ثالثاً: تحتاج الأمة في الفتن أن ترجع لأهل العلم الراسخ والنظر الثاقب، وتحذر من خطيب مصقع، وواعظ جاهل يشوّه الحقائق، ويغطي العقل بلهب العواطف، وقد جاء في الأثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قوله: "شرّ الناس في الفتنة كل راكب موضع، وكل خطيب مصقع"! ويقول الحسن البصري -رحمه الله-: "الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل".
ولا شك أن أهل العلم والفكر إذا اجتمعوا على أمر رشدٍ أنه أدعى إلى الصواب وأقرب إلى النجاة. وأزمة الرسوم المسيئة كانت تحتاج إلى مثل هذا الدور الذي يصنع الفعل الحضاري، ولا يخضع للانفعال الوقتي أو المعادي، ويُستثمر الحدث لصالح المسلمين، ولا يُوظّف ضدّهم. ولا يمكن أن نجد فعلاً حضارياً إلا وقد تأسس على فكرة جوهرية تنطبع على عقول الأفراد تدخلهم نحو مدارج النهضة والتقدم. وهذا الطريق الطويل الشاقّ هو الدور الذي فعله الأنبياء والرسل، وهو الدور الذي ينبغي أن يكمله ورثتهم، والسائرون على دروب نهضتهم.(/2)
الحوارُ الحضاريّ بعد أزمة الرسوم
د.مسفر بن علي القحطاني 6/3/1427
04/04/2006
بعد مرور أكثر من ستة أشهر على أزمة الرسوم المسيئة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وبعدما انجلى الغبار عن هذه المحنة التي مسّت أعز مقدساتنا الإسلامية، وبعدما شهدت ساحتنا الفكرية والشعبية ردود فعل غاضبة على ما حدث من اعتداء .. أعتقد أنه آن الأوان لدراسة هذه الحالة التي أيقظت الأمة، وأحيت ضميرها المغيّب، وأشعلت جذوة الغيرة في الأنفس بعد صدمات الذلة والانكسار. ولابد عند تأمل هذه الظاهرة أن نفكر بعيداً عن العواطف والانفعالات التي شهدتها مجتمعاتنا الإسلامية إبّان الأزمة.. وأحب أن أساهم في رصد هذه الحالة من خلال تأملات خاصة، هي رجع الصدى لأفكار منثورة على صفحة هذا المقال:
أولاً: عمق المشاركة الشعبية لنصرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من كافة الفئات ومختلف الشرائح؛ إذ ضربت أروع الأمثلة في الحب والتضحية, مصداق ذلك ما شاهدناه من تحرك وعمل فاق في حجمه وأثره الدور المرتجى من النخب المثقفة في مجتمعاتنا الإسلامية؛ وهي التي تمتلك ناصية الخروج على الفضائيات أو صفحات الجرائد والمجلات. وأظن أن تلك النخب مرت باختبار حقيقي كشف عن حجمها أو أثرها في أزمات الأمة وقضايا المجتمع الساخنة. فلا ننكر أن هناك من تماشى مع ردود الفعل الغاضبة، ونصّب نفسه إماماً للمسلمين أو قاضياً لمعاقبة المعتدين، وقد وُظِّفت تلك التصرفات عكس ما هدفت إليه نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم-, وهناك من كتم رأيه في حمّى الغضب الجماهيري مع قناعته بأن تلك التصرفات الغاضبة مِن قتل وإحراق وظلم في المقاطعة لغير المعنيين تصرفات خاطئة وغير مسؤولة، لكن خوفه من غضب الجمهور و معاكسة إرادة الحشود جعله يكتم النصح الحقيقي والنظرة المعتدلة والفقه اللازم في مثل هذه الظروف, كما برز أصحاب التثاقل والتوهين لمشاعر المسلمين والمتغيظين من هبّة الغيورين؛ وصدق الله العظيم في وصفه لحالة أولئك :(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)[التوبة: من الآية47].
إن النخب المثقفة وأصحاب الرأي في الأمة لا يجوز لهم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وترك الشعوب تمور من الغضب اللاواعي؛ مما أفقدنا كثيراً من مكتسبات تلك الأزمة، وتوظيفها في مصالح الأمة.
ثانياً: هذا التأزّم حرّك المجتمع العالمي إلى فريق النصرة والغضب دفاعاً عن مقدسات ومعتقدات أكثر من مليار مسلم, وإلى فريق المدافعة عن حرية الرأي وحق التعبير من غير شرط أو قيد. وأثار لدى الكثير من المراقبين والمحللين إمكانية العودة لنظرية الصدام الحضاري التي بشّر بها في الغرب هنغتون وفوكوياما. وتأجّجت مشاعر المسلمين في تحميل الغرب والشرق عداوتهم الأبدية للإسلام، وكانت معطيات الصراع الديني والحضاري متوفرة في ثنايا تلك الأزمة من خلال بعض التصريحات الغربية ومحاولة إعادة نشر الرسوم المسيئة. وأظن أن صيحات بعض الخطباء والمنادين بحرب الغرب قد طغت عن تفكيك الحالة الغربية وموقفها من احترام المقدسات الإسلامية. بل أغفلت أن هناك في أوروبا وحدها أكثر من خمسين مليون مسلم أكثرهم مواطنون في تلك الدول. ونسيت الهدف الأساس من وراء تأجيج هذه النزعة الصدامية, ولا أدري: هل كان المراد منها شن الحرب على أوروبا كما شنتها القاعدة على أمريكا التي مازلنا نتحمل تبعات تلك التشنجات المتطرفة؟! ثم أتساءل: هل الغرب كله يحمل هذا العداء السافر حتى نحمّل مئات الملايين من الشعوب، ومئات المؤسسات المعتدلة تبعات ما قامت به بعض الصحف أو القنوات الإعلامية المعادية أو سفاهة بعض المسؤولين و المثقفين الغربيّين؟! وهل من العدل أن نحاكم أمة كاملة بتصرفات سفهائها، ونحن نطالبهم بنظرة العدل والإنصاف، في حين لا ننظر إليهم بها كذلك؟! ثم هل نقدر فعلاً أننا نمارس عداوة أو قطيعة كاملة مع تلك الدول في عصر لا يمكن أن نتعايش إلا بالتبادل التجاري والتقني والتحالف السياسي والعسكري، وغيرها من المشتركات الحاجية بين الشعوب في ظل انفتاح الأسواق وتهاوي الحدود بين المجتمعات؟! ثم لماذا نحسن في إلقاء اللوم على المتآمرين ضدنا، وننسى أننا صنعنا صورتنا المشوّهة في أذهانهم من خلال تصرفات بعض أبنائنا هناك أو زوّارنا إليهم؟! هذه الأسئلة وغيرها لا يمكن أن نسارع في الإجابة عنها من خلال موقف عارض، أو واقع نجهل تفاصيله، أو غفلة عن إدراك المنطلقات الدافعة لهذه التصرفات والمآلات المترتبة عليها؟! والهروب من الإجابة عنها قد يكلفنا جهداً يضيع أو يحملنا عبء تكرار الأخطاء.(/1)
ثالثاً: تحتاج الأمة في الفتن أن ترجع لأهل العلم الراسخ والنظر الثاقب، وتحذر من خطيب مصقع، وواعظ جاهل يشوّه الحقائق، ويغطي العقل بلهب العواطف، وقد جاء في الأثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قوله: "شرّ الناس في الفتنة كل راكب موضع، وكل خطيب مصقع"! ويقول الحسن البصري -رحمه الله-: "الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل".
ولا شك أن أهل العلم والفكر إذا اجتمعوا على أمر رشدٍ أنه أدعى إلى الصواب وأقرب إلى النجاة. وأزمة الرسوم المسيئة كانت تحتاج إلى مثل هذا الدور الذي يصنع الفعل الحضاري، ولا يخضع للانفعال الوقتي أو المعادي، ويُستثمر الحدث لصالح المسلمين، ولا يُوظّف ضدّهم. ولا يمكن أن نجد فعلاً حضارياً إلا وقد تأسس على فكرة جوهرية تنطبع على عقول الأفراد تدخلهم نحو مدارج النهضة والتقدم. وهذا الطريق الطويل الشاقّ هو الدور الذي فعله الأنبياء والرسل، وهو الدور الذي ينبغي أن يكمله ورثتهم، والسائرون على دروب نهضتهم.(/2)
الحوض
من رحمة الله عز وجل بعباده الصالحين في يوم القيامة أنه لم يتركهم عطشى يعانون الظمأ ، بل أكرمهم بحياض يشربون منها ، فجعل لكل نبي من الأنبياء حوضا يشرب منه أتباعه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إن لكل نبي حوضا وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة ) رواه الترمذي وصححه الألباني . ومن أعظم تلك الحياض حوض النبي صلى الله عليه وسلم ، المسمى الكوثر ، قال تعالى : { إنا أعطيناك الكوثر} ( الكوثر : 1 ) والكوثر في كلام العرب الخير الكثير ، وقال صلى الله عليه وسلم : عندما نزلت عليه هذه السورة : ( أتدرون ما الكوثر ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : فإنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير ، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد نجوم السماء .. ) رواه مسلم . وجاء في صفة هذا الحوض أنه يصب من الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم : ( يشخب - أي يسيل - فيه - أي في الحوض - ميزابان - أي قناتان يجري فيهما الماء - من الجنة ) واه مسلم ، ومن صفته أيضاً أن طوله مسيرة شهر ، وماؤه أشدُّ بياضاً من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وكؤوسه كعدد نجوم السماء من شرب منه فلا يظمأ أبدا ، كما روى ذلك البخاري .
وقد خصَّ الله عز وجل الشرب من ذلك الحوض بعباده المؤمنين ، فقد روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : ( أنا فَرطُكُم - أي أتقدمكم - على الحوض فمن ورده شرب منه ، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا . ليردنَّ علي أقوامٌ أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم فأقول : إنهم مني ، فيقال : إنك لا تدري ما بدلوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي ) . فالحديث صريح في أنه لا يشرب من حوضه صلى الله عليه وسلم إلا المؤمنون ، أما من بدل دينه فإنه يطرد ويدعى عليه بالسحق والإبعاد . والحديث يدل أيضا على أن موضع الحوض قبل الصراط ، إذ إن من مرَّ على الصراط كان من أهل الجنة ، فلو كان الحوض بعد الصراط لامتنع أن يطرد أحد عنه .
هذا هو الحوض ، وتلك هي صفته ، وهو كرامة من الله لعباده الصالحين في ذلك اليوم الذي يشتد فيه العطش ، ويعظم فيه البلاء . نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من واردي حوض نبينا صلى الله عليه وسلم ، وأن يسقينا منه شربة لا نظمأ بعدها أبدا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين .(/1)
الحياء حل ة جمال.. وحلية كمال
محمد مصطفى ناصيف
اهتم الإسلام بتربية الإنسان وحثه على التحلي بالأخلاق الحميدة فقال معلم الناس الأخلاق مرشداً.. وداعياً: "وخالق الناس بخلق حسن" (سنن الترمذي) ومن أهم الأخلاق الإسلامية التي دعا الإسلام إليها.. الحياء..
فالحياء حلة جمال، وحلية كمال، يحترَم في عيون الناس صاحبه، وإذا رأى ما يكره غض بصره عنه، كلما رأى خيراً.. قبله وتلقاه، وإذا أبصر شراً تحاشاه.. يمتنع عن البغي والعدوان، ويحذر الفسوق والعصيان، يخاطب الناس كأنه منهم في خجل، ويتجنب محارم الله عز وجل، فمن لبس ثوب الحياء.. استوجب من الخلق الثناء، ومالت عليه القلوب، ونال كل أمر محبوب.
وهو خلق كريم.. يدعو صاحبه إلى الالتزام بالفضائل، ويمنعه من القيام بكل قبيح.
وهو انقباض في النفس من الشيء وتركه خوفاً من اللوم.
وهو حالة تنشأ من رؤية النعم.. ورؤية التقصير في أداء حقها.
وهذه كلمات مضيئة في الحياء وفضله:
إذا قوي حياء الإنسان.. زاد كرمه وقل لومه، وإذا ضعف حياء الإنسان.. قوي لومه.. وضعف كرمه.
من قل حياؤه.. قل أحباؤه.
الحياء: لباس سابغ، وحجاب واقٍ، وستر من العيب، وأخ للعفاف، ورفيق للدين.
الحياء: زينة المسلم.. لأنه ثمرة من ثمرات الإيمان.
الحياء: وجود الهيبة في القلب.. مع وحشة ما سبق منك إلى ربك.
من لا يستحي من الناس.. لا يستحي من الله.
إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستح فاصنع ما تشاء.
إذا ذهب الحياء.. حل البلاء.
جمال بلا حياء.. وردة بلا عطر، والحياء سبب إلى كل جميل.
الحياء دليل على العقل، والبذاءة من الجفاء.
وقد قال من كان أشد حياءً من العذراء في خدرها ص: "الحياء شعبة من الإيمان" (رواه مسلم) وعن أبي هريرة قال ص: "الحياء خير كله" (رواه مسلم).
وروي عن أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق "رضي الله عنهما" أن مكارم الأخلاق عشرة هي:
صدق الحديث، وصون اللسان، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، والمكافأة بالصنيع، وبذل المعروف، وحفظ الذمام للجار، وحفظ الذمام للصاحب، وقرى الضيف.. ورأسهن الحياء.
الحياء: أصل الأخلاق الإسلامية، وكله خير.
الحياء والإيمان.. مقرونان جميعاً، فإذا رفع أحدهما، ارتفع الآخر معه.
من ألقى جلباب الحياء.. فلا غيبة له.
وقال الشعبي: تعاشر الناس فيما بينهم زماناً.. بالدين، ثم رفع ذلك فتعاشروا بالحياء والتذمم، ثم رفع ذلك فما يتعاشرون إلا بالرغبة والرهبة، وسيجيء ما هو شر من ذلك.
إذا حرم المرء الحياء فإنه
بكل قبيح كان منه جدير
يضعف الحياء.. بترك المحاسبة وترك الورع.
والحياء نوعان: نوع فطري.. كالحياء من كشف العورة وآخر إيماني.. كامتناع المؤمن عن فعل المعاصي.
فلا والله ما في العيش خير
ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
والاستحياء من الله حق الحياء، كما جاء في الحديث:
"أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى".
وقال ص: الحياء لا يأتي إلا بالخير" (رواه الشيخان).
والحياء المذموم، كل حياء حملك على ترك خير، أو وقعت بسببه في شر.
وقال ص: " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
من كساه الحياء ثوبه.. لم ير الناس عيبه.
الحياء جوهر.. يزيله الطمع.
من كثر سقطه.. قل حياؤه.. ومن قل حياؤه.. قل ورعه، ومن قل ورعه، مات قلبه.
الحياء: حلية من حلي طباع المرأة، كما أن الشجرة زينة الحديقة، فمتى زادت أشجارها.. زاد جمالها وكذلك المرأة إذا ازداد حياؤها.. زاد بهاؤها، وتضاعفت رغبة الناس فيها.. وإقبالهم عليها، والحياء من الرجال حسن، لكن من النساء أحسن.
وحياة كل وجه.. بحيائه، كما أن حياة الغرس بمائه.
ومن أحوال المستحي: طول الخشوع، ودوام الإخبات، وتنكس الرأس، وانحسار الطرف، وكلال اللسان عن كثير الكلام.
فاللهم ارزقنا الحياء.. حق الحياء.. يا أكرم الأكرمين ويا أجود الأجودين.(/1)
الحياة الإسلامية
رجالٌ سطَّروا الأمجادَ دَهراً
ودينٌ رسَّخوا الأقدامَ فيهِ
وعِلْمٌ توجَّوهُ تُقىً وبِرّاً
حروبٌ أشْغَلوا الأجناسَ فِيها
شبابٌ في ذُرى العَليا تراهُمْ
نساءٌ فطّرت صمّاً شداداً
وفقْهٌ قد حباهُ الله دهراً
وليْلٌ لا تُرى فيه نجومٌ
حدودٌ طُبِّقَتْ في كُلِّ آنٍٍ
وقِسْطٌ لم يُفَرِّقْ بينَ جنسٍ
حياةٌ طُرِّزَتْ ثوْباً فريداً ... ... وعِزّاً شيَّدوهُ بكلِّ وادِي
تَغَلْغَلَ في الحواضِرِ والبوادي
وفَضْلاً قدْ كَسا كُلَّ الأَيادِي
تَفَشَّى ذِكْرُها في كُلِّ نادِي
وشيبٌ تَرتَجي صَوْتِ المنادِي
كَساها رَبنا ثَوْبَ السَّوادِ
ونَظْمٌ قَدْ حَوى كُلَّ الرَّشادِ
يُجافِي قَوْمَها عَذْبُ الرُّقادِ
فَساوى عَدلُها كُلَّ العِبادِ
وحِلْمٌ بالعِدا يَومَ التَّنادِي
رَعاها رَبنا مُنْذُ المِهادِ
محمد بن الحسن الأنصاري(/1)
الحياة الحقيقة في طاعة الله
أخي الحبيب : إن الأجل قريب وهو مستور عنك وهو في يد غيرك يسوقه حثيث الليل والنهار وإذا انتهت المدة حيل بينك وبين العدة فاحتل قبل المنتهى وأكرم أجلك بحسن العمل وإذا أنستك السلامة فاستوحش بالعطب فإنه الغاية وإذا بسطك الأمل فاقبض نفسك عنه بذكر الأجل فهو الموعود وإليه المورد .
واعلم أخي الحبيب أن من علامات التوفيق دخول أعمال البر عليك من غير قصد لها وصرف المعاصي عنك مع السعي إليها وفتح باب اللجؤ والافتقار إلى الله تعالى في كل الأحوال واتباع السيئة بالحسنة وعظم الذنب في قلبك وإن كان من صغار الذنوب والإكثار من ذكر الله وشكره وحمده واستغفاره ، ومن علامات الخذلان تعثر الطاعات عليك مع السعي فيها ودخول المعاصي عليك مع قربك منها وغلق باب الالتجاء إلى الله وترك التضرع له وترك الدعاء واتباع الحسنة بالسيئات واحتقارك لذنوبك وعدم الاهتمام بها وإهمال التوبة منها والاستغفار ونسيانك لربك .
قال رجل لطاووس : أوصني قال أوصيك أن تحب الله حباً حتى لا يكون شىء أحب إليك منه ، وأرج الله رجاء يحول بينك وبين ذلك الخوف ، وارض للناس ما ترضى لنفسك . بالحب والذل تتم العبادة فاجمع في قلبك محبة الله مع تمام الذل والخضوع له واعلم أن الخلق منذ خلقوا ما زالوا مسافرين وليس لهم حط عن رحالهم إلا في الجنة أو النار. والعاقل يعلم أن السفر مبنى على المشقة وركوب الأخطار ومن المحال أن يطلب فيها نعيماً ولذة وراحة بال إنما ذلك بعد انتهاء السفر ومن المعلوم أن المسافر عند كل وطأة قدم أو أنة من أنات السفر لابد أن يكون مستشعراً أنه مسافر من تهيئة الزاد الموصل. وإذا نام أو استراح فهو على قدم الاستعداد لمواصلة السير .
قوم همومهم بالله قد iiعلقت
فما لهم همم تسموا إلى iiأحد
فمطلب القوم مولاهم iiوسيدهم
يا حسن مطلبهم للواحد iiالصمد
ما إن تنازعهم دنيا ولا شرف
من المطاعم واللذات iiوالولد
ولا للبس نفيس فائق iiأنق
ولا لروح مسرور حل في iiبلد
إلا مسارعة في نيل iiمنزلة
يحظى بها مخلص للواحد الأحد
أيها الحبيب إن الله عرف أولياؤه غوائل الدنيا وآفاتها وكشف لهم عن عيوبها وعوراتها. وزنوا بحسناتها سيئاتها فعلموا أنه يزيد منكرها على معروفها لا يخلوا صفوها من كدر.
قال تعالى : " إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهارا فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون " يونس : 24
وقال تعالى : " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر فى الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفى الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور . الحديد : 20
وروى الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلاً من بعض العالية والناس كنفيه وفى رواية كنفتيه فمر بجدى أسك ميت فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم فقالوا ما نحب أن هذا لنا بشىء وما نصنع به ؟
قال أتحبون أنه لكم قال لو كان حياً كان عيباً فيه لأنه أسك فكيف وهو ميتاً. فقال والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم .
فالدنيا لا تدوم لأحد إن أسعدت يوما أشقت أياما لا يدوم لها حال
يا راقد الليل مسروراً iiبأوله
إن الحوادث قد يطرقن iiأسحارا
أفنى القرون التى كانت iiمنعمةً
كر الجديدين إقبالا iiوإدباراً
كم قد أبادت صروف الدهر iiمن
ملك قد كان نفاعاً و iiضراراً
يا من يعانق دنيا لا بقاء iiلها
يمسى ويصبح فى دنياه iiسفارا
هلا تركت من الدنيا معانقة iiحت
ى تعانق فى الفردوس أبكارا
إن كنت تبغى جنان الخلد تسكنها
فينبغى لك ألا تأمن iiالنار
[من كتاب "الكنز المفقود" للشيخ]
________________________________________
2 - رواه مسلم ( 2957 )(/1)
الحياة الدنيوية لصفوة خلق الله
يتناول الدرس الحياة الدنيوية لرسل الله، وأنبيائه جميعاً،وسلسلة الابتلاءات، والشدائد التي تعرضوا لها صلوات الله عليهم، وموقف أعداء الرسل الواحد منهم ومن رسالاتهم .
الأنبياء أشد الناس بلاء : كانت الحياة الدنيوية لرسل الله، وأنبيائه جميعاً سلسلة من الابتلاءات، والشدائد، ومع أنهم صفوة خلق الله وخلاصة أوليائه إلا أنهم كانوا أشد الناس بلاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ] رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد .كان الناس يتصورون ويتخيلون أن رجلاً يختاره الله لرسالته، وينزل عليه كلماته، ويؤيده بملائكته، أن يجعل الأشياء كلها طوع يمينه، وأن يغنيه عن كسب العيش كما يكسب الناس من زراعة، أو تجارة، أو عمل بدني... إلخ، وأن يضع تحت يده الكنوز ينفق منها على نفسه وأهله، وأن يسكنه في أجمل المنازل، ولا يعرضه للمحن والشدائد!! فإن هذا -في نظرهم- أقل ما يجب أن يعطيه الله ملك السموات والأرض لرسوله، الذي سيقوم بتبليغ رسالته للناس، ولكنهم رأوا أن هذا الرجل الذي يقول: إنني رسول رب السموات والأرض، ومالك الكون، وخالق كل شيء؛ يقاسي من شظف العيش ما يقاسي فقراؤهم، وأهل الحاجة منهم، ويتعرض للمضايق والشدائد ما لا يتعرض إليه عامتهم، وقد كان هذا من أكثر الأسباب التي صرفت كثيراً منهم عن الإيمان بالرسول!! قال تعالى حاكياً مقالة الكفار:} وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا[7]أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا[8]{ [سورة الفرقان] . وقال تعالى:} وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا[90]أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا[91]أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا[92]أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا[93]{ [الإسراء] .
أتواصوا به !
وهذا الذي قيل لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي قيل مثله من كل قوم كفروا برسولهم، فقد قال قوم نوح له:}مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ[27]{ [سورة هود] . وقال قوم شعيب له:} قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ[91]قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[92] {[سورة هود] .
من ابتلاءات الرسل:
لقد كانت الحال الضعيفة للرسل مانعاً من اتباعهم:
فقوم فرعون قالوا عن موسى وهارون:} فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ[47]{ [سورة المؤمنون] فقد كان بنوإسرائيل في خدمة الفراعنة يسخرونهم في أحط الأعمال!! ويسومونهم سوء العذاب، ومن أجل ذلك استنكفوا أن يتبعوا ديناً أنزل على رجل من قوم هم في خدمتهم، وتحت قهرهم .
ولوط عليه السلام أرسل إلى قوم هو غريب عنهم، وكان في غربته بينهم في حال شديد من الضعف والمسكنة، فلم يجدوا للوط فضلاً عليهم في مال، أو قبيلة، أو عصبة يعتزى بها، أو قوة قاهرة، تحملهم على الإيمان برسالته، بل وجدوا أنه غريب ضعيف فيهم، فقالوا:} قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ[167]{ [سورة الشعراء].
ومن قبله قال قوم نوح له:} قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ[116]{ [سورة الشعراء] لما رأوا من ضعفه، وضعف من اتبعه من المؤمنين .(/1)
وأخرج إبراهيم عليه السلام من بلده بعد أن اجتمعت الجموع لحرقه بالنار:} قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ[68]{ [سورة الأنبياء] وأخرج من بلده فقيراً مسكينا، وارتحل من وطنه إلى بلاد الشام، ثم ألجأته المجاعة إلى الرحيل إلى مصر، ليلقي فيها جباراً يتآمر عليه؛ ليأخذ منه زوجته!! فنجاه الله من نار هذا الفرعون، كما أنجاه سبحانه من نار نمروذ، هذا إبراهيم خليل الله الذي له ملك السموات والأرض... وعندما يكبر ابنه إسماعيل ويشيب، يأمره الله جل وعلا بأن يذبحه، قال تعالى:} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ[106]{ [سورة الصافات].
وموسى عليه السلام كانت حياته من أول يوم ولد فيه إلى اليوم الذي توفاه الله فيه سلسلة متواصلة من البلاء والفتون، هذا وهو الذي قال فيه الرب جل وعلا:} وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي[41]{[سورة طه] ومع ذلك، فقد قال الله له:} وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا [40]{ ]{ [سورة طه].
من'الحياة الدنيوية لصفوة خلق الله' للشيخ/ عبد الرحمن عبد الخالق(/2)
الحياة الطيبة
مفكرة الإسلام : إن الذي يدعو الناس للالتزام بدين الله تعالى لا يدعوهم إلى تنفيذ الأوامر واجتناب النواهي ولا إلى فعل أمر وترك آخر لا يدعوهم إلى تقسيم الحياة إلى أوامر آلية لازمة التنفيذ وممنوعات يحذر الاقتراب منها كلا بل يدعوهم إلى الحياة الطيبة يدعوهم إلى ترك الفشل جانبا والبحث عن النجاح يدعوهم إلى الارتقاء بذواتهم وتحقيق قيمتهم في واقع الحياة يمد يده لهم ليتغلبوا على نفوسهم في حبها للكسل والتراخي أو عشقها للتشاؤم والإحباط ويدعوهم للتغلب على الواقع في إحباطاته المتتالية ومواقف الفشل المتتابعة والتغلب على الناس في عدم كونهم كما يحب الإنسان وعدم موافقتهم له في طباعه ورغباته إن من يدعو الناس للالتزام بدين الله تعالى إنما يدعوه في الحقيقة إلى التغلب على هذا كله ويقول له أقبل على الحياة فهي رائعة إذا أحسنت الفهم لها وأجدت التعامل معها وفق قواعدها التي نص عليها الشارع الحكيم الحكمة المطلقة سبحانه إنك تملك قدرك بيدك إنه أنت من بيده جعل حياته سلسلة متتالية من النجاحات أو مصائب متعاقبة من الكوارث والنكبات إنه أنت من يحيلها جحيما ويصنعها جنة وبقدر ما يبذل المرء في جعل حياته الدنيا جنة أو جحيما بقدر ما سيلاقي عمل يده في الآخرة جزاءا بجزاء وبمثل هذه البساطة تكون الحقيقة وبمثل هذا العمق والوضوح تكون الوظيفة الحقيقية للداعية المخلص لله تعالى الصادق مع دعوته وفهمه.
إن التصور الرباني للحياة الدنيا وكيفية التعامل مع متغيراتها لهو البلسم الشافي للقلوب الجريحة والنفوس المكلومة إنه اليد الحانية تمتد لتمسك بالأيدي الغرقى في مستنقع المادية ووحل الشهوات والتخبطات الذهنية والنفسية فهي يد تمتد لتنقذ الغرقى وأخرى تشير إلى طوق النجاة وهي من بعده تشير إلى أرض الفلاح والفوز والنجاة.(/1)
هل تعرف من هي بوليانا؟ بوليانا فتاة كانت في العاشرة من عمرها عندما فقدت أبويها المعدمين ماديا وانتقلت للحياة في كنف خالتها الثرية تلك التي كانت تحيا في بلدة صغيرة تملك فيها قصرا عظيما ومصنعا وشركة يشكل العاملون فيها أغلب سكان البلدة وبوصول بوليانا إلى مشارف القصر تفاجأ الفتاة الصغيرة بسيل من التعليمات عن كيفية الحياة في هذا القصر من تحديد مواعيد النوم والاستيقاظ والغداء والعشاء إلى طريقة المشي والكلام التي تتناسب مع بنات العائلات الراقيات لكن الفتاة تنطلق تحمل معها بسمتها وتشيع جوا من البهجة في كل أنحاء البلدة تكون كفيلة بتغيير حياة البشر وهي تنقلهم من صور التعاسة والكآبة المحيطة والحياة الصارمة إلى تلمس الرحمة والسعادة في كل ما حولهم ومن حولهم فتنقل رجل الدين من مخاطبة الناس خطاب التعنيف والتخويف بالخاتمة السيئة والعاقبة المرعبة لمن خالف عن الصراط إلى خطاب الرحمة والرفق بالمذنب وتلمس عظم النعمة وكذا لعمدة البلدة وضابط الشرطة والفقراء والخدم بل حتى الأثرياء الذين فقدوا لذة السعادة وباتوا لا يرون فيما حولهم إلا الصور القاتمة وتتغير معالم الحياة لكل فرد في البلدة وتحمل الوجوه البسمات والاستبشار بغد مشرق ولو في عمق المحن وعندما يسأل الناس الفتاة عن سر هذه السعادة التي تشيعها في كل مكان تجيب الفتاة بذكر قصة لها مع والدها تقول فيها: أنها طلبت من والدها ذات يوم دمية عروسة كهدية ولما لم يكن في وسع الأب الإتيان بهدية كهذه فقد كانت بالنسبة لمستوى معيشتهم مكلفة فقد فكر الأب في حل فأرسل إلى دار رعاية الأطفال سائلا عن هدية لطفلته وجاء الرد بالموافقة وأن تنتظر الفتاة الهدية ومرت الأيام والفتاة في شدة الترقب والانتظار ولما وصلت الهدية وجد الأب أن دار رعاية الأطفال أخطأت فعوضا عن أن ترسل هدية العروسة أرسلت عكازا لقدم واحدة وبكت الفتاة ولكن الأب أخذها على قدميه واقترح عليها أن تلعب معه لعبة السعادة فسألته وما هي لعبة السعادة؟ فأجاب: تعالي نفكر في هذا العكاز كيف يمكنه أن يسعدنا؟ بعد طول تفكير لم تجد الفتاة إجابة مقنعة فسألت والدها كيف يمكن ذلك ؟ فأجاب: يمكن للعكاز مثلا أن يسعدنا بالتفكير أننا والحمد لله لا نحتاج إليه نظرت بوليانا متعجبة ثم ما لبثت الابتسامة أن ملأت شفتيها وهكذا انطلقت لعبة السعادة تظهر في كل ما يصيب الفتاة وأهلها من أحداث تغير موقفها من هذه الأحداث وتعكس التفاعل معها بصورة هي في مجملها إيجابية فتنجح بوليانا في الانتقال بالبلدة كلها من جو الكآبة واستشعار ثقل الحياة إلى البهجة والسرور والتفاؤل والاستبشار وبينما الوضع يبدأ بالاستقرار تأتى المأساة الحقيقية لتمتحن مدى تصديق الفكرة وأثرها على المؤمن بها والمقتنع بتصورها فتتعرض بوليانا لحادثة سقوط من أعلى الشجرة تتسبب في إصابتها بحالة من حالات الشلل فتقعدها في الفراش وبينما يجتمع الأطباء ويقررون إمكانية الشفاء من هذا الشلل يؤكد معظمهم أن الحالة النفسية ذات أثر كبير في تحقيق الشفاء ولكن ويا للسخرية فالفتاة التي كانت مبعث الأمل لليائسين ومصدر البهجة للمكتئبين فقدت منبع قوتها وزالت عنها تلك النظرة البعيدة المدى واستحضر ذهنها وعقلها صورتها وهي عاجزة عن السير للأبد وعندما خوطبت بلعبة السعادة نادت وأعلنت أنها قد فقدت الإيمان بها وبينما الوضع كذلك إذ تبدأ أصوات بالعلو خارج القصر والناس يتوافدون من كل أنحاء البلدة لزيارة هذه الفتاة التي أدخلت إلى حياتهم البهجة والسرور وطردت منها اليأس والفشل جاءوا ليحيطوها بالحب الذي دفعها من جديد لتفجير نبع الأمل ومصدر التفاؤل وتنتهي القصة بمشهد بوليانا وهي تنطلق في طريقها للعلاج وأهل البلدة كلهم خلفها واقفون يلوحون مودعين وأعينهم دامعة وشفاههم ملؤها الابتسام لقد عادت الحياة من جديد إلى لعبة السعادة لتبث بهجتها في القلوب.
'بوليانا ولعبة السعادة ' هي إحدى الروايات العالمية التي نالت شهرة فائقة جعلتها من الروايات المترجمة للعديد من لغات العالم وقد تم تحويلها إلى فيلم ومسرحية في محاولة ممن اقتنعوا بالفكرة إلى نشرها كما يفعل كل مؤمن بفكرة.
ولكن...ما علاقة بوليانا بموضوعنا عن الحياة الطيبة ؟
يبدو أنني قد نجحت في جذب انتباهك بقدر عال من الاهتمام لمتابعة القصة حتى نهايتها أو البحث عن محور القصة على الأقل وكل هذا وأنا لم أبذل جهدا حقيقيا في رسم الحبكة القصصية أو إضافة بهارات التشويق وغيرها من وسائل جذب الانتباه وإيقاظ الفكر ترى ما الذي يعطي لهذه الروايات العالمية والقصص والأفلام كل هذا الحجم من الالتفات والاهتمام وفي المقابل ترى كل هذا الكم من الإهمال المتعمد للمصدر الوحيد الموثوق بتقييمه لمعاني الحياة وقيمها 'القرآن والسنة'.(/2)
لعل السبب في تأثرنا بمعنى القصة أن المعنى الذي تبثه الرواية يتوافق مع فطرتنا ومع المعنى الذي علمه الله تعالى لرسوله صلي الله عليه وسلم, لعل السبب أنها الحقيقة ببساطتها الشديدة ,أو لعل السبب أننا لا نعرف قدر النعمة التي لدينا بالمرجعية لمنهج الخالق المدبر سبحانه, هذه هي فكرتنا نحن المسلمين نصوغها بظل القرآن وراية السنة المطهرة.
إن الإعلام هو وسيلتهم لدى الغرب لصياغة فكرهم ومبادئهم وتصوراتهم للحياة ,وقصة بوليانا هي إعادة صياغة للحقيقة التي وصل إليها المفكرون والفلاسفة بعد طول تفكير وعظيم جهد وفناء أعمار, وهي ذاتها التي لخصها رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه لأمة الهداية التامة أمة الإسلام في ثلاث كلمات جاءت بصيغة الأمر لكل من اتخذ منهج الله طريقة حياة لأنها من مقومات السعادة فيه وهذه الكلمات هي:' تفاءلوا بالخير تجدوه' فعل الشرط وجواب الشرط يأتي في أوجز عبارة ليقرر أن وجود الخير على ظهر هذه الأرض منوط أولا وأخيرا بالأمل يملأ القلوب وحسن الظن بالله تعالى أنه يكرم عباده ويجيب رجاءهم
عزيزي الشاب لئن كانت بوليانا قد طبعت بسمة على شفتيك وأنت ترى هذه النهاية السعيدة , الفتاة الصغيرة ترسم البسمة على وجهك وهي فرد في قصة مؤلفة على بعد آلاف الأميال من مكانك فاعلم أن مصدر السعادة إنما هو من داخل الإنسان نفسه من داخلك إنها نظرتك للأمور هي التي تحكم عليها وتحدد شكل رد فعلك إن تفاؤل الإنسان محكوم بمدى الرغبة الداخلية لديه في إيجاد مثل هذا التفاؤل كما أن البؤس يصنعه المرء بيده كذلك بل ويتفنن البعض في أشكاله وأوقاته وألوانه حتى أنك لتتيقن وأنت تستمع إليه يصف معاناته أنك أمام صورة للوحة مأساوية تحتوي سلسلة من الاضطهادات والظلم وسوء النصيب والمعاناة تتضاءل أمامها لوحة مذبحة دير ياسين ومذابح البوسنة وغيرها حتى أنه ليشعرك أن الله تعالى ما خلق الخلق إلا ليعذبهم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فهو يقرر في كتابه الكريم 'ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما' .
إن القدرة العالية لدى بعض الشباب في تدمير أنفسهم ومخاطبتها الخطاب المفعم باليأس والإحباط والفشل وفقد الأمل..إلخ لهي ميزة عجيبة يتميز بها بعض شباب المسلمين المعاصرين دون غيرهم من الأمم وأعني بذلك أن هناك نسبة كبيرة منهم كذلك وإلا ففي شباب الأمة خير كثير ولعل مرجع ذلك إلى حال الأمة المفعم بالإحباطات والمليء بصور متكررة من الذل لا تكاد الأمة تقوم من أحدها حتى يصعقها الذي يليه مع إخفاء صور العزة المقابلة في الأمة من صور الرفعة والانتصارات الجهادية أو الرفعة في مجالات أخرى استكشافية علمية وخلافها ومرجعه كذلك إلى فقد الهدف والاتجاه الصحيح وعموم نظرية 'الأنا' التي باتت تحكم تصرفات الناس إلا من رحم الله وهم قليل.
إن الطريق إلى السعادة ومن قبله النجاح والتفوق بسيط وواضح ولكنه يحتاج قبل بذل الجهد إلى اليقين والثقة في إمكانية حدوثه وتحققه والتفاؤل المستمر مهما واجه الفرد من الإخفاقات والعقبات.
تفاءلوا بالخير تجدوه , تفاءلوا بالخير تجدوه , تفاءلوا بالخير تجدوه(/3)
الحياة بعد الموت
أبو الأعلى المودودي
هل للإنسان بعد الموت حياة أخرى؟ وإن كانت، فمن أي نوع هي؟
هذا سؤال لا يمكن أن ينتهي إلى كنهه علم الإنسان، لأنه ليست عنده عين يبصر بها، ويطلع على ما وراء حد الموت، ولا أذن يسمع بها، ولا آلة من الآلات يعرف بها ما فيه على وجه اليقين والتحقيق. كأن هذا السؤال خارج من دائرة العلوم التجريبية (SCIENCE).. والذي يقول مستنداً إليها: إن الإنسان لا حياة له بعد موته، إنما يقول لا علاقة له بتلك العلوم، فإنها إذا كانت لا تقول بالحياة بعد الموت ولا تقرّ بها، فإنها في الوقت ذاته لا تنفيها ولا تجحد بها. فالحق أن الإنسان ما دام لا يجد وسيلة للعلم يقينية قاطعة، لا يسعه الإنكار للحياة بعد الموت، ولا الإقرار بها بموجب العلوم التجريبية.
ولكن هل من الممكن أن يجارينا هذا السلوك العلمي (SCIENTIFICATTITUDE) في حياتنا العملية؟ لعله لا يمكن، بل اليقين أنه لا يمكن أبداً! نعم، من الممكن من الوجهة العقلية إذا لم يكن بيدنا وسيلة إلى معرفة شيء، أن نحترز من نفيه وإثباته، ولكن إذا كانت لهذا الشيء علاقة بحياتنا العملية، فلا مندوحة لنا في شأنه من أن نبني أعمالنا ومنهاج حياتنا، إما على إنكاره، أو الإقرار به. ذلك بأننا إذا كنا لا نعرف رجلاً، ولا نريد أن نشاركه في معاملة من المعاملات، فلا علينا إذا لم نحكم عليه بشيء، لا بالأمانة، ولا بالخيانة، وأما إذا لم نجد بداً من مشاركة الرجل في معاملة من المعاملات، فلا بد لنا من أن نشاركه، إما على تقدير أنه رجل يرعى الأمانة، أو على تقدير أنه رجل فيه الخيانة. وإن قلنا: إننا نشاركه على تحذر وتردد، فالحقيقة أن الصورة العملية لهذه المشاركة لا تكون مختلفة عنها لو شاركناه على إنكار أمانته بالمرة، كأن هذه الحالة –حالة التردد بين إنكار شيء والإقرار به- لا يمكن أن تكون إلا في الذهن فقط. أما السلوك العلمي، فلا يمكن أن يقوم على الريب والتردد، وليس له بد من الإنكار، أو الإقرار.
وإذا تفكرت قليلاً، عرفت أن مسألة "الحياة بعد الموت" ليست بمسألة فلسفية فحسب، بل إنها من المسائل الأساسية التي لها صلة وثيقة مباشرة بحياة الإنسان العملية، وتتوقف عليها استقامة سلوكه الخلقي، أو اعوجاجه في هذه الدنيا.(/1)
فإذا كنت تعتقد مثلاً أن الدنيا هي الحيوان، ولا حياة لك بعد الموت، كان سلوكك الخلقي مغايراً لسلوكك لو كنت تحسب أنك بعد مفارقتك لهذه الدنيا، ستفضي إلى حياة تحاسب فيها على كل صغير وكبير من أعمالك التي قدمتها في حياتك الحاضرة، وأن حسن عاقبتك فيها أو سوءها، إنما يتوقف على حسن أعمالك أو سوئها في هذه الدنيا. ومثل ذلك، كمثل رجلين مسافرين إلى جهة كراتشي. أما أحدهما فيحسب أن سفره بعد وصوله إلى كراتشي، لا ينتهي فحسب، بل سيأمن فيها أيضاً من مؤاخذة الشرطة والمحكمة، وكل قوة يمكن أن تحاسبه على أعماله وما ارتكب من الجرائم قبل وصوله إلى كراتشي. أما الآخر فيحسب أن السفر إلى كراتشي إنما هو مرحلة من مراحل سفره العديدة، وهو بعد وصوله إلى كراتشي سينتهي إلى أرض لا يحكمها إلا السلطان نفسه الذي يحكم باكستان، وأن هذا السلطان في مكتبه قد سجّل فيه كل صغيرة أو كبيرة من أعماله التي جاء بها أيام وجوده في باكستان، وهو سيحاسبه عليها، ولا يقضي في أمره وفي الدرجة التي يستحقها في تلك الأرض إلا حسب ما سيجد عليه أعماله من الحسن أو القبح. لك أن تقدر الآن بكل سهولة، أي فرق كبير، وبون شاسع بين أعمال الرجلين وأخلاقهما، لا يستعد الأول إلا للسفر إلى كراتشي. وأما الآخر، فلا يستعد للسفر إلى كراتشي فحسب، بل يستعد كذلك للمراحل الشاقة الطويلة التي سيقطعها بعد المرور على كراتشي، ويفكر في مآله الذي سيصير إليه آخر الأمر. يحسب الأول أن النفع كله والخسران كله إنما هو قبل وصوله إلى كراتشي، وإذا وصل إليها، فلا نفع ولا خسران. وأما الآخر فيحسب أن ليس النفع والخسران الحقيقي في مرحلته الأولى، بل هو في مرحلته التي سينتهي إليها آخر الأمر. إن الأول لا يكترث ولا يقيم وزناً إلا لنتائج أعماله التي عسى أن يراها قبل وصوله إلى كراتشي. وأما الآخر فيجعل نصب عينيه دائماً النتائج التي سيراها في الأرض التي سيبلغها عند انتهاء سفره. والظاهر أن هذا الفرق بين أخلاق الرجلين وأعمالهما، إن هو إلا نتيجة مباشرة لما يعتقدان من النوع المختلف لسفرهما. فكذلك كل عقيدة يكون عليها الإنسان عن مصيره بعد الموت، لها تأثير بالغ، فيصل في كل ما يأتي به في حياته من الأعمال والأخلاق، وهو لا يتقدم في ميدان العمل خطوة إلا ويكون تعين جهتها متوقفاً على: هل يأتي بكل ما يأتي به من الأعمال في حياته الدنيا على أنها هي حياته الأولى والآخرة، وليس له ولا عليه شيء بعد الموت، أم على أنه سيفضي بعد موته إلى حياة سرمدية أخرى، ويرى فيها نتائجها ويقطف ثمارها حتماً؟ فهو إن كان يتقدم إلى جهة في الصورة الأولى، يتقدم إلى جهة تخالفها تماماً في الصورة الأخرى.
وإذا عرفنا هذا فلنا أن نقول: إن مسألة "الحياة بعد الموت" ليست بمسألة عقلية فارغة، أو فلسفية جوفاء، بل هي مسألة حياتنا العملية. وإذا كان الأمر كذلك، فلا يمكننا أبداً أن نبقى في حياتنا مرتابين مترددين في هذه المسألة الأساسية، لأن كل سلوك نختاره في حياتنا مع التردد والارتياب، لا يكون من حيث مظهره ونتائجه إلا مثل سلوك الإنكار المحض، فنحن مرغمون بطبيعة وجودنا وحياتنا في الدنيا، على أن نقطع في هذه المسألة برأي حاسم، إما بالإثبات، أو النفي.
فإن كانت العلوم التجريبية لا تساعدنا بشيء، فلا بد لنا أن نستعين في هذا الشأن بما لنا من العقل وقوة الفهم والتبصر.
وتعال لنستعرض الآن ما عندنا من المواد للاستدلال العقلي:
أمامنا الإنسان في جانب، ونظام الكون الذي يعيش فيه في الجانب الآخر. فعلينا أن نضع الإنسان في هذا النظام وننظر: هل تتحقق في هذا النظام مقتضيات كل ما في الإنسان، أم يبقى فيه شيء لا تتحقق مقتضياته فيه وهو في حاجة إلى نظام من نوع آخر؟
انظر.. إن الإنسان –أولاً- جسد يتركب ببعض المعادن والغازات، والأملاح والماء. وبإزائه في الكون أنواع أخرى من المعادن، والأملاح والأتربة، والجبال، والأنهار، وما إليها من الأشياء من هذا الجنس. والقوانين التي تحتاج إليها هذه الأشياء في القيام بأعمالها، كلها جارية في الكون وهي كما تعين الجبال والأنهار والرياح على القيام بنصيبها من الأعمال خارج الإنسان، كذلك تعين الجسد الإنساني أيضاً على القيام بعمله.
والإنسان –بعد ذلك- جسد ينمو ويكبر متغذياً مما حوله من الأشياء كالهواء والماء. وبإزائه هناك من جنسه الأشجار والأعشاب والنباتات الأخرى فقي الكون تنمو وتكبر متغذية مما حولها، فكما أن سنن الطبيعة ونواميس الكون تنمو تحتها الأشجار والأعشاب والنباتات، ينمو تحتها الجسد الإنساني كذلك.
والإنسان بعد هذا وذاك جسد حي يتحرك بإرادته، وينال غذاءه بالسعي والجهد، ويدافع عن نفسه، ويهتم بالإبقاء على نسله. وبإزائه في الكون كثير من أنواع هذا الجنس أيضاً، كالحيوانات في البر والبحر والفضاء، فكما أن قوانين الطبيعة تعين هذه الحيوانات على الحياة والبقاء تعين عليهما الجسد الإنساني أيضاً بدون نقص ولا تقصير.(/2)
ولكن.. فوق كل ذلك، إن للإنسان وجوداً من نوع آخر نسميه الوجود الخلقي. إن الإنسان فيه الشعور بالخير والشر، وهو يميّز بينهما، ويقدر فعلهما، ومما تطالب به فطرته أن تظهر النتائج الحسنة إن فعل الخير، والنتائج القبيحة إن جاء بالشر، وهو يفرق بين العدل والظلم، والصدق والكذب، والحق والباطل، والرحمة والقسوة، والإحسان والإساءة، والسخاء والبخل، والوفاء والغدر، وما إليها من الصفات الخلقية الأخرى، وهي توجد في حياته بالفعل، وليست بأمور من بنات الفكر والخيال المحض. فالذي تستدعيه بشدة الفطرة التي فطر عليها الإنسان، أن تظهر لأعماله نتائجها الخلقية، كما تظهر نتائجها الطبيعية.
ولكن هل لك أن تقول بعد إطالة نظرك وإجالته في نظام الكون: إنه من الممكن أن تظهر في هذا النظام لأفعال الإنسان نتائجها الخلقية على الوجه الكامل؟ لعمر الحق، إن ذلك مستحيل البتّة، لأن هذا الكون ليس فيه –إلى حد علمنا- خلق له وجود خلقي غير الإنسان، ولا يسير نظامه من أوله إلى آخره إلا على القوانين الطبيعية المحضة، حيث ليس للقوانين الخلقية دخل ما في ناحية من نواحيه. إن قطعة صغيرة من الذهب لها قيمة ووزن في هذا الكون، ولكن لا قيمة فيه ولا وزن للصدق والأمانة، وإذا ما غرست فيه بذرة القمح، فإنك لا تحصد منها إلا القمح، ولكن إذا غرست فيه الصدق والأمانة، فقلما تحصد منها المدح والثناء، وكثيراً ما تحصد منها الذم واللوم والاستهزاء والعقاب. إن العناصر المادية لها قوانين مضبوطة، وقواعد معينة في هذا الكون، ولكن لا قانون فيه للعناصر الخلقية، لما عليه من السيطرة والتأثير للقوانين الطبيعية. وهي إن ظهرت بعض الأحيان، فإنما تظهر على قدر ما تسمح لها بالظهور القوانين الطبيعية نفسها. وطالما تستدعي الأخلاق أن تظهر لعمل من أعمال الإنسان نتيجة خاصة. ولكنها لا تظهر إلا منقلبة بالمرة، وذلك لما فيها من التدخل للقوانين الطبيعية، نعم، لاشك أن الإنسان قد بذل بعض سعيه بواسطة نظامه الاجتماعي والسياسي، لأن تظهر النتائج الخلقية لأعماله وفقاً لقاعدة معينة، ولكن الحقيقة أن ليس سعي الإنسان هذا إلا على نطاق ضيّق محدود جداً، وهو في غاية من النقص والعيب. ففي جانب تجعله ناقصاً قوانين الطبيعة، وفي الجانب الآخر يزيده نقصاً إلى نقصه، وعيباً إلى عيبه ما في نفس الإنسان من مواطن الضعف.
وها أنا ذا أريد أن أشرح لك ما قد بينته للآن ببعض الأمثلة:
إن رجلاً يبغض رجلاً آخر ويعاديه، فإذا أحرق بيته، فإن النتيجة الطبيعية لعمله أن يحترق ذلك البيت وأما نتيجته الخلقية، فإنما يتوقف ظهورها على أن يُعثرَ على الرجل الذي أحرق البيت، ثم على أن تقبض عليه الشرطة، ثم على أن تثبت عليه الجريمة، ثم على أن تقدر المحكمة تقديراً محكماً قاطعاً ما لحق بأهل ذلك البيت وسلالاتهم المتعاقبة من الضرر والخسارة لأجل جريمته، ثم على أن تحكم المحكمة بما يساوي جريمته من العقاب. فتلك هي الشروط التي لابد من استيفائها وتحقيقها لظهور النتيجة الخلقية لهذا الفعل الواحد من أفعال الإنسان، حيث إذا تخلّف منها شرط ما ولم يتحقق على الوجه الصحيح الكامل، فإما أن لا تظهر النتيجة الخلقية أصلاً، أو يظهر منها جزء ضئيل جداً، على أنه ليس من المستبعد في هذا النظام أن الجاني بعد إبادة خصمه وإفنائه يسلم من المؤاخذة، ويبقى طول حياته فرحاً مرحاً لا يخاف أحداً ولا يخشى عقاباً.
