى أن يلحق به المسلمون .اهـ .
و روى أحمد في المسند عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ قُلْتُ لِلْبَرَاءِ بن عازب رضي الله عنه : الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَهُوَ مِمَّنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ ؟ قَالَ : لاَ لأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : ( فَقَاتِلْ في سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ ) [ النساء : 84 ] إِنَّمَا ذَاكَ في النَّفَقَةِ .
و روى هذا الأثر ابن حزم [ في المحلى : 7/294 ] عن أبي إسحاق السبيعي قال : سمعت رجلاً سأل البراء بن عازب : أرأيت لو أن رجلاً حمل على الكتيبة ، وهم ألف ، ألقى بيده إلى التهلكة ؟ قال البراء : لا ، ولكن التهلكة أن يصيب الرجل الذنب فيلقي بيده ، ويقول : لا توبة لي .
قال ابن حزم : و لم ينكر أبو أيوب الأنصاري ، و لا أبو موسى الأشعري أن يحمل الرجل وحده على العسكر الجرار ، و يثبت حتى يقتل .
و في الباب أيضاً ما رواه أبو داوود و الترمذي بإسناد صحيح عَنْ أَسْلَمَ أَبِى عِمْرَانَ التُّجِيبِىِّ قَالَ كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيماً مِنَ الرُّومِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا سُبْحَانَ اللَّهِ يُلْقِى بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِىُّ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الإِسْلاَمَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الإِسْلاَمَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَلَوْ أَقَمْنَا في أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا ( وَأَنْفِقُوا في سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) [ البقرة : 195 ] فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الإِقَامَةَ عَلَى الأَمْوَالِ وَإِصْلاَحَهَا وَتَرَكْنَا الْغَزْوَ فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصاً فِى سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ . قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ .(/4)
و في مصنف ابن أبي شيبة أنّ معاذ بن عفراء رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، مايضحك الرب من عبده ؟ قال : غمسه يده في العدو حاسراً . قال : فألقى درعاً كانت عليه ، فقاتل حتى قتل . [ و في إسناد هذا الحديث مقال رغم تصحيح ابن حزم له في المحلى : 7/294 ، و روي بأسانيد أُخر في تاريخ الطبري : 2/33 ، و سيرة ابن هشام : 3/175 ] .
و في سير السلف الصالح من لدُن الصحابة الكرام فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين صورٌ رائعة ، و نماذج فريدة ، و أدلةٌ ساطعة على العمل الاستشهاديّ و مشروعيّته ، و من ذلك :
ما جاء في قصّة تحصن بني حنيفة يوم اليمامة في بستان لمسيلمة كان يُعرف بحديقة الموت , فلمّا استعصى على المسلمين فتحه ، قال البراء بن مالك رضي الله عنه ( و هو ممّن إذا أقسم على الله أبَرّه ، كما في سنن الترمذي بإسناد صحيح ) لأصحابه : ضعوني في الجَحَفَة – أو قال : في ترسٍ ، و هما بمعنىً - و ألقوني إليهم فألقوه عليهم فقاتلهم حتى فتح الباب للمسلمين [رواه البيهقي في سننه الكبرى: 9/44 ، و القرطبي في تفسيره : 2 / 364 ، و انظره في أسد الغابة و تاريخ الطبري مفصّلاً ].
و روى الطبري [ في تفسيره : 2/363 ] أنّ خيل المسلمين نفرت من فيلة الفرس لما لقيهم المسلمون في وقعة الجسر , فعمد رجل من المسلمين فصنع فيلا من طين و آنس به فرسه حتى ألفه , فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل , فحمل على الفيل الذي كان يقدم فيلة العدو فقيل له : إنه قاتلك . فقال : لا ضير أن أُقتل ويفتح للمسلمين .
و هذا الفعل ليس له في لغة الإعلام المعاصر تسمية يعرف بها إلا أن يكون عمليّة استشهادية يسميها العلمانيون فدائيّة أو انتحاريّة .
قلتُ : وجهُ الاستدلال بما رُوي و الاستئناس بما قيل في مسألة حمل المجاهد المقتحم على العدو العظيم لوحده أو الانغماس في الصف و تغرير النفس و تعريضها للهلاك بغلبة الظن أو التيقّن عدم الفارق بينها و بين العمليّات الاستشهاديّة في العصر المحاضر ، حيث ينغمس المجاهد بين الكفار ، أو يقبل عليهم مقتحماً مغرراً بنفسه لينكي بهم و يوقع فيهم القتل والإصابة و يشرّد بهم من خلفهم .
و لا أزعم في هذه العجالة إجماعاً على مشروعية الاقتحام و التغرير بالنفس للإنكاء بالعدو و ما يقاس عليها من عمليات الاستشهاديين ، بل المسألة خلافيّة ، و سيأتي عرض الإمام القرطبي لقول المخالف فيها ، و ذهابه مذهب الجمهور في القول بمشروعيتها و جواز الإقدام عليها ، إن شاء الله .
المقصد الثالث
حكاية الإجماع على مشروعيّة تقحّم المهالك في الجهاد
نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله [ في الفتح : 12 / 316 ] عن المهلب قوله : ( و قد أجمعوا على جواز تقحّم المهالك في الجهاد ) .
و روى ابن النحاس [ في مشارع الأشواق : 1 / 588 ] مثل ذلك عن المهلب .
و حكى الإمام النووي رحمه الله [ في شرح مسلم : 12 / 187 ] الاتفاق على التغرير بالنفس في الجهاد .
قلت : و في الإجماع المحكي إن ثبت إحقاق الحقّ إن شاء الله .
المقصد الرابع
في ذكر طائفة من أقوال السلف و الأئمة المتقدمين في هذا الباب
لم يَرَ جمهور أهل العلم المتقدمين بأساً في جواز الاقتحام و لو أدى إلى مهلكة ، بل حكي استحباب ذلك عن أئمة المذاهب الأربعة ، كما في كلام شيخ الإسلام ابن تيميّة المتقدّم عند ذكر قصّة الغلام .
و لبيان ذلك أقتطف ما تيسّر من كتب المذاهب المعتمدة فأقول :
جاء في كتاب المبسوط للإمام السرخسي ( و هو من الحنفية ) : ( لو حمل الواحد على جمع عظيم من المشركين فإن كان يعلم أنه يصيب بعضهم أو يُنكي فيهم نكاية فلا بأس بذلك ، و إن كان يعلم أنه لا ينكى فيهم فلا ينبغي له أن يفعل ذلك ) . [ المبسوط ، للسرخسي : 10/76 ] .
و ذَكَر الجصّاص في تفسيره ن محمد بن الحسن الشيباني صاحبَ أبي حنيفة ذكر في السير الكبير أن رجلا لو حمل على ألف رجل و هو وحده ، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية ، فإن كان لا يطمع في نجاة و لا نكاية فإني أكره له ذلك ، لأنه عرض نفسه للتلف بلا منفعة للمسلمين ، و إنما ينبغي للرجل أن يفعل هذا إذا كان يطمع في نجاة أو منفعة للمسلمين ، فإن كان لا يطمع في نجاة و لا نكاية و لكنه يجرِّيء المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل ، فيقتلون و ينكون في العدو فلا بأس بذلك إن شاء الله ، لأنه لو كان على طمع من النكاية في العدو و لا يطمع في النجاة لم أر بأسا أن يحمل عليهم ، فكذلك إذا طمع أن يُُُنْكِِِِيَ غيره فيهم بحملته عليهم فلا بأس بذلك ، و أرجو أن يكون فيه مأجورا ، و إنما يكره له ذلك إذا كان لا منفعة فيه على وجه من الوجوه ، و إن كان لا يطمع في نجاة و لا نكاية و لكنه مما يرهب العدو فلا بأس بذلك لأن هذا أفضل النكاية و فيه منفعة للمسلمين [ أحكام القرآن للجصاص : 1 / 327 ].
و وافقه الجصاص فقال [ في أحكام القرآن ، له : 1 / 328 و ما بعدها ]:(/5)
والذي قال محمد من هذه الوجوه صحيح لا يجوز غيره ، و على هذه المعاني يحمل تأويل من تأوّل في حديث أبي أيوب أنه ألقى بيده إلى التهلكة ، بحمله على العدو إذ لم يكن عندهم في ذلك منفعة ، و إذا كان كذلك فلا ينبغي أن يتلف نفسه ، بدون منفعة عائدة على الدين و لا على المسلمين ، فأما إذا كان في تلف نفسه منفعة عائدة على الدين فهذا مقام شريف مدح الله به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( إنَّ اللَّهِ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) [ التوبة : 111 ] ، و قال : (و لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) [ آل عمران : 169 ] ، و قال : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ) [ البقرة : 207 ] ، في نظائر ذلك من الآي التي مدح الله فيها من بذل نفسه لله .اهـ.
و ممّن انتصر لذلك الإمام الشافعي رحمه الله حيث قال [ في كتاب الأم : 4/169 ] : ( لا أرى ضيقاً على الرجل أن يحمل على الجماعة حاسراً ، أو يبادر الرجل و إن كان الأغلب أنه مقتول , لأنه قد بودر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و حَمَل رجل من الأنصار حاسراً على جماعة من المشركين يوم بدر بعد إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بما في ذلك من الخير فقُتِل ) .
و في كلام الشافعي إشارة إلى ما رواه مسلم في صحيحه و أحمد في مسنده من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ المتقدّم .
و قال الإمام النووي رحمه الله [ في باب ثبوت الجنة للشهيد من شرح مسلم : 13 / 46 ] بعد ذِكر قصّة صاحب التَمرات : فيه جواز الانغماس في الكفار والتعرض للشهادة وهو جائز بلا كراهة عند جماهير العلماء . اهـ .
و في كتاب الفروع لابن مفلح الحنبلي [ 6 / 189 ] : ( قال و لو حمل على العدو و هو يعلم أنه لا ينجو لم يُعِن على قتل نفسه و قيل : له – أي للإمام أحمد - يحمل الرجل على مائة ؟ قال : إذا كان مع فرسان ، و ذكر شيخنا أنّه يستحب انغماسه لمنفعة للمسلمين و إلا نهى عنه و هو من التهلكة ) .
قال أبو عبداللّه القرطبي [ في تفسيره : 2 / 363 و ما بعدها ] : اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده ، فقال القاسم بن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبد الملك من علمائنا : لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم ، إذا كان فيه قوة ، وكان للّه بنيّة خالصة ، فإن لم تكن له قوة فذلك من التهلكة ، و قيل : إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل ؛ لأن مقصوده واحد منهم . اهـ .
ثمّ نقل [ في تفسيره أيضاً : 2 / 364 ] قول بعض المالكيّة : إن حمل على المائة أو جملة العسكر و نحوه و علم أو غلب على ظنه أنه يقتل ، و لكن سينكي نكاية أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز ، و نقل أيضا عن محمد بن الحسن الشيباني قوله : لو حمل رجل واحد على الألف من المشركين وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو ، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه ؛ لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين ، فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه ؛ لأن فيه نفعاً للمسلمين على بعض الوجوه ، فإن كان قصده إرهاب العدو ليعلم العدو صلابة المسلمين في الدين ، فلا يبعد جوازه إذا كان فيه نفع للمسلمين ، فَتَلَفُ النفس لإعزاز دين اللّه وتوهين الكفر ؛ هو المقام الشريف الذي مدح اللّه به المؤمنين في قوله : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ) [ المائدة : 111 ] ، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح اللّه بها من بذل نفسه ، وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) .
إلى أن قال [ في تفسيره : 2/364 ] : ( و الصحيح عندي جواز الاقتحام على العساكر لمن لا طاقة له بهم , لأنّ فيه أربعة وجوه :
الأول: طلب الشهادة .
الثاني: وجود النكاية .
الثالث : تجرئة المسلمين عليهم .
الرابع : ضعف نفوسهم ليروا أنّ هذا صنع واحد فما ظنك بالجمع ) .
و ذكر هذه الوجوه الأربعة أيضاً ابن العربي [ 1/166 ] .(/6)
و أختم بقول شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله : ( و أما قوله : أريد أن أقتل نفسي في الله فهذا كلام مجمل ؛ فإنه إذا فعل ما أمره الله به فأفضي ذلك إلى قتل نفسه فهذا محسن في ذلك ، مثل من يحمل على الصف وحده حملاً فيه منفعة للمسلمين و قد اعتقد أنه يقتل فهذا حسن ... ومثل ما كان بعض الصحابة ينغمس في العدو بحضرة النبي صلى الله عليه و سلّم ، و قد روى الخلال بإسناده عن عمر بن الخطاب أن رجلاً حمل على العدو وحده فقال الناس : ألقى بيده إلى التهلكة فقال عمر لا و لكنه ممن قال الله فيه : ( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) [ البقرة : 207 ] ) [ مجموع الفتاوى 25 / 279 ] .
المقصد الخامس
أقوال بعض أهل العلم المعاصرين في حكم العمليّّّات الاستشهاديّة
و من أهل العلم المعاصرين من له في المسألة قولان كعلامّة نجد الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله ، و ما أحد قوليه بأولى من الآخر إذ إنّّّه يبني حكمه على مراعاة المصالح و المفاسد ، فقد سُئل [ في اللقاء الشهري العشرين ] عن شابّ مجاهد فَجَّرَ نفسه في فلسطين فقَتَل و أصاب عَشرات اليهود ، هل هذا الفعل يعتبر منه انتحاراً أم جهاداً ؟ فأجاب بقوله : ( هذا الشاب الذي وضع على نفسه اللباس الذي يقتل ، أول من يقتل نفسه ، فلا شك أنه هو الذي تسبب في قتل نفسه ، و لا تجوز مثل هذه الحال إلا إذا كان في ذلك مصلحة كبيرة للإسلام ، فلو كانت هناك مصلحة كبيرة ونفع عظيم للإسلام ، كان ذلك جائزاً ) .
فانظر - رحمك الله - كيف راعى المصالح في حُكمه ، و بنى على تحقيق مصلحة كبيرةٍ و نفع عظيم للإسلام قوله ( كان ذلك جائزاً ) ، و اضبط بهذا الضابط سائر كلامه و فتاواه و إن كان ظاهرها التعارض ، ليسهُل عليك الجَمع ، و يزول عنك اللبس ، فإن الجواب بحسب السؤال ، و الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره .
و مثل هذا الكلام يقال عن موقف محدّث الديار الشاميّة العلامّة الألباني ، الذي تعرّض رحمه الله إلى تطاول السفهاء و المتعالمين فنسبوا إليه زوراً و بهتاناً أنّه حكم على من يُقتل في عمليّة تفجير استشهاديّة يقوم بها في صفوف العدو بالانتحار ، و الشيخ بريء من ذلك براءةَ الذئب من دم يوسف ، و من فتاواه النيّرة في هذا الباب ما هو مثبت بصوته [ في الشريط الرابع و الثلاثين بعد المائة من سلسلة الهدى والنور ] حيث سُئل رحمه الله سؤالاً قال صاحبه : هناك قوات تسمى بالكوماندوز ، يكون فيها قوات للعدو تضايق المسلمين ، فيضعون – أي المسلمون - فرقة انتحارية تضع القنابل و يدخلون على دبابات العدو، و يكون هناك قتل... فهل يعد هذا انتحاراً ؟
فأجاب بقوله : ( لا يعد هذا انتحاراً ؛ لأنّ الانتحار هو: أن يقتل المسلم نفسه خلاصاً من هذه الحياة التعيسة ... أما هذه الصورة التي أنت تسأل عنها ... فهذا جهاد في سبيل اللّه... إلا أن هناك ملاحظة يجب الانتباه لها ، وهي أن هذا العمل لا ينبغي أن يكون فردياً شخصياً ، إنما يكون بأمر قائد الجيش ... فإذا كان قائد الجيش يستغني عن هذا الفدائي ، ويرى أن في خسارته ربح كبير من جهة أخرى ، وهو إفناء عدد كبير من المشركين و الكفار، فالرأي رأيه و تجب طاعته ، حتى و لو لم يَرضَ هذا الإنسان فعليه الطاعة ... ) .
إلى أن قال رحمه الله : الانتحار من أكبر المحرمات في الإسلام ؛ لأنّه لا يفعله إلا غضبان على ربه ولم يرض بقضاء اللّه ... أما هذا فليس انتحاراً ، كما كان يفعله الصحابة يهجم الرجل على جماعة من الكفار بسيفه ، و يُعمِل فيهم السيف حتى يأتيه الموت و هو صابر ، لأنه يعلم أن مآله إلى الجنة ... فشتان بين من يقتل نفسه بهذه الطريقة الجهادية و بين من يتخلص من حياته بالانتحار ، أو يركب رأسه ويجتهد بنفسه ، فهذا يدخل في باب إلقاء النفس في التهلكة ) .
و هذا تفصيل و تفريق دقيق بين العمليّات الانتحاريّة ، و تلك الجهاديّة الاستشهادية من وُفّق لفهمه ، صان لسانه من الافتئات على علماء الأمّة ، و من أشكل عليه ، أو توهّم الإشكال فيه وَقَع في أعراضهم ، و ربّما ظنّ أو حسِبَ نَفسه مدافعاً منافحاً عنهم ، و كان من الذين يحسبون أنّهم يُحسنون صُنعاً .
و يلزم من كلام الشيخ ناصر رحمه الله أنّه لا بدّ في العمليّات الاستشهاديّة من التفريق بين من يجتهد من العوام من تلقاء نفسه ، و بين من يقوم بعمليّة استشهاديّّّة رُتّب لها ، و أمر بها الأمير ، لأنّ طاعة الأمير واجبةٌ ، بل هي من طاعة الله تعالى ، و يغلب على الظنّ أن العمليّات الفرديّة غير المنظمة لا تجدي نفعاً ، بل تجر المسلمين إلى مفاسد عظيمة في الغالب ، لذلك جرى التفريق بين الحالتين .(/7)
قلت ُ : جاء اشتراط إذن الأمير عند من أوجَبه في الاقتحام قياساً على اشتراط ذلك في المبارزة ، و لست أذهبُ إليه لتخلّف علّة الاشتراط في عمليّات الاقتحام ، و قد أجاد ابن قدامة المقدسي رحمه الله التفريق بين المسألتين فقال بعد أن قرر وجوب إذن الأمير للمبارز : ( و لنا أن الإمام أعلم بفرسانه و فرسان العدو و متى برز الإنسان إلى من لا يطيقه كان معرضاً نفسه للهلاك فيَكسِر قلوب المسلمين ، فينبغي أن يفوض ذلك إلى الإمام ليختار للمبارزة من يرضاه لها ، فيكون أقرب إلى الظفر ، و جبر قلوب المسلمين ، و كسر قلوب المشركين . فإن قيل : قد أبحتم له أن ينغمس في الكفار و هو سبب لقتله ، قلنا : إذا كان مبارزاً تعلقت قلوب الجيش به ، و ارتقبوا ظفره ، فإن ظفر جَبَرَ قلوبهم ، و سرَّهم ، و كسر قلوب الكفار ، و إن قُتِل كان بالعكس ، و المنغمس يطلب الشهادة لا يُتَرقَّبُ منه ظفر و لا مقاومة فافترقا ) [ المغني ، لابن قدامة : 9 / 176 ] .
... و يا لَرَوعة قول الشافعي في كتاب السير [ كما في مختصر المزني نقلاً عن الأم ، له ] في مسألة اشتراط الإمام و إذنه في الغزو : وَإِنْ غَزَتْ طَائِفَةٌ بِغَيْرِ أَمْرِ الإمَامِ كَرِهْتُهُ لِمَا فِي إذْنِ الإمام مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِغَزْوِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ وَيَأْتِيهِ الْخَبَرُ عَنْهُمْ فَيُعِينُهُمْ حَيْثُ يُخَافُ هَلَاكُهُمْ فَيُقْتَلُونَ ضِيعَةً . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا أَعْلَمُ ذَلِكَ يُحَرَّمُ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْجَنَّةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الأنصار : إنْ قُتِلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا ؟ قَالَ فَلَكَ الْجَنَّةُ قَالَ فَانْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ فَقَتَلُوهُ وَأَلْقَى رَجُلٌ مِنْ الأنصار دِرْعًا كَانَ عَلَيْهِ حِينَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَنَّةَ ثُمَّ انْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ فَقَتَلُوهُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَإِذَا حَلَّ لِلْمُنْفَرِدِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى مَا الأغلب أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ كَانَ هَذَا أَكْثَرَ مِمَّا فِي الانْفِرَادِ مِنْ الرَّجُلِ وَالرِّجَالِ بِغَيْرِ إذْنِ الإمام . وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ وَرَجُلًا مِنْ الأنصار سَرِيَّةً وَحْدَهُمَا وَبَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ سَرِيَّةً وَحْدَهُ فَإِذَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَسَرَّى وَاحِدٌ لِيُصِيبَ غِرَّةً وَيَسْلَمَ بِالْحِيلَةِ أَوْ يُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ مَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةٌ .
و قال أيضاً : وَإِذَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ بِلَادَ الْحَرْبِ فَسَرَتْ سَرِيَّةٌ كَثِيرَةٌ أَوْ قَلِيلَةٌ بِإِذْنِ الإمام أَوْ غَيْرِ إذْنِهِ فَسَوَاءٌ وَلَكِنِّي أَسْتَحِبُّ أَنْ لَا يَخْرُجُوا إلا بِإِذْنِ الإمام ... وأمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ فَلَا أَعْلَمُهُ يَحْرُمُ ) . و استدلّ رحمه الله لذلك بالحديث المتقدّم ، و أضاف إليه ( أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأنصار تَخَلَّفَ عَنْ أَصْحَابِهِ بِبِئْرِ مَعُونَةَ فَرَأَى الطَّيْرَ عُكُوفًا عَلَى مُقْتَلَةِ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لِعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ سَأَتَقَدَّمُ إلَى هَؤُلَاءِ الْعَدُوِّ فَيَقْتُلُونِي وَلَا أَتَخَلَّفُ عَنْ مَشْهَدٍ قُتِلَ فِيهِ أَصْحَابُنَا فَفَعَلَ فَقُتِلَ فَرَجَعَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فِيهِ قَوْلًا حَسَنًا وَ يُقَالُ : فَقَالَ لِعَمْرٍو فَهَلَّا تَقَدَّمْت فَقَاتَلْت حَتَّى تُقْتَلَ ؟ } فَإِذَا حَلَّ الرَّجُلُ الْمُنْفَرِدُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْجَمَاعَةِ , الأغلب عِنْدَهُ وَعِنْدَ مَنْ رَآهُ أَنَّهَا سَتَقْتُلُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَآهُ حَيْثُ لَا يَرَى وَلَا يَأْمَنُ كَانَ هَذَا أَكْثَرَ مِمَّا فِي انْفِرَادِ الرَّجُلِ وَالرِّجَالُ بِغَيْرِ إذْنِ الإمام [ الأم ، للشافعي : 4 / 242 ] .
و من المقرر في مواضعه من كتب الفقه و السياسة الشرعيّة اشتراط الأمير – عند من اشترطه - في جهاد الطلب ، أمّا جهاد الدَفع فلا يحتاج إلى إذن الأمير و لا إلى وجوده أصلاً ، و يغلب على الظن أن الجهاد القائم في بلاد المسلمين اليوم هو من قبيل جهاد الدفع ، و الله المستعان ، فتَنَبّه !!
و مع ذلك نحسب أنّ إخواننا في بيت المقدس و أكناف بيت المقدس على علم بهذا و ليسوا سراة لا أمير لهم ، و الله حسيبنا و حسيبهم .
المقصد السادس
دلالة القواعد الفقهيّة و الأصوليّة على مشروعيّة العمليّات الاستشهاديّة(/8)
استقرّت القاعدة الفقهيّة ، على أنّ الأعمال بالنيّة ، لما رواه البخاري في الصحيح و مسلم في المقدمة و أبو داوود و ابن ماجة في سننهما عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى » .
قال الحافظ ابن حَجَر في الفتح [8/185 و ما بعدها ] مُنيطاً الحُكمَ بقَصد صاحبهِ : أما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو ، فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته ، و ظنه أنه يرهب العدو بذلك ، أو يجرِّئ المسلمين عليهم ، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن ، ومتى كان مجرد تهوّر فممنوع ، ولا سيما إن ترتّب على ذلك وهن في المسلمين ، واللّه أعلم .اهـ.
قلتُ : و إذا كانت النفس البشريّة مُلكاً لبارئها و خالقها ، و العبدَ مؤتَمَناً عَليها ، مسؤولاً عنها ، فليس له أن يتعدّى عليها فيؤذيها أو يزهقها بغير حقّ ، فإن أداء الأمانة في أسمى صُوَرها ، يكون بِبَذلِها لصاحبها و مالكها ، فمن جاد بنفسه طواعيةً في سبيل الله فقد أدّى ما عليه و أمره إلى الله .
و من التجنّي و مجاوزة الحق ؛ أن نحكم بالانتحار على من يريد الشهادة و يبذل نفسه في سبيل الله ، تحكّماً منّا في نيّته ، و حكماً على سريرته و ما في قلبه بغير علم ، مع علمنا أنّه لو أراد الانتحار لسلك إليه طرقاً أخرى و ما أكثرها و أيسرها .
كما يُستدلّ على مشروعيّة العمل الاستشهادي بقاعدة ( ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب ) المقرّرة عند الأصوليين ، ففي زمن الخَوَر و الضعف و الدَعة ، بل الصدّ عن الجهاد و التآمر على أهله ، و قطع السبل المفضية إليه ، مع الإقرار بوجوبه و تعيّنه ، لا يجد المجاهدون سبيلاً لمقارعة العدو و كسر شوكته ، سوى الاقتحام بأنفسهم في صفوفه ، رجاء ردّه على أعقابه ، و احتساب الشهادة لمن يقضي في تلك العمليات من المسلمين ، إذ لا بديل عن ذلك ، و لا سبيل للجهاد سوى هذا السبيل ، في ظل الظروف الراهنة ، فيُشرع العمل بهذه الصورة استناداً إلى القاعدة المتقدّمة الذِكر .
جاء في أضواء البيان للشيخ محمد الأمين بن المختار الشنقيطي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى : ( مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ) [ الحشر : 5] : إنّ الإذن بالقتال إذن بكل ما يتطلبه , بناء على قاعدة : الأمر بالشيء أمر به و بما لا يتم إلا به . اهـ.
و هاهنا شبهة يحسن الردّ عليها ، و هي أنّ بعض المعاصرين أفتى بأن المقدم على الاقتحام في عمل استشهادي ، منتحر قاتل لنفسه ، مستحقّ للوعيد يوم القيامة .
و نذكّر من هذا مذهبه بقول علماء الأصول : ( لا قياس مع الفارق ) ، فكيف يُقاس من طلب الشهادة بتفجير نفسه إيماناً و احتساباً في العملية الاستشهادية ، و يٌقبل على الله بنفس مطمئنّة فرحة مستبشرة متطلعة للشهادة والجنة و ما عند الله في الآخرة ، و نصرة الدين و النكاية بالعدو و الجهاد في سبيله في الدنيا بمن قتل نفسه جزعاً و قنوطاً أو تسخطا على القدر و اعتراضا على المقدور أو استعجالا للموت أو تخلصا من الآلام و العذاب أو يأسا من الشفاء ، بنفس خائفة يائسة ساخطة لا يستوون ، فقد قال تعالى : ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون ) ، و قال تعالى : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) .
و أما من قاس العمليّة الاستشهاديّة على الانتحار ، و ألحقها به في الحكم ؛ بدعوى أنّ من يفجّر نفسه بين عناصر العدو يشبه المنتحر من جهة مباشرته قتل نفسه بيده أو بما يحمله من متفجّرات ، لا بيد عدوّه أو سلاحه ، فقد أبعَد النجعةَ و أفسدَ القياسَ ، لأنّه لم يعِ مراد الأصوليين من تعريف للقياس بقولهم : هو إلحاق فَرعٍ بأصلٍ في الحُكم لعلّةٍ جامعة بينهما ، و بالتالي لم يُفرّق بين العلّة و الصفة ، فظنّ أنّ كلا الأمرين انتحار ، لأنّ فيه مباشرة للقتل ، و غاب عليه أنّ العلّة التي دَفَعت المنتحر إلى إزهاق روحه ، هي التخلّص من الحياة اعتراضاً على القَدَر ، و سخطاً على ما لحقه من قضاء الله و قَدَره ، و هذا خلاف ما تقدّم بيانه من دوافع المجاهد لبذل روحه في سبيل الله .
و إذا سلّمنا جَدَلاً أو تنزُّلاً بأنّ العلّة في الانتحار هي مباشرة المنتحر قتل نفسه ، فما ظنّكم بمن يعترض سبيل سيارة أو قطار كما هو الشائع عند المنتحرين في الغرب اليوم ، ألا يُعدُّ منتحراً رغم أنّه لم يحمل أداة القتل بيده ، و لم يباشر قتل نفسه بِسُمٍّ تَحَسَّاهُ ، أو حَدِيدَةٍ تَوَجَّأَ بِهَا فِي بَطْنِهِ ، و ما تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ؟
المقصد السابع
مراعاة المصالح و المفاسد في الحكم على العمليّات الاستشهاديّة(/9)
: إنَّ الحُكمَ على أفعال العباد تراعى فيه المصالح و المفاسد ، فلا يشرع منها ما يغلب على الظن أو يٌتَيَقَّن أنّه يؤدي إلى مفسدة ، تماماً كما هو الحال في باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر .
قال أبو حامد الغزّالي - رحمه اللّه – [ في الإحياء 7 / 26 من الطبعة المنشورة مع شرحها و هو الإتحاف ] : ( لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار و يقاتل ، و إن علم أنه يقتل ، و كما أنه يجوز أن يقاتل الكفار حتى يقتل جاز -أيضاً- ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار ، كالأعمى يطرح نفسه على الصف ، أو العاجز ، فذلك حرام ، وداخل تحت عموم آية التهلكة ، وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه لا يُقْتل حتى يَقْتل ، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جرأته ، واعتقادهم في سائر المسلمين قلةَ المبالاة ، وحبَّهم للشهادة في سبيل اللّه ، فتُكسَرُ بذلك شوكتهم ) .
قلتُ : نَظَراً لحساسية الوضع و دقّته ، و اختلاف النظرة بين الناس في ما يترتب عليه من المصالح و المفاسد فإنّ من الفقه في الدين و التبصّر في الواقع الرجوع إلى أهل الخبرة و الدراية في هذا الباب من عسكريين و إعلاميين و ساسة ، و قد ألفيناهم شبه شبه مجمعين على أن هذه العمليات لا تحرر أرضاً ، و لا تردُّ عدُوّاً ، و لا تعيد حقاً مغتصباً ، و لكنّها تثخن في العدو فتكفأ قَدره ، و تحط قَدره ، و تشيع البلبلة و التخويل في صفوفه ، و تزعزع أركانه و لو بقَدَر ، و هذه بعض محاسنها .
و مع ما قد يترتب عليها من زيادة صَلَف العدو و تجبّره و فتكه و انتقامه ، فإن الواقع أثبت عِظَم المنفعة و رجوح المصلحة على المفسدة و الحمد لله .
و من منظار المصالح و المفاسد أيضأ ، نرى أنّ الحرص على الشهادة يعوّض نقص العدة و العدد , و يؤثر في العدو أبلغ الأثر المادي و المعنوي ، و من أمثلة ذلك ما نشهده في بيت المقدس و أكناف بيت المقدس ، و ما شهدناه في جنوب السودان من عمليات الدبابين التي ترجمت واقعياً أنّ حبّ المسلم للشهادة يفوق تمسّك الكافر بالحياة .
و يترتّب على هذه العمليّات إرهاب العدو و إرعابه ، و هذا مقصدٌ شرعي ، قال تعالى : ( سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ) و قال سبحانه : ( فإما تثقفنّهم في الحرب فشرِّد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ) [ الأنفال : 57 ] .
و روى البخاري و غيره عن جابر بن عبد الله أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم قال : « نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ » ، و لا أبلغ في إيقاع الرعب في صفوف العدو من الإقدام على الموت بطمأنينةِ من باع نفسه لله .
و كفى مثالاً على جدوى العمليّات الاستشهاديّة و بالغِ أثَرِها في العصر الحديث ، أنّها أرغمت أنوف القادةِ الروس على إنهاء حربهم الأولى على الشيشان قبل عِدّة سنوات ، و أتت بهم صاغرين إلى التفاوض مع المجاهدين . و قد تمخّضت المفاوضات يومئذٍ عن هدنة السنوات الخمس ، التي ردّت الروس على أدبارهم ، و قَلَبتهم على أعقابهم ، لا يلوون على شيء ، و لا يتطلّعون إلى أكثر من حقن دماء من تبقّى من جهودهم ، بعد أن دبّ الرُّعب في صفوفهم ، و فرّق الذعر رأيهم ، و أطاش رَميَهم .
و لا يمنع من ذلك ما يراه الناظر بعينٍ واحدة ، من همجيّة الرد ، و عنجهيّة العدو ، فإنّ هذه سنّة الله في عباده ، و لنا العزاء في قوله تعالى : ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ و تِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) [ آل عمران : 140 ] و قوله سبحانه : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) [ آل عمران : 173 ] ، و قوله جلّ شأنه : ( إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ) [ النساء : 104 ] .
و نحن نعذر من لم يرَ في العمليّات الاستشهاديّة جدوى ، و لم يُعلّق عليها أملاً و إن كان صغيراً ، لأن الثمرة اليانعة التي رآها المجاهدون عَياناً في عمليّاتهم ، قد تكون خافيّةً على غيرهم ، و خاصّة أولئك الذين قعدوا مع القاعدين ، لأنّ ( الخفاء و الظهور من الأمور النسبيّة ، فربّما ظهر لِبَعض الناس ما حفي على غَيرِه ، و يَظهَر للإنسان الواحد في حالٍ ما خَفيَ عليه في حالٍ أخرى ، و أيضاً فالمقدّمات و إن كانت خفيّةً فقد فقد يُسلّمها بعض الناس ، و يُجادل فيما هو أجلى منها ، و قَد تفرَح النفس بما علِمته من البحث و النظر ما لا تَفرَح بما عَلِمَته من الأمور الظاهرة ) [ شرح العقيدة الطحاوية ، لابن أبي العزّ الحَنَفي ، ص : 112 ] .
المقصد الثامن
في ما يتعلّق بقتل المدنيين في هذه العمليّات(/10)
لا حجّة لمن يُنكر العمليّات الاستشهاديّة بدعوى أنّها تستهدف ( أو يقع من ضحاياها بعض ) المدنيين ، و النساء و الأطفال و الشيوخ غير المحاربين ، فقد روى الشيخان و أبو داوود و الترمذي و ابن ماجة و أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ - رضى الله عنهم - قال : مَرَّ بي النبي صلى الله عليه وسلم بِالأَبْوَاءِ - أَوْ بِوَدَّانَ - وَ سُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَ ذَرَارِيِّهِمْ قَالَ : « هُمْ مِنْهُمْ » . وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : « لاَ حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه و سلم » .
و من هذا الحديث الشريف أخذ العلماء جواز التبييت في الحرب . قال الإمام أحمد : لا بأس بالبيات وهل غزو الروم إلا البيات ، و قال : لا نعلم أحداً كره البيات . [ انظر : المغني مع الشرح الكبير : 10 / 503 ].
هذا مع ما في التبييت من مخاطرة بغير المحاربين نساءً و أطفالاً و شيوخاً ، فالنص يقطع دابر الخلاف في المسألة ، و يجعلهم سواء .
و روى الترمذي عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ . و معلوم أن الرمي بالمنجنيق يقع على كلّ من في الحصن ، و بثبوته يبطل التفريق بين المحاربين و بين ذويهم ، و الله أعلم .
بل يزاد على ذلك أن العبرة في التعامل مع العدو ليست بتقسيمهم إلى فسطاطين لا ثالث لهما ، بل يُلحق بالمحاربِ المساندُ بالرأي و المال ، لِفعل النبيّ صلى الله عليه و سلّم مع بني قريظة ، حيث قَتَل مقاتِلَتهم ( و هم القادرون على حمل السلاح من الرجال ) و لم يكن يسأل القُرَظيّ : أحاربتَ أم لا ؟
ثمّ إن دماء الكافرين لا يحصنها إلا عقد الذمّة أو الأمان ، فهل لدى اليهود في فلسطين شيء من ذلك ؟
المقصد التاسع و الأخير
في تلخيص ما تقدّم
خلاصة البحث في هذا الموضوع يمكن إيجازها في النقاط التالية :
إن الجهاد ماض إلى قيام الساعة دَفعاً و طلباً مع كلّ برٍّ و فاجر ، و ليس لأحد أن يسقطه أو يوقفه إلا من عُذر شرعي .
عامّة ما عرفه المسلمون في العصر الحديث من صور الجهاد ( في أفغانستان و البوسنة و الشيشان و فلسطين و الفلبين و غيرها ) هو من قبيل جهاد الدَفع لا الطَلَب ، و لا يشترط على من تعيّن عليه للخروج إليه وجود الأمير و لا إذن ولي الأمر الخاص و لا العام .
ما يُعرف اليوم باسم العمليّات الاستشهاديّة مسألة معاصرةٌ مُحدثة تراعى في الحكم عليها المصالح و المفاسد ، التي تختلف زماناً و مكاناً ، كما يسوغ الاختلاف في تقريرها بين أهل العلم و الخبرة ، فتتباين آراؤهم تَبعاً لذلك ، و يعذر الجميع لاجتهادهم ، و يُدعى لعمومهم بالخير ، و لا يُتّخذون عرضاً .
في أحداث السيرة النبويّة و السنن الفعليّة و القوليّة و فعل السلف الصالح و أقوال الأئمّة ما يدل عن طريق القياس ( لتوافق العلّة ) على مشروعيّة العمليّات الاستشهاديّة بصوَرها المعاصرة ، و خاصّة تلك الواقعة في دِيار الجهاد المتعيّن كفلسطين .
إذا كان القياس إلحاقَ فَرعٍ بأصلٍ في الحُكم لعلّة جامعةٍ بينهما ، و اتّحدت العلّة بين العمليّات الاستشهاديّة و الحمل على العدوّ و الاقتحام عليه و الغرر بالنفس في ذلك طلباً للشهادة ، فإنّ الحكم واحدٌ في ذلك كلّه ، و إن اختلفت المسمّيات .
لا وجه لتشبيه العمليّات الاستشهاديّة بالانتحار أو تسميتها بذلك ؛ لاختلاف النيّة و الباعث و الأثر ، و لا ينزّل حكم الانتحار على القائمين بهذه العمليّات ، و لا يجوز لغيرهم الحكم على نيّاتهم ، بل تُحمَل على أحسن المحامل ، و لا يُنسَب إلى ساكتٍ قَول .
إذا جاز ورود المهالك في الجهاد ، و صحّ انعقاد الإجماع عليه ، فإن من أجلى صُوَره في زماننا العمليّات الاستشهاديّة القائمة على تفجير النفس بين الأعداء ، أو الاقتحام عليهم ، أو دفعهم إلى المهالك ( بتغيير مسارات مراكبهم عنوة و نحو ذلك ) صِرنا ضرورةً إلى القول بمشروعيّة ذلك كلّه ، إذ لا مندوحة للخروج على الإجماع القطعي الثبوت ، إذا انعَقَد .
إن ما أخَذه بعض العُلماء المعاصرين على العمليّات الاستشهاديّة و منفذيها ، و أثّر في فتاواهم و أحكامهم حقٌّ كلّه أو جلّه ، يجب الوقوف عليه بتدبّر ، كمراعاة المصالح و المفاسد ، و البعد عن الطيش و العمل الفردي غير المدروس ، و نزع يد الطاعة من أمير الجهاد ، و ليُعلَم أنّ الفتاوى التي لا تجوّز هذه العمليّات منوطة بعلل ( كغلبة المفسدة على المصلحة ) تزول بزَوالها ، و لا تعني التحريم المُطلق بحال ، و أنّ قست ألفاظها ، و احتد أصحابها في طرحها .(/11)
لا حجّة لمن يُنكر العمليّات الاستشهاديّة بدعوى أنّها تستهدف ( أو يقع من ضحاياها بعض ) المدنيين ، و النساء و الأطفال و الشيوخ غير المحاربين ، في زمن يساهم فيه الجميع في الحرب على الإسلام و أهله بآرائهم و أموالهم ( تبرعاتٍ و ضرائب ) و أصواتهم .
العمليات الاستشهاديّة وسيلة شرعيّة من وسائل الجهاد ، يُلجأ إليها في وقت الحاجة ، و بمقدارها ، و ليست الأصلَ المتعيّن ، و لا السبيل الأوحد لمجاهدة الكفار و المنافقين و التغليظ عليهم ، بل الواجب على الأمّة الاستعداد و الإعداد بكل صوره المتاحة ( و أعدّوا لهم ما استطعتم من قوّةٍ و من رباط الخيل ترهبون به عدوَّ الله و عدوَّكم ) .
هذا و الله نسأل أن يمكن لعباده دينهم الذي ارتضى لهم ، يعبدونه لا يُشركون به شيئاً ، و يجودون في سبيله بالنفس و النفيس ، و أن يقرّ أعيننا بالنصر و التمكين ، و يرزقنا في المسجد الأقصى صلاةً ، و على ثغوره رباطاً ، و في أكنافه جهاداً ( و ما النصر إلا من عند الله ) .
و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين .
و كتب
أحمد بن عبد الكريم نجيب
( الملقّب بالشريف )
دَبْلِن ( إيرلندا ) في غرّة صفر الخير عام 1423 للهجرة
الموافق للخامس عَشَر من أبريل ( نيسان ) عام 2002 للميلاد(/12)
الدلالة المحكمة لآية الجلباب على وجوب غطاء الوجه
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه(*) 6/7/1425
22/08/2004
قال تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن".
في هذه الآية دلالة محكمة على وجوب الحجاب الكامل على سائر المؤمنات، وبيان ذلك من وجوه:
الوجه الأول: الأمر واحد للجميع، فالصفة واحدة.
في الآية مقدمة ونتيجة:
المقدمة: أن الأزواج والبنات ونساء المؤمنين أمرن بأمر واحد، بلا فرق، هو: إدناء الجلباب.
النتيجة: أن صفة الإدناء في جميعهن واحدة.
فالجمع إذا خوطب بشيء، فالأصل أن فحوى الخطاب واحد في حق الجميع، ما لم يرد استثناء. وهنا لا استثناء في الآية، فيبقى الخطاب واحدا، فبالنظر إلى دلالة الآية: فإنها صريحة الدلالة في تساوي الأزواج والبنات ونساء المؤمنين، في صفة الإدناء، بغير فرق بين أحد.
لكن السؤال الوارد هنا: ما صفة الإدناء؟.
والجواب: أن إحدى الفئات التي ذكرت في الآية وهم: الأزواج. قد عرف صفة إدنائها بقوله تعالى: "وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب"، وبالإجماع الآية تدل على الحجاب الكامل.
وفقا لهذين الأمرين نخرج بنتيجة هي: أن صفة الإدناء في حق الجميع هو: الحجاب الكامل.
ويمكن تصوير المسألة بمقدمتين ونتيجة:
المقدمة الأولى: الجميع: الأزواج، والبنات، ونساء المؤمنين. خوطبن بخطاب واحد هو: إدناء الجلباب.
المقدمة الثانية: أن صفة الإدناء في حق بعض هذا الجميع (الأزواج) هو الحجاب الكامل بالإجماع.
النتيجة إذن: صفة الإدناء في حق الجميع واحد، هو: الحجاب الكامل.
ففي الآية نفسها قرينة واضحة على التغطية، قال الشيخ الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان 6/586:
"فإن قيل: لفظ الآية الكريمة، وهو قوله تعالى: "يدنين عليهن من جلابيبهن" لا يستلزم معناه ستر الوجه لغة، ولم يرد نص من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع على استلزامه، وقول بعض المفسرين: إنه يستلزمه. معارض بقول بعضهم: إنه لا يستلزمه. وبهذا يسقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه.
فالجواب: أن في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى فيها: "يدنين عليهن من جلابيبهن"، يدخل في معناه ستر وجوههن، بإدناء جلابيبهن عليها، والقرينة المذكورة: هي قوله تعالى: "قل لأزواجك"، ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن، لا نزاع فيه بين المسلمين. فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين، يدل على وجوب ستر الوجوه، بإدناء الجلابيب، كما ترى".
فإن نازع منازع فقال: كلا، لا نسلم بأن فحوى الخطاب في حق الجميع واحد هنا، فالأمر واحد، هو إدناء الجلباب، لكن صفة الإدناء يختلف، فالأزواج عليهن الحجاب الكامل، والمؤمنات لهن كشف الوجه.
وهذا مثل قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون"، فالجميع رجس محرم، لكن الصفة تختلف، فالخمر حرمته في شربه، والميسر في اللعب به، والأنصاب في التقرب إليها، والأزلام في الاستقسام بها، وهكذا فالتحريم واحد، وصوره مختلفة.
فالجواب من أوجه:
الأول: أن هذا القول يتضمن الإقرار بدلالة الإدناء على التغطية؛ وإن كان يخصه بالأزواج، وبهذا ينتقض قولهم الأول: أن الإدناء في الآية لا يدل على التغطية بوجه.
الثاني: أن أصحاب هذا القول ترددوا في تفسير الإدناء بين التغطية والكشف، وبالتالي لن تكون دلالة الآية، عندهم، قاطعة على الكشف، وهذا يلزمهم، أما نحن فنقول: الآية لا تدل إلا على التغطية. ومن ثم دلالتها عندنا قاطعة على التغطية، وينتج عن هذا: أنه ليس لهم القول بأن الآية لا تدل على التغطية.
الثالث: قد علمنا بطلان تخصيص الأزواج بالحجاب الكامل، كما سبق بيانه في آية الحجاب. وإذا بطل التخصيص رجع فحوى الخطاب واحدا في حق الجميع، دون استثناء أو اختلاف.
الرابع: ما قولهم في بنات النبي صلى الله عليه وسلم، هل الإدناء في حقهن بالكشف أم بالتغطية؟.. إن قالوا: التغطية. لزمهم ذلك في سائر النساء، إذ لا موجب للتفريق بين البنات وسائر النساء. وهم لا يقولون بالكشف، لأنهم يساوونهن بالأزواج رضوان الله عليهن.
لكن إن سلموا بأن الخطاب واحد للجميع، لزمهم أن يقروا بأن الصفة واحدة للجميع أيضا.
الوجه الثاني: تفسير الإدناء بالكشف يلزم منه جواز كشف الأزواج وجوههن.
الإدناء، عموما، إما أن يكون بتغطية الوجه، وإما بدونه.
- فإن فسر بكشف الوجه، لزم منه كشف الأزواج وجوههن، وهذا باطل، لوجوب التغطية في حقهن.
- وإن فسر بتغطية الوجه لم يلزم منه أية لوازم باطلة، بل يكون موافقا لأمر الله تعالى الأزواج بتغطية وجوههن في الآية الأخرى، وليس في تغطية البنات ونساء المؤمنين وجوههن ما ينكر أو يعترض عليه.
فإن قيل: الصفة متفاوتة، فالأزواج عليهن التغطية، وسائر النساء ليس عليهن، والإدناء يتضمن المعنيين.
فالجواب: أن هذا الإيراد وجوابه تقدم في الوجه السابق.(/1)
الوجه الثالث: أن صفة الإدناء لغة هو التغطية.
قال تعالى: "يدنين عليهن من جلابيبهن"، فعل الإدناء عدي بـ "على"، وهو يستعمل لما يكون من أعلى إلى أسفل، فدلالة الآية: أن الإدناء يكون من فوق الرأس. وحينئذ ينزل بعض الجلباب على الوجه. فهذا شاهد على أن الإدناء هنا متضمن تغطية الوجه، بنزول بعض الجلباب عليه.
قال الزمخشري في تفسيره الكشاف [3/274]:
" ومعنى: "يدنين عليهن من جلابيبهن"، يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك".
وقال الإمام النحوي المفسر أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط [7/240]:
" (من) في (جلابيبهن) للتبعيض، و(عليهن) شامل لجميع أجسادهن، أو (عليهن) على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه".
فهذان إمامان في اللغة، قد فسرا الإدناء بإرخاء الجلباب على الوجه.
وقال النسفي في تفسيره [3/315]: "و (من) للتبعيض؛ أي ترخي بعض جلبابها وفضله على وجهها".
الوجه الرابع: سبب النزول يشير إلى أن المعنى وجوب التغطية.
قال ابن جرير: "حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما- في قوله: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن"، إلى قوله: "وكان الله غفورا رحيما"، قال: كانت الحرة تلبس لباس الأمة، فأمر الله النساء أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وإدناء الجلباب: أن تقنّع وتشد على جبينها".
وساق سنده إلى قتادة ومجاهد وأبي صالح بمثل هذا المعنى والسبب في نزول الآية.[التفسير 19/182-183]
فقد كان من علامة الحرة منذ الجاهلية تغطية وجهها، بخلاف الأمة فكانت تكشف وجهها، ولا يعني ذلك أن كل الحرائر كن يغطين، بل كان مشهورا عنهن، قال النابغة الذبياني، وهو من شعراء الجاهلية، يصف المتجردة زوجة النعمان، لما فجأها بالدخول، فسقط خمارها، فعمدت، فغطت وجهها بذراعيها، وكانت ضخمة، فاستترت بهما:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه*** فتناولته واتقتنا باليد(1)
فلما حصل الأذى من الفساق والمنافقين حين خروج النساء ليلا، أمرهن الله تعالى أن يتشبهن بالحرائر في تغطية الوجه، حتى يعرفن بذلك فلا يتعرضن للأذى.
قال الإمام النحوي المفسر أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط [7/240]:
" (من) في (جلابيبهن) للتبعيض، و(عليهن) شامل لجميع أجسادهن، أو (عليهن) على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه".
وروى ابن سعد في طبقاته [8/176،177] عن محمد بن كعب القرظي قال: "كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المسلمين ويؤذيهن، فإذا قيل له، قال: (كنت أحسبها أمة)، فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء، ويدنين عليهن من جلابيبهن، تخمر وجهها إلا إحدى عينيها، يقول: "ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين"(2).
وهذا المعنى تتابع المفسرون على حكايته في تفسير هذه الآية، فكلهم ذهبوا في قوله تعالى: "ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين"؛ أي يعرفن أنهن حرائر، بتغطية وجوههن وأجسادهن بالجلباب، حتى يتميزن عن الإماء، وبهذا يعرف أن الأمة لا يجب عليها حجاب وجهها، فالفرق بينهما ثابت بهذه الآية، وتظاهر المفسرين، من الصحابة والتابعين، على هذا التفريق، كما أنه قد ثبت في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيي بن أخطب، قال الصحابة: "إن حجبها فهي امرأته، وإلا فأم ولد". رواه البخاري ومسلم(3).
الوجه الخامس: تفسير الجلباب بتغطية الوجه ورد عن جمع من الصحابة والسلف.
وبهذا المعنى جاءت الأقوال عن السلف، فقد روى ابن جرير في تفسيره [19/181]، فقال:
- "حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنى معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن": أمر الله نساء المؤمنين، إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن، من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة".
- وروى أيضا فقال: "حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة في قوله: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن". فلبسها عندنا ابن عون، قال: ولبسها عندنا محمد، قال محمد: ولبسها عندي عبيدة. قال ابن عون: بردائه، فتقنع، فغطى أنفه وعينه اليسرى، وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا من حاجبه، أو على الحاجب".
- وساق الأثر نفسه من طريق يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، قال سألت عبيدة عن قوله: الآية. قال: "فقال بثوبه، فغطى رأسه ووجهه، وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه".[التفسير 19/181-182](/2)
- وفي الدر المنثور [5/415]: "وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين رضي الله عنه قال: سألت عبيدة رضي الله عنه عن هذه الآية: "يدنين عليهن من جلابيبهن" فرفع ملحفة كانت عليه، فقنع بها، وغطى رأسه كله، حتى بلغ الحاجبين، وغطى وجهه، وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر، مما يلي العين".
فهذا قول جمع من السلف في صفة الإدناء: ابن عباس، وعبيدة السلماني، ومحمد بن سيرين، وابن عون، وابن علية، وغيرهم.
الوجه السادس: أقوال المفسرين في تفسير الإدناء بتغطية الوجه.
تظاهر المفسرون وتتابعوا على تفسير الإدناء في الآية بتغطية الوجوه والأبدان، ولم يمر بي مفسر قال إنها تدل على الكشف، غاية ما هنالك بعض الأقوال أن من صفته: ستر معظم الوجه. وهذه أقوال هؤلاء الأئمة:
(1) ابن جرير [19/181] قال: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين، لا يتشبهن بالإماء في لباسهن، إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن، لئلا يعرضن لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر، بأذى من القول". وهذا النص صريح في صفة إدناء نساء المؤمنين، وأنه يعم تغطية الوجه.
(2) قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن في تفسير الآية [5/245]: "في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب فيهن".
(3) قال: إلكيا الهراس في تفسيره [انظر: عودة الحجاب 3/184]: "الجلباب هو الرداء، فأمرهن بتغطية وجوههن ورؤوسهن، ولم يوجب ذلك على الإماء".
(4) قال الزمخشري في تفسيره الكشاف [3/274]: " ومعنى: "يدنين عليهن من جلابيبهن"، يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن. يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدنى ثوبك على وجهك. وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هجيراهن في الجاهلية، متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار، لافصل بين الحرة والأمة، وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرضون إذا خرجن بالليل، إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان، للإماء، وربما تعرضوا للحرة، بعلة الأمة، يقولون: حسبناها أمة. فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الأردية والملاحف، وستر الرؤوس والوجوه، ليحتشمن، ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع، وذلك قوله: "ذلك أدنى أن يعرفن"؛ أي أولى وأجدر بأن يعرفن، فلا يتعرض لهن، ولايلقين ما يكرهن. فإن قلت ما معنى "من" في: "من جلابيبهن"؟، قلت: هو للتبعيض، إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين:
أحدهما: أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب، والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار، كالأمة والماهنة، ولها جلبابان فصاعدا في بيتها.
والثاني: أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها، تتقنع حتى تتميز من الأمة، وعن ابن سيرين: (سألت عبيدة السلماني عن ذلك، فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب، ثم تديره حتى تضعه على أنفها)، وعن السدي: (أن تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين)، وعن الكسائي: (يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن) أراد بالانضمام معنى الإدناء".
(5) قال البغوي في تفسيره [3/469]: "قال ابن عباس وأبو عبيدة: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عينا واحدة، ليعلم أنهن حرائر"، ذكر هذا وما ذكر غيره.
(6) قال القرطبي في تفسيره [14/243]: "لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن، كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن، إذا أردن الخروج إلى حوائجهن".
(7) قال البيضاوي في تفسيره أنوار التنزيل [4/386]: "يدنين عليهن من جلابيبهن" يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن، إذا برزن لحاجة.
(8) قال الإمام النسفي في تفسيره مدارك التنزيل [3/315]: "يدنيهن عليهن من جلابيبهن" يرخينها عليهن، ويغطين وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زال الثوب عن وجه المرأة: أدنى ثوبك على وجهك. و (من) للتبعيض، أي ترخي بعض جلبابها وفضله على وجهها، تتقنع حتى تتميز من الأمة.
(9) قال ابن جزي الكلبي في تفسيره التسهيل لعلوم التنزيل [534]: "كان نساء العرب يكشفن وجوههن، كما تفعل الإماء، وكان ذلك داعيا إلى نظر الرجال لهن، فأمرهن الله بإدناء الجلابيب ليسترن بذلك وجوههن، ويفهم الفرق بين الحرائر والإماء، والجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار، وقيل: هو الرداء. وصورة إدنائه عند ابن عباس: أن تلويه على وجهها، حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها. وقيل: أن تلويه حتى لا ينظر إلا عيناها. وقيل: أن تغطي نصف وجهها".(/3)
(10) قال ابن تيمية[الفتاوى 22/110]: "قبل أن تنزل آية الحجاب، كان النساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذا ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها، لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب، بقوله: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن" حجب النساء عن الرجال".
(11) وذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية، في تفسيره [6/471] أثر علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وأثر عبيدة السلماني، كما أورد قول عكرمة: "تغطي ثغرة نحرها بجلبابها، تدنيه عليها".
(12) قال أبو حيان في تفسيره [7/240]: " وقال أبو عبيدة السلماني حين سئل عن ذلك، فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب، ثم تديره حتى تضعه على أنفها. وقال السدي: (تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين). انتهى، وكذا عادة بلاد الأندلس لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة. وقال الكسائي: يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن. أراد بالانضمام معنى الإدناء. وقال ابن عباس وقتادة: وذلك أن تلويه فوق الجبين، وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه... و "من" في "جلابيبهن" للتبعيض، و "عليهن" شامل لجميع أجسادهن، أو "عليهن" على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه".
(13) قال أبو السعود في تفسيره إرشاد العقل السليم 7/115]: " الجلباب ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء، تلويه المرأة على رأسها، وتبقي منه ما أرسله على صدرها، وقيل: هي الملحفة، وكل ما يستر به؛ أي يغطين بها وجوههن وأبدانهن، إذا برزن لداعية من الدواعي، و"من" للتبعيض، لما مر من أن المعهود التلفع ببعضها، وإرخاء بعضها".
(14) قال: السيوطي: "هذه آية الحجاب في حق سائر النساء، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن" [عون المعبود شرح سنن أبي داود 12/158، اللباس، باب قول الله تعالى: "يدنين عليهن.."]
(15) قال الألوسي في روح المعاني [11/264]: "الإدناء: التقريب. يقال: أدناني. أي قربني، وضمن معنى الإرخاء أو السدل، ولذا عدّي بـ (على)، على ما يظهر لي، ولعل نكتة التضمين: الإشارة إلى أن المطلوب تستر، يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين، فتأمل. ونقل أبو حيان عن الكسائي أنه قال: أي يتقنعن بملاحفهن، منضمة عليهن، ثم قال: أراد بالانضمام معنى الإدناء، وفي الكشاف معنى "يدنين عليهن" يرخين عليهن، يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة، أدني ثوبك على وجهك. وفسر ذلك سعيد بن جبير بيسدلن عليهن، وعندي أن كل ذلك بيان لحاصل المعنى، والظاهر أن المراد بعليهن على جميع أجسادهن، وقيل: على رؤوسهن، أو على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه". ثم أورد أثر عبيدة السلماني، وأثر ابن أبي طلحة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في إبداء عين واحدة، والأثر الآخر عنه وقتادة في ليّ الحجاب فوق الجبين وشده ثم عطفه على الأنف، وإن ظهرت العينان، مع ستر الصدر ومعظم الوجه، ثم ذكر أثر أم سلمة – رضي الله عنها- عند عبد الرزاق وعائشة – رضي الله عنها -عند ابن مردوية في صنيع نساء الأنصار بعد نزول الآية، ثم قال:"ومن للتبعيض، ويحتمل ذلك على ما في الكشاف لوجهين:
أحدهما: أن يكون المراد بالبعض واحدا من الجلابيب، وإدناء ذلك عليهن، أن يلبسنه على البدن كله.
وثانيهما: أن يكون المراد بالبعض جزءا منه، وإدناء ذلك عليهن: أن يتقنعن، فيسترن الرأس والوجه بجزء من الجلباب، مع إرخاء الباقي على البدن".
(16) قال الشوكاني في فتح القدير [4/304]: "من للتبعيض، والجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار، قال الجوهري: الجلباب: الملحفة. وقيل: القناع0 وقيل: هو ثوب يستر جميع بدن المرأة. كما ثبت في الصحيح من حديث أم عطية – رضي الله عنها - أنها قالت: (يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب، فقال: لتلبسها أختها من جلبابها)، قال الواحدي: قال المفسرون: يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عينا واحدة، فيعلم أنهن حرائر، فلا يعرض لهن بأذى. وقال الحسن: تغطي نصف وجهها. وقال قتادة: تلويه فوق الجبين، وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه".
(17) قال القاسمي في تفسيره محاسن التأويل [انظر: عودة الحجاب 3/201]: "أمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليحتشمن ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع".
(18) قال الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان [6/586]: "ومن الأدلة القرآنية على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها قوله تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن".
(19) جاء في تفسير الجلالين [560]: "أي يرخين بعضها على الوجوه، إذا خرجن لحاجتهن، إلا عينا واحدة، "ذلك أدنى"؛ أقرب إلى أن يعرفن بأنهن حرائر، "فلا يؤذين"، بالتعرض لهن".(/4)
- وفي عون المعبود شرح سنن أبي داود [12/158، اللباس، باب في قوله الله تعالى: "يدنين عليهن من جلابيبهن" : "أي يرخين بعضها على الوجوه، إذا خرجن لحاجتهن، إلا عينا واحدة، كذا في الجلالين. وقال في جامع البيان: الجلباب: رداء فوق الخمار، تستر من فوق إلى أسفل؛ يعني يرخينها عليهن، ويغطين وجوههن وأبدانهن".
- وإلى هذا القول ذهب الشيخ أبو الأعلى المودودي، والجزائري، ، والدكتور محمد محمود جحازي، والشيخ عبد العزيز بن خلف، وعبد الله الأنصاري وغيرهم. [انظر: عودة الحجاب: 3/200-211]
هؤلاء هم أئمة التفسير المشهورون، لم نر فيهم من فسر الإدناء بكشف الوجه بلفظ صريح، بل جلهم تتابعوا على التصريح بالتغطية، كما رأينا، وبعضهم ذكر هيئات أخرى، بعضها صريح في تغطية معظم الوجه، وبعضها غير صريح في الكشف، بل إلى التغطية هو أقرب، فمن ذلك ما جاء عن ابن جرير قال [التفسير 19/182]:
- "وقال آخرون: بل أمرن أن يشددن جلابيبهن على جباههن"، ثم ساق سندا إلى ابن عباس – رضي الله عنهما - قال: "كانت الحرة تلبس لباس الأمة، فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وإدناء الجلباب: أن تقنّع وتشد على جبينها".
وهذا ليس فيه نص على الكشف، بل فيه شاهد على التغطية وهو التقنع. وسيأتي مزيد بيان لمعنى القناع.
وذكر الشوكاني في تفسيره فتح القدير قال:
- "قال: الواحدي: قال المفسرون: يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عينا واحدة، فيعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى. وقال: الحسن: تغطي نصف وجهها. وقال قتادة: تلويه فوق الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه".
فنحن بين تفسيرات:
- منها تغطية الوجه إلا العين.
- ومنها تغطية نصف الوجه.
- ومنها إبداء العينين وبعض الوجه، مع ستر معظمه.
والأول منها هو المشهور، وهو قول ابن عباس – رضي الله عنهما-، وجمع من التابعين، وعليه جل المفسرين، وأكثرهم يذكره، وليس فيها نص صريح يقول بكشف الوجه، بل حتى هذا الذي اعتمدوا عليه في جواز الكشف، فيه ما يدل على التغطية، وهو ذكر التقنع.
ومما يجدر لفت النظر إليه: أن أولئك الذين صرحوا بجواز الكشف، في آية الزينة، كالقرطبي، والبغوي، وابن عطية، لما جاءوا إلى هذه الآية فسروها بتغطية الوجه، وليس في قول أحد من أهل العلم والمفسرين أن هذه الآية خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في وسع أحد أن يدعي ذلك، فهي عامة، حيث ذكر: الأزواج، والبنات، ونساء المؤمنين. معا، تحت أمر واحد.
وبعد كل هذه الدلائل، والتظاهر والاتفاق بين المفسرين: كيف يصح الاستدلال بهذه الآية على الكشف؟!.
استطراد: اعتراض.. وجواب
منع الشيخ الألباني من دلالة هذه الآية على التغطية، وذهب إلى أنها دليل على الكشف، واستدل بأمور:
(1) أن الإدناء في اللغة هو التقريب، وليس تغطية الوجه. [الرد المفحم ص7]
(2) الآية وحدها ليست نصا صريحا في التغطية، بل لا بد من مرجح. [الرد المفحم ص7]
(3) الاستدلال بأثر لابن عباس – رضي الله عنهما - فيه: "تدني جلبابها إلى وجهها، ولا تضرب به". [الرد المفحم ص8]
(4) الاستدلال ببعض الآثار عن قتادة ومجاهد وسعيد بن جبير. [الرد المفحم ص51]
(5) رد وتضعيف أثر ابن أبي طلحة عن ابن عباس – رضي الله عنهما - وأثر عبيدة السلماني. [جلباب المرأة المسلمة ص88]
والجواب على إيرادات الشيخ، رحمه الله تعالى، وأعلى درجته، يكون بما يلي:
(1) معنى الإدناء في اللغة قال الشيخ: "يصر المخالفون المتشددون على المرأة، وفي مقدمتهم الشيخ حمود التويجري حفظه الله، على أن معنى "يدنين": يغطين وجوههن. وهو خلاف معنى أصل هذه الكلمة: الإدناء. لغة، وهو التقريب".
الإدناء في اللغة هو التقريب بين الشيئين، فالدنو هو القرب، قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة [2/303]: "دنى: الدال، والنون، والحرف المعتل، أصل واحد، يقاس بعضه على بعض، وهو المقاربة.. ودانيت بين الأمرين: قاربت بينهما".
فهذا معنى الإدناء، فهل فيه ما يمنع أن يكون معناها تغطية الوجه؟.
هل يلزم من إدناء الجلباب كشف الوجه، وعدم تغطيته؟.
الجواب: كلا، لا يلزم، بل العكس هو الصحيح، فإن كل الدلائل الشرعية، واللغوية، وأقوال المفسرين تشير إلى أن الإدناء يلزم منه تغطية الوجه، والأدلة ما يلي:
(1) أن هذا هو قول أهل اللغة من المفسرين، كما هو قول الزمخشري، قال: "يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك"، وعن أبي حيان مثله، وقد تقدم.
(2) أن الفعل عدي بـ (على): "يدنين عليهن"، فهذا دليل على أن الإدناء يكون من فوق الرؤوس، وحينئذ ينزل بعض الجلباب على الوجه، فيغطيه.
(3) تفسير ابن عباس رضي الله عنهما الإدناء في الآية بتغطية الوجه، كما في رواية علي بن أبي طلحة.
(4) تطبيق التابعين لهذا المعنى عمليا، كما ورد عن عبيدة السلماني، وابن سيرين، وابن عون، وابن علية.(/5)
(5) تتابع المفسرين على ذكر رواية علي بن أبي طلحة، في تفسير الآية، وهي صريحة في التغطية، وتصريحهم بأن معنى الإدناء هو تغطية الأبدان والوجوه، حتى إنك لا تجد مفسرا فسر الآية بالكشف.
كل هذه الأمور تدل على رجحان التغطية، إذن دلالة الكلمة في اللغة هي التغطية، وليس الكشف.
(2) هل النص ليس صريحا في التغطية فيحتاج إلى مرجح؟.
يقول الشيخ: "وبينت أنه ليس نصا في تغطية الوجه، وأن على المخالفين أن يأتوا بما يرجح ما ذهبوا إليه".
يقال هنا: لو سلمنا، جدلا، أن الآية تحتمل المعنيين، وتحتاج إلى مرجح، فالمرجحات هي ما سبق من وجوه:
الأول: ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الآية: مرجح على أن المراد هو التغطية.
الثاني: أن تفسير الإدناء بالكشف، يلزم منه كشف الأزواج وجوههن، ولا قائل به، وهذا مرجح آخر.
الثالث: أنه قال عليهن: "يدنين عليهن"، والإدناء من أعلى دليل على التغطية، وهذا مرجح ثالث.
الرابع: سبب النزول أن النساء كن يكشفن الوجه والشعر، فأمرن بالتغطية. وهذا مرجح رابع.
الخامس: تفسير ابن عباس – رضي الله عنهما - وعبيدة السلماني وجمع من التابعين الآية بالتغطية، مرجح خامس.
السادس: تتابع المفسرين على تفسير الآية بالتغطية، فلا تجد من يقول بالكشف، مرجح سادس.
السابع: قول المفسرين من أهل اللغة، كالزمخشري وأبي حيان، مرجح سابع.
(3) أثر ابن عباس – رضي الله عنهما : "تدني الجلباب إلى وجهها، ولا تضرب به".
ذكر الشيخ أن هذا الأثر أخرجه أبو داود في مسائله (ص110) بسند صحيح جدا [الرد المفحم51].
ونص الأثر هو كما يلي: قال أبو داود في مسائله للإمام أحمد، في باب: ما تلبس المرأة في حرامها:
"حدثنا أحمد، قال حدثنا يحيى وروح، عن ابن جريج، قال أخبرنا، قال عطاء، أخبرني أبو الشعثاء، أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (تدني الجلباب إلى وجهها ولا تضرب به)، قال روح في حديثه: قلت: وما لا تضرب به؟، فأشار لي، كما تجلبب المرأة، ثم أشار لي ما على خدها من الجلباب، قال: تعطفه، وتضرب به على وجهها، كما هو مسدول على وجهها".
والشيخ حكم بالشذوذ على زيادة روح، فقال:
"وهذه زيادة شاذة لا تصح، لأن يحيى جبل في الحفظ؛ قال أحمد: إليه المنتهى في التثبت في البصرة"، وقال: هو أثبت من هؤلاء. يعنى: ابن مهدي وغيره. فإذا قابلت هذه الشهادة منه بقوله في روح: لم يكن به بأس. عرفت الفرق بينهما، ولم تقبل زيادته على يحيى، ولم يدر التويجري هذا الفرق، ورجح رواية روح واحتج بها! ذلك مبلغه من العلم بهذا الفن". [الرد المفحم ص51]
فمخلص رأي الشيخ هنا يدور حول أمرين:
الأول: الجزم بأن معنى: "لا تضرب به" هو المنع من غطاء الوجه، أو هو دليل على الكشف.
الثاني: بنى على هذا المعنى الحكم بالشذوذ على زيادة روح، كونها تدل صراحة على التغطية.
وتعليقا يقال:
الشذوذ مصطلح يطلق على زيادة تفرد بها ثقة، خالف بها غيره، ولا يطلق على ما رواه ولم يروه غيره، وبهذا عرفه الشافعي، حيث قال: " هو أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس، وليس من ذلك أن يروي ما لم يرو غيره". قال ابن كثير: "الذي قاله الشافعي أولاً هو الصواب: أنه إذا روى الثقة شيئا، قد خالف فيه الناس فهو الشاذ، يعني المردود، وليس من ذلك أن يروي الثقة ما لم يرو غيره، بل هو المقبول، إذا كان عدلا، ضابطا، حافظا، فإن هذا لو رد لردت أحاديث كثيرة من هذا النمط، وتعطلت كثير من المسائل عن الدلائل". [الباعث الحثيث 56]
وإذا طبقنا هذا التعريف على زيادة روح فهل هي من قبيل رواية الثقة حديثا يخالف ما روى الناس؟، أم أن الراوي روى ما لم يرو غيره؟.
الجواب: قد علمنا أن الشيخ بنى حكمه بالشذوذ: على الجزم بأن معنى "لا تضرب به" هو: الكشف. وهذا ما لايسلم به، فللمنازع أن يقول: هذه مصادرة على المطلوب. وعلى القائل الدليل على ما ذهب إليه.
فهذه الكلمة، غامضة المعنى، لا تفهم لأول وهلة، فيُحتاج إلى مفسر، فتعين معنى ما، والجزم به، دون الاستناد إلى دليل مرجح، هو ما لا يقبل، وهذا ما فعله الشيخ.
بل لنا أن نقول عكس ذلك؛ أن معنى: "لا تضرب به"؛ أي تغطي وجهها، لكن بصورة معينة، إذ صور التغطية متعددة، فمنها ما يكون بالجلباب، ومنها ما يكون بالقناع، ومنها ما يكون بالخمار. والأدلة ما يلي:
(1) أن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو القائل، قد فسر كلامه بالتغطية، وخص نوعا منه هو السدل، فهو أدرى بما قال، وليس لنا أن نتحكم في كلامه، فنفسره بغير ما فسره هو به، خاصة إذا لم يكن لدينا دليل يبطل هذا التفسير.(/6)
(2) أن هذا الأثر ساقه أبو داود في باب: "ما تلبس المرأة في حرامها"، وهذا فيه قطع للخلاف، وذلك: أن المحرمة ممنوعة من النقاب، غير ممنوعة من السدل، لأن النقاب فيه شد على العضو، وهو الوجه، وهذا ما تمنع منه، كما تمنع من القفاز، للعلة ذاتها، أما السدل فليس فيه الشد، ولذا جاز، ومن هنا ورد عن عائشة وأمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، ونساء المؤمنين السدل حال الإحرام، فابن عباس – رضي الله عنهما- إذن كان يقصد بقوله: "لا تضرب به" أي النهي عن الشد على الوجه، بالنقاب ونحوه، ولذا لما سئل عن المعنى فسره بما يباح للمحرمة، مما لا يكون ضربا به، ففسره بالسدل. وعكس السدل هو الضرب به.
(3) أن الإمام أحمد رحمه الله فهم هذه المسألة عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، فكان يفتي المحرمة بالسدل للمحرمة، ويمنع من الضرب به، وهو الشد على الوجه، لما فيه من ملابسة العضو (4).
(4) أن القول بأن الكلمة معناها: الكشف. فيه إشكال؛ إذ مقتضاه أن ابن عباس – رضي الله عنهما - أطلق النهي عن تغطية الوجه، ومعلوم أن أقل أحوال التغطية الاستحباب، ومن المستبعد جدا أن ينهاهن عن التغطية، هذا إن كان حكما عاما، وأما إن كان خاصا بالمحرمة، فكذلك بعيد أن يطلق المنع من التغطية لأمرين:
الأول: أنه بلا ريب، كان يرى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والصحابيات يغطين، بمرأى منه صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة، فكيف يمنعهن من شيء رأى وشاهد إباحة الشارع لهن؟!.
الثاني: أن حمل كلامه على المنع من التغطية، يلزم دخول الأزواج رضوان الله عليهن في هذا الحكم، لأن حكمهن في الإحرام حكم سائر النساء.
ومن هذا يتبين لنا أنه لا وجه للحكم على هذه الزيادة بالشذوذ، لأنه لا شذوذ هنا، ولا دليل عليه، بل هي زيادة ثقة، يروي ما لم يرو غيره. وهذا على فرض أن هذه الزيادة من قول ابن عباس!!.
فإن من المحتمل أن تكون من سؤال روح لشيخه، حيث جاء في النص: "قال روح في حديثه: قلت..". فالنص فيه احتمال الأمرين: أن يكون المسؤول ابن عباس – رضي الله عنهما -من تلميذه أبي الشعثاء، وقد يكون المسؤول شيخ روح، يسأله روح. فلو قدر أن الاحتمال الثاني هو الوارد، فالحكم على الزيادة بالشذوذ خطأ لا يصح، إذ ليس كلاما لابن عباس – رضي الله عنهما -، بل تفسير الراوي كلامه، وتفسير الراوي لا يخضع لقاعدة القبول والشذوذ، بل لقاعدة الخطأ والصواب، والذي يبدو أن الشيخ رحمه الله تعالى عدّ الزيادة من كلام ابن عباس – رضي الله عنهما- ، فلذا أجرى عليها قاعدة الشذوذ والقبول، لكن قد تبين لنا: أن الزيادة إنما هي من قبيل رواية الراوي ما لم يرو غيره.
إذن الخطأ وقع في أمرين:
الأول: استعمال مصطلح الشذوذ في هذا الموضع، وليس محله.
الثاني: الجزم بأن معنى الكلمة عدم التغطية، دون تقديم دليل يدل عليه، وبنا الحكم بالشذوذ عليه.
(4) الآثار عن قتادة وسعيد بن جبير ومجاهد.
استدل الشيخ الألباني ببعض الآثار لدعم قوله في الكشف، وهي كما يلي [الجلباب 85، الرد المفحم51]:
- في الدر 5/222: وأخرج بن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "يدنين عليهن من جلابيبهن"، قال: يسدلن عليهن من جلابيبهن، وهو القناع فوق الخمار، ولا يحل لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار، وقد شدت بها رأسها ونحرها".
- ونقل الجصاص في أحكام القرآن (3/372) عن مجاهد وابن عباس: "تغطي الحرة إذا خرجت جبينها ورأسها" .
- وعن ابن جرير عن قتادة: "أخذ الله عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب".
ويقال هنا: هذه النصوص، وقد مضى ذكرها عند سرد أقوال المفسرين، ليس فيها القول بكشف الوجه، وإنما قال الشيخ ذلك، من رأيه في معنى القناع، أنه غطاء الرأس دون الوجه [انظر: الرد المفحم 20]، لكن يشكل عليه تتابع العلماء على تفسير القناع بما يدل على أنه غطاء الوجه، والأدلة ما يلي:
(1) في البخاري: ( أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد..)، قال الحافظ في الفتح (6/25): "قوله: (مقنع) بفتح القاف والنون المشددة، وهو كناية عن تغطية وجهه بآلة الحرب". ومع صراحة هذا التفسير، غير أن الشيخ رحمه الله أبى إلا أن يقول: "فإنه يعني ما جاور الوجه، وإلا لم يستطع المشي، فضلا عن القتال، كما هو ظاهر" [الرد المفحم 21]. والواقع أن كل من رأى الأقنعة، علم أنها غطاء الوجه. فالقناع يغطي الوجه، حتى لا يبدو إلا العين، للنظر، كهيئة النقاب، وحينئذ يمكن المشي والقتال، وكلام ابن حجر واضح أنه يعني بالقناع غطاء الوجه، فهذا صريح كلامه، فتأويل هذا الصريح بعدئذ، لينقلب فيغدو : "ما جاور الوجه".. أمر غير سائغ بمرة..؟!!!.
(2) مر معنا سابقا قول الزمخشري: "أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها، تتقنع، حتى تتميز من الأمة"، وهو من أئمة اللغة العربية، وها قد فسر القناع بما يفيد تغطية الوجه.(/7)
(3) في أثر عبيدة، وقد رواه ابن جرير، كما مر سابقا: "قال ابن عون: بردائه، فتقنع، فغطى أنفه وعينه اليسرى، وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا من حاجبه، أو على الحاجب". وهنا كذلك فسر التقنع بما يفيد تغطية الوجه.
والقناع عند العرب معروف بكونه غطاء الوجه، وهاكم أدلة على هذا:
(1) المقنع الكندي، إنما عرف بهذا اللقب، لأنه كان يغطي وجهه ببرقع من حرير، كما ذكر البغدادي في كتابه [ الفرق بين الفرق ص243]، وزعم أنه إله، وأنه لو كشف وجهه لم يحتمل أحد رؤيته [الموسوعة الفلسفية 2/323 ]
(2) ذكر اليعقوبي في تاريخه [2/315]: "وكانت العرب تحضر سوق عكاظ وعلى وجوهها البراقع، فيقال: إن أول عربي كشف قناعه ظريف بن غنم العنبري".
(3) المثل السائر: "ألقى عن وجهه قناع الحياء" [لسان العرب 11/323، مادة: قنع].
ولعل كذلك مما دعا الشيخ ليتبنى هذا الرأي، هو ما جاء في الآثار من ذكر الرأس والجبين، دون الوجه.
وإذا تأمل المرء القناع، عرف أنه لا بد فيه من شد على الجبين والرأس، فبدونه لا يكون، وإذا كان كذلك فليس بعيدا أن يذكر الشد على الرأس والجبين، ويستغنى به عن ذكر الوجه، لأن هذا لازم لهذا.
فأقوال هؤلاء الأئمة ليس فيها المنع من تغطية الوجه، وذكرهم القناع دليل على أنهم أرادوا تغطية الوجه. فإذا اعترض أحد فقال: ليس في هذه الأقوال التصريح بتغطية الوجه.
قيل: وليس فيها التصريح بكشف الوجه، فيبقى محتملا، وعندنا ما يرجح التغطية، وهو ذكر القناع، فيحمل عليه إذن.
(5) أثر ابن عباس – رضي الله عنهما -. مضى ذكر الأثرين، وهما صريحان في التغطية، غير أن الشيخ مال إلى تضعيفهما، فقال في أثر ابن عباس:
- "لا يصح هذا عن ابن عباس، لأن الطبري رواه من طريق علي عنه، وعلي هذا هو ابن أبي طلحة، كما علقه عنه ابن كثير، وهو مع أنه تكلم فيه بعض الأئمة، لم يسمع من ابن عباس – رضي الله عنهما ، بل لم يره، وقد قيل: بينهما مجاهد، فإن صح هذا في هذا الأثر فهو متصل، لكن في الطريق إليه أبو صالح، واسمه عبد الله بن صالح، وفيه ضعف". [جلباب المرأة 88]
فالشيخ إذن رد هذا الأثر من جهتين: من جهة علي ابن أبي طلحة، ومن جهة عبد الله بن صالح.
فأما علي بن أبي طلحة، فقد ذكر الشيخ أنه إن صح أخذه التفسير من مجاهد فهو متصل، وهذا هو ما كان، قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال (3/134):
- "أخذ تفسير ابن عباس – رضي الله عنهما - عن مجاهد، فلم يذكر مجاهدا، بل أرسله عن ابن عباس" رضي الله عنهما -.
فهذه شهادة باتصال تفسيره إلى ابن عباس، هذا وإن رواية علي هذه من الروايات المقبولة والمعتبرة عند المحدثين، قال السيوطي [في الإتقان في علوم القرآن 2/241]:
"وقد ورد عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصى كثرة، وفيه روايات وطرق مختلفة، فمن جيدها طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي، عنه قال أحمد بن حنبل:
- بمصر صحيفة في التفسير، رواها علي ابن أبي طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر، قاصدا، ما كان كثيرا.
أسنده أبو جعفر في ناسخه. قال ابن حجر:
- وهذه النسخة كانت عند أبي صالح، كاتب الليث، رواها معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، وهي عند البخاري عن أبي صالح، وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيرا، فيما يعلقه عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، وأخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبي صالح.
وقال قوم: لم يسمع ابن أبي طلحة من ابن عباس رضي الله عنهما - التفسير، وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير. قال ابن حجر: بعد أن عرفت الواسطة، وهو ثقة، فلا ضير في ذلك"(5).
وذكر ابن حجر في كتابه [العجاب في بيان الأسباب ص57-58] فقال: "ومن طريق: معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وعلي: صدوق. لم يلق ابن عباس، لكنه إنما حمل عن ثقات أصحابه، فلذلك كان البخاري وابن أبي حاتم وغيرهما، يعتمدون على هذه النسخة".
وابن حجر نفسه يحتج بهذه الرواية ويصححها، ففي الفتح [13/271] قال:
"وأخرج الطبري بسند صحيح عن عاصم بن كلي، عن أبيه عن ابن عباس – رضي الله عنهما - ثم أخرج من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس – رضي الله عنهما - بسند صحيح، قال: الأب: الثمار الرطبة".
إذن لا وجه للطعن في هذه الرواية، فهي ثابتة، عمل بها الأئمة، واحتجوا بها، وليس بعد قول الإمام أحمد والبخاري وابن حاتم وابن حجر فيها قول.
أما عبد الله بن صالح، فقد نقل الذهبي أقوال الأئمة فيه، بين مجرح ومعدل (ميزان الاعتدال 2/440-442)، فالشيخ قال فيه ضعف، وهذه إشارة إلى أن ضعفه ليس بالشديد، وهكذا قال أبو زرعة:
- "لم يكن عندي ممن يتعمد الكذب، وكان حسن الحديث".
- "وقال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث، إلا أنه يقع في أسانيده ومتونه غلط، ولا يتعمد".(/8)
- قال الذهبي: "وقد روى عنه البخاري في الصحيح، على الصحيح، ولكنه يدلسه، يقول: حدثنا عبد الله ولا ينسبه، وهو هو، نعم علق البخاري حديثا فقال فيه: قال الليث بن سعد، حدثني جعفر بن ربيعة، ثم قال في آخر الحديث: حدثني عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، فذكره. ولكن هذا عند ابن حمّويه السرخسي دون صاحبيه، وفي الجملة ما هو بدون نعيم بن حماد، ولا إسماعيل بن أبي أويس، ولا سويد بن سعيد، وحديثهم في الصحيحين، ولكل منهم مناكير تغتفر في كثرة ما روي".
فإذا كان هذا رأي الذهبي فيه، وابن عدي، وأبي زرعة، والبخاري، فكيف يرد حديثه جملة وتفصيلا؟.
ثم إن ثناء الإمام أحمد وقبوله، والإمام البخاري، وابن أبي حاتم، وابن حجر:
ما في صحيفة علي بن أبي طلحة تعديل وقبول ضمني لرواية أبي صالح عبد الله بن صالح، إذ هو أحد رواة هذه الصحيفة.
وأمر أخير هو: أن هذه الرواية معتضدة بأثر عبيدة السلماني، الذي بنفس معناها، لكن الشيخ كذلك ضعفها، من وجوه هي [الرد المفحم 55-57] ما يلي:
(6) أثر عبيدة السلماني.
(1) قال الشيخ رحمه الله تعالى: " أنه مقطوع، موقوف، فلا حجة فيه، لأن عبيدة السلماني تابعي، اتفاقا، فلو أنه رفع حديثا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكان مرسلا، لا حجة فيه، فكيف إذا كان موقوفا عليه كهذا، فكيف وقد خالف تفسير ترجمان القرآن: ابن عباس – رضي الله عنهما -، ومن معه من الأصحاب؟".
هنا يقال:
الأول: هذا الأثر سنده كالشمس، لا مطعن فيه بوجه.
ثانياً: ليس رفع الأثر محل الاحتجاج، فهذا لم يدعه أحد، بل في كونه حكاية قول جماعة من السلف في معنى الآية، وهذا ثابت بثبوت سنده.
ثالثاً: لو فرض جدلا مخالفته رأي ابن عباس، فليس دليلا على ضعفه، إذ هو أثر مستقل، وليس رواية عن ابن عباس، فكيف وهو موافق تمام الموافقة لقول ابن عباس رضي الله عنهما؟.
(2) قال: "أنهم اضطربوا في ضبط العين المكشوفة فيه، فقيل: (اليسرى)، كما رأيت، وقيل: (اليمنى)، وهو رواية الطبري (22/33)، وقيل: (إحدى عينيه)، وهي رواية أخرى له".
يقال: الاضطراب في المتن هو: الاختلاف بين ألفاظ الروايات، على وجه لا يمكن الترجيح بينها. والاختلاف هنا ليس من هذا القبيل ألبتة، بل هو متصور، أن يقول أحدهم: اليمنى. والآخر: اليسرى. فالغلط هنا وارد، لكنه ليس بالغلط القادح في الرواية.
هذا والشيخ نفسه قد قبل مثل هذا الاختلاف في حديث أسماء المشهور في كشف الوجه، ولم يرده بدعوى الاضطراب، بل شنع على من رده، فقال [الرد المفحم ص109]:
" نعم لقد شغب العنبري على المتن من ناحية واحدة، فقال: نرى الرسول صلى الله عليه وسلم في الطريق الأولى يشير إلى الوجه والكفين، وفي الطريق الثانية لم يبد إلا أصابعه.
فأقول: نعم، ولكن ما بالك كتمت اتفاق الطريق الثالثة، الصحيحة إلى قتادة باعترافك، مع الطريق الأولى؟!. أليس هذا مما يرجح لفظ: (الكفين) على (الأصابع)".
فالشيخ هنا لم يحكم على الحديث بالاضطراب، مع كونه ورد في رواية بلفظ: (الوجه والكفين)، وفي الأخرى بلفظ: (الأصابع)، لكنه حكم بالاضطراب على أثر عبيدة السلماني بالاضطراب، لأنه روي من طريق بلفظ: (العين اليمنى)، وفي أخرى: (اليسرى)، وفي ثالثة: (إحدى عينيه)..!!.
الذي نعلمه أن الغلط في تحديد العين وارد، ومن ثم فلا وجه للحكم على الأثر بالاضطراب.
وانظر بعد هذا إلى كلام الشيخ، وهو يعلق على حديث عبيدة [الرد المفحم 56]:
"وإذا عرفت هذا، فاعلم أن الاضطراب عند علماء الحديث علة في الرواية تسقطها عن مرتبة الاحتجاج بها، حتى ولو كان شكليا كهذا، لأنه يدل على أن الراوي لم يضبطها ولم يحفظها".
ويقال هنا: على هذا الميزان يجب كذلك إسقاط حديث أسماء، لأن العلة ذاتها موجودة فيه ..!!.
مع ملاحظة أن الشيخ أبلغ الجهد في تصحيحه، حتى إنه استغرق قرابة 50 صفحة في الكلام عنه في الرد المفحم [من ص79-127].
(3) قال: "ذكره ابن تيمية في الفتاوى (15/371) بسياق آخر يختلف تماما عن السياق المذكور، فقال: "وقد ذكر عبيدة السلماني وغيره: إن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن، حتى لايظهر إلا عيونهن، لأجل رؤية الطريق".
يقال: من الواضح أن شيخ الإسلام كان يروي الأثر نفسه، لكن بالمعنى، وليس من طريق آخر، ويحكي تاريخا واقعا، فلا أدري كيف يكون هذا دليلا على ضعف الرواية الأصل وبطلانها؟!!.
والعجب أن الشيخ نفسه قد ذكر هذا فقال [الرد المفحم ص56]:
"على أن سياق ابن تيمية ليس شكليا، كما هو ظاهر، لأنه ليس في تفسير الآية، وإنما هو إخبار عن واقع النساء في العصر الأول، وهو بهذا المعنى صحيح ثابت في أخبار كثيرة، كما سيأتي في الكتاب بعنوان: (مشروعية ستر الوجه) ص104، ولكن ذلك لا يقضي وجوب الستر، لأنه مجرد فعل منهن".
فإذا كان الأمر كذلك، فكيف صار هذا وجها لتضعيف أثر عبيدة السلماني؟!.
(4) قال: "مخالفته لتفسير ابن عباس – رضي الله عنهما - للآية كما تقدم بيانه، فما خالفه مطرح بلا شك".(/9)
يقال: تقدم ثبوت أثر ابن عباس – رضي الله عنهما - من رواية ابن أبي طلحة، بشهادة الأئمة: أحمد، والبخاري، وابن أبي حاتم، وابن حجر. وهي موافقة تماما لما جاء في أثر عبيدة السلماني، وعليه فلا حجة لهذا الوجه.
ختام المبحث: وبعد بيان هذه الاعتراضات من الشيخ رحمه الله والجواب عليها، يتبين بوضوح أنه لا حجة في هذه الآية على القول بالكشف. والأمر الملفت للنظر:
- تظاهر المفسرين على تفسير الآية بالتغطية، فلا تجد مفسرا صرح فيه بكشف الوجه، وهذا بخلاف ما جاء عنهم في آية الزينة: "ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها"، لأمر سنذكره في موضعه.
- ويلاحظ أن الشيخ لم يلتفت إلى هذا التظاهرة، وتصريح جماهير المفسرين بدلالة الآية على تغطية الوجه، فلم يذكرها، ولم يتطرق إليها، كما لم يلتفت إلى كلام أهل اللغة، من المفسرين، كالزمخشري وابن حيان، في تفسيرهم الإدناء بالتغطية!!.
وبعد: فالنتيجة المهمة التي نخرج بها من هذا المبحث هي:
- أنه إذا كانت الآية قطعية الثبوت، وهذا بإجماع المسلمين، لأنها من القرآن، والله تعالى حفظه.
- وإذا ثبتت قطعية دلالتها على وجوب حجاب الوجه، بما سبق من الوجوه والأدلة.
فنخرج من ذلك: أن الآية محكمة الدلالة، فتكون من المحكمات، التي يصار إليها حين الخلاف، فما عارضها، وكان ثابتا بسند صحيح، بدلالة صريحة على الكشف، فهو متشابه، كأن يكون قبل الأمر بالحجاب، أو لعذر خاص، وحالة خاصة،، فيرد هذا المتشابه إلى هذا المحكم، ويفهم في ضوئه، وبذلك ينتفي التعارض، فهذا سبيل التعامل مع المحكمات، لا يصح ولا يجوز تعطيلها لأجل متشابه.
هذا لو كان هذا المتشابه بهذا الوصف من الثبوت والدلالة، فكيف إذا كان باطل السند، كحديث أسماء؟، أو محتمل الدلالة غير قطعي في الكشف، كحديث الخثعمية؟.
وهذا حال الآثار التي استدل بها الذين أجازوا الكشف، فحينئذ فلا ريب أن الواجب طرحه، وعدم الالتفات إليه، ولا يجوز بحال تقديمه على نص محكم.
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى .
(1) الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني 11/14.
(2) يرى الشيخ الألباني، رحمه الله تعالى وأعلى درجته، أن هذا الأثر لا يصح، وأعله بثلاثة أمور: إرسال ابن كعب، فهو تابعي لم يدرك عصر النبوة، وضعف ابن أبي سبرة، والواقدي. [انظر: جلباب المرأة المسلمة 90-91]، والروايات التاريخية قد لا تعامل بالصرامة نفسها، التي تعامل بها الروايات الحديثية. [انظر: السيرة النبوية الصحيحة، أكرم العمري1/20]، ثم إن هذا الأثر ليس الوحيد في هذا المعنى، بل الآثار كثيرة.
(3) البخاري في المغازي، باب: غزوة خيبر.
(4) قال الإمام أحمد: " إنما لها أن تسدل على وجهها من فوق، وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل"، قال ابن قدامة: " كأنه يقول إن النقاب من أسفل على وجهها"، وقال الخرقي: "والمرأة إحرامها في وجهها، فإن احتاجت سدلت على وجهها"، قال ابن قدامة: " إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها". [المغني 3/305-306، 1/638]، وقال ابن تيمية: " والذي يدل عليه كلام أحمد وقدماء أصحابه، جواز الإسبال سواء وقع على البشرة أو لم يقع، لأن أحمد قال: تسدل الثوب"، قال: " ولأن في مجافاته مشقة شديدة، والحاجة إلى ستر الوجه عامة، وما احتيج إليه لحاجة عامة أبيح مطلقا، كلبس السراويل والخف... ولأن وجه المرأة كبدن الرجل وكيد المرأة، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم -قال: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)، ولم ينهها عن تخمير الوجه مطلقا، فمن ادعى تحريم تخميره مطلقا، فعليه الدليل، بل تخصيص النهي بالنقاب وقرانه بالقفاز دليل على أنه إنما نهاها عما صنع لستر الوجه، كالقفاز المصنوع لستر اليد، والقميص المصنوع لستر البدن، فعلى هذا: يجوز أن تخمره بالثوب من أسفل ومن فوق ما لم يكن مصنوعا على وجه يثبت على الوجه، وأن تخمره بالملحفة وقت النوم" [العدة شرح العمدة 2/270-271]، أي أن المرأة ممنوعة من الخمار المفصل المشدود على الوجه المصنوع على قدره، كما يمنع الرجل من السراويل المصنوعة على قدر الأرجل، والقميص المصنوع على قدر البدن، ولعلي أذكر هنا بعض الآثار المتعلقة بهذه المسألة:
- عن عائشة رضي الله عنها: " كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله محرمات فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه"، رواه أبو داود في الحج باب في المحرمة تغطي وجهها.
- وعن فاطمة بنت المنذر: " كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق فلا تنكره علينا" رواه مالك في الموطأ في الحج، باب: تخمير المحرم وجهه.
فهذه الآثار وغيرها صريحة في تغطية الوجه، حال الإحرام، والله أعلم.
(5) وانظر مزيد كلام في هذه الرواية في كتاب: التفسير والمفسرون للدكتور محمد حسين الذهبي 1/78(/10)
الدلالة المحكمة لآية الجلباب على وجوب غطاء الوجه
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه(*) 6/7/1425
22/08/2004
قال تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن".
في هذه الآية دلالة محكمة على وجوب الحجاب الكامل على سائر المؤمنات، وبيان ذلك من وجوه:
الوجه الأول: الأمر واحد للجميع، فالصفة واحدة.
في الآية مقدمة ونتيجة:
المقدمة: أن الأزواج والبنات ونساء المؤمنين أمرن بأمر واحد، بلا فرق، هو: إدناء الجلباب.
النتيجة: أن صفة الإدناء في جميعهن واحدة.
فالجمع إذا خوطب بشيء، فالأصل أن فحوى الخطاب واحد في حق الجميع، ما لم يرد استثناء. وهنا لا استثناء في الآية، فيبقى الخطاب واحدا، فبالنظر إلى دلالة الآية: فإنها صريحة الدلالة في تساوي الأزواج والبنات ونساء المؤمنين، في صفة الإدناء، بغير فرق بين أحد.
لكن السؤال الوارد هنا: ما صفة الإدناء؟.
والجواب: أن إحدى الفئات التي ذكرت في الآية وهم: الأزواج. قد عرف صفة إدنائها بقوله تعالى: "وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب"، وبالإجماع الآية تدل على الحجاب الكامل.
وفقا لهذين الأمرين نخرج بنتيجة هي: أن صفة الإدناء في حق الجميع هو: الحجاب الكامل.
ويمكن تصوير المسألة بمقدمتين ونتيجة:
المقدمة الأولى: الجميع: الأزواج، والبنات، ونساء المؤمنين. خوطبن بخطاب واحد هو: إدناء الجلباب.
المقدمة الثانية: أن صفة الإدناء في حق بعض هذا الجميع (الأزواج) هو الحجاب الكامل بالإجماع.
النتيجة إذن: صفة الإدناء في حق الجميع واحد، هو: الحجاب الكامل.
ففي الآية نفسها قرينة واضحة على التغطية، قال الشيخ الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان 6/586:
"فإن قيل: لفظ الآية الكريمة، وهو قوله تعالى: "يدنين عليهن من جلابيبهن" لا يستلزم معناه ستر الوجه لغة، ولم يرد نص من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع على استلزامه، وقول بعض المفسرين: إنه يستلزمه. معارض بقول بعضهم: إنه لا يستلزمه. وبهذا يسقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه.
فالجواب: أن في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى فيها: "يدنين عليهن من جلابيبهن"، يدخل في معناه ستر وجوههن، بإدناء جلابيبهن عليها، والقرينة المذكورة: هي قوله تعالى: "قل لأزواجك"، ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن، لا نزاع فيه بين المسلمين. فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين، يدل على وجوب ستر الوجوه، بإدناء الجلابيب، كما ترى".
فإن نازع منازع فقال: كلا، لا نسلم بأن فحوى الخطاب في حق الجميع واحد هنا، فالأمر واحد، هو إدناء الجلباب، لكن صفة الإدناء يختلف، فالأزواج عليهن الحجاب الكامل، والمؤمنات لهن كشف الوجه.
وهذا مثل قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون"، فالجميع رجس محرم، لكن الصفة تختلف، فالخمر حرمته في شربه، والميسر في اللعب به، والأنصاب في التقرب إليها، والأزلام في الاستقسام بها، وهكذا فالتحريم واحد، وصوره مختلفة.
فالجواب من أوجه:
الأول: أن هذا القول يتضمن الإقرار بدلالة الإدناء على التغطية؛ وإن كان يخصه بالأزواج، وبهذا ينتقض قولهم الأول: أن الإدناء في الآية لا يدل على التغطية بوجه.
الثاني: أن أصحاب هذا القول ترددوا في تفسير الإدناء بين التغطية والكشف، وبالتالي لن تكون دلالة الآية، عندهم، قاطعة على الكشف، وهذا يلزمهم، أما نحن فنقول: الآية لا تدل إلا على التغطية. ومن ثم دلالتها عندنا قاطعة على التغطية، وينتج عن هذا: أنه ليس لهم القول بأن الآية لا تدل على التغطية.
الثالث: قد علمنا بطلان تخصيص الأزواج بالحجاب الكامل، كما سبق بيانه في آية الحجاب. وإذا بطل التخصيص رجع فحوى الخطاب واحدا في حق الجميع، دون استثناء أو اختلاف.
الرابع: ما قولهم في بنات النبي صلى الله عليه وسلم، هل الإدناء في حقهن بالكشف أم بالتغطية؟.. إن قالوا: التغطية. لزمهم ذلك في سائر النساء، إذ لا موجب للتفريق بين البنات وسائر النساء. وهم لا يقولون بالكشف، لأنهم يساوونهن بالأزواج رضوان الله عليهن.
لكن إن سلموا بأن الخطاب واحد للجميع، لزمهم أن يقروا بأن الصفة واحدة للجميع أيضا.
الوجه الثاني: تفسير الإدناء بالكشف يلزم منه جواز كشف الأزواج وجوههن.
الإدناء، عموما، إما أن يكون بتغطية الوجه، وإما بدونه.
- فإن فسر بكشف الوجه، لزم منه كشف الأزواج وجوههن، وهذا باطل، لوجوب التغطية في حقهن.
- وإن فسر بتغطية الوجه لم يلزم منه أية لوازم باطلة، بل يكون موافقا لأمر الله تعالى الأزواج بتغطية وجوههن في الآية الأخرى، وليس في تغطية البنات ونساء المؤمنين وجوههن ما ينكر أو يعترض عليه.
فإن قيل: الصفة متفاوتة، فالأزواج عليهن التغطية، وسائر النساء ليس عليهن، والإدناء يتضمن المعنيين.
فالجواب: أن هذا الإيراد وجوابه تقدم في الوجه السابق.(/1)
الوجه الثالث: أن صفة الإدناء لغة هو التغطية.
قال تعالى: "يدنين عليهن من جلابيبهن"، فعل الإدناء عدي بـ "على"، وهو يستعمل لما يكون من أعلى إلى أسفل، فدلالة الآية: أن الإدناء يكون من فوق الرأس. وحينئذ ينزل بعض الجلباب على الوجه. فهذا شاهد على أن الإدناء هنا متضمن تغطية الوجه، بنزول بعض الجلباب عليه.
قال الزمخشري في تفسيره الكشاف [3/274]:
" ومعنى: "يدنين عليهن من جلابيبهن"، يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك".
وقال الإمام النحوي المفسر أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط [7/240]:
" (من) في (جلابيبهن) للتبعيض، و(عليهن) شامل لجميع أجسادهن، أو (عليهن) على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه".
فهذان إمامان في اللغة، قد فسرا الإدناء بإرخاء الجلباب على الوجه.
وقال النسفي في تفسيره [3/315]: "و (من) للتبعيض؛ أي ترخي بعض جلبابها وفضله على وجهها".
الوجه الرابع: سبب النزول يشير إلى أن المعنى وجوب التغطية.
قال ابن جرير: "حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما- في قوله: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن"، إلى قوله: "وكان الله غفورا رحيما"، قال: كانت الحرة تلبس لباس الأمة، فأمر الله النساء أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وإدناء الجلباب: أن تقنّع وتشد على جبينها".
وساق سنده إلى قتادة ومجاهد وأبي صالح بمثل هذا المعنى والسبب في نزول الآية.[التفسير 19/182-183]
فقد كان من علامة الحرة منذ الجاهلية تغطية وجهها، بخلاف الأمة فكانت تكشف وجهها، ولا يعني ذلك أن كل الحرائر كن يغطين، بل كان مشهورا عنهن، قال النابغة الذبياني، وهو من شعراء الجاهلية، يصف المتجردة زوجة النعمان، لما فجأها بالدخول، فسقط خمارها، فعمدت، فغطت وجهها بذراعيها، وكانت ضخمة، فاستترت بهما:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه*** فتناولته واتقتنا باليد(1)
فلما حصل الأذى من الفساق والمنافقين حين خروج النساء ليلا، أمرهن الله تعالى أن يتشبهن بالحرائر في تغطية الوجه، حتى يعرفن بذلك فلا يتعرضن للأذى.
قال الإمام النحوي المفسر أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط [7/240]:
" (من) في (جلابيبهن) للتبعيض، و(عليهن) شامل لجميع أجسادهن، أو (عليهن) على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه".
وروى ابن سعد في طبقاته [8/176،177] عن محمد بن كعب القرظي قال: "كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المسلمين ويؤذيهن، فإذا قيل له، قال: (كنت أحسبها أمة)، فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء، ويدنين عليهن من جلابيبهن، تخمر وجهها إلا إحدى عينيها، يقول: "ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين"(2).
وهذا المعنى تتابع المفسرون على حكايته في تفسير هذه الآية، فكلهم ذهبوا في قوله تعالى: "ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين"؛ أي يعرفن أنهن حرائر، بتغطية وجوههن وأجسادهن بالجلباب، حتى يتميزن عن الإماء، وبهذا يعرف أن الأمة لا يجب عليها حجاب وجهها، فالفرق بينهما ثابت بهذه الآية، وتظاهر المفسرين، من الصحابة والتابعين، على هذا التفريق، كما أنه قد ثبت في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيي بن أخطب، قال الصحابة: "إن حجبها فهي امرأته، وإلا فأم ولد". رواه البخاري ومسلم(3).
الوجه الخامس: تفسير الجلباب بتغطية الوجه ورد عن جمع من الصحابة والسلف.
وبهذا المعنى جاءت الأقوال عن السلف، فقد روى ابن جرير في تفسيره [19/181]، فقال:
- "حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنى معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن": أمر الله نساء المؤمنين، إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن، من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة".
- وروى أيضا فقال: "حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة في قوله: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن". فلبسها عندنا ابن عون، قال: ولبسها عندنا محمد، قال محمد: ولبسها عندي عبيدة. قال ابن عون: بردائه، فتقنع، فغطى أنفه وعينه اليسرى، وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا من حاجبه، أو على الحاجب".
- وساق الأثر نفسه من طريق يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، قال سألت عبيدة عن قوله: الآية. قال: "فقال بثوبه، فغطى رأسه ووجهه، وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه".[التفسير 19/181-182](/2)
- وفي الدر المنثور [5/415]: "وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين رضي الله عنه قال: سألت عبيدة رضي الله عنه عن هذه الآية: "يدنين عليهن من جلابيبهن" فرفع ملحفة كانت عليه، فقنع بها، وغطى رأسه كله، حتى بلغ الحاجبين، وغطى وجهه، وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر، مما يلي العين".
فهذا قول جمع من السلف في صفة الإدناء: ابن عباس، وعبيدة السلماني، ومحمد بن سيرين، وابن عون، وابن علية، وغيرهم.
الوجه السادس: أقوال المفسرين في تفسير الإدناء بتغطية الوجه.
تظاهر المفسرون وتتابعوا على تفسير الإدناء في الآية بتغطية الوجوه والأبدان، ولم يمر بي مفسر قال إنها تدل على الكشف، غاية ما هنالك بعض الأقوال أن من صفته: ستر معظم الوجه. وهذه أقوال هؤلاء الأئمة:
(1) ابن جرير [19/181] قال: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين، لا يتشبهن بالإماء في لباسهن، إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن، لئلا يعرضن لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر، بأذى من القول". وهذا النص صريح في صفة إدناء نساء المؤمنين، وأنه يعم تغطية الوجه.