ولك أن تأخذ الآن مثالاً آخر على نطاق أوسع:
إن عصابة من الناس يخلقون لأنفسهم التأثير والنفوذ في شعبهم، ويستحوذون عليه حسب ما تأمرهم به شهواتهم وأمانيهم، ثم يستغلّون هذا الوضع، وينفثون في شعبهم روح القومية والوطنية، ويحرضونه على فتح العالم واستعباد أممه وشعوبه، ثم ينشبون الحرب على ما يجاورهم من الشعوب، ويهلكون فيها الحرث والنسل، ويطيلون يدهم بالنهب والسلب: يقتلون مئات الألوف من خلق الله، ويشردون آلاف الألوف منهم من ديارهم، ويستعبدونهم، ويرغمونهم على العيش الذليل المهان. وأعمالهم هذه قد تطول آثارها السيئة في الأجيال المتعاقبة إلى آلاف مؤلفة من السنين. فهل تظن أنه من الممكن أن ينال هؤلاء الأفراد القليلون جزاءهم في هذه الحياة الدنيا كاملاً مساوياً لفداحة جرائمهم، وجسامة المضار التي ألحقوها بخلق الله، لا لشيء إلا لبلوغ مطامعهم الاستعمارية البشعة؟ كلا، فإن ذلك من المستحيل بحكم القوانين الطبيعية التي يجري عليها نظام الكون، ولو قتلوا تقتيلاً، وأحرقوا أحياء، وعُوقبوا بأقسى ما يستطيع الإنسان ويخطر بباله.(/3)
وخذ كذلك أولئك الصالحين الأبرار الذين خدموا النوع البشري، وعلموه الخير، وأناروا له طريق الرشد والصدق والسلام، وما زالت الأجيال المتعاقبة منذ آلاف من السنين –ولا يعلم إلا الله إلى كم آلاف من السنين لا تزال- تقتبس من نورهم، وتقتدي بآثارهم، وتستهدي بأعمالهم. فهل من الممكن بوجهٍ من الوجوه أن ينالوا جزاءهم على أعمالهم وخدماتهم كاملاً في حياتهم الدنيا؟ وهل تظن أنه من الممكن في ضمن حدود القوانين الطبيعية التي يجري عليها نظام الكون الحاضر، أن ينال الرجل جزاءً كاملاً موفوراً غير منقوص على عمل من أعماله ترك تأثيره في عدد لا يحصى من خلق الله وطال رد فعله إلى آلاف من السنين بعد موته؟
فكما قد تبين لك آنفاً، أن قوانين الطبيعة التي يسير عليها نظام الكون الحاضر، لا تتسع لأن تترتب فيهل النتائج الخلقية لأعمال الإنسان على الوجه الكامل. ثم إن كل عمل يأتي به الإنسان في حياته القصيرة هذه، تكون دائرة رد فعله واسعة جداً، وقد تطول سلسلته إلى مدة مديدة حتى ليحتاج الإنسان لاقتناء ثمراته، والحصول على نتائجه الكاملة أن يعمر آلافاً، بل مئات آلاف من السنين، وذلك ما لا يمكن أن يتحقق تحت القوانين الطبيعية. وتعرف من ذلك أن هذه الدنيا وقوانينها الطبيعية وإن كانت كافية واسعة لما في ذات الإنسان من العنصر الجمادي، والعنصر النباتي، والعنصر الحيواني، ولكنها لا تكاد تكفي لعنصره الخلقي، وهو في حاجة إلى نظام للكون آخر لا يكون القانون الحاكم (GOVERNING LAW) فيه إلا القانون الخلقي، ولا تعمل فيه القوانين الطبيعية إلا مساعدة له، ولا تكون الحياة فيه محدودة ليترتب كل ما كان لم يترتب، أو إنما كان يترتب منقلباً في الحياة الدنيا الطبيعية من نتائج أعمال الإنسان، ويكون الوزن والقيمة فيه للصدق والحق، دون الذهب والفضة، ولا تحرق فيه النار إلا ما كان مستحقاً للاحتراق أخلاقاً، ولا ينال السعادة والنعيم والأمن والرفاهية فيه، إلا من كان صالحاً. ولا الضيق والعذاب والشقاء، إلا من كان فاجراً. إن هذا النظام لمن عين ما يقتضيه عقل الإنسان وتطالب به فطرته.
هذا هو الاستدلال العقلي، ولك أن تتقدّم الآن خطوة أخرى:
الحقيقة أن الاستدلال العقلي إنما يرشدنا إلى حد "يجب أن يكون" ثم يتخلى عنا. أما: هل لنظام مثل هذا النظام وجود في واقع الأمر، فإن كلاً من عقلنا وعلمنا، عاجز عن أن يحكم فيه بشيء، فهنالك يأخذ بيدنا القرآن ويقول: إن الذي يقتضيه عقلكم وتطالب به فطرتكم، كائن لا محالة. (وأن الساعة لآتية لا ريب فيها) وسيأتي على نظام الكون القائم على قوانين الطبيعة يوم سيفنى فيه، ويعقبه نظام للكون آخر ستكون الأرض والسماء وكل شيء فيه على هيئة غير هيئته الحاضرة.
والله تعالى سيحيي فيه كل من ولد ومات منذ أول الخلق إلى يوم القيامة من أبناء البشر، ويحشرهم جميعاً بين يديه في آن واحد. وهناك سيجد كل فرد، وكل أمة، والإنسانية بقضّها وقضيضها، ما قدمت من الأعمال في الحياة الدنيا، مسجلاً محفوظاً بدون نقص ولا خطأ ولا هفوة، وهناك سيجد الإنسان كل صغير أو كبير من أعماله بكل ما طال من سلسلة رد فعله في الدنيا، وتشهد له أو عليه جميع السلالات والأجيال التي تأثرت به إلى حد ما، كما ستشهد له أو عليه كل ذرة من ذرّات الأرض تركت عليها أفعاله وأقواله أثراً من الآثار، كما ستشهد له أو عليه يداه ورجلاه وعيناه وأذناه ولسانه وجلده، وكل جارحة من جوارح جسده: كيف وفيم استعملها في حياته الدنيا. ثم سيحكم عليه أحكم الحاكمين –جلّ ثناؤه وتباركت أسماؤه- بكل عدل، ويجازيه حسب أعماله وشهادة الشاهدين بما يستحقه من النعيم أو العذاب، وسيكون كل من هذا النعيم أو العذاب على نطاق واسع لا يمكن تقديره حسب المقادير المحدودة الضيقة التي نعرفها في نظام العالم الحاضر، وسيكون المقياس هناك للوقت والمكان مغايراً عمّا هو في النظام الحاضر، كما ستكون القوانين الطبيعية هناك غيرها في هذا النظام، وسينال الإنسان هناك جزاءً كاملاً بدون أي نقص على عمل من أعماله الحسنة التي بقيت تجري آثارها إلى آلاف السنين في نظام العالم الطبيعي، بدون أن يقطع عليه الموت أو المرض أو الهرم ما سيكون فيه من النعيم والسعادة والفرح. وكذلك إن هذا الإنسان نفسه سيلقى هناك العذاب على كل عمل من أعماله السيئة التي ظلت تجري آثارها إلى آلاف من السنين في الحياة الدنيا، من دون أن ينقذه الموت أو الغشي مما سيكون فيه من الألم والعذاب.(/4)
ولعمر الحق إني لا يسعني إلا البكاء على ضيق أذهان الذين يرون حياة مثل هذه الحياة، ونظاماً مثل هذا النظام من الأمور التي يستحيل وجودها، فإنه إذا كان من الممكن أن يوجد نظام العالم الحاضر بالقوانين الطبيعية الحاضرة، فلماذا من المستحيل أن يوجد نظام آخر بنوع آخر من القوانين، أما إنه سيكون ذلك حتماً في واقع الأمر، فذلك مالا يمكن تعيينه ببرهان ولا بثبوت علمي، وإنما هو في حاجة إلى شهادة القلب والإيمان بالغيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(/5)
الحياة بكلمات
يسمى الإنسان (جنيناً) وهو في بطن أمه
ويسمى (وليداً) عندما تلده أمه
ويسمى (صريخاً) بعد سبعة أيام من مولده
ويسمى (رضيعاً) حين الرضاعة
ويسمى (فطيماً) عندما تفطمه أمه عن الرضاعة
ويسمى (الدرج) عندما يحبو
ويسمى (النشيء) إذا بلغ العاشرة من عمره
ويسمى (البالغ) إذا بلغ وظهرت علامات الرجولة
ويسمى (الفتى) إذا ظهر الشارب
ويسمى (الشاب) حتى يبلغ الثلاثين
ويسمى (الرجل البالغ) حتى الأربعين
ويسمى (الشيخ) حتى الستين
ويسمى (الهرم) إذا تجاوز السبعين
وفي بداية حياة الإنسان لا يمشي و إنما يحمل
ثم يمشى زحفاً على أربع حتى يتعلم المشي
ثم يمشي معتدلا على قدمين ويتجبر و يعصي
ثم يمشي على ثلاث: قدميه والعكاز بعد كبره
ثم يحمل مرة أخرى ولكن إلى ... ؟؟!!! القبر
سبحان الله العظيم
إنتهى (لامزيد)(/1)
الحياة تحت راية القرآن (1 من 2)
القرآن يفتح الحواس للتفاعل مع الكون ويجدد الإحساس بوجود الذات
ما نكون في شأن من شؤون الدعوة، ولا نكتب في أمر من أمورها؛ إلا كان القرآن رائدنا؛ ذلك بأن القرآن هو دستور الدعوة، ومصدر هدايتها، ومائدة الله لعباده المؤمنين، ونوره المنزل من عنده على رسوله الأمين، وما تكلم متكلم، ولا دعا داعٍ إلى الربانية، بأحسن من الدعوة إلى مصدر هذه الربانية التي ننشد، وأساسها الذي تُبنى عليه: وكلام ربنا عز وجل، القرآن العظيم، وعلينا أن نعيش حول مائدة الرحمن، إن أردنا حيازة الربانية من مكان قريب.
إن الحياة مع القرآن هي الحياة مع الله، فالقرآن الحبيب كتاب الله المنزل، وكلامُهُ الموجَّه للإنسان، إلى نفسه وقلبه وفكره، وروحه. وهو كذلك حديث متصل من الله عز وجل، يصفه بأسمائه وصفاته وأفعاله... يصفه بقدرته المعجزة ورحمته الواسعة وعلمه الشامل... يصفه بكبريائه وجبروته... يصفه بمغفرته وحلمه ومعيته ورقابته... يصفه بكل ما تستطيع النفس البشرية أن تدركه من صفات الكمال والجلال.
وحين يعيش المسلم مع القرآن فهو يعيش مع الله، ويحس برحمته الواسعة وفضله الغامر الذي يتناوله بالرعاية فيرسل إليه رسوله الحبيب ص، ويقرئه كتابه المنزل يهدي به نفسه ويلمس مِنَّة الرب عليه.
لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (164) (آل عمران)، أو حين تتبع الحديث المتصل في القرآن الكريم عن الله سبحانه وتعالى، وما أسبغه عليه من النعم الظاهرة والباطنة، يلمس ذلك ويحسه، إذ يسمع قول ربنا عز وجل: الرحمن (1) علم القرآن (2) خلق الإنسان (3) علمه البيان (4) (الرحمن).
"بهذا الرنين الذي تتجاوب أصداؤه الطليقة المديدة المدوية في أرجاء هذا الكون، وفي جانب هذا الوجود: الرحمن، بهذا الإيقاع الصاعد الذاهب إلى بعيد، يجلجل في طبقات الوجود، ويخاطب كل موجود، ويتلفت على رنينها كل كائن، وهو يملأ فضاء السماوات والأرض، ويبلغ إلى كل سمع وإلى كل قلب، ويسكت، وتنتهي الآية، ويصمت الوجود كله، وينصت في ارتقاب الخبر العظيم بعد المطلع العظيم، ثم يجيء الخبر المرتقب الذي يحقق له ضمير الوجود.. علَّم القرآن.. هذه النعمة الكبرى التي تتجلى فيها رحمة الرحمن بالإنسان.. القرآن... الترجمة الصادقة الكاملة لنواميس هذا الوجود، ومنهج السماء للأرض الذي يصل أهلها بناموس الوجود، ويقيم عقيدتهم، وتصوراتهم، وموازينهم، وقيمهم، ونظمهم، وأحوالهم على الأساس الثابت الذي يقوم عليه الوجود، فيمنحهم اليسر والطمأنينة والتفاهم والتجاوب مع الناموس.
القرآن الذي يفتح حواسهم ومشاعرهم مع هذا الكون الجميل كأنما يطالعهم أول مرة فيجدد إحساسهم بوجودهم الذاتي كما يجدد إحساسهم بالكون من حولهم، ويزيد فيمنح كل شيء من حوله حياة نابضة تتجاوب وتتعاطف مع البشر، فإذا هم بين أصدقاء ورفاق أحبة حيثما صاروا أو أقاموا طوال رحلتهم على هذا الكوكب... القرآن الذي يقر في أخلادهم أنهم خلفاء في الأرض، أنهم كرام على الله، وأنهم حملة الأمانة... فيشعرهم بقيمتهم التي يستمدونها من تحقيق إنسانيتهم العليا" (الظلال 6-3446).
كفاية المؤمن
لقد تلقى الصحابة رضوان الله عليهم القرآن الكريم من فيّ رسول الله ص، وأشربته قلوبهم، واقشعرَّت منه جلودهم، ورطبت به ألسنتهم... وكان للقرآن الحبيب الأثر الكبير في نفوسهم.. أثر لا يعدله شيء، كيف وهو كلام الله تعالى؟ فقد روي عن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه فيما أخرجه الحاكم: "كان عكرمة بن أبي جهل يأخذ المصحف فيضعه على وجهه ويبكي ويقول: كلام ربي كتاب ربي". وعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضوان الله عليه قال: "لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام ربنا عز وجل".
ولقد أدرك الصحابة الكرام الأطهار عظم نعمة القرآن الكريم، فتعاهدوه بالتلاوة وإدامة النظر، آناء الليل وأطراف النهار.. وعلم الصحابة الكرام فضل الله بإنزاله كلامه سبحانه وتعالى إليهم... واستشعروا قول الله تعالى: أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى" عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى" لقوم يؤمنون 51 (العنكبوت).(/1)
يقول الأستاذ سيد قطب يرحمه الله تعالى: "أو لم يكفهم أن يعيشوا مع السماء بهذا القرآن؟ وهو يتنزل عليهم، ويحدثهم بما في نفوسهم، ويكشف لهم ما حولهم، ويشعرهم أن عين الله عليهم، وأنه معنيٌّ بهم حتى ليحدثهم بأمرهم، ويقص عليهم القصص ويعلمهم.. وهم هذا الخلق الصغير الضئيل التائه في ملكوت الله الكبير، وهم وأرضهم وشمسهم التي تدور عليها أرضهم.. ذرات تائه في هذا الفضاء الهائل، لا يمسكهن إلا الله، والله بعد ذلك يكرمهم حتى لينزل عليهم كلماته تتلى عليهم... والذين يؤمنون هم الذين يجدون حس هذه الرحمة في نفوسهم، وهم الذين يتذكرون فضل الله عليهم، وعظيم منته على هذه البشرية بهذا التنزيل، ويستشعرون كرمه وهو يدعوهم إلى حضرته، وإلى مائدته، وهو العلي الكبير، وهم الذين ينفعهم هذا القرآن، لأنه يحيا في قلوبهم ويفتح لهم من كنوزه ويمنحهم ذخائره، ويشرق في أرواحهم بالمعرفة والنور" (الظلال).
هذه النعمة وهذه الكفاية القرآن الكريم لَلمسلم المعاصر أشد حاجة إلى تذوقها وتنسم عبيرها، والعيش في رحابها، إذ الواقع المعاصر المادي أشد ضغطاً وقوة مما كانت عليه حياة سلف الأمة الأطهار، ومن ثمَّ فإن تذوق معاني القرآن الكريم والعيش بها سيكون بتوفيق الله تعالى، متناسباً مع قوة الحياة المادية المعاصرة... وهذا لكون القرآن الكريم كتاب هذه الأمة الخالد... وليقول المسلم ساعتئذ لو أن أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي خير كبير... إذ هو يعيش في كلام ربه الحبيب.
تكامل... وانسجام
خلق الله تعالى الإنسان من طين لازب، ثم نفخ فيه من روحه: فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين 29 (الحجر). وأنزل عليه روحاً من أمره: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان (الشورى:52)، فتلتقي نفخة الروح في الإنسان مع القرآن من الرحمن فيكون الانسجام... انسجام بين الروحين، يصنع التكامل في الكيان الإنساني... والروح التي أودعها الله في الإنسان ليعتريها كثير من الهزل والضعف، وتتأثر بطغيان حمأة الطين عليها، وبضغط المادة من حولها!.
فلا تعود للروح إشراقتها، وللنفس طمأنينتها، وللإنسان إنسايته إلا بالروح، القرآن الكريم، لتنزع الروح الإنسانية من عالم المادة والشهوات إلى عالم الطهر والقداسة. هذا القرآن: "فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم".
وذكر الإمام ابن كثير في فضائل القرآن أنه "كلام حسن صحيح يُنسب للإمام على".
في هذا القرآن ما تعود به روح الإنسان إلى هديها الأول، الإنسان الذي علمه ربه البيان... فكان هذا القرآن غاية البيان... فالقرآن يخاطب روح الإنسان: "فالألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة، تذكر الدنيا فمنها عمادها ونظامها، وتصف الآخرة فمنها جنتها وصرامها، ومتى وعدت من كرم الله جعلت الثغور تضحك في وجوه الغيوب، وإن أوعدت بعذاب الله جعلت الألسنة ترعد من حمى القلوب..." (إعجاز القرآن للرافعي).
والقرآن الكريم "الروح" تلمس روح الإنسان بهديها وهداياتها... "بمعان بيان هي عذوبة توريك من ماء البيان، ورقة تستروح منها نسيم الجنان، ونور به مرآة الإيمان في وجه الأمان... وبينا هي ترف بندى الحياة على زهرة الضمير، وتخلق في أوراقها من معاني العبرة معنى العبير، وتهب عليها بأنفاس الرحمة فتنم بسر هذا العالم الصغير... ثم بينا هي تتساقط من الأفواه تساقط الدموع من الأجفان، وتدع القلب من الخشوع كأنه جنازة ينوح عليها اللسان، وتمثل للذنب حقيقة الإنسانية حتى يظن أنه صنف آخر من الإنسان، إذ هي بعد ذلك أطباق السحاب وقد انهارت قواعده والتمتعتْ ناره وقصفت في الجو رواعده، وإذ هي السماء وقد أخذت على الأرض ذنبها، واستأذنت في صدمة الفزع ربها، فكادت ترجف الراجفة تتبعها الرادفة: وإنما هي عند ذلك زجرة واحدة: فإذا الخلق طعام الفناء وإذا الأرض "مائدة") (إعجاز القرآن الرافعي).
هكذا تعود للروح روحها الحقيقية، ويحدث التكامل في كيان الإنسان... عقله وروحه... جسده وعاطفته... مشاعره وأحاسيسه... هكذا فقط يعود المسلم لنفسه بتعاهده لها بالقرآن الكريم: كتاب الله.(/2)
وقد وفق الله تعالى الشيخ حسن البنا يرحمه الله إذ أراد أن يعرّف أتباعه ماهية جماعته فقال: "أيها الإخوان: أنتم لستم جمعية خيرية، ولا حزباً سياسياً، ولا هيئة موضوعة لأغراض محددة المقاصد، ولكنكم روح جديد يسري في قلب الأمة، فتحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت دوي يعلو مردداً دعوة الرسول ص" (مجموعة الرسائل).
فالدعوة المعاصرة روح تسري في جسد هذه الأمة، فتحييه بالقرآن، وقبل أن تشع هذه الروح على الأمة لابد أن يعكف المسلم الداعية العامل على القرآن الكريم، لتعود روحه إليه، وليكون منه تعاهد دائم لها، ثم يأذن له في السريان في جسد هذه الأمة... ليس قبل... وبالقرآن الكريم فقط تكون روح الداعية المؤمن متصلة بالسماء، وله ذكر، وكذلك لدعوته في الأرض، فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول ص: "أوصيك بتقوى الله تعالى فإنه رأس كل شيء، وعليك بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض" (صححه الألباني في صحيح الجامع).
نور على نور.. ثم نور
من أوصاف القرآن الكريم أنه "نور". قال تعالى: يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا 174 (النساء). فهو "نور تتجلى تحت أشعته الكاشفة حقائق الأشياء واضحة، ويبدو مفرق الطريق بين الحق والباطل محدداً مرسوماً... في داخل النفس، وفي واقع الحياة سواء... إذ تجد النفس من هذا النور ما ينير جوانبها أولاً فترى كل شيء فيها ومن حولها واضحاً... حيث يتلاشى الغبش وينكشف وحيث تبدو الحقيقة بسيطة كالبديهية، وحيث يعجب الإنسان من نفسه كيف كان لا يرى هذا الحق وهو بهذا الوضوح وهذه البساطة؟
وحين يعيش الإنسان بروحه في الجو القرآني فترة، يتلقى منه تصوراته وقيمه وموازينه، يحس يُسراً وبساطة ووضوحاً في رؤية الأمور، وشعر أن مقررات كثيرة كانت قلقة في حسه قد راحت تأخذ أماكنها في هدوء، وتلتزم حقائقها في يسر، وتنفي ما علق بها من الزيادات المتطفلة لتبدو في براءتها الفطرية، ونصاعتها كما خرجت من يد الله". (في ظلال القرآن).
هذا "سيد قطب" يصف ذلك النور، والمسلم الحريص على نور رب العالمين ليجد ذلك النور، يجده في حنايا نفسه، وإنه ليعجز عن الإتيان بألفاظ تعبر عن معاني النور التي يقذفها الله في قلبه... إذ هو عاكف على كتاب الله عز وجل.
ويصور ربنا "نور السموات والأرض" نوره في قلب المؤمن الذي عمر قلبه بالإيمان، وعمَّر العبد قلبه بالقرآن، فيقول عزَّ من قائل: الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على" نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم 35 (النور).
والمشكاة هي: الكوة في الجدار، والمصباح هو السراج، والزجاجة هي القنديل الذي يحوي السراج المنير... وهذه الأجزاء الثلاثة في المثل تقابل الإنسان المؤمن في ثلاثة أشياء: جسده وقلبه والنور الذي في قلبه، فالجسد تقابله المشكاة والقلب تقابله الزجاجة والنور يقابله السراج.
والزجاجة التي تحتوي المصباح، أي القلب الذي يحتوي النور شُبه في شدة نوره بالكوكب المضيء الذي يشبه الدر لفرط ضيائه وصفائه، وقد جمع هذا التشبيه الجسد والقلب، وشبههما بالكوكب الدري للدلالة على شدة الصفاء والنور.
وهذا النور المضيء إنما يستمد نوره من شجرة مباركة تكاد تضيء لوحدها... لأنها من نور السماوات والأرض... نور على نور... نور القرآن الكريم ونور الإيمان. (تربيتنا الروحية لسعيد حوى).
وبهذا... لا مدد ولا حياة للقلب من غير القرآن... والحياة مع القرآن، فالقرآن هو المدد الدائم، والزاد المستمر للقلب، الذي به يبقى سراجه مشتعلاً والإنسان مهتدياً، وبقدر حياة القلب بالقرآن بقدر زيادة اجتماع قلبه وإضاءته.
وحين تسري ينابيع الحياة في القلب بصفاء القرآن وهديه، ينصبغ المسلم كله بهذا القرآن، ويكون مُنور القلب والجسد، لتكون بالتالي خطوة أخرى مكملة هي في قوله تعالى: أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها (الأنعام:122).(/3)
هذا هو دور القرآن... فبعد أن أنار جسد المؤمن وقلبه، يجعل له نوراً يتحرك لدعوة الناس إلى هدى الله، إلى نور الله، نور السموات والأرض... ولعل من مشكلات الدعوة اليوم أن كثيراً من أبنائها قيل لهم إنهم دعاة إلى الله، وقُذف بهم لزهق الباطل، وهم في أنفسهم غير متحققين بأنوار القرآن وهداياته التي لا تنقضي... لكنه القدر المطلوب والحد الأدنى من علاقة المسلم بكتاب الله تعالى... ثم تكون الانطلاقة بالدعوة إلى هذا النور والدعاية... ساعتئذ تنير القلب بنور الله نوراً من بين يديه ومن خلفه، لتكون بعد كلماته نوراً من ربه، تصل إلى الناس، وتدعوهم إلى صراط العزيز الحميد، وما كان من القلب وصل إلى القلب، وما كان من اللسان لم يجاوز الآذان.
احذر من الجفوة والقطيعة مع مصدر الهداية والرقي الحياة تحت راية القرآن (2 2) الخطوة الأولى في الحياة مع القرآن الكريم، تلك الحياة التي تبارك العمر وتزكيه وتنميه، هي إدامة التلاوة لكلام الله المعجز، القرآن الكريم، فكلما كان المسلم على علاقة قوية به، ازداد شوقاً للمزيد، إذ القرآن لا يخلق من كثرة الرد، ولا تمله نفوس المؤمنين.
من أجل إدامة الصلة مع القرآن لتدوم الحياة مع الله تعالى تجد الرسول ص يوصي بدوام التلاوة والتعهد للقرآن الكريم، ويحذر من الجفوة والقطيعة بين المسلم ومصدر الهداية والرقي. هذه بعض أحاديث: تشحذ الهمم لتلاوة القرآن الكريم، وتبين أجر المسلم على ذلك وسموه. قال رسول الله ص: "اقرأوا القرآن، فإنكم تؤجرون عليه، أما إنني لا أقول آلم حرف، ولكن ألف عشر ولام عشر وميم عشر، فتلك ثلاثون" (صحيح الجامع 1164).
وقال ص: "إن لله تعالى أهلين من الناس، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته". (صحيح الجامع 1265).
وقال ص: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة، طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها". (البخاري).
الميدان الأول
القرآن الكريم ميدان المؤمن الأول لجمع الحسنات والأجر من عند الله تعالى، وهو الوحيد الذي يجعل المسلم ينتسب إلى الله، وهو ريح المؤمن وطعمه، وهو روح المؤمن في السماء، وذكره في الأرض.
ضرب لنا سلفنا الصالح أمثلة رائعة على علو كعبهم في تلاوة آيات الكتاب الكريم، واستجابوا لتوجيهات النبي الأمين عليه الصلاة والسلام بتعهد قلوبهم بالقرآن الكريم آناء الليل وأطراف النهار، حتى إن بعض أولئك السلف الأطهار كان يختم القرآن في ليلة، ومنهم من يختمه في أقل من ثلاث ليالٍ، ومنهم من يختمه في سبع، ومنهم في عشر، وفي كل أحاديث صحاح. (راجع صلاح الأمة في علو الهمة 3-10 وما بعدها).
إلا أننا ونحن ننشد العيش مع القرآن والحياة مع الله، نسعى إلى ربانية نقية خالصة، ونحن نعاني من بعدنا عن كلام الله، ونتأثر بالبيئة من حولنا، كل ذلك يجعل المسلم يفكر في أمر قلبه ونفسه وآخرته وروحه، ثم في أمر دعوته التي يريد لها القبول، على المسلم أن يفكر في ذلك كله ويحدد لنفسه ورداً يومياً من كتاب الله تعالى لا يفتر عنه ولا يتكاسل ولا يتركه لأي سبب كان. وعلى المسلم أن يقتدي كذلك بسلفه الصالح، ويضرب معهم بسهم وافر في حياتهم مع القرآن الكريم، وعلو همتهم في تلاوة كتاب الله تعالى.
إن هذا القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. كلام رب متصف بصفات الكمال والجلال منزه عن النقص والمثال، نزل به الروح الأمين على قلب خير الخلق أجمعين، فبلغه على أكمل حال. وهذا القرآن ينشئ مسلماً متصفاً بصفات عليا، تؤهله لأداء دوره الكبير من بعد أن أكرمه الرحمن بالقرآن وجعله نوراً على نور بسند عالٍ وبصورة ناصعة البياض، أفبعد هذا يترك القرآن الحبيب العجيب، ولا يتعهده صباح مساء، ونسمع دعاء الرسول ص ونداءه وهو السراج المنير : وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا (30) (الفرقان). إن هذا القرآن ليفرق بين المرء وعادته، وينفذ حتى ينصرف بين القلب وإرادته، ويجري في الخواطر كما تصعد في الشجر قطرات الماء، ويتصل بالروح فكأنما يمدها بسبب من السماء، لا جرم أن القرآن سر السماء، فهو نور الله في أفق الدنيا حتى تزول، ومعنى الخلود في دولة الأرض إلى أن تدول.
ويظل الحديث عن القرآن ذا شجون لحياة قلوبنا، والرقي بها في معارج القبول، وما من عنصر إلا وهو مقلب صفحة منه حتى لتنتهي الدنيا عند خاتمته فإذا هي البداية.(/4)
الحياة لا يمكن أن تنشأ إلا من الحياة لويس باستير
علم الكيمياء ينقض نظرية التطور
إسطنبول: أورخان محمد علي
كان من الضروري لأنصار فرضية التطور شرح وإيضاح كيفية ظهور الحياة على سطح الأرض، أي كيفية ظهور الخلية الحية الأولى حسب هذه الفرضية التي تدعي أن جميع المظاهر الرائعة لهذه الحياة على سطح الأرض وجميع أنواع الجمال والدقة والنظام المذهل الذي يزخر به هذا الكون أثر من آثار المصادفات العمياء!.
وإذا استثنينا قلة نادرة فهذا هو الاتجاه العام لدى التطوريين. لذا كانت فرضية التطور هي الفرضية العلمية الوحيدة تقريباً التي تمهد للإلحاد وتيسر له السبيل، لأنها تدعي أنها تقدم تفسيراً للحياة والكون دون الحاجة إلى الخالق. ولكن إن دققنا الأمر في ضوء الحقائق العلمية الحديثة نرى أن الفرضيات المقدمة من قبل أنصار التطور عبارة عن فرضيات خيالية وأوهام ألبست لباس العلم. ولكي نحيط بأطراف الموضوع نورد الفرضيات التي يقدمونها في هذا الخصوص ثم نشرح الحقائق العلمية التي تنقضها.
الفرضيات التي يقدمها
التطوريون حول نشوء الحياة
يقول التطوريون إن الخلية الحية الأولى ظهرت في ظروف لم تعد الآن موجودة، فالغلاف الجوي في بداية عمر الأرض لم يكن مثل الغلاف الجوي الحالي، والأرض مرت بمراحل مختلفة في هذا الصدد حتى تم ظهور الحياة. والسبب الكامن وراء تأكيدهم على هذا الأمر هو أن الغلاف الجوي الحالي للأرض لكونه محتوياً على الأكسجين لا يسمح بالفرضيات التي يقدمونها لظهور الحياة.
المراحل المفترضة للأرض
من قبل التطوريين:
1 المرحلة الأولى: أي المرحلة المبكرة من عمر الأرض. في هذه المرحلة كان الغلاف الجوي للأرض على حد زعمهم متكوناً من غازات مختزلة معظمها من الميثان CH4 والأمونيا NH3 والهيدروجينH2 وبخار الماء.(1).
وقد يتساءل أحدهم عن الدليل الذي يقدمه هؤلاء عند عرض هذه الفرضية فنقول إنهم لا يقدمون أي دليل. وسبب قولهم بذلك هو أنهم يتصورون أن هذا الخليط هو الخليط المثالي لفرضيتهم من جهة، ولكي يتجنبوا القول بوجود أي مقدار من غاز الأوكسجين في ذلك الغلاف الجوي لأنه سيهدم جميع فرضياتهم حول ظهور الخلية الحية الأولى.
2 المرحلة الثانية: نتيجة للتفريغ الكهربائي للبروق، ونتيجة للأشعة فوق البنفسجية والجزيئات ذات الطاقة العالية المنهمرة من الفضاء الخارجي على ذلك الغلاف الجوي تحولت الأرض إلى المرحلة الثانية، وهي المرحلة التي تكونت فيها جزيئات عضوية صغيرة كجزيئات السكر والأحماض الأمينية والنوكليداتNucleotides وهي اللبنات الأساسية لجزيئات D.N.A. ولجزيئات R.N.A..
3 المرحلة الثالثة: بعد ملايين السنين تكونت جزيئات كبيرة من اتحاد الجزيئات الصغيرة التي تكونت في المرحلة الثانية، حيث تكونت جزيئات البروتينات، والأحماض الأمينية مثل D.N.A. والنشا.
4 المرحلة الرابعة: في هذه المرحلة اتحدت الجزيئات التي تشكلت في المرحلة الثالثة، وكونت مواد هلامية تدعى Coacervates أو Microspheres وافترضوا أن هذه المواد كانت لها قابلية جذب جزيئات أصغر منها لتشكل معاً بنى يمكن تسميتها الخلايا البدائية. Proto- cells
5 المرحلة الخامسة: في هذه المرحلة ظهرت الخلية الحية الأولى نتيجة امتصاص الخلية البدائية الجزيئات الملائمة للقيام بوظيفة إعادة الإنتاج ذاتيا self- reproduction. وعاشت هذه الخلايا الحية الأولية في البداية على الجزيئات التي كانت موجودة في المراحل السابقة. ولكنها سرعان ما تطورت إلى خلايا تستطيع القيام بالتمثيل الضوئي Photosynthetic ll. وقامت هذه الخلايا بطرح غاز الأكسجين إلى الجو.. هذا الغاز الذي يحتاج إليه جميع الأحياء تقريباً على سطح الأرض. وقام غاز الأكسجين بتحطيم وتدمير جميع الخلايا البدائية والأولية التي تكونت في المراحل السابقة! أي ما أن ظهرت الحياة مرة بهذه الطريقة حتى أقفل الباب أمام ظهور الحياة بهذه الطريقة مرة أخرى، وذلك بسبب وجود غاز الأكسجين!
هذه هي قصة ظهور الحياة، أي ظهور الخلية الحية الأولى حسب السيناريوهات الخيالية الموضوعة من قبل التطوريين.
والمتأمل لهذه الفرضيات لا يجد فيها دليلاً علمياً واحداً، بل مجموعة من الفرضيات بينها فجوات كثيرة، وعلامات استفهام عديدة لم يقوموا بشرحها أبداً لأنهم لا يستطيعون. فمثلاً نراهم يقولون بظهور الخلية الأولى التي تستطيع إعادة الإنتاج ذاتيا self- reproduction، ولكن لا يقولون لنا كيف تمت هذه الخطوة الجبارة والخطيرة، لأن إعادة الإنتاج أي التكاثر ذاتياً تحتاج إلى آليات معقدة جداً، وتحتاج إلى وجود مئات الآلاف من الجينات حاملة الصفات في جزيئات D.N.A التي هي بمثابة مكتبة كاملة من المعلومات.(/1)
ونراهم يقولون بأن الخلايا الأولية تطورت إلى خلايا تستطيع القيام بالتمثيل الضوئي.. هكذا وبكل بساطة.. ولكنهم لا يقولون لنا كيف حصل مثل هذا التطور الكبير وهذه القفزة العظمى؟. فهذا الكلام لا يعد علمياً بأي معيار من المعايير، لأن التمثيل الضوئي معجزة من معجزات الخلق ولم يستطع العلماء حتى الآن القيام حتى في أحدث وأكبر المختبرات العلمية بتقليد التفاعلات المعقدة التي تجريها النباتات خلال عملية التمثيل الضوئي. فكيف يمكن إطلاق مثل هذه الفرضيات دون تقديم دليل، أو شرح الخطوات التي خطتها الخلايا لتكتسب مثل هذه القابليات المدهشة؟ ولو استطاع العلم تقليد هذه التفاعلات لاختفى الجوع من على سطح الأرض، لأن الإنسان يستطيع آنذاك صنع مختلف الأغذية والفواكه والخضراوات في المعامل. ولكن العلم لا يزال بعيداً جداً عن هذا الأمر.
والآن لنناقش هذه السيناريوهات حول التطور الكيميائي المزعوم:
1 طبيعة أول غلاف جوي للأرض: لا يوجد إجماع بين العلماء حول موضوع الغلاف الجوي للأرض في بداية عمرها ونشوئها. فالتطوريون يقولون كما ذكرنا بأن الغلاف الجوي كان يتكون من الميثان والأمونيا والهيدروجين وبخار الماء، ويخلو من الأكسجين بسبب معرفتهم بأن غاز الأكسجين يحطم كل جزيئة يحتاجها هذا التطور الكيميائي المزعوم. وكان دليلهم الوحيد في هذا الصدد هو أن جو كوكبي المشتري وزحل (ساتورن) يحتويان على الميثان والأمونيا. ولكن أكثر العلماء الحاليين يذكرون أنه لا يوجد أي دليل علمي على وجود مثل هذا الجو الاختزالي للأرض في بداية عمرها. فمثلاً يقول العالم الأمريكي (أبلسون P.H.Abelson) The methane - ammonia hypothesis is in major trouble with respect to the ammonia component , for ammonia on the primitive earth would have quickly disappear ...)
أي: "إن فرضية الميثان الأمونيا تلاقي مشكلات كبيرة وصعوبات فيما يتعلق بمركب الأمونيا،لأن الأمونيا في مرحلة الأرض البدائية كانت تختفي بسرعة ومعظم علماء الجيولوجيا الحاليين يعتقدون أن جو الأرض البدائية كان يحتوي على ثاني أكسيد الكربون والنتروجين وبخار الماء وعلى كمية لا بأس بها من الأكسجين (2). فهذا هو ما يستنتجونه من دراسة الصخور الرسوبية الأولية للأرض.
ووجود مثل هذا الغلاف الجوي للأرض المحتوي على الأكسجين يقلب تماماً جميع النظريات الموضوعة حول الأصل التطوري للحياة رأساً على عقب.
ولو أردنا المزيد من التدقيق العلمي لهذا الموضوع فإننا نورد الحقائق الآتية:
1 أظهرت التحاليل العلمية أن جو كوكبي المشتري وزحل يحتويان على الميثان والأمونيا وينعدم فيهما الأكسجين.
2 مثل هذا الجو الاختزالي موجود في الكواكب الخارجية البعيدة عن الشمس. أما أجواء الكواكب القريبة من الشمس كالمريخ والزهرة فتحتوي على ثاني أكسيد الكربون وأول أكسيد الكربون بدلاً من الميثان.
3 غاز الأمونيا سريع الذوبان في الماء، لذا فإن وجد في جو كوكب كالأرض يحتوي على كميات كبيرة من الماء فإن معظمه سيذوب في مياه المحيطات والبحار والبحيرات.ولا يبقى في الجو إلا كمية قليلة جداً.
4 إن الأشعة فوق البنفسجية الآتية من الشمس تقوم بتجزئة الأمونيا وبخار الماء، وتحرر الأكسجين من بخار الماء. وهكذا فسيختفي غاز الأمونيا من جهة إن كان موجوداً في الجو ويظهر الأكسجين في الجو من جهة أخرى.
5 قال بعض العلماء إن الجو البدائي للأرض جاء من باطن الأرض بواسطة البراكين التي كانت تقذف مع الحمم كميات كبيرة من غاز ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء.
6 اكتشف العلماء خامات حديد متأكسدة في أقدم الطبقات الأرضية وكذلك كبريتات معادن مختلفة. وهذا مؤشر واضح جداً على وجود الأكسجين في جو الأرض منذ أقدم عهودها. أي أن فرضية التطور الكيميائي المستند إلى غياب الأكسجين تنهار تماماً.
7 يقوم الأكسجين بهدم وتحطيم الجزيئات البيولوجية المهمة مثل جزيئات D.N.A. وجزيئات البروتين. هذه الحقائق العلمية تبين استحالة تكون الجزيئات الحيوية الضرورية، وتقضي بالتالي على فكرة التطور الكيميائي للحياة التي تقدمها فرضية التطور.
ولكن الأوساط العلمية قبل خمسين سنة كانت تقبل فكرة وجود الجو الاختزالي للأرض أي الجو الحاوي على غازات مختزلة كالأمونيا والميثان في عهدها المبكر، لذا نرى أن بعض العلماء حاولوا البرهنة على أن جزيئات مهمة وضرورية للحياة نشأت وتكونت من هذا الجو بفعل الشرارات الكهربائية للبروق. ومن أهم هذه المحاولات التجربة الشهيرة التي قام بها العالم الأمريكي ستانلي ميللر S . Miller عام 1952م.
تجربة ستانلي ميللر(/2)
وضع ميللر خليطاً من الأمونيا والميثان وبخار الماء في جهازه ثم مرر شرارة كهربائية في هذا الخليط مدة أسبوع واحد، وجمع ناتج التفاعل في المصيدة Trap الموجودة في أسفل الجهاز. كان الناتج عبارة عن بعض الأحماض الأمينية مع بعض المركبات البسيطة الأخرى. صفق العديد من علماء التطور وابتهجوا بنتائج هذه التجربة وعدوها دليلاً على أن الخلية الحية الأولى ظهرت بهذه الطريقة؛ أي ظهرت نتيجة إفراغ الشحنات الكهربائية للبروق في الخليط الغازي للغلاف الجوي للأرض في مرحلتها الأولى من عمرها.ولكن علماء آخرين عارضوا هذا الرأي وقالوا إن هذه التجربة لا تبرهن على شيء واستندوا في هذا إلى الأسباب الآتية:
1 أن عدد الأحماض الأمينية الناتجة من التجربة قليل ولا يكفي أبداً لتشكيل وتكوين الخلية الحية الأولى، إذ يجب توافر جميع الأحماض الأمينية اللازمة لتكون الخلية الحية، وهي أضعاف هذا العدد.
2 إضافة إلى توافر العدد والنوعية الضرورية للأحماض الأمينية يجب توافر مركبات ضرورية أخرى لا يمكن الاستغناء عنها مثل السكر والبيرورين Purines... الخ. بينما لم تتكون ولم تظهر هذه المركبات الضرورية كنواتج للتجربة. كما يجب وجود تراكيب combinations وسلاسل لهذه المركبات في الجزيئات الكبيرة كالبروتينات والكاربوهيدرات وD.N.A. وR.N.A وكذلك ظهور البنية المعقدة جداً للخلية الحية التي تستطيع التكاثر ذاتياً. وكل هذه الشروط غير موجودة في ناتج التجربة.
3 استعان ميللر للحصول على هذه النواتج في تجربته بوضع المحبس أو المصيدة Trap في أسفل جهازه لتجميع نواتج التفاعلات. وهذا الجزء من الجهاز جزء حيوي جداً، لأنه يحفظ هذه النواتج من عمليات التحلل بواسطة مصدر الطاقة، أي بواسطة الشرارة الكهربائية، لأن الطاقة التي كونت هذه النواتج والمركبات تقوم أيضاً بتحليل وتدمير هذه المركبات بعد مدة. والمحبس هو الذي يحفظ المركبات من التحلل مرة ثانية. ولكن لا يوجد في الطبيعة من يقوم بمثل هذه المهمة؛ أي أن هذه المركبات لا تجد فرصة في الطبيعة لكي تتراكم وتتجمع تمهيداً للخطوة الثانية من التطور.
4 الاعتراض الأخير أو المشكلة الأخيرة في هذه التجربة، أنه بجانب تشكل مركبات مفيدة (كالأحماض الأمينية) وضرورية للحياة، تتشكل وتنتج مواد أخرى قاتلة وهادمة للحياة. فمثلاً لا تظهر السلاسل الصغيرة من الأحماض الأمينية العسراء short chain left handed المفيدة فحسب، بل تظهر أيضا وبكميات أكبر السلاسل الطويلة من الأحماض الأمينية ذات الأيدي اليمنى (long chain and right - handed) الضارة. وظهور هذه الأحماض الأمينية الضارة والقاتلة لا يدع أي مجال للحياة. وهكذا شاهدت الأوساط العلمية فشل تجربة ميللر في تفسير نشوء الحياة، واعترف ميللر نفسه بعد سنوات بهذا.
تجربة سيدني فوكس
بعد سنوات تجددت آمال التطوريين بالتجربة التي قام بها سيدني فوكس Sidney Fox ، فقد استطاع فوكس الحصول على جزيئات شبيهة بالبروتينات من تسخين حامض أميني نقي وجاف إلى درجة 180150م لمدة (4 6) ساعات، لأنه كان يرى احتمال وقوع مثل هذا التفاعل بالقرب من حافات البراكين.
ثم أذاب ما حصل عليه في ماء حار، وترك المحلول ليبرد فلاحظ تكون كريات صغيرة (microspheres) من جزيئات شبيهة بالبروتينات (protein- like molecules). وبدا أن هذه الكريات الصغيرة لها قابلية النمو والتبرعم، مما شجع فوكس على الاعتقاد بأنه ربما عثر على الطريقة التي تشكلت بها الخلية الحية الأولى.
ومع أن بعض علماء التطور صفقوا لهذه التجربة وعدوها مفتاحاً لإيضاح ظهور الخلية الحية الأولى إلا أن معظم العلماء أبدوا شكوكهم حول التجربة وحول وجود أي علاقة لها بظهور الخلية الحية الأولى. وكان ميللر من أوائل المعترضين فقد صرح هو ومعه لسلي أورجل Leslie Orgel بما يأتي:
If there were places such as polymerizetion could be accomplished, then it would still be necessary to show how the amino asid were brought to the lava and the peptides removed in an efficient manner .
أي: "إن كانت هناك أماكن مساعدة لتشكل مثل هذه البوليمرات، تبقى هناك مع هذا ضرورة لإيضاح وبيان كيف جُلبت الأحماض الأمينية إلى قرب الحمم البركانية، وكيف نقلت الببتيدات من هناك بشكل كفؤ".
وقال العالم البيولوجي الأمريكي إن الجزيئات الشبيهة بالبروتينات التي حصل عليها فوكس في هذه التجربة تقضي على كل أثر للحياة.(/3)
وهناك حقيقة علمية أخرى هي أن مثل هذه الحرارة العالية التي استعملها فوكس في تجربته تقضي على نوعين مهمين من أنواع الأحماض الأمينية لا غنى للحياة عنهما وهما Serine وThreonine. هذا علاوة على أن مثل هذه الحرارة العالية تؤدي إلى قلب نصف الأحماض الأمينية العسراء Left - handed إلى أحماض أمينية يمينية اليد Right- handed وهذا يعني القضاء على الحياة لأن وجود حامض أميني واحد من نوع اليد اليمنى يكفي لهدم جميع الفاعليات البيولوجية. أي يجب أن تكون الأحماض الأمينية جميعها من النوع الأعسر في الخلايا الحية.
تحليل المرحلة الثالثة
لنلق نظرة متفحصة على المرحلة الثالثة حسب فرضية التطوريين:
ذكرنا أن الجزيئات التي حصل عليها ميللر كانت جزيئات بسيطة وبعيدة جداً عن الجزيئات المعقدة الضرورية للحياة. ومثل هذه الجزيئات البسيطة تتشكل حتى في الفضاء الخارجي دون أن تكون لها أدنى علاقة بالحياة.
إن نظم الحياة (Living systems) نظم دقيقة ومعقدة جداً وتعتمد على جزيئات معقدة التركيب تدعى الإنزيمات، وهي جزيئات كبيرة من البروتينات متكونة من سلاسل معقدة من الأحماض الأمينية ذات أشكال مختلفة. تقوم هذه الإنزيمات بتسريع التفاعلات الكيميائية الجارية في الجسم بمعدل ألف ضعف سرعة التفاعل عند عدم وجود الإنزيم. وأحيانا عدة آلاف ضعف. وأحياناً تقوم ببدء التفاعلات أيضاً. ولكل أنزيم تفاعل خاص. وقد تجتمع وتشترك عدة إنزيمات على التتابع لإكمال إحدى العمليات الحيوية. فمثلاً هناك العديد من الإنزيمات الضرورية في خلايا عضلاتنا لإطلاق الطاقة الضرورية التي تحتاجها هذه الحركات.
فهل تستطيع المصادفات العمياء والعمليات العشوائية تكوين مثل هذه الجزيئات البروتينية الكبيرة والمعقدة الخاصة؟ لقد قام العلماء بحساب نسبة وجود مثل هذا الاحتمال باستخدام قوانين الاحتمالات probability فأظهر هذا الحساب أن الكون ليس كافياً لا من ناحية الحجم ولا من ناحية الزمن لتكوين جزئية واحدة من البروتين عن طريق المصادفات العشوائية. أي لو كان الكون كله مملوءاً بالعناصر المكونة لجزيئة البروتين (وهي النتروجين والهيدروجين والأكسجين والكاربون) ولم يكن هناك أي عنصر آخر (علماً بأن عدد العناصر المكتشفة حتى الآن جاوز المائة). وحدثت تفاعلات عشوائية بين هذه العناصر بسرعة خيالية (مثلا مليون تفاعل في الثانية الواحدة). لما كان عمر الكون ( المقدر ب 15 20 مليار سنة) ولا حجمه كافيين لتكوين جزيئة واحدة من البروتين.
وكما هو معلوم فهناك عشرون نوعاً مختلفاً من الأحماض الأمينية. والبروتين الاعتيادي يحتوي في المتوسط على (300 500) حامضاً أمينياً في سلسلة واحدة، فإذا قمنا بحساب عدد الأشكال المختلفة لمائتين فقط من الأحماض الأمينية وأنواع البروتينات التي يمكن تشكيلها منها نجدها مساوية لعدد هائل هو رقم عشرة مرفوعاً لقوة 260 (أي 26010) أي رقم واحد وأمامه مائتان وستون صفراً. ولكي ندرك مدى ضخامة هذا الرقم نقول إن العلماء يقدرون عدد الذرات الموجودة في الكون أجمعه برقم واحد وأمامه ثمانون صفراً. وليست جميع هذه البروتينات صالحة للحياة، بل عدد قليل منها فقط. ولو اعتبرنا عمر الكون عشرين مليار سنة، ولو قمنا بتحويل هذا العمر إلى ثوان لحصلنا على رقم واحد وأمامه عشرون صفراً فقط.
ولو افترضنا أن جزيئة بروتين واحدة تتشكل في كل ثانية من عمر الكون فإن فرصة تشكل جزيئة واحدة من بروتين صالح للحياة تبقى مساوية للصفر تقريباً لأنها تكون مساوية ل ( 1-14010) أي رقم واحد مقسوم على عدد واحد وأمامه مائة وأربعون صفرا. وهو عدد يفوق عدد الذرات الموجودة في الكون بأجمعه ببلايين البلايين من المرات. ويعد رقم واحد مقسوماً على رقم واحد أمامه خمسون صفراً في الرياضيات مساوياً للصفر من الناحية العملية. أي أن هذا الاحتمال غير وارد أبداً. لذا نرى أن العالم البيوكيميائي الروسي اوبارين A.I.Oparin الذي يعد أبا نظرية التطور الكيميائي يقول:
The spontaneous formation of such an atomic arrangment in the protein molecule would seem as improbable as would the accidental origin of the text of Virgil,s Aneld from scattered letter type
أي: "إن التشكل التلقائي لمثل هذه المنظومات الذرية في جزيئة البروتين تبدو مستحيلة كاستحالة الحصول على ديوان شعر فرجل آنلد وهو شاعر ملحمي لاتيني من الترتيب العشوائي للحروف".
المرحلة الرابعة(/4)
لنفرض المستحيل ونقول إن تطور البروميرات الموصوفة في المرحلة الثانية قد تحقق فعلاً. إذن فإن تحقق المرحلة الرابعة يكون سهلاً. ففي هذه المرحلة تتكون كريات شبيهة بالجليgel - like glebs ) تدعى Concavervates. كانت الكريات الصغيرة التي حصل عليها فوكس في تجربته نوعاً من هذه الكريات. وكان من رأي (أوبارين) أن هذه الكريات الصغيرة لو تركت مدة كافية في مكان صالح، وفي شروط ملائمة لاستطاعت امتصاص مواد كيميائية أخرى وزاد تعقيد تركيبها ومن الجائز أن الخلية الحية الأولى ظهرت للمرة الأولى للوجود بهذه الطريقة. وأجرى أوبارين تجارب شاهد فيها أنه يستطيع إعطاء بعض الأنزيمات إلى هذه الكريات، وأن نشاطها الكيميائي استمر.
ولكن علينا ألا ننسى الحقائق العلمية الآتية:
1 هذه الكريات ليست مستقرة بل قلقة، وتنحل بسرعة كبيرة وبسهولة.
2 تشكل هذه الكريات ليست اختيارياً ولا يمكن السيطرة عليه حسب قاعدة معينة، أو حسب هدف معين. إذ يتم هنا اتحاد أي مادة ذات شحنة موجبة مع أي مادة ذات شحنة سالبة.
3 يتم امتصاص الأنزيمات الموجودة حوالي الكريات بشكل عشوائي، لذا تدخل الأنزيمات الضارة بجانب الأنزيمات النافعة
4 أن الأنزيمات وغيرها من الجزيئات النشطة من الناحية البيولوجية الموجودة في هذه الكريات المسماة Coacervates ليست مرتبة ومنظمة كالتنظيم الموجود في الخلية الحية.
5 لا يوجد غشاء حول هذه الكريات كالغشاء الموجود حول الخلية الحية. وغشاء الخلية الحية ليس غشاء عادياً، بل يملك تركيباً معقدا تنتهي إليه نظم التخاطب والاتصال الموجودة في الخلية.أي أنه جزء مهم وحيوي جداً وله دور ومهمة خطيرة في الخلية.
6 إن تم امتصاص أنزيم هادم للبروتينات إلى هذه الكريات وهو أنزيم Proteolytic فإنه يقوم بمضغ كل بروتين موجود والقضاء عليه.
7 مثل هذه الكريات لا تملك قابلية التكاثر.أي ليست أمامها أي فرصة لإدامة بقائها.
أمام هذه الحقائق العلمية هل ترون وجود أي احتمال أو فرصة لتحقق فرضيات التطوريين في ظهور الخلية الحية الأولى حسب السيناريوهات الموضوعة من قبلهم؟... نترك الجواب للقارئ.
هناك صعوبة وعقبة أخرى أمام التطوريين في موضوع النشوء الذاتي أو الظهور التلقائي للحياة بالمصادفات العمياء وهي أن الأحماض النووية D.N.A. وكذلكR.N.A. تقوم بإنتاج أنزيمات البروتينات. ولكن أنزيمات البروتينات هي التي تقوم بإنتاج الأحماض النووية D.N.A. وR.N.A. فمن البادئ أولاً؟... وكيف؟ توجد هنا حلقة مفرغة مثل: هل الدجاجة من البيضة أم البيضة من الدجاجة؟. فكيف يمكن والحالة هكذا توقع تكون ونشوء الأنزيمات وهي بروتينات معقدة تلقائيا؟ وكيف يمكن كذلك نشوء جزيئات D.N.A.- وهي بنك هائل للمعلومات تلقائياً وعن طريق المصادفات العشوائية؟
ولكي نوفر على التطوريين جهودهم وتعبهم في الركض وراء فرضيات خيالية وغير معقولة وغير صحيحة من الناحية العلمية حول كيفية ظهور الأنزيمات الضرورية للخلية.. نوفر عليهم التعب ونقول لهم: " هيا .. قوموا أنتم بإحضار جميع هذه الأنزيمات بشكل جاهز وضعوها بالكمية وبالنسبة التي تريدونها.. افعلوا هذا ولننظر إن كان هذا يفيدكم في شيء. لقد قام بعض العلماء بمثل هذه التجارب فعلاً.. ولكنها فشلت جميعاً.
يقول العالم التطوري (أوبارين) حول هذا الأمر:
If, for instance, one was to prepare an artificial mixture of all the enzymes which promote the separate reactions constituting the respiratory process , he would still fall to reprouce respiration by means of this mixture... for the simple reason that the reaction vvelocities will not be properly and mutually coordinated.
إن قام أحدهم بتحضير مزيج صناعي من جميع الأنزيمات التي تنشئ بنية وتركيب التفاعلات المستقلة في عمليات التنفس مثلاً، فإنه سيفشل في إعادة التنفس بواسطة هذا المزيج، وذلك لسبب بسيط وهو أن سرعة التفاعلات لن تكون متناسقة ومنظمة بشكل تعاوني فيما بينها.
إن غياب مثل هذا التناسق والتناغم بين التفاعلات الجارية أهم سمة تميز التفاعلات الجارية في المختبرات عن التفاعلات المتناسقة والمتساوقة الجارية في الخلايا الحية.
توجد في جزيئات D.N.A أربع مجموعات كيميائية قاعدية (Bases) هي Guanine رمزه G، و Cytone رمزه C، و Adanineرمزه A، و Thymineورمزه Tومن تراص هذه المجموعات (التي نستطيع تشبيهها بتراص الأحرف لتكوين كلمة ثم جملة) بأشكال عديدة جداً ومختلفة تظهر الشفرات التي تعين الخواص الوراثية للكائن الحي. وتستعمل سلاسل هذه المجموعات القاعدية في تصفيف الأحماض الأمينية وتجميعها من أجل صنع البروتينات المختلفة. ولكن لا يكفي لصنع أي بروتين وجود شفرات D.N.A. بل يحتاج إلى أنزيمات خاصة (وتتكون من بروتينات أيضاً)، وكذلك إلى جزيئات عديدة منR.N.A. التي تختار وتنشط كل حامض أميني.(/5)
أي أن هذه العمليات معقدة جداً وتحتاج إلى نظام System معقد. ولكي يتم صنع جزيئة بروتين واحدة حسب التعليمات الموجودة في D.N.A. تحتاج الخلية الحية إلى أكثر من سبعين نوعاً خاصاً من البروتينات، وإلى طاقة معينة. وبدون توافر أحماض أمينية والكمية اللازمة من الطاقة والنوعيات الخاصة من الأنزيمات فإن جميع هذه العمليات تقف وتتعطل.
فهل هناك أي احتمال أو إمكانية لأن تقوم المصادفات العمياء بإنجاز وتنظيم وتعيير كل هذه الفاعليات الدقيقة لإنتاج الخلية الحية الأولى؟.. علماً بأن العلماء فشلوا في صنع الخلية الحية في مختبراتهم الحديثة مع كونهم استعملوا جميع المواد والأنزيمات المختلفة لإنجاح هذه العملية.
وقد اعتقد بعض العلماء في السابق أن الفيروسات ربما كانت المفتاح لحل لغز بدء الحياة وظهور الخلية الحية الأولى. والفيروس عبارة عن بروتين يحتوي على الحامض النووي Nucleic asid قد يكون هذا الحامض النووي D.N.A. أو R.N.A. وهذه الفيروسات لا تتكاثر إلا متطفلة على بعض الخلايا الحية حيث يقوم الفيروس بالالتصاق بخلية حية ثم يحقن فيها حامضه النووي ثم يقوم باستعارة الخصائص الوراثية لتلك الخلية. وبهذه الطريقة يؤثر عليها ويصدر أوامره إليها لصنع جزيئات D.N.A العائدة له لكي تقوم هذه الجزيئات بصنع البروتينات للغلاف الخارجي للفيروس. وبهذه الطريقة يتم صنع فيروسات أخرى بواسطة الخلايا الحية التي تتطفل عليها الفيروسات وتغزوها.
فهل يمكن أن تكون الفيروسات هي "الحلقة المفقودة" أو الجسر الموصل بين عالم الجماد وعالم الأحياء؟.
لقد خطر هذا ببال بعض العلماء قبل أكثر من أربعين عاماً، ثم تأكد العلماء من استحالة هذا الأمر بعد زيادة معرفتهم بخواص الفيروسات. إذ تبين أن الفيروسات تكون خامدة وهامدة لا تبدي أي أثر للحياة، ولا تنشط إلا عند اتصالها بخلية حية. إذن لا يمكن أن تكون الفيروسات وجدت أو ظهرت إلا بعد ظهور الخلايا الحية. وقد أثبتت تجارب العالم الفرنسي لويس باستير أن "الحياة لا يمكن أن تنشأ إلا من الحياة".=>
الهوامش
(1) يتكون الغلاف الجوي الحالي للأرض من الغازات الآتية: 78,09 % من النتروجين، 20,95% من الأكسجين، 0,93% من الأرجون، 0,03% من ثاني أكسيد الكربون وكميات ضئيلة من غازات النيون والكربتون والهليوم والهيدروجين والأكسينون والأوزون وكميات متغيرة من بخار الماء.
(2)Austin,S.A. Did the Early Earth Have a Reducing Atmosphere - Institute for Creation Research, San Diego 1982 p.418(/6)
الحيلة 6/6/1426
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد:
يقول الله _جل وعلا_ في قصة يوسف وإخوته: "فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ" لحكمة يريدها الله _جل وعلا_ "كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ" (يوسف:76) هنا وقفات عظيمة.
واحدة منها مع هذه حيلة، والحيل على نوعين: حيل مشروعة، وهي التي يتوصل بها إلى مطلوب صحيح، بطريق لا يتضمن مخالفة شرعية، مثال ذلك أمر يوسف _عليه السلام_ بوضع أمتعة إخوته في رحالهم لعلهم يعرفونها لعلهم يرجعون، فهذه حيلة مشروعة.
وأما الحيل الممنوعة، فهي التي يتوسل بها إلى أمر منعه الشارع، ومثل هذه لا تجوز، وظاهر الحيلة المذكورة في قوله _تعالى_: "ثم استخرجها من وعاء أخيه" أنها حيلة ممنوعة؛ لأن فيها اتهام الناس بالسرقة وفيها ما ترتب على ذلك من أخذ الرجل، ولكنها أصبحت مشروعة لكونها بإذن الله فيوسف _عليه السلام_ نبي يوحى إليه، قال الله _تعالى_: "كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ".
وقد ذكر بعض أهل العلم أن قوله إنكم لسارقون تعريض بسرقته من أبيه، وذكر آخرون أن هذه الكلمة قالها المؤذن لظاهر ما بدا له، ثم إن التهمة ههنا لم يعين صاحبها والعير فيها هؤلاء الإخوة وفيها غيرهم، ولهذا قالوا لأبيهمك "وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ"، فلما عُين المتهم، وكان صاحبها قد أسر إليه يوسف بالأمر لم تضره التهمة وبذلك يكون قد توصل يوسف إلى مراده بطريق لم يظلم فيه أحد ولم يُتهم فيه إلاّ من تواطأ معه برضاه.
وأما الاغتمام الذي أصاب الإخوة لتذكرهم عهد أبيهم ووعدهم له فنستخلص منه فائدة أخرى، وهي أن المفسدة الكبرى تدفع بالمفسدة الصغرى أي أننا قد نرتكب مفسدة صغرى من أجل أن ندفع مفسدة كبرى.
ويطرد هذا الأمر حتى وإن كان الفعل محرم ابتداء لا يجوز فعله، مثال ذلك ما ذكره العلماء من أنه إذا تترس العدو ببعض المسلمين -وقتل المسلم لا يجوز ابتداء إلا بسبب- فإذا تترسوا بالمسلمين ولم يمكن أن نصل إلى العدو إلا بقتل المسلمين المتترس بهم ففي هذه الحالة يسوغ ذلك؛ لأننا لو لم نفعل ذلك فربما هجم العدو وقتل وأفسد، بل قد يقتلون المتترس بهم في النهاية، مع ضياع مصلحة تبليغ الدين التي من أجلها استشهد من المسلمين من استشهد.
وهنا في هذه القصة مفسدة لكن الله أذن بها لحكمة يعلمها _سبحانه وتعالى_، قد نعلم بعضها وقد نجهل أكثرها فقد ختمت الآية بقول الله _تعالى_: "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ".
وهذه فائدة مهمة في قاعدة تحقيق المصالح والمفاسد وبيان الحيل الممنوعة والحيل المشروعة، والأمر فيها يحتاج إلى تفصيل فليراجعه من يريده في كتاب الإمام ابن القيم (إعلام الموقعين)، فقد أطال النفس في بيان ذلك.
أسأل الله أن يعلمني وإياكم ما ينفعنا وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/1)
الحَدِيْثُ الصَّالِحُ للتَّقْوِيَةِ
هاني بن عبد الله الجبير 3/4/1427
01/05/2006
للحديث عند المحُدِّثين أقسامٌ ثلاثة مشهورة . وهي الصحيح، والحسن والضعيف، وللصحيح والحسن قسمان، صحيحٌ لذاته ولغيره، وحَسَنٌ لذاته ولغيرِهِ .
والفرق بين الحكم على الحديث بالوصف لذاته أو لغيره : أنّه متى صدق عليه الوصف لذاته دون نظرٍ إلى متابعٍ له أو شاهد، قيل له : صحيحٌ لذاته، أو حَسَنٌ لذاته .
ومتى لم يصدق عليه الوصف لذاته، بل وصل إلى هذه المرتبة بعد ورود ما يؤيِّده ويقوِّيه ويرفع رتبته سُمي الحَسَنُ : صحيحًا لغيره، والضعيف : حسنًا لغيره .
فالحسن بكثرة الطرق يُصَحّح . والضعيف بتعددها يُحَسّن .
وهذا شيء مُسْتَقِرٌّ في النفوس ؛ فإن الضعيف إذا كثر تغلّب على الصحيح .
لا تحارب بواحدٍ أهل بَيْتٍ فضعيفان يغلبان قَويًّا .
على أن المهم هنا هو أن القوم قد اصطلحوا على تقوية الأحاديث بتعدد طرقها، فترتفع رتبتها وتقوى الحجة بها .
ومن هنا كان اهتمام علماء السُّنّةِ بالاعتبار وهو : التنقيبُ عن الشواهد والمتابعات .
والذي يعنينا في هذا البحث هو : الحديث الضعيف الذي قد ورد ما يجبره، ويرفع رتبته حتى زال عنه الوصف بالضعف، وغدا حديثًا مقبولاً، وهو المسمّى : [ الحسن لغيره ]، والذي يشكل في هذا النوع من الأحاديث هو حَدُّ الضعف المنجبر، وحَدُّ الجابر له، فلذا صار هذا الموضع من محال الإشكال عند علماء المصطلح، والمؤلفين فيه(1) ؛ وذلك لأنه ليس كل حديث صالحًا لأن يكون جابرًا، فما أطلقه المتأخرون من أن الحديث الضعيف بتعدده يصير حسنًا إطلاق ليس بصواب، بل الصواب أن يُقَيِّد ما إذا كان الضعف ليس قَويًّا [ وعلى هذا فلابُدَّ لمن أراد أن يقويّ الحديث بكثرة طرقه أن يقف على رجال كل طريق منها حتى يتبيّن له مبلغ الضعف فيها ] (2) وهذا أمرٌ مقرّر عند علماء المصطلح ولا إشكال فيه(3) .
الحَدِيْثُ الصَّالِحُ للتَّقْوِيَةِ
الذي ظهر للباحث أن الحديث المقويّ : ما ليس في رواته متروك - وسيأتي بيان المتروك وحده - فكل راو أقوى من المتروك فحديثه صالح للتقوية، فشرط [ تقوّي الحديث بكثرة الطرق هو خلوها من متروك أو متهم ] (4)؛ [ فإنّه إذا كان ضعف الحديث لفسق الراوي أو اتهام بالكذب، ثم جاء من طرق أخرى من هذا النوع ازداد ضعفًا إلى ضعف ؛ لأن تفرّد المتهمين بالكذب، أو المجروحين في عدالتهم ؛ بحيث لا يرويه غيرهم، يرفع الثقة بحديثهم ويؤيّد ضعف روايتهم وهذا واضح] (5).
ويؤيده أن علماء الجرح والتعديل عند ذكرهم لألفاظ الجرح جعلوا منها : متروك وتركوه، ومتروك الحديث ... ثم قالوا عن أهل هذه المرتبة لا يحتج بهم ولا يستشهد ولا يعتبر بهم(6) . [ أي لا يعتد بالحديث الذي يأتي من طريقه متابعًا ولا شاهدًا لحديث آخر ليقوي به ذلك الحديث المتابَع ؛ لأن ضعف هذا الراوي شديد، لا يحتمل أن يقوَّى بحديثه حديث غيره، فلا يصلح للمتابعات ولا للشواهد ] (7).
أمّا الراوي الموصوف بالنُّكر، فلا شك في أنّه يُقَوّي ؛ وذلك لأنّه الوصف بالنكارة، وصفٌ في المروي لا يلازم الراوي، الحديث المخالِفْ منكر، فإذا روى راويه حديثًا لم يخالف فليس حديثه منكرًا بخلاف المتروك، فالترك وصفٌ في الراوي يلازم كلّ ما يرويه(8)- ويؤيده أنّ علماء الجرح ذكروا من ألفاظ الجرح منكر الحديث أو حديثه منكر، وجعلوه صالحًا للاعتبار(9) .
أمّا الحديث المنكر فإنه يُطلق بإزاء معنيين : مخالفة الضعيف للثقة، وغريب الضعيف الذي لا يحتمل تفرّده(10)وهو أحسن حالاً من المتروك كما قال الحافظ في شرح النخبة(11). فهل المنكر يقوّي ؟ الجواب : أن المنكر بمعنى غريب الضعيف غير داخل في حديثنا ؛ لأنه فردٌ لا مُقوِّي له . وإلاّ لم يُقَوِّ ؛ لأنه فقد شرطًا من شروط الصحة والحسن وهو عدم الشذوذ، فمن باب أولى عدم النكارة(12). فلذا لا يصير حديثه حسنًا ولا صحيحًا .
هذا وينبغي أن نشير إلى أن بعض المتقدمين يطلق المنكر ويريد به المعنى اللُّغوي : أي مجرد التفرد ولو كان ثقة، فيكون حديثه صحيحًا غريبًا(13).
حكم الحديث غير المُقَوِّي إذا وردت له متابعات
إذا وردت للحديث متابعات، وشواهد قاصرة عن درجة التقوية والجبر، فإنها لا ترفعه إلى الحسن لقصورها، ولكنها مع ذلك تنفعه في جانبٍ آخر وهو إخراجه عن حَدِّ النكارة، أو عن كونه لا أصل له [ بل ربما كثرت طرقه حتى أوصلته إلى درجة المستور السّيئ الحفظ بحيث إذا وجد له طريق آخر فيه ضعف قريب محتمل ارتقى بمجموع ذلك إلى درجة الحسن ] (14).
وهذا ما يؤكد أهمية تتبع الطّرق، ولو كانت ضعيفةً تتقاعد عن حَدِّ الجابر .
قال السيوطي في ألفيته في المصطلح(15):
.. .. .. .. ..وما *** كان لفسقٍ أو يرى مُتَّهمًا
يرقى عن الإنكار بالتعدُّدِ *** بل ربما يصير كالذي بُدِي(/1)
أي أن ما كان رواته مضعفون بسبب الفسق أو التهمة فإنه يرْقى عن حَدِّ المنكر بتعدُّدِه بل ربما صار كالذي بُدي - أي الذي ابتدأ به الكلام وسبق أن تحدث عنه وهو الحديث القريب الضعف الذي يرقى لرتبة الحسن بتعدّده .
المتروك
المتروك لغةً : اسم مفعول من ترك الشيء إذا خَلاّه وطرحه يقال تركه يتركه تركًا(16).
واصطلاحًا : الحديث الذي في رواته متروك .
والراوي المتروك : من وجدت فيه خصلةٌ أو أكثر من الخصال الآتية :
1- أن يكون متهمًا بالكذب، وذلك يتبيّن بصور :
أ. أن يعرف بالكذب في حديثه دون تحديثه .
ب. أن لا يروي الحديث إلاّ من جهته ويكون مخالفًا للقواعد المعلومة .
ج. أن يروي عن الثقات ما لا يتابعه عليه غيره، أو ما لا يعرف عنهم، ولا يُشْبه حديثهم (17).
د. أن يكون مجهولاً ولا يروي عنه إلاّ الضعفاء . (18)
2- أن يكون فاسقًا ظاهر الفسق، وبه تسقط عدالته . (19) أن يكون كثير الغلط في حديثه حتى يفحش . (20)
3- أن يكون كثير الوهم كثير الغفلة . (21)
فالمتروك هو الحديث الذي رواه راوٍ متهم بالكذب أو ظاهر الفسق أو كثير الغلط والغفلة والوهم .
والشاهد لكل ما مَرَّ ما يلي :
قال السيوطي في تدريب الراوي : [ فالحديث الذي راويه متهم بالكذب : بأن لا يُرْوَى إلاّ من جهته وهو مخالف للعواعد المعلومة، أو عرف به في غير الحديث النبوي، أو كثير الغلط، أو الفسق أو الغفلة : سُمّي المتروك ] (22).
ويقول أيضًا في ألفيته :
وسَمِّ بالمتروك فردًا تُصِبِ راوٍ له متهم بالكذب
أو عرفوه منه في غير الأَثَر ... أو فسقٍ أو غفلةٍ أو وَهْمٍ كَثُر(23).
وفي مقدمة اللسان(24) لابن حجر مما يؤكد ما سبق ذكره .. [ قال ابن مهدي : قيل لشعبة : من الذي يترك حديثه ؟ قال إذا روى عن المعروفين ما لا يعرفه المعروفون فأكثر : طرح حديثه، وإذا أكثر الغلط طرح حديثه، وإذا اتهم بالكذب طرح حديثه، وإذا روى حديثًا غلطًا مجمعًا عليه فلم يتهم نفسه عليه طرح حديثه ... إلى أن قال .. قال ابن مهدي : الناس ثلاثة ... والآخر يهم والغالب على حديثه الوهم فهذا يترك حديثه .. ] أ.هـ
وقال ابن رجب في شرحه لعلل الترمذي : [ رواه الحديث أربعة أقسامٍ : من هو متهم بالكذب، ومنهم من هو صادق لكن يغلب على حديثه الغلط والوهم لسوء حفظه وهذان القسمان متروكان ]أ.هـ(25).
الأحاديث المردودة بَيْن التقوية وعَدَمها
بعد أن ذكر الباحث مَنْ من الرواة يصلح حديثه للتقوية ناسب أن يذكر في ختام البحث حال الأحاديث وما الذي يصلح منها لأن يَتَقَوّى، ونحتاج لذلك أن نعدد أقسام الأحاديث المردودة . (26)
فالمردود من الحديث إمّا أن يكون لسقط أو طعن - سقط في السند، أو طعن في الرواة -
فالسقط يشمل المعلق والمنقطع والمعضل والمرسل والمدلس .
فالمرسل والمدلس يتقويان وأما سواهما فلا ؛ لأنا لا نعرف عن الساقط شيئًا، فهل هو ثقة أو لا ؟ وهل هو واحد أو أكثر ؟ وإذا وجد له متابع فهل المذكور فيه هو الساقط أم لا ؟
لأجل هذه الاحتمالات كلها صار الحديث الذي لم نعرف راويه كالعدم : لا يقوّى .
هذا، وإن المرسل وإن وجد فيه السقط، فإن وجوده في العصر الأول، وقبل أن يفشُوَ الكذب وتُقَعَّد قواعد الرواية على وجهها يجعله أحسن حالاً من غيره، فلذا صالح للتقوّي .
وأمّا الطعن فيشمل الموضوع والمتروك والمنكر وكلها سبق الحديث عنها .
وأيضًا المعلل وما فيه مخالفة [ بالإدراج والقلب والاضطراب والتصحيف ] . وأحاديث المبهم والمجهول والمستور وسيئ الحفظ [ سواءً كان لازمًا، أو طارئًا - كالمختلط- ] .
فسيئ الحفظ والمستور حديثهما يقوّى ..
وأما المعلل وما فيه مخالفة فإنه غير صالح للتقوية ؛ لما سبق في المنكر – فإن وجود المخالفة مانع للحكم على الحديث بالحُسْن ..
وأمّا المجهول والمبهم فحديثهما لا يُقَوِّي ؛ لما سبق في المنقطع .
هذا آخر ما تيسر إيراده في هذه العجالة وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه ،،،
________________________________________
(1) انظر : تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف ، للدكتور / ربيع بن هادي عمير المدخلي ، ص 13 – 19، فقد ساق كثيرًا من تعريفاتهم للحسن وذكر ما فيها من إشكال .
(2) تمام المنة ص 31 ، 32 .
(3) انظر : مثلاً الباعث الحثيث ص 43 ، وحاشية أحمد شاكر عليه ، وشرح النخبة ص 258 ، والتدريب ( 1/176 ) .
(4) تمام المنة 410 .
(5) شرح الباعث الحثيث لأحمد شاكر ص 43 .
(6) قال في التدريب ( 1/346 ) : [ وإذا قالوا متروك الحديث ... فهو ساقط لا يكتب حديثه ولا يعتبر به ولا يستشهد ] وقال أيضًا ( 1/243 ) : [ .. متروك الحديث لا يصلح للمتابعات ] . وانظر : شرح الباعث لأحمد شاكر ص 116 ، وانظر : شفاء العليل لمصطفى بن إسماعيل ( 1/213 ) .
(7) حاشية الرفع والتكميل ص 153 .(/2)
(8) هذه الفائدة أخذتها عن فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن محمد الصبيحي جزاه الله خيرًا . ثم وجدت التهانوي في قواعده ص 403 يقول : [ فتلخص منه أن قولهم منكر الحديث ونحوه لا يؤثر في رواية الراوي إلاّ إذا لم يتابع على روايته ] إ.هـ .
(9) شرح ألفية الحديث للعراقي ص 177 . الرفع والتكميل ص 154. قواعد التهانوي ص 258 .
(10) التدريب ( 1/238 فما بعدها ) . الباعث ص 63 . شرح النخبة ص 239 ، 240 .
(11) شرح النخبة ( 247 ، 248 ) . وانظر : تيسير مصطلح الحديث ص 95 . والتدريب ( 1/295 ) .
(12) فإن الصحيح والحسن يشتركان في جميع الشروط إلاّ تمام الضبط كما في النخبة وغيرها . قال في التدريب ( 1/65 ) : [ إن اشتراط نفي الشذوذ - يعني في حد الصحيح - يقتضي اشتراط نفي النكارة بطريق الأولى ] إ.هـ . وقال في النخبة : [ وخبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط متصل السند غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته ... فإن خفَّ الضبط فالحسن لذاته].
(13) قال ابن حجر في هدي الساري ص 436 [ المنكر أطلقه أحمد بن حنبل وجماعة على الحديث الفرد الذي لا متابع له ] . وانظر : قواعد التهانوي ص 258 . وقال ابن كثير في الباعث ص 63 [ وأمّا إن كان الذي تفرد به عدلٌ ضابط حافظ قُبِل شرعًا ولا يقال له منكر وإن قيل له لُغةً ] . على أن لبعض المحدثين اصطلاحًا خاصًا في لفظ المنكر . فانظر : مثلاً لسان الميزان [ 1/5 ] .
(14) التدريب ( 1/177 ) عن الحافظ ابن حجر .
(15) ص 45.
(16) اللسان مادة ترك ( 10/405 ) ، دار الفكر مصورة عن دار صادر . المعجم الوسيط ( 1/84 ) الطبعة الثانية .
(17) انظر : مثلاً لسان الميزان ترجمة أبان بن المحبر ( 1/11 ) وترجمة إبراهيم بن إسحاق الصيني ( 1/16 ) وترجمة إبراهيم بن أبي خيثمة ( 1/40 ) وترجمة أصرم بن حوشب ( 1/515 ) وغيرهم كثير جدًا جعلهم أئمة الجرح من المتروكين لهذا الغرض .
(18) جاء في مقدمة لسان الميزان ص 25 عن ابن حبان : [ فأمّا المجاهيل الذي لم يرو عنهم إلاّ الضعفاء فهم متروكون على الأحوال كلها ] أ.هـ [ هذا وإن مما لا يقوى رواية الضعفاء عن المبهمين فإنها كروايتهم عن المجاهيل بل هي عند التدقيق أشد ضعفًا فإنه لا يعرف حاله ولا يعرف عينه فإذا روى الضعيف عن مبهم لم يكن حديثه صالحًا للتقوية ] .
(19) انظر : اللسان ( 7/117 ) ترجمة أبي نواس قال عنه : [ فسقه ظاهر وتهتكه واضح فليس بأهل أن يروى عنه ] أ.هـ . وانظر : اللسان ( 5/233 ) ترجمة محمد بن الضوء بن الصلصال و( 6/60 ) ترجمة مطيع بن إياس . وفي تهذيب التهذيب ( 4/337 ) ترجمة صالح بن حسان النضري .
(20) قال السيوطي في التدريب ( 1/64 ) [ من كثر الخطأ في حديثه وفحش استحق الترك ] أ.هـ . وانظر لسان الميزان ( 1/29 ) .
(21) انظر : اللسان ترجمة أيوب بن خوط قال عنه عمر بن علي : [ كان أميًّا لا يكتب وهو متروك الحديث ولم يكن من أهل الكذب ، كان كثير الغلط والوهم ] أ.هـ ( 1/536 ) وفي تهذيب التهذيب ( 6/193 ) ترجمة عبد الرحمن بن عبد الله العمري [ قال ابن حبان : كان يروي عن عمه ما ليس من حديثه وذلك أنه كان يهم فيقلب الإسناد ويلزق بالمتن ففحش ذلك في روايته فاستحق الترك ] أ.هـ
(22) ( 1/240 ) ، وانظر : منه ( 1/295 ) .
(23) الألفية ص 94 .
(24) لسان الميزان المقدمة ( 1/23 ) .
(25) ص 193 . هذا ، وقد يرد على ما تقدم ما قاله الحافظ ابن حجر في النخبة حيث سَمّى حديث من طعن فيه لفحش غلطه أو غفلته أو فسقه بالمنكر على رأي .. والجواب أن مراد الحافظ أن من لم يشترط في المنكر المخالفة سَمّى حديث هؤلاء منكرًا ، والتحقيق أنه من المتروك والله الموفق . انظر : شرح النخبة ص 250 . وانظر : شرح قصب السكر لعبد الكريم مراد ص 73 .
(26) الترتيب مأخوذ عن ابن حجر كما في النخبة وقد قال فيها [ ومتى توبع السيئ الحفظ بمعتبر وكذا المستور والمرسل والمدلس صار حديثهم حسنًا لا لذاته بل بالمجموع ]أ.هـ(/3)
الحَمدُ والدُّعاء د. محمد عمر دولة*
الحمد لله والصلاة والسلام على رسولِ الله، وعلى آلِه وصحبِه ومن والاه، وبعد فإنَّ عُنوانَ سَعادةِ العَبدِ وعَلامةَ فَلاحِه ونَجاحِه في أنْ يكون شاكِراً للنَّعْماءِ صابِراً على البَلاءِ؛ فـ"إذا أُنْعِمَ عليه شَكَرَ، وإذا ابتُلِيَ صَبَرَ، وإذا أذْنَبَ استَغفَر"![1]
وقد وَرَدَ في القرآنِ والسُّنةِ تعلِيمُ الدُّعاء وتَعلِيمُ الحمدِ على السَّواء؛ حتى قال الصحابة رضي الله عنهم: (كان يُعَلِّمنا الاستخارةَ كما يُعَلِّمُنا السورةَ من القرآن". قال القاضي عياض رحمه الله: "أذِنَ الله في دُعائه، وعلَّم الدعاءَ في كتابِهِ لِخَلِيقَتِهِ، وعلَّم النبي صلى الله عليه وسلم الدُّعاءَ لأمَّتِه"؛[2] فما أسْعَدَ مَن اقتدى بالقرآنِ والسنة؛ ولله دَرُّ ابنِ القيِّم حيث قال: "سُبحانَ الله! ما حُرِمَ المُعرِضُون عن نُصُوصِ الوَحيِ، واقتباسِ العِلمِ من مِشْكاتِه مِن كُنُوزِ الذَّخائر؟! وماذا فاتَهم مِن حياةِ القلوبِ واستِنارةِ البصائر".[3]
وقد بَيَّنَ العلماءُ علاقةَ الحمدِ بالدعاءِ، ونَصُّوا على فَضلِ الدُّعاءِ بأسماءِ الله الحسنَى؛ إذْ إنَّ الدُّعاءَ الذي يُرْجَى قبولُه يُبدَأُ بِحَمدِ الله عزَّ وجَلَّ والثناءِ عليه بما هو أهلُه والشهادةِ له بالأسماءِ الحسنَى والصِّفاتِ العُلى، كما روى ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (بِتُّ عند ميمونة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ... ثم توضأ... وكان يقول في دُعائه: (اللهم لك الحمدُ أنتَ نُورُ السمواتِ والأرضِ ومَن فيهن, ولك الحمدُ أنتَ قَيُّومُ السمواتِ والأرضِ ومَن فيهن, ولك الحمدُ أنتَ الحق ووَعْدُك حَقٌّ وقولُك حَقٌّ ولقاؤك حَقٌّ, والجنةُ حَقٌّ والنارُ حَقٌّ والساعة حَقٌّ والنَّبِيُّون حَقٌّ ومحمد حَقٌّ. اللهم لك أسلَمتُ وعليك توكَّلتُ وبك آمَنتُ وإليك أنَبْتُ وبك خاصَمْتُ وإليك حاكَمتُ؛ فاغفِرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ, وما أسْرَرتُ وما أعْلَنْتُ, أنتَ المقدِّمُ والمؤخِّرُ لا إله إلا أنتَ، أو لا إله غيرك)![4]
ولا يخفى أنَّ دُعاءَ اللهِ تبارك وتعالى، والتوجُّهَ إليه في خُشُوعٍ وخُضُِوعٍ؛ شَهادةٌ له جلَّ جلالُه بأنه الله الذي لا إلهَ إلا هو الأحَدُ الصَّمَدُ؛ وأنَّ بيده الخير، وعنده النفع والضُّر. ورحم الله العلامة ابنَ القيّم، حيث قال: "لَمَّا كان سُؤالُ اللهِ الهدايةَ إلى الصراطِ المستَقِيمِ أجَلَّ المطالِبِ, ونيلُه أشرفَ المواهِبِ؛ علَّمَ الله عِبادَه كَيفِيةَ سُؤالِه, وأمَرَهم أنْ يُقدِّموا بين يدَيْه حَمْدَه والثناءَ عليه وتَمْجِيدَه, ثم ذَكَرَ عُبُودِيَّهم وتوحِيدَهم؛ فهاتان وَسِيلتان إلى مَطْلُوبِهم: تَوَسُّلٌ إليه بأسمائه وصِفاتِه, وتَوَسُّلٌ إليه بِعُبُودِيَّتِه. وهاتان الوَسِيلَتان لا يكاد يُرَدُّ معهما دُعاء, ويؤيِّدهما الوَسِيلَتان المذكورَتان في الاسمِ الأعظم... وهذه ترجَمةُ عَقِيدةِ أهلِ السنة، والتوسل بالإيمان بذلك والشهادة: هو الاسم الأعظم"![5]
وقد ترجم البخاري في كتاب (التوحيد) (باب سؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها)، وحديث حذيفة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: اللهم باسمك أحيا وأموت, وإذا أصبح قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور).[6] وجاء في حديثِ الملائكةِ السيَّاحِين في الأرض، (يقولون: تركناهم يحمدونك ويمجّدونك ويذكرونك، قال: فيقول: فهل رأوني؟ فيقولون: لا. قال: فيقول: فكيف لو رأوني؟ قال:فيقولون: لو رَأوْك لكانوا أشدَّ تحميدًا وأشدَّ تمجيدًا وأشدَّ لك ذِكْرَا).[7] وقد خَتَمَ البخاريُّ صَحِيحَه الجامعَ بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : (كلمتان خفيفتان على اللّسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان اللهِ وبحمده، سبحان الله العظيم).[8]
وقد علَّمَ النبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَليٍّا وفاطمةَ رضي الله عنهما التكبيرَ والتسبيحَ والتحميدَ عند النوم؛ تعظيماً لله عَزَّ وجَلَّ وشُكراً له على نِعَمِه الكثيرةِ ورَحْمَتِه التي وَسِعَت كلَّ شيء. فقد روى عن عليٍّ (أنّ فاطمة عليها السلام شَكَتْ ما تَلْقَى في يَدِها مِن الرَّحى؛ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً, فلم تَجِدْه, فذكرَتْ ذلك لعائشة, فلما جاء أخْبَرَتْه, قال: فجاءنا وقد أخَذْنا مَضاجِعَنا, فذهَبتُ أقُومُ, فقال: مكانَك, فجلس بينَنا حتى وجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيه على صدري, فقال: ألا أدلُّكما على ما هو خَيرٌ لكما من خادمٍ؟ إذا أويتما إلى فِراشِكما أو أخذْتُما مضجعَكما فكبِّرا أربعاً وثلاثين, وسبِّحا ثلاثاً وثلاثين, واحمدا ثلاثاً وثلاثين؛ فهذا خيرٌ لكما من خادم).[9] قال القرطبي: "إنَّما أحالَهما على الذِّكْرِ؛ ليكون عِوَضًا عن الدُّعاءِ عند الحاجة".[10](/1)
ورَحِمَ الله ابنَ القيم؛ فقد أحْسَنَ التعبِيرَ عن حالِ العَبدِ في الحمدِ والدُّعاء؛ فذكرَ أنَّ "مُشاهَدةَ المنّةِ تُوجِبُ له المحبةَ والحمدَ والشُّكرَ لِوَلِيِّ النِّعَمِ والإحْسانِ، ومُطالعة عَيبِ النفسِ والعمل توجِب له الذلَّ والانكسارَ والافتقارَ والتوبةَ في كل وقتٍ؛ وأن لا يرى نفسَه إلا مُفلِساً، وأقربُ بابٍ دخلَ منه العبدُ على الله تعالى هو الإفلاس؛ فلا يرى لنفسِهِ حالاً ولا مقاماً ولا سبباً يتعلّق به ولا وسيلةً منه يمنّ بها! بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصِّرف والإفلاس المحض دخولَ من قد كَسَر الفقرُ والمسكنةُ قلبَه؛ حتى وَصَلَتْ تلك الكسرةُ إلى سُوَيْدائه؛ فانصدعَ وشَمَلَتْهُ الكسرةُ من كلِّ كلِّ جهاتِهِ، وشهد ضرورتَه إلى ربِّهِ عز وجل، وكمالَ فاقتِهِ وفقرِهِ إليه، وأنَّ في كلِّ ذَرَّةٍ من ذرّاتِهِ الظاهرة والباطنة فاقةً تامّةً، وضَرورةً كامِلةً إلى ربِّهِ تبارك وتعالى، وأنه إن تخلَّى عنه طرفةَ عينٍ هلك وخسر خسارةً لا تُجبَرُ؛ إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمتِهِ".[11]
فالحمدُ والدُّعاءُ يجتمعان في إظهارِ العُبوديةِ لله عَزَّ وجَلَّ والافتقارِ إليه والإقبالِ عليه؛ "ففي القلب شَعَثٌ لا يلُمّه إلا الإقبالُ على الله، وفيه وِحشةٌ لا يزيلها إلا الأنسُ به في خلوته، وفيه حزنٌ لا يُذهبه إلا السرورُ بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلقٌ لا يسكّنه إلا الاجتماعُ عليه والفرارُ منه إليه، وفيه نيرانُ حسراتٍ لا يطفئها إلا الرِّضَى بأمرِه ونَهيِه وقضائه، ومُعانقة الصبرِ على ذلك إلى وقتِ لقائه، وفيه طَلَبٌ شديدٌ لا يقفُ دون أن يكونَ هو وَحدَه مَطلُوبَه، وفيه فاقةٌ لا يَسُدُّها إلا مَحبَّتُه والإنابةُ إليه ودَوامُ ذِكْرِه، وصِدقُ الإخلاصِ له؛ ولو أُعْطِيَ الدنيا وما فيها لم تُسَدَّ تلك الفاقَةُ منه أبدا"![12]
- - -
[1] الوابل الصيِّب من الكَلِم الطيِّب لابن القيِّم ص 12. دار الكتب العصريّة بيروت. ط1. 1424 هـ.
[2] شرح ابن علان للأذكار 1/17. نقلاً عن تصحيح الدعاء للشيخ بكر أبو زيد ص 6.
[3] مدارج السالكين بين منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين 1/5.
[4] رواه البخاري في كتاب الدعوات (باب الدعاء إذا انتبه من الليل). فتح الباري 11/116.
[5] مدارج السالكين دار الفكر ط 1408هـ. وقد أعرضتُ عن ذكر الحديث الثاني ـ وهو في الترمذي ـ لضعفه.
[6] فتح الباري 13/378.
[7] سنن الترمذي 5/579، باب ما جاء أن لله ملائكة سياحين في الأرض، حديث 3600.
[8] وهو آخرُ حديثٍ في كتاب (التوحيد).
[9] رواه البخاري في (باب التكبير والتسبيح عند المنام) فتح الباري 11/119.
[10] المرجع السابق 11 /14.
[11] الوابل الصيِّب ص 14-15.
[12] مدارج السالكين لابن القيّم 3/164.(/2)
الحِوار بين الحضارات
د. خالد بن عبد الله القاسم 28/4/1425
16/06/2004
أولاً: الإسلام دين الحوار:
الحوار منهج قرآنيّ، فهذا حِوار الله –سبحانه- مع ملائكته... ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء)[البقرة:30].
وحوار الله مع البشر منها: يحاور رسله ( وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله)[المائدة:116]؛ بل حتى مع الكافرين (قال ربّ لِم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ً* قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى) [ طه: 126،125].
بل حتى حوار الله -جل جلاله- مع إبليس ( قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) [الأعراف:12].
والقرآن مليء بمحاورات الرسل مع أقوامهم (قالت رسلهم أفي الله شكٌّ فاطر السماوات والأرض ) [إبراهيم:10].
وتأمل حوار إبراهيم -عليه السلام- مع مُدّعي الربوبية ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربِّيَ الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين)[البقرة:258].
وحوار موسى مع فرعون مُدّعي الألوهية والربوبية في سور عديدة في القرآن، وكذلك بقية الرسل -عليهم صلوات الله وسلامه- إذ يحاورون أقوامهم بالحكمة لدعوتهم إلى الله وبيان الحق لهم والرد على شُبُهاتهم.
وهذا القرآن يحكي حوار النبي -صلى الله عليه وسلم- مع امرأة ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوُركما إن الله سميع بصير)[المجادلة:1].
وحضارتنا الإسلامية على مدى التاريخ هي حضارة الحوار؛ فقد حاور علماء المسلمين كافة أهل الملل والنحل بالمنهج القرآني والدعوة إلى الخير(1).
ثانياً: آداب الحوار:
1-حُسْنُ القصد من الحوار، حيث يبين أهم أهداف الحوار في الإسلام فيما يلي:
أ- الدعوة إلى الإسلام، وعبادة الله وحده لا شريك له وهذا أسمى هدف وأعظم حقيقة وهي الحكمة من خلق البشر (وما خَلَقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات:56]، ويترتب عليها سعادة البشرية في الدنيا والآخرة ( فمن اتبع هُداي فلا يضل ولا يشقى* ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) [طه: 124،123].
ويدخل في ذلك إبراز محاسن الإسلام والرد على شبهات أعدائه، وإيضاح الحقيقة العظيمة في الحكمة من خلق البشر وما يُراد منهم وما يُراد بهم وما مصيرهم.
فالحوار مطلب إسلامي لكي نقوم بواجبنا تجاه الأمم الأخرى ليس لإفادة أنفسنا فحسب؛ بل لإفادة الأمم الأخرى أيضاً لنوصل إليها الخير الذي أمرنا به.
فالأمة الإسلامية هي صاحبة الرسالة الأخيرة، وعليها واجب الإبلاغ (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [آل عمران:110]
ب- تحقيق وظيفة الإنسان في الأرض، وهي الخلافة وعمارة الأرض ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) [البقرة:30](2).
ج-تبادل العلوم النافعة، وحل الإشكالات القائمة، والتعاون على الخير
(وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) [المائدة:2].
2-التواضع والرفق واللين؛ فهو أدعى للوصول إلى الحقيقة واستمرار الحوار، وهذا ما علمناه القرآنُ؛ فقد أمر الله به موسى -عليه السلام- وهو نبيه وكليمه عند مخاطبة فرعون وقد طغى وتجبر وادعى الألوهية والربوبية؛ فقال سبحانه: (فقولا له قولاً ليناً لعلّه يتذكر أو يخشى) [طه:44].
فنحن نحمل أعظم رسالة وأعلى مضمون، ويجب أن تكون الوسيلة كذلك، وقد قال سبحانه: ( ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) [النحل:125]. فثقافة الحوار تتطلب احترام حق الآخرين في الحوار والدفاع عن اجتهاداتهم؛ ولنتأمل قول المولى سبحانه (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو ضلال مبين ) [سبأ:24] مع أنه الوحي المنزل والمخاطب النبي المرسل.
وفي أدب حواري رفيع تأتي الآية التي بعدها (قل لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون) [سبأ:25].
فيها بيان المسؤولية الفردية في الاختيار وعدم الوصاية، وهي كقوله سبحانه (فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل) [الزمر:41]، ثم قال في الآية الأخيرة بعدم الجزم مبينة أن الحكم لله ( قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتّاح العليم) [سبأ:26].(/1)
والإسلام ينطلق في الحوار من التكافؤ بين البشر لا تفاضل لعِرْق كما قال اليهود ( نحن أبناء الله وأحباؤه) [ المائدة: 18]، أو لون كما يدّعي العنصريون البيض في أوروبا، أو طبقية كما هي عند الهندوس؛ وإنما بصلاحهم، ولنتأمل آية قرآنية مفتتحة بالمبدأ، ومقرره وجود الاختلاف، ومبينة أهمية التعارف وخاتمة بميزان التفضيل ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) [الحجرات:13].
وهذا الاختلاف من آياته سبحانه ( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) [الروم:22].
فالإسلام يقرر أن الاختلاف حقيقة إنسانية طبيعية، ويتعامل معها على هذا الأساس ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات..) [المائدة:48].
فوجود الاختلاف أمر واقع وله حكم إلهية ويجب التعايش معه (3).
هذا هو الحوار والاختلاف في الإسلام، ولكن عندما ننظر إلى الواقع ودعوات الحوار الصادرة من الغرب لنا أن نتساءل: كيف يؤتي الحوار ثماره في العالم اليوم بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب وهو يصاحب الهيمنة والاستعلاء، والظلم والجور، والاحتلال ولغة السلاح؟! إن ذلك يفقد ثقتنا بهذا الحوار.
إن التكافؤ بين المتحاورين مهم جداً ليحقق الحوار أهدافه(4).
إن الحوار لا يحقق أهدافه مع الاحتلال في العراق والقصف في أفغانستان والمجازر المستمرة في فلسطين!
أيّ حوار ينادي به الغرب مع هذا العدوان والظلم ولغة الاستعلاء، وفرض المصطلحات واستغلال التفوق الإعلامي لتشويه الآخرين؟!
كيف نثق بهذا الحوار الذي يهدف إلى نمط جديد من الدبلوماسية؛ لتكريس الظلم، ولتحقيق مصالح تتعلق بالاقتصاد والسياسية ومواصلة الحرب والصراع والاحتلال؟!(5)
إن الغرب مطلوب منه قبل الحديث عن الحوار ونشر الديمقراطية (والشرق الأوسط الجديد) -إن كان يريد خيراً بالآخرين- أن يخفف الهوة السحيقة بين البلدان الغنية والفقيرة، وعليه مساعدة البلدان على التنمية لا توريطها في الديون والفقر. وفرض الإملاءات عليها ويجب مساعدة البلدان التي خربتها الحروب؛ كالصومال وأفغانستان وغيرها على إنهاء ذلك الوضع؛ بل يجب أن تكف يدها عن إشعال الفتن في تلك البلدان.
بعد ذلك يُقال أننا نرفض الحوار والتسامح! ومن يتهمنا بذلك؟ إنه المستعلي الظالم المحتل لأرضنا والمشوه لديننا وثقافتنا!
ومع ذلك فلا نزال نقول إننا مع دفاعنا عن ديننا وثقافتنا وأرضنا وأنفسنا؛ فإننا نرى أن الحوار هو خيار مهم لتحقيق أهدافنا العليا القائمة لمصلحة البشر.1- انظر: موقف الإسلام من الحضارات الأخرى، د. محمد نورد شان، بحث مقدم إلى ندوة الإسلام وحوار الحضارات- غير منشور، مكتبه الملك عبد العزيز، الرياض / السعودية، محرم 1423هـ، ص:6.
2- انظر: مدخل إسلامي لحوار الحضارات، لمحمد السعيد عبد المؤمن ص (11-12). بحث مقدم لندوة الإسلام وحوار الحضارات، مكتبة الملك عبد العزيز، 1423 غير مطبوع.
3- انظر مجلة المعرفة، العدد 101 شعبان 1424 هـ موضوع قيم الإسلام، الحوار والانفتاح على العالم ص ( 18-26).
4- انظر: من أجل حوار بين الحضارات (9) روجيه جارودي . دار النفائس، الطبعة الأولى 1411 هـ.
5- انظر: حوار الحضارات، محمد خاتمي (50) ضمن كلمة الرئيس الإيراني في اليونسكو ( بتصرف) في فرنسا 30/10/91 دار الفكر دمشق الطبعة الأولى 1423 هـ.(/2)
الخاسرون في رمضان
رئيسي :الرقائق :الخميس 30 شعبان 1425هـ - 14 أكتوبر 2004 م
1- مزية رمضان على سائر الشهور
2- الخاسرون في رمضان هم الذين لا يفيدون من خصائصه
3- الخاسرون هم أهل الكبائر ولمّا يتوبوا منها
4- دعوة للتوبة
4- تشريعات الإسلام تأمر بكل ما يُوثّق الأخوة من إفشاء للسلام وسعي في الإصلاح
5- الولاء حق للمسلمين
6- المرء يوم القيامة مع من أحب
الحمد لله على ما يسر من مواسم الخيرات، وأفاض فيها على عباده من النعمات، ومكنهم بفضله من تكفير السيئات، وزيادة الحسنات، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ] رواه البخاري ومسلم. وَقَالَ: [مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ] رواه البخاري ومسلم. ما أعظم البشارة! وما أسهل العمل المطلوب لها! وهل في المسلمين أحد عاقل لا يهمه أن يغفر له ما تقدم من ذنبه أو لا يغفر؟!
لقد فزع كثير من المسلمين لصيام رمضان المبارك وقيامه، وقيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ ابتغاء ذلك الأجر العظيم، والخير العميم، فامتلأت المساجد بالمصلين، وضجت بأصوات التالين، وجعل الناس يهنئ بعضهم بعضًا بإدراك هذا الشهر الكريم..ولكن هل هذا هو كل ما في رمضان، أم هناك أشياء أخرى غير هذا؟!