(2) قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن في تفسير الآية [5/245]: "في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب فيهن".
(3) قال: إلكيا الهراس في تفسيره [انظر: عودة الحجاب 3/184]: "الجلباب هو الرداء، فأمرهن بتغطية وجوههن ورؤوسهن، ولم يوجب ذلك على الإماء".
(4) قال الزمخشري في تفسيره الكشاف [3/274]: " ومعنى: "يدنين عليهن من جلابيبهن"، يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن. يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدنى ثوبك على وجهك. وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هجيراهن في الجاهلية، متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار، لافصل بين الحرة والأمة، وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرضون إذا خرجن بالليل، إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان، للإماء، وربما تعرضوا للحرة، بعلة الأمة، يقولون: حسبناها أمة. فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الأردية والملاحف، وستر الرؤوس والوجوه، ليحتشمن، ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع، وذلك قوله: "ذلك أدنى أن يعرفن"؛ أي أولى وأجدر بأن يعرفن، فلا يتعرض لهن، ولايلقين ما يكرهن. فإن قلت ما معنى "من" في: "من جلابيبهن"؟، قلت: هو للتبعيض، إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين:
أحدهما: أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب، والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار، كالأمة والماهنة، ولها جلبابان فصاعدا في بيتها.
والثاني: أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها، تتقنع حتى تتميز من الأمة، وعن ابن سيرين: (سألت عبيدة السلماني عن ذلك، فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب، ثم تديره حتى تضعه على أنفها)، وعن السدي: (أن تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين)، وعن الكسائي: (يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن) أراد بالانضمام معنى الإدناء".
(5) قال البغوي في تفسيره [3/469]: "قال ابن عباس وأبو عبيدة: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عينا واحدة، ليعلم أنهن حرائر"، ذكر هذا وما ذكر غيره.
(6) قال القرطبي في تفسيره [14/243]: "لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن، كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن، إذا أردن الخروج إلى حوائجهن".
(7) قال البيضاوي في تفسيره أنوار التنزيل [4/386]: "يدنين عليهن من جلابيبهن" يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن، إذا برزن لحاجة.
(8) قال الإمام النسفي في تفسيره مدارك التنزيل [3/315]: "يدنيهن عليهن من جلابيبهن" يرخينها عليهن، ويغطين وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زال الثوب عن وجه المرأة: أدنى ثوبك على وجهك. و (من) للتبعيض، أي ترخي بعض جلبابها وفضله على وجهها، تتقنع حتى تتميز من الأمة.
(9) قال ابن جزي الكلبي في تفسيره التسهيل لعلوم التنزيل [534]: "كان نساء العرب يكشفن وجوههن، كما تفعل الإماء، وكان ذلك داعيا إلى نظر الرجال لهن، فأمرهن الله بإدناء الجلابيب ليسترن بذلك وجوههن، ويفهم الفرق بين الحرائر والإماء، والجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار، وقيل: هو الرداء. وصورة إدنائه عند ابن عباس: أن تلويه على وجهها، حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها. وقيل: أن تلويه حتى لا ينظر إلا عيناها. وقيل: أن تغطي نصف وجهها".(/3)
(10) قال ابن تيمية[الفتاوى 22/110]: "قبل أن تنزل آية الحجاب، كان النساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذا ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها، لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب، بقوله: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن" حجب النساء عن الرجال".
(11) وذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية، في تفسيره [6/471] أثر علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وأثر عبيدة السلماني، كما أورد قول عكرمة: "تغطي ثغرة نحرها بجلبابها، تدنيه عليها".
(12) قال أبو حيان في تفسيره [7/240]: " وقال أبو عبيدة السلماني حين سئل عن ذلك، فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب، ثم تديره حتى تضعه على أنفها. وقال السدي: (تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين). انتهى، وكذا عادة بلاد الأندلس لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة. وقال الكسائي: يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن. أراد بالانضمام معنى الإدناء. وقال ابن عباس وقتادة: وذلك أن تلويه فوق الجبين، وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه... و "من" في "جلابيبهن" للتبعيض، و "عليهن" شامل لجميع أجسادهن، أو "عليهن" على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه".
(13) قال أبو السعود في تفسيره إرشاد العقل السليم 7/115]: " الجلباب ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء، تلويه المرأة على رأسها، وتبقي منه ما أرسله على صدرها، وقيل: هي الملحفة، وكل ما يستر به؛ أي يغطين بها وجوههن وأبدانهن، إذا برزن لداعية من الدواعي، و"من" للتبعيض، لما مر من أن المعهود التلفع ببعضها، وإرخاء بعضها".
(14) قال: السيوطي: "هذه آية الحجاب في حق سائر النساء، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن" [عون المعبود شرح سنن أبي داود 12/158، اللباس، باب قول الله تعالى: "يدنين عليهن.."]
(15) قال الألوسي في روح المعاني [11/264]: "الإدناء: التقريب. يقال: أدناني. أي قربني، وضمن معنى الإرخاء أو السدل، ولذا عدّي بـ (على)، على ما يظهر لي، ولعل نكتة التضمين: الإشارة إلى أن المطلوب تستر، يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين، فتأمل. ونقل أبو حيان عن الكسائي أنه قال: أي يتقنعن بملاحفهن، منضمة عليهن، ثم قال: أراد بالانضمام معنى الإدناء، وفي الكشاف معنى "يدنين عليهن" يرخين عليهن، يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة، أدني ثوبك على وجهك. وفسر ذلك سعيد بن جبير بيسدلن عليهن، وعندي أن كل ذلك بيان لحاصل المعنى، والظاهر أن المراد بعليهن على جميع أجسادهن، وقيل: على رؤوسهن، أو على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه". ثم أورد أثر عبيدة السلماني، وأثر ابن أبي طلحة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في إبداء عين واحدة، والأثر الآخر عنه وقتادة في ليّ الحجاب فوق الجبين وشده ثم عطفه على الأنف، وإن ظهرت العينان، مع ستر الصدر ومعظم الوجه، ثم ذكر أثر أم سلمة – رضي الله عنها- عند عبد الرزاق وعائشة – رضي الله عنها -عند ابن مردوية في صنيع نساء الأنصار بعد نزول الآية، ثم قال:"ومن للتبعيض، ويحتمل ذلك على ما في الكشاف لوجهين:
أحدهما: أن يكون المراد بالبعض واحدا من الجلابيب، وإدناء ذلك عليهن، أن يلبسنه على البدن كله.
وثانيهما: أن يكون المراد بالبعض جزءا منه، وإدناء ذلك عليهن: أن يتقنعن، فيسترن الرأس والوجه بجزء من الجلباب، مع إرخاء الباقي على البدن".
(16) قال الشوكاني في فتح القدير [4/304]: "من للتبعيض، والجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار، قال الجوهري: الجلباب: الملحفة. وقيل: القناع0 وقيل: هو ثوب يستر جميع بدن المرأة. كما ثبت في الصحيح من حديث أم عطية – رضي الله عنها - أنها قالت: (يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب، فقال: لتلبسها أختها من جلبابها)، قال الواحدي: قال المفسرون: يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عينا واحدة، فيعلم أنهن حرائر، فلا يعرض لهن بأذى. وقال الحسن: تغطي نصف وجهها. وقال قتادة: تلويه فوق الجبين، وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه".
(17) قال القاسمي في تفسيره محاسن التأويل [انظر: عودة الحجاب 3/201]: "أمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليحتشمن ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع".
(18) قال الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان [6/586]: "ومن الأدلة القرآنية على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها قوله تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن".
(19) جاء في تفسير الجلالين [560]: "أي يرخين بعضها على الوجوه، إذا خرجن لحاجتهن، إلا عينا واحدة، "ذلك أدنى"؛ أقرب إلى أن يعرفن بأنهن حرائر، "فلا يؤذين"، بالتعرض لهن".(/4)
- وفي عون المعبود شرح سنن أبي داود [12/158، اللباس، باب في قوله الله تعالى: "يدنين عليهن من جلابيبهن" : "أي يرخين بعضها على الوجوه، إذا خرجن لحاجتهن، إلا عينا واحدة، كذا في الجلالين. وقال في جامع البيان: الجلباب: رداء فوق الخمار، تستر من فوق إلى أسفل؛ يعني يرخينها عليهن، ويغطين وجوههن وأبدانهن".
- وإلى هذا القول ذهب الشيخ أبو الأعلى المودودي، والجزائري، ، والدكتور محمد محمود جحازي، والشيخ عبد العزيز بن خلف، وعبد الله الأنصاري وغيرهم. [انظر: عودة الحجاب: 3/200-211]
هؤلاء هم أئمة التفسير المشهورون، لم نر فيهم من فسر الإدناء بكشف الوجه بلفظ صريح، بل جلهم تتابعوا على التصريح بالتغطية، كما رأينا، وبعضهم ذكر هيئات أخرى، بعضها صريح في تغطية معظم الوجه، وبعضها غير صريح في الكشف، بل إلى التغطية هو أقرب، فمن ذلك ما جاء عن ابن جرير قال [التفسير 19/182]:
- "وقال آخرون: بل أمرن أن يشددن جلابيبهن على جباههن"، ثم ساق سندا إلى ابن عباس – رضي الله عنهما - قال: "كانت الحرة تلبس لباس الأمة، فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وإدناء الجلباب: أن تقنّع وتشد على جبينها".
وهذا ليس فيه نص على الكشف، بل فيه شاهد على التغطية وهو التقنع. وسيأتي مزيد بيان لمعنى القناع.
وذكر الشوكاني في تفسيره فتح القدير قال:
- "قال: الواحدي: قال المفسرون: يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عينا واحدة، فيعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى. وقال: الحسن: تغطي نصف وجهها. وقال قتادة: تلويه فوق الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه".
فنحن بين تفسيرات:
- منها تغطية الوجه إلا العين.
- ومنها تغطية نصف الوجه.
- ومنها إبداء العينين وبعض الوجه، مع ستر معظمه.
والأول منها هو المشهور، وهو قول ابن عباس – رضي الله عنهما-، وجمع من التابعين، وعليه جل المفسرين، وأكثرهم يذكره، وليس فيها نص صريح يقول بكشف الوجه، بل حتى هذا الذي اعتمدوا عليه في جواز الكشف، فيه ما يدل على التغطية، وهو ذكر التقنع.
ومما يجدر لفت النظر إليه: أن أولئك الذين صرحوا بجواز الكشف، في آية الزينة، كالقرطبي، والبغوي، وابن عطية، لما جاءوا إلى هذه الآية فسروها بتغطية الوجه، وليس في قول أحد من أهل العلم والمفسرين أن هذه الآية خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في وسع أحد أن يدعي ذلك، فهي عامة، حيث ذكر: الأزواج، والبنات، ونساء المؤمنين. معا، تحت أمر واحد.
وبعد كل هذه الدلائل، والتظاهر والاتفاق بين المفسرين: كيف يصح الاستدلال بهذه الآية على الكشف؟!.
استطراد: اعتراض.. وجواب
منع الشيخ الألباني من دلالة هذه الآية على التغطية، وذهب إلى أنها دليل على الكشف، واستدل بأمور:
(1) أن الإدناء في اللغة هو التقريب، وليس تغطية الوجه. [الرد المفحم ص7]
(2) الآية وحدها ليست نصا صريحا في التغطية، بل لا بد من مرجح. [الرد المفحم ص7]
(3) الاستدلال بأثر لابن عباس – رضي الله عنهما - فيه: "تدني جلبابها إلى وجهها، ولا تضرب به". [الرد المفحم ص8]
(4) الاستدلال ببعض الآثار عن قتادة ومجاهد وسعيد بن جبير. [الرد المفحم ص51]
(5) رد وتضعيف أثر ابن أبي طلحة عن ابن عباس – رضي الله عنهما - وأثر عبيدة السلماني. [جلباب المرأة المسلمة ص88]
والجواب على إيرادات الشيخ، رحمه الله تعالى، وأعلى درجته، يكون بما يلي:
(1) معنى الإدناء في اللغة قال الشيخ: "يصر المخالفون المتشددون على المرأة، وفي مقدمتهم الشيخ حمود التويجري حفظه الله، على أن معنى "يدنين": يغطين وجوههن. وهو خلاف معنى أصل هذه الكلمة: الإدناء. لغة، وهو التقريب".
الإدناء في اللغة هو التقريب بين الشيئين، فالدنو هو القرب، قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة [2/303]: "دنى: الدال، والنون، والحرف المعتل، أصل واحد، يقاس بعضه على بعض، وهو المقاربة.. ودانيت بين الأمرين: قاربت بينهما".
فهذا معنى الإدناء، فهل فيه ما يمنع أن يكون معناها تغطية الوجه؟.
هل يلزم من إدناء الجلباب كشف الوجه، وعدم تغطيته؟.
الجواب: كلا، لا يلزم، بل العكس هو الصحيح، فإن كل الدلائل الشرعية، واللغوية، وأقوال المفسرين تشير إلى أن الإدناء يلزم منه تغطية الوجه، والأدلة ما يلي:
(1) أن هذا هو قول أهل اللغة من المفسرين، كما هو قول الزمخشري، قال: "يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك"، وعن أبي حيان مثله، وقد تقدم.
(2) أن الفعل عدي بـ (على): "يدنين عليهن"، فهذا دليل على أن الإدناء يكون من فوق الرؤوس، وحينئذ ينزل بعض الجلباب على الوجه، فيغطيه.
(3) تفسير ابن عباس رضي الله عنهما الإدناء في الآية بتغطية الوجه، كما في رواية علي بن أبي طلحة.
(4) تطبيق التابعين لهذا المعنى عمليا، كما ورد عن عبيدة السلماني، وابن سيرين، وابن عون، وابن علية.(/5)
(5) تتابع المفسرين على ذكر رواية علي بن أبي طلحة، في تفسير الآية، وهي صريحة في التغطية، وتصريحهم بأن معنى الإدناء هو تغطية الأبدان والوجوه، حتى إنك لا تجد مفسرا فسر الآية بالكشف.
كل هذه الأمور تدل على رجحان التغطية، إذن دلالة الكلمة في اللغة هي التغطية، وليس الكشف.
(2) هل النص ليس صريحا في التغطية فيحتاج إلى مرجح؟.
يقول الشيخ: "وبينت أنه ليس نصا في تغطية الوجه، وأن على المخالفين أن يأتوا بما يرجح ما ذهبوا إليه".
يقال هنا: لو سلمنا، جدلا، أن الآية تحتمل المعنيين، وتحتاج إلى مرجح، فالمرجحات هي ما سبق من وجوه:
الأول: ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الآية: مرجح على أن المراد هو التغطية.
الثاني: أن تفسير الإدناء بالكشف، يلزم منه كشف الأزواج وجوههن، ولا قائل به، وهذا مرجح آخر.
الثالث: أنه قال عليهن: "يدنين عليهن"، والإدناء من أعلى دليل على التغطية، وهذا مرجح ثالث.
الرابع: سبب النزول أن النساء كن يكشفن الوجه والشعر، فأمرن بالتغطية. وهذا مرجح رابع.
الخامس: تفسير ابن عباس – رضي الله عنهما - وعبيدة السلماني وجمع من التابعين الآية بالتغطية، مرجح خامس.
السادس: تتابع المفسرين على تفسير الآية بالتغطية، فلا تجد من يقول بالكشف، مرجح سادس.
السابع: قول المفسرين من أهل اللغة، كالزمخشري وأبي حيان، مرجح سابع.
(3) أثر ابن عباس – رضي الله عنهما : "تدني الجلباب إلى وجهها، ولا تضرب به".
ذكر الشيخ أن هذا الأثر أخرجه أبو داود في مسائله (ص110) بسند صحيح جدا [الرد المفحم51].
ونص الأثر هو كما يلي: قال أبو داود في مسائله للإمام أحمد، في باب: ما تلبس المرأة في حرامها:
"حدثنا أحمد، قال حدثنا يحيى وروح، عن ابن جريج، قال أخبرنا، قال عطاء، أخبرني أبو الشعثاء، أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (تدني الجلباب إلى وجهها ولا تضرب به)، قال روح في حديثه: قلت: وما لا تضرب به؟، فأشار لي، كما تجلبب المرأة، ثم أشار لي ما على خدها من الجلباب، قال: تعطفه، وتضرب به على وجهها، كما هو مسدول على وجهها".
والشيخ حكم بالشذوذ على زيادة روح، فقال:
"وهذه زيادة شاذة لا تصح، لأن يحيى جبل في الحفظ؛ قال أحمد: إليه المنتهى في التثبت في البصرة"، وقال: هو أثبت من هؤلاء. يعنى: ابن مهدي وغيره. فإذا قابلت هذه الشهادة منه بقوله في روح: لم يكن به بأس. عرفت الفرق بينهما، ولم تقبل زيادته على يحيى، ولم يدر التويجري هذا الفرق، ورجح رواية روح واحتج بها! ذلك مبلغه من العلم بهذا الفن". [الرد المفحم ص51]
فمخلص رأي الشيخ هنا يدور حول أمرين:
الأول: الجزم بأن معنى: "لا تضرب به" هو المنع من غطاء الوجه، أو هو دليل على الكشف.
الثاني: بنى على هذا المعنى الحكم بالشذوذ على زيادة روح، كونها تدل صراحة على التغطية.
وتعليقا يقال:
الشذوذ مصطلح يطلق على زيادة تفرد بها ثقة، خالف بها غيره، ولا يطلق على ما رواه ولم يروه غيره، وبهذا عرفه الشافعي، حيث قال: " هو أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس، وليس من ذلك أن يروي ما لم يرو غيره". قال ابن كثير: "الذي قاله الشافعي أولاً هو الصواب: أنه إذا روى الثقة شيئا، قد خالف فيه الناس فهو الشاذ، يعني المردود، وليس من ذلك أن يروي الثقة ما لم يرو غيره، بل هو المقبول، إذا كان عدلا، ضابطا، حافظا، فإن هذا لو رد لردت أحاديث كثيرة من هذا النمط، وتعطلت كثير من المسائل عن الدلائل". [الباعث الحثيث 56]
وإذا طبقنا هذا التعريف على زيادة روح فهل هي من قبيل رواية الثقة حديثا يخالف ما روى الناس؟، أم أن الراوي روى ما لم يرو غيره؟.
الجواب: قد علمنا أن الشيخ بنى حكمه بالشذوذ: على الجزم بأن معنى "لا تضرب به" هو: الكشف. وهذا ما لايسلم به، فللمنازع أن يقول: هذه مصادرة على المطلوب. وعلى القائل الدليل على ما ذهب إليه.
فهذه الكلمة، غامضة المعنى، لا تفهم لأول وهلة، فيُحتاج إلى مفسر، فتعين معنى ما، والجزم به، دون الاستناد إلى دليل مرجح، هو ما لا يقبل، وهذا ما فعله الشيخ.
بل لنا أن نقول عكس ذلك؛ أن معنى: "لا تضرب به"؛ أي تغطي وجهها، لكن بصورة معينة، إذ صور التغطية متعددة، فمنها ما يكون بالجلباب، ومنها ما يكون بالقناع، ومنها ما يكون بالخمار. والأدلة ما يلي:
(1) أن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو القائل، قد فسر كلامه بالتغطية، وخص نوعا منه هو السدل، فهو أدرى بما قال، وليس لنا أن نتحكم في كلامه، فنفسره بغير ما فسره هو به، خاصة إذا لم يكن لدينا دليل يبطل هذا التفسير.(/6)
(2) أن هذا الأثر ساقه أبو داود في باب: "ما تلبس المرأة في حرامها"، وهذا فيه قطع للخلاف، وذلك: أن المحرمة ممنوعة من النقاب، غير ممنوعة من السدل، لأن النقاب فيه شد على العضو، وهو الوجه، وهذا ما تمنع منه، كما تمنع من القفاز، للعلة ذاتها، أما السدل فليس فيه الشد، ولذا جاز، ومن هنا ورد عن عائشة وأمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، ونساء المؤمنين السدل حال الإحرام، فابن عباس – رضي الله عنهما- إذن كان يقصد بقوله: "لا تضرب به" أي النهي عن الشد على الوجه، بالنقاب ونحوه، ولذا لما سئل عن المعنى فسره بما يباح للمحرمة، مما لا يكون ضربا به، ففسره بالسدل. وعكس السدل هو الضرب به.
(3) أن الإمام أحمد رحمه الله فهم هذه المسألة عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، فكان يفتي المحرمة بالسدل للمحرمة، ويمنع من الضرب به، وهو الشد على الوجه، لما فيه من ملابسة العضو (4).
(4) أن القول بأن الكلمة معناها: الكشف. فيه إشكال؛ إذ مقتضاه أن ابن عباس – رضي الله عنهما - أطلق النهي عن تغطية الوجه، ومعلوم أن أقل أحوال التغطية الاستحباب، ومن المستبعد جدا أن ينهاهن عن التغطية، هذا إن كان حكما عاما، وأما إن كان خاصا بالمحرمة، فكذلك بعيد أن يطلق المنع من التغطية لأمرين:
الأول: أنه بلا ريب، كان يرى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والصحابيات يغطين، بمرأى منه صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة، فكيف يمنعهن من شيء رأى وشاهد إباحة الشارع لهن؟!.
الثاني: أن حمل كلامه على المنع من التغطية، يلزم دخول الأزواج رضوان الله عليهن في هذا الحكم، لأن حكمهن في الإحرام حكم سائر النساء.
ومن هذا يتبين لنا أنه لا وجه للحكم على هذه الزيادة بالشذوذ، لأنه لا شذوذ هنا، ولا دليل عليه، بل هي زيادة ثقة، يروي ما لم يرو غيره. وهذا على فرض أن هذه الزيادة من قول ابن عباس!!.
فإن من المحتمل أن تكون من سؤال روح لشيخه، حيث جاء في النص: "قال روح في حديثه: قلت..". فالنص فيه احتمال الأمرين: أن يكون المسؤول ابن عباس – رضي الله عنهما -من تلميذه أبي الشعثاء، وقد يكون المسؤول شيخ روح، يسأله روح. فلو قدر أن الاحتمال الثاني هو الوارد، فالحكم على الزيادة بالشذوذ خطأ لا يصح، إذ ليس كلاما لابن عباس – رضي الله عنهما -، بل تفسير الراوي كلامه، وتفسير الراوي لا يخضع لقاعدة القبول والشذوذ، بل لقاعدة الخطأ والصواب، والذي يبدو أن الشيخ رحمه الله تعالى عدّ الزيادة من كلام ابن عباس – رضي الله عنهما- ، فلذا أجرى عليها قاعدة الشذوذ والقبول، لكن قد تبين لنا: أن الزيادة إنما هي من قبيل رواية الراوي ما لم يرو غيره.
إذن الخطأ وقع في أمرين:
الأول: استعمال مصطلح الشذوذ في هذا الموضع، وليس محله.
الثاني: الجزم بأن معنى الكلمة عدم التغطية، دون تقديم دليل يدل عليه، وبنا الحكم بالشذوذ عليه.
(4) الآثار عن قتادة وسعيد بن جبير ومجاهد.
استدل الشيخ الألباني ببعض الآثار لدعم قوله في الكشف، وهي كما يلي [الجلباب 85، الرد المفحم51]:
- في الدر 5/222: وأخرج بن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "يدنين عليهن من جلابيبهن"، قال: يسدلن عليهن من جلابيبهن، وهو القناع فوق الخمار، ولا يحل لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار، وقد شدت بها رأسها ونحرها".
- ونقل الجصاص في أحكام القرآن (3/372) عن مجاهد وابن عباس: "تغطي الحرة إذا خرجت جبينها ورأسها" .
- وعن ابن جرير عن قتادة: "أخذ الله عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب".
ويقال هنا: هذه النصوص، وقد مضى ذكرها عند سرد أقوال المفسرين، ليس فيها القول بكشف الوجه، وإنما قال الشيخ ذلك، من رأيه في معنى القناع، أنه غطاء الرأس دون الوجه [انظر: الرد المفحم 20]، لكن يشكل عليه تتابع العلماء على تفسير القناع بما يدل على أنه غطاء الوجه، والأدلة ما يلي:
(1) في البخاري: ( أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد..)، قال الحافظ في الفتح (6/25): "قوله: (مقنع) بفتح القاف والنون المشددة، وهو كناية عن تغطية وجهه بآلة الحرب". ومع صراحة هذا التفسير، غير أن الشيخ رحمه الله أبى إلا أن يقول: "فإنه يعني ما جاور الوجه، وإلا لم يستطع المشي، فضلا عن القتال، كما هو ظاهر" [الرد المفحم 21]. والواقع أن كل من رأى الأقنعة، علم أنها غطاء الوجه. فالقناع يغطي الوجه، حتى لا يبدو إلا العين، للنظر، كهيئة النقاب، وحينئذ يمكن المشي والقتال، وكلام ابن حجر واضح أنه يعني بالقناع غطاء الوجه، فهذا صريح كلامه، فتأويل هذا الصريح بعدئذ، لينقلب فيغدو : "ما جاور الوجه".. أمر غير سائغ بمرة..؟!!!.
(2) مر معنا سابقا قول الزمخشري: "أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها، تتقنع، حتى تتميز من الأمة"، وهو من أئمة اللغة العربية، وها قد فسر القناع بما يفيد تغطية الوجه.(/7)
(3) في أثر عبيدة، وقد رواه ابن جرير، كما مر سابقا: "قال ابن عون: بردائه، فتقنع، فغطى أنفه وعينه اليسرى، وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا من حاجبه، أو على الحاجب". وهنا كذلك فسر التقنع بما يفيد تغطية الوجه.
والقناع عند العرب معروف بكونه غطاء الوجه، وهاكم أدلة على هذا:
(1) المقنع الكندي، إنما عرف بهذا اللقب، لأنه كان يغطي وجهه ببرقع من حرير، كما ذكر البغدادي في كتابه [ الفرق بين الفرق ص243]، وزعم أنه إله، وأنه لو كشف وجهه لم يحتمل أحد رؤيته [الموسوعة الفلسفية 2/323 ]
(2) ذكر اليعقوبي في تاريخه [2/315]: "وكانت العرب تحضر سوق عكاظ وعلى وجوهها البراقع، فيقال: إن أول عربي كشف قناعه ظريف بن غنم العنبري".
(3) المثل السائر: "ألقى عن وجهه قناع الحياء" [لسان العرب 11/323، مادة: قنع].
ولعل كذلك مما دعا الشيخ ليتبنى هذا الرأي، هو ما جاء في الآثار من ذكر الرأس والجبين، دون الوجه.
وإذا تأمل المرء القناع، عرف أنه لا بد فيه من شد على الجبين والرأس، فبدونه لا يكون، وإذا كان كذلك فليس بعيدا أن يذكر الشد على الرأس والجبين، ويستغنى به عن ذكر الوجه، لأن هذا لازم لهذا.
فأقوال هؤلاء الأئمة ليس فيها المنع من تغطية الوجه، وذكرهم القناع دليل على أنهم أرادوا تغطية الوجه. فإذا اعترض أحد فقال: ليس في هذه الأقوال التصريح بتغطية الوجه.
قيل: وليس فيها التصريح بكشف الوجه، فيبقى محتملا، وعندنا ما يرجح التغطية، وهو ذكر القناع، فيحمل عليه إذن.
(5) أثر ابن عباس – رضي الله عنهما -. مضى ذكر الأثرين، وهما صريحان في التغطية، غير أن الشيخ مال إلى تضعيفهما، فقال في أثر ابن عباس:
- "لا يصح هذا عن ابن عباس، لأن الطبري رواه من طريق علي عنه، وعلي هذا هو ابن أبي طلحة، كما علقه عنه ابن كثير، وهو مع أنه تكلم فيه بعض الأئمة، لم يسمع من ابن عباس – رضي الله عنهما ، بل لم يره، وقد قيل: بينهما مجاهد، فإن صح هذا في هذا الأثر فهو متصل، لكن في الطريق إليه أبو صالح، واسمه عبد الله بن صالح، وفيه ضعف". [جلباب المرأة 88]
فالشيخ إذن رد هذا الأثر من جهتين: من جهة علي ابن أبي طلحة، ومن جهة عبد الله بن صالح.
فأما علي بن أبي طلحة، فقد ذكر الشيخ أنه إن صح أخذه التفسير من مجاهد فهو متصل، وهذا هو ما كان، قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال (3/134):
- "أخذ تفسير ابن عباس – رضي الله عنهما - عن مجاهد، فلم يذكر مجاهدا، بل أرسله عن ابن عباس" رضي الله عنهما -.
فهذه شهادة باتصال تفسيره إلى ابن عباس، هذا وإن رواية علي هذه من الروايات المقبولة والمعتبرة عند المحدثين، قال السيوطي [في الإتقان في علوم القرآن 2/241]:
"وقد ورد عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصى كثرة، وفيه روايات وطرق مختلفة، فمن جيدها طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي، عنه قال أحمد بن حنبل:
- بمصر صحيفة في التفسير، رواها علي ابن أبي طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر، قاصدا، ما كان كثيرا.
أسنده أبو جعفر في ناسخه. قال ابن حجر:
- وهذه النسخة كانت عند أبي صالح، كاتب الليث، رواها معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، وهي عند البخاري عن أبي صالح، وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيرا، فيما يعلقه عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، وأخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبي صالح.
وقال قوم: لم يسمع ابن أبي طلحة من ابن عباس رضي الله عنهما - التفسير، وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير. قال ابن حجر: بعد أن عرفت الواسطة، وهو ثقة، فلا ضير في ذلك"(5).
وذكر ابن حجر في كتابه [العجاب في بيان الأسباب ص57-58] فقال: "ومن طريق: معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وعلي: صدوق. لم يلق ابن عباس، لكنه إنما حمل عن ثقات أصحابه، فلذلك كان البخاري وابن أبي حاتم وغيرهما، يعتمدون على هذه النسخة".
وابن حجر نفسه يحتج بهذه الرواية ويصححها، ففي الفتح [13/271] قال:
"وأخرج الطبري بسند صحيح عن عاصم بن كلي، عن أبيه عن ابن عباس – رضي الله عنهما - ثم أخرج من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس – رضي الله عنهما - بسند صحيح، قال: الأب: الثمار الرطبة".
إذن لا وجه للطعن في هذه الرواية، فهي ثابتة، عمل بها الأئمة، واحتجوا بها، وليس بعد قول الإمام أحمد والبخاري وابن حاتم وابن حجر فيها قول.
أما عبد الله بن صالح، فقد نقل الذهبي أقوال الأئمة فيه، بين مجرح ومعدل (ميزان الاعتدال 2/440-442)، فالشيخ قال فيه ضعف، وهذه إشارة إلى أن ضعفه ليس بالشديد، وهكذا قال أبو زرعة:
- "لم يكن عندي ممن يتعمد الكذب، وكان حسن الحديث".
- "وقال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث، إلا أنه يقع في أسانيده ومتونه غلط، ولا يتعمد".(/8)
- قال الذهبي: "وقد روى عنه البخاري في الصحيح، على الصحيح، ولكنه يدلسه، يقول: حدثنا عبد الله ولا ينسبه، وهو هو، نعم علق البخاري حديثا فقال فيه: قال الليث بن سعد، حدثني جعفر بن ربيعة، ثم قال في آخر الحديث: حدثني عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، فذكره. ولكن هذا عند ابن حمّويه السرخسي دون صاحبيه، وفي الجملة ما هو بدون نعيم بن حماد، ولا إسماعيل بن أبي أويس، ولا سويد بن سعيد، وحديثهم في الصحيحين، ولكل منهم مناكير تغتفر في كثرة ما روي".
فإذا كان هذا رأي الذهبي فيه، وابن عدي، وأبي زرعة، والبخاري، فكيف يرد حديثه جملة وتفصيلا؟.
ثم إن ثناء الإمام أحمد وقبوله، والإمام البخاري، وابن أبي حاتم، وابن حجر:
ما في صحيفة علي بن أبي طلحة تعديل وقبول ضمني لرواية أبي صالح عبد الله بن صالح، إذ هو أحد رواة هذه الصحيفة.
وأمر أخير هو: أن هذه الرواية معتضدة بأثر عبيدة السلماني، الذي بنفس معناها، لكن الشيخ كذلك ضعفها، من وجوه هي [الرد المفحم 55-57] ما يلي:
(6) أثر عبيدة السلماني.
(1) قال الشيخ رحمه الله تعالى: " أنه مقطوع، موقوف، فلا حجة فيه، لأن عبيدة السلماني تابعي، اتفاقا، فلو أنه رفع حديثا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكان مرسلا، لا حجة فيه، فكيف إذا كان موقوفا عليه كهذا، فكيف وقد خالف تفسير ترجمان القرآن: ابن عباس – رضي الله عنهما -، ومن معه من الأصحاب؟".
هنا يقال:
الأول: هذا الأثر سنده كالشمس، لا مطعن فيه بوجه.
ثانياً: ليس رفع الأثر محل الاحتجاج، فهذا لم يدعه أحد، بل في كونه حكاية قول جماعة من السلف في معنى الآية، وهذا ثابت بثبوت سنده.
ثالثاً: لو فرض جدلا مخالفته رأي ابن عباس، فليس دليلا على ضعفه، إذ هو أثر مستقل، وليس رواية عن ابن عباس، فكيف وهو موافق تمام الموافقة لقول ابن عباس رضي الله عنهما؟.
(2) قال: "أنهم اضطربوا في ضبط العين المكشوفة فيه، فقيل: (اليسرى)، كما رأيت، وقيل: (اليمنى)، وهو رواية الطبري (22/33)، وقيل: (إحدى عينيه)، وهي رواية أخرى له".
يقال: الاضطراب في المتن هو: الاختلاف بين ألفاظ الروايات، على وجه لا يمكن الترجيح بينها. والاختلاف هنا ليس من هذا القبيل ألبتة، بل هو متصور، أن يقول أحدهم: اليمنى. والآخر: اليسرى. فالغلط هنا وارد، لكنه ليس بالغلط القادح في الرواية.
هذا والشيخ نفسه قد قبل مثل هذا الاختلاف في حديث أسماء المشهور في كشف الوجه، ولم يرده بدعوى الاضطراب، بل شنع على من رده، فقال [الرد المفحم ص109]:
" نعم لقد شغب العنبري على المتن من ناحية واحدة، فقال: نرى الرسول صلى الله عليه وسلم في الطريق الأولى يشير إلى الوجه والكفين، وفي الطريق الثانية لم يبد إلا أصابعه.
فأقول: نعم، ولكن ما بالك كتمت اتفاق الطريق الثالثة، الصحيحة إلى قتادة باعترافك، مع الطريق الأولى؟!. أليس هذا مما يرجح لفظ: (الكفين) على (الأصابع)".
فالشيخ هنا لم يحكم على الحديث بالاضطراب، مع كونه ورد في رواية بلفظ: (الوجه والكفين)، وفي الأخرى بلفظ: (الأصابع)، لكنه حكم بالاضطراب على أثر عبيدة السلماني بالاضطراب، لأنه روي من طريق بلفظ: (العين اليمنى)، وفي أخرى: (اليسرى)، وفي ثالثة: (إحدى عينيه)..!!.
الذي نعلمه أن الغلط في تحديد العين وارد، ومن ثم فلا وجه للحكم على الأثر بالاضطراب.
وانظر بعد هذا إلى كلام الشيخ، وهو يعلق على حديث عبيدة [الرد المفحم 56]:
"وإذا عرفت هذا، فاعلم أن الاضطراب عند علماء الحديث علة في الرواية تسقطها عن مرتبة الاحتجاج بها، حتى ولو كان شكليا كهذا، لأنه يدل على أن الراوي لم يضبطها ولم يحفظها".
ويقال هنا: على هذا الميزان يجب كذلك إسقاط حديث أسماء، لأن العلة ذاتها موجودة فيه ..!!.
مع ملاحظة أن الشيخ أبلغ الجهد في تصحيحه، حتى إنه استغرق قرابة 50 صفحة في الكلام عنه في الرد المفحم [من ص79-127].
(3) قال: "ذكره ابن تيمية في الفتاوى (15/371) بسياق آخر يختلف تماما عن السياق المذكور، فقال: "وقد ذكر عبيدة السلماني وغيره: إن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن، حتى لايظهر إلا عيونهن، لأجل رؤية الطريق".
يقال: من الواضح أن شيخ الإسلام كان يروي الأثر نفسه، لكن بالمعنى، وليس من طريق آخر، ويحكي تاريخا واقعا، فلا أدري كيف يكون هذا دليلا على ضعف الرواية الأصل وبطلانها؟!!.
والعجب أن الشيخ نفسه قد ذكر هذا فقال [الرد المفحم ص56]:
"على أن سياق ابن تيمية ليس شكليا، كما هو ظاهر، لأنه ليس في تفسير الآية، وإنما هو إخبار عن واقع النساء في العصر الأول، وهو بهذا المعنى صحيح ثابت في أخبار كثيرة، كما سيأتي في الكتاب بعنوان: (مشروعية ستر الوجه) ص104، ولكن ذلك لا يقضي وجوب الستر، لأنه مجرد فعل منهن".
فإذا كان الأمر كذلك، فكيف صار هذا وجها لتضعيف أثر عبيدة السلماني؟!.
(4) قال: "مخالفته لتفسير ابن عباس – رضي الله عنهما - للآية كما تقدم بيانه، فما خالفه مطرح بلا شك".(/9)
يقال: تقدم ثبوت أثر ابن عباس – رضي الله عنهما - من رواية ابن أبي طلحة، بشهادة الأئمة: أحمد، والبخاري، وابن أبي حاتم، وابن حجر. وهي موافقة تماما لما جاء في أثر عبيدة السلماني، وعليه فلا حجة لهذا الوجه.
ختام المبحث: وبعد بيان هذه الاعتراضات من الشيخ رحمه الله والجواب عليها، يتبين بوضوح أنه لا حجة في هذه الآية على القول بالكشف. والأمر الملفت للنظر:
- تظاهر المفسرين على تفسير الآية بالتغطية، فلا تجد مفسرا صرح فيه بكشف الوجه، وهذا بخلاف ما جاء عنهم في آية الزينة: "ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها"، لأمر سنذكره في موضعه.
- ويلاحظ أن الشيخ لم يلتفت إلى هذا التظاهرة، وتصريح جماهير المفسرين بدلالة الآية على تغطية الوجه، فلم يذكرها، ولم يتطرق إليها، كما لم يلتفت إلى كلام أهل اللغة، من المفسرين، كالزمخشري وابن حيان، في تفسيرهم الإدناء بالتغطية!!.
وبعد: فالنتيجة المهمة التي نخرج بها من هذا المبحث هي:
- أنه إذا كانت الآية قطعية الثبوت، وهذا بإجماع المسلمين، لأنها من القرآن، والله تعالى حفظه.
- وإذا ثبتت قطعية دلالتها على وجوب حجاب الوجه، بما سبق من الوجوه والأدلة.
فنخرج من ذلك: أن الآية محكمة الدلالة، فتكون من المحكمات، التي يصار إليها حين الخلاف، فما عارضها، وكان ثابتا بسند صحيح، بدلالة صريحة على الكشف، فهو متشابه، كأن يكون قبل الأمر بالحجاب، أو لعذر خاص، وحالة خاصة،، فيرد هذا المتشابه إلى هذا المحكم، ويفهم في ضوئه، وبذلك ينتفي التعارض، فهذا سبيل التعامل مع المحكمات، لا يصح ولا يجوز تعطيلها لأجل متشابه.
هذا لو كان هذا المتشابه بهذا الوصف من الثبوت والدلالة، فكيف إذا كان باطل السند، كحديث أسماء؟، أو محتمل الدلالة غير قطعي في الكشف، كحديث الخثعمية؟.
وهذا حال الآثار التي استدل بها الذين أجازوا الكشف، فحينئذ فلا ريب أن الواجب طرحه، وعدم الالتفات إليه، ولا يجوز بحال تقديمه على نص محكم.
________________________________________
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى .
(1) الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني 11/14.
(2) يرى الشيخ الألباني، رحمه الله تعالى وأعلى درجته، أن هذا الأثر لا يصح، وأعله بثلاثة أمور: إرسال ابن كعب، فهو تابعي لم يدرك عصر النبوة، وضعف ابن أبي سبرة، والواقدي. [انظر: جلباب المرأة المسلمة 90-91]، والروايات التاريخية قد لا تعامل بالصرامة نفسها، التي تعامل بها الروايات الحديثية. [انظر: السيرة النبوية الصحيحة، أكرم العمري1/20]، ثم إن هذا الأثر ليس الوحيد في هذا المعنى، بل الآثار كثيرة.
(3) البخاري في المغازي، باب: غزوة خيبر.
(4) قال الإمام أحمد: " إنما لها أن تسدل على وجهها من فوق، وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل"، قال ابن قدامة: " كأنه يقول إن النقاب من أسفل على وجهها"، وقال الخرقي: "والمرأة إحرامها في وجهها، فإن احتاجت سدلت على وجهها"، قال ابن قدامة: " إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها". [المغني 3/305-306، 1/638]، وقال ابن تيمية: " والذي يدل عليه كلام أحمد وقدماء أصحابه، جواز الإسبال سواء وقع على البشرة أو لم يقع، لأن أحمد قال: تسدل الثوب"، قال: " ولأن في مجافاته مشقة شديدة، والحاجة إلى ستر الوجه عامة، وما احتيج إليه لحاجة عامة أبيح مطلقا، كلبس السراويل والخف... ولأن وجه المرأة كبدن الرجل وكيد المرأة، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم -قال: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)، ولم ينهها عن تخمير الوجه مطلقا، فمن ادعى تحريم تخميره مطلقا، فعليه الدليل، بل تخصيص النهي بالنقاب وقرانه بالقفاز دليل على أنه إنما نهاها عما صنع لستر الوجه، كالقفاز المصنوع لستر اليد، والقميص المصنوع لستر البدن، فعلى هذا: يجوز أن تخمره بالثوب من أسفل ومن فوق ما لم يكن مصنوعا على وجه يثبت على الوجه، وأن تخمره بالملحفة وقت النوم" [العدة شرح العمدة 2/270-271]، أي أن المرأة ممنوعة من الخمار المفصل المشدود على الوجه المصنوع على قدره، كما يمنع الرجل من السراويل المصنوعة على قدر الأرجل، والقميص المصنوع على قدر البدن، ولعلي أذكر هنا بعض الآثار المتعلقة بهذه المسألة:
- عن عائشة رضي الله عنها: " كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله محرمات فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه"، رواه أبو داود في الحج باب في المحرمة تغطي وجهها.
- وعن فاطمة بنت المنذر: " كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق فلا تنكره علينا" رواه مالك في الموطأ في الحج، باب: تخمير المحرم وجهه.
فهذه الآثار وغيرها صريحة في تغطية الوجه، حال الإحرام، والله أعلم.
(5) وانظر مزيد كلام في هذه الرواية في كتاب: التفسير والمفسرون للدكتور محمد حسين الذهبي 1/78(/10)
الدلالة المحكمة لآية الحجاب على وجوب تغطية الوجه
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه (*) 4/6/1425
21/07/2004
الدلالة المحكمة لآية الحجاب على وجوب غطاء الوجه.
- قال الله تعالى: "وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن".
ذكر في سبب نزول هذه الآية، آية الحجاب، بعض الآثار المفسرة:
- منها ما روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده: عن أنس قال: " قال عمر رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب". [التفسير، باب قوله تعالى: "لا تدخلوا بيوت النبي"].
- وروى عنه قال: "أنا أعلم الناس بهذه الآية: آية الحجاب. لما أهديت زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معه في البيت، صنع طعاما ودعا القوم، فقعدوا يتحدثون، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج، ثم يرجع، وهم قعود يتحدثون، فأنزل الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه" إلى قوله: "من وراء حجاب"، فضرب الحجاب، وقام القوم". [المصدر السابق].
هذه الآية تضمنت أربعة أمور، هي:
1. مسألة، هي: الحجاب.
2. خطابا متجها إلى الأزواج ( = أزواج النبي صلى الله عليه وسلم).
3. وحكما، هو: وجوب الحجاب الكامل (= سائر البدن مع غطاء الوجه والكف).
4. وعلة للحكم، هي: تحصيل طهارة القلب.
فأما الثلاثة الأولى فلا يختلف قول عالم فيها.. لكن الخلاف في الرابعة:
- فمنهم من اعتبرها (= العلة)، فبنى عليها عموم الحكم لجميع النساء، بما فيهن الأزواج، لحاجة الجميع إلى طهارة القلب، وهم الموجبون تغطية الوجه على الجميع.
- ومنهم من أهملها (= العلة)، فجعل الحكم خاصا بمن خوطب بها، وهم الأزواج، وهم المبيحون كشف الوجه لسائر النساء، سوى الأزواج، وحجتهم أمران:
الأول: توجه الخطاب إليهن ( = الأزواج).
الثاني: نصوص وآثار متشابهة، توهم جواز الكشف.
وأما القائلون بوجوب الغطاء للجميع، فكانت حجتهم الأوجه الخمسة التالية:
* * *
الوجه الأول: عموم العلة يلزم عنه عموم الحكم، وتأكد العلة يلزم عنه تأكد الحكم.
إذا ثبت أن الحكم في الآية معلل، فمتى وجدت العلة، فثم الحكم.. وهذا هو القياس المستعمل في الفقه.
والقياس هو: حمل فرع على أصل، في حكم، بجامع بينهما. فلا بد في كل قياس من: أصل، وفرع، وعلة، وحكم. وهذه أركان القياس [انظر: مذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص243]
وأركان القياس موجودة في هذه الآية:
فالأصل: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حيث الخطاب متجه إليهن.
والحكم: الحجاب الكامل عن الرجال.
والعلة: تحصيل طهارة القلب مطلوب لهن، وللرجال.
والفرع هو: سائر نساء المؤمنين.
فهل العلة موجودة فيهن؟. الجواب: نعم. تحصيل طهارة القلب مطلوب لهن، وللرجال.
إذن فالعلة واحدة في الجميع، وعليه فالحكم واحد للجميع.
فمدار الحكم على العلة، ولا يمكن أن يدعي أحد استغناءه عن تحصيل طهارة القلب، ولا أن نساء المؤمنين لسن في حاجة إلى تحصيل طهارة القلب، ولا يصح إبطال هذه العلة الظاهرة من الآية، لأمرين:
الأول: لوضوحها علة للحكم.
الثاني: لأن الكلام حينئذ يكون معيبا، حاشا كلام الله تعالى.
قال الشنقيطي في تفسيره [6/584]: "في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب عام في جميع النساء، لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن، لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه، ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى: "ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن" هو علة قوله تعالى: "فاسألوهن من وراء حجاب"، هو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه، وضابط هذا المسلك المنطبق على جزئياته: هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة لذلك الحكم لكان الكلام معيبا عند العارفين".
فالعلة في الآية هي: طهارة القلب. وإذا لم تكن هذه علة الحكم، فالكلام حينئذ معيب، بحسب هذا المسلك الأصولي: مسلك الإيماء والتنبيه. كما ذكر الشيخ رحمه الله، وحاشا لكلام الله تعالى أن يكون معيبا، بل كونها علة الحكم، شيء ظاهر ليس خفيا، فإذا ثبتته علتها، انتفى التخصيص، لأن العلة حيثما وجدت وجد الحكم، وحينئذ فالحكم هو العموم.
وبهذا القياس يثبت عموم الحكم، وهذا القياس الذي يستعمله الفقهاء يسمى قياس التمثيل، الذي يستوي فيه الأصل والفرع في الحكم، وثمة قياس أعلى منه رتبة، لا يستعمل إلا في تفضيل شيء على شيء، وهو قياس الأولى، ولهذه الآية حظ من هذا القياس العالي، وفحواه: أن الخطاب إذا توجه إلى فئة معينة، بحكم معين، لأجل علة معينة، فإذا وجدت العلة في فئة أخرى، فهي مخاطبة بنفس الحكم، فإن وجدت فيها العلة بصورة أقوى، فهي أولى بالخطاب.. فكلما كانت العلة آكد، كان الحكم آكد.(/11)
فالآية خاطبت فئة معينة هي: أمهات المؤمنين. بحكم معين هو: الحجاب. لأجل علة معينة هي: تحصيل طهارة القلب. وإذا سألنا: من أحوج إلى هذه الطهارة: آلأمهات، أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، المصطفيات المبرءآت من كل سوء، بشهادة الله تعالى لهن: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا"؟.. أم سائر المسلمات، اللاتي فيهن المحسن، والمقتصد، والظالم؟.
لا ريب أن الجواب: أن سائر المسلمات أحوج إلى هذه الطهارة، فالعلة فيهن أقوى، فهن إذن أولى بالحكم.
ومثل هذا قوله تعالى: "ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين".
فإذا كان هذا تحذير الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من الشرك، مع علو منزلته ورفعة درجته عند الله تعالى.. فمن لم يعرف منزلته ولا درجته، ولم يدر مآله وعاقبته، فأولى بالتحذير، وأحرى بالحذر منه.
ومثل أمره تعالى في بر الوالدين بقوله: "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولاتنهرهما وقل لهما قولا كريما".. فإذا كان الله تعالى نهى الولد عن إظهار التذمر والضجر بقول: أف. لهما، وانتهارهما، فالنهي عن السب والضرب من باب أولى، لأنه أسوء وأردء.
* * *
الوجه الثاني: خطاب الواحد يعم الجميع.
تقرر في علم الأصول: أن الخطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة. لاستوائهم في التكليف، إلا بدليل خاص.
وأهل الأصول متفقون على هذا، وما يبدو من خلاف بينهم، فهو صوري أو حالي.
- فإن منهم من يرى خطاب الواحد نفسه، من صيغ العموم.
- ومنهم من يرى أن خطاب الواحد لا يعم، إنما الذي يعم حكمه، بدليل آخر: نصا، أو قياسا.
ويدل على هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم:
(إني لا أصافح النساء، وإنما قولي لمائة امرأة، كقولي لامرأة واحدة). [رواه النسائي في البيعة، باب: بيعة النساء، من حديث أميمة بنت رقيقة. صحيح النسائي 3/875]
يقول الشنقيطي [أضواء البيان 6/589-591]: " ومن الأدلة على حكم آية الحجاب عام: هو ما تقول في الأصول من أن خطاب الواحد يعم جميع الأمة، ولا يختص الحكم بذلك الواحد المخاطب، وقد أوضحنا هذه المسألة في سورة الحج، في مبحث النهي عن لبس المعصفر، وقد قلنا ذلك، لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من أمته، يعم حكمه جميع الأمة، لاستوائهم في أحكام التكليف، إلا بدليل خاص، يجب الرجوع إليه، وخلاف أهل الأصول في خطاب الواحد: هل هو من صيغ العموم، الدالة على عموم الحكم؟.
خلاف في حال، لا خلاف حقيقي، فخطاب الواحد عند الحنابلة صيغة عموم، وعند غيرهم من المالكية والشافعية وغيرهم، أن خطاب الواحد لا يعم، لأن اللفظ للواحد لا يشمل بالوضع غيره، وإذا كان لايشمله وضعا، فلا يكون من صيغ العموم، ولكن أهل هذا القول موافقون، على أن حكم خطاب الواحد عام لغيره، ولكن بدليل آخر، غير خطاب الواحد، وذلك الدليل بالنص، والقياس.
أما القياس فظاهر، لأن قياس غير ذلك المخاطب عليه، بجامع استواء المخاطبين في أحكام التكليف، من القياس الجلي، والنص كقوله صلى الله عليه وسلم في مبايعة النساء: (إني لا أصافح النساء، وما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة)...
وبهذه القاعدة الأصولية التي ذكرنا، نعلم أن حكم آية الحجاب عام، وإن كان لفظها خاصا بأزواجه صلى الله عليه وسلم، لأن قوله لامرأة واحدة من أزواجه، أو من غيرهن، كقوله لمائة امرأة".
ويقول الشيخ الألباني: "إذا خاطب الشارع الحكيم فردا من الأمة، أو حكم عليه بحكم، فهل يكون هذا الحكم عاما في الأمة، إلا إذا قام دليل التخصيص؟، أو يكون خاصا بذلك المخاطب؟.
اختلف في ذلك علماء الأصول، والحق الأول، وهو الذي رجحه الشوكاني وغيره من المحققين، قال ابن حزم في أصول الأحكام 3/88-89: وقد أيقنا أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى كل من كان حيا، في عصره، في معمور الأرض، من إنس أو جن، وإلى من يولد بعده إلى يوم القيامة، وليحكم في كل عين وعرض يخلقها الله إلى يوم القيامة، فلما صح ذلك بإجماع الأمة المتيقن المقطوع به، المبلغ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبالنصوص الثابتة، بما ذكرنا من بقاء الدين إلى يوم القيامة، ولزومه الإنس والجن، وعلمنا بضرورة الحس أنه لا سبيل لمشاهدته عليه السلام من يأتي بعده، كان أمره صلى الله عليه وسلم لواحد من النوع، وفي واحد من النوع، أمرا في النوع كله، وللنوع كله، وبين هذا أن ما كان في الشريعة خاصا لواحد، ولقوم، فقد بينه عليه السلام نصا، وأعلمه أنه خصوص، كفعله في الجذعة بأبي بردة بن نيار، وأخبره عليه السلام أنه لا تجزيء عن أحد بعده، وكان أمره عليه السلام للمستحاضة أمرا لكل مستحاضة، وإقامة ابن عباس وجابر عن يمينه في الصلاة، حكم على كل مسلم ومسلمة يصلي وحده مع إمامه، ولا خلاف بين أحد في أن أمره لأصحابه رضي الله عنهم وهم حاضرون، أمر لكل من يأتي إلى يوم القيامة.(/12)
ثم شرع في الرد على من خالف في ذلك، تأصيلا، أو تفريعا". [تمام المنة 41-42].
فالشيخ إذن يقر بهذا القاعدة، لكنه يبدو أنه أخذ بالاستثناء، لقيام الدليل عنده على تخصيص حكم غطاء الوجه بالأمهات، لكن إذا ثبت بطلان هذا التخصيص، بما تقدم من عموم العلة، وما سيأتي من أوجه، فحينئذ يلزمه القول بعموم غطاء الوجه لجميع النساء.
* * *
الوجه الثالث: التعليل بالحرمة يوجب إلغاء الخصوصية.
وبيان هذا الوجه: أنه لما لم يكن لخصوصية الحكم وجه، استنبط المدعون الخصوصية علة عجيبة فقالوا:
إنما جاء الحكم خاصا بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لأجل حرمتهن، فحرمتهن أعظم من حرمة سائر المسلمات، لذا تحجبن.!!.
فانظر كيف غيروا العلة، فبعد أن كانت في الآية هي: تحصيل طهارة القلب. جعلوها: الحرمة والمنزلة ؟!!.
والحرمة والمنزلة ثابتة لهن رضوان الله عليهن، لكن لنا أن نقلب المسألة فنقول: بل حرمتهن موجب لعدم حجابهن (= غطاء الوجه)، لأن الحجاب شرع للمرأة لصونها، وأمهات المؤمنين لا مطمع فيهن لأمرين:
أولاً: لأن الله تعالى حرم نكاحهن: "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما".. فإذا حرم نكاحهن، فلا يطمع فيهن طامع، فلا موجب لغطاء الوجه حينئذ حينئذ.
ثانيا: لأن زمانهن كان خير الزمان وأطهره، ففيه أشراف الرجال وأعظمهم إيمانا: الصحابة رضوان الله عليهن. وقد كانوا هم الخلفاء، فبذلك صيانتهن متحققة حتى بدون حجاب الوجه.
ثم مع كل ذلك نقول: إذا كان وجوب الحجاب الكامل في حقهن لأجل حرمتهن ومنزلتهن.. فلم لم تؤمر بناته صلى الله عليه وسلم بالحجاب الكامل كذلك؟!!.. أليست حرمتهن أعظم من حرمة سائر المسلمات؟.
إن قالوا: ليست لهن حرمة كأزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد غلطوا، بل حرمة بعضهن أعظم من بعض الأزواج، كفاطمة رضي الله عنها، فهي سيدة نساء الجنة.
وإن قالوا: لهن حرمة كالأزواج.
لزمهم أن يقولوا بوجوب الحجاب الكامل في حقهن كالأزواج.. ولو قالوا كذلك لم يعد الحكم خاصا بالأزواج، ومن ثم نقضوا مذهبهم في خصوصية الحكم في الآية بالأزواج، فهاهم أدخلوا البنات فيه.
فهم بين أمرين أحلاهما مر، فليس أمامهم إلا القول بعموم الحكم، ولو كان الخطاب خاصا، وهو الحق.
* * *
الوجه الرابع: القول بالخصوصية يتضمن إباحة ما ثبت تحريمه.
وبيان هذا الوجه: أن الآية نصت على أن الرجال إذا سألوا النساء شيئا فلا بد أن يكون بينهما حجاب، والحجاب هنا على نوعين:
الأول: إذا كن في بيوتهن، فالحجاب حينئذ: ستار، أو جدار، أو باب. والآية جاءت في هذا السياق.
الثاني: إذا كن خارج البيوت، فالحجاب حينئذ الجلباب، الذي يغطي سائر البدن، بدون استثناء شيء.
فمن قال بعموم الآية في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكذا نساء المؤمنين، فلا إشكال حينئذ، فإنهن مأمورات بالاستتار عن الرجال في كل حال:
- إن كن في البيوت، فبالستائر، والجدر، والأبواب.
- وإن كن خارج البيوت، فبالجلباب الساتر لجميع البدن.
لكن إذا قيل الآية خاصة بالأمهات، فالأقسام ثلاثة:
1. أن يكون التخصيص في البيوت دون خارجها.
2. أن يكون التخصيص خارج البيوت دون داخلها.
3. أن يكون التخصيص في البيوت وخارجها.
فأما القسمان الأولان فباطل، من وجه اجتمعا فيه، وهو: التخصيص في حال، والتعميم في حال.
فهذا التخصيص والتعميم: إبطال للتخصيص من أصله.
لأن مبنى التخصيص هنا هو قولهم: أن الخطاب توجه إلى الأزواج رضوان الله عليهن.
فالقول بعدئذ بعموم بعض أجزاء الخطاب، فيه الإقرار:
بأن مجرد توجه الخطاب إليهن، ليس كافيا في إثبات التخصيص، ولا دليلا عليه.
وهذا إبطال للتخصيص، فللمنازع أن يقول: ما دام بعض الخطاب عاما، فلا مانع من عموم بعضه الآخر. وليس لأهل التخصيص دفع هذا الاعتراض، أو نقضه.
فإن قالوا: الدليل أصله التخصيص، ولا يلغى هذا إلا بدليل يدل على العموم، ففي حال البيوت: دل الدليل على العموم. وفي حال خارج البيوت: لم يدل دليل على العموم،. فبقي على أصله.
فيقال: هذا تسليم منكم، بأن مجرد توجه الخطاب إلى الأزواج، ليس دليلا على التخصيص، وهذا مطلوب. وأما دعواكم وجود ما يلغي التخصيص خارج البيوت فمردود بما سبق من الأوجه الثلاثة:
الأول: عموم العلة يلزم عنه عموم الحكم، وتأكد العلة يلزم عنه تأكد الحكم.
الثاني: خطاب الواحد يعم الجميع.
الثالث: التعليل بالحرمة يوجب إلغاء الخصوصية.
وبهذا يثبت العموم، فالآية قطعية الثبوت، ودلالتها على غطاء الوجه قطعية، كما أثبتنا، والقطعية والعموم يثبت وجوب تغطية الوجه على سائر المؤمنات، بلا استثناء.
- وللقسم الأول وجه آخر، ينفرد به، يدل على بطلانه، فإنه معناه:(/13)
جواز دخول الأجانب على سائر النساء، سوى الأزواج أمهات المؤمنين، وهذا باطل، لا يقول به أحد، حتى أهل التخصيص، لورود النهي عن ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء). [رواه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب: لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم]
كما أن معناه: أن تغطية الوجه واجب على الجميع: الأزواج، وسائر النساء. وهذا وإن كان صحيحا، لكن لا يقول به أهل التخصيص. فهذا القسم ليس قولا لأهل التخصيص.
- وأما القسم الثاني فباطل، وإن كان يقول به أهل التخصيص، فإن معناه:
أن الحكم عام في البيوت، فلا يدخل أجنبي على المسلمات، ولا الأزواج، لكنه خارجها خاص بالأمهات، دون النساء. وهو باطل، كما تقدم، لأن في الإقرار بعموم الخطاب: إبطال للتخصيص.
- وأما القسم الثالث فهو باطل أيضا، وذلك أنه يتضمن أمرين:
- أولا: أن لسائر النساء كشف الوجه والكف خارج البيوت.
- ثانيا: أن لسائر النساء أن يأذنّ للأجانب، بالدخول عليهن بيوتهن، لسؤال متاع.
وهذا التخصيص المطلق، في الحالين، وإن لم يقل به أهل التخصيص، فهو لازم القول بالتخصيص.
إذن النتيجة:
1. القسم الأول باطل عند الجميع.
2. القسم الثاني قول أهل التخصيص، وهو باطل، لأن فيه إبطال للتخصيص، بتعميم بعض الخطاب.
3. القسم الثالث باطل عند الجميع، ويلزم أهل التخصيص.
4. القسم الرابع وهو العموم في الحالين، هو القول الحق والصواب، الخالي من المعارضة.
* * *
الوجه الخامس: أقوال العلماء في تفسير الآية تفيد العموم.
للعلماء مذاهب في هذه الآية:
- فبعضهم نص على التخصيص صراحة، وهم قلة، ولم أقف، من هذا الصنف، إلا على اثنين هما: ابن جزي الكلبي في تفسيره، والطاهر ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير. هذا من حيث من المفسرين، أما غيرهم، فالمجزوم به: أن كل من يقول بالكشف، فإنه يقول: الآية خاصة بالأزواج.
- وبعضهم لم ينص صراحة على التخصيص، وكلامه محتمل، وحمله على العموم أرجح، لأن التخصيص لايستفاد إلا من صريح القول، ومن هذا الصنف الرازي وأبو السعود.
- والصنف الثالث نص صراحة على عموم حكم الآية، منهم: ابن جرير، وابن العربي، والقرطبي، وابن كثير، والجصاص، والشوكاني، والشنقيطي، وكذا الشيخ حسنين مخلوف، مفتي الديار المصرية، وذهب إلى هذا أيضا: محمد أديب كلكل، وسعيد الجابي، ووهبي سليمان غاوجي، وأبو هشام عبد الله الأنصاري، وعبد العزيز بن خلف [انظر أقوالهم في: عودة الحجاب 3/240-247]وبالعموم فكل من قال بوجوب غطاء الوجه على الجميع، فهو يقول بعموم هذه الآية، حتى من يقول بأن آية الحجاب في المساكن، وآية الجلباب في البروز، كابن تيمية، لا يمنع من دلالة هذه الآية على الحجاب، كما سيأتي قوله، وهذه أقوال طائفة من المفسرين الذين صرحوا بعموم حكم الآية:
1. قال ابن جرير في تفسيره جامع البيان عن تأويل آي القرآن [19/166]: "يقول: إذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج: متاعا: {فاسألوهن من وراء حجاب}، يقول: من وراء ستر بينكم وبينهن، ولا تدخلوا عليهن بيوتهن".
2. قال ابن العربي في تفسيره أحكام القرآن، في تفسيره الآية [3/1579]: "هذا يدل على أن الله أذن في مساءلتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض، أو مسألة يستفتى فيها، والمرأة كلها عورة، بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة، أو لحاجة، كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعن ويعرض عندها".
3. قال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن [14/227]: "في هذا الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض، أو مسألة يستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة: بدنها وصوتها، كما تقدم، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعين وعندها".
4. قال ابن كثير في تفسيره [6/446] في تفسير الآية المتممة لآية الحجاب: "لا جناح عليهن في آبائهن ..": "لما أمر الله تعالى النساء بالحجاب من الأجانب، بين أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب منهم، كما استثناهم في سورة النور، عند قوله: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن}".
5. قال الجصاص في أحكام القرآن، في تفسيره الآية [5/242]: "هذا الحكم وإن نزل خاصا في النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، فالمعنى عام فيه وفي غيره، إذ كنا مأمورين باتباعه والاقتداء به، إلا ما خصه الله به دون أمته".(/14)
6. قال الشوكاني في تفسيره فتح القدير [4/298]: ""ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن"، أي أكثر تطهيرا لها من الريبة، وخواطر السوء، التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال، وفي هذا أدب لكل مؤمن، وتحذير له، من أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له، والمكالمة من دون حجاب لم تحرم عليه".. قال: "ثم بين سبحانه من لا يلزم الحجاب منه، فقال: "لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن"، فهؤلاء لا يجب على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غيرهن من النساء الاحتجاب منهم".
7. قال الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن [6/584]: "في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب عام في جميع النساء، لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن، لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه، ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى: "ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن" هو علة قوله تعالى: "فاسألوهن من وراء حجاب"، هو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه، وضابط هذا المسلك المنطبق على جزئياته: هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة لذلك الحكم لكان الكلام معيبا عند العارفين".
8. قال الشيخ حسنين مخلوف مفتى الديار المصرية [انظر: عودة الحجاب 3/240، نقلا عن صفوة البيان لمعاني القرآن 2/190]: " وحكم نساء المؤمنين في ذلك حكم نسائه صلى الله عليه وسلم".
أما العلماء الذين نصوا على الخصوصية من غير المفسرين، فمنهم:
9. القاضي عياض، قال: [الفتح 8/530]: " فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن، وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز".
10. قال أبو جعفر الطحاوي [ شرح معاني الآثار 2/392-393. انظر: الرد المفحم ص34]: "أبيح للناس أن ينظروا إلى ما ليس بمحرّم عليهم من النساء، إلى وجوههن وأكفهن، وحرم ذلك عليهم من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى".
11. قال ابن بطال [الفتح 1/10]: "فيه دليل على أن نساء المؤمنين ليس عليهن من الحجاب ما يلزم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو لزم ذلك جميع النساء لأمر النبي صلى الله عليه وسلم الخثعمية بالاستتار ولما صرف وجه الفضل. قال: فيه دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضا، لإجماعهم على أن المرأة تبدي وجهها في الصلاة، ولو رآها الغرباء، وأن قوله: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم" على الوجوب في غير الوجه".
* * *
- استطراد: اعتراض، وجواب.
قال بعضهم: لما كان على الأمهات ستر شخوصهن، ولم يكن ذلك على سائر المؤمنات، صح حينئذ القول بأن ثمة حجاب خاص للأمهات، يفترق عن سائر المؤمنات، فإذا ثبت التفاوت، فالقول بأن الأمهات عليهن تغطية الوجه، دون غيرهن، فمن هذا الباب، فهذا أساس في المسألة.
ويقال: هذا المذهب باطل، يخالف الآثار، وهو مذهب القاضي عياض وقد رده ابن حجر، حيث قال تعليقا على حديث الحجاب الآنف [الفتح 8/530]: "وفي الحديث من الفوائد مشروعية الحجاب لأمهات المؤمنين، قال: عياض: فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن، وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز. ثم استدل بما في الموطأ أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها، وإن زينب بنت حجش جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها. انتهى.
وليس فيما ذكر دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، وقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحججن ويطفن، وكان الصحابة من بعدهم يسمعون منهن الحديث، وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص، وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء لما ذكر له طواف عائشة: أقبل الحجاب أو بعده؟، قال: قد أدركت ذلك بعد الحجاب".
وفي كل حال: هذه المسألة خارج محل النزاع، فليس النزاع في ستر الشخوص، بل في ستر الوجوه، فلو ثبت وجوب ستر الشخوص للأزواج واختصاصهن به، لم يكن ذلك دليلا على أن ستر الوجوه خاص به، بل قد يقال: هو دليل على عموم حكم غطاء الوجه، وإنما الذي اختصت به الأمهات ستر الشخوص.
* * *
- استطراد آخر: اعتراض، وجواب.(/15)
قال الشيخ الألباني في كتابه [ الرد المفحم ص10]: " يزعم كثير من المخالفين المتشددين: أن الجلباب المأمور به في آية الأحزاب هو بمعنى الحجاب المذكور في الآية الأخرى: "فاسألوهن من وراء حجاب"، وهذا خلط عجيب، حملهم عليه علمهم بأن الآية الأولى لا دليل على أن الوجه والكفين عورة، بخلاف الآية الأخرى، فإنها في المرأة ودارها، إذ إنها لا تكون عادة متجلببة ولا متخمرة فيها، فلا تبرز للسائل، خلافا لما يفعله بعضهن اليوم ممن لا أخلاق لهن، قد نبه على هذا الفرق شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال في الفتاوى 15/448: (فآية الجلابيب في الأردية عند البروز من المساكن، وآية الحجاب عند المخاطبة في المساكن). قلت: فليس في أي من الآيتين ما يدل على وجوب ستر الوجه والكفين".
من هذا يتضح أن للشيخ رأيا خاصا في الآية، فهو يرى عموم حكمها جميع النساء، لكنه يخصها بالبيوت، وكأنه أعمل قاعدة: "خطاب الواحد يعم الجميع"، لكنه نظر إلى سياق الآية، فحكم بأنها في البيوت، دون الخارج، لكن في قوله ثمة إشكال مبني على مذهبه في جواز كشف الوجه، وهو: إذا كان يقصر آية الحجاب على المساكن، ويمنع دلالة آية الجلباب على تغطية الوجه، فمن أين أوجب على الأزواج التغطية؟!.
من أجاز كشف الوجه، فلا دليل لديه يوجب تغطية الأزواج الوجه إلا آية الحجاب، وليس في الآثار أمر للأزواج بالتغطية، بل غاية ما فيها تطبيقهن لهذا الحكم، فإذا قصر القائلون بالكشف آية الحجاب على المساكن، حينئذ لا يبقى لديهم دليل يوجب التغطية على الأزواج وجوههن خارج البيت، فيلزمهم القول بجواز كشف الأزواج وجوههن. وهذا لم يقل به أحد، ولا الشيخ نفسه.
فليس ثمة طريق إذن، للقول بوجوب تغطية الأزواج وجوههن، إلا التسليم بشمول حكم آية الحجاب البيت وخارجه، وإذا فعل فقد أقر بأن الآية تدل وجوب التغطية داخل البيوت وخارجها، وحينئذ يلزمه القول بعموم الحكم نساء المؤمنين، لبطلان التخصيص، كما تقدم، ولأن الشيخ كذلك لا يقول بتخصيص الحكم.
وينتبه هنا: إلى أنه على قول من يوجب التغطية على الجميع، فلا إشكال في تخصيص آية الحجاب بالمساكن، وآية الجلباب في البروز من المساكن، لأن هؤلاء يستدلون بآية الجلباب على التغطية، وحينئذ فهي دليل وجوب التغطية في حق الأزواج، كما هو في حق سائر النساء، وهذا هو مذهب ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وإذا كانت هذه هي صورة المسألة، فما كان للشيخ أن يستدل على ما ذهب إليه بشيخ الإسلام ابن تيمية، دفعا للإيهام، من أنه يقول بالكشف، فإنه من القائلين بوجوب تغطية الوجه على عموم النساء، ويستدل على ذلك بآية الجلباب، وإذا كان كذلك وجب أن يفهم قوله المنقول في ضوء هذا المذهب، يقول:
"وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة. وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة، لغير الزوج وذوى المحارم، وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب، كان النساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذا ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها، لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب، بقوله: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن" حجب النساء عن الرجال" [الفتاوى 22/110].
على أنه يقال: إن القول بقصر دلالة آية الحجاب على البيوت مطلقا يعارض علة الآية، التي هي: "ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن"، فالطهارة مطلوبة في الحالين، ومن ثم فالقصر ممتنع، وكون سياق الآية جاء في البيوت، فلا يمنع ذلك من تعميم الحكم خارجه لوجود العلة، والقاعدة معروفة: "العبرة بعموم اللفظ، لابخصوص السبب".
كذلك لم نجد في أقوال المفسرين التصريح بالقصر، بل ظاهر كلامهم شمول الحكم البيوت وخارجها.
وقد ذهب الشيخ الألباني رحمه الله تعالى إلى أنه لا نص صريح الدلالة، على وجوب ستر الوجه واليدين، ومن ثم فلا يصح حمل النصوص المبيحة على ما قبل الأمر بالحجاب.. قال [الرد المفحم ص122]:
" الشبهة الخامسة: قال أحد الفضلاء: وعلى التسليم بصحة الحديث، يحمل على ما قبل الحجاب، لأن نصوص الحجاب ناقلة عن الأصل فتقدم. فأقول: لا يصح الحمل المذكور هنا لأمرين:
الأول: أنه ليس في تلك النصوص، ما هو صريح الدلالة، على وجوب ستر الوجه واليدين، حتى يصح القول بأنها ناقلة عن الأصل.
الثاني: أن نصوص الحجاب المشار إليه تنقسم إلى قسمين من حيث دلالتها:
الأول: ما يتعلق بحجاب البيوت، حيث المرأة متبذلة في بيتها، فهذا لا علاقة له بما نحن فيه، على أنه ليس في إلا آية الأحزاب: "وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب"، وقد قدمنا عن ابن تيمية أنها في البيوت.
والآخر: ما يتعلق بالمرأة إذا خرجت من بيتها، وهو الجلباب...".
ويفهم من كلامه، أنه لو وجد نص صريح الدلالة على الوجوب، فإنه يكون ناسخا لكل نص يبيح الكشف.(/16)
وبما سبق من تفصيل وأوجه، يتبين أن هذه الآية نص صريح الدلالة، في وجوب تغطية الوجوه، لعموم النساء، ويمتنع أن يكون حكم الآية قاصرا على البيوت، لأنه الدليل الوحيد، الذي يوجب تغطية الأزواج وجوههن، عند من يخصهن بالتغطية، فقصر دلالته على البيوت، يعطل دلالته على هذا الحكم، ولا قائل بهذا أحد، ولا الشيخ نفسه.
* * *
فإذا ثبت عموم الحكم في آية الحجاب: "وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن".. فلم يعارضه معارض صحيح يقصر الحكم على الأزواج، فنخرج من ذلك بنتيجة مهمة هي: أن الشارع يؤصل للحجاب الكامل، بتغطية الوجه وسائر البدن. بصريح هذه الآية، التي لم يجد أحد طريقا لصرف معناها وحكمها في حق سائر المؤمنات إلا دعوى الخصوصية بالأزواج..
وقد علم بطلان هذه الخصوصية بما سقنا من أدلة شرعية وعقلية وأقوال للعلماء.
والنتيجة المهمة هنا هي:
- أنه إذا كانت الآية قطعية الثبوت، وهذا بإجماع المسلمين، لأنها من القرآن، والله تعالى حفظه.
- وإذا ثبتت قطعية دلالتها على وجوب الحجاب الكامل، بما سبق من الوجوه والأدلة.
فنخرج من ذلك: أن الآية محكمة الدلالة، فتكون من المحكمات، التي يصار إليها حين الخلاف، فما عارضها، وكان ثابتا بسند صحيح، بدلالة صريحة على الكشف، فهو متشابه، كأن يكون قبل الأمر بالحجاب، أو لعذر خاص، وحالة خاصة،، فيرد هذا المتشابه إلى هذا المحكم، ويفهم في ضوئه، وبذلك ينتفي التعارض، فهذا سبيل التعامل مع المحكمات، لا يصح ولا يجوز تعطليها لأجل متشابه.
هذا لو كان هذا المتشابه بهذا الوصف من الثبوت والدلالة، فكيف إذا كان باطل السند، كحديث أسماء، أو محتمل الدلالة غير قطعي في الكشف، كحديث الخثعمية، وهذا حال الآثار التي استدل بها الذين أجازوا الكشف، فحينئذ فلا ريب أن الواجب طرحه، وعدم الالتفات، ولا يجوز بحال تقديمه على نص محكم.
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
الدلالة المحكمة لآية الزينة على وجوب تغطية الوجه
د. لطف الله بن عبد العظيم خوجه(*) 18/10/1425
01/12/2004
هذا هو المبحث الثالث في سلسلة مباحث الحجاب.. وقد كان عنوان المبحث الأول والثاني كما يلي:
- الدلالة المحكمة لآية الحجاب على وجوب تغطية الوجه.
- الدلالة المحكمة لآية الجلباب على وجوب تغطية الوجه.
وفي هذا نسير وفق الطريقة نفسها، التي سرنا بها في عرض المبحثين السابقين.
* * *
- قال الله تعالى: "ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها".
في هذه الآية دلالة واضحة على وجوب الحجاب الكامل، وبيان ذلك من وجوه:
- الوجه الأول: العفو عما ظهر بغير قصد.
إذا حصل الفعل باختيار: أسند إلى الفاعل، وإلا لم يسند..مثال ذلك: فعل "ظهر"..
- إذا كان عن اختيار، قيل: "أظهر"؛ أي فعل ذلك بإرادة وقصد.
- وإذا كان عن غير اختيار، قيل: "ظهر"؛ أي بغير بإرادة من الفاعل.
وفي الآية جاء الفعل "ظهر"، وليس "أظهر"، فالاستثناء إذن في قوله: {إلا ما ظهر منها}، يعود إلى ما يظهر من المرأة، من زينتها، بدون قصد.
ولننظر الآن: ما الزينة التي تظهر منها بغير قصد؟.
يقال هنا: قوله: "ما ظهر منها"، ضابط يندرج تحته كل زينة المرأة: الظاهرة، والباطنة. الوجه والكف، وما دونهما، وما فوقهما، فكل ما ظهر منها بغير قصد، فمعفو عنه، لأن الشارع لا يؤاخذ على العجز والخطأ.
وبيان هذا: أن ما يظهر من المرأة بغير قصد على نوعين:
- الأول: ما لا يمكن إخفاؤه في أصل الأمر: عجزا. وذلك مثل: الجلباب، أو العباءة، أو الرداء. [بمعنى واحد]، ويليه في الظهور: أسفل الثوب تحت الجلباب، وما يبدو منه بسبب ريح، أو إصلاح شأن، وكل هذه الأحوال واقعة على المرأة لا محالة.
- الثاني: ما يمكن إخفاؤه في أصل الأمر، لكنه يظهر في بعض الأحيان: عفوا دون قصد. مثلما إذا سقط الخمار، أو العباءة، أو سقطت المرأة نفسها، فقد يظهر شيء منها: وجهها، أو يدها، أو بدنها.
ففي كلا الحالتين: حالة العجز، وحالة العفو. يصح أن يقال: "ظهر منها"(1). وحينئذ فالآية بينت أنها غير مؤاخذة، لأنها عاجزة، ولأنها لم تتعمد، وبمثل هذا فسر ابن مسعود – رضي الله عنه - الآية، وجمع من التابعين، فذكروا الثياب مثلا على ما يظهر بغير اختيار، قال ابن كثير في تفسيره [6/47]: "{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها"، أي ولا يظهرن شيئا زينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه. وقال ابن مسعود: كالرداء والثوب. يعني ما كان يتعاناه نساء العرب، من المقعنة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثوب، فلا حرج عليها فيه، لأن هذا لا يمكن إخفاؤه. ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها، وما لا يمكن إخفاؤه".(/17)
وهذا التفسير يطابق معنى الآية، ولا يعارضه بوجه، أما قول من فسر الآية: {ما ظهر منها}، بالوجه واليد، فإن فيه إشكالا: فأصحاب هذا القول، يصرحون بجواز إظهارهما مطلقا، دون قيد، ولو أنهم جعلوا مناط الجواز: حال العفو. لكان موافقا لمعنى الآية، لكنهم قصدوا حال الاختيار والتعمد، وهذا ينافي معنى وتفسير الآية, كما تقرر آنفا.
إذن في الآية قرينة تبين أن المراد: ما ظهر منها بعفو؛ من دون قصد، وتعمد، واختيار. وغير هذا القول يتعارض كليا مع لغة العرب، التي نزل بها القرآن، ومن شروط التفسير ألا يعارض كلام العرب.
- استطراد في بيان موقف الشيخ الألباني رحمه الله من هذا الوجه.
هذا الإحكام في الدلالة: حمل الشيخ الألباني، رحمه الله وأعلى درجته، على ترجيح أن الآية دلت صراحة على وجوب ستر الزينة كلها، وعدم إظهار شيء منها أمام الأجانب، إلا ما ظهر بغير قصد، واستدل بقول ابن مسعود رضي الله عنه في تفسيره: "إلا ما ظهر منها" بالثياب. وقد كان ذلك رأيه، رحمه الله، في أول الأمر.. ثم إنه تراجع عنه، ومال إلى قول من رجع بالاستثناء على الوجه والكف، قال:
" ففي الآية الأولى [آية الزينة] التصريح بوجوب ستر الزينة كلها، وعدم إظهار شيء منها أمام الأجانب، إلا ما ظهر بغير قصد منهن، فلا يؤاخذن عليه إذا بادرن إلى ستره، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره..".
فذكر المنقول من كلامه آنفا، ثم قال: "وهذا المعنى الذي ذكرنا في تفسير: {إلا ما ظهر منها}، هو المتبادر من سياق الآية، وقد اختلفت أقوال السلف في تفسيرها: فمن قائل: إنها الثياب. ومن قائل: إنها الكحل، والخاتم، والسوار، والوجه. وغيرها من الأقوال التي رواها ابن جرير في تفسيره عن بعض الصحابة والتابعين، ثم اختار هو أن المراد بهذا الاستثناء: الوجه والكفان. قال:...".
ومضمون ما ذكره ابن جرير: أن ما ظهر منها هو الوجه واليد. باعتبارهما ليسا بعورة في الصلاة؛ أي أنه قاس عورة النظر على عورة الصلاة. لكن الشيخ تعقبه فقال:
"وهذا الترجيح غير قوي عندي، لأنه غير متبادر من الآية على الأسلوب القرآني، وإنما هو ترجيح بالإلزام الفقهي، وهو غير لازم هنا، لأن للمخالف أن يقول: جواز كشف المرأة عن وجهها في الصلاة، أمر خاص بالصلاة، فلا يجوز أن يقاس عليه الكشف خارج الصلاة، لوضوح الفرق بين الحالتين.
أقول هذا مع عدم مخالفتنا له في جواز كشفها وجهها وكفيها في الصلاة وخارجها، لدليل، بل لأدلة أخرى غير هذه، كما يأتي بيانه، وإنما المناقشة هنا في صحة هذا الدليل بخصوصه، لا في صحة الدعوى، فالحق في معنى هذا الاستثناء، ما أسلفناه أول البحث، وأيدناه بكلام ابن كثير، ويؤيده أيضا ما في تفسير القرطبي: قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية، أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركتها فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن، ونحو ذلك فـ{ما ظهر} على هذا الوجه، مما تؤدي إليه الضرورة في النساء، فهو معفو عنه.
قال القرطبي: قلت: هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين، ظهورهما عادة عبادة، وذلك في الحج والصلاة، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما..".
وبعد أن نقل كلامه بتمامه قال الشيخ: "قلت: وفي هذا التعقيب نظر أيضا، لأنه وإن كان الغالب على الوجه والكفين ظهورهما بحكم العادة، فإنما ذلك بقصد من المكلف، والآية حسب فهمنا، إنما أفادت استثناء ما ظهر منها دون قصد، فكيف يسوغ حينئذ جعله دليلا شاملا، لما ظهر بالقصد؟! فتأمل".
وكما قلت آنفا، فقد كان هذا رأيه في دلالة هذه الآية، في أول الأمر، فلم ير فيها ما يدل على كشف الوجه واليد، وإن كان يرى جواز كشفهما، لكن لأدلة أخرى. وبغض النظر عن إمكان الجمع بين قوليه:
- القول بأن الآية دلت على ستر الزينة كلها، وعدم إظهار شيء منها للأجانب، إلا ما ظهر بغير قصد.
- والقول بجواز كشف الوجه واليد، لكن بأدلة أخرى.
فإن الشيخ مال بعد إلى القول الذي كان رده أولاً، فقال:
"ثم تأملت؛ فبدا لي أن قول هؤلاء العلماء [من فسر الآية بالوجه والكف] هو الصواب، وأن ذلك من دقة نظرهم رحمهم الله، وبيانه: أن السلف اتفقوا على أن قوله تعالى: {إلا ما ظهر منها}، يعود إلى فعل يصدر من المرأة المكلفة، غاية ما في الأمر أنهم اختلفوا، فيما تظهره بقصد منها، فابن مسعود يقول: ثيابها؛ أي جلبابها. وابن عباس ومن معه من الصحابة وغيرهم يقول: هو الوجه والكفان منها.
فمعنى الآية حينئذ: إلا ما ظهر منها عادة بإذن الشارع وأمره".
ثم استدل لهذا الرأي، بأن كشف الوجه والكف هو عادة النساء في عهد النبوة وبعده، فقال:
"فإذا ثبت أن الشرع سمح للمرأة بإظهار شيء من زينتها، سواء كان كفا أو وجها أو غيرهما، فلا يعترض عليه بما كنا ذكرناه من القصد، لأنه مأذون فيه، كإظهار الجلباب تماما، كما بينت آنفا.(/18)
فهذا هو توجيه تفسير الصحابة الذين قالوا: إن المراد بالاستثناء في الآية: الوجه والكفان. وجريان عمل كثير من النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده".
قال: "قلت: فابن عباس, ومن معه من الأصحاب، والتابعين، والمفسرين: إنما يشيرون بتفسيرهم لآية: {إلا ما ظهر منها}، إلى هذه العادة، التي كانت معروفة عند نزولها، وأقروا عليها، فلا يجوز إذن معارضة تفسيرهم بتفسير ابن مسعود". [جلباب المرأة المسلمة 39-53]
فهذا كلامه بالتفصيل، ويلاحظ ما يلي:
(1) صريح الآية استثناء ما ظهر بغير قصد، فلا يدخل فيه الوجه والكف، لأنهما يظهران بقصد، وهذا ما أقر به الشيخ في أول كلامه، ودعا للتأمل فيه.
(2) لا يصح صرف هذا المعنى الصريح [استثناء ما ظهر بغير قصد] إلى غيره [استثناء ما ظهر بقصد] إلا بقرينة صحيحة، والقرينة التي استدل بها الشيخ هنا هي: عادة النساء في عهد النبوة. وهذه قرينة غير مسلمة، فللمنازع أن يرد ذلك، بأن عادة النساء لم تكن في الكشف، بل في الستر، ويسوق على ذلك آثارا صريحة، لا ينكرها الخصم، بل يثبت أن الكشف كان عادتهن في أول الأمر، حتى أمرن بالتغطية، كيلا يتشبهن بالإماء، كما في آية الإدناء، وحينئذ فقوله هو الراجح، أو لا أقل من أن يكونا متساويين، وحينئذ، في الحالين، لا تصح القرينة هنا، فإن القرينة لا بد أن تسلم من المعارضة. ثم كيف يكون عادتهن، في عهد النبوة: الكشف. والتغطية مستحبة في أدنى أقوال العلماء..؟!!.. أفكان ذلك الرعيل الأول من المؤمنات مفرطات في هذا الثواب الجزيل، مع ما نقل عنهن من تسابق للخير، يوازي مسابقة الصحابة رضوان الله عليهم؟!.
(3) إذا بطلت القرينة، بقيت الآية على حالها، صريحة في استثناء ما ظهر بغير قصد، ومن ثم تبطل دلالتها على جواز كشف الوجه الكف.
(4) تشبيه الوجه والكف بالجلباب باطل، لأن الوجه والكف يمكن إخفاؤه، والجلباب لا يمكن.
(5) مة نزاع في فهم كلام الصحابة، كابن عباس رضي الله عنهما: ما أراد بالوجه والكف؟. فالآثار عنه تبين أنه أراد جواز إظهارهما للمحارم غير الزوج، وليس الأجانب، وسيأتي تفصيله بعد قليل.
(6) يبطل بذلك قول الشيخ أن معنى الآية: "إلا ما ظهر منها بإذن الشارع وأمره"؛ الوجه والكف، إلا في حالة واحدة، هي: إذا ظهرا بغير قصد.
* * *
الوجه الثاني: الزينة ليست المتزين.
الزينة في كلام العرب هي: ما تتزين به المرأة، مما هو خارج عن أصل خلقتها، كالحلي. وكذلك استعملت الزينة في القرآن للشيء الخارج عن أصل خلقة المتزين، من ذلك قوله تعالى:
- {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد}، أي الثياب.
- {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها}، فالزينة على الأرض، وليس بعض الأرض.
- {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب}، فالكواكب زينة للسماء، وليست منها.
وهكذا، فلفظ الزينة يراد بها ما يزين به الشيء، وليس من أصل خلقته.
وعلى ذلك فتفسير الزينة ببدن المرأة خلاف الظاهر، ولا يحمل عليه إلا بدليل، فقول من قال: إن الزينة التي يجوز للمرأة إظهارها هو: الوجه والكف. خلاف المعنى الظاهر، فإذا فسرت بالثياب استقام في كلام العرب ولغة القرآن. [انظر: أضواء البيان 6/198-199].
ويؤيد هذا ما رواه ابن جرير [التفسير 17/257] بسنده:
- عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - قال: {إلا ما ظهر منها}، قال: الثياب. قال أبو إسحاق: "ألا ترى أنه قال: {خذوا زينتكم عند كل مسجد}".
فاستدل أبو إسحاق على صحة تفسير الزينة بالثياب بالقرآن، ففسر القرآن بالقرآن، وهذا أعلى درجات التفسير، لأن الله تعالى أعلم بمراده.
فإن قال قائل: قد علمتم أن من الأقوال التي قيلت تفسيرا للزينة في الآية أنها: الكحل والخضاب. وهما من الزينة، لا شك في ذلك، وليسا من أصل الخلقة، فلم لا يكون الاستثناء عائدا إليهما، فيجوز للمرأة حينئذ إظهار الكحل في العين، والخضاب في اليد، وإذا حصل ذلك، لزم منه كشف الوجه واليد.
فالجواب أن يقال: لا يلزم من جواز إظهار الكحل في العين: إظهار الوجه.
ثم لا نسلم لكم أن ابن عباس رضي الله عنهما قصد بذكر الوجه والكف، أو الكحل، والخاتم، والخضاب: إظهارهما للأجانب. فإن هذا هو محل النزاع: ماذا عنى ابن عباس؟، وسيأتي بيان هذه المسألة.
* * *
الوجه الثالث: هو قول طائفة من السلف.
القول بأن الذي يتسامح في ظهوره للأجانب هو الثياب، هو قول طائفة من السلف:
- روى ابن جرير بسنده عن ابن مسعود، قال: "{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، قال: الثياب".
- وروى أيضا بسنده إبراهيم النخعي قال: "{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، قال: الثياب".
- وروى بسنده عن الحسن في قوله: {إلا ما ظهر منها}، قال: الثياب.
- ومثله عن أبي إسحاق السبيعي. [التفسير 17/256-257](/19)
- وقال ابن كثير في تفسيره [6/47]: "{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، أي ولا يظهرن شيئا زينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه. وقال ابن مسعود: كالرداء والثوب. يعني ما كان يتعاناه نساء العرب، من المقعنة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثوب، فلا حرج عليها فيه، لأن هذا لا يمكن إخفاؤه. ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها، وما لا يمكن إخفاؤه. وقال بقول ابن مسعود: الحسن، وابن سيرين، وأبو الجوزاء، وإبراهيم النخعي وغيرهم".
فهذه أقوال جمع من السلف، كلها دلالتها صريحة على وجوب تغطية الوجه، فعلى الرغم من أن الآية عمدة عند القائلين بجواز الكشف، إلا أن هؤلاء الأئمة لم يفهموا هذا الفهم بوجه ما.
وبهذه الأوجه يثبت من غير شك: أن دلالة الآية قاطعة، على وجوب الحجاب الكامل على المرأة.
* * *
استطراد: اعتراض، وجواب.
فإن قال قائل: فما تصنعون بالآثار الواردة عن الصحابة، ومن بعدهم من الأئمة في تفسير: {ما ظهر منها}، بالوجه والكف. وهي آثار منها الثابت، ومنها ما دون ذلك، والحجة في الثابت منها.
فالجواب ما يلي:
- (جواز كشف الوجه واليد للمحارم، لا الأجانب).
ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية بالوجه والكف: مفسر بما جاء عنه في الرواية الأخرى، التي رواها ابن جرير فقال:
- "حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنى معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، قال: والزينة الظاهرة: الوجه، وكحل العين، وخضاب الكف، والخاتم. فهذه تظهر في بيتها، لمن دخل من الناس عليها". [التفسير 17/259] (2).
من هم الناس في كلام ابن عباس؟. أهم الأجانب؟..
كلا، فإن تحريم دخول الأجانب على النساء، لا يخفى على أحد، فضلا عنه، وقد قال رسول الله صلى الله وسلم: (إياكم والدخول على النساء)، والآية: {وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب}. إذن فقصده إذن: من دخل عليها من محارمها غير الزوج. فهذه تبدي لهم ما ظهر منها، مما يشق عليها إخفاؤه في بيتها، فعلى هذا يحمل قول ابن عباس، لا على نظر الأجانب إليها.
وهذا يوافق ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن}، فقد روى ابن جرير بسنده إلى ابن عباس في الآية قال: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة" [التفسير 19/181]، فهذا صريح في تغطية الوجه، وقد تقدم.
ومن المعلوم المقرر عقلا: أنه إذا وردت عن الصحابي رواية صريحة في المعنى، وأخرى محتملة للمعنيين، كان حملها على المعنى الصريح هو المتوجب، فكيف إذا كانت هذه الأخرى أقرب إلى معنى الرواية الأولى؟.
* * *
مع يقيننا أن هذا الوجه قاطع للنزاع في معنى كلام ابن عباس رضي الله عنهما، فهو أحرى من فسر لنا كلامه، وقد بين أنه أراد إظهار الوجه والكف للمحارم، لمن دخل منهم البيت، وهو الموافق لقوله في آية الجلباب، إلا أنه تنزلا، وجدلا نقول: هب أن ابن عباس لم يرد عنه ما يفسر كلامه، فهل تفسيره الآية بالوجه والكف ليس له إلا احتمال واحد هو: جواز إظهارهما للأجانب؟.
والجواب: كلا، بل ثمة احتمالات أخر، هي:
أولا: استثناء أم نهي؟.
في الآية نهي واستثناء، فقوله: {ولا يبدين زينتهن} = نهي. وقوله: {إلا ما ظهر منها} = استثناء.
فقول ابن عباس وغيره، إما أن يحمل على: النهي، أو الاستثناء.
فأكثرهم نظر إلى الاستثناء، ولم ينظر إلى النهي، مع أنه محتمل، ففي الاستثناء: المعنى أنهن نهين عن إبداء زينتهن، ومنها الكف والوجه، وربما يكون سبب تخصيصهما حينئذ بالذكر: لأنهما أكثر ظهورا. بالنظر إلى كشفهما في الصلاة والإحرام، وحينئذ يكون تفسير ابن عباس لقوله: {ولا يبدين زينتهن}، لا قوله: {إلا ما ظهر منها}، وهو محتمل. وقد أورد ابن كثير هذا الاحتمال فقال:
- "وهذا يحتمل أن يكون تفسيرا للزينة التي نهين عن إبدائها"، إلى أن قال: "ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه: أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور عند الجمهور"[التفسير6/47].
فإن احتج المخالف بأن هذا الوجه غير مشهور عند العلماء، قلنا: هو كذلك، لكن ليس هذا موضع الاحتجاج من إيراد هذا الوجه، إنما في وجود احتمال آخر غير المشهور، له ذكر عند العلماء، يوافق المشروع وغير باطل عقلا، ومعلوم أنه إذا تطرق الاحتمال بطل الاستدلال، ومن ثم لا تكون هذه التفسيرات من الصحابة رضوان الله عليهم حجة قاطعة على الكشف، بل محتملة غير ملزمة.
وإذا كان هذا هو حال هذه التفسيرات، فكيف يعارض بها الدلالة المحكمة لآيات: الحجاب، والجلباب، والزينة؟!.
ثانيا: العفو عما ظهر بغير قصد.(/20)
تقدم في الوجه الأول: أن الآية تسامحت فيما ظهر من المرأة بغير قصد. ومعلوم أن المرأة قد يظهر منها الوجه والكف بغير اختيارها، وهذا يحصل كثيرا، بخلاف غيرهما، وعلى هذا يمكن حمل كلام ابن عباس وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم على ما ظهر من المرأة بغير قصد، مما هو من زينتها، أو بدنها، كالوجه والكف، والخضاب، ونحو ذلك.
ثالثا: التدرج في الحجاب.
ثمة جواب هنا ورد عن ابن تيمية هو: أن الحجاب هكذا شرع في بداية الأمر، ستر البدن كله، إلا الوجه والكفين، ثم لما نزلت آية الجلباب أمرن بستر الوجه والكف أيضا. قال:
"(فصل في اللباس في الصلاة) وهو أخذ الزينة عند كل مسجد، الذي يسميه الفقهاء: (باب ستر العورة في الصلاة)، فإن طائفة من الفقهاء ظنوا أن الذي يستر في الصلاة، هو الذي يستر عن أعين الناظرين، وهو العورة، وأخذ ما يستر في الصلاة من قوله: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن}، ثم قال: {ولا يبدين زينتهن}؛ يعنى الباطنة: {إلا لبعولتهن}الآية. فقال يجوز لها، في الصلاة، أن تبدى الزينة الظاهرة دون الباطنة، والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين:
- فقال ابن مسعود ومن وافقه هي: الثياب.
- وقال ابن عباس ومن وافقه هي: فى الوجه واليدين؛ مثل الكحل والخاتم.
وعلى هذين القولين تنازع الفقهاء في النظر إلى المرأة الأجنبية، فقيل: يجوز النظر لغير شهوة إلى وجهها ويديها. وهو مذهب أبى حنيفة والشافعي وقول في مذهب أحمد.
وقيل: لا يجوز. وهو ظاهر مذهب أحمد، فإن كل شيء منها عورة، حتى ظفرها، وهو قول مالك. وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة. وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج، وذوي المحارم، وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب، كان النساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها، لأنه يجوز لها إظهاره.
ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن}، حجب النساء عن الرجال، وكان ذلك لما تزوج زينب بنت جحش، فأرخى الستر ومنع النساء أن ينظرن، ولما اصطفى صفية بنت حيي بعد ذلك، عام خيبر، قالوا: (إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه)، فحجبها.
فلما أمر الله أن لا يسألن إلا من وراء حجاب، وأمر: أزواجه، وبناته، ونساء المؤمنين. أن يدنين عليها من جلابيبهن، والجلباب هو: الملاءة. وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره: الرداء. وتسميه العامة: الإزار. وهو الإزار الكبير الذي يغطى رأسها وسائر بدنها، وقد حكى أبو عبيد(3) وغيره: أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها. ومن جنسه النقاب، فكن النساء ينتقبن، وفى الصحيح: (أن المحرمة لا تنتقب، ولا تلبس القفازين)، فإذا كن مأمورات بالجلباب، لئلا يعرفن، وهو ستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب، كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب، فما بقى يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة.
فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين". [الفتاوى 22/109-111]
رابعا: عورة النظر غير عورة الصلاة.
هذه الآية ليست في عورة النظر، بل عورة الصلاة. وذلك أن العورة عورتان:
- عورة في النظر، وهذه تعم جميع البدن.
- وعورة في الصلاة، وهذه تعم البدن إلا الوجه والكف.
وطائفة من العلماء يقولون بأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفها. ومقصودهم أن ذلك في الصلاة، لأنها مأمورة به في الصلاة، ويدل على هذا أن كلامهم في جواز كشف الوجه يأتي عند الكلام على ستر العورة في الصلاة، وقد نص طائفة من أهل العلم على التفريق بين عورة النظر وعورة الصلاة:
- قال البيضاوي في تفسيره قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن..}: "والمستثنى هو الوجه والكفان، لأنهما ليسا من العورة، والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن بدن الحرة كلها عورة، لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها، إلا لضرورة، كالمعالجة وتحمل الشهادة".
- قال الشهاب في شرحه تفسير البيضاوي [عناية القاضي وكفاية الراضي 6/373، انظر: عودة الحجاب 3/228،231]: "ومذهب الشافعي رحمه الله، كما في الروضة وغيرها، أن جميع بدن المرأة عورة، حتى الوجه والكف مطلقا، وقيل: يحل النظر إلى الوجه والكف، إن لم يخف فتنة، وعلى الأول: هما عورة إلا في الصلاة، فلا تبطل صلاتهما بكشفهما"، قال: "وما ذكره [البيضاوي] من الفرق بين العورة في الصلاة وغيرها، مذهب الشافعي رحمه الله".
- وقال ابن تيمية: "التحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر، إذ لم يجز النظر إليه". وقال: "فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر لا طردا ولا عكسا" [الفتاوى الكبرى 4/409](/21)
- وقال ابن القيم: "العورة عورتان: عورة في الصلاة، وعورة في النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك". [إعلام الموقعين 2/80]
- وقال الأمير الصنعاني في سبل السلام (1/176): "ويباح كشف وجهها، حيث لم يأت دليل بتغطيته، والمراد كشفه عند صلاتها، بحيث لا يراها أجنبي، فهذه عورتها في الصلاة، وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة".
- وقال عبد القادر الشيباني الحنبلي في نيل المآرب بشرح دليل الطالب 1/39 [عودة الحجاب 3/230]: " والوجه والكفان من الحرة البالغة عورة خارج الصلاة، باعتبار النظر، كبقية بدنها".
- يقول الشيخ أبو الأعلى المودودي: "الفرق كبير جدا بين الحجاب وسترة العورة، فالعورة ما لا يجوز كشفه حتى للمحارم من الرجال، وأما الحجاب فهو شيء فوق ستر العورة، وهو ما حيل به بين النساء والأجانب من الرجال" [تفسير سورة النور ص158، انظر: عودة الحجاب 3/232].
وليس المقصود استقصاء هذه الأقوال، لكن المقصود بيان أنه لا يصح أن يفهم من مجرد قولهم: والمرأة الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها. أو بقولهم في الآية: {إلا ما ظهر منها}، هو الوجه والكف. أن مذهبهم جواز الكشف أمام الأجانب. إذ قد يكون مقصودهم أن هذا في الصلاة، فلا بد إذن من دليل آخر يدل صراحة على أن مذهبهم جواز كشف الوجه أمام الأجانب.
إذن كل الأدلة تفضي إلى وجوب تغطية الوجه والكف وسائر البدن، وعلى هذا كلام جماهير أهل العلم.
* * *
- لا يعارض القطعي بالظني.
لو فرضنا جدلا أن هذه الآثار تخالف الدلالة القطعية للآية، فالحجة فيما أثبتته الآية، فقول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مقدم على قول كل أحد، وكم من النصوص فسرت بما يعارضها، وكان الواجب طرحها والإعراض عنها.. فلو قدرنا أن هذه الآثار المفسرة للآية بكشف الوجه ثابتة السند والمعنى، فلا ريب أن الحجة فيما قطع بدلالته، وآية الزينة بينة الدلالة على وجوب التغطية، كما أثبتنا، وقد أثبتنا قبل ذلك قطعية دلالة آية الحجاب، وكذا آية الجلباب، على وجوب الحجاب الكامل، فكيف تطرح هذه القطعيات لبعض الأقوال، وبعضها لا تثبت، وبعضها ليست قطعية الدلالة، لها تأويل؟!. كما قد تبين بالبيان السابق.
فإن قيل: هل أنتم أعلم أم ابن عباس ومن وافقه، وقد فسروا: {ما ظهر منها}، بأنه الوجه والكف؟.
فيقال: بل هم أعلم، إنما النزاع في معنى ما ورد عنهم، فقد تبين بالأوجه السابقة: أن توجيه كلامهم نحو جواز كشف الوجه واليد مطلقا، فيه نظر !!، ولا يسلم للمخالف به، والذي حملنا على هذا الرأي:
(1) ما ورد عنهم من قول خلاف ذلك، حيث تقدم قول ابن عباس أنها في الذي يدخل على المرأة بيتها، والمقطوع به أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يكن ليجيز لغير محرم دخوله على امرأة أجنبية، فضلا أن يجيز لها كشف وجهها ويديها أمامه، في بيتها، كيف وهو الذي فسر الإدناء، بأن تغطي المرأة وجهها، فلا تبدي إلا عينا واحدة، أفكان يأمرها بالتغطية خارج البيت، ويأذن لها بالكشف داخل البيت؟!.
(2) أن أصل الحجاب مشروع، ونصوصه الدالة عليه عديدة، فهي شعيرة، ومن المحكمات، فليس من السهولة تجاوز هذا الحكم الواضح لأجل آثار، بعضها لا تثبت، وبعضها لها تأويل سائغ، فتكون من المتشابهات التي يجب ردها إلى المحكمات.
(3) أن من الصحابة رضوان الله عليهم، وهو ابن مسعود رضي الله عنه، من صرح في الآية بغير هذا المعنى، فقال هو: الثياب. وتبعه على ذلك جمع من التابعين.
* * *
- القول في قوله تعالى: "وليضربن بخمرهن على جيوبهن".
قال الإمام البخاري: "باب {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}"، ثم ذكر سنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: (يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}، شققن مروطهن، فاختمرن بها). [فتح الباري 8/489]
يرى الشيخ الألباني، رحمه الله وأعلى درجته، أن الخمار عند الإطلاق هو غطاء الرأس فقط، دون الوجه، وقد يستعمل أحيانا في غطاء الوجه، يقول:
- "الخمار غطاء الرأس فقط، دون الوجه" [الرد المفحم ص13].
- "كما أن العمامة عند إطلاقها، لا تعني تغطية وجه الرجل؛ فكذلك الخمار عند إطلاقه، لا يعني تغطية وجه المرأة".[الرد المفحم ص18].
- "وجملة القول: إن الخمار والاعتجار عند الإطلاق؛ إنما يعني: تغطية الرأس، فمن ضم إلى ذلك تغطية الوجه، فهو مكابر معاند، لما تقدم من الأدلة".[الرد المفحم ص25].
- "لا ينافي كون الخمار غطاء الرأس، أن يستعمل أحيانا لتغطية الوجه". [الرد المفحم ص23]
وقد بنى رأيه هذا على أمور ثلاثة هي:
- الأول: نصوص من الكتاب والسنة دلت على أن الخمار: غطاء الرأس.
قال: " وأما مخالفته للسنة فهي كثير؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" وهو حديث صحيح، مخرج في الإرواء (196) برواية جمع؛ منهم ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما.(/22)
فهل يقول الشيخ التويجري، بأنه يجب على المرأة البالغة أن تستر وجهها في الصلاة ؟!.
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في المرأة التي نذرت أن تحج حاسرة: (مروها فلتركب، ولتختمر، ولتحج)، وفي رواية: (وتغطي شعرها)، وهو صحيح أيضا، خرجته في الأحاديث الصحيحة (2930).
فهل يجيز للمحرمة أن تضرب بخمارها على وجهها، وهو يعلم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة..)؟!.
ومثل ذلك أحاديث المسح على الخمار في الوضوء". [الرد المفحم 16-17]
- الثاني: أقوال المفسرين والفقهاء في معنى الخمار.
قال رحمه الله : "فمن المفسرين: إمامهم ابن جرير الطبري، والبغوي، والزمخشري، وابن العربي، وابن تيمية، وابن حيان الأندلسي، وغيرهم كثير، وكثير ممن ذكرنا هناك.
ومن المحدثين: ابن حزم، والباجي الأندلسي..".
قال: " ومن الفقهاء: أبو حنيفة، وتلميذه محمد بن الحسن، في الموطأ، وستأتي عبارته في ص (34)، والشافعي القرشي، والعيني". [الرد المفحم 18،21]
- الثالث: كلام أهل اللغة في معنى الخمار.
قال: "ومن ذلك قول العلامة الزبيدي في (شرح القاموس) 3/189، في قول أم سلمة رضي الله عنها: إنها كانت تمسح على الخمار. أخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف) 1/22: أرادت بـ(الخمار): العمامة؛ لأن الرجل يغطي بها رأسه؛ كما أن المرأة تغطيه بخمارها.
وكذا في (لسان العرب). وفي المعجم (الوسيط)، تأليف لجنة من العلماء، تحت إشراف (مجمع اللغة العربية)، ما نصه: (الخمار): كل ما ستر. ومنه خمار المرأة، وهو ثوب تغطي به رأسها. ومنه العمامة؛ لأن الرجل يغطي بها رأسه، ويديرها تحت الحنك". [الرد المفحم 17-18]
* * *
كان ذلك رده رحمه الله على من فسر الخمار بغطاء الوجه، في قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}، حيث يرى رحمه الله: أن الآية لا تدل على غطاء الوجه، بل الرأس، لأن معنى الخمار كذلك.
وقد استنكر كل قول يفسر الخمار بغطاء الوجه، ووصف كل ما ورد عن الأئمة بهذا المعنى أنه: إما زلة، أو سبق قلم، أو تفسير مراد. فقال [الرد المفحم ص13]:
"وتشبث في ذلك ببعض الأقوال، التي لا تعدو أن تكون من باب: زلة عالم، أو سبق قلم، أو في أحسن الأحوال: تفسير مراد، وليس تفسير لفظ؛ مما لا ينبغي الاعتماد عليه في محل النزاع والخلاف".
* * *
وتعليقا على ما أورده الشيخ يقال هنا:
- أولا: ليست الآية هي الحجة في وجوب غطاء الوجه.
هذه مسألة مهمة، وهي: أن آية الخمار ليست العمدة في وجوب غطاء الوجه، فدليل الوجوب قد تقدم في الآيات الثلاثة: آية الحجاب، وآية الجلباب، وآية الزينة. ودلالتها محكمة على الوجوب.
وعلى ذلك: فعدم قطعية دلالة هذه الآية على وجوب غطاء الوجه، لا يسقط الحكم أو يلغيه.
ومعلوم أن الآية وردت نهيا عن تشبه النساء المؤمنات بالجاهلية، حيث كانت المرأة تلبس الخمار على رأسها، ثم تسدل من الخلف، فينكشف الصدر والعنق، كما يفعل نساء النبط، فأمرن بالسدل من الأمام، حتى يغطين كل ذلك، وهذا يحتمل:
- أن يغطى معه الوجه، وهو الأقرب، والموافق للأمر في نصوص: الحجاب، والجلباب، والزينة.
- أن يدور حول الوجه، مغطيا الأذن، ثم العنق، ثم الصدر. والمعنى يحتمل هذا الوجه.
ولأجله فإن الآية ليست قاطعة الدلالة في الجهتين. فإذا كان لا يحق لمن يقول بالتغطية الاحتكام إليها، فكذلك من يقول بالكشف، لا يحق له التحكم بمعناها، والقول بأنها تدل على الكشف بالقطع.
بل إذا فسرت بتغطية الوجه، فهو تفسير معتبر، لأنه تفسير في ضوء نصوص الحجاب الأخرى، فتتلاءم، وفي كلام العلماء وأهل اللغة تفسير الخمار بغطاء الوجه.
ولو فسرت بتغطية العنق والصدر وما جاور الوجه، فهذا لا يمنع من وجوب غطاء الوجه، لكن بالنصوص الأخرى، فتكون هذه الآية نصت على تغطية العنق والصدر، وخصت بالذكر لشيوع كشفها في الجاهلية.
- ثانيا: العلماء الذين فسروا الخمار في النصوص الشرعية بغطاء الوجه.
نص بعض العلماء على أن الخمار في المصطلح الشرعي هو: غطاء الوجه. منهم ابن تيمية، والعيني صاحب عمدة القاري، وابن حجر.
- فأما ابن تيمية فقال: " الخمر التي تغطي: الرأس، والوجه، والعنق. والجلابيب التي تسدل من فوق الرؤوس، حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان". [الفتاوى 22/147].
- وأما العيني فقال: " قوله: (نساء المهاجرات)؛ أي النساء المهاجرات، قوله: (مروطهن)، جمع مرط، بكسر الميم، وهو الإزار. قوله: (فاختمرن بها)، أي غطين وجوههن بالمروط التي شققنها". [عمدة القاري 10/92، انظر: عودة الحجاب3/287].(/23)
- وأما ابن حجر فقال:"قوله: (فاختمرن)؛ أي غطين وجوههن؛ وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها، وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، وهو التقنع. قال الفراء: كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها، وتكشف ما قدامها، فأمرن بالاستتار، والخمار للمرأة كالعمامة للرجل". [الفتح8/498].. فكلامه هنا صريح في أن الخمار غطاء الرأس والوجه، وله نص آخر صريح، قال فيه: "ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها" [الفتح 10/48، الأشربة، باب: ما جاء أن الخمر ما خامر العقل] يؤكده قوله في التخمير: "وهو التقنع"، فالخمار هو القناع عنده، وقد عرف القناع فقال:
- "قوله: (باب التقنع) بقاف ونون ثقيلة، وهو: تغطية الرأس، وأكثر الوجه، برداء أو غيره" [في الفتح، باب اللباس، باب: التقنع. 10/274]
- وقال: "قوله: (مقنع) بفتح القاف والنون المشددة: وهو كناية عن تغطية وجهه بآلة الحرب" [الفتح 6/25]
إذن الخمار غطاء الرأس والوجه، وهو القناع، والقناع ما يغطي الرأس والوجه، هكذا يقول ابن حجر.
فهل يسوغ بعد هذا أن يقال: إنما ذلك سبق قلم منه، أو خطأ من الناسخ، أو أنه أراد معنى مجازيا..؟!.
هذا ما ذهب إليه الشيخ الألباني، أعلى الله درجته، فقال [الرد المفحم ص19-21]:
"وهنا لا بد لي من الوقفة- وإن طال الكلام أكثر مما رغبت- لبيان موقف للشيخ التويجري، غير مشرف له، في استغلاله لخطأ وقع في شرح الحافظ لحديث عائشة الآتي في الكتاب (78) في نزول آية (الخُمُر) المتقدمة، وبتره من شرح الحافظ نص كلامه المذكور لمخالفته لدعواه! فقال الحافظ في شرح قول عائشة في آخر حديثها:( فاختمرن بها) (8/490): ( أي: غطين وجوههن، وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها، وترميه من الجانب الأيسر، وهو التقنع. قال الفراء: كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها، وتكشف ما قدامها، فأمرن بالاستتار، و (الخمار) …) إلى آخر النص.
فأقول: لقد ردّ الشيخ في كتابه (ص 221) قولي الموافق لأهل العلم –كما علمت- بتفسير الحافظ المذكور: (غطين وجوههن)، وأضرب عن تمام كلامه الصريح في أنه لا يعني ما فهمه الشيخ، لأنه يناقض قوله: (وصفة ذلك …) فإن هذا لو طبَّقه الشيخ في خماره، لوجد وجهه مكشوفاً غير مغطى!. ويؤكد ذلك النص الذي بتره الشيخ عمداً أو تقليداً، وفيه تشبيه الحافظ خمار المرأة بعمامة الرجل، فهل يرى الشيخ أن العمامة أيضاً- كالخمار عنده- تغطي الرأس والوجه جميعاً؟!. وكذلك قوله: (وهو التقنع)، ففي كتب اللغة: (تقنّعت المرأة؛ أي: لبست القناع وهو ما تغطي به المرأة رأسها)، كما في (المعجم الوسيط) وغيره، مثل الحافظ نفسه فقد قال في (الفتح 7/235 و 10/274):( التقنع: تغطية الرأس).
وإنما قلت: أو تقليداً. لأني أربأ بالشيخ أن يتعمد مثل هذا البتر، الذي يغيّر مقصود الكلام، فقد وجدت من سبقه إليه من الفضلاء المعاصرين، ولكنه انتقل إلى رحمة الله وعفوه، فلا أريد مناقشته. عفا الله عنا وعنه. وبناءً على ما سبق فقوله: (وجوههن)، يحتمل أن يكون خطأ من الناسخ، أو سبق قلم من المؤلف، أراد أن يقول: (صدورهن) فسبقه القلم! ويحتمل أن يكون أراد معنىً مجازياً؛ أي: ما يحيط بالوجه. من باب المجاورة، فقد وجدت في (الفتح) نحوه، في موضع آخر منه، تحت حديث البراء رضي الله عنه: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ بالحديد …) الحديث. رواه البخاري وغيره، وهو مخرج في (الصحيحة) (2932) فقال الحافظ (6/ 25): (قوله: مقَنَّع. بفتح القاف والنون المشددة: وهو كناية عن تغطية وجهه بآلة الحرب).
فإنه يعني ما جاور الوجه، وإلا لم يستطع المشي فضلاً عن القتال كما هو ظاهر".
هنا ثمة ملاحظات:
الملاحظة الأولى: جزم الشيخ بأن وصف ابن حجر لطريقة وضع الخمار: يلزم منه كشف الوجه. وهذا لا يسلم له به، فالمرأة إذا وضعت خمارها على رأسها، ثم لفت طرفه الأيمن على وجهها، ثم ألقت الذيل على العاتق الأيسر، كان ذلك غطاء للوجه، وهذا ما عناه ابن حجر، ولذا جعل التخمير تغطية الوجه.
الملاحظة الثانية: استدل الشيخ لرأيه بقول ابن حجر: "وهو التقنع"، وجزم أنه يعني بالتقنع غطاء الرأس فحسب، وساق تعريفا له قال فيه: "التقنع: تغطية الرأس"، لكن فات الشيخ رحمه الله أن ينقل التعريف بتمامه، وفيه ذكر الوجه، وهو كما تقدم، قال ابن حجر: ": "قوله: (باب التقنع) بقاف ونون ثقيلة، وهو: تغطية الرأس، وأكثر الوجه، برداء أو غيره" [في الفتح، باب اللباس، باب: التقنع. 10/274].
الملاحظة الثالثة: أبى الشيخ إلا أن يوجه قول ابن حجر في المقنّع: "وهو كناية عن تغطية الوجه بآلة الحرب". بأنه: "يعني ما جاور الوجه، وإلا لم يستطع المشي".!!.. هكذا قال، لكن كل من عرف قناع الحرب، أدرك أن منه ما يغطي الوجه كاملا، وله فتحات عند العين للرؤية، فلا يدخل إذن هذا التعريف من ابن حجر دائرة المحال، حتى يصح اللجوء إلى المجاز.!!.(/24)
إذن، ابن حجر، يرى الخمار هو القناع، ومعناهما: تغطية الوجه والرأس. فإنه يقول:
- "قوله: (فاختمرن بها)؛ أي غطين وجوههن".
- "ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها".
ويفسر الخمار بأنه القناع، ويقول عن القناع:
- "تغطية الرأس، وأكثر الوجه، برداء أو غيره".
- وعن الرجل المقنع: "هو كناية عن تغطية الوجه بآلة الحرب".
وبعد: فهل كل هذا سبق قلم، أو خطأ من الناسخ، أو معنى مجازي ؟!!.
ولنا أن نسأل: هل يستحيل عقلا أن يقول ابن حجر: الخمار غطاء الوجه والرأس؟!.
إن صنيع الشيخ هذا، من الحكم بالخطأ والتأويل بالمجاز، لو كان مع نص شرعي، يرى دينا تأويله، بقصد الجمع بين النصوص ومنع تعارضها، كما هو مذهب أهل السنة في النصوص المتشابهة، لكان سائغا.
لكن الذي لا يسوغ أن يصنع كذلك بنص بشري غير معصوم، فإلزام ابن حجر أنه لا يقصد بالخمار غطاء الوجه، ولا بالقناع، يحمل على التساؤل: ولم لا يكون ابن حجر أراد ما قاله ظاهرا؟.
هل ما قاله يستحيل أن يقول به إنسان أو عالم؟.
لا نظن أنه من المحال أن يقول أحد من الناس: إن الخمار غطاء الوجه. حتى ولو فرض أنه خطأ، فإذا ثبت عدم الاستحالة، فلم لا يترك قوله على ظاهر، ويعقب بالقول بأنه أخطأ، دون اللجوء إلى المجاز ونحوه؟!.
الملاحظة الرابعة: استنكر الشيخ أن تغطي العمامة الوجه مع الرأس. وأن يكون معنى الاعتجار: تغطية الوجه، ولا وجه لاعتراضه رحمه الله وأعلى درجته، فإن العمائم قد تستخدم لتغطية الوجه، والأدلة ما يلي:
(1) قال محمد بن الحسن: "لا يكون الاعتجار إلا مع تنقب، وهو أن يلف بعض العمامة على رأسه، وطرفا
منه يجعله شبه المعجر للنساء، وهو أن يلفه حول وجهه".[ المبسوط 1/31. انظر: عودة الحجاب 3/288]
(2) قال ابن الأثير: "وفي حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار: (جاء وهو معتجر بعمامته، ما يرى وحشي منه إلا عينيه ورجليه)، الاعتجار بالعمامة: هو أن يلفها على رأسه، ويرد طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه". [النهاية في غريب الحديث والأثر 3/185]، فالعمامة إذن تستعمل في تغطية الرأس وحده، وقد يكون معه الوجه. كالخمار، فلا وجه إذن للمنع من دلالة ذلك على غطاء الوجه. ومع هذا فإن الشيخ قال: "هو صفة كاشفة للاعتجار، وليست لازمة له". [الرد المفحم ص25] فالشيخ لايرى غطاء الوجه لازما للاعتجار، خلافا لابن الأثير.
(3) ما قاله ابن الأثير مؤيد بأشعار العرب، حيث قال الشاعر النميري [المصون في سر الهوى المكنون 40]:
يخبئن أطراف البنان من التقى *** ويخرجن جنح الليل معتجرات
فإذا كن يغطين أطراف أصابعهن تقى، فهذا دليل على أن اعتجارهن كان بتغطية الوجه مع الرأس، فلم يكن ليخبئن الأطراف، ويظهرن الوجه.
(4) ثمة قبيلة معروفة، شعارها تغطية الرجال وجوههم بالعمائم، وهم قبيلة الطوارق، الساكنون في موريتانيا على الحدود، فإنهم يعتجرون العمائم، فيغطون بها وجوههم، فلا يرى منه إلا العين.
فإذا قيل: اعتجرت المرأة. دل ذلك على غطاء رأسها ووجهها، ولا يمُنع من ذلك إلا بقرينة صحيحة، ولاوجه للقول إنها زلة عالم، فتفسير هذه الكلمات بهذا المعنى ليس غريبا، ولا شاذا، ولم يقل أحد إنها كذلك، والشواهد السابقة دليل على صحة هذا المعنى، ولم نر أحدا من علماء اللغة، أو التفسير، أو الحديث، أو الفقه خطأ من قال بذلك، ووصف قوله بأنها زلة، لم نر ذلك إلا من كلام الشيخ رحمه الله تعالى.!!.
* * *
ثالثا: الخمار غطاء الرأس والوجه.
من ينظر في كتب اللغة يجد عامة أهل العربية قد اصطلحوا على تفسير الخمار بالغطاء، وخمار المرأة بغطاء رأسها، ثم إن الشيخ رحمه الله أخذ هذا المعنى اللغوي، وحكمه على نصوص شرعية، وفيه نظر من جهتين:
- الأولى: من جهة الفرق بين المصطلح الشرعي واللغوي.
- والثانية: من جهة حقيقة قول من فسر الخمار بغطاء الرأس.
الجهة الأولى: الخمار بين المصطلح الشرعي واللغوي.
من المعلوم أن ثمة فرقا بين المصطلح الشرعي واللغوي للكلمة الواحدة، وأضرب مثلا:
الإيمان في كلام أهل اللغة هو التصديق. لكنه في اصطلاح الشارع أعم من ذلك، حيث يشمل: التصديق بالقلب، والقول باللسان، والعمل بالجوارح. فإن ورد لفظ الإيمان في نص شرعي، كان هذا معناه، وخطأ المرجئة أنهم قصروا المعنى على الاصطلاح اللغوي، ولم ينظروا في الاصطلاح الشرعي.
ثم إن الإيمان نفسه قد يرد في نص شرعي، ويراد به المعنى اللغوي، أو قريبا منه، وذلك إذا اقترن بالإسلام، فيكون دالا على الباطن، والإسلام على الظاهر.
وبالنظر والتأمل نجد أن للخمار الحكم نفسه، ففي اللغة هو خمار الرأس. لكن جاء الاصطلاح الشرعي فزاد فيه الوجه، والدليل مركب من مقدمات ثلاثة ونتيجة:
- أن غطاء الوجه مشروع، لا يجادل في هذا عالم، إما وجوبا أو استحبابا.
- أن المؤمنات أمرن بالتخمير: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}.(/25)
- يصح في الخمار أن يكون غطاء الوجه والرأس معا، وهذا أمر أقر به الشيخ رحمه، حيث قال عنه: "لا يلزم من تغطية الوجه به أحيانا، أن ذلك من لوازمه عادة، كلا". [جلباب المرأة المسلمة ص73]
- والنتيجة: أن الخمار الشرعي: هو غطاء الوجه والرأس، سواء كان وجوبا أو استحبابا.
لكن قد يأتي الخمار في مصطلح شرعي، ويراد به الرأس فحسب، إذا وجدت القرينة، كما في حديث صلاة المرأة بخمار، وغيره من النصوص التي استدل بها الشيخ الألباني، فالقرينة حاكمة، فإنه من المقطوع به أن المرأة إذا صلت أمرت بتغطية رأسها، دون وجهها وكفيها، فهذا قرينة تدل على أن المقصود بالخمار في الأثر هو غطاء الرأس، لكن إذا خلت من القرينة، فالمصطلح الشرعي للخمار هو غطاء الوجه والرأس.
إذن الأمر عكس ما ذهب إليه الشيخ الألباني: فالخمار إذا أطلق في النصوص الشرعية: دل على غطاء الرأس والوجه معا، سواء على جهة الوجوب، أو الاستحباب [على قول من يقول به]، ليس غطاء الرأس فحسب.
الجهة الثانية: حقيقة قول من فسر الخمار بغطاء الرأس.
يلاحظ في كلام العلماء في تفسير الخمار أنهم قالوا: غطاء الرأس. ولم يذكروا الوجه، ولم ينفوه.
أفلا ينم هذا عن عدم ممانعتهم: أن يكون الخمار شاملا الاثنين، وإن اكتفوا بذكر الرأس؟.
قد يقال وما الداعي لهذا الاحتمال؟.
الجواب: أن الوجه من الرأس، ودخوله في المعنى وارد، وإذا أضيف إلى ذلك أمر الشارع بغطاء الوجه، سواء على جهة الوجوب، أو الاستحباب [لمن قال به]، فهذان وجهان يؤيدان دخول الوجه في المعنى، ويكون العلماء ذكروا الرأس، واستغنوا عن الوجه، لأنه يدخل ضمنا فيه، ونضرب ابن حجر مثلا:
تقدم رأيه رحمه الله في الخمار أنه: غطاء الوجه والرأس. بنصوص صريحة، ومع ذلك وجدناه يقول:
"والخمر، بضم الخاء والميم، جمع خمار، بكسر أوله والتخفيف: ما تغطي به المرأة رأسها" [الفتح 10/296، اللباس، باب: الحرير للنساء]
فنحن إزاء هذا بين أمور:
- فأما أن نحكم عليه بالتناقض، ونعرض عن قوله كليا.
- وإما أن نرجح أنه أراد غطاء الرأس، ونبطل قوله الآخر، كما فعل الشيخ رحمه الله تعالى.
- وإما أن نرجح أنه أراد غطاء الوجه والرأس، ونحمل قوله الآخر على الأول.
فأما التناقض فلا وجه له، وذلك لأن التناقض يكون عند تعذر الجمع، وهنا غير متعذر، فالوجه من الرأس، فالاكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر وارد، ولو أنه قال في الأول الرأس، وفي الآخر القدم، لصح التناقض.
وأما ترجيح غطاء الرأس دون الوجه فلا وجه له أيضا: وذلك لأننا أمام نصوص عديدة له، كلها يفسر فيها الخمار بغطاء الوجه والرأس، فلا يمكن تجاهل هذه النصوص، وترجيح أن الخمار غطاء الرأس فحسب.
إذن ليس أمامنا إلا ترجيح أنه أراد بالخمار غطاء الوجه والرأس جميعا، ونحمل قوله الآخر على هذا الأول، ولا نعارضه به، لأمور:
(1) لأنه صريح كلامه، في أكثر من موضع.
(2) لأن الوجه من الرأس، فيصح أن يكون مع تغطية الرأس تغطية الوجه، ولا يمتنع ذلك شرعا ولا عقلا، كما يقر الشيخ نفسه بهذا، لما ذكر أن الخمار قد يكون يغطى به الوجه.
(3) لأنه لو أخذنا بقوله أن الخمار غطاء الوجه والرأس، لم نبطل قوله الآخر، لكن لو أخذنا بظاهر قوله أنه غطاء الرأس، ورجحنا أنه أراد الرأس فحسب. نكون أبطلنا قوله الأول. وإذا أمكن إعمال القولين، من غير مانع عقلي أو شرعي، فهو أولى من إبطال أحدهما، ولا مانع عقلي أو شرعي.
ومما يدل على أن العلماء لا يمانعون من دخول الوجه في معنى الخمار، ولو اقتصروا على ذكر الرأس: أنهم عرفوا النصيف، فقالوا: "والنصيف: الخمار" [لسان العرب14/166]، ومعروف أن النصيف غطاء الوجه، يدل على هذا:
- ما جاء في لسان العرب [14/166]: "قال أبو سعيد: النصيف ثوب تجلل به المرأة فوق ثيابها كلها، سمي نصيفا، لأنه نصف بين الناس وبينها، فحجز أبصارهم عنها". والأبصار لن تحجز إلا بغطاء كامل يدخل فيه الوجه.
- وما جاء في قصة المتجردة زوجة النعمان، فقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتابه (الأغاني 11/11) "أن النابغة الذبياني كان كبيرا عند النعمان، خاصا به، وكان من ندمائه وأهل أنسه؛ فرأى زوجته المتجردة يوما، وغشيها بالفجاءة، فسقط نصيفها، واستترت بيدها وذراعها، فكادت ذراعها أن تستر وجهها لعبالتها وغلظها".. قال [11/14]: "وقال في قصيدته هذه، يذكر ما نظر إليه من المتجردة، وسترها وجهها بذراعها:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه *** فتناولته واتقتنا باليد".(/26)
إذن ذكر العلماء غطاء الرأس معنى للخمار، لا ينفي دخول الوجه تبعا، كما أن ذكرهم التصديق معنى للإيمان، لا يلزم منه نفيهم دخول العمل فيه.!، إذ قد يقصدون المعنى اللغوي فحسب، وقد يقصدون التصديق الشامل للقلب، واللسان، والجوارح(4)، فمن أراد نسبة أحد إلى الإرجاء، فعليه أن يأتي بكلام صريح عنه، يخرج العمل من الإيمان، أو يفسر الإيمان شرعا بأنه: التصديق، أو المعرفة، أو يضيف النطق باللسان. وكذلك في معنى الخمار، لا بد من كلام صريح، فيه نفي دخول الوجه، وإلا فلا.
هذا مع أنه قد جاء في أشعار العرب ما يدل على اندراج الوجه في الخمار، حيث قال القاضي التنوخي:
قل للمليحة في الخمار المذهب *** أفسدت نسك أخي التقي المذهب
نور الخمار ونور خدك تحته *** عجبا لوجهك كيف لم يتلهب
وقد نقله الشيخ الألباني، وعقب عليه بقول:
"لا يلزم من تغطية الوجه به أحيانا، أن ذلك من لوازمه عادة، كلا". [جلباب المرأة المسلمة ص73]
إذن موضع الخلاف مع الشيخ أعلى الله درجته: أنه يرى أن الخمار إذا أطلق دل على غطاء الرأس فحسب.
وبينما الرأي الآخر يقول: بل إذا أطلق الخمار دل على الرأس أصالة، لأن الخمار يوضع عليه أولاً، وعلى الوجه تبعا، لأن الوجه من الرأس.. وفي الاصطلاح الشرعي: الوجه يدخل أصالة.
- لأن التغطية مشروعة، سواء على جهة الوجوب أو الاستحباب، لمن قال به.
- ولأن الخمار يصح إطلاقه على غطاء الوجه والرأس معا.
* * *
ومما يجدر لفت النظر إليه: أن الشيخ ذكر:
-عن جمع من المفسرين، كابن جرير، والبغوي، والزمخشري، وابن العربي، وابن تيمية، وابن حيان.
- وعن جمع من الفقهاء، كأبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، والشافعي، والعيني.
أنهم يقولون: الخمار هو غطاء الرأس.
وهنا ملاحظة: فبالإضافة إلى ما تقدم من تفصيل في معنى الخمار، ودلالته على الرأس والوجه جميعا، يقال:
- ومن هؤلاء العلماء من مذهبه تغطية الوجه، كابن العربي وابن تيمية.
- ومنهم من صرح بوجوبها في بعض الآيات، دون بعضها، كابن جرير والبغوي في آية الحجاب. والزمخشري وابن حيان في آية الجلباب.
- من هؤلاء من نص صراحة على أن الخمار: غطاء الرأس والوجه. كما تقدم عن ابن تيمية، والعيني.
هذا ولم أتتبع قول كل من ذكر ذلك من العلماء، بل كان هذا مما مر بي من أقوالهم عرضا.
* * *
وفي كل حال لنا أن نسأل سؤالاً نراه مهما:
- إذا كان الخمار ليس غطاء الوجه.
- وإذا كان القناع ليس غطاء الوجه.
- وإذا كان الاعتجار ليس غطاء الوجه.
- وإذا كان الجلباب ليس غطاء الوجه.
فهذا الذي تغطي المرأة به وجهها: ماذا يكون، وبماذا يسمى؟.
* * *
وبعد: فالنتيجة المهمة التي نخرج بها من هذا المبحث هي:
- أنه إذا كانت الآية قطعية الثبوت، وهذا بإجماع المسلمين، لأنها من القرآن، والله تعالى حفظه.
وإذا ثبتت قطعية دلالتها على وجوب حجاب الوجه، بما سبق من الوجوه والأدلة.
فنخرج من ذلك: أن الآية محكمة الدلالة، فتكون من المحكمات، التي يصار إليها حين الخلاف، فما عارضها، وكان ثابتا بسند صحيح، بدلالة صريحة على الكشف، فهو متشابه، كأن يكون قبل الأمر بالحجاب، أو لعذر خاص، وحالة خاصة،، فيرد هذا المتشابه إلى هذا المحكم، ويفهم في ضوئه، وبذلك ينتفي التعارض، فهذا سبيل التعامل مع المحكمات، لا يصح ولا يجوز تعطيلها لأجل متشابه.
هذا لو كان هذا المتشابه بهذا الوصف من الثبوت والدلالة، فكيف إذا كان باطل السند، كحديث أسماء؟، أو محتمل الدلالة غير قطعي في الكشف، كحديث الخثعمية؟.
وهذا حال الآثار التي استدل بها الذين أجازوا الكشف، فحينئذ فلا ريب أن الواجب طرحه، وعدم الالتفات إليه، ولا يجوز بحال تقديمه على نص محكم
* * *
________________________________________
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
(1) ظاهر سياق الآية ورد في حالة العجز عن إخفاء الزينة، ولا يمنع أن يتضمن المعنى حالة العفو، فكلها يجمع بينها عدم القصد لإظهار الزينة.
(2) سند هذه الرواية صحيح، كما تقدم من كلام الإمام أحمد، وابن حجر، في مبحث آية الجلباب.
(3) هذا القول مشهور عن عبيدة السلماني، وليس أبا عبيد، فيبدو ثمة تصحيف هنا.
(4) قراءة متفحصة لأقوال العلماء في لسان العرب [مادة: أمن] تعرف القارئ وتوقفه على هذه الحقيقة(/27)
الدنيا جميلة براقة
عَنْ جَابِرِ -رضي الله عنه- أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ -عن جانبيه- فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ -صغير الأذن- مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: ( أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟) فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: (أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ) قَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لِأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَقَالَ: (فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ) [رواه مسلم]
فها هي الدنيا في كامل زينتها، وأبهى حلتها، وأجمل بهجتها تعرض نفسها لخاطبيها ومشتريها، وحق لها ذلك: لكثرة الغافلين واللاهين والعابثين، وإقبال الخاطبين والمشترين، فكم نشاهد اليوم من تهافت كثير من الناس على هذه الدنيا الفانية، وزهدهم في الآخرة الباقية، وما ذاك إلا لبعدهم عن معرفة الحقيقة، والبعد عن منهج الله تعالى والخوف منه سبحانه.
تهافتوا وتنافسوا وتصارعوا من أجل الدنيا وبهرجتها، واشرأبت نفوسهم حب الدنيا والركون إليها، فتاقت لها قلوبهم، وهويت إليها أفئدتهم، فأصبحت محط أنظارهم على اختلاف أجناسهم وطباعهم، رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، فكانت الويلات والنقمات هنا وهناك. أصبح الكثير من الناس لا يحب ولا يكره إلا من أجل الدنيا، أما الله الواحد القهار فلا يوالون ولا يعادون فيه أبداً، وهذا هو الجهل العظيم والخطب الجسيم، نسوا الله فنسيهم وأنساهم أنفسهم، تركوا الآخرة والعمل لها، وركنوا إلى الدنيا وعمارتها.(/1)
الدنيا حلوة .. !!
الكاتب : موسى الزهراني
مرّ النبي بالسوق والناس كنفيه ( عن جانبيه ) فمر بجدي أسك (صغير الأذن) ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: { أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم؟ } قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ ثم قال: { أتحبون أنه لكم؟ } قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً، إنه أسك فكيف وهو ميت؟! فقال: { فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم } [رواه مسلم].
فها هي الدنيا في كامل زينتها، وأبهى حلتها، وأجمل بهجتها تعرض نفسها لخاطبيها ومشتريها، وحق لها ذلك: لكثرة الغافلين واللاهين والعابثين، وإقبال الخاطبين والمشترين، فكم نشاهد اليوم من تهافت كثير من الناس على هذه الدنيا الفانية، وزهدهم في الآخرة الباقية، وما ذاك إلا لبعدهم عن معرفة الحقيقة، والبعد عن منهج الله تعإلى والخوف منه سبحانه.
تهافتوا وتنافسوا وتصارعوا من أجل الدنيا وبهرجتها، واشرأبت نفوسهم حب الدنيا والركون إليها، فتاقت لها قلوبهم، وهويت إليها أفئدتهم، فأصبحت محط أنظارهم على اختلاف أجناسهم وطباعهم، رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، فكانت الويلات والنقمات هنا وهناك.
أصبح الكثير من الناس لا يحب ولا يكره إلا من أجل الدنيا، أما الله الواحد القهار فلا يوالون ولا يعادون فيه أبداً، وهذا هو الجهل العظيم والخطب الجسيم، نسوا الله فنسيهم وأنساهم أنفسهم، تركوا الآخرة والعمل لها، وركنوا إلى الدنيا وعمارتها، عندما سلّ علي سيفه لقتل عدوه بصق ذلك العدو في وجه علي فما كان منه إلا أن أعاد سيفه، فلما قيل له في ذلك، قال: ( خشيت أن أنتقم لنفسي ).
فلله در أولئك الرجال الذين عرفوا لماذا خلقوا، ومن أجل أي شيء وجدوا. فأين ذكور اليوم من رجال الأمس؟ أولئك الرجال الذين رغبوا فيما عند الله والدار الآخرة، تركوا الدنيا في كامل زينتها وأبهى حلتها، وأقبلوا على ربهم ـ سبحانه ـ راجين مغفرته ورضوانه، تركوا الفاني وأقبلوا على الباقي، أتعلم لماذا؟ لأنهم عرفوا الحق من الباطل، عرفوا ما ينفعهم وما يضرهم، قال تعإلى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23]، أولئك الذين اعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله الذين عرفوا الله حق معرفته، فلم يخشوا أحدا إلا الله، والله أحق أن يخشى، صدقوا مع الله فصدقهم الله عز وجل، إذا عملوا فلله، وإذا أحبوا فلله، وإذا أبغضوا ففي الله، أعمالهم وأقوالهم خالصة لله دون سواه.
أمّا من ركنوا إلى الدنيا وأحبوا أهلها، وزهدوا في الآخرة وبقائها فأولئك محبتهم وعداؤهم وولاؤهم من أجل الدنيا، وأهلها، ومناصبها، وما يحصلون عليه من كراس، ومراتب، ودرجات، فكانت المفاجآت أن حلت بهم النكبات، ودارت عليهم الدائرات، وجعل الله بأسهم بينهم شديدا، فإذا اجتمعوا أظهروا خلاف ما يبطنون، وإذا تفرّقوا أكل بعضهم بعضا، قال الله تعإلى: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين [الزخرف:67]، وما حصل كل ذلك إلا لبعدهم عن منهج الله القويم، وانحرافهم عن صراطه المستقيم، فضلوا وغووا وركنوا إلى ما لم يؤمروا به، فاتبعوا الهوى والشهوات، وحصلت بينهم المنافسات على المناصب الكاذبات، فلا إله إلا رب الأرض والسموات، كل من أولئك يريد البقاء له وله وحده، وكأنه لم يخلق إلا للبقاء والخلود في هذه الدنيا وعمارتها، والله تعإلى يقول في محكم التنزيل: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، ويقول تعإلى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:34-35]، وقال تعإلى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات:56]، هذه هي والله الغاية السامية التي من أجلها خلق الله الخلق، خلقهم من أجل العبادة، عبادته وحده، لا شريك له في ذلك فهو سبحانه المستحق للعبادة دون سواه، فهل عقل ذلك كثير من الناس؟ وكل ما عدا العبادة فهو وسيلة لا غاية، وعجبا لمن بدّل الغاية إلى وسيلة والوسيلة إلى غاية، فلا حول ولا قوة إلا بالله.(/1)
لقد انعكست المفاهيم، وانتكست الفطر عند أولئك الناس فاستحقوا قول الله تعإلى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]، وقال : { الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً } [رواه الترمذي وهو حديث حسن]، وقال عليه الصلاة والسلام: { لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء } [رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح].
فهذه هي حقيقة الدنيا التي يطلبها ويخطب ودها كثير من الناس كما وصفها النبي ، فهي مبغوضة، ساقطة لا تساوي ولا تعدل عند الله جناح بعوضة، وكم يساوي جناح البعوضة في موازين الناس؟ أم لعله يسمن أو يغني من جوع؟ فكل ما يبعد عن طاعة الله تعإلى ملعون مبغوض عنده سبحانه. قال تعإلى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]
يحذر المولى عز وجل عباده من الانجراف في مزالق الحياة الغادرة وعدم الإخبات اليها أو الإذعان اليها أو اتخاذها وطناً وسكناً وأنها غادرة ماكرة ما لجأ إليها أحد أو رجاها من دون الله إلا خذلته، وتخلت عنه؛ فهي حقيرة عند الله عز وجل كحقارة الميتة عند الناس، وإنما جعلها الله فتنة للعباد؛ ليرى الصابر والشاكر، والمغتنم لأوقاته لما فيه رضا ربه سبحانه، ممن عكف عليها وأقام وأناب إليها ومن قضى أيامه ولياليه من أجلها، فلا يستوي الفريقان عند الله أبداً، قال تعإلى: فريق في الجنة وفريق في السعير [الشورى:7] وقال تعإلى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ [فاطر:19-22]، الأعمى هو من ضل عن منهج الله تعإلى وركن إلى الدنيا واطمأن لأنه عاش في هذه الدنيا أعمى وفي الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، ولذا قال الله عز وجل: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]،وذلك لإعراضه عن ذكر الله تعإلى فالأحياء هم المؤمنون والأموات هم الكفار، فالحياة حياة إيمان والموت موت كفر والعياذ بالله، قال تعإلى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124-127]، وأما من باع الدنيا واشترى الآخرة فهو البصير المبصر العارف تمام المعرفة لم خلق، وهذا حق معلوم لا ينكره إلا جاهل أو فاقد عقل، قال : { أبشروا وأمّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوا، فتهلككم كما أهلكتهم } [متفق عليه]، وقال : { إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء } [رواه مسلم]، وهذا تحذير آخر من نبي الرحمة والهدى لأمته من عدم الركون إلى الدنيا أو الاستئناس بها، وعدم الانخراط في سلك اللاهين المحبين لها ولزخرفها وزينتها، والحذر كل الحذر من الانجراف وراء مغريات الحياة الزائفة، وعدم الاهتمام بها أصلا إلا لمن ابتغى بها وجه الله تعإلى والدار الآخرة.
ولكن ومع كل هذه التحذيرات من رب الأرض والسموات ومن نبي الهدى والرحمات، لا تجد إلا قلوبا ميتة، وعقولا مسلوبة، لشغوف أهلها بحب الدنيا وبهرجتها الزائفة الزائلة، خربوا آخرتهم الباقية وعمّروا دنياهم الفانية، تنافس كثير من الناس من أجل الدنيا، وتقاطعوا، وتدابروا من أجلها، فضاعت حقوق بعضهم بين بعض، فكم من ضعفاء ومساكين ضاع حقهم من أجل أن يأكله غني مستكف، وكم من صاحب حق ذهب حقه أدراج الرياح من أجل محاباة المسؤول لخصمه، وكم وكم نرى من خصومات وتعديات من أجل الصراع للبقاء على وجه هذه البسيطة التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، قال تعإلى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5]،(/2)
لقد أصبحت الدنيا، وعمارتها، والعيش فيها، وجمع الأموال، والأولاد، والأزواج، والكسب الحرام هي الشغل الشاغل الذي ملأ قلوب الكثير من الناس اليوم، بل أصبحت الدنيا هي همهم الأول الذي خلقوا من أجله في اعتقادهم الفاسد الباطل، فانتشرت بينهم أمراض القلوب وأدواءه فها هو الحسد، والحقد والكذب، والبغضاء، وها هي الغيبة، والنميمة، والكراهية، والشحناء، سادت بين أولئك الناس، بسبب حبهم للدنيا وشهواتها وزينتها وزخرفها، فأصبح العداء والولاء من أجل الدنيا، والحب والبغضاء من أجل الفناء. فلا همّ لأولئك الأشرار إلا إزالة هذا عن منصبه ووضع ذاك، ونقل هذا والمجيء بالآخر؛ لأن هذا من شيعته، وذاك من عدوه كما يزعم، وهذا قريبه ومن أبناء جلدته، وذاك غريب لايمت له بصلة،
لقد أنسى الناس حب الدنيا والتشاغل بها طاعة الله عز وجل الخوف منه، ألا يعقل أولئك قول النبي : { ما لي وللدنيا؟ ما أنا إلا كراكب، استظل تحت شجرة ثم راح وتركها وتركها؟ } [رواه الترمذي، وهو حسن صحيح]، وقال : { ليس الغنى من كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس } [متفق عليه]، وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: { لتؤدنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء، من الشاة القرناء } [رواه مسلم]، وقال : { إن الله ليملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته } ثم قرأ: وكذلك أخذ ربك القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [هود:102] [متفق عليه].
وهذه هي النتيجة الحتمية لكل ظالم، ولا مناص عنها ولا مفر منها، والجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، وما ربك بظلام للعبيد ـ حاشا وكلا ـ ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
فيا ليت شعري لو أنّ الناس تركوا الخلق للخالق سبحانه واتقوا الله جل وعلا حق التقوى، ورضي كل منهم بما قسم الله له في هذه الحياة، ولم ينظر بعضهم إلى ما وصل إليه غيره من النعم والخيرات التي امتنّ الله بها على عباده.
ويا ليت شعري لو أنّ الناس لم ينظروا إلى ما منّ الله به على غيرهم، فيحسدوهم، ويحقدوا عليهم، ويطمعوا بما في أيديهم لعاش الناس إخوة متحابين متعاونين على البرّ والتقوى، متناهين عن الإثم والعدوان، آمرين بالمعروف، متناهين عن المنكر.
قال تعإلى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46].
وكان الواجب على المؤمن تجاه الدنيا ودناءتها ألا ينظر إلى من هو فوقه وأعلى منه منزلة، بل ينظر إلى من هو دونه، حتى لا يزدري نعمة الله عليه فيقع في الإثم والمعصية، أمّا في أمور الدين والآخرة ففي ذلك فليتنافس المتنافسون بلا حقد، ولا حسد، ولا كراهية، ولا تقاطع، ولا تدابر. فلو ترك الناس بعضهم بعضا بما أنعم الله على كل منهم لساد الحب، والفرح، والإخاء، ولعم الأمن والسلام، والرخاء لأن: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4]، ولكن لما لم يدخل الإيمان قلوب الكثير منهم استساغوا ذلك الفضل من الله على بعضهم البعض، بل تجرّعوا الغصص والآهات، وطغت عليهم الحضارة المادية الزائفة بكل ما تعنيه الكلمة من معان، فأصبح الصراع والقتال من أجل متاع الدنيا الزائل، فإلى الله المهرب والملتجأ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فلنتق الله عباد الله، ولنعلم أننا ما خلقنا وما وجدنا على هذه البسيطة إلا لعبادة الواحد الديان الذي له ملك السموات والأرض، وبيده خزائن كل شيء، وعلينا أن نتسابق ونتسارع إلى جنة الخلد وملك لا يبلى، جنة عرضها كعرض السموات والأرض، أعدها الله للمتقين الذين آمنوا بالله ورسله، قال : { من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إنّ سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة } [رواه الترمذي، وقال: حديث حسن]، فأين المشمرون؟ وأين المشترون؟ وأين المتقون؟.
عن أنس أن النبي قال: { اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة } [متفق عليه]، وعن أبي هريرة قال: قال : { الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر } [رواه مسلم].، ودونك يا من أحببت الدنيا وزينتها، وركنت إليها، وقاتلت من أجلها، واهتممت بالمناصب والشياخة، والكراسي والرياسة، أقول: دونك هذا الحديث الذي يرويه أبو هريرة قال: قال رسول الله : { يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا الله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة، فيقال له: يا بن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا الله ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط } [رواه مسلم].
فيا بشرى من اشترى الآخرة بالدنيا، ويا حسرة من اشترى الدنيا بالآخرة.(/3)
قال تعإلى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على النذير البشير والسراج المنير نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/4)
الدنيا مزرعة الآخرة
دار الوطن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الزاهدين وإمام العابدين، أما بعد:
فإن الدنيا دار سفر لا دار إقامة، ومنزل عبور لا موطن حبور، فينبغي للمؤمن أن يكون فيها على جناح سفر، يهيئ زاده ومتاعه للرحيل المحتوم.
فالسعيد من اتخذ لهذا السفر زاداً يبلغه إلى رضوان الله تعالى والفوز بالجنة والنجاة من النار.
إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق *** والليالي متجر الإنسان والأيام سوق
تعريف الزهد في الدنيا
تعددت عبارات السلف في تعريف الزهد في الدنيا وكلها تدور على عدم الرغبة فيها وخلو القلب من التعلق بها.
قال الإمام أحمد: الزهد في الدنيا: قصر الأمل.
وقال عبدالواحد بن زيد: الزهد في الدينار والدرهم.
وسئل الجنيد عن الزهد فقال: استصغار الدنيا، ومحو آثارها من القلب.
وقال أبو سليمان الداراني: الزهد: ترك ما يشغل عن الله.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الزهد ترك ما لا ينفع في الا×رة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة، واستحسنه ابن القيم جداً.
قال ابن القيم: والذي أجمع عليه العارفون: أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا، وأخذ في منازل الآخرة !!.
فأين المسافرون بقلوبهم إلى الله؟
أين المشمرون إلى المنازل الرفيعة والدرجات العالية؟
أين عشاق الجنان وطلاب الآخرة؟
الزهد في القرآن
قال الإمام ابن القيم: والقرآن مملوء من التزهيد في الدنيا، والإخبار بخستها قلتها، وانقطاعها وسرعة فنائها، والترغيب في الآخرة والإخبار بشرفها ودوامها.
ومن الآيات التي حثت على التزهيد في الدنيا:
1ـ قوله تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [الحديد:20].
2ـ وقوله سبحانه: زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب [آل عمران:14].
3ـ وقوله تعالى: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [الشورى:20].
4ـ وقوله تعالى: قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا [النساء:77].
5ـ وقوله تعالى: بل تؤثرون الحياة الدنيا، والآخرة خير وأبقى [الأعلى:16-17].
أحاديث الزهد في الدنيا
أما أحاديث النبي التي رغبت في الزهد في الدنيا والتقلل منها والعزوف عنها فهي كثيرة منها:
1ـ قول النبي لابن عمر رضي الله عنهما: { كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل } [رواه البخاري]. وزاد الترمذي في روايته: { وعد نفسك من أصحاب القبور }.
2ـ وقال النبي : { الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر } [رواه مسلم].
3ـ وقال مبيناً حقارة الدنيا: { ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع } [رواه مسلم].
4ـ وقال : { مالي وللدنيا،إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال ـ أي نام ـ في ظل شجرة، في يوم صائف، ثم راح وتركها } [رواه الترمذي وأحمد وهو صحيح].
5ـ وقال : { لوكانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء } [رواه الترمذي وصححه الألباني].
6ـ وقال : { ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس } [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
7ـ وقال : { اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصاً، ولا يزدادون من الله إلا بعداً } [رواه الحاكم وحسنه الألباني].
حقيقة الزهد في الدنيا
الزهد في الدنيا هو ما كان عليه رسول الله وأصحابه، فهو ليس بتحريم الطيبات وتضييع الأموال، ولا بلبس المرقع من الثياب، ولا بالجلوس في البيوت وانتظار الصدقات، فإن العمل الحلال والكسب الحلال والنفقة الحلال عبادة يتقرب بها العبد إلى الله ، بشرط أن تكون الدنيا في الأيدي، ولا تكون في القلوب، وإذا كانت الدنيا في يد العبد لا في قلبه، استوى في عينه إقبالها وإدبارها ، فلم يفرح بإقبالها، ولم يحزن على إدبارها.
قال ابن القيم في وصف حقيقة الزهد: وليس المراد ـ من الزهد ـ رفضها ـ أي الدنيا ـ من الملك، فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء مالهما.
وكان نبينا من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة.
وكان علي بن أبي طالب، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير وعثمان رضي الله عنهم من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال.
ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن أو غيره: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك.
جاء رجل إلى الحسن فقال: إن لي جاراً لا يأكل الفالوذج، فقال الحسن: ولم؟ قال: يقول: لا أؤدي شكره، فقال الحسن: إن جارك جاهل ، وهل يؤدي شكر الماء البارد؟.(/1)
أهمية الزهد
إن الزهد في الدنيا ليس من نافلة القول، بل هو أمر لازم لكل من أراد رضوان الله تعالى والفوز بجنته، ويكفي في فضيلته أنه اختيار نبينا محمد وأصحابه، قال ابن القيم رحمه الله: لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، أو منهما معاً.
ولذا نبذها رسول الله وراء ظهره هو وأصحابه، وصرفوا عنها قلوبهم، وهجروها ولم يميلوا إليها، عدوها سجناً لا جنة، فزهدوا فيها حقيقة الزهد، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب، ولوصلوا منها إلى كل مرغوب، ولكنهم علموا أنها دار عبور لا دار سرور، وأنها سحابة صيف ينقشع عن قليل، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذن بالرحيل.
أقسام الزهد
قال ابن القيم رحمه الله الزهد أقسام:
1ـ زهد في الحرام وهو فرض عين.
2ـ وزهد في الشبهات، وهو بحسب مراتب الشبهة، فإن قويت التحق بالواجب، وإن ضعفت كان مستحباً.
3ـ وزهد في الفضول، وهو زهد فيما لا يعني من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره.
4ـ وزهد في الناس.
5ـ وزهد في النفس، بحيث تهون عليه نفسه في الله.
6ـ وزهد جامع لذلك كله، وهو الزهد فيما سوى الله وفي كل ما يشغلك عنه.
وأفضل الزهد إخفاء الزهد.. والقلب المعلق بالشهوات لا يصح له زهد ولا ورع.
أقوال السلف في الزهد
قال على بن أبي طالب رضي الله عنه: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [البقرة:197].
وقال عيسى بن مريم عليه السلام: اعبروها و لا تعمروها.
وقال: من ذا الذي يبني على موج البحر داراَ؟! تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا.
وقال عبدالله بن عون: إن من كان قبلنا كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم.
قلت: هذا كان في زمان عبدالله بن عون، أما اليوم فإن أكثر الناس قد زهدوا في الآخرة حتى بالفضلة !!
الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا
1ـ النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها ونقصها وخستها ومافي المزاحمة عليها من الغصص والنغص والأنكاد.
2ـ النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات.
3ـ الإكثار من ذكر الموت والدار الآخرة.
4ـ تشييع الجنائز والتفكر في مصارع الآباء والإخوان وأنهم لم يأخذوا في قبورهم شيئاً من الدنيا ولم يستفيدوا غير العمل الصالح.
5ـ التفرغ للآخرة والإقبال على طاعة الله وإعمار الأوقات بالذكر وتلاوة القرآن.
6ـ إيثار المصالح الدينية على المصالح الدنيوية.
7ـ البذل والإنفاق وكثرة الصدقات.
8ـ ترك مجالس أهل الدنيا والاشتغال بمجالس الآخرة.
9ـ الإقلال من العام والشراب والنوم والضحك والمزاح.
10ـ مطالعة أخبار الزاهدين وبخاصة سيرة النبي وأصحابه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/2)
الدنيا والآخرة ضرّتان
________________________________________
الداعية الإسلامية : غنى حمود
بسم الله الرحمن الرحيم
ومما زادني شرفا وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
من هذا المنطلق نشق طريقنا في كسب الحياة الدنيا والآخرة،كل منا لديه قدرات ولكن البعض يعطي الدنيا الكثير الكثير وينسى الآخرة والله سبحانه وتعالى يقول : (ولا تنس نصيبك من الدنيا ) أي كن من أبناء الآخرة ولا تنس أن تعيش وتأخذ قسطا من الدنيا لأن الله تعالى يقول: ( وللآخرة خير لك من الأولى)
وفي بعض الكتب المنزلة : يا ابن آدم خلقت الأشياء كلها من أجلك وخلقتك من أجلي فلا تشتغل بما هو لك عمن أنت له.
وقال ابن عطاء : نظرك إلى الأكوان يحطك إلى أسفل سافلين ونظرك إلى المكون يرفعك إلى أعلى عليين فاختر لنفسك ما يحلو .
وقال الشبلي : ليس يخطر الكون ببال من عرف المكون .
وماأجمل ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ( إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له قفل قلبه، وجعل فيه اليقين والصدق، وجعل قلبه واعيا لما سلك فيه، وجعل قلبه سليما، ولسانه صادقا، وخليقته مستقيمة، وجعل أذنه سميعة، وعينه بصيرة).
اللهم افتح على قلوبنا حتى يزال عنها الحجب ونبصر مراتب أهل الكمال فتفيض الرحمة وتقوى الإرادة وتعلو الهمة ويشرق النور وينشرح الصدر
وقيل يا رسول الله كيف ينشرح الصدر فقال: إن النور إذا قذف في القلب انشرح له الصدر وانفسح، قيل: فهل لذلك من علامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم؛ التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله"ونسألك يا ربنا كما علمنا رسولك :رحمةمن عندك تهدي بها قلوبنا وتجمع بها أمرنا.تجمعه على كسب رضاك وخدمة دينك ومن جعل الهموم هما واحدا كفاه الله ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم وكذلك قال: تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم فإنه من كانت الدنيا أكبر همه أفشى الله ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ومن كانت الآخرة أكبر همه جمع الله تعالى له أمره، وجعل غناه في قلبه .
وروى في بعض الكتب الإلهية أن الله تعالى
قال: >.ولقد ضرب سيدنا علي رضي الله عنه مثل للدنيا والآخرة فقال :هما كالضرتين إذا أرضيت أحدهما أسخطت الأخرى.وقال الحسن:أدركنا أقواما لو رأيتموهم لقلتم مجانين ولو رأوكم لقالوا شياطين .فكيف إذا رأوا من يعيش الحضارة الزائفة والحرية الكاذبة في القرن الواحد والعشرين، ولله در القائل:
وكل سعي سيجزي الله ساعيه هيهات يذهب سعي المحسنين هبا
إن اليقظة التي هي التنبه لما يرضي الله تعالى والعفة التي هي علو الهمة عن الشهوات يتسبب عنهما الطاعة التي هي إتباع المأمورات واجتناب المنهيات، وأصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك.وكما يقول الإمام البوصيري :
وخالفِ النفسَ والشيطانَ واعْصِهما وإِن هما مَحَضاكَ النصحَ فاتِهَّم
وأختم مقالي بأن الدعوة هي مهمة الأنبياء وهي قمة العطاء والله يختص برحمته من يشاء ولو تكاسل الأنبياء والصحابة والدعاة لما وصل الإسلام إلينا فعلينا أن نشحذ الهمة ونقتدي بهم لنجاورهم يوم القيامة ولنكن خير أمة أخرجت للناس لأنها أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر فالله يجعلنا من الدعاة الصادقين المخلصين وما توفيقنا إلا بالله(/1)
الدواء والدواء
علاج القلب المريض بحب وإرادة السيئات
بقلم حامد بن عبدالله العلي
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم القائل ( من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه ) رواه مسلم من حديث أبي هريرة .
قرأت رسالتك ، وأعلم أنه لاشيء يحول بينك وبين التوبة ، ولو بلغت ذنوبك السماء ، ولو ملأت الأرض كلها ، فمادام الإنسان في هذه الحياة فإن باب التوبة مفتوح ، وقد تبين لي من رسالتك أنك تعيش صراعا بين نداء الإيمان في قلبك ، ونداء الشهوة التي يحركها الشيطان فيه ، والحمد لله تعالى أنه قد بقي في قلبك نور من الإيمان ، ما يلومك على فعل السيئة ، ويزين لك العمل الصالح ، ولكنه نور ضعيف ، لان ظلمة السيئات التي هي نفث من الشيطان أضعفت هذا النور ، ولهذا يضيء أحيانا ، فيتيقظ ضميرك قليلا ، ثم لا يلبث حتى ينطفئ مرة أخرى وتعود إلى فعل السيئات .
وسأبين لك المرض الذي تعاني منه ، ثم أصف لك العلاج ، فاقرأ ما أقول لك بتمعن واهتمام ، لعل الله تعالى ينفعك به .
ـ القلب أيها الأخ الكريم هو موضع الإرادة في الإنسان ، فهو أحيانا يريد الخير ، وأحيانا يريد الشر ، والجوارح ليست سوى جنود تطيعه على وفق ما فيه من الإرادة .
ـ والفرق بين الملتزمين بالطاعة وبينك ، أن الملتزمين قلوبهم تريد الخير إرادة جازمة ولهذا فجوارحهم تطيع هذه الإرادة فهم مستقيمون على طاعة الله تعالى ، وأما أنت فقلبك يعلم الخير و الشر ، ويفرق بين الحسنات والسيئات ، ولكنه لا يستطيع أن يريد الخير ، فتجده يريد الشهوات ، مع أنه يعلم أنها تضره ، فيأمر الجوارح فتطيعه ، ولكن ما هو السبب ؟
ـ السبب هو أن القلب المحصن من الشيطان ، تسهل عليه إرادة فعل الخيرات لانه قلب صحيح قوي ، والقلب الذي يمكن الشيطان أن يدخله فيتجول فيه كما يشاء ، يتوصل الشيطان بسهولة أن يجعل فيه إرداة السيئات ، بعدما يزينها له ، لانه قلب مريض مليء بالجراثيم الشيطانية .
ـ ومن الناس من لا يدخل الشيطان قلبه إلا مرورا سريعا ، لقوة التحصينات حوله ، فهذا مثل الذين يفعلون الصغائر أحيانا وسرعان ما يتوبون منها ، وهم الذين قال الله تعالى عنهم ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) ، ومن الناس من لا يقترب الشيطان من قلبه أبدا ، لان قلبه مثل السماء المحروسة بالشهب من الشياطين ، فقلبه كذلك محروس من الشيطان ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا القلب ( أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض ) رواه مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه ، ومن الناس من دخل الشيطان قلبه ، فاتخذ فيه بيتا ، وجعل له فيه عشا يبيض فيه ويفرخ ، فاستحوذ عليه ، يأمر القلب بالشهوات المحرمة ، فيريدها قلبه ، فيأمر الجوارح بفعلها فتفعله ، لان الشيطان وجده قلبا خاليا عن التحصينات ، مفتح الأبواب ، ضعيفا مريضا بفعل السيئات ، ولهذا قال الله تعالى عن هذا النوع ( استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ) ، لان ذكر الله تعالى هو الحصن من الشيطان ، فأنساهم إياه ليستحوذ على قلوبهم فيقودها لتنقاد جوراحهم له تبعا .
ـ والقلب لا يحصن من الشيطان إلا بذكر الله تعالى ولا يقوى على إرادة الخير إلا بالعمل الصالح ، ولا يغلبه الشيطان إلا إن كان غافلا عن ذكر الله تعالى ، ضعيفا بسبب فعل السيئات والمنكرات .
ـ والان بعد أن عرفت السبب في أن قلبك لا يطاوعك على إرادة العمل الصالح ، وترك السيئات ، ولا يمكنه أن يثبت على الاستقامة ، فالعلاج يكمن في هذه الوصفة الطبية ، خذها وداوم عليها فنتائجها مضمونة بإذن الله إن ثابرت عليها بصدق:
1ـ احرص على إقامة الصلوات الخمس في جماعة لاسيما صلاة الفجر فإياك أن تفوتك أبدا ، قال الله تعالى ( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) أي صلاة الفجر تشهدها الملائكة .
2ـ بعد صلاة الفجر امكث في المسجد لقراءة القرآن إلى طلوع الشمس ، ثم صل ركعتين بعد ارتفاعها قيد رمح ( وقيد الرمح : مقدار عشرة دقائق من أول الشروق ).
3ـ قل (سبحان الله وبحمده) مائة مرة كل يوم في أي وقت في المسجد أو البيت ، ماشيا ، أو قاعدا ، أو في السيارة ..الخ ، وهذا الذكر يحت الخطايا حتا .
4ـ استغفر الله تعالى مائة مرة كل يوم ، قائلا ( أستغفر الله وأتوب إليه ) كذلك في أي وقت شئت ، وعلى أي حال تكون .
5ـ قل هذا الذكر مائة مرة ( لاإله إلا الله وحده لاشريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) مائة مرة كل يوم كذلك في أي وقت شئت ، وعلى حال تكون ، ولا يشترط في المسجد ، وهذه الأذكار كان يداوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم فهي حياة القلب وغذاؤه الذي لا يستغني عنه .
6ـ بين صلاتي المغرب والعشاء رابط في المسجد فلاتخرج منه واقرأ ما تيسر من القرآن بالتدبر .(/1)
7ـ يجب عليك الحمية التامة من النظر إلى التلفزيون ، أو المجلات ، أو الذهاب إلى أي مكان في منكرات ، فأنت في حجر صحي لكي ترجع إلى قلبك عافيته ، ولن ينفعك الدواء وهي الحسنات ، إن كنت تدخل عليه الداء في أثناء فترة العلاج ، والداء هو السيئات .
8 ـ استمر على هذا البرنامج شهرا كاملا على الأقل ، تعيش فيه مع القرآن تقرؤه بالتدبر ، وتعمل بما فيه ، وتخلو بنفسك لذكر الله تعالى الساعات الطوال ، والدليل على الشهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بذلك قال ( اقرأ القرآن في شهر ، اقرأه في خمس وعشرين ، اقرأه في عشر ، أقرأه في سبع ) متفق عليه من حديث اين عمر .
9ـ إن كانت البيئة التي تعيش فيها لا تساعدك على تطبيق هذا البرنامج فغير بيئتك ، اترك أصحاب السوء ، وابتعد عن الأماكن التي تقضي فيها أوقات فراغك إن كانت تشجع على المعاصي ، ولو استطعت أن تسافر إلى مكة مثلا لتطبق هذا البرنامج فافعل .
10ـ تصدق بجزء من مالك ، توبة إلى الله تعالى ، صدقة سر لا يطلع عليها أحد إلا الله تعالى ، فقد صح في الحديث ( صدقة السر تطفئ غضب الرب ) رواه ابن حبان من حديث أنس .
11ـ حاول أن تذهب إلى العمرة ناويا تجديد إيمانك وغسل ماضيك بماء هذه الرحلة المباركة قال صلى الله عليه وسلم ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
12ـ إن كانت لديك حقوق للناس ردها كلها ، ولا تترك منها شيئا في ذمتك توبة إلى الله .
13ـ ادع الله تعالى كل ليلة في وقت السحر قبل صلاة الفجر بهذا الدعاء ( رب إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) وهذا الدعاء ( اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي ) وهذان علمهما الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه ، وأكثر من الاستغفار والدعاء فإن السحر ( قبل الفجر ) وقت يستجاب فيه الدعاء .
هذه هي وصفتك الطبية ، ومدة الشهر غير مقصودة بالتحديد ، فقد يظهر عليك التغير قبل ذلك ، و قد تحتاج إلى الاستمرار إلى أكثر من شهر في هذا الحجر الصحي ، والهدف منه هو طرد الشيطان من القلب، وتنظيف آثاره ، وأوساخه ، وقاذوراته التي وضعها فيه ، لأنها هي السبب في كون قلبك ضعيفا لا يستطيع إرادة الخير وفعل الصالحات ، وينقاد بسرعة إلى نداء الشهوات .
فإن عاد إلى القلب عافيته ، وصار سليما قويا بذكر الله تعالى ، محصنا من كيد الشيطان ، فخفف قليلا من هذا البرنامج على قدر ما تطيق ، فقد قال صلى الله عليه وسلم ( عليكم بما تطيقون ) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها ، إلا إن كنت تطيق أكثر من ذلك ، فزد من الخير مادام قلبك يحب العمل الصالح ، فهذه الوظائف الإيمانية هي الدرجات عند الله ، كلما أكثر العبد منها ارتفع وعلا في مدارج التقوى ، واحسن أداء ما افترض الله عيك ، وستلاحظ أن الأمور قد تغيرت بشكل عجيب ، مع مدوامتك على هذه الوصفة التي وصفت لك ، وستجد نفسك تكره الوقوع في المعاصي ، وستجد قلبك لا يريد فعلها ، وينظر إليها نظرة احتقار وازدراء ، وستحب العمل الصالح ، وتنشط له ، وتشعر بحلاوته في قلبك ، والسر في هذا التغير ، هو أنك عالجت القلب بذكر الله تعالى والعمل الصالح ، فصار صحيحا يريد الخير ويحبه ، بعد أن كان مريضا يريد الشر والسيئات ويحبها ، قال الحق سبحانه ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون ، فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم ) والله أعلم .(/2)
الدولة في الإسلام بين التبعيّة واستقلال التصوّر
د. عبدالله الصبيح 29/4/1427
27/05/2006
تتميز التصورات الكلية في الإسلام بكمالها وشمولها واستغنائها عن سواها من النظم الأخرى. ومن ذلك النظام السياسي الذي تشترط فيه الشريعة الإسلامية أن يقوم على أسس محددة، ومن ذلك قوله تعالى:(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ). [الحج:41]. ومنها قوله تعالى واصفا للمؤمنين: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)[الشورى: من الآية38]. وقوله:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ).[النساء: من الآية58].
وخلط أي نظام في الإسلام مع نظام آخر من غيره هو إخراج له عن حقيقته الإسلامية، أما تطوير التفاصيل والصيغ العملية مع المحافظة على روح النظام ومقاصده فلا شيء فيه، بل هو مما تركته الشريعة للناس ليجتهدوا فيه حسب معطيات عصرهم، فهو من مواطن الاجتهاد التي يُحمد لهم أن يجتهدوا فيها ويُغفر لهم ما أخطؤوا فيه.
والمفاهيم سواء في الإسلام أو في غيره من الأديان والحضارات إنما ترجع إلى إطار معرفي أو (paradigm) في الدين الذي تنتمي إليه، والتلفيق بين المفاهيم المأخوذة من أطر معرفية مختلفة ومتناقضة ينتج عنه لبس في المفهوم الملفق وجور على الإطار المعرفي نفسه.
مثلاً الدولة في الحضارة الغربية يمكن أن تُوصف بأنها مدنية (civil state) أو دينية (theocratic state)، وهذا الوصف له أصوله الفلسفية، وله خلفيته التاريخية الخاصة بالحضارة التي نشأت فيها المصطلحات. الدولة المدنية في التصور الغربي هي نقيض الدولة الدينية، وكلاهما يعكسان إشكالية كان يعيشها المجتمع الغربي في فترة مضت، ولاعلاقة للمفهومين بالنظام السياسي في الإسلام البتة. الدولة الدينية في الحضارة الغربية تعني تحديداً سلطة الكنيسة، وأن الحاكم إنما يعبر عن إرادة الله –عزوجل- ولا يحق لأحد مراجعته، وعلى الشعب التسليم بما يصدر عنه من قرارات، وهي بهذا تستبعد سلطة الشعب في محاسبة الحاكم ومراقبة أدائه. والدولة المدنية نقيض ذلك تماماً فهي تؤكد سلطة الشعب أو سلطة الإنسان، وترفض أي سلطة خارج ذلك بما في ذلك سلطة الدين أو الكنيسة.
ووصف الدولة في الإسلام بأنها دولة مدنية أو دينية (ثيوقراطية) هو في الحقيقة وصف لها بغير ماهي به. إنها مع وجود مرجعيتها الدينية توجب على الشعب محاسبة الحاكم ومراقبة أدائه، وتعد ذلك من النصيحة الواجبة على المسلم لحاكمه. والمرجعية الدينية في الدولة الإسلامية نختلف عن المرجعية الدينية في المفهوم الغربي. المرجعية الدينية في الدولة الإسلامية تعني مرجعية القرآن والسنة، وهما ميسران لكل أحد، وبهذا يحق لكل فرد أن يراجع المفتي أو يراجع الحاكم، ويطالبه بمستنده الشرعي ويراجعه فيه، وهي بهذا مرجعية موضوعية (objective) ميسرة لكل أحد. وهذا يختلف عن مفهوم المرجعية الدينية في الحكومة الدينية في الحضارة الغربية؛ ذلك أنها قائمة على الإلهام (inspiration) ومايقذفه الله في قلب البابا أو الحاكم، فهي مرجعية شخصية (subjective) ترتبط بشخص الحاكم. وهذا النوع من المعرفة يُعدّ في الإسلام هرطقة وضلالاً، ولايمكن أن يكون معرفة دينية منسوبة لله عزوجل.
ومن يصف الدولة في الإسلام بأنها دولة دينية مشبّهاً لها بالدولة الدينية التي نشأت في أوروبا يقع في الحقيقة في خطأ عظيم، فهو مع افتراض حسن نيته يسيء إلى مفهوم الدولة في الإسلام بعرضه على غير حقيقته وتلبيسه بسواه.
والدولة الدينية في أوروبا دولة سيئة السمعة ارتبطت في تاريخها بالاستبداد والتسلط وظلم الناس. بينما الدولة في الإسلام بخلاف ذلك، هي دولة يأمن فيها الخائف وينتصف فيها المظلوم ويُقام فيها العدل.
ومن وصف الدولة الإسلامية بأنها دولة مدنية وقع في خطأ لايقل عن الخطأ الأول، ذلك أن الدولة المدنية الحديثة تنكر حق الله في التشريع، وتجعله حقاً مختصاً بالناس، وهذا بخلاف الدولة الإسلامية، بل إن هذا يخرجها عن كونها إسلامية، ويُسمّى هذا النوع من الحكم في الإسلام بحكم الطاغوت. وكل حكم سوى حكم الله هو طاغوت.
إن تحرير المصطلحات ومراعاة مرجعياتها المعرفية ضرورة يقتضيها استقلال المرجعيات المعرفية عن بعضها البعض.(/1)
وربما اشتبهت الدولة المدنية في ذهن البعض بالمجتمع المدني، فظن أنه يصحّ استخدام مصطلح الدولة المدنية في وصف الدولة الإسلامية. وفي الحقيقة بينهما فرق جوهري. الدولة المدنية -كما قلت- إنما نشأت في مقابل الدولة الدينية، أما المجتمع المدني فنشأ في مقابل المجتمع الذي تديره الحكومة الشمولية من خلال مؤسساتها. فهو مجتمع ينشئه المواطنون أو الأهالي ويرعى قطاعات لاترعاها الحكومة، كروابط المدرسين ونقابات العمال وأصحاب المهن، والمؤسسات الخيرية. هذا المجتمع يرعاه الأهالي، وينفق عليه الأهالي، ويديره الأهالي، وليس للحكومة علاقة به سوى علاقة الإشراف العام المتمثلة في وضع النظم واللوائح ومراقبة تنفيذها. والمجتمع المدني هو أقرب المجتمعات إلى المجتمع في العصر النبوي والخلافة الراشدة. فالحكومة في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي الخلافة الراشدة لم تكن شمولية تسيطر على كل جزئية في المجتمع، وإنما تركت الكثير من شؤون الناس لهم ليديروها حسبما يرون وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية. بل إن التاريخ الإسلامي لم يكن يعرف الدولة الشمولية هذه التي نشأت في أوروبا، وكان الكثير من شؤون الناس ومصالحهم يديرونها هم من غير تدخل من الحكومة. وعلى هذا فالمجتمع المدني هو أحد الخيارات المتاحة أمام المجتمع ولا غضاضة في الأخذ به. وصفة المدنية لاتعني إلغاء حاكميّة الشريعة، كما هو الشأن في الدولة المدنية، وإنما تعني طريقة المجتمع في إدارة شؤونه من غير تدخّل من الحكومة.(/2)
الدين النصيحة
الحمد لله السميع البصير، اللطيف الخبير، أحاط بكل شيء علمًا، ووسع كل شيء رحمة وحلمًا، هو الحليم الشكور، العزيز الغفور، قائم على كل نفس بما كسبت، يحصي على العباد أعمالهم، ثم يجزيهم بما كسبت أيديهم، ولا يظلم ربك أحدًا، هو العلي القدير، العليم بذات الصدور. أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، البشير النذير والسراج المنير، صاحبُ النهج الرشيِد والقول السديد، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد، فيا إخوة الإسلام: اتّقوا الله واخشَوه، ومن يَخْش اللّهَ وَيَتَّقه فأولئك همُ الْفائِزون.
إنَّ خيرَ ما وُعِظت به القلوب وهُذِّبت به النّفوس آياتٌ مِن كتاب الله تعالى أو أحاديث من كلام رسول الله، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ.
فألقوا الأسماعَ، وافتَحوا القلوب، وتفكّروا بالعقول في كلام سيّد البشر؛ لأنّ نبيّنا أوتيَ جوامعَ الكلِم واختُصر له الكلامُ اختصارًا. وقد تكون الكلمة الواحدةُ متضمِّنةً الإسلامَ بتعاليمه كلِّها، كقوله: (الإحسان أن تعبدَ الله كأنّك تراه)، وقوله: (البرّ ما اطمأنّت إليه النّفس واطمأنّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النّفس وتردّد في الصّدر وكرِهت أن يطّلعَ عليه النّاس وإن أفتاك النّاس).
ومِن جوامع كلِمِه النّافعة المباركة التي جمعت الدّينَ الإسلاميّ كلَّه، واستوعبت مصالحَ الدين والدّنيا، قوله: (الدّين النصيحة، الدّين النصيحة، الدّين النصيحة)، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامَّتِهم). قال الإمام النووي عن هذا الحديث: جمع ربع الدين، لا بل جمع الدين كله.
فما مِن خير إلاّ تضمّنته هذه الكلمات، ولا شرٍّ إلا حذّرت منه فألفاظه القليلةُ جمعت المعانيَ النّافعة العظيمةَ الكثيرة. وهذا الكلام النبويّ المبارك فيه حصرٌ وفيه قصر، بمعنى أنّ الدين محصور ومقصور في النّصيحة، فمن اتّصف بالنّصيحة فقد أحرَز الدينَ كلَّه، ومن حُرم النصيحةَ فقد فاته من الدين بقدر ما حُرم من النصيحة.
وتفسير النّصيحة هي القيامُ بحقوق المنصوح له مع المحبّة الصادقةِ للمنصوح له، والحقوقُ تكون بالأقوال وتكون بالأفعال وإراداتِ القلب، قال الأصمعي رحمه الله: "النّاصح الخالص من الغلّ، وكلّ شيء خلُص فقد نصَح"، وقال الخطابيّ: "وأصل النّصح في اللّغة الخلوص، يقال: نصحتُ العسلَ إذا خلّصته من الشّمع".
والنّصح من صفاتِ الأنبياء والمرسلين والمؤمنين، والغشّ والخداع والمكر وفسادُ النوايا من صفات الكفّار والمنافقين، قال الله تعالى عن نوحٍ عليه الصلاة والسلام: (أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون) ، وقال تعالى عن هود عليه السلام: (أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ)، وقال تعالى عن صالح عليه السلام: (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)، وقال عن شعيب عليه السلام: (ياقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِين)، وقال تعالى: (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيل والله غفور رحيم)ٍ، وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "بايعتُ النبيَّ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصحِ لكل مسلم". وروى الطبراني أن جريراً اشترى من رجل فرساً فقال البائع: بثلاثمائة فقال جرير: إنه خير من ثلاثمائة فما زال يزيده حتى أعطاه ثمانمائة، وروى ابن حبان أن جريراً كان إذا اشترى شيئاً أو باعه قال لصاحبه: اعلم أن ما أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناك فاختر.
وروى أبو داود عن أبي هريرة والطبراني عن أنس رضي الله عنهما قال : (المؤمن مرآة المؤمن). أي المؤمن ينصح أخاه ويريه عيوبه كما يرى الإنسان نفسه في المرآة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: (حقّ المسلم على المسلم ستّ: إذا لقيتَه فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجِبه، وإذا استنصَحَك فانصَح له، وإذا عطس فحمِد الله فشمِّته، وإذا مرِض فعُده، وإذا مات فاتبَعه). وعن جبير بن مطعم أنّ النبيّ قال: (ثلاثٌ لا يغلّ عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاصُ العمل لله، ومناصحة ولاةِ الأمر، ولزوم جماعة المسلمين). ومعنى الحديث أنّ هذه الخلال الثلاث تصلح القلوبَ وتطهّرها من الخيانة والغلّ والخبائث.(/1)
وصُلحاءُ هذه الأمّة هم المتّصفون بالنصيحة لله ولكتاب الله ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم، قال أبو بكر المزنيّ رضي الله عنه: "ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحابَ رسول الله بصوم ولا بصلاةٍ، ولكن بشيء كان في قلبِه"، قال: "الذي كان في قلبه الحبّ لله عز وجلّ والنصيحة في خلقه"، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "ما أدرك عندنا مَن أدرك بكثرةِ الصّلاة والصّيام، وإنّما أدرك عندنا بسخاوةِ الأنفس وسلامةِ الصدر والنّصح للأمّة"، وسئل ابن المبارك رحمه الله: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: "النّصح لله"، وقال معمر: كان يقال: "أنصحُ الناس لك من خاف الله فيك"، وقال بعض السلف: "من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوسِ النّاس فإنما وبّخه".
قال بعض أهل العلم: "جماعُ تفسير النّصيحة هو عنايَة القلب للمنصوح له، كائنا مَن كان. وهي على وجهين: أحدهما فرض، والآخر نافلة. فالنّصيحة المفترضة لله هي شدَّة العناية من النّاصح باتباع محبّة الله في أداء ما افترض ومجانبةِ ما حرّم. وأمّا النصيحة التي هي نافلة فهي إيثار محبَّته على محبّة نفسه، وذلك أن يَعرِض أمران: أحدهما لنفسه والآخر لربّه، فيبدأ بما كان لربِّه ويؤخِّر ما كان لنفسِه".
**النّصيحة لله تعالى:
ومعنى النّصيحة لله تعالى هي عبادتُه وحدَه لا شريك له بإخلاصٍ ومتابعة للهدي النبويّ مع كمال الذلّ والخضوع والمحبّة لله عز وجل، وعدمُ الإشراك به في الدعاء أو الذبح أو النّذر أو الاستعانة أو الاستعاذة أو الاستغاثة أو التّوكّل أو الرّجاء أو الرّغبة أو الرّهبة أو أيّ نوع من أنواع العبادة لقول الله تعالى: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا، وقال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَدًا.
والنّصيحة لله تعالى، كذلك، هي الإيمان بصفاتِه جلّ وعلا التي وصف بها نفسَه أو وصفه بها رسوله، وإثباتُها كلِّها لله إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهُه عزّ وجلّ عمّا لا يليق به تنزيهًا بلا تعطيل للصفات، واعتقادُ توحُّده وتفرُّده سبحانه بالخلق والتّدبير وتصريف الكونِ في الدّنيا والآخرة، لقوله تعالى: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، ولقوله عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ، والتقرّبُ إليه بكلّ فريضةٍ ونافلة، ومجانبة محرَّماته، فمَن قام بهذه الحقوق لربّه فقد نصح لخالقه، وفي مراسيل الحسن البصريّ عن النبيّ قال: (أرأيتُم لو كان لأحدكم عبدان فكان أحدُهما يطيعه إذا أمره، ويؤدّي إليه إذا ائتمَنَه، وينصح له إذا غاب عنه، وكان الآخر يعصيه إذا أمَرَه، ويخونه إذا ائتمَنَه، ويغشّه إذا غاب عنه، أيكونان سواء؟) قالوا: لا، قال: (فكذلكم أنتم عندَ الله عزّ وجلّ)، وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبيّ قال: (قال الله تعالى: أحبُّ ما تعبَّدني به عبدي النصحُ لي).
ومِن النّصح لله تعالى محبّة ما يحبّ الله تعالى من الأقوال والأفعال، وبغضُ ما يبغضه الله تعالى من الأقوال والأفعال.
**النّصيحة لكتاب الله:
وأمّا معنى النّصيحة لكتاب الله تعالى فشدّةُ حبِّه وتعظيمُه وشدّة الرّغبة في فهمه والعنايةُ بتدبُّره والاهتمام بحفظه بقدر الاستطاعة وبقدر ما يوفِّق الله تعالى ويعين، ومداومة تلاوته والتخلُّق بآدابه، والتّحاكم إليه، ودعوة النّاس إلى العناية به تعلُّمًا وتعليمًا، وإتقان تلاوته وفهم معانيه والعمل بأحكامه.
** النصيحة لرسول الله:
وأمّا معنى النّصيحة لرسول الله فطاعةُ أمره واجتناب نهيِه وتصديق أخباره وعبادة الله بشرعه ونُصرة سنّته، والعناية بهديه تعلُّما وتعليمًا، وبُغض من يكرَه سنّتَه، والاقتداء به ظاهرًا وباطنًا ومحبتُه أكثرَ من النفس والمال والأهل والولد، والردُّ من العلماء على الأهواء المضلّة بالكتاب والسنّة والذبُّ عن سنّة رسول الله.
** النصيحة لأئمة المسلمين:
ومعناها نصح الأمراء والعلماء، بكفهم عن الظلم وجمع كلمة الناس عليهم وإعانتهم على الخير والنصيحة والدعاءُ لهم بالصّلاح وحبُّ صلاحهم وحبُّ عدلهم ورشدهم وحبُّ اجتماع الكلمة عليهم ومحبةُ نشر حسناتهم وبُغض ذكر مثالبهم وطاعتُهم في طاعة الله ومحبةُ إعزازهم وعدمُ الخروج عليهم بالأقوال أو الأفعال وبُغض من يرى الخروجَ عليهم ومناصحتُهم فيما يعود على الأمّة بالخير في دينهم ودنياهم بالرّفق والحكمة والإخلاص لله تعالى وعدمُ الدعاء عليهم. والنصيحة للعلماء بتوقيرهم ونشر علومهم وإحسان الظن بهم.
**النّصيحة لعامّة المسلمين:(/2)
بأن يحب لهم من الخير ما يحبه لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، وأن يرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم وألاّ يغشهم. وأن يرحم الصغير منهم ويوقّر الكبير ومعاونتُهم على الحقّ وتعليمُهم وأمرُهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وأن يدفعَ عنهم الأذى والمكروهَ والأخطار التي تهدِّدهم.
أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، واخشوا يَومًا تُرجعُون فيهِ إِلى اللَّه ثمَّ توَفَّى كلُّ نفسٍ ما كسَبت وهم لا يُظلمون.
ألا ما أجمل قول الله جل وعلا:
(ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
وتمسكوا بوصيّة سيٍِّد البشر لمعاذ رضي الله عنه لمّا قال له: (اتَّق الله حيثما كنت، وأتبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالق النّاس بخلقٍ حسن).
فإنّ لكلّ حسنةٍ ثوابًا، ولكلّ سيّئة عقابًا، فربّكم قائمٌ على كلّ نفس بما عمِلت، يُحصي على الخلقِ أعمالَهم، ثمّ يدينهم عليها، ويقول في الحديث القدسي: (يا عبادِي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوَفِّيكم إيّاها، فمن وجدَ خيرًا فليحمدِ الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه).
وكلّ إنسانٍ يلقى كتابَه، فآخذٌ بيمينه، وآخذٌ بشماله، قال الله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)، فأعدُّوا لهذا اليوم، وقدِّموا لأنفسِكم أفضلَ ما تقدرون عليه من العمل.
كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم يتناصحون فيما بينهم ويقبلون النصيحة ولو كان الناصح دونهم في السن أو العلم أو الجاه وحذروا من رد النصيحة، قال ابن مسعود في تفسير قوله تعالى: وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم. هو الرجل ينصح أخاه فيقول: [عليك نفسك] أو [مثلك لا ينصحني].
أيها المسلمون: للنصيحة آداب لابد من مراعاتها أهمها:
1. الإخلاص لله تعالى فيها وألا يكون الغرض منها الشماتة في المنصوح والفرح بأنك ظفرت له بعيب فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم، ولا يجوز للمسلم أن يشمت في أخيه المسلم بل يحب له ما يحب لنفسه.
2. أن تكون النصيحة سراً إلا إذا كان المنصوح مجاهراً بالفسق أو البدعة يدعو الناس إليه أو تقتدي به الناس في بدعته أو فسقه فيمكن أن ينصح علناً من باب تحذير المسلمين قال بعض السلف: من نصح أخاه سراً فقد نصحه وزانه ومن نصحه علانية فقد فضحه وشانه.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله:
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التعيير لا أرضى استماعه
3. أن يسلك الناصح أفضل الوسائل التي يرجى معها استجابة المنصوح فيمكن أن يُعرِّض فيقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا) ويمكن أن يهدي إليه شريطاً أو كتاباً، وكذلك على الناصح اختيار الوقت الملائم حتى لا يعين الشيطان على أخيه.
وقد كان لسلفنا الصالح رضوان الله عليهم مواقف إيمانية عظيمة في نصح الحكام لا تأخذهم في الله لومة لائم وهذه نماذج منها:
* دخل محمد بن سيرين على ابن هُبيرة أمير البصرة فقال لابن سيرين: ماذا رأيت مذ قربت من بابنا؟ قال: رأيت ظلماً فاشياً، فغمزه ابن أخيه، فقال: إنك لست تُسأل، ولكن أنا أُسأل، فلما انصرف أرسل إليه الأمير بثلاثة آلاف فلم يأخذها.
ودخل سفيان الثوري على الخليفة المهدي فنصحه وأغلظ له في القول فقال له وزير المهدي: تكلم أمير المؤمنين بمثل هذا؟ فقال له سفيان: اسكت ما أهلك فرعون إلا هامان، فلما ولّى سفيان قال الوزير للمهدي: أتأذن لي أن أضرب عنقه؟ فقال له: اسكت، ما بقي على وجه الأرض من يُستحيا منه غير هذا.
*وكان الإمام النووي رحمه الله كثيراً ما ينصح الظاهر بيبرس، وكان الظاهر يقول: إني أخاف من هذا الرجل، إذا رأيته كأني رأيت سَبُعاً.
*وخرج السلطان أيوب في يوم عيد في عساكر وأبهة والأمراء يقبلون الأرض بين يديه فرآه العز بن عبد السلام فقال: يا أيوب ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر، ثم تبيح الخمور؟ فقال: هل جرى هذا، قال: نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور فقال السلطان: يا سيدي هذا ما أنا عملته هذا من زمان أبي فقال العز: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. فأمر السلطان بإبطال تلك الحانة، فقيل للعز بن عبد السلام: أما خفته؟ فقال: استحضرت هيبة الله تعالى، فكان السلطان في عيني كالقط.
قال السلف رحمهم الله: من خاف الله تعالى أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله تعالى أخافه الله من كل شيء.(/3)
• ... هاهو عمر بن عبد العزيز،عليه رحمات رب جليل، يعود يومًا بعد صلاة العشاء إلى داره -وهو خليفة المسلمين، مقدرات الأمة بين يديه- يلمح بناته الصغار، فيسلم عليهن كعادته، وكنّ يسارعن إلى تقبيله، لكنهن هَرَبْنَ هذه المرة، وهنَّ يغطين أفواههن، فقال لزوجه: ما شأنهن ؟ قالت: لم يكن لديهن ما يتعشين به سوى عدس وبصل، فكرهن أن تشم من أفواههن رائحة البصل، فبكى وأجهش بالبكاء، ميزانية الأمَّة تحت يديه، يقول: يا بنياتي أينفعكن أن تتعشين أطيب الطعام والشراب، وتكتسين أجمل الثياب من مال الأمة، ثم يُؤمر بأبيكن إلى النار؟ قلن: لا، لا، ثم اندفعن يبكين. فلا والله لا تسمع في البيت إلا الحنين والأنين. لما حلَّت به سكرات الموت –عليه رحمة الله- دخل عليه [مسلمة] وقال : لقد تركت أبناءك فقراء جوعى فأوصِ بهم إلىَّ أو إلى أحد من أهل بيتك، وكان مُضَّجعًا قال: أسندوني، ثم صرخ، والله ما منعت أبنائي حقًا لهم، والله لن أعطيهم ما ليس لهم، أما أن أوصي بهم إليك أو إلى غيرك فلا، إن وصيَّ وولِيَّ فيهم الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، إن بنىَّ أحد رجلين ؛ إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وإما رجل مكبٌّ على المعاصي فوالله لم أكن لأقويه على معصية الله، ثم طلب جميع أولاده وهم بضعة عشر فاجتمعوا، فنظر إليهم، ثم ذرفت عيناه دموعًا حرَّى، وقال: أفديكم بنفسي أيها الفتية الذين تركتهم فقراء لا شيء لهم، يا بني إن أباكم خُيِّر بين أن تستغنوا ويدخل النار، أو تفتقروا ويدخل الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار، إن وليَّي فيكم الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، ثم تلا: (تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا للذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوا فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
عباد الله كلنا في امتحان، فبين راسب وناجح، والمادة هي لا إله إلا الله، محمد رسول الله، بين عامل بمقتضاها قائم بأركانها وشروطها وواجباتها، قالها موقنا محبًا منقادًا مستسلمًا، صدَّقها قلبه، وعملت جوارحه بها، فهو الناجح، وأي نجاح !. وآخر قالها بلسانه وما صدقها بالعمل، فهو الراسب المنافق. وآخر لم ينطقها، فإلى جهنم وبئس القرار. هاهي رسالة امتحان، تأتي لصلاح الدين من أحد المسلمين على لسان المسجد الأقصى الأسير في يد الصليبين يوم ذاك، واليهود اليوم مع الصليبيين، تقول الرسالة وهي امتحان واختبار لصلاح الدين:
يا أيها الملك الذي *** لمعالم الصلبان نكَّس
جاءت إليك ظِلامَةٌ *** تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طهِّرت *** وأنا على شرفي منجَّس
امتحان لصلاح قام صلاح الدين فيه يصوم نهاره، ويقوم ليله، ويشحذ هِمَمَ الأمة الإسلامية، ويصدر أوامره ألا يضحك أحد، ولا يمزح أحد، ولا يفكر أحد إلا باسترداد بيت المقدس، ويقودها حملة لا تبقي ولا تذر بعد استعداد جيد للامتحان، فيدمر الصليب، ويحرر فلسطين والمسجد الأقصى؛ ليكون قدوة لمن يريد استعادة الأقصى السليب. ثم ماذا بعد صلاح الدين أيها الأخوة ؟ استيقظ اليهود يوم نمنا فدنَّسوه، ودخلوا إلى قبر صلاح الدين ورفسوه، وقالوا: ها قد عدنا يا صلاح الدين، فيا ليت صلاح الدين يرى المؤامرات على أقصانا، وما هدم العدو وما استباح، ليته يرى كيف بغى اليهود، وكيف أحسنَّا الصياح. إن أسئلة الامتحان التي قُدِّمت لصلاح الدين، أسئلة الآن تُقدَّم لنا، لكن صلاح الدين حلَّ الأسئلة بنفسه، ونحن أحلنا حلَّ الأسئلة إلى غيرنا، فكان ما كان.
سقوا فلسطين أحلامًا منوِّمَة *** وأطعموها سخيف القول والخُطَب
وإن عرف التاريخ أوسًا وخزرجًا *** فلِلَّه أوس قادمون وخزرج
*كان الرشيد يكثر من صلاة النافلة إلى أن فارق الدنيا، وكان يتصدق وينفق على الحجيج من صلب ماله، وكان يحب الشعر والشعراء، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء فى الدين، ويسرع الرجوع إلى رحاب الحق إذا ذكر. حدث أنه حبس أبا العتاهية الشاعر، ووكَّل به رجلا يكون قريبًا منه لينظر ما يقول ويصنع، فكتب أبو العتاهية على الحائط:
أما والله إن الظلم لؤم وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
فجاء الرجل فأخبر هارون الرشيد، فبكى الرشيد، وأطلق أبا العتاهية واعتذر إليه واسترضاه.(/4)
وحج ذات مرة، فرآه الناس وقد تعلق بأستار الكعبة يقول: "يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، صلّ على محمد وعلى آل محمد، واغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا؛ يا من لا تضره الذنوب، ولا تخفى عليه العيوب، ولا تنقصه مغفرة الخطايا، صلّ على محمد وعلى آل محمد. يا من خشعت له الأصوات بأنواع اللغات، يسألونه الحاجات، إن من حاجتي إليك أن تغفر لي ذنوبي إذا توفينني، وصُيِّرت في لحدي، وتفرق عنى أهلي وولوا؛ اللهم لك الحمد حمدًا يفضل كل حمد، كفضلك على جميع الخلق؛ اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد صلاة تكون له رضا، وصلّ عليه صلاة تكون له ذخرًا، واجزه عنا الجزاء الأوفى. اللهم أحينا سعداء، وتوفنا شهداء، واجعلنا سعداء مرزوقين، ولا تجعلنا أشقياء مرجومين".
قال الفضل بن الربيع: حج الرشيد فبينما أنا نائم ذات ليلة إذ سمعت قرع الباب فقلت مَن هذا؟ قيل أجب أمير المؤمنين. فخرجتُ مُسرعاً فوجدت الرشيد فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلىَّ أتيتك. فقال ويحُك قد حاك في نفسي أمر لا يخرجه إلا عالم فانظر لي رجلاً أسألهُ عنه فقلت يا أمير المؤمنين ها هُنا سفيان بن عُيينة قال فامضِ بنا إليه فأتيناهُ فقرعنا عليه الباب فقال مَن هذا ؟ فقلت أجب أمير المؤمنين فخرج مُسرعاً وقال يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي لأتيتك فحادثه ساعة ثم قال له " عليك دَين؟ قال : نعم. قال يا عباس اقضِ دينه.
ثم انصرفنا فقال: ما أغنى عني صاحبُك هذا شيئاً فانظر لي رجلاً أساله، قلت ها هُنا عبد الرزاق بن هُمام واعظ العراق فقال امضِ بنا إليه نسأله فأتيناه فقرعنا عليه الباب فقال: من هذا فقلت أجب أمير المؤمنين فخرج مُسرعاً وقال يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلى أتيتك فحادثه ساعة ثم قال لهُ: عليك دين قال نعم. قال يا عباس اقضِ عنه دينه. ثم انصرفنا فقال ما أغنى عني صاحبُك شيئاً فانظر لي رجلاً أسأله قال فقلتُ ها هُنا الفضيل بن عياض قال امضِ بنا إليه فأتيناه فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من كتاب الله عز وجل ويرددها فقرعتُ الباب فقال من هذا؟ فقلت أجب أمير المؤمنين فقال مالي ولأمير المؤمنين فقلتُ سبحان الله أما تجِب عليك طاعته؟ فقال أو ليس قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّهُ قال: " ليس لمؤمن أن يذل نفسه"؟ وفتح الباب ثم ارتقى إلى أعلى الغرفة مُسرعاً فأطفأ السراج والتجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كفُ الرشيد إليه فقال: أُوّاهُ ما ألينها من يدٍ إن نَجَت غداً من عذاب الله! فقلت في نفسي ليكلمنه الليلة بكلامٍ نفيس من قلب تقي. فقال حدثنا لما جئنا له.ُ قال: وفيم جئت حملت على نفسك وجميع من معك حملوا عليك حتى لو سألتهم عند انكشاف الغطاء عنك وعنهم أن يحملوا عنك شقصاً من ذنب ما فعلوا ولكان أشدهم حباً لك أشدهم هرَباً منك ثم قال إنّ عمر بن عبد العزيز لما وُلي الخلافة دعا سالم بن عبد الله بن عمر ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة وقال لهم إني قد اُبتليتُ بهذا البلاء فأشيروا عليّ فعدّ الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة.
فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة من عذاب الله فصُم عن الدنيا وليكن إفطارك فيها على الموت.
وقال له محمد بن كعب إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين لك أباً وأوسطهم لك أخاً وأصغرهم لك ولداً فبرَّ أباك وارحم أخاك وتحنن على ولدك.
وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك ثم متى شئت مُت.
وإني لأقول لك هذا وأني أخاف عليك أشدّ الخوف يوم تزلُ الأقدام فهل معك يرحمك الله مثل هؤلاء القوم يأمرك بمثل هذا؟ قال فبكى هارون الرشيد بُكاءً شديداً حتى غَشِيَّ عليه فقلت ارفق بأمير المؤمنين فقال يا ابن الربيع قتلته أنت وأصحابك وأرفق أنا به؟
ثم أفاق فقال: زدني فقال يا أمير المؤمنين بلغني أنّ عامِلاً لعمر بن عبد العزيز شكا إليه السهر فكتب إليه عمر يقول: يا أخي اذكر سهر أهل النار في النار وخلود الآباد فيها فإن ذلك يطرد بك إلى ربك نائماً ويقظان وإيّاك أن تزل قدمك عن هذا السبيل فيكون آخر العهد بك ومنقطع الرجاء منك والسلام. فلما قرأ كتابه طوى البلاد حتى قَدِمَ عليه فقال له عمر ما أقدمك؟ قال خلعت قلبي بكتابك لا وليت لك ولاية أبداً حتى ألقى الله سبحانه وتعالى.(/5)
فبكى هارون الرشيد، ثم قال: زدني يرحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين أنّ جدك العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم جاءه، فقال: يا رسول الله أمرني على إمارة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا عباس يا عم النبي نفس تُحييها خير من إمارة لا تحصيها إن الإمارة حسرّة وندامة يوم القيامة فإن استطعت أن لا تكون أميراً فافعل، فبكى هارون بكاءً شديداً ثم قال: زدني يرحمك الله، فقال: يا حَسَن الوجهِ أنت الذي يسألك الله عز وجل يوم القيامة عن الخلق، فإن استطعت أن تقِي هذا الوجه من النار فافعل وإيّاك أن تُصبح أو تُمسي وفي قلبك غش لرعيتك. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَن أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة " فبكى هارون بكاءً شديداً ثم قال: أعليك دَين؟ قال نعم دَين لربي يُحاسبني عليه فالويل لي إن سألني والويُل لي إن لم يلهمني حجتي، فقال هارون: إنما أعني دَينَ العباد فقال إن ربي لم يأمرني بهذا وإنما أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره، فقال تعالى: "وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون ما أُريد منهم مِن رزقٍ وما أريدُ أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوّة المتين". فقال له الرشيد: هذه ألف دينار خُذها فأنفقها على عيالكِ وتقوَّ بها على عبادة ربّك. فقال فضيل: سبحان الله أنا أدلك على النجاة وتُكافئني بمثل هذا سلّمك الله، ثم صمت فلم يكلمنا فخرجنا من عنده فقال لي الرشيد: إذا دللتني على رجُلٍ فدلني على مثل هذا فإنّ هذا سيّد المؤمنين اليوم.
ويروى أن امرأة من نسائه دخلت عليه فقالت : يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال فلو قبلت هذا المال لأنفرجنا به، فقال: إن مثلي ومثلك كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه فلما كبُر نحروه وأكلوا لحمه، موتوا يا أهلي جوعاً ولا تنحروا فضيلاً. فلما سمع الرشيد ذلك قال: أدخل بنا فعسى أن يقبل المال، قال: فدخلنا فلما عَلِمَ بنا الفضيل خرج فجلس على السطح فوق التراب فجاء هارون فجلس إلى جنبه فكلمه فلم يرد عليه فبينما نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت له: يا هذا قد آذيت الشيخ منذ أتيته فانصرف يرحمُك الله راشداً، فانصرفنا. ,قال القاضي ابن خِلّكان في ترجمة الفضي رحمه الله: فبلغ ذلك سفيان بن عُيينة فجاء إليه وقال له: يا أبا علي قد أخطأت في ردَّك البدرة (الألف دينار) ألا أخذتها وصرفتها في وجوه البَّرِ فأخذ بلحيته وقال: يا أبا محمد أنت فقيهُ البلد والمنظور إليه وتغلط مثل هذا الغلط لو طابت لأولئك لطابت لي.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبُّه بالكرام فلاح
أيها المسلمون: لما جَبُن الناس عن النصيحة، فشت فيهم الغيبة فصاروا إذا رأى أحدهم عيباً في أخيه لم ينصحه في وجهه بل فضحه به في غيابه والغيبة من كبائر الذنوب.
والعمل الصالح -أيها الإخوة - لا بد فيه من الإخلاص، إن من أشد المفسدات، ومانعات القبول، ومبعدات التوفيق عدم الإخلاص والإشراك في النية والمقاصد، وفي الحديث: (إياكم وشرك السرائر، يقوم رجل فيصلي، فيزين صلاته جاهدًا لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر).
وإذا كان الرياء هو العمل لأجل الناس، فإن هناك نوعًا خطيرًا ذلكم هو العمل لأجل النفس وحظوظها، لا لأجل الله وابتغاء مرضاته والأمل فيما عنده، إن من عدم التوفيق أن يعمل العبد ليرضي نفسه، ويبتغي حُظوظ دنياه، يصوم ويتصدق ويتزهد ويتورع لما يرجو من الدنيا وغاياتها.
الإخلاص -حفظك الله- أن يستوي حال الظاهر والباطن، عبدُ الله المخلص يعمل عمله لله سواء رآه الناس أم لم يروه، وسواء كان له حظ من حظوظ الدنيا أو لم يكن، فليس له توجهٌ إلا لله، وليس له طمع إلا في جنة الله، وليس له غاية إلا في رضوان الله، ليس له هرب إلا من سخط الله، وليس له حذر إلا من عذاب الله.
عبادَ الله، إنّ الله أمرَكم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا[الأحزاب:56]، وقد قال: (من صلى عليَّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا).
[الجمعة:2]
رواه مسلم من حديث عمر رضي الله عنه
رواه أحمد وروى مسلم بعضه
رواه مسلم من حديث تميم الداري رضي الله عنه
َ[الأعراف:62]
[الأعراف:68]
[الأعراف:79]
[الأعراف:93]
[التوبة:91]
رواه البخاري ومسلم
[صححه الألباني صحيح الجامع 6655]
رواه مسلم
رواه أحمد وابن حبان
[النساء:36]
[الجن:18]
[الأعراف:54]
[آل عمران:128]
خرجه ابن أبي الدنيا
رواه أحمد
[الأنفال:24، 25]
[الإسراء:13، 14]
رواه ابن خزيمة في صحيحه(/6)
الديكتاتورية
د.خالد الأحمد *
الديكتاتورية عكس الديموقراطية :
والديكتاتورية في الاستعمال الحديث تشير إلى نظم الحكم التي تسمح لفرد أو منصب أو حزب أن يكون له من القوة والسلطة ما يجعله يسيطر سيطرة تامة على الدولة فيقرر منفرداً كل التحركات والقرارات السياسية ، وأن يفرض الطاعة على كل المواطنين ليقبلوا صاغرين كل ما يصدر عنه من تحركات وأفعال . ومن أمثلته النظام السوري ، الذي يجعل حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع ، ثم تخطى ذلك فجعل الوحدات الأمنية تقود الدولة والمجتمع والحزب ، ثم جعل الرئيس حافظ الاسد يقود الجميع ، ولايراجعه لاحزب ولاوحدات أمنية ولا أحد ...
الأصل التاريخي :
أما الأصل التاريخي للمصطلح فيرجع إلى عصر الجمهورية الرومانية حيث جرى العرف على اختيار أحد القضاة في وقت الأزمات المدنية أو العسكرية ومنحه سلطات واسعة وغير محدودة طوال فترة الأزمة ،كما عهدنا في سوريا يسمى ( الحاكم العرفي ) ... فالديكتاتورية تاريخياً كانت منصباً ، ولكنها الآن تشير إما إلى شكل الحكم في النظام السياسي أو إلى أيديولوجية تتشكل بها طريقة الحياة لمجتمع ما .
ويرادف بعض علماء السياسة المعاصرين بين لفظ الديكتاتورية وألفاظ مثل : طغيان ، استبداد ، أوتوقراطية ، قيصرية ، تسلطية ، وشمولية ، ويعترض بعض المفكرين على الموازاة بين الديكتاتورية والاستبداد بالتحديد على أساس أن النظم الديكتاتورية تتخذ خطوات إيجابية في سبيل التمكين للقهر ، في حين أن النظم الاستبدادية تتبع أسلوباً سلبياً في قهرها للمحكومين ، فنظم الحكم الديكتاتورية تقوم أساساً على إصدار الأوامر التعسفية مطالبة المواطنين بوجوب طاعتها والالتزام بتنفيذها ، في حين أن السمة الأساسية للنظم الاستبدادية هي إقامتها للعراقيل في وجه الحريات السياسية .
السمات المميزة للنظم الديكتاتورية :
1- التحكمية في ممارسة السلطة وقصرها على أشخاص معينين أو فئة محددة وغياب أي توزيع للسلطة .
2- إلغاء كل المؤسسات أو الجمعيات السياسية والاجتماعية التي قد تلعب دوراً مؤثراً فتشكل منافساً لمن هم في السلطة.
3- تركيز كل القوى السياسية في يد فرد أو نخبة وإقامة جهاز حكم يكرس احتكار السلطة هذا .
4- إلغاء أو إهمال القاعدة التشريعية للسلطة السياسية فعادة ما يلغى الدستور في مثل هذه النظم ليحل محله بناء قانوني جديد يخدم الطبقة الحاكمة ويضحى أداتها الأساسية في الحكم ، ويرتبط بهذه السمة صعوبة ، إن لم يكن استحالة ، تنظيم عملية خلافة الديكتاتور القائم بصورة قانونية دستورية .
5- إلغاء الحريات المدنية أو تقييدها بدرجة كبيرة .
6- سيطرة الانفعالية والاندفاعية على عملية صنع القرار .
7- استخدام وسائل استبدادية لتحقيق التحكم السياسي والاجتماعي تبدأ من الدعاية وفرض واجب الطاعة إلى التخويف والاستخدام الفعلي لوسائل الإرهاب والقمع .
8- قتل المعارضين من الدرجة الأولى في مذابح جماعية ، كما فعل النظام الاسدي في مجزرة تدمر الأولى (1980) ، ومجزرة تدمر المستمرة التي دامت عقد الثمانينات كله وقتل فيها بضعة عشر ألفاً من خيرة أبناء الشعب السوري ، ومثل مجازر حماة ، وجسر الشغور وهنانو وغيرها كثير .
9- الاكثار من السجون ، وايداع الفئة الثانية من المعارضين في السجون . وقد أنفق النظام السوري على السجون ووحدات الأمن أضعاف ما أنفقه على التعليم العام والعالي ...
وهناك تصنيفات عدة للديكتاتورية أشهرها :
1- تصنيف شميت الذي يميز بين ديكتاتورية وقتية أو مشروطة والتي تتسم بتفويض الحاكم سلطات مطلقة في حالات الطوارئ كما سميناه الحاكم العرفي .
2- وديكتاتورية الحاكم وتهدف إلى إحداث تغيرات جذرية في كل أوجه الحياة الاجتماعية والسياسية وسماها بعضهم ديكتاتورية العادل ، [ وهذا تناقض ] .
ولكن ينتقد البعض هذا التصنيف على أساس أنه لا يكون مثمراً عند تطبيقه على التنويعات المختلفة للنظم الديكتاتورية في الأحقاب التاريخية المتعاقبة والحضارات المتنوعة
3- تصنيف نيومان الذي يفرق بين ديكتاتورية بسيطة أو معتادة ويمارس فيها الحاكم تحكماً مطلقاً وسيطرة تامة على أدوات السلطة التقليدية في النظام .
4- والديكتاتورية القيصرية ويحتاج فيها الحاكم إلى مساندة قطاعات عريضة من الشعب حتى يحصل على السلطة أولاً وكذلك يحتاج إلى استمرار هذه المساندة وإلى القيام بإصلاحات اقتصادية واجتماعية واسعة حتى يستطيع أن يدعم من سلطاته ثانياً .
وقد استخدم حافظ الأسد حزب البعث في البداية ، وصعد على سلم الحزب ، ثم رفسه وحاربه ، واستخدم سلم الطائفة العلوية ، حتى صعد عليها ، ثم رفسها وحاربها ، واستخدم سلم الأسرة الأسدية ، وحصر السلطة أخيراً في أولاده من بعده ...