أما من ضيع رمضان وأهمله وقصر فيما شرع له، فأولئك هم الخاسرون، ولكن كيف بمن تحرى الخير في رمضان فأحيا ليله بالقيام، وعمر نهاره بالصيام، وجعل يتلو القرآن آناء الليل، وأطراف النهار، ابتغاء ذلك الوعد النبوي الصادق، والله لا يخلف الميعاد؟ هل فيهم خاسر أيضًا؟! أيخسر منهم أحد وقد كان منه مثل ما ذكرنا؟
نعم فيهم خاسرون كثير.. استفادوا من رمضان قليلاً، وخسروا فيه كثيرًا..{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ[2]عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ[3]تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً[4]} [سورة الغاشية]. فمع عملها وتعبها هي في النار، فأي خسارة أعظم من تلك الخسارة.
غدًا توفى النفوس ما عملت ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنو لأنفسهم وإن أساءوا فبئسما صنعوا
لقد صح عن رسول الله أنه صَعِد المنبر فقال: [ آمِينَ آمِينَ آمِينَ] قيل: يا رسول الله إنك حين صعدت المنبر قلت: آمِينَ آمِينَ آمِينَ قال: [ إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللهُ قُلْ آمين فَقُلْتُ آمِينَ وَمَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يَبَرَّهُمَا فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللهُ قُلْ آمين فَقُلْتُ آمِينَ وَمَنْ ذُكِرْت عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْك فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللهُ قُلْ آمين فَقُلْتُ آمِينَ] رواه ابن حبان في صحيحه.
فمن هؤلاء الخاسرون الذين يدعو عليهم رسول الله وجبريل عليهما الصلاة والسلام، فيكون شهر رمضان نقمة عليهم، وسببًا لحرمانهم الثواب، ودخولهم النار؟
إن هذا الصنف من الناس هم أهل القلوب القاسية، الذين لا يزيدهم رمضان من الله إلا بعدًا، ولا تزيدهم بشائر الرحمن إلا صدًا، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ[41]}[سورة المائدة].
إنهم الذين إذا أدركوا رمضان، بادروا ببعض الأعمال، ولكنها لا تتغير منهم الأحوال، فيصبح الواحد منهم في شوال كما كان في شعبان، فحق عليه ذاك الدعاء العظيم بدخول الناس إذا أدرك رمضان فلم يغفر له.
إن هذا الصنف هو الذي بينه رسول الله حين قال: [الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ] رواه مسلم. فمن اجتنب الكبائر، وسلم من الموبقات، فانحسر عنها، وقسر نفسه على الابتعاد منها، فسيكون رمضان مكفرًا لما سواها من الذنوب، والصلوات الخمس والجُمَع، وسيكون هذا الصنف - امرأة كان أم رجلاً - ممن أدرك رمضان فغفر له، فدخل الجنة بإذن الله تعالى.(/1)
ولكن من كان ذا كبيرة أو كبائر، فحافظ عليها أشد المحافظة، وأصر عليها أعظم إصرار، وتعاهدها من نفسه، حتى لا يرجع عن عصيان ربه قيد أنملة، فذلك هو الخاسر الذي أدرك رمضان فلم يغفر له؛ لأن ما هو فيه من كبائر الذنوب لا وعد عليه بالمغفرة لمن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، ولا لمن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، ولا لمن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، فالكبائر لا تكفرها تلك المكفرات، التي ذكرها رسول الله في قوله: [الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ] رواه مسلم.
وليس ثمة شيء يكفر الكبيرة عن صاحبها إلا التوبة الصادقة النصوح، التي يتحقق فيها الإقلاع عن الذنب، والندم على فعله وعصيان الله به، والعزم الصادق الأكيد على ألا يعود التائب إليه، فالوعد لأولئك فوق التكفير أن تبدل سيئاتهم حسنات، ترفع بها درجاتهم في الجنة:{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا[68]يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا[69] }[سورة الفرقان].
وأي شيء أعظم من الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله بغير حق، والزنا، فذلك مصير من يفعله {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [70]}[سورة الفرقان]. فما أعظم فضل الله، وما أكرمه، وما أسعد التائبين الصادقين بهذا الوعد الرباني الذي لا يماثله وعد..بل إن الله تعالى وعد من يجتنب كبائر الذنوب بتكفير السيئات، والمدخل الكريم في الجنات، فقال جل وعلا:{ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا[31]}[سورة النساء].
فلا يفوتنكم هذا الشهر الكريم، ولم يخش صاحب كبيرة أصر عليها أن يكون ممن أدرك رمضان فلم يغفر له، ودعا عليه بذلك رسول الله وجبريل – عليهما الصلاة والسلام – فتبينوا – قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها..{ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ[54]وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ[55]أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ[56]أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[57]أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[58]}[سورة الزمر].
فلابد من نفوس صادقة مؤمنة بربها، معترفة بخطئها وزللها، ثم عزائم جادة، غير وانية، تعزم إجابة الله ورسوله، مهما كلفها ذلك من مخالفة الهوى، وترك مألوف العادات، فيتحقق للعبد بذلك توبة صادقة نصوح، والتوبة تجُبُّ ما قبلها، فيخرج من شهره مغفورًا له ما تقدم من ذنبه، طامعًا أن يقال له عند فراقه:{ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ[27]ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً[28]فَادْخُلِي فِي عِبَادِي[29]وَادْخُلِي جَنَّتِي[30]}[سورة الفجر].
فانظروا – يا عباد الله – لأنفسكم وتبصروا في قلوبكم [ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ ] رواه البخاري ومسلم. فما وجد من العبد من حب للمعاصي، وألفة لها، فلفساد في قلبه، وما وجد من ثقل الطاعات عليه، وكسله عنها، فلفساد في قلبه، وما تخيله من بُعد التوبة النصوح وصعوبتها، فلفساد في قلبه، وإعراض منه، وتكبر عن أن يخضع لله، ويذل ويجيب داعيه، رزقني الله وإياكم قلوبًا منيبة خاضعة منكسرة.
من خطبة:الخاسرون في رمضان' للشيخ/عبد العزيز عبد الرحمن المقحم(/2)
الخروبي وآثاره العلمية
أعده ابن شعيب المالكي
تمهيد ــ:
ساهمت بلادنا ليبيا منذ الفتح العربي في مد العالم الإسلامي بعلماء أفذاذ ورجال عظام وهبوا أنفسهم للتعلم والتعليم وكرسوا جهودهم على صنع جيل يقدر المصلحة ويعمل من اجلها ويعرف الواجب ويستميت في الدفاع عنه والحفاظ عليه غير أن الكثير منهم بقوا جنودا مجهولين لم يجدوا من يعرف بهم ويذكر فضائلهم وما قاموا به من جميل الخصال وجليل الأعمال ومن بين أولئك الجنود المجهولين لدى الكثير من شبابنا رغم كثرة تأليفه وعظم مواقفه التي حفظها التاريخ لنا هو : أبو عبدالله محمد الخروبي ذلكم العالم العامل ذو الباع الطويل في مختلف أنواع العلوم والمعرفة وخاصة العلوم الشرعية واللغوية على اختلاف فروعها .
ويجدر بنا التعرض لذكر تأليفه وآثاره العلمية ومواقفه الجلي أن نذكر شيئا عن حياته .
نسبه ومولده :
انه الشيخ الورع العالم المفضال أبو عبدالله محمد بن علي الخروبي الطرابلسي المولود بقرقارش بضواحي طرابلس ويوصف أحيانا الخروبي الصغير للتفريق بينه وبين والده ويغلب على الظن أن ولادته كما قال الأستاذ المؤرخ المهدي أبو عبدالله الجزائري كانت سنة 770 هجري وكان والده الشيخ علي الخروبي من علماء البلاد الأفذاذ الذين جمعوا بين غزارة العلم وصالح العمل . فكان ابنه المذكور نبتة صالحة من بذرة طيبة . وفرعا قويا زكا من اصل له قدم راسخة في علوم الظاهر والباطن .
طلبه العلم :
بدأ حياته التعليمية بالتوجه إلى الكتاب لقراءة القران الكريم كعادة من عايشوه أو سبقوه في مجال التعليم فان الكتاب يعتبر عند الأقدمين بمثابة المرحلة الابتدائية من الدراسة والتعليم . ثم لازم بعض علماء البلاد الأصليين وغيرهم كوالده الذي كان وقتها محط الأنظار وقبلة طلاب العلم والمعرفة وكالحاج قاسم بن قلاع وخليفة أبى غرارة وعبد النبي الجبالى والولي محمد شأن الشأن وأبي عبدالله محمد الشهير بزيتون والشيخ محمد بن عبد الرحمن الخطاب الذي كان يثني عليه ثناء عاطرا حيث يقول فيه ـ:
ربانا أحسن تربية وأدبنا أحسن تأديب واجتهد في تعلمينا وكان يقوم بشؤوننا ويتحفنا بخدمة الصالحين وموالاة الفقراء ويقول من خدم شيخا كبيرا لكبر سنه قيض الله تعالى له من يخدمه في آخر عمره وإنا جدنا بركة ذلك وثمرة خدمتنا لأولياء الله تعالى ولعبيد الله فوفي الله لنا المكيال وأمال إلينا قلوب الرجال فكنا إذا ارمنا اطعنا وإذا أردنا أعطينا وإذ استشفعنا قبلنا ولله الحمد والشكر .
كما تتلمذ لأحد تلاميذ والده الذي كان قد التقى به في مصراتة وهو العارف بالله صاحب التأليف الكثيرة العظيمة الشيخ أحمد زروق الذي أثنى صاحبنا عليه وعلى عنايته به ورعايته له يقوله : وهذا الشيخ يعني أحمد زروق له فينا تربية وتأديب ورثنا منه توفر نصيب فكان رحمه الله تعالى قد تولى تربيتنا بعد المولى الوالد فكان علينا عطوفا وبنا رءوفا وكان يرعى ذمامنا رعيا للمولى الوالد . ولقد جرت له قضايا لا نطيل بذكرها وله علينا حقوق لا نقوم بواجبها وشكرها فجزاه الله تعالى وجميع أشاحنا أفضل الجزاء .
هذا وقد ذكر الخروبي وهو يتحدث عن سفره إلى قرية جنزور ليتتلمذ عن الشيخ العارف بالله عبد الله النبي الحبالى بتكليف من أستاذه زيتون .انه مكث عنده بجنزور وهو وأخوه في الله أبوكر بن إبراهيم النفاتي ثلاثة أيام ولما أرادا الانصراف والرجوع إلى طرابلس ليواصلا التحصيل عن الأستاذ زيتون وغيره ممن كانوا بمدينة طرابلس من العلماء سار الشيخ الحبالى في تودعيهما .وعند مفارقته لهما اختص الشيخ الخروبي بقوله له : يا ابن الشيخ لاينبغى للعبد أن يطلعه الله على غيب السماوات حتى يكمل أربعين سنة وهي السنة التي يكمل فيها أرسل ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الناس .قال الخروبي : فلما فتح الله علينا بما فتح ومحنا من المواهب الربانية ما منح تذكرت كلام الشيخ فإذا الفتح وقع لنا في الوقت الذي أشار به الشيخ وكنت حين وقوع هذه الإشارة منه ابن نحو اثنتين وعشرين سنة أو ما يقاربها وهكذا نجد الشيخ الخروبي مطيعا لأساتذته منفذا لتوجيهاتهم عاملا على كسب مودتهم ورضاهم وذلك كله يعتبر من الشروط أساسية لبلوغ المرام والوصول إلى درجة الكمال في التعليم والتحصيل فهل يمكن لطلابنا أن يعلموا على تحقيق ذلك في هذا الوقت الذي نحن أحوج فيه مما مضى إلى أن يكون العلم وسيلة لا غاية وطريقا للوصول إلى الكمال نرجو أن يحصل منهم ذلك .
بداية الهداية :
لأحث تباشير الهداية التي حبي الله بها الخروبي بسبب ملازمته للعلماء ولصحاب الطرق الصوفية وتردده على حلقات الذكر التي كانت لها أماكن خاصة في زمانه وذلك عائد إلى التربية والتوجيه اللذين حظي بهما في بيته حيث أن والده كان من أهل العلم والمعرفة والورع والتصوف .(/1)
وقد ذكر الخروبي انه كان ذات يوم صحبة أستاذه الحاج قاسم بن قلاع فوقعت له معه واقعة كانت بداية الخير قال : أنا كنا جميعا عشية يوم من الأيام فتذاكرنا حالة سيدنا عمر بن الخطاب t وزهده وقرانا شيئا من رسالة سيدي يوسف العجمي . وأنشدنا من لامية عمر بن الفارض قوله :
هو الحب قاس بالحشا ما الهوى سهل ** فما اختاره مضي به وله عقا
فطاب الوقت وصفا وحن الروح إلى أحوال أهل الوفاء وفتح الباب وزال الحجاب ونادى منادى الوصال هلم وتعال . فنزعت ثيابي وأجبته بلبيك ها أنا منك واليك . وأخذت ثياب سيدي الحاج قاسم ولبستها ولبس ثيابي وعمدت إلى دارنا فكان لي فيها بعض طعام فأخرجته وفرقته على من احتاجه وبعث ثيابي من غير أن تعلم الوالدة رحمها الله تعالى فكانت قيمتها اثنين وعشرين ذهبا طرابلسية تزيد قليلا أو تنقص عن ذلك وكتبت في زمام كل من كانت له عندي تباعة وفرقتها كلها , فمن الأخذ ومن التارك المسامح إلى أن نفدت الدراهم .
فعلمت بذلك الوالدة وسرت بما صنعت . وهذا كله من فضل الله ومنه ومعرفة الصالحين وذكر أحوالهم والنظر في كتبهم ....)
كما ذكر أن الحاج قاسم المذكور كان يأتيه وهو صغير فيأخذه معه إلى روضة سيدي عبدالله الشعاب الموجودة حاليا على الشاطئ البحر بمدينة طرابلس وأحيانا يأخذه إلى المسجد الأعظم فيتذاكران حكايات الصالحين ويعبدان الله بالصلاة والقراءة والذكر والمدارسة في مختلف العلوم , وخاصة ما يتعلق بجلاء القلوب وصفائها إلى أن يملأ النعاس عيونهما فينامان حيث كانا بعد أن يفرش الشيخ جبنه التي كان محافظا على لباسها لتلميذه ومريده لئلا يصيبه البرد .
ولاشك أن هذه القصة التي ذكرها الخروبي عن نفسه تصور لنا بداية تعلقه بالتصوف وارتباطه بأهل الآخرة وتجرده عن الدنيا ومادتيها . وترسم لنا الطريق الذي لنفسه منذ صغره إلى أن لقي ربه . فكان به قويا لا يخشى ألا الله , وكان به لا يجمع الدنيا خوفا من الفقر , وكان به طاهر القلب لا يضمر لأحد وهذه هي سمات المؤمنين الصادقين الذين عناهم الباري بقوله :( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وقي الآخرة ).
رحلته إلى الجزائر :
لم ينص المؤرخون في ترجمتهم للخروبي على السنة التي ارتحل فيها إلى الجزائر ولعلها كانت سنة 916 هجري الموافقة 1510 م .وهي السنة التي احتل الأسبان فيها مدينة طرابلس وعاثوا فيها فسادا وتسلطوا على العباد فهاجر الخروبي كغيره ممن لم يرضهم العيش فيها مع الغزاة الغاصبين وخاصة العلماء والأعيان ووجهاء البلاد وقد توجه إلى الجزائر حيث تولى التدريس والخطابة في الجامع الأعظم الذي كان ولازال يسمى ((مسجد المالكية)) وقد زرته مستفسرا عن آثاره العلمية فيه فوجدته مسجدا عظيما ومتسعا يؤمه كثير من المصلين وقارئو القرآن وسنذكر نتيجة عن آثاره عند تعرضي لذكر الآثار العلمية له .
ورغم ما كان عليه الخروبي من غزارة العلم وقوة الإطلاع فقد رأى أن يأخذ عن علماء الجزائر وان يتتلمذ لهم . لذا قصد قلعة بني راشد التي كانت وقتها زاخرة بالعلماء الأفذاذ أمثال أحمد بن يوسف الراشدي وأمثال الشيخين المحدثين عمر العطوي الراشدي وعمر بن زيان المديوني وغيرهم . وقد قام بواجبه العلمي تعلما وتعليما في عاصمة الجزائر وضواحيها ومختلف مدنها خير قيام . كما أسس فيها مدرسته الصوفية التي كان فيها متأثرا بوالده أكثر من تأثره بأستاذه أحمد زروق حيث كان يرى التشدد في الإنكار على تلقين الأوراد للعوام زيادة على ما اتفق فيه أستاذه المذكور مثل استنكارهما للبدع وأهلها . وكان شديد التحامل على مشائخ الطرق في زمانه سواء في الجزائر أم غيرها وكان يقول في معرض حديثه عنهم :(( ظهر في زماننا هذا دجالون ... لم يبنوا أمرهم على سبيل سنة الرسول r وادعوا المراتب العالية والمقامات الإحسانية ... قاتلهم الله يحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم الكاذبون )) وكلامه هذا موجه إلى المتواكلين الذين اتخذوا الدروشة طابعا لهم عما سواهم واخلدوا إلى الراحة وكأنهم حسبوا أن السماء تمطر ذهبا وفضة دون أن يدكوا ما يرمى إليه الإسلام من دعوته إلى العمل والمثابرة إدراكا حقيقا .
وفادته إلى المغرب:(/2)
نشط الخروبي في أداء رسالته العلمية على الوجه الأكمل حتى صار محل تقدير واحترام الناس جميعا . وأصبحت له شهرة عظيمة مكنته من تثبيت أقدامه وتحسين علائقه مع حكام الأتراك الذين كانوا يحكمون البلاد بعد إجلائهم للإسبان عنها آنذاك مما جعلهم يسندون إليه مهمة السفارة مرتين الأولى كان سنة 959 هجري والثانية سنة 961 هجري إلى ملوك المغرب من الشرفاء السعديين الذين كانوا في الحرب حامية الوطيس معهم ليتولى عقد هدنة بينهم وتحديد الحدود التي كانت سبب تنازع الطرفين . وقد استقبله الملك السعدي أبو عبدالله محمد المهدي استقبالا يليق بمكانته الجلي وأنزله عنده وأكرم وفادته . كما تسابق العلماء وطلاب العلم للقائه من مختلف أنحاء البلاد حيث أخذوا عنه وناقشوه فيما يعن لهم من مسائل وطرحوا أمامه بعض المشاكل التي كانوا يرون أنه أهل لأن يكون له فيها رأي .
البدع تستفز الخروبي :
ما كاد الخروبي يستقر في مراكش (عاصمة السعديين) حتى لاحظ كثيرا من البدع فرأى أن من واجبه التنقل في أرجاء البلاد طولا وعرضا ليحصى على أهلها كل ما ينكره الشرع حتى يتمكن من أداء واجبه الديني الكامل . ومن بين ما ساءه حلق كثير من الصوفيين والعلماء لشعر شاربهم . الأمر الذي جعله يشن عليهم حربا شعواء أنسته مهمته الرئيسية التي دخل البلاد من أجلها وقد ألف رسالته الشهيرة المسماة (رسالة ذوي الإفلاس إلى خواص أهل مدينة فاس ) كان لها وقع كبير على النفوس في الأوساط المغربية كلها , وانقسم العلماء بها ولها إلى فريقين أحدهما يؤيد صاحبها كالشيخ الهبطي وتلامذته وزملائه , والآخر ينقم ويرد ويؤلب الجماهير والقصر الملكي ضدها . وذلك كأبي عمرو القسطلي تلميذ الجزولي , وكالشيخ اليسيني مفتي حاضرة فاس آنذاك وأتباعها . وقد بقيت آثارها الجدلية في المغرب مدة طويلة حتى بعد رجوع الشيخ الخروبي إلى الجزائر وهي التي يرجع لها الفضل الكبير في شهرة الخروبي في أنحاء المغرب كله , ولولاها لخفي علينا جانب هام من حياة الخروبي وموافقه الصلبة مع الحق . ومما تجدر الإشارة إليه أن اهتمام الخروبي بالنواحي الدينية وثورته على الفساد المنتشر آنذاك في المغرب جعلاه لم يوفق فيما سافر من أجله . وقد ازداد الموقف بين حكام البلدين سوءا حتى انتهى بقتل الحاكم السعدي . ورغم فشله في المهمة السياسية فقد كان راضيا عن نفسه لأنه كان يرى أن الوضع الديني والانهيار الخلقي والمظاهر السائدة في المغرب لا تحتمل السكوت بقدر ما تحتمله الأوضاع السياسية . خاصة وأن تكوينه الطبيعي وتخصصه العلمي كانا يفرضان عليه بالدرجة الأولى تقديم المهمة الدينية على المهمة الدنيوية .
آثاره العلمية :
ترك الخروبي للمكتبة الإسلامية آثارا كثيرة وقيمة نالت إعجاب فطاحل العلماء وجهابذة العلم والمعرفة , لما احتوته من معارف ودقائق , وما جمعته من كنوز ودرر , والكثير منها ما زال موجودا في مكتبات المغرب الأقصى والجزائر , وقد شاهدت بعضا منها وهي بخط جيد في الخزانة الملكية بالرباط , وحبذا لو اعتنى بتحقيقها والكتابة عنها من أوفدتهم جامعتنا للدراسات العليا ممن تخرجوا من كلية اللغة العربية والدراسات الإسلامية ((شعبتي التفسير والحديث والدعوة)) ليسهموا بهذا العمل في التعريف بنهضتنا العلمية القديمة علاوة على قيامهم بواجبهم العلمي العظيم .
ومن الآثار العلمية الهامة التي تركها الخروبي مايلي :
· كفاية المريد وحلية العبيد :وواضح من عنوانه أنه خاص بالحديث عن التصوف . وهو محل إعجاب وتقدير كل من شاهده واطلع عليه . وقد شبهه الكثير بتأليف حجة الإسلام الإمام الغزالي وذكر العلامة حسن العجيمي في معرض حديثه عن التصوف أنه من أنفع الكتب حيث قال ((ومن المعلوم أن تفصيل السنن يطول ومن أنفع الكتب لمن أراد الجرس على هذه المحجة الشريفة : كتاب الكفاية المريد للشيخ الخروبي))
· وله شرح على رسالة أستاذه احمد زروق المسماة(أصول الحقيقة والطريقة)
· كذالك له شرح آخر على رسالة أستاذه زروق المسماة (الأنس في التنبيه على عيوب النفس أو الرجز المعيوب)
· وله أيضا مزيل اللبس عن آداب وأسرار القواعد الخمس
· كذلك له كتاب الحكم الكبرى وشرحها على غرار الحكم لابن عطاء السكندري
· وله تفسير للقران الكريم كله واسمه( رياض الأزهار وكنز الأسرار) يقع في ثماني مجلدات
· شرح صلوات ابن مشيش
· رسالة ذوى الإفلاس إلى خواص أهل مدينة فاس
مكانته والأسباب التي حالت دون شهرته :_
بإمكاننا أن نحكم على الخروبي من خلال آثاره العلمية المذكورة وتحركاته النشطة وأسفاره المتعددة إلى الأقطار المختلفة بأنه شخصية عظيمة خدمت العلم وقدمت للمكتبة الإسلامية زادا له وزنه الرفيع ، كما بذلت مجهودا كبيرا في خلق وعى ديني وثقافة روحية علاوة على مساعيه المشكورة في سبيل توحيد صف المسلمين وإزالة الضغائن والأحقاد بين الرؤساء وأولى الأمر.(/3)
ورغم ذلك لم ينل الخروبي من الشهرة ما ناله غيره ممن عاصروه وكانوا على درجته أو اقل منه علما وحرارة للعمل...فهل هناك أسباب تكمن وراء ذلك ؟
لعلنا بعد هذه الدراسة الجادة لحياة الخروبي نجد أن أهم العوامل التي أدت إلى عدم شهرته تنحصر في سببين :_
الأول :ـ أن الخروبي بالإضافة إلى كونه محدثا فقيها مفسرا هو أيضا صوفي من الطبقة الأولى ...والصوفيون يؤثرون عادة أكثر من غيرهم أن تكون أعمالهم خالصة لوجه الله بعيدة عن أنظار البشر...لذا نراهم يعزفون عن الأمور التي تعرضهم للشهرة والظهور ،ويبتعدون عما يجعلهم محط أنظار المجتمع .
الثاني :ـ قد يكون لشدة تحامله على معاصريه الذين لم يلتزموا بآداب الإسلام أو وقعوا في بعض الأخطاء في كل من المغرب أو الجزائر اثر كبير في التنفير منه وصرف الناس عنه وإحكام الحصار حوله وحول ما يكتبه في تلك الفترة .
وفاته :ـ وبعد عمر مديد قضاه الأستاذ الخروبي في الكفاح والجهاد بلسانه وقلمه ودع الدنيا وكان ذلك أثناء انتشار الوباء في الجزائر سنة 963هـ عن عمر ناهز الثمانين وقد ترك بموته فراغا كبيرا في المنطقة ودفن خارج العاصمة الجزائر وكان قبره معروف ويزار...ولكنه الآن غير معروف وسبب ذلك انه لم يجد من يحافظ على مواصلة التعرف عنه والتعريف عليه...لأنه كما نعلم مات غريبا عن وطنه الأصلي علاوة على انه لم يخلف عقبا من بعده مما ساعد على نسيان ضريحه كما ساعد على إهمال آثاره العلمية .
.............................
هذه الترجمة نقلت بتصرف عن مجلة كلية اللغة العربية والدراسات الإسلامية ، العدد الأول/ السنة الأولى 1393هـ / 1973 م(/4)
الخروج بالمسلمين من دائرة الدعوة إلى العمل المجتمعي
لندن: د.حامد بن محمود آل إبراهيم
جاءت ندوة "ماذا يقدم الإسلام للغرب؟" التي نظمها مركز "دراسة الحضارات العالمية" بلندن خلال الفترة من2826مايو 2006م، في توقيت مهم لتواجه بصورة عملية الهجوم المستشري ضد المسلمين في الغرب، بالإضافة إلى الأمراض الاجتماعية والنفسية والصحية التي تهدد الوجود الغربي...
وانطلاقاً من الآية الكريمة إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم(الإسراء:9)، تفاعلت أعمال الندوة التي ركزت على استكشاف المعجزات القرآنية وتبنيها عبر مشروعات علمية من خلال مؤسسة الوقف الإسلامي وتبرعات المسلمين في الغرب، وقدم المشاركون عدداً من الأبحاث تعالج بعض الأمراض والمشكلات في الغرب.
شارك في الندوة عدد من أبرز المفكرين المسلمين الغربيين أمثال؛ السفير السابق والمفكر الألماني الشهير مراد هوفمان،وأحمد فون دنفر رئيس المؤسسة العالمية للمساعدة الإسلامية والإنسانية في ميونخ بألمانيا، ومحمد صديق باحث ألماني متخصص في الشؤون الإسلامية.
وحول الفرق بين المشروع الذي تبنته الندوة ومشروع الإعجاز العلمي القائم بلندن منذ فترة يقول د. كما الهلباوي رئيس المركز: الإعجاز العلمي مشروع يركز على التفكير والتأمل، ومواءمة البحوث التي يتم التوصل إليها مع الآيات القرآنية، أو السنن النبوية الكريمة. ولكن مشروعنا يدعو إلى التركيز على هذه الآيات بغية إقامة المؤسسات والمشروعات التي توظف هذه الآيات توظيفا عمليا، وقد تم فتح حساب بنكي للمشروعات العلمية التي
تم بحثها:
GCSC Ltd- Account no 01756886 -Sort code 30-99-64-Lloyds TSB- London, England
وحول دور الندوة في دعم جهود الدعوة الإسلامية يؤكد الهلباوي :أن الهداية بيد الله سبحانه وتعالى، وأن أوراق الندوة تقدم الشهادة التي أوكلها الله للمؤمنين على غير المسلمين، بدعوتهم إلى الإسلام، كما تسعى الندوة لتقليص كم الكراهية والحقد والاحتقان الذي يظهر أحياناً في العلاقة بين الإسلام والغرب.
وتستهدف أعمال الندوة التي ضمت نخبة من المفكرين استنبات المزيد من اليقين والثقة في المسلمين عامة، وخاصة أولئك الذين يعيشون في الغرب ليدركوا أنهم أصحاب رسالة واقعية يجب أن تنتشر عملياًً، وأن لديهم منهجاً يخلص الناس من شتى الأمراض، وأن الإسلام يدفعهم إلى مزيد من البحث والاستكشاف، حتى يدركوا أن لديهم ما يقدمونه للآخرين وأن لهم دوراً لا يؤديه غيرهم.
وعلى صعيد آخر نجحت الندوة في تسليط الضوء على الفراغات القائمة في جدار الحضارة الغربية المعاصرة التي تحتاج إلى من يملؤها، انطلاقاً من أن الحضارات يجب أن تتكامل وتتعاون لا أن تتصادم ولا أن تتصارع مع بعضها.
وهذا هو دور الإسلام والمسلمين؛ لأن الغرب رغم نظمه القائمة الاجتماعية والثقافية والعلمية والتعليمية والاقتصادية والتقنية مع تقدمها لا يستطيع أن يملأ هذه الفراغات.
ويشير الهلباوي إلى جانب آخر من النتائج الإيجابية للندوة، التي تقود الآخرين نحو احترام الإسلام والمسلمين، ويجعلهم يرون أن لدى الإسلام ما يقدمه، وأنه ليس ديناً غامضاً غير محدد المعالم ضد العلم والاكتشافات الحديثة كما يزعم بعضهم، كما نستطيع أن نقنع المؤسسات والفلاسفة الغربيين أن القرآن مصدر تشريع وتوجيه لأمور هذه الدنيا كما هو لأمور الآخرة، وليس كما يقدمه المسلمون على أنه كتاب للعبادة والهداية فقط، هذه النتائج الإيجابية ستساعد الشباب المسلم على التفاعل بطريقة صحيحة مع المجتمع الغربي، لكي يبني جسور علاقات جيدة مع المجتمعات، على أساس التكافؤ، لا الانهزامية؛ لأن الله لم يخلق المسلمين بمرتبة أدنى في الملكات العقلية.
نستطيع من خلال هذه النتائج الإيجابية، أن ننبه ونساعد الدول الإسلامية وحكامها ومؤسساتها على الخروج من غفلاتها، ونبين لهم كيف يستطيع الإسلام بكفاءة تنظيم شؤون الحياة، قد يقتنعون إذا رأوا فلاسفة الغرب مقتنعين، فهكذا دائماً يكون المنهزم مفتون بالمنتصر ويقلده، وقد تستطيع الدول الإسلامية والفلاسفة والعلماء تنمية قوانين وأنظمة جديدة، أو طريقة حياة في ضوء القرآن والسنة الشريفة، مما يتماشى مع الاكتشافات الحديثة والعلاج المتفق عليه لبعض الأمراض الموجودة في الغرب، وخاصة في المجالات الاجتماعية. هذه النتائج المرجو تحصيلها، ستساعد المسلمين على الخروج من دائرة الدعوة فقط، إلى دائرة العمل الضروري، وقد تأخذ المسلمين من مجرد العمل لخدمة المسلمين فقط، لخدمة دوائر أخرى في مجتمع عالمي أوسع.(/1)
الخسوفات الثلاثة ...
إن من أعظم ما يميز آخر الزمان ، زمن اقتراب الساعة ، ودنو أمرها ، ظهور الأحداث العظام ، المؤذنة باختلال العالم ، وانفراط نظامه ، ومن تلك الأحداث الخسوفات الثلاثة التي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنها تكون بين يدي الساعة فقد روى مسلم في " صحيحه " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الساعة لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم ) .
وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أن هذه الخسوفات الثلاثة تكون عقوبة ربانية على ظهور المعاصي وانتشارها كما جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يكون في آخر هذه الآمة خسف ومسخ وقذف ، قالت قلت يا رسول الله : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا ظهر الخبث ) رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني .
وقد جعل الله عز وجل هذه الآية مقدمة بين يدي الساعة حتى يعود الناس إلى رشدهم ، ويعلموا أنهم إن أصروا على ما هم عليه من المعاصي والذنوب فإن ما أعده الله للعاصين يوم القيامة لا طاقة لأحد به .
هذا عن سبب هذا العقوبة الربانية ، أما مكان وقوعها فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أماكن يصيبها عذاب الله بالخسف ، المكان الأول جزيرة العرب ، وليس بالضرورة أن يشمل جميع أرجائها بل ربما أتى على بعض قبائلها ، كما جاء في " المسند " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعة حتى يخسف بقبائل فيقال من بقي من بني فلان ) .
والمكان الثاني جهة المشرق والمراد به مشرق المدينة ، ولا شك أن المقصود موضع بالمشرق وليس جميع أرجائه .
والمكان الثالث جهة المغرب والمراد به مغرب المدينة النبوية ، والمقصود منه ليس عموم المغرب وإنما موضع منه والله أعلم .
والذي ينبغي أن يحوز اهتمام المسلم في ذلك ليس مكان العقوبة وإنما سببها ، فإن من تلبس بسبب هذه العقوبة استحقها . نسأل الله السلامة والعافية .
هذه هي إحدى علامات الساعة وأمارات قربها وهي تصور العقوبة الربانية التي تحل بالأمة عندما تنحل من أخلاقها ، ويغلب عليها الشر والفساد . نسأل الله عز وجل أن يعصمنا من الفواحش ما ظهر منها وما بطن . إنه على كل شيء قدير .(/1)
الخشوع في الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم
(( الخشوع في الصلاة )) أعني على نفسك بقراءتها كلها ... لأنك المستفيد .
من كتاب (( عبادات المؤمن )) للداعية عمرو خالد ... نقلته بتصرف .
هل تعرف أخي القارىء ماذا تعني الصلاة ؟
تعني ببساطة أنك في لقاء مع الله تبارك وتعالى والدخول في الصلاة يعني الدخول على الله تبارك وتعالى, فهل تفكرت واستشعرت هذا المعنى ؟؟
وهل تخيّلت أنك عندما تقول : (( الله أكبر )) فإن الله بجلاله وعظمته يقبل عليك .. وينظر إليك ؟؟
هل استحضرت هذا المعنى العظيم والذي يجسده الحديث القدسي : (( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل .. ))؟؟
لا يخشع في صلاته إلا من أحب الله تعالى .. ومن أمثلة المحبين لله تعالى حقا وصدقا ابن قيم الجوزية - رحمه الله - والذي يقول في القلب شعث "أي تمزق" لا يلمه إلا الإقبال على الله , وفي القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله , وفي القلب خوف وقلق لا يذهبه إلا الفرار إلى الله .
ويقول ابن قيم الجوزية -رحمه الله - أيضا: إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله , وإذا فرح الناس بالدنيا فافرح أنت بالله , وإذا أنس الناس بأحبابهم فأنس أنت بالله , وإذا ذهب الناس إلى ملوكهم وكبرائهم يسألونهم الرزق ويتوددون إليهم فتودد أنت إلى الله .
ويقول أيضا رحمه الله (( لا تسأم من الوقوف على باب ربك...ولو طردت ))؟؟
بل ابك كثيرا وداوم الطرق فإنه ولا شك سيفتح لك ((فإذا فتح الباب للمقبولين فادخل دخول المتطفلين ))؟؟
وأسألك أخي وأسأل نفسي قبلا : بالله علينا ما هي آخر مرة خشعت فيها لله في صلاتك ؟؟ وهل كنت تتمنى ألا تقوم من السجود أبدا ؟؟ وما هي آخر مرة اضطرب قلبك لملاقاة الواحد الأحد ؟؟؟؟؟؟
هل ذقت حلاوة الصلاة؟؟
يقول ابن تيمية : مساكين أهل الدنيا , خرجوا منها ولم يذوقوا أحلى ما فيها ! قيل له : وما أحلى ما فيها ؟ قال : حب الله عز وجل
فأنت مسكين يا من لم تجرب البكاء في صلاتك بين يدي ربك عز وجل
مسكينة يا من لم تشعري بجسدك وقلبك يرتجفان لذنب أذنبتيه , خوفا من الله الواحد القهار
هل ابتسمت أخي وأنت داخل على الله في صلاتك؟
يقول الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم : (( إذا قمت إلى الصلاة فكبر , ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن , ثم اركع حتى تطمئن راكعا , ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم اجلس حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا , واجعل ذلك في صلاتك كلها
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال : (( ذلك اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد )) وقال صلى الله عليه وسلم : (( إن أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته قيل كيف ذلك يا رسول الله ؟؟ قال : لا يتم ركوعها ولا سجودها
الآن اقرأ هذا الحديث المخيف
"إن الرجل إذا صلى الصلاة فلم يتم ركوعها ولا سجودها لفّت كما يلف الثوب الرديء فتلقى في وجهه وتقول : ضيعك الله كما ضيعتني , وإذا أتم ركوعها وسجودها لفت كما يلف الثوب الطيب الحسن ودعت له قائلة : حفظك الله كما حفظتني "
وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله يقبل على العبد في الصلاة ما لم يلتفت , فإذا صرف العبد وجهه انصرف الله عنه
فبالله عليك ... بعد كم ثانية ينصرف عنك الله ؟؟؟ أفلا تستحي أن ينظر الله إيلك بينما تنظر إلى غيره ؟؟
وقال صلى الله عليه وسلم : إن العبد إذا أقبل على صلاته ثم التفت يقول الله تعالى : اإلى خير مني؟؟
الله يسأل : أوجد عبدي خيرا مني ؟؟ أوجد إلها أرحم مني؟؟
قال صلى الله عليه وسلم : ليس للمرء من صلاته إلا ماعقل منها
ويقول أيضا : إن الرجل ليصلي الصلاة فلا يكتب له إلا ثلثها أو ربعها أو نصفها أو سدسها أو ثمنها أو عشرها
فيا ترى كم يكتب لنا من صلواتنا ؟؟
نماذج من خشوع الصحابة والتابعين
روي أن سيدنا طلحة الأنصاري رضي الله عنه كان يصلي في بستانه ذات يوم ورأى طيرا يخرج من بين الشجر فتعلقت عيناه بالطائر حتى نسي كم صلى, فذهب إلى الطبيب صلى الله عليه وسلم يبكي ويقول : (( يا رسول الله , إني انشغلت بالطائر في البستان حتى نسيت كم صليت , فإني أجعل هذا البستان صدقة في سبيل الله .. فضعه يا رسول الله حيث شئت لعل الله يغفر لي
وهذا أبو هريرة رضي الله عنه يقول : إن الرجل ليصلي ستين سنة ولا تقبل منه صلاة , فقيل له : كيف ذلك؟ فقال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا قيامها ولا خشوعها
ويقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن الرجل ليشيب في الاسلام ولم يكمل لله ركعة واحدة!! قيل : كيف يا أمير المؤمنين قال : لا يتم ركوعها ولا سجودها
ويقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : يأتي على الناس زمان يصلون وهم لا يصلون , وإني لأتخوف أن يكون الزمان هو هذا الزمان !!!!!!! فماذا لو أتيت إلينا يا إمام لتنظر أحوالنا ؟؟(/1)
ويقول الإمام الغزالي رحمه الله : إن الرجل ليسجد السجدة يظن أنه تقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى , ووالله لو وزع ذنب هذه السجدة على أهل بلدته لهلكوا
سئل كيف ذلك ؟؟؟ فقال : يسجد برأسه بين يدي مولاه , وهو منشغل باللهو والمعاصي والشهوات وحب الدنيا ... فأي سجدة هذه ؟؟
النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( وجعلت قرة عيني في الصلاة)) فبالله عليك هل صليت مرة ركعتين فكانتا قرة عينك؟؟ وهل اشتقت مرة أن تعود سريعا الى البيت كي تصلي ركعتين لله؟؟؟ هل اشتقت إلى الليل كي تخلو فيه مع الله؟؟
وانظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم... كانت عائشة رضي الله عنها تجده طول الليل يصلي وطول النهار يدعو إلى الله تعالى فتسأله : يا رسول الله أنت لا تنام؟؟ فيقول لها (( مضى زمن النوم )) ويدخل معها الفراش ذات يوم حتى يمس جلده جلدها... ثم يستأذنها قائلا: (( دعيني أتعبد لربي )) ... فتقول : والله إني لأحب قربك ... ولكني أؤثر هواك
ويقول الصحابة : كنا نسمع لجوف النبي وهو يصلي أزيز كأزيز المرجل من البكاء؟
وقالوا .. لو رأيت سفيان الثوري يصلي لقلت : يموت الآن ( من كثرة خشوعه )؟؟
وهذا عروة بن الزبير (( واستمع لهذه)) ابن السيدة أسماء أخت السيدة عائشة رضي الله عنهم ... أصاب رجله داء الأكلة ( السرطان ) فقيل له : لا بد من قطع قدمك حتى لا ينتشر المرض في جسمك كله , ولهذا لا بد أن تشرب بعض الخمر حتى يغيب وعيك . فقال : أيغيب قلبي ولساني عن ذكر الله ؟؟ والله لا أستعين بمعصية الله على طاعته . فقالوا : نسقيك المنقد ( مخدر) فقال : لا أحب أن يسلب جزء من أعضائي وأنا نائم , فقالوا : نأتي بالرجال تمسكك , فقال : أنا أعينكم على نفسي . قالوا : لا تطيق . قال : دعوني أصلي فإذا وجدتموني لا أتحرك وقد سكنت جوارحي واستقرت فأنظروني حتى أسجد , فإذا سجدت فما عدت في الدنيا , فافعلوا بي ما تشاؤون !!! فجاء الطبيب وانتظر, فلما سجد أتى بالمنشار فقطع قدم الرجل ولم يصرخ بل كلن يقول : ... لا إله إلا الله ... رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا ... حتى أغشي عليه ولم يصرخ صرخة ,, فلما أفاق أتوه بقدمه فنظر إليها وقال : أقسم بالله إني لم أمش بك إلى حرام , ويعلم الله , كم وقفت عليك بالليل قائما لله... فقال له أحد الصحابة : يا عروة ... أبشر ... جزء من جسدك سبقك إلى الجنة فقال : والله ما عزاني أحد بأفضل من هذا العزاء
وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما إذا دخل في الصلاة ارتعش واصفر لونه ... فإذا سئل عن ذلك قال : أتدرون بين يدي من أقوم الآن؟؟
وكان أبوه سيدنا علي رضي الله عنه إذا توضأ ارتجف فإذا سئل عن ذلك قال : الآن أحمل الأمانة التي عرضت على السماء والأرض والجبال فأبين أن يحملها وأشفقن منها .... وحملتها أنا
وسئل حاتم الأصم رحمه الله كيف تخشع في صلاتك ؟؟ قال : بأن أقوم فأكبر للصلاة .. وأتخيل الكعبة أمام عيني .. والصراط تحت قدمي ,, والجنة عن يميني والنار عن شمالي ,, وملك الموت ورائي ,, وأن رسول الله يتأمل صلاتي وأظنها آخر صلاة , فأكبر الله بتعظيم وأقرأ وأتدبر وأركع بخضوع وأسجد بخضوع وأجعل في صلاتي الخوف من الله والرجاء في رحمته ثم أسلم ولا أدري أقبلت أم لا؟؟
يقول سبحانه وتعالى :
(( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ))
يقول ابن مسعود رضي الله عنه : لم يكن بين إسلامنا وبين نزول هذه الآية إلا أربع سنوات ,, فعاتبنا الله تعالى فبكينا لقلة خشوعنا لمعاتبة الله لنا ... فكنا نخرج ونعاتب بعضنا بعضا نقول: ألم تسمع قول الله تعالى : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله .... فيسقط الرجل منا يبكي على عتاب الله لنا .. فهل شعرت أنت يا أخي أن الله تعالى يعاتبك بهذه الآية ؟؟؟؟
الإمام الغزالي يقول : استجمع قلبك في ثلاثة مواضع
عند قراءة القرآن وعند الصلاة وعند ذكر الموت ... فإن لم تجدها في هذه المواضع فاسأل الله أن يمن عليك بقلب .......فإنه لا قلب لك
يوصينا حبيبنا صلى الله عليه وسلم ويقول
صل صلاة مودع
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ... وأسأل الله العظيم أن يجعلنا ممن يستمعون إلى القول (( أو يقرأ القول )) فيتبع أحسنه ........اللهم آمين ...اللهم ارزقنا قلبا خاشعا خاضعا ذليلا بين يديك يا الله
شهيدة لا إله إلا الله
أعتذر عن الإطالة
أرسلوها إلى كل من تعرفون ومن لا تعرفون
إن قدرتم ... إطبعوها واعملو نسخ منها ووزعوها في الكليات والمساجد في الحي ولكم الأجر إن شاء الله ...... وحتى لمن يملك أسلوب خطابة وحتى لمن لا يملكها ... فتكلموا ... وأوصلوا رسالة الله ورسوله بين أصحابكم .
استغفروا الله لأختكم
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(/2)
الخشوع
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،،
فالكلام في هذا الموضوع ينتظم إحدى عشرة نقطة، وهي:
الأولى: في بيان معناه وحقيقته .
الثانية: الفرق بينه وبين الإخبات، وبينه وبين الخضوع، وبينه وبين الضراعة .
الثالثة: أهميته .
الرابعة: الخشوع في الكتاب والسنة .
الخامسة: درجاته .
السادسة: تفاوت الناس فيه .
السابعة: أنواعه .
الثامنة: الطريق إليه .
التاسعة: ثمراته السلوكية .
العاشرة: ما ينافيه و يضاده .
الحادية عشر: أحوال السلف رضي الله عنهم في هذا الباب .
أما الأولى: وهي معنى الخشوع:
فهو يدور في كلام العرب على معنى واحد تدور عليه جميع استعلامات هذه الكلمة، وهو التطامن [انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الخاء، باب الخاء والشين وما يثلثهما] . ولذلك نجد أن بعضهم يعبرون عنه بقولهم: ' الخاشع المستكين والراكع '. وبعضهم يقول: ' المتضرع'[ انظر: المفردات للراغب، 'مادة: خشع '] وبعضهم يقول: ' المختشع: هو الذي طأطأ رأسه وتواضع '، وبعضهم يقول كلاماً يقارب هذا، وهو يدور في لغة العرب على ما ذكرت .
فالتخشع لله عز وجل هو: الإخبات والتذلل له جل جلاله .
وأما معنى الخشوع في الاصطلاح: فعبارات العلماء فيه متقاربة[انظر: المدارج 1/ 521 – 524]:
فمن قائل هو: قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل.
ومن قائل هو: الانقياد للحق- والواقع أن الانقياد للحق هو من موجبات الخشوع-.
ومن قائل هو: تذلل القلوب لعلام الغيوب .
وابن القيم رحمه الله يقول: إن الخشوع معنى يلتئم من التعظيم والمحبة والذل والانكسار.
والحافظ بن حجر رحمه الله ينقل عن بعضهم تعريف الخشوع بأنه: تارة يكون من فعل القلب كالخشية، وتارة من فعل البدن كالسكون - سكون الأعضاء والجوارح - وقد قيل: لابد من اعتبار الأمرين حتى يكون ذلك من قبيل الخشوع المعتبر.
وبعضهم يقول: هو معنى يقوم في النفس، ويظهر عنه سكون الأطراف يلائم مقصود العبادة .
وابن رجب له كلام جيد في بيان معناه يقول[الخشوع في الصلاة]:' أصله لين القلب ورقته، وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء؛ لأنها تابعة له' كما قال صلى الله عليه وسلم: [... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ... ] رواه البخاري ومسلم. وكان صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه في الصلاة: [...خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي...] رواه مسلم أ.هـ . فهو يرى: أن خضوع الجوارح هو ثمرة لخضوع القلب ولينه. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى أن الخشوع يتضمن معنيين: أولهما: التواضع والتذلل .
والثاني: السكون والطمأنينة، يقول:'وذلك مستلزم للين القلب ومنافي للقسوة، فخشوع القلب يتضمن عبوديته لله وطمأنينته أيضًا, ولهذا كان الخشوع في الصلاة يتضمن هذا وهذا: التواضع والسكون'[ مجموع الفتاوى 7/ 28 –30].
فشيخ الإسلام يرى أن لين القلب هو نتيجة وأثر ولازم من لوازم الخشوع، وأن الخشوع هو التواضع والتذلل والسكون والطمأنينة، ولهذا جاء عن علي رضي الله عنه:'الخشوع في القلب: أن تلين كنفك للرجل المسلم وألا تلتفت في الصلاة' وجاء عنه أن:' الخشوع في القلب' . وهكذا جاء عن إبراهيم النخعي أيضاً وطائفة من السلف، وكان ابن سيرين يقول:' كانوا يقولون في معنى الخشوع:'لا يجاوز بصره مصلاه' . وسئل الأوزاعي عن الخشوع، فقال:'غض البصر، وخفض الجناح، ولين القلب وهو الحزن والخوف' . وكان الأوزاعي رحمه الله- كما وُصف-: كأنه أعمى من الخشوع –يعني أن ذلك أثر أيضاً على بصره ونظره .
والخلاصة: أن الخشوع معنى ينتظم خضوع القلب وذله وانكساره وعبوديته، وسكونه وتواضعه، وطمأنينته مع التعظيم والمحبة والخشية لله تعالى، ويظهر أثره على الجوارح بسكونها والتواضع للخلق، فيكون القلب عامرًا بالسكون والطمأنينة، والتذلل والمحبة والتعظيم، مع خضوع الجوارح، وتواضع العبد، وسكون الجسم، وسكون الطرف والنظر .
ثانياً: الفرو قات:
الفرق بين الخشوع والإخبات: الله عز وجل يقول:} ...وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ[34]{ [سورة الحج] وقال: }الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ[35]{ [سورة الحج] . وقال أيضاً: }إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [23]{ [سورة هود] .(/1)
والخَبتُ أصلة في كلام العرب: هو المكان المنخفض من الأرض، وابن عباس رضي الله عنه يفسر:}وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ{ بالمتواضعين، ومجاهد رحمه الله -من التابعين- يقول: المخبت:' المطمئن إلى الله جل جلاله'. ويقول الأخفش: المخبتون:' الخاشعون' ويفسره إبراهيم النخعي رحمه الله:' بالمصلين المخلصين' وفسره الكلبي:' بالرقيقة قلوبهم' وفسره عمر بن أوس:' بالذين لا يظلمون وإذا ظُلموا لم ينتصروا ' . وهذه الأقوال جميعًا- كما يقول الحافظ بن ابن القيم رحمه الله- تدور على معنيين: التواضع والسكون لله عز وجل... وبهذا نعرف أن الإخبات مقارب للخشوع، لكن الخشوع يصحبه ذل القلب وانكساره، ويؤثر لين القلب مع المحبة والتعظيم .
أما:الفرق بين الخشوع وبين الخضوع: فبينهما تقارب أيضاًَ، وقد قيل:
أن الخضوع: بالبدن، يقال:فلان خضع لفلان، وإن كان قلبه لم يخضع له، فالخضوع في البدن وهو الإقرار بالاستخذاء، فيستسلم لمن خضع له.
وأما الخشوع: فيكون في القلب، والبدن، والصوت، والبصر، فيظهر هذا على بصره وجوارحه، فأصل الخضوع: هو الذل والانقياد، فإذا قيل خضوع القلب فهو:ذل القلب، وإذا قيل 'خضوع البدن ' فهو انقياده واستسلامه .
وأما: الفرق بين الخشوع وبين الضراعة: فكذلك بينهما تقارب،وقد قيل: أكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح في الظاهر، وإن كان أيضاً يرتبط بالقلب بلا شك، وأما الضراعة: فأكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب،
وأصل الضراعة في كلام العرب: الذل والخضوع . وبهذا نعرف أنها معان متقاربة .