5- والديكتاتورية الشمولية حيث يمارس الحاكم مهام الحكم بمساعدة جهاز سلطوي يسيطر عليه حزب واحد وحركة اجتماعية واسعة . ومن أمثلته النظام السوري الأسدي .
ديكتاتورية البروليتاريا :(/1)
ويرى بعض المفكرين أن الديكتاتورية يكون مرغوباً فيها أحياناً وفي ظل ظروف معينة ، فنجد المفكر الثوري الفرنسي بلانكوي يتحدث عما أسماه بالديكتاتورية الثورية فيعني بها الانقلاب الذي تقوم به الصفوة ، وليس ثورة جموع الشعب ، ويصف انقلاب أو ثورة الصفوة هذا بأنه الوسيلة الوحيدة والمضمونة للقضاء على الرأسمالية وآثارها ، وهو يرى أن هذه الصفوة التي تقوم بالانقلاب لابد أن تمسك بنصاب الأمور في الدولة ، ولو مؤقتاً ، فتشكل نظام حكم نخبوي ديكتاتوري يرسم برنامجاً ثورياً يطرحه على الناس ويفرضه عليهم في حالة عدم رضائهم عنه وعدم رغبتهم في مساندته .
ولم يقتصر أثر البلانكوية على الأجيال المتتالية من الراديكاليين الفرنسيين ولكنه امتد أيضاً إلى ماركس الذي تعاطف مع لبّ الدعوة وإن كان قد رفض الاتجاهات النخبوية فيها وعدم إيلائها اهتماماً كافياً للطبقة العاملة .
ولكن بلانكوي نفسه أظهر في مرحلة متأخرة اهتماماً بإيجاد قاعدة من الطبقة العاملة لمفهومه الثوري ، وكان هذا الاهتمام هو الذي أوحى للماركسية بمفهوم [ ديكتاتورية البروليتاريا ]، ولقد أصبح هذا المفهوم شائعاً في الفكر الماركسي بعد ماركس ، وخاصة في كتابات لينين ، حيث أضحى له دلالة معينة هي إشارته إلى طبيعة السلطة في الدولة الشيوعية في الفترة الانتقالية من مرحلة الثورة إلى مرحلة المجتمع الشيوعي الحقيقي ، ويرى أنجلز أن البروليتاريا تمارس سلطات ديكتاتورية بغرض تحقيق التحكم في وسائل الإنتاج وعندما يحدث هذا تختفي البروليتاريا كطبقة وتختفي من ثم الديكتاتورية ، كما أن ماركس كان يؤمن أيضاً أن ديكتاتورية البروليتاريا هي وسيلة تساعد على تحقق غاية فناء الدولة وهو هدف الشيوعية الأسمى، ويستخدم هذا التحليل من الناحية العملية لإضفاء الشرعية على الأحزاب الشيوعية الحاكمة ولتبرير السلطات السياسية الواسعة التي تمارسها تلك الأحزاب بحجة أن الأحزاب الشيوعية الحاكمة إنما تحكم باسم البروليتاريا وان سلطاتها التحكمية هي وسيلة في سبل تحقيق هدف الحركة الشيوعية الأسمى .
والواقع أن الشرعية هي إحدى المشكلات المحورية في النظم الديكتاتورية ، ومعظم النظم الديكتاتورية تلجأ إلى البناء القانوني الذي خلفته ابتداء لتستمد منه شرعية وجودها وأساليب حكمها ، ثم هناك بعض النظم الديكتاتورية التي تلجأ إلى العادات والتقاليد والأعراف والقانون الطبيعي لتبرر وجودها وعندما تفشل تلجأ إما إلى العزف على وتر أن الممارسة التحكمية للسلطة هي وسيلة مشروعة في مرحلة بناء الدولة ، أو تلجأ إلى تكريس أيديولوجية ميتافيزيقية تبرر النظام الديكتاتوري القائم بوصفه جزءاً من نظام كوني محددة معالمه مسبقاً ومقضي قيامه في هذا الوقت وعلى هذا الشكل إما وفقاً لقواعد القضاء والقدر أحياناً أو وفقاً لنظرية النشوء والترقي أحياناً أخرى ، ويعد العامل الكاريزماتي [ القائد الفذ ] أيضاً أحد أهم العوامل المستغلة في إكساب النظام الديكتاتوري قدراً من الشرعية خاصة في تلك النظم التي تحاول إقامة واجهة ديمقراطية برّاقة لها مثل النظم الشمولية .
الديكتاتورية المعاصرة [ ديكتاتورية تنموية ]:
ويهتم العديد من الباحثين السياسيين بدراسة ظاهرة الديكتاتورية في دول العالم الجديد التي نالت استقلالها حديثاً ، ويضع هؤلاء الباحثون أسباباً عديدة لهذه الظاهرة رغم اتباع معظم هذه الدول – ظاهرياً – لأشكال حكم ديمقراطية برلمانية ، ومن أهم الأسباب المذكورة في هذا الصدد هو أن الاتباع العملي لوسائل حكم ديكتاتورية هو ميراث فترة طويلة من الخضوع لاستعمار كان يمارس نفس أساليب الحكم السلطوية تلك ، ومن الأسباب المذكورة أيضاً أن الممارسة الديمقراطية الحقة لا يمكن قيامها إلا في دول تعرف طبقة وسطى عريضة مستقرة ومبادئ سياسية واجتماعية مستتبة وقنوات اتصال كفء تعمل في الاتجاهين أي بين الحاكمين والمحكومين والعكس ، وأن هذه المتطلبات غير متوافرة في معظم الدول الحديثة الاستقلال مما يجعل الأساليب الديمقراطية تبدو دخيلة ومستوردة وغريبة على البنيان الاجتماعي الموجود ، ثم هناك سبب آخر يطرحه هذا الفريق من الباحثين ان الطبقة المتعلمة في معظم تلك الدول تؤمن أن التطور الصناعي الجذري والسريع كإحدى وسائل تحقيق الرفاهية الاجتماعية لا يمكن أن يتم في ضوء الظروف المتاحة إلا عن طريق نظام حكم تسلطي ، ويخلص هؤلاء الباحثون إلى أن كل هذه الأسباب أو بعضها يؤدي إلى قيام هذه الدول بالأخذ بنظام الحزب الواحد المدعوم بمساندة المؤسسة العسكرية والهيكل البيروقراطي وحيث يكون على قمة هذا الهرم التسلطي زعيم كاريزماتي .
ويطلق الباحثون على هذه النظم اسم " الديكتاتورية التنموية " (Development Dictatirship ) .
مناقشة :(/2)
وهذا التوجه السلطوي لا يتعامل بمنطق الصالح والأصلح والنافع والأنفع، وإنما بمنطق التهريج والتدجيل والتزمير والتطبيل ، الذي لا يجيده إلا فئة طفيلية درجت على الفساد وإهدار الكرامة وامتصاص الدماء، ولا يتعامل بمنطق الحجة والبينة وإنما بمنطق البندقية والمدفع ، ولهذا تجد التوجهات الفاعلة لا تجد لها مكاناً في الأمم المتخلفة لأنها محجوبة بكثير من السدود والقيود ومحاطة بجدران من التعتيم والتسفيه والتشويش ، ومسلسلة بقيود من الإرهاب والقهر ، ولهذا فهي لا ترى النور أو تستنشق نسيم الحياة الكريمة ، ولا يشفع لها عقل ناضج ، أو فكر مستنير أو عزيمة قوية أو تجربة ناضجة ، أو أمانة حافظة ولا تستطيع الأمة أن تختارهم أو تقدمهم أو ترشحهم أو تبرزهم .
والأمم المتخلفة يخترع لها سادتها نظاماً يناسب هذا التخلف ويواكب هذا الضياع يتخلص في القول الضال : اعصب عينيك وسر وأنت أعمى ، لأن العقل عندهم رذيلة ، والحرية جريمة ، والعبقرية ثورة ، العالم يتسابق في الإنتاج ويواصل التجويد والاختراع وهم عالة يتباهون بالاستملاك ويعيشون أحلام اليقظة .
الأمم الناهضة يعمها الرخاء والنماء ويخجلون ويعترفون إن وقعت منهم صغيرة ، وهم [ الديكتاتوريون ]غلاظ الأكباد عراض الأقفية لا يتجرون ولا يستحيون إذا جلبوا الكبائر والدواهي ورغم ذلك يوصفون بالعبقرية ، وينعون بالملهمين ، ويصب على رؤوسهم المديح صباً ، ويكال لهم الثناء كيلاً .
يرشحون بغير منافس ويفوزون بالتزكية ، ويظلون على قلبها جاثمين .
الأمم تحرص على تربية أبنائها وتعليمهم وتدريبهم لمواكبة عصورهم ومقارعة ومنازلة خصومهم في مجال التكنولوجيا والبحث العلمي وتسخر لذلك كل الوسائل الإعلامية والعلمية والتربوية ، وهؤلاء يحرصون على تهميشهم وإلهائهم ، وتدجينهم ، وملاحقتهم ، وتحطيمهم ، وتسخير كل الوسائل الإعلامية والثقافية لذلك ، القيادات في العالم المتحضر تنتقي من العبقريات الفكرية والاجتماعية والعسكرية قادة ، حتى تستطيع أن تحقق طموحات أممهم وتستطيع حمل المسؤولية وإدارة دفة البلاد بكفاءة وقوة وفاعلية .
والقيادة في العالم المتخلف لا تنتخب ولا تنتقى ولكن تفرض ، ولا تكون من العبقريات ، وإنما من الجلادين والأبالسة ، لتستطيع إحراق الأخضر واليابس ، وجمع الأموال بغير حق أو ضمير ونزع اللقمة من أفواه الجياع ، والتلهي بجراح المنكوبين ومصائبهم ، لك الله أيتها الشعوب المسكينة ، فلن ينفعك إلا سواعدك وعزماتك ، وأملك في الله وفي منهجه ، ويساعدك على ذلك يقظة للأمة على يد رواد كرام :
( صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) [الأحزاب/23] .
لينقشع الغبار وتزول الغُمة : (ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله) [الروم/4،5] .
خاتمة :
ويشهد القرن الحادي والعشرين الميلادي ، تململ الشعوب ، وتحركها ضد الديكتاتورية ، فقد تخلصت رومانيا من ( تشاوشسكو ) ،الذي كانت زوجته نائبه الأول في السلطة ، وولده نائبه الثاني ... وتخلص العراق من (صدام ) ، وتخلصت تشيكوسلوفاكيا وسائر دول أوربا الشرقية من النظام الشيوعي [ الديكتاتاوري ] ...
كما ذاب الاتحاد السوفياتي وعبرت [ البروستوريكا ] عن إعادة البناء بلبنات ديموقراطية وغير ديكتاتورية ...
وفي العالم العربي صحوة إسلامية ضد الديكتاتورية ، تنادي بالديموقراطية للتخلص من الديكتاتورية ... وإن غداً لناظر ه قريب ...
----------------
* كاتب سوري في المنفى(/3)
الديموقراطية والطريق إلى التهلكة حسين أبو بكر إدريس*
ارتفع القرآن بالدين من عقائد الكهانة والوساطة والنار، والمحاريب إلى عقائد الرشد والهداية.. والإنسان أهل للكمال والنقص؛ فهو أهل للخير، وأهل للشر؛ لأنه أهل للتكاليف.. والإنسان مسؤول عن عمله فرداً وجماعة؛ لا يؤخذ واحد بوزر آخر، ولا أمة بوزر أمة: (كل امرئ بما كسب رهين ) .
مناط المسؤولية جامع لكل ركن من أركانها، يتغلغل إليه فكر الباحثين عن حكمة التشريع الديني، أو التشريع في الموضوع؛ فهي بنصوص الكتاب قائمة على أركانها المجملة - تبليغ، وعلم، وعمل - قال تعالى: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون)، وقال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً).
إن القرآن الذي ميز الإنسان بخاصة التكليف هو الكتاب الذي امتلأ بخطاب العقل بكل ملكة من ملكاته؛ فالعقل وازع (يعقل) صاحبه عما يأباه له التكليف.. العقل فهم وفكر يتقلب في وجوه الأشياء، وفي بواطن الأمور.. والعقل رشد يميز بين الهداية والضلال.. والعقل رؤية وتدبير.. والعقل بصيرة تنفذ وراء الأبصار.. والعقل ذكرى تأخذ من الماضي للحاضر، وتجمع العبرة مما كان لما يكون، وتحفظ وتعي وتعيد الذكرى.. إذاً فالعقل بكل هذه المعاني موصول بكل حجة من حجج التكليف، وكل أمر بمعروف، ونهي عن محظور.
أفلا يعقلون؟ أفلا يتفكرون؟ أفلا يبصرون؟ أفلا يتدبرون؟ أليس منكم رجل رشيد؟ أفلا تتذكرون؟.. إن هذا العقل بكل عمل من أعماله التي يناط بها التكليف حجة على المكلفين فيما يعنيهم من أمر الأرض والسماء، ومن أمر أنفسهم، ومن أمر خالقهم وخالق الأرض والسماء؛ لأنهم وكما يقول تعالى: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار ) .ِ
إذاً فنعمة العقل نعمة وهبها الله للإنسان تمييزاً بين سائر المخلوقات.. هذا الإنسان الذي قبل بحمل أمانة التكليف كما في قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)، ويراد بها التكليف كما يراد بها الطاعة؛ لأنها لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء.
إذاً فالإسلام لا يعذر إنساناً يعطل عقله ليطيع السادة المستكبرين أمثال سادة الغرب، ولا أحبار المتسلطين بسلطان المال والدين أمثال الصهاينة والنصارى.. قال تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) إذاً فالأمانة تكون في التكليف، والمساواة في التقوى كما في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) .
إذا كانت البشرية قد تعددت شعوباً وقبائل كما جاء في الآية الكريمة فإنما هذا التعدد أقوى الأسباب لإحكام صلة التعارف بينها، وتعريف الإنسانية كلها بأسرار خلقها؛ فإن تعدد الشعوب والقبائل يعدد المساعي والحيل لاستخراج كنوز الأرض، واستنباط أدوات الصناعة على حسب المواقع والأزمنة، وعلى حسب الملكات والعادات التي تتفتق عنها ضرورة العيش والذود عن الحياة؛ فينجم عن هذا ما لا بد أن ينجم منه من تعدد الحضارات، وأفانين الثقافة، وتزداد الإنسانية عرفاناً بأسرار خلقها، وعرفاناً بخالقها، واقترابا فيما بينها؛ قال تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين).. وهذا هو حكم القرآن في وحدة بني الإنسان، وفي تدعيم هذه الوحدة بما يحسبه الناظر المتعجل باباً من أبواب الأفراق والتباين؛ وهو تعدد الشعوب والقبائل، واختلاف اللغات والألوان؛ قال تعالى: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما كانوا فيه يختلفون) يونس 19، وأيضاً قوله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين)، وقال تعالى: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات) المائدة 48
إن هذه الوحدة في صلة الإنسان مشدودة بين الناس كافة في الصلة بالله ربهم ورب العالمين؛ الذي يسوي بينهم، ويدينهم بالرحمة والإنصاف، ثم يقضي بينهم فيما اختلفوا بقسطاس العدل أيهم أحسن عملاً، وأقرب إلى التقوى، واستباقاً إلى الخيرات؛ قال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)، وقال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون ).َ
ما التقوى؟!.. التقوى كلمة واحدة تجمع كل وازع يزع الضمير.. وأقدر الناس على أمانة التقوى أقدرهم على النهوض بالتبعة، وأعرفهم بمواضع المعروف، والمنكر، والمباح، والمحظور.(/1)
إن العالم الإنساني كلمة غير مفهومة عند من يدين برب غير رب العالمين.. وإن قيم الأخلاق كيل جزاف حين تنقطع الأسباب بين الحسنات والسيئات، وبين الثواب والعقاب.. وإن الإنسانية الجامعة شيء لا وجود له قبل أن يوجد الإنسان (المسؤول) .
إذاً فالتقوى تتمثل فيها كل المعاني السامية - من مساواة، وعدل، وحرية، وأخلاق، وفضيلة - ولو شاء فلاسفة الأخلاق لعلموا ما هي التقوى، وعلموا حقًّا أن موازينهم جميعاً لا تحسن الترجيح بين فضل وفضل، وقدرة وقدرة؛ كما تحسنه هذه التقوى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).. إنه لهو القسطاس الذي ينشئ للإنسانية حقوق المساواة بين أبنائها دينا، وعلما، وفلسفة، وشريعة، وإلهاما من الوحي الإلهي، وتمحيصا من البديهة الإنسانية .
ومكان الوحي الإلهي في هذه المساواة أنها قد شرعت للإنسان شريعتها حقاً من حقوق الخلق والتكوين، ولم تشرعها له وسيلة من وسائل الحكم، وإجراءًا من إجراءات السياسة إبّان الحظر المطبق خيفة من ثورة النفوس، وتنافساً على عدد الأصوات في معارك الانتخابات .
فإن أحداً ممن خوّلهم القرآن تلك المساواة لم يطلبها، ولم يكن لينالها قبل أن تنزل عليه من وحي رب العالمين، ولكنها لم تنشأ في حضارة من حضارات العالم القديم أو الحديث إلا وكانت وراءها حيلة، أو وسيلة سياسية، أو مراوغة تمكين وتسكين .
ولولا الله ثم الحروب القديمة - كحرب أثينا، وأسبارطة، وحروب روما، وفارس، وحروب الأمم في القرن العشرين - لما سمع الناس بشيء يسمى الديموقراطية، ولا رضخ الديموقراطيون المتأخرون بشيء للكادحين - ذوي المعاول والمناجل - أو لذوي الألوان المجندين للمصانع والمعسكرات، ولما سمع العالم بمساواة بين بني آدم لا فضل فيها لأحد منهم على أحد بغير العمل الصالح وتقوى الله
إذاً فلنسأل أنفسنا: هل الديموقراطية - التي يريدها الغرب، وتريد الأمم المتحدة أن توحد بها الشعوب، والأمم، والقبائل لكي يتعرفوا، ويتحاببوا - هل هي من التقوى؟!..
الإجابة طبعاً بالنفي.. إن ديموقراطية العصر الراهن هي ديموقراطية المصالح والمنفعة، ديموقراطية الاحتلال والقتل والتدمير؛ سيان عندهم إذا كانت تحمل معاني إيجابية سامية، أو سلبية قهرية؛ لأن منظور المساواة في الديموقراطية يتناقض عنه في التقوى؛ فالمساواة في التقوى هي العدل الذي ينشئ حقوقاً متساوية للإنسانية بين أبناء البشر إلهاماً من الوحي الإلهي، أما المساواة في مبدإ الديموقراطية ففيها ازدواجية المعايير، والكيل بعدة مكاييل؛ وذلك بغرض الهيمنة والتسلط على الشعوب والأمم؛ وليست فيها حقوق متساوية بين البشر؛ والأمثلة واضحة في الوقت الراهن؛ وذلك من حروب واعتداءات على الدول والأفراد؛ فهي تنصبّ فقط في مصلحة أعداء الإنسانية.
نرى أن بعض المبادئ، والمذاهب، والأيدلوجيات التي استخدمت في القرن الفائت انتهت بنهاية القرن - منها الشيوعية، والفاشية، والنازية، والجمهورية - والقرن الحالي سوف يقضي بإذن الله على باقي المبادئ، والمذاهب، والأفكار الهدامة؛ والتي على رأسها الديموقراطية؛ والتي يتبناها المبدأ الرأسمالي الغربي؛ لأنها مبادئ، وأفكار من صنع البشر؛ ويريدونها أن تكون بديلاً للعقائد الإلهية!!.. نرى أن شياطين الإنس الذين يتحدون مع شياطين الجن يعملون لذلك، وأيضاً لنشر الفساد، والرذيلة، وعبادة الأوثان، والمخلوقات من البشر، وغير البشر، وعبادة الشيطان.
وليس جديداً أن نسمع بأشياء لا يقبلها العقل والمنطق موجودة في أفكارهم، ومبادئهم، ونظرياتهم؛ ومنها أن الإنسان عنصر واحد، عنصر سيد، وعنصر مسود، وأن أبناء الإنسانية جميعاً عبيد للعنصر السيد، والعنصر السيد عبد للسيد المختار !!..
وسمعنا وقرأنا أن الإنسان يولد بذنب غيره، ويموت بذنب غيره، ويبرا من الذنب بكفارة غيره.
وسمعت البشرية من القرآن الكريم غير ذلك؛ فأهل القرآن متدبرون؛ يستمعون إلى العقل كما يستمعون إلى الإيمان؛ إذا اطمأنوا وثبتوا على اطمئنانهم إليه .
الإنسان في عقيدة القرآن هو المخلوق المسؤول بين جميع ما خلق الله؛ يدين بعقله فيما يرى ويسمع، ويدين بوجدانه فيما طواه الغيب فلا تدركه الأبصار والأسماع.. فالإنسانية من أسلافها إلى أعقابها أسره واحدة؛ لها نسب واحد، وإله واحد.. أفضلها من عمل حسناً، واتقى سيئاً، وصدق النية فيما أحسنه واتقاه .
فالمنصف بين النصاح لا يستطيع أن ينصح لأهل القرآن بعقيدة في الإنسان والإنسانية أصح وأصلح من عقيدتهم التي يستوحونها من كتابهم، وإن أهل القرآن يتدبرون القول فيتبعون أحسنه؛ فلم يأخذوا بعقيدة من العقائد التي يروّج دعاتها باسم المادية أو الفاشية أو العقلية، ويريدون بها أن تكون على الزمن بديلاً من العقائد الأرضية .
إذاً فالديموقراطية مبدأ شيطاني زاهر، يحمل معاني رنانة تأخذ بألباب وعقول البشر.. وداخله معاني تؤدي إلى الكفر والإلحاد والفجور والتهلكة .(/2)
الدين الإسلامي وأثره في الشعر العربي
جاك صبري شماس
كان من الطبيعي أن يحدث الدين الإسلامي نقلة نوعية في الشعر العربي، لأن الدين الإسلامي ارتكز على جملة من الضوابط الأخلاقية السامية، حاملاً معه المودة والتسامح والنخوة والإباء، والقيم التليدة، نابذاً الفسق والفجور والنميمة، والحقد والكراهية، وقد تفيأ الدين الحنيف بالبعث والثواب والعقاب والجنة، وقد تجلى ذلك في آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وأفواه الصحابة، لذلك كان لابد
من أن يؤثر تأثيراً جلياً في موضوعات الشعر المختلفة فبرزت سمات الزهد والتقى والورع، ومخافة الله، وقد اتخذ الغزل الطهر والنقاء والصفاء بتأثير الإسلام مما هيأ لذيوع وشيوع الغزل العذري ما أضفى على الرجل والمرأة ضرباً من الاحترام والتقدير، ووهب المرأة الجلال والوقار، ولذلك لجأ الشاعر إلى الشكوى مما أصابه من تباريح الحب التي كشف عن الألم والعذاب والاكتواء بنيران الحب، وتتمثل هذه الشكوى بالتضرع إلى سبحانه تعالى كما في قول جميل:
إلى الله أشكو لا إلى الناس حبها ولابد من شكوى حبيب يروع
ألا تتقين الله فيمن... قتلته فأمسى إليكم خاشعاً يتضرع ii
فيا رب حببني إليها وأعطني لـ مودة منها أنت تعطي وتمنع ii
ومن الواضح أن شعراء الغزل العذريين وغيرهم متأثرون بالقيم الإسلامية كفكرة العفو والغفران كما قول الشاعر عمر بن أبي ربيعة:
فديتك أطلقي حبلي وجودي فإن الله ذو عفو غفور
ونلمس أن الشاعر الفرزدق يعرض فكرة الإثم في القتل ثم بين عقاب الله لقاتل النفس المؤمنة وفي ذلك تحذير للمرء لكي يتجنب الوقوع في مثل هذه الآثام:
يا أخت ناجية بن سامة إنني أخشى عليك بني إن طلبوا دمي
فإذا حلفت هناك أنك من دمي لبريئة فتحللي، لاتأثمي ii
فلئن سفكت دماً بغير جريرة لتخلدن مع العذاب الآلأم ii
ومن اللافت للنظر والانتباه أن شعر الحماسة كان أكثر تأثيراً بالإسلام من شعر الهجاء والمديح فكان يستخدم أكثره في الجهاد حيث يرفد صفوف المحاربين عدد من القصاص والوعاظ يحثون على الاستشهاد في سبيل الله، والفوز بالجنة مما يجعل للقصيدة مواعظ خاصة كقول الشاعر نصر بن سيار:
دع عنك دنيا وأهلاً أنت تاركهم ماخير دنيا وأهل لايدومونا
وأكثر تقى الله في الأسرار مجتهداً إن التقى خير ما كان مكنونا
واعلم بأنك بالأعمال... مرتهن فكن لنا كثير الهم محزونا
وامنح جهادك من لم يرج آخرةً وكن عدواً لقوم لا يصلونا ii
فاقتلهم غضباً لله.. منتصراً منهم به ودع المرتاب مفتونا ii
ويعرض الشاعر كعب الأشقر في قصيدته فكرة محاربة فرقة خرجت عن طريق الهدى ولذلك
يدعو إلى الاستبسال في الحرب والنيل من هذي الفرقة التي زاغت أعينها عن طريق الحق والصواب:
إذا اعتصمنا بحبل الله إذ جحدوا بالمحكمات ولم نكفر كما كفروا
جاروا عن القصد والإسلام واتبعوا دينا يخالف ما جاءت به النذر
وكان الشعراء يسبغون على المحاربين صفات عظيمة وكان هدفهم من ذلك بما ينتظرهم من نعيم الخلد وبذلك يتضح تأثير الدين الإسلامي بالشعر وإيمانهم بمبدأ الثواب ونيل رضوان الله في الآخرة كما في قول الشاعر الضحاك بن قيس وهو يرثي بهلول الصقري:
يا عين أذري دموعاً منك تهتانا وابكي لنا صحبة بانوا وإخوانا
خلوا لنا ظاهر الدنيا وباطنها وأصبحوا في جنان الخلد رضوانا
وتسود الروح الدينية في المراثي ويعرض الشاعر مناقب الشهيد واتزانه بالتقى والزهد والإيمان ومما لاشك فيه أن هذا الرثاء يمنح الشاعر نفسه آملاً برحمة الله وعفوه وفوزاً كبيراً في آخرته كقول جرير في عمر بن عبد العزيز:
حملت أمراً عظيماً فاصطبرت له وقمت فيه بأمر الله يا عمرا
لقد تمثل في الرثاء سمات روحانية كالتسليم لله والرضا بقدرته وقضائه فالموت حق على العباد وما على المرء سوى التسليم بالصبر والإيمان بما أراده الله لعبيده وعلى مثل هذه الشاكلة يؤثر الدين الإسلامي تأثيراً إيجابياً رائعاً ونبيلاً.
إن بطون وأمات الكتب العربية تزخر بكثير من الأمثلة التي تدعم وتؤيد بشكل مطلق أثر الدين الإسلامي على ألسنة الشعراء وما زال هذا الأثر يتعمق مذكراً البشرية باليوم الآخر وما ينتظرها من الثواب والعقاب ويكشف لنا الدين الإسلامي عن الدنيا ومتاعها الزائل وأن طريق الخلاص يتجسد بالتقى والعمل الصالح ومجانبة الأعمال الشائنة والتحلي بقيم الإسلام المتمثلة بالتواضع والتسامح والخلق الكريم والأمانة(/1)
الدين الحق والأديان المحرفة
كل صاحب ملة يعتقد أن ملته هي الحق، وكل أتباع دين يعتقدون أن دينهم هو الدين الأمثل والمنهج الأقوم. وحينما تسأل أتباع الأديان المحرفة أو أتباع الملل البشرية الوضعية عن الدليل على اعتقادهم؛ فيحتجون بأنهم وجدوا آباءهم على طريقة، فهم على آثارهم مقتدون، ثم يذكرون حكايات وأخباراً لا يصح سندها، ولا يسلم متنها من العلل والقوادح، ويعتمدون على كتب متوارثة لا يعلم من قالها ولا من كتبها، ولا في أية لغة كتبت أول مرة، ولا في أي بلد وجدت؛ إنما هي أمشاج جمعت فعظّمت فتوارثتها الأجيال دون تحقيق علمي يحرر السند، ويضبط المتن.
وهذه الكتب المجهولة والحكايات والتقليد الأعمى لا تصلح حجة في باب الأديان والعقائد، فهل كل هذه الأديان المحرفة والملل البشرية صحيحة أم باطلة؟، يستحيل أن يكون الجميع على حق؛ لأن الحق واحد لا يتعدد، ويستحيل أن تكون كل هذه الأديان المحرفة والملل البشرية من عند الله، وأنها حق، وإذا تعددت -والحق واحد- فأيها الحق؟ إذا فلا بد من ضوابط نعرف بها الدين الحق من الدين الباطل، فإذا وجدنا هذه الضوابط منطبقة على دين علمنا أنه الحق، وإذا اختلت هذه الضوابط أو واحد منها في دين علمنا أنه باطل.
أقسام الديانات
تنقسم البشرية بحسب أديانها إلى قسمين:
القسم الأول:- قسم لهم كتاب منزل من عند الله كاليهود والنصارى والمسلمين، فاليهود والنصارى بسبب عدم عملهم بما ورد في كتبهم، وبسبب اتخاذهم البشر أرباباً من دون الله، وبسبب تطاول العهد فُقدت كتبهم التي أنزلها الله على أنبيائهم؛ فكتب لهم الأحبار كتباً زعموا أنها من عند الله، وما هي من عند الله، إنما هي انتحال المبطلين وتحريف الغالين.
أما كتاب المسلمين(القرآن العظيم) فهو آخر الكتب الإلهية عهداً، وأوثقها عقداً، تكفل الله بحفظه؛ ولم يكل ذلك إلى البشر قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9]، فهو محفوظ في الصدور والسطور؛ لأنه الكتاب الأخير الذي ضمنه الله الهدى لهذه البشرية، وجعله حجة عليهم إلى قيام الساعة، وكتب له البقاء، وهيأ له في كل زمان من يقيمون حدوده وحروفه، ويعملون بشريعته ويؤمنون به.
القسم الثاني:- قسم ليس لهم كتاب منزل من عند الله، وإن كان لديهم كتاب متوارث منسوب إلى صاحب ديانتهم كالهندوس والمجوس والبوذيين والكنفوشيسيين وكالعرب قبل مبعث النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وما من أمة إلا ولها علم وعمل بحسب ما تقوم به مصالح دنياهم، وهذا من الهداية العامة التي جعلها الله لكل إنسان، بل لكل حيوان، كما يهدى الحيوان إلى جلب ما ينفعه من الأكل والشرب، ودفع ما يضره، وقد خلق الله فيه حباً لهذا، وبغضاً لهذا، قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}[الأعلى:1-3]، وقال موسى لفرعون: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه:50]، وقال الخليل عليه السلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}[الشعراء:78]، ومن المعلوم لكل عاقل -له أدنى نظر وتأمل- أن أهل الملل أكمل في العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، ممن ليس من أهل الملل، فما من خير يوجد عند غير المسلمين من أهل الملل إلا وعند المسلمين ما هو أكمل منه، وعند أهل الأديان ما لا يوجد عند غيرهم.
الضوابط التي نميز بها بين الدين الحق والدين الباطل، وهي:
الأول: أن يكون الدين من عند الله أنزله بواسطة ملك من الملائكة على رسول من رسله ليبلغه إلى عباده؛ لأن الدين الحق هو دين الله، والله سبحانه هو الذي يدين ويحاسب الخلائق يوم القيامة على الدين الذي أنزله إليهم، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً}[النساء:163].
وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:25].
وبناء على ذلك فأي دين يأتي به شخص ما وينسبه إلى نفسه لا إلى الله فهو دين باطل لا محالة.
الثاني: أن يدعو إلى إفراد الله سبحانه بالعبادة، وتحريم الشرك، وتحريم الوسائل المفضية إليه؛ لأن الدعوة إلى التوحيد هي أساس دعوة جميع الأنبياء والمرسلين، وكل نبي قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[الأعراف:73].
وعليه فإن أي دين اشتمل على الشرك وأشرك مع الله غيره من نبي أو ملك أو ولي فهو دين باطل ولو انتسب أصحابه إلى نبي من الأنبياء.(/1)
الثالث: أن يكون متفقاً مع الأصول التي دعت إليها الرسل من عبادة الله وحده، والدعوة إلى صراطه، وتحريم الشرك، وعقوق الوالدين، وقتل النفس بغير حق، وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:25].
وقال جل ثناؤه: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[الأنعام:151].
وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}[الزخرف:45].
الرابع: ألا يكون متناقضاً ولا مختلفاً بعضه مع البعض الآخر، فلا يأمر بأمر ثم ينقضه بأمر آخر، ولا يحرم شيئاً ثم يبيح ما يماثله من غير علة، ولا يحرم أمراً أو يجيزه لفرقة ثم يحرمه على أخرى قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}[النساء:82].
الخامس: أن يتضمن الدين ما يحفظ على الناس دينهم وأعراضهم وأموالهم وأنفسهم وذرياتهم بما يشرع من الأوامر والنواهي والزواجر والأخلاق التي تحفظ هذه الكليات الخمس.
السادس: أن يكون الدين رحمة للخلق من ظلم أنفسهم وظلم بعضهم لبعض، سواءًا كان هذا الظلم بانتهاك الحقوق، أم بالاستبداد بالخيرات، أم بإضلال الأكابر للأصاغر، قال تعالى مخبراً عن الرحمة التي في التوراة التي أنزلها على موسى عليه السلام: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}[الأعراف:154].
وقال سبحانه مخبراً عن مبعث عيسى عليه السلام: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً}[مريم:21].
وقال جل ثناؤه عن صالح عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً}[هود:63].
وقال عز من قائل عن القرآن: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الإسراء:82].
السابع: أن يتضمن الهداية إلى شرع الله، ودلالة الإنسان على مراد الله منه، وإخباره من أين أتى وإلى أين المصير؟ قال تعالى: مخبراً عن التوراة: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ...}[المائدة:44].
وقال عز شأنه عن الإنجيل: {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ}[المائدة:46].
وقال جل ثناؤه عن القرآن الكريم: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ}[التوبة:33].
والدين الحق هو الذي يتضمن الهداية إلى شرع الله ويحقق للنفس الأمن والطمأنينة، حيث يدفع عنها كل وسوسة، ويجيب عن كل تساؤل، ويُبين عن كل مشكل.
الثامن: أن يدعو إلى مكارم الأخلاق والأفعال: كالصدق والعدل والأمانة والحياء والعفاف والكرم، وينهى عن سيئها: كعقوق الوالدين وقتل النفس والفواحش والكذب والظلم والبغي والبخل والفجور.
التاسع: أن يحقق السعادة لمن آمن به قال تعالى: {طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}[طه:1-2].
وأن يكون متفقاً مع الفطرة السوية؛ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}[الروم:30].
متفقاً مع العقل الصحيح لأن الدين الصحيح هو شرع الله، والعقل الصحيح هو خلق الله، ومحال أن يتناقض شرع الله وخلقه.
العاشر: يدل على الحق ويحذر من الباطل، ويرشد إلى الهدى وينفر من الضلال، وأن يدعو الناس إلى صراط مستقيم لا التواء فيه ولا اعوجاج، قال تعالى: مخبراً عن الجن أنهم حينما سمعوا القرآن قال بعضهم لبعض: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ}[الأحقاف:30].
فلا يدعوهم إلى ما فيه شقاؤهم قال تعالى: {طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}[طه:1-2] ولا يأمرهم بما فيه هلاكهم قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}[النساء:29].
ولا يفرق بين أتباعه بسبب الجنس أو اللون أو القبيلة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات:13].(/2)
فالمعيار المعتبر للتفاضل في الدين الحق هو تقوى الله.(/3)
الدين الحق
شعر: محمد المجذوب
أتزعمُ يا مسكينُ أنك iiمسلمٌ
هجرتَ كتاب الله تُوصِدُ دونه
وعفتَ بيوتَ الله حتى iiكأنما
وجافيتَ دنيا المؤمنين iiمُنابذاً
ولو كنتَ ممن يعرف الحقَّ iiقلبه
توهمتَ أن الدين محضُ iiهويةٍ
وفاتك أن الدينَ عِقدٌ iiموثقٌ
ضمنت به ألا تزايل iiنهجه
وألا تروم الأنس في غير أهله
وألا يرى أعداؤه منك ذلةً
فأين وفاءُ المؤمنين iiلربهم
رويداً تؤدِّبْك الحياة، ولن iiيُرى
لعلك بعد الجهل تصحو فترعوي ... وليس على الإسلامِ فيك iiدليلُ!
فؤادك حتى ما إليه iiسبيل
بهنّ لأهل الغيّ مثِلك iiغول
فما لك بين المؤمنين iiخليل
لأدركتَ أن العقل منك iiعليل
وكلُ كلامٍ بعدها iiففضول
عليه إله العالمين iiوكيل
ولو أوشكتْ شُمُّ الجبال iiتزول
فهمْ لك من دون الأنام iiقبيل
وتلقى أولي التقوى وأنت iiذليل
وماذا له يا خاسراً iiستقول!
كتأديبها للجانحين iiمثيل
"فليس سواءً عالم iiوجهول"(/1)
الدين المنزل والدين المأول
الكاتب: الشيخ د.سعيد بن ناصر الغامدي
الدين المنزل هو ما جاء في نصوص الكتاب والسنة، وهو سفينة النجاة من ركبها سلم من طوفان الأهواء والشبهات ونزغات النفوس وعادات الشعوب وأعراف الخلق الفاسدة.
أما الدين المأول فهو ما اجتهد عالم في فهمه، وقاعدة أهل الإسلام المحكمة أن أقوال البشر ليست دليلاً عدا قول النبي صلى الله عليه وسلم. بل قول كل أحد محتاج إلى الدليل، ورغم عمومية هذه القاعدة واطرادها , وقول كل فقهاء وعلماء المسلمين بها إلا أننا نجد أنه لا يعمل بها إلا القليل من الناس، وخاصة عند الاختلاف في قضية من القضايا، فيورد بعض المختلفين أقوال العلماء وفهومهم للقضية، وكأنها نصوص وحي منزل، مرة تحت شعار أن هذا فهم عالم جليل، وأخرى تحت مسميات العدالة والأفضلية والخيرية والصلاح، وأخرى تحت شعار الرسوخ في العلم إلى غير ذلك من الأقوال التي ترفع القول إلى مراتب أعلى من درجته الحقيقية.
لا ريب أن أقوال أهل العلم والإيمان لها اعتبارها , وفهومهم لها منزلتها، ولكن هذا المقام شيء، وتحويل قول العالم وفهمه إلى نص شيء آخر.
وهاهنا منزلة وسطى لعلها أجدر بالاعتناء وهي أن العالم المعتبر في علمه ودينه وإتباعه للسنة وحيازته لأدوات العلم والفهم جدير بأن يؤخذ قوله وفهمه ويقدم على قول وفهم من لم يجتز هذه الأوصاف , ولكنه في الوقت ذاته يحتاج قوله إلى الدليل الشرعي الذي يؤيد فهم العالم وتأويله.
والكارثة تلوح عندما يتحول الدين المأول عند بعض الناس ليصل إلى درجة الدين المنزل من عند الله. وأبشع أنواع الكوارث العلمية والعملية هو أن يسعى بعض الناس إلى جعل الدين المأول ديناً حقيقياً بمثابة الدين المنزل، وهذا ما يفتك بالأديان وأهلها , ويورث الفرقة والشقاق.
أما الدين المبدل فهو المغير والمحرف وإذا أصبح الدين المبدل هو الدين المتبع , فأصحابه هم المعنيون بقوله تعالى (وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون)(/1)
الدين والدولة
[الكاتب: حامد العلي]
من حقائق الاسلام الكلية المتعلقة بالعقيدة الاسلامية تعلقا أساسيا أنه دين ودولة لا انفكاك بينهما، حتى لقد قرأت لبعض الكتاب المستشرقين الذين أسلموا ولا يحضرني الان اسمه أنه وبعد أن قرأ ما في القرآن والسنة عن هذه الحقيقة قال: (لا أقول؛ الاسلام دين ودولة، بل هو الدين وهو الدولة).
ومرجع هذا في الشريعة الى أن الله تعالى ربط نجاة الانسان في هذا الدين بالقيام بواجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك في سورة العصر (والعصر ان الانسان لفي خسر الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، فلا نجاة من الخسران في الاخرة بالاكتفاء بالايمان والعمل الصالح، بل لابد من الامربالمعروف والنهي عن المنكر (تواصوا بالحق) ولا بد من الصبر على ذلك (وتواصوا بالصبر).
ولم يؤمرالمسلمون أمرا شرعيا دينيا أن يقيموا لهم الدولة الا لهذا الغرض، وصار هذا من اعظم واجبات الدين، كما قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: (يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا الا بها) [28/390].
والغرض من اقامة الدولة أصلا اقامة الدين والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال شيخ الاسلام: (وجميع الولايات الاسلامية انما مقصودها الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى، مثل نيابة السلطنة والصغرى مثل ولاية الشرطة، وولاية الحكم، أو ولاية المال وهي ولاية الدواوين المالية، وولاية الحسبة) [28/66].
والمقصود أن الدولة في الاسلام، وكل ولاياتها عملها - في الاصل - الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا قامت وهذا - فقط - هو وجه مشروعية الدولة في الاسلام، وولي الامر يستمد مشروعيته من هذه الجهة فحسب، و (الامر) الذي اضيف (الولي) اليه في الشريعة هو هذا الامر فحسب، أمر اقامة الدين بواسطة جهاز الدولة وتسخيرها للامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لكن ينبغي أن يعلم أن المعروف يدخل فيه كل ما يحبه الله ويرضاه من الاعمال والاقوال ويتحقق به مصالح العباد واصلاح أحوالهم، فيدخل فيه هذه الايام حتى تنظيم المرور في الطرق ونحو ذلك، والمنكر يدخل فيه كل ما لايحبه الله ولايرضاه من الاقوال والاعمال وكل ما يكون أقرب الى فساد العباد واضطراب أحوالهم حتى الغش في الاسواق وتولية من لايستحق في ادارات الدولة وان كانت الولاية صغيرة ونحو ذلك، والمقصود أن هذه الكلمة (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) في الشرع عامة يدخل فيها ما شرع في الدين كله.
وهذه الحقيقة الثابتة التي دل عليها القرآن (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد)، ودلت عليها السنة المطهرة، هي السبيل الحق والصراط المستقيم في فهم علاقة الدين بالدولة في الاسلام.
ويقابلها سبيلان فاسدتان.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: (وهاتان السبيلان الفاسدتان - سبيل من انتسب الى الدين ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال، وسبيل من أقبل على السطان والمال والحرب، ولم يقصد بذلك اقامة الدين - هما سبيل المغضوب عليهم والضالين، الاولى للضالين النصارى، والثانية للمغضوب عليهم اليهود) [28/395].
وقد وقع في هذه الامة - كما ورد في الحديث لتتبعن سنن من كان قبلكم - نظير ما في هاتين الامتين (اليهود والنصارى) فمن حكامنا من يريد السلطان والمال والحرب لاقامة الدنيا غير ملتفت الى الدين، ولا ينصرالدين الا ما أشرب من هواه، وخيرهم من لا يكون له غرض ذاتي في محاربة الدين مالم يخاف ذهاب شهواته وحاشيته فحينئذ فالدين عندهم أهون مقتول، فهؤلاء كاليهود كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا ففريقا كذبوا وفريقا يقتلون.
ومن المنتسبين الى العلم من يريد الدين بلا سلطان ولا جهاد ولا مال يقيمه، كالنصارى الذين يقولون: (دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، ويجعلون كل من يتولى أمر المسلمين ولي أمرشرعي لاتجوز منازعته في شيء، سواء من رفع الدين ومن وضعه، حتى عد بعض المجازفين منهم رئيس الجمهورية التركية (سليمان ديمريل) ولي أمر شرعي، واستنكر سعي حزب الرفاه للحصول على المال والسلطان والقوة للسيطرة على الدولة التركية، لانه - كما زعم - خروج على ولي الامر.
ولهذا تجد هؤلاء تشمئز قلوبهم اذا ذكر الجهاد والحكم بما أنزل الله، أو الدعوة الى تغيير الواقع، وتضيق صدروهم بمن يعتني بفضح مكائد أعداء الامة وعملائها للسيطرة على مقدرات القوة عند المسلمين، وربما استعانوا بقوة السلطان لاسكاته، فيصيرون عونا للسلطان على عزل الدين عن الدولة، لموافقة ذلك لما في نفوسهم من مشابهة النصارى من هذه الجهة.(/1)
وصارت الامة بسبب خيانة حكامها وانعزال كثير من علماءها أو انحراف كثير منهم، في هذه الحال من الضعف والمهانة، ذلك ان الله تعالى حبس عنها النصر حتى تتخلص من مشابهة هاتين السبيلين؛ (المغضوب عليهم والضالين)، ولهذا قال الله تعالى لموسى وهارون نبيي الاسلام بعد دعائهما بالنصر على الاعداء: (قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذي لا يعلمون).
فشرط النصر الاستقامة على سبيل الهدى، فان الله تعالى لا ينصر الا من ينصر دينه وينصر كتابه المتضمن لهداه (ان تنصروا الله ينصركم).
قال شيخ الاسلام: (والكتاب ؛ هو الحاكم بين الناس شرعا ودينا، وينصر القائم نصرا وقدرا... فان الله نصر الكتاب بأمر من عنده، وانتقم ممن خرج عن حكم الكتاب كما قال؛ "الا تنصروه فقد نصره الله") [28/37].(/2)
الدِّعاية رؤية إسلاميَّة)
ياسر عثمان الحاج*
يشهد العصر الحالي ثورة هائلة في مجال الاتصالات، وسباقاً محموماً في مجال الإعلام وتكنولوجيا الاتصال، لامتلاك ناصية التأثير في الجماهير العريضة في مختلف بقاع العالم، الذي لم يَعُد إلاَّ كقرية إلكترونية صغيرة ترتبط جميع أطرافها بمركزها، وذلك بفضل التطوُّر الهائل والمذهل في تكنولوجيا البث المباشر عبر الأقمار الصناعية والثورة المعلوماتية الرقمية، التي صاحبت عصر العولمة.
هذا التطوُّر الكبير في تكنولوجيا الاتصال الجماهيري، جعل الدول الكبرى تتسابق لفرض سيطرتها، وبث ثقافتها، ونشر دعايتها عبر وسائل الاتصال الجماهيري، لتضمن بذلك التأثير في جميع دول العالم ـ وخاصة العالم الإسلامي ـ لتتبوَّأ هي على عرش القيادة والريادة، ولتستطيع أنْ تحكم العالم بنظامها العالمي الجديد.
ولمَّا كان لهذا الموضوع أهميته الأيديولوجية، ولمَّا كان له ارتباط بعقيدة المسلمين التي تنادي أتباعها أنْ يكون دينهم هو الدين الذي ينبغي أنْ يعلو ولا يُعلى عليه، وأنْ يكونوا هم الأعلون بقيمهم وثقافتهم وعزَّتهم على غيرهم من أهل الملل والأديان الأخرى، وأنْ تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السُّفلى، رأيت أنْ أخوض غمار هذا الموضوع مبيِّناً التأصيل الإسلامي للدِّعاية، ومفهوم الدِّعاية في الإسلام، والعلاقة بينها وبين الدَّعوة، ومفهوم الدِّعاية المضادة للإسلام، ومضمون الحملة الدعائية المضادة للإسلام.
وقد قمتُ بتقسيم الموضوع إلى: تمهيد، وأربعة مباحث، ثم خاتمة. وذلك على النَّحو التالي:
ـ تمهيد: عن مفهوم التأصيل وأهميته.
ـ المبحث الأول: مفهوم الدِّعاية في الإسلام.
ـ المبحث الثاني: العلاقة بين الدَّعوة والدِّعاية.
ـ المبحث الثالث: مفهوم الدِّعاية المضادة للإسلام.
ـ المبحث الرابع: مضمون الحملة الدعائية المضادَّة للإسلام.
ـ الخاتمة: وفيها أهم النتائج والتوصيات.
تمهيد
عن مفهوم التأصيل وأهميته
التأصيل في اللُّغة مشتق من "الأصل". والأصل: أسفل كل شيء، وجمعه أُصول، وأَصُلَ الشيءُ: صار ذا أصل؛ قال الشاعر([1]):
وما الشُّغْلُ إلاَّ أنَّني متهيِّبٌ لعرضك ما لم تجعل الشيءَ يأْصُلُ
وكذلك تأصَّلَ. ويُقال: استأصَلَتْ هذه الشجرةُ: أي ثبت أصلها.
وأصَّلَ الشيء: قتله علماً فعرف أصله([2]). وأساس الحائط: أصله. واستأصل الشيءُ: ثبت أصله وَقَوِيَ ثم كَثُر، حتى قيل أصل كل شيءٍ ما يستند وجود ذلك الشيء إليه، فالأب أصلٌ للولد، والنهر أصلٌ للجدول، والجمع "أُصول". و"أَصُلَ" النَّسبُ بالضم "أصالةً" شَرُفَ، فهو "أصيل" مثل كريم. وأصَّلْتُهُ تأصيلاً: جعلتُ له أصلاً ثابتاً يُبنى عليه([3]).
فالتأصيل إذاً هو العودة بالشيء إلى أصوله وأُسسه التي يُبنى عليها.
والتأصيل لمواجهة الدِّعاية المضادة للإسلام، يعني: العودة بهذا الأمر إلى أسسه وقواعده الشرعية التي تحكمه في ضوء القرآن الكريم، والسُّنَّة النبوية المطهرة، وهو البحث عن أصوله الشرعية التي يستند إليها، وكيف يتعامل الإسلام مع الدعاية المضادة له؟ وكيف يواجهها؟.
ولكي ينجح المسلمون في مواجهة الدعاية المضادة للإسلام، لا بُدَّ أن يرجعوا إلى هدي الإسلام في التعامل مع الدعاية المضادة له، وذلك بالعودة إلى آيات القرآن الكريم، ونصوص السُّنَّة النبوية الشريفة، حتى يكون منطلقهم في الرد على الدعاية المضادة نابعاً من المصدريْن الأساسييْن للتشريع الإسلامي الحنيف.
التأصيل الإسلامي ضروري في كل العلوم، وخاصة العلوم الاجتماعية، وذلك للعودة بها إلى أصولها الشرعية المستمدة من الكتاب والسُّنَّة، وجعلها تتفق مع الإطار العام للشريعة الإسلامية. "والتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية عبارة عن عملية إعادة بناء العلوم الاجتماعية في ضوء التصوُّر الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود، وذلك باستخدام منهج يتكامل فيه الوحي الصحيح مع الواقع المشاهد، بوصفهما مصدريْن للمعرفة، بحيث يستخدم ذلك التصوُّر الإسلامي إطاراً نظريَّاً لتفسير المشاهدات الجزئية المحقَّقة، والتعميمات الواقعية، وفي بناء النظريات في تلك العلوم بصفة عامة"[4]
كما يمكن تعريف منهج التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية على أنَّه: "الطريقة المنظمة للبحث التي تستخدم في دراسة الظواهر الاجتماعية، انطلاقاً من التصوُّر الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود، على وجهٍ يجمع بين المناهج الأصولية المعتمدة في الاستنباط من نصوص الكتاب والسُّنَّة، ومناهج البحث الواقعية "الميدانية" المعاصرة بصورة تكاملية"([5]).(/1)
إنَّ التأصيل من حيث دلالته اللُّغوية يعني الوصل بالأصل، وبما أنَّ أصل كل أمرٍ وكل شيءٍ يُرَدُّ إلى الله عزَّ وجلَّ بمقتضى المعرفة، فإنَّ مفهوم التأصيل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمبادئ الإيمان بالله تعالى، مثلما هو مرتبطٌ بهذه المعرفة. لهذا فإنَّ تأصيل المعرفة يعني وضعها في نسقها الإيماني القويم المؤسَّس على الاعتقاد بألوهية الله وربوبيته للوجود، بما يشمله من الغيب المستور والكون المنظور([6]).
لهذا فإنَّه يُنظر إلى التأصيل من حيث إنَّه وصل بالأصول الدينية وبالقيم الأخلاقية. ويقتضي التأصيل أنْ تتأسَّس المعارف على مبادئ الدِّين التي تعني الإيمان بالغيب وبالوحي، بحسبانه المصدر الجامع لهذه المعارف، أو الموجِّه الهادي لاكتسابها.
ومبادئ الدِّين تشمل: العقائد، والمعاملات، والأخلاق. وتأسيساً على عقيدة الإيمان بالله، فإنَّ التأصيل يكشف عن الترابط الوثيق بين العلم المُستمد من الوحي، وما يكتسبه الإنسان من معرفة عن الكون والحياة والطبيعة([7]).
إنَّ عملية التأصيل في عصر العولمة الذي يتَّسم بصراع الحضارات والاختراق الثقافي، تصبح أكثر إلحاحاً([8]). وقد أصبحت الحاجة إلى التأصيل الإسلامي للعلوم حاجة ضرورية ملحَّة في هذا العصر، الذي ظهر فيه طغيان المادة، والبُعد عن القيم الإسلامية الحقَّة، وغاب الفهم الصحيح للإسلام عن الكثيرين، وانتشرت العلمانية التي تنادي بأنَّ العلم لا يتفق مع التديُّن، وأنَّ التقانة لا تلتقي بالتقوى.
وهذا الفهم قد أصبح سائداً عند الكثيرين ممَّن لا يعلمون حقيقة الإسلام، فالإسلام لا يتعارض مع ما توصَّل إليه العلم الحديث من نظريات وثوابت، ولا يتعارض العقل الصريح مع النَّص الصحيح.
وقد توصَّل كثير من العلماء في الغرب إلى الكثير من الحقائق التي ذكرها القرآن الكريم، وذكرتها السُّنَّة النبوية الشريفة قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، فعلموا حقيقتها الآن، وتوصَّلوا إليها في هذا العصر، وقاد ذلك الكثيرين منهم إلى الإيمان بهذا الدين والدُّخول فيه، مصداقاً لقوله تعالى:( سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) ([9]).
المبحث الأول
مفهوم الدِّعاية في الإسلام
كلمة "الدِّعاية" من الكلمات التي وردت في بعض النصوص النبوية الشريفة، فمن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه([10]) عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل كتاباً إلى هرقل عظيم الروم، جاء فيه: (من محمدٍ عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلامٌ على من اتَّبع الهدى، أمَّا بعد: فإنِّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤتك الله أجرك مرَّتين، فإنْ توليت فإنَّ عليك إثم الأريسيين)([11]). و( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) ([12]).
ورواه مسلم بلفظ: (بداعية الإسلام) بدل (بدعاية الإسلام)، ورواه أبو داود([13]).
كما بعث النبي صلى الله عليه وسلم برسالة إلى كسرى عظيم فارس ورد فيها: (من محمدٍ رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلامٌ على من اتَّبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وأدعوك بدعاية الله عزَّ وجلَّ، فإنِّي رسول الله إلى الناس كلهم، لأنذر من كان حيَّاً، ويحق القول على الكافرين، أسْلِمْ تَسْلَمْ، فإن توليت فعليك إثم المجوس).
وبعث النبي صلى الله عليه وسلم برسالة إلى المقوقس ملك مصر يقول فيها: (من محمدٍ عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلامٌ على من اتَّبع الهدى، أمَّا بعد: فإنِّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسْلِمْ تَسْلَمْ يؤتك الله أجرك مرتين، فإنْ توليت فعليك إثم القبط ( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)
وجاء في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ملك الحبشة: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من محمدٍ النَّبي إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة، سلامٌ على من اتَّبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد ألا إله إلاَّ الله، وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله فإنِّي أنا رسوله، فأسْلِمْ تَسْلَمْ: ( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)، فإنْ أبيت فعليك إثم النَّصارى من قومك)([14]).
وهكذا نجد أنَّ كلمة "الدِّعاية" تتكرر في رسائل النبي صلى الله عليه وسلم ، في حملته الإعلامية الكبرى إلى العالم في السنة السادسة للهجرة النبوية.(/2)
يُلاحظ من الأحاديث السابقة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستخدم عبارة "دعاية الله" تارةً، و"دعاية الإسلام" تارةً أخرى في رسائله ومكاتباته إلى الملوك والأمراء، داعياً إيَّاهم للدخول في دين الله تعالى، والإيمان بما جاء به من عند ربِّه عزَّ وجلَّ.
ويتَّضح من هذا أنَّ الدِّعاية الواردة في الأحاديث السابقة تعني "الدعوة". فـ"دعاية الله" و"دعاية الإسلام" هي الدعوة إلى الله، والدعوة إلى الإسلام. فكلمة "دعاية" مشتقة من الفعل: دعا، يدعو، دعايةً، نحو: شكا، يشكو، شكايةً.
فدعاية الإسلام هي الكلمة الدَّاعية إلى الإسلام، وهي شهادة ألا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمداً رسول الله([15]).
وفي كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل: "أدعوك بدعاية الإسلام"، أي بدعوته، وهي كلمة الشهادة التي يُدعى إليها أهل الملل الأخرى.
وفي رواية: "بداعية الإسلام"، وهو مصدر بمعنى الدعوة كالعافية والعاقبة([16]).
كما أنَّ الدِّعاية في أصلها هي: الدعوة إلى مذهبٍ أو رأيٍ بالكتابة أو بالخطابة ونحوهما([17]).
والدعوة إلى شيءٍ هي الترغيب في هذا الشيء، أو بمعنى آخر: الدِّعاية له([18]).
روى مسلم والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النَّجاشي، وإلى كل جبَّارٍ عنيد، يدعوهم إلى الله([19]).
وهذا الحديث فيه دليل واضح على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى كسرى وقيصر والنَّجاشي، وغيرهم من الملوك والأمراء، داعياً إيَّاهم إلى الله، لأنه صلى الله عليه وسلم بُعِثَ داعياً إلى الله تعالى، وأُرسِل إلى النَّاس كافَّة ليدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ، قال الله تعالى) يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) ([20])، وقال سبحانه وتعالى:( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) ([21]).
فيتبيَّن من ذلك أنَّ كُتُبه ورسائله التي وجَّهها إلى كسرى وقيصر والنَّجاشي وغيرهم، مخاطباً إيَّاهم بقوله: "أدعوك بدعاية الله"، أو "أدعوك بدعاية الإسلام" كان المقصود منها هو دعوتهم إلى الله، وإلى دين الإسلام.
من كل ما سبق ذكره يتبيَّن أنَّ الدِّعاية في الإسلام تعني الدعوة إلى الإسلام، وأنَّ مفهوم الدعاية في الإسلام هو مفهوم يرتبط بالإيمان بالله. وهذا المعنى السامي للدعاية في الإسلام ـ وهو الدعوة ـ يُؤكِّده رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من موضع، من خلال رسائله إلى الملوك والأمراء، داعياً إيَّاهم إلى الإيمان بالله تعالى، مستخدماً معهم هذا المصطلح ـ وهو الدعاية ـ للدلالة على الدعوة إلى الإسلام، وإلى التوحيد، وإلى الإيمان بالله تبارك وتعالى.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم داعيةً لهذا الدين، بحسبان أنَّ الداعية هو الذي يدعو إلى دينٍ أو فكرةٍ([22]). فالنبي صلى الله عليه وسلم كان داعيةً إلى دينٍ ونظامٍ ومنهجٍ ربانيٍّ، أرسله به الله إلى الناس كافة ( قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فأمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ) ([23])، ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ([24]).
المبحث الثاني
العلاقة بين الدَّعوة والدِّعاية
كلمة "الدَّعوة" مشتقة من الفعل: دعا، يدعو، دعاء، ودعاوة، ودعاية، بمعنى: حَثَّ، وطَلَبَ، ونادى، ورغَّبَ. فدعاه إلى الأمر: يعني ساقه إليه، وحثَّه عليه([25]). ودعا الرجل دَعْوَاً ودعاءً: ناداه، والاسم: الدَّعوة([26]).
والدعوة إلى الله هي الدعوة إلى دينه الذي بعث به رُسُلَه، وجدَّده على لسان خاتمهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .
وكلمة "الدعاية" مشتقة من نفس الفعل دعا، يدعو، دعاية، نحو: شكا، يشكو، شكاية([27])، بمعنى: الاستمالة، والترغيب، والتحبيب، والحثّ، ونشر القيم والمبادئ([28]).
وقد تقدَّم أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم : (أدعوك بدعاية الإسلام)، أي بدعوته([29]). وأنَّ كلمة "الدعاية" تعني: الدعوة إلى مذهبٍ أو رأيٍ بالكتابة أو بالخطابة ونحوهما([30]).
ويتَّضح مّما سبق أنَّ كلمة "الدعوة"، وكلمة "الدعاية" أصلهما اللُّغوي واحد، وأنَّ اشتقاقهما من الفعل "دعا".
أمَّا من حيث الاصطلاح، فقد ذهب بعض علماء الاتصال([31]) إلى التفريق بينهما، وأنَّ كل مصطلح يدلُّ على معنى مغايرٍ لما يدلُّ عليه المصطلح الآخر.
وذهب فريق آخر من العلماء([32]) إلى أنَّ اللفظيْن قد يدلان على شيءٍ واحد، وإنْ كان يُفضِّل هذا الفريق تسميتها بالدعوة بدل الدعاية، وذلك لما شاب الدعاية من سوء الاستخدام، والكذب، والتحريف، والتضليل، وغيرها من الشوائب التي تتصف بها الدعاية السوداء والرمادية.
آراء الفريق الأول:(/3)
يرى هذا الفريق أنَّ هناك اختلافات بين الدعوة والدعاية، فالدعوة عندهم تقوم عادةً على شيءٍ جديدٍ كل الجدَّة كالدعوات الدينية، ودعوات الإصلاح الاجتماعي، أو الدعوة إلى فكرٍ سياسيٍّ، أو مذهبٍ اقتصاديٍّ جديد.
فالدعوة إلى نبذ القديم وسلوك الجديد دعوة وليست دعاية، فالدعاية هي لما هو قائم وماثل، والدعوة هي لشيءٍ جديد يخرج به صاحبه إلى الناس داعياً إيَّاهم إليه، وقد تكون الدعوة لشيءٍ قائمٍ وماثلٍ فعلاً، ولكن البعض لا يعرفونه، كالدعوة إلى الإسلام بين جماعاتٍ لا تعرفه.
فالدعوة ترمي إلى تغيير مفهوم قديم بآخر جديد، وفي هذا تحرُّر من عامل الشك الذي يلتبس بالدعاية. فإذا كانت الدعاية عملية استهواء، فإنَّ الدعوة عملية إقناع، وإنْ كان الاستهواء يرمي إلى الإقناع أو يؤدي إلى الاقتناع.
والخيط الدقيق الذي يفصل بين الدعوة والدعاية، أنَّ الدعوة تلتزم بأفق ثابت لا يتغيَّر، الغاية فيها بيِّنة واضحة، تسفر عن نفسها في قوةٍ وجلاء، لا تلتوي ولا تتحيَّف، ولكن الدعاية وإنْ التزمت بالغاية فإنها تتخذ إلى غايتها مسارب شتى للاستهواء، لا تعنيها الحقيقة قدر ما تعنيها الغاية، فأي وسيلة للاستهواء هي المُثلى. وقد يلُفُّها الطمع والنفع، فالناس ينكرون ويؤيدون تبعاً لما يجُرُّه عليهم التأييد أو الإنكار من منفعةٍ أو مضرَّة([33]).
كما يرى هذا الفريق أنَّ الدعوة تعني في الغالب نشر فكرة معيَّنة بهدف إقناع الآخرين بها، مستخدمين في ذلك الحُجَّة والمنطق والتفكير العلمي السليم. وهذه الفكرة تكون غالباً ذات مضمون ديني أو عقائدي أو سياسي معيَّن.
أمَّا الدعاية فهي في الغالب تُستخدم للترويج لوجهة نظر معيَّنة بغرض اكتساب الأنصار لها، وهي ليست إلاَّ تسلُّطاً على الأفراد بوصفهم أعضاء في مجتمع ابتغاء السيطرة على أفكارهم وأفعالهم، وتوجيهها وجهة معيَّنة. والدعاية لا تقول الحق دائماً، ولا تجري على وتيرة واحدة، بل تتنوَّع، وقد تُؤثِّر بطريقةٍ لا شعورية([34]).
من الفروق كذلك بين الدعوة والدعاية عند هذا الفريق، أنَّ الدعاية تفرض حصاراً فكرياً لموضع الهجوم، بحيث تقود الفرد إلى شيءٍ ما كان يقبله لولا عملية الهجوم النفسي. وهي لا تفترض انتماءً عقدياً معيَّناً، ولا تتجه إلاَّ إلى شخصٍ يقتنع أو على استعداد لأن يقتنع، كما أنها منطق مُفتَرض يعتمد على الحُجج الجزئية النوعية، وتبدأ من الاقتناع بالجزئيات، والتي من خلال الاقتناع بها، لا بُدَّ أنْ ينتهي الفرد إلى تقبُّل وُجهة نظر معيَّنة.
ولا يرتبط مُستقبِل الدعاية بمصدرها بأي رابطة تفرض عليه الاستماع أو التجاهل، وتعتمد على الإثارة لتحريك الجماهير لعمل لحظي ومباشر، تحت تأثير انفعال وقتي.
أمَّا الدعوة فإنها تتسم بالصدق، وتقوم على الصراحة، وتسعى إلى الحقيقة، كما أنها تفترض انتماءً عقدياً معيَّناً، ولذلك لا تتجه إلاَّ إلى شخص يؤمن أو على استعداد لأن يؤمن، وتفرض تقبُّل الرسالة في كمالها وكلياتها، وابتداءً من هذا القبول ينبع الإيمان بالجزئيات. ويرتبط مُستقبِل الدعوة فيها بمصدرها بصلة روحية، كما أنها تستهدف من خلال التوعية والثقة نقل الجماهير في المدى البعيد من مرحلة في الفهم إلى مرحلة أكثر تقدُّماً، ويقوم هذا الوعي على الفهم العميق، وعلى الحقيقة وحدها([35]).
آراء الفريق الثاني:
يرى هذا الفريق أنَّ كلا اللفظيْن يدُلُّ على معنى واحد، وأنَّ الدعوة والدعاية يأتيان بمعنى واحد وهو الدعوة إلى مذهب أو رأي بالكتابة أو الخطابة أو غيرهما. وكلاهما يدلُّ على التحبيب، والحثّ، والترغيب في الأمر المدعوِّ له. وإنْ كان هذا الفريق يُفضِّل تسمية الرسالة الإسلامية ومبادئها بالدعوة الإسلامية بدل الدعاية الإسلامية، لا لشيءٍ إلاَّ لأنَّ لفظ الدعاية أصبح يرتبط عند الكثيرين بالكذب، والتحريف، والتضليل، وذلك نتيجة للاستخدام السيئ للدعاية من قبل أعداء الإسلام، وتوجيهها لخدمة أغراضهم الخبيثة ومآربهم الباطلة.
يرى هذا الفريق أنَّ كلمة "الدعاية" يمكن أنْ تُطلق على الدعوة، وأنَّ مصطلح الدعاية قد يدُلُّ على الجهود التي تُبذل من أجل الدعوة إلى دينٍ أو عقيدة، وذلك لأنَّ كلمة "الدعاية" مشتقة من نفس الفعل، دعا يدعو، بمعنى: الاستمالة، والترغيب، والتحبيب، والحثّ، ونشر القيم والمبادئ([36]).
وقد تكرَّرت كلمة "الدعوة" في رسائل النبي صلى الله عليه وسلم ومكاتباته إلى الملوك والأمراء، في حملته الإعلامية الكبرى إلى العالم في السنة السادسة للهجرة، داعياً إيَّاهم إلى الإسلام.(/4)
وقد ظلت هذه الكلمة من الكلمات الطيِّبة، ولا زالت تحمل نفس المعاني السامية في المفهوم الإسلامي. كما أنَّ الدعوة إلى شيء هي الترغيب في هذا الشيء، أو بمعنى آخر: الدعاية له، ونحن لا نسيئ إلى الدين إذا قلنا إنَّ العمل الذي قام به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من أجل هذا الدين هو دعاية طيِّبة له، ما دامت الدعاية في ذاتها لها معنيان على الأقل: الدعاية الطيِّبة أو البيضاء، والدعاية الخبيثة أو السوداء([37]).
رأي الباحث:
يرى الباحث أنَّ الدعوة هي دعاية، ولكنها دعاية طيِّبة، وليست خبيثة. وأنَّ الدعوة إلى الإسلام هي دعاية طيِّبة للدين الإسلامي، ما دامت تلتزم بثوابت الدعوة الإسلامية، من: الصدق، والوضوح، والصراحة، ووضوح الغاية والهدف، ووضوح السبيل والمنهج.
وأمَّا الذين فرَّقوا بين الدعوة والدعاية، فيمكن أنْ نجمل ملخَّص انتقادهم للدعاية في الآتي:
[1] أنَّ الدعاية تُستخدم للترويج لوجهة نظر معيَّنة، وهي ليست إلاَّ تسلُّطاً على الأفراد، بوصفهم أعضاء في مجتمع للسيطرة على أفكارهم.
[2] وأنَّ الدعاية لا تقول الحق دائماً، ولا تجري على وتيرةٍ واحدة، بل تتنوَّع.
[3] وأنَّ الدعاية لا تتردَّد في الكذب.
[4] وأنها تخلق شحنة انفعالية، وتفرض متابعة موضع التوجيه والهجوم النفسي بإصرارٍ واطراد، خوفاً من اكتشاف التلاعب.
إذا نظرنا إلى هذه النقاط السابقة، نجد أنها تنطبق على الدعاية الخبيثة أو السوداء، ولا تنطبق على الدعاية الطيِّبة أو البيضاء.
فاستخدام الترويج والتسلُّط، والكذب، وخلق الشحنة الانفعالية دون الاهتمام بمخاطبة المنطق الذاتي والعقل، هو كلُّه من سمات الدعاية الخبيثة، وليس من سمات الدعاية الطيِّبة، التي تقوم على الصدق، والصراحة، ووضوح الغاية والمصدر.
يتَّضح مما سبق أنَّ الدعوة هي نوع من أنواع الدعاية الطيِّبة التي تهدف إلى هداية الأفراد إلى دين الله تعالى عن طريق الصدق، والصراحة، والوضوح، والتزام الأساليب الشريفة في الدعوة.
فالذين فرَّقوا بين الدعوة والدعاية حصروا انتقادهم للدعاية في الدعاية الخبيثة، ولذلك فرَّقوا بينها وبين الدعوة. والذين مزجوا بين الدعوة والدعاية، قصدوا بذلك الدعاية الطيِّبة. فوضح أنَّ الطرفين يتحدَّثان عن جانبيْن مختلفيْن للموضوع.
فالخلاصة؛ أنَّ الدعوة هي دعاية طيِّبة للدين الإسلامي، بدليل استخدام النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المصطلح ـ دعاية الله أو دعاية الإسلام ـ في أكثر من رسالة من رسائله إلى الملوك والأمراء، داعياً إيَّاهم للدخول في دين الإسلام.
وبذا يمكن الجمع بين آراء الفريقين والتوفيق بينهما، فالدعاية لا تنطبق على الدعوة إذا كانت من نوع الدعاية الخبيثة التي تستخدم الكذب، والترويج، والتسلُّط، وخلق الشحنة الانفعالية دون الاهتمام بمخاطبة العقل. بينما تنطبق الدعاية على الدعوة إذا كانت من نوع الدعاية الطيِّبة التي تستخدم الصدق، والصراحة، والوضوح، وتلتزم جانب الحق والعدل، وتسلك الطرق المستقيمة غير الملتوية، وتخاطب العقل بالحُجَّة والمنطق، والبرهان.
المبحث الثالث
مفهوم الدعاية المضادة للإسلام
الضِدُّ لغةً: هو كل شيءٍ ضادَّ شيئاً ليغلبه، فالسواد ضد البياض، والموت ضد الحياة، والليل ضد النهار، إذا جاء هذا ذهب ذاك.
وضد الشيء، وضديده، وضديدته: خلافه، والجمع أضداد، ويُقال: ضادَّك فلانٌ إذا خالفك، فأردت طولاً وأراد قصراً، وأردت ظُلمة وأراد نوراً([38]).
فالدعاية المضادة لدعايةٍ مّا، هي الدعاية التي تضادُّ تلك الدعاية وتخالفها.
تنقسم الدعاية بصفةٍ عامَّةٍ إلى شقين رئيسيين: شق إيجابي، وشق سلبي.
فالشق الإيجابي هو أنْ يكون هدف رجل الدعاية إحداث تغيير في سلوك المدعوِّين، وهو تغيير ما كان ليحدث لولا الحملة الدعائية.
أمَّا الشق السلبي فهدفه الحيلولة دون وقوع تغييرٍ مّا متوقَّع الحدوث، ما لم تُوجَّه هذه الحملة الدعائية.
ومن أمثلة الدعاية السلبية: "الدعاية المضادة"، وتُستخدم هذه التسمية عندما يكون التغيير المتوقَّع، والمراد منع وقوعه هو نتيجة لدعاية إيجابية من مصادر أخرى، مثلما يحدث في الحروب، عندما يحاول العدوّ إضعاف الروح المعنوية بتوجيه حملات دعائية ضخمة. وفي مثل هذه الحالة تقوم حكومة الطرف الآخر بشنِّ وتوجيه حملات دعائية مضادَّة لإبطال مفعول الحملات المعادية، والإبقاء على ارتفاع الروح المعنوية([39]).
تُعرَّف "الدعاية المضادَّة" بأنها: "الجهود التي تُبذل لمواجهة الدعاية التحريضية، والرد عليها، وإحباط مفعولها. وتعتمد على تفنيد ما تأتي به تلك الدعاية، وتبيان مصادرها وتعريتها، والكشف عن أساليبها، وإقامة دعاية تواجهها"([40]).(/5)
والدعاية التحريضية آنفة الذكر هي الدعاية التي تستخدمها الأنظمة المعادية، وأحزاب المعارضة، بهدف التحريض على قلب النظام القائم، كما أنَّ الأنظمة التي تستولي على السلطة تستخدمها أيضاً لمتابعة المنهج الثوري الذي أوصلها إلى السلطة([41]).
فالدعاية المضادَّة ـ كما سبق بيانه ـ هي من نوع الدعاية السلبية إذا كان هدفها الحيلولة دون تحقيق دعاية إيجابية لأهدافها، ومحاربة الدعاوى الرئيسة للخصم.
وقد تكون الدعاية المضادَّة أيضاً دعاية إيجابية في حد ذاتها، إذا كانت بمعنى الدعاية الموجَّهة من بلد ضد بلدٍ آخر.
وعلى هذا فإنَّ الدعاية المضادَّة (Counter Propaganda) تدلُّ على معنيين:
[1] الدعاية الموجَّهة من بلدٍ ضد بلدٍ آخر.
[2] التَّصدي لدعاية معادية بإعداد خططٍ وحملاتٍ دعائيةٍ مضادَّة، تفنِّد وتكذِّب هذه الدعاية الموجَّهة([42]).
ارتبطت الدعاية المضادة للإسلام بظهور الدعوة النبوية الشريفة، فقد أطلق المشركون في مكة الكثير من الدعايات المغرضة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاتهموه: بالسحر، والكهانة، والجنون، وادَّعوا أنه شاعر، كما طعنوا في ذاته الشريفة صلى الله عليه وسلم ، وطالبوه بالمعجزات على صدق دعوته (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر الأرض لنا ينبوعا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا. أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا. أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) ([43]).
تعرَّض الإسلام للعديد من الدعايات التحريضية، والدعايات المضادَّة له، والتي تسعى إلى القضاء عليه والنيل منه. وقد بدأت هذه الدعايات منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وما تزال مستمرة إلى يومنا هذا.
وهكذا كان شأن جميع الأنبياء والرسل مع أممهم، فما من رسولٍ إلاَّ كان له أعداء، قال الله تعالى ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) ([44])، وقال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ([45]).
وأخبر سبحانه وتعالى أنَّ الصراع بين الأنبياء وأعدائهم كان مستمراً، وأنَّ المعركة والتدافع بين الحق والباطل مستمرة:(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) ([46]).
وأخبر تعالى أنَّ أعداء الإسلام لن يتركوا المسلمين في حالهم، ولن يتركوا دعوة الإسلام تمضي بسلام، بل سيحيكون لها المؤامرات، ويكيدون لها، قال تعالى ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) ([47])، وقال تعالى (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ) ([48]).
إنَّ الدعاية المضادَّة للإسلام تتعدَّد أشكالها وألوانها، فقد كان المشركون في مكة في بداية الدعوة الإسلامية يطلقون دعايات مضادَّة للإسلام، وجاء بعدهم اليهود في المدينة المنوَّرة بعد الهجرة النبوية، وواصلوا مسيرة الدعايات المضادَّة للإسلام، واستمرت الدعايات المضادة للإسلام طيلة عهد النبوة، حتى انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، واستمرت في عهد أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه ، الذي ظهر في عهده المرتدُّون ومُدَّعو النبوة، الذين واصلوا حملاتهم الدعائية ضد الإسلام، وجاء من بعده عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، واستمرت في عهودهم حملات الدعاية ضد الإسلام من قِبَل المشركين، واليهود، والنصارى، والفِرَق المخالفة للإسلام على مدار التاريخ الإسلامي حتى يومنا هذا.
وفي هذا العصر نعايش الكثير من الدعايات التي تسعى إلى محاربة الإسلام وأهله، مثل: الدعاية الشيوعية التي كان يتزعمها الاتحاد السوفييتي السابق، والدعاية الأمريكية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والدعاية الصهيونية، والدعايات الغربية بصفة عامة متمثلة في الدول الأوروبية مثل: بريطانيا، وفرنسا، وغيرهما من الدول التي تقوم بحملات دعائية مضادة للإسلام.(/6)
إنَّ الدعاية المضادَّة للإسلام التي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية في عصر العولمة، بعد انهيار القطبية الثنائية، وانفراد الولايات المتحدة بالزعامة بعد زوال الاتحاد السوفييتي السابق في عام 1990م، والذي كان بمثابة القوَّة التي كانت تنافسها في الزعامة، جعل الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى فرض سيطرتها على العالم، كما جعلها تتجه إلى البحث عن عدوٍّ جديد لإدارة الصراع، وكان هذا العدوّ ـ في نظرها ـ هو الإسلام، فأصبحت تسلك السبل المختلفة لمحاربته، وتلصق التهم المتنوِّعة به وبأهله، وتسعى بكل ما أُوتيت من قوة للقضاء عليه، حتى تكون لها الزعامة على العالم، ولكن هيهات لها ذلك والله تعالى يقول: ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون )
([49]).
المبحث الرابع
مضمون الحملة الدعائية المضادة للإسلام
إنَّ الدعاية المضادة للإسلام التي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية ـ خاصة بعد انهيار الثنائية القطبية بسقوط النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي السابق عام 1990م ـ تُوجِّه دعايتها إلى الإسلام انطلاقاً من أهداف سياسية، كما تسعى إلى بث العداء والبغضاء للإسلام بين الشعوب الغربية، حتى لا يتَّجهوا إلى التفكير في البحث عن المفاهيم الحقيقية والمبادئ السامية التي يقوم عليها الإسلام.
تتشدَّد أجهزة الإعلام الغربية والأمريكية باستمرار، في اتهام الدول الإسلامية والعربية بانتهاك حقوق الإنسان، في محاولة للربط بين تلك الانتهاكات والدين الإسلامي، لدرجة أنَّ صورة الإسلام الحالية في أوروبا وأمريكا، باتت مقرونة بالإرهاب الدموي، وقتل المثقفين، والتضييق على الحريات، وغيرها([50]).
ولقد ظلت دراسات الغرب عن الإسلام أسيرة للرؤية الأوروبية، وهي رؤية عدائية تصف المسلمين بالهمجية، والعنف، والتعصُّب.
إنَّ الغزو الثقافي الذي تقوم به الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، يستهدف خرق نسيج المجتمع المسلم، وذلك بتدمير بنائه الأخلاقي، وتشويه عقيدته، وهذا الغزو الثقافي قد طبع العصر الحديث بطابع الصراع الحضاري، وحرب الأفكار، خاصة باستغلال وسائل الإعلام الحديثة، بوصفها أداة فاعلة في هذه الحرب الجديدة.
وفي ذلك يقول أحد المفكِّرين الغربيين([51]): "إنَّ العالم ينتقل من الصراع السياسي الأيديولوجي، الذي كان أساس الحرب الباردة، إلى الصراع الثقافي، الذي يشكِّل أساس الحضارات".
وقد أخذ الغرب يناصب الإسلام العداء والكراهية والحقد، وبدأ الغربيون يسخرون من الإسلام بشتى الطرق، واستغلوا المنظمات العالمية لحرب الإسلام([52]).
إنَّ عمليات الاستهداف ولائحة الاتهامات للإسلام اليوم، ومحاولة إدانة صحوته، وشلّ حركة الدُّعاة، ومحاصرتهم باسم "الأصولية" و"الإرهاب"، واعتبار الإسلام هو العدو الحضاري للغرب، وتوظيف كثير من الأنظمة والأفراد والمؤسسات؛ يتطلب من المسلمين استيعاب الهجمة بعيداً عن الانفعال والاستجابة العفوية للاستفزاز، والصبر والتبصُّر بكيفيات إدارة الصراع، لتفويت غرض الآخر([53]).
إنَّ اللُّوبي اليهودي وبعض الجماعات الأخرى التي تناهض الإسلام في الولايات المتحدة، عملت على استغلال أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، لبناء سد منيع بين الأمريكيين والإسلام، وهدفهم من ذلك منع انتشار الإسلام في الولايات المتحدة وأوروبا.
وانتهز اليهود الفرصة لخدمة أهدافهم في الشرق الأوسط، فساعدوا على تأجيج الحملة ضد الإسلام والمسلمين. وقد ظلَّ الإعلام الغربي بصفة عامة، والإعلام الأمريكي بصفة خاصة، يُعبِّر عن موقف عدائي ضد الإسلام والمسلمين، وهو الموقف الذي ظل الإعلام الغربي ثابتاً عليه منذ سنواتٍ عديدة، بسبب سيطرة اليهود على وسائل الإعلام الغربية، وتأثير ما تردده وسائل الإعلام على عقول ومشاعر وآراء الشعب الأمريكي([54]).
إنَّ العداء الذي تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية ضد الإسلام، والدعاية المغرضة التي تقوم بها ضد المسلمين، لم تقف فقط عند حدِّ الحملات المسعورة التي تمارسها الصحف ضد الإسلام، أو البرامج والأفلام التلفزيونية الهابطة التي تسيء إلى الإسلام، بل تعدَّى الأمر أكثر من ذلك ليشمل حتى المناهج التعليمية التي تُدرَّس للطلاب في مراحل تعليمهم المختلفة.(/7)
وقد قام أحد الباحثين في جامعة "ساكرامنتو"([55]) بإجراء مسح شامل للمناهج التي تُدرَّس لطلاب المدارس الثانوية في أمريكا، وقال في ذلك: "لقد قمت بمسح شامل للكتب والأفكار التي يتلقاها طلاب المدارس الثانوية في أمريكا، عن حضارتنا العربية والإسلامية، واقتضى ذلك الجهد أنْ أقرأ كتب: التاريخ، والجغرافيا، والمدنيات، في المناهج الأمريكية، وبصورةٍ عامة يمكن أنْ أُلخِّص وجهة نظر الدراسة التي قمت بها للمناهج الأمريكية، وموقفها من الحضارة العربية الإسلامية، بثلاث كلمات بسيطة: هم ينظرون إلى العربي على هذه الصورة المغلوطة والمشوَّهة، فيقولون: إنه بدوي يعيش في الخيمة والصحراء، وحين تتحدَّث تلك المناهج عن الإسلام، فإنها تصوِّره بأنه دين حربي، يؤكِّد على الجهاد، وهم يشرحون فكرة الجهاد من وجهة نظر خاطئة ومشوَّهة، والواقع أنَّ كل قضايا الأُمَّة الإسلامية، تبدو في مناهجهم مشوَّهة"([56]).
تنطلق الدعاية الغربية في حربها ضد الإسلام من منطلق صدام الحضارات أو صراع الثقافات. ويقوم الافتراض الأساس لخطاب صدام الحضارات على أنَّ الثقافة أو الهوية الثقافية الحضارية هي التي تشكِّل نماذج التماسك، والتفكك، والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة. وأنَّ أكثر الصراعات أهمية وخطورة ستكون بين شعوب تنتمي إلى هويات ثقافية متباينة. وأنَّ عالم ما بعد الحرب الباردة حسب هذا الخطاب يتكوَّن من سبع أو ثمان حضارات وهي:
[1] الحضارة الغربية، وتضم: النموذجين الأوروبي والأمريكي.
[2] الحضارة الكونفوشيوسية أو الصينية.
[3] الحضارة اليابانية.
[4] الحضارة الهندوسية أو الهندوكية.
[5] الحضارة الأرثوذكسية.
[6] حضارة أمريكا اللاتينية.
[7] الحضارة الإفريقية.
[8] الحضارة الإسلامية([57]).
ويفترض خطاب صراع الحضارات أنَّ الحضارتين الإسلامية والكونفوشيوسية هما الحضارتان اللتان لا يمكنهما أنْ يندمجا في الحضارة الغربية، وأنَّ الصراع بينهما وبين الحضارة الغربية حتمي. ولكن يعتبِر هذا الخطاب أنَّ الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي وضعت استمرار الغرب في شكٍ، ولقد فعلت ذلك مرتين على الأقل: الاستيلاء على القسطنطينية في عام 1453م في المرة الأولى، ومحاصرة فيينا في عام 1529م في المرة الثانية([58]).
إنَّ الحملة الدعائية المضادة للإسلام، تتعدَّد صورها وأشكالها، وتتنوَّع أساليبها في حربها ضد الإسلام، ويمكن تلخيص أبرز مضامين تلك الحملة الدعائية المضادة للإسلام في الآتي:
[1] التشويه:
عمدت الدعاية المضادة للإسلام إلى تشويه جميع جوانب الدين الإسلامي، ابتداءً من القرآن الكريم، والسُّنَّة المطهَّرة، والتاريخ الإسلامي، وحتى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم .
فالدعاية الحاقدة من قِبَل المشركين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، اتهمت القرآن وحاولت التقليل من شأنه، فادَّعت أنه كلام بشر، وليس من عند الله تعالى، وأنهم يمكنهم أنْ يأتوا بمثله، كما اتَّهمت الرسول صلى الله عليه وسلم في شخصه اتهامات باطلة كثيرة، فادَّعت أنه: ساحر، وكاهن، ومجنون، وغير ذلك من الأوصاف القبيحة التي حاولت بها تشويه صورته، وطمس شخصيته صلى الله عليه وسلم .
كما أنَّ الدعاية المضادة للإسلام في العصر الحاضر، تنتهج نفس الأسلوب، وتطعن في ذاته الشريفة صلى الله عليه وسلم وتتعرَّض لشخصه([59])، وتشوِّه صورة الإسلام والمسلمين، وتقوم بنشر أنباء ومعلومات مضللة عن المسلمين، كما تقوم بإنتاج أفلام إثارة تدُّس فيها السموم والأكاذيب، وتسيء إلى المسلمين.
وتصوِّر الدعاية المضادَّة للإسلام، المعركة بين المسلمين واليهود تصويراً تبرز فيه المسلمين بمظهر الوحشية، وتصوِّر اليهود بمظهر الأبرياء، الذين يسعى المسلمون لطردهم من فلسطين أرضهم وأرض أجدادهم([60]).
[2] التعتيم:
تقوم الدعاية المضادة للإسلام، بإقامة جدارٍ من الصمت حول قضايا المسلمين وأحوالهم، فلا تسمع لهم قضية، ولا يقوم لهم ذكر، وفي المقابل يكثر الحديث عن الدول الغربية وشعوبها.
ويتم التعتيم الإعلامي حول قضايا المسلمين، وما يهم شعوبهم، ويخدم أوطانهم، فدماء المسلمين تُهدر في كل يوم، إذ يُقتل المئات من خيرة شباب هذه الأُمَّة، ويُدفن المئات من أبنائها الأطهار، وتُذبَّح مئاتٌ من النسوة العابدات القانتات، فلا تبكيهم عين، ولا يذكرهم أحد، ولا ترتفع بوداعهم همسة، ولا يستحق كل ذلك إلتفاتة ولو بسيطة من جانب الإعلام الغربي المعادي للإسلام والمسلمين، ولا يُسمح بتسريب خبرٍ للمسلمين يحقِّق لهم مصلحة أو يُقدِّم لهم قضية([61]).
[3] التحريض:
وهو من الأساليب التي تستخدمها الدعاية المضادة للإسلام بصفة مستمرة، فلا يمرُّ يوم دون أنْ يرى المراقب المسلم عناصر التحريض الإعلامي على العالم الإسلامي.
فيقوم الإعلام في أوروبا وأمريكا بطرح قضية أعداد المسلمين في العالم على أنَّها قضية مرعبة للعالم.(/8)
كما يتم إبراز دور العقيدة الإسلامية المتمكِّنة في نفوس المسلمين، وأنَّها تلعب دوراً كبيراً في وحدة المسلمين، على أنَّها مسألة خطرة على مصالح الغرب في العالم الإسلامي.
كما يتم إبراز فكرة الجهاد التي بدأ كثير من المسلمين ينادون بها وسيلة لتحكيم كتاب الله في واقع الحياة، على أنها قضية تشكِّل خطورة كبيرة على أنظمة الحكم في العالم الإسلامي.
وكذلك فإنهم متى ما شعروا بقوة المسلمين، أو بخطوات جادَّة على الطريق الصحيح، فإنهم ينفثون سمومهم محذِّرين العالم من خطر المسلمين المرتقب.
ولذلك فإنَّ الدعاية المضادة للإسلام، تقوم بالتحريض على الإسلام والمسلمين، وتُزرِي بهم، محاولةً بذلك القضاء عليهم([62]) ولكن هيهات لهم ذلك والله تعالى يقول: ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون )([63]).
الخاتمة
أولاً: النتائج:
في ختام هذه الدراسة، يورد الباحث عدداً من النتائج التي توصَّل إليها على النحو التالي:
[1] إنَّ الدعاية في الإسلام لها مكانة عظيمة، ومنزلة مرموقة، وقد استخدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من موضع من رسائله إلى الملوك والأمراء أمثال: قيصر، وكسرى، والنَّجاشي، والمقوقس، داعياً إيَّاهم إلى الدخول في دين الإسلام.
[2] إنَّ الدعوة إلى الإسلام هي من قبيل الدعاية الطيِّبة لهذا الدين، ما دامت تلتزم بثوابت الحق، ووضوح المنهج، فهي شرف في الغاية، وطهارة في الوسيلة.
[3] إنَّ الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، تمارس دعاية مضادَّة للإسلام، وتستخدم في ذلك كل الأساليب الممكنة، وتسخِّر في سبيل ذلك وسائلها الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية.
[4] تتمثل أبرز مضامين الحملة الدعائية المضادَّة للإسلام، التي تُمارس من قبل الدول المعادية للإسلام، في تشويه الإسلام، والتعتيم عليه، والتحريض على أبنائه.
ثانياً: التوصيات:
كما توصَّل الباحث في نهاية هذه الدراسة إلى مجموعة من التوصيات التي يرى أنها تفيد في هذا المجال، وهي:
[1] ضرورة الوعي التام، والإدراك العميق لمرامي وأبعاد الدعاية التي تمارسها الدول المعادية للإسلام، والتنبُّه لخطورتها وتأثيرها.
[2] أنْ تعمل الدول الإسلامية على تكوين أجهزة تختص بشؤون الدعاية للإسلام، ومجابهة الدعايات المضادَّة للإسلام، والتَّصدِّي لها، وإحباط مفعولها.
[3] أنْ تقوم الدول الإسلامية ممثَّلةً في أجهزتها الإعلامية بإصدار كتب ونشرات باللُّغات الأجنبية الحيَّة، تبيِّن فيها محاسن الإسلام، ومبادئه السامية، وتردُّ فيها على الاتِّهامات التي توجِّهها الدول المعادية للإسلام، وأنْ تقوم بنشر هذه الكتب على نطاقٍ واسع.
[4] أنْ يتمثَّل المسلمون الإسلام في واقع حياتهم: قولاً، وسلوكاً، ومنهجاً، وتعاملاً في كل شؤونهم، حتى يكونوا بذلك قدوة لغيرهم، وينفوا عن الإسلام ما أُلصِق به من اتهاماتٍ غير صحيحةٍ.
قائمة المراجع والمصادر
أولاً: القرآن الكريم.
ثانياً: الكتب العربية:
[1] إبراهيم إمام: أصول الإعلام الإسلامي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1985م.
[2] أحمد بن علي بن حجر العسقلاني: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، مكتبة الغزالي، دمشق، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت، لبنان، د. ت.
[3] أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، المكتبة العلمية، بيروت، لبنان، د. ت..
[4] جمال الدِّين محمد بن مكرم بن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، د. ت..
[5] حسين فوزي النَّجار: الإعلام المعاصر، دار المعارف، القاهرة، 1984م.
[6] السيد أحمد مصطفى عمر: البحث الإعلامي: مفهومه وإجراءاته ومناهجه، الكتاب الأول، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي، ليبيا، ط/1، 1994م.
[7] السيد عليوة: استراتيجية الإعلام العربي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1978م.
[8] صموئيل هنتنجتون: صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، ترجمة: د. مالك عبيد أبو شهيوة، ود. محمود محمد خلف، الدَّار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، ط/1، 1999م.
[9] عبد اللطيف حمزة: الإعلام في صدر الإسلام، دار الفكر العربي، القاهرة، ط/2، 1978م.
[10] عصام سليمان موسى: المدخل في الاتصال الجماهيري، مكتبة الكتاني للنشر والتوزيع، إربد، المملكة الأردنية الهاشمية، ط/4، 1998م.
[11] كرم شلبي: معجم المصطلحات الإعلامية (إنجليزي ـ عربي)، دار الجيل، بيروت، لبنان، ط/2، 1415هـ، 1994م.
[12] مبارك بن محمد بن الأثير الجزري: جامع الأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، تحقيق: الشيخ محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط/4، 1984م.
[13] مجمع اللُّغة العربية: المعجم الوسيط، القاهرة، ط/3، د. ت..
[14] محمد الخضري: نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، مكتبة الغزالي، دمشق، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت، 1990م.(/9)
[15] محمد بن مخلف بن صالح المخلف: الحرب النفسية في صدر الإسلام (العهد المدني)، دار عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط/1، 1413هـ، 1992م.
[16] محمد عبد القادر حاتم: الإعلام والدعاية: نظريات وتجارب، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1978م.
[17] يوسف محي الدين أبو هلالة: الإعلام الغربي المعاصر وأثره في الأمة الإسلامية، مكتبة الرسالة الحديثة، عمّان، الأردن، ط/1، 1408هـ، 1987م.
ثالثاً: الدَّوريات العربية:
[18] إبراهيم عبد الرحمن رجب: التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق، مجلة إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مؤسسة إنترناشيونال جرافيكس للتصميم والطباعة، ميريلاند، الولايات المتحدة الأمريكية، السنة الأولى، العدد الثالث، رمضان 1416هـ، يناير 1996م.
[19] رجب البنّا: قبل وبعد 11 سبتمبر المسلمون هم الضحية ـ خواطر في السياسة (مقالة)، مجلة أكتوبر، القاهرة، جمهورية مصر العربية، العدد (1360)، الأحد: 12 رمضان 1423هـ، 17 نوفمبر 2002م.
[20] عبده مختار: التأصيل الثقافي، مجلة التأصيل، إدارة تأصيل المعرفة بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الخرطوم، السُّودان، يناير 2002م.
[21] علي الطاهر شرف الدين: تأصيل المعرفة: أسسه وأهدافه، مجلة التأصيل، إدارة تأصيل المعرفة بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الخرطوم، السُّودان، يناير 1998م.
[22] مسعود ظاهر: المسلمون وحقوق الإنسان: الدين والقانون والسياسة ـ دراسة ووثائق، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، العدد (194)، أبريل 1995م.
[23] نجيب غضبان: صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي، مجلة المستقبل العربي، العدد (226)، ديسمبر 1997م.
[24] مجلة البيان: تصدر عن المنتدى الإسلامي بلندن، السنة الثامنة عشرة، العدد (185)، محرّم 1424هـ، مارس 2003م.
----------
([1]) هو أُميَّة الهذلي.
([2]) ابن منظور، جمال الدِّين محمد بن مكرم: لسان العرب، باب: اللام، فصل الهمزة، دار صادر، بيروت، د.ت، 11/16ـ18.
([3]) أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، المكتبة العلمية، بيروت، لبنان، د. ت، 1/16.
[4] إبراهيم عبد الرحمن رجب: التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، معالم على الطريق، مجلة إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مؤسسة إنترناشيونال جرافيكس للتصميم والطباعة، ميريلاند، الولايات المتحدة الأمريكية، السنة الأولى، العدد الثالث، رمضان 1416هـ، يناير 1996م، ص 61.
([5]) المرجع السابق، ص 65.
([6]) علي الطاهر شرف الدِّين: تأصيل المعرفة... أسسه وأهدافه، مجلة التأصيل، إدارة تأصيل المعرفة بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الخرطوم، السُّودان، العدد السادس، يناير 1998م، ص 1.
([7]) المرجع السابق، ص 2ـ3.
([8]) عبده مختار: التأصيل الثقافي، مجلة التأصيل، العدد التاسع، يناير 2002م، ص 4.
([9]) سورة فُصِّلت، الآية (53).
([10]) صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب بدء الوحي، برقم 7، مكتبة الغزالي، دمشق، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت، د. ت، الجزء الأول، ص 31ـ32.
([11]) المُراد بالأريسيين: الفلاحين.
([12]) سورة آل عمران، الآية (64).
([13]) مبارك بن الأثير الجزري: جامع الأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، تحقيق الشيخ محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط/4، 1984م، 12/356ـ357.
([14]) محمد الخضري: نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، مكتبة الغزالي، دمشق، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت،1990م، ص 191ـ194. وانظر: إبراهيم إمام: أصول الإعلام الإسلامي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1985م، ص 25ـ27.
([15]) أحمد بن علي بن حجر العسقلاني: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، مرجع سابق، 1/38.
([16]) جمال الدِّين بن منظور، مرجع سابق، ص 1386.
([17]) مجمع اللُّغة العربية: المعجم الوسيط، القاهرة، ط/3، د. ت، الجزء الأول، ص 287.
([18]) عبد اللطيف حمزة: الإعلام في صدر الإسلام، دار الفكر العربي، القاهرة، ط/2، 1978م، ص 104.
([19]) مبارك بن الأثير الجزري: جامع الأصول، مرجع سابق، ص 356ـ357.
([20]) سورة الأحزاب، الآيتان (45ـ46).
([21]) سورة النحل، الآية (125).
([22]) مجمع اللُّغة العربية، المعجم الوسيط، مرجع سابق، ص 287.
([23]) سورة الأعراف، الآية (158).
([24]) سورة الأنبياء، الآية (107).
([25]) إبراهيم إمام: مرجع سابق، ص 22.
([26]) جمال الدين بن منظور، مرجع سابق، ص 1386.
([27]) أحمد بن علي بن حجر العسقلاني: مرجع سابق، ص 38.
([28]) إبراهيم إمام: مرجع سابق، ص 25ـ27.
([29]) جمال الدين بن منظور: مرجع سابق، ص 1386.
([30]) مجمع اللُّغة العربية: المعجم الوسيط، مرجع سابق، ص 287.(/10)
([31]) مثل: د. حسين فوزي النَّجار، ود. السيد عليوة، ود. محمد حمدان المصالحة.
([32]) مثل: د. عبد اللطيف حمزة، ود. إبراهيم إمام.
([33]) حسين فوزي النَّجار: الإعلام المعاصر، دار المعارف، القاهرة، 1984م، ص 34ـ35.
([34]) السيد عليوة: استراتيجية الإعلام العربي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1978م، ص 169ـ172.
([35]) المرجع السابق، نفس الصفحات. وانظر: محمد منير حجَّاب: الدعاية السياسية وتطبيقاتها قديماً وحديثاً، سلسلة دراسات وبحوث إعلامية (7)، دار الفجر للنشر والتوزيع، القاهرة، ط/1، 1418هـ، 1998م، ص 43.
([36]) إبراهيم إمام: مرجع سابق، ص 25ـ27.
([37]) عبد اللطيف حمزة: مرجع سابق، ص 104.
([38]) جمال الدين بن منظور: مرجع سابق، 3/263ـ264.
([39]) محمد عبد القادر حاتم: الإعلام والدعاية.. نظريات وتجارب، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1978م، ص 14. وانظر: محمد بن مخلف بن صالح المخلف: الحرب النفسية في صدر الإسلام "العهد المدني"، دار عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط/1، 1413هـ، 1992م، ص 410.
([40]) عاطف عدلي العبد: الاتصال والرأي العام.. الأسس النظرية والإسهامات العربية، دار الهاني للطباعة والنشر، القاهرة، 1989م، ص 14. وانظر: عصام سليمان موسى: المدخل في الاتصال الجماهيري، مكتبة الكتاني للنشر والتوزيع، إربد، المملكة الأردنية الهاشمية، ط/4، 1998م، ص 219.
([41]) عصام سليمان موسى: المرجع السابق، نفس الصفحة.
([42]) السيد أحمد مصطفى عمر: البحث الإعلامي.. مفهومه، وإجراءاته، ومناهجه، الكتاب الأول، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي، ليبيا، ط/1، 1994م، ص 39. وانظر: كرم شلبي، معجم المصطلحات الإعلامية (إنجليزي ـ عربي)، دار الجيل، بيروت، ط/2، 1415هـ، 1994م، ص 233.
([43]) سورة الإسراء، الآيات (90ـ93).
([44]) سورة الأنعام، الآية (112).
([45]) سورة الفرقان، الآية (31).
([46]) سورة الحج، الآية (40).
([47]) سورة البقرة، الآية (217).
([48]) سورة التوبة، الآية (32).
([49]) سورة الصَّف، الآية (8).
([50]) مسعود ظاهر: المسلمون وحقوق الإنسان.. الدين والقانون والسياسة ـ دراسة ووثائق، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، العدد 194، أبريل 1995م، ص 132. وراجع: نجيب غضبان: صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي، مجلة المستقبل العربي، العدد 226، ديسمبر 1997م، ص 141.
([51]) هو المفكِّر الغربي صموئيل هنتنجتون، صاحب فكرة صدام الحضارات أو صراع الحضارات: Conflict of Civilizations..
([52]) عبده مختار: مرجع سابق، ص 23ـ24.
([53]) عمر عبيد حسنة: في تقديمه لكتاب: الإسلام وصراع الحضارات، للدكتور أحمد القديدي، سلسلة كتاب الأمة، رقم (44)، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الدوحة، قطر، ط/1، ذو الحجة 1415هـ، مايو 1995م، ص 40.
([54]) رجب البنا: قبل وبعد 11 سبتمبر المسلمون هم الضحية ـ خواطر في السياسة "مقالة"، مجلة أكتوبر، القاهرة، جمهورية مصر العربية، العدد 1360، الأحد: 12 رمضان 1423هـ، 17 نوفمبر 2002م، ص 8.
([55]) هو الدكتور: إياد القزاز، المدرِّس في جامعة ساكرامنتو بولاية كاليفورنيا.
([56]) مجلة المسلمون، العدد (2)، الجمعة: 10 محرم 1402هـ، ص 48. انظر: يوسف محي الدين أبو هلالة، الإعلام الغربي المعاصر وأثره في الأُمة الإسلامية، مكتبة الرسالة الحديثة، عمّان، الأردن، ط/1، 1408هـ، 1987م، ص11ـ12.
([57]) صموئيل هنتنجتون: صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، ترجمة: د. مالك عبيد أبو شهيوة، ود. محمود محمد خلف، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، ط/1، 1999م، ص 14ـ15.
([58]) المرجع السابق، ص 38ـ40.
([59]) من جملة الطعن في ذاته الشريفة صلى الله عليه وسلم والتعرُّض لشخصه، مقولة جيري فالويل: "أنا أعتقد أنَّ محمداً كان إرهابياً .. في اعتقادي المسيح وضع مثالاً للحب، كما فعل موسى، وأنا أعتقد أنَّ محمداً وضع مثالاً عكسياً .. إنه كان لصاً وقاطع طريق ..". وجيري فالويل قسيس إنجيلي معروف بالولايات المتحدة الأمريكية. وكذلك مقولة القسيس بات روبرتسون، حيث وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه: "كان مجرد متطرِّف ذو عيون متوحِّشة تتحرك عبثاً من الجنون". انظر: الندوة التي نظَّمتها مجلة البيان بعنوان: "ما دورنا حيال حملة الإفك والحقد الدفين للأصولية النصرانية المتصهينة على الإسلام ورسوله الأمين؟"، مجلة البيان، تصدر عن المنتدى الإسلامي بلندن، السنة الثامنة عشرة، العدد (185)، محرم 1424هـ، مارس 2003م، ص 44ـ51.
([60]) يوسف محي الدين أبو هلالة: مرجع سابق، ص 15ـ20.
([61]) المرجع السابق، ص 20ـ21.
([62]) المرجع السابق، ص 21ـ23.
([63]) سورة الصف، الآية (8).
* محاضر بقسم الإعلام، كلية الشريعة ـ جامعة إفريقيا (الخرطوم ـ السُّودان).(/11)
الذاتية الإسلامية أصل في التربية وتطبيق
المسلمون وقضية العصر في التربية الدينية
أد: يحيى هاشم حسن فرغل
من علماء الأزهر
عميد كلية أصول الدين والدعوة بطنطا بالأزهر سابقا.
********************************************
هذا الكتاب
رسالة اعتذار
إلى معلم الإنسانية الأول
وأستاذ التعليم الديني في الإسلام
: أن ضيعنا المروءة والكرامة
قبل أن ضيعنا الأمانة
عندما قبلنا أن نستمع إلى من يكفر بمحمد وهو يعلمنا كيف نعلِّم
كيف نعلِّم الدين
كيف نعلِّم الدين الذي ورثنا علومه من نبي الله محمد.
رسالة اعتذار.
إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم
نقدمها
أمام نور وجهه الكريم
في لحظة لقاء منشود عند حوض موعود.
**********************************************
الإهداء
إلى روح زوجتي سيادة طه
بعض جزاء لوفاء زوجة وصمود أم.
***********************************************************
المقدمة
تعرض النظريات التربوية العلمانية علينا أهدافا للتربية، قد يكون بعضها هاما، وقد يكون بعضها فاسدا، ولكنها جميعا لا تهتم بالهدف الأعلى من وجود الإنسان، النابع من صلب العقيدة الإسلامية.
هذه النظريات تعرض علينا أهدافا من خلال الأيدولوجيا الوطنية تارة ، والقومية تارة ، والطبقية ، أو الفردية أو الاجتماعية أو الليبرالية أو الحداثية أو العولمية تارات ..
وهذه الأهداف جميعا - أو بعضها - لا يمكن أن تأخذ وضعها الصحيح في البناء الإسلامي طالما هي لا تستهدف صناعة شخصية المسلم وفق مفهوم العبادة والتسليم لله . بحيث يصبح هذا الهدف الحاكم المسيطر على جميع الأهداف الأخرى ، إن صح أن توضع بعض الأهداف الأخرى كأهداف ثانوية تابعة .
إن الإسلام هنا يلقي باللوم على أهداف تربوية شائعة في العصر الحديث :
إنه لا يقر التربية من أجل المفاخرة ، ولا يرضى عن التربية من اجل الاستمتاع ، ولا يدعو إلى التربية من أجل التعصب المذهبي ، ولا يعترف بالتربية من أجل العكوف على التراث ، ولا يقصر التربية على خدمة المذهب ، ولا يهبط بسقف التربية إلى مستوى الحصول على وظيفة ..
ولكنه يجعلها تربية الهدف الأسمى " العبادة والتسليم لله " .
إن المنهج التربوي الإسلامي في قيامه على هدف العبودية لله والتسليم له كحاكم على الأهداف التربوية الأخرى تظهر آثاره العملية- على سبيل المثال - في مشكلة تناول المخدرات.
إنه من الجائز لشخص ما أن يتمسك بسلوكه المنحرف في تناول المخدرات –مثلا- من منطلق الحرية الشخصية مهما حدثناه عن الوطنية أو القومية أو النفعية أو الترفيهية أو صحته النفسجسدية إلخ ، ولكنه لا يمكنه أن يقدم على هذا السلوك متمسكا بهذه الحرية الشخصية وهو أمام خطاب تربى على الإيمان به : خطاب الله تعالى له بتحريم الخمر ، وتحريم المخدرات ، إنه لا يمكن إلا أن ينقاد – وقد تربى على الانقياد والاتباع للشريعة والتطلع للآخرة والطمع في الجنة – أمام خطاب الله تعالى { وَأَنْفِقوا في سَبيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقوا بِأَيْديكُمْ إِلى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنينَ } البقرة 195، إنه لا يمكن إلا أن ينقاد للشريعة أمام خطاب الشارع له بأنه لا يملك أمر نفسه ، ليس له فيها إلا أن يسلم هذه النفس إلى مالكها وخالقها ، وهو الله سبحانه وتعالى ، فيسلمها إليه وفق إرادته تعالى لا وفق إرادته كإنسان .
*****
إن منشأ المشكلات التربوية في العالم الإسلامي هو في فقدان الذاتية الناشئ عن هزيمة المسلمين في صراعهم الحضاري مع النموذج العلماني المعاصر .
نحن نعرف أن عرض " بناء الشخصية " من منظور التربية الإسلامية على أساس الهدف الأسمى " التسليم لله " يمكن أن يتعرض لمقاومة من جهاز المناعة الذي زرعته العلمانية في العصر الحديث ضد كل ما هو من أصول الإسلام ، بدعوى أنه خطاب ماضوي أو تجاوزه الزمن ، ويكفيه أن يأتي في سياقات الوعظ والإرشاد ، والرقائق ؛ من أجل إجهاضه ، أو استصعاب المطالبة به على المستوى العام ، وتغليب العرض العلماني التغريبي عليه ، وهذه مناورة مكشوفة ، ونحن نؤمن بوجوب عرض القضية في سياقها الصحيح : ألا وهو " منهج التربية الإسلامية في بناء الشخصية " ذلك الذي كان منهج الرسول في الدعوة إلى الإسلام [1].
******
وهو منهج يقوم على التكامل والتوازن بين الجوانب الأساسية في تكوين الشخصية ، ، ومن ثم لابد من أن يجعل شخصية المسلم متميزة عن غيرها من شخصيات تنمو بتدبير من تيارات من : أديان أو مذاهب أو ثقافات أو عقائد أخرى ..
إن التيارات الأخرى لا تعمل على أن تحمي هذه الجوانب جميعا في شخصية معتنقيها ، وهي إذ تغفل بعض هذه الجوانب تُدخِل الشخصية في صراع مع ما أغفلته ، أو في صراع مع ما صغَّرت من شأنه .(/1)
وإذا كان العدو الاستراتيجي للإسلام قد بدأ يخوض في ضمائرنا ، ليعلمنا كيف نتعلم ديننا فقد وجب أن نتوجه إلى تأكيد مشروعنا التربوي لبناء الشخصية الإسلامية - وفقا لأصالتنا الذاتية – في وضوح وقوة إيمان ، وهو مشروع يقوم على النظرية الإسلامية في " التكامل والتوازن والتميز" كبديل تربوي عملي عن سوء الفهم الذي يدور أحيانا حول قضية الوسطية [2] معرضين في الوقت نفسه عن لغو الخائضين
المدخل
نظرية التعلم في الإسلام
ترتبط نظرية التعلم في الإسلام بنظرية المعرفة فيه ، باعتبار الثانية أصلا للأولى . ونظرية المعرفة في الإسلام تتكون في رأينا من مصدر ، ومورد ، وحركة بين المصدر والمورد .
*****
أما من جهة المصدر : فنجد نظرية المعرفة في الإسلام في قوله تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذي خَلَقَ ، خَلَقَ الْأِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْأِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ } ثم تأتي تتمتها في قوله تعالى إثر ذلك { كَلّا إِنَّ الْأِنْسانَ لَيَطْغى ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ، إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى } أول سورة اقرأ .
وبيان ذلك في هذه الآيات : أن المعرفة لا يعثر عليها في أعماق النفس البشرية ذاتيا ، وإنما تأتي باجتهاد تمثله كلمة " اقرأ " ، وهذا الاجتهاد لا يقوم به الإنسان مستقلا ، وإنما يقوم به ( باسم الله ) وباسم الله لا تعني مجرد البركة ، وإنما تعني الاستمداد ، فهو اجتهاد يستمد مبادئه ووسائله وغاياته من الله .
ولكي لا يختلط الأمر بنظريات غنوصية أو عرفانية .. توضح الآيات المقصود من كون المعرفة اجتهادا بشريا مستمدا من الله : حيث تذكر نظير ذلك في حياة الإنسان ، وهو خلق الله للإنسان فتقول " باسم ربك الذي خلق "
الإنسان لم يعثر عليه في الطبيعة ، ولم يصدر عن العلة الأولى أو بطريق الفيض ، ولكن الله هو الذي خلقه ، خلقه من بداية صغيرة ( خلق الإنسان من علق) وصاحَبَ هذا الخلق جهد بشري ضئيل ، مجرد مصاحبة . هكذا الأمر في الخلق ، وهكذا الأمر في المعرفة . هل يخلقه دون أن يُعلمه ؟ ذلك لا يتفق مع وصفي الربوبية والكرم ، وذلك ما تبينه الآية الثالثة ( اقرأ وربك الأكرم ) ، والنتيجة إذن في الآية الرابعة ( الذي علم بالقلم ) ، فهو الذي علم كما أنه الذي خلق . وإذا كان الخلق من الله مع مصاحبة جهد بشري ضئيل .. مجرد مصاحبة ، فإن التعليم من الله مع مصاحبة جهد بشري ضئيل أيضا : هو الإمساك بالقلم ، والقراءة .
فماذا علم الله الإنسان : هذا ما نجده في الآية الخامسة ( علم الإنسان ما لم يعلم ) علمه الأشياء التي لم يتعلمها : الأشياء التي لم يتعلمها أصلا ، أو التي لم يتعلمها – في الحقيقة – بنفسه ، وإن كان قد صحب عملية تعلمها بجهد بشري ضئيل .
وهذه العلوم نجدها في البداية : في العلوم الضرورية ، ويلحق بها أدوات المعرفة.
وفي الوسائط : في إفاضة هدى الله على جهد الإنسان في مسالك الوصول إلى النتائج .
وفي النهاية : في إفاضة اليقين ، لجبر ثغرات الظن فيما يتعلق بالوصول إلى النتائج .
ولكي لا يلتبس أمر هذا كله بالوحي أو الكشف أو الإلهام الخاص فقد جاء قوله تعالى ( الذي علم بالقلم ) ، ليؤكد الأسلوب العادي في التعلم ، كما أن قوله تعالى ( الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ) يوضح الأسلوب العادي في الخلق .
أما الأسلوب غير العادي : أسلوب خلق آدم ، وأسلوب خلق عيسى عليهما السلام ، وأسلوب الخوارق والمعجزات ، فذلك موضوع آخر لا يصح أن يختلط بما نحن بإزائه . ذلك موضوع الوحي أو الكشف أو الإلهام الخاص ، موضوع لا يتعلق بنظرية المعرفة العادية التي يشترك في الخضوع لها البشر جميعا على سواء .
ثم تبين الآيتان التاليتان أن استقلال الإنسان بالتعلم أو بالعلم يؤدي إلى انحراف عن مصدر التعليم ( كلا إن الإنسان ليطغى ، أن رآه استغنى )
ثم تبين الآية الأخيرة فيما ذكرناه أن المرجع في المعرفة هو الله ، ( إن إلى ربك الرجعى )
*****(/2)
وأما من جهة المورد : فمن الواضح أن المعرفة إذ تصدر من الله فإنها تتوجه إلى الإنسان ، فتلقِّي المعرفة له طرفان : طرف من المصدر وهو الله سبحانه وتعالى ، وطرف في المورد وهو الإنسان ، وهذا الترتيب المبدئي لعملية التلقي يتضمن أن المصدر على علم كامل بالإنسان ، وإذن فإن مصدر المعرفة في الإسلام يخاطب الإنسان من حيث هو كذلك ، فلا يخاطب طبقة معينة من البشر يرتفع بها المستوى أو ينخفض ، فيقع في التناقض مع المستويات الأخرى ، ولا يخاطب في الإنسان قوة دون قوة ، فيقع في التناقض مع القوة التي يهملها ، وإنما هو يتوجه إلى الإنسان ، يقول سبحانه وتعالى { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمونَ } 30 الروم ، معنى هذا أن خطاب الله للبشرية هو من جنس الفطرة التي فطر الناس عليها ، لا أنه نفس الفطرة الموجودة في الناس ، فكان لابد من التلاقي ، أو التلقي بين خطاب الله ، وبين الإنسان يقول الإمام الشهرستاني [3]( إن الله أسس دينه على مثال خلقه ) ، وهذا يعني أن هذا الخطاب يلتقي مع الإنسان في قواه المختلفة ، ويتعامل معها جميعا : العقل والوجدان والإرادة وجوانب الشخصية جميعا .
ومن ثم يأتي الكلام عن حركة التربية في مفرداتها ، ثم في توجهها إلى الشخصية .
********************************************
الفصل الأول
حركة التربية
الدافع إلى التربية في الإسلام
لا نجد في تاريخ الإنسانية كلها دافعا أقوى للعلم والتعلم مما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في فرش طريق العلم بأحلى الأزاهير والورود في قوله صلى الله عليه وسلم ( من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم ، وإن العالِم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض ، والحيتان في جوف الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ) رواه أبو داود والترمذي .
إن الأمر الذي لا شك فيه أن تحصيل العلم بعامة منهج يقره الإسلام ويدعو إليه ويحرض عليه .
فالعلم بوجه خاص كان وما يزال من أعظم القيم التي اهتم بها الإسلام ، ويكفي في هذا المقام أن نشير إلى أنه تداخل في أصل الرسالة وبدايتها في أول ما نزل من القرآن الكريم ، وهو في الوقت نفسه وسيلة جوهرية للوصول إلى معرفة الله وخشيته ، يقول تعالى : { إِنَّما يَخْشى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ غَفورٌ } 28 فاطر
ويقول عليه الصلاة والسلام : ( من علم علما فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار ) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما . قال الترمذي : حديث حسن ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ، فكانت منها بقعة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها بقعة أمسكت الماء فنفع الله بها الناس ، فشربوا منها وسقوا وزرعوا ، وكانت منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ) متفق عليه ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع ) رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن ، ويقول صلى الله عليه وسلم ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي ) أخرجه الترمذي ، وقال : حسن صحيح
وهل نجد في تاريخ الإنسانية كلها بيانا أقوى مما جاء في القرآن في قفل باب الجهل ، أو تحريمه بالأحرى في قوله تعالى { وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفؤادَ كُلُّ أولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤولاً } 36 الإسراء
ويكفي أن نعرف أن التعليم كان هدفا ساميا وقيمة عليا منذ قيام المجتمع الإسلامي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ كان يقدم كفداء من الأسر ، وكمهر في الزواج .
ثم انظر إلى العلم وهو يتسنم قمة المجتمع في هذه الحياة الدنيا ، إذ يحكي سالم بن الجعد فيقول : ( اشتراني مولاي بثلاثمائة درهم ، وأعتقني ، فقلت : بأي شيء أحترف ؟ فاحترفت العلم ، فما تمت لي سنة حتى استأذنني أمير المدينة زائرا فلم آذن له )
*****
وسيلة التربية بين الخبرة والتلقين
تعرض علينا النظريات التربوية العلمانية وبخاصة نظرية ديوي السائدة أن التعلم لا يكون إلا من خلال الخبرة ، أو بعبارة أخرى ( التعلم هو الخبرة ، أو الخبرة هي التعلم ، وما ليس خبرة فليس تعلما )(/3)
وهذه النظرية إذ تعرض علينا فإنها تعني أو تحاول طرد المنهج الإسلامي ابتداء ، أو دفعه إلى زاوية الظلمة والنسيان ، وذلك إذ يوصي رجالها باستبعاد موضوعاته من مستويات معينة من التربية ، وبناء عليه تطرد ابتداء موضوعات الغيب : من الوحي ، والألوهية ، والملائكة ، والجن ، والروح ، والموت ، والبعث والجنة والنار ، أو توضع في مكان متواضع تمهيدا لاستصغار شأنه ، ثم التخلص منه عندما يحين الحين . ..
وقد خاب سعيهم فيما يقصدون ويطبقون
إن المنهج الإسلامي يقر الخبرة ويعترف بها .
إنه إذا كان من الملاحظ أن عنصر الغيب الذي تشتمل عليه العقيدة يمثل نوعا من الصعوبة في التربية العقدية ، وبخاصة في المرحلة الأساسية ، فإن ما فطر عليه البشر من طبيعة التدين يذلل هذه الصعوبة ، بل ويدفع التربية العقدية إلى احتلال مكانة المادة الأكثر جاذبية وتشويقا – لو أردنا – بشرط الاستناد إلى الوسائل والأساليب الصحيحة في عملية التدريس .
إننا في مادة العقيدة – مثلا - يمكننا الأخذ بمبدأ الخبرة بشروط : أولها : استبعاد مبدئي لما علق به من الفلسفات المنكرة للغيبيات ، وثانيها : التسليم بضرورة التلقين : جزئيا ، في مجال حفظ النصوص الأساسية على الأقل ، وثالثها وهذا هو الهدف : استحضار المنهج الإسلامي الذي يرجع بجذوره إلى السنة النبوية ، حيث بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته بوضع الإنسان في مجال خبرة عملية دنيوية ، إذ جعل مثله كمثل رجل يدعو قومه إلى الاستعداد لجيش يوشك أن يقتحم دورهم ، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم ( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ ؟ ) رواه البخاري في صحيحه ، وفي صحيح مسلم بسنده عن حنظلة الأسيدي – وكان من كتَّاب رسول الله - قال: ( نكون عند رسول الله يذكرنا بالنار والجنة ، حتى كأنا رأى عين ) .
ومن هذه الخبرة الواقعية أخذ يدعو الناس إلى الاستعداد إلى التفكير في مصيرهم بعد الموت ، والاستعداد للقاء الله
وعلى هذا الأساس فإن التربية الإسلامية في مجال العقيدة لن تكون بعيدة عن مجال الخبرة ، ولكنها إذ تنطلق منها فإنها تنتقل إلى آفاق تتجاوزها ولا تنحصر فيها ..إنها تنتقل منهجيا من خبرة واقعية في حياة التلميذ ، إلى خبرة واقعية أو ممكنة الوقوع يمكنه أن يتدبرها في حياته 0 وكي ننقل هذه المبادئ إلى مجال التطبيق يمكننا أن نضرب الأمثلة الآتية ، ويمكن في غير هذا المقام النظر في ترتيبها إلى مستويات ومراحل :
يمكن أن يثير المعلم في التلميذ " خبرة الاحتياج " حيث يظهر احتياج التلميذ إلى والديه – مثلا – ثم ينقله بعد ذلك إلى إشعاره بالاحتياج إلى من هو أعظم ، فمع احتياج التلميذ إلى أبيه في وجوده أصلا ، ورعايته بعد ذلك إلا أنه يكتشف أوجه العجز في تلبية الأب لبعض هذه الاحتياجات ، ثم يكتشف أوجه العجز في قيام الأب بحاجات نفسه .. وهنا يصبح المدخل ممهدا إلى الشعور بوجود من يلبي احتياجات الطفل والوالدين والبشر جميعا : فيعطيهم درس " الله الخالق المنعم الرحمن الرحيم . ".
وفي درس الوحدانية يثير المعلم عند التلاميذ خبراتهم الواقعية باحتياج الأسرة إلى رب لها ، ويتوسع بهم إلى المجموعات الأكثر اتساعا ، وأنه لا يصلح أمر الجماعات إذا أسلمته إلى قيادات متعددة متضاربة ، ولا بأس من أن يستعين في هذا ببعض الأمثلة الشعبية المتداولة التي تعالج مثل هذا الموضوع كـ " المركب اللي فيها ريسين تغرق " وعليه أن يعالج هذا التمهيد بالحوار ، وضرب الأمثلة وعرض المشكلات الحياتية ، ومعالجة بعض الوقائع التي ظهر فيها فشل القيادات المتضاربة .
ومن الخبرة يتعلم التلميذ أيضا أنه لابد في التوجه إلى ولي الأمر من أن نتصل برسوله الذي يحمل تعليماته : ومن هنا ينتقل المعلم إلى دروس الرسل ، كما ينتقل إلى ما يحمله الرسل من كتب .
ومن الخبرة يتعلم التلميذ أنه لابد في رعاية ولي الأمر لمن يتولى أمرهم من أن يضع لهم علامات تبين طريق الخطأ والخطر ، وتبين لهم طريق الصواب والسلامة ، وأن من يذهب في طريق الخطر سوف يهلك أو يتأذى ، وسوف يكون أذاه أو هلاكه نتيجةً طبيعية ، وفي نفس الوقت يكون عقابا كأنه أوقعه بنفسه ، طالما أنه كان قد أنذر به ، وأن من يذهب في طريق السلامة سوف ينجو وينعم ، وتكون نجاته حينئذ نتيجة استحقها باعتباره سببا ، ونعيمَه نتيجة وقعت له باعتبارها فضلا .
ومن شأن هذا العرض أن يدفعهم من خلال الحوار والتساؤل وضرب الأمثلة الواقعية والإيحاء غير المباشر إلى استخلاص درس الجنة والنار ، مع ضرورة إبراز معنى الرحمة الإلهية المتمثلة في تحذيره تعالى لعباده من النار ، وإرشادهم إلى الجنة .(/4)
وفي خبرة التلاميذ يمكن البداية من تعاملهم الواقعي مع قوى غير منظورة ، كالقوة الغازيَّة ، والميكروبية ، والمغناطيسية ،والكهربية ، والجاذبية ، لينتقل بهم منها إلى درس الموجودات غير المنظورة التي يقتضيها المنهج في الإيمان بالملائكة والجن والروح إلخ .
وفي خبرة التلاميذ يمكن أن ينتقل المعلم بهم من خبرة نمو النبات من بين الماء والطين ، والفراشة من الشرنقة ، والطير من البيضة ، والحيوان من البويضة : إلى درس البعث .
وفي مرحلة تالية : تستثار خبرة التلميذ من حيث ينطلق المعلم في دروس الإيمان بصفات الله الواردة في المنهج من خلال إثارة انفعال " الدهشة " "والإعجاب " بعظمة الكون ، فيوضع التلميذ في موقف المشاهدة ، أو التعامل أو الاتصال بنماذج من الخلق الرائع ، ويستعان في ذلك بالواقع الحي في الزهرة الجميلة ، والسمكة الملونة ، والحصان البديع ، والأسد المهيب ، والطفل الرضيع ، في عالم الفلك والنبات والحيوان والإنسان : عن طريق المشاهدة الشخصية المباشرة أو الفيلم ، والميكرسكوب ، والكمبيوتر إلخ ، وينطلق من هذا الواقع إلى درس : " الله ، العالم ، القادر ، السميع، البصير ، بديع السماوات والأرض ، إلخ .. كما يستعان في عرض الموضوع بالحوار، وشيء من المناقشة وضرب الأمثلة ، وتدبر القصص .
ومن خلال خبرة التلميذ بواقعة تشغيل أي مصنوع ( كالسيارة أو التليفزيون .. إلخ ) من خلال تعليمات الصانع ، وإرشاداته ، والتزامه بهذه التعليمات وإلا تعرض هذا المصنوع للتخريب والفشل .. من خلال هذه الخبرة ينتقل المعلم إلى نتيجة يستخلصها بالحوار من التلاميذ : وهي أنه لابد لنا من أن نعرف من الله تعالى طريقة التعامل مع مخلوقات الله ، ثم يبني على ذلك نتيجة أخرى هي أننا في حاجة ماسة إلى الرسل الذين ينقلون إلينا هذه المعرفة ، كما ينقلون إلينا شيئا من المعرفة بالخالق وصفاته .
ثم يربط ذلك بما سبق تدريسه من الوحدانية- مثلا – لينتقل بعد ذلك من وحدانية الله إلى وحدانية الدعوة عند الأنبياء ، ثم ينتقل بعد ذلك إلى درس الكتب السماوية ، ليبرز أهميتها في حياة البشر باعتبارها وثيقة الإرشاد الذي يحتاجون إليه في حياتهم.
ومن خلال خبرة التلاميذ بأن الواحد منا عندما يأتي إلى أهله من مكان بعيد أو غريب عنهم ، فإنه يحمل إليهم شيئا منه : أمارة عليه ، واستئناسا به ، وتمهيدا للعودة إليه … ، من خلال ذلك وبواسطة الحوار والمناقشة وضرب الأمثلة ينتقل المعلم إلى درس المعجزات ، مع ربطه في الوقت نفسه بمعلوماتهم التي درسوها سابقا ولها علاقة بموضوع المعجزات : ككون المعجزة مظهرا لقدرة الله وعلمه وعنايته بالإنسان والأنبياء .
ومن خلال خبرة التلميذ بواقعة صلة الصانع بمصنوعه من حيث إنه وحده الخبير بأهدافه ومآله ..ينتقل المعلم إلى درس " اليوم الآخر " باعتباره مآل الإنسان الذي أخبر عنه خالق الإنسان ، وخالق الإنسان وحده الذي يعرف تفصيلات هذا المآل ، وعلينا من ثم أن نكتفي بما ذكره في كتابه تعالى وحديث رسوله عن هذا المآل من بعث وحساب وصراط وجنة ونار.
وتستثار خبرة التلميذ وفطرته في ملاحظة الأحداث والظواهر والتطلع لمعرفة الأسباب ، فيلفت نظره إلى دقة التصميم في الكائنات : في تكوين الحيوان من الخلية الواحدة إلى الترابط العضوي إلى الأجهزة المتناسقة .. وفي تكوين النبات وانبثاقه العجيب الذي يعجز العقل المجرد عن تفسير الربط بين السابق واللاحق فيه .. وفي تكوين المادة : من الذرة إلى عالم الفلك ..
ويستعان في هذا بالميكروسكوب والرسوم التشريحية والفيلم إلخ
ويلفت نظره إلى ما في هذا النظام الدقيق من ترابط وتكافل وتوازن وسير نحو غاية محددة واستهداف لغرض مطلوب ..
من خلال هذه الخبرة الواقعية ينتقل التلميذ إلى تساؤل عن واضع هذا النظام ، واضع هذا الهدف ، ومحرك المخلوقات نحو غايتها الموضوعة لها .
ويتوسع المعلم - في مرحلة مناسبة – في إتاحة الفرصة للتساؤل والتأمل والمناقشة واستخلاص الأجوبة الصحيحة التي تنتهي إلى الاستدلال على صفات الله : مالك الملك البارئ المصور ..المحيي المميت ..
وينتقل المعلم من هذه المقدمات إلى إدراك معنى الموت باعتباره خلقا جديدا ، ومرحلة من مراحل انتقال الإنسان من طور إلى طور ، ومن حياة إلى حياة ، وباعتبار ذلك جزءا من النظام الشامل الذي وضعه الله لمخلوقاته ، وسيرا بالإنسان نحو مقام الوقوف بين يدي الله ، والخلود في رحابه : في مقام الرضا وهو الجنة ، أو في مقام السخط وهو النار .
ومن هذه النقطة يستثير المعلم في التلميذ خبرة الحب ليسعى بها إلى القرب الموعود من الله ، وليتطلع من ساحتها إلى وجه مولاه ، وليؤدي معها واجب الحمد والشكر على ما أولاه .
وإذا وجب الحب لله فقد وجب الحب لرسوله – كما تقضي بذلك الخبرة –لأنه الحامل لهدى الله ، الدال على طريق العودة إليه .(/5)
ويقيم المعلم درسه – في مرحلة مناسبة – على عُمُد الشخصية وبخاصة ثلاثة منها : العقلية والوجدانية والعملية ، ففي الجانب العقلي يستند إلى دليل العناية والإبداع والحدوث ، وفي الجانب الوجداني : يستند إلى أحاسيس الخشية والرغبة والمحبة والإعجاب والانقياد والجلال ، وفي الجانب العملي : يستند إلى تعبئة الجهود ، وتوجيهها نحو العمل في طاعة الله ، وتخليص النفس من مهاوي الخطر ، والدفع بها في مراقي الفلاح .
*****
ومن خلال القصص الديني – وهو بطبيعته يدخل في نطاق الخبرة - يمكن للمعلم أن يستعين بقصص الأنبياء المقررة في تجسيم مواقف الإيمان بالوحدانية والخالقية ورحمة الله بعباده .. ويمكنه إبراز طريق استحقاق الإنسان لرحمة الله .. وأنها – كما تدل عليه هذه القصص – تكون بتقوية الارتباط بالله والامتثال له .
في قصة سيدنا نوح عليه السلام إمكانيات واسعة لإبراز عناية الله بالإنسان وإنذاره بالخطر قبل أن يقع ، ماذا ينبغي عليه أن يفعله كاستجابة لهذا الإنذار ..
وفي قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام إمكانات واسعة أيضا لإبراز إخلاص العبودية لله وحده وعناية الله بعبده ، وكيف تصل هذه العناية إلى حد تعطيل القوانين الموضوعة في ملكه تعالى ، فتنقلب النار بردا وسلاما على إبراهيم عليه السلام .
وفي قصة إسماعيل عليه السلام إمكانات لإبراز التطابق بين كمال الامتثال البشري وتمام الرعاية الإلهية ، وتنقلب السكين على رقبة إسماعيل جسما لينا لا يقطع ولا يؤذي ....
ومن خلال القصص الديني يستخلص من قصة سيدنا يوسف عليه السلام عقيدة القدر : في جريان القدر في شئون الحياة بإرادة الله من حيث لا يعلم أحد عن قدر الله شيئا ، ومن حيث ينبغي على الناس أن يباشروا واجباتهم ومسئولياتهم ، وأن يثقوا بعد ذلك في أن النتائج بيد الله ، وأن لطف الله وعنايته لا تخطئ الذين يسلمون وجوههم إليه .
وتركز في قصة موسى وعيسى عليهما السلام : العقائد المقررة في المنهج من حيث ما تدل عليه هاتان القصتان من قدرة الله وعلمه ورحمته ، وجريان قدره في العباد ، ولطفه بالمخلصين ، وبخاصة في مرحلة الطفولة .
ويستخلص من قصة داود وسليمان عليهما السلام قدرة الله في تمكينه لعباده في الأرض بعد أن يخلصوا له أنفسهم وحياتهم .
ومن قصة صالح عليه السلام تستخلص عقيدة ارتباط الرحمة بالتحذير والإنذار ، حيث تجري رحمة الله بعباده بأن يحذرهم من الوقوع في شرك المخالفة قبل أن يقعوا فيها .. وكيف تجري قدرته فيهم ثانيا بإنفاذ أمره الذي حذرهم منه أولا .
*****
ويربط المعلم تكوين هذه العقائد بثمرتها الواقعية ، من حيث إنه السبيل إلى تكوين الشخصية ، القادرة على الانسجام مع ملكوت الله ، القادرة على العطاء ، ، القادرة على السعي نحو تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة ..
ويبين أن انسجام الإنسان مع ملكوت الله يعني رضاه بالنظام الذي وضعه مولاه ، ويعني الرضا بقضائه وقدره ، ويبين ثمرة ذلك في تنقية الشخصية من الغرور ، واليأس ، والوحشة ، والحسد والجبن ، وتحليتها بالثقة والأنس والغبطة والشجاعة..
ويتوصل المعلم إلى ذلك من خلال الحوار والمناقشة وضرب الأمثلة ، وتحليل المواقف ، والتأمل في أحوال الكون .
*****
ويبين المعلم من خلال ظاهرة التنظيم أن الإنسان مطالب بالأخذ بالأسباب ، وأن أخذه بالأسباب يجب أن يزيده ارتباطا بواضع الأسباب ، وأن يزيده توجها بالتوكل عليه ، لأن الأسباب تتعدد وتتضارب ، وفيها ما هو مقتض وما هو مانع ، وأن الرجوع إلى الله هو الذي يكفل لهذه الأسباب أن تتضافر نحو الغاية المطلوبة .
ويبين المعلم ثمرة الإيمان بالله والأخذ بأسبابه والرضا بقضائه .. من خلال المقارنة بين نماذج ثلاث : مؤمن بالطبيعة غير مؤمن بالدين فهو متخبط في اليأس والضياع ، ومؤمن متواكل غير فاهم لظاهرة النظام ، فهو غارق في الضعف والخذلان ، ومؤمن عامل راض عن ربه منسجم مع نظامه : أمثلة الأول في الغرب كثير ، ومثال الثاني في الشرق كثير ، ومثال الثالث في الإسلام كثير .
ويستشهد على ذلك كله بالخبرة الواقعية ، حيث يكون الامتثال لإرادة الصانع كفيلا بسلامة المصنوع ، ومحققا للغرض الموضوع .
*****
ويوازن المعلم في عرضه للموضوعات بين جوانب الشخصية وبخاصة : التأمل العقلي والإثارة الوجدانية ، والارتباط العملي بالعبادة ، وتأكيدا لمبدأ الخبرة يدعى التلاميذ إلى تكوين بعض الانطباعات حول ما يمر بهم من أحداث ، أو يسمعون عنه من وقائع ، أو يرونه من تمثيليات ، ليعربوا عن هذه الانطباعات ويناقشوها مع المعلم ، ليبلور لهم بعض النتائج المتعلقة بمادة الدرس ، وليتخذوا منها الموقف الصحيح في ضوء التربية الدينية .(/6)
كما يتم الاستعانة بأوجه النشاط المدرسية : في الأناشيد الدينية ، والاستعانة بالأناشيد في حفظ المعلومات ، والإذاعة المدرسية ، والمناظرات ، والحوار التمثيلي ، والتعليق على بعض المناسبات الدينية أو الاجتماعية بما يربطها بموضوعات الدرس ، وخدمة مسجد المدرسة نظاما ونظافة – على سبيل المثال – وتكوين جمعيات الخطابة ، وجمع والتقاط صور الطبيعة ذات الدلالة على قدرة الله وعظمته ورحمته ، ورسم اللوحات الفنية وكتابة بعض الآيات القرآنية بخط جميل ، لربط ذلك ببعض جوانب التربية الإسلامية .
وفي غالب الأحوال : ينتقل المعلم بالتلميذ إلى الموضوع من خلال النص المقرر إن وجد .
*****
وفي جميع الأحوال تطالبه التربية الإسلامية بمحفوظات أو بمعان يقترب منها ولكنه لا يختبرها خبرة تامة ، وعليه أن يسلم بها باعتبار أن الخبرة التامة بها مؤجلة إلى مستوى آخر للشخصية يتوقع أن تنتقل إليه ، وله في ذلك خبرة حياتية في كل صنعة يراها إذ يمكنه أن يقترب من صنعتها ، لكنه لا يمكنه أن يختبر هذه الصنعة بنفسه خبرة تامة إلا أن يكون هو الصانع ، أو يطلعه عليها الصانع ، وينتقل من هذه الخبرة الواقعية إلى أن ما يقترب منها من حقائق الدين العليا يمكنه أن يقترب منها بخبرته ، ولكنه لا يملك أن تكون له بها خبرة كاملة ، لأنها لا تدخل في النطاق البشري العادي ، وأن الخبرة الحقيقية بها مقصورة على من له الخبرة الكاملة ، ألا وهو الخالق اللطيف الخبير .
ولهذا ينبغي أن يوازن المعلم بين التشجيع على التأمل والتساؤل من ناحية وبين كف هذا التساؤل عن الخوض في تفصيلات أمور لا سبيل إلى العلم بها من غير الوحي ، فهي مما لا ينبغي التطاول إليه … كما لا ينبغي للقلم أن يتطاول – وهو في يد الكاتب – إلى السؤال عن مدى علم الكاتب ، أو بالأحرى كما لا ينبغي للعصفور على غصن شجرة في حديقة المدرسة أن يتطاول إلى معرفة نظام الإدارة في المدرسة ، وخطة المناهج ، وأهداف المجتمع من إقامتها !
*****
ولذلك فإنه يجب أن نقرر أن المنهج الإسلامي إذ يقر الخبرة ويعترف بها فإنه لا يقع أسيرا لها ، إنه فوق ذلك يضع في الأساس المعرفة عن طريق الوحي ، وهي معرفة لا تأتي كاملة من خلال الخبرة ، وإنما تنمو من خلال التلقي من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن نقل إلينا علومه .
ولا سبيل إلى مواجهة هذا التحدي والتغلب عليه إلا بأن تتغلغل المعارف الواصلة إلينا من خلال الوحي في نسيج البناء التربوي في المجتمع الإسلامي : قرآنا وسنة – كحقائق مسلمة من طريق الوحي .
الاختلاط " في دور التربية
من التحديات اليومية التي يواجهها الفكر الإسلامي في مجال التربية ما فرضته النظم التربوية العلمانية من الاختلاط بين الجنسين في المدارس والمعاهد والجامعات .
وإنه ليبدو أمر الاختلاط بين الجنسين بعيدا أو متطفلا على مجال التعليم ، ويبدو الإلحاح عليه ممن يفرضونه فرضا سلوكا غريبا أو معيبا إن لم يكن وقحا
هذا هو ما تحس به الفطرة السليمة عند عرض الموضوع للوهلة الأولى ، وهو ما تستقر عليه بعد التأمل والتدبر.
أما ما بين هذا وذاك فإنك تستمع إلى دعاوى براقة عن الكبت والعقد النفسية والتحرر والحداثة ، وكلها عناوين تأتي إلينا من خارج الحمى الإسلامي .
إن الأمر الذي لا شك فيه أن التربية الإسلامية تختلف مع النظريات العلمانية في هذا المقام في أمرين رئيسيين :
*****
أولهما القيمة العليا التي يقررها الإسلام للعفة والحصانة بين الجنسين .
أين الضوابط المطلوبة إسلاميا في حال الاختلاط ؟
هذا هو السؤال الإسلامي لامتحان ما يحدث من الاختلاط في دور التعليم .
أين الضوابط ، أين التحشم بعدم كشف العورة ، تحريم الخلوة ، غض البصر ، أين أصول الشريعة واجبة التطبيق في درء المفاسد مقدما على جلب المصالح ؟ أين سد الذرائع ؟ أين : مبدأ " الضرر يزال " ؟ أين : " الضرر الأصغر لا يزال بضرر أكبر " ؟
وما هي الأضرار ؟
إنها أضرار خلقية لا تعترف الحضارة الغربية المعاصرة بأنها أضرار : في باب العفة ، والاحتجاز الجنسي ، وحفظ العرض .
إن الإسلام يرفع من قيمة العفة إلى الحد الذي نراه في تشريعاته حولها ، وإلى الحد الذي يتصاعد إلى وضع عقوبة الرجم أو الجلد عند إهدارها بشكل معين .
بينما النظريات العلمانية الحديثة تهدر هذه العفة تماما وتحرض على السلوك ضدها ، ولا تضع عليها حظرا ولو ضئيلا ، إلا إذا اتصل الأمر بقيمة الحرية ، الحرية الشخصية التي وصلت في المجتمع الغربي المعاصر إلى حد المناداة بحرية الجنس .(/7)
وعلى افتراض أن بعض البيئات الأوربية لا تزال تعنى بجانب العفة تحت ما يسمى " قواعد السلوك الحسن " فإنه يظل لوجهة النظر الإسلامية استقلالها وتميزها وأهميتها الخاصة بالنسبة للموضوع ، ونستشهد في هذا المقام بكلمة للمستشرق الفرنسي المعاصر مارسيل بوازار إذ يقول ( إن بعض قواعد السلوك الحسن التي قد لا تكون في الفلسفة الأوربية سوى أخلاق اجتماعية تتخذ في المفهوم الإسلامي طابعا قانونيا .. وهذا الجمع المحكم بين القانون والخلق يؤكد قوة النظام منذ البداية .. ) [4]
هذا فارق أساسي لا يترك فرصة لقاء بين التربية الإسلامية والتربويات العلمانية في مسألة الاختلاط .
*****
الأمر الثاني : في هذا المقام فإن التربية الإسلامية تعني بأسلوب الوقاية الحذرة البصيرة قبل أسلوب الردع أو العقاب . ومن هنا يبدأ الإسلام بسد الذرائع التي يمكن اتخاذها لإهدار قيمة العفة وهي كما قلنا قيمة عليا كما نعرف .
وسد الذرائع يبدأ هنا بمنع الاختلاط في دوْر المراهقة والشباب ، في مبيت الإخوة بالمنزل ، ثم في دور العلم ، وبخاصة في المجتمعات الحديثة التي يتأخر فيها سن الزواج .
وهذا إجراء هيِّن ، اللهم إلا في مقياس الصراع الحضاري الذي كسبت فيه الحضارة الغربية جولة كبرى بفرض نمطها على خصوصيات الحضارات الأخرى .
وهو إجراء لا يمكن أن يكون على حساب العملية التربوية نفسها . وإنما الأمر فيه على العكس ، إذ يصبح منع الاختلاط بين الفتيان والفتيات عاملا من عوامل تنقية الجو لتلقي العلم ، بعيدا عن عوامل التشاغل والإغراء بالجنس ..
والكلام عن الكبت مرفوض بالكلام عن انتشار نمط الأمهات غير المتزوجات ، والأطفال غير ذوي الأسر ، في المجتمعات التي أسست لهذا النوع من السلوك .
ولقد أصبح من المتداول حاليا في الأوساط العلمانية نفسها بعض البحوث التربوية التي تشير إلى الأضرار التربوية التعليمية الناشئة عن الاختلاط .
*****
نستشهد في هذا المقام بما وصلت إليه الباحثة الانجليزية جنيفر كوتس – وهي محاضر أول للغة الإنجليزية وعلم اللغة بمعهد ريهامبتون بلندن .[5]
وقد انتهت الباحثة في كتابها "النساء والرجال واللغة : تحليل لغوي واجتماعي للفروق الجنسية في اللغة ، نشر نيويورك 1986 " إلى نتائج هامة عن اختلاف أسلوبي الرجل والمرأة في تعلم اللغة ، والآثار المترتبة على ذلك ، وقد لخصت هذه الآثار في نقطتين : سوء التفاهم بين الرجال والنساء نتيجة تبني كل طرف قواعد مختلفة للمحادثة ، وتفسيره سلوك الطرف الآخر من وجهة نظره هو ، والمشكلات التي تثور في الفصول الدراسية نتيجة اختلاف السلوك اللغوي لكل من الذكور والإناث .
وتقرر الباحثة أن النتيجة السلبية لاختلاف الأسلوبين بين الذكر والأنثى تؤدي إلى إلحاق الضرر بالإناث ، لأن أسلوبهن يؤدي بهن إلى التحول إلى جنس مسَيطَر عليه في المجموعات المختلطة ، كما يؤدي إلى إلحاق الضرر بالذكور لأنهم يفتقدون عنصر التنافس الذي تخمده طريقة المرأة في المحادثة .
وتأتي معظم الأضرار من جملة أمور :
منها قدرة الذكور التواصلية التي تفوق قدرة البنات على الرغم مما هو مشهور عنهن من تقدمهن اللغوي ، فالذكور يعرفون بصورة أفضل متى يتكلمون ومتى يصمتون
ومنها حرص الذكور على لفت الأنظار إليهم في حين تتابع الإناث كلام الذكور في صبر .
ومنها ميل الذكور إلى التفاخر والتظاهر باستسهال الاختبارات الصعبة ، في حين أن البنات يظهرن القلق في أدائهن .
ومنها المشاركة الإيجابية من الذكور نحو الأسئلة المطروحة ، إذ يتميزون بالنشاط ورفع الصوت وتقديم تخمينات أو فروض عديدة ، في حين أن الإناث يستجبن بصورة سلبية .
ومنها ميل الذكور – في المدارس الثانوية خاصة – إلى إظهار السخرية من الإناث أثناء حديثهن أو تساؤلهن ، وإصدار همهمات الاستهزاء أو الاستنكار في حين أنه لم يعثر الدارسون على أمثلة قامت فيها البنات بدور السخرية أو الاستنكار نحو الذكور .
وترى الباحثة أن جزءا من اختلافات الجنس اللغوية يعود إلى أسلوب القهر الذي تتعرض له الأنثى منذ الصغر ، كما ترى أن معظم هذه الاختلافات يعود إلى اختلاف " الثقافة الفرعية " لكل جنس على حدة .
ونرى من جهتنا أن أسلوب القهر الذي أشارت إليه الباحثة حسب تسميتها له يظل احتمالا قائما مشكوكا في قبوله للتغير ، نظرا لرسوخه في جميع أطوار التجمعات البشرية ، كما يؤكد هذا البحث الذي تم إجراؤه في بريطانيا ، كما نرى أنه ليس من المنطقي ولا من الممكن القفز فوق هذا الواقع - المرتكز على أسلوب القهر الذي أشارت إليه - بالأخذ بنظام الاختلاط في مجتمعاتنا الإسلامية لحساب وجهات نظر ما زالت تحقق نتائج سلبية ، من وجهة النظر التعيلمية والتربوية على الأقل .
ويعلق الأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر الذي لخص هذه الدراسة بقوله عن هذا البحث : ( إنه يعد واحدا من أهم الدراسات التي تمت حول هذا الموضوع ).
*****(/8)
إن البعض منا يكونون في بعض الأحيان علمانيين أكثر من آباء العلمانية أنفسهم : ففي الوقت الذي يحارب فيه الحجاب في المدارس من بعض المسئولين ، وتمنع المتحجبات من ممارسة التعليم ، وفي هذا الوقت الذي يكاد يتقزز فيه هؤلاء المسئولون تقززا عصبيا من بعث فكرة منع الاختلاط في الجامعة : تأتي الأخبار من جامعة ميلز كوليدج في ولاية كاليفورنيا الأمريكية بعد معركة أسبوعين من احتجاج الطالبات وأولياء أمورهن ضد الاختلاط ، بأن مجلس الجامعة هناك قرر التراجع عن فتح أبواب الجامعة أمام الطلاب الذكور ، وأطلقت الطالبات هتافات الفرح لدى إعلان رئيس مجلس إدارة الجامعة " وارن هيلمن " القرار ، وكانت الطالبات قد قاطعن الدروس ، وجمعن خلال حملة الاحتجاج ثلاثة ملايين دولار للجامعة لحل الصعوبات المالية التي كانت قد دعت الإدارة إلى قبول الطلاب الذكور ، وعندئذ أعلن رئيس مجلس إدارة الجامعة ( لقد كسبنا جميعا ) : إلغاء الاختلاط واقتناص الملايين !! [6].
*****
نطاق " التربية الإسلامية "
هذه التربية الإسلامية في المدرسة ما هي : أهي مجرد فرع من فروع التربية ؟ وما صلتها ببقية الفروع ؟ صلة ابن الضرة ؟ أم صلة التوأم ؟ أم غير ذلك ؟
هذه التربية الإسلامية كيف ننظر إليها ؟ أننظر إليها باعتبارها جزءا معزولا – كما هو التصور العلماني - عن أنواع التربية الأخرى : التربية الرياضية والفنية والتاريخية والوطنية والفيزيائية والمهنية إلخ ؟ وعندئذ تصبح التربية الإسلامية نشاطا خاصا لا يسمح له بالتداخل في النشاطات التربوية الأخرى دون أن يتهم بالتطفل والمزايدة ؟
أم تكون التربية الإسلامية المقياس الذي تقاس إليه أنواع التربية المختلفة الأخرى ، وتخضع لمفاهيمه العامة ، وقيمه ومقاييسه الأساسية الواضحة الصريحة ؟
إن مفهوم التربية الإسلامية يطرح اليوم – في هامشه المتناقص – طرحا خاطئا منذ البداية ، فالتربية الإسلامية لا يمكن أن تكون قسيما للتربية الرياضية أو التربية التاريخية إلخ ، ولكنها هي المقسم الذي تتفرع عليه جميع أنواع التربية الأخرى .
ولا شك أن المنهج الذي يقوم على عزل التربية الإسلامية هو ما توصي به العلمانية إن ترفقت بالتربية الإسلامية وسمحت لها بنوع من الوجود المتهافت المريض
ولا شك أن التربية الإسلامية الصحيحة من وجهة النظر الإسلامية لا تكون بغير منهج التغلغل والتداخل مع أنواع التربية الأخرى .. ، وهي تجد نفسها في ظل المنهج الأول في حالة من التحدي الصارخ .
إنه حتى في الفكر العلماني المعاصر نجد النظريات التي تقرر أن الإنسان وإن تعددت احتياجاته في بناء شخصيته فإنه يحتاج أساسا إلى إطار مرجعي ، وإلى طريقة ثابتة مستقرة في إدراك العالم وفهمه .
ومن هنا فإنه إذا لم تكن التربية الإسلامية هي الإطار المرجعي لكل أنواع التربية الأخرى فإن هذا يعني تلقائيا اتخاذ فلسفات أخرى إطارا مرجعيا بديلا ، وهذا نقض خفي للإسلام ، لا يمكن علاجه بمجرد وجود نوع من التربية الإسلامية التابعة أو المعزولة .
إن التربية الإسلامية لا تكون تربية بالمعنى الصحيح للكلمة إلا بالهيمنة العامة والتداخل القيمي في أنواع التربية الأخرى ..
ولا يعني هذا التقيد أن تؤخذ جميع الحقائق العلمية عن طريق الوحي .
ذلك مالا يخطر ببال أحد ممن يفهمون المنهج الإسلامي .
إن المسألة لا تعدو أن تكون الأخذ بحركة المنهج التجريبي تحت مظلة القيم الإسلامية العامة .
وعلى سبيل المثال فإننا لا يمكن أن نتحدث في درس البيولوجيا عن تفريخ البيض في مزارع تربية الدواجن دون أن نشير إلى فضل الله تعالى في هداية الإنسان إلى صناعة هذه المفرخات .. ولا يمكن أن نتحدث عن دور الرياح في تلقيح النباتات في حقول القمح دون أن نذكر التلميذ بقوله تعالى ( وأرسلنا الرياح لواقح ) 22 الحجر ، ولا يمكن أن نتحدث عن حاستي السمع والبصر دون أن نستحضر قوله تعالى ( وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، لعلكم تشكرون ) 78 النحل .
وبذلك يصبح جميع العاملين في حقول التربية عاملين في حقل التربية الإسلامية بدرجة أو بأخرى في نطاق المفهوم الشامل للتربية الإسلامية ، خارج الوضعية العلمانية .
*****
أنواع العلوم :
يتأكد ذلك ببيان نظرة الإسلام إلى أنواع العلوم الأخرى وكيف أنها ترعرعت تاريخيا في ظله ، وأنه يرعاها ، ويوصي بها ، ويعمل على تطويرها .(/9)
إنه لا يختص العلم المطلوب في الإسلام بالعلم الديني وإنما يمتد إلى العلم بمظاهر الكون وحقائقه يقول تعالى : {الرَّحْمَنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ ، خَلَقَ الْأِنْسانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ ، الشَّمْسُ والْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ، والنَّجْمُ والشَّجَرُ يَسْجُدانِ ، والسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْميزانَ ، أَلّا تَطْغَوْا في الْميزانِ ، وَأَقيموا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِروا الْميزانَ ، والْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ ، فيها فاكِهَةٌ والنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ ، والْحَبُّ ذو الْعَصْفِ والرَّيْحانُ } 1-12 الرحمن
فما هو العلم الذي لم يحصل التصريح به أو الإشارة إليه في هذه الآيات ؟ علم القرآن ؟ علم اللغة ؟ علوم التعبير بشتى فنونها ؟ علم الفلك ؟ علم النبات ؟ علم طبقات الأرض ؟ علم الحياة ؟ علم الكيمياء ؟ علم الرياضة ؟ علم الاقتصاد ؟علم الميزان والعدل ؟
ألست تجد في هذه الآيات الموجزة ذلك كله ، وفي غيرها من الآيات مما يضيق المقام عن ذكره جميعا ؟
وإذا كانت بعض هذه العلوم قد جاءت بعض مسائلها وأحكامها في القرآن الكريم والسنة المطهرة فيكون الطريق إلى العلم بها هو الوحي ..فإنه لا جدال في أننا نجد الكثير من هذه العلوم لم يأت من مسائلها التفصيلية شيء في القرآن الكريم أو السنة ، وأن الطريق إليها يكون التجريب تارة والتأمل تارة أخرى ، ويدعو إليه القرآن الكريم بربطه مع التفكر في آيات الله . أنظر إلى قوله تعالى : { إِنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والْأَرْضِ واخْتِلافِ الْلَيْلِ والنَّهارِ والْفُلْكِ الَّتي تَجْري في الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَتَصْريفِ الرّياحِ والسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ والْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلونَ } 164 البقرة ، وقوله سبحانه وتعالى : { فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسانُ إِلى طَعامِهِ ، أَنّا صَبَبْنا الْماءَ صَبّاً ، ثُمَّ شَقَقْنا الْأَرْضَ شَقّاً ، فَأَنْبَتْنا فيها حَبّاً ، وَعِنَباً وَقَضْباً ، وَزَيْتوناً وَنَخْلاً ، وَحَدائِقَ غُلْباً ، وَفاكِهَةً وَأَبّاً ، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ } 24 – 32 عبس ، ثم انظر بعد ذلك إلى قوله تعالى : { قُلْ سيروا في الْأَرْضِ فانْظُروا كَيْفَ بَدأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ } 20 العنكبوت ،
وهذا ما يدعو إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث تأبير النخل – وهو مسألة تجريبية تقنية – فيما جاء بصحيح مسلم بسنده عن رافع بن خديج قال : ( قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يؤبرون النخل ، - يقولون يلقحون النخل - ، فقال : ما تصنعون ؟ قالوا : كنا نصنعه ، قال : لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا ، فتركوه ، فنفضت أو فنقصت ، قال فذكروا ذلك له فقال إنما أنا بشر ، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر . قال عكرمة : أو نحو هذا – قال المعقري فنفضت ولم يشك - أنتم أعلم بشئون دنياكم ) ،
وهكذا جمع الإسلام في مفهومه بين مصدرين للعلم : الوحي ، والتجربة .
وإذا كان الحد الأدنى من علوم الدين فرض عين على كل مسلم ومسلمة ، فإن الأخذ بشتى العلوم وتخصصَ البعض في فرع من فروعه يصبح فرض كفاية في ذمة الجماعة ، إذا أداه بعضهم سقط عن الباقين . يقول الإمام أبو حامد الغزالي : ( فلا يتعجب من قولنا إن الطب والحساب من فروض الكفايات ، فإن أصول الصناعات أيضا من فروض الكفايات ، كالفلاحة والحياكة ، والسياسة ، والحجامة ، فلو أن بلدا خلا من الحجَّام [ وهو يمثل الجراح في العصر الحديث مع فارق التقدم العلمي بالطبع ] تسارع الهلاك إليه ، … فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء ، وأرشد إلى استعماله ، وأعد الأسباب لتعاطيه ، فلا يجوز التعرض له بإهماله . ) [7]
وقد غفل المسلمون في العصر الحديث عن الحكم الشرعي لعلوم كثيرة ، وضعوها في أطر مستحدثة لا تُشعر بصلتها بواجباتهم الشرعية الأصيلة فيها ، ولو أنهم استفتحوها بكلمة " فقه " مثلا لزرعت فورا في أرضها الخصبة لتنتج ما نصبو إليه منها دون تردد أو تخبط أو تعثر أو إبطاء : مثل : علوم ( فقه ) التخطيط والإدارة والسياسة ، ومثل تكنولجيا الأقمار الصناعية وهندسة المدن ، والكيمياء الحيوية ، والهندسة الوراثية ، والطب ، والإعلام ، والعلوم النووية ، والمفاعلات الذرية ، والطيران ، وصناعة السيارات ، والسفن وعلوم الفضاء .. إن التفريط في هذه العلوم يلحق بالمجتمع كله وصمة المعصية ، ويعرضه لخطر الدنيا والآخرة .
إن المجتمع الذي يسقط ذلك يكون قد أسقط فرضا من الفرائض ، أو واجبا من الواجبات ، أو عبادة من العبادات التي تلزمه بحكم الشرع ..
هكذا جاءت أحكام الإسلام بخصوص العلم في القرآن والسنة .(/10)
*****
وهكذا سار المجتمع الإسلامي في طريق العلم ، الطريق الذي يرتبط فيه العلم بالعمل فيثمر التجربة ، والذي يرتبط فيه العلم بالدين فيثمر الإيمان .
ومن هنا قدمت الحضارة الإسلامية شموس العلم التجريبي على المستوى الإنساني من أمثال :
الكندي : الذي يقول فيه كوردان – وهو فيلسوف من فلاسفة النهضة الأوربية :( يعد الكندي واحدا من اثني عشر، هم أنفذ الناس عقلا ، وأنه كان في القرون الوسطى واحدا من ثمانية هم أئمة العلوم الفلكية ).
ابن الهيثم : الذي يقول عنه جورج سارتون في كتابه تاريخ العلم : ( إنه من أكبر الباحثين في علم البصريات ) .
البيروني : وهو الذي يقول عنه المستشرق سخاو : ( إنه أكبر عقلية في التاريخ ، ومن كبار علماء الفلك ) ، ويقول عنه المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام ( هو من أعلام العلماء في تاريخ الإنسانية كلها ) .
ابن النفيس : الذي سلبه الغرب حق اكتشاف الدورة الدموية ونسبها كذبا وتزييفا إلى هارفي ، متناسيا ما قام به ابن النفيس من تجارب وملاحظات واختبارات وصل على أساس منها إلى اكتشاف الدورة الدموية قبل هارفي بعدة قرون .
ابن يونس : الذي يقول عنه الدكتور عبد الحليم منتصر في كتابه " العلوم عند العرب " : ( لقد رصد ابن يونس كسوف الشمس وخسوف القمر في القاهرة ، وقد وصف في زيجه الحاكمي الطريقة التي اتبعها فلكيو العرب في عصر المأمون في قياس محيط الأرض ، وهو الذي اخترع البندول ، وبذلك يكون قد سبق جاليليو بعدة قرون ، وقد برع ابن يونس في حساب المثلثات وأجاد فيها ، وفاقت بحوثه بحوث كثير من الرياضيين ، وحل مسائل صعبة في المثلثات الكروية ، واستعان في حلها بالمسقط العمودي للكرة السماوية على كل من المستوى الأفقي ، ومستوى الزوال ، وابتدع قوانين ومعادلات كان لها قيمة كبرى قبل اكتشاف اللوغارتمات )
ابن ماجد : الربان الشهير أحمد بن ماجد السعدي شهاب الدين النجدي ، ربان سفينة فاسكو داجاما في رحلتها التاريخية إلى بحر الهند من طريق رأس الرجاء الصالح ، وكانت مصنفاته في علم البحار المصدر الأساسي لمصنف مشهور في الجغرافيا الملاحية لأمير البحر التركي سيد علي ريس ، وقد ذكر في مقدمة كتابه عددا من مصنفات سابقِهِ ابن ماجد ، وقد ذكر ابن ماجد في مصنف منها أن له تجربة أربعين عاما في الملاحة ، مما جعل المستشرق " فيران " الذي اكتشف بعض مخطوطاته في خزانة مخطوطات ( الناسيونال بباريس ) يفترض أنه ولد في العقد الثالث من القرن الخامس عشر ، وقد أفسح كراتشوفسكي في كتابه (تاريخ الأدب الجغرافي العربي ) ترجمة مبسوطة لأحمد بن ماجد تبين أنه كان ينحدر من أسرة اشتغل أفرادها بقيادة السفن ، ، ويذكر " سر رتشارد برتون ( أن ملاحي عدن كانوا إلى منتصف القرن التاسع عشر ينسبون اختراع البوصلة إلى ولي يدعى الشيخ ماجد ويقرءون الفاتحة على روحه قبل ركوبهم البحر ) - أنظر إلى الحس الديني المرتبط بالعلم - وآثار ابن ماجد كثيرة – تأخر الكشف عن أصولها العربية إلى أوائل العِقد الثاني من القرن العشرين – بلغت أربعين مصنفا ومعظمها منظومات ، أما كتابه ( الفوائد في أصول علم البحر والقواعد ) فقد رأى فيه المستشرق الفرنسي جابرييل فيران الذي نشره في طبعة موثقة محققة متقنة مع حواش وتعليقات علمية أثرا يدعو إلى الإعجاب واعتبره ذروة التأليف الفلكي الملاحي في عصره . [8]
( إن الإسلام بدعوته إلى العلم هو الذي خرج للإنسانية – كما يقول الإمام الأكبرالأستاذ الدكتور عبد الحليم محمود - رجال الحضارة وجهابذة العلم وأساتذة الدنيا وعمالقة العلماء أمثال : ابن الهيثم ، والكندي ، والفارابي، وابن سينا ن والبيروني ، والزهراوي والخوارزمي وابن البطار ، وابن حيان ، والإدريسي ، والمسعودي ، وابن بطوطة ، وابن زهرة ، هؤلاء الأعلام وغيرهم كثير في كل فن هم ثمرة الدعوة الإسلامية التي بلغت في الإشادة بالعلم الذروة ) [9]
*****
مكانة المنهج التجريبي :
قامت الحضارة الأوربية المعاصرة بكل ما فيها من صناعة في الطبيعة ، ومن اكتشافات في الكيمياء ، ومن قوانين فلكية ، ومن اختراعات في جميع المجالات المادية والحسية على أساس من المنهج العلمي التجريبي .
وهذا المنهج في المشهور المتعارف يدين بوجوده إلى الفيلسوف الإنجليزي : فرنسيس بيكون ولكنه عند الدارسين لتاريخ الفكر الأوربي [10] يدين لسلفه الأسبق : روجر بيكون أكثر مما يدين لغيره ، بيد أن روجر بيكون – على خلاف كثير من مواطنيه – يعترف في صراحة لا لبس فيها وفي وضوح لا شائبة فيه أنه مدين في منهجه للعرب وللحضارة العربية .(/11)
وهذه الحقيقة التي حاول الغربيون جاهدين أن ينكروها يعلنها الآن بعض المنصفين منهم ، فها هو الأستاذ بريفولت يتحدث في كتابه " بناء الإنسانية " عن أصول الحضارة الأوربية فيقول : ( إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعلوم العربية في مدرسة أكسفورد على خلفاء معلميه في الأندلس ، ولم يكن لروجر بيكون ولا لسميه الذي جاء بعده الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي ، فلم يكن روجر بيكون إلا رسولا من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوربا المسيحية ، وهو لم يمل قط من التصريح بأن تعلم معاصريه اللغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة ، والمناقشات التي دارت حول واضعي المنهج التجريبي هي طرف من التحريف الهائل لأصول هذه الحضارة ، ) ويقول بريفولت أيضا ( لقد كان العلم أهم ما جاءت به الحضارة العربية إلى العالم الحديث ، ولكن ثماره كانت بطيئة النضج : إن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في أسبانيا لم تنهض في عنفوانها إلا بعد مضي وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب لظلام ) ثم يقول ( إن ما ندعوه العلم قد ظهر في أوربا نتيجة لروح من البحث جديدة ، ولطرق من الاستقصاء لطرق التجربة والملاحظة والمقاييس ، ولتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان ، وهذه الروح وتلك المناهج العلمية أدخلها العرب إلى العالم الأوربي )
ويقول المؤرخ الأوربي " اجناسيو أولا غويه " في كتابه " العرب لم يستعمروا أسبانيا " ( لقد ولد الغرب المعاصر من أسبانيا ألفونسو العاشر ومن صقلية فردريك الثاني ، وهما المعجبان بالحضارة الإسلامية المتحمسان لها ، تلك التي كانت كأنها قابلة أو أم مرضع للحضارة الغربية ) [11]
وتقول المستشرقة الألمانية زيجفريد هونكة ( إن المسلمين عندما اتصلوا بالتراث الحضاري للأمم السابقة فإنهم أحاطوا بقلوبهم حتى المؤلفات الفنية الدقيقة في الهندسة، والميكانيكا ، والطب ، والفلك ، والفلسفة ) ثم تقول ( إن العرب لم ينقذوا الحضارة الإغريقية من الزوال ثم نظموها ورتبوها وأهدوها إلى الغرب فحسب ، إنهم مؤسسو الطرق التجريبية في الكيمياء والطبيعة والحساب ، والجبر ، والجيولوجيا وحساب المثلثات وعلم الاجتماع ، لقد قدم العرب أثمن هدية : وهي طريقة البحث العلمي الصحيح التي مهدت أمام الغرب طريقه لمعرفة أسرار الطبيعة وتسلطه عليها اليوم ) [12]
*****
إن الحضارة الإسلامية لم يقتصر دورها على مجرد رعاية الفكر الإنساني السابق عليها وتقديمه للحضارة الأوربية ، ولكنها تعدت ذلك إلى وضع المنهج العلمي التجريبي الذي يربط بين العلم والعمل ، ذلك المنهج الذي احتقره الإغريق ، واحتقرته أوربا في العصور الوسيطة ، يقول فيليب فرانك في كتابه " فلسفة العلم " : ( كانت العادات الاجتماعية – أي عند الإغريق لا تشجع على الاتصال بين نمطي المعرفة –أي النظري والعملي – وإذا حاول إنسان ذو مكانة اجتماعية أن يطبق الفلسفة أو العلم على إحدى المشاكل التقنية فإنه كان يواجه بنقد مرير ، وقد كان الاختبار العملي للمبادئ العامة يتطلب عملا يدويا ، وكان العمل اليدوي في نظر اليونانيين القدامى شيئا يلائم العبيد ولا يليق بالرجال الأحرار ) ، ثم يقول ( لقد وجه أفلاطون نقدا شديدا إلى العلماء الذين عززوا نظريات الميكانيكا البحتة ، أو الرياضيات البحتة ، وكما يقول بلوتارك : لقد عيرهم أفلاطون ، لأنهم أفسدوا الهندسة ، وجعلوها تهبط من شيء عقلاني غير مادي إلى شيء مادي محسوس ، كان عليهم أن يستخدموا المادة وهي تحتاج إلى كثير من العمل اليدوي ، وهي موضوع العمل الحقير ) [13]
ولم يقتصر الأمر في نهضة العلم التجريبي على شروط التخلص من الفلسفة الأفلاطونية اليونانية ومواريث العادات الاجتماعية الإغريقية ، وإنما اقتضى كذلك التحرر من قميص المنطق الأرسطي المهلهل ، وكل ذلك إنما تم على يد البعث التجريبي في الحضارة الإسلامية ، فهاهو ربان سفينة " فاسكو داجاما " أحمد بن ماجد شهاب الدين النجدي الذي قاد السفينة في رحلتها التاريخية إلى بحر الهند من طريق رأس الرجاء الصالح والذي تذكره المصادر البرتغالية باسم " ماليمو كانانا " يقول عن أصالة التجريب في كتابه " الفوائد في أصول علم البحر والقواعد " : ( إن التجريب شيء ما بعده شيء ) ، ثم يحذر ربابنة البحار من استهواء المنطق ، فيما أدلته التجربة قائلا ( فإن أكثر الخطأ في كثرة المنطق ، خصوصا في هذه الصنعة ، وخطؤها في المنطق أكثر من خطئها في العلم .. وأصل علم البحر الفن والتجريب ) [14](/12)
وعلينا هنا أن نتذكر أن العلماء الكبار الذين طبقوا العلم على العمل في الحضارة الأوربية القديمة إنما فعلوا ذلك على جناح طير غارب ، وقد كانوا من غير اليونان من مثل : أبقراط الذي كان من آسيا الصغرى ، وأرخميدس الذي كان من صقلية ، وإقليدس وبطليموس اللذين كانا من الإسكندرية ، أما أرسطو فكما يقول عنه الفيلسوف الفرنسي الشهير روجيه جارودي : ( كان قد اهتم بالفيزياء وعلوم الطبيعة حبا في تصنيف العلوم ، وليس سعيا وراء التجديد أو تسخير الاكتشاف للتطبيق )[15]
في هذا الوقت أو بعده بقليل كان السلف من المسلمين يقررون أن ( العلم يهتف بالعمل ، فإن أجاب حل ، وإلا ارتحل ) وكانوا يستعيذون مما استعاذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه : ( قال : كان رسول الله يدعو فيقول " اللهم إني أعوذ بك من الأربع : من علم لا ينفع ، وقلب لا يخشع ، ونفس لا تشبع ، ودعاء لا يسمع " هذا حديث صحيح ولم يخرجاه . )
*****
مكانة الوحي والنية في طلب العلم :
وهنا يأتي سؤالان : أولهما : : لماذا إذن قد تنكرت الحضارة الغربية المعاصرة لصلة الرحم هذه بينها وبين الحضارة الإسلامية في مجال العلم ؟
نجد الجواب على لسان الفيلسوف الإسلامي محمد إقبال في قوله : ( إن المنهج الإسلامي كان أكمل وأتم ، وقد أخذته أوربا ناقصا : إن المنهج التجريبي يقف عند الطبيعة وهو منهج إسلامي ، ولكنه ليس بالمنهج الإسلامي الكامل ، فالمسلم لا ينتهي إلى الطبيعة كغاية ، ولا يقتصر عليها كهدف ، وإنما غايته وهدفه هو ما عبر عنه سبحانه وتعالى : { وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى " 42 النجم ، وإذا اقتصرت أوربا على العلم المادي فإن الإسلام لا يقف عند ذلك ، وإنما يوجه الإنسانية إلى مصدر آخر للمعرفة : هو القلب أو هو الروح أو هو البصيرة ، ويجمع الإسلام الاتجاه العلمي الحديث إلى الاتجاه البصيري في قوله تعالى : { وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفؤادَ كُلُّ أولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤولاً } 36 الإسراء
إن المفارقة بين روح الحضارة الإسلامية والنهضة الأوربية العلمية الحديثة لم تكن إذن حول المنهج التجريبي ولكنها تبلورت حول الموقف من علم الوحي .
في ظل النهج الغربي تم استبعاد علوم الوحي من مفهوم العلم . وأصبح مفهوم العلم – كما هو الشأن في أدبيات الحضارة المعاصرة - قاصرا على العلوم التجريبية وحدها ، وأما علوم الوحي فقد حوصرت تحت أسماء أخرى ، وأعلنت الحرب المستوردة بين العلم والدين ، وهي حرب ضارية ، وستظل حربا ضارية طالما أخذنا بمفهوم " العلم " كما هو في الحضارة العلمانية المعاصرة .
*****
ومن هنا كان قد تكرس في المنهج الإسلامي " أهمية عقد النية " في طلب العلم بصنوفه المختلفة ، والمقصود توجه النية في طلب العلم إلى الله ، والدار الآخرة عملا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما يعتبر تقويما لكافة الأعمال ( إنما الأعمال بالنيات ) متفق عليه ، عليه أن ينوي خمسة أشياء - كما ذكرها الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين - :
أن ينوي بتعلمه الخروج من الجهل عملا بقوله تعالى : { قل هَلْ يَسْتَوي الَّذينَ يَعْلَمونَ والَّذينَ لا يَعْلَمونَ 9} الزمر ،.
أن ينوي بعلمه أن يعمل به : لأن العلم آلة للعمل ، وطلب الآلة لا للعمل عبث ولغو .
أن ينوي بعلمه أن يعمل به في منفعة الخلق عملا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء بمسند الشهاب لمحمد بن سلامة القضاعي : بسنده عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( خير الناس أنفعهم للناس ) .
أن ينوي بتعلمه إحياء العلم عملا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام الربيع بن حبيب الأزدي البصري بسنده عن جابر بن زيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تعلموا العلم قبل أن يرفع ) ورفعه ذهاب أهله .
أن ينوي بتعلمه تجديد العلم عملا بقوله صلى الله عليه وسلم فيمن بعثهم الله ليجددوا أمرهذا الدين ، فيما رواه الحاكم في مستدركه على الصحيحين بسنده عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: قال – قال الحاكم : ولا أعلمه إلا عن رسول الله - ( إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) .
وروي أن الله بعث على رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وبعث على رأس المئتين محمد بن إدريس الشافعي ، وبعث القاضي أبا العباس بن شريح على رأس الثلاث مائة .(/13)
وأن ينوي بعلمه العمل به في إصلاح الحال دفعا لسوء المآل : وفقا لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم في مستدركه بسنده عن الحسن بن محمد بن علي عن مولاة لرسول الله قالت : دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها - أو على بعض أزواج النبي - وأنا عنده فقال : ( إذا ظهر السوء فلم ينهوا عنه أنزل الله بهم بأسه ، فقال إنسان يا نبي الله : وإن كان فيهم الصالحون ؟ قال نعم يصيبهم ما أصابهم ، ثم يصيرون إلى مغفرة الله ورحمته ) .
وينبغي للمتعلم أن يطلب بعلمه وجه الله تعالى والدار الآخرة ، ولا ينوي به طلب الدنيا ، لأنه إذا طلب به وجه الله والآخرة ينال الأمرين جميعا ، وفقا لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام الترمذي بسننه بسنده عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله " من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له " ، وفي رواية أخرى في المعنى نفسه له بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تعالى يقول يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك ، وإلا تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك ) قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .
والتفرغ لعبادته تعالى يعني أن نتوجه إليه في كل ما نأتي من أعمال وقربات ، ومنها طلب العلم .
فإذا لم يقدر المتعلم على تصحيح النية فالتعلم أفضل من تركه ، لأنه إذا تعلم العلم فإنه يرجى أن يصحح نيته ، فقد روي في الأثر: ( من طلب العلم لغير وجه الله لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم فيكون لله تعالى وللآخرة ) .
وإذن فإنه كما أن النية تصحح العلم فإن العلم يصحح النية ، ويحدث هذا لمن كان قريبا من الله ، لم يشتط به الطريق ، وفي هذا يقول الإمام مجاهد رضي الله عنه (طلبنا العلم وما لنا فيه كثير من النية ، ثم رزقنا الله فيه النية ) [16]
*****
إن الإسلام يجمع في منهجه التربوي الحضاري بين الأركان الأساسية الكبرى للحضارة الإسلامية : العلم والعمل والإيمان جميعا ، وهذا الجمع هو ما قامت الحضارة الغربية على أنقاضه ، وهذه الأنقاض هي ما حالت بين الحضارة الأوربية والتماهي - أو التشابه - مع الحضارة الإسلامية .
وهنا يأتي السؤال الثاني : من أين إذن جاء التراجع في مجال العلم في المجتمع الإسلامي ؟
أهم الأسباب فيما نرى – دون المصادرة على أسباب أخرى – جاء من إهمال الربط يبن العلم والعمل ، في الوقت الذي دب فيه الفساد في الغرب المعاصر منذ بداية النهضة في فك عرى الربط بين العلم والدين . ولقد كان لهم أسبابهم في ذلك ، وهي أسباب صحيحة بحسب ما بين أيديهم من دين ، ولكن تلك مسألة أخرى ، لا يصح معها قياس على الحالة الإسلامية التي تنطوى على دين له ماله في إطلاق عنان العلم وفق ما ذكرناه سابقا .
ويأتي النموذج التطبيقي للربط إسلاميا بين هذه الأمور الثلاثة – العلم والعمل والإيمان - في القول المأثور لسيدنا علي رضي الله عنه : ( من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ، ووفقه فيما يعمل حتى يستوجب الجنة . ومن لم يعمل بما علم تاه فيما علم ، و لم يوفق فيما يعمل حتى يستوجب النار ) .
وجاء التراجع أيضا من إهمال آداب التعلم التي ذكرناها في موقع النية من التعلم في الإسلام
هذا هو التراجع وتلك أسبابه .
*****
فمن أين جاء التحدي الذي تواجهه الحضارة الإسلامية في طريق التحامها بالنهج العلمي التجريبي الذي كأنه بضاعتها ردت إليها ؟
هنا نقول : إنه إذا كان الإسلام بطبيعته وتعاليمه وعقيدته يحتضن العلم التجريبي ويغذيه ، وإذا كان الإسلام قد جعل من المسلمين رواد هذا العلم ومنقذيه من ظلام اليونان ، وناشريه في أنحاء العالم ، فإن القضية لا تكمن – فحسب – في أن علماء أوربا الذين تلقفوا المنهج العلمي من أساتذة الحضارة الإسلامية جعلوا منه قنبلة موقوتة إذ أطلقوه من قيد الدين وجعلوا منه ماردا يهدد الإنسان ، في وجوده الطبيعي والبيئي والبيولوجي والنفسي والشخصي ، .. إن القضية أخطر من ذلك ، إذ جعل فلاسفتُهم من المنهج العلمي رسولا إلى الإلحاد ، حيث ترسخت في ظل هذه الفلسفة التجريبية قواعد : إنكار الغيبيات ، وادعاء حتمية قوانين الطبيعة ، والاستغناء بها عن الخالق ، وادعاء كفاية العلم التجريبي في مجال المعرفة والقيم ، وهي قواعد تنتمي إلى الفلسفة التجريبية بينما المنهج التجريبي منها براء [17](/14)
ويتوجه هذا الخطر إلى الحضارة الإسلامية ذاتها : ذلك أنه بعد التراجع الذي حصل فيها في مجال العلم والتعلم بالفصل بين العلم والعمل وإهمال النية في توجهها إلى الله .. جاءت العلمانية لتدفع المجتمع إلى إعادة البناء – في التربية الإسلامية - على نسق يستبعد فيه الدين . هذه هي المشكلة . إن المشكلة تكمن في أن الغزو الخارجي أخذ يفرض على المسلمين نظاما تربويا علمانيا ، وفي أن الأوضاع الداخلية للمسلمين وتحت ضغوط العلمانية وتوجيهها جعلتهم يتقبلون هذه النظم التربوية التي يستبعد فيها الدين أو يحصر في أضيق نطاق ، فنشأت ثم تفاقمت ثم تسافدت مشاكل في صميم التصور العلمي ، ثم مشاكل في العملية التربوية نفسها .
الفصل الثاني
التربية الإسلامية وبناء " الشخصية "
تأتي نظرة الإسلام إلى الإنسان والتربية في إطار الشخصية التكاملية لا في إطار الاثنينية أو الأحادية بين الجسد والروح ..
وفي علم الشخصية الحديث يتم النظر إلى الشخصية باعتبارها مجموعة متكاملة من الجوانب ، وعند إيريك فروم من علماء الشخصية في علم النفس المعاصر : أن فهم الإنسان ينبني على تحليل لحاجاته النابعة من ظروف وجوده ، وعنده أن هذه الحاجات خمسة : الحاجة إلى الانتماء ، والحاجة إلى التعالي ، والحاجة إلى الارتباط بالجذور ، والحاجة إلى الهوية ، وأنه ( يحتاج إلى إطار مرجعي ، إلى طريقة ثابتة مستقرة في إدراك العالم وفهمه ، وقد يكون الإطار المرجعي الذي ينميه رشيدا أو غير رشيد ، كما أنه قد يتضمن عناصر من كليهما ) [18]
وفي بعض تعريفات الشخصية في علم الشخصية المعاصر : أنها : ( حاصل جمع الاستعدادات والميول والغرائز والدوافع ، والقوى البيولوجية ، وكذلك الصفات والاستعدادات والميول المكتسبة من الخبرة ) ، وفي تعريف آخر من شأنه أن يشرح بعض جوانب التعريف السابق هي : ( النظام الكامل من الميول والاستعدادات الجسمية والعقلية الثابتة نسبيا ، التي تعتبر مميزا خاصا للفرد ، وبمقتضاها يتحدد أسلوبه الخاص للتكيف مع البيئة المادية والاجتماعية ) .
والخلاصة أننا نجد في المدارس التربوية العلمانية اهتماما بجوانب مختلفة في تكوين الشخصية الإنسانية ، كما نجد إدراكا لأهمية التكامل بين هذه المكونات ، تكاملا يؤدي بالضرورة إلى التميز ، لكن هذا التكامل لا يكاد يرقى عن لملمة بعض العناصر والاستعدادات ، التي ترجع إلى الميول والغرائز والطاقات البيولوجية والصفات المكتسبة من الخبرة ، وقدرة هذه العناصر على التكيف مع البيئة المادية والاجتماعية .
وفي التصور الإسلامي لمفهوم الشخصية لا نجد ما يعترض به على ما جاء بهذه التصورات ، ولكن الاعتراض يأتي من ناحية ما لم يأت بها .
إن النظرة الإسلامية تتميز بأمور أربعة : أنها تقدم تصورا واضحا لجوانب الشخصية ، وأنها تكشف عن جوانب للشخصية تعجز الأنظمة البشرية بحكم طبيعتها عن كشفها ، وأنها تضع تأصيلا لفكرة تكامل الشخصية ، بحيث يبدو هذا التكامل متماسكا منطقيا ، وليس مجرد تلفيق .
وأنها تضع تأصيلا لفكرة التميز .
هذه الجوانب التي أشرنا إليها نستخلصها من جملة تعاليم الإسلام ، وهي تأتي في ثلاث مجموعات :
المجموعة الفطرية : في الجانب الجسدي ، والوجداني ، والعقلي ، والنزوعي ، والإرادي .
المجموعة الاكتسابية : وتتناول جانب التعامل مع البيئة المادية ، والتعامل مع البيئة الاجتماعية .
المجموعة الإيمانية : وهي تشمل ما يمكن أن نسميه الجانب الكوني والزمني .
إن إغفال جانب من جوانب الشخصية إنما ينشأ بطبيعة الحال من أحد أمرين : إما الجهل بوجوده ، أو الاعتقاد بوجوب التخلص منه ، وكلا الأمرين لا يتصور بالنسبة للخالق ، فهو يعلم ما خلق : { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ } 14 الملك ، وهو لا يعبث بما خلق : { وَما خَلَقْنا السَّماءَ والْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبينَ } 16 الأنبياء .
وإذن فعندما نتلقى تصورا للشخصية مستمدا من تعاليم الخالق سنكون مطمئنين إلى أنه لن يغيب عنا جانب من جوانبها ، هذا من ناحية ، كما أننا سنكون مطمئنين إلى أن كل جانب من هذه الجوانب له أصالته ، وله موقعه في التصور الشامل ، ومن هنا نجد الأساس المنطقي لتكامل الشخصية ، وتميزها ، فنبتعد بذلك عن تصورات أخرى لا تخلو من التلفيق القائم على الجهل ، أو من التعصب القائم على الهوى ، أو من التشويه القائم على مواقف سابقة .
المجموعة الفطرية
*****(/15)
أما عن الجانب الجسدي من المجموعة الفطرية فنحن نجد عناية الإسلام التامة بتربية جسد المسلم : يدفعه إلى العناية به ، وعدم التهاون في شأنه ، فعليه أن يشبع حاجاته الأساسية من الغذاء والجنس والزينة - بشروط وتوازنات يأتي الكلام عنها في موضعها - بحيث لا يضرب عليه ضريبة الرهبنة أو التحقير أو الزراية ، يقول تعالى : { يا أَيُّها الَّذينَ آمَنوا لا تُحَرِّموا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدينَ ،وَ كُلوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً واتَّقوا اللَّهَ الَّذي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنونَ } 87 - 88 المائدة ، ويقول تعالى :] { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هيَ لِلَّذينَ آمَنوا في الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمونَ } 32 الأعراف ، ويقول سبحانه وتعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تُقْسِطوا في الْيَتامى فانْكِحوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تَعْدِلوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنى أَلّا تَعولوا } 3 النساء .
وشريعة الإسلام فيما يتصل بالمحافظة على الجسم مفصلة على وجه الدقة في كتب الفقه ، وعلى سبيل المثال لا الحصر نجد في الإسلام : تحريم أكل الميتة ، والدم ، ولحم لخنزير .. وإيجاب الأكل عند إشراف الجائع على الهلاك ، أو عند إضرار الجوع بصحته ، والنهي عن إدخال اليد في الإناء قبل غسلها ، واستحباب شرب الماء على أنفاس متعددة لا مرة واحدة ، واستحباب غسل الأيدي قبل الطعام وبعده ، وفي الإسلام : فرائض الوضوء والاغتسال ، وسنن التطيب والتمشط ، والتسوك ، وقواعد التزوج والتوالد والإرضاع والاسترزاق ، وإحسان القِتلة .
إن الإسلام لا يسمح للمسلم بأن يغمط حقوق جسده ، أو يترك له فرصة الزراية به ، إنه فضلا عن ذلك يطالبه بأن يعرف لله منته عليه بهذا الجسد ، فيقدم لله الشكر عليه ( قل هو الذي أنشاكم وجعل لكم السمع والبصر والأفئدة ، قليلا ما تشكرون )23 الملك ، وعليه أن يفرغ هذا الشكر – لا في كلمات تردد فحسب – ولكن فوق ذلك في صيانته لجوارحه وقواه ، من كل ما يزري بها من الاستعمالات الخبيثة ، أو الضارة ، أو الإرهاق أو المغالاة .
هنا لابد من الإشارة إلى أهمية الحدود والقيود التي يضعها الإسلام على هذا الجانب ، فذلك بالبداهة هو مقتضى النظرة التكاملية التي أشرنا إليها ، فإطلاق الجسد من القيود والحدود لا يكون إلا في فلسفة تتنكر للجوانب الأخرى ، أو تراها تابعة للجانب الجسدي أو مجرد تعبير عنه أو انفعال صادر منه ، أو تسمح بوقوعها جميعا في فوضى الصراع ، وهذا بالتأكيد لا يتفق مع نظرة التكامل ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن القيود أو الحدود التي يضعها الإسلام للجانب الجسدي ليست من أجل إتاحة الفرصة للجوانب الأخرى فحسب ، وإنما هي مع ذلك أو قبل ذلك من أجل سلامة الجانب الجسدي نفسه وحمايته من ذاته ، كما نجد في بعض المحرمات مثل : تحريم الخمر وتحريم الزنا ، وتحريم الاعتداء ، والإسراف على سبيل المثال .
*****
أما عن الجانب الوجداني فإن الإسلام يدفع المسلم إلى توجيه عنايته لوجداناته ، ويدربه على أن يعترف بها ، بل ويعتز بها ، ولا يرخي عليها أستار الخجل ، ولا يقيدها بقيود الإنكار ولا يئدها في أغوار مجهولة من أغوار نفسه .
فالله سبحانه وتعالى يمن على عباده بنعمة الأخوة والتآلف ، ويقول محدثا رسوله عن تآلف 0أصحابه :] { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما في الْأَرْضِ جَميعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزيزٌ حَكيمٌ } 63 الأنفال
وهو سبحانه وتعالى يدلنا على أن علاقة عبده به ليست علاقة" معرفة " جافة ، بل ترطبها العاطفة ، وتعمقها ، وذلك إذ يقول سبحانه وتعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللَّهَ فاتَّبِعوني يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنوبَكُمْ واللَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ } 31 آل عمران .
إن الله سبحانه وتعالى ليحب أن يكون طرفا في كل علاقة حب ، فتعمق ، وتزكو ، وتطهر ، وتسمو . وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام ابن حبان وصححه بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله قال ( ما تحاب اثنان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه ) .
وفي موارد الظمآن للهيثمي بسنده عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر أنه ( قال : يا رسول الله الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل كعملهم ؟ قال أنت يا أبا ذر مع من أحببت ) .:(/16)
وفي رواية أخرى له بسنده عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( إن من عباد الله عبادا ليسوا بأنبياء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء ، قيل من هم لعلنا نحبهم ؟ قال هم قوم تحابوا بنور الله ، من غير أرحام ولا أنساب ، وجوههم نور على منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ، ثم قرأ { أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنونَ } 62 يونس .
و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قال الله عز وجل " المتحابون لجلالي في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلي " ) رواه أحمد والطبراني وإسنادهما جيد
وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - فيما رواه البزار ولفظه - قال رسول الله " من أحب رجلا لله فقال إني أحبك لله ، فدخلا جميعا الجنة ، فكان الذي أحب ارفع منزلة من الآخر ، الحق بالذي أحب لله" وإسناده حسن .
ويعلمنا الإسلام الاعتزاز بعاطفة الحب لا مجرد التعامل معه ويحرضنا على الحب ، ففي سنن البيهقي بسنده عن أبي هريرة عن النبي قال " تهادوا تحابوا "
وفي رواية للحاكم في مستدركه على الصحيحين بسنده عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : ( مر بالنبي رجل فقال رجل : إني لأحبه في الله عز وجل ، فقال النبي : أأعلمته ؟ قال : لا ، قال : فأعلمه ، قال : فلقيت الرجل فأعلمته ، فقال : أحبك الله الذي أحببتني له ) هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
ولا يدور الحب الإسلامي في هذا النطاق الرحب الرفيع فحسب : من المحبة الإلهية ، والمحبة الإنسانية ، وإنما هو لا يغض من شأن الحب على أي مستوى من المستويات : إنه يقرره في مستوى الزواج ، ويدفع المسلم إلى أن يرى في زوجه سكنا ، وإلى أن يربطها به برباط المودة ، وهو يقرره في مستوى النسل ، إذ يحب المسلم ولده ويرى فيه جزءا منه ، يفرح بمولوده ويبكي لفرقته ، يقول الله سبحانه وتعالى عن عباد الرحمن : : { والَّذينَ يَقولونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجْعَلْنا لِلْمُتَّقينَ إِماماً } 74 الفرقان .
وقد كان كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففي سنن البيهقي بسنده عن عدي بن ثابت قال سمعت البراء قال : ( رأيت رسول الله والحسن على عاتقه وهو يقول : اللهم أني أحبه فأحبه ) رواه البخاري في الصحيح عن حجاج ، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن شعبة. وفي سنن البيهقي أيضا بسنده عن أسامة بن زيد قال : كان رسول الله يأخذني والحسن بن علي ، فيقول : " اللهم إني أحبهما فأحبهما " أخرجه البخاري في الصحيح من حديث معتمر بن سليمان عن أبيه .
ويقرر الإسلام الحب في مستويات أخرى : فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب ناقته ، ويعقد صلة بينه وبين درعه ، ويسميه ذا الفضول ، ويعقد صلة بينه وبين حجر كان يسلم عليه قبل أن يبعث ، ويعقد صلة بينه وجذع كان يخطب عليه .
والإسلام هنا لا يقرر بعض جوانب الوجدان دون بعض آخر ، ولكنا نراه كما أنه يدفع المسلم على أن ينطوي على عاطفة الحب فإنه يدفعه عند الضرورة إلى أن ينطوي على عاطفة البغض لما ينبغي كراهته ، فهو – أي البغض – شعور له احترامه كذلك ، والقرآن الكريم يقول في صفات المؤمنين ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) 29 الفتح .، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود بسنده عن مجاهد عن رجل عن أبي ذر قال : قال رسول الله : ( أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله ) .
وعندما يقر الإسلام البغض لله فإنه إذ يتعامل مع واقع النفس البشرية التي لا تنطلق من المطلق وقد تنتهي إليه يتسامى بعاطفة البغض التي هي الوجه الآخر للحب بحكم النسبية التي تحكم النشاط الإنساني
وهو إذ يتسامى بهذه العاطفة إذ يجعلها لله وفي الله يطهرها من رجس الأغراض البشرية الدنيئة والمنافع الدنيوية الفانية ويرتفع بها إلى مستوى ما يرضي الله
ولاشك أن في هذا ضمانا لتطهير هذه العاطفة من دناياها كما أن الحب في الله يطهره كذلك من دناياه ويرتفع به إلى مستوى رضا الله
وعندئذ يسبح البغض في مستوى الحب فيتقدس بقربه من الله ويصبح في جوهره حبا حقيقيا حبا لله تعالى .
. ويفرق الإمام الشافعي بين الحب لله ، والبغض لله ، والبغض لعصبية ، فيقول : فالمكروه في محبة الرجل من هو منه أن يحمل على غيره ما حرم الله عليه ، من البغي والطعن في النسب والعصبية ، والبغضة على النسب لا على معصية الله ولا على جناية من المبغَض على المبغِض ، ولكن يقول : أبغضه لأنه من بني فلان ، فهذه العصبية المحضة التي ترد بها الشهادة .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : ولو خص امرؤ قومه بالمحبة ما لم يحمل على غيرهم ما ليس يحل له فهذه صلة ليست بعصبية ، فقلَّ امرؤ إلا وفيه محبوب ومكروه .(/17)
وهناك مكان لشعور الغضب عند ما تنتهك محارم الله ، ومكان لشعور الخوف : الخوف من عقاب الله على المعاصي ، والخوف الوقائي الذي يحلي المؤمن بأجمل صفاته ، صفة التقوى ، والخوف الطبيعي من كل ما يخاف منه ، والذي لا يزري بالمرء إلا إذا قصر في الاستعانة عليه بالله .
ذلكم جميعا ضمن حدود الحلال والحرام ، فمنه ما يحل ومنه ما يحرم ، وهذا التحديد كما قلنا سابقا تقتضيه نظرة التكامل بين الجوانب المختلفة للشخصية كما تقتضيه ضرورة حماية كل جانب من قيامه بعملية انتحار : أي من اعتدائه على ذاته ، وذلك لا يكون إلا بالتزام الحدود الموضوعة في إطار الحدود الموضوعة له في الحلال والحرام ، كما أن الحدود الموضوعة له في إطار الحلال والحرام تضمن السلامة لكلٍّ في إطار التوازن الذي سنتكلم عنه لاحقا .
*****
أما عن الجانب العقلي ففي النظرة الإسلامية يكون العقل درجة عالية من درجات الوعي .. وعلماء الحيوان المحدثون منذ دارون أخذوا يقررون أن أي اختلاف في المجالات والقدرات الذهنية والانفعالية ، بل والجمالية ، بين الإنسان والحيوانات الأخرى هو اختلاف في الدرجة ، وليس اختلافا في النوع ، وفي هذا يقول الدكتور نورمان بريل على سبيل المثال ،وهو أستاذ لعلم الحيوان ، [19]: ( ما شأن التفكير ؟ إنه لا يخصنا وحدنا .. وإن كنا وصلنا به إلى مستويات أعلى ) .
في النظرة الإسلامية نجد أن جميع المخلوقات تتلقى أوامر من الله تعالى ، فإذا لم نشأ أن نجعل ما ورد من ذلك نوعا من المجاز أو التشبيه – وما من ضرورة تدعو لذلك – فإننا يمكن أن نقول : – بما يتفق مع النظرة الإسلامية – إن الوعي هو الصفة الجوهرية للمخلوقات جميعا من أدناها إلى أعلاها ، وأنه درجات مختلفة متصاعدة من الجماد إلى الإنسان ، وعلى درجات هذا السلم المتصاعد يدخل الوعي في أطوار : الانقياد المحض ، ثم الإحساس ، ثم النزوع ، ثم الوجدان ، ثم الذاكرة ، ثم الذكاء ، ثم الإرادة ، فهي جميعا ليست إلا درجات من هذا الوعي المتصاعد ..ولكل مخلوق درجة من الوعي تناسب وظيفته في الوجود ، فبحسب هذه الوظيفة يعطيه الله درجة من الوعي يتلقى بها أوامر الله للقيام بوظيفته .
وتتحدد درجة الإنسان في هذا السلم بتحديد وظيفته : العبادة والخلافة التي تعني إقامة الحضارة [20]، وبما أعطى الله الإنسان من حرية الاختيار فإنه يتميز في وظيفته تلك بأنه ممتحن إزاء أوامر الله بالطاعة أو المعصية ، من هنا كان لابد من أن يصعد في سلم الوعي إلى قمته في الذكاء والإرادة .
ومن هنا نقول : عن وظيفة العقل في الإنسان - من وجهة النظر الإسلامية - ليست هي وظيفة الحاكم على ما يأتيه من الله ، ولا وظيفة الكاشف في كل ما كان شأنه من الغيبيات ، ولكنه في هذه الدائرة : وظيفة المتلقي من الله .
وفي هذا النطاق أيضا ليس من المتصور في النظرة الإسلامية أن يتلقى العقل أمورا مناقضة له ، أو متناقضة في نظره ، كلا فليس في الإسلام ما يناقض العقل ، لا لأن العقل حاكم ، ولكن لأن الإسلام جاء من أجل الإنسان ، فهو من هنا يراعي " تلقي" العقل لما يلقى إليه " طبقا لقوله تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلّا ما آتاها } 7 الطلاق ، وكما أنه ليس في الإسلام تكليف جسدي فوق طاقة الجسد ، أو تكليف وجداني فوق طاقة الوجدان فكذلك ليس فيه خطاب للعقل مناقض للعقل ، أي ينغلق دونه فلا يتلقاه .
وهناك فرق بين أن يكون الشيء متناقضا أو مناقضا للعقل كالقول بأن مجموع الثلاثة واحدا – فهذا هو المحظور في الإسلام - وبين أن يكون فوق العقل ، وهذا مالا مفر منه كآلية حدوث البعث " كما بدأكم تعودون " ضرورة أنه { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَما أوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّا قَليلاً }85 الإسراء .
وهذا ما يوفر للمسلم التوافق بين عقيدته وعقله .. وهو ما يقصد على وجه الدقة بأن الإسلام دين العقل .
ولنا أن نشير هنا - مما سنزيده بيانا في كلامنا عن التوازن - : إلى أن هذا يوفر التوافق والتكامل بين الجانب العقلي والجوانب الأخرى من جوانب الشخصية .
*****
أما عن الجانب الإرادي :فإن الإرادة البشرية مخاطبة في الإسلام منذ اللحظة الأولى التي تعرض فيها الإنسان للإنذار من سوء العاقبة ، ثم لعوامل تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ، واستجابة الإرادة لهذا الخطاب بالتسليم { أَفَغَيْرَ دينِ اللَّهِ يَبْغونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ في السَّماواتِ والْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعونَ} 83 آل عمران .(/18)
وقبل أن نفصل الكلام في إقرار الإسلام للجانب الإرادي في الشخصية الإنسانية نود أن نوضح أن بعض علماء النفس والفلاسفة وهم يعترفون بمجموعة القوى النفسية ينقسمون إلى : إدراكيين يرون أن الإدراك الحسي والتفكير هوالأصل في كل العوامل النفسية ، وإلى إراديين يرون أن الظواهر الإرادية من نزعات وانفعالات وتصميمات هي المبادئ الأولى التي يتقرر بها مجرى حياتنا النفسية[21].
ويذهب أصحاب المذهب الإرادي في تفسير العقل إلى ( أن الإرادة هي العامل الأساسي الذي يتحدد ويتكيف به كل ما عداه من الظواهر العقلية الأخرى . فبالإرادة يتحدد الهدف ، وهي التي تخلق الأغراض ، وهي التي توجه انتباه الإنسان ، وليس الاهتمام بأي شيء سوى ظاهرة إرادية يتعين بها ما يجب أن يحتفظ به في الذاكرة ، وما يجب أن يهمل في طي النسيان ، بل إن اتجاه الأفكار نفسه خاضع لسلطان الإرادة ، ويظهر أثر ذلك السلطان واضحا في علمنا النظري وأحكامنا النظرية على الدوام ) [22]
وفي هذا الاتجاه يقول الفيلسوف الفرنسي بسكال ( 1623-1662 م ) : ( إن ما يجعل الملحد متصلبا في إلحاده ليس ضعف الشواهد الموجودة في العالم المنظور ، بل قرار أعدته واتخذته الإرادة والعواطف ، والعيب الرئيسي في مذهب للألوهية هو أنه لا يلتفت إلى المشكلات والدوافع الإنسانية ، التي تشكل في نهاية الأمر موقف الإنسان من الله ) [23]
ويقول الفيلسوف الأمريكي الشهير وليم جيمس : ( لابد من ملاحظة أن كل القوى الموجودة فينا تعمل متضامنة بالضرورة حيثما تكون آراؤنا الفلسفية ، فيتضامن العقل والإرادة والذوق في المسائل النظرية كما تتضامن في المسائل العملية ) [24]
ويبدو أننا نجد المذهبين معا عند مناطقة المتكلمين في الإسلام يقول البناني في شرحه على السلم ( واعلم أنه اختلف في الحكم ، فقيل هو فعل للنفس زائد على العلم ، وقيل هو حديث النفس التابع للعلم ، وهذا أيضا فعل فلا ينافي الأول ، وقيل هو انفعال ، وهو تأثر النفس الناشئ عن العلم ) ومن الرأي الأول يتبين أن بعض المناطقة يرى للإرادة دورا في العلم ، إذ يرجع إليها فعل النفس الزائد على العلم .
يقول الأستاذ الدكتور محمود حب الله رحمه الله ( فالعقائد الدينية لا تعتمد على جانب واحد من جوانب الحياة النفسية للإنسان : الوجدانية والإرادية والعقلية ، لكنها تتصل بها كلها اتصالا وثيقا ، ولا ترضى نفس المرء ولا تكمل شخصيته إلا إذا تضامنت شخصيته ونواحيه النفسية كلها .. فيوجد قبول عقلي ، واطمئنان قلبي والتقاء مع الإرادة ، وذلك هو كمال الشخصية ، وهو كمال الاعتقاد ، وهو كمال العقيدة كذلك ) [25]
ومع اعتراف هذه المذاهب جميعا بصلة الاعتقاد بكل من قوى النفس الإنسانية : العقلية والإرادية والوجدانية فإنهم يحاولون البحث عن القوة المسيطرة من بين هذه القوى الثلاث [26]، ولذا فإننا نرجح أن تكون العبرة بالوحدة الجامعة لهذه القوى ممثلة في المجموع الذي هو الإنسان ، ولعل هذا هو المعنى الحقيقي الذي نجده عند القاضي عبد الجبار – من أئمة المعتزلة – عندما رفض تعريف العلم بأنه " سكون القلب .." وأصر على تعريفه بأنه " .. سكون النفس : فالمراد الجملة لأنه يعبر عنها بالنفس " [27]
ومهما يكن فإننا نجد الإسلام يقرر الجانبين معا ، فمع ما نجده من أن العقل – أي الجانب الإدراكي - مخاطب في الإسلام نلفت النظر إلى أن الإرادة – كجانب له فاعليته الخاصة – مخاطبة كذلك . إن الإرادة البشرية مخاطبة في الإسلام منذ اللحظة الأولى التي يتعرض فيها للدعوة الإسلامية ، وهي لحظة سماع الإنذار باليوم الآخر ، وهذا الإنذار لو ترك للبحث العقلي النظري البحت لما أمكن التوصل فيه إلى شيء وسط خضم الاحتمالات العقلية التي يطرحها العقل النظري بغير انتهاء .[28]
والإنسان في هذا الموقف تتعرض شخصيته إلى هلاك أبدي لو لم يلجأ إلى قرار تفرضه الإرادة بعد أن تطرح الشكوك جانبا وتتخذ قرارها بالتسليم لله ضمانا للنجاة .
ومن هنا كان جوهر الإسلام متضمنا في اسمه وهو " الإسلام " . وهو اسم لجميع الرسالات السابقة ، يقول تعالى بالتسليم { أَفَغَيْرَ دينِ اللَّهِ يَبْغونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ في السَّماواتِ والْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعونَ} 83 آل عمران .
هذا يعني أن الإسلام وهو يقر أصالة الإرادة ، وموقعها الأساسي في التصور الشامل للشخصية يحدد لها دورها في علاقتها بالخالق : التسليم .(/19)
والإرادة ليست مخاطبة بالتسليم في العقائد وحدها : { فَإِنْ حاجّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذينَ أوتوا الْكِتابَ والْأُمّيّينَ أأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَموا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ واللَّهُ بَصيرٌ بِالْعِبادِ 20 آل عمران ، وإنما هي مخاطبة بالتسليم في أمور عملية كثيرة طالما تم التأكد من أنها خطاب من الله ، وفي العبادات بشكل أوضح ، إذ لهذه الأمور دورها في تربية الإرادة وتوجيهها إلى الله تعالى .
ولا يعني هذا أن الإسلام يغلب الجانب الإرادي كما هو مذهب الإراديين الذين أشرنا إليهم ، وهنا نرجع إلى النظرة التكاملية التي يقدمها الإسلام عن الشخصية ، حيث نجد أن الإسلام لا يسمح بوضع القيادة إلا في يد صانع الشخصية كلها طبقا لقوله تعالى : {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهيدٌ بَيْني وَبَيْنَكُمْ وَأوحِيَ إِلَيَّ هَذا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هوَ إِلَهٌ واحِدٌ وَإِنَّني بَريءٌ مِمّا تشركون } 19 الأنعام ، هنا تأخذ الإرادة بيد الإنسان لا لتقوده ولكن لتسلمه لله – ليكون هو – سبحانه القائد الأعلى ، وعلى هذا – ولأن الأمر بيد الله صانع الإنسان وبارئ الشخصية – فلست تجد الإرادة في الإسلام مدعوة إلى التسليم بشيء يوقعها في صراع مع جوانب الشخصية الأخرى .
*****
المجموعة الاكتسابية
وتشمل جانبين : جانب التعامل مع البيئة المادية ، والتعامل مع البيئة الاجتماعية
ففي جانب التعامل مع البيئة المادية ، نجد أن الإسلام يربي الفرد على القيام بمسئولية السعي في الحياة وفق نواميس الكون التي وضعها الله فيه ، وفي هذا نجد قوله تعالى : {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصيبٌ مِمّا كَسَبوا واللَّهُ سَريعُ الْحِسابِ } 202 البقرة وقوله تعالى : { سُنَّةَ اللَّهِ في الَّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْديلاً } 62 الأحزاب ، وقوله تعالى : { اللَّهُ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ في الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ والْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْلَيْلَ والنَّهارَ} 32 - 33 إبراهيم ، { والْخَيْلَ والْبِغالَ والْحَميرَ لِتَرْكَبوها وَزينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمونَ } 8 النحل .
وهو إذا رأى باكورة ثمرة أوفاكهة توجه إلى الله بالدعاء : ففي صحيح مسلم بسنده عن أبي هريرة أنه قال : كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاؤوا به إلى النبي فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( اللهم بارك لنا في ثمرنا ، وبارك لنا في مدينتنا ، وبارك لنا في صاعنا ، وبارك لنا في مدنا ، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك ، وإني عبدك ونبيك ، وإنه دعاك لمكة ، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ، ومثله معه ) قال : ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر .
وتنظيم الإسلام لجانب التعامل مع البيئة المادية – كجزء من تكوين الشخصية الإنسانية – يأتي في سياق مبدأ التكامل مع الجوانب الأخرى في الشخصية ، ومن هنا يكون نشاطها في حدود ما حرمته الشريعة وما أحلته ، فيكون في هذا ضمان التكامل مع العوامل الأخرى ، - وعلى رأسها مجموعة العوامل الإيمانية ، وذلك لأهميتها الخاصة في هذا المقام
ومن ذلك أن الإنسان في ميدان التعامل مع البيئة المادية ليس في مقدوره أن يكون على مستوى المغالبة المطلوبة ولا على مستوى العلم المطلوب بالنواميس . والنفس الإنسانية إذا شعرت بأنها متروكة لنفسها مسئولة عن علمها وجهادها وعجزها وضعفها دون هاد أو معين أحست بوحشة الوحدة ، ووقعت في رهبة المجهول ، وتقاعست عن اتخاذ القرار ، ونشأت عن ذلك أمراضها النفسية تجاه الطبيعة : من الغرور والطغيان والتأله والقدرة الزائفة في طرف ، والقلق والخذلان واليأس والانسحاق في طرف آخر ، وكل هذه الأمراض إنما تكون بافتقاد مجموعة العوامل الإيمانية في النظام العلماني للشخصية ، أما عند انضمام مجموعة العوامل الإيمانية فيحصل التوازن الذي لا بد منه للشخصية ، وتأتي شروط الإيمان بالقضاء والقدر .
ومن هنا يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعية نتمثل بها عند ممارسة أي نشاط مما نتعامل به مع هذه البيئة .(/20)
ومن ذلك ما يقوله عند دخول السوق فيما رواه الهيثمي بمجمع الزوائد بسنده عن ابن مسعود أنه أتى سدة السوق ، فقال : ( اللهم إني أسألك من خيرها وخير أهلها ، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها ) رواه الطبراني موقوفا ، ورجاله رجال الصحيح غير سليم بن حنظلة وهو ثقة . وبسنده عن ابن عباس قال : قال رسول الله : ( يا معشر التجار أيعجز أحدكم إذا رجع من سوقه أن يقرأ عشر آيات فيكتب الله له بكل آية حسنة ) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير الربيع بن ثعلب وأبي إسماعيل المؤدب وكلاهما ثقة . وبسنده عن ابن عباس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج في سفر قال : ( اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل ، اللهم إني أعوذ بك من الضِّبْنَة [29]في السفر ، والكآبة في المنقلب ، اللهم اقبض لنا الأرض ، وهون علينا السفر ) ، وإذا أراد الرجوع قال : ( تائبون عابدون ، لربنا حامدون ، وإذا دخل إلى أهله قال ثوبا ثوبا إلى ربنا ، أوبا لا يغادر علينا )
وفي كتاب الدعاء للطبراني بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه كان إذا سافر قال : ( اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل ، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب ، وسوء المنظر في الأهل والمال ، اللهم اطو لنا البعيد ، وهون علينا السفر ) .
****
ومن المفيد في هذا المقام أن نلفت النظر إلى أن هذا التصور في مجموعه ينفي المذهب الجبري عند القائلين بأن الإنسان في يد القدر كالريشة في مهب الريح ، أو عند القائلين بالجبرية الحديثة في قوانين علم النفس أو قوانين الوراثة والبيئة . فالشخصية عند هؤلاء مجرد أثر من آثار الوراثة تتحكم فيها الجينات المختلفة عبر الآجال ، ولكل منا خريطته الخاصة الموروثة من " الجينوم " الحاكم ، والتي يمكن تعديلها جزئيا عن طريق الهندسة الوراثية .