ثالثًا: فيما يتعلق بأهمية الخشوع ومنزلته: فهو بلا شك في غاية الأهمية، ومن فقده؛ فقد واجباً من واجبات الإيمان، ومما يدل على أهميته:
1- أنه واجب من واجبات الصلاة: على قول طائفة من أهل العلم، وممن اختار هذا القول: القرطبي صاحب التفسير، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله [انظر: مجموع القتاوى 22/553-557]. والحافظ ابن القيم [انظر الوابل الصيب ص24]. وطائفة من السلف والخلف . وقد استدل شيخ الإسلام ابن تيميه على أن الخشوع واجب من واجبات الصلاة بأدلة متعددة منها:
الدليل الأول: أن الله عز وجل قال:} وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[45]{ [سورة البقرة] . يقول مبيناً وجه هذا الاستدلال:'وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين:}وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[45]{ [سورة البقرة] . فغير الخاشع تكون كبيرة عليه، فمعنى ذلك أنه مذموم، لأن الله قال:} وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ...[143]{ [سورة البقرة] . فهؤلاء الذين يكبر عليهم التحول من بيت المقدس إلى الكعبة، فهؤلاء فقدوا أساسًا وأمراً عظيماً، حيث إنهم خرجوا عن هذا الوصف: } وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ...[143]{ [سورة البقرة] . والله عز وجل يقول:} ...كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ...[13]{ [سورة الشورى] . يقول شيخ الإسلام:' من مجموع هذه الآيات، دل كتاب الله عز وجل على أن من كبر عليه ما يحبه الله أنه مذموم بذلك، وأن ذلك مسخوط منه، والذم أو السخط لا يكون إلا لترك واجب، أو فعل محرم، وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دل ذلك على وجوب الخشوع، فمن المعلوم أن الخشوع المذكور في قولة تعالى:}وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[45]{ [سورة البقرة] لا بد أن يتضمن ذلك الخشوع في الصلاة، فإنه لو كان المراد الخشوع خارج الصلاة؛ لفسد المعنى، إذ لو قيل: إن الصلاة لكبيرة إلا على من خشع خارجها ولم يخشع فيها، كان يقتضي أنها لا تكبر على من لم يخشع فيها وتكبر على من خشع فيها، وقد انتفى مدلول الآية، فثبت أن الخشوع واجب في الصلاة '.
الدليل الثاني- الذي استدل به رحمه الله-: قوله تعالى:} قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ[1]الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[2]وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ[3]وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ[4]{ [سورة المؤمنون] - إلى أن قال بعد أن سرد جملة من الأمور الواجبة- :} أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ[10]الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[11]{ [سورة المؤمنون] . يقول شيخ الإسلام بن تيمية:' فأخبر الله سبحانه وتعالى أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس الجنة وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم، وقد دل هذا على وجوب هذه الخصال إذ لو كان فيها ما هو مستحب لكانت جنة الفردوس تورث بدونها لأن الجنة تنال بفعل الواجبات دون المستحبات، ولهذا لم يذكر في هذه الخصال إلا ما هو واجب ' أ. هـ(/2)
الدليل الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد تاركيه، كالذي يرفع بصره في السماء، فإن حركته ورفعه ضد حال الخاشع، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ] فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: [ لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ] رواه البخاري . وكذلك حديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ]رواه مسلم . فاستدل به على أن الخشوع واجب، وبهذا استدل أيضاً الحافظ العراقي [انظر طرح التثريب 2/372].
كما أن الله عز وجل ذم قسوة القلوب المنافية للخشوع في غير موضع من كتابه كما قال:}...ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً...[74]{ [سورة البقرة] . قال الزجاج:'قست: بمعنى غلظت ويبست، وعسيت، فقسوة القلب: هي ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه، والقلب القاسي و العاسي: هو الشديد الصلابة '.
ويقول ابن قتيبة رحمه الله:'وقوة القلب المحمودة غير قسوته المذمومة، فإنه ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف، وليناً من غير ضعف، وهذا كاليد فإنها قوية لينه، بخلاف مايقسو من العقب فإنه يابس لا لين فيه وإن كان فيه قوة'[انظر:مجموع الفتاوى 7/ 28 –30].
الدليل الرابع: أن الصلاة _ يعني: صلاة الظهر – يشرع تأخيرها عن أول الوقت إلى حد الإبراد, مع أن الصلاة في أول الوقت محبوبة إلى الله عز وجل وهي أفضل العمل: [ الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا]رواه البخاري ومسلم . ومع ذلك شرع لنا النبي صلى الله عليه وسلم الإبراد بالصلاة، وحكمة هذا التأخير كما ذكره الحافظ ابن القيم:' أن الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع وحضور القلب والتأثر بها'[الوابل الصيب ص24] .
2- أن العبادة التي يصاحبها الخشوع تفضل العبادة التي لا خشوع فيها: وشتان بين اثنين أحدهما يصلي وهو خاشع، والآخر يصلي وهو أبعد ما يكون من الخشوع . يقول حسان بن عطية رحمه الله:'إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وإن بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض'.
3- هو أول ما يفقد من هذه الأمة: كما قال حذيفة رضي الله عنه:' أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ورب مصل لا خير فيه، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه خاشعاً'. وقد قال نحوه أبو يزيد المدني.
4- أن الله أستبطأ المؤمنين في تحقيق هذا الوصف: فقال:} أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ[16]{ [سورة الحديد]. يقول شيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله:' فدعاهم إلى خشوع القلب في ذكره وما نزل من كتابه، ونهاهم أن يكونوا كالذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وهؤلاء هم الذين } إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [2]{ [سورة الأنفال]. وكذلك قال في الآية الأخرى:} اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ[23]{ [سورة الزمر] يقول: [ والذين يخشون ربهم هم الذين إذا ذكر الله تعالى وجلت قلوبهم، فإن قيل: فخشوع القلب لذكر الله وما نزل من الحق واجب؟ قيل: نعم ' [مجموع الفتاوى 7/28-30]. هذا ما يتعلق بأهمية الخشوع .
رابعاً: الخشوع في الكتاب والسنة:
تكرر الخشوع في كتاب الله عز وجل، وجاء في معان متعددة: منها الذل، وسكون الجوارح، والخوف، والتواضع، وهذه أربعة معان، ويمكن أن يضاف إليها معنى خامس: وهو الجمود واليبس:
فأما المعنى الأول: وهو مجيء الخشوع بمعنى الذل: فكما قال الله عز وجل:} وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا[108]{ [سورة طه] أي: ذلت، ويقول الله تعالى:} لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا[21]{ [سورة الحشر] أي: ذليل، وقال:} وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ[2]{ [سورة الغاشية] .
وأما الخشوع بمعنى سكون الجوارح: فكما قال الله عز وجل:}الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[2]{ [سورة المؤمنون] .
قال الحسن:' كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا لذلك الجناح' .
وقال مجاهد رضي الله عنه:' هو السكون' .
وجاء عن ابن عمر رضي الله عنه:' إذا قاموا في الصلاة أقبلوا على صلاتهم، وخفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم، وعلموا أن الله يقبل عليهم فلا يلتفتون يمينًا وشمالًا' .(/3)
وقال ابن عباس في تفسيرها: ' أي خائفون ساكنون ' وبه قال طائفة من السلف كمجاهد، والحسن، وقتادة، والزهري، وإبراهيم النخعي .
وجاء عن سعيد بن جبير رحمه الله قال: ' يعني متواضعين، لا يعرف من عن يمينه، ولا من عن شماله، ولا يلتفت من الخشوع لله عز وجل '. هذا معنى من قام لله خاشعًا: }الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[2]{ [سورة المؤمنون] فهو ساكن الجوارح، منكسر القلب لا يرفع بصره، ولا ينظر عن يمينه ولاعن شماله . وقد ذكر شيخ الإسلام في عدد من كتبه هذه المعاني [السابق 7/28-30، 22/ 553-557] وذكر غيرها:
كقول الضحاك:'الخشوع هو الرهبة لله عز وجل' أي: هذا الخشوع الذي ذكره الله جل جلاله.
ونقل عن أبي سنان أنه قال في هذه الآية:' الخشوع في القلب، وأن يلين كنفه للمرء المسلم، وألا تلتفت في صلاتك'. ونقل عن قتادة قال:'الخشوع في القلب، والخوف، وغض البصر في الصلاة ] وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله في معنى :}الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[2]{ [سورة المؤمنون]. يقول:' ومنه خشوع البصر وخفضه وسكونه، يعني أنه مضاد لتقليبه في الجهات، كقوله تعالى:} فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ[6]خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ[7]مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ[8]{ [سورة القمر] .} خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ{ أي: أنها ساكنة ذليلة، ثم ذكر الآية الأخرى وهي قوله تعالى:} يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ[43]خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ[44]{ [سورة المعارج] وفي القراءة الأخرى:}خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ { يقول:'وفي هاتين الآيتين وصف أجسادهم بالحركة السريعة، حيث لم يصف بالخشوع إلا أبصارهم، بخلاف آية الصلاة وهي:}الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[2]{ [سورة المؤمنون]. فإنه وصف بالخشوع جملة المصلين –يعنى البصر والبدن – وصفهم بكليتهم أنهم حققوا الخشوع فقال:}الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ{ وقال:}وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[45]{ [سورة البقرة] . لم يقل إلا على الخاشعين في أبصارهم بينما في المحشر قال:} خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ...[7]{ [سورة القمر] .مع أنهم يسرعون في مشيتهم، ويقول شيخ الإسلام:'ومن ذلك خشوع الأصوات كقولة:} وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ...[108]{ [سورة طه] وهو انخفاضها وسكونها' أ. هـ بتصرف .
ومما يدخل في هذا المعنى- وهو الثاني: السكون- قوله تعالى: }وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ[238]{ [سورة البقرة] حيث قال مجاهد:'من القنوت: الركون والخشوع وغض البصر، وخفض الصوت، والرهبة لله ' .
والمعنى الثالث من معاني الخشوع في القرآن: الخوف: كما قال قتادة:'الخشوع في القلب: هو الخوف، وغض البصر في الصلاة' كما قال الله عز وجل:} وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ[90]{ [سورة الأنبياء] قال الحسن:'هو الخوف الدائم في القلب' . وقال تعالى:} وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ...[45]{ [سورة الشورى] . وقال الله تعالى:} أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ[16]{ [سورة الحديد].
والمعنى الرابع في القرآن: هو التواضع: ومن ذلك قولة تعالى:} وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[45]{ [سورة البقرة] . وقال:} وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ ...[199]{ [سورة آل عمران] . وقال:} وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا[109]{ [سورة الإسراء] . وقال:} إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ...[35]{ [سورة الأحزاب] . وكذا قوله:} سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ...[92]{ [سورة الفتح] . قال مجاهد:'هو الخشوع والتواضع'.
والمعنى الخامس: هو اليبس والجمود: كما في قوله تبارك وتعالى: } وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً...[39]{ [سورة فصلت] يعني: هامدة يابسة لا نبات فيها .
وأما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد جاء في عدد من الأحاديث:(/4)
منها: ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ].
ومن ذلك: حديث أبي هريرة عند النسائي بإسناد صحيح قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْخَاشِعِ الرَّاكِعِ السَّاجِدِ] رواه النسائي . هذا يدل على منزلة من حقق الخشوع .
ومن ذلك أيضًا: حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه، كما أخرج الإمام مسلم في صحيحه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعِظَامِي وَعَصَبِي...].
والخامس منها وهو درجات الخشوع : لا شك أن هذا المعنى يتفاوت ولا يكون الناس فيه أيضاً على وتيرة واحدة . وابن القيم رحمه الله يجعل الخشوع من هذه الحيثية -أي من جهة مراقيه- يجعله ثلاث مراتب:
الأولى: وهي التذلل لأمر الله عز وجل مع الاستسلام لحكمه، مع التواضع لنظر الله عز وجل له، هذه هي المرتبة الأولى .
فالتذلل لأمر الله تبارك وتعالى: أن نتلقاه بذلة من غير استنكاف، ومن غير نفرة، ومن غير تعال عليه, و إنما يخضع العبد لأمر ربه ومولاه جل جلاله، فيتقبل هذا الأمر وينقاد إليه، ويتمثل هذا التوجيه الرباني مع موافقته الباطن لظاهره، مع إظهار الضعف والافتقار لهداية الله عز وجل . فهو منقاد لأمر ربه بقلبه وجوارحه متواضع لله جل جلاله .
وأما الاستسلام لحكم الله عز وجل: فهذا يشمل الحكم بنوعيه: الحكم الشرعي، فلا يعترض على شرائع الدين، وأحكام الله عز وجل الدينية فيقول: يا رب لماذا تشرع هذا. ولا يعترض على أحكام الله القدرية الكونية، فإذا نزل به مصيبة أو بمن يحب، فإنه يتلقى ذلك بالصبر والرضى دون أن يتسخط، ودون أن يعترض على الأقدار، فهو لا يعارض أمر الله الشرعي بشهوة ولا برأي ولا يعارض قدر الله بتسخط، أو تذمر، وامتعاض.
وأما ما يتعلق بالتواضع لنظر الله عز وجل: فهو أن يتواضع القلب والجوارح لله عز وجل، فينكسر قلبه، وينكسر العبد أيضاً لاستشعاره أن الله ينظر إليه ويراه، وأن الله مطلع عليه، يعلم تفاصيل أحواله، هذه هي المرتبة الأولى .
أن تستسلم لربك ومولاك ظاهراً وباطناً وأن تخضع لأحكامه القدرية وأحكامه الشرعية، وأن تتطامن وتتواضع لربك ومليكك جل جلاله.
وأما المرتبة الثانية: هي الرجوع إلى النفس باستشعار نقصها وضعفها وعجزها، أن يستشعر العبد أنه مقصر ومذنب، فيورثه ذلك أيضاً تواضعاً . وأما في نظره إلى الخلق فإنه يرى فضائلهم ومحاسنهم، فنظره إلى النفس بأن لا يلتفت إلى محاسنها، ومن ثم فلا يطالب الناس بحقوقه عليهم، ولا يطلب الناس أن يقدموا له شيئا من الإكرام والإجلال، أو يتشوق إلى رد المعروف الذي استشعره عليهم لكنه في المقابل إذا نظر إلى الناس فإنه ينظر إلى أفضالهم و إحسانهم، وينظر إلى مناقبهم ومحاسنهم، فيثني عليهم ويشكر معروفهم، ويحفظ صنائعهم، فلا تضيع ولا تنسى، وهذا لا شك أنه من أكمل الكمالات، وأن العبد ينظر إلى نفسه بعين النقص، وينظر إلى غيرة بالنظر إلى فضائلهم ومحاسنهم، ومن ثم فإنه لا يتعالى على الخلق، ولا يجد له عليهم معروفاً وصنيعاً.
أما المرتبة الثالثة: فهي أن يصفي قلبه من النظر إلى المخلوقين، فلا يلتفت إليهم بعمله الصالح، فلا يعمل أعمال صالحة، وقلبه يتشبث بهم ويتطلع إليهم، هذا مع إخفاء أحواله عن المخلوقين، فلا يعرفون أحواله مع الله عز وجل من عبادة وخشوع و إخلاص وغير ذلك مما قد يظهره العبد للناس، فهذا شي بينه وبين الله تعالى، فصارت مراتبه ثلاثاً.
سادساً:و أما مراتب الناس في الخشوع:
فأقول: كما أن الخشوع يتفاوت في نفسه وليس على مرتبه واحدة؛ فكذلك الناس يتفاوتون فيه بحسب ما يقع في قلوبهم من معرفة الله عز وجل، ومعرفة صفات عظمته وجلاله، واستشعار مراقبته، وكذلك ما يكون في قلوبهم من معرفة النفس ونقائصها وعيوبها، وكذلك بحسب فهمهم وتدبرهم لمعان القرآن، فيتفاوت الناس في ذلك تفاوتًا كبيرًا، ويكون بين الواحد ومن بجانبه في الصلاة مثلاً كما بين المشرق والمغرب، مع صرف النظر عن مادة هذا الخشوع والسبب الموصل إليه بالنسبة لهذا أو ذاك .(/5)
فمن الناس من يتحقق له هذا الخشوع لقوة مطالعته بقرب الله عز وجل من عبده وإطلاعه على سره وضميره و مكنوناته، فيستحي من الله ويراقب ربه في حركاته و سكناته، ومنهم من يجعل له الخشوع لمطالعته لكمال الله وجماله المقتضي الاستغراق في محبته والشوق إلى لقائه، وبعضهم يخشع حين يستشعر قوة الله عز وجل وجبروته وبطشه، وشدة أخذه، و نكاله للظالمين المجرمين الخارجين عن حدوده وطاعته. فهؤلاء يحصل لهم الخشوع مع صرف النظر عن الأمر الذي أوجب لهم هذا الخشوع . وهم كذلك أيضاً في هذا الباب بين ظالم لنفسه، وبين مقتصد، وبين سابق بالخيرات بإذن الله [انظر مجموع الفتاوى 7/28-30] ؛ لأن مراتب السالكين إلى الله جل جلاله في العبودية لا تخرج عن هذه المراتب الثلاث كما قال الله عز وجل:} ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ[32]{ [سورة فاطر] . فالظالم لنفسه هو المقصر في الواجبات، المرتكب للمحظورات، والمقتصد: هو من اقتصر على الأمر الواجب دون زيادة أو نقص، وترك المحرم. والسابق بالخيرات:هو من جاء بالواجب ، وفارق المحرم، مع مجانبته للمكروه، وفعله المستحبات، فالخشوع عمل من أعمال القلب التي تظهر على الوجه والجوارح . فالناس يتفاوتون فيه وهم فيه على هذه المراتب ... فالسابقون في هذا الباب هم أعلى المراتب، ثم يلي ذلك من هو مقتصد، ثم يلي ذلك الظالم لنفسه، والظالم لنفسه متوعد بالعقوبة... وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بربه [مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا]رواه مسلم. والشاهد فيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بربه من القلوب التي لا محل للخشوع فيها فدل على أن تحقيق الخشوع و تحصيله من الواجبات في الحد الذي لا يرخص للمكلف في تركه والتقصير فيه .
وهكذا أحوال العباد في صلاتهم من جهة الخشوع فهم على مراتب، وقد جعلهم ابن القيم –رحمة الله- في بعض كتبه على خمس مراتب:
الأول: الظالم لنفسه الذي تنقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها، ولا شك أن هذه الأمور تؤثر في خشوع العبد، بل إن الإمام يتأثر في خشوعه و إدراكه في صلاته بسبب إخلال بعض المأمومين في طهارتهم، أو في إقامة صلاتهم .
والثاني: رجل يحافظ على المواقيت والأركان الظاهرة والوضوء، ولكنه يضيع مجاهدة النفس في الوسوسة، فهذا مؤاخذ يأتي بالصلاة مستوفية للأركان والشروط، ولكنه في صلاته مستغرق في وساوسه، وأفكاره وخواطره، فهذا ليس له من صلاته إلا ماعقل، وغاية ما في الأمر أن تكون هذه الصلاة مجزئة، أي مسقطة للمطالبة، ولكنه قد لا يثاب عليها، أو أنه لا يثاب إلا على القدر الذي عقله فحسب .
وأما الثالث: وهو من حافظ على حدودها و أركانها، وجاهد نفسه بدفع الوساوس، فهذا مشغول بين صلاة وجهاد، يحاول أن يستحضر ويجاهد الخواطر، فهذا مأجور على مجاهدته، مأجور على صلاته، ولكنه ليس في المرتبة العالية . وأما الرابع: وهو فوقه، وهو من قام إليها، فأكمل حقوقها، و أركانها، واستغرق قلبه شأن الصلاة وعبودية ربه، فهذا لا تشغله الوساوس، ولا ينشغل بمجاهدة النفس، و إنما شغله في التكميل.
وأما الخامس: وهو أعلى هذه المراتب، وأرفع درجات الخاشعين في الصلاة، وهو إضافة إلى ما سبق من تحقيق الشروط والواجبات والأركان، وحضور القلب، إضافة إلى ذلك فإنه قد امتلأ قلبه محبة لله وعظمة، وإجلالاً له تعالى، يصلي كأن الله يراه، وكأنه يرى ربه جل جلاله؛ فتندفع عنه تلك الوساوس التي عند الآخرين والخطرات، ولا تأتي إليه أصلاً، ولا تجد طريقاً إلى قلبه .
فالأول معاقب، والثاني محاسب، والثالث مكفر عنه لمجاهدته،والرابع مثاب، والخامس قريب إلى ربه في أعلى المنازل والدرجات .
سابعاً: أنواع الخشوع:
الخشوع ليس له نوع واحد، وإن كان في صورته الظاهرة يخرج المرء، أو العبد مع غيره فيه بهيئة متحدة، إلا أن ذلك يفترق في حقيقة الأمر بسبب ما يقوم في القلب من الحقائق والدواعي، فهناك خشوع حقيقي، وهذا هو القسم الأول، وخشوع مزيف وهو خشوع النفاق، وهو خشوع الظاهر دون مواطئة الباطن، فالباطن الذي هو محل للخشوع أصلاً قد صار فارغاً من هذا الخشوع، فظهر ذلك مرتسماً على وجه صاحبه، وظاهراً على جوارحه، ولكن قلبه قد فرغ منه، وهذا لا فائدة فيه، وهو خشوع النفاق .(/6)
ومتى تكلف الإنسان تعاطي الخشوع في جوارحه و أطرافه مع فراغ قلبه منه فإن ذلك يكون من قبيل خشوع النفاق [انظر الخشوع في الصلاة لابن رجب] إلا في حالة واحدة: وهي أن يكون العبد يفعل ذلك من أجل الوصول إلى الخشوع، كصاحب المجاهدة الذي حدثتكم عنه، بشرط أن لا يظهر ذلك أمام الناس بحيث يكون الإنسان بعيداً عن نظر الناس لا يلتفت إليهم بقلبه، ولا يحضر مجامعهم بهذا الفعل الذي يتصنع فيه الخشوع، فهو يتظاهر، أو يتصنع، أو يحاول أن يبكي، وأن يخشع، وإن لم يكن قلبه خاشعاً من أجل أن يحصل الخشوع، فهذا لا يكون مذموماً . وأما المذموم أن يكون ذلك على سبيل النظر إلى الخلق، وتصنع الخشوع من أجل تحصيل محمدتهم . وقد كان جماعة من السلف يستعيذون من هذا النوع وهو خشوع النفاق ... وكان بعضهم يقول:' استعيذوا بالله من خشوع النفاق' فقيل له: وما خشوع النفاق ..؟ فقال:' أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع' وكان الفضيل بن عياض رحمه الله وهو من كبار الخاشعين يقول:' كان يكره أن يُري الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه'. يعني أن يظهر في ظاهره أعظم مما قام في باطنه ..وقد ذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً طأطأ رقبته في الصلاة، فقال:' يا صاحب الرقبة! ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب ' إنما الخشوع في القلوب .
ولما ذكر شمس الدين ابن القيم رحمه الله أنواع البكاء في كتابه:'زاد المعاد' قال:' والثامن: بكاء النفاق، وهو أن تدمع العين والقلب قاس، فيظهر صاحبه الخشوع، وهو من أقسى الناس قلباً ، وقد رأى بعضهم رجلاً خاشع المنكبين والبدن فقال: يا فلان الخشوع هاهنا !! وأشار إلى قلبه، لا هاهنا وأشار إلى منكبيه'[انظر المدارج 1/521-524] . وذكر أن عائشة رضي الله عنها رأت أناساً يمشون ويتماوتون في مشيتهم، فسألت عن هؤلاء، فقيل لها: نُسَّاك أي:أن هؤلاء عباد. فقالت:' كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا مشى أسرع، و إذا قال أسمع، و إذا ضرب أوجع، و إذا أطعم أشبع، وكان هو الناسك حقاً'[السابق] . وقد فرق ابن القيم رحمه الله بين خشوع النفاق، وخشوع الإيمان في كتابه:[الروح ص232] فقال عن خشوع الإيمان بأنه: خشوع القلوب لله بالتعظيم والإجلال، والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل، والحب والحياء، وشهود نعم الله، وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة فيتبعه خشوع الجوارح، و أما خشوع النفاق: فيبدو على الجوارح تصنعاً وتكلفاً، والقلب غير خاشع إلى أن قال: فالخاشع لله عبد قد خمدت نيران شهوته، وسكن دخانها عن صدره؛ فانجلى الصدر، وأشرق فيه نور العظمة؛ فماتت شهوات النفس للخوف و الوقار الذي خُشي به، وخمدت الجوارح، وتوقر القلب واطمأن إلى الله وذِكْرِه بالسكينة التي نزلت عليه من ربه، فصار مخبتاً له، والمخبت: المطمئن، فإن الخبت من الأرض ما اطمأن فاستنقع فيه الماء ... فكذلك القلب المخبت قد خشع و اطمأن كالبقعة المطمئنة من الأرض التي يجري إليها الماء فيستشعر فيها، وعلامته أن يسجد بين يدي ربه إجلالاً وذلاً وانكسارًا بين يديه سجدة لا يرفع رأسه عنها حتى يلقاه.
وأما القلب المتكبر فإنه قد أهتز بتكبره وربى، فهو كبقعة رابية من الأرض لا يستقر عليها الماء... فهذا خشوع الإيمان، و أما التماوت وخشوع النفاق فهو حال عند تكلف إسكان الجوارح تصنعاً ومراءاة ونفسه في الباطن شابة طرية ذات شهوات و إيرادات, فهو يخشع في الظاهر وحية الوادي وأسد الغابة رابض بين جنبيه ينتظر الفريسة ' أ. هـ أي أن جوارحه لم تواطيء قلبه في هذا الخشوع ' هذا الفرق بين الخشوعين وشتان ما بينهما '
وأما ثامناً:الطريق إلى الخشوع: كيف نحصل الخشوع في قلوبنا؟! كيف نكون من الخاشعين؟! نقول:
أول ذلك: أن تستحضر نظر الله تعالى إليك في حركاتك، و سكناتك في صلاتك، وفي قراءتك، وفي قيامك وقعودك، فالخشوع لا يختص بالصلاة، و إنما هو عبادة قلبية يظهر أثرها على الجوارح في كل أحوال العبد، فهذا سبب أساسي في تحصيل الخشوع، استحضار نظر الرب جل جلاله إليك، وكلما كان العبد أكثر استحضاراً لهذا المعنى؛ كلما زاد الخشوع في قلبه، و إنما يفارق الخشوع قلبك إذا حصلت الغفلة عن استشعار نظر الله عز وجل ومراقبته، قال ابن القيم رحمه الله:'الخشوع هو الاستسلام للحُكْمين الديني والشرعي، بعدم معارضته برأي أو شهوة . والقدري بعدم تلقيه بالتسخط والكراهية والاعتراض، والاتضاع لنظر الحق، وهو اتٌضَاعُ القلب والجوارح وانكسارها لنظر الرب إليها، واطلاعه على تفاصيل ما في القلب والجوارح، وخوف العبد الحاصل من هذا يوجب له خشوع القلب لا محالة . وكلما كان أشد استحضاراً له؛ كان أشد خشوعاً، وإنما يفارق الخشوع القلب إذا غفل عن اطلاع الله عليه ونظره إليه ' أ. هـ(/7)
هذا على بن حسين زين العابدين كان إذا مشى لا تجاوز يده فخذيه ولا يخطر بها . يعني ما يقول بيده إذا مشى هكذا يُحركها، ولا يقول بها هكذا وهو يمشي كأنه قد زهى بنفسه، فهو يمشي بشيء من الإعجاب والغرور والتعاظم. و إنما صفة مشية المتواضع أن يجعل يديه إلى فخذيه دون أن يخطر بها هكذا، فإن هذا يذهب الوقار والخشوع: الحركة الكثيرة . وكذلك لا يجافي بين يديه وبين منكبيه وفخذيه، فيظهر بصورة المتعاظم المتكبر المتغطرس وهو يمشي هكذا وإنما يلصق يده بجنبيه وفخذيه... هذا على بن حسين زين العابدين .
وكان إذا قام إلى الصلاة اضطرب وارتعد، فقيل له – سُئل عن هذا- فقال:' تدرون بين يدي من أقوم و أناجي؟' وكان إذا توضأ للصلاة؛ اصفر لونه من شدة الوجل والحياء، والخوف واستشعار عظمة الله، والنظر إليه، فيقدم على صلاةٍ يناجي فيها ربه، فيظهر ذلك صفرة في وجهه كمن أراد أن يلاقي عظيما من العظماء، فقد يظهر ذلك الوجل على قسمات وجهه، وعلى حركاته و سكناته، حتى أن بعضهم كان إذا قام إلى الصلاة ووقع ذباب على وجهه لا يقول بيده هكذا، ولا يحرك رأسه لطرد الذباب لغلبه الخشوع عليه، فهذا خلف بن أيوب كان لا يطرد الذباب عن وجهه في الصلاة، فقيل له: كيف تصبر؟! قال:' بلغني أن الفساق يتصبرون تحت السياط ليقال: فلان صبور!!' يعني الفساق إذا جلدوا وضربوا الحدود، أو إذا جلدوا تعزيراً، فإن الواحد منهم يتجلد لا يتحرك وهو يجلد ليظهر للآخرين أنه لا يبالي، ولربما فعل ذلك بعض الطلاب في المدارس إذا أراد المعلم أن يعاقب بعض الطلبة فلربما أظهر تجلداً فقال بيده هكذا ولم يحركها فربما ضُرب ضرباً يكسر العظم وهو لا يتحرك ليظهر التجلد . فهذا كان يستشعر هذا المعنى – وهو خلف أبن أيوب – فيقول: إذا كان هؤلاء يتجلدون للسياط، فكيف لا نتجلد أمام رب الأرباب، نتجلد عن دفع هذا الذباب يقول: أنا بين يدي ربي أفلا أصبر على ذباب يقع عليٌ؟!
أما الأمر الثاني مما يكسب الخشوع، و يؤثر الخشوع: فهو ترقب آفات النفس والعمل، ورؤية فضل كل ذي فضل: -وقد تحدثت عن هذا القضية قبل قليل ونقلت فيها كلام ابن القيم رحمه الله -ارجع إلى نفسك وانظر إلى عيوبها، فإن ذلك يورثك انكساراً، وأما إلى الخلق فلا تنظر إلى عيوبهم، بل انظر إلى محاسنهم، فيورثك ذلك شعورا بأنك أقل من هؤلاء جميعاً، وأنك المقصر المذنب، تحتاج إلى عفو ربك و مسامحته، وإلى التشمير بالتقرب منه وطاعته.
وأما الأمر الثالث: فهو معرفته الرب جل جلالة معرفة صحيحة تورث التعظيم: وقد أشرت إلى هذا قبل قليل وذكرت فيه كلاماً لبعض أهل العلم – وهو الحافظ ابن رجب رحمه الله - فالمقصود أيها الإخوان أن العبد كلما كان بالله أعرف كلما كان له أخوف، وكلما كان أكثر تعظيماً لله جل جلاله ..ولهذا قال الله تعالى:} إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ...[28]{ [سورة فاطر] فإذا عرف العبد صفات الكمال التي اتصف الله بها، واستشعرها؛ فإنه ينكسر، ويخضع، ويتواضع، ويخشع قلبه أمام الله جل جلاله.
وأمر رابع نحتاج إليه في الصلاة لنستحضر الخشوع فيها وهو:أن تضع في قلبك إذا قمت إلى الصلاة وتهيأت لها أنها الصلاة الأخيرة: صل صلاة مودع، فقد لا تصلي بعدها، فإذا قيل للعبد هذه هي الصلاة الأخيرة، كيف يصلي؟ فإنه يفرغ قلبه من كل شاغل من شواغل الدنيا، ويحضر قلبه في هذه الصلاة، خطب علي ابن أرطاة على منبر المدائن فجعل يعظ الناس حتى بكي وأبكى، فقال: كونوا كرجل قال لابنه وهو يعظه:' يا بني أوصيك لا تصلي صلاة إلا وظننت أنك لا تصلي بعدها حتى تموت' .
وأمر خامس: أن تستشعر وتستحضر أنك على الصراط فوق جهنم: وكأنك تشاهد الجنة والنار أمام عينك، وكأنك قمت بين يدي الله عز وجل في موقف الحساب، كان بعض السلف إذا سمعوا الأذان تغيرت ألوانهم، وفاضت عيونهم، كانوا يرون أنه يذكرهم بالنداء يوم العرض الأكبر . كانوا يستشعرون هذه المعاني في كل شيء حولهم، إذا سمعوا المؤذن يؤذن فاضت أعينهم لأنه يذكرهم بالنداء في ذلك الموقف الرهيب . وهذا رجل من العلماء كان يخشع في صلاته فسُئل عن ذلك كيف يحصل لك هذا الخشوع العظيم؟ فقال:' أقوم إلى صلاتي وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، أظنها آخر صلاتي'.(/8)
وهذا الرجل من العلماء، العباد، وهو سعيد بن عبد العزيز كان يبكي إذا صلى، وكان إذا صلى على الحصير يسمع من بجانبه وقع الدموع على الحصير تتقاطر، وكان قد سُئل: ما هذا البكاء الذي يعرض لك في الصلاة، قال: ' يا ابن أخي: وما سؤالك عن ذلك؟' فقال السائل: رجاء أن ينفعني الله بذلك . فقال:' ما قمت إلى صلاة إلا مُثلت لي جهنم' . كأنه يرى جهنم مسعرة، وأهلها يصطرخون فيها:} وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[37]{ [سورة فاطر] .. فكان ذلك يورثه خشوعاً وبكاء في صلاته .
ومن استشعر هذه المعاني في الصلاة فإن ذلك لا يفترق بالنسبة إليه في صلاة نافلة، أو صلاة فريضة، كما لا يفترق بالنسبة إليه في الصلاة الجهرية، أو الصلاة السرية .. وأنت تعجب حين تسمع بعض الناس يستغربون ممن يخشع في الصلاة السرية كيف يخشع في الصلاة السرية؟ وكيف لا يخشع؟ وهو يقف بين يدي الله، ويستحضر الجنة والنار، وأن الله يراه وينظر إليه, ويناجيه؟ كيف لا يخشع؟ ولكن الغفلة التي غلبت على قلوبنا أورثتنا بعداً عن هذه المعاني . يقول بعض السلف:' لو رأيت أحدهم وقد قام إلى صلاته، فلما وقف في محرابه واستفتح كلام سيده خطر على قلبه أن ذلك المقام الذي يقوم فيه الناس لرب العلمين؛ فانخلع قلبه، وذهل عقله' تخيل هذا .. الناس في صفوفهم للصلاة يقفون صفوفاً فتذكر واستشعر الوقوف بين يدي الرب جل جلاله؛ فيخشع الإنسان، وينكسر قلبه، وكان منصور بن صفية يبكي في كل صلاة، وكانوا يرون أنه يذكر الموت والقيامة في صلاته فيبكي هذا البكاء .
الأمر السادس: فهو أن تفرغ قلبك لها، وأن تؤثرها على ما سواها مع مجانبة الصوارف و الشواغل التي تؤثر في القلب: وقد ذكر هذا المعنى الحافظ ابن كثير رحمه الله في[ تفسيره 5/456] حيث قال: 'والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، حينئذ تكون راحة له وقرة عين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد والنسائي عن أنس رضي الله عنه عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ]' وكان محمد بن المنكدر رحمه الله:' يقول أني لأدخل في الليل، فيهولني، فينقضي، وما قضيت منه أربي ' يقول: أدخل في الليل لأصلي صلاة الليل، فأشرع فيها، فينقضي الليل بأجمعه ولم أشبع، ولم أقض نهمة نفسي، وذلك لاستغراقه في هذه الصلاة، وقد قال سعد بن معاذ رضي الله عنه:' فيّ ثلاث خصال لو كنت في سائر الأحوال أكون فيهن لكنت أنا أنا: إذا كنت في الصلاة لا أحدث نفسي بغير ما أنا فيه، و إذا سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع في قلبي ريب فيه، وإذا كنت في جنازة لا أحدث نفسي بغير ما تقول أو يقال لها' . يعني من الحساب .
وقد قالوا لعامر بن عبد القيس، أتحدث نفسك في الصلاة؟ قال:' أو شيء أحب إلي من الصلاة أحدث به نفسي؟' قالوا: إنا لنحدث أنفسنا في الصلاة !! قال: أبالجنة والحور؟ قالوا: لا، بأهلينا وأموالنا . فقال:' لئن تختلف الأسنة فيّ أحب إلي' أي من أن أحدث نفسي، يعني بشيء من حطام الدنيا وأنا في هذه الصلاة !! وهذا عامر بن عبد القيس قيل له: أما تسهو في صلاتك؟ قال: أو حديث أحب إلى من القرآن أنشغل فيه؟ هيهات .. مناجاة الحبيب تستغرق الإحساس. بعضنا ربما يكون إماماً ويسجد للسهو في اليوم مراراً !! وقد اشتكى بعض الناس من إمام لهم يسهو في اليوم الواحد في ثلاثة فروض هذه التي يسجد فيها للسهو!! فأين القلب؟ هذا قلبه مشغول.(/9)
فينبغي للعبد أن يفرغ قلبه .. فالمرأة- مثلاً- إذا جاءت إلى الصلاة لا تجعل شيئاً على النار تحتاج إلى مراقبته عن قريب، و إذا كان لديها طفل، فإنها تشغله في مكان آمن لئلا ينشغل قلبها عليه، ولا تحتاج أن تتجوز في صلاتها من أجل ملاحظة هذا الطفل، كما أنها لا تجعله بجانبها لكي لا يشوش عليها .. وكذلك من كان في انتظار مكالمة مهمة أو نحو ذلك، أو عنده بعض المكالمات، وهو يريد أن يصلي الليل مثلاً، أو يتطوع، فإنه ينتهي من هذه المكالمات، وهكذا في الفريضة يُبكر قبل الأذان، ويقضي حوائجه، ويفرغ من هذه الأمور المقلقة له، ثم يدخل في الصلاة وهو فارغ القلب لا يحدث نفسه بشيء سواها .. وهذا الحسن رحمه الله يقول: إذا قمت إلى الصلاة قانتاً فقم كما أمرك الله، و إياك والسهو والالتفات، إياك أن ينظر الله إليك وتنظر إلى غيره،وتسأل ربك الجنة وتعوذ به من النار وقلبك ساه لا تدري ما تقول بلسانك، الله ينظر إليك، ولربما كنت تفكر في بعض الأمور المحرمة، ولربما نظر الله إليك وأنت تفكر في أمور حقيرة، فربما كان الواحد يصلح شيئاً تافهاً في بيته، لربما كان يصلح مسلاة لصبي، ثم يقوم يصلي وقلبه مشغول بإصلاحها، والله ينظر إليه ويطلع عليه، فهذا لا يليق في أي حال من الأحوال، فينبغي التفطن لهذه المعاني.
وللأسف نحن عندما كنا نعيش بعيدا عن هذه الأحوال أصبحنا نستغرب منها، ولقد حدثني جماعة من الناس عن رجل من المعاصرين- وهو من العوام وليس من طلبة العلم ولا من العلماء- أنه إذا قام يصلي فإن أهله أو من بجانبه يحتاجون إلى تنبيهه إذا قرب وقت الأذان من أجل أن يوجز في صلاته؛ لأنه يستغرق في صلاته، وينسى كل شيء . كان هذا الرجل يتطوع بعد صلاة العشاء في المسجد النبوي، وكان بعض الحراس يعرفونه، وهو رجل يسكن المدينة من عشرات السنين، فكان إذا قرب وقت إغلاق الأبواب بعد صلاة العشاء بمدة معلومة يأتون إليه قبل ذلك بنحو عشر دقائق وينبهونه من أجل أن يتفطن، من أجل أن يُجوٌز في صلاته. و امرأته كانت تأتيه قبيل الأذان الأول وهو يصلي فتنبهه من أجل أن يجوز فيخرج إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تفتح أبوابه من الأذان الأول .. حدثني عن هذا بعض جيرانه، وبعض من عرفه منذ زمن طويل، وحدثني عن هذا ابنه بعد أن مات -رحمه الله - . هذا مثال واقعي ' رجل من العوام يحصل له هذا الاستغراق والخشوع '
والأمر السابع مما يورث الخشوع هو تدبر القرآن: يقول ابن جرير الطبري رحمه الله: عجبت لمن يقرأ القرآن ولا يعرف معانيه كيف يتلذذ بقراءته؟ وجرب هذا في نفسك، اقرأ تفسير بعض الآيات، ثم اسمعها في الصلاة كيف تجد الفرق؟ بل وربما تكلم الإمام أو تكلم غيره في صلاة التراويح عن تفسير بعض الآيات فإذا قرئت؛ رأيت فرقاً شاسعاً بينها وبين غيرها من الآيات التي لم تُفسر، وهذا شيء مشاهد . فمعرفة معاني القرآن تجعل القلب يستغرق في تدبره والتفكر في معانية، حتى أن القلب يخشع عند ذلك، بل لربما خشع الإنسان عند تسميع القرآن، يسمع لغيره قد لا يتحمل، وكان أبو بكر رضي الله عنه قريب الدمعة، كثير البكاء، لا يتمالك نفسه إذا صلى، ولذلك لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم وأمر أن يصلى أبو بكر بالناس اعتذرت عنه عائشة رضي الله عنها بأنه رجل رقيق لا يتمالك إذا صلى وقرأ القرآن فإنه يبكي.
فأقول: معرفة معاني القرآن؛ طريق للتدبر. والتدبر طريق للفهم والاتعاظ والاعتبار والخشوع؛ لذلك كان السلف رضي الله عنهم يقرأ الواحد منهم آية واحدة، ويقوم يرددها إلى الفجر يبكي . هذا مالك بن دينار رحمه الله كان يقرأ قول الله عز وجل:} لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ... [21]{ [سورة الحشر] ثم يقول: ' أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صُدع قلبه' . ويقول ابن مسعود: ' إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم' وهم الخوارج . هذه صفة قبيحة ينبغي للمؤمن أن يتباعد عنها لئلا يكون متصفاً بصفة هؤلاء الذين ذمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد قال أبو عمران الجوني رحمه الله:' والله لقد صرف إلينا ربنا في هذا القرآن ما لو صرف إلى الجبال لمحاها ' وكان الحسن يقول:' يا ابن أدم إذا وسوس لك الشيطان في خطيئة، أو حدثت بها نفسك فاذكر عند ذلك ما حملك الله في كتابه مما لو حملته الجبال الرواسي لخشعت وتصدعت . أما سمعته يقول:} لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ... [21]{ [سورة الحشر]' .(/10)
الأمر الثامن:مما يورث الخشوع: وهو ترك التكلف في كل شأن من الشؤون: ولذلك أقول: من الأحسن أن يصلي الإنسان في كل مكان لا يتكلف لأحد فيه، وأن يصلي في مكان لا يكون بجانبه أحد قد يجد نفسه تشده لأن يتكلف لهذا الإنسان، يجعل الله أمام ناظره ولا يلتفت . وهناك أمر يذهب الخشوع على الإمام، وعلى المأمومين، وهو التكلف في الدعاء، حينما يتكلف الإنسان أن يأتي بالدعاء على غير سجيته المعهودة فيه كما لو كان من عادة الإنسان أنه يلحن، فصار يحاول أن يأتي بالدعاء موزوناً معرباً، فإن ذلك يكون مدعاة لذهاب الخشوع وليس هذا دعوة للحن، و إنما أقول: ينبغي في الدعاء أن يحرص الإنسان أن يدعو على سجيته، ولهذا فإن شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله لفت النظر إلى هذا المعنى, وكان يقول: إن الله يسمع دعاء الداعين سواء كان مسجوعاً، أو ملحوناً، سواء كان معرباً أو غير معرب بمعنى أنه إذا تكلف الإنسان السجع في الدعاء، فإن ذلك يذهب عليه الخشوع، وكذلك إذا كان العبد يتكلف الإعراب فيه، يعني أن يأتي به على وزان لغة العرب فإن ذلك يذهب الخشوع . يقول شيخ الإسلام: بل ينبغي للداعي إذا لم تكن عادته الإعراب أن لا يتكلف الإعراب، وقد قال بعض السلف إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع، يقول شيخ الإسلام: ' وهذا كما يكره تكلف السجع في الدعاء فإذا وقع بغير تكلف فلا بأس به، فإن أصل الدعاء في القلب واللسان تابع للقلب ' . فإذا كانت العناية بإصلاح اللسان فإن ذلك يؤثر في القلب ولا بد . يقول: ومن جعل همته في الدعاء تقويم لسانه أضعف توجه قلبه, ولهذا يدعو المضطر بقلبه دعاء يفتح عليه لا يحضره قبل ذلك، وهذا أمر يجده كل مؤمن في قلبه' ولهذا يقول شيخ الإسلام: أن الدعاء يجوز بالعربية وبغير العربية، والله يعلم مقصد الداعي ومراده وإن لم يُقوم لسانه، فإنه يعلم ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تنوع الحاجات '[مجموع الفتاوى 22/488-489] .
وهذا أمر مهم قل من يفطن له، بل حتى الموعظة إذا كان هم الملقي هو توقي اللحن في الخطبة، أو في الموعظة، أو في المحاضرة، فإن ذلك يؤثر في وقعها على القلوب، قد يكون الكلام الذي يقال في ذاته من الكلام المؤثر، ولكن لما كان شُغل الملقي بإصلاح لسانه وتقويمه مخافة اللحن- ولا شك أن اللحن قبيح فاللحن في الكلام كالجدري في الوجه- ولهذا السبب قل التأثير، وهذا شيء مشاهد، تسمع الناس يتأثرون كثيراً ببعض المواعظ والخطب، والمحاضرات ويبكون عند حضورها، ويتأثرون غاية التأثر، وإذا سمعتها تجد قلبك حاضراً، وقد يكون من الأسباب عدم تكلف صاحبه في إلقاء الكلام عند محاضرته، فتجد لحناً فجاً فاحشاً لا يستطيع أن يسمعه من أجاد العربية، بل ينفر من أول جملة يسمعها فيه، بينما تجد الآخرين الذين لا ينظرون إلى هذه الجوانب يستهويهم هذا الكلام، ويعجبهم ويتأثرون به غاية التأثر، ولربما تبرعوا بمئات الألوف من هذا الشريط الذي يسمعه الآخر الذي يعرف لحن الكلام، ولا يستطيع أن يواصل جملة واحدة فيه لركاكته وضعفه وكثرة اللحن فيه، بينما هؤلاء يتأثرون به ويعجبهم غاية الإعجاب، ما السبب في هذا؟ السبب هو أن هذا يتكلم من غير تكلف، ولم تكن عنايته بإصلاح منطقه ولسانه، و إنما كانت هذه المعاني في قلبه، فتكلم بكلمات صادقه من قلب خاشع؛ فأثر ذلك في سامعيه، والقلوب بينها إشارات وأمور لا يدركها حس الإنسان فالقلب يدرك بعض المعاني المعبرة عن الحب، وبعض المعاني المعبرة عن الانقباض، فتجد قلبه ينقبض لفلان وفلان ولا يلقاه إلا تكلفاً, كما أن القلب يتأثر حينما يسمع نصيحة يدرك أن هذا الكلام صدر من قلب مشفق، فيتأثر، وكذلك أيضاً تجد هذا الإنسان يتأثر بالموعظة إذا خرجت من قلب عامر بالخشوع والخضوع، وأما إذا كانت المواعظ تلقى على الناس من قلب صلب لا يتأثر أو يقرأ القرآن، صاحب قلب قاس، فأنى للناس أن يتأثروا ؟ هذه الآية يقرؤها هذا الإمام، ويقرؤها آخر، هذا يتأثر ويتأثر من حوله، ومن يسمع قراءته غاية التأثر، والآخر يمر على مئات الآيات من أمثالها ولا يحرك فيه ساكناً، ولا يحرك فيمن معه، ما السبب ؟ السبب هو هذا المعنى، والله تعالى أعلم
تاسعاً:ثمرات الخشوع:
1- أول هذه الثمرات والآثار السلوكية: هو أن الخشوع يطرد الشيطان، لأن الشيطان لا يجتمع مع الخشوع إطلاقاً، فالخواطر والوساوس تشغل القلب، والخشوع حضور القلب بكليته، وصاحب القلب الخاشع لا يجد الشيطان طريقاً في وساوسه، وخواطره إلى قلبه، ولذلك قال من قال من أهل العلم:' من خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان'[ انظر المدارج].
2- الرفعة وعلو المنزلة: 'ومن تخشع لله تواضعًا-كما قال ابن مسعود- رفعه الله يوم القيامة'[ الزهد لوكيع] .(/11)
3- وأما الأمر الثالث: فهو بلوغ المرام وتحصيل المطلوب: الله عز وجل يقول:} قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ[1]الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[2]{ [سورة المؤمنون] فذكر ذلك في أول صفاتهم وهي الفلاح الذي قد حكم الله به بطريقة محققة بالتعبير بقد :} قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ[1]{ [سورة المؤمنون] وهو تحصيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، قال رجل للحسن: أوصني، قال:' رطب لسانك بذكر الله، وند جفونك بالدموع من خشية الله، فقل من طلبت لديه خيراً فلم تدركه'[ الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا] . فمن كان بهذه المثابة حصل له مطلوبه من ربه تبارك وتعالى، فأكرمه وقربه .
4- والأمر الرابع هو: أن الخشوع يورث صاحبة أخلاقاً محمودة: وذلك أن الخشوع أصل من أصول الأخلاق، وأساس من أسسها كما قال ابن القيم رحمه الله:' فالكبر والمهابة والدناءة أصل الأخلاق المذمومة، والكبر يقابل الخشوع، والخشوع يقابله الصلف و التعالي، والجفاء والرعونة والدناءة، وأما الخشوع فهو عكس ذلك، فهو أصل الأخلاق الفاضلة، كالصبر والشجاعة، والعدل والمروءة، والعفة والسيادة، والجود والحلم، والعفو والصفح، والاشتمال والإيثار، وعزة النفس عن الدناءات، والتواضع والقناعة، والصدق والأخلاق، والمكافأة على الإحسان بمثله أو أفضل، والتغافل عن زلات الناس، وترك الانشغال بما لا يعنيه، وسلامة القلب من تلك الأخلاق المذمومة ونحو ذلك، فكلها ناشئة من الخشوع وعلو الهمة. والله سبحانه أخبر عن الأرض بأنها تكون خاشعة، ثم ينزل عليها الماء؛ فتهتز وتربوا، وتأخذ زينتها وبهجتها، فكذلك المخلوق منها إذا أصاب حظه من التوفيق-إلى أن قال-: فمن علت همته، وخشعت نفسه؛ اتصف بكل خلق جميل، ومن دنت همته، وطغت نفسه، اتصف بكل خلق ردي'[الفوائد ص143-144 –بتصرف-] .
5- الخامس: أن الخشوع يرد العبد إلى حكم العبودية: والكبر يرفعه عن هذا المقام، ولذلك كان الكبر لا يتناسب إطلاقاً مع عبودية القلب، ومع عبودية العبد، فالكبر كمال لله عز وجل، أما المخلوق فكماله في الخشوع والتواضع و الإخبات، فالعبد لو ترك مع نفسه فإن فيه صفات مذمومة قبيحة تدعو إليها النفس من التعالي على الخلق، والأشر؛ فيخرج عن طوره أصله الذي خُلق له، ويثب على حق ربه من الكبرياء والعظمة، فينازع ربه ذلك، وقد أمر العبد بالسجود- كما قال ابن القيم رحمه الله- خضوعاً لعظمة ربه وفاطره، وخشوعاً له، وتذللاً بين يديه وانكسارًا له، فيكون هذا الخشوع والخضوع، والتذلل رداً له إلى حكم العبودية، فيتدارك بذلك ما حصل له من الهفوة والغفلة والإعراض، الذي خرج به عن أصله، فتمثل له حقيقة التراب الذي خلق منه وهو يضع أشرف شيء منه وأعلاه وهو الوجه، وقد صار أعلاه أسفله خضوعاً بين يدي ربه الأعلى، وخشوعاً له، وتذللاً لعظمته، و استكانة لعزته مردداً: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، يقول ابن القيم رحمه الله :' وهذه غاية الخشوع الظاهر فإن الله سبحانه خلقه من الأرض التي هي مذللة للوط بالأقدام، واستعمله فيها، ورده إليها، ووعده بالإخراج منها، فهي أمه وأبوه، وأصله وفصله، فضمته حياً على ظهرها، وميتاً في بطنها، وجعلت له طهوراً و مسجدًا، فأمر بالسجود إذ هو غاية خشوع الظاهر، وأجمع العبودية لسائر الأعضاء، فيعفر وجهه في التراب؛ استكانة وتواضعاً وخضوعاً، وإلقاء باليدين، ويقول مسروق لسعيد بن جبير: ' ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب لله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتقي الأرض بشيء قصدًا بل إذا اتفق له ذلك فعله، ولذلك سجد في الماء والطين كما جاء في الصحيحين[كتاب الصلاة لابن القيم ص210 –بتصرف-] .
لم يكن يتكلف شيئاً دون جهته ووجهه، إذا صلى صلى على التراب، فلم يكن يضع رداءه صلى الله عليه وسلم دون وجهه، وإذا صلى على الحصير لم يتكلف وضع وجهه على الأرض مباشرة من دون حصير
6- أما الأمر السادس والأخير من آثار الخشوع: هو ما يحصل به من تفاضل الأعمال وتفاوتها: فكم من الفرق بين اثنين كل منهما قائم في الصف يصلي، هذا خاشع وهذا لم يخشع؟ فلا شك أن هذه الصلاة التي حصل بها هذا الخشوع أنها في غاية الكمال، ويؤجر عليها غاية الأجر، هذه سورة قل هو الله أحد، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدل ثلث القرآن، وقد قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: أن هذه السورة مع ما فيها من الثواب والأجر والمنزلة إلا أن العبد قد يقرأ آية سواها ويخشع فيها، فيكون ذلك أعظم من قراءته هذه السورة، بل يقول: إن العبد قد يقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، مع حضور القلب واتصافه بمعانيها فيكون ذلك أفضل في حقه من قراءة سورة قل هو الله أحد مع الجهل والغفلة، ويقول: والناس متفاضلون في فهم هذه السورة وما اشتملت عليه كما أنهم متفاضلون في فهم سائر القرآن.
عاشراً:الأمور التي تنافي الخشوع:(/12)
أولها: كثرة الحركة سواء في الصلاة أو خارج الصلاة: كما قلت لكم في الذي يمشي ويخطر بيديه هكذا في مشيته، فهو كثير الحركة، فهذا أبعد ما يكون عن الخشوع والوقار، وقلة الحركة تنبئ عن سكينة وتؤدة ووقار وخشوع، وكذلك في الصلاة، والله عز وجل يقول}وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ[238]{ [سورة البقرة] والمراد به أن يكون العبد ساكناً مع طول القيام فيها، لا يلتفت، ولا يرفع بصره، ولا يتحرك، ولا ينشغل بشيء من جوارحه، أو ببصره عن ما هو بصدده، ' لأن الخشوع يتضمن السكينة والتواضع جميعاً؛ ولهذا نقل عن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يعبث بلحيته فقال:' لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه' يعني: سكنت وخضعت . والله يقول:} وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ...[39]{ [سورة فصلت] . فأخبر أنها بعد الخشوع تهتز، والاهتزاز حركة، وتربو، والربو: الارتفاع ، فُعلم أن الخشوع فيه سكون و انخفاض، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حال ركوعه: : [اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعِظَامِي وَعَصَبِي...]رواه مسلم . فوصف نفسه بالخشوع في حال الركوع لأن الراكع ساكن متواضع ' [ما بين الأقواس من كلام الشيخ ابن تيمية].
الأمر الثاني: هو رفع البصر: وهو منهي عنه في الصلاة لكونه مما ينافي الخشوع، والله عز وجل قد ذكر خشوع أهل الموقف فقال:} فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ[6]خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ ...[7]{ [سورة القمر] .وقال :} يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ[43]خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ...[44]{ [سورة المعارج] وقال: :} وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ...[45]{ [سورة الشورى] . أي: أنهم لا يحركون أبصارهم يمنة ويسرة، وينظرون إلى أعلى، ولا يحركون جوارحهم، وإنما ينظرون من طرف خفي يُسارقون فيه النظر مسارقة. هذا ذكره بمعناه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في 'تعارض العقل والنقل' وذكر نحو ذلك أيضاً في الفتاوى.[ درء التعارض 7/ 24، الفتاوى 6/ 578].
الحادي عشر:السلف والخشوع:
هذا إمامنا و قائدنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، وقد غفر ما تقدم من ذنبه، وصفه عبد الله بن الشخير كما أخرج أبو داود والنسائي بإسناد صحيح قال:'رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنْ الْبُكَاءِ'. ويقول ابن مسعود: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [اقْرَأْ عَلَيَّ قُلْتُ] آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ: [فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي] فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ }فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا[41]{ [سورة النساء] قَالَ: [أَمْسِكْ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ]رواه البخاري ومسلم . وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: ' مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ:} أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ...[16]{ [سورة الحديد] إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ 'رواه مسلم. فأنت ! كم يمضي عليك و أنت تسمع القرآن، وتشهد مع الناس الصلاة، وقلبك لا يتحرك؟!(/13)
وكان ابن عمر إذا تلا هذه الآية:} أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ...[16]{ [سورة الحديد] قال:' بلى يارب 'ويبكي حتى تبل الدموع لحيته[الدر المنثور]. وقد قال القرطبي رحمه الله عند تفسير هذه الآية: ' كما كانت هذه الآية سبباً في توبة الفضيل بن عياض، وعبد الله بن مبارك، وقد سئل عبد الله بن مبارك عن بدء زهده و توبته فقال: كنت يوماً مع إخواني في بستان لنا وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل، ونمنا وكنت مولعاً بضرب العود والطبول، فقمت في بعض الليل، فضربت بصوت عال يقال له: راشين السحَر، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود في يدي لا يجيبني إلى ما أريد فإذا به ينطق كما ينطق الإنسان يقول:} أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ...[16]{ [سورة الحديد] فقلت: بلى والله . فكسرت العود وصرفت ما كان عندي من الناس والأصحاب، فكان هذا أول زهدي وتشميري . وأما الفضيل بن عياض فكان سبب توبته أنه عشق امرأة فواعدته ليلاً، فجاء يرتقي الجدران، وبينما هو يتسور ليصل إليها سمع قارئا يقرأ:} أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ...[16]{ [سورة الحديد] فرجع وهو يقول: بلى والله قد آن . فأواه الليل إلى خربة وبها جماعة من السابلة من المسافرين وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلاً يقطع الطريق، وهم لم يشعروا بمكانه، فقال: أوّاه، أراني بالليل أسعى في معاصي الله، وقوم من المسلمين يخافونني، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام . وفي بعض الروايات أنه قال: لهؤلاء القوم: أنا الفضيل جوزوا، يعني:امضوا في طريقكم وسفركم، والله لأجتهدن ألا أعصي الله أبداً، فرجع عن ذلك .
وأما ابن المبارك الذي عرفتم توبته فكان يوصف خشوعه بأوصاف عجيبة، كان إذا قرأ في كتابه الزهد والرقائق كأنه بقرة منحورة من كثرة البكاء، وكذا كان الفضيل في خشوعه . جاء ناس إلى الفضيل بن عياض، واستأذنوا عليه عند بابه، فلم يؤذن لهم، فقال قائل: إنه لا يخرج إليك إلا إذا سمع القرآن، فكان معهم رجل مؤذن حسن الصوت، فقال له اقرأ:} أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ[1]{ [سورة التكاثر] فقرأ ورفع بها صوته، فأشرف عليهم الفضيل، وقد بكى حتى بل لحيته بالدموع، ومعه خرقه ينشف بها الدموع من عينيه ويقول:
بلغت الثمانين أو جُزتها فماذا أُؤمل أو أنتظر
أتاني ثمانون من مولدي وبعد الثمانين ما يُنتظر
علتني السنين فأبلينني
ثم انقطع وخنقته العبرة، فقال لهم رجل أنا أكمل لكم البيت:
علتني السنون فأبلينني فَرقت عظامي وكل البصر
:} أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ...[16]{ [سورة الحديد] يقول الحسن البصري رحمه الله:'إن المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة من الله صدقوا بها، وأفضى يقينها إلى قلوبهم، وخشعت لله قلوبهم وأبدانهم وأبصارهم، وكنت والله إذا رأيتهم رأيت قوماً كأنهم رأى عين- يعني: للجنة والنار- فوالله ما كانوا بأهل جدل ولا باطل، ولا اطمأنوا إلا إلى كتاب الله، وما أظهروا ما ليس في قلوبهم، ولكن جاءهم عن الله أمر؛ فصدقوا به، فنعتهم الله في القرآن بأحسن نعت فقال:} وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا[63] { [سورة الفرقان]. قال: حلماء لا يجهلون، وإذا جُهل عليهم حلموا، يصاحبون عباد الله نهاراً بما يسمعون، ثم ذكر ليلهم خير ليل فقال:} وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا[64]{ [سورة الفرقان] تجري دموعهم على خدودهم؛ خوفاً من ربهم. فقال:'لأمر ما سهروا ليلهم، لأمر ما خشعوا نهارهم . ثم قرأ:} وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا[65]{ [سورة الفرقان] . قال: كل شيء يصيب ابن آدم، ثم يزول عنه فليس بغرام، إنما الغرام الملازم له ما دامت السماوات والأرض قال: صدق القوم والله الذي لا إله إلا هو، فعلموا وأنتم تمنون، فإياكم وهذه الأماني؛ فإن الله لم يعط عبداً بأمنيته خيراً قط في الدنيا والآخرة، وكان يقول:' يالها من موعظة لو وافقت من القلب حياة '.
فتية يُعرف التخشع فيهم كلهم أحكم القرآن غلاما
قد برى جلدهم التهجد حتى عاد جلداً مصفراً وعظاما
تتجافى عن الفراش من الخوف إذا الجاهلون باتوا نياما
بأنين وعبرة ونحيب ويظلون بالنهار صياما
يقرؤون القرآن لا ريب فيه ويبيتون سجداً وقياما(/14)
قرأ ابن عمر رضي الله عنه بـ:} وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ[1]{ فلما بلغ:} يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[6]{ [سورة المطففين] . بكى حتى خر وامتنع عن قراءة ما بعدها [الزهد لوكيع]. وبات رجل عند الربيع بن خثيم ذات ليلة، فقام الربيع يصلي، فمر بهذه الآية:} أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا...[21]{ [سورة الجاثية] . فمكث ليلة حتى أصبح يبكي بكاء شديداً لا يجاوز هذه الآية .
لهم دموع من خشوع نفوسهم ودموعها فوق الخدود غزارُ
يقول مسروق: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري صلى ليلة حتى أصبح، أو كاد يقرأ آية، ويرددها ويبكي:} أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا...[21]{ [سورة الجاثية] .
بكى الباكون للرحمن ليلاً وباتوا جمعهم لا يسأمونا
بقاع الأرض من شوق إليهم تحن شي عليها يسجدونا
وكان إبراهيم النخعي إذا سمع قوله تعالى:} إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ[1]{ [سورة الانشقاق] اضطرب حتى تضطرب أوصالة . واشتكى ثابت البناني عينه، فقال له الطبيب: اضمن لي خصلة تبرئ عينيك . قال: ما هي؟ قال: لا تبك . قال:'وما خير في عين لا تبك' [الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا].
نزف البكاء دموع عينك فأستعر عيناً لغيرك دمعها مدرارُ
من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للدموع تُعارُ
وكان عبد الله بن الزبير يسجد، فيأتي المنجنيق، فيصيب ثوبه، ولربما أصاب طرف ثوبه، وهو لا يتحرك في صلاته، ولا يرفع رأسه، ولا يلتفت . ودخل عليه رجل بيته، فإذا به يصلي، فسقطت حية على ابنه هاشم، فصاحوا: الحية! الحية! ثم قتلوها، وما قطع صلاته، ولما سئل بعد الصلاة قال:' ما شعرت بشيء من ذلك'. ويقول ثابت البناني: كنت أمر بابن الزبير وهو خلف المقام يصلي كأنه خشبه منصوبة لا تتحرك. ووصفة بعضهم إذا صلى كأنه عود من الخشوع، وكان يسجد، فلربما نزل الطير على ظهره تحسبه الطيور جذع حائط . وصلى يوماً في الحجر، فجاء حجر من المنجنيق، فضرب ثوبه فما انفتل، وما تحرك وما التفت . وذلك في حصار الحجاج للكعبة.
وكان مسلمة بن بشار في المسجد فانهدمت طائفة من المسجد، فقام الناس ولم يشعر أن أسطوانة المسجد قد انهدمت !! وهذا يعقوب الحضرمي لم يُر في زمانه مثله، بلغ من زهده أنه سُرق رداؤه عن كتفه وهو في الصلاة، ورُد إليه ولم يشعر.
محي الليل صلاة لا يقطعها إلا بدمع من الإنشغاق منسجمِ
مسبحاً لك جنح الليل محتملاً ضراً من السهد أو ضراً من الورمِ
رضية نفسه لا تشتكي سأما وما على الحب إن أخلصت من سأمِ
وهذا محمد بن إسماعيل البخاري ذُكر في قصته وترجمته أنه خرج مع قوم إلى حائط مزرعة، فقام يصلي بالناس الظهر، فلما فرغ قام يتطوع، فلما فرغ من تطوعه رفع ثوبه وقال لبعض من معه: انظروا هل ترون تحت قميصي شيئاً؟ فإذا زنبور قد أبره في ستة عشر، أو سبعة عشر موضعاً، وتورم ذلك من جسده، فقال له بعض القوم:كيف لم تخرج من الصلاة في أول ذلك؟.قال: كنت في سورة فأحببت أن أتمها . وهذا محمد بن يعقوب الأخرم يقول: ما رأينا أحسن صلاة من صلاة محمد بن نصر- يعني المروزي- كان الذباب يقع على بدنه – يعني الزنبور – ولا يذبه عن نفسه، ولقد كنا نتعجب من حسن صلاته وخشوعه وهيبته للصلاة، كان يضع ذقنه على صدره، فينتصب كأنه خشبه مسنودة. ووصفه آخر يقول: رأيت محمد بن نصر ما رأيت أحسن صلاة منه، ولقد بلغني أن زنبوراً قعد على جبهته، فسال الدم على وجهه، ولم يتحرك .
وكان كرز بن وبرة إذا دخل في الصلاة لا يرفع طرفه يمنة ولا يسرة، وكان من المخبتين، وربما كُلم خارج الصلاة فلا يُجيب إلا بعد مدة من شدة استغراقه في التفكير . يقول الذهبي رحمة الله -معلقاً على ذلك-: هكذا كان زهاد السلف، وعبادهم، أصحاب خوف وخشوع وتعبد . ووقع حريق في بيت على بن الحسين، وهو ساجد، فجعلوا يقولون: يا ابن رسول الله النار..النار، فما رفع رأسه حتى أطفأت، فقيل له في ذلك فقال:' ألهتني عنها النار الأخرى ' . وكان مسلم بن يسار يقول لأهله إذا دخل في صلاته:'تحدثوا فلست أسمع حديثكم'.
هذه نماذج من رجال السلف، وحينما أذكر أشياء من ذلك إنما أذكر ما قرب منه، وأما الأمور التي قد تنبو عنها الأسماع، ولا تدركها كثير من العقول؛ فإني أتجاوز ذلك أجمع، ومع ذلك كثير منا يظن أن هذه الأمثلة والنماذج سواء في الخشوع، أو في الإخلاص، أو في التوكل، أو في التفكر، أو ما سيأتي في الورع، وما سبق في اليقين، وغير ذلك أن هذه من الأمور التي لا يمكن الوصول إليها، وأنها بعيدة المنال !! وليس الأمر كذلك بل هي أمور تحصل للعبد بالمجاهدة، ولهذا يقول محمد بن المنكدر' كابدت الصلاة عشرين سنة وتلذذت بها عشرين سنة ' هذا آخر الكلام عن الخشوع(/15)
الخصائص الأخلاقية والسلوكية لأهل السنة والجماعة
رئيسي :تزكية :الأحد 11محرم 1426هـ - 20فبراير 2005 م
مفكرة الاسلام : أهل السنة والجماعة هم حملة ميراث النبوة في جانبيها العلمي والعملي، ولا شك أن أبرز الجوانب العملية في الهدي النبوي هو الجانب الأخلاقي؛ ولذلك فإن أخلاق النبوة - من الرحمة ومحبة الخير للناس، واحتمال أذاهم، والصبر على دعوتهم... إلخ ذلك- هي المنبع الذي يستقي منه أهل السنة خصائصهم السلوكية والأخلاقية، والتي لا تقل أهمية - في منظور الحق - عن ميراث العلم والهدي الذي اختص به الله هذه الفرقة الناجية بفضله ورحمته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : 'الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُدًى وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ . فَإِنَّهُ كَمَا أَرْسَلَهُ بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ فَإِنَّهُ أَرْسَلَهُ بِالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ بِلَا عِوَضٍ وَبِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ وَاحْتِمَالِهِ .
فَبَعَثَهُ بِالْعِلْمِ وَالْكَرَمِ وَالْحِلْمِ عَلِيمٌ هَادٍ كَرِيمٌ مُحْسِنٌ حَلِيمٌ صَفُوحٌ... فَهُوَ يعلم وَيَهْدِي وَيُصْلِحُ الْقُلُوبَ وَيَدُلُّهَا عَلَى صَلَاحِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِلَا عِوَضٍ . وَهَذَا نَعْتُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ كُلٌّ يَقُولُ {...مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ...[57]}[سورة الفرقان]... وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا . وَهُوَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ وَيُحِبُّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ . وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا : وَقَدْ يُحِبُّ الشَّجَاعَةَ وَلَوْ عَلَى قَتْلِ الْحَيَّاتِ وَيُحِبُّ السَّمَاحَةَ وَلَوْ بِكَفِّ مِنْ تَمَرَاتٍ . وَالْقُرْآنُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَيُحِبُّ الصَّابِرِينَ . وَهَذَا هُوَ الْكَرَمُ وَالشَّجَاعَةُ'. مجموع الفتاوى: [16 / 313-317] .
من الخصائص الأخلاقية والسلوكية لأهل السنة والجماعة:
1- يأتمون بالكتاب والسنة، سواء في علاقتهم مع بعضهم، أو مع غيرهم: ' يَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلَاءِ وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ وَيَدْعُونَ إلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ:'[ أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا] رواه الترمذي وأبوداود والدارمي وأحمد.
وَيَنْدُبُونَ إلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك , وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك , وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك ; وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ , وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ ; وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالْبَغْيِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقِّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ ; وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَافِهَا وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ أَوْ يَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا أَوْ غَيْرِهِ: فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .' مجموع الفتاوى: [3/ 158] .
2- وأهل السنة لذلك هم أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فهذا هو الأصل الأول والقاعدة العظيمة التي جعلتهم خير أمة أخرجت للناس، ولكنهم يقومون بذلك على ما توجبه الشريعة، فيلتزمون في الوقت نفسه أصلاً آخر وقاعدة أخرى عظيمة، هي الحفاظ على الجماعة، وتأليف القلوب واجتماع الكلمة، ونبذ التفرق والاختلاف . 'يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ . وَيَرَوْنَ إقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ مَعَ الْأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ . وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ لِلْأُمَّةِ وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:'[ الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا- وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ صلى الله عليه وسلم-]رواه البخاري ومسلم. وَقَوْلُهُ : '[مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ: كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ] رواه البخاري ومسلم-واللفظ له- .' مجموع الفتاوى: [ 3/158].(/1)
'وَيَجِبُ عَلَى أُولِي الْأَمْرِ وَهُمْ عُلَمَاءُ كُلِّ طَائِفَةٍ وَأُمَرَاؤُهَا وَمَشَايِخُهَا أَنْ يَقُومُوا عَلَى عَامَّتِهِمْ وَيَأْمُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ ; فَيَأْمُرُونَهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم' .مجموع الفتاوى: [ 3/ 423] .
'وَيَزِنَ جَمِيعَ مَا خَاضَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ غَيْرَ مُتَّبِعِينَ لِهَوَى : مِنْ عَادَةٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ أَوْ رِئَاسَةٍ أَوْ سَلَفٍ ; وَلَا مُتَّبِعِينَ لِظَنِّ : مِنْ حَدِيثٍ ضَعِيفٍ أَوْ قِيَاسٍ فَاسِدٍ - سَوَاءً كَانَ قِيَاسَ شُمُولٍ أَوْ قِيَاسَ تَمْثِيلٍ - أَوْ تَقْلِيدٍ لِمَنْ لَا يَجِبُ اتِّبَاعُ قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ ; فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ فِي كِتَابِهِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَيَتْرُكُونَ اتِّبَاعَ مَا جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ مِنْ الْهُدَى' مجموع الفتاوى: [ 12 /468].
3- فأهل السنة والجماعة، ولاؤهم الأول للحق وحده: ومن هذا المنطلق فإنهم ينظرون إلى كل فرد، أو طائفة، أو تجمع، على هذا الأساس وحده، وليس على أساس من التعصب الجاهلي للقبيلة، أو المدينة، أو المذهب، أو الطريقة، أو التجمع، أو الزعامة .
'وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُعَلِّقَ الْحَمْدَ وَالذَّمَّ وَالْحُبَّ وَالْبُغْضَ وَالْمُوَالَاةَ وَالْمُعَادَاةَ وَالصَّلَاةَ وَاللَّعْنَ بِغَيْرِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّقَ اللَّهُ بِهَا ذَلِكَ : مِثْلَ أَسْمَاءِ الْقَبَائِلِ وَالْمَدَائِنِ وَالْمَذَاهِبِ وَالطَّرَائِقِ الْمُضَافَةِ إلَى الْأَئِمَّةِ وَالْمَشَايِخِ ; وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُرَادُ بِهِ التَّعْرِيفُ ... فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَجَبَتْ مُوَالَاتُهُ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانَ وَمَنْ كَانَ كَافِرًا وَجَبَتْ مُعَادَاتُهُ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ. وَمَنْ كَانَ فِيهِ إيمَانٌ وَفِيهِ فُجُورٌ أُعْطِيَ مِنْ الْمُوَالَاةِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَمِنْ الْبُغْضِ بِحَسَبِ فُجُورِهِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ بِمُجَرَّدِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي كَمَا يَقُولُهُ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَلَا يُجْعَلُ الْأَنْبِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ بِمَنْزِلَةِ الْفُسَّاقِ فِي الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ' مجموع الفتاوى: [28/ 227- 229] .
4- وأهل السنة والجماعة لذلك يوالي بعضهم بعضًا، ولاءً عامًا -بغض النظر عن انتماءاتهم المختلفة لحزب ، أو جماعة، أو اتجاه، أو اجتهاد معين - بل الأصل أن يكونوا جميعًا، يدًا واحدةً، ويعذر بعضهم بعضًا، ولا يسارعون إلى اتهام أو تضليل بعضهم بعضًا.
'الْوَاجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَيُؤَخِّرَ مَنْ أَخَّرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَيُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَيُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ; وَيَنْهَى عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَأَنْ يَرْضَى بِمَا رَضِيَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ; وَأَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ يَدًا وَاحِدَةً فَكَيْفَ إذَا بَلَغَ الْأَمْرُ بِبَعْضِ النَّاسِ إلَى أَنْ يُضَلِّلَ غَيْرَهُ وَيُكَفِّرَهُ وَقَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَهُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ; وَلَوْ كَانَ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ قَدْ أَخْطَأَ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَخْطَأَ يَكُونُ كَافِرًا وَلَا فَاسِقًا بَلْ قَدْ عَفَا اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ' مجموع الفتاوى: [3/420] .
5- وأهل السنة والجماعة لا يمتحنون الناس بأمور ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يتعصبون لأسماء، أو شعارات، أو تجمعات، أو زعامات: بل يوالون ويعادون على أساس الدين والتقوى، ولا يتعصبون إلا لجماعة المسلمين، بمعناها الحقيقي، وهي الجماعة التي ترفع راية القرآن والسنة، وهدي السلف الصالح -رضي الله عنهم- .(/2)
'...بَلْ الْأَسْمَاءُ الَّتِي قَدْ يَسُوغُ التَّسَمِّي بِهَا مِثْلُ انْتِسَابِ النَّاسِ إلَى إمَامٍ كَالْحَنَفِيِّ وَالْمَالِكِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ أَوْ إلَى شَيْخٍ كَالْقَادِرِيِّ والعدوي وَنَحْوِهِمْ أَوْ مِثْلُ الِانْتِسَابِ إلَى الْقَبَائِلِ : كَالْقَيْسِيِّ وَالْيَمَانِيِّ وَإِلَى الْأَمْصَارِ كَالشَّامِيِّ وَالْعِرَاقِيِّ وَالْمِصْرِيِّ . فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَمْتَحِنَ النَّاسَ بِهَا وَلَا يُوَالِيَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَلَا يُعَادِيَ عَلَيْهَا بَلْ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ مِنْ أَيِّ طَائِفَةٍ كَانَ' مجموع الفتاوى: [3/ 416] .
'فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ هَذَا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَفْتَرِقَ وَتَخْتَلِفَ حَتَّى يُوَالِيَ الرَّجُلُ طَائِفَةً وَيُعَادِيَ طَائِفَةً أُخْرَى بِالظَّنِّ وَالْهَوَى ; بِلَا بُرْهَانٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ بَرَّأَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ كَانَ هَكَذَا . فَهَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْبِدَعِ ; كَالْخَوَارِجِ الَّذِينَ فَارَقُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ مَنْ خَالَفَهُمْ . وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَهُمْ مُعْتَصِمُونَ بِحَبْلِ اللَّهِ وَأَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ أَنْ يُفَضِّلَ الرَّجُلُ مَنْ يُوَافِقُهُ عَلَى هَوَاهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَتْقَى لِلَّهِ مِنْهُ!... وَكَيْفَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُمَّةِ بِأَسْمَاءِ مُبْتَدَعَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ؟ وَهَذَا التَّفْرِيقُ الَّذِي حَصَلَ مِنْ الْأُمَّةِ عُلَمَائِهَا وَمَشَايِخِهَا ; وَأُمَرَائِهَا وَكُبَرَائِهَا هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ تَسَلُّطَ الْأَعْدَاءِ عَلَيْهَا . وَذَلِكَ بِتَرْكِهِمْ الْعَمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ...[14]}[سورة المائدة]. فَمَتَى تَرَكَ النَّاسُ بَعْضَ مَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ وَإِذَا تَفَرَّقَ الْقَوْمُ فَسَدُوا وَهَلَكُوا وَإِذَا اجْتَمَعُوا صَلَحُوا وَمَلَكُوا ; فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةَ عَذَابٌ' مجموع الفتاوى: [3/419 –421] .
6- أهل السنة والجماعة يعملون دائمًا في إطار من الاجتماع والتآلف ومحبة الخير لكل المسلمين، والعفو والتجاوز عن إساءة المسيء، وخطأ المخطيء، ودعوته إلى الصواب، والدعاء له بالهداية والرشاد والمغفرة:
' وَتَعْلَمُونَ أَنَّ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِمَاعِ الدِّينِ : تَأْلِيفَ الْقُلُوبِ وَاجْتِمَاعَ الْكَلِمَةِ وَصَلَاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ وَأَهْلُ هَذَا الْأَصْلِ : هُمْ أَهْلُ الْجَمَاعَةِ كَمَا أَنَّ الْخَارِجِينَ عَنْهُ هُمْ أَهْلُ الْفُرْقَةِ . وَجِمَاعُ السُّنَّةِ : طَاعَةُ الرَّسُولِ... وَأَوَّلُ مَا أَبْدَأُ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ : مَا يَتَعَلَّقُ بِي فَتَعْلَمُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْكُمْ - أَنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ يُؤْذَى أَحَدٌ مِنْ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ - فَضْلًا عَنْ أَصْحَابِنَا - بِشَيْءِ أَصْلًا لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا وَلَا عِنْدِي عَتْبٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ . وَلَا لَوْمٌ أَصْلًا بَلْ لَهُمْ عِنْدِي مِنْ الْكَرَامَةِ وَالْإِجْلَالِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا كَانَ كَلٌّ بِحَسَبِهِ وَلَا يَخْلُو الرَّجُلُ . إمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُصِيبًا أَوْ مُخْطِئًا أَوْ مُذْنِبًا . فَالْأَوَّلُ : مَأْجُورٌ مَشْكُورٌ . وَالثَّانِي مَعَ أَجْرِهِ عَلَى الِاجْتِهَادِ : فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ مَغْفُورٌ لَهُ . وَالثَّالِثُ : فَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ وَلِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ ...وَتَعْلَمُونَ : أَنَّا جَمِيعًا مُتَعَاوِنُونَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاجِبٌ عَلَيْنَا نَصْرُ بَعْضِنَا بَعْضًا أَعْظَمَ مِمَّا كَانَ وَأَشَدَّ...
وَأَنَا أُحِبُّ الْخَيْرَ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ وَأُرِيدُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ الْخَيْرِ مَا أُحِبُّهُ لِنَفْسِي... وَأَهْلُ الْقَصْدِ الصَّالِحِ يُشْكَرُونَ عَلَى قَصْدِهِمْ وَأَهْلُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ يُشْكَرُونَ عَلَى عَمَلِهِمْ وَأَهْلُ السَّيِّئَاتِ نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ' مجموع الفتاوى: [28/ 55-57] .
من:' الخصائص الأخلاقية والسلوكية لأهل السنة والجماعة' للشيخ/محمد عبد الهادي المصري(/3)
الخصم لنظام التقاعد
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الهبة والعطية
التاريخ ... 24/10/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أعمل في إحدى المؤسسات، ويوجد بها صندوق للتأمين الخاص، ونظامه خصم مبلغ شهري في حدود 66 جم تزيد سنويًّا ثم يتم خصم حوالي 500 جم سنويًّا تزيد أيضًا سنويًّا بزيادة المرتب الشهري، وفى حالة الوفاة يتم إعطاء المشترك 28 شهرًا من قيمة المرتب الذي يصل حاليًّا بالنسبة إلى 240 جم بالإضافة إلى 5 أشهر عن كل عام خدمة بالمؤسسة، أما في حالة خروج الموظف على المعاش يحصل على مبلغ يصل إلى حوالي 300 ألف جنيه، علمًا بأن المبلغ الذي يحصل عليه الشخص في كل حالة لا يصل قيمته إلى ما تم دفعه، ويستثمر هذا الصندوق أمواله في شهادات استثمار مجموعة( أ) ذات العائد الثابت بنسبة 88 % من أمواله. نرجو من فضيلتكم إفادتنا بالرأي عن مدى كون هذا الصندوق الاشتراك به حلال أم حرام؟ جزاكم الله خيرًا.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ما يحصل عليه الموظف من معاش تقاعدي، بعد تركه للخدمة جبرًا أو اختيارًا جائز شرعًا- سواء زاد أو نقص عمَّا دفعه الموظف؛ لأن هذه الزيادة هي من باب عقود التبرعات وليست من باب المعاوضات، لأن الشركة أو المؤسسة الحكومية مثلاً عملت هذه الزيادة تشجيعًا منها ليدخل الناس في خدمتها، ومن باب الدعاية لها، ومنافسة منها للشركات والمؤسسات الأخرى، مع العلم أن الموظف ليس دائمًا يدفع أكثر مما يأخذ من الشركة، بل إذا طالت خدمته أو تأخرت وفاته فإنه يأخذ أكثر مما دفعه.
أما إذا كانت أموال الشركة محتملة لهذا الصندوق المشار إليه في السؤال- تستثمر في البيع والشراء فإن المساهم(الموظف) شريك في الربح والخسارة، وغالب شركات التأمين تمتنع عن ذلك، وإنما تعطيه قسطًا تأمينيًّا ثابتًا أو مقطوعًا، وهذا حرام؛ لأن هذا العمل عقد معاوضة، وعقود المعاوضات يجري فيها الربا عكس عقود التبرعات، وإذا كان الأمر كذلك فإن عمل هذا الصندوق غير شرعي لاشتماله على الربا بنوعيه ربا الفضل وربا النسيئة، ولما فيه من الجهالة والغرر، فضلاً عما يتعامل به عادة بالبيع والشراء من الأعيان المحرمة غالبًا كالخمور ولحم الخنزير ومشتقاتهما، وإذا كان الأمر كذلك فهذا العمل لا يجوز إن كان لك مندوحة عنه، وإن كنت مجبرًا عليه ولا خيار لك- ولا أظن الأمر كذلك- فدخولك فيه حينئذ جائز من باب الضرورة والقاعدة الشرعية: "الضرورات تبيح المحظورات" تؤيد ذلك، غير أن الضرورة تقدر بقدرها كيفًا وكمًّا، وزمانًا ومكانًا، وأخيرًا أنصحك ألا تأخذ من التأمين أكثر مما دفعت، والأولى لك عدم الدخول في هذا الصندوق التأميني. والله أعلم.(/1)
الخط عربة العلم
[ 1/3 ]
بقلم : الأديب الإسلامي معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
إنه لا يكفي في الماء أن يكون عذبًا صافيًا ليُقَدَّم للضيف ، أو ليُشْرَب بمتعة على العطش ؛ بل لابد لاكتمال اللذة أن يقدم في إناء نظيف ، وإذا أمكن أن يكون الإِناء بلوريًا فهذا يضيف إلى اللذة في شربه المتعة في النظر إلى إنائه ، ويزيد الكمال كمالاً أن يكون الكأس المقدم بالماء القراح الصافي العذب على "صينية" جميلة فيها إبداع وفن ، ويوغل في الكمال أن يكون من يقدم الماء خادمًا نظيف الثياب ، حسن الهندام ، باسم الثغر ، مؤدبًا.
والعلم مثل الماء ، له إناء يُقَدَّم فيه وهو الخط، وللخط "صينية" يوضع عليها الخط عند تقديمه وهو الورق ، وللعلم والخط والورق كاتب يطلب منه حسن الهندام ، والبشاشة والأدب .
فإذا ما قُدِّمَ الماءُ القراحُ الصافي العذب في إناء قبيح ، أو في وعاء غير نظيف ، أو في "صينية" قذرة، أو بيد متوحشة ، ووجه عبوس ، فإن جزءًا كبيرًا من اللذة يتلاشى ، ومقدارًا وافيًا من المتعة يرتفع ويختفي ، ولا يشرب المرء إلا مضطرًا ، هروبًا من العطش ، وهو هروب من ألم إلى ألم .
وكذلك العلم إذا قُدِّم بخط قبيح ، وكتابة مغلقة ، فإنّ القارئ يعاني الأمرّين ، حتى يفتح مقفلها ، ويبين مبهمها ، وقد يملها ، فيتركها ، ويستغني عنها ، مهدرًا الفائدة ، وغانمًا السلامة . ويجب أن لايعبأ بقول من يقول : "الخط ما قرئ والباقي صنعة" فهذه ملاذ الخائب ، وحجة المقصر؛ لأننا جميعًا – دون استثناء – نرى في أنفسنا أننا نُعْجَبُ بالخط الحسن ، ونفرح بالكتابة الواضحة الجميلة ، ونلتهم ما كتب بخط حسن ، وقد نعيد القراءة لما سبق أن قرأناه ، والفضل لله ثم للخط الجميل في العودة إلى القراءة ، وما يأتي منها من استيعاب أكثر من سابقتها ، ونفهم أعمق لما يريد الكاتب أن يوصله إلى أذهاننا .
وكثيرًا مانصحت طلابي بتحسين خطوطهم، وكنت أدخل عليهم مدخلاً أعرف أنه يؤثر عليهم، وهو الاختبار ، فأبين لهم أن الخَط الجميل يكسبهم درجات ، لأنه المدرس يقرأ براحة خطوطهم ، ويستوعب بتأنّ ما كتبوه ، وهذا يجعله في وضع نفسي لأن يكون كريمًا في درجاتهم ، فهو إن لم يزدهم لم ينقصهم ، وهو إن لم يكرمهم لم يبخسهم حقهم . أما الخط القبيح المبهم ، الذي يدلّ على عدم اعتناء ، فإنه ينفر المدرس ، ويدخله في حالة نفسية تجعله أقرب للمتحفز للجزاء ، ثأرًا للخط ، فبدلاً من أن يتلمس الأعذار للطالب عن التقصير، يتلمس الأخطاء ليأخذ الحق من الطالب مضاعفًا، مبررًا هذا بما يتصوره من عدم اعتناء الطالب ، وإهماله ، فيبرر لنفسه إعطاءه درجة ، أقل من النجاح ، وفي ذهنه أنه ينفعه ؛ لأن هذا سوف ينبهه إلى أهمية الخط أولاً ، وزيادة العلم ثانيًا في الأجازة الصيفية .
أذكر عندما كنت أدرس طلاب السنة الرابعة في كلية الآداب تاريخ المملكة ، أني صححت ورقتين في الامتحان النهائي ، وكانت الأرقام سرية، وأخذ طالبان من بين الطلاب العشرين على ما أذكر الدرجة الكبرى ، وكنت تواقًا أن أعرف من هما ، وكنت انتظر اليوم الذي تخرج فيه النتائج ، ولم يكن شوقي لذلك بأقل من شوق الطلاب أنفسهم ، وعندما خرجت النتائج كان أحد الطالبين اسمه فلان فلانة ، أو هو ساوي ، لا أتذكر جيدًا، والثاني هو الدكتور "عبد الرحمن الشبيلي" .
لقد كان خَطهما جميلاً منسقًا منتظم القاعدة، واضح الحروف والكلمة والجملة ، وكان منظر الأسطر والصفحان يجذب النظر كأنك تنظر إلى لوحة فنية ، وجاءت الإِجابة والأفكار فيها تتنافس مع هذا الخط الجذاب الجميل ، فحازا من أجل ذلك الدرجة العليا ، ولو كان فوقها درجة ما قصرا عنها .
والخط هو اللوحة الجميلة التي وُجِدَ الفنُ الإِسلامي فيها متنفسه ، فانصرف الخيرّون إليه بعدًا عن الصور والتصوير ، فوجد ازدهارًا في زمن العباسيين ، ثم زاد ازدهارًا في زمن العثمانيين ، ولانزال نعيش اليوم في كنف ما سنّوه وتركوه ، ولقد تدهور حظ الخط مع الناس اليوم ، فلم تعد العناية به كما كانت سابقًا ، ولم يعد الناس يطلبون الخط الجميل ، فالركض خلف المعلومات المتتابعة الكثيرة المغرقة ، لاهثين ، صرف الناس عن الخط ، الذي لم يعودوا يجدون له وقتًا ، وهو يحتاج إلى وقت وصبر وأناة ، ولم يكن يغري بخدمته أمام هذا العناء إلا النتائج المجزية في نهاية الأمر .
ولكي نعرف بعضًا من أوجه الاعتناء ، والنظرة الحانية لآبائنا إلى الخط ، وما يتصل به ، نقتطف بعض الأخبار والمعلومات عن هذا الجانب في التراث ، غير ملتزمين بالاستقصاء العلمي الدقيق لأي جانب من الجوانب التي نسوقها ، وإنما هي نماذج من هنا وهناك ، نأتي بها بضاعة مزجاة ، لعلها تكون مقنعة لمن يريد أن يستقصي ، وأن تجذبه لأن يعود إلى أخواتها التي لم نذكرها ؛ والاستفادة الجانبية من الكتب التي حملتها طوال هذه السنين أمانة خفيفة جميلة .(/1)
وقبل ذلك أودّ أن أذكر أمرًا مهمًا يتعلق بالكتب وطباعتها ، والخط الذي يختار للطبع . لاشك أن الحرف الكبير في الطبع في صفحة باسمة، لم يطل فيها السطر حتى يأكل الحاشية ، ولم يعرض حتى يلتقم الهوامش ، ولم تزدحم فيها الأسطر حتى تبدو مقطبة الجبين ، يجذب القارئ ، ويساعد على القراءة والاستيعاب ، فلا ينتهي من قراءته متعبًا ، ولا يقطعها من أول الطريق .
وتتعارض المصلحة المادية في الطبع ، فيرجح الجانب المالي ، ويراعى وهو في الهامش ، أكثر مما يراعى الهدف الأساس للتأليف ، فيفقد الكتاب فائدته العلمية ، وتضيع مع ذلك المنفعة المقصودة ، ويصبح الكتاب وثيقة مهملة ، لا يقرؤها إلا من يضطر إلى مراجعتها ، لحاجته الماسة إليها ؛ ولكل شيء إخراج وثوب يظهر به ، فإن لم يكن الثوب جذابًا رمى ظلاله على لابسه ، وأطفأ كثيرًا من شمعاته المضيئة . وهذا فن لم يتقنه كثير منا حتى الآن ، مع أهميته ، وتأثيره الكبير على جذب الناس إلى القراءة ، وتحبيبهم لها .
والعناية بالخط في القديم ، والاهتمام به ، وإعطاؤه الدور اللائق به ، والمنزلة التي يستحقها ، متربعًا على مكانة عالية ، ومقام محمود ، لا يناله الأهمال ، ولا يطوله الصد ، ولا يوضع في زاوية النسيان ، يسجل له أبو البركات عبد القاهر بن علي بن عبد الله بن جرادة في الأبيات الآتية نظرته، فيقول:
ما اخترت إلا أشرف الرتب خَطًّا أخلد منه في الكتبِ
والخط كالمرآة تنظرها فترى محاسن صورة الأدب
هو وحده حسب يطال به إن لم يكن إلاهُ من حسب
مازلت أنفق فيه من ذهب حتى جرى فكتبت بالذهب(1)
وكان هناك من اشتهر من الخطاطين ، وعلا شأنه ، وذاع صيته ، وأصبح له طريقة في الخط تُعْرَفُ به ، وتُنْسَبُ إليه ، فيها من الفن ما خالف به غيره ، ومن التميز ما بَزَّ سواه ، والنص التالي يبين لنا طريقتين تنسبان إلى خطاطَين مشهورَين :
"كان عمر بن أحمد (ابن العديم) يكتب النسخ على طريقة أبي عبد الله بن مقلة ، والرقاع على طريقة علي بن هلال ، وخطه حلو جيد ، خال من التكلف والتعسف".(2)
وفي هذا النص فائدة أخرى ، وهو أنه يمثل حلقة لما نعرفه من أن هناك نوعين من الخط هما النسخ والرقعة ، وقد تكشف التسمية هذه بهذه الصيغة الجديدة علينا ، في كلمة "الرقاع" أصل كلمة الرقعة ، وهي الكلمة التي تعودنا على استعمالها دون أن يكون في صيغتها ما يدلّ على سبب تسميتها .
وكان الآباء في الماضي البعيد ، والماضي القريب ، يحرصون على إتقان أبنائهم الخط ، وبعضنا يذكر كيف كان آباؤنا يستغلون الإجازة الصيفية ، فيرسلوننا إلى مدرسة الحلواني في باب "زيادة" وهي مدرسة متخصصة في الخط ، يكتب لنا الحلواني سطرًا ، فنبتعد إلى مكان في الغرفة ، أو في الباحة المجاورة ، ثم نملأ الصفحة ، أسطرًا نقلد بها خطه ، ثم يصحح لنا الخط ، ويعدل لنا ما مال، وهو فضل لأهلنا نذكره اليوم ، ونترحم عليهم من أجله .
وهذا نص قديم يُري عناية أحد الأباء بابنه ، وحرصه على تعليمه تحسين خطه وتجويده ، وسد منافذ العذر التي حاول أن يفتحها ، ليهرب من هذا الواجب الذي وجهه له والده ؛ ولكن الوالد عرف ما يدور في نفسه ، وما يجول بخلده ، فقطع عليه الطريق ، وأبطل عذره ، والمتكلم الواصف للأمر هو ابن العديم ، الوارد ذكره في النص السابق ، وإليك الخبر فيما كان بينه وبين والده :
"قال ابن العديم ..:
وكان والدي – رحمه الله – يحرصني على ذلك (تجويد الخط) ، ويتولى صقل الكاغد بنفسه ، فإني لأذكره مرة وقد خرجنا إلى ضيعة لنا ، فأمرني بالتجويد (للخَط) فقلت :
ليس ههنا كاغد جيد .
فأخذ بنفسه كاغدًا كان معنا رديئًا ، وتناول شربة اسفيذر (استيفداج) ، وكانت معنا ، فجعل يصقل بها الكاغد بيده ، ويقول لي : "اكتب" ولم يكن خطه بالجيد ، وإنما كان يعرف أصول الخط، فكان يقول لي : هذا جيد ، وهذا رديء..".(3)
إن أحدنا ليخجل عندما يقرأ هذا الخبر، ويقارن ما جاء فيه بما في حياتنا اليوم ، من توفر وسائل الكتابة من أقلام وورق ، لا تُعَد أنواعها ولاتحصى ، ومع هذا فلا نُلقي بالاً للخط والعناية به ، أما هم فحتى الورق وتهيئته لاستقبال الكتابة يقومون به بأنفسهم ، ولا يبالون بالجهد الذي يبذلونه ، ولا بالعناء الذي يقابلونه .
ولم يضع مجهود هذا الأب المعتني بابنه ، ولم يخسر تعبه في صقل الورق ، وعوض الله الابن الذي ذهب مع والده للضيعة ، للفسحة والراحة ؛ ولكن والده شغله بدرس الخط والتدريب عليه وتحسينه ، فقد أصبح لابن العديم شهرة جاءته مكافأة على ما بذل ، وجائزة على ما تحمل .
والنص الآتي عن ابن العديم :
"وشاع ذكره في البلاد ، وعرف خطه بين الحاضر والباد ، فتهاداه الملوك ، وجُعل مع اللآلئ في السلوك ، وضربت في حياته الأمثال ، وجعل للناس في زمانه حذوًا ومثالاً ؛ فما رغَّب في خطه أنه اشترى وِجْهَةً واحدة بخط ابن البواب بأربعين درهمًا ، ونقلها إلى ورقة عتيقة ، ووهبها من حيدر الكتبي".(4)(/2)
هذه نظرة الناس في ذلك الزمن إلى الكاتب ذي الخط الحسن الفائق ، واحتفاؤهم به ، واتخاذه مثلاً يحتذى ، وهذا ثمن الخط الجميل ، وإن كان قليلاً في نظرنا اليوم دفع أربعين درهمًا لصفحة واحدة كتبها ابن البواب ، وهو صاحب شهرة ، ونقلها ابن العديم على ورقة قديمة ، ووهبها لكتبي.
ولكن هذا المبلغ في زمنهم يعتبر عاليًا ، يساوي ما يدفع اليوم في الصورة النادرة التي تباع في مزاد عالمي في البلدان الغربية ، فندهش للأقيام التي تُدفَع فيها ، وتعتبر من يشتريها أحيانًا لا يخلو من لوثة في عقله أو جيبه ، أو فيهما معًا .
وهم أحيانًا يذكرون أقيامًا لأمور تخص الخط والكتابة ، وذكرهم لها من باب الاستغراب من ارتفاع المبلغ المدفوع فيها ؛ وكانوا يعتنون بالأقلام والمحابر ، وما يكون معها مكملاً لفن الخط وحسنه، والنص التالي يعطي فكرة عن جانب من هذه الجوانب :
"بيع لعمر بن الحسين الخطاط في تركته آلة الكتابة بتسع مئة دينار إمامية ، من جملة ذلك : دواة بأزهر اشتراها بعض ولد زعيم الدين بن جعفر، صاحب المخزن ، بتسع مئة دينار، وبيع له بالباقي سكاكين وأقلام وبراكر ، وما شاكل ذلك".(5)
هذه هي العدة التي كانوا يتسلحون بها للكتابة ، تعلو قيمتها حسب المادة التي صنعت منها، والخطاط الذي استعملها ، جزء من ثمنها للمعدن الفاخر ، وجزء لملكية الفنان الذي استعملها فترة . وإن ما يعرض من هذه الأشياء في المعارض والمتاحف يدل على عناية وذوق ، ويدل على أنهم أهل فن راق ، وليس عملهم للزينة والمنظر فقط ؛ ولكنه للفائطة والاستعمال قبل ذلك ؛ وجماله ، ونبل المادة المصنوع منها ، تعطي لذة عند الاستعمال وترفع درجة الحماس للعمل وإتقانه ، وإبعاد التعب ، أو الركون إلى الاعتذار أو مبررات الراحة ، وهذا مثل المكتب الجميل ، والكرسي المريح في زماننا ، فإنهما يساعدان على رفع معنوية العامل ، ويبعدان عنه التعب ، لأنهما يمدانه براحة جسمية ومعنوية .
أما عن ابن البواب الذي مرّ بنا ذكره فالنص التالي يكشف عن أهميته في فنه :
ورد في ترجمة ابن البَرَفْطي محمد بن أحمد الأنصاري الدَّسكري :
"كان في أول أمره معلمًا ، فلما جاد خطه صار محررًا . وكان يُبالغ في أثمان خطوط ابن البواب ، فحصل له منها ما لم يحصل لأحد غيره، وُجدت عنده أكثر من عشرين قطعة بخطه أرانيها".(6)
هذا يؤكد أن خطوط المشهورين تباع كما تباع التحف ، وبأثمان باهظة ، وهناك من اتخذها تجارة ، ولعله كان يتصيد الشارد منها ، حتى أصبح عنده – كما يقول الراوي – مجموعة منها .
وفي موضع آخر من ترجمة الدسكري يقول ياقوت : "ومات – رحمه الله – في أول رجب سنة خمس وعشرين وست مئة ، وخلف خمسة وعشرين قطعة بخط ابن البواب لم تجتمع في زماننا عند كاتب، وكان يغالي في شرائها".(7)
وكان الخطاط له مريدون ، وينتقل أحيانًا من بلد إلى بلد كما فعل الدسكري عندما سافر إلى دمشق وإلى حلب ثم عاد إلى بغداد ، والنص التالي يرسم بعض النشاط الذي قام به ، ويبدو أن أمثاله يقومون به :
"وابن البرفطي هذا أوحد عصرنا في حسن الخط ، والمشار إليه في التحرير ، قد تخرج به خلق كثير ، وسافر إلى دمشق ، وكتب عليه كتابها ؛ وأقام بحلب مدة مديدة ، ثم عاد إلى بغداد .
وحفزه السفر إلى تستر صحبة الأمير ابن أبي محمد الحسن ، وأبي عبد الله الحسيني ، ابني الأمير الملك المعظم أبي الحسن علي بن الإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد أمير المؤمنين ، لما ولاهما أرض خوزستان بعد موت أبيهما أبي الحسن علي ، تقدم إلى ابن البرفطي بالخروج في خدمتهما ، والسكون في جملتهما ليكتبا عليه ، ويصلحا خطهما به ، ويكون معلمًا لهما".(8)
* * *
الهوامش :
__________________________________
(1) معجم الأدباء : 16/16، ترجمة : عمر بن أحمد (ابن العديم).
(2) معجم الأدباء : 16/12، ترجمة : عمر بن أحمد (ابن العديم).
(3) معجم الأدباء : 16/42، ترجمة : عمر بن أحمد (ابن العديم).
(4) معجم الأدباء : 16/45، ترجمة : عمر بن أحمد (ابن العديم).