أوهي على أحسن تقدير مجرد انعكاس لعوامل لبيئة ، ويصبح من اللازم حينئذ الاهتمام بالبيئة أساسا ، ويترتب على ذلك جبرية عصرية تبعد الإنسان تماما عن مسئوليته الفردية الشخصية أمام الله تعالى ؛ إقبالا عليه أو تباعدا عنه .[30]
ومن حسن الحظ أننا لا نجد اتفاقا على هذه الجبرية عند علماء النفس والشخصية المعاصرين ، فعند أدلر ( أن البيئة لا تزود الإنسان بقدرات معينة فحسب ، كما أن البيئة لا تعطيه انطباعات معينة فحسب ، إن هذه القدرات والانطباعات ، والكيفية التي يختبرها بها – أي التفسيرات التي يستخدمها من هذه الخبرات – هي اللبنات التي يستخدمها بطريقته الذاتية "الخلاقة " في بناء اتجاهه نحو الحياة ، إنه أسلوبه الفردي في استخدام هذه اللبنات ، أو بعبارة أخرى : اتجاهه نحو الحياة هو الذي يحدد علاقته بالعالم الخارجي ) [31]
فما هي النظرية الإسلامية بالنسبة لهذه الاتجاهات ؟
****
حقيقة الأمر أن موقف الإسلام يعترف بعاملي الوراثة والبيئة ، ولا ينكر أحدهما لحساب الآخر ، ولكنه في الوقت نفسه يعلي من عنصر الذات ، ويراه العنصر الحاسم في تقرير مصير الفرد في الدنيا والآخرة .
نعم إن الإسلام يعترف بالوراثة وفقا لما جاء في مسند أحاديث الشهاب لمحمد بن سلامة بن جعفر القضاعي ت 454 هـ : ( يا فلان أقل من الدَّين تكن حرا ، وأقل من الذنوب يهن عليك الموت ، وانظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق دساس ) [32]
وهو يعترف بالبيئة وفقا لما جاء في مسند أحاديث الشهاب لمحمد بن سلامة بن جعفر القضاعي ت 454 هـ بسنده عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إياكم وخضراء الدمن ، فقيل يا رسول الله وما خضراء الدمن ؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء ) [33]والحديثان مشكوك في صحتهما سندا ، إلا أنهما كوَّنا ثقافة شائعة في المجتمع الإسلامي على مدى القرون .
لكن الإسلام مع ذلك لا ينفي النظر إلى كل عامل من هذين العاملين باعتباره إطارا عاما يحتوي على مجموعة من الاستعدادات والبدائل المتناظرة ، ويترك عنصر الحسم للذات الفردية ، وهو في هذه المسيرة كلها يحيط الفرد بمجموعة من القيم الثابتة ، التي تحتويها الأوامر والنواهي ، يربى الفرد منذ الطفولة في إطارها ، ويصبح مكلفا بها منذ البلوغ .
ومنهج الإسلام قبل ذلك كله يحدد هدف التربية : فلا يتناقض بين الأهداف المطروحة حول تحقيق الذات تارة ، والانتصار للطبقة تارة أخرى ، وللعنصرية أخرى ، وإنما هو يتجه مباشرة في الهدف التربوي إلى تكوين شخصية الإنسان المسلم ذاته لله بإرادته : { كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهينَةٌ } 38 المدثر ، { والَّذينَ آمَنوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْريءٍ بِما كَسَبَ رَهينٌ } 21الطور .
والله سبحانه وتعالى يضرب لنا أمثلة ثلاثة على ذلك في آخر سورة التحريم نرى فيها أن البيئة لم تكن هي التي تقرر مصير الفرد .(/21)
ففي المثال الأول نجد امرأتين تكفران وهما في بيت النبوة وهما امرأة نوح وامرأة لوط ، وفي المثال الثاني نجد امرأة تؤمن وهي في بيت الكفر العنيد ، وفي المثال الثالث نجد الشخصية المتوافقة مع بيئتها { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فيهِ مِنْ روحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتينَ } 12 التحريم . ومع كونها متوافقة مع البيئة إلا أن الآية تشير إلى ذاتيتها الفردية بما لها من تميز ذاتي وفاعلية شخصية ، وذلك في قوله تعالى " الَّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها ".
وأخيرا فإن الإسلام يضع تقريره النهائي في آية قرآنية وحديث ، أما الآية فقوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنْفُسِهِمْ } 11 الرعد ، وأما الحديث فقد جاء في صحيح البخاري بسنده عن عامر قال سمعت النعمان بن بشير يقول سمعت رسول الله يقول ( الحلال بين والحرام بين ، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس ، فمن اتقي المشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) .
ولا يقصر الإسلام المسئولية الفردية على مسئولية الحاكم أو الزعيم أو القائد الملهم .. ولكنه يوزعها على جميع الأفراد في جميع المواقع ، ففي صحيح البخاري بسنده عن نافع عن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كلكم راع ، فمسؤول عن رعيته ، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم ، والرجل راع على أهل بيته ، وهو مسؤول عنهم ، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده ، وهي مسؤولة عنهم ، والعبد – وفي رواية الخادم - راع على مال سيده ، وهو مسؤول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )
****
وهنا يتبين موقف المنهج الإسلامي التربوي من نظريات علم النفس السائدة
والمقصود من هذه النظريات ذات الأثر الواضح في تصميم خطط التربية ، ومناهجها في المجتمع ، تلك النظريات التي تتأرجح بين النظرية التحليلية عند فرويد وأتباعه ، والنظرية السلوكية بمدارسها المنتشرة في أوربا الشرقية والغربية على السواء .
وفضلا عما توحي به هذه النظريات من جبرية الكيان النفسي للفرد فإن جميع هذه النظريات لا تعترف بحقيقة ارتفاع الإنسان عن مستوى الجسد ومظاهره المتفرعة منه .
وهذا أمر يفترق عن نظرة الإسلام إلى الإنسان افتراقا أساسيا .
ويحلل أرنولد توينبي المشكلة الإنسانية المعاصرة فيرجعها إلى غفلة الإنسان عن تكوينه المزدوج بين المادة والروح أو حيرته بينهما ، حيث يقول " إذا فقد الكائن البشري روحه فإنه يفقد إنسانيته ، ذلك بأن جوهر الكيان البشري هو إدراك الوجود الروحي خلف المظاهر الطبيعية .. وبسبب أنه يعيش في وقت واحد في المحيط الحيوي وفي العالم الروحي ، فهو كما وصفه السير توماس براون بدقة : حيوان برمائي ، وفي كل من الوضعين حيث يشعر أنه منسجم مع الوضع يكون له غاية خاصة ، لكنه لن يتمكن من متابعة كل من الغايتين ، أو أن يخدم كلا من السيدين بإخلاص تام .. فأي البديلين يختار … ؟؟ " ثم يقول " وفي عصرنا فقط أصبح الاختيار أمرا لا مفر منه للبشرية ككل . " [34]
وقد قدم الإسلام الحل الذي تحير فيه أرنولد توينبي فيما يتعلق بتكوين الشخصية الأنسانية .
فالإنسان في الإسلام وإن كان قد خلقه الله من طين .. إلا أنه لم يكن إنسانا إلا بما نفخ الله فيه من روحه . وهذا أمر إذا أخذ في الاعتبار فإنه لا يبقى من النظريات التحليلية أو السلوكية إلا شيئا قليلا ، ويجعل جوهر الإنسان هو في صلتها المتميزة بالله ، كما يجعل الأساس في تقويمها يرجع إلى شعورها بمسئوليتها عن هذه الصلة.
أما ما جاء عن النفس في القرآن الكريم فهو لا يعني كونها أنواعا ثلاثة : الأمارة ، واللوامة ، والمطمئنة ، وإلا لكان جبرا خَلقيا لا يتفق مع المسئولية ، ولكنه يعني في حقيقة الأمر : حالات تتحرك النفس بينها تحت قيادة الإرادة من جهة التسليم لله أو عدمه .(/22)
. وبالنسبة للنظام الإسلامي للشخصية نجد شيئا من التوافق في هذه النقطة مع ما يسمى " الذات" عند عالم النفس الشهير يونج إذ يذهب إلى ( أن الذات هي نقطة الوسط في الشخصية ، تتجمع حولها جميع النظم الأخرى ، وهي تجمع هذه النظم معا ، وتمد الشخصية بالوحدة والتوازن … إن الذات هي هدف الحياة ، الهدف الذي يحاول الناس بلوغه دائما ، لكنهم نادرا ما يبلغونه ، وهي مثل جميع الأنماط الأولية تحرك سلوك الإنسان وتدفعه نحو البحث عن الكلية ، وبخاصة عبر الدروب التي يقدمها الدين . إن الخبرات الدينية الحقة هي التي تصل في اقترابها من الذات إلى ما - ربما - لا يصل إليه معظم الناس ، وإن شخصيات كالمسيح وبوذا تعبيرات على قدر بالغ السمو من تفاضل النمط الأولي للذات ، كما قد يجده المرء في العالم الحديث … ولا يصبح النمط الأولي للذات واضحا قبل أن يصل الشخص إلى منتصف العمر ) [35]
وفي تأكيد الذاتية تأكيد لمبدأ التميز
لكن هذه الذات من وجهة نظر التربية الإسلامية لا تستغني عن هداية الله ، إن هداية الله ومعونته داخلة في صلب الموضوع : وهي هداية لا تلغي عنصر الذات الفردية في تكاملها وتوازنها .. وإنما هي معطاة لهذه الشخصية بناء على ما فيها من عنصر الذاتية ، وبناء على توجهها إلى الله ، وهي إذن تأتي – من خلال الذات – لتصعد فوق البيئة وفوق الوراثة ، وفوق النفس والشخصية جميعا .
*****
الجانب الاجتماعي
وفي الجانب الاجتماعي أو جانب التعامل مع البيئة الاجتماعية نجد عناية الإسلام في تربية المسلم بدعوته إلى القيام بواجباته التي لا تتحقق إلا بمخالطة الناس ، ولو أدى به ذلك إلى أن يقع في شيء من الأذى ، ويطلب منه أن يصبر على هذا الأذى ، ويرشده إلى أن ذلك أفضل له من أن يتجنب الناس لكي يتجنب أذاهم ، ففي سنن الترمذي بسنده عن الأعمش عن يحيى بن وثاب عن شيخ من أصحاب النبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( المسلم إذا كان مخالطا الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ) قال أبو موسى قال بن أبي عدي كان شعبة يرى أنه ابن عمر .
وكيف يستوفي المسلم أداءه لصلواته المفروضة والمسنونة ، وأداءه لزكواته المفروضة والمسنونة ، وأداءه لحجه وعمرته .. كيف يستوفي ذلك بغير مخالطة الناس ؟
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما خرجه القضاعي في مسند الشهاب بسنده عن ابن جريج عن عطاء عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن إلف مألوف ، ولا خير في من لا يألف ، وخير الناس أنفعهم للناس ) .
وفي السنن الكبرى للنسائي بسنده عن عبد الله بن الزبير قال: قام فينا أمير المؤمنين عمرعلى باب الجابية فقال : ( إن رسول الله قام فينا كقيامي فيكم فقال : " يا أيها الناس أكرموا أصحابي ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف قبل أن يستحلف ، ويشهد قبل أن يستشهد ، فمن سره أن ينال بحبحة الجنة فعليه بالجماعة ، فإن يد الله فوق الجماعة ، لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما ، ألا إن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد، ألا من ساءته سيئته وسرته حسنته فذلك المؤمن " . )
ويقول سبحانه وتعالى في الترابط بين الجماعات : { يا أَيُّها النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبيرٌ } 13 الحجرات .
ويحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هجر الأصحاب
ففي صحيح البخاري بسنده عن شعيب عن الزهري في حديث طويل بسنده جاء قوله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لمسلم أن يهجرأخاه فوق ثلاث ليال " .
وعند خوف الفتنة يأمر الإسلام أولا: بلزوم الجماعة ، ففي صحيح مسلم بسنده أنه قال صلى الله عليه سلم : " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " ، وعند ما سئل : فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : " فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك " ) .
ومن هنا يتبين أن العزلة إنما يضطر إليها المرء اضطرارا عند افتقاد الجماعة ، وحتى في هذه الحالة فإنه لا يفتح له باب العزلة إلا بشروط ، نلخصها – نظرا لضيق المقام عن بسطها – في ثلاثة أمور : أن يثبت لدى الفرد أنه عاجز عن تحصيل رجحان الفوائد التي أقرها الإسلام من مخالطة الناس ، ثانيا : أن تكون مخالطة الناس تمثل خطرا مؤكدا على دينه لا مفر منه بحال من الأحوال أو في غالب الظن ، ثالثا :أن تكون العزلة من العوامل المؤدية إلى إضعاف الفساد في الجماعة التي يعتزلها .(/23)
ومن هنا كانت تربية شخصية المسلم قائمة على كافة أوجه النشاط الاجتماعي : كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتناصح ، والدفاع عن الحرمات ، وصلة الرحم ، ورعاية الجار ، ونجدة المحتاج ، وغوث الملهوف ، والتواصي بالحق والصبر ، والاستمساك بالوحدة ، والتكافل الاجتماعي ، والقيام بواجبات : عيادة المريض ، والعزاء عند الموت ، والصلح بين المتخاصمين ، والمشاركة في الأفراح ، ورد السلام ، وإظهار الود ، إلى غير ذلك من المظاهر الاجتماعية.
والشخصية في كل ذلك لا تقع في التعارض مع جوانبها الأخرى .
*****
مجموعة العوامل الإيمانية
لا يستقيم أمر الشخصية من وجهة النظر الإسلامية إلا بإعلاء مجموعة العوامل الإيمانية الداخلة في بناء الشخصية ، والعاملة على تكاملها والترقي بها والسيطرة عليها .
ومن الواضح أننا نعني بالعناصر الإيمانية هنا تلك التي تربط الإنسان بالله وبمخلوقاته وبالدنيا وبالآخرة على حد سواء .
*****
ويأتي المدخل إلى هذه المجموعة من حيث يتبين لنا أن للشخصية الإنسانية امتدادها في الكون وامتدادها في الزمن ، ولا شك أن إغفال هذين البعدين ينتج تصورا غير متزن للشخصية ، ولا يمد الشخصية بهما إلا عقيدة في الخالق ومخلوقاته المحسوسة والغيبية على السواء ، تبسط الشخصية لتكون على علاقة بأصغر الأشياء وأكبرها. ومن هنا فالعقيدة الإسلامية لا تضع الشخصية في مقامها السوي من حيث تحقيق العلاقة بينها وبين الخالق فحسب ، بل هي كذلك تحقق للشخصية مقامها السوي في علاقتها بجميع الأشياء ، لأن هذه الأشياء جميعا من الله وإلى الله ، .. والكل خاضع لوحدة الخالق المتصرف .. خاضع لوحدة سننه المشتركة بين هذه الأشياء جميعا .
وهذا هو الذي يجعلنا ندرك معنى ما ورد في السنة النبوية الشريفة من صلة يعقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أشيائه ، بينه وبين سيفه فيسميه " ذا الفقار" ، وبينه وبين درعه فيسميه " ذا الفضول " [36]وبينه وبين حجر كان يسلم عليه قبل بعثته وبينه وبين منبر يخطب عليه .
وعن جابر بن سمرة فيما رواه مسلم بسنده عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إني لأعرف حجرا كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث ، إني لأعرفه الآن " وفي سيرة ابن هشام أنه صلى الله عليه وسلم ( كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت ، ويفضي إلى شعاب مكة وأوديتها ، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال "السلام عليك يا رسول الله ") .
وهكذا انعقدت الصلة بينه وبين الجذع الذي كان يستند إليه عند خطبته ،.. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ( جعلوا له منبرا ، فلما كان يوم الجمعة رفع إلى المنبر ، فصاحت النخلة صياح الصبي ، فنزل صلى الله عليه وسلم فضمها إليه تئن أنين الصبي الذي يسكن ، قال : " كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها " . ) ، رواه البخاري في صحيحه .
وفي هذا السياق يأتي ما جاء في السنة من أن الملائكة يحضرون المجلس الذي يعقده جماعة من المجتمعين لذكر الله ، وأن الله يباهي بهم ملائكته ، ففيما رواه مسلم والترمذي والنسائي بسنده من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : ( خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال : ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله ، قال : والله ما أجلسكم إلا ذلك ؟ قالوا والله ما أجلسنا إلا ذلك ، قال : أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل حديثا عنه مني ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال : " ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده ، على ما هدانا للإسلام ومن به علينا ، قال : " أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم ملائكته " . ) .
إنك لتجد المسلم يصل إلى قمة اتصاله بالكون في الصلاة ، يقول الحكيم الترمذي أحد الصوفية الكبار : (الصلاة دار الله .. من دخلها دخل في عرس الله ، وولائمه وضيافاته .) [37]
ويتأكد هذا الاتصال الكوني بما ورد من أدعية مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بها المسلم إذا أقبل الليل : ( أمسينا وأمسى الملك لله ، والحمد لله لا شريك له ، لا إله إلا الله وإليه المصير . ) أخرجه ابن السني والبزار ، وقال البيهقي : إسناده جيد . وعند الإصباح يقول : ( أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله لا شريك له لا إله إلا الله وإليه النشور ).
ولا يخشى المسلم – ضمن صياغة الإسلام لشخصيته – شيئا يعاديه في الكون : فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من قرأ " حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير " و" آية الكرسي " ، حين يصبح ؛ حفظ بهما حتى يمسي ، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح ) أخرجه الترمذي والدارمي.(/24)
وروى الطبراني في الكبير والحاكم – وصححه - بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قرا عشر آيات : أربعا من أول البقرة ، وآية الكرسي ، وآيتين بعدها [38]، وخواتيمها [39] لم يدخل ذلك البيت شيطان حتى يصبح ) .
****
والإسلام يحقق للشخصية امتدادها الزمني كذلك . لأنه يحدد لها نقطة البداية ، ويضيء لها طريق المستقبل ، فلا تقع في حسرة الجهل المطلق بما مضى ، ولا اليأس المطلق مما يكون ، ويرسم لهذه الشخصية صورا من صور المستقبل البعيد في الدار الآخرة ، لتختار منها ما تؤثره لنفسها : في الجنة ، أو في النار ، ولتكون على بينة من تاريخها كله .
إن المسلم لا يفقد اتصاله بمن غاب عنه في المكان أو في الزمان ، ومن هنا – مثلا - جاء ما جاء في الإسلام عن سكان القبور ، وعن زيارتهم ، والمسلم إذ يزور القبر يجد هذه الصلة ، إذ يقول لسكانه : ( السلام عليكم أهل الديار ، من المؤمنين المسلمين ، ويرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، أسأل الله لنا ولكم العافية ، أنتم لنا فرط ، ونحن لكم تبع ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ، ولا تضلنا بعدهم ) رواه مسلم والنسائي وابن ماجة .
إن إغفال هذه العناصر الإيمانية ودورها في بناء الشخصية تربويا يتناقض تناقضا أساسيا مع المنهج الإسلامي وهو ينشأ من الموقف العلماني الذي يجهل هذه العناصر أو يعمل على التخلص منها .
وهذا الموقف العلماني من الشخصية الإنسانية يشوهها أويبترها ، وهو يمثل تحديا لمنهج الإسلام في التربية .
ومما تقدم تبين لنا أن الشخصية الإنسانية في الصياغة الإسلامية تمتد على الأبعاد الآتية :
على البعد الفطري : في الجسم ، والوجدان ، والعقل والإرادة
على البعد الاكتسابي : في التعامل مع البيئة المادية ، والاجتماعية .
وعلى البعد الكوني : بالله ، والملائكة ، والناس ، والأشياء .
وعلى البعد الزمني : في بداية الخلق ، وفي نهايته ، وفيما بين البداية والنهاية من حوادث وتطورات .
[1] \ أنظر في الموضوع كتابنا "شخصية المسلم " نشر المكتبة العصرية بصيدا ببيروت عام 1970، و" في الفكر الإسلامي" نشر جامعة الإمارات عام 1989، وبحث لنا عن السلام ألقيناه بمؤتمر جمعية سانت أجيديو تحت رعاية الفاتيكان بروما عام 1988 ، وبحث لنا عن التطرف ألقيناه بمؤتمر للشرطة في القاهرة عام 1987.
[2] \ أنظر بحثنا بعنوان " الإسلام ومشكلة الوسطية " بكتابنا بعنوان " نحو منبر عصري " نشر دار الكتاب الجامعي بالقاهرة عام 2001
[3] \ الملل والنحل ج1 ص 45
[4] \ أنظر كتابه " إنسانية الإسلام " لمارسيل بوازار - ط دار الآداب ببيروت - 1980 ترجمة د عفيف دمشقية ص 19
[5] \ نشر ملخص البحث بمجلة العلوم العربية للعلوم الإنسانية التي تصدر عن جامعة الكويت ، العدد الواحد والثلاثون من ص 280-296 ضمن دراسة للأستاذ الدكتور أحمد مختارعمر .
[6] \ جريدة الاتحاد بالإمارات 20 \5\1990
[7] إحياء علوم الدين جـ 1ص22 , ج 4 ص 264
[8] \ أنظر دراسة للدكتورة بنت الشاطئ رحمها الله بعنوان " رحلة حاسمة للتحول الحضاري من الشرق إلى الغرب 1 – الرحلة والربان "" نشرتها قبيل وفاتها بجريدة الأهرام 23 سبتمبر ، …
[9] انظر بحث " الإسلام والعلم " لفضيلة الإمام الأكبر المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر ضمن كتاب المؤتمر الخامس لمجمع البحوث الإسلامية من ص 535 - 545
[10] | انظر المصدر الأسبق
[11] \ أنظر كتاب ( ما يعد به الإسلام ) لروجيه جارودي ص 140
[12] \أنظر كتاب " شمس العرب تسطع على الغرب " لزيجفريد هونكة ص 339 – 375 نشر دار الآفاق الجديدة ط الثالثة عام 1979
[13] \ انظر كتاب " فلسفة العلم " لفيليب فرانك ترجمة د. علي علي ناصف ، ط بيروت 1983 ص 49
[14] \ أنظر دراسة للدكتورة بنت الشاطئ رحمها الله بعنوان " رحلة حاسمة للتحول الحضاري من الشرق إلى الغرب 1 – الرحلة والربان "" نشرتها بجريدة الأهرام 23 سبتمبر
[15] \ أنظر كتابه " ما يعد به الإسلام " ص 140
[16] \ بستان العارفين للإمام أبي الليث السمرقندي ص 20\21
[17] \ أنظر مناقشتنا لهذه القواعد في كتابنا ( الفكر المعاصر في ضوء العقيدة الإسلامية ) نشر جامعة الإمارات .
[18] \ نظريات الشخصية تأليف كالفين هول ، وجاردنر ليندزي ترجمة الدكتور فرج أحمد فرج وآخرين الطبعة الثانية لعام 1978 توزيع الهيئة المصرية للكتاب بالقاهرة ص 174-175
[19] \ في كتابه " بزوغ العقل البشري " ترجمة ونشر مؤسسة فرانكلين بالقاهرة عام 1964
[20] \ أنظر في شرح هذه النقطة كتابنا ( الإسلام ومشكلة الحضارة بين التعددية والصراع ) نشر دار الصحابة والتابعين بجدة والقاهرة عام 2001
[21] \ أنظر كتاب ( المدخل إلى الفلسفة ) لأزفلد كولبة ترجمة أبو العلا عفيفي طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة عام 1943ص 256
[22] \ المدخل إلى الفلسفة لأزفلد كولبة ص 265 – 269(/25)
[23] \ أنظر كتاب ( الله في الفلسفة الحديثة ) لجيمس كولينز ترجمة فؤاد كامل طبعة مؤسسة فرانكلين عام 1973ص 461
[24] \ أنظر ( العقل والدين ) لوليم جيمس ترجمة الدكتور محمود حب الله ط عيسى البابي الحلبي عام 1949 ص 62
[25] \ انظر كتابه ( الحياة الوجدانية والعقيدة الدينية ) ص 268-269
[26] \ أنظر المدخل إلى الفلسفة لأزفلد كولبة ص 269
[27] \ النظر والمعارف للقاضي عبد الجبارالهمذاني المعتزلي ، ص 22 ، وهو من أجزاء كتابه " المغني في أبواب التوحيد والعدل "
[28] \ أنظر نقد نظرية المعرفة عند المتكلمين في كتابنا ( الأسس المنهجية لبناء العقيدة الإسلامية) نشردار الفكر العربي
[29] \ الضَّبْنَة : جاء في لسان العرب : ( ضبنة الرجل خاصته وبطانته وعياله ، ووكذلك الضَّبِِنة ، ومكان ضَبْن ، أي ضيق ، وقيل : تعوذ من صحبة من لا غناء فيه ولا كفاية من الرفاق ، فإنما هو كل وعيال على من يرافقه )
[30] \ لم يعد هذا هو موقف العلم في تطوره المعاصر وللتدليل على أن عامل الوراثة " الجينات " لا ينفرد بالتأثير فى مصير الإنسان يقول الأستاذ آشلى مونتاجيو في كتابه " الوراثة البشرية " ترجمة زكريا فهمي ، نشر مؤسسة فرانكلين عام 1970 بالاشتراك مع مكتبة الأنجلو المصرية : (إن من أعظم الأمور أهمية أن نفهم أن الكائنات الحية ليست نتائج أفعال، بل تفاعلات )00فليس هناك مثلا "جينة " تقوم بعملها هكذا منفردة ، فالجينات تتفاعل مع جينات أخرى ، ومع البيئة التي توجد بها ، والبيئة تتفاعل مع الجينات ... فالجينات أو البيئة لا يمكنها كل على حدة إحداث التطور ، بل لابد لهما لإحداث ذلك من التفاعل معاً ) ( إن التطور حالة متحركة تتفاوت بتقاوت الظروف 00فالمصير الذى تئول إليه أية خلية ، وجزء الجسم الذى تدخل فى تكوينه ، لا يتحددان فقط بواسطة الجينات التي تحتوي عليها هذه الخلية ، بل يتوقفان أيضا على الظروف المحيطة بها 0 وهذا هو الذي يمكن للخلايا التي تحتوي علي نفس الجينات ونفس المواد أن تكون أجزاء الجسم العديدة المختلفة ) ([30]) ويقول : (الواقع أن متاعبنا لا تنشأ عن المعتوهين بيولوجيٌا بل من المعتوهين اجتماعيٌا00وهؤلاء المعتوهون اجتماعياٌ ينتجهم المجتمع لا الجينات 00 ومن ثم فإن العلاج الاجتماعى لا البيولوجي هو الذي ينبغي أن يتبع ) 0ويقول : (فى اعتقادي أن ماينبغي علي الدولة أن تفعله هو أن تتيح للفرد أن يكتسب ما يحتاج إليه من معرفة لينتفع بوراثته علي أحسن وجه 00 واضعين فى أذهاننا أننا نستطيع اُيا كان إرثنا الوراثى أن نفعل الكثير عن طريق البيئة لتحسين الطريقة التي يظهر بها هذا الإرث ) 0 ويقول : ( يمكننا عن طريق التحكم الواعي في البيئة أن نفعل الكثير إزاء الوراثة ) 0ويقول الدكتور ف . هـ .مترام في كتابه " الأساس الجسماني للشخصية " ترجمة الدكتور عبد الحافظ حلمي ، طبعة الألف كتاب بالقاهرة عام 1966: (من الجلي الواضح أن مظاهر ميراثنا تتغير بفعل البيئة وأنه في وسعنا أن نضبط البيئة ونكيفها إلى حد كبير ) 0ويقول( مما لا ينكره أحد أن الاكتساب له أثرة القوى فيما تهبه لنا الطبيعة ) أنظر كتابنا ( الإسلام والاتجاهات العلمية الحديثة " نشردار المعارف بمصر عام 1984
[31] - نظريات الشخصية ص 169- 170
[32] \ لم يذكر في الصحاح ، وورد في عون المعبود شرح سنن أبي داود بصيغة ( وقد روي : العرق دساس إلخ ) ، وورد في الكامل في ضعفاء الرجال ، لابن عدي الجرجاني ت 365هـ ، بسنده ، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني قال فيه يحيى بن معين "ليس بشيء" وقال النسائي عنه منكر الحديث ، وورد في كتاب العلل المتناهية لابن الجوزي ، وورد في كشف الخفاء للعجلوني ت 1162 وذكر تخريج ابن ماجة والدار القطني والحاكم والبيهقي ثم قال " ولا يصح " وقال عن هذه الروايات " وكلها ضعيفة " وذكره أبو حاتم الرازي التميمي ت 327 في كتابه " الجرح والتعديل " وذكره الرامهرمزي في كتابه " أمثال الحديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم " ،وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، والشوكاني في الفوائد المجموعة ، والفتني ت 986 هـ في تذكرة الموضوعات ، وابن الجوزي في " العلل المتناهية في الأحاديث الواهية " ، والسخاوي في " المقاصد الحسنة " والصنعاني في " النوافح العطرة في الأحاديث المشتهرة " ، والغزي في " إتقان ما يحسن من الأخبار "(/26)
[33] \ لم يذكر في الصحاح وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، والشوكاني في الفوائد المجموعة ، والفتني في تذكرة الموضوعات . وذكره ابن حجر الهيثمي في كتابه " الإفصاح عن أحاديث النكاح " وذكر أنه رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ، ثم قال : " وكلها ضعيفة ، نعم يصح موقوفا عن عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر رضي الله عنهما) النكاح رق ، فلينظر أحدكم أين يضع كريمته ( وروي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال البيهقي : والموقوف أصح )
[34] \ أنظر كتابه " تاريخ البشرية " ج 1 ص 31
[35] \ نظريات الشخصية ص119
[36] \ أنظر " الوفا بأحوال المصطفى " لابن الجوزي ص 667
[37] \ أنظر كتابه " الصلاة ومقاصدها للحكيم الترمذي " ص 5
[38] \ آية256 "لا إكراه في الدين " وآية 257" الله ولي الذين آمنوا " إلى قوله تعالى " هم فيها خالدون "
[39] \ قوله تعالى " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " إلى آخر السورة 285-286(/27)
الذبح لغير الله وعقوق الوالدين وتغيير منار الأرض
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: "لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض"() يقول علي: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنعم المحدث ونعم المحدث رضي الله عنه وأرضاه. حدثه بأربع كلمات اشتملت على هذه اللعنات ، فيهن الموبقات المهلكات، اشتملت على أذية المؤمنين والمؤمنات وإضاعة حق فاطر الأرض والسماوات.
"لعن الله" ومن لعنه الله فقد أبعده من رحمته وطرده من دار كرامته وجنته، ومن لعنه الله فقد أعمى قلبه وأشقى حياته ونغص عيشه.
من لعنه الله غضب عليه سبحانه وتعالى:? وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ? [طه:81] وقال سبحانه في اليهود المغظوب عليهم ? قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ?[المائدة:60].
لا حول للعبد ولا طول ولا قوة له أن يقف أمام لعنة الله جل جلاله، وإذا حلت لعنة الله على العبد لم يبق شيء في الأرض والسماوات إلا لعنه. كما قال سبحانه في الذين يكتمون دينه وشريعته وأحكامه ?... أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ?[البقرة:159].
الصنف الأول ممن لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: هو من ذبح لغير الله فقال: "لعن الله من ذبح لغير الله" سبحان من خلق الخلق بقدرته، خلق لنا البهائم وسخر لنا خيرها، سخر لنا أن نحمل عليها ? وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ ?[النحل:7 ]. ? وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً?[النحل:8 ]. سخر لنا الإبل والغنم والبقر رحمة منه سبحانه ذي الجود والكرم، سخر لنا لحمها، سخر لنا ألبانها وأصوافها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين، فلو نظرت إلى خلقة البعير نظرة واعية لعظمت الخالق جل وعلا في قلبك وقلت بلسانك وقلبك سبحان الله العظيم: ? أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ?[ الغاشية:17-20].
فذكر الإبل قبل السماوات والأرض والجبال. هذا الحيوان الضخم العظيم سخره الله لابن آدم، سخره للإنسان حتى أن الطفل الصغير يمسك بزمام البعير يقوده حيث يشاء بقدرة الله جل وعلا وتسخيره، سخر لنا ألبانها طعاماً وغذاءً، سخرها سبحانه وتعالى لنا فسخر ظهورها وسخر جميع ما يكون منها حتى أبوالها، إذ في أبوالها دواء لبعض الأمراض وحتى روثها جعل فيها سماداً وصلاحاً للعباد.
كل ذلك من أجل أن نعظم الله ونوحده ونذكره مع الذاكرين ونشكره مع الشاكرين تبارك الله رب العالمين القائل: ? لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ?[الزخرف:13 ].
سخر الله لنا بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم لكي تحيا قلوبنا بذكر الله وتعمر ألسنتنا بشكره وحمده جل جلاله، فإن حمدناه قبل منا ذلك، وإن شكرناه رضي عنا وهو الذي يجزي الشاكرين.(/1)
أيها المؤمنون : فإذا أراد العبد أن يذبحها وأن يريق دماءها أخذ الله عليه العهد أن يجعل ذبحها لوجهه وأن يجعل إراقة دمائها على الأرض له سبحانه فلو أراق قطرة دم واحدة وقصد بها غير الله جل وعلا فقد ضل ضلالاً بعيداً، أشرك بالله جل وعلا، ولو أراق قطرة دم تقرباً لغير الله فقد أشرك وحرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار هذا الأمر حق لله جل وعلا لا يأذن به لأحد سواه، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يضحي قال صلوات الله عليه وسلامه: " ?ِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ? [الأنعام:79] ?إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ?[الأنعام: 162ـ 163] اللهم ان هذا منك ولك عن محمد وأمته ثم سمى الله وكبر وذبح"()
اللهم هذا منك: أنت خلقته وأنت أوجدته وأنت الذي أجريت الروح في هذا الجسد، وكذلك هو لك فمن أراق دماءها لغير الله فقد كفر بالله والعياذ بالله وإن مات على هذا الاعتقاد فإن الجنة عليه حرام هذا البلاء العظيم والذنب الكبير وهو الذبح لغير الله قد لا يقع بصورة واضحة، ولكنه يقع عند كثير من الناس بصورة خفية بسبب ما يدلسه الشيطان ويلبسه عليهم. ومن أعظم ما يقع عند كثير من الناس ذبحهم الذبائح عند بناء البيوت والمساكن من العمائر والفلل يذبحون ما شاءوا من بهيمة الأنعام يلطخون الأركان والأسس والأبواب والجدران ويعتقدون في ذلك دفعاً لأذى الجن والشياطين، وهناك من يذهب إلى الكهان والمشعوذين ويأمرونهم بالذبح ، سبحان الله العظيم الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ؟ من الذي يغيث؟ من الذي يعيذ؟ هو الملاذ والمعاذ سبحانه وبحمده.. ولكن الجاهل بربه يريق الدماء لمن لا يملك له نفعاً ولا ضراً ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً. تعالى الله عما يشركون. فلا يجوز إراقة مثل هذه الدماء. وهذه الذبائح التي تذبح محرمة لا يجوز لإنسان أن يطعمها لأنها من الفسق الذي أهل به لغير الله.
فاتقوا الله أيها المسلمون واعلموا أن حقوق الله عظيمة، حقوق الله في توحيده والإيمان به سبحانه والإخلاص لوجهه لا يجوز صرف شيء من العبادات لغير الله.
أما الكبيرة الثانية التي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلها ، فلعن الوالدين. ومن هذا الذي يستطيع أن يلعن أباه وأمه؟ من هذا الذي عنده الجرأة أن يرفع وجهه في وجه أبيه فيلعنه ـ والعياذ بالله ـ قالوا: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه"() سب آباء الناس وسب أمهاتهم يتسبب في سب والديك فإياك أن تلعن آباء الناس فيُلْعَن آباؤك، وإياك أن تلعن أمهاتهم فتلعن أمهاتك. فاتق الله في والديك.
من الناس من جعله الله رحمة لوالديه يحسن إلى الأيتام ويحسن إلى الأرامل والضعفة من بني الإسلام فيدعون له ويترحمون على والديه فيكون مفتاح خير لهم في الدنيا والآخرة ومن الناس من هو شقي طريد يؤذي الناس ويسيء إليهم فيكون سبباً في لعن والديه، نسأل الله السلامة والعافية.
من لعن والديه فقد وقع في العقوق ومن أصاب العقوق لم يأمن من سوء الخاتمة والعياذ بالله قال صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة عاق"() قال بعض العلماء: أي أن الله لا ييسر للعاق حسن الخاتمة ، بل يموت على سوء الخاتمة فيدخل النار والعياذ بالله.
الخطبة الثانية:
الكبيرة الثالثة التي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلها هي إيواء المحدثين: "لعن الله من آوى محدثاً"
المحدث هو المجرم الذي أحدث الفساد في الأرض، وكانت العرب في الجاهلية تفعل ذلك يقدم المجرمون السفاحون على سفك الدماء وانتهاك الحرمات ثم يذهبون إلى أقربائهم إلى أبناء العم وإلى القبيلة والعشيرة فيجتمعون حولهم ويحفظون هذا القاتل ويدافعون عنه. كل ذلك حمية وعصبية وظلماً وعدواناً فلعن الله ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من آوى المجرمين ونصرهم وآزرهم ووقف معهم، من فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. كيف تستقيم الحياة وكيف يطمئن الناس إذا أصبح المجرمون في مأمن مع ما يأتون ويفعلون من الجرائم والفواحش والمنكرات؟ بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب تسود الفوضى ويصبح الناس في قلق عظيم وبلاء عميم . فإياك إياك أن تناصر الظالمين ، وإياك أن تجادل عن الذين يختانون أنفسهم فتكون معهم.
وتحشر في زمرتهم والعياذ بالله كما قال سبحانه: ? احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ?[ الصافات:22-23].
احشروا الذين ظلموا ومن ناصرهم وآزرهم وكانوا معهم فإياك أن تكون للظالمين ظهيراً ومعيناً.(/2)
إيواء المحدثين أشد ما يكون في الحرم الذي حرمه الله ورسوله ومن ذلك حرم المدينة النبوية التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المدينة حرم من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً يوم القيامة"()
قال العلماء: أي أن الله لا يقبل منه حسنة واحدة لا صرفاً ولا عدلاً لا فريضة ولا نافلة. إيواء المحدثين إيواء أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم وأعداء صحابته رضوان الله عليهم، فليتق الله كل مسلم، وليعلم أن الله سائله عما يكون منه وما يذر
ومن صور إيواء المحدثين إيواء عصابات السرقات وإيواء العصابات والمافيا ممن يفسدون الأخلاق وينشرون الزنا والانحلال، فلا يجوز لإنسان أن يؤجر منزلاً أو شقة لهؤلاء المحدثين المجرمين فمن فعل ذلك وتستر عليهم لعنه الله والملائكة والناس.
الكبيرة الرابعة الملعون فاعلها: تغيير منار الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من غير منار الأرض" منار الأرض هي العلامات التي يهتدي بها الناس في أسفارهم ويهتدي بها الغريب ، إذا نزل مدينة أو قرية اهتدى بهذا المنار كأن تكتب أسماء الأحياء أو أسماء المدن والقرى، فمن أزال هذه الأسماء فإنه يكون سبباً في ضلال الغريب وتعبه وعنائه ولربما يكون سبباً في هلاكه ، ولا يسلم من هذه اللعنة من يقومون بالعبث باللوحات الإرشادية إما بطمسها أو تحريفها وتبديلها . قال بعض العلماء: لو كان هناك حجراً في الطريق يعرف الناس أن هذه الصخرة هي نهاية بلد كذا أو دليلاً على قرية معينة أو دليلاً على طريق معين فحرفها أصابته اللعنة والعياذ بالله، فكيف بمن يطمس العلامات ويغير منار الأرض ما يقع في حدود الأراضي فإن تغيير معالم الأراضي وتقديمها وتأخيرها وتصغيرها وتكبيرها وتوسيعها وتضييقها كله من العبث بمنار الأرض. فإذا كانت بينك وبين جارك حد فاصل فقدمته أو أخرته فقد غيرت منار الأرض، فتصيبك لعنة الله ولعنة رسوله. إن العبث في حدود الأرض سواء كان ذلك العبث على طبيعة الأرض أو كان ذلك داخل البصائر والمستندات والمخططات ونحوها من الوثائق فكل ذلك من العبث وتغيير منار الأرض وطمس معالمها الذي لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من فعله. فاتقوا الله أيها الناس، وابتعدوا عن هذه الموبقات وغيرها وتوبوا إلى الله قبل أن تموتوا ? وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ?[البقرة: 281].
أيها المؤمنون: لقد سمعتم وشاهدتم الحادث الجلل الذي وقع في إيران حيث ضربت بزلزال مدمر ذهب فيه عشرات الألوف وشرد ويتم أمثالهم، فخذوا من ذلك الدرس والعبرة واعلموا أن أرضكم هذه التي أنتم عليها ليست لكم وأن الجبار تبارك وتعالى يري عباده بعض آياته ليستيقظوا ويحذروا أسباب سخط الله تعالى.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد
صحيح مسلم: باب: تحريم الذبح لغير الله تعالى، ولعن فاعله: الحديث رقم: (1978) .
(2) سنن الدارمي2/103، حديث رقم: 1946، وقال حسين سليم أسد: إسناده ضعيف، ولكن الحديث صحيح بشواهده.
صحيح البخاري: باب: لا يسب الرجل والديه:الحديث رقم: (5628) عن عبد الله ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما . و أخرجه مسلم في الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها، رقم: 90
مسند أحمد 2/203، حديث رقم: 6892، وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح لغيره.
صحيح البخاري: باب: إثم من تبرأ من مواليه:الحديث رقم:( 6374) عن علي رضي الله تعالى عنه . وصحيح مسلم: مسلم في الحج، باب: فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة. وفي العتق، باب: تحريم تولي العتيق غير مواليه، رقم:(1370).(/3)
الذكر الجماعي بصوت واحد
بيان وتوضيح حول حكم
التكبير الجماعي قبل صلاة العيد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد: فقد اطلعت على ما نشره فضيلة الأخ الشيخ: أحمد بن محمد جمال - وفقه الله لما فيه رضاه - في بعض الصحف المحلية من استغرابه لمنع التكبير الجماعي في المساجد قبل صلاة العيد لاعتباره بدعة يجب منعها ، وقد حاول الشيخ أحمد في مقاله المذكور أن يدلل على أن التكبير الجماعي ليس بدعة وأنه لا يجوز منعه ، وأيد رأيه بعض الكتاب ؛ ولخشية أن يلتبس الأمر في ذلك على من لا يعرف الحقيقة نحب أن نوضح أن الأصل في التكبير في ليلة العيد ، وقبل صلاة العيد في الفطر من رمضان ، وفي عشر ذي الحجة ، وأيام التشريق ، أنه مشروع في هذه الأوقات العظيمة وفيه فضل كثير؛ لقوله تعالى في التكبير في عيد الفطر: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وقوله تعالى في عشر ذي الحجة وأيام التشريق: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الآية ، وقوله عز وجل: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ الآية. ومن جملة الذكر المشروع في هذه الأيام المعلومات والمعدودات التكبير المطلق والمقيد ، كما دلت على ذلك السنة المطهرة وعمل السلف. وصفة التكبير المشروع: أن كل مسلم يكبر لنفسه منفردا ويرفع صوته به حتى يسمعه الناس فيقتدوا به ويذكرهم به. أما التكبير الجماعي المبتدع فهو أن يرفع جماعة - اثنان فأكثر - الصوت بالتكبير جميعا يبدءونه جميعا وينهونه جميعا بصوت واحد وبصفة خاصة. وهذا العمل لا أصل له ولا دليل عليه ، فهو بدعة في صفة التكبير ما أنزل الله بها من سلطان ، فمن أنكر التكبير بهذه الصفة فهو محق ؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد أي مردود غير مشروع . وقوله صلى الله عليه وسلم: وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة والتكبير الجماعي محدث فهو بدعة. وعمل الناس إذا خالف الشرع المطهر وجب منعه وإنكاره ؛ لأن العبادات توقيفية لا يشرع فيها إلا ما دل عليه الكتاب والسنة ، أما أقوال الناس وآراؤهم فلا حجة فيها إذا خالفت الأدلة الشرعية ، وهكذا المصالح المرسلة لا تثبت بها العبادات ، وإنما تثبت العبادة بنص من الكتاب أو السنة أو إجماع قطعي . والمشروع أن يكبر المسلم على الصفة المشروعة الثابتة بالأدلة الشرعية وهي التكبير فرادى . وقد أنكر التكبير الجماعي ومنع منه سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية - رحمه الله - وأصدر في ذلك فتوى ، وصدر مني في منعه أكثر من فتوى ، وصدر في منعه أيضا فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. وألف فضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله رسالة قيمة في إنكاره والمنع منه ، وهي مطبوعة ومتداولة وفيها من الأدلة على منع التكبير الجماعي ما يكفي ويشفي - والحمد لله - أما ما احتج به الأخ الشيخ أحمد من فعل عمر رضي الله عنه والناس في منى فلا حجة فيه؛ لأن عمله رضي الله عنه وعمل الناس في منى ليس من التكبير الجماعي ، وإنما هو من التكبير المشروع ؛ لأنه رضي الله عنه يرفع صوته بالتكبير عملا بالسنة وتذكيرا للناس بها فيكبرون ، كل يكبر على حاله ، وليس في ذلك اتفاق بينهم وبين عمر رضي الله عنه على أن يرفعوا التكبير بصوت واحد من أوله إلى آخره ، كما يفعل أصحاب التكبير الجماعي الآن ، وهكذا جميع ما يروى عن السلف الصالح - رحمهم الله - في التكبير كله على الطريقة الشرعية ومن زعم خلاف ذلك فعليه الدليل ، وهكذا النداء لصلاة العيد أو التراويح أو القيام أو الوتر كله بدعة لا أصل له ، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي صلاة العيد بغير أذان ولا إقامة ، ولم يقل أحد من أهل العلم فيما نعلم أن هناك نداء بألفاظ أخرى ، وعلى من زعم ذلك إقامة الدليل ، والأصل عدمه ، فلا يجوز أن يشرع أحد عبادة قولية أو فعلية إلا بدليل من الكتاب العزيز أو السنة الصحيحة أو إجماع أهل العلم - كما تقدم - لعموم الأدلة الشرعية الناهية عن البدع والمحذرة منها ، ومنها قول الله سبحانه: لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ومنها الحديثان السابقان في أول هذه الكلمة ، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد متفق على صحته. وقوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة: أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة خرجه مسلم في صحيحه ، والأحاديث والآثار في هذا المعنى كثيرة. والله المسئول أن يوفقنا وفضيلة الشيخ أحمد وسائر(/1)
إخواننا للفقه في دينه والثبات عليه ، وأن يجعلنا جميعا من دعاة الهدى وأنصار الحق ، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من كل ما يخالف شرعه إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد / عبد العزيز بن عبد الله بن باز
صدر هذا البيان من مكتب سماحته .
المصدر / موقع الشيخ ابن باز
-------------------------------
س 151 يقول السائل: لنا جماعة هم أصحاب الطريقة التيجانية يجتمعون كل يوم الجمعة ويوم الاثنين ويذكرون الله بهذا الذكر: لا إله إلا الله، ويقولون في النهاية: الله. الله بصوت عال فما حكم عملهم هذا؟
الجواب: هذه العقيدة التيجانية من العقائد المبتدعة والطرق المنكرة، وفيها منكرات كثيرة، وبدع كثيرة، ومحرمات شركية يجب تركها، ولا يؤخذ منها إلا ما وافق الشرع المطهر الذي جاء به نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
والاجتماع على الذكر بصوت جماعي لا أصل له في الشرع، وهكذا الاجتماع بقول: الله. الله، أو: هو. هو، إنما الذكر الشرعي أن يقول: لا إله إلا الله فهذا هو الذكر الشرعي، أو سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أستغفر الله، اللهم اغفر لي، أما الاجتماع بصوت واحد: لا إله إلا الله أو: الله. الله، أو: هو. هو؛ فهذا لا أصل له، بل هو من البدع المحدثة.
فالواجب على المسلمين ترك البدع، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد يعني فهو مردود ويقول: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد
ويقول أيضا عليه الصلاة والسلام: وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكان يخطب في الجمعة صلى الله عليه وسلم فيقول: أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة
فالواجب على المسلمين أن يحذروا البدع كلها سواء كانت تيجانية أو غيرها، وأن يلتزموا بما شرعه الله على لسان نبيه ورسوله محمد عليه الصلاة والسلام، هذا هو الواجب على المسلمين، كما قال الله عز وجل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]، وقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ النساء: 59] وقال عز وجل: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: 10] وقال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور: 56].
فالواجب على أهل الإسلام من الرجال والنساء طاعة الله ورسوله والحذر من البدع في الدين، بل الله كفانا سبحانه وتعالى، وأتم لنا النعمة وأكمل لنا الدين، كما قال عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا [المائدة: 3] فالإسلام الذي رضيه الله وأكمله لنا علينا أن نلتزم به وأن نستقيم عليه وأن نحافظ عليه، وألا نحدث في الدين ما لم يأذن به الله
ونسأل الله للجميع الهداية.
الشيخ عبد العزيز بن باز
المصدر / موقع الشيخ ابن باز(/2)
الذكر و الحذف في القرآن الكريم
الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم وبعد:
فإن الله تعالى أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فالتعابير القرآنية بالغة غاية الكمال في البلاغة؛ لأن الله تعالى أحكم آياته وتحدى به أفصح العرب فعجزوا عن معارضته مع ما آتاهم الله تعالى من الفصاحة، ومع حرصهم الشديد على إبطاله، ومع هذا كله عجزوا عن الإتيان بمثله ، أو بسورة مثله، والقرآن هو معجزة الله الخالدة إلى قيام الساعة، والإعجاز البياني واحد من أوجه إعجاز القرآن الكريم، تحدى الله تعالى به الإنس والجن في قوله تعالى: ) قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ( [الإسراء : 88] .
فالقرآن له نمطه الخاص في التركيب، إذ يجد المتمرس في أساليب العربية وطرائقها في التعبير أن نمط الجملة العربية في القرآن فريد متميز.
ونحن نذكر وجهاً من أوجه الإعجاز البياني ألا وهو الذكر والحذف للكلمات والحروف، فقد يذكر الحرف في كلمة في موطن ما، ويحذف هذا الحرف من نفس الكلمة في موطن آخر، وتذكر الكلمة في موطن ما وتحذف في موطن آخر مع اقتضاء ذكرها ، وذكرها وحذفها ليس عشوائياً وإنما لحكمة قد نعلمها وقد لا نعلمها، وقد نعلم جزءاً منها.
ولكن ينبغي أن يعلم أن الحذف إذا نُسب في القرآن فإننا لا ننسب الحذف إلى مضمون القرآن بل ننسبه إلى تركيب اللغة، فاللغة تجعل للجملة العربية أنماطاً تركيبية معينة فإذا لم تشتمل على بعض هذه التراكيب عددنا ذلك حذفاً.
وللحذف أغراض كثيرة ذكرها البلاغيون ليس هذا مجال ذكرها ولكننا سنذكر بعض أمثلة إعجاز القرآن البياني في حذف وذكر بعض الكلمات والحروف. والله المستعان..
المبحث الأول :
الذكروالحذف في الحروف
من روائع البيان القرآني المعجز أنه يحذف حرفاً من بعض ألفاظه في موضع ويذكره في موضع آخر، وحذف هذا الحرف ليس حذفاً اعتباطياً كما أن ذكره ليس مصادفة عشوائية إنما ذكره لحكمه وصرفه لحكمه.
وهناك أغراض يذكرها النحاة في هذا الباب فيقولون: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى إلى غيرها من الأغراض النحوية العربية وفي القرآن نجد من هذا كثيراً ولكن يحكمه التوازن الدقيق ليس في بعض أبوابه بل في كل أبوابه.
ولننظر إلى بعض الأمثلة في حكمة ذكر أو حذف بعض حروف الكلمات في القرآن الكريم المثال الأول:
"تسطِعْ" و"تستطع" .
وردت هاتان الكلمتان في قصة موسى والخضر حيث رافق موسى الخضر وأمره بعدم سؤاله عما يفعله فكان يفعل أموراً يرى موسى أن الخضر فيها مخالفاً فينكر عليه فقال له بعد إنكاره الفعل الثالث: ) هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ( [ الكهف:78 بإثبات التاء ] .
ثم نبأه بتأويل أفعاله وأخبره أنه لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه )وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي (" ثم قال له: ) ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ( [ الكهف: 82 ] بحذف التاء.
وجه الإعجاز البلاغي هنا أن المرة الأولى كان موسى في قلق محيِِِِِِِِِِِِِِِِِِّّّّّّر جرّاء أفعال الخضر فراعى السياق القرآني الثقل النفسي الذي يعيشه موسى عليه السلام فأثبت التاء ليتناسب مع الثقل النفسي لموسى، الثقل في نطق الكلمة بزيادة الحرف.
وحذفه في المرة الثانية بعد زوال الحيرة وخفة الهم عن موسى ليتناسب خفة الهم مع خفة الكلمة بحذف الحرف الذي ليس من أصل الكلمة.
المثال الثاني:
"اسطاعوا" و"استطاعوا":
جاءت هاتان الكلمات في سورة الكهف في الحديث عن السد الذي بناه ذو القرنين على يأجوج ومأجوج وأنه بعد أن بناه عليهم كي يمنع فسادهم أرادوا الخروج فحاولوا تسلق السد فلم يفلحوا ثم حاولوا أن ينقبوه أو يخربوه فلم يستطيعوا كذلك، قال تعالى:) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً ( [الكهف : 97] .
فلماذا حذف التاء في الأولى وأثبته في الثانية ؟ . يظهر والله أعلم أن ذلك ليتناسب مع السياق فتسلق السد شيء لطيف يحتاج إلى لطف وخفة فناسب حذف التاء والنقب والخراب شيء ثقيل يحتاج إلى جهد وقوة ومعدات ثقيلة فناسب ذكر التاء ليكون ثقل الكلمة مناسب لثقل الفعل وخفة الكلمة مناسب لخفة الفعل(1) فسبحان القائل: )ُقل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً([الإسراء: 88].
وذكر الدكتور فاضل السامرّائي بعض حالات ذكر و حذف الحرف في القرآن الكريم فقال: نذكر من حالات ذكر وحذف الحرف في القرآن الكريم حالتين: الأولى: عندما يحتمل التعبير ذكر أكثر من حرف، ومع ذلك يحذفه، وقد يحتمل التعبير ذكر أكثر من حرف، والثانية عندما لا يحتمل التعبير ذكر حرف بعينه.(/1)
الحالة الأولى: ) وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( [ النمل :91 ] يحتمل أن يكون المحذوف(الباء)؛ لأن الأمر عادة يأتي مع حرف الباء (أمرت بأن) كما في قوله تعالى (تأمرون بالمعروف) كما يحتمل التعبير ذكر حرف اللام (وأمرت لأن أكون أول المسلمين) فلماذا حذف؟ هذا ما يسمى التوسع في المعنى وأراد تعالى أن يجمع بين المعنيين (الباء واللام) فإذا أراد التخصيص ذكر الحرف وإذا أراد كل الاحتمالات للتوسع في المعنى يحذف.
مثال : ) أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَق( [ الأعراف :169] .
في الآية حرف جر محذوف، يحتمل أن يكون (في) ) أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَق( [ الأعراف :169]
ويحتمل أن يكون (اللام) (ألم يؤخذ عليكم ميثاق الكتاب لئلا يقولوا على الله إلا الحق) ويحتمل أن يكون (على) (ألم يؤخذ عليكم ميثاق الكتاب على ألا يقولوا على الله إلا الحق) ويحتمل أن يكون بالباء (ألم يؤخذ عليكم ميثاق الكتاب بألا يقولوا على الله إلا الحق) لذا فهذا التعبير يحتمل كل معاني الباء واللام وفي وعلى للتوسع في المعنى أي أنه جمع أربع معاني في معنى واحد بحذف الحرف.
الحالة الثانية: يحذف الحرف في موقع لا يقتضي إلا الحذف بالحرف، والذكر يفيد التوكيد بخلاف الحذف (مررت بمحمد وبخالد) أوكد من (مررت بمحمد وخالد). مثال من القرآن الكريم:في سورة آل عمران قال تعالى: )إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ( [آل عمران :141،142].
إذا كان التعبير يحتمل تقدير أكثر من حرف يُحذف للتوسع في المعنى وعندما لايحتمل إلا حرفاً بعينه فيكون في مقام التوكيد أو التوسع وشموله:)إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ([آل عمران:142] ذكرت اللام في كلمة (ليعلم) وحذفت في كلمة (يتّخذ) الآية الأولى نزلت بعد معركة أحد (ليعلم الله الذين آمنوا) غرض عام يشمل كل مؤمن ويشمل عموم المؤمنين في ثباتهم وسلوكهم أي مما يتعلق به الجزاء ولا يختص به مجموعة من الناس فهو غرض عام إلى يوم القيامة والله أعلم. وهذا علم يتحقق فيه الجزاء. أما في قوله (يتخذ منكم شهداء) ليست في سعة الغرض الأول فالشهداء أقل من عموم المؤمنين.
وكذلك في قوله تعالى في سورة آل عمران: )وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ( [آل عمران: 141] ذكرت في (ليمحص) ولم تذكر في (يمحق). غرض عام سواء في المعركة (أحد) أو غيرها لمعرفة مقدار ثباتهم وإخلاصهم وهو أكثر اتساعاً وشمولاً من قوله تعالى: (ويتخذ منكم شهداء) ويمحق الكافرين ليست بسعة (ليمحص الله) لم تخلو الأرض من الكافرين ولم يمحقهم جميعاً . زوال الكافرين ومحقهم على وجه العموم ليست الحال وليست بمقدار الغرض الذي قبله. (ليعلم الله) غرض كبير متسع وكذلك قوله تعالى (ليمحص الله) إنما قوله تعالى: (يتخذ منكم) و(يمحق الكافرين) فالغرض أقل اتساعاً لذا كان حذف الحرف (لام).
أما في قوله تعالى : )وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ( [ آل عمران:154 ].هنا الغرضين بدرجة واحدة من الإتساع ولهذا وردت اللام في الحالتين.
المبحث الثاني
الذكر والحذف لبعض كلمات الآية
قوله تعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً ( [ النساء : 19 ] مع أن أكثر المنهيات كانت تلي حرف النهي مباشرة كقوله تعالى: "ولا تقتلوا أولادكم" وقوله : )ولا تقربوا الزنى( وقوله: )ولا تقربوا مال اليتيم(.. الخ المنهيات، ففي هذه الآية لم يقل لا ترثوا النساء كرهاً بل قال "لا يحل لكم..الخ".(/2)
وعند البحث عن نظائر هذه الآية كقوله تعالى: )لايحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً([النساء:229]. يبدو والله أعلم أن هذه الكلمة إنما يأتي بجانب قضايا كان الناس يزاولونها من دون أن يروا بها بأساً أو حرجاً كالقضايا السابقة بل كانت عادات منتشرة بين العرب، أما بقية المنهيات الأخرى كالقتل والزنى وأكل مال اليتيم وغيرها فهي أمور تنفر منها العقول السليمة والطباع المستقيمة وتنكرها الأعراف السائدة لا يقرها عقل ولا شرع لذلك كان النهي عنها مباشراً لما جبل في الفطرة على النفور منها بخلاف الأشياء السابقة المقررة عندهم فتحتاج لترسيخ التحريم ألفاظاً قوية حادة قاطعة . فانظر إلى جمال التعبير القرآني لهذه الأمور حتى لا يساورها شك في التحريم . فهذه فروق عجيبة في التعبير أعجزت أفصح البلغاء عن معارضته سبحان العليم الخبير(2).
1 ـ جاء في قوله تعالى في حديثه عن الزوجين اللذين لا يستطيعان مواصلة الحياة الزوجية ) وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً ( [النساء : 130] .
وجاء في قوله تعالى مبيناً حرمة دخول المشركين إلى المسجد الحرام للمفارقة العقدية ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ا لْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( [ التوبة : 28] .
فلماذا ذكر في الآية الأخيرة " إن شاء" ولم يذكرها في السابق مع أن الحديث عن موضوع واحد وهو الإغناء وكذلك كل شيء إنما يكون بمشيئة الله تعالى..
والذي يظهر والله أعلم أن الآية الأولى جاءت خطاباً لبعض الأفراد الذين تعسر عليهم مواصلة الحياة الزوجية رجالاً كانوا أم نساء فأراد الله تبارك وتعالى _ والله أعلم بما ينزل _ أن يبين لهم سعة فضله وواسع رزقه وعظيم تيسيره .
وأما الآية الثانية فجاءت خطاباً للأمة والأمة لابد أن تتعود التضحية للمحافظه على عقائدها ومقدساتها مهما كلفها ذلك من ثمن وقد يؤدي بها ذلك إلى أن تحرم بعض المكاسب وتتحمل كثيراً من الأعباء لذا ذكر فعل المشيئة.
فانظر إلى هذه اللفتة البيانية العظيمة في كتاب الله تعالى يظهر لك أن كل حرف وكلمة في كتاب الله تعالى وضع الحكمة "والله أعلم بما ينزل" .
ويشبه الآية الأولى كلام الله تعالى في قوله: ) وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (
[النور : 32] .
فهذه الآية كذلك لم تتقيد بالمشيئة لأنها شئون فردية(3).
2 ـ قوله تعالى : ) وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ ( [ الأحزاب : 35]
لماذا ذكر كلمة فروجهم عند كلامه عن الرجال ولم يذكر ذلك عند كلامه على النساء، وقد يقال إن ذلك من باب حذف المفعول لدلالة ما قبله عليه وهذا من أبواب العربية وهو معروف.
إلا أن هناك أمر آخر قد نلمسه في بيان سر الحذف وهو أن الله سبحانه وتعالى لم يمدح النساء بحفظ الفروج فقط ولكنه مدحهم بمطلق الحفظ والمرأة لا ترتقي لهذه الأوجه ولا تصل لهذه الرتبة إلا إذا حافظت على نفسها من كل أسباب الغواية ولو جاء في الذكر الحكيم لفظ والحافظات لفروجهن لوجدنا امرأة تقبل على الرجال الأجانب وتفعل معهم كل ألوان الزنا المجازي عدا الزنا في الفرج وتقول إنها حفظت فرجها فتدخل في زمرة الممدوحين في هذه الآية فهذه المرأة قد وقف النظم القرآني أمامها لأن القرآن لم يرد من المرأة حفظ الفرج فقط ولكن حفظ كل ما من شأنه أن يحفظ(4) لأنها كلها عورة فحذف المفعول للتعميم والشمول وسبحان من نزل القرآن تبياناً لكل شيء ونلمس هذا الحذف قد يكون أعم من الذكر.
وسئل الدكتور حسام النعيمي لماذا حذف كلمة ربهم في قوله تعالى )وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( [ الزمر : 71] وذكرها مع الذين اتقوا؟ وما دلالة وجود الواو وحذفها في قوله تعلى (وفتحت) (فتحت) )وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ([الزمر : 73] فأجاب بقوله :(/3)
ذكر ربهم مع الذين اتقوا ولم يذكرها مع الذين كفروا وذكر وحذف الواو في (فتحت) و(وفتحت) يتعلق بالحذف والذكر . في هذه الآية من سورة الزمر ذكر تعالى الذين كفروا عندما يساقون الى النار فهؤلاء لا يستحقون أن يرد معهم اسم الله سبحانه وتعالى فضلاً عن أن يذكر اسم الرب (ربهم) الذي يعني المربي والرحيم العطوف الذي يرعى عباده فلا تنسجم كلمة ربهم هنا مع سوق الكافرين الى جهنم وعدم ذكر كلمة ربهم مع الذين كفروا هو لسببين الأول أنهم يساقون الى النار وثانياً أنهم لا يستحقون إن تذكر كلمة ربهم معهم فلا نقول وساق الذين كفروا ربُهم إلى جهنم لأن كلمة الرب هنا : فيها نوع من التكريم والواقع أنه كما قال تعالى: )فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ([ الأعراف:51] لكن مع المؤمنين نقول (وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة) ذكر كلمة ربهم هنا تنسجم مع الذين اتقوا. وفعل كفر يتعدّى بنفسه أو بحرف الجر وهنا لم يتعدى الفعل وهذا يدل على إطلاق الذين كفروا بدون تحديد ما الذي كفروا به لتدل على أن الكفر مطلق فهم كفروا بالله وبالإيمان وبالرسل وبكل ما يستتبع الإيمان.. (وسيق الذين كفروا الى جهنم زمراً) لم تذكر كلمة (ربهم) لأن الربوبية رعاية ورحمة ولا تنسجم مع السوق للعذاب ولا يراد لهم أن يكونوا قريبين من ربهم لكنها منسجمة مع سوق الذين اتقوا ربهم الى الجنة فهي في هذه الحالة مطلوبة ومنسجمة. كلمة الرب فيها نوع من التكريم فلا تذكر مع الكافرين لكن مع المؤمنين تكون مطمئنة ومحببة إليهم (وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمراً) .
وقد وردت (كفروا ربهم) في مواطن أخرى في القرآن لكن في هذا الموقع لم ترد لأنه لا تنسجم مع سوق الكافرين الى النار ولا بد أن ننظر في سياق الآيات فقد قال تعالى )وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً([المزمل:4] والترتيل في القرآن ليس هو النغم وإنما النظر في الآيات رتلاً أي آية تلو آية متتابعة لأنها مرتبطة ببعضها فإذا اقتطعت آية من مكانها قد تؤول وتفسّر على غير وجهها المقصود لكن إذا أُخذت في داخل سياقها فستعطي المعنى المطلوب الذي لا يحتمل وجهاً آخر. والبعض يتداول آيات خارج سياقها فتعطي معنى وفهماً غير دقيق للآية ولو أُخذت الآيات في سياقها لفهمناها الفهم الصحيح ولذا يجب أخذ الآيات في سياقها.
بالنسبة لذكر وحذف الواو في كلمة (فتحت) و (وفتحت) حذف الواو مع النار وهذا نوع من إذلال الكافرين والمضي في عقابهم لأن الذين كفروا عندما يساقون الى جهنم كأنهم ينتظرون ثم تفتح لهم الأبواب عندما يصلون إليها وهم في خوف ولكن تفتح الأبواب عند وصولهم وتفاجئهم النار بينما المؤمنون يرون أبواب الجنة مفتحة لهم من بعيد ويشمون رائحتها من بعد و رائحتها تشم من مسافة 500 عام وهذا نوع من الإكرام لهم لأن الأبواب مفتحة لهم قبل وصولهم إليها فيكونون في حالة اطمئنان في مسيرهم الى الجنة. والواو في (وفتحت) هي واو الحالية أي وقد فتحت أبوابها أي وهي في حالة انفتاح أي سيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها حال كونها مفتّحة أبوابها. فالنار إذن أبوابها موصدة حتى يساق إليها الكافرون فتفتح فيتفاجؤن بها وهذا نوع من الإذلال لهم وإخافتهم وإرعابهم بما سيجدون وراء الأبواب أما الجنة فأبوابها مفتوحة وهذا نوع من التكريم للمؤمنين.
وللحذف أغراضه الكثيرة في القرآن الكريم لا يتسع المجال لذكرها ولنذكر مثالاً على ذلك في قوله تعالى: ) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً ( [الرعد: 31].
فانظر إلى عظمة هذا القرآن التي يشعر بها القارئ.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
.................................................................................
المراجع
<span lang=AR-SA style='font-size:16.0pt; font-family:"Traditional Arabic";mso-bidi-(/4)
الذكرى
للشاعر: أنور العطار
ذكرتكِ والقلبُ نهبُ الفتونِ رهينُ الرؤى الحلوةِ الوافيهْ
و "لبنان" يسبحُ في نشوةٍ من السحرِ والحبّ والعافيهْ
توشَّحَ بالعبقِ المستطابِ وغلغل في البهجةِ الضَّافيهْ
ونامَ على شرفاتِ الغمامِ وطافتْ بهِ الخضرة الحاليه
تناثرُ فوقَ الروابي قُراهُ كما تتناثرُ آماليه
على كلِّ مائسةٍ صادحٌ وفي كل وارفةٍ شاديه
وتُصغي الوهادُ إلى قصَّةٍ من الحبّ تسردها الساقيه
وقد أنصتَ الكونُ إلاّ صدى يردّدُ أنسْودةَ الراعيه
تطلَّعُ في زهوها الراسياتُ حنيناً إلى عودةِ الثاغيه
ونمَّ على الدربِ سحرُ الغناءِ فأغفى على النغمةِ الصَّافيه
وظلَّ المساءُ يحومُ عليهِ ويرعاهُ بالمقلةِ الرانيه
وفي خلوةِ الحقلِ نبعٌ حبيبٌ يهدهدُ أوجاعهُ الباكيه
كأنَّ على النبع ِ قيثارةً تنوحُ ملوَّعةً شاكيه
و (بيروتُ) نائمةٌ في السفوحِ تُتَممُ أحلامها الزّاهيه
ترامتْ على البحرِ مأخوذةً تُناجيهِ حانيةً صابيه
رأيتُكِ (لبنانيَ) المشتهى وجنَّتهُ اللذةَ الشّافيه
وأبصرتُ وجهكِ يطفو عليهِ ويغمرُ أرجاءهُ النائيه
فغابتْ مسارحهُ الغالياتُ ولم يبقَ غيرُك يا (غاليه)(/1)
الذنوب.. زلازل القلوب
2006/01/25 ... الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي
كثير من الناس لا يكادون يعرفون من المعاصي والذنوب إلا ما يدركه الحس، وما يتعلق بالجوارح الظاهرة، من معاصي الأيدي والأرجل، والأعين والآذان، والألسنة والأنوف، ونحوها مما يتصل بشهوتي البطن والفرج، والغرائز الدنيا للإنسان.
ولا يكاد يخطر ببال هؤلاء: الذنوب والمعاصي الأخرى التي تتعلق بالقلوب والأفئدة، والتي لا تدخل -فيما تراه الأبصار- أو تسمعه الآذان، أو تلمسه الأيدي، أو تشمه الأنوف، أو تتذوقه الألسنة.
معاصي الجوارح
في القسم الأول تقع معاصي العين من النظر إلى ما حرم الله من العورات، ومن النساء غير المحارم.
ومعاصي الأذن من الاستماع إلى ما حرم الله من آفات اللسان؛ فالمستمع شريك المتكلم.
ومعاصي اللسان من الكلام بما حرم الله من الآفات التي بلغ بها الإمام الغزالي عشرين آفة؛ من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية واليمين الفاجرة والوعد الكاذب والخوض في الباطل والكلام فيما لا يعني وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات وشهادة الزور والنياحة واللعن والسب... إلخ.
ومعاصي اليد من البطش والضرب بغير حق، والقتل، ومصافحة أعداء الله، وكتابة ما لا يجوز كتابته، مما يروج الباطل أو يشيع الفاحشة، وينشر الفساد.
ومعاصي الرجل من المشي إلى معصية الله، وإلى زيارة ظالم أو فاجر، ومن السفر في إثم وعدوان.
ومعاصي الفرج من الزنى وعمل قوم لوط، وإتيان امرأته في دبرها، أو في المحيض، وهو أذى كما قال الله.
ومعاصي البطن من الأكل والشرب مما حرم الله، مثل أكل الخنزير، وشرب الخمر، وتعاطي المخدرات، وتناول التبغ (التدخين) وأكل المال الحرام من الربا، أو الميسر، أو بيع المحرمات، أو الاحتكار، أو قبول الرشوة أو غيرها من وسائل أكل مال الناس بالباطل.
المعاصي المهلكة
وهذه الأعمال كلها محرمات ومعاص معلومة، وبعضها يعتبر من عظائم الآثام، وكبائر الذنوب، ولكنها جميعًا تدخل في المعاصي الظاهرة، أو معاصي الجوارح، أو ظاهر الإثم، والمسلم مأمور أن يجتنب ظاهر الإثم وباطنه جميعًا، كما قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} (الأنعام: 120).
بل إن المعاصي الباطنة أشد خطرًا من المعاصي الظاهرة، وبعبارة أخرى: معاصي القلوب أشد خطرًا من معاصي الجوارح، كما أن طاعات القلوب أهم وأعظم من طاعات الجوارح؛ حتى إن أعمال الجوارح كلها لا تقبل إلا بعمل قلبي، وهو النيِّة والإخلاص.
ونقصد بمعاصي القلوب ما كانت آلته القلب؛ مثل: الكبر، والعجب، والغرور، والرياء، والشح، وحب الدنيا، وحب المال والجاه، والحسد، والبغضاء، والغضب... ونحوها مما سماه الإمام الغزالي في "إحيائه": المهلكات، أخذًا من الحديث الشريف: "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه".
وإنما اشتد خطر هذه المعاصي والذنوب لعدة أمور:
أولها: أنها تتعلق بالقلب، والقلب هو حقيقة الإنسان؛ فليس الإنسان هو الغلاف الجسدي الطيني الذي يأكل ويشرب وينمو، بل هو الجوهرة التي تسكنه، والتي نسميها: القلب أو الروح أو الفؤاد، أو ما شئت من الأسماء. وفي هذا قال عليه الصلاة والسلام: "ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب" (متفق عليه، عن النعمان بن بشير).
وقال: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم وصوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (رواه مسلم).
وجعل القرآن أساس النجاة في الآخرة هو سلامة القلب، كما قال تعالى على لسان إبراهيم: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء: 87 - 89).
وسلامة القلب تعني: سلامته من الشرك جليه وخفيه، ومن النفاق أكبره وأصغره، ومن الآفات الأخرى التي تلوثه، من الكبر والحسد والحقد، وغيرها.
وقال ابن القيم: "سلامته من خمسة أشياء؛ من الشرك الذي يناقض التوحيد، ومن البدعة التي تناقض السنة، ومن الشهوة التي تخالف الأمر، ومن الغفلة التي تناقض الذكر، ومن الهوى الذي يناقض التجريد والإخلاص".
ثانيها: أن هذه الذنوب والآفات القلبية هي التي تدفع إلى معاصي الجوارح؛ فكل هذه المعاصي الظاهرة إنما يدفع إليها: اتباع الهوى، أو حب الدنيا، أو الحسد، أو الكبر، أو حب المال والثروة، أو حب الجاه والشهرة... أو غير ذلك.
حتى الكفر نفسه، كثيرًا ما يدفع إليه الحسد كما حدث لليهود؛ فقد قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (البقرة: 109).(/1)
أو يدفع إليها الكبر والعلو في الأرض، كما قال تعالى عن فرعون وملئه وموقفهم من آيات موسى عليه السلام: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (النمل: 14).
أو حب الدنيا وزينتها، كما رأينا ذلك في قصة هرقل ملك الروم، وكيف تبين له صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته، وصحة نبوته، ثم لما هاج عليه القسس غلب حب ملكه على اتباع الحق؛ فباء بإثمه وإثم رعيته.
وإذا نظرت إلى من يقتل نفسًا بغير حق وجدت وراءه دافعًا نفسيًا أو قلبيًا، من حقد أو غضب، أو حب الدنيا؛ حتى إن أول جريمة قتل في تاريخ البشرية كان سببها الحسد، وذلك في قصة ابني آدم {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة: 27) إلى أن قال تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (المائددة: 30).
وكذلك كل من ارتكب معصية ظاهرة من شهادة زور أو نميمة أو غيبة أو غيرها؛ فلا بد أن وراء تلك المعاصي شهوة نفسية، وفي هذا جاء الحديث: "إياكم والشح؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا" (رَواهُ أبو داود وَالحَاكِمُ عن عبد الله بن عمر، كما في صحيح الجامع الصغير 2678).
ثالثها: أن المعاصي الظاهرة التي سببها ضعف الإنسان وغفلته سرعان ما يتوب منها، بخلاف المعاصي الباطنة التي سببها فساد القلوب، وتمكن الشر منها؛ فقلما يتوب صاحبها منها، ويرجع عنها.
وهذا هو الفارق بين معصية آدم، ومعصية إبليس.
معصية آدم كانت معصية جارحة حين أكل من الشجرة، ومعصية إبليس كانت معصية قلب، حين أبى واستكبر، وكان من الكافرين.
معصية آدم كانت زلة عارضة نتيجة النسيان وضعف الإرادة، أما معصية إبليس فكانت غائرة متمكنة، ساكنة في أعماقه.
لهذا ما أسرع ما أدرك آدم خطأه واعترف بزلته، وقرع باب ربه نادمًا تائبًا هو وزوجته: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23).
أما إبليس فاستمر في غلوائه، متمردًا على ربه، مجادلا بالباطل، حين قال له: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (سورة ص: 75، 76).
ولهذا كانت عاقبة آدم: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 37).
وكانت عاقبة إبليس: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} (سورة ص: 77- 78).
رابعًا: وهذه ثمرة للوجوه السابقة، وهو تشديد الشرع في الترهيب من معاصي القلوب، وآفات النفوس لشدة خطرها، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" (رَواهُ مسلم عن ابن مسعود)، وقوله: "دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين" (رَواهُ البزار عن الزبير بإسناد جيد كما قال المنذري. انظر: المنتقى 1615، والهيثمي 30/8).
وقوله: "لا تغضب" وكررها ثلاثًا، لمن قال له: أوصني (رَواهُ البُخاريُّ عن أبي هريرة).
وقوله في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه" (رَواهُ مسلم عن أبي هُريرةَ وفي معناه عدة أحاديث )، وقوله: "إياكم والشح؛ فإنه أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم" (رَواهُ مسلم عن جابر).(/2)
الذهن البشري والبحث عن الدين
نشأ الإنسان وفي ذاكرته السؤال ذو الحضور الدائم ألا وهو من خلقني ومن خلق هذا الكون ويأتيه الجواب من خلال فطرته إنه الخالق العظيم إنه الله تبارك وتعالى.
ويرتبط الدين في طبيعة الحال بالخلق حتى لتكاد أفئدة البشر تنتابها نغمات رحمانية صابةً أنفاسها على الإعجاب بما ترى العيون من عظمة الكون وشمولية مخلوقاته المميزة لصالح الخالق لكل شيء الله سبحانه وتعالى. ومع تزامن معرفة الله بالفطرة الإنسانية النقية يفكر المرء كنوع من الرد على حُسن خلقه هو التفتيش عما لله العلي القدير من إثبات للوجود ويأتيه الجواب الشافي أن الباري عز وعلا.. يُشعر الناس بخلقه من خلال لمس إبداعاته بهذه الحياة حتى صار تعاقب الأزمان في أكثر المجتمعات تخلفاً أو ابتعاداً عن الله تشعر أن لله وجود مخلد حتى قيل عن إيمان وثقة عالية بأن الله موجود في كل مكان.
إن الإنسان لم يكن بمعزل عن كونه أحد أهم المخلوقات رقياً على الأرض ولذا يلاحظ على الآباء والأمهات بقدر ما يهيئاه لطفلهما القادم من مستلزمات استقباله على أكمل وجه فإن جواب الأم على سؤال طفلها الذي لا بد وأن يثيره أمامها كيف خلقت؟! وحين يعرف الجواب: إن خالقه هو الله. الملموسة آثاره ومعجزاته في الكون الفسيح لكنه غير معروف بذاته المقدسة ومن الطبيعي جداً أن يكّون كل هذا دافعاً جامحاً في النفس للإيمان بالدين باعتباره الطريق الذي رسمه الله تبارك وتعالى لبني البشر.
وهكذا يلاحظ أن الدين يعيش حياً في الضمائر باعتباره في النهاية هو رسالة هداية للناس ولا تباين للتفسيرات الأخرى بهذا الصدد عن كون العبادة لوحدانية الله سبحانه وتعالى هي مسألة يمكن تصنيفها ضمن باب العبودية لله فقط إذ لا عبودية لغير الله سبحانه جلّت أسماؤه الحسنى.
والدين اليوم في هذا العالم المتأزم تتجه إليه القلوب وتعمل به الانتهاجات مرضاة للخالق العظيم ولذا فإن أقوى شعور راسخ في الذهن البشري هو (الدين) والمقصود هنا هو دين الإسلام فحسب.
والدين اليوم هو أقوى قوة في العالم لن تستطيع أي قوة مناوئة أن تنهيه لا بجرة قلم ولا بكلمة ميكرفون ولا برمية حجر حيث يتعمق في رحلته داخل خلجات الإنسان السوية والأمل مع إشراقة يوم جديد يزداد عند المؤمنين إلى كون العالم سائر إلى نهايته ولا يحده شيء من ذلك أكثر من الدين باعتباره المجال الوحيد الممكن أن يبقى في صعود دائم داخل كل نفس بشرية لأن الذي يقف وراء حماية هذا الدين العظيم هو الله سبحانه ذو الاسم الأعظم.
وقصة الدين في الذهن البشرية هي قصة حكاية الإنسان في كل تاريخه إذ لهذا الدين دواء لم تمحى عن الذاكرة فقد بلغ من بين الناس المميزين بالدين السماوي زهاء (124) ألف نبي وكلهم كانوا يشيرون إلى كونهم مسلمين(/1)
الذي سخروا منه..
غزوان مصري
gazwan@gazwan.com
قالوا فيه ما قالوا، والناس أعداء ما جهلوا.. ألا فليعرفوه ، ولينظروا في أخلاقه، وأوصافه، فشفاءُ الجهل العلم
أعظم رجل في التاريخ: محمد عبد الله صلى الله عليه وسلم.
ومن حسن تقدير الله لهذه الأمة أن جعله رسولها، فلها الفخر بهذا الشرف.. ومن المؤسف:
- أن من الناس من لا يستشعر عظمته.
- ومنهم من لا يكترث بحقوقه الواجبة على الأمة، من: محبة، واتباع، وأدب.
- وقد أهمل تعليم الصغار صفاته الخُلُقية والخَلْقية؛ فأطفالنا ينشئون وهم لا يعرفون عن نبيهم إلا: اسمه وشيئا من نسبه، وهجرته من مكة إلى المدينة. أما صفاته البدنية، وأخلاقه، ومقامه، وحقوقه، وجوانب سيرته فلا خبر لهم بها. وهذا تقصير منا..!!
نحن نحتاج إلى أن نتعرف على كل صغيرة وكبيرة في حياته، من لدن مولده إلى وفاته.. ينبغي أن ننظر إليه: مربيا، وقدوة، وقائدا، ورسولا، وسيدا ذا مقام رفيع، وقلب رحيم، ونفس زكية، وأدب جم، وصبر جميل. من حقه علينا أن ندرس كل جوانب حياته، ونعلم أطفالنا وأزواجنا وأهلينا: من هو رسول الله ؟.
وأداء لبعض هذا الحق، سنخصص هذا الحديث عن صفاته عليه السلام الخَلقية والخُلقية:
* * *
إنه محمد بن عبد الله ؛ ومحمد معناه: المحمود في كل صفاته.
أخرج البخاري في التاريخ الصغير عن أبي طالب:
وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد
وقد كان اسمه أحمد كما جاءت تسميته في الكتب السابقة ، قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام:
- {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}.
وتسميته محمدا وقعت في القرآن؛ سمي محمدا:
- لأن ربه حمده قبل أن يحمده الناس، وفي الآخرة يحمد ربه فيشفعه فيحمده الناس.
- ولأنه خص بسورة الحمد، وبلواء الحمد، وبالمقام المحمود.
- وشرع له الحمد بعد الأكل، والشرب، والدعاء، وبعد القدوم من السفر.
وسميت أمته الحمادين، فجمعت له معاني الحمد وأنواعه...
* * *
وأما عن صفاته الخَلقية:
- فهو أبيض، ليس شديد البياض أمهقا، بل مشربا بحمرة، والعرب تسمي الأسمر سمرة خفيفة أبيضا مشرب بحمرة، قال أبو طالب:
وأبيضُ يستسقى الغمام بوجهه *** ثمالُ اليتامى عصمةٌ للأرامل
- ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد.
- بعيد ما بين المنكبين.
- شديد سواد الشعر، ليس بالجعد القطط؛ وهو الشعر الذي يلتف على بعضه، ولا بالسبط؛ وهو الشعر المسترسل الناعم شديد النعومة، وإنما بين ذلك، يبلغ شحمة أذنيه، وقيل: "منكبيه".. يفرقها فرقتين من وسط الرأس، وفي شعر رأسه ولحيته شعيرات بيض لا تبلغ العشرون.
- مليح، وجهه مثل القمر في استدارته وجماله، ومثل الشمس في إشراقه، إذا سر يستنير ويتهلل وتنفرج أساريره.
- واسع الفم، والعرب تمدح بذلك وتذم بصغر الفم، جميل العينين قال جابر: "أشكل العينين" رواه مسلم قيل أشكل العينين: "أي طويل شق العينين"، وقيل: "حمرة في بياض العينين".
- يداه رحبتان كبيرتان واسعتان لينة الملمس كالحرير، يقول أنس: "ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم". متفق عليه
- قدماه غليظتان لينة الملمس، فكان يجمع في بدنه وأطرافه بين لين الملمس وقوة العظام.
- يداه باردتان، لهما رائحة المسك، يقول أبو جحيفة: "قام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بهما وجوههم، فأخذت بيده فوضعتهما على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك"رواه البخاري.
* وعن جابر بن سمرة: "مسح رسول الله خدي فوجدت ليده بردا أو ريحا كأنما أخرجها من جؤنة عطار"مسلم كان عرقه أطيب من ريح المسك، قال أنس: " كأن عرقه اللؤلؤ " مسلم.
* ويقول وائل بن حجر: " لقد كنت أصافح رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يمس جلدي جلده، فأتعرقه بعد في يدي وإنه لأطيب رائحة من المسك". الطبراني والبيقهي
- وجمعت أم سليم من عرق النبي صلى الله عليه وسلم فجعلته في طيبها.
- وعن أنس: " كان رسول الله صلى الله إذا مر في طريق من طرق المدينة وجد منه رائحة المسك فيقال: مر رسول الله ". أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح
- قال أنس: " ما شممت عنبرا قط، ولا مسكا، ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله" رواه مسلم
- ساقاه بيضاء، تبرقان لمعانا.
- إبطه أبيض، من تعاهده نفسه بالنظافة والتجمل.
- إذا مشى يسرع، كأنما ينحدر من أعلى، لا يستطيع أحد أن يلحق به.
* * *
أما عن صفاته الخُلقية:
- فقد كان أجود الناس، أجود بالخير من الريح المرسلة.
- ما عرض عليه أمران إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما.
- أشد حياء من العذراء في خدرها.
- ما عاب طعاما قط؛ إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
- إذا تكلم تكلم ثلاثا، بتمهل، لا يسرع ولا يسترسل، لو عد العاد حديثه لأحصاه.
- لا يحب النميمة ويقول لأصحابه: " لا يبلغني أحد عن أحد شيئا، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر".(/1)
- أشجع الناس، وأحسنهم خلقا، قال أنس: "خدمت رسول الله عشر سنين، والله ما قال لي: أفا قط. ولا لشيء فعلته: لم فعلت كذا ؟، وهلا فعلت كذا؟". مسلم
- ما عاب شيئا قط.
- ما سئل شيئا فقال: "لا" . يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
- يحلم على الجاهل، ويصبر على الأذى.
- يتبسم في وجه محدثه، ويأخذ بيده، ولا ينزعها قبله.
- يقبل على من يحدثه، حتى يظن أنه أحب الناس إليه.
- يسلم على الأطفال ويداعبهم.
- يجيب دعوة: الحر، والعبد، والأمة، والمسكين، ويعود المرضى.
- ما التقم أحد أذنه، يريد كلامه، فينحّي رأسه قبله.
- يبدأ من لقيه بالسلام.
- خير الناس لأهله يصبر عليهم، ويغض الطرف عن أخطائهم، ويعينهم في أمور البيت، يخصف نعله، ويخيط ثوبه.
- يأتيه الصغير، فيأخذ بيده يريد أن يحدثه في أمر، فيذهب معه حيث شاء.
- يجالس الفقراء.
- يجلس حيث انتهى به المجلس.
- يكره أن يقوم له أحد، كما ينهى عن الغلو في مدحه.
- وقاره عجب، لا يضحك إلا تبسما، ولا يتكلم إلا عند الحاجة، بكلام يعد يحوي جوامع الكلم، حسن السمت.
- إذا كره شيئا عرف ذلك في وجهه.
- لم يكن فاحشا، ولا متفحشا، ولا سخابا، بالأسواق، ولا لعانا، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح.
- لا يقابل أحدا بشيء يكرهه، وإنما يقول: (ما بال أقوام ).
- لا يغضب ولا ينتقم لنفسه، إلا إذا انتهكت حرمات الله تعالى، فينتقم لله.
- ما ضرب بيمينه قط إلا في سبيل الله.
- لا تأخذه النشوة والكبر عن النصر:
* دخل في فتح مكة إلى الحرم خاشعا مستكينا، ذقنه يكاد يمس ظهر راحلته من الذلة لله تعالى والشكر له.. لم يدخل متكبرا، متجبرا، مفتخرا، شامتا.
* وقف أمامه رجل وهو يطوف بالبيت، فأخذته رعدة، وهو يظنه كملك من ملوك الأرض، فقال له رسول الله: "هون عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة ".
- كان زاهدا في الدنيا:
* يضطجع على الحصير، ويرضى باليسير، وسادته من أدم حشوها ليف.
* يمر الشهر وليس له طعام إلا التمر.. يتلوى من الجوع ما يجد ما يملأ بطنه، فما شبع ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى فارق الدنيا .
- كان رحيما بأمته، أعطاه الله دعوة مستجابة، فادخرها لأمته يوم القيامة شفاعة، قال:
* ( لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني أختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا ) [البخاري]؛ ولذا قال تعالى عنه: {لقد جاءكم
رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}
* * *
نحن اليوم في غاية الحاجة إلى تدارس سيرته، ولو مرة في الأسبوع :
نجلس في البيت مع الزوجة والأبناء.. نقرأ إحدى كتب السير المعتمدة مثل:
- تهذيب السيرة لابن هشام.
- البداية والنهاية لابن كثير.
- - الشمائل المحمدية للترمذي.
- - فقه السيرة للغزالي.
- - السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء العمري.
- وغيرها.. لابد أن نحرص على مثل هذه الحلقات في بيوتنا، إن أردنا أن نتزكى ونربي أبناءنا وأزواجنا، فهذه من أحسن وسائل التربية، وهو السلاح الذي نواجه به الغثاء الذي يتصدر وسائل الإعلام:
- - فبه نحفظ أبناءنا من الانسلاخ، والانسياق وراء زخارف: الكفر، والفسق، والشهوات.
- وبه نغرس في قلوبهم محبة رسول الله، والفخر به،
- - والتعلق بسنته، وتقليده في العادات والعبادات.
- فمن غير المعقول أن تكون سيرة هذا الرجل العظيم، الذي ما حفظ لنا القرآن والسنة والتاريخ سيرة إنسان، مثلما حفظ سيرته، بين أيدينا ثم نهمله وننصرف عنه!.
إن ذلك لغفلة معيبة..!(/2)
الذي يَدَعُ طريقك في الحياة مفتوحًا أكبرُ محسن إليك
إذا أَلَمَّتْ بأحد ملمةٌ قاسية أو حَدَثَ له حادثٌ كبيرٌ مُقْلِق مُؤَزِّم، أو اعترض طريقَ حياته صخرة تستنفد إزالتُها كثيرًا من الجهد والوقت والقوة ، الأمر الذي لا يكاد يحتمله هو، ينهض كثيرٌ من الناس الأقربين والأبعدين – على السواء – ليواسوه ، ويُؤَكِّدُوا له مشاطرةَ الهمّ ، وتقديمَ كل مساعدة ماديّة ومعنويّة لمواجهة المشكلة . وهنا يَحْسَبُ المهمومُ أنّ معالجةَ المشكلة جدُّ يسير عليه بفضل وقوف هذا العدد الكبير من المواسين والمساعدين بجانبه، ويعتقد – لما يراه من حماسهم وصدق ما يبدو من تعاملهم – أنهم قد يدومون على التعاون معه على مواجهة الخطب ومشاطرة الهمّ ، وأن الرياحَ ستظلّ تجري بما تشتهيه سفينتُه؛ فالمصائب ستتلاشى، والخطوب ستظلّ تذوب، والتغلّبُ على مرارة الحياة سيظلّ هَيِّنًا .
غير أن حماسَ المواسين والمساعدين يتراجع مع الأيّام – حسب سنّة الله في الكون – ويعود المهموم وحيدًا ليصارع الهمومَ ويواجه المشكلة، أو قد يبقى معه صامدًا لبعض الوقت بعضُ خُلَّص الإخوان من عشيرته أو فصيلته، أو ممن تعلّقوا به بصداقة صافية. ثم يأتي اليومُ الذي لايكون معه في الواقع إلاّ نفسُه، ولايساعده في مواجهة المصيبة إلاّ نصرُ الله وتوفيقُه اللذان لايخونان المهمومَ المحزونَ مهما خان الخلاّنُ وانفضّ الإخوانُ. وخلال ذلك قد يكون وَجَدَ حيلةً بفضل الله ورحمته لحلّ المشكلة، والتغلّب على الأزمة، والتخلّص من الورطة.
* * *
قصّةٌ من واقع حياة رجل أُثْبِتُها لتكون مصدرَ درس لمن يتلقّاه من القراء المُوَفَّقِين: استوفى والده ظمأَ حياته وهو ابن ثلاثة شهور في حضن والدته المسكينة، ومَضَتْ أيّامُ حياته عصيبةً كما شاء الله عزّ وجلّ. ومرَّ بمراحل الكتاب ومبادئ القراءة والكتابة. وانتسب في المرحلة الابتدائية إلى المدرسة الإمدادية بمدينة "دربنجه" بولاية "بيهار" بالهند، وكان والده الثاني (زوج أُمّه) – وكان ابن عمّ لأمّه – حيًّا ينحت له وللعائلة طريقَ الحياة من صخر؛ حيث كان لاينال إلاّ راتبًا ضئيلاً لايغطّي حاجات العائلة. وذلك من خلال عمله في بعض المصانع بمدينة "كالكوتا" الهنديّة ثم من خلال دكّان له صغير يبيع فيه بعضَ أنواع الحبوب. بعد أعوام التحق بدارالعلوم بمدينة "مئو" بأترابراديش، وغادرها بعد أعوام إلى الجامعة الإسلامية الأمّ: دارالعلوم بمدينة "ديوبند" وكانت السنة الأولى من الدراسة بدارالعلوم/ ديوبند إذ مات والده الثاني – رحمه الله – فصحّت عزيمةُ والدته على فصلي من التعليم لأنّها عَدِمَتْ من يعولها ويعولني ويعول ثلاثةَ أولاد (ابنين وبنتًا) غيري، ووَجَدَتْ طريقَ الحياة مسدودةً في وجهها. وقد أَيَّدَتْ رأيَها في فصلي من الدراسة لأُصْرَفَ إلى كسب لقمة العيش خالاتي الثلاث اللاتي حَزِنَّ على موت والدي الثاني حزنَ والدتي التي كانت أصغر شقيقاتها .
على فصله من التعليم لأنّها عَدِمَتْ من يعولها ويعوله ويعول ثلاثةَ أولاد (ابنين وبنتًا) غيره، ووَجَدَتْ طريقَ الحياة مسدودةً في وجهها. وقد أَيَّدَتْ رأيَها في فصله من الدراسة لِيُصْرَفَ إلى كسب لقمة العيش خالاته الثلاث اللاتي حَزِنَّ على موت والده الثاني حزنَ والدته التي كانت أصغر شقيقاتها .
ولكنّ زوجَ خالته الكبرى – الذي كان من سكان "رائبور" بمديرية "سيتامرهي" بولاية "بيهار" بالهند – رَفَضَ هذا الرأيَ بشدة وقال: لا، لن يكون ذلك وأنا حيّ؛ فقد سمعتُ على لسان كل زميل من زملاء هذا الولد في الدراسة، أنه أذكى من الأقران جميعًا وأنه يَبُذُّهم في الاجتهاد والحرص على تكوين الذات وكسب المؤهلات الدراسية، وأنّه ينال في الامتحانات دائمًا علاماتٍ ممتازةً لاينالها أيٌّ من زلائه؛ فليستمرّ في الدراسة وأنا كفيل بمصروفاته الدراسيّة وغير الدراسيّة. هنا ظنَّتْ والدته وظنّ هو كذلك أن هذا "السند القويّ" قد قام للفترة المطلوبة كلّها، وأنّ قضيةَ دراسته قد وَجَدتِ الحلّ الكافيَ، وهي أكبر قضيّة بين القضايا التي مَثَلَتْ أمامه إثرَ وفاة الوالد الثاني.
غير أنّه – رحمه الله – لم يتمكن من تقديم المساعدة له إلاّ مرة أو مرتين على الأكثر؛ لأن أيّام الإنسان لاتبقى على نسق واحد، والأوضاع لاتدوم على وتيرة واحدة؛ ولكن الأهم أنه – رحمه الله – فتح الطريق الذي يكاد ينسّد، ولن يُتِحْ لمجرى الحياة أن يتغيّر لجهة سلبيّة خاطئة، ولم يسمح لليأس أن يخيّم على درب اليتيم؛ فظل يعدو في طريق الدراسة، وأكمل المشوار، وعاد يخطّ حروفًا، ويُدَرِّس كلمات، ويستغل بوظائف العلم والتدريس والتأليف ما ينفعه وينفع العائلة كلها. وكلُّ ذلك يرجع فيه الفضلُ بعد الله عزّ وجلّ إلى زوج خالته المذكور – رحمه الله – فهو وأعماله صدقةٌ جاريةٌ له، جزاه الله خيرًا وأكرم مثواه في جنة الفردوس .
* * *(/1)
إنّ الذي يَدَعُ طريقك في الحياة مفتوحًا ويعمل على إزالة كل مترس يعترضه، ويجعلك سائرًا عليه دونما توقّف، ويعينك على الاستمرار في إغذاذ الخطى إلى المنزل المنشود، والمستقبل الزاهر، والغد المشرق، أكبرُ مُحْسِن إليك وأكرمُ مُنْعِم عليك، يجب أن تعرف منّته عبر امتداد الحياة بك وتطاول فرصة العمر لك؛ لأنّ جميع ما تحقّقه اليوم من المكاسب يرجع فيه الفضل إلى هذا المنعم الذي تَحَمَّلَ أعباءَ إبقاء طريقك في الحياة مفتوحًا وكاد ينسدّ بالركامات والعوائق التي زَرَعَتْها فيه صروفُ الدهر وخطوبُ الأيّام والليالي.
قد يجوز أن تجعل الظروفُ المستجدةُ ذلك المنعمَ يَنْفُضُ يدَه من التعاون معك في الأيام التالية، وتجعله لايبقى على العطف والحماس اللذين لمستَهما منه في بداية المشوار؛ لأن حلاوة الأيام وملاءمة الظروف لاتدومان، ولم يُكْتَبُ للربيع الدوامُ، والبقاءُ لله وحده؛ ولكن قيمةَ منّته لاتقلّ؛ حيث الدفعةُ الأولى، والحركةُ الأوّليّة، والتشجيعُ المُبَكِّر، لها قيمتُها الكبيرة، وأهميّتُها البالغة؛ لولاها لم تستمرّ الخطى، ولم تدم الرحلة إلى تحقيق الهدف، وإحراز النصر، الذي أعلى شأنَك ورفع مكانَك اليوم في المجتمع، وجعلك شامًّا بين المعاصرين.
محاولةُ أن لاينسّد الطريق ولا تتوقف الرحلة، محاولةٌ مُشَرِّفَةٌ للغاية، لايعرف أهميّتَها إلاّ من مُنِيَ بقطع الرحلة والتساقط في الطريق والتراجع عنه؛ لأنه قد وَجَدَه مسدودًا بصخرة لاتُزَالُ . إن هذه المحاولة هي وحدها التي أحياك بعد ما كدتَ تموت، وأظهرك بعدما كدت يخمل ذكرُك ويُجْهَلُ شخصُك ويُطْوَى بساطُك، فتظلّ مَيِّتًا وأنت حيّ؛ فالأعمال التي قمتَ بها، والإنجازاتُ التي حَقَّقْتَها، والمفاخر التي شَيَّدَتَها، والصيت المطبق الذي كَسَبْتَه، والحسنات التي وُفِّقْتَ لها، والانتصارات التي أحرزتَها، والهزائم التي تَجَنَّبْتَها، ومواقف الشقاء التي تَنَكَّبْتَها.. كُلُّها وغيرها إنما نتجت عن هذه المحاولة الكريمة. لقد كان بالإمكان أن لايُسَجِّلَ لك التأريخ ماسَجَّلَه لك من المكانة المرموقة والمواقف الخالدة من المناقب والمفاخر، لولا هذه المحاولة التي كانت كالعصا السحريّة وحجر الفلاسفة في حياتك.
إنّ قميةَ الحسنة لاتُقَدَّر بطولها وعرضها الظاهرين، وإنّما تُقَدَّر بنتائجها الكبيرة وانعكاساتها العظيمة. إنّ ذرّةً من الحسنة بآثارها الواسعة ومفعولاتها الكثيرة، تفوق الأعمالَ العاديةَ التي تضخم في الظاهر وتضؤل في الباطن.
إنّ من حَفَرَ لك بئرًا تشرب منها، وبنى لك بيتًا تلجأ إليه، ومَهَّدَ لك أرضًا تُغِلُّ لك المحصولات، وشَقَّ لك طريقًا تسير عليه، وهَيَّأَ لك مركبًا تستعمله لغدواتك وروحاتك، وأوجد لك مصدرًا للرزق، وموردًا للدخل، وآلة لتوفير وسائل الحياة، كان أكبر محسن إليك لن تجهل إحسانَه أبدَ الدهر إذا تعرف للإحسان قيمة، وللجميل وجهًا،و للمعروف معنى. ولستَ كالأحمق الذي يعترض على حافر البئر، أنه لم يُوَفِّر له الدلوَ والرِّشَاءَ، وعلى باني البيت أنّه لم يُؤَثِّثه بالحوائج، وعلى واهب الأرض أنه لم يهب له المحراث ومستلزماته، وعلى شاقّ الطريق أنه لم يُبَلِّطه، وعلى المتكرم بالمركب أنه لم يزيّنه، وعلى موجد مصدر الرزق أنه لم يوفّر له ما يستعمله لاستدرار الرزق وكسب الدخل وجلب وسائل الحياة.
العاقل من المُنْعَم عليه إنّما يشكر المُنْعِمَ على عمله المبدئيّ الأصلى، ولا يطلب منه الفروع التي تحصيلُها هيّن، والاستغناءُ عنها ممكن، لمن يتوكأ على الأصل، ويعرف إدارته، ولايتشاغل بالفرعيّات تشاغلَه بالأصليّات .
من أَخَذَ بيدك من السقوط في البئر أو الهاوية، كان أكبر محسن إليك لأن حياتك الباقية وماصنعتَه بعد فيها من الخير، إنما هما متفرعان من بقاء حياتك. فإذا قلتَ: إنه جَعَلَ الإحسانَ غيرَ ربيب؛ حيث لم يأخذ بيدي في جميع مواقف الحياة ، فأنت مُتَنَكِّرٌ للجميل وجازٍ المحسنَ بالإساءة. إنّ الآخذ بيدك منعك من نهاية حياتك، وبقاء حياتك هو الذي تَفَرَّعَ منه جميعُ ما حَصَّلْتَه من العلم، وكسبتَه من الفضل، وتمتعتَ به من الشهرة، وحُزْتَه من العزّ والفخار،وحقّقتَه من الدنيا الواسعة، وحفرته في جبين التأريخ من آثار الإبداع والابتكار ، ونتاج الفكر والعمل .
المُشَجِّعُ الأوّل الذي يُبْقِي على مجرى النهر، ويجعل تيارَ المياه يتدفّق على وتيرة سابقة، ولايدعه يعترضه فتورٌ، ويسابقه عائق، رجلٌ كبيرٌ ذو همةٍ عاليةٍ وطموحٍ جديرٍ بالتسجيل والإشادة. أمّا من تلاه ليلوك فقط كلماتِ الثناء، ويطلق ألفاظ التشجيع مجردة من العمل، فإن غوثه أمطر بعد ما فات الوقت ومضى الحين . ومنفعةُ الغوث إنما تكون إذا جاء قبل العطب .
فالشكر الجزيل والدعاء الكبير لمن يبكّر للغوث، ويبادر للعون ويحاول جهده أن لايتوقف تدفّقُ النبع، والمرورُ في الطريق، والسيرُ في درب الحياة .(/2)
(تحريرًا في الساعة 11 من صباح الثلاثاء: 17/ربيع الثاني 1427هـ = 16/مايو2006م)
أبو أسامة نور(/3)
الذّهنيّة المُقَوْلبة
د. عبد الكريم بكار 26/3/1426
05/05/2005
كلما تقدّم البحث العلمي وتراكمت الخبرات المنهجيّة تبيّن لنا أن قدرات العقل تعي أقلّ مما كان يُظَن. ولا أقصد بالقدرات ما يمتلكه العقل من إمكانات هائلة على صعيد معالجة المعلومات، وعلى صعيد التنظيم وإعادة تشكيل الصيغ، وإنما أقصد قدراته على صعيد إصدار الأحكام في الشؤون الإنسانيّة وفي تحديد الأهداف الكبرى والغايات النهائيّة. إننا نكتشف يوماً بعد يوم أهمّية المعرفة في هذه الأمور وضآلة الدور الذي يمكن أن يقوم به الدّماغ. وقد تبين أن الفراغ المعرفي والمعلوماتي هو البلاء الأكبر الذي يمكن أن ينزل بساحة العقل. ومن هنا تتبين الحكمة البالغة في الحثّ على القراءة والاطلاع وطلب العلم. إن عمل العقل وهو يفكر يشبه من يسلك طريقاً صحراوياً طويلاً من غير أيّ خبرة سابقة بذلك الطريق. إنّه يعرف أنّ عليه ليس أن يصل إلى هدفه فحسب، وإنما عليه أيضاً أن يحفظ تضاريس الطريق حتى يتمكن من العودة إلى وطنه، ولا يهلك في متاهات الصحراء, ولهذا فإنه طيلة الرحلة يحاول تلمّس العلاقات والدّالات التي يتمكن بسببها سلوك الطريق في رحلة الإياب. ولهذا فإنه مشغول بحفظ الجبال التي يمرّ من جانبها الطريق، ويحفظ مسافات انعطافاته ذات اليمين وذات الشمال... هكذا العقل حين يبدأ بتكوين المرتكزات التي سيقوم عليها عمله. إنه يجمع الفكرة مع الفكرة والملاحظة مع الملاحظة والمقولة مع المقولة.. حتى يتمكن من بناء منطقيّته الخاصة وأنساقه الشخصيّة، وهو يتشبّث بما ينتهي إليه من ذلك كما يتشبّث سالك الطريق الصحراوي بالعلامات التي استطاع الحصول عليها.
إذا أراد سالك ذلك الطريق القيام برحلة أخرى فإنه سيجد أن من السهل عليه سلوك عين الطريق، حيث زادت خبرته به، وصارت إمكانية العودة منه أكبر، كما نشأت بينه وبين ذلك الطريق أُلفة نفسيّة تقترب من الحنين. ولهذا فإنه إذا نُصح بسلوك طريق أقرب من ذلك الطريق أو مزوّد بخدمات أفضل... فإنه سوف يستوحش من ذلك، ويتّبع الحكمة الشهيرة: "الذي تعرفه خير من الذي ستتعرف عليه". طبعاً سيكون موقفه من الطريق الجديد المقترح مختلفاً تماماً فيما لو أنه قبْل الشروع في أي سَفَر اطّلع على خارطة جيدة توضّح له كل الطرق التي يمكن أن يسلكها وميزات وعيوب كل واحد منها. إنه في هذه الحالة يغيّر من طريق إلى طريق بسهولة؛ لأن الطريق الذي سلكه كان قد سلكه وهو يعرف أنه ليس هو الطريق الوحيد، وليس هو الطريق الحائز على كل الميزات والمبرَّأ من كل العيوب. هكذا العقل حين يفكر ويشتغل في حالة شحّ معرفي ونقص في المعطيات الجيدة. إنه يعدّ كل ما توصل إليه من مقولات ومرتكزات وأنساق شيئاً ثميناً ونادراً، لا يمكن الاستغناء عنه أو مسّه بأي تعديل.
لقد أصبح العقل أسيراً لمقولاته، مكبّلاً بأغلال صنعها بيديه، وباتت تتحكم بعمله. وسيكون الأمر مختلفاً لو كان أمام العقل عند بدايات عمله مخزون معرفي جيد. إنه حينئذ سيدرك أنه يتّبع خيارات، وليس يخضع لحتميات ولهذا فإنه يكون عقلاً مرناً متجدّداً مستوعباً للجديد دون أن يفقد صلته بالقديم. هذا كله يعني أن علينا أن نستمر في أمرين جوهريين:
الأول: هو التزوّد من العلم، فنحن لا نعرف إلا القليل، بل أقل القليل، وما نجهله أكثر بكثير مما نعرفه. وبما أن المعارف تتضاعف كل عقد أو عقدين، فهذا يعني أن جهلنا جديد.
الأمر الثاني: هو التحرّر العقلي الدائم. إن علينا أن نختبر مقولاتنا وطرق تفكيرنا، ونحاول مراجعتها وتعديلها بما يتواكب مع مسيرة النضج التي نمضي فيها. بعض الناس يعتقد أننا نعيش في أسوأ زمان مرّ على أمة الإسلام بسبب ما يراه من انتشار المعاصي، وسيطرة الأعداء على الأمة... ومن هنا فإنه انطلاقاً من هذا المعتقد يرى بعيني صقر كل السلبيات الماثلة في حياة المسلمين وكل المشكلات التي يعانون منها. وإذا ذُكر أمامه شيء من الإيجابيات هوّن من شأنه أو وجد له نوعاً من التأويل يجعله في مصافّ السلبيّات!
قسم آخر من الناس لديه اعتقاد أن الأمة بخير، ولهذا فإن عقله الباطن يساعده على اكتشاف ما لا يُحصى من الإيجابيّات، والتهوين من شأن السلبيّات، فريق آخر من الناس انطلق في تحليله لأسباب ما نحن فيه من منطلق (القصور الذاتي) فهو يعيد كل أشكال التخلّف في حياة الأمة إلى التحلّل الداخلي، وعدم قيام المسلمين بفروضهم الشرعيّة والحضاريّة. وهو لا يقيم لتخريب الأعداء وتآمرهم أي وزن! هناك قسم آخر يقف في الضفة المقابلة, فهو لا يرى إلا تآمر الأعداء وتدخّلهم السافر في شؤوننا، وهو يعتقد أن الأمة لو تُركت وشأنها لما عانت من أي مشكلة وهكذا... ومن الواضح أن الرؤية الصحيحة تقع بين ما يراه هذان الفريقان من المسلمين. لو تساءلنا كيف يكون في إمكاننا التخفيف من القولبة الذهنيّة في حياتنا الشخصيّة، وفي حياة الناس من حولنا فقد نجد أن علينا أن نفعل الآتي:(/1)
1- الأشخاص المُقولبون ذهنياً يميلون إلى الصرامة والعناد. وهم يُعدّون من الأصناف التي تتصف بالصراحة المتناهية والميل إلى فرض أفكار غير متّفق عليها. وقدرتُهم على ترويض أنفسهم للتعامل مع الآخرين بعدل محدودةٌ، كما أن قدرتهم على تجزئة الفكرة واتخاذ مواقف متدرجة من الأفكار المطروحة أيضاً محدودة. ويجب أن نتعامل على هذا الأساس، ومن المهم أن ندرك أن القولبة الذهنيّة ليست شراً خالصاً؛ إذ إنّ المقولبين ذهنياً يحدّون من اندفاع المتهوّرين في مسائل التجديد والتطوير، ويمنحون العمل الذي يكونون فيه درجة من الصلابة والمتانة، كما أنهم يلمّون شتاته، ويبثون القوّة في النفوس المتردّدة. إنهم عنصر أمان وعنصر توازن في الوقت نفسه.
2- التعامل مع المقولبين ذهنياً يحتاج إلى الكثير من الحكمة واللطف والحذر؛ إذ من السهل أن تزيد في درجة عنادهم وتقوقعهم على أنفسهم، وذلك إذا اتهمتهم بالعناد أو ضيق الأفق. وقد يكون من الملائم اتباع طريقة (بلورة المزايا والعيوب) في مجادلتهم. نقول: ما مزايا قولك؟ ما براهينه، وما مستنداته المنطقيّة؟ ما العيوب التي تغشاه، وما نقاط ضعفه؟ ويُطلب منه أن يَطلب ذلك أيضاً من مخالفيه.
إن هذه الطريقة تفتح باباً للجدل، وتخفّف من لغة التحدي، كما أنها تجعل المقولب ذهنياً يعتقد أن للحوار إيجابيات، ويعترف أيضاً بإمكانية وجود درجة من الصحّة والقوّة للأقوال المخالفة.
3- من المهم في تعاملنا مع المقولب ذهنياً أن نتعلم حسن الاستماع، وأن نطلب منه ذلك، وألاّ نلحّ في الوصول إلى نتائج فوريّة. إن جزءاً من صلابته تُشكّل بطريقة غير واعية، وسوف ينتهي أيضاً بالطريقة نفسها.
4- المقولب ذهنياً لا يملك الحساسية الكافية للتفريق بين ما يشكل رؤية شخصية اجتهادية ظنية، وبين ما يُعدّ من قبيل الثابت والقطعي، وما يُنظر إليه على أنه حقيقة مستقرة، انقطع حولها الجدل. وأعتقد أن ضعف هذه الحساسية يشكل جزءاً من البنية المعرفية لكل البيئات التي ينتشر فيها الجهل والفقر المعلوماتي، ولهذا فإن من المهم أن نثري تقنيات التفريق بين الظني والقطعي، والشخصي والعام في عالم الأفكار والآراء.
5- المقولبون ذهنياً يعطون للعقل دوراً بارزاً من أجل التعويض عن الثغرات المعرفيّة في منظومات الاستدلال لديهم. وهنا يكون من المهم التوضيح بأن العقل من غير معرفة جيدة كثيراً ما يكون عاجزاً عجزاً شبه تام عن رسم الأولويّات وعن إصدار أحكام حول العديد من الأمور الجوهرية مثل: اللائق وغير اللائق، والمهم وغير المهم، والآمن والخطر، والمستعجل والمؤجل... ونقوم إلى جانب هذا بتوضيح دور المعلومات في بناء الأفكار والآراء والمواقف والاتجاهات.
6- القولبة الذهنيّة نتاج تعليم مشوّه وبيئة يغلب عليها الجهل، وإن التقدّم على هذين الصعيدين، سوف يساعد على التخفيف من غلواء هذه المشكلة، ومن الله تعالى الحوْل والطّوْل.(/2)
الرأسمالية بأبشع صورها
د. يوسف بن أحمد القاسم 25/3/1427
23/04/2006
لا يخفى أن من أبرز سمات الرأسمالية الغربية أنها تزيد الغني غنى، وتزيد الفقير فقراً . والسؤال الذي يطرح نفسه، هو : ما الفرق بين الربا الذي تمارسه البنوك الغربية والشرقية, والذي يجعل العميل مديناً حياً وميتاً، فيولد وهو مدين، ويعيش وهو مدين، ويموت وهو مدين !! ما الفرق بين ذلك الربا الجاهلي والمعاصر، وبين هذا الربا المقنن الذي تجريه بعض البنوك والمصارف باسم: (التورق المنظم) ؟! وما الفرق بين المواطن الذي ابتزه الغني أو البنك بالربا، وبين هذا المواطن الذي ابتزه المصرف أو البنك بالتورق المصرفي السيء الصيت، حتى ركبته الديون وورثها صاغراً عن صاغر ؟!!
في الواقع أن الفرق بينهما كالفرق بين من يلغ في الحرام باسم الزنا، وبين من يقنن الزنا ويلغ فيه باسم المتعة !! ولا فرق، بل هذا الأخير أشد حرمة من الأول ؛ لأنه استحل محارم الله بأدنى الحيل، وهي من أبرز صفات اليهود الذين حين حرمت عليهم الشحوم، أذابوها، ثم باعوها، فأكلوا ثمنها ! وحين حرم الله عليهم صيد الحيتان يوم السبت عمدوا إلى البحر فحفروا حوله الحياض، وشرّعوا منه إليها الأنهار، ثم فتحوا تلك الأنهار عشية الجمعة، فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض، فلم تقدر على الخروج لبعد عمق الحياض وقلة مائها، فلما جاء يوم الأحد أخذوها، فأنكر الله ذلك عليهم بقوله :( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) .
وهكذا الحال فيمن أكل الربا وأموال الناس بالباطل على سبيل المكر والخديعة والاحتيال، ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من ارتكاب الحيل، فقال : ( لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ) . وهذا بخلاف من وقع في الذنب وهو مقر بخطيئته، فقد اقترن بمعصيته اعترافه بالخطيئة، وبأنه مذنب عاص، مع انكسار قلبه من ذل المعصية، وازدرائه على نفسه، ورجائه لمغفرة ربه، وعد نفسه من المذنبين، فلعل ما يقوم بنفسه من هذه المعاني يفضي به إلى الخير، والإقلاع عن هذه المعصية .
وهنا يرد تساؤل عن التورق المنظم، ما هو ؟ وما موقف العلماء منه قديماً وحديثاً ؟ وما أثر هذه المعاملة وأشباهها على اقتصادنا المعاصر ؟
والجواب : أن التورق المنظم، هو : أن يتولى المصرف البنك أو المصرف ترتيب الحصول على النقد للمتورق، بأن يبيعه سلعة بأجل، ثم يبيعها نيابة عنه نقداً ويقبض الثمن من المشتري، ثم يسلمه للمتورق . ثم إن البنك أو المصرف قد يكون مالكاً للسلعة ابتداء، وقد لا يكون مالكاً لها، فيسبقه مرابحة للآمر بالشراء . وبالنظر إلى واقع هذه المعاملة، نجد أنها غالباً ما تكون من العقود الصورية لا الحقيقية، حيث يقصد من ورائها دفع النقد لتحصيل نقد أكثر منه مؤجلاً، وأنها كما قال ابن عباس رضي الله عنه : ( دراهم بدراهم بينهما حريرة !! ) وهذا التورق المنظم ليس من العقود الحديثة، كما يظن البعض، بل جاء عن السلف بعض الآثار الدالة على وقوعه والنهي عنه، كما في مصنف عبدالرزاق ( 8/294) وابن أبي شيبة (7/275) . ولأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، كما قرر ذلك المحققون من أهل العلم، لذا فقد صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في أواخر سنة (1424هـ) بتحريم التورق المنظم، وأنه يأخذ حكم العينة الثنائية . وقد أفتى بموجب هذا القرار جمع كبير من علمائنا المعاصرين، بل ومن خبرائنا في مجال الإقتصاد الإسلامي، وصرحوا بأن هذا النوع من العقود قد نتج عنه تراجع للأهداف الحقيقية التي لأجلها أنشئت المصارف الإسلامية، وعلى رأس قائمتها دعم التنمية، والإسهام في النشاط الحقيقي للإقتصاد في البلد، وذلك من خلال المشاركة,والاستصناع ,والإجارة, ونحوها من العقود التنموية الحقيقية، حتى تم اختزال ذلك كله في بيع النقد بالنقد باسم التورق، تحقيقاً للأرباح بأقل وقت ممكن، ودون مخاطرة أو مشقة، ولو كان ذلك على حساب ديننا, وأخلاقنا, واقتصادنا !! حتى أصبح المال دولة بين الأغنياء منا، ولذا أصبحوا يمارسون الرأسمالية في بلادنا بأبشع صورها(/1)
الرأسمالية ليست نهاية التاريخ
د. عمر فوزي نجاري
</TD
النظرة المادية البحتة للأمور, أوصلت الفيلسوف الأمريكي (( فرنسيس فوكوياما )) عام 1989م , إلى نظريته المتمثلة بأن انتصار الرأسمالية يعني ( نهاية التاريخ ) , وأن قيمة الإنسان مستمدة مما يملكه, وبالتالي فإنّ فقدان الملكية يعني انعدام قيمة مالكها , وبناء عليه فإن المجتمعات البشرية ستكون أمام أحد خيارين: إمّا أن تأكل , أو أن تؤكل.
وراح الرأسماليون يزدادون ثراء , والفقراء يزدادون فقراً , وأخذت المنافسة غير المتكافئة بين الحيتان والأسماك الصغيرة , تطحن الناس والمجتمعات طحناً , مدمرة البنى الاجتماعية والتماسك الاجتماعي , وأخذت الفئات الدنيا من الطبقة المتوسطة تزداد فقراً , وباتت معها الطبقة الوسطى في تضاؤل مستمر .
( أوناسيس ) و ( جونتر الرابع ) اسمان لامعان , دخلا موسوعة غينيس من أوسع أبوابها , وقد جمع بينهما في باب واحد , كونهما من أصحاب الملايين , ممن خلقوا وعاشوا على وجه البسيطة , مثلهما كمثل أي مخلوق يمشي على قدمين , أو على أربع , أو قد يقطع المسافات زحفاً على بطنه .. وقد تودد لهما خلق كثير ممن اعتاد شرب الذل وركوب الهوان , ساعين وراء الفتات , وراء كل ما هو زائل لا يدوم .
أمّا ( أوناسيس ) وهو من بني البشر , فقد مات منذ ثلث قرن , وقد أكلت دابة الأرض منسأته , وما عادت تنفعه ملايينه أو بلايينه , وأمّا ( غونتر الرابع ) فلا هو من بني البشر , ولا ممن يملك الحجر أو الشجر , وإنّما هو كلب إيطالي ورث عن صاحبته الكونتيسة ( كاراوتا لبيثاتي ) ملايين الدولارات بعد أن أوصت له بثروتها الطائلة ؟!.
وإذا كانت المسافات قد تقاربت في عصرنا بفعل تقدم وسائل الاتصالات , فإنّ الجمع بين المواصفات القياسية للبشر والحيوان في عصرنا هذا , قد بات أمراً واقعاً وملموساً بعد أن سيطرت على البشرية القيم المادية البحتة , وأصبحت معها القيم الفاضلة والأخلاق الحميدة من الندرة بحيث أصبح معها حاملوها غرباء في مجتمعاتهم , لينطبق عليهم قول شاعرنا الحكيم وصاحب البصيرة النافذة أبو الطيب المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ولم تصل البشرية إلى التقدم والرخاء , بل صار التدهور الاقتصادي والتدمير البيئي والانحطاط الثقافي وتزايد الفروقات بين البشر , أهم ميزات العصر الأمريكي الراهن , وباتت معها أسواق المال العالمية اليوم , أشد خطراً على الاستقرار العالمي من الأسلحة النووية ذاتها .
إنّ مفهوم المال في حضارتنا وتراثنا يختلف عما هو عليه في الحضارة الكونية الحديثة , فهو عندنا موجود لخدمة البشر والمجتمع , فكل ثراء لا يزيد من فرص العمل مرفوض , وكل تكديس للثروات مرفوض , فالثروات في حضارتنا العريقة ليست سوى وسيلة من وسائل التكافل الاجتماعي غرضه تحسين مستوى معيشة الأمة والمجتمع ( فرادى وجماعات ) , إذا ما أنفقت في وجوه الخير , خلافاً لما هو عليه الحال في الحضارة الحديثة التي جعلت منها معبوداً يلهث وراءه , ويتقرب إليه , أصحاب النفوس الضعيفة والمهزوزة , ممن أعمت حمى الاستهلاك وتكديس الثروات بصيرتهم , وما عاد من فارق يميزهم عن ( جونتر الرابع ) أو عن القطة الإيطالية المليونيرة ( كيتي ).
المال في حضارتنا ليس بمقياس على علو منزلة الإنسان , فالمال إذا ما أخذ بغير حق أذل أعناق الرجال وغير المباديء وأفسد الأمور , وقد تم التأكيد والتشديد على تجنب أكل أموال الناس بالباطل والتحايل ( ومن أساليبها الرشوة والتهرب من سداد الدين , وعمليات النصب والاحتيال , وأكل أموال اليتامى , وعدم إعطاء الأجير أجره …وغيرها كثير ). مع التشديد وعدم التساهل حول ألاّ يدخل مال إلاّ من حلال.
إنّ العودة إلى مناهل تراثنا وحضارتنا أمر لا بد منه للوقوف في وجه حضارة الانحلال الأخلاقي المستشرية , ونظرة حضارتنا إلى المال قد أوضحها لنا أمير المؤمنين الخليفة الراشد ( عمر بن الخطاب ) موضحاً بذلك إحدى أهم الأسس التي بني عليها الاقتصاد الإسلامي , بقوله : (( إنّي لا أجد هذا المال يصلحه إلاّ خلال ثلاث : أن يؤخذ بالحق , ويعطى بالحق , ويمنع من الباطل )).
قديماً قالت العرب : ( عند جهينة الخبر اليقين ) وما عداه باطل الأباطيل وقبض الريح .(/1)
الرأي والرأي الآخر .... متى يكون حقاً ؟؟؟!!!
أبو عمر المنهجي
يتردد دائماً على مسامعنا عبارة "الرأي والرأي الآخر"،يغلو البعض حتى في العقيدة فيقول "الرأي والرأي الآخر" 000
في الحقيقة أرى بأن هذه الجملة مُشكِلَة؛ فليست على [إطلاق] ،ففي الأصول لا يوجد إلا رأي واحد؛أما في الفروع فالرأي الحق واحد؛ ولكن دائرة الاختلاف قد تتسع،والفروع على ضروب عديدة منها ما ينكر عليه ويشدد في الإنكار،ومنها ما يتذاكر البعض القول الأرجح بدليله، ومنها ما يبين الوجه الصحيح لديه دون تشديد على الآخر 00 وهذا موضوع حديثنا المرة القادمة 00 ولنضرب على ما سبق أمثلة:
فالذي يشك في وجود الله كافر؛ فالرأي هنا واحد0
الدين الحق الذي لا يقبل الله بعد مبعث محمدٍ عليه الصلاة والسلام سواه [الإسلام] ،وغير الإسلام كفر،فالرأي هنا واحد0
أصول العقيدة الرأي فيها واحد؛ ويكفر أو يبدع كل من خالف ذلك على حسب الخلل الذي ارتكبه0
فالشيعة النصيرية(العلوية) وبعض الإثني عشرية الذين قالوا بأن علي هو الله؛ فهذا القول كفرٌ مُخرجٌ من الملة0
بينما بدعة الأشاعرة الشنيعة القبيحة في أسماء الله وصفاته حيث عطلوها [بدعة] لا تُخرجُ من الملة؛إلا من عرف الحق وكابر وأمور أخرى0
الشيعة الإثني عشرية –غالبيتهم وخاصة علمائهم- والإسماعلية والنصيرية والدروز يقولون بتحريف القرآن؛فمن قال بهذا [كَفَرَ] بكتاب الله وبكلام الله،وهو بهذا يخرجُ من الملة؛ولا يُقبلُ في هذه المسائل إلا رأياً واحدا0
بينما في الفروع [فالمسألةُ تختلف] 00 وكل مسألة يختلف النظر فيها من حيث أدلتها:
فمثلاً الأمور البين حُكمها؛فهذه واضحة ويضلل من حاد عن الدليل فيها،واستحلال أمر لأجل الهوى كفر0
بينما إذا كانت المسألة قد تخفى فيتم البيان بالليل مع دفع المخطأ إلى الحق بالنصحة والإنكار بالتي هي أحسن0
وهناك مسائل لكل فريق دليله الصحيح 00 ولكن الفهم اختلف 00 فهنا الرأي والرأي الآخر وأحدهما راجح والآخر مرجوح فلا يُعنف الجميع،وكلاهما على خير،وإن كان الأرجح أحدهما00
مثال:
قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم ((لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة))
فهم بعض الصحابة أن هذا أمر بالصلاة هناك0
وفهم فريق آخر بأنه نَدَبَ إلى هذا –يعني الاستعجال- ولدينا دليل آخر بعدم إخراج الصلاة عن وقتها؛ (فصلوا) ثم أكملوا المسير0
فأقر النبي عليه الصلاة والسلام الفريقين 00 وإن كان الفريق الثاني كان أقرب إلى الصواب0
وهكذا نرى من الواجب الوقوف أمام كل من يُخلُ أ ويحور في الثوابت والمسلمات وأصول وعقائد الناس؛وأن يتعامل معه بشدة خاصة إذا بان بأنه يطرح شبهات ولا يحاور أو يناظر؛بل صاحب مُراوغة وهرب أو جاهل 00 فهؤلاء لا يناظرون0
ونرى أن لا يضيق الشباب في مسائل الخلاف التي اجتهد فيها العُلماء كُلٌ بدليلهِ –مع التزام الضوابط- مثل التصوير الفيديو وأن تبين القضية بدليلها؛ويُدفعُ من ظننت أن جانب الصواب بالتي هي أحسن،ومحاولة التماس الأعذار وأن تعين أخيك،فالمسألة ليست لإبراز عضلات بقدرِ ما هي دعوة ونصيحة0
ولقائنا القدم سيكون بعنوان [ الرد بين البحث عن الحق والانتصار للنفس]
.....................
· في لقاء قادم سنوضح من كلام العلماء مراتب الخلاف وما الذي يُعذرُ فيه والذي لا يعذر فيه،وما هو الخلاف المعتبر ونزيد تفصيلاً على محاورنا السابقة..وكان هذا المقال دردشة خفيفة في تبيان وتحرير هذه المسألة وأنها ليست على إطلاق والنصح بالوقوف في وجه أهل الإفساد.
· حينما نقول الشيعة فنحن نذكرها تجاوزا وإلا الصحيح أن يُقال لهم الرافضة..ولم يكونوا شيعة لآل البيت عليهم السلام بل هم من خانوهم وفي مقتل الحسين عليه السلام أكبر دليل..فأرى أن يسموا خونة آل البيت علهم السلام.
· فيه العبارات إشارات واللبيب بالإشارة يفهم،ويُرجع الأمر إلى أهله..فأعطي القوس باريها..أعني العلم يفتي فيه أهله وهم العلماء.
كتبه
أبو عمر المنهجي - شبكة الدفاع عن السنة(/1)
الرؤى وأضغاث الأحلام 8/7/1425
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
إن سورة يوسف نستطيع أن نقول: إنها سورة الرؤى، فقد ورد في القرآن ذكر سبع رؤى في ستة مواضع؛ ثلاثة مواضع اشتملت على أربعة رؤى جاءت في سورة يوسف، وهي قول الله _تعالى_: "إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إني رأيت"(يوسف: من الآية4)، وذكر رؤياه.
ثم الموضع الثاني، وفيه رؤيتي صاحبي السجن الذين ذكرا له ما رأيا، وكل واحد منهم رأى رؤيا غير التي رآها صاحبه.
ثم جاءت الرؤيا الرابعة في الموضع الثالث من السورة، وهي رؤيا الملك وتلك رؤية عظيمة جداً، فهذه ثلاثة مواضع اشتملت على أربعة رؤى كلها في سورة يوسف.
وفي بقية القرآن نجد في سورة الأنفال ذكر الرؤيا في قول الله _تعالى_: "إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ"(لأنفال: من الآية43).
ثم في الصافات في قصة إبراهيم مع إسماعيل _عليهما السلام_ قال الله _عز وجل_: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ "(الصافات: من الآية102).
والموضع السادس والأخير جاءت فيه الرؤيا السابعة، وهي رؤيا النبي _صلى الله عليه وسلم_ التي أخبر الله _جل وعز_ عنها في سورة الفتح، فقال _سبحانه_: " لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ"(الفتح: من الآية27).
هذه سبعة رؤى في القرآن، وقد يتساءل متسائل فيقول: أين رؤيا سورة الإسراء التي قال الله _جل وعلا فيها_: "وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ"(الاسراء: من الآية60)؟ والجواب: إن هذه الرؤيا رؤيا عين، وليست رؤية منامية على الصحيح، وكذلك فسرها ابن عباس _رضي الله تعالى عنه_ كما في البخاري.
أما ما ذكره بعض المفسرين من أنها رؤيا في بني أمية فضعيف لا يثبت، بل ربما كان من أكاذيب الرافضة وما أدخلوه في التفسير من أخبار واهيات، أو ممن تأثر بهم وأخذ عنهم.
والناس في موضوع الرؤى بين إفراط وتفريط، فهناك من بالغ في الرؤى فبنى حياته عليها، وأخذ تشريعه منها، وهناك من قصر فيها فلم يلتفت إليها، والحق وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، وما عليه المسلمون المؤمنون من أهل السنة والجماعة هو المنهج الوسط، المنهج الحق، في موضوع الرؤى.
فالرؤى في المنام حق، ثابتة بالكتاب والسنة، يؤيدها النقل والعقل، وتؤمن بها النفوس السوية، ولم ينكر أن الرؤيا الصالحة تكون من الله إلا الفلاسفة ومن نحا نحوهم في هذا العصر من بعض من يشتغلون بعلم النفس، الذين يجعلون الرؤى أضغاث أحلام، فهؤلاء يفسرون الرؤى بنوع من أنواعها، وينكرون الحق فيها. ومثل أولاء ومن أخذ بقولهم لا يلتفت إليهم ؛ لأن الرؤيا الصالحة وأثرها ثابتة بالكتاب والسنة، وقد كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ كثيراً ما يسأل أصحابه من رأى منكم رؤيا؟ وقد توارثته الأجيال قديماً وحديثاً، فهي ثابتة يؤيدها العقل والنقل في القرآن كما مر وفي السنة التي تكاد أن تصل إلى حد التواتر المعنوي لكثرتها وتنوعها، ومن ذلك حديث أبي هريرة _رضي الله تعالى عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً، ورؤيا المؤمن جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوة، والرؤيا ثلاث: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحذر من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه، فإن رأى أحدكم ما يكره، فليقم فليصل، ولا يحدث بها أحداً" رواه مسلم في صحيحه، وهذا الحديث أصل عظيم في موضوع الرؤيا، إثباتها، وأنواعها، وأقسامها، وكيف نتعامل معها.
وعن عبادة بن الصامت _رضي الله تعالى عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة". وردت في بعض الأحاديث خمس وأربعين، وفي بعض الأحاديث ست وأربعين جزء من النبوة، بل جاءت الأحاديث بخمسة عشر لفظاً مختلفاً، وقد ذكر أهل العلم تفاسير جامعة مبينة لذلك،فبعضهم حملها على اختلاف الرائي، فبعضهم تكون له خمسة وأربعين جزءاً من النبوة، وبعضهم ست وأربعين، وبعضهم أقل، وبعضهم أكثر، فمن خلصت نيته في عبادة ربه ويقينه وصدق حديثه كانت رؤياه أقرب، ومنهم من قال النبوة يتفاضل فيها الأنبياء وليست مستوى واحد كما قال الله _عز وجل_: "ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض" وفي المسألة أقوال أخرى يرجع إليها في مظانها من كتب أهل العلم.
أما المنهج الشرعي في التعامل مع الرؤى، فيعتمد على الرؤيا، وهي ثلاثة أنواع كما مر في حديث أبي هريرة:(/1)
فإن كانت رؤيا صالحة فلا يحدث بها إلا من يحب، ولذلك أسباب، منها: منع باب التحاسد وما ينتج عنه من تدابر، ولهذا قال يعقوب لابنه _عليهما السلام_: " لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً "(يوسف: من الآية5)، فلما لاحظ يعقوب من تصرفات بنيه ما استشرف منه عدم رضاهم عن أخيهم أوصاه بذلك، فإذا لم تأمن جانب قريب فلا تقصص رؤياك عليه حتى وإن كان ممن تحب.
ثانياً: إن كانت الرؤيا من قبيل حديث النفس، ومن علامتها أنها تكون في العادة استمرار لما كان يفكر فيه المرء في يقظته، ومثل هذه فليعرض عنها، وأكثر ما يرى الناس من حديث النفس، يهتم أحدهم بشراء سيارة، فيرى السيارة، يهتم بالزواج فيرى ذلك، يهتم بالامتحان فيرى الأسئلة... وهكذا.
النوع الثالث: أن يرى ما يكره، وهي التي من تهاويل الشيطان، فعلى من رآها أن يعمل بما يلي:
أولاً: يتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان.
ثانياً: يبصق عن يساره ثلاثاً.
ثالثاً: ينقلب على جنبه الآخر.
رابعاً: يقوم فيتوضأ ثم يصلي ما شاء الله.
خامساً: لا يحدث بها أحداً.
ومن لم يتمكن من عمل هذه الخمس، فليعمل بعضها، كأن ينقلب على جنبه، وأن يستعيذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، والمهم ألا تحدث بها أحداً، فإنه يخشى إذا حدثت بها أحداً أن يكون لها آثار، فقد ورد أن الرؤيا على جناح طائر فإذا عبرت وقعت.
فالأفضل كما بين النبي _صلى الله عليه وسلم_ ألا تحدث بها أحداً مهما كان، وإذا عملت هذه الأشياء الخمسة فإنها لا تضرك _بإذن الله_.
وكان من روى هذا الحديث، يقول: كنت أرى الرؤيا فتمرضني، أي: تثقل علي، فلما بلغه هذا الحديث وتعامل معها ارتاح وخف عنه ما يجد.
ثم إن من رأى رؤيا أولت له فعليه أن يعلم بأنها قد تصيب وقد تخيب، والجزم بتحقق الرؤيا أو صحة تعبيرها والتعلق به خطأ كبير وخلل وقع فيه بعض الناس.
فبعض الناس يتصور أنه إذا رأى رؤيا ثم عبرت له فوقوعها حق لا مرية فيه! وهذا خطأ للتقسيم السابق، فالرؤيا قد تكون رؤيا صالحة، وقد تكون حديث نفس، وقد تكون من وسواس الشيطان، كما قد ترد احتمالات أخرى حتى على الرؤيا التي ظاهرها الخير، ومنها:
أولاً : قد تكون الرؤيا كذب، وهذا باب خطير ولج فيه وللأسف بعض الناس، فوجب ألا يطمئن لكل رؤيا تذكر.
ثانياً : احتمال عدم دقة رواية من رآها دون تعمد للكذب فيزيد أو ينقص، والمعبر يعبر حسب ما روي له، وهنا قد يقع الخطأ، وإن كان المعبر حاذقاً.
ثالثاً : قد يكون ما رؤي من حديث النفس أو وسواس الشيطان فاختلط الأمر على الرائي.
رابعاً : قد تكون الرؤيا صالحة، والرائي صادق قد قصها على المعبر بدقة، ولكن المعبر ليس من أهل الحذق في التعبير أو ليس من أهل التعبير؟ فبعضنا يعرض رؤاه على معبر وغير معبر، كما يسأل الناس من هو أهل للفتوى ومن ليس من أهلها.
خامساً: قد يكون المعبر من المعبرين الحذاق، ولكنه أخطأ في تعبير الرؤيا، فليس كل معبر حاذق يصيب في كل تعبير، والدليل على ذلك أن أبا بكر _رضي الله تعالى عنه_، عندما عبر الرؤيا وسأل النبي _صلى الله عليه وسلم_، قال له النبي _صلى الله عليه وسلم_: "أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً"، فإذا كان أبو بكر _رضي الله عنه_ ومن هو في علمه وفضله ومكانته وتعبيره للرؤى، يقول له النبي _صلى الله عليه وسلم_: "أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً"، فغيره من باب أولى وإن كان من كبار المعبرين، فليس كل ما يقوله المعبر صحيحاً على إطلاقه، فما بالك إن لم يكن المسؤول من أهل التعبير!
سادساً: قد يعبر المعبر، ويكون تعبيره صحيحاً، ولكن يخطئ في تنزيلها على ما لم تكن فيه، وهذا الأمر وقع فيه بعض الصحابة كما في رؤية الفتح، وذلك لما رأى النبي _صلى الله عليه وسلم_ الرؤيا التي قصها الله _تعالى_ كما في قوله _عز وجل_: "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين"، فلما ذهبوا إلى الحديبية ورجعوا، قالوا: ألم تقل لنا إننا سندخل البيت؟ فأنزلوها في غير موضعها، فنزل قوله _تعالى_: "لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً" (الفتح:27)، فقد تنزل الرؤيا وهي حق، وتعبيرها صحيح على غير من عبرت له أو في غير موضعها.(/2)
وخلاصة الأمر: إن الواجب علينا ألا نستعجل في موضوع الرؤى وفي تعبيرها، فإذا رأيت رؤيا، فانظر هل هي صالحة أو حديث نفس أو من الشيطان، ثم ابحث عمن يعبرها لك إن كانت صالحة، فإذا عبرها فلا تجزم بتحققها مع رجائك من تحقق البشرى بخير يجريه الله لك، ولا تستعجل فقد يأتي تأويل رؤياك بعد سنة أو بعد سنتين أو بعد عشرين، ولهذا قال يوسف _عليه السلام_ بعد سنوات طوال ذكر بعض المفسرين أنها أربعين سنة: الآن تحققت الرؤيا، قال الله _عز وجل_ على لسانه: "يا أبت هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ"(يوسف: من الآية100). يعني رؤياه التي رآها أول القصة، وذلك بعدما خروا له سجداً ورفع أبويه على العرش.
فلنلاحظ هذه الأمور في رؤانا،ولنتثبت من الرؤيا، ومن دقة المعبر، ومن تنزيلها على واقعها حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، ولنأمل خيراً، فما أضيق العمر لولا فسحة الأمل.(/3)
الرؤية المشتركة بين الزوجين
مفكرة الإسلام : الرؤية المشتركة بين الزوجين تعني الاتفاق على أساسيات الحياة الزوجية والنقاط العريضة التي قد تكون موضع خلاف مع استمرار الحياة الزوجية.
فالرؤية المشتركة بين الزوجين هي مستوى جديد من العمق في التواصل بينهما وفي علاقتهما، وهي من الأساليب القوية المؤثرة ليتعلم بها الزوجان وقف الاهتمام بصغائر الأمور، وهي الاشتراك معًا في خبرة ما أو في رؤية ما.
وهذه الرؤية المشتركة تساعدك على توجيه المزيد من التركيز والاهتمام أكثر بما هو صواب في علاقتك وفي حياتك، ويعمل ذلك أيضًا على ظهور أفكار جديدة وتنبيهات على السطح عن كيفية الحصول على مزيد من الراحة والحب لكل من الزوجين.
ومن الصفات المحببة في وجهة النظر الواحدة أنها تتميز بالإشباع الذاتي وخاصة عند الاشتراك فيها مع شخص تحبه. فهي تجعلك تتساءل عن الأشياء الطيبة المدخرة لنا إذا اخترنا مشاركة الرؤية مع نصفنا الآخر.
وأمرهم شورى بينهم:
يقول تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، والتشاور هو من الحقوق المشتركة بين الزوجين والتشاور بين الزوجين وتداول الرأي يكون فيما يتعلق بشؤون البيت وتدبير أمر الأسرة ومصير الأولاد، وغير ذلك.
وليس من الحكمة أن يستبد الرجل برأيه ولا يلتفت إلى مشورة زوجته، لا لشيء إلا لأنها امرأة ومشورتها قدح لقوامته عليها في نظره، فكم من امرأة أدلت برأي صار له أكبر الأثر في استقامة الأمور وصلاح الأحوال، وخير مثال على ذلك أم سلمة أم المؤمنين عندما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم غاضبًا مما فعل أصحابه يوم الحديبية حيث أمرهم بالحلق والتحلل فكأنهم تحرجوا وتباطؤوا، فأشارت عليه أم سلمة رضي الله عنها أن يحلق هو حتى يحلقوا ثم يخرج عليهم، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بمشورتها، فما كان إلا أنهم بادروا إلى امتثال أمره صلى الله عليه وسلم وذلك بمشورة أمنا أم سلمة وبها نجى المسلمون من هلاك محقق وهو مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الزواج شركة:
إن الزواج حياة مشتركة دائمة، فإن كلاً من الزوجين مهما تقدم به العمر يجد إلى جانبه رفيق العمر والدرب الذي يشاطره هموم الحياة ومسؤولياتها.
ونحن لا ننكر أن الحب الصادق بين الزوج والزوجة هو رباط عاطفي، ولكن ذلك الارتباط العاطفي يكون بين شخصين اتفقا على معاني وقيم يلتقيان عليها في كل مجالات الحياة، فأحب كل منهما الآخر، وهذا ما يميز الحب الزوجي عن غيره.
فالشخص يحب أباه أو أقرباءه أو أصدقاءه دون أن يتفق معهم في الرأي والميول والأهداف بالضرورة، ولكن في الحب الزوجي لا يكون حبًا حقيقيًا قويًا ما لم يكن هناك توافق واضح ورؤية مشتركة بين الزوج والزوجة في كل مجالات الحياة، وما لم يكن صدى احتياجات وآراء كل منهما مسموعًا من الآخر مقبولاً لديه وينال اهتمامه.
ورسالة المحبة الزوجية ليست أمرًا وقتيًا أو أعمالاً سطحية أو كلمات منمقة بل هي قيمة حياتية تنمو مع الأيام من خلال المعاشرة الحسنة وازدياد الخبرة والمعرفة ولذلك فهي تتنافى مع الجمود والأنانية إلى أبعد الحدود.
فالزوجان المحبان يبذلان ما في وسعهما ليبقى كل منهما أمينًا تجاه الآخر بكل حيوية وصدق، وفيًا له، ويتقبل كل منهما الآخر على علاته ويغفر له زلاته، ساعيين معًا في تعزيز حياتهما بالقدرات الشخصية وتضافرها واتساقها معًا لتكوين نسيج الحياة الزوجية المشتركة.
مسؤولية من؟
إن المشاركة في إنجاح العلاقة الزوجية مسؤولية يقوم بها الزوجان معًا، فمن خلال حسن معاملتهما لبعضهما وفهم أحدهما للآخر ووضوح الرؤية المشتركة بينهما تتحسن العلاقة بينهما وتنمو إلى الأفضل.
وكيف الاتفاق مع الافتراق؟
لا يخفى علينا أن هناك اختلافًا بيولوجيا بين الرجل والمرأة، وهناك أيضًا فروق جسيمة وسيكولوجية بما فيها من جوانب مزاجية وانفعالية وعقلية وميول واستعدادات وقدرات ومع هذه الاختلافات الكبيرة فنحن نقول أن من ميزات العلاقة الصحية بين الزوجين أن يكونا قريبين وفي ذات الوقت مختلفين.
وذلك لأنه لا بد من وجود بعض الفروق الفردية والاختلافات بين الزوجين مهما كان الرابط الزوجي قويًا، فإن هذا الزواج يجمع بين فردين لكل منهما شخصيته وأفكاره وميوله وذوقه وعواطفه واحتياجاته وما يحب وما يكره.
والعجيب أن نعرف أن الزوجين السعيدين هما القريبان والمفترقان في آن واحد، وكلما كان الواحد منهما أكثر حرية وقدرة على تقبل الفروق والتكيف معها كان بالتالي أقدر على التعامل والتعايش مع اختلاف وجهات النظر، وهذا من شأنه أن يزيد من متانة العلاقة بينهما.
تناقض المصالح:
إن الحياة الزوجية السوية تقوم على المصلحة المشتركة، فما يكون في مصلحة الزوج إنما هو في مصلحة الزوجة، وما يكون في مصلحة أي منهما يكون في مصلحة الأسرة.(/1)
غير أن هذا لا يمنع من اختلاف وجهتي النظر حول ما هو في المصلحة وما هو في غير المصلحة، بل إن هذا الاختلاف قد يكون موجودًا في الحقيقة فقد يرى الزوج أن من مصلحة الأسرة أن تترك الزوجة عملها، ولكن الزوجة ترى أن مصلحتها ومصلحة الأسرة تكمن في أن تظل في الوظيفة لما في ذلك من زيادة في دخل الأسرة وتطوير لشخصيتها وتحقيق ذاتها، وقد ترى الزوجة أن مصلحتها تكمن في إتمام دراستها الجامعية بينما يعارض الزوج ذلك ويرى أن مآلها إلى البيت.
وقد ترى الزوجة أن من مصلحتها الاستقلال بمرتبها وإيراداتها وأن تدخرها لنفسها، وأن يقوم الزوج بالإنفاق على الأسرة، بينما يرى الزوج أنها لا بد أن تساهم في النفقات .. وهكذا فإن تناقض المصالح بصرف النظر عن كون هذا التناقض حقيقيًا أو ناتجًا عن اختلاف وجهات النظر، فإنه يعوق التوافق بين الزوجين. وملاك هذا الأمر هو الرؤية المشتركة أي اتفاق الزوجين على الأمور التي قد تكون موضع خلاف بينهما مع استمرر الحياة الزوجية.
الرؤية المشتركة والذوبان الزوجي:
ويبقى لنا السؤال هل الرؤية المشتركة بين الزوجين تعني الذوبان الزوجي ؟
إن الرؤية المشتركة كما ذكرنا تعني الاتفاق على أساسيات الحياة الزوجية والنقاط العريضة التي قد تكون موضع خلاف مع استمرار الحياة الزوجية، ثم بعد ذلك فليفعل كل من الزوجين ما يريد في إطار هذا الاتفاق.
أما الذوبان الزوجي فمعناه إلغاء الطرف الآخر وتهميشه. وبالطبع سيكون الطرف الملغي هو الزوجة، فلو أذابت الزوجة نفسها في زوجها وألغت شخصيتها، وأصبحت تبعًا له من غير صوت ولا همس فهذا تدمير للشخصية وتحطيم للثقة بالنفس وإلغاء للآخر، وهذا ما لا يقره الإسلام، بل إن الإسلام حث على احترام المرأة وتنمية مواهبها ودفعها لتساهم في بناء الحضارة.
إن المتتبع لسيرة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يجد احترامه لشخصية أمهات المؤمنين وتقديره لهن من أول خديجة رضي الله عنها حتى آخر زوجاته.
وقرأنا في السيرة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صرح وقال بأن الإسلام عندما جاء أعطى المرأة حقوقًا لم يكن يعرفها العرب ويقدرها، وأهمها أنه أعطاها الاستقلال الشخصي وتحملها مسؤولية قرارها حتى في زواجها.
إن من أبرز عناصر القوة في العلاقة الزوجية هو عنصر المشاركة في الجهد وفي التفكير وفي العطاء وفي المسئولية، مع هامش استقلالية لكل طرف في قسط من المسؤولية.
إن تجاوز رأي الآخر هو تجاوز لشخصيته ووجوده، وبالتالي تعطيله إن لم نقل منعه من التعاطف الحبي مع الطرف الآخر، وتخيلوا كم الصراعات التي تحدث في بيوت كثيرة بسبب أنانية هذا الطرف أو ذاك واعتداده برأيه وتجاوزه للآخر في المشورة والمشاركة.
وهناك أولويات:
لقد بحثت كثيرا في أسباب المشاكل الزوجية أو الخلافات الزوجية والتي بدورها قد تؤدي إلى الطلاق، وإن لم يصل الأمر للطلاق، فإنها تكون سببًا في نكد الحياة الزوجية وفشلها. وقد وضعت يدي على مكمن الخلاف الدائم والذي يتمثل في عدم وضوح مجالات الرؤية المشتركة والتي من خلالها يتم الاتفاق بين الزوجين على عدة نقاط أساسية، وترتيبها بأهميتها وبأولويتها وهي:
1ـ العلاقات الاجتماعية.
2ـ النواحي المالية ويدخل فيها طريقة الحياة والإنفاق.
3ـ تربية الأولاد.
4ـ العلاقة الجنسية.
5ـ العلاقة العاطفية.
6ـ وحدة الأهداف.
وقد تكلمنا في مقالات سابقة عن ثلاث من هذه الجوانب من الرؤية المشتركة وتبقى لنا ثلاث فانتظرونا في الأعداد القادمة لنتفق معًا على رؤية مشتركة في الباقي من هذه النقاط ودمتم بخير.(/2)
الرؤية
الكاتب: الاستاذ محمد أحمد الوزير
الحمد لله رب العالمين حمداً يليق بجلاله وكماله، لا شئ يعجزه ، يفعل ما يشاء ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، أول بلا ابتداء آخر بلا انتهاء له الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وأشهد أن لا اله إلا الله الأحد الصمد ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله ، أرسله رحمة للعالمين بشيرا ونذيرا وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أما بعد:
مسألة الرؤية.
فإن الله سبحانه وتعالى يقول:? وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة? وقال صلى الله عليه وأله وسلم : ( إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته وفي رواية لا تضارون في رؤيته) ، وقد دلت النصوص القرآنية ، والأحاديث النبوية الشريفة على إثبات الرؤية للمؤمنين يوم القيامة لربهم ، جل وعلا ، زيادة في إكرامهم ،وإيضاحا لعلو قدرهم ، وتمام نعيمهم.
دوافع البحث:
وقد سألني بعض الأخوة ، عن الأدلة في مسألة الرؤية ؛ لأنه كثر فيها المقال ، ودار عليها السؤال ، لما تبنى نشرها بين العوام بعض الطوائف الإسلامية ، فأجبته إلى ذلك لأنه قد عم بها البلوى ، وعظم منها الشكوى ، وزاد البلبال ، حتى أنهم زعموا أن لا أدلة فيها ، ولا حجج تدل عليها ، فعزمت حينها على كتابة بحث وجيز ، أذكر فيه الأدلة الواردة في الكتاب والسنة .
الكتابات في هذا الموضوع:
ولست أول من كتب في هذا المسألة ، فقد أثرى بحثها أئمة العلم ، فلم يتركوا فيها شاذة و لا فاذة إلا وتكلموا عنها، وعلى سبيل المثال :
1ـ الرؤية للإمام الدارقطني .
2ـ شرح أصول اعتقاد أهل السنة للإمام اللالكائي .
3ـ حادي الأرواح للإمام ابن القيم .
4ـ العواصم والقواصم للإمام الكبير محمد بن إبراهيم الوزير وغير ذلك .
الجديد في البحث:
والشيء الذي أضفته في البحث هذا هو التالي:
1ـ اجتنبت الكلام المنطقي والنقاش الفلسفي .
2ـ اعتمدت نصوص الكتاب والسنة.
3ـ اعتمدت فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين للنصوص .
4ـ لم أتكلم عن دلالات النصوص ، وأورد المناقشة لكي يسهل فهم البحث لدى العامة.
5ـ لم أتكلم فيه بسعة لكي يكون صغيرا حتى يسهل اقتناؤه وقراءته ونشره إلا لما لابد منه.
المبحث الأول
الأدلة من القرآن والسنة على إثبات الرؤية وأقوال السلف .
إن مسألة الرؤية من المسائل العقدية المهمة ، وتواردت على إثباتها نصوص كثيرة لا تعد ولا تحصى وإن شاء الله تعالى سأذكرها لك أخي القارئ ، مع كلام العلماء، فتظهر للجاهل الحجة وتقام على المتعلم المحجة وسأقسم البحث إلى ثلاثة مطالب.
المطلب الأول:
أدلة الكتاب الظاهرة في الرؤية:
لقد تكلم الله سبحانه عن مسألة الرؤية في كتابه بالتفصيل ، وأورد فيه من الحجج والإيضاح مالا يلتبس على عاقل ولا يغيب فهمه عن جاهل ، إلا لمن لم يكن له قلب أو كان عن التنزيل غافل ، أو أصيب بداء التعصب أو عمى التقليد الجامد وإليك أخي العزيز أدلة الكتاب الكريم في ذلك فأقول:
الدليل الأول:قال تعالى ?وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة، ووجوه يومئذ باسرة، تظن أن يفعل بها فاقرة? ( سورة القيامة الآية: 22).
معنى قوله إلى ربها ناظرة أنها رائية ترى الله عز وجل ولا يجوز أن يكون معناه إلى ثواب ربها ناظرة لأن ثواب الله غير الله وإنما قال الله عز وجل إلى ربها ولم يقل إلى غير ربها ناظرة والقرآن على ظاهره وليس لنا أن نزيله عن ظاهره إلا بحجة. ألا ترى أنه لما قال فاذكروني أذكركم واشكروا لي لم يجز أن يقال أراد ملائكتي ورسلي ثم نقول إن جاز لكم أن تدعوا هذا في قوله إلى ربها ناظرة جاز لغيركم أن يدعيه في قوله لا تدركه الأبصار فيقول أراد بها لا تدرك غيره ولم يرد أنها لا تدركه الأبصار وإذا لم يجز ذلك لم يجز هذا ولا حجة لهم في قوله لا تدركه الأبصار فإنما أراد به لا تدركه أبصار المؤمنين في الدنيا دون الآخرة ولا تدركه أبصار الكافرين مطلقا كما قال كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون فلما عاقب الكفار بحجبهم عن رؤيته دل على أنه يثيب المؤمنين برفع الحجاب لهم عن أعينهم حتى يروه ولما قال في وجوه المؤمنين وجوه يومئذ فقيدها بيوم القيامة ووصفها فقال ناضرة ثم أثبت لها الرؤية فقال إلى ربها ناظرة علمنا أن الآية الأخرى في نفيها عنهم في الدنيا دون الآخرة وفي نفيها عن الوجوه الباسرة دون الوجوه الناضرة جمعا بين الآيتين حملا للمطلق من الكلام على المقيد منه وقال القرطبي في تفسيره:
"ناظرة" من النظر أي تنظر إلى ربها؛ على هذا جمهور العلماء.(/1)
• وفي الباب حديث صهيب خرجه مسلم وقد مضى في ( سورة)"يونس" عند قوله تعالى: ?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة? (يونس: 26). وكان ابن عمر يقول: أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية؛ ثم تلا هذه الآية: ?وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة? وروى يزيد النحوي عن عكرمة قال: تنظر إلى ربها نظرا. وكان الحسن يقول: نضرت وجوههم ونظروا إلى ربهم.
• وفي صحيح مسلم عن أبي بكر بن عبدالله بن قيس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم جل وعز إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن). وروى جرير بن عبدالله قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسا، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: (إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر) متفق عليه.
• وخرجه أيضا أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وخرج أبو داود عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه؟ قال ابن معاذ: مخليا به يوم القيامة؟ قال: (نعم يا أبا رزين) قال: وما آية ذلك في خلقه؟ قال: (يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر) قال ابن معاذ: ليلة البدر مخليا به. قلنا: بلى. قال: (فالله أعظم) (قال ابن معاذ قال): (فإنما هو خلق من خلق الله - يعني القمر - فالله أجل وأعظم).
وفي كتاب النسائي عن صهيب قال: (فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر، ولا أقر لأعينهم).
وفي التفسير لأبي إسحاق الثعلبي عن الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتجلى ربنا عز وجل حتى ينظروا إلى وجهه، فيخرون له سجدا، فيقول ارفعوا رؤوسكم فليس هذا بيوم عبادة)
الدليل الثاني:قال تعالى:?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون?( الآية: 26سورة يونس).
قال القرطبي في تفسيره:
قوله تعالى: ?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة? روي من حديث أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: "وزيادة" قال: (للذين أحسنوا العمل في الدنيا لهم الحسنى وهي الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم) وهو قول أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب في رواية. وحذيفة وعبادة بن الصامت وكعب بن عجرة وأبي موسى وصهيب وابن عباس في رواية، وهو قول جماعة من التابعين،.
وروى مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل) وفي رواية ثم تلا ?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة?.
وخرجه النسائي أيضا عن صهيب قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه الآية ?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة? قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم موعدا عند الله يريد أن ينجزكموه قالوا ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر ولا أقر لأعينهم).
وخرج الترمذي الحكيم أبو عبدالله رحمه الله: عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزيادتين في كتاب الله؛ في قول ?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة? قال: (النظر إلى وجه الرحمن).
وقال عبدالرحمن بن سابط: الحسنى البشرى، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم؛ قال الله تعالى: ?وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة? (القيامة: 22 - 23).
وفي الدر المنثور:
أخرج الطيالسي وهناد وأحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة وابن خزيمة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والدارقطني في الرؤية وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن صهيب رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية ?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة? قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه. فيقولون: وما هو، ألم تثقل موازيننا، وتبيض وجوهنا، وتدخلنا الجنة، وتزحزحنا عن النار؟ وقال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم".
وأخرج الدارقطني وابن مردويه عن صهيب رضي الله عنه في الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الزيادة: النظر إلى وجه الله".
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والدارقطني في الرؤية وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي: يا أهل الجنة - بصوت يسمعه أولهم وآخرهم - إن الله وعدكم الحسنى وزيادة، فالحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الرحمن".(/2)
وأخرج ابن جرير وابن مردويه واللالكائي في السنة والبيهقي في كتاب الرؤية عن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة? قال: الزيادة: النظر إلى وجه الرحمن.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والدارقطني وابن مردويه واللالكائي والبيهقي في كتاب الرؤية عن أبي بن كعب رضي الله عنه "أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى:?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة? قال: الذين أحسنوا أهل التوحيد، والحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله".
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة? قال "أحسنوا شهادة أن لا إله إلا الله، والحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى الله".
وأخرج أبو الشيخ وابن منده في الرد على الجهمية والدارقطني في الرؤية وابن مردويه واللالكائي والخطيب وابن النجار عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية ?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة? فقال: للذين أحسنوا العمل في الدنيا لهم الحسنى وهي الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم".
وأخرج ابن مردويه من وجه آخر عن أنس رضي الله عنه قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة? قال: ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حدود ولا صفة معلومة".
وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"من كبر على سيف البحر تكبيرة رافعا بها صوته لا يلتمس بها رياء ولا سمعة كتب الله له رضوانه الأكبر، ومن كتب له رضوانه الأكبر جمع بينه وبين محمد وإبراهيم عليهما السلام في داره، ينظرون إلى ربهم في جنة عدن كما ينظر أهل الدنيا إلى الشمس والقمر في يوم لا غيم فيه ولا سحابة، وذلك قوله ?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة? فالحسنى لا إله إلا الله، والزيادة الجنة والنظر إلى الرب".
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن خزيمة وابن المنذر وأبو الشيخ والدارقطني وابن منده في الرد على الجهمية وابن مردويه واللالكائي والآجري والبيهقي كلاهما في الرؤية عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قوله ?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة? قال: الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله.
وأخرج ابن مردويه من طريق الحرث عن علي رضي الله عنه في قوله ?للذين أحسنوا الحسنى? قال: يعني الجنة، والزيادة يعني النظر إلى الله تعالى.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والدارقطني واللالكائي والآجري والبيهقي عن حذيفة رضي الله عنه في الآية قال: والزيادة النظر إلى وجه ربهم.
وأخرج هناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والدارقطني واللالكائي والبيهقي عن أبي موسى الأشعري في الآية قال: الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه ربه.
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما ?للذين أحسنوا الحسنى? قال: قول لا إله إلا الله، والحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجهه الكريم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق علي عن ابن عباس رضي الله عنهما ?للذين أحسنوا? قال: الذين شهدوا أن لا إله إلا الله، الحسنى: الجنة.
وأخرج ابن أبي حاتم واللالكائي عن ابن مسعود رضي الله عنه في الآية قال: أما الحسنى فالجنة، وأما الزيادة فالنظر إلى وجه الله، وأما القتر فالسواد.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الرؤية من طريق الحكم بن عتيبة عن علي رضي الله عنه في الآية قال: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب غرفها وأبوابها من لؤلؤة واحدة.
وأخرج أبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه ?للذين أحسنوا? قال: شهادة أن لا إله إلا الله ?الحسنى? قال: الجنة ?وزيادة? قال: النظر إلى وجه الله.
وأخرج ابن جرير والدارقطني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رضي الله عنه في قوله:?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة? قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة أعطوا منها ما شاؤوا، ثم يقال لهم: إنه قد بقي من حقكم شيء لم تعطوه، فيتجلى الله تعالى لهم فيصغر ما أعطوا عند ذلك، ثم تلا ?للذين أحسنوا الحسنى? قال: الجنة ?والزيادة? نظرهم إلى ربهم عز وجل.
وأخرج ابن جرير والدارقطني عن عامر بن سعد البجلي رضي الله عنه في قوله:?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة? قال: النظر إلى وجه الله.
وأخرج الدارقطني عن السدي رضي الله عنه في قوله:?للذين أحسنوا الحسنى? قال: الجنة ?وزيادة? قال: النظر إلى وجه الرب عز وجل.
وأخرج الدارقطني عن الضحاك رضي الله عنه قال: الزيادة النظر إلى وجه الله.
وأخرج ابن جرير والدارقطني عن عبد الرحمن بن سابط قال: الزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل.(/3)
وأخرج ابن جرير والدارقطني عن أبي إسحق السبيعي رضي الله عنه في قوله:?للذين أحسنوا الحسنى? قال: الجنة ?وزيادة? قال: النظر إلى وجه الرحمن عز وجل.
وأخرج ابن جرير والدارقطني عن قتادة رضي الله عنه قال: ينادي المنادي يوم القيامة إن الله وعد الحسنى وهي الجنة، فأما الزيادة فهي النظر إلى وجه الرحمن. قال: فيتجلى لهم حتى ينظروا إليه.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة? قال: هو مثل قوله ?ولدينا مزيد? (ق الآية 35) يقول: يجزيهم بعملهم ويزيدهم من فضله، وقال: ?من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها? (الأنعام الآية 160).
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله:?للذين أحسنوا الحسنى? قال: مثلها. قال ?وزيادة? قال: مغفرة ورضوان.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علقمة بن قيس رضي الله عنه في الآية قال: الزيادة العشر ?من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها? (الأنعام الآية 160).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الحسن رضي الله عنه في الآية قال: الزيادة الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد رضي الله عنه في الآية قال: الزيادة ما أعطالهم في الدنيا لا يحاسبهم به يوم القيامة.
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في الرؤية عن سفيان رضي الله عنه قال: ليس في تفسير القرآن اختلاف إنما هو كلام جامع يراد به هذا وهذا.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:?ولا يرهق وجوههم? قال: لا يغشاهم ?قتر? قال: سواد الوجوه.
وأخرج أبو الشيخ عن عطاء رضي الله عنه في الآية قال: القتر سواد الوجه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله ?ولا يرهق وجوههم قتر? قال: خزي.
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ?ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة? قال: بعد نظرهم إلى الله عز وجل.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والدارقطني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رضي الله عنه في قوله ?ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة? قال: بعد نظرهم إلى ربهم.
وفي نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني:
310- (الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الرحمان).
قال في شرح المواهب جاء مرفوعاً من حديث (1) أبي موسى (2) وكعب بن عجرة (3) وابن عمر (4) وأبي بن كعب (5) وأنس (6) وأبي هريرة وجاء موقوفاً على الصديق وحذيفة وابن عباس وابن مسعود وجاء عن جماعة من التابعين كما بسطه في البدور وقال قال البيهقي هذا تفسير قد استفاض واشتهر فيما بين الصحابة والتابعين ومثله لا يقال إلا بتوقيف وقال يحيى بن معين عندي سبعة عشر حديثاً كلها صحاح وزاد عليه في البدور اثنين وساق ألفاظ الجميع عازياً لمخرجيهم وقال أنها بلغت مبلغ التواتر عندنا معاشر أهل الحديث اهـ.
الدليل الثالث:?يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد، وأزلفتالجنة للمتقين غير بعيد، هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب، ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود، لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد?( سورة ق. الآية: 30 - 35).
تفسير القرطبي:
وقال أنس وجابر: المزيد النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف. وقد ورد ذلك في أخبار مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة? (يونس: 26) قال: الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم.
وذكر ابن المبارك ويحيى بن سلام، قالا: أخبرنا المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبدالله بن عتبة عن ابن مسعود قال: تسارعوا إلى الجمعة فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون منه في القرب.
قال ابن المبارك: على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا. وقال يحيى بن سلام: لمسارعتهم إلى الجمع في الدنيا، وزاد (فيحدث الله لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك). فال يحيى: وسمعت غير المسعودي يزيد فيه قوله تعالى: ?ولدينا مزيد?.
وفي الدر المنثور:
أخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه واللالكائي في السنة والبيهقي في البعث والنشور عن أنس في قوله ?ولدينا مزيد? قال: يتجلى لهم الرب عز وجل.(/4)
وأخرج الشافعي في الأم وابن أبي شيبة والبزار وأبو يعلى وابن أبي الدنيا في صفة الجنة وابن جرير وابن المنذر والطبراني في الأوسط وابن مردويه والآجري في الشريعة والبيهقي في الرؤية وأبو نصر السجزي في الإبانة من طرق جيدة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل وفي يده مرآة بيضاء فيها نكتة سوداء، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك، فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى، ولكم فيها خير، وفيها ساعة لا يوافقها مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له، وهو عندنا يوم المزيد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل وما يوم المزيد؟ قال: إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب من مسك، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله ما شاء من الملائكة وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين، وتحف تلك المنابر بكراسي من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد عليها الشهداء والصديقون، ثم جاء أهل الجنة فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب، فيتجلى لهم تبارك وتعالى حتى ينظروا إلى وجهه، ويقول الله: أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فسلوني أعطكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم فسلوني فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، فيقول: لكم ما تمنيتم ?ولدي مزيد? فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير، وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش وفيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة".
وأخرج ابن جرير عن أنس رضي الله عنه قال:
وفيه (ثم ناداهم الرب عز وجل من وراء الحجب: مرحبا بعبادي وزواري وجيراني ووفدي، أكلوا وشربوا وفكهوا وكسوا وطيبوا، وعزتي لأتجلين لهم حتى ينظروا إلي. فذلك انتهاء العطاء وفضل المزيد.
فتجلى لهم الرب ثم قال: السلام عليكم عبادي أنظروا إلي، فقد رضيت عنكم).
المطلب الثاني:
الدلالة على الرؤية بالمفهوم من القرآن.
قال تعالى:?كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون، ثم إنهم لصالوا الجحيم، ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون?( سورة المطففين الآية: 14 - 17).
قال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خست منزلة الكفار بأنهم يحجبون. وقال جل ثناؤه: ?وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة? (القيامة: 22) فأعلم الله جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون إليه .
وأعلم أن الكفار محجوبون عنه قال مالك بن أنس في هذه الآية: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه.
وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسخط، دل على أن قوما يرونه بالرضا. ثم قال: أما والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا.
وقال الحسين بن الفضل: لما حجبهم في الدنيا عن نور توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته.
قال الإمام الطبري:
وعن الحسن في قوله: ?كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون? قال: يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون كل يوم غدوة وعشية، أو كلاما هذا معناه.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء القوم أنهم عن رؤيته محجوبون. ويحتمل أن يكون مرادا به الحجاب عن كرامته، وأن يكون مرادا به الحجاب عن ذلك كله، ولا دلالة في الآية تدل على أنه مراد بذلك الحجاب عن معنى منه دون معنى، ولا خبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت حجته. فالصواب أن يقال: هم محجوبون عن رؤيته، وعن كرامته، إذ كان الخبر عاما، لا دلالة على خصوصه.
وقال ?كلا، إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون? فهذا دليل على أن المؤمنين يرون الله.
وقال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله يقول: قالت الجهمية: إن الله لا يرى في الاَخرة، وقال الله عز وجل: ?كلا، إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون? فلا يكون هذا إلا إن الله عز وجل يرى، وقال ?وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة? فهذا النظر إلى الله ولأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم ترون ربكم" صحيحة، وأسانيدها غير مدفوعة، والقرآن شاهد: أن الله يرى في الاَخرة.
وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل ـ وقد ذكر عنده شيء في الرؤية ـ فغضب وقال: من قال: إن الله لايرى، فهو كافر.
وقال عباس الدوري: سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام يقول ـ وذكر عنده هذه الأحاديث في الرؤية ـ فقال: هذه عندنا حق، نقلها الناس بعضهم عن بعض.
وقال عبد الله بن وهب: قال مالك بن أنس: الناس ينظرون إلى الله يوم القيامة بأعينهم.
وقال المزني: سمعت ابن هرم القرشي يقول: سمعت الشافعي يقول في قول الله عز وجل: ?كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون? قال: فلما حجهم في السخط كان في هذا دليل على أنهم يرونه في الرضا قال: فقال له أبو النجم القزويني: يا أبا إبراهيم به تقول؟ قال: نعم، وبه أدين الله، فقام إليه عصام، فقبل رأسه، وقال: يا سيد الشافعيين، اليوم بيضت وجوهنا،ذكره الحاكم في مناقب الشافعي.
المطلب الثالث:ما استدل به المانع للرؤية
من القرآن وفيه دليل عليه.(/5)
الدليل الأول: قال تعالى ?ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين?. الآية: من سورة الأعراف رقم (143 ).
قال ابن القيم في حادي الأرواح :و بيان الدلالة من هذه الآية على إثبات الرؤية من وجوه عديدة:
أحدها أنه لا يظن بكليم الرحمن و رسوله الكريم عليه أن يسأل ربه ما لا يجوز عليه.
الوجه الثاني ان الله سبحانه و تعالى لم ينكر عليه سؤاله.
الوجه الثالث أنه اجابه بقوله لن ترني و لم يقل لا تراني و لا إني لست بمرئي و لا تجوز رؤيتي و الفرق بين الجوابين ظاهر لمن تامله و هذا يدل على أنه سبحانه و تعالى يرى .
الوجه الرابع أن الله سبحانه و وتعالى قادر على أن يجعل الجبل مستقرا مكانه و ليس هذا بممتنع في مقدوره بل هو ممكن و قد علق به الرؤية و لو كانت محالة في ذاتها لم يعلقها بالممكن في ذاته و لو كانت الرؤية محالة لكان ذلك نظير أن يقول إن استقر الجبل فسوف آكل و اشرب و أنام فالأمران عندكم سواء.
الوجه الخامس قوله سبحانه و تعالى فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا و هذا من أبين الأدلة على جواز رؤيته تبارك و تعالى فإنه إذا جاز ان يتجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له و لا عقاب عليه فكيف يمتنع أن يتجلى لأنبيائه و رسله و أوليائه في دار كرامتهم و يريهم نفسه.
الوجه السادس أن ربه سبحانه و تعالى قد كلمه منه إليه و خاطبه و ناجاه و ناداه ومن جاز عليه التكلم و التكليم و ان يسمع مخاطبه كلامه معه بغير واسطة فرؤيته أولى بالجواز
قال القرطبي في تفسيره :
قوله تعالى: ?قال لن تراني? أي في الدنيا. ولا يجوز الحمل على أنه أراد: أرني آية عظيمة لأنظر إلى قدرتك؛ لأنه قال "إليك" و?قال لن تراني?. ولو سأل آية لأعطاه الله ما سأل، كما أعطاه سائر الآيات.
ثم قال: ?فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا? وتجلى معناه ظهر؛ من قولك: جلوت العروس أي أبرزتها. وجلوت السيف أبرزته من الصدأ؛ جلاء فيهما. وتجلى الشيء انكشف. وعند أهل السنة والجماعة الرؤية جائزة. وعند المبتدعة سأل لأجل القوم ليبين لهم أنها غير جائزة، وهذا لا يقتضي التوبة.
قال علي بن مهدي الطبري: لو كان سؤال موسى مستحيلا ما أقدم عليه مع معرفته بالله؛ كما لم يجز أن يقول له يا رب ألك صاحبة وولد.
وفي تفسير الجلالين:
قال لن تراني) أي لا تقدر على رؤيتي ، والتعبير به دون لن أُرى يفيد إمكان رؤيته تعالى
الدليل الثاني:?لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير? ( سورة الأنعام. الآية: 103).
قال القرطبي :
الآية: 103 ?لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير?
قوله تعالى: ?لا تدركه الأبصار?بين سبحانه أنه منزه عن سمات الحدوث، ومنها الإدراك بمعنى الإحاطة والتحديد، كما تدرك سائر المخلوقات، والرؤية ثابتة.
وقال الزجاج: أي لا يبلغ كنه حقيقته؛ كما تقول: أدركت كذا وكذا؛ لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث في الرؤية يوم القيامة. وقال ابن عباس: ?لا تدركه الأبصار? في الدنيا، ويراه المؤمنون في الآخرة؛ لإخبار الله بها في قوله: ?وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة? (القيامة: 22 - 23). وقال السدي وهو أحسن ما قيل لدلالة التنزيل والأخبار الواردة برؤية الله في الجنة.
قال في الدر المنثور:
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عكرمة عن ابن عباس قال "إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه. فقال له رجل عند ذلك: أليس قال الله ?لا تدركه الأبصار? فقال له عكرمة ألست ترى السماء؟ قال: بلى قال: فكلها ترى".
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة ?لا تدركه الأبصار? قال: هو أجل من ذلك وأعظم أن تدركه الأبصار.
وأخرج أبو الشيخ والبيهقي في كتاب الرؤية عن الحسن في قوله ?لا تدركه الأبصار? قال: في الدنيا. وقال الحسن: يراه أهل الجنة في الجنة، يقول الله ?وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة? (القيامة الآية 22) قال: ينظرون إلى وجه الله.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إسماعيل بن علية في قوله ?لا تدركه الأبصار? قال: هذا في الدنيا.
(لا تدركه الأبصار) أي لا تراه وهذا مخصوص() لرؤية المؤمنين له في الآخرة لقوله تعالى ?وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة? وحديث الشيخين "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر" وقيل المراد لا تحيط به.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة "أن ناساً قالوا: يا رسول الله، هل ترى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في القمر ليلة البدر قالوا: لا، يا رسول الله، قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها حجاب؟ قالوا: يا رسول الله. قال فإنكم ترونه كذلك".
وفي الصحيحين مثله من حديث أبي سعيد.(/6)
وعن جرير بن عبد اللَّه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: كنا عند رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال: <إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته> مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وفي الطبري:
عن ابن عباس، قوله: ?لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار? يقول: لا يحيط بصر أحد بالملك.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن سماك بن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: ?ولقد رآه نزلة أخرى? قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه، فقال له رجل عند ذلك: أليس ?لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار? (الأنعام: 103) ؟ قال له عكرمة: أليس ترى السماء؟ قال: بلى، أفكلها ترى؟.
وحدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن قال: ثنا أبو عرفجة، عن عطية العوفي في قوله: ?وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناضرة? قال: هم ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره محيط بهم، فذلك قوله: ?لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار?.
المبحث الثاني:
الأحاديث الواردة في إثبات الرؤية:
ذكر العلامة الكبير: الهادي بن إبراهيم الوزير في نهاية التنويه إلى إزهاق التمويه قول أمير المؤمنين: علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لابن عباس رضي الله عنهما:
لما بعثه للاحتجاج على الخوارج( لا تخاصمهم بالقرآن ، فإن القرآن حمال ذو وجوه ، تقول ويقولون ، ولكن خاصمهم بالسنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصا) والخصومة التي كانت بين حبر الأمة ابن عباس وبين الخوارج ، إنما هي في أصول الدين ومع هذا فقد اعتبر أمير المؤمنين الاحتجاج بها وأرشد ابن عباس إليها وبناءً على هذا الأصل المقرر من سيد العترة النبوية، فإليك الأدلة الواضحة ، من نصوص السنة المطهرة على صاحبها أزكى الصلاة والتسليم.
وقد قسمت البحث إلى ثلاثة مطالب.
المطلب الأول:
ما ثبت عن علي كرم الله وجهه، و آل البيت من القول بالرؤية:
وبدأت أولا بما جاء عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب كرم الله عنه وعن أهل بيته الأكرمين في هذه المسألة ، إقامة في الحجة ، وبيانا للأمة ، وتبرئة للذمة.
1. وعن علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يزور أهل الجنة الرب تبارك وتعالى في كل جمعة، وذكر ما يعطون، قال ثم يقول الله تعالى: اكشفوا حجابا، فيكشف حجاب، ثم حجاب، ثم يتجلى لهم تبارك وتعالى عن وجهه فكأنهم لم يروا نعمة قبل ذلك، وهو قوله تعالى: ?ولدينا مزيد?.أخرجه يعقوب بن سفيان و اللالكائي.
2. وعن علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ?ولدينا مزيد? قال: يتجلى لهم الرب عز وجل.أخرجه الدار قطني في الرؤية.
وقد أخرج هذا الروايات (الجامع الكافي) لمحمد بن علي العلوي وهو من أكبر كتب الزيدية المعتمدة ، وذكر الإمام الكبير/ محمد بن إبراهيم الوزير في العواصم و القواصم أنه ورد عن علي القول بالرؤية من أربع طرق ، وكذا عن بعض متقدمي الزيدية وهذا كافٍ في إثبات بطلان الإجماع المدعى من نفي الرؤية عن أهل البيت الكرام ، كيف وقد خالف سيد العترة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه كما ترى ؟
أما ما ذكره العلامة/ مجد الدين المؤيدي في لوامع الأنوار من أنه مدسوس فيه ما ليس منه ، ومدخول على أهل البيت ما لم يقولوه ، فإنه يؤيد ما أثبته ابن الوزير من وجود إثبات الرؤية في ( الجامع الكافي ) ، و يحتاج السيد مجد الدين في إثبات الدس إلى برهان على ذلك ، أما مجرد الدعوى فيقدر عليها كل أحد ، ويحتاج إلى إثبات من سبقه إلى هذا القول بذلك من أهل البيت الاماجد ، ومن المتكلم فيه في رجال الأسانيد التي ذكرها ؟ ومن قال ذلك قبله من أئمة الزيدية؟، و ما ذكره من أن الدليل على ذلك أن الأمام الذهبي مدح صاحب ( الجامع الكافي ) بقوله : ثقة ثبت حافظ جمع فقه أهل العراق، فدليل لا يلتفت إليه ، وحجة يستغرب منها العاقل ، فماذا كان يريد السيد مجد الدين ؟ أيريد أن يقدح فيه حتى يكون عنده ثقة ؟ وكيف يصنع الذهبي رحمه الله ؟ إن جرح قالوا عدو لأل البيت وإن مدح تكلموا فيه كذلك ، أهذه منهجية علمية يتعامل بها أهل العلم والفقه؟ و أو لا يخشى العلامة/ مجد الدين أن يشكك في كتب آل البيت بالدس فيها، وأنها غير موثوق بها ، فيكون ذلك سبيلا لردها وعدم اعتمادها ، فيكون حاله كالمستجير من الرمضاء بالنار ، يريد أن ينفي ما في ما ورد في ( الجامع الكافي ) فيسبب التشكيك فيه ، أولا يلاحظ أنه تناقض فقد روى بعد ذلك أربع طرق له إلى ( الجامع الكافي ) ، كلها عن أئمة الزيدية الثقات الأثبات ؟ فمن أين جاء الدس ؟ أولا يلزم ذلك جرحا في رجال السند الذي ذكره ؟ فينتبه إلى هذا فإنه أمر خطير ، وجدير بعلماء الزيدية أن ينبهوا إلى خطأ هذا العمل ولو كان من غير مجد الدين ، لاتهم صاحبه بالعداء لآل البيت ، لتشكيكه في كتبهم .
المطلب الثاني:(/7)
ما ورد من رؤية الله كالقمر.
وأفردت أحاديث الرؤية لله وأنها كالقمر لا تضام أو لا تضار لأنها صريحة في إثبات المسألة، إقامة للحجة ، ولأنها نص في محل النزاع ، وبلغت حد التواتر.
3. عن حديث أبي هريرة أن ناسا قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر قالوا لا يا رسول الله قال هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة...) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
4. عن أبي سعيد الخدري أن ناسا في زمن رسول الله قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله نعم هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب و هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب قالوا لا يا رسول الله قال ما تضارون في رؤيته تبارك و تعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما...) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
5. جرير بن عبد الله ففي الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عنه قال كنا جلوسا مع النبي فنظر إلى القمر ليلة اربع عشرة فقال إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس و قبل الغروب فافعلوا ثم قرا قوله فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل الغروب) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
6. عن أبي بكر بن عمارة بن رويبة عن أبيه قال نظر النبي إلى القمر ليلة البدر فقال إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضارون في رؤيته فان استطعتم إلا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس و صلاة قبل غروبها فافعلوا. أخرجه أبن بطة في الإبانة .
المطلب الثالث:
ما جاء في التجلي والنظر.
وإليك أخي العزيز ، بقية الأدلة الواردة في هذه المسألة ، وهي صريحة جدا في إثبات الرؤية .
7. عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل...ويقول الله عز وجل ارفع رأسك يا محمد وقل يسمع واشفع تشفع قال فيرفع رأسه فإذا نظر إلى ربه عز وجل). وأخرجه أحمد.
8. عن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل) وفي رواية ثم تلا "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" وأخرجه مسلم في صحيحه وأخرج النسائي نحوه.
9. وخرج الترمذي الحكيم أبو عبدالله رحمه الله: عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزيادتين في كتاب الله؛ في قول "للذين أحسوا الحسنى وزيادة" قال: (النظر إلى وجه الرحمن).
10. وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياماً أربعين سنة، شاخصة أبصارهم، ينتظرون فصل القضاء".قال: "وينزل الله عز وجل في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي مناد: أيها الناس ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم... قال: "فيتمثل الرب تبارك وتعالى فيأتيهم فيقول: ما لكم لا تنطلقون كانطلاق الناس؟ فيقولون: إن لنا لإلهاً ما رأيناه، فيقول: هل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: إن بيننا وبينه علامة إذا رأيناها عرفناها، قال: فيقول: ما هي؟ فتقول: يكشف عن ساقه". قال: "فعند ذلك يكشف عن ساقه فيخر كل من كان نظره،...) رواه كله الطبراني من طرق ورجال أحدها رجال الصحيح غير أبي خالد الدالاني وهو ثقة.قاله في مجمع الزوائد.
11. وعن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن". أخرجه البخاري ومسلم.
12. عن عدي بن حاتم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه حجاب يحجبه ولا ترجمان يترجم له، فيقول: ألم أوتك مالا؟ فيقول: بلى. فيقول: ألم أرسل إليك رسولا؟ فيقول: بلى. فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، وينظر عن يساره فلا يرى إلا النار، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار، فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة". أخرجه البخاري ومسلم.
13. وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله عز وجل ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان"
رواه البزار وفيه عبد العزيز بن أبان وهو متروك.(/8)
14. عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، حتى يريحنا من مكاننا هذا ـ فذكر الحديث ـ وفيه: ثم أشفع فيحد لي حداً. فأخرجهم من النار، وأدخلوهم الجنة. ثم أعود، فأقع ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي، ارفع رأسك يا محمد، قل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع. فارفع رأسي…). وقد جاء عنه من طريق آخر عن أنس أنظر تفسير قوله (ولدينا مزيد). متفق عليه.
15. وأخرج ابن أبي شيبة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل ...فإذا كان يوم القيامة هبط من عليين على كرسيه، ثم حف الكرسي بمنابر من ذهب مكللة بالجوهر، ثم يجيء النبيون حتى يجلسوا عليها، وينزل أهل الغرف حتى يجلسوا على ذلك الكثيب، ثم يتجلى لهم ربهم تبارك وتعالى ثم يقول: سلوني أعطكم، فيسألونه الرضا فيقول: رضاي أحلكم داري وأنا لكم كريم، متى تسألوني أعطكم،.....).وأخرجه بن جرير في التفسير 26/175 والبزار في المسند والآجري في الشريعة.
وأخرج الدارقطني عن أنس مرفوعا( وفيه .... وليسوا إلى شيء أشوق منهم إلى ويوم الجمعة لينظروا إلى ربهم، وليزيدهم من مزيد فضله وكرامته". قال أنس: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بيني وبينه أحد.) .
16. وعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يُسْأَلُ عَنِ الْوُرُودِ. فَقَالَ: نَجِيءُ نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ كَذَا وَكَذَا انْظُرْ أَيْ ذَلِكَ فَوْقَ النّاسِ. قَالَ فَتُدْعَى الأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ. الأَوّلُ فَالأَوّلُ. ثُمّ يَأْتِينَا رَبّنَا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: مَنْ تَنْظُرُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَنْظُرُ رَبّنَا. فَيَقُولُ: أَنَا رَبّكُمْ. فَيَقُولُونَ: حَتّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ. فَيَتَجَلّى لَهُمْ يَضْحَكُ ....)أخرجه مسلم وعبد الرزاق نحوه وكذا الدار قطني .
17. وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"تُحشر الناس فينادي مناد: أليس عدلاً مني أن أولي كل قوم ما كانوا يعبدون؟ ثم ترفع لهم آلهتهم فيتبعونها، حتى لا يبقى أحد غير هذه الأمة، فيقال لهم: ما لكم؟ قالوا: لا نرى إلهنا الذي كنا نعبد، فيتجلى لهم تبارك وتعالى".
فقيل لأبي بردة: والله لسمعت أبا موسى يذكر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: والله الذي لا إله غيره، ثلاث مرات.
رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه فرات بن السائب وهو ضعيف قاله الهيثمي في المجمع.
18. عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما منكم من احد إلا سيخلوا الله به يوم القيامة ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان). اعتقاد أهل السنة ج: 3 ص: 494
وأخرجه ابن خزيمة في التوحيد بسند صحيح .
19. عن أبي رزين قال قلت يا رسول الله أنرى ربنا يوم القيامة قال نعم قال وما آية ذلك في خلقه قال أليس كلكم ينظر إلى القمر ليلة البدر وإنما هو خلق من خلق الله الله أعظم وأجل
أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والطبراني وابن أبي عاصم.
20. عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام يرى أقصاه كما يراه أدناه وإن أرفعهم منزلة لمن ينظر في وجه الله تعالى كل يوم مرتين) في اعتقاد أهل السنة ج: 3 ص:484 وأخرجه أحمد و الترمذي والآجري .
21. عن عمار رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق احييني ما علمت الحياة لي خيرا وتوفني إذا كانت لي الوفاة خيرا اللهم وأسألك كلمة الحلم في الغضب والرضا وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفذ وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ) أخرجه أحمد والنسائي وابن أبي شيبة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
22. وعن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه دعاء وأمره أن يتعاهد أهله به كل صباح ( ....وفي اللهم أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة نظر في وجهك وشوقا إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ...) اخرجه أحمد والحاكم وصححه.
23. عن ابن حلبس عن ام الدرداء أن فضالة بن عبيد كان يدعو يقول:( اللهم أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة وزعم أنها دعوات كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة والطبراني في الكبير والأوسط قال الهيثمي : رجاله ثقات.(/9)
24. عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( قد حدثتكم عن الدجال حتى خشيت أن لا تعقلوا فإن اشكل عليكم منه شيء فاعلموا أنه أعور وأن ربكم ليس بأعور وإنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا ) أخرجه أحمد بسند حسن وابن أبي عاصم والآجري والدارمي في ( الرد على بشر المريسي.
25. عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم له لجابر يا جابر إلا أبشرك قال بلى بشرك الله بخير قال شعرت أن الله أحيا أباك فاقعده بين يديه فقال تمن علي عبدي ما شئت أعطكه قال يا رب ما عبدتك حق عبادتك أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فاقاتل مع نبيك فاقتل فيك مرة أخرى قال انه قد سلف مني انك إليها لا ترجع.
26. أخرجه الحاكم وصححه، و هو في المسند من حديث جابر.
و للترمذي فيه سياق أتم من هذا عن جابر قال لما قتل عبد الله بن عمرو ابن حزام يوم أحد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا جابر إلا أخبرك ما قال الله عز و جل لأبيك قال بلى قال ما كلم الله عز و جل أحدا إلا من وراء حجاب وكلم أباك كفاحا فقال يا عبدي تمن علي أعطك قال يا رب تحييني فاقتل فيك ثانية قال انه سبق مني انهم إليها لا يرجعون قال يا رب فابلغ من ورائي فانزل الله عز و جل هذه الآية و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية قال الترمذي هذا حديث حسن غريب قلت و إسناده صحيح و رواه الحاكم في صحيحه.
27. وعن سلمان الفارسي قال يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون يا نبي الله إن الله فتح بك و ختم بك و غفر لك قم فاشفع لنا إلى ربك فيقول نعم أنا صاحبكم فيخرج يحوش الناس حتى ينتهي إلى باب الجنة فيأخذ بحلقة الباب فيقرع فيقال من هذا فيقال محمد قال فيفتح له فيجيء حتى يقوم بين يدي الله فيستأذن في السجود فيؤذن له ...الحديث.أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف والإمام الذهبي في السير بإسناد صحيح.
28. عن أبي وائل عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم أتاني جبريل فإذا في كفه مرآة كأصفى المرايا وحسنها...... قال فيجتمعون ـ أي أهل الجنة ـ على كلمة واحدة رب وجهك أرنا ننظر إليه قال فيكشف الله تبارك و تعالى تلك الحجب و يتجلى لهم فيغشاهم من نوره لولا انه قضى عليهم أن لا يحترقوا إلا احترقوا مما غشيهم من نوره قال ثم يقال ارجعوا إلى منازلكم قال فيرجعون إلى منازلهم يزاد النور و أمكن و يزاد و أمكن حتى يرجعوا إلى صورهم التي كانوا عليها قال فيقول لهم أزواجهم لقد خرجتم من عندنا على صورة و رجعتم على غيرها قال فيقولون ذلك بأن الله تبارك و تعالى تجلى لنا فنظرنا منه إلى ما خفينا به عليكم قال فلهم في كل سبعة أيام الضعف على ما كانوا فيه قال و ذلك قوله عز و جل ?فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون?.أخرجه البزار وقد روي موقوفا عن حذيفة بسند صحيح أخرجه ابن أبي عاصم والآجري و ابن خزيمة في التوحيد قال الحاكم : وتفسير الصحابي عندنا له حكم الرفع.
29. عن أبي نضرة قال خطبنا ابن عباس فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نبي إلا و له دعوة تعجلها في الدنيا و إني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فآتي باب الجنة فآخذ بحلقة الباب فاقرع الباب فيقال من أنت فأقول أنا محمد فآتي ربي و هو على كرسيه أو على سريره فيتجلى لي ربي فاخر له ساجدا) أخرجه ابن خزيمة في التوحيد وأحمد و الدارمي في الرد على بشر المريسي .
30. وعن ابن عباس عن النبي قال إن اهل الجنة يرون ربهم تبارك و تعالى في كل يوم جمعة في رمال الكافور و أقربهم منه مجلسا أسرعهم إليه يوم الجمعة و ابكرهم غدوا)أخرجه الآجري في الشريعة.
31. عن عبد الله بن عمرو:( خلق الله الملائكة لعبادته أصنافا فان منهم لملائكة قياما صافين من يوم خلقهم إلى يوم القيامة و ملائكة ركوعا خشوعا من يوم خلقهم إلى يوم القيامة و ملائكة سجودا منذ خلقهم إلى يوم القيامة فإذا كان يوم القيامة و تجلى لهم تعالى و نظروا إلى وجهه الكريم قالوا سبحانك ما عبدناك حق عبادتك )أخرجه البيهقي في الرؤية و ابن عساكر.
32. عن أبي بن كعب عن النبي في قوله تعالى للذين احسنوا الحسنى و زيادة قال النظر إلى وجه الله عز و جل) أخرجه الطبري والدارقطني وغيرهما .
33. عن كعب بن عجرة عن النبي في قوله تعالى للذين احسنوا الحسنى و زيادة قال الزيادة النظر إلى وجه الله تبارك و تعالى) أخرجه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات قاله الهيثمي في المجمع.
34. عن أبي الدرداء أن فضالة يعني ابن عبيد كان يقول اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء و برد العيش بعد الموت و لذة النظر إلى وجهك و الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة) أخرجه الطبراني في الكبير و أبن أبي عاصم في السنة بإسناد صحيح.(/10)
35. عن عبادة بن الصامت عن النبي انه قال قد حدثتكم عن الدجال حتى خشيت أن لا تعقلوا إن مسيح الدجال رجل قصير أفحج جعد اعور مطموس العين ليست بناتئة و لا جحراء فإن التبس عليكم فاعلموا أن ربكم ليس بأعور و إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا)أخرجه أحمد بسند حسن.
36. عباد بن منصور قال سمعت عدي بن ارطاة يخطب على المنبر بالمدائن فجعل يعظ حتى بكى .... وفيه قال : و لقد سمعت فلانا ـ نسي عباد اسمه ـ ما بيني و بين رسول الله غيره فقال أن رسول الله قال إن لله ملائكة ترعد فرائصهم من مخافتة ما منهم ملك تقطر دمعته من عينه إلا وقعت ملكا يسبح الله تعالى قال و ملائكة سجود منذ خلق الله السماوات و الأرض لم يرفعوا رؤوسهم و لا يرفعونها إلى يوم القيامة و صفوف لم ينصرفوا عن مصافهم و لا ينصرفون إلى يوم القيامة فإذا كان يوم القيامة فإذا كان يوم القيامة وتجلى لهم ربهم فنظروا إليه قالوا سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك أن نعبدك) أخرجه الخطيب البغدادي في التاريخ و أبو الشيخ في العظمة و قال ابن كثير : إسناده لا بأس به.
المبحث الثالث:
كلام الصحابة والتابعين و الأئمة في الرؤية.
إنه مما لا شك فيه ، أن الصحابة فمن بعدهم ، من التابعين و الأئمة المتبوعين ، خير من فهم القرآن و السنة ، لأنها أنزلت عليهم ، وإلا لزم منه عدم البلاغ منه صلى الله عليه وسلم ، خاصة إذا علمنا أنهم لم يصابوا بداء المنطق والفلسفة ، ولذا فإني سأقسم البحث إلى ثلاثة مطالب :
المطلب الأول:
ما جاء عن الصحابة في ذلك :
1. عن عامر بن سعد قرأ أبو بكر الصديق للذين احسنوا الحسنى و زيادة فقالوا ما الزيادة يا خليفة رسول الله قال النظر إلى وجه الله تبارك و تعالى) أخرجه الطبري و ابن أبي عاصم و الآجري و عبد الله بن أحمد في السنة واللالكائي.
2. عن عمارة ابن عبيد قال سمعت عليا يقول من تمام النعمة دخول الجنة و النظر إلى وجه الله تبارك و تعالى في جنته ) أخرجه أبو حاتم واللالكائي .
3. وعن حذيفة قال الزيادة النظر إلى وجه الله تبارك و تعالى .
4. عن عبد الله بن عكيم قال سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذا المسجد مسجد الكوفة يبدأ باليمين قبل أن يحدثنا فقال و الله ما منكم من إنسان إلا أن ربه سيخلو به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر...) أخرجه الطبراني في الكبير و اللالكائي من طريق أبي عوانة وأخرجه عبد الله بن أحمد في السنة والطبراني من طريق شريك به.
5. قيل لابن عباس كل من دخل الجنة يرى الله عز و جل قال نعم) أخرجه الآجري في الشريعة و ابن أبي حاتم.
6. عن ميمون بن أبي حمزة قال كنت جالسا عند أبي وائل فدخل علينا رجل يقال له أبو عفيف فقال له شقيق بن سلمة يا أبا عفيف إلا تحدثنا عن معاذ بن جبل قال بلى سمعته يقول يحشر الناس يوم القيامة في صعيد واحد فينادي أين المتقون فيقومون في كنف واحد من الرحمن لا يحتجب الله منهم و لا يستتر قلت من المتقون قال قوم اتقوا الشرك و عبادة الأوثان و اخلصوا لله في العبادة فيمرون إلى الجنة)
أخرجه اللالكائي .
7. عن أبي النصر أن أبا هريرة كان يقول لن تروا ربكم حتى تذوقوا الموت) أخرجه اللالكائي .
8. عن ابن عمر قال إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر إلى ملكه ألفي عام يرى أدناه كما يرى أقصاه و إن أفضلهم منزلة لمن ينظر إلى وجه الله في كل يوم مرتين) أخرجه اللالكائي .
9. عن أبي موسى الاشعري انه كان يحدث الناس فشخصوا بأبصارهم فقال ما صرف أبصاركم عني قالوا الهلال قال فكيف بكم إذا رأيتم وجه الله جهرة)أخرجه الآجري في الشريعة و عبد الله في السنة و اللالكائي.
10. عن جابر قال إذا دخل أهل الجنة الجنة و أديم عليهم بالكرامة جاءتهم خيول من ياقوت احمر لا تبول و لا تروث لها أجنحة فيقعدون عليها ثم يأتون الجبار فإذا تجلى لهم خروا له سجدا فيقول يا أهل الجنة ارفعوا رؤوسكم فقد رضيت عنكم لا سخط بعده أخرجه الآجري في الشريعة.
وأنظر ما روي عن الصحابة في تفسير قوله ( وزيادة) و( لدينا مزيد).
قال الطبري فتحصل في الباب ممن روى عن رسول الله من الصحابة حديث الرؤية ثلاث و عشرون نفسا منهم علي و أبو هريرة و أبو سعيد و جرير و أبو موسى و صهيب و جابر وابن عباس و انس و عمار بن ياسر و أبي ابن كعب و ابن مسعود و زيد بن ثابت و حذيفة بن اليمان و عبادة بن الصامت و عدي بن حاتم و أبو رزين العقيلي و كعب بن عجرة و فضالة بن عبيد و بريدة بن الحصيب و رجل من أصحاب النبي .
قال:يحيى بن معين عندي سبعة عشر حديثا في الرؤية كلها صحاح .(/11)
و قال البيهقي روينا في إثبات الرؤية عن أبي بكر الصديق و حذيفة بن اليمان و عبد الله بن مسعود و عبد الله بن عباس و أبي موسى و غيرهم و لم يرو عن أحد منهم نفيها و لو كانوا فيها مختلفين لنقل اختلافهم في ذلك إلينا فلما نقلت رؤية الله سبحانه و تعالى بالأبصار في الآخرة عنهم و لم ينقل عنهم في ذلك اختلاف كما نقل عنهم فيها اختلاف في الدنيا علمنا انهم كانوا على القول برؤية الله بالأبصار في الآخرة متفقين.
المطلب الثاني:
ما روي عن التابعين في الرؤية :
إليك ما روي في مسألة الرؤية عن التابعين الذين أخذوا عن الصحابة الكرام ، الذين هم عصابة الإسلام ، ومن خير القرون كما جاء في الحديث (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم …) :
1. قال سعيد بن المسيب الزيادة النظر إلى وجه الله رواه مالك عن يحيى عنه .
2. و قال الحسن الزيادة النظر إلى وجه الله رواه ابن ابي حاتم عنه.
3. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى الزيادة النظر الى وجه الله تعالى رواه حماد بن زيد عن ثابت عنه.
4. و قاله عامر بن سعد البجلي ذكره سفيان عن أبي إسحاق عنه و قاله عبد الرحمن ابن سابط رواه جرير بن ليث عنه و قاله عكرمة و مجاهد و قتادة و السدي و الضحاك و كعب.
5. و كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله: أما بعد فاني أوصيك بتقوى الله و لزوم طاعته و التمسك بأمره و المعاهدة على ما حملك الله من دينه و استحفظك من كتابه فإن بتقوى الله نجا أولياء الله من سخطه و بها رافقوا أنبياءه و بها نضرت وجوههم و نظروا إلى خالقهم و هي عصمة في الدنيا ومن الفتن و من كرب يوم القيامة.
6. و قال الحسن لو علم العابدون في الدنيا انهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت أنفسهم في الدنيا.
7. و قال الأعمش و سعيد بن جبير: أن اشرف أهل الجنة لمن ينظر إلى الله تبارك و تعالى غدوة و عشية.
8. و قال كعب: ما نظر الله سبحانه إلى الجنة قط إلا قال طيبي لأهلك فزادت ضعفا على ما كانت حتى يأتيها أهلها و ما من يوم كان لهم عيد في الدنيا إلا و يخرجون في مقداره في رياض الجنة فيبرز لهم الرب تبارك و تعالى فينظرون إليه و تسفى عليهم الريح المسك و لا يسألون الرب تعالى شيئا إلا أعطاهم حتى يرجعوا و قد ازدادوا على ما كانوا عليه من الحسن و الجمال سبعين ضعفا ثم يرجعون إلى أزواجهم و قد ازددن مثل ذلك.
9. و قال هشام بن حسان: أن الله سبحانه و تعالى يتجلى لأهل الجنة فإذا رآه أهل الجنة نسوا نعيم الجنة.
10. و قال طاووس: أصحاب المراء و المقاييس لا يزال بهم المراء و المقاييس حتى يجحدوا الرؤية و يخالفوا أهل السنة.
11. و قال شريك عن أبي إسحاق السبيعي الزيادة النظر إلى وجه الرحمن تبارك و تعالى.
12. و قال حماد بن زيد عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى :انه تلى هذه الآية للذين احسنوا الحسنى و زيادة قال إذا دخل أهل الجنة الجنة أعطوا فيها ما سألوا و ما شاؤا فيقول الله عز و جل لهم انه قد بقي من حقكم شيء لم تعطوه فتجلى لهم ربهم فلا يكون ما أعطوه عند ذلك بشيء فالحسنى الجنة و الزيادة النظر إلى وجه ربهم عز و جل و لا يرهق وجوههم قتر و لا ذلة بعد نظرهم إلى ربهم تبارك و تعالى.
13. و قال علي بن المديني سألت عبد الله بن المبارك عن قوله تعالى فمن كانا يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا قال عبد الله :من أراد النظر إلى وجه الله تبارك و تعالى خالقه فليعمل عملا صالحا و لا يخبر به أحدا.
14. و قال نعيم بن حماد سمعت ابن المبارك يقول: ما حجب الله عز و جل أحدا عنه إلا عذبه ثم قرأ كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم انهم لصالوا الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون قال بالرؤية ذكره ابن أبي الدنيا عن يعقوب عن إسحاق عن نعيم.
15. و قال عباد بن العوام قدم علينا شريك بن عبد الله منذ خمسين سنة فقلت له يا أبا عبد الله أن عندنا قوما من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث أن الله ينزل إلى السماء الدنيا وأن أهل الجنة يرون ربهم فحدثني بنحو عشرة أحاديث في هذا و قال: أما نحن قد أخذنا ديننا هذا عن التابعين عن أصحاب رسول الله فهم عمن اخذوا.
16. و قال عقبة بن قبيصة أتينا أبا نعيم يوما فنزل إلينا من الدرجة التي في داره فجلس وسطها كأنه مغضب فقال حدثنا سفيان ابن سعيد و منذر الثوري و زهير بن معاوية و حدثنا حسن بن صالح بن حي و حدثنا شريك بن عبد الله النخعي هؤلاء أبناء المهاجرين يحدثوننا عن رسول الله أن الله تبارك و تعالى يرى في الآخرة حتى جاء ابن يهودي صباغ يزعم أن الله تعالى لا يرى يعني بشر المريسي.
وكذا وأنظر ما روي عن التابعين في تفسير قوله ( وزيادة) و( لدينا مزيد).
المطلب الثالث:
ما روي عن الأئمة المتبوعين في الرؤية:
إليك أخي الكريم ، ما ورد عن الأئمة المتبوعين ، في مسألة الرؤية ، الذين شهدت لهم الأمة بالعدالة والعلم ، والمعرفة بالدين ، والذين أجمعت الأمة على أنهم بلغوا رتبة الاجتهاد :(/12)
1. قال مالك بن انس الناس ينظرون إلى ربهم عز و جل يوم القيامة بأعينهم و قال الحارث بن مسكين حدثنا أشهب قال سئل مالك بن انس عن قوله عز و جل ?وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ? أتنظر إلى الله عز و جل قال نعم فقلت إن أقواما يقولون تنظر ما عنده قال بل تنظر إليه نظرا و قد قال موسى يا رب ارني انظر إليك قال لن تراني و قال الله تعالى كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون.
و ذكر الطبري و غيره انه قيل لمالك بن انس انهم يزعمون أن الله لا يرى فقال مالك السيف السيف.
2. ذكر قول ابن الماجشون قال أبو حاتم الرازي قال أبو صالح كاتب الليث أملى على ابن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون و سألته عما جحدت الجهمية فقال لم يزل يملي الشيطان حتى جحدوا قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة فقالوا لا يراه أحد يوم القيامة فجحدوا و الله افضل كرامة الله التي اكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه و نضرته إياهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر فورب السماء و الأرض ليجعلن رؤيته يوم القيامة للمخلصين له ثوابا لينضر بها وجههم دون المجرمين و تفلح بها حجتهم على الجاحدين و هم عن ربهم يومئذ لمحجوبون لا يرونه كما زعموا أنه لا يرى و لا يكلمهم و لا ينظر إليهم و لهم عذاب اليم.
3. ذكر قول الليث بن سعد قال ابن أبي حاتم حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث حدثنا الهيثم بن خارجة قال سمعت الوليد بن مسلم يقول سالت الاوزاعي و سفيان الثوري و مالك بن انس و الليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤية فقالوا تمر بلا كيف.
4. قول سفيان بن عيينة ذكر الطبري و غيره عنه انه قال من لم يقل أن القران كلام الله و أن الله يرى في الجنة فهو جهمي و ذكر عنه ابن أبي حاتم انه قال يصلي خلف الجهمي و الجهمي الذي يقول لا يرى ربه يوم القيامة.
5. قول جرير بن عبد الحميد ذكر ابن أبي حاتم عنه انه ذكر حديث ابن سابط في الزيادة إنها النظر إلى وجه الله فأنكره رجل فصاح به و أخرجه من مجلسه.
6. قول عبد الله بن المبارك ذكر عبد الرحمن بن أبي حاتم عنه إن رجلا من الجهمية قال له يا أبا عبد الرحمن خدارا بان جهان جون ببيند و معناه كيف يرى الله يوم القيامة فقال بالعين.
و قال ابن أبي الدنيا حدثنا يعقوب بن إسحاق قال سمعت نعيم بن حماد يقول سمعت بن المبارك يقول ما حجب الله عنه أحدا إلا عذبه ثم قرأ كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون قال ابن المبارك بالرؤية.
7. قول وكيع بن الجراح ذكر ابن أبي حاتم عنه أنه قال يراه تبارك و تعالى المؤمنون
في الجنة و لا يراه إلا المؤمنون.
8. قول قتيبة بن سعيد ذكر ابن أبي حاتم عنه قال قول الأئمة المأخوذ في الإسلام و السنة و الإيمان بالرؤية و التصديق بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله في الرؤية.
9. قول أبي عبيد القاسم بن سلام ذكر ابن بطة و غيره عنه انه إذا ذكرت عنده هذه الأحاديث التي في الرؤية فقال هي عندنا حق و رواها الثقات عن الثقات إلى أن صارت إلينا إلا أنا إذا قيل لنا فسروها لنا قلنا لا نفسر منها شيئا و لكن نمضيها كما جاءت.
10. قول اسود بن سالم شيخ الإمام احمد قال المروزي حدثنا عبد الوهاب الوراق قال سألت اسود بن سالم عن أحاديث الرؤية فقال: احلف عليها بالطلاق و بالمشي إنها حق.
11. قول محمد ابن إدريس الشافعي قد تقدم رواية الربيع عنه: انه قال في قوله تعالى:? كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ? لما حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على ان اولياءه يرونه في الرضا قال الربيع فقلب يا ابا عبد الله ونقول به قال نعم وبه ابن الله ولو لم يوقن محمد بن ادريس انه يرى الله عز و جل لما عبده و قال ابن بطة حدثنا ابن الانباري حدثنا أبو القاسم الأنماطي صاحب المزني قال قال الشافعي رحمه الله ?كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون? دلالة على إن أولياء الله يرونه يوم القيامة بأبصارهم و وجوههم .
12. قول إمام السنة احمد بن حنبل قال إسحاق بن منصور قلت لأحمد أليس ربنا تبارك و تعالى يراه أهل الجنة أليس تقول بهذه الأحاديث قال احمد صحيح قال ابن منصور و قال إسحاق بن راهويه صحيح و لا يدعه إلا كل مبتدع أو ضعيف الرأي.
13. و قال الفضل بن زياد سمعت أبا عبد الله و قيل له تقول بالرؤية فقال من لم يقل بالرؤية فهو جهمي قال سمعت أبا عبد الله و بلغه عن رجل انه قال إن الله لا يرى في الآخرة فغضب غضبا شديدا ثم قال من قال إن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر عليه لعنة الله وغضبه من كان من الناس أليس يقول الله عز وجل ?وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة? وقال ?كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون? .
14. وقال أبو داود سمعت احمد وذكر له عن رجل شيء في الرؤية فغضب وقال من قال إن الله لا يرى فهو كافر.(/13)
15. وقال إسحاق بن ابراهيم بن هانئ سمعت ابا عبد الله يقول من لم يؤمن بالرؤية فهو جهمي و الجهمي كافر و قال يوسف بن موسى بن محمد القطان قيل لأبي عبد الله أهل الجنة ينظرون إلى ربهم تبارك و تعالى و يكلمونه و يكلمهم قال نعم ينظر اليهم و ينظرون اليه و يكلمهم و يكلمونه كيف شاؤوا إذا شاءوا قال حنبل ابن اسحاق سمعت ابا عبد الله يقول القوم يرجعون إلى التعطيل في اقوالهم ينكرون الرؤرية و الاثار كلها و ما ظننتم على هذا حتى سمعت مقالاتهم و من زعم ان الله لم يتخذ ابراهيم خليلا فقد كفر و رد على الله قوله قال ابو عبد الله فنحن نؤمن بهذه الاحاديث و نقرها و نمرها كما جاءت.