(5) معجم الأدباء : 16/60، ترجمة : عمر بن الحسين الخطاط.
(6) معجم الأدباء : 17/280، ترجمة : محمد بن أحمد الأنصاري الدسكري .
(7) معجم الأدباء : 17/278، ترجمة : محمد بن أحمد الأنصاري الدسكري .
(8) معجم الأدباء : 17/279، ترجمة : محمد بن أحمد الأنصاري الدسكري .(/3)
الخط عربة العلم
[ 2/3 ]
بقلم : الأديب الإسلامي معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
وهكذا بلغت العناية بالخط مبلغها ، إذا استعان رجال مثل هذين الرجلين بمثل هذا الخطاط المشهور، وأخذاه معهما لينقطع لتعليمهما الخط وتحسينه .
والقصة الآتية طريفة ، تري أهمية خط ابن البواب ، وشغف الناس بخطه ، ومدى البحث عنه واقتناء شيء منه ، ودفع ثمن عال مقابل الحصول على قطعة منه . وفي القصة فوائد أخرى تذكرنا بما يجري اليوم مع التحف من أن هناك من يبيعها جاهلاً قدرها وقيمتها ، وهناك من يشتريها عارفًا قدرها ، وقيمتها ، ولمحة عن الخُلُق في ذلك الزمن، ويقظة الضمير، ومحاولة نقائه ، بالبعد عن الغش والخداع في بضاعة من السهل فيها أن يُخدَع المرء أو يَخْدَع :
قال الراوي :
"بلغني عن رجل معلم في بعض محال بغداد أن عنده جُزَازًا كثيرًا ورثه عن أبيه ، فخيل لي أنه لا يخلو من شيء من الخطوط المنسوبة ، فمضيت إليه، وقلت له :
أحب أن تريني ما خلف لك والدك عسى أن أشترى منه شيئًا .
فصعد بي إلى غرفة ، وجلست أفتش حتى وقع بيدي ورقة بخط ابن البواب ، قلم الرقاع ، أرانيها أيضًا ، فضممت إليها شيئًا آخر لا حاجة بي إليه ، وقلت له :
بكم هذا ؟
فقال لي : يا سيدي ، ماصلح لك في هذا كله شيء آخر ؟
فقلت له : أنا الساعة مستعجل ، ولعلّي أعود إليك مرة أخرى .
فقال : هذا الذي اخترته لا قيمة له ، فخذه هبة مني .
فقلت : لا أفعل ، وأعطيته قطعة قُراضة ، مقدارها نصف دانق .
فاستكثرها ، وقال :
ياسيدي ما أخذت شيئًا يساوي هذا المقدار، فخذ شيئًا آخر .
فقلت: لا حاجة لي في شيء آخر .
ثم نزلت من غرفته ، فاستحييت ، وقلت: هذا مخادعة ، ولاشك أنه قد باعني ما جهله ، ووالله لا جعلت حق خط ابن البواب أن يُشترى بالمخادعة ، فعدت إليه ، وقلت له :
يا أخي هذه الورقة بخط ابن البواب ، فقال:
وإذا كانت بخط ابن البواب ، أي شيء أصنع؟
قلت له : قيمتها ثلاثة دنانير إمامية .
فقال : ياسيدي ، لا تسخر بي ، ولعلك قد عزمت على ردها ، فخذها ، وحُطَّ الذهب .
فقلت : بل أحضر ميزانًا للذهب .
فأحضرها ، فوزنت له ثلاثة دنانير، وقلت له:
بعتني هذا بهذا ؟
فقال : بعتك .
وأخذتها وانصرفت".(1)
هذا الموقف الطريف يكشف جوانب في حياة أهل الفكر في ذلك الزمن ، الذي لم يختلف كثيرًا في بعض جوانبه ؛ فكثير من الأبناء اليوم عندما يموت سيد البيت ، ويترك مكتبة عامرة بنوادر الكتب ، ونفيس المخطوطات ، ثم تباع في تركته بثمن بخس، أو تؤول إلى من لايعرف قدرها من أبنائه ، فتصبح يتيمة بين جدران بيته ، ومضاعة على رفوف المكتبة ، وقد تتبعثر بالبيع والاستعارة ، أو تأكلها الأرضة ، ويبليها الجو الفاسد حولها .
وعن الآلات المستعملة للكتابة ، ومظهر العناية بها من قبل الناس والخلفاء ، واهتمامهم بها، والتفاتهم إليها ماورد في النص التالي عنها:
"حدث محمد بن الجهم السمري ، قال:
كنا إذا أتينا الأحمر تلقانا الخدم ، فندخل قصرًا من قصور الملوك ، فيه من فرش الشتاء في وقته ما لم يكن مثله إلا دار أمير المؤمنين ؛ ويدفع إلينا دفاتر الكاغد والجلود ، قد صقلت ، والمحابر المخروطة ، والأقلام والسكاكين".(2)
وكان الخط مما يُفْرَد المرء بالمدح به إذا أتقنه، ويوضع في مقدمة صفوف المتعلمين ، وقواد الفكر، وهذا نص عن ابن المبارك ، يبجله ، ويعطيه حقه من التقدير، ويبلغ ذلك مبلغه عندما يقارن بابن البواب، ويقرن به، وابن البواب من المحاور التي لا يتعداها المدح ، فهو يدور حولها، ولا يبعد عنها:
"كان المبارك بن المبارك بن المبارك – رحمه الله – فاضلاً زاهدًا عابدًا ورعًا إمامًا، أوحد زمانه في حسن الخط على طريقة علي بن هلال بن البواب .
وكان ضنينًا بخطه جدًّا ، فلذلك قلّ وجوده، كان إذا اجتمع عنده شيء من تجويداته يستدعي طستًا ويغسله، فأما إذا اُستُفْتِيَ فإنه كان يكسر قلمَه، ويجهد في تغيير خطه".(3)
ولا يتبين لنا السر في هذا ، مع أن حسن الخط هبة فضلٍ من الله سبحانه وتعالى ، ونعمة كبرى ضافية ، شكرها في إشاعة نورها، كأن يكتب بها القرآن ، ينسخ بها الصحاح ؛ ولعل السبب في فعله، ومحوه آثاره، وطمس معالمها، وحنقه على قلمه وكسره، أنه خشي أن يشارِكَ فيما قد يكون رأى أنه إثم ، فقد يكون الناس في احتفالهم بالخط دون فحواه متَعَبِّدين ، والعبادة لا تجوز إلا لله وحده، والمغالاة في تقدير الجماد قد تفضي إلى نوع من تعلق القلب بها ، وهذا قد يفضي إلى عبادة آثمة، وهو ما التفت له الإِسلام في الصور، التي عبدت في زمن الجاهلية، ولا تزال تصرف لها العبادة في بعض الأديان، وفي بعض المعتقدات الوثنية.
ولعله يرى أن المهم معنى النص ، وما احتوى عليه من إرشاد، وما الخط إلا خادم له، ووعاء لحمله، والأمر يقلب رأسًا على عقب عندما يصبح الخادم سيدًا، والحاوي محتوى، وهذا ما أرعب ابن المبارك، وجعله يفعل ما فعله.(/1)
وحسن الخط، والسير على قواعده أحد مؤهلات الخطاط، وأسباب الاعتراف به، والإقبال على ما يكتب، وامتداحه وشهرته، وهذا علي بن منجب بن سليمان الصيرفي أبو القاسم قيل عنه ما يلي:
"علا شأنه في البلاغة والشعر والخط، فإنه كتب خطًّا مليحًا، وسلك فيه طريقة غريبة"(4).
وهذا يؤكد أن إتقان أصول الخط ، وحسنه، لا يكفي لشهرة الشخص وبروزه؛ ولكن لابد أن يبتدع بجانب ذلك طريقة ينفرد بها، تعطي خطهُ شخصية تميزه عن غيره، بحيث يُعرَف ما يكتب عما يكتبه غيره، ويكون في ذلك من التميز ما يجذب إليه الأنظار، وينسخ سمعة من سبقه.
والورق وأنواعه والعناية به مما أخذ حيّزًا واسعًا من تفكيرهم، وأصبح لذلك أنواعًا، وللأنواع أسماء، ولصنعه طرق؛ ومن النص التالي يتبين لنا شيء من هذا، ونعرف منه مظهرًا من مظاهر العناية التي كانوا يولونها للورق وتجليده وتجميله، مما جعله يقاوم مرور الزمن، وحوادث الأيام:
"قال علي بن عيسى الربعي:
أخرج إليّ عضد الدولة بيده مجلدًا بأدم، مبطن بديباج أخضر في أنصاف السلطاني، مذهب، مفصول بالذهب بخط حسن".(5)
هذا عن الكتاب وعن الورق وعن الحجم، أما الكتابة التي يحتويها أمثال هذا المجلد المعتنى به هذه العناية كلها، فيمثل جزءًا منها النص التالي:
ورد في ترجمة علي بن محمد بن عبيد بن الزبير الأسدي (ابن الكوفي):
"صاحب الخط المعروف بالصحة، المشهور بإتقان الضبط، وحسن الشكل . فإذا قيل: نقلت من خط ابن الكوفي، فقد بالغ في الاحتياط.
قال مؤلف الكتاب (ياقوت): ورأيت بخطه عدة كتب، فلم أر أحسن ضبطاً وإتقانًا للكتابة منه، فإنه يجعل الإعراب على الحرف بمقدار الحرف احتياطاً، ويكتب على الكلمة المشكوك فيها عدة مرارٍ: صح صح صح ، فكان من جماعي الكتب، وأرباب الهوى فيها.
وذكره ابن النجار في كتاب الكوفة .. قال .. الذي خَطُّهُ اليوم يؤتدم به ، وبيع جزازات كتبه، ورقاع سؤالاته من العلماء كل رقعة بدرهم"(6).
ولا عجب أن يقال ما قيل في النص السابق من الحفاوة بمن يعتني بالخط وحسنه، فالخط هو الوسيلة الأولى لنقل العلم، فكلما حسن زاد انجذاب القارئ إلى القراءة، وقرأ براحة وابتهاج، وتوفر له بذلك الوقت والجهد، مع إدراك منه بتعب الآخرين من أجله، وسهرهم لراحته. وهم يقدرون الخط الواضح الحسن، ويمتنّون لكاتبه، لأن في ذلك محافظة على العلم نفسه، ودرء الزلل عنه عند القراءة، ولهذا أشار النص إلى الميزة التي اتصف بها ابن الكوفي، هي واحدة من عدة ميزات، وهي "اتقان الضبط" وفي هذا وقاية من الخطأ بقدر جهد الإِنسان، و"حسن الشكل" للجمال الجاذب المريح للعين وللنفس؛ وعاد وأكد ياقوت هاتين الميزتين بقوله: "فلم أر أحسن ضبطاً وإتقانًا للكتابة منه"، والجمال يؤكده قوله: "فإنه يجعل الإِعراب على الحرف بمقدار الحرف احتياطاً، وفي هذا أيضًا إتقان للخط، وإبعاد للزلل الذي يحدث من زحف الإعراب وشكله من حرف إلى حرف، ولا أدل من عنايته ويقظته من كتابة: "صح" عدة مرات.
وتأتي قمة التقدير في قول المؤلف: إن خطه يؤتدم به، وهو قول ليس بعده مزيد من المدح. أما القيمة التي بيعت بها الجزازات فهي بلا شك مرتفعة؛ ولكننا لاندرك ذلك في زمننا هذا، لعدم تصورنا لقيمة الدرهم، وما يأتي منه عندما يُشترى به.
وقد يَرْمي النص التالي إشعاعًا على الأسعار لمن أراد أن يبحث ويقارن؛ ولكن الجدوى لنا محدودة، لاختلاف المعيشة اليوم ومستواها عن تلك الأيام، اختلافًا يصعب معه تصور القيمة إلا لمتخصص في المال والأسعار؛ ولكنه نص مفيد من بعض جوانبه:
"حدث ابن عيسى الموصلي ... قال:
كتب إليّ أبو تغلب يأمرني بابتياع كتاب الأغاني، لأبي الفرج الأصبهاني، فأبتعته له بعشرة آلاف درهم، من صرف ثمانية عشر درهمًا بدينار؛ فلما حملته إليه، ووقف عليه، ورأى عِظَمَهُ، وجلالة ما حوى، قال:
لقد ظُلم ورّاقةُ المسكين، وإنه ليساوى عندي عشرة آلاف دينار، ولو فُقِد لما قَدِرَت عليه الملوك إلا بالرغائب".(7)
إننا نعرف هذا الكتاب، وحجمه الكبير، ومجلداته المتعددة، ونقدر الطبعة الحسنة، التي طبعته بهادار الكتب مثلاً، ويمكننا أن نتصور الجهد اليدوي الذي بذل في كتابتها، ولهذا لانستغرب ما قاله أبو تغلب عن تدني القيمة التي اشتريت به، ونقدر إنصافه لهذا الجهد، بحيث وضع مكان كل درهم دينارًا.
وهذا يرى بعض الجهد الذي يبذله الوراقون في نسخ العدد من الكتب، لمن يرغب شراءها، ولهذا مدح الخط الحسن، لأن كثرة الطلب، والإِلحاح، عادة تؤدي إلى السرعة في الانتاج، أمام الإِغراء، على حساب النوعية والإتقان، لأن العامل بشر، ويوشك مع السرعة أن يكون أقرب إلى الزلل من الصحة، وإلى قبح الخط من حسنه.
ولنفتح نافذة صغيرة على جانب من عمل الوراقين، ومقدار ما يكتبون، والجهد الذي يبذلونه، والسبب الذي أحيانًا يقودهم إلى حلبة هذا العمل، فيمتهنونه، على ما فيه من تعب. والنص التالي يفيد في إعطاء فكرة عن ذلك:(/2)
"قال أبوبكر محمد بن أحمد بن عبدالباقي الدقاق المعروف بابن الخاضبة:
لما كانت سنة الغرق (466؟)، وقعت داري على قماشي وكتبي، وكان لي عائلة: الوالدة والزوجة والبنت؛ فكنت أورق الناس، وأنفق على الأهل، فأعرف أنني كتبت "صحيح مسلم" في تلك السنة سبع مرات؛ فلما كان ليلة من الليالي رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، ومناديًا ينادي: "ابن الخاضبة" فأحضرت، فقيل لي: ادخل الجنة، فلما دخلت الباب، وصرت من داخل، استلقيت على قفاي، ووضعت إحدى رجليّ على الأخرى، وقلت: آه! استرحت والله من النسخ"(8).
إنه لعمل مضن شاق، لقد اضطر إليه ابن الخاضبة مرغمًا بعدما وقعت داره على ما يملك من أثاث ورياش، فاضطر أن يمتهن الوراقة بالنسخ، ولأن عائلته – كما ذكر – ليست صغيرة اضطر أن يبذل مجهودًا متواصلاً حتى يستطيع أن يحصل على ما يقيتهم ؛ ويتبين مدى الجهد الذي كان يبذله في أنه عندما دخل الجنة في الحلم كان أول شيء خطر على باله هو الراحة من النسخ، بعد أن استلقى على ظهره وترك الهمّ خلفه، وانسل من عمل الدنيا.
وكانت الوراقة مزدهرة ازدهار المطابع اليوم، وكان للوراقين سوق رائجة، فلديهم بيع الكتب ونسخها، وفي دكاكينهم يجتمع الأدباء والمفكرون، وقصة الجاحظ مشهورة، فقد روي أنه كان ينام في دكاكين الوراقين، يقفلون عليه طوال الليل، فيبقى هناك تتنقل عيناه بين أسطر الكتب، وتمرح نفسه في رياضها.
ولعل الوراق يبدأ عمله ناسخًا، ثم يستعين بمبتدئ ثم بآخر، ثم يفتح دكانًا ويتفق مع عدة خطاطين ونساخ، فينسخ لحسابه بعض الكتب ويعرضها، وينسخ بعض الكتب بطلب من الناس. وفي الكتب ما يدل على عدد الوراقين، ويصف عملهم بدقة وتفصيل.
وليتبين لنا حاجة الناس إلى نسخ الكتب والجهد الذي يبذل ، نذكر طرفًا مما حدث بين أبي حيان التوحيدي وأحد الكبار المسؤولين في الدولة، وقد رجا أبو حيان رفدهُ، فأراد هذا استغلال حاجة أبي حيان، فطلب منه أن ينسخ له بعض المجلدات، فرأى أبوحيان أن هذا فوق طاقته، وتحت مستوى أمله، فقامت على هذا عداوة بينهما، طار شرارها، وذكى أوارها:
"قال أبوحيان التوحيدي:
وقصدت ابن عباد بأمل فسيح، وصدر رحب، فقدم إليّ رسائله في ثلاثين مجلدة، على أن أنسخها له، فقلت:
"نسخ مثله يأتي على العمر والبصر، والوراقة موجودة في بغداد" .
فأخذ في نفسه عليّ من ذلك، وما فزت بطائل من جهته. فقال:
"بلغني ذلك".
فقلت له: ولو كان شيئًا يرتفع من اليد بمدة قريبة، لكنت لا أتعطل، وأتوفر عليه، ولو كرر معي أجرة مثله لكنت أصبر عليه، فليس لمن وقع في شر الشباك، وعين الهلاك، إلا الصبر"(9).
ولا يكفي هذا الوصف من التعب، ولا النفرة من النسخ بسببه ، فيعيد في مقام آخر قولاً مؤكدًا عن الأمر نفسه، ويوضح الشدة التي تنتطره لو قام بهذا العمل فيقول أخذًا من قول أسهب فيه:
"فَلِمَ تُعنَّى عيني – أيدك الله – بعد هذا بالحبر والورق والجلد والقراءة والمقابلة والتصحيح، وبالسواد والبياض؟"(10).
* * *
الهوامش:
(1) معجم الأدباء: 17/280، ترجمة: محمد بن أحمد الأنصاري الدسكري.
(2) معجم الأدباء: 13/9، ترجمة: علي بن الحسن الأحمر.
(3) معجم الأدباء: 17/56، ترجمة: المبارك بن المبارك بن المبارك.
(4) معجم الأدباء: 5/79، ترجمة: علي بن منجب الصيرفي.
(5) معجم الأدباء: 14/84، ترجمة: محمد علي بن عيسى بن الفرج الربعي.
(6) معجم الأدباء:14/153، ترجمة: علي بن محمد بن عبيد بن الزبير الأسدي.
(7) معجم الأدباء: 13/126، ترجمة: علي بن الحسين الأصبهاني.
(8) معجم الأدباء: 17/228، ترجمة: محمد بن أحمد القاق.
(9) معجم الأدباء: 15/13، ترجمة: علي بن محمد بن العباس (أبوحيان التوحيدي).
(10) معجم الأدباء: 15/23، ترجمة: علي بن محمد (أبوحيان التوحيدي)(/3)
الخط عربة العلم
[ 3/3 ]
بقلم : الأديب الإسلامي معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
ومن أراد المزيد في هذا الباب ، وعن أسباب العداوة بين أبي حيان والصاحب بن عباد، الذي قصده أبو حيان فخيّب أمله ، فليرجع إلى كتاب "أخلاق الوزيرين" ففيه تفصيل ضافٍ .
وقد ألف كتابه هذا من حرقة أحسّ بها ، فصب جام غضبه عليه وعلى أبي الفضل بن العميد. ومن المناسب أن نعطي مثلاً يري مدى ما وصل إليه غضبه على الصاحب بن عباد، بسبب طلبه منه نسخ مجموعة من مجاميع كتبه، بدلاً من أن يبره كما كان متوقعًا ، وفاجأه بأن استغل حاجته أسوأ استغلال : يقول أبو حيان في رسالة من رسائله:
"وما ذنبي يا قوم إذا لم أستطع أن أنسخ ثلاثين مجلدة من هذا الذي يستحسن هذا الكلب؟! حتى أعذره على لومي على الامتناع ، أينسخ إنسان هذا القدر وهو يرجو بعدها أن يمتعه الله ببصره؟ أو ينفعه ببدنه؟".(1)
هذه نافذة تُري الجهد الذي كان يصرف في النسخ ، والتعب والعناء الذي يأتي من ذلك ؛ فنحن اليوم عندما نمسك بمخطوطة نتذكر ذلك، ونستعيد حيالها عدد الأعين التي تلفت في النسخ، والأعمار التي أُفْنِيت في ذلك ، فتزيد قيمتها في نظرنا ، وتأخذ حقها من العناية والرعاية ، والمحافظة عليها .
ومما يكمل الصورة ذكر ما عليه الورق ، واقتنائه، والعناية به ، وحفظه وصقله ، وإعداده للكتابة ، يقول صاحب معجم البلدان :
"كان في خزانة كتب بهاء الدين عضد الدولة من أنواع الكاغد السمرقندي والصيني والعتيق كل طريف عجيب".(2)
ويقول :
"في الخزانة ، بياض صيني ، وعتيق مقطوع وصحيح".(3)
وقد لا يعني لنا هذا كثيرًا ؛ لأننا لا نعرف عنها إلاّ ما يدل عليه تعددها وتنوعها ؛ ولكنها عند أهلها وزمنها تعني شيئًا كثيرًا يمكننا أن نتصوره من اللهجة التي قبل بها ذلك .
ولعلّه من المناسب بعد أن ذكرنا شيئًا من النسخ، وما جر على أبي حيان، وما ألمحنا عن أدوات الكتابة ، خاصة الورق ، أن نعطي فكرةً خاطفةً عن سعر النسخ، لتكمل الصورة ، وتنتظم حلقات الخَط وما حوله :
جاء في ترجمة يحيى بن زياد الفراء في تاريخ بغداد ما يأتي :
"فلما فرغ من إملاء : "كتاب المعاني" خزنه الوراقون عن الناس، ليكسبوا به ، وقالوا لا نخرجه إلى أحد إلا من أراد أن ننسخه له على خمس أوراق بدرهم، فشكى الناس ذلك إلى الفراء ، فدعا الوراقين ، فقال لهم في ذلك . فقالوا :
إنما صحبناك لننتفع بك ، وكل ما صنفته فليس بالناس إليه من الحاجة ما بهم إلى هذا الكتاب، فدعنا نعش به .
قال: فقاربوهم ، تنتفعوا وينتفعوا .
فأبوا عليه .
فقال: سأريكم ، وقال للناس : إني مملٍ كتاب معانٍ أتم شرحًا، وأبسط قولاً من الذي أمليت .
فجلس يُمل ، فأملَّ "الحمد" في مئة ورقة . فجاء الوراقون إليه ، فقالوا: نحن نبلغ الناس ما يحبون ، فنسخوا كل عشر أوراق بدرهم".(4)
ولنعرف مقدار ما نسخ في ضوء حركة التأليف حينئذ ، وفي ما سبق أن أُلِّف مما يحتاج الناس إلى نسخه، يمكننا أن نعطي نماذج لما ذكر لدى الناس من كتب ، يشار إليها عرضًا فيما بين أيدينا من معلومات ، ولو أحصيت لكانت شيئًا عظيمًا ، يبين قدره ما حدث للفرات أو دجلة من تغير نتيجة ما رمي فيهما من كتب أحرقت على يد التتار عند دخولهم بغداد :
جاء في ترجمة علي بن أحمد الفارسي الأندلسي:
"أخبرني ابنه المفضل ، المكنّى أبا رافع : أن مبلغ تواليفه في الفقه والحديث والأصول ، والنِّحَلِ والملل ، وغير ذلك من التاريخ والنسب ، وكتب الأدب ، والرد على المعارض ، أربع مئة مجلد ، تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة .
وهذا شيء ما علمناه لأحد ممن كان في دولة الإِسلام قبله ، إلا لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري".(5)
فماذا قال صاحب معجم الأدباء عن الطبري؟ يقول عنه :
"حَصَّلَ قوم من تلاميذ محمد بن جرير الطبري، أيام حياته ، منذ بلغ الحلم إلى أن توفي ، وهو ابن ست وثمانين ، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته ، فصار منها على كل يوم أربع عشرة ورقة ، وهذا شيء لايتهيأ لمخلوق إلا بحسن عناية الخالق".(6)
وخبر آخر ساقه أيضًا صاحب معجم الأدباء:
"يحكى أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة".(7)
ومثل آخر على مقدار ما يمكن أن يقع على كاهل النساخ من عبء ، وما يرتزق من ورائه الوراقون ، ويرتوي منه طلاب العلم ، ويرجو من ورائه العلماء من أجر، ويأتي لنا نحن بالدهشة والاستغراب :
"أملى محمد بن عبد الواحد البارودي من حفظه ثلاثين ألف ورقة في اللغة".(8)
ويزيد الصورة وضوحًا ، والأمر جلاءً، واستغرابنا دهشة ، ما يُروى في هذا المجال عن حجم أحمال الكتب عند نقلها من مكان إلى مكان ، وهذا مجال للحديث عما يأتي منها خارقًا للعادة ، ومخالفًا للمعتاد ، ومجانبًا للعرف ، والقول الآتي يمثل ذلك :
"يروى عن محمد بن واقد الواقدي المدني :(/1)
"لما تحول الواقدي من الجانب الغربي يقال: إنه حمل كتبه على عشرين ومئة وقر؛ وقيل: كان له ست مئة قمطر كتب".(9)
والنهضة الفكرية ، والإِقبال على العلم والثقافة كان عظيمًا ، مما جعل التنافس في اقتنَاء الكتب ، والمؤاجرة على نسخها أمرًا منقطع النظير، ولعل غير العلماء والمنتفعين رأوا الاتجاه في مجتمعهم ، فرأوا ألا يكونوا خارج الدائرة ، خاصة إذا كانوا موسرين، وبإمكانهم شراء كتب ثمينة ، ذات مظهر جميل ، يزينون بها بيوتهم ، ليرتفع قدرهم عند الناس ، وقصة الأندلسي الذي أخذ يساوم وَ يزايد في مجلد جميل فرفعه إلى سعر تعدى حدود المعقول ، فسأل العالم الذي كان يزايد في الطرف الآخر من السوق عن هذا الذي في الجانب الآخر ينافسه ، ولما عرفه قال له: إن كنت في حاجة إليه إلى هذا القدر فسوف أوقف المزايدة ، ولم أزد في السعر إلا لحاجتي إليه ، فقال الآخر إنني لا أقرأ ولا أكتب، وإنما رأيت أن هذا الكتاب بحجمه وتجليده ، يوافق مكانًا شاغرًا في رف خزنة كتب عندي ، فأردت أن أسد به هذه الثغرة ؛ ولما علم عن حاجة الآخر إليه أوقف المزايدة فيه .
ولهذا قال الشاعر منبّهًا الذي يجمعون الكتب، وهم كالحمار يحمل أسفارًا :
"من شعر سعيد بن المبارك المعروف بابن الدهان:
لاتحسبنّ أن بالكتْ ــب مثلنا ستصير
فللدجاجة ريش لكنها لا تطير"(10)
ولكن هؤلاء شواذ ، يغطون عن نقصهم بهذا المظهر الزائف ، ويكملونه بهذا التصنع المكشوف، الذي يسيء إليهم من حيث يظنون أنه يحسن ، ويضرهم من حيث يظنون أنه ينفع ، أما الكتب فقد ألفها مؤلفوها ، ونسخها ناسخوها ، لمن يقرؤون ، يمضون النهار في القراءة ، ويتبعونه بالليل على ضوء الشمع والسرج ، لايتركون دقيقة تمر دون أن يستفيدوا منها ، فهي إما للكتابة أو للقراءة ، أو للراحة استجمامًا، واستعدادًا للمعاودة؛ أفنوا أعمارهم في سبيل العلم ، وعشيت أبصارهم من أجله ، وكلما درسوا زادوا نهمًا ، وكلما تعلموا تطلعوا إلى وراء ما عرفوا ، لايرون لعلمهم سقفًا ، ولا لطلبه حدًا ؛ نذروا حياتهم للعلم ، وأوقفوها عليه ، وهنا بعض أمثلة تري إصرارهم، وأسباب ما وصلوا إليه من ذلك :
"حدث أبو هِفَّان قال :
"لم أر قط ، ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ ، فإنه لم يقع في يده كتاب إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان ، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ، ويبيت فيها للنظر .
والفتح بن خاقان ، فإنه كان يحضر لمجالسة المتوكل ، فإذا أراد القيام لحاجة أخرج كتابًا من كمه أو خفّه ، وقرأهُ في مجلس المتوكل إلى حين عوده إليه ، حتى في الخلاء .
وإسماعيل بن إسحق القاضي ، فإنى ما دخلت إليه إلا رأيته ينظر في كتاب ، أو يقلب كتابًا ، أو ينفضها".(11)
لهذا ازدهر العلم في زمنهم ، واعتلى شأن الكتاب، فانتشر بينهم ، ودفعوا فيه أموالاً طائلة، وأوسعوا مكانًا فسيحًا له في بيوتهم وفي صدورهم، فارتقى عندهم ، وارتقوا هم عند أنفسهم ، واعتلوا على الشعوب الأخرى ، وفتحوا العالم ، فسطع نور العلم منهم إليه .
والغربيون اليوم أخذوا منا هذه العادة الحسنة بعدما أمتناها ، فأحيوها ، واستفادوا منها منتهى الاستفادة ؛ ترى الكتاب معهم في كل مكان ، يقرؤون في كل وقت ، فيقرؤونه في القطار، ويلتهمون صفحاته وقوفًا في الصف ، انتظارًا في "طابور" لأخذ تذاكر، وفي مظلةِ انتظار السيارة كتابهم في يدهم ، وفي معرض الطيران ، وفي سباق السيارات ، وفي ملاعب الكرة ؛ حتى إذا دخل أحدهم المطعم ، فإنه يقرأ انتظارًا للطعام، فإذا جاء الطعام فإنه لا يوقف القراءة ، فلقمة لِفَمِه ، ولقمة لعقله ، مثلما كان يفعل الفتح بن خاقان عندما ترك الخليفة المجلس لحاجة إلى أن عاد ؛ وارتفع الأوروبيون بهذا كما سبق أن ارتفعنا ، وأَمَتْنَا هذه العادة فتر دينا وهوينا .
لقد أدرك الطابعون والكتاب والناشرون أهمية هذا الاتجاه عند الناس في الغرب ، واعترفوا بهذا النهم للكتب ، فقدروه بأن قابلوه بما يشجعه ويعضده ، ويساعد الناس في هذا الاتجاه الخيِّر، فطبعوا طبعات "جيب"، يأخذها الشخص معه أينما ذهب ، وإلى أي جهة رحل ، مثلما فعل الفتح ابن خاقان بالكتاب الذي وضعه في كمه ، أو في ساق خفه ! فهل يعود الماء يومًا إلى مجراه ، ونرى الكتاب يعتز من جديد ، ويأخذ مكانه الحضاري اللائق به ، رغم الآفات المحيطة به ، من صحف ومجلات ، ومذياع وتليفزيون وفديو، وما أدراك مما لم يخرج من بيضة العجائب حتى الآن !!(/2)
ولم يكن الفتح بن خاقان هو الوحيد الذي يمكن أن يمثل الصورة الجميلة لطلب العلم والقراءة، وإنما هو نموذج واحد ، مثّل في هذه الحالة مثلاً واحدًا في هذا الجانب الثقافي المنير، وهناك جوانب أخرى كثيرة ، ولعلّ في المثل الآتي توضيحًا أمينًا لجانب آخر، فإذا كان الفتح مثل جانب الحرص في حمل الكتاب وقراءته عند أقرب فرصة تسنح له ، فإن الفقيه أبو الوليد في حديث له مع ابن حزم ، يحمل نغمة الاعتذار في التقصير في طلب العلم ، شعّ نورًا ساطعًا ، يرفع منزلته ويعلي قدره، لأنه يدل على كفاحه في طلب العلم إلى الحد الذي جعله يستعين في الليل بأبراج الحراس، يستفيد من نورها ، إذ لا يملك ما يوفر به لنفسه نورًا ؛ وفي رد ابن حزم ما عدل الكفة ، فإذا كان هذا كسب من هذا الطريق الصعب علمًا ، فإن ابن حزم أضاع العلم نتيجة الوجد والغنى .
وابن حزم كان بعيدًا عن حياض العلم ، نائيًا عن وردها ، إلى أن قيض الله حادثة نبهته ، وموقفًا أيقظه ، فارتشف من منهل العلم ما أروى ظمأه ، وعوضه خيرًا عما فاته :
قال لي الوزير أبو محمد بن العربي:
أخبرني الشيخ الإِمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم أن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة لرجل كبير من إخوان أبيه ، فدخل المسجد قبل صلاة العصر، والخلق فيه، فجلس ولم يركع، فقال له أستاذه – يعني الذي رباه – بإشارة أن قم، فصلّ تحية المسجد ، فلم يفهم .
فقال له بعض المجاورين له : أبلغت هذا السن، ولاتعلم أن تحية المسجد واجبة؟ وكان قد بلغ حينئذ ستة وعشرين عامًا، قال: قال: فقمت وركعت، وفهمت إذن إشارة الأستاذ لي بذلك .
قال : فلما انصرفنا من الصلاة على الجنازة إلى المسجد مشاركة للاحبَاء من أقرباء الميت، دخلت المسجد، فبادرت بالركوع، فقيل لي: اجلس، اجلس، ليس هذا وقتَ صلاة .
فانصرفت عن الميت، وقد خزيت، ولحقني ما هانت عليّ به نفسي ، وقلت للأستاذ: "دُلَّني على دار الشيخ الفقيه ، المشاوَر أبي عبد الله بن دَحُّون، فدَلَّني فقصدته من ذلك المشهد. وأعلمته بما جرى فيه . وسألت الابتداء بقراءة العلم ، واسترشدته؛ فدلني على كتاب الموطأ لمالك بن أنس – رضي الله عنه – فبدأت به عليه قراءة من اليوم التالي لذلك اليوم .
ثم تتابعت قراءتي عليه، وعلى غيره، نحو ثلاثة أعوام. وبدأت بالمناظرة..".(12)
إن المحيط المليء بالعلم ، الذي عاش فيه ابن حزم، سرعان ما رده إلى حظيرته، وأغراه بالولوج فيها، فجاء منه ما جاء، وأصبح إمامًا يُقْتَدَى بآرائه، وصار له مدرسة منفردة متميزة ، لها مريدون ومعجبون .
ونعود مرة أخرى إلى الخط وتحسينه، والعناية به، وهو أمر لم يبدأ في العصر الأموي أو العباسي؛ ولكنه سبق ذلك ، ولعل من أقدم النصوص في هذا ما رُوِي عن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ولا عجب في هذا فهو كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهمية عمله ، وانطلاقًا من تجربته يتوقع منه الإِرشاد للمبتدئين، ووضعهم على الطريق الصحيح فيه، ما داموا غضين، وفي أول الطريق :
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكاتبه عبيد الله ابن أبي رافع: "إذا كتبت فألن دواتك، وأطل من قلمك، وفرج بين السطور، وقارب بين الحروف".(13)
وهذه النصيحة تُحْتَفَظُ بقيمتها إلى اليوم، ومن راعاها سوف يجد أن الصفحة التي كتبها قد ابتسمت، والكلمات واضحة، وأصابع الذي كتبها في راحة لا يشوبها عناء. ولقد كانت النصيحة في محلها، ولا يعيب رئيس الدولة أن يدخل في مثل هذا التوجيه الجزئي، أو يهتم بهذا الأمر الجانبي، لأنه أول من سوف يعاني من أي خطأ يقع فيه الكاتب، وعلى كتفه سوف تقع آثامه، وعلى كتفه سوف يستقر عبؤه، وما أمر ما حدث لخطاب الخليفة سليمان بن عبد الملك من تحريف، وما نتج عنه من ضرر بسبب "نقطة"، هذا إذا صح الخبر، ولم يكن الفعل مقصودًا، وأن زَعْم التحريف ما هو إلا عذر:
"إن سليمان بن عبد الملك كتب إلى ابن حزم عامله على المدينة أن يحصي المخنثين الذين بالمدينة، بالحاء المهملة ، أي يعدهم، ليرى فيهم رأيه، فوقع للكاتب نقطة على الحاء، فصيرتها خاءًا، معجمة .
فلما وصل الكتاب إلى ابن حزم خصاهم من ساعته .
ويقال : بل كتب إليه بخصائهم على الحقيقة، من غير إشكال، ولا تراجع في أمرهم".(14)
ويعلق أبو الفرج الأصبهاني على الخبر بقوله:
"زعم موسى بن جعفر بن أبي كثير قال:
أخبرني بعض الكتاب قال:
قرأت كتاب سليمان في الديوان: فرأيت على الخاء نقطة كتمرة العجوة .
قال: ومن لا يعلم يقول: إنه صحف القارئ، وكانت: (أحص)".(15)(/3)
وسواء وقع ما وقع بالتصحيف ، نتيجة عدم العناية بالخط ، ونقص حسنه وإتقانه ، أو لم يقع فإن احتمال وقوعه بسبب الخط يكفي لتصور فداحة الخطأ بسبب نقطة . وقد قيل مثل هذا عن الكلمة التي قيل إنها حرفت في خطاب عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى واليه بمصر، بأن "يقتل" القائمين عليه، بدلاً من كلمة "يقبل" وقد طُعِنَ في هذه القصة أيضًا، وقيل إنها مفتعلة ولم تحدث .
أما الإِشكال الذي يبدو أنه لايعتريه الخلل فهو ما رُوِي عن أثر سقوط النقطة من حرف ، أدى إلى تفسير مختلف ، عند واحد من العلماء ، حتى كاد يحرم ما أحل الله . وذلك عند ما قرأ عدم جواز "تشقيق الحطب"، والمقصود: "تشقيق الخُطَب"، بمعنى التكلف فيها والتشدق .
ولم يكن الخليفة علي بن طالب – رضي الله عنه – وحده من اهتم بتوجيه الكاتب وإرشاده ؛ بل هناك آخرون أيضًا ، ومنهم الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – فقد كان له رأي ثمين أهداه إلى عماله ، لينقلوه إلى كتابهم ، مع نصبهم رقباء عليهم في التنفيذ :
"كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله :
إذا كتبتم فَأَرِقُّوا الأقلام ، وأقلوا الكلام، واقتصروا على المعاني، وقاربوا بين الحروف ، تكتفوا من القراطيس بالقليل".(16)
وقد التقى في خطابه هذا مع علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – في المقاربة بين الحروف، وأعطى التعليل لذلك من منطلق التقوى، فهو لايريد أن يسرف الكتاب في الورق، ولا أن يتباهوا بالخطوط، وهمه صحة ما يكتب، وصواب ما يقال، مع دقة المعاني، وحسن جمالها لما حُملت .
هذا والخط الحسن يساعد على تدبر المعاني، وانصباب الذهن إليها بدلاً من اتجاهه لحل مغلق الخط ، ومعالجة رداءته، مما يشغل القارئ بالوسيلة عن الغاية، وهذا قلب للأوضاع، وتوجيه للأمر غير وجهته، ومما قيل في هذا :
"قالوا: الخَط الحسن يزيد الحق وضوحًا".(17)
وقد أعطوا أهمية لما يُكْتَب، لأنه لم يُكْتَب لوقت حاضر، وزمن محدد؛ بل كُتِبَ ليبقى، يجاهد الزمن، ويتخلل العصور، ويمر عبر الحقب؛ ويكون واضحًا مقبولاً في كل زمان، وقد قالوا عنه مقارنة بالقول الذي ينقطع بمجرد انتهاء قائله منه:
قال ابن القريّة :
خط القلم يقرأ بكل مكان، وفي كل زمان، ويترجم بكل لسان، ولفظ الإِنسان لايجاوز الآذان".(18)
وإذا كان هذا رجع صدى اهتمامهم بالخط والكتابة ، فلأنهما الوسيلة الرئيسة لعرض الكتاب، والاستفادة منه الاستفادة الكاملة .
ولعل من المناسب أن نختم قولنا في مقالنا هذا بأبيات شعرية، تكشف نظرتهم للكتاب، وتقديرهم له:
"أنشد محمد بن زياد، المعروف بابن الأعرابي:
لنا جلساء ما نملّ حديثهم
ألبّاء مأمونون غيبًا ومشهدًا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى
و عقلاً وتأديبًا ورأيا مسددًا
فلا فتنة تخشى و لا سوء عشرة
ولا يتقى منهم لسانًا ولا يدًا
فإن قلت: أموات فما أنت كاذب
وإن قلت : أحياءٌ فلست مفندًا"(19)
* * *
الهوامش :
(1) معجم الأدباء : 15/35، ترجمة : علي بن محمد (أبو حيان التوحيدي).
(2) معجم الأدباء: 15/123، ترجمة: علي بن هلال (ابن البواب).
(3) معجم الأدباء: 15/124، ترجمة: علي بن هلال (ابن البواب)
(4) معجم الأدباء: 14/150، ترجمة: يحيى بن زياد الفراء.
(5) معجم الأدباء: 12/238، ترجمة: علي بن أحمد الفارسي.
(6) معجم الأدباء: 18/33، ترجمة: محمد بن جرير الطبري.
(7) معجم الأدباء: 18/42، ترجمة: محمد بن جرير الطبري.
(8) معجم الأدباء: 18/228، ترجمة: محمد بن عبد الواحد (المطرزالباوردي).
(9) معجم الأدباء: 18/281، ترجمة: محمد بن واقد الواقدي.
(10) معجم الأدباء: 11/222، ترجمة: سعيد بن المبارك (ابن الدهان).
(11) معجم الأدباء: 16/75، ترجمة: عمرو بن بحر الجاحظ.
(12) معجم الأدباء: 12/241، ترجمة: علي بن أحمد بن حزم الفارسي .
(13) بهجة المجالس : 1/356.
(14) تحفة العروس : 247، الديارات : 85، 87.
(15) الديارات : 85.
(16) بهجة المجالس : 1/157.
(17) بهجة المجالس : 1/357.
(18) بهجة المجالس : 1/357.
(19) معجم الأدباء: 18/195، ترجمة: محمد بن زياد (ابن الأعرابي).
* * *(/4)
الخطاب الأدبي في القرآن الكريم
والسؤال الغائب
بقلم: عباس المناصرة
جاءت معجزة الإسلام (القرآن الكريم) تتحدى العقل البشري بالإعجاز العلمي والثقافي واللغوي والفكري والتشريعي والمنهجي، وكل أنواع الإعجاز البشري في أقصى درجات رقيّه المفتوح إلى يوم الدين. قال تعالى:
(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق) (فصلت 53).
ولكن هذا الإعجاز بمختلف أنواعه وفروعه ورد بصورة واحدة من أساليب الخطاب هي صورة الخطاب الأدبي وهنا تقفز إلى الذهن مجموعة من التساؤلات المتصلة بهذا الخطاب، فمن هذه الأسئلة التي تدور في الذهن مثلاً:
ما الحكمة من مجيء القرآن في خطابه للعرب وللبشرية بجميع أجيالها وبيئاتها معتمداً الخطاب الأدبي أسلوباً؟
ولماذا لم يأت الخطاب الرباني للبشرية بأساليب أخرى من الخطاب، كالخطاب العلمي أو الخطاب الفلسفي أو الجدلي أو خطاب الحقائق والأرقام؟
وبصياغة أخرى:
لماذا اختار الله سبحانه وتعالى أن تكون رسالته الخاتمة لخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم في تبليغ البشرية كافة على صورة الخطاب الأدبي في أعلى مراتب البيان وأرقى أساليب الإعجاز؟
هل هو التحدي والإعجاز للعرب البلغاء الذين خوطبوا به في زمانهم؟ مع العلم أن المعجزة قائمة ودائمة، لا تخص العرب أو البشرية في جيل محمد، ولأن الخطاب القرآني دائم للبشر في جميع الأجيال، والإعجاز دائم ومستمر إلى يوم الدين.
لابد أن هناك حكماً أخرى، غير تحدي العرب البلغاء في ذلك الزمان، وأن تحدي أولئك العرب هو جزء من ذلك الإعجاز، ولكن إعجاز القرآن أكبر من ذلك، لأنه إعجاز ممتد في تحدي البشرية إلى نهاية أجيالها على وجه الأرض.
الآن وفي هذا العصر بالذات، أصبح بإمكاننا أن نتعرف على حكم أخرى مكنونة وراء هذا الاختيار الرباني لذلك الخطاب الأدبي، وخاصة بعد أن ارتقت الأمم بفنونها الأدبية، وتعمقت في تحليل هذا الخطاب وأدركت عظمته وخطره على أذواق الأمم والرقي بها نحو أهدافها المنشودة، وسوف يتأكد لنا ذلك أكثر عندما نتعرف على السمات التالية، التي يمتاز بها الخطاب الأدبي، على غيره من أنواع الخطاب:
1 –قدرة الخطاب الأدبي على التأثير في أذواق المخاطبين والرقي بها نحو الأهداف المرغوبة.
2 –هو أقرب أنواع الخطاب للتربية وتعديل السلوك وتعليم الناس، حيث إنه يرقى بالتفكير والقلب والسلوك من خلال أساليبه المختلفة، كالأساليب النوعية (القصة، والحوار، والشعر، والخطابة، والمثل..) أو الأساليب البيانية (كالتشبيه، والاستعارة، والمجاز، والمشهد، والرمز..) أو الأساليب التي تخص علم المعنى (كالدعاء والاستفهام والتسوية والنداء والتمني والمقارنة والأمر والنهي..) أو الأساليب البديعية (المحسنات، المطابقة، التورية، المقابلة، المبالغة..) وهي أساليب تنبه الحس الجمالي والمتعة في النفوس وتحمل الفائدة المرجوة في ثنايا الخطاب الممتع فتوصلها بطريقة محببة، بعيداً عن أساليب الجدل الجاف الذي لا تصبر له النفوس ولا ترغب فيه.
3 – الخطاب الأدبي لا يؤثر عليه تقلب الزمان ولا تغير المكان، ولذلك هو أدوم تأثيراً وخلوداً من أساليب (العلم، والجدل، والخبر) المتقلبة لتطورها وتغيرها المستمر وجفافها فربما تقرأ الخبر لمرة واحدة ولا ترغب في العودة إليه، بينما يبقى الخطاب الأدبي متميزاً بالجمال والمتعة والحيوية والفائدة وكذلك بالبقاء والثبات والخلود ولا يؤثر على قيمته أو دلالته أو جاذبيته تقادم الزمان والمكان وتقلب الأجيال، لأنه لا يؤدي إلى الملل الذي تقع فيه الأساليب الأخرى، فالنفس لا تمل من تكرار السماع له مرات ومرات، لأنه معجون بالجمال الجذاب للنفوس.
4 – يمتاز الخطاب الأدبي بقدرته على إيصال محتواه إلى طبقات المجتمع على اختلاف شرائحها، ليسر أداته (اللغة) التي يملكها الغني والفقير والمقيم والمرتحل والبدوي والمتحضر والجاهل فهو لا يكلفهم جهداً ولا مالاً وإذا احتاج إلى شيء من ذلك فقد يحتاج إلى اليسير.
5 – وأخيراً، أليس في اختيار الله سبحانه وتعالى للخطاب الأدبي تعليم للبشر، وشهادة منه على أنه أفضل أساليبهم لخطابهم والتأثير فيهم، مما يدلل على أهميته وعظمته وفضله وخطره؟
وهنا نسأل أنفسنا: لماذا أهملت الأمة بحث قضايا الأدب في منجزها الفقهي الضخم، ولم تفرد له أبواباً خاصة كما فعلت لغيره، مع أن الله خاطبها بأدواته وأساليبه؟(/1)
في ظني أن سبب هذا الإهمال، يرجع إلى غياب السؤال عن حكمة الخطاب الأدبي في القرآن الكريم عند فقهائنا، مما أدى إلى إهمال قضية الأدب في فقههم، فأوجد ذلك فراغاً فقهياً استغله تلاميذ الفلسفة اليونانية في العهد العباسي، وعندما قاموا بتعبئة هذا الفراغ وذلك بترجمته نظريات الشعر عند أفلاطون وأرسطو وهوراس، مما أوجد نقداً عربياً على قواعد الذوق الإغريقي، ينحرف بذوق الأمة عن الاستقلال والتميز، فكان هذا السبب في إجهاض الميلاد الحقيقي لنقد عربي إسلامي، يخرج من مرجعية الأمة ومن إنتاجها الإبداعي.
أليس في طرح هذا السؤال الغائب إثارة جديدة لموضوع مهم ينبه دعاة الأدب الإسلامي إلى أهمية دراسة الخطاب الأدبي في القرآن الكريم من جديد، لأنهم سوف يجدون فيه خيراً كثيراً لنظرية الأدب الإسلامي، بدلاً من تسكعهم على أبواب النظريات الأدبية العلمانية، التي لم تقدم شيئاً سوى الحيرة والشتات؟ وأظن أن القرآن الكريم يكفي ويكفي ويكفي حتى يجدوا ضالتهم فيه، فالله سبحانه وتعالى يقول:
(ما فرطنا في الكتاب من شيء).
ليعلموا أن كتاب الله ما فرط في حاجة نحتاجها في دنيانا، ومنها حاجتنا إلى نظرية الأدب، وسوف يجدون التفاصيل في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وفي أدب أصحابه والنتاج الإبداعي للأمة، شريطة أن تتصل العقول بمرجعيتها وهي واثقة بها وتبذل الجهود الكافية لذلك.
ولا يسعني في هذا المجال إلا أن أذكر بجهد رائد قدمه لنا الناقد الإسلامي الكبير محمد الحسناوي في كتابه الرائع (الفاصلة في القرآن) حيث كشف أموراً كثيرة تخص تطور الشعر والنثر، وكيف تغلغل التأثير القرآني في أساليب الأدباء، كما أنه ناقش فرضيات كثيرة حول تطور الشعر الحديث والموشحات وربط ذلك بتأثير لغة النبأ العظيم عليها، ولذلك نحن بحاجة إلى استمرار جهد الحسناوي وجهد غيره في هذا المجال لاستخراج نظريتنا الأدبية من داخل مرجعياتنا وذاتنا الحضارية المستقلة عن حضارة العقل الشرقي (الصوفي) والعقل الغربي (الفلسفي).(/2)
الخطاب الإسلامي في مواجهة التحوّلات الاجتماعيّة والحضاريّة
إبراهيم غرايبة 1/7/1426
06/08/2005
الحديث عن الحركة الإسلامية- وبخاصة التي نشأت حول قضايا كبرى تستحضر المقدسات والتاريخ والعواطف والتأييد الكبير - يشبه الاقتراب من عشّ الدبابير، وبدلاً من الانشغال بالسؤال نتحوّل إلى السّجال والهجاء والصمم الفيزيائي الذي يشغل عن التفكير فيما يجري حولنا، وقد يمضي بالناس والحياة والتاريخ بعيداً عنا، ثم نبقى في مكاننا تحت وطأة الإهمال والعزلة والنسيان، والذكريات المجيدة!
إن الحركات الإسلامية هي أدوات وأوعية للعمل، وليست غاية بحد ذاتها للعمل الإسلامي، ولا هدفاً تسعى إليه الأمة، ولا تختص دون سواها من الأمة بمعاملة أو فقه أو عذر أو واجب؛ فالواجبات منوطة بالأمة بأسرها، ومن حقها (الأمة) أن تراقب وتحاسب هذه الجماعات بصفتها من أدواتها التي تملكها، فالعبرة بمصالح الأمة والمجتمعات والدول (بالمفهوم العلمي للدولة وليس السلطة) وغاياتها.
وقد أدّت الحركات الإسلامية دوراً مهما في مرحلة حرجة كانت الأمة الإسلامية تعاني من الاستلاب والغزو الفكري، وساهمت في إعادة الثقة بالدين والفكر والتراث، ولكن يجب ألاّ نخلط بين الظاهرة الأساسية وبين أدواتها وتجلّياتها وأعراضها، فالصحوة الإسلامية هي حالة للأمة والمجتمعات الإسلامية توصّلت إليها الأمة بأسرها عبر مراحل ومخاضات وتطوّرات، والحركة الإسلامية تعبّر عن هذه الظاهرة ولم تصنعها؛ فالأمة هي التي صنعت الصحوة والحركات والجماعات الإسلامية وليس العكس، والأمر يكاد يشبه العلاقة بين ظاهرة الاتصالات وبين المؤسسات التجارية الصغيرة منها والكبيرة والقائمة على الاتصالات، فلا أحد يقول: إن متاجر أو مصانع أجهزة (الموبايل) هي التي صنعت موجة الاتصالات!
ولذلك فإني أفضل استخدام مصطلح "الخطاب الإسلامي" بما يعنيه من تعبير تطبيقي وعملي، ولا أريد أن أكرّر ما ورد في مجلة (الإسلام اليوم) العدد الخامس حول مفهوم الخطاب الإسلامي، ولكن هذه الإشارة ضرورية للتعامل مع تحوّلات وتطوّرات كبرى جرت على الخطاب الإسلامي نفسه وعلى البيئة المحيطة به.
فقد جاءت السنوات الأخيرة بتحوّلات كبرى حضارية واجتماعية وسياسية واقتصادية وتقنية، وبأحداث عالمية وإقليمية ومحلية غيّرت كل شيء تقريباً، وكان الخطاب الإسلامي واحداً من مكونات وموضوعات التحوّلات الكبرى التي تجعل فهمها خطوة مهمة وضرورية بل وحتمية لنفهم: أين نحن؟ وأين كنا؟ وإلى أين نمضي؟ وماذا كسبنا؟ وماذا خسرنا؟ وماذا نريد؟ وكيف نوّفق بين أهدافنا وإمكانيّاتنا ومواردنا، ونخرج من دوّامة التكرار والهدر لنبدأ بالإقلاع في الطريق الصحيح؟
إن الخطاب الإسلامي ليس هو الإسلام تماماً، وإن كان ناتجاً عن التحرّك بالإسلام والعمل على تطبيقه وفهمه والرجوع إليه، لكنه مجهود بشريّ يخطئ ويصيب، ويقترب من الإسلام ويبتعد عنه، ويستلهم المرحلة والبيئة المحيطة به سلباً وإيجاباً، وقد يكون متقدماً ومبدعاً، وقد يكون قاصراً وفاشلاً، وهو ليس خطاباً واحداً كما الإسلام، ولكنه خطابات عدة مختلفة حسب قراءة النصوص والتراث وفهمها، وما يؤثر في هذه القراءات من بيئة محيطة.
فالحديث عن النظام السياسي أو الاقتصادي الإسلامي أو الإعلام الإسلامي والتعليم، أو الجماعات والمؤسسات الإسلامية، والدول وأنظمة الحكم السياسية الإسلامية هو تعبير نسبي، بمعنى نسبة الخطاب إلى الإسلام.
وفي الحقيقة فإنه نسبة إلى المسلمين، وليس إلى الإسلام، فالخطاب الإسلامي هو "خطاب المسلمين"، والنظام السياسي الإسلامي، هو النظام السياسي للمسلمين، وكذا الدول والمؤسسات والأفكار والبرامج.
ونسبي أيضاً بمعنى "النسبية" أي أنه يسعى للاقتراب من الصواب والعدل، لكنه حتماً ليس الصواب المطلق، ولا الحالة المطلقة التي لا يجوز مراجعتها والتخلي عنها، فالنسبية أولاً، وإن بدأت نظرية علمية فيزيائية أُطلقت عام 1905 على يد عالم الفيزياء المشهور (اينشتاين) لكنها اليوم فلسفة وقاعدة عامة تمتد إلى كل شؤون العلم والفكر والحياة تعبر عن اكتشاف حقيقة عميقة في الكون والحياة.
يصعب الإحاطة بالتحوّلات الجارية في العالم و التي تؤثر في الوقت نفسه على الخطاب الإسلامي، فهذا موضوع يستحق دراسات مستقلة، ولكن ما يعنينا في هذا المقام هو استحضار أهم التحوّلات لربطها بالأفكار والاعتبارات المقترحة لتحديد ملامح ومؤشرات الخطاب الإسلامي القادم.
فقد تبدت في هذه التحولات أولويات واحتياجات جديدة غيّرت كثيراً من واجبات وطبيعة الجهود الإصلاحية، وظهر أيضاً كثير من الإنجازات والمكاسب التي تحققت والتي يجب إدراكها ومراجعة العمل في مجالها لتوجية الجهود والموارد نحو ما لم يتحقّق بعد، وبالطبع فإن ثمة تحديات وعيوباً كثيرة رافقت العمل الإصلاحي يجب الالتفات إليها.
ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى مجموعة من التحولات والمشاهد:(/1)
1- الصحوة الإسلامية الكبرى والتي عمت العالم الإسلامي، وتحوّلت إلى مكون أساسي من مشهد العالم الإسلامي الذي يجب أخذه بالاعتبار عند التفكير بالإصلاح والعمل.
2- تفرّد الولايات المتحدة الأمريكية بالهيمنة على العالم، وانهيار التوازن العالمي الذي كانت تستفيد منه دول العالم وأممه، وعلى أي حال فإنه تفرد مؤقت قد لا يدوم أكثر من عشرين إلى خمس وعشرين سنة، ليدخل العالم في مرحلة تعددية قطبية وتوازن عالمي من جديد، ستكون أهم أطرافه الفاعلة والمؤثرة، أوروبا والصين وروسيا والهند، وشرق آسيا.
وهنا يفرض سؤال نفسه، ويجب مناقشته والتفكير بتداعياته على الخطاب الإسلامي، وهو هل يمكن أن يكون العالم الإسلامي قوة عالمية؟ أو هل يمكن أن يكون طرفاً فاعلاً ومؤثراً على الخريطة العالمية في السنوات الخمس وعشرين القادمة؟
3-تصاعد العنف المنتسب إلى الإسلام (جماعات وحركات العنف والتطرف) وما صحب ذلك من أحداث وتداعيات على العالم الإسلامي، كان من أهمها العودة العسكرية الاستعمارية للولايات المتحدة والغرب إلى العالم الإسلامي، واحتلالها لأجزاء من العالم الإسلامي مثل أفغانستان والعراق وتهديدها لدوله وموارده، وقد انعكست هذه الأحداث على العلاقة بين المسلمين والغرب، وفتحت المجال واسعاً وفي جميع المسارات لإعادة الصراع ومحاولة الفهم والحوار والتهديد والاحتلال.
4- موجة المعلوماتية والاتصال والتي غيرت من وجهة الحضارات والمجتمعات، وبدلت في الموارد والقوة والضعف، وجعلت العالم متداخلا (العولمة).
إن دراسة تداعيات المعلوماتية والاتصال وفهمها سيؤدي بالتأكيد إلى صياغة خطاب إسلامي جديد يأخذ بالاعتبار هذه التحولات التي صنعت عصراً جديداً، وحولت البشرية إلى مرحلة جديدة هي الأهم في مسارها على مدى التاريخ بعد مرحلتي الزراعة والصناعة.
الخطاب الإسلامي (والحركة الإسلامية جزء من هذا الخطاب) والتحوّلات الحضارية والاجتماعية والأحداث الكبرى الجارية والمصاحبة لهذه التحولات قضية تصلح موضوعاً لتفكير وحوار طويل وممتد، فهي تثير شبكة من الأسئلة والتداعيات والإشكاليات والأفكار المتصلة، والتي تحتاج إلى بحث عميق، وعصف ذهني حول قضايا وتداعيات ربما لم تُبحث من قبل على نحو منهجي وموضوعي.
وربما تستطيع مجموعات من المثقفين- وبخاصة من الجيل الذي شهد هذه التحوّلات وراقبها- أن تُجري عمليات تفكير وعصف ذهني وحوارات تخرج بمجموعة من الأفكار القابلة للنشر، وتكون دليلاً مقترحاً للعمل الإسلامي في مرحلة جديدة تختلف أدواتها ومداخل العمل فيها كثيرا عن المرحلة السابقة.
المطلوب فقط أن تلتقي هذه المجموعات في دوائر تتيح للجميع القدرة على الحديث العفوي والمنسق في الوقت نفسه، وألاّ يزيد عدد المشاركين عن خمسة عشر، ويكونون جميعاً مستعدين للاستماع والإصغاء العميق الدؤوب ولتفكير مفتوح غير مقيّد ولا ملزم بأي فكرة أو مقولة مسبقة، وأن ينظر إلى جميع المقولات والأفكار والمعلومات كمدخلات للنقاش الخاضعة للتقييم والمراجعة والنقض والتطوير والاستبدال، وأن يفتح جميع المشاركين قلوبهم وعقولهم بلا حدود أو مواقف تجاه الأفكار والأشخاص.
يمكن أن نضع في البداية نقاطاً وأفكاراً للحوار على هيئة أسئلة، مثل:
ما شروط الحوار والعصف الذهني المتوقع أن نقوم به وآدابه وقواعده؟
ما الأهداف العملية المتوقعة لهذا الحوار؟
ما الصيغة العملية المتوقع أن يؤول إليها البرنامج؟
ما التحولات الحضارية والاجتماعية وما تداعياتها على الخطاب الإسلامي؟
إلى أين وصل الخطاب الإسلامي؟ وما الخريطة العامة لمسار الخطاب الإسلامي؟
كيف يمكن التعامل مع هذه التحوّلات؟
ما الإنجاز وما القصور؟
ما المطلوب وما الممكن؟
ما الذي تحقق وما الذي يجب أن يتحقق؟
ما وصف المشهد القائم للخطاب الإسلامي؟ تحليل المشهد وعرضه.
ما التحولات المطلوبة والمقترحة للخطاب الإسلامي؟
ولعل قائمة التحوّلات التالية تصلح على الأقل كاجتهاد فردي وشخصي لفهم خريطة التحوّلات والتداعيات المصاحبة للتحوّلات الحضارية والمجتمعية والجارية بسرعة لاتنتظرنا:
من المطلقيّة إلى النسبيّة.
من الجماعات إلى المجتمعات.
من الدولة الإسلاميّة إلى دولة المسلمين، ومن الإسلاميّة عموماً إلى المرجعيّة الإسلاميّة.
من السياسة إلى الإصلاح.
من الهرميّة إلى الشبكيّة.
من التلقي إلى المشاركة.
من الحتمية والأُحاديّة إلى الانتقاء والتعدّديّة.
من أُحاديّة الصواب إلى تعدّديّته.
من الكمال إلى الاقتراب منه.
من المثاليّة إلى التراكم، فالاستيعاب، فالإبداع، فالتراكم مرة أخرى.
التمييز بين الوحي المقدس والملزم وبين التراث والإنساني.
التمييز بين النص وبين قراءاته وتفسيره.
التمييز بين الدين والدولة.
من متعة الوصاية إلى مشاركة المجتمع.
من لذّة اليقين إلى قسوة الشك.
من وهم الصواب إلى حقيقة السؤال.
من "غيتو" الجماعات والتنظيمات إلى فضاء الزمان والمكان.(/2)
الخطاب الإسلامي وعصر المجتمعات
إبراهيم غرايبة 15/7/1426
20/08/2005
تحظى دراسة الجهود والحركات الإسلامية والإصلاحية الحديثة بأهمية كبرى في هذه المرحلة ربما تفوق أي مرحلة سابقة فقد حدثت تحولات وأحداث مهمة تبدت فيها أولويات واحتياجات جديدة غيّرت كثيراً من واجبات الحركات والجهود الإصلاحية، وتظهر الدراسة أيضاً كثيراً من الإنجازات والمكاسب التي تحققت، والتي يجب إدراكها ومراجعة العمل في مجالها لتوجيه الجهود والموارد نحو ما لم يتحقق بعد، وبالطبع فإن ثمة تحديات وعيوباً كثيرة رافقت العمل الإصلاحي يجب الالتفات إليها.
لقد خطت الأمة المسلمة منذ مطلع القرن الرابع عشر الهجري خطوات كبرى في مسار النهضة والإصلاح، وتحققت إنجازات مهمة، وهي "الأمة المسلمة" في أوائل القرن الخامس عشر تبدو أحسن حالاً بكثير منها قبل مائة سنة، وأمامها بالطبع أعمال أخرى كبيرة يجب إنجازها ومراحل كثيرة يجب تخطيها بسرعة أكبر، وتواجهها مخاطر وتحديات كبيرة تهددها وتضعفها.
وقد بدأ العمل الإصلاحي بمبادرات ومشروعات نهض بها مصلحون ومفكرون مثل محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، وجمال الدين الأفغاني في مصر والدولة العثمانية، ومحمد عبده ورشيد رضا في مصر، وعبد الرحمن الكواكبي في الشام، ومحمد بلحسن بلحجوي وعلال الفاسي في المغرب، وعبد الحميد بن باديس ومالك بن نبي في الجزائر، والطاهر عاشور في تونس، أو في حركات تحرر من الاستعمار تمزج بين الصوفية والجهاد مثل السنوسية في ليبيا والمهدية في السودان والمريدين في القفقاس، والنورسية في تركيا.
ثم استوعبت هذا التراث الإصلاحي والنهضوي حركات إسلامية منظمة وشعبية مثل الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنا تلميذ رشيد رضا، والجماعة الإسلامية في القارة الهندية، والحركة الإسلامية الشيعية في إيران.
وتطور مشهد العمل الإسلامي اليوم إلى خريطة معقدة وشاملة تشمل دولاً قامت على أساس حركات وأفكار إسلامية أو متأثرة بها، وتجارب ومحاولات للحكم والمشاركة السياسية مثل حزب الرفاه في تركيا والجبهة الإسلامية وحركة مجتمع السلم وحركة الإصلاح في الجزائر، والحركة الإسلامية في اليمن والأردن، وحركات مقاومة للاحتلال، وأحزاباً سياسية تشارك في الحكم والحياة السياسية والعامة، ومؤسسات إسلامية كالمنظمات الدولية والإقليمية والجامعات والبنوك والشركات ومنظمات الإغاثة ومراكز الدراسات والصحف والمجلات ومحطات الإذاعة والتلفاز.
وكان من أهم خصائص المشهد الجديد انتقال مسؤولية الجهود الإصلاحية من الرواد أو الحركات المنظمة إلى حالة مجتمعية تنهض بها شبكة من الحكومات والمؤسسات والجماعات والأفراد، ويقتضي هذا التحول إعادة النظر والتفكير في مسارات العمل الإصلاحي لتناسب المشهد الجديد وأولوياته واحتياجاته وتحدياته وفرصه.
فالحديث عن الإصلاح إنما هو عن دور الأمة، وهو دور لا تغني عنه أعمال جزء من الأمة كالجماعات والحركات والحكومات والمؤسسات، ولكننا نعني مجموع الأمة التي تشكل فيها المؤسسات والأفراد جزءاً من شبكة العمل والإصلاح والتنمية، فالمطلوب ليس فقط أن تبادر المؤسسات المختلفة إلى العمل والبرامج ولكن المطلوب أن ننقل الأمة المسلمة بمجموعها إلى حالة جديدة من الفاعلية الحضارية والاجتماعية، ومعيار نجاح عمل الجماعات والحكومات والمؤسسات والأفراد هو بمقدار نجاحها في التأثير في الأمة ومساعدتها على النهضة والتغيير، وأن تتكامل أعمال ومواقف جميع الأطراف من أفراد وحكومات ومؤسسات أهلية ومجتمعية بحيث تتحقق شبكة من الإصلاح والعمل النهضوي، ولا تكون هذه الجهود مشتتة متعارضة متباعدة، فقد يكون مجموع الأعمال صفراً أو قيمة سالبة، وقد يكون مساوياً لمجموعها، ولكنه يمكن أن يكون أضعافاً مضاعفة وكأنه حاصل ضرب وليس جمعاً؛ لأن الأعمال والمشروعات يمكن أن تتفاعل وتحقق متوالية كبيرة من الإنتاج، وقد تؤدي- وهذا هو الجانب المخيف- إلى متوالية عكسية سالبة من التناقض والتدمير (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً(.ولذلك فإن محاولة التفكير والدراسة في هذا المجال يجب أن توضح مطلبين أساسيين:
ما الحالة التي نسعى إليها ونريدها؟ وكيف تشبك الأعمال والأدوار "تجعل في شبكة" تجعلها أكثر فاعلية واقتداراً وتضاعف آثارها الإيجابية ونتائجها الطيبة.
إنه ليس ممكناً ولا هو مطلوب أن تنهض فئة قليلة من الأمة تعمل وحدها، وتتحمل أعباء النهضة والدعوة، في حين يقف المجموع الباقي يراقب وينظر، أو يحارب ويعوق، ولكن المطلوب تأهيل الأمة المسلمة لتحقق شروط النهضة والإصلاح وتكون قادرة على أداء دور الشهود الحضاري المطلوب منها.(/1)
وقد حدثت تحولات كبيرة ومهمة أثرت في وجهة الحضارات والمجتمعات وغيّرت من الموارد والعلاقات مثل المعلوماتية والاتصالات وتداعياتها على الدول والمجتمعات والتعليم والعلاقات الدولية والاقتصادية والاجتماعية، وكانت هذه التغيرات على درجة كبيرة من الأهمية والتأثير تستدعي فكراً جديداً ودراسات جديدة للإحاطة بمتطلباتها وتحدياتها وفرصها وفهم البيئة الجدية المحيطة بالعمل الإصلاحي والعام ومدخلاته المتغيرة والكثيرة، وقد شغلت مؤسسات ومراكز بحثية كثيرة جداً بفهم وتقدير هذه التحوّلات والظواهر الجديدة كالعولمة على الدول والاقتصاد والقوى العالمية وإستراتيجياتها، ولكني لا أعلم عن دراسات ومؤتمرات لفهم وتقدير اتجاهات وآفاق الدعوة الإسلامية في عصر المعلوماتية والعولمة.
هذه التغيرات المهمة والمؤثرة تعيد صياغة المجتمعات والدول على أسس جديدة، وهي تحوّلات تقتضي إعادة تكييف دور الأمة والمؤسسات والأفراد، واختبار الفرص والتحديات الجديدة.
إن امتداد العمل الإصلاحي إلى العمل السياسي جعل الحركة الإسلامية الواحدة تشتغل بالمشاركة السياسية والنيابية والعمل النقابي والدعوي والخيري، وهذا أدّى إلى فساد واستبداد واحتكار للعمل العام وصدام مع الحكومات بدلاً من التنسيق وضياع الجهود وتكراراها، وتوظيف للعمل العام لأغراض ومصالح حزبية وشخصية، وأفقد الحركة الإسلامية مصداقيتها ونزاهتها.
فالانتشار الإسلامي يجب أن يكون مصحوباً بالامتداد الأفقي للأمة والمجتمعات بأسرها حتى لا يرهن العمل الإسلامي لصراعات ومصالح ورؤى صغيرة، وأن يتحول العمل من تنظيمات وجماعات إلى أمة ومجتمعات.
والحركة الإسلامية مدعوة لمبادرة ذاتية تقوم بها بنفسها قائمة على شبكية العمل الإسلامي وليس هرميته، ومجتمعيّته وليس تنظيميّته، فتجري انسحاباً لمشاركة غيرها وفصلاً تاماً وحقيقياً في القيادة والعمل بين العمل السياسي الحزبي وبين العمل النقابي والخيري والعمل الدعوي، ولا يعقل أن تقع قيادات الحركة الإسلامية فيما يفترض أن تكافح من أجل محاربته من احتكار وسيطرة، فترى القائد قائداً في العمل الخيري والدعوي والسياسي
والنيابي.
وقادة الحركة الإسلامية بسلوكهم هذا لا يقعون في زلل الاستبداد والاحتكار فقط، ولكنهم أيضاً يجعلون الحركة الإسلامية هدفاً معزولاً يسهل إصابته وتصفيته، ويجعلون مغانمهم الشخصية قضية الأمة أو قضية إسلامية ينتظرون من الناس أن يؤيدوهم بها، ويسهّلون على الحكومات ضرب العمل الإسلامي تحت غطاء محاربة التجاوزات القانونية والسياسية.
إن هذا الفصل الإجرائي في التطبيق، والذي يبدأ بالفصل بين المجالات المختلفة للعمل من سياسي ونقابي وخيري ومؤسسي وحكومي يحول ملكية العمل الإسلامي وخبراته وتجاربه إلى المجتمع بأسره أو أكبر قدر ممكن منه، ويقلل من عقلية الاحتكار والوصاية وعدم الثقة بالآخرين، ويحمي الحركة الإسلامية من العزلة، ويجعل الحالة الإسلامية أكثر تجذراً وانتشاراً في المجتمع، وليست مسألة تخص تنظيماً أو جماعة بعينها.
فمسؤولية العمل والدعوة والإصلاح منوطة بكل مسلم بل جميع المواطنين حتى غير المسلمين منهم، وليست حكراً على أفراد أو فئة من الناس، ووظيفة الحركة الإسلامية أن تحشد جميع الناس والفئات في مشروعها الإصلاحي وليس منافستهم المغانم والمواقع والفرص، وكلما تراجعت المصالح الذاتية والتنظيمية تزيد المصداقية والقبول.
وأدّت التحوّلات الكبيرة في المجتمعات ودور الدولة والنمو الكبير للصحوة الإسلامية إلى أولويات ومجالات جديدة للعمل الإسلامي قد يكون تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة وتقرير التنمية الإنسانية العربية من مؤشرات اتجاهاتها، مثل تحريك الدوافع الثقافية والخبرات المجتمعية في التنمية والنهوض وإعادة تنظيم المجتمعات والمؤسسات باتجاه تحقيق الاحتياجات الأساسية كالعدل والمساواة والأمن والغذاء السليم والدواء والمأوى والتعليم والتعليم المستمر والانتماء والمشاركة بأقل التكاليف الممكنة وبأفضل مستوى، والتعامل الصحيح مع مرحلة الخصخصة وتغير دور الدولة وربما مفهومها، وهذا يجب أن يدفع العمل الإصلاحي إلى أوعية جديدة وأولويات تتفق مع هذه المتغيرات والاحتياجات، وكما كانت الحركات الإصلاحية مرتبطة بمقاومة الاحتلال والتحرر والاستقلال انسجاماً مع أولويات المرحلة فإنها في هذه المرحلة مدعوة إلى بذل الجهد والاهتمام بالتنمية الإنسانية والاحتياجات الأساسية، وبخاصة أنها أعمال وبرامج وأولويات تتفق مع خبراتها وإمكاناتها.(/2)
الخطاب الدعوي في السودان د. إسماعيل محمد حنفي*
مقدمة:
الحمد لله القائل :(قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني و سبحان الله و ما أنا من المشركين) ([1]) . و القائل:( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله و عمل صالحاً و قال إنني من المسلمين) ([2]) .
و أصلي و أسلم على رسول الله محمد بن عبد الله القائل :( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، و من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)([3]).
إن الدعوة إلى الله هي السبيل الواضح لبسط الخير و درء السوء، و لكسب الثواب و تجنب العذاب و العقاب، و هي أداة التغيير الحقيقية في المجتمعات، و لذا كان المنهج المتبع في خطابها محتاجاً إلى ضبط و مراجعة و تقويم، و كذا الوسائل و الأساليب المستخدمة تحقيقاً لذلك المنهج ذي الأهداف الربانية.
و يأتي هذا البحث الموجز ليسلط الضوء على منهجية الخطاب الدعوي و أساليبه و وسائله بالتطبيق على الواقع الحالي في السودان، الذي ربما لا يختلف كثيراً عن واقع البلدان الإسلامية الأخرى، و لكن لعل التناول لهذا الواقع يأتي في سبيل تقويم هذا الخطاب في ظل المتغيِّرات التي تمر بالسودان مما لا تخطئه عين.
حيث يستدعي ذلك مراجعة المنهج و ضبطه وفق الأصول الشرعية التي تدعو إلى تمسك بالأصل و مسايرة للعصر، تمسك بالمضمون و المبادئ و الأسس، و مرونة في الوسائل و الأساليب للوصول إلى أهداف ذلك الخطاب الدعوي.
و أتناول الموضوع من خلال مبحثين و خاتمة:
المبحث الأول: أتحدث فيه عن منهجية الخطاب الدعوي في السودان، معرِّفاً في المطلب الأول بالمنهجية في الدعوة، ثم مؤصلاً لهذه المنهجية تأصيلاً يعين على استيعاب الملاحظات المذكورة على الخطاب الدعوي الحالي و الذي أتناوله في المطلب الثاني ملخصاً أهم السمات و الملاحظات.
المبحث الثاني: أتناول فيه وسائل و أساليب الخطاب الدعويفي السودان، معرِّفاً في المطلب الأول بالوسائل و الأساليب، ثم مؤصلاً لها وفق ما ذكره أهل العلم في ذلك، بما يمكن من النظر المناسب لواقع الخطاب الدعوي في السودان من خلال الوسائل و الأساليب المستخدمة: ملامحها و سماتها و ما لها و ما عليها.
خاتمة: ألخص فيها أهم ما توصلت إليه من نتائج، ثم أهم ما رأيته من توصيات.
المبحث الأول : منهج الخطاب الدعوي في السودان
المطلب الأول: المنهج في الدعوة : تعريف و تأصيل
أولاً : تعريف بمنهج الدعوة:
(أ ) المنهج في اللغة([4]) : مادتها (نهج)، يُقال : نهج ينهج نهجاً. و هو الطريق البيِّن الواضح، و يطلق علي الطريق المستقيم. و المنهج و المنهاج بمعنى واحد.
(ب ) في الاصطلاح([5]) : السبيل و السنة، و هو قول بن عباس – رضي الله عنهما- في تفسير قوله تعالى (لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا)، و هذا مرويٌّ كذلك عن مجاهد و عكرمة و الحسن البصري – رحمهم الله – و غيرهم.
إذاً عندما نقول المنهج في الدعوة فإنما نريد الطرق و السبل المسلوكة في تبليغ الدعوة إلى الله، و قد جاء في الحديث :(تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون .... ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)([6]).
ثانياً: مشروعية المنهج في الدعوة:
إن كنا نتفق على أهمية الدعوة إلى الله و وجوبها انطلاقاً من النصوص العديدة في القرآن و السنة مثل : (و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و أولئك هم المفلحون) سورة آل عمران، الآية(104).
و إن كنا نتفق على ما ندعو إليه ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني و سبحان الله و ما أنا من المشركين) سورة يوسف، الآية(108)، إلا أننا نجد أن الاختلاف وارد في المنهج المسلوك في هذه الدعوة، و لا إشكال في ذلك ما دام أن الاتفاق حاصل حول الأسس و المبادئ و المضمون، (فمضمون الدعوة و جوهرها لا يتغيَّر، و حقائق الدعوة و مبادئها لا تتبدل، بل تبقى ثابتةً على اختلاف الزمان و المكان والظروف و الأشخاص. إن هذه الأمور غير خاضعة للتغيير أو التبديل أو الاجتهاد أو النسخ، لأننا لسنا نحن الذين أفردناها أو اخترناها، بل إن الله رب العالمين- سبحانه- هو الذي تكفل بإفرادها و اختيارها و بيانها لنا، و طالبنا أن نلتزم بها و أن لا نخرج عنها، و الداعية مطالب أن يبلغها كلها للناس، و إن لم يفعل فما قام بالمطلوب و لا بلغ الرسالة.. و يحرُم عليه أن يخفي واحدة منها، أو يؤجل أو يعطل واحدة، أو يحرف في معنى واحدة، أو يستحي من الجهر بواحدة. إن الداعية مطالب بالصدع بالأمر، و الجهر بالحق، و القيام بالواجب.
مضمون الدعوة ثابت، و حقائقها راسخة، و كل من اعتدى عليها لينال رضاء الناس و القبول لديهم، فقد خان الأمانة و نقض العهد و باء بسخط من الله (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم و ويل لهم مما يكسبون) سورة البقرة، الآية(79).(/1)
من حقائق الدعوة الثابتة التي لا تتغيير فيها و لا تبديل: بيان الحق و الباطل، و بيان الطريق إلى الله، و بيان الدين عند الله، و بيان أوصاف الذين يحبهم الله، و بيان الوظيفة و الغاية، و بيان الحلال و الحرام، و المعروف و المنكر، و بيان ما يقرره الإسلام، و ما يبطله في حياة الأفراد و الأمة السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الأخلاقية و السلوكية و الإيمانية، و بيان أوصاف الكافرين و الظالمين و المعتدين.
و الداعية في هذه الموضوعات و غيرها ليس مجتهداً و لا مبتدعاً، و إنما هو ملتزم بما ورد منها في الكتاب و السنة، فواجبه هو أن يتدبرهما و يستخرج منهما بيان هذه الحقائق و تحديدها و تفصيلها ( و كذلك نفصِّل الآيات و لتستبينَ سبيلُ المجرمين) سورة الأنعام، الآية (55)([7]) .
إن المضمون (توقيفي) لا تصرف فيه، أما المنهج فإنه اجتهادي، و لذا تتعدد مناهج الناس في تبليغ الدعوة، كلهم يسيرون على أسس و مبادئ راسخة تحدد ملامح تلك المناهج، حتى تصل إلى الهدف جميعاً فلا تزيغ أو تنحرف.
فإن كانت المناهج اجتهادية؛ فإن ذلك يقتضي أن تكون عرضة للخطأ، و لذا فالتقويم مطلوب، و المناصحة مقبولة، و يمكن أن نقول إنَّ نفس الحديث عن المنهج يعد مظهراً من مظاهر النضج في التفكير و تجاوز الوقوف عند المسائل الفرعية و تكرارها و الجدل فيها على حساب الأصول([8]).
و من أهمية الملاحظات التي يتم إبداؤها على المناهج من خلال تطبيقها في الواقع، و هذه الملاحظات قد تختلف فيها وجهات النظر، و لا إشكال في ذلك حيث إن إبداء الملاحظة نفسه يعد أمراً اجتهادياً قد تختلف التقديرات حوله.
كما أن إبداء الملاحظات لا يقدح في أصل المنهج بالضرورة، لأن المناهج قد لا تكون سليمة و لكن الأخطاء تأتي في تطبيقها أو تنزيلها على الواقع، و لذا فإنه لابد من اتساع الفهم، و حسن القبول للملاحظات بدءاً ثم الاستفادة من المفيد الموضوعي منها، و مناقشة ما يحتاج إلى مناقشة بما يحقق الفائدة لمن أبدى الملاحظة و لغيره.
المطلب الثاني: منهج الخطاب الدعوي في السودان:
الواقع و المطلوب([9])
إن واقع الخطاب الدعوي الحالي في السودان يشير إلى مجموعة من الملاحظات المتعلقة بالمنهج، و نذكر من أهمها:
إغفال المرجعية الشرعية:
ففي كثير من الأحيان ينطلق الخطاب الدعوي – بداية و ردّاً- من منطلقات بعيدة كل البعد عن أصول الشرع، مغفلاً فيها أن الدعوة إن كانت لله فينبغي أن تكون وفق ما أراد الله، و أن تقوم على الاتفاق حول التسليم لما قضى الله و رسوله، و عدم الانسياق وراء من يريدون طرح القضايا الشرعية المحكم حكمها لتكون مثار نقاش، بل و يتكلم فيها كل من هب و دبَّ!!
ضعف المنهج العلمي في تناول القضايا الدعوية و التركيز على الجانب الوعظي:
و لا شك أن كثيراً من الدراسات و البحوث العلمية يمكن الاستفادة منها في تدعيم الأدلة لإقناع المخاطبين،. و لكن يلاحظ أن من يهتمون بالمنهج العلمي في الخطاب الدعوي محدودون جداً. و ينبغي بيان محاسن هذا المنهج و ثمراته في الوصول إلى الأهداف.
التطرف في منهج الخطاب:
بحيث يلاحظ التشنج الدائم لدى بعض الدعاة، و حملهم على كل شيئ جملة و تفصيلاً لمجرد أن أحدهم له موقف من المجموعة التي تنفذ ذلك العمل!. و العكس صحيح؛ ربما تجد خطاباً ليِّناً تجاه قضية ما يغلب عليه الثناء و الإطراء، و تفادي النصح و التقويم.
و الذي نحتاجه هو الاعتدال و التوازن الذي يؤدي إلى إيجاد منهج نافع صادق يعبَّر عن الحقيقة بتجرد، و يطمئن الناس و هم يستمعون إلى أصحابه.
اضطراب المنهج:
قد نلاحظ أن الخطاب الدعوي عند كثير من المتحمسين للدعوة خطابٌ لا يمكن توقع أو حساب طريقه أو مسلكه، فهو خطاب مضطرب، مرَّة يبشر و يتفاءل بشدة، و فجأة ينفِّر و يسخط و يتشاءم، مرَّة يتحمس و يقوى، و أخرى يضعف و يحبط و ينهزم!! و مرات كثيرة يحتار بماذا ينطق؟.
إن مرد ذلك كله إلى عدم وضوح المنهج، ذلك المنهج النبوي المنضبط، الذي يجعل أصحابه غير محتارين لأنهم لم يفاجأوا بالأحداث، و يعرفون طبيعة طريق الدعوة.
ارتباط المنهج بالزعامات و الولاءات:
بحيث أن اختيار الزعماء و القادة أو الحزب يكون هو المنهج، و مواقفهم هي التي يقتدى بها و يقاس عليها الحق و الباطل، و المصيب و المخطئ، فالحق يعرف بالرجال و الشخصيات و ليس العكس!!.
و موقف الجماعة أو الحزب هي التي تحدد المشروعية من غيرها مهما كان قربها أو بعدها من الأحكام الشرعيةالواضحة.
و المنهج الصواب في الخطاب الدعوي عند هؤلاء هو ما سار عليه الأسلاف من الدعاة فقط، و كل من يريد الابتكار و التجديد فهو متهم مرفوض. فالأنموذج لا يتغير و لا تراعى فيه ظروف ونوعية المخاطبين. و نجد هذا الأمر عند كثير من المجموعات و الفئات التقليدية.
اعتبار واقع المجتمع معياراً للمنهج:(/2)
و هذا ملاحظ في خطابنا الدعوي، فالخطاب ينبغي أن يسير – عند البعض- على منهج لا يُخَطِّئ المجتمع أو أعيانه أو الدولة، بل لا بد من المسايرة التامة بدون حدود لما يكون عليه واقع المجتمع في وقت ما في ظرف معين. و لعلنا نلاحظ هذا كثيراً في الخطاب الدعوي، حيث يكون هناك استحسان ربما للخطاب الذي يجامل أو يهاجم حسب الأهواء.
و المطلوب جعل المنهج المتبع هو المنهج الشرعي الذي يؤدي إلى تحقيق نظرة موضوعية، و تقويم متجرد، لأن المجتمع ليس معصوماً، و يحتاج إلى من يقوده أو يأخذ بيده لا سيما عند الفتنة و اضطراب الأحوال، و لا أفضل لهذه المهمة من الدعاة.
المبحث الثاني: وسائل و أساليب الخطاب الدعوي في السودان
المطلب الأول: الوسائل و الأساليب في الدعوة: تعريف و تأصيل
أولاً: و سائل الدعوة:
(أ ) تعريفها([10]) : الوسائل و الوُسل: جمع وسيلة، و الوسيلة ما يتوصل به إلى الشيء و يتقرب به، وتأتي الوسيلة في اللغة لمعان متعددة منها: المنزلة عند الملك، و الدرجة، و القرابة، و الرغبة، و تأتي بمعنى السرقة.
و في الاصطلاح: لعلماء أصول الفقه اصطلاحان في معنى الوسيلة:
اصطلاح عام: الوسائل هي الطرق المفضية إلى المصالح أو المفاسد. و بعبارة أخرى: هي الطرق المؤدية إلى المقاصد.
قال القرافي: "و موارد الأحكام على قسمين: مقاصد، و هي المتضمنة للمصالح و المفاسد في أنفسها، و وسائل و هي الطرق المفضية إليها"([11])
اصطلاح خاص: الطرق المفضية إلى تحقيق مصلحة شرعية:
و بناءً عليه يمكن القول إن وسائل الدعوة هي كل ما يتم استخدامه من أجل تبليغ الدعوة في وقت ما أو مكان ما.
(ب) وسائل الدعوة هل هي توقيفية أم اجتهادية؟:
أولاً: لا بد من تقرير أن وسائل الدعوة لا يحكم عليها إلا بعد عرضها على الشروط الشرعية، فمتى وجدت هذه الشروط جميعها في وسيلة ما حكم ببطلانها.
و هذه الشروط هي ([12])
1- أن تكون الوسيلة في ذاتها مشروعة، واجبة، مباحة، فلا تكون محرَّمة([13]).
2- أن يكون المقصد المتوسل إليه مشروعاً، أي ألا يكون حراماً، و أن يبقى هذا المقصد و لا يسقط([14] ).
3- أن تكون الوسيلة مفضية إلى المقصد قطعاً أو غالباً، أما النادر أو الظن فلا عبرة به([15]) .
4- ألا يترتب علي التوسل بهذه الوسيلة إلى مقصدها مفسدة تزيد على مصلحة هذا المقصد أو تماثلها؛ إذ الغرض من هذا التوسل تحصيل مصلحة هذا المقصد المتوسل إليه، و هذه المصلحة متى ترتب على تحصيلها مفسدة أعظم منها أو مثلها كانت تحصيلاً للمفسدة أو من قبيل تحصيل الحاصل، و كلا الأمرين باطل. و معلوم أنَّ سد الذرائع أصل معتبر([16])، و أن أعظم الضررين يدفع بأقلهما.
ثم فيما يتعلق بالتوقيف أو الاجتهاد بالنسب لوسائل الدعوة يمكن أن يفصَّل في المراد بوسائل الدعوة: إن كان المراد منها منهج الأنبياء الثابت في الدعوة إلى الله تعالى فلا شك أن ذلك مطلوب، و لا مجال فيه للاجتهاد.
أما أن أريد بهما ما يستخدم من أدوات لتبليغ من كتاب أو مشافهة مباشرة أو غير مباشرة، فلا شك أن وسائل الدعوة بهذا المعنى ليست توقيفية بل هي خاضعة للاجتهاد و النظر حسبما يحقق المصلحة.
أما(لفظة اجتهادية) فتحتمل معنيين: فإن أريد بها الاجتهاد غير المنضبط، و هو القول بالرأي المجرد و اتباع الهوى، فلا شك أن وسائل الدعوة ليست اجتهادية بهذا المعنى . و إن أريد بالاجتهاد إعمال الفكر و إطالة النظر في إطار الضوابط الشرعية، فيصبح القول بأن وسائل الدعوة اجتهادية على هذا المعنى.
كذلك لفظة (توقيفية) تحتمل معنيين: إما مطلق الدليل الشرعي عاماً كان أو خاصاً، و على هذا المعنى يصح أن يقال إن وسائل الدعوة توقيفية. بمعنى أن هذه الوسائل لا بد أن تضبط بالضوابط الشرعية؛ لئلا تكون ميداناً لزيادات المبتدعين و تحريف الضالين. و قد يراد بالتوقيف ثانياً: الدليل الشرعي المعين، بمعنى أن الأدلة الشرعية الكلية التي قد تدل على اعتبار مثل هذه الوسيلة، لا تكفي وحدها دليلاً على صحة هذه الوسيلة و اعتبارها شرعاً، بل لا بد من دليل شرعي يدل دلالة خاصة على اعتبار عين هذه الوسيلة و صحتها من جهة الشرع.
و لكن الأخذ بهذا المعنى لا يستقيم – كما يشهد بذلك واقع الحال- إلا بتحريم جميع وسائل الدعوة العصرية التي لم توجد في عصر النبوة و الصحابة، كإنشاء المدارس و المكتبات و ما إلى ذلك من الآلات و المخترعات الحديثة المنتشرة في عصرنا هذا؛ ذلك أن هذه الوسائل لم يدل على اعتبارها دليل شرعي خاص.(/3)
و بناءً على مذهب التوقيف الخاص فإنه لا يحلُّ لأحد أن يشرع في وسائل الدعوة ما لم يأذن به الله – في نظرهم- و هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه، و من ثم فيحرم كل ما سمي و سيلة مما لم يشهد له دليل شرعي خاص، و اعتبار الأخذ بهذه الوسائل ابتداعاً في الدين. و أما بعض الوسائل الدعوية الحديثة كالأشرطة و مكبرات الصوت التي دلت على صحتها الأدلة الشرعية العامة دون الأدلة الخاصة، فإنهم يسمونها باسم آخر غير الوسائل مثل: قالب أو وعاء أو طريقة أداء و بلاغ، أو آلات نقل.
و قد غاب عن هؤلاء أن هذه القوالب و الأوعية التي تقوم بنقل الوسيلة الشرعية كالشريط و مكبر الصوت يمكن أن تسمى بوسائل الوسائل، و قد عُلم أن وسائل الوسائل وسائلٌ، و هذه التسمية مذكورة عند العلماء الذين لهم عناية بقضية الوسائل([17]) .
ثانياً: الأساليب في الدعوة:
(أ) تعريف الأساليب في الدعوة.
في اللغة ([18]):
جمع (أسلوب)، و هو الطريق الممتد، و الوجه، و المذهب، و يقال: أنتم في أسلوب سوء، أي في طريق أو مذهب سوء.
كما يراد بالأسلوب الفن، يقال: أخذ فلان في أساليب من القول، أي أفانين منه، و هي أجناس الكلام و طرقه.
في الاصطلاح([19]):
الأسلوب في مجال الدعوة إلى الله هو الطريقة التي يلجأ إليها الداعي إلى الله في دعوته ليحقق بها أهداف الدعوة.
(ب) أساليب الدعوة هل هي توقيفية أم اجتهادية؟
لو أردنا أسلوباً دعوياً يشمل الأساليب الدعوية كلها لم نجد إلا الحكمة.. (ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن) سورة النحل، ألآية(125)، (يؤتي الحكمة من يشاء و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) سورة البقرة، الآية(269).
و الحكمة هي: "الإصابة في القول و العمل و الاعتقاد، و وضع كل شيئ في موضعه بإحكام و اتقان"([20]).
أو هي: "فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي"([21]).
و إنما تحقق الحكمة ذلك لأنها " تمنع صاحبها من الوقوع فيما يذم فيه، أو ما قد يندم عليه، و تمنعه من اختيار المفضول دون الفاضل، أو المهم قبل الأهم"([22]).
فإن كان الأمر كذلك، فإن الأسلوب المطلوب في الدعوة ينبغي أن تتوفر فيه الحكمة بهذا المفهوم. و هو مفهوم و إن كان منضبطاً محكماً إلا أنه مرن يستوعب كل أسلوب يحقق وضع الأمور في مواضعها، و يجلب أفضل النتائج. و لذلك يمكن القول بأن أصل الأساليب و منطلقها توقيفي، أما فروعها المنطلقة من هذا الأصل فاجتهادية، أي تأخذ من أصل المشروعية و الجواز، و تتفرع بحسب الأحوال و الظروف.
و لذا نجد مجموعة من الأساليب في الدعوة وردت في القرآن و استخدمها الأنبياء و الدعاة المصلحون من بعدهم، و منها:
• أسلوب الشرح و التفصيل للدعوة التي هي من أصول الدين.
• أسلوب المقارنة بين دعوة الحق و الدعوات الأخرى كأهل الكتاب.
• أسلوب الرد على الشبهات و المفتريات.
• أسلوب التعهد و التربية و الإعداد.
• أسلوب التجميع و التصنيف و التوظيف.
• أسلوب الترغيب و التبشير.
• أسلوب الترهيب و التهديد.
" و بكل أسلوب من هذه الأساليب نجد مثالاً أو أكثر في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المطهرة، و في السيرة النبوية العطرة. و على الداعية الحصيف أن يختار الأسلوب المناسب للموقف الذي هو فيه، و للناس الذين يدعوهم، و للبيئة التي يعمل فيها، و ليس شيئاً من هذه الأساليب واجباً دون سواه، كما أنه ليس منها أسلوب أفضل من أسلوب، و إنما حميعها تتساوى في الوصول إلى الهدف و الغاية"([23]).
المطلب الثاني: وسائل و أساليب الخطاب الدعوي في السودان: الواقع و المطلوب:
يلاحظ على الخطاب الدعوي المتداول في الآن في السودان الآتي:
•تلون الخطاب الدعوي و تحوُّله سلباً بحسب الظروف:
و المقصود كما هو واضح هناالتلوُّن و التحوُّل اللذان يؤديان إلى تقهقر هذا الخطاب و انكماشه تحسب الظروف و الأحوال التي غالباً ما تكون سياسية، فتتغيَّر الموضوعات أو طريقة عرضها تبديلاً أو إنقاصاً للحقائق، أو تتغير النبرات من نبرات قوية ثابتة واثقة إلى متراجعة ضعيفة مهتزة، و من أسلوب هجومي إلى أسلوب دفاعي اعتذاري تبريري توفيقي. حتى أصبح نفي الاتهامات الموجهة للمسلمين بالتطرف و الإرهاب مادةً دسمة سهلة التناول لكل داعية. و إشكالية ذلك أن التهم لم و لن تتوقف، فهي سنة ثابتة منذ إرسال الرسل إلى ما شاء الله، فهل نبقى في دعوتنا منتظرين التهم لنرد عليها؟ و بذلك يفلح أعداؤنا في تحديد موضوعات الخطاب الدعوي لدينا؟!.(/4)
"و قد بلغ التردي في هوة الاعتذار و التبرير مداه حينما أصبحنا نجد أن جوانب عديدة من الشريعة و الأخلاق و القيم الإسلامية يجري تجاهلها بل و إسقاطها من بنية الفكر الديني نفسه خوفاً من أن لا تعجب الأجانب و تصبح عرضة لتوجيه اتهامات جديدة، و هكذا خفت الحديث و اختفى عن تطبيق الشريعة الإسلامية، أو إعداد العدة للجهاد، أو تكريس الجهود لنشر الدعوة الإسلامية، أو تطبيق الحدود الشرعية، أو النهوض لمحاربة غير المسلمين المتسلطين على بلاد الإسلام، فكل هذا ممنوع في ظل سيادة نزعة دفاعية اعتذارية قد رتَّبت جهودها على مجرد النفي الدائم و الأزلي لاتهامات دائمة و أزلية"([24]).
•لافتقار إلى الحكمة. في كثير من الأحيان:
في طرح الأفكار و الآراء المتباينة حول القضية الواحدة، و هذا نلاحظه عند الدعاة و هم يخاطبون الناس وفق الرؤى التي تظهر لهم بحسب المدارس الدعوية التي ينتمون إليها، فنجد في كثير من الأحيان حرصاً على إثبات أنه وحده الصواب، و الآخرون خطأ قولاً واحداً.
و ليس هذا فحسب بل و ربما الازدراء و الاستهانة و الاستخفاف بالآخرين، فتكون النتيجة انصراف الناس عن الجميع، و الصدُّ عن سبيل الله، و فقدان الثقة في الدعاة، و عدم إقبال غير المسلمين على الاسلام.
• التركيز على الوسائل التقليدية في الدعوة قولاً و فعلاً([25]):
و على المنابر المعروفة كذلك، و إغفال الوسائل و المنابر التي يتحقق بها بناء و إعداد الأفراد و الجماعات بما يحقق منهم دعاة مؤهلين لخدمة الدعوة. إذ يلاحظ كثرة الجهد المبذول و البرامج المنفذة مع قلة العائد، و ذلك لغياب البرامج العملية الإعدادية التي يكون فيها التدريب العملي مع المتابعة بالبرامج المتتالية المتقدمة على أسلوب الجرعات.
و إنما يتحقق ذلك بجودة التخطيط مع دقة التنفيذ الذي يتولاه المتخصصون المخلصون في هذا البلد.
و لعل من أبرز هذه البرامج الدورات العلمية الدعوية المتخصصة التي توجه إلى فئات المجتمع المختلفة، كل حسب مستواه و حاجته.
• قصرالخطاب الدعوي في كثير من الأحيان على الشباب المستقيم القريب من الدعاة: و المتعاطف مع الإسلام بطبعه، و إغفال البقية ممن هم أحوج إلى ذلك الخطاب. و لذا يلاحظ أن الإسلوب المتبع لا يتغيير، لأن الفئة المستفيدة منه واحدة، و قد تصل رسالة خاطئة للدعاة من خلال ما يرونه من الحماس لدى من يستمعون إليهم، فيستمرون في نفس الاتجاه بنفس الأساليب و الوسائل لظنهم أن الدعوة تؤتي أكلها بسبب ذلك الاستحسان الملاحظ على وجوه المخاطبين، أو المسموع ثناءً من بعضهم. و النتيجة جهود مهدرة، وشحن زائد دون منهج علمي يراعي التكامل و الشمول في محتوى الخطاب الدعوي، و كذلك تداول محدود للمعرفة و الدعوة إلى الخير، و غياب الجزء الأكبر عن مواطن الإصلاح و سُبُل الهداية.
• تمركز الخطاب الدعوي – في الغالب – في المدن الكبرى: التي تعج بأساليب الدعوة المختلفة، و في المقابل إهمال القرى و الهجر و البوادي. و ينعكس ذلك على الوسائل المتبعة في توصيل الخطاب الدعوي، و كذلك الأساليب، و إنما يدرك ذلك من خلال ما نراه من كثرة البرامج الدعوية و تكرارها في المدن مع عدم وجود شيئ من تلك البرامج في القرى و الأرياف، و ذلك لإحجام كثير من الدعاة عن الذهاب إليها بحجة كثرة المشغوليات([26])!!.
• خطاب ارتجالي: ليس مخططاً له في كثير من الأحيان، و إنما يكون بحسب الاجتهادات الفردية،و استجابة فورية للأحداث الطارئة و النوازل غير المتوقعة، دون توقع للاحتمالات و رصد للحلول المناسبة لها عبر الخطاب الدعوي الحكيم. و لعل من أسباب ذلك انعدام المرجعية العلمية التربوية، و تغليب العاطفة على العلم و غياب المؤسسية، و ضعف الانتماء الحركي الضابط لسير الدعوة.
• خطاب صفوي في بعض الأحيان: يخاطب فئة من المثقفين و المتعلمين، بالمصطلحات التي يفهمونها، و وفق الهموم و المشكلات التي تشغلهم، و من ثمَّ حدث تحجيم لقاعدة الخطاب الدعوي و تم قصره – غالباً – على فئات معينة من المجتمع، و تبع ذلك تصنيف للناس، و من ثم الابتعاد عن بعضهم و الاهتمام بآخرين مما وسَّع الهوة بين هؤلاء و أولئك.
• خطاب تقليدي في أكثره: يخاطب الناس بأسلوب مبسط و غير جاذب، بل رتابته كفيلة بصرف الناس عنه، بالأضافة إلى الموضوعات التقليدية التي يتم تناولها في هذا الخطاب، فهي موضوعات حفظت لدى كثير من المخاطبين بسبب تكرارها و طريقة عرضها.
• خطاب متأطر بأُطر محددة: قد تكون مذهبية بحسب الانتماء إلى جماعة أو مذهب، و قد تكون حزبية بحسب الانضواء تحت حزب سياسي أو فكري.(/5)
فنجد أصحاب هذه الأطر في –الغالب- لا يخرج يخرج خطابهم عن حدود الجماعة أو الحزب أو الطائفة، و لا يصدر إلا عن فكرها أو برنامجها، و لذا ربما يشعر المخاطبون بالجانب التحيُّزي أو الميل المصلحي في الخطاب فينصرفون عن الاستماع إليه أو العمل بما ورد فيه، و كأن المراد هنا بعبارة أخرى