16. و قال الاثرم سمعت ابا عبد الله يقول فأما من يقول ان الله لا يرى في الاخرة فهو جهمي قال ابو عبد الله و إنما تكلم من تكلم في رؤية الدنيا و قال حنبل سمعت ابا عبد الله يقول ادركنا الناس و ما ينكرون من هذه الاحاديث شيئا احاديث الرؤية و كانوا يحدثون بها على الجملة يمرونها على حالها غير منكرين لذلك و لا مرتابين و قال ابو عبد الله قال الله تعالى و ما كان لبشر ان يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا و كلم الله موسى من وراء حجاب فقال رب ارني انظر اليك قال لن تراني و لكن انظر إلى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني فاخبر الله عز و جل ان موسى يراه في الآخرة و قال كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون و لا يكون حجاب إلا لرؤية اخبر الله سبحانه و تعالى إن شاء الله و من اراد ان يراه و الكفار لا يرونه قال حنبل و سمعت ابا عبد الله يقول قال الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة و الاحاديث التي تروى في النظر إلى الله تعالى حديث جابر بن عبد الله و غيره و تنظرون إلى ربكم احاديث صحاح و قال للذين احسنوا الحسنى و زيادة النظر إلى وجه الله تعالى قال حنبل قلت لأبي عبد الله في احاديث الرؤية فقال هذه صحاح نؤمن بها و نقر بها و كلما روى عن النبي اسناده جيد اقررنا به قال ابو عبد الله إذا لم نقر بما جاء عن النبي و دفعناه و رددنا على الله امره قال الله عز و جل و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا قول اسحاق بن راهويه ذكر الحاكم و شيخ الاسلام و غيرهما عنه ان عبد الله بن طاهر امير خراسان سأله فقال يا ابا يعقوب هذه الاحاديث التي يروونها في النزول و الرؤية ما هن فقال رواها من روى الطهارة و الغسل و الصلاة و الاحكام و ذكر اشياء فان يكونوا في هذه عدولا و إلا فقد ارتفعت الاحكام و بطل الشرع فقال شفاك الله كما شفيتني أو كما قال قول جميع أهل الايمان.
17. قول المزني ذكر الطبري في السنة عن إبراهيم عن أبي داود المصري قال كنا عند نعيم بن حماد جلوسا فقال نعيم للمزني ما تقول في القرآن فقال أقول انه كلام الله فقال غير مخلوق فقال غير مخلوق قال و تقول أن الله يرى يوم القيامة قال نعم فلما افترق الناس قام إليه المزني فقال يا أبا عبد الله شهرتني على رؤوس الناس فقال إن الناس قد اكثروا فيك فأردت أن أبرئ.
حكم الأئمة في منكري الرؤية
و قال ابراهيم بن زياد الصائغ سمعت احمد بن حنبل يقول: الرؤية من كذب بها فهو زنديق .
قال حنبل و سمعت أبا عبد الله (أي: أحمد بن حنبل) يقول: من زعم ان الله لا يرى في الآخرة فهو جهمي فقد كفر و رد على الله و على الرسول.
وقال أبو داود وسمعت احمد بن حنبل وقيل له في رجل يحدث بحديث عن رجل عن أبي العطوف إن الله لا يرى في الآخرة فقال لعن الله من يحدث بهذا الحديث
اليوم ثم قال أخزى الله هذا.
وقال أبو بكر المرزوي قيل لأبي عبد الله تعرف عن يزيد بن هارون عن أبي العطوف عن أبي الزبير عن جابر إن استقر الجبل فسوف تراني وإن لم يستقر فلا تراني في الدنيا ولا في الآخرة فغضب أبو عبد الله غضبا شديدا حتى تبين في وجهه وكان قاعدا و الناس حوله فأخذ نعله و انتعل و قال أخزى الله هذا لا ينبغي ان يكتب و دفع ان يكون يزيد بن هارون رواه أو حدث به و قال هذا جهمي كافر خالف ما قال الله عز وجل ?وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ?و قال?كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون? أخزى الله هذا الخبيث قال أبو عبد الله و من زعم ان الله لا يرى في الآخرة فقد كفر.
و قال ابو طالب قال ابو عبد الله قول الله عز وجل: ?هل ينظرون ألا إن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة? ?وجاء ربك والملك صفا صفا? فمن قال إن الله لا يرى فقد كفر.
قال أبو عبد الله نؤمن بها و نعلم أنها حق أحاديث الرؤية و نؤمن بأن الله يرى نرى ربنا يوم القيامة لا نشك فيه ولا نرتاب قال وسمعت أبا عبد الله يقول: و من زعم أن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر بالله و كذب بالقرآن ورد على الله أمره يستتاب فإن تاب و إلا قتل(/14)
روى ابن أبي حاتم عن الأوزاعي أنه قال إني لأرجو أن يحجب الله عز و جل جهما و أصحابه عن افضل ثوابه الذي وعده الله عز و جل أولياءه حين يقول وجوه يومئذ ناضرة إلى بها ناظرة فجحد جهم و أصحابه افضل ثوابه الذي وعده الله أولياءه.
خلاصة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
وعن الصحابة والتابعين في رؤية
المؤمنين الرب عز وجل
يوم القيامة.
وروي ذلك من الصحابة
عن أبي بكر وعلي بن أبي طالب وابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي موسى وابن عباس وابن عمر وأبي أمامة ومعاوية وأبي هريرة وجابر وحذيفة وأنس بن مالك وعمار بن ياسر وزيد بن ثابت وفضالة بن عبيد ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن التابعين
سعيد بن المسيب وطاووس ومجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي وكعب قالأحبار وأبو العالية والحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى وقتادة وعبد الرحمن بن سابط وأبي إسحاق السبيعي والربيع بن أنس وإبراهيم ويزيد بن أبي مالك وعبد الواحد بن يزيد النصري والضحاك بن مزاحم وعبد العزيز بن عمر الزاهد وابن الربيع السايح وأبي سنان .
ومن الفقهاء
مالك بن انس والليث بن سعد والأوزاعي وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وشريك بن عبد الله النخعي وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وخارجة بن مصعب وجرير بن عبد الحميد وعبد الله بن المبارك ووكيع ويزيد بن هارون ومحمد بن إدريس الشافعي وأبي نعيم الفضل بن دكين وسليمان بن حرب وأبو النضر هاشم بن القاسم وعبد الله بن وهب المصري وعلي بن الحسن بن شقيق وهشام بن عبيد الله الرازي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وأبو عبيد وأبو ثور وأحمد بن صالح المصري ونعيم بن حماد المروزي وأبو إبراهيم المزني ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم ومحمد بن جرير الطبري وابن خزيمة وعبد الرحمن بن أبي حاتم.
المبحث الرابع
أصول مقررة للرد على نفاة الرؤية.
وقد ذكر أئمة الأصول والتفسير قواعد مقررة ، متفق عليها بين الأمة ، يستطيع المستوعب لها الرد على نفاة الرؤية ، وقد ذكرتها في ثلاثة مطالب :
المطلب الأول:
الأصل في فهم النص الأخذ بالظاهر.
ذكر علماء أصول الفقه في دلالات الألفاظ ، أن النص إذا دل على معنى ظاهر ، متبادر من اللفظ أنه لا يجوز العدول عن الأخذ بظاهره إلا بقرينة فقول الله تعالى: ? وجوة يومئذ ناضرة ...إلى ربها ناظرة? لا يجوز أن يقال منتظرة أو ناظرة إلى ثواب ربها و لا غير ذلك لماذا؟
لأنه عدول عن ظاهر الآية بدون قرينة ، ولا يصح أن يكون العقل هنا قرينة صارفة عن الأخذ بالظاهر ، لأنه لا مجال له في معرفة الغيبيات ، إنما تعرف من النص القرآني أو اللفظ النبوي .
تأمل في تفسير الإمام اللالكائي قال:معنى قوله إلى ربها ناظرة أنها رائية ترى الله عز وجل ولا يجوز أن يكون معناه إلى ثواب ربها ناظرة لأن ثواب الله غير الله وإنما قال الله عز وجل إلى ربها ولم يقل إلى غير ربها ناظرة والقرآن على ظاهره وليس لنا أن نزيله عن ظاهره إلا بحجة ألا ترى
أنه لما قال فاذكروني أذكركم واشكروا لي لم يجز أن يقال أراد ملائكتي ورسلي ثم نقول إن جاز لكم أن تدعوا هذا في قوله إلى ربها ناظرة جاز لغيركم أن يدعيه في قوله لا تدركه الأبصار فيقول أراد بها لا تدرك غيره ولم يرد أنها لا تدركه الأبصار وإذا لم يجز ذلك لم يجز هذا.وهكذا يقال في سائر النصوص الظاهرة من القرآن والسنة.
المطلب الثاني:
الأصل حمل الكلام على الحقيقة .
إذا استخدمت العرب معنى فيما وضعوه له كقوله( إلى ربها ناظرة) فإن النظر هنا يحمل على الحقيقة ولا يجوز العدول عنه إلى( منتظرة أو غيرها) إلا بقرينة صارفة إلى المعنى المجازي ، هذا على من يقول بوجود المجاز في لغة العرب ، ولا قرينة هنا ، ولا تصح دلالة العقل لما قلناه في الكلام السابق، وهذا على جهة المثال.
وينبغي هنا أن يتنبه لمسألة وهي أنه إذا جاء لفظ يدل على الحقيقة في نص ،وجاء ذلك اللفظ في نص آخر يدل على المعنى المجازي، فأنه لا يُعدل اللفظ من دلالته على الحقيقة إلى المجاز لمجرد أنه جاء مجازاً في نص آخر ، فمثلا : ?وجوة...إلى ربها ناظرة? في الآية هي اسم فاعل من الفعل ( نظر) وقد جاء ( ناظر) في قوله تعالى على لسان بلقيس ? فناظرة بما يرجع المرسلون? بمعنى منتظرة على قول عند أهل التفسير، ومجرد أن ( ناظرة) جاءت بمعنى (منتظرة) لا يُجوز صرفها إلى الانتظار بدون قرينة ، فأين القرينة هنا ؟ والعقل لا مجال له في الغيب ،
وعلى ذلك فقس في سائر دلائل النصوص في القرآن و السنة.
المطلب الثالث:
التواتر حجة قاطعة.
قال الإمام النووي في شرح مسلم3/15:(/15)
اعلم أن مذهب أهل السنة بأجمعهم أن رؤية الله تعالى ممكنة غير مستحيلة عقلا وأجمعوا أيضا على وقوعها في الآخرة وأن المؤمنين يرون الله تعالى دون الكافرين...وقال:وقد تظاهرت أدله الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين ورواها نحو عشرين صحابيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآيات القرآن فيها مشهورة.
قال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب التوحيد: إن المؤمنين لم يختلفوا أن المؤمنين يرون خالقهم يوم المعاد و من أنكر ذلك فليس بمؤمن عند المؤمنين.
والأحاديث النبوية في ذلك نصوص متواترة في محل النزاع ولذا قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء بعد الكلام على مسألة الرؤية10 / 455:
قلنا وللكل موقف بين يدي الله تعالى،يا سبحان الله أحاديث رؤية الله في الآخرة متواترة والقرآن مصدق لها ، فأين الإنصاف ؟
أخي القارئ العزيز ، الأحاديث كما رأيت ، قد جاءت من ست وثلاثين طريقاً عن ثلاثين صحابياً و ما جاء هكذا فإنه يسمى متواتر عند أهل مصطلح الحديث و أصول الفقه باتفاق و هو حجة قاطعة في المسألة لا يجوز مخالفته عند جميع أهل الإسلام.
فهل تترك هذا النصوص الجلية لقول فلان أو علان كائنا من كان؟
المطلب الرابع:
من أعلى درجات التفسير.
إن من مهام النبي صلى الله عليه وسلم وتمام بلاغه ، بيانه للقرآن ، وهو من أعلى درجات التفسير لأن الله تعالى قال( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) وهذا أمر مقرر عند من لديه أدنى درجات العلم لا ينكره أحد .
وأنت ترى أخي الحبيب ، أنه قد ثبت بالتواتر عنه صلى الله عليه وأله وسلم القول بالرؤية عن ست وثلاثين صحابيا فهل يا ترى يمتري بعد هذا ذو لب .
خاتمة البحث.
وقبل أن أنتهي من البحث أود أن أقول أمور وهي:
1ـ أخي الحبيب إذا تأملت في كلام النفاة للرؤية فستجده هذا مش معقول ؟
يلزم من إثبات أن يكون جسماً ، والله ليس بجسم....الخ .
فالجواب :
يقال له: الذي لم يسعه عقلك الضيق ، قد وسعه عقول خير القرون ، الصحابة والتابعين وأتباع التابعين والأئمة المتبوعين ، فماذا يعني عقلك القاصر ؟
ولم يفهموا من إثبات الرؤية الجسم ، إلا أن تقول أنه لا عقول لهم .
وهل أنت أعلم بمراد الله أم الله أعلم؟
وهل أنت أفهم أم رسول الله أفهم ؟ وكذا يقال في فهم الصحابة فمن بعدهم .
و من أين جئت بلفظ الجسم ؟ وأن معناه أنه ذات له أجزاء،مع أنه في اللغة البدن كما قال الجوهري في الصحاح وغيره ؟
ومن قال أن إثبات الرؤية يلزم منه أن الله مخلوق ؟ أو جسم كما تزعم ؟
2ـ من كان له أدنى معرفة ، بعلوم المنطق و الفلسفة ، مع معرفته بعلوم الشريعة ، يتأكد أن هذا المصطلحات المذكورة ، فيها حق و باطل ، وقد نهينا عن ذلك ، في قوله تعالى ?يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا …? لأن في (راعنا) معنى باطل ، وإن كان عند العرب له معنى صحيح، وكذلك لفظة (الجسم) لما تضمنت معنى آخر لا تعرفه العرب ، فلا يجوز أن يفسر القرآن بها ، لأنها تضمنت معنى باطلا.
3ـ لو كان علم الفلسفة والمنطق ، يهدي إلى الحق ؛ لهدى اليونان الذي أصلوه ، ورتبوا قواعده ، ونظموا مسائله.
4ـ لو كان علم الفلسفة والمنطق ضرورياً ، لمعرفة أصول الدين ومسائل العقائد ، لكان من الواجب على النبي صلى الله عليه وأله وسلم أن يعلم أمته ذلك ، و لو لم يفعل لأدى إلى القول بأن الدين غير كامل ، كيف وقد قال الله تعالى:
?اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا? ؟
5ـ هل يقال أن القرون الأولى الصحابة والتابعين فمن بعدهم ، لم يعرفوا أصول الدين لأنهم يجهلون علم المنطق والفلسفة أو أنه لم يصل إليهم ؟
فاتق الله يا أخا الإسلام ، وسر على نهج النبي صلى الله عليه وسلم و أله الأطهار، و صحابة الكرام ، إن كنت تريد النجاة و الفلاح ، فبهداهم اقتد ، و على نهجهم امض ، ?وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) ? إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد?.
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم
على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين والله أعلم
?
(1)قال الإمام اللالكائي في شرح الاعتقاد (1 / 122)(/16)
ٌ أي : أن لفظة ( لا تدركه..) لو لم نحملها على الإحاطة وحملناها على الرؤية وأنه يدل عمومها على عدم الرؤية في الدنيا والآخرة لكان الواجب جمعا بين الأدلة تخصيصها بقوله تعالى:( وجوه....إلى ربها ناظرة) فيكون المعنى : لا تدركه الأبصار في الدنيا وقوله تعالى( وجوه......إلى ربها ناظرة) تدل على الرؤية في الآخرة و عموم (لا تدركه) في عدم الرؤية في الآخرة قد عارضه خصوص قوله تعالى ( وجوه......إلى ربها ناظرة) وإذا تعارض خاص وعام فإنه يقضى بالخاص على العام وعندها لا تدل آية ( لا تدركه) على عدم الرؤية يوم القيامة، قال الطبري: وصح أن قوله لا تدركه الأبصار على الخصوص لا على العموم وأن معناه لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة إذ كان الله قد استثنى ما استثنى منه بقوله وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة .
في شرح الاعتقاد : 1 / 122(/17)
الرئيس المبشر
لا أقولها من باب التهكم ، حاشاي - وإن كنت لا أخفي أنها رسالة " مبشرة" بالرئيس الداعية " الذي يتمناه بعض الحالمين ، ولم لا ؟ ألسنا نستورد الديموقراطية والعولمة والثقافة والعلم و" التحرير" والسلاح ، والدستور ، والقمح ؟ فلم لا نستورد " صفات الرؤساء" ؟
ووصف الرئيس المبشر كان موضع الملاحظة من كثيرين عندما وصفوا- خطابه في مؤتمر شرم الشيخ الذي انعقد في 3\ 6\2003 ( بأنه كان خطابا تبشيريا ) وهم يعبرون بذلك عن شيء من خيبة الأمل ، وإن كان مصحوبا بتفهم مع ابتسامة خفية من بعض كبار المعلقين .
إنه الرئيس جورج دبليو بوش رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ، الذي كان يظن البعض أنه رئيس أكبر دولة علمانية في العصر الحديث ، فإذا بهم يفاجئون به يلقي عليهم - من فوق منصة أكبر دولة مسيحية في التاريخ - خطابا تبشيريا يحدثهم عن الخير والشر والأخيار والأشرار . وها نحن في بداية القرن الحادي والعشرين نصحو من نعاس طويل على الامبراطورية الأمريكية ، وقد تحولت إلى ثكنة صليبية .
نجد ذلك صريحا في التقرير الذي نشرته مجلة " دير شبيجل " المجلة الأولى في ألمانيا وإحدى أهم المجلات الأسبوعية الأوربية والعالمية – حسب تعبير الأستاذ مصطفى بكري الذي لخصه لنا في جريدته الأسبوع بتاريخ 24\ 2\ 2003 - جزاه الله عنا خيرا وعفا عنه - تحت عنوان " الحرب الصليبية والعجز العربي " – كتبه كل من " هانز هوينج " و " جير هارد شبرول " نشر في عددها بتاريخ 17\ 2\ 2003 بعنوان " في مهمة إلهية حرب جورج بوش الصليبية "
بدأها الكاتبان بالتأكيد على أن الرئيس بوش "المبشر "لا يريد باجتياحه بغداد إلا أن يقوم بتنفيذ تكليف إلهي " ، ويضيف التقرير أن واشنطن صارت مدينة الورع والتقوى ، وان الشعائر الدينية تقام داخل البيت الأبيض إلى الحد الذي تبدأ فيه جلسات الحكومة بالصلاة ، ( اللهم لا حسد ) حيث يطلب “ الرئيس بوش المبشر “من وزرائه التمتمة بعبارات دينية بتركيز شديد ، يقوم فيه جميع من بالمكان بتشبيك أيديهم وإغلاق أعينهم وخفض رؤوسهم إلى الأسفل انحناء وورعا .
وتضيف المجلة أن حركة الإنجيليين الجدية تكتسح البيت البيض ، فالقس ديفيد فروم هو الذي يقوم بكتابة الكلمات التي يلقيها الرئيس ، وهو يقول إن الرئيس يقرأ الإنجيل يوميا ، ويتحدث عن أشياء جديدة تعطيه القوة بصفة دائمة ، ويؤكد ذلك قائلا : ( إنني أصلي ، إنني أصلي لأحصل على القوة والإرشاد ) وهو يقدم نفسه كواعظ قائلا ( إنني مقتنع بأن الله وضعني في منصبي في هذه اللحظة التاريخية ، وأرجو أن أكون قويا بما يكفي لتحمل هذه المهمة المقدسة ) وتعلق المجلة على ذلك بقولها " إن البيت الأبيض لا يمثل فقط قلب وعقل القوة العظمى اليوم ، بل هو أيضا مكان تجمع الأتقياء والمتدينين "
وتنهي دير شبيجل تقريرها بعبارة قالها بوش للبحرية الأمريكية في فلوريدا بتاريخ 13\2\2003 بقوله ( نريد أن نكون بلدا فوق الجميع ) مستندا في ذلك إلى مفاهيم إنجيلية قد سبق لعديد من الرؤساء الأمريكيين الحديث عنها وهي أن " البشرية بكاملها يجب أن تنظر لأمريكا كيوتوبيا واقعية لمدينة القدس السماوية كمدينة إلهية على الأرض "
وتضيف المجلة في تقريرها أن من تولى إعادة تأهيل بوش بعد ماضيه في إدمان الكحول هو القس " بيلي جراهام " النجم الأكبر لحركة البعث البروتستانتي اليمينية المتطرفة ، وتقول المجلة " إنه منذ ذلك الوقت أصبح بوش واحدا من الستين مليون أمريكي الذين يؤمنون " بالولادة الثانية للمسيح "
ويذكر التقرير أن الولادة الثانية لبوش كانت يوم 11 سبتمبر 2001 حيث كان حتى هذا اليوم حاكما بلا هدف ، ولكن الهجوم على نيويورك وواشنطن أعطيا رئاسته الهدف النبيل ، بعدها بدأ في الحديث بمصطلحات دينية مثل " معركة الخير ضد الشر " و " العدالة الأبدية " و " الحرب الصليبية " ثم " مصطلح الشر " الذي بدأ يضع فيه أعداءه خاصة إيران وكوريا الشمالية والعراق ( قبل الاحتلال ) ، ورغم أن هناك أهدافا أخرى له في العراق إلا أن مهمته التبشيرية أو ما يسميه التكليف الإلهي له أثر أعمق في هذه الحرب ، فهو يؤدي إلى سيطرة نوع من " الراديكالية الورعة "
ويقول القس الأمريكي " فريتس ريتسش " في مقال له في الواشنطن بوست عن " الرب والإنسان في المكتب البيضاوي " : ( لقد وجدت مجموعة الهوس الديني - التي تسمى نفسها : اليمين المسيحي الصهيوني على حد تعبير القس فريتس - " قائدا على منوال شخصية داود الإنجيلية يوحد مطامحهم السياسية ، وهذا القائد هو جورج بوش الذي يؤمن بالفعل بأنه " مبعوث العناية الإلهية " ليقودهم في حرب …تستهدف المسلمين لأنهم الذين يشكلون الخطر الأكبر على عودة المسيح إلى الأرض ، وأن هؤلاء المسلمين لا يتبعون ملة دينية ، وإنما يتبعون رجلا اسمه محمد ) .(/1)
وفي حاشية “ الرئيس بوش المبشر “يقبع القس بيلي جراهام الذي يؤمن بالمسيحية الصهيونية ، والذي استطاع - وابنه فرانكلين الذي أصبح فيما بعد من أعز أصدقاء بوش - إقناع بوش بعد شفائه من إدمان الكحول والمخدرات بالانضمام إلى طائفة " الميسوديت " وهي طائفة بروتستانتية إنجيلية تؤمن بالتحالف الصهيوني المسيحي …ضد المسلمين ، وكان بوش دائم التردد على الكيان الصهيوني لأن الميسوديت " تعتبر أن أرض الكيان الصهيوني هي البقعة المباركة في العالم ، وأن المسيحية الحق- حسب عقيدة الميسوديت – جاءت لتقيم هذا التحالف لإنقاذ العالم من خلال الاعتماد على التوراة والإنجيل " الحق " !!
وتردد المعلومات أن توني بلير رئيس الوزراء البريطاني انضم إلى هذه الطائفة منذ ثلاثة أعوام ، أي حوالي 1999عام .
ويرى أتباع هذا المذهب أن الوقت قد حان لظهور المسيح منذ عام 2000 ، وأن المسيح لن يستطيع أن يخرج إلى النور طالما ظل المسجد الأقصى قائما ، فالهيكل المقدس لا بد وأن يتم بناؤه على أنقاض هذا المسجد ، وقد تبرع الكثيرون وفي المقدمة منهم بوش وبلير من أجل صنع أعمدة هذا الهيكل ، وتزيينه وتم الانتهاء من رسوماته وتصميمه ، وقد وافق شارون – رئيس وزراء الكيان الصهيوني المحتل للأرض الفلسطينية - على اعتماد التصميم الأمريكي الذي وافق عليه بوش لإقامة الهيكل .
ولقد وصلت التوجهات البوشية التبشيرية إلى درجة التطرف والعنف الديني ، مما يجعلها إرهابا بامتياز .
وهذا ما نستدل عليه مما جاء بتقرير - مجلة دير شبيجل الألمانية الذي سبقت الإشارة إليه - إذ يتحدث : عن بعض رجال البيت الأبيض في عهد “ الرئيس بوش المبشر “فيقول : وأهم هؤلاء "بول فولفو فيتز" نائب وزير الدفاع الأمريكي ، وريتشارد بيرل ، مستشار وزارة الدفاع الأمريكية ، اللذان يريان أن السيطرة على بغداد – وقد تمت هذه الخطوة - ستكون ضمانا لأمن الأراضي المقدسة " يقصدون الكيان الصهيوني " وهذا ما تدعمه مجموعة كنائس بابست الشمالية التي تضم 41500 كنيسة يتبعها 16 مليون عضو ، وهو ما يمثل نواة أكثر الأصوليين المسيحيين تطرفا ، بل إن ريتشارد لاند رئيس مفوضية الحرية الأخلاقية والدينية ، لكنائس " بابست " في الولايات الجنوبية برر الحرب على العراق في أحد مقالاته على خلفية أسباب دينية بقوله " قيادة حر ب عادلة هي عمل مسيحي ، يقوم على الإيثار !! فالأشرار يجب أن يعاقبوا ، والأخيار يجب أن يكافأوا ، لقد جاء وقت العنف "
ويقول التقرير مما يعتبر بيانا لانتشار توجهات “ الرئيس بوش " المبشر " في بلاده وتعبيرها عن الغالبية فيها ( إن “ الرئيس بوش “يعكس بصورة دقيقة تماما طبيعة بلده الذي يحكمه ، فنسبة المؤمنين في الولايات المتحدة تصل إلى 95% من السكان ، وهي من أكبر نسب التدين في العالم ، بينما أوربا قد لاتصل النسبة فيها إلى 65% كما أن الولايات المتحدة تحتوي على أكبر عدد من الكنائس في العالم ، حيث إن هناك كنيسة لكل 865 مواطنا ، وهو ما وصفه معهد جالوب للاستطلاعات - تعليقا على استطلاع كان قد أجراه في مايو 2002 م - بأن ذلك حقيقي لأنه " توجد رغبة عميقة إلى الاتجاه للشئون الروحية ، فهي حالة من الظمأ إلى الله ، فبينما يصل عدد الأمريكيين الذين يذهبون إلى الكنيسة مرة واحدة في الأسبوع على الأقل إلى 70% تصل النسبة إلى 20% فقط في أوربا الغربية ، وتصل إلى 14 % في لأوربا الشرقية ".
ومما يعتبر تأكيدا لسعة هذا الانتشار التبشيري وتغطيته لغالبية المواطنين في الولايات المتحدة ما أكده الدكتور إدوارد سعيد بمقاله بمجلة " الكتب : وجهات نظر " عدد إبريل 2003 إذ يقول : ( والولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي تبدي بشكل علني تمسكها بأهداب الدين ، فحياة الأمة مشبعة بالإحالات على الله ، من قطع النقد ، إلى المباني العامة ، إلى الشهادات اللغوية : من مثل " بالله نؤمن " ، " إلى بلاد الله " ، " بارك الله أمريكا " إلخ ، والقاعدة التي يقوم عليها حكم بوش مؤلفة من حوالي 60 إلى 70 مليون رجل وامرأة ، يؤمنون مثله بأنهم التقوا يسوع المسيح ، وأنهم وجدوا على الأرض من أجل إتمام عمل الله في بلاد الله . … إننا – هكذا يقول إدوارد سعيد - بإزاء ديانة نورانية نبوية ، ذات قناعة راسخة برسالتها الرؤيوية ، التي لا علاقة لها ألبتة بواقع الأمور وتعقيداتها ..)(/2)
وفي الاتجاه نفسه نقرأ من مقال الدكتور ديفيد بلانكس أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بمجلة " الكتب وجهات نظر " بعدد إبريل 2003 : ( قد يكون مستغربا بالنسبة لبعض غير الغربيين أن يكتشفوا أن الأمريكيين عموما شديدو التدين ، فالأمريكيون الذين يؤمنون بالله أكثر بكثير من نظرائهم الأوربيين و الصهيونيين ، وهم أكثر انتظاما في حضورهم الصلوات في أماكن العبادة ، ، وتبين دراسة أجريت أخيرا بعنوان " مسح التعرف على الهوية الدينية الأمريكية عام 2001 " أن الأمريكيين اقل علمانية مما يفترضه كثير من غير الأمريكيين ، وقد تبين من الاستطلاع أن 75 % وصفوا موقفهم بأنه ديني أو ديني إلى حد ما )
ثم يقول الدكتور بلانكس : ( لماذا يؤيد الإنجيليون الكيان الصهيوني ؟ هذا ليس نتيجة للإعلام أو الضغط اللوبي اليهودي أو أي عامل خارجي آخر ، ومع أن قيادتهم تتحدث بلغة الأمن فإن معظم المؤمنين يؤيدون الكيان الصهيوني لأسباب دينية ، أي تلك الأسباب التي وردت في سفر الرؤيا ، آخر أسفار العهد الجديد الذي يتنبأ بهرمجدون ، وهي المعركة الأخيرة مع المسيخ الدجال التي سوف تنتهي بانتصار المسيح ، وبداية مملكته على الأرض ، وفي استطلاع أجرته معهم المقابلات أنهم يؤمنون بأن نبوءات الكتاب المقدس سوف تتحقق ، وقال 36% إنهم يؤيدون الكيان الصهيوني ، لماذا ؟ لأنهم يؤمنون بنبوءة الكتاب المقدس ، بضرورة أن تكون الغلبة للكيان الصهيوني قبل أن يعود المسيح إيذانا بقيام القيامة ، ونهاية العالم ، ويعتقد حوالي 25% ممن استطلعت آراؤهم : أن الكتاب المقدس تنبأ بهجمات الحادي عشر من سبتمبر ، فماذا نفعل مع إحصاءات كهذه ؟ إنها في أوهن الظروف تبين أنه على من يشعرون أنه يمكن أن يكسبوا الدعم للقضية الفلسطينية عن طريق الشكوى من اللوبي اليهودي أن يعيدوا النظر في موقفهم فليس من الممكن كسب اليمين المسيحي )
ثم يقول الكاتب : ( تصور سلسلة من الروايات الجديدة - عن سفر الرؤيا تحظى بشعبية كبيرة - السكرتير العام للأمم المتحدة على أنه المسيخ الدجال ) !!
أقول : اللهم لاحسد !!
فهل آن للعرب أن يقلعوا عن أوهامهم إذن في التخلص من هذا اللوبي كهدف رئيسي في الوصول إلى حقوقهم ؟ وعليهم – على الأقل - أن يخططوا لمناقشة هذه العقيدة داخل الوسط الأمريكي عن طريق مجموعة من رجال الدين المسيحي الذين لا يؤمنون بهذا التفسير من رجال الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية . أليس هذا هو الحوار الديني الذي تحتاج إليه البشرية اليوم تجنيبا لها من حروب لا يعلم خاتمتها إلا الله
ولقد كان من الواضح - لمن يريد أن يرى - أنها لقد كانت تلتقي هذه التوجهات الدينية الميسوديتة مع مشروع قيام الكيان الصهيوني أصلا ، ثم لقد ظهرت بوضوح في بطاقات المعايدة التي طبعها الكيان الصهيوني في حرب عام 1967 وكتبت عليها " هزيمة الهلال " والتي بيعت بالملايين ، وفي هتافات الصهاينة عند ما دخلوا القدس عام 1967 وأخذوا يهتفون مع موشى دايان وزير حربيتهم : هذا يوم بيوم خيبر ، يالثارات خيبر ، وتابعوا هتافهم : حطوا المشممش ع التفاح ، محمد ولى وراح ، وهتفوا : محمد مات ، خلف بنات "
،
وأخيرا هاهو وزير السياحة للكيان الصهيونيي بني آلون يصرح لصحيفة هأرتس في مطلع هذا الشهر ( مايو 2003 م ) قائلا : " من الواضح أن الإسلام في طريقه إلى الزوال ، فما نشاهده اليوم في العالم الإسلامي ليس انتفاضة إيمان قوية ، بل انطفاء جذوة الإسلام ، أما كيف سيزول فبكل بساطة بقيام حرب مسيحية صليبية ضد الإسلام في غضون بضع سنوات ، ستكون الحدث الأهم في هذه الألفية ، وطبعا سنواجه مشكلة كبرى حين لا يبقى في الساحة سوى الديانتين الكبيرتين : اليهودية !! والمسيحية ، غير أن ذلك ما زال متروكا للمستقبل البعيد "
ولم تكن المفاجأة المصطنعة " غير السارة بظهور " الرئيس المبشر" في تقدير السادة العلمانيين قاصرة عليه باعتباره رئيس دولة "النموذج " دولة " الحداثة والتقدم والحضارة " ولكنه وفي نفس اليوم – يوم قمة العقبة - جاءتهم الصفعة من رئيس وزراء أحدث دولة دينية – سفاحها شارون - وهو يصر على العرب أن يعترفوا – لكي يعترف بهم - بدولته دولة لليهود ، وتبعه " الرئيس المبشر" في مطلبه
فهلا اشترطوا عليهما الاعتراف بأنظمتهم حكومات إسلامية ؟
ها نحن اليوم – أخيرا – أصبحنا نستمع إلى أن الحرب بيننا وبينهم دينية ، بعد أن كتمنا هذه الحقيقة قرنا كاملا ، وبعد أن جردنا أنفسنا من هذا السلاح الذي هو مصدر الطاقة لدينا – صحونا عليهم في فراشنا – باسم التحالف أو باسم الصداقة – وهم يغرزون أنيابهم في لحومنا بمباركة من " الرئيس المبشر ".
هكذا يجردوننا من الحافز الديني لكي يكون خالصا لهم
ترى أيكون من حق جماعة منا ولكي ترقى إلى مرتبة النظر إلى الطلعة النيرة لنموذج الرئيس المبشر أن تحلم - مجرد حلم - بأن يظهر لهم من بين أعطافه " نموذج الرئيس الداعية " ؟(/3)
ولم لا ؟ ألسنا نستورد الديموقراطية والعولمة والثقافة والعلم و" التحرير" والسلاح والدستور والقمح ؟ فلم لا نستورد " صفات الرؤساء" ؟ أليس اقتراحا جديرا بالنظر ؟(/4)
الراقصون على الدماء
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
الرَّاقصون على الدِّماء ، على الأنيـ ... ... ن على الجماجم ، فَوْقَ نَوْح الثُّكَّلِ
وعلى الجِراحِ على الضَّياع ، على بقا ... ... يا جُثَّةٍ أو أنَّةٍ أو مَنْزِلِ
وعلى ضَياعِ النَّفْس والسّاحَات والشَّـ ... ... رَفِ الممزَّق في طريقٍ مُوْحِلِ
وعَلى الحُطَام على الطُّفُولة والدُّمو ... ... ع ، على العَويل ، وكلِّ شَيءٍ مُذْهِلِ
الضائعون الغَافِلون النائِمُو ... ... ن على الوَثيرِ مِنَ الفِراش المخْمَلِ
المجْرمُون الظَّالمون المفْسِدُو ... ... ن بِكُلّ رِجْسٍ مُنْتِنٍ مُتَوَغِّل
فَتَعطَّلتْ سُبُل الحَيا ةِ وأُغْلِقَتْ ... ... فالنَّاسُ بين مُعَطِّل ومُعَطََّلِ
وتفجَّر الألَمُ المذِلُّ بِكُل قَلْـ ... ... ـبٍ صارخٍ واهي القوى متوسِّلِ
خُنِقَ النِّداءُ بِكُلِّ صَدْرٍ نازفٍ ... ... ولكلِّ زندٍ بالحديدِ مُكَبَّلِ
وتفجَّر الأَلَمُ المُذِلُُّّ مدامعاً ... ... ويحي على تلك الدُّموع الهُمَّل
أنّى التفتَّ وَجَدتَّ ما يُبْكي الصّخو ... ... ر وما يُفَجِّر كلّ قَلْبٍ مُثْقَلِ
فإِذا غَفوتَ ففي مَنامِكَ أَدْمُعٌ ... ... وإِذا أفَقْتَ ففي بكاءٍ مُرْسَلِ
الدَّارُ والسَّاحاتُ تخْتلطُ الدِّما ... ... ءُ بها بدَمْعٍ في المرابع مُشْعَلِ
وإذا مَشَيْتَ فَكلُّ خَطْوِك أدْمُعٌ ... ... وإذا وقَفْتَ ففي دُمُوع العُزَّلِ
وإذا نظرتَ فكلّ أفْقِكِ أدْمعٌ ... ... وإذا تَمِيلُ فعَنْ سَوادٍ مُقْبِلِ
وكأَنّما الزَّهَرُ النَّدي مَدامِعٌ ... ... والرِّيحُ آهاتُ الفُؤادِ المُخْذَلِ
وتَرَى الجبَالَ الراسياتِ كأنَّها ... ... هَمّ القُلوب ! فيا لِتلْكَ الأجْبُلِ
كَمْ مَهْرجانٍ في الدِّيار تَفتَّحَتْ ... ... أَبوابُهُ لِمُهرّ جٍ و مُمَثِّل
جَعَلوا الفُنُونَ هَوى النُّفوس وفِتْنةً ... ... هاجتْ وعرضاً للهوى المتبَذّلِ
رَقصاً يَدُورُ به العُراة على غِناً ... ... ءٍ في دُوارٍ للرؤوس مُبَدَّلِ
سَكْرى عَلى الأنغام تاهُوا في رُؤىً ... ... محمومَةٍ بين الليالي الرُّحَّلِ
في كلّ ساح حَفْلَةٌ يَعْلُو بها ... ... (( نَجْمٌ )) بأنغام الهوى ! كم مَحْفلِ !
كم من نوادٍ ضاع في غَمراتِها ... ... شَرَفٌ ، وغابَتْ في هَوانٍ أرْذَلِ
(دُنْيا الفُنُون !) وقد أَشَاحَ ( الفنّ ) عنْ ... ... ـها واسْتَدَار وَقَالَ يا نَفْسُ ارْحَلي
سقَطتْ بأمْواج الرَّذيلة واعْتَلَتْ ... ... قِمَمَ الفُجُورِ و كلِّ أَمرٍ مُخْبِلِ
فهناك أمواج الدِّماء تَفجّرَتْ ... ... بَذْلاً وآنّاتٌ وصيحةُ ثُكَّلِ
ويحي وهذي بالفَسادِ تَفجَّرَتْ ... ... رِجْساً وفاضَت بالخنا المتَهوِّلِ
ويحي أتَصْحُو أُمّةٌ من سَكْرَة ... ... طَالَتْ ومِنْ عَيْشٍ يَمُرُّ سَبَهْلَلِ
* ... * ... *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من ملحمة الإسلام من فلسطين إلى لقاء المؤمنين(/1)
الربا وتدمير الأمة ...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد ...
إخوتاه
من أشراط الساعة ظهور الربا وفشوها.
فعن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه و سلم - قال: " بين يدي الساعة يظهر الربا والزنى والخمر ". [ قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح ]
والأمر لا يتوقف عند هذا الحد فحسب، بل إن الذي لا يتعامل بها لابد أن يجد شيئا من غبارها.
ففي مستدرك الحاكم وسنن أبي داود وابن ماجه والنسائي وغيرهم عن الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه و سلم - قال: " ليأتين على الناس زمان لا يبقى فيه أحد إلا أكل الربا فإن لم يأكله أصابه من غباره "
[ قال الحاكم: وقد اختلف أئمتنا في سماع الحسن عن أبي هريرة فإن صح سماعه منه فهذا حديث صحيح ].
وقبل أن نخوض في هذه البلية الخطيرة، نذكر أولا بأمور:
أولا: إن الله غيور، يغار أن تنتهك محارمه، فاتق غيرة الله.
ثانيا: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فقد جعل الله للناس سعة من أمرهم، فلم يكلفهم بما لا يطيقون، حتى لا يظن من انغمس في هذه المصيبة أن ترك الربا شيء لا يمكن حدوثه في العصر الحديث، ثم بعد ذلك يحاول أن يجعله من الضرورات التي لا يمكن الاستغناء عنها.
ثالثا: إن الله قد هدانا وأرشدنا إلى سبيل الحق، ثم الناس بعد ذلك إما شاكرا وإما جاحدا، " إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا "، " فالحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات ومن اتق الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " فيجب على المؤمن تحري الحلال وترك الحرام، وحري به أن يتورع عما اختلف فيه من المشتبهات حفظا لدينه وعرضه.
رابعا: أساس شريعة الله قائم على تحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم، ولا يمكن بحال أن يجعل الله العز والمنعة والتقدم والحضارة لقوم بمعصيته - جل وعلا - ، فما عند الله لا ينال إلا بطاعته.
خامسا: أن سبيل النجاة واضح جلي لمن أراد الله والدار الآخرة، ولا يظنن ظان أن في اتباعه لسبيل الله - جل وعلا - العنت والمشقة، فالله رفع عن الناس الحرج، وقد أرشدهم لنجاتهم بأن يحصنوا أنفسهم ويبتعدوا عن المهالك ومواطن الشبهات، ويتحصنوا بسترة من الحلال تكفيهم مغبة الوقوع في الحرام.
• عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه و سلم - يقول: " اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال " [ صححه الشيخ الألباني ]
سادسا: المعصوم من عصمه الله، ومن وجد الله كافيه مثل هذه البلايا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ألا ترى هذه الصيحات التي تعلو بين حين وآخر طالبة النجاة من وحل هذه البلية، لكن هيهات بعد أن تستحكم الأمور وتبدو الأمور على صورتها الحقيقية، ويتبين للناس أن شرع الله هو الحق وأن ما دونه هو الباطل ولابد، ولكن الناس لا يوقنون.
لأجل ذلك ينبغي أن نعلم أن طلب الحلال أمر لازم وفريضة من أعظم الفرائض، وأن ذلك هو الحصن الحقيقي من شرور هذه البلايا والفتن.
تحري الحلال
قال الله - تعالى - " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم".
قال القرطبي: سوى الله - تعالى - بين النبيين والمؤمنين في الخطاب بوجوب أكل الحلال وتجنب الحرام، ثم شمل الكل في الوعيد الذي تضمنه قوله - تعالى -: "إني بما تعملون عليم" صلى الله على رسله وأنبيائه. وإذا كان هذا معهم فما ظن كل الناس بأنفسهم.
وقد حثنا الشرع الحنيف إلى طلب الحلال وترك الحرام
• عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه و سلم - قال: " طلب الحلال واجب على كل مسلم " [ قال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن ]
فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين يزرق من يشاء بغير حساب وهو أعلم بالشاكرين
• أخرج الحاكم في المستدرك وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع " لا تستبطئوا الرزق، فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغه آخر رزق هو له، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب: أخذ الحلال، وترك الحرام "
وفي تحري الحلال وترك الحرام فوائد عظام:
1. أكل الحلال صلاح للقلوب، وأكل الحرام من أخطر مهلكات القلوب ومبددات الإيمان.
أما ترى رسول الله حين قال " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات …….. عقب ذلك بقوله " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب "
قال المناوي: فهو ملك والأعضاء رعيته، وهي تصلح بصلاح الملك، وتفسد بفساده وأوقع هذا عقب قوله " الحلال بين " إشعاراً بأن أكل الحلال ينوره ويصلحه والشُّبه تقسيه.(/1)
2. أكل الحلال نجاة من الهلاك.
ومن وقع في الحرام فهو داخل في قوله - تعالى -: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " إذ هو في مظنة الهلكة إلا أن يتغمده الله برحمته فيتوب عليه.
قال سهل بن عبد الله: النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي - صلى الله عليه و سلم -.
وقال: ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم، ولا يكون المال حلالا حتى يصفو من ست خصال: الربا والحرام والسحت والغلول والمكروه والشبهة.
3. ومن أكل الحرام حرم لذة الإيمان فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا
قيل: من أكل الحلال أربعين يوما نور الله قلبه وأجرى ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
قال بعضهم: من غض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بالمراقبة وتعود أكل الحلال لم تخطئ فراسته.
4. ما نبت من حرام فالنار أولى به
عن كعب بن عجرة قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه و سلم -: أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي، فمن غَشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ولا يرد علي الحوض، ومن غشي أبوابهم أو لم يغش فلم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض.
يا كعب بن عجرة: الصلاة برهان، والصوم جنة حصينة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.
يا كعب بن عجرة: إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به.
[ قال الترمذي:حديث حسن غريب وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترمذي (501) ]
فشو الحرام
إذا علمت هذا فاعلم أن النبي أخبرنا أن الحرام سيطغى في آخر الزمان، حتى لا يتبين الناس ولا يستوثقون من حل وحرمة أموالهم.
ففي البخاري ومسند الإمام أحمد قال - صلى الله عليه و سلم - " ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام ".
وفي لفظ عند النسائي " يأتي الناس زمان ما يبالي الرجل من أين أصاب المال من حلال أو حرام ".
أما ترى أن هذا هو زماننا ورب العزة، أما ترى تكالب الناس من أجل تحصيل مغريات الدنيا التي تتفتح عليها أعينهم ليل نهار، فلا يبالون بشيء سوى جمع المال من أي وجه، حلال أو حرام لا يهم، المهم هو جمع المال للحصول على المحمول والدش والسيارات الفارهة وقضاء الأوقات في ديار الفجور والعربدة و…….و…….و،،،،، الخ
من أجل ذلك تعقدت الأمور، وصار الناس في حيرة من أمرهم، فما يمر يوم إلا وتجد من يسألك عن هذا الذي يبيع الدخان أو الخمور أو يعمل في شركة سياحة أو يعمل في بنك ربوي أو يتعامل بالربا، أو الذي بنى ثروته من البداية بتجارة المخدرات ويريد أن يتوب ولا يعلم ماذا يصنع في ماله، وذاك الذي يعمل كوافيرا أو يبيع ملابس النساء العارية التي يعلم أن التي ستلبسها ستفتن بها شباب المسلمين في الشوارع، وهذا الذي يعمل في السينمات والمسارح والكباريهات و … و … الخ رب سلم سلم
ومن المؤسف والمخجل أنك تستمع للأولاد وهم لا يدرون كيف يأكلون من مال أبيهم وهم يعلمون أنه حرام، وتجدك في كل مرة تبحث لهؤلاء عن مخرج وقد ضيق الناس على أنفسهم سبل الخير والحلال، ومن هنا شاعت الفتاوى عن المال المختلط وأحكامه وغيرها مما هو على هذه الشاكلة.
أما كان السبيل رحبا واسعا فضيقتموه باتباع الهوى واللهث وراء المال من غير وجه حله، " أما يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين "
أنواع من البيوع الفاسدة
ولعلنا هنا مضطرون أن نتكلم سريعا عن بعض المعاملات المالية الفاسدة التي شاعت بين الناس، ولا ينتبه إليها أحد. لكن على وجه الإجمال دون التوسع والإلمام بطرف ليناسب ما نحن بصدده.
فمن ذلك:
1) ما يسمى شرعا ببيع النجش.
وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليخدع غيره، ويجره إلى الزيادة في السعر.
قال - صلى الله عليه و سلم - " لا تناجشوا " إذ هذا نوع من الخداع ولا شك، وقد قال - صلى الله عليه و سلم - " المكر والخديعة في النار " وأنت تجد هذه الصورة متكررة في المزادات، ومعارض بيع السيارات، وبعض المحال التجارية وهذا كسب خبيث لو يعلمون.
2) ما يسمى ببيع الغرر
ومثاله أن يبيع المجهول كاللبن في الضرع، والسمك في البحر، والمحصول قبل جنيه، أو ما يسمى ببيع الثُنَيَّا كأن يقول لك: خذ هذا البستان إلا بعض الزرع من غير تحديد فهذا المستثنى مجهول، أما إذا كان معروفا فلا حرج.
3) بيع المحرم والنجس
ومثال ذلك: بيع الخمور والمخدرات، وبيع أشرطة الأغاني، بيع المجلات الفاسدة المروجة للأفكار الخبيثة والصور الخليعة والعارية(/2)
ويدخل في ذلك مثلا من يبيع السلاح في وقت الفتنة، أو من يبيع العنب لمن يستخدمه في صناعة الخمور، وهكذا خذها قاعدة هنا كل ما أدى إلى حرام فهو حرام، وقد قال الله - تعالى - " وتعاونوا إلى البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وقال العلماء: الوسائل تأخذ حكم المقاصد فتنبه، لأن المقولة الشائعة الآن أن يقال لك: ما لي أنا، أنا أعطيتها الفستان ولا أدري هل ستستخدمه في الحلال لزوجها أو تتكشف به في الشوارع، والمرأة أمامه متبرجة وهو يدري تماما أن ما هذا إلا لمعصية الله " بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره " أو هذا الذي في البنك يقول: وأنا مالي أ أنا الذي تعاملت بالربا، أنا فقط مضطر لأن أعمل في البنك لأطلب الرزق.
والكل يتنصل من المعصية، وكأنه لا دور له في إيقاعها فلو تعاون الناس على فعل الخيرات وترك المنكرات لما وصل الحال إلى ما نحن فيه الآن، فالكل مشترك في المعصية فليتأمل مثل ذلك.
4) بيع المسلم على بيع أخيه، أو سومه على سوم أخيه
مثاله: أن يذهب الرجل للبائع فيقول له: رد هذه المال على صاحبه وأنا سأشتري منك هذه السلعة بأزيد من سعرها، أو العكس يذهب للمشتري ويقول له بكم اشتريتها؟ فيقول له: بكذا، فيقول له: ردها عليه وأنا أعطيك إياها بأقل من ثمنها.
أو يزايد ويساوم أخاه في سلعة لم توضع للمزايدة والمساومة بعد.
وأظن أن هذه الصورة منتشرة بشكل واسع وقد قال - صلى الله عليه و سلم - " لا يبع الرجل على بيع أخيه " [ متفق عليه]
6) بيع العربون
وهو أن يدفع المشتري من ثمن السلعة التي يريدها جزءا على ألا يرد عند الفسخ. بمعنى أنك تذهب للبائع وتعطيه جزءا من المال فإن كان من ثمن السلعة فلك أحقية رده عند الفسخ وهذه الصورة لا شيء فيها، وإنما الصورة الممنوعة أن يكون هذا العربون غير قابل للرد.
7) بيع العينة
مثل أن يبيع سلعة بأجل، ثم يقوم هو بشرائها نقدا أو أحد عماله احتيالا ليأخذها بأقل من ثمنها.
صورتها: أن تبيع ثلاجة مثلا بألف جنيه تدفع بعد سنة، فتذهب أنت أو أحد أعوانك المهم تعود لتشتري نفس الثلاجة بأقل من ثمنها نقدا وفي الحال فتشتريها ب 800 جنيه مثلا. فهذه الصورة حرام لا تجوز.
8) البيع عند النداء الأخير لصلاة الجمعة
هذا البيع حرام وهو منتشر للأسف لا سيما في الأسواق، وقد قال الله - تعالى - " إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ".
9) بيع السلعة قبل قبضها
مثاله: إذا اشترى إنسان سلعة من مخزن أو دكان مثلا وجاء صاحب المخزن أو الدكان وبين له السلعة بعينها واتفقا، فلا يجوز للمشتري أن يبيعها في محلها بمجرد هذا البيان والاتفاق، ولا يعتبر ذلك تسلما، بل لابد لجواز بيع المشتري لها من حوزه للسلعة إلى محل آخر
روى الإمام أحمد عن حكيم بن حزام أنه قال: قلت: يا رسول الله إني أشتري بيوعا ما يحل لي منها وما يحرم علي.
قال: إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه.
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه و سلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم.
ولما رواه أحمد ومسلم عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: قال النبي - صلى الله عليه و سلم - " إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه ".
وفي رواية لمسلم أن النبي - صلى الله عليه و سلم - قال: من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يكتاله.
من المعاملات المالية المحرمة المنتشرة أيضاً:
10) التأمين
وقد صدرت الفتاوى الشرعية من المجامع الفقهية المختلفة لتؤكد عدم جواز التأمين التجاري بكل صوره، لأنها عقوده مشتملة على الضرر والجهالة والربا والمقامرة وما كان كذلك فهو حرام بلا شك.
ومن ذلك شهادات الاستثمار وصناديق التوفير وفوائد القروض الربوية والتي سيأتي الحديث عنها في موضوع الربا.
وهاكم بيان لحقيقة الربا وخطورتها، وما توعد الله به من يقع في مثل هذه المعاملات.
الربا من أخطر البلايا التي تهدد المجتمع المسلم(/3)
قال الله - تعالى - " الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {275} يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ {276} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {277} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {278} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ {279} وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {280} وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ {281}
ما الربا؟
الربا في اللغة: الزيادة مطلقا.
قال القرطبي: ثم إن الشرع قد تصرف في هذا الإطلاق فقصره على بعض موارده.
فمرة: أطلقه على كسب الحرام.كما قال الله - تعالى - في اليهود: "وأخذهم الربا وقد نهوا عنه" [النساء: 161]. ولم يرد به الربا الشرعي الذي حكم بتحريمه علينا وإنما أراد المال الحرام، كما قال - تعالى -: "سماعون للكذب أكالون للسحت" [المائدة: 42] يعني به المال الحرام من الرشا، وما استحلوه من أموال الأميين حيث قالوا: " ليس علينا في الأميين سبيل " [آل عمران: 75]. وعلى هذا فيدخل فيه النهي عن كل مال حرام بأي وجه اكتسب.
والربا الذي عليه عرف الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة (يعنون بذلك الأموال الربوية كما سيأتي).
أنواع الربا
1) ربا الفضل:
وهو البيع مع زيادة أحد العوضين المتفقي الجنس على الآخر.
• فالأصل أن الشيئين (العوضين) إذا كانا من جنس واحد واتفقا في العلة [ كانا موزونين أو مكيلين ] لابد لذلك من شرطين:
أ ) التساوي وعلم المتعاقدين يقينا بذلك.
ب ) التقابض قبل التفرق.
• وإذا كانا مختلفين في الجنس ومتحدين في العلة كبيع قمح بشعير مثلا فلا يشترط إلا التقابض وتجوز المفاضلة.
• أما إذا اختلفا في الجنس والعلة كأن تبيع قمحا بذهب أو فضة فلا يشترط فيه شيء من ذلك.
عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم - " الذهب بالذهب. والفضة بالفضة. والبر بالبر. والشعير بالشعير. والتمر بالتمر. والملح بالملح. مثلا بمثل. سواء بسواء. يدا بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد ". [ أخرجه مسلم (1587) ك المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا ]
2) أما ربا النسيئة: فهو زيادة الدين في نظير الأجل، وهو ربا الجاهلية الذي كانوا يتعاملون به، فكان الرجل إذا أقرض آخر على أجل محدد، فإذا جاء الأجل ولم يستطع الأداء قال له: تدفع أو ترابي فيزيده في نظير زيادة الأجل.
خطورة الربا
1) أكل الربا يعرض صاحبه لحرب الله ورسوله، فيصير عدوا لله وسوله
قال الله - تعالى - " فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ".
قيل المعنى:إن لم تنتهوا فأنتم حرب لله ولرسوله، أي أعداء.
فهي الحرب بكل صورها النفسية والجسدية، وما الناس فيه الآن من قلق واكتئاب وغم وحزن إلا من نتاج هذه الحرب المعلنة لكل من خالف أمر الله وأكل بالربا أو ساعد عليها، فليعد سلاحه إن استطاع، وليعلم أن عقاب الله آت لا محالة إن آجلا أو عاجلا، وما عهدك بمن جعله الله عدوا له وأعلن الحرب عليه رب سلم سلم.
2) آكل الربا وكل من أعان عليه ملعون.
قال - صلى الله عليه و سلم - " آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهداه، إذا لمسوا ذلك، والواشمة، والموشومة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيا بعد الهجرة، ملعونون على لسان محمد يوم القيامة "واللعن هو الطرد من رحمة الله - تعالى -.
3) أكل الربا من الموبقات
قال الله - تعالى -: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس "(/4)
قال ابن عباس في قوله: " الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش " قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله - عز وجل - ، قال الله - عز وجل - " ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة " ثم قال: وأكل الربا لأن الله - عز وجل - يقول " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " [ قال الهيثمي في المجمع: رواه الطبرانى وإسناده حسن ].
وحقيقة الكبيرة أنها كل ذنب ورد فيه وعيد شديد، وقد جاء مصرحا بهذا في الصحيحين وغيرهما فعد رسول الله أكل الربا من السبع الموبقات. قال - صلى الله عليه و سلم - " اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات "
4) عقوبة آكل الربا أنه يسبح في نهر دم ويلقم في فيه بالحجارة
وعن سمرة بن جندب قال: كان النبي - صلى الله عليه و سلم - إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال من رأى منكم الليلة رؤيا قال فإن رأى أحد قصها فيقول ما شاء الله فسألنا يوما فقال هل رأى أحد منكم رؤيا قلنا لا قال لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة وفي سياق القصة قال صلى الله - عليه الصلاة و السلام - : " فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم على وسط النهر وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان ثم فسر له هؤلاء بأنهم آكلوا الربا ". [ رواه البخاري ].
5) ظهور الربا سبب لإهلاك القرى ونزول مقت الله
قال - صلى الله عليه و سلم - " إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله " [ أخرجه الطبراني في الكبير الحاكم في المستدرك عن ابن عباس، صححه الألباني في صحيح الجامع [679] ].
6) مآل الربا إلى قلة وخسران.
عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه و سلم - قال " ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة " [ رواه ابن ماجه والإمام أحمد وصححه الشيخ الألباني ].
7) أكل الربا من أسباب المسخ.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن غنم وأبي أمامة وابن عباس " والذي نفس محمد بيده ليبيتن ناس من أمتي على أشر وبطر ولعب ولهو فيصبحوا قردة وخنازير باستحلالهم المحارم والقينات وشربهم الخمر وأكلهم الربا ولبسهم الحرير" [ رواه عبد الله بن الإمام أحمد في المسند وكذا ابن أبي الدنيا كما ذكره ابن القيم في إغاثة اللهفان ]
الربا شقيقة الشرك.
" الربا سبعون بابا، والشرك مثل ذلك " وفي رواية لابن ماجه " الربا ثلاثة وسبعون بابا " [ أخرجه البزار عن ابن مسعود وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (3538)، (3540) ]
8) الربا أشد من ستة وثلاثين زنية
• قال - صلى الله عليه و سلم - " درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية " [أخرجه أحمد في مسنده والطبراني في الكبير عن عبد الله بن حنظلة وصححه الشيخ الألباني - رحمه الله - في صحيح الجامع (3375) ]
• وفي لفظ عند البيهقي من حديث ابن عباس " درهم ربا أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية ومن نبت لحمه من سحت فالنار أولى به ".
• وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن أنس قال: " خطبنا رسول الله - صلى الله عليه و سلم - ، فذكر الربا وعظم شأنه، فقال: إن الرجل يصيب درهما من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم ".
9) أدنى الربا ذنبا كمثل من زنا بأمه.
عن ابن مسعود قال: قال - صلى الله عليه و سلم -: " الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم "
[أخرجه الحاكم في المستدرك وصحح الحافظ العراقي في تخريج الإحياء إسناده وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (3539) ]
وعن البراء بن عازب مرفوعا " الربا اثنان وسبعون بابا، أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه "
[ أخرجه الطبراني في الأوسط وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع “3537” ]
قال الطيبي: المراد إثم الربا، ولا بد من هذا التقدير ليطابق قوله أن ينكح " ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم ".
قال الطيبي: إنما كان الربا أشد من الزنا لأن فاعله حاول محاربة الشارع بفعله بعقله قال - تعالى - " فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله " أي بحرب عظيم فتحريمه محض تعبد وأما قبيح الزنا فظاهر عقلاً وشرعاً وله روادع وزواجر سوى الشرع فآكل الربا يهتك حرمة اللّه، والزاني يخرق جلباب الحياء.
بيان حكم الشرع في بعض المعاملات الشائعة
أولا: الفوائد المصرفية
صدرت الفتاوى المتتابعة من علماء العصر والصادرة عن المجامع الفقهية بحرمة أخذ فوائد البنوك.(/5)
1) فمن ذلك فتوى الشيخ بكري الصدفي مفتي الديار المصرية (سنة 1325ه 1907م) عن دار الافتاء المصرية.
2) وكذا الشيخ عبد المجيد سليم (سنة 1348ه 1930م) بتحريم استثمار المال المودع بفائدة البتة، والفتوى الصادرة عنه (سنة 1362ه 1943م) بأن أخذ الفوائد عن الأموال المودعة حرام ولا يجوز التصدق بها، (وسنة 1364ه 1945م) بأنه يحرم استثمار المال المودع في البنك بفائدة، وأن في الطرق الشرعية لاستثمار المال متسع للاستثمار.
3) وأصدر الشيخ الدكتور / عبد الله دراز بحثه (سنة 1951م) بأن الإسلام لم يفرق بين الربا الفاحش وغيره في التحريم. [ محاضرة ألقاها في مؤتمر القانون الإسلامي بباريس وهي مطبوعة باسم الربا في نظر القانون الإسلامي ]
4) كما أفتى الشيخ / محمد أبو زهرة (1390ه 1970) بأن الربا زيادة الدين في نظير الأجل وأن ربا المصارف هو ربا القرآن وهو حرام ولا شك فيه، وأن تحريم الربا يشمل الاستثماري والاستهلاكي في رد دامغ للذين يرددون أن الضرورة تلجئ إلى الربا [ بحوث في الربا، ط دار البحوث العلمية 1970م ].
5) وأفتى الشيخ / جاد الحق علي جاد الحق مفتي الديار المصرية (سنة 1399ه 1976م) بأن سندات التنمية وأذون الخزانة ذات العائد الثابت تعتبر من المعاملات الربوية المحرمة، وأن إيداع المال بالبنوك بفائدة ربا محرم سواء كانت هذه المصارف تابعة للحكومة أو لغيرها.
6) كما صدر عن المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي بالكويت (سنة 1403ه 1983 م) بحضور كوكبة من أبرز العلماء والاقتصاديين بيانا بأن ما يسمى بالفائدة في اصطلاح الاقتصاديين هو من الربا المحرم.
7) ناهيك عن الفتاوى الصادرة عن المجمع الفقهي بمكة المكرمة، واللجنة الدائمة للإفتاء والإرشاد بالمملكة العربية السعودية.
ثانيا: شهادات الاستثمار وصناديق التوفير
صدرت عن مفتي الديار المصرية فضيلة الشيخ / جاد الحق علي جاد الحق (سنة 1400ه 1979 م) الفتوى بأن فوائد شهادات الاستثمار وشهادات التوفير من الربا المحرم، وأنها لا تعد من قبيل المكافأة أو الوعد بجائزة.
و(سنة 1401ه 1981م) بأن شهادات الاستثمار (أ، ب) ذات الفائدة المحددة المشروطة مقدما زمنا ومقدارا داخلة في ربا الزيادة المحرم.
و(سنة 1980 م) بأن الفائدة المحددة على المبالغ المدخرة بصناديق التوفير بواقع كذا في المائة، فهي محرمة لأنها من باب الربا (الزيادة المحرمة شرعا).
ومن أراد أن يتثبت من هذا كله فليراجع فتاوى دار الإفتاء المصرية كل في سنته وتاريخه.
محمد حسين يعقوب(/6)
الربيع
شعر: أنور العطار
يا حبيبي أفق فقد ضحك iiالرو
واستعاد الوادي الأنيس iiسناه
طرب القلب فانتشى وتغنى
وأنا الشاعر الذي يغمر iiالأر
في فؤادي اللهيف داء قد iiاستعـ
* * ii*
يا حبيبي دنياك تطفح iiبالحس
هات ناي الهوى وقم نملأ iiالأكـ
لا ترع فالحياة يوم iiويمضي
* * ii*
نحن شدو الطيور يصغي لنا الدهـ
يذر الهائمين في فرحة iiالحب
يحتسون الحياة خمرة وجد
لهم الليل في حواشيه iiيحيو
نهبوا العمر واستباحوه iiلهواً
ضحكوا والحياة بنت iiالتلهي
يسأم العيش من يبيت iiخلياً
رُبَّ صحراءَ طوَّفَ الحبُّ iiفيها
* * ii*
نَضَّرَ الحقلُ ساحة iiوتجلى
هو ذا موكب لآذار iiحلو
ملأ الأرض والسموات iiعطراً
وعلى معطف المروج iiتراءت
تجد النفس في شذاها iiالأماني
تغمر الروح بالهناءة iiوالصفـ
* * ii*
اليواقيت في النواظر iiذابت
جدول يلهب القلوب iiغناء
ألمس النور في تلاميعه iiالزهـ
وأرى العطر وهو هيمان في iiالدو
وأحس الحياة تركض في العشـ
نَفَسٌ هامس وآخَرُ iiشادٍ
كل شيء هنا يغني iiويحيا
ها هنا تسمع الأناشيد iiأذني
ها هنا يركن المحب إلى iiالأنـ
* * ii*
يا حبيبي أفق فها ذاك طير الـ
تتراءى له السموات iiألحا
يا حبيبي طلب الهوى iiفاغتنمه
لك من هذه الدغال iiأليف
غنِِّ في مسمعي نشيداً iiرقيقاً
ودع الحب يأتلق في خيالي
اطعنِ القلب ينفجر iiبالأغاريـ
لا تضمده يذك شوقاً iiوشجواً
أوقد الحب بالمدامع iiتنهل
لا تخف أن يضج بالحب مأوى
صاغه الله للعذاب iiوللحبّ
* * ii*
ورياض فيها العشاش تغني
إن هذا الجمال يا قلب iiنهب
إحيَ للنور، للمسرة، iiللشد ... ض وأبدى جماله iiالمحجوبا
وبنى الطير عشه iiالمخروبا
ومن الحب أن أعيش iiطروبا
واح ضحكاً وما يريم iiكئيبا
ـصى وجرح يمضّني تعذيبا
* * ii*
ـن فخذ للفؤاد منها iiنصيبا
وان من سكرة الغناء iiضروبا
ليس يرجى لطيفه أن iiيؤوبا
* * ii*
ر فيغرى باللحن حتى iiيطيبا
ويصفيهم الوداد iiالخصيبا
ويرون الدنا من السكر iiكوبا
ن ويطوون جنحه iiتشبيبا
واستطابوا الأسى ولذوا iiاللغوبا
منعت محجماً وأعطت iiطلوبا
والشجي العميد ينسي iiالكروبا
أزهرتْ ربوةً وروضاً iiعشيبا
* * ii*
رائعاً فتنة العيون iiقشيبا
يتمشى على السهول iiلعوبا
ونفى الهمّ والضنى iiوالشحوبا
قُبَلٌ للربيع تنفح iiطيبا
صوراً تترع الجنان iiلهيبا
و كما يغمر الحبيب iiالحبيبا
* * ii*
وجرى السحر بالضياء iiمشوبا
ظل من موجه السني iiسكوبا
ر وأشتف روحه iiالمحبوبا
ح يناجي في غصنه iiالعندليبا
ب وتسري بين الحقول iiدبيبا
ورؤى هَمَّ سحرُها أن iiيجيبا
نغماً ممتعاً وشدواً عجيبا
وترى العين في كراها iiالغيوبا
س ويغفي الفؤاد إلا وجيبا
* * ii*
ـحبِّ قد أسكر الرُّبا iiتطريبا
ظاً وتبدو الأرض والفضاء iiقلوبا
لست عن جرحه النديّ iiغريبا
يتصبَّاك مؤنساً iiورقيبا
وآسْرِ في مهجتي شعاعاً iiرطيبا
أفقاً ساحراً وكوناً iiرحيبا
ـد ويملأ هذا الفضاء iiطيوبا
واترك ناره تشبّ iiشبوبا
وبالوجد صارخاً iiومهيبا
واخش إما أحسست منه iiنضوبا
وأحياه بالدماء iiخضيبا
* * ii*
فيذوب الغناء خمراً صبيبا
فابتدر تخطف السنا iiالمنهوبا
و، وخلِّ الأسى وخلِّ iiالنحيبا(/1)
الربيع في عكا
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
رَقَّ الَهوى وَسَعَى إلَيْك بِمَنْظَرٍ
عَجَبٍ ، فَقَدْ وَرَدَ الرَّبِيعُ وَلاَحَا
وزَكَتْ خَمَائِلُهُ وفَوَّحَ عُودُهُ
وَغَدَا عَلى هَذي الرُّبُوعِ وَرَاحَا
فَانْظُرْ لِزَهْرٍ قَدْ تَمَايَلَ عِطْفُهُ
بَيْنَ النَّسيمِ وَطَاِئرٍ قَدْ صَاحَأ
الطَّيْرُ فَوْقَ غُصُونِهِ صَدّاحَةٌ
وَالرِّيحُ أَوَّدَ عِطْفَهُ وَ أَبَاحَا
حَتَّى إذَا ثَمِلَ النَّسِيمُ فَلَمْ يَعُدُ
مُتَكَتِّمَاً بِهَوَى الزُّهُورِ فَبَاحَا
وَيُقيمُ عَهْدَ الوُدِّ طِيلَةَ لَيْلِهِ
وَيَحُولُ عَنْ عَهْدِ الوِدَادِ صَبَاحَا
هَذِي الدُّمُوعُ تَرَقْرَقَتْ بجُفُونِهَا
لَّما تَحَوَّلَ عَنْ هَوَاهُ وَفَاحَا
مَا زَالَ يَخْدعُهَا النَّسيم بحُبِّه
ويُذيقُهَا الأَحْزَانَ وَالأَفْرَاحَا
فَاحْمَرَّ مَا صَبَغَ الحَيَاءُ جَبينَهُ
وَازْرَقَّ مَا لَطَمَ الخُدُودَ وَنَاحَا
وَاصْفَرَّ مَا كَتَمَ الَهوى بِفُؤَادِهِ
وَجْدَاً وَمَالَ عَلى الثَرَى أَشْبَاحَا
1945م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان الأرض المباركة(/1)
الرجل الصفر
يتناول الدرس صفات من سماه بالرجل الصفر وهو دنيء الهمة، والكلام يراد به المرأة أيضا، ثم ذكر أهم صفات الرجل الصفر والأسباب التي تؤدي به إلى دنو الهمة والسلبية، ثم شرع في بيان الوسائل التي يتغلب بها الرجل وكذلك المرأة على هذه السلبية وما هو الطريق للتغلب على هذه العقبة .
ماذا أعني بالرجل الصفر:
أعني بالرجل الصفر: ذلك الرجل الذي يتصف بالسلبية، ودنو الهمة، ذلك الداء الخطير، الذي أصاب الكثير من المسلمين وخاصة الشباب والفتيات، وكما أن هناك رجلاً صفراً، فإن هناك أيضاً امرأة صفراً وكل ما يذكر في هذا الموضوع يشمل الرجال والنساء معاً إلا فيما يختص به الرجال من مجال.
إن الموت نهاية الجميع لكن شتان بين من مات في أمر حقير، وبين من مات في أمر عظيم، شتان بين من يموت وهو على طاعة الله، وبين من يموت وهو على معصية الله، شتان بين من يموت وهو يحمل هم الإسلام، ويحترق قلبه لصلاح المسلمين، وبين من يموت وهو يحمل هم شهوات الدنيا ولذاتها.
ألم يأن لشبابنا وفتياتنا أن يعلموا حقيقة الحياة والغاية التي من أجلها خلقوا؟! ألم يأن للران أن ينقشع عن القلوب قبل أن يجمدها هاذم اللذات؟!
}أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ[16] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[17]{ سورة الحديد . أيعقل أن يصل الأمر بمسلم، أو بمسلمة يحمل في قلبه لا إله إلا الله إلى مثل هذا الحد من الغفلة، والضياع، والحيرة، والتردد؟! إن:' لا إله إلا الله' نور في القلب، فهل انطفأ هذا النور؟ ورحم الله ابن القيم؛ حيث قال:' اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب، وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور وتفاوت أهلها، في ذلك النور قوة وضعف لا يحصيه إلا الله تعالى . فمن الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف، ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بين أيمانهم، وبين أيديهم على هذا المقدار بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علماً، وعملاً، ومعرفة، وحالًا. وكلما عظم نور هذه الكلمة، واشتد؛ أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة، ولا شهوة، ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده، الذي لم يشرك بالله شيئاً. فأي ذنب، أو شهوة، أو شبهة دنت من هذا النور؛ أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنقذه من سارقه، أو حصل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبداً مع لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزانته، وولى الباب ظهره …'ا.هـ فإلى كل من ابتلي بالسلبية، ودنو الهمة، إلى كل من ابتلي بهذا الداء أو بشيء منه أهدي هذه الكلمات والتوجيهات.ولقد جعلت لهذا الداء مظاهر، وأسباباً، وعلاجاً .
أهم صفات الرجل الصفر أو المرأة الصفر:
1- الخمول والكسل: فلا يكلف نفسه القيام بشيء، حتى في مصالحه الشخصية، بل ربما في ضروريات حياته: كالدراسة، أو الوظيفة، أوحتى بيته، فماذا نقول إذاً عن حاله مع الطاعات: من قيام ليل، وصلاة وتر، ومن السنن الرواتب، ومن صيام النفل، وقراءة القرآن... بل انظر لحاله من الفرائض، والتثاقل فيها، حتى أصبحت حاله شبيهة بحال المنافقين الذين قال الله عنهم:} وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا[142]{“سورة النساء “ فكيف حاله مع قضايا المسلمين والاهتمام بها؟ وكيف يحمل هم هذا الدين والدعوة إلى الله؟ [اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وأحمد. هكذا كان يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يردد هذا الدعاء علاجاً لهذه الظاهرة.
2- الرضا بالدون مع القدرة على ما هو أفضل وأحسن: قال ابن الجوزى في 'صيد الخاطر':' من علامة كمال العقل؛ علو الهمة؛ والراضي بالدون دنيء
ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام(/1)
إني على ثقة أن في شبابنا، وفتياتنا، ورجالنا، ونسائنا خيراً كثيراً، وأن في وسعهم، وطاقاتهم؛ الكثير والكثير، ولكنها السلبية تلك الدال العضال، أعاذنا الله وإياكم منها. إن الله يربي المؤمنين على التطلع إلى أعلى المقامات، فيقول سبحانه على لسانهم:} وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا[74] {“سورة الفرقان” انظر:} وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا[74] {لم يقل سبحانه: واجعلنا من المتقين، ولكنها تربية على الهمة العالية، والعزيمة الصادقة: } وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا[74] {إن الله عز وجل يريد منك أيها المسلم، ويريد منك أيتها المسلمة: أن تكون ذا همة عالية، أن تكون إماماً للمتقين، وأن تكوني إمامة للمتقيات. والرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: [... فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ] رواه البخاري وأحمد . إن أقصى همة أحدنا إذا ذُكِرَتْ الجنة؛ أن يسأل الله الجنة، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يربي فينا التطلع إلى أعلى المقامات، وعدم الرضا بالأمور الدنية؛ ولذلك: [فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ].
3- التقيد بروتين الحياة وعدم التطلع إلى الجديد: اعتاد بعض المسلمين على نمط معين من الحياة، ودرج عليه، فيثقل عليه المشاركة، ويصعب عليه العمل، وكلما حُدِّثَ بأمر؛ كان الرد منه سلباً، حتى أصبح المسكين لا قيمة له، ولا ينظر إليه، ولا يسمع لكلمته، ربما مع سعة علمه، وعلو مركزه؛ رضي بالدون، ورضي برتابة الحياة، حتى ملها هو بنفسه، وأصبح يعيش في هامش الحياة لا معنى له، فكيف تريد من الآخرين أن يستجيبوا لك، أو حتى تسمع كلمتك؟ فإن الناس ينظرون إلى علو همتك، وإلى صدق كلمتك، وإلى عملك . إن بعض الناس إذا مات لا يبكيه أهله، ومدينته فقط، بل تبكيه الأمة بكاملها؛ لأن الأمة فقدته، لم يفقده أهله فقط، ولم تفقده مدينته، كل الأمة تبكي عليه؛ لأن الرجل كان رجلا ممتازاً، كان رجل معطاء، عاملاً، نشيطاً .
وبعض الناس إذا مات بكاه أهله أياماً، وربما قالوا في قرارة أنفسهم: الحمد لله الذي أراحنا منه؛ لأنه كَلّ عليهم.
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد فذ يموت بموته خلق كثير
وشتان بين هذا وذاك، فإن من الناس من همته في الثرى أي في التراب، وإن من الناس من همته في الثريا. فكيف يرضى مسلم عاقل أن تذهب الأيام، والليالي، وهو على حاله بدون تطور ولا تقدم، اسأل نفسك كم عمرك الآن؟ وأسألك بالله هل أنت راض عن نفسك؟ ماذا قدمت خلال هذه السنوات؟ وهل أنت في تطور أم أنك ما زلت على حالك؟ إن المسلم العاقل، صاحب المبدأ، واليقين؛ لا يهدأ له بال، ولا يقر له قرار، حتى يقدم ما بوسعه، وحتى يتقدم، وحتى يكون غده أفضل من أمسه، قال ابن الجوزي:'ولله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها، فهم يبالغون في كل علم، ويجتهدون في كل عمل، ويثابرون على كل فضيلة، فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك؛ قامت النيات نائبة وهم لها سابقون، وأكمل أحوالهم؛ إعراضهم عن أعمالهم، فهم يحتقرونها مع التمام، ويعتذرون من التقصير، ومنهم من يزيد على هذا، فيتشاغل بالشكر على التوفيق بذلك. ومنهم من لا يرى ما عمل أصلًا؛ لأنه يرى نفسه وعمله لسيده، وبالعكس من المذكور عن أرباب الاجتهاد حال أهل الكسل، والشره، والشهوات، فلئن ارتدوا بعاجل الراحة؛ لقد أوجبت ما يزيد على كل تعب من الأسف والحسرة؟ ومن تلمح صبر يوسف عليه السلام، وعجلة ماعز -أي في التوبة- بان له الفرق، وفهم الربح من الخسران، ولقد تأملت نيل الدر من البحر، فرأيته بعد معاناة الشدائد، ومن تفكر فيما ذكرته مثلاً، بانت له أمثال، فالموفق من إذا تلمح قصر الموت والبعث فيه، وامتداد زمان الجزاء الذي لا آخر له؛ انتهب حتى اللحظة، وزاحم على كل فضيلة، فإنها إذا فاتت لا وجه لاستدراكها، أليس في الحديث يقال للرجل: [ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا] رواه الترمذي وأبوداود وأحمد . فلو أن الفكر عمل في هذا حق العمل؛ حفظ القرآن عاجلاً' اهـ .(/2)
4- الاستجابة للنفس الأمارة: الاستجابة لشهواتها ولذاتها، حتى مات الشعور بالذنب والتقصير؛ لذلك ظن كثير من المسلمين أنه على خير، بل ربما لم يرد على خاطره أنه مقصر، فبمجرد قيامه بأصول الدين، وبمجرد محافظته على الصلوات، والتزامه في الظاهر؛ ظن في نفسه خيراً عظيماً، ولكن ما كيفية هذا القيام؟ وما حقيقة هذا الالتزام؟ وهل قبل الله منه أم لا؟ بل لماذا نسي مئات بل آلاف من الصغائر التي تجمعت عليه من الذنوب والمعاصي، ففي حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ] رواه أحمد بسند حسن . فأعجبتنا أنفسنا وأعمالنا، فرضينا بما نحن عليه، وأعلنا الاكتفاء وعدم المزيد؛ فكانت النتيجة السلبية، ودنو الهمة، وعدم التطلع لما هو أفضل، وربما نظر أحدنا إلى من هو دونه في العبادات، فأعجبته نفسه، وتقاعس عن الكثير من أبواب الخير،وانظر لحال هذا الكناس وعزته: قال الأصمعي:' مررت بكناس في البصرة ينشد:
فإياك والسكنى بأرض مذلة تعد مسيئًا فيه إن كنت محسنًا
ونفسك أكرمها وإن ضاق مسكن عليك بها فاطلب لنفسك مسكنًا
فقلت- أي الأصمعي-: والله لم يبق بعد هذا مذلة، وأي مذلة بعد الكنس؟ فقال الكناس: والله لكنس ألف مرة أحسن من القيام على باب مثلك'. هكذا تكون عزة المسلم أيًا كان ذلك العمل الذي يقوم به ما دام يقوم به لله عز وجل.
5- كثرة الجلسات وضياع الأوقات: وهذا من أكثر المظاهر التي انتشرت أخيراً، فإنك تبحث عن شبابنا، ورجالنا، فتجدهم مساء كل يوم ربما في الاستراحات، وعلى الأرصفة، وعلى الشاطئ، وليس الخطر في الاجتماعات ذاتها، بل في كثرة الكلام دون عمل يفيد الأمة، وينفع الأجيال، وكثرة الجدال، هذا إن سلمت الجلسات من الغيبة، والنميمة، وتنقص الآخرين، ومن وسائل اللهو المحرم، وإلا فإن الطامة أعظم . إنك لتتألم أشد الألم وأنت تعلم أن في تلك الجلسات أعداداً هائلة من أصحاب الطاقات، والمواهب، والعقول يلتقون في الأسبوع مرة واحدة على الأقل، أي في السنة ما يقرب من [ 48] لقاء واللقاء الواحد لا يقل عن خمس ساعات ربما تزيد أو تقل، فما هي النتيجة؟ بماذا خرجوا بعد هذه الاجتماعات الطويلة؟ وماذا قدموا لأنفسهم؟ وماذا قدموا لعقيدتهم؟ وما هي حصيلة العلم الذي كسبوه من هذه الجلسات؟ هذه إشارة سريعة؛ لنعلم حجم السلبية في مجتمعنا المسلم؛ وبالتالي حجم الخسارة لكثير من طاقتنا ومواهبنا. فلماذا هذا التنصل من الواجبات، والهروب من الواقع؟ أيعقل أنهم لا يعلمون أنهم مسئولون عن هذا الواقع المرير للأمة الإسلامية؟ أيعقل أنهم لا يعلمون أنهم مسئولون أمام الله عن هذا الواقع المرير، وعن حال الأمة الإسلامية؟ قد يقول قائل منهم:ماذا باستطاعتنا أن نقدم؟
أقول: والله إن باستطاعتك الكثير لو فكرت أنت وأصحابك أن تستغلوا هذه الجلسات:لنفع أنفسكم ولنفع أولادكم وأهليكم، ثم بعد ذلك: لنفع أمتكم . إن من فكر؛ وجد . وإن من حرص، وحمل الهم؛ عرف كيف يعمل . أما الجلوس في المجالس، والكلام، والقيل والقال بما لا ينفع، فإن هذا ضياع للأعمال والأوقات، والطاقات، والمواهب، والأفكار، كل فرد منا عليه جزء من المسؤولية مهما كان:
لا تلم كفي إذا السيف نبا صح مني العزم والدهر أبى
مرحبا بالخطب يبلوني إذا كانت العلياء فيه السببا
6-عدم الاستعداد للالتزام بشيء: التهرب من كل عمل جدي، وعدم الاستعداد للالتزام بأي شيء ، وخداع النفس بالانشغال وهو فارغ. كم من الناس إذا كلف بأمر؛ قال: مشغول، وحقيقة أمره: أنه غير مشغول، أو أنه مشغول بمثل هذه الجلسات، واللقاءات . أو الانشغال في شهوات النفس، وملذاتها، أو التسويف، والتأجيل، وتأخير الأعمال، والغفلة، والنسيان المستمر لما كلف به، والأخطر من ذلك كله: النقد المستمر لكل عمل إيجابي، وتضخيم الأخطاء . كل ذلك تبرير لعجزه وسلبيته القاتلة. بعض الناس لا يعمل، ويا ليته لم يعمل فقط، بل جعل نفسه راصداً لأعمال إخوانه: مرة بالنقد، ومرة بالجرح، ومرة بالتثبيط والتخذيل والتنصل من المشاركة والعمل، وكلما طلبناه في مكان؛ قال لنا: مشغول، وكلما كلفناه بمشاركة؛ قال: لا أستطيع، بل كلما حدثناه في أمر؛ كان لنا مثبطاً ومخذلًا :
ولم أجد الإنسان إلا بسعيه فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا
وبالهمة العلياء ترقى إلى العلى فمن كان أعلى همة كان أظهرا
ولم يتأخر من أراد تقدما ولم يتقدم من أراد تأخرا
إذاً: فلكل شيء سبب، فإذا أردت أن تجعل نفسك في مكانها؛ فلتتخذ لها ما ترضاه أنت لها .(/3)
7- تعطيل العقل: وعدم التفكير، وإن فكر كثير من المسلمين والمسلمات، واستخدم عقله؛ فإذا هو يفكر فيما يحبه ويشتهيه كالرحلات، والصيد، والجلسات، والملذات، وكأنها الهدف الذي خلق له، فهبطت اهتماماته، وسفلت غاياته، فلا قضايا المسلمين تشغله، ولا مصائبهم تحزنه، ولا شئونهم تعنيه، وإن حدث شيء من ذلك، فعاطفة سرعان ما تبرد، ثم تزول. نرى كثيراً من الشباب والفتيات وكثيراً من المسلمين أصحاب عقول وأفكار، فعطلوها حتى أصبحوا أصفاراً على الشمال: فإما تقليد، وإما تبعية للآخرين عمياء، وإما سكر للعقل بشهواته حتى وإن كانت مباحة، وهذا كلام للجميع: للرجال والنساء، ملتزمين أو غير ملتزمين فلكل حظ ونصيب من تعطيل عقله.
8- عقدة المستحيل ولا أستطيع ولا أقدر: مظهر من مظاهر السلبية، ودنو الهمة، كم من المرات نضع بأنفسنا العقبات والعراقيل أمام كثير من مشاريعنا نحن، والواقع يشهد بهذا ،فلماذا عذر: مستحيل، وعذر الاستطاعة . وعدم القدرة هي الورقة التي نلوح بها دائمًا، فنغلق نحن بأيدينا الأبواب في وجوهنا .
والله لو فكرنا وحاولنا؛ لوجدنا أن كثيراً من العقبات التي تقف أمامنا إنما هي عقبات وهمية، وما هي إلا حيل نفسية . فكر جيداً، وارجع لنفسك، وحاسبها، وستجد أننا بأنفسنا نعيق أنفسنا عن العمل، فكل أمر بمقدور البشر أن يفعله، لا يمكن أبداً أن يكون مستحيلاً، سئل نابليون كيف استطعت أن تولد الثقة في نفوس أفراد جيشك؟ فأجاب: كنت أرد بثلاث على ثلاث: من قال: لا أقدر قلت له: حاول، ومن قال: لا أعرف قلت له: تعلم، ومن قال: مستحيل قلت له: جرب . هكذا إذاً فأقول لك: لا تيأس اجعل هذه الكلمة شعاراً لك لكل عمل تقوم به، فلكل مجتهد نصيب، وإن من أدمن قرع الباب؛ ولج .
كن رابط الجأش وارفع راية الأمل وسر إلى الله في جد بلا هزل
وإن شعرت بنقص فيك تعرفه فغذي روحك بالقرآن واكتمل
وحارب النفس وامنعها غوايتها فالنفس تهوى الذي يدعو إلى الذلل
9- التثبيط والتيئيس للآخرين: فإن الرجل الصفر لا يكتفي بعدم المشاركة، بل أصبح قاطع طريق، وعوناً للشيطان وحزبه، فتجده يختلق الأعذار والأسباب، وربما ألبسها الصبغة الشرعية ليبرر عجزه، وعدم مشاركته وصدق القائل:
لنا صاحب مولع بالخلاف كثير الخطأ قليل الصواب
ألد لجاجاً من الخنفساء وأزهى إذا ما مشى من غراب
فليس لديه الشجاعة للاعتراف بالخطأ والتقصير، وليس لديه الاستعداد للعمل والمشاركة، ولكنه على أتم استعداد للنقد والتجريح، والثلب والتقبيح، فإلى الله وحده نشكو أمثال هؤلاء .ألا فليتق الله أولئك الإخوة الذين نصبوا أنفسهم مثبطين ومخذلين لإخوانهم، وقاطعي طريق للأعمال الخيرية في كل مكان . ولذلك، فنحن نقول: كن عوناً لإخوانك، أو على الأقل: اعمل ولو لوحدك، فإن الهدف واحد، والغاية واحدة . فإن لم يكن هذا ولا ذاك، فما أجمل الصمت، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقل خيرا أو ليصمت . وإن المثبط لإخوانه ليخشى عليه والله أن يبوء بإثمه وإثم الآخرين، وأذكّر هنا بقول الحق عز وجل:} لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ[25] { “سورة النحل” فليحذر أولئك النفر.
10- الضعف والفتور أثناء أوقات العافية:فإنك تكاد لا ترى للرجل الصفر نشاطاً، ولا تعرف عنه جداً، فإذا ما وقعت مصيبة، أوفتنة، أو كان الخلاف؛ رأيته وأصحابه ينشطون، وحول الحرص على الدعوة يتحدثون، وبالتخطيط هم يلهجون، وفي الناس يصنفون ويقسمون. والوقائع والأحداث والفتن هي التي تميز بين أناس وأناس، فإن لكل من الحق والباطل رجالا، فكما أن الحق يحمله رجال وينافحون عنه، فكذلك الفتن لها رجال يحملونها ويدعون الناس لها، ويتحملون كبرها، ولكن بين حملة الحق والصابرين عليه، ودعاة الفتنة: جمهور يتنازعهم الخير والشر، ومن هنا ينبغي الحذر من دعاة الفتن، ومن يتأثر بهم من الرعاع، وضعاف النفوس، وأتباع الهوى .
وما أجمل ذلك القول لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه:' إن هذه القلوب أوعية، فخيرها؛ أوعاها للخير ،والناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة ،وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، أف لحامل حق لا بصيرة له ينقدح الشك في قلبه بأول عارض لشبهة، لا يدري أين الحق. إن قال؛ أخطأ، وإن أخطأ؛ لم يدر، فموقن بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به...' . هذه عشرة مظاهر من مظاهر الرجل الصفر .
أسباب السلبية ودنو الهمة:(/4)
1- الجهل أو الغفلة عن الغاية التي من أجلها خلق: ألا تعلم أن الغاية التي من أجلها خلقنا هي تحقيق عبودية الله عز وجل في الأرض، هذا هو الهدف الذي من أجله خلقنا.ألا تعلم أن العبادة هي الغاية التي من أجلها خلقت؟! إن بعض الناس قد يجهل الهدف الذي من أجله خلق، وبعض الناس قد يعلم، ولكنه يغفل، وتغفله شهوات الدنيا ولذاتها عن ذلك الهدف.
فالغاية التي من أجلها خلقنا: هي عبادة الله، ولكنها ليست العبادة فقط في المسجد، أو ليست الصلاة والصيام والحج والزكاة لا، وإنما العبادة التي يريدها الله هي العبادة بمفهومها الشامل الكامل، والتي عرفها أهل العلم، فقالوا:' هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأفعال الظاهرة والباطنة' هكذا تكون العبودية في كل شأن من شئون حياتك:في مسجدك، وفي بيتك، وفي وظيفتك، وفي شارعك، وفي تجارتك، وفي كل مكان:} قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[162]لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[163]{ “سورة الأنعام”. وعندها:يعلم الإنسان أن كل حركة، وكل سكنة، وكل نفس، وكل شيء يعمله؛ يؤجر عليه إن أخلص النية لله فيه،حتى وأنت تجامع زوجتك! ألم يقل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ] رواه مسلم .حتى وأنت تخرج مع إخوانك وأصدقائك للجلسات والاستراحات، فإنه لإدخال الراحة، والاستجمام، والانبساط إليهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: [تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ] رواه الترمذي . المهم: أخلص النية في ذلك لله عز وجل، واحتسب ذلك عند الله، وأن يكون ذلك العمل مرضياً لله، وبعد ذلك اعمل ما شئت، وقل ما شئت بهذين الشرطين: أن يكون خالصًا لله، وأن يكون الله راضيًا عنه، اعمل وتابع في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه هي العبادة . فإذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسقيت بماء الإخلاص، ومتابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ أزهرت أنواع الثمار وهذا ما نريده.
والهدف الذي من أجله خلقت هو الفيصل في كل أعمالك، وأقوالك، فلابد أن يكون الهدف واضحاً لكل مسلم، فهو الضابط لأعماله، وهو الضابط لحبه وبغضه، لأكله وشربه، لشكله ولبسه، لذهابه ومجيئه، لقيامه وجلوسه، لزوجه وأولاده، لأصحابه وخلانه، لكل شئون الحياة صغيرها وكبيرها .
أما إذا ضاع الهدف، أو لم يتضح له؛ فإن الإنسان يتخبط: فمرة في ضياع، ومرة في هموم، ومرة في صلاح، ومرة في شقاء، وهكذا لا يدري من يرضي ذلك المسكين، حتى وإن كان له عقل وبصر .
2- صحبة ذوي العزائم الواهنة والهمم الدنيئة: وهذا السبب من أكثر الأسباب تأثيراً، فالإنسان سريع التأثر بمن حوله، ولهذا كان التوجيه النبوي: [ الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ ] رواه الترمذي وأبوداود وأحمد . إن هذا من أهم أسباب السلبية ودنو الهمة وإن كان أصحابك من الصالحين ومن أهل الخير، فما داموا أصحاب همم ضعيفة، وعزائم واهنة، ولا يهمهم إلا مصالحهم الشخصية، والأنس والضحك، وقضاء الأوقات بدون فائدة؛ فلا خير فيهم بل إن صلاحهم حجة عليهم يوم أن يقفوا بين يدي الله، فعلى العاقل ألا يغتر بصحبة الصالحين تاركاً عيوب نفسه، بل هذه حيلة نفسية يجب التنبه لها، قال عمر بن عبد العزيز:' إن لي نفسًا تواقة لقد رأيتني وأنا بالمدينة غلام مع الغلمان، ثم تاقت نفسي إلى العلم وإلى العربية والشعر فأصبت منه حاجتي وما كنت أريد، ثم تاقت نفسي وأنا في السلطان إلى اللبس والعيش والطيب فما علمت أن أحدًا من أهل بيتي ولا غيرهم كان في مثل ما كنت فيه، ثم تاقت نفسي إلى الآخرة والعمل بالعدل فأنا أرجو ما تاقت نفسي إليه من أمر آخرتي' . هكذا تكون النفس التواقة، هكذا تكون النفوس مجاهدة، صابرة، متحملة، حتى تنال ما تريد . فجاهد نفسك يا أخي، وجاهدي نفسك أيتها المسلمة، فلا نستطيع أن نصل إلى ما يريده الله عز وجل من العزة والتمكين إلا بمجاهدة هذه النفوس لنجاهد أنفسنا، ولنقل لها:
تريدين إدراك المعالي رخيصة ولابد دون الشهد من إبر النحل(/5)
3- الغفلة عن الذنوب وقلة الشعور بالخطأ أو ضياع الوازع الديني: سبب من الأسباب التي جعلت كثيراً من الناس صفراً، أصبح ذلك الرجل الصفر أسيراً لذنوبه، فهو لا يستطيع التخلص منها، فلا هي دفعته إلى العمل الصالح والإكثار منه لعلها تكون سبباً لمحوها وغفرانها، وهذا هو الأصل في المسلم: أنه إذا أذنب ووقع في السيئات؛ يسارع ليعمل صالحاً، لعل الصالحات أن تمحو تلك الذنوب والسيئات، ولذلك قال عز وجل:} إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ... [114]{ “سورة هود” وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا] رواه الترمذي والدارمي وأحمد . هذا هو الأصل ولكن الرجل الصفر أسير للمعاصي والذنوب قيدته وكبلته، فإذا حدثته بالعمل والتحرك؛ شكى ضعفه وكثرة ذنوبه، بل ربما ظن البعض بنفسه النفاق، وهذه شبهة أحرقت علينا كثيراً من الطاقات، والعقول والأفكار .
والحل في نظر البعض أن يقعد عن العمل، ويبتعد عن الساحة، ويبقى داخل قفص الشيطان وأوهامه مع الذنوب والمعاصي، وغفل هذا المسكين عن أن خير علاج للسيئات والتقصير هو العمل، وكثرة التوبة، والاستغفار . فإن أبى؛ فإني أخشى عليه من الانحراف، فالنفس إن لم تشغلها بالطاعة؛ شغلتك بالمعصية .
4- الزهد في الأجر وعدم الاحتساب والغفلة عن أهمية الحسنة الواحدة: وهذا لا شك نتاج الغفلة عن الموت، ونسيان الآخرة، وإلا فإن المؤمن مجزي على مثقال الذرة، كما أنه محاسب عليها أيضًا:} فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ[7]وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[8]{ “سورة الزلزلة” إن القلب الحي يرتعش لمثقال ذرة من خير أو شر . وفي الأرض قلوب لا تتحرك لجبل من الذنوب والمعاصي والعياذ بالله .
5- الخوف والأوهام : فالخوف أكل قلب الرجل الصفر وقلوب الكثيرين وهم أحياء، فهم يرون ما يجري لبعض الدعاة، ولأجل هذا تعطلت الأعمال في زعمهم، وتوقفت الدعوة، فهو يخاف على نفسه، وعلى ولده، وعلى عمله، وربما ظن أن كل الناس يراقبونه ويلاحقونه، وهكذا تستمر الأوهام والتخيلات حتى وقع فريسة لها وقعد عن العمل. ونحن نقول: نعم إن طريق الدعوة إلى الله مليء بالعقبات والأشواك، ولولا والله هذه العقبات وهذه المعوقات؛ لشككنا في طريقنا، ولكن أن نعطل أعمالنا، ونحسب كل صيحة علينا، ونغلق كل الأبواب حتى وإن كانت مفتوحة مفسوحة، فلا بل هي والله وسوسة شيطان: } إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[175]{ “سورة آل عمران” .(/6)
وإذا سمع المؤمن أقوال المثبطين الخائفين؛ ذكر قول الحق مباشرة:} الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[173]{ “سورة آل عمران” ورحم الله أصحاب تلك الهمم العالية يوم أن كانوا يطلبون الموت ويبحثون عنه في كل ساحة، فَعَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ ثُمَّ قَالَ أُهَاجِرُ مَعَكَ فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيًا فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا هَذَا قَالَ: [ قَسَمْتُهُ لَكَ] قَالَ مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: [إِنْ تَصْدُقْ اللَّهَ يَصْدُقْكَ] فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ أَهُوَ هُوَ] قَالُوا نَعَمْ قَالَ: [صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ] ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ [ اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ] رواه النسائي والحديث صحيح كما قال الألباني في صحيح النسائي. وانظر إلى تأثير بنات المحدث الثقة عاصم بن علي بن عاصم أحد شيوخ الإمام أحمد بن حنبل، وكيف صبر في محنة الإمام أحمد، وتقوى على الثبات عندما كتبت إليه بناته بتثبيته على الحق، فقالت البنيات: يا أبانا إنه بلغنا أن هذا الرجل أخذ أحمد بن حنبل فضربه على أن يقول القرآن مخلوق، فاتق الله ولا تجبه فوالله لئن يأتينا نعيك؛ أحب إلينا من أن يأتينا أنك أجبت. فأي أثر ستلقيه هذه الكلمات في نفس عاصم بن علي؟! إن هذه الكلمات لم تأت من فراغ بل من تربية جادة على الهمة العالية والغاية المنشودة، فأين نحن من ذلك مع أزواجنا، وأولادنا، وبناتنا، إن همة بعضهم لا تتعدى شهوات الدنيا ولذاتها، فأي تربية هذه التي يعيشها المسلمون اليوم مع أولادهم وبناتهم وأنفسهم؟!
6- التردد والتذبذب والحيرة والاكتئاب: هذا السبب جعل كثيراً من الناس سلبياً وصفراً، فهو لا يدري من يرضي؟ ولا يدري من يتبع؟ ولقلة علمه وضعفه؛ أصبح كريشة في مهب الريح، تؤثر فيه الأقوال المزخرفة، وأقول لمثل هذا وأشكاله: إن منهج أهل السنة والجماعة، وهدي السلف الصالح واضح بين لا غموض فيه، ولا تزلف لأحد، يشع في النفس راحة واطمئنان، والالتزام به عامل مؤثر في الاستقرار والاستمرار، فعض عليه بالنواجذ، وانبذ أهل الهوى وجرح الناس ولمزهم، وعليك بالعمل الجاد، فإنه خير دليل على سلامة المنهج، فإن الله يطالبنا بالعمل، وليس بالجدال والمراء وتتبع الزلات والأخطاء، فاثبت بارك الله فيك، واترك التردد والحيرة، وردد دائمًا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ] رواه الترمذي والنسائي وأحمد . فإذا حصل الثبات أولاً، والعزيمة ثانياً؛ أفلح كل الفلاح:} فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ[159]{ “سورة آل عمران”
فإياك والتردد:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
7- عدم الثقة بالنفس والورع الكاذب: الذي أصيب به عدد من المسلمين، فتجده يعتذر عن إلقاء كلمة؛ لأنه لايستطيع، وهو قادر لكنه الخوف من الفشل والتهيب من المواجهة... وهكذا في كل أمر يعرض عليه ،فتقتل الطاقات، وتموت المواهب، ولا شك أنه مسئول عنها أمام الله؛ فأعد للسؤال جواباً
وإذا لم تستطع شيئًا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع(/7)
أما أن تجلس، وأن تتسكع بين شهوات النفس ولذاتها، فلن نرضاه لك أبداً . فمتى تتخلص من عقدة لا أستطيع ولا أقدر؟! وإذا قلنا له مثل ذلك قال: لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. وأقول: إن في وسعك الكثير، فحاول وجرب، وإن لم تنجح أليس في هذا معذرة إلى ربكم، وما علينا إلا البلاغ المبين، ثم إني أنبهك لأمر نغفل عنه كثيراً وهو مهم للغاية ألا وهو: أن الأخيار والنبلاء والعلماء ما برزوا إلا بالشجاعة، والثقة بالنفس، وإلا فإن عند غيرهم بضاعة وكنوزاً، ولكنهم تخوفوا، وجبنوا؛ فما شعوا:
حب السلامة يفني عزم صاحبه عن المعالي ويغري المرء بالكسل
8- أمراض القلب: كالحسد، وسوء الظن، والغل، فإذا أصيب القلب بهذه الأمراض؛ انشغل بالخلق عن الخالق، وزادت همومه، وكثر كلامه، فلا تسمعه إلا منتقصاً للآخرين، مغتاباً لهم، لاهم له سوى الكلام والقيل والقال، بل هو يحزن لفرح أخيه ويفرح لحزنه، وبلية البلايا أنه يرى أنه على حق، وكل من خالفه فهو على باطل:} أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [8]{ “سورة فاطر” وربما عرف أنه أخطأ، ولكن الشهوة الخفية في التصدر، والترفع، وحب الرياسة أهلكته وأصمته نعوذ بالله من ذلك
قبيح من الإنسان ينسى عيوبه ويذكر عيباً في أخيه قد اختفى
فلو كان ذا عقل لما عاب غيره وفيه عيوب لو رآها به اكتفى
ما هو العلاج وما هو الطريق ؟
العلاج يتلخص في هذه النقاط السريعة:
أولًا: وضوح في الهدف والغاية والمبدأ وقد أسلفت الكلام عن هذا : ورحم الله حرام بن ملحان يوم أن عرف هدفه في الحياة فقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم مع القراء لقبيلة من قبائل مشركي قريش، فكان يعرض عليهم رسالة رسول الله، ويبلغهم الرسالة، فأشاروا إلى رجل أن اطعنه من خلفه، فطعنه من ظهره حتى أنفذ الرمح من صدره، فإذا بحرام رضي الله تعالى عنه وأرضاه يلتفت إلى القاتل ويقول: [ الله أكبر ! الله أكبر ! فزت ورب الكعبة فزت ورب الكعبة] سبحان الله! يا حرام: إنك تغادر الدنيا وشهواتها.. تغادر الزوجة والأولاد، فأي فوز هذا يا حرام الذي فزت به؟! يعلم رضي الله تعالى عنه لماذا يعيش، إن أسمى أمانيه أن يموت في سبيل الله إنه يقرأ في كتاب الله:} وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[169]{ “سورة آل عمران” ... ورحم الله خبيب بن عدي يوم أن كان مصلوباً على جذع، وكان المشركون يقولون له: أترضى يا خبيب أن يكون رسول الله مكانك الآن؟ فقال: [ والله لا أرضى أن يكون محمداً بين أهله الآن تصيبه شوكة وأنا في أهلي]
ثانيًا: الخوف من الله: خير زاد لعلو الهمة، فاحرص على خوف الله، واملأ قلبك بخوف الله، واعلم أن الله يراك .. استعن بالله واعلم أنه معين لك في كل أمر.. اعلم أن الله مطلع عليك في كل حال، وفي كل مكان، وفي كل مقام.. فكر بهذه الأمور حتى يمتلأ قلبك تعظيماً لله، فإن من كان بالله أعرف؛ كان لله أخوف .
ثالثاً: مصاحبة أصحاب الهمم العالية:
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
وقل لي من تصاحب؛ أقل لك من أنت .
رابعاً: النظر في سير المجتهدين وفي سير السلف الصالح: أصحاب الهمم والعزائم، اقرأ في السير والتراجم، فلا تترك فضيلة وقفت عليها ويمكن تحصيلها إلا حصلتها، فإن القنوع في الفضائل حالة الأراذل، فكن رجلاً رجله في الثرى، وهامة همته في الثريا.
خامساً:التنافس على الخيرات والشعور بألم الفوات: اسأل نفسك بحق: كم يفوتك من الحسنات؟ كم من الناس اهتدوا فكانوا في موازين الآخرين لماذا لم يكونوا في موازين أعمالك أنت؟ لماذا لا تكون أنت الذي مد يده بشريط أو بكتاب، أو لسانه بكلمة طيبة، أو عقله بفكرة أو طرح؟ فالله عز وجل يقول:} فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ[148]{ “سورة البقرة” ويقول:} وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ[26]{ “سورة المطففين” إن مجرد فكرة تقولها وتقرؤها في مجلس من المجالس، فيعمل بها ؛لك أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من قال: أن الوقف لله عز وجل يجب أن يكون مالًا أو عقاراً؟! يمكن أن تطرح فكرة للمسلمين عامة، فيعمل بها، فتكون هذه الفكرة وقفاً لله تعالى، وأنت صاحب الوقف؛ تؤجر عليها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
سادساً: فتش عما وراء الأكمة: ربما كانت هناك أسباب أخرى خفية لسلبية بعض الناس، فربما كان فلان شاباً قوياً جلداً نشيطاً، صاحب مواهب وابتكارات لكنه صفر لماذا؟ لسبب سوء التخطيط أو سوء التوجيه، فليتنبه لذلك المربون والموجهون، فقد يكونوا سبباً رئيساً في سلبية كثير من تلاميذهم، ومن تحت أيديهم، وليس في هذا تبرئة للرجل الصفر، فإن عليه الحرص والاجتهاد، ويجب عليه ألا ينتظر الفرص بل يبحث عنها، وألا ينتظر الموجه، فإن وجد وإلا فالتجربة خير برهان فليتوكل على الله، ولينطلق .
وأخيرًا أقول:(/8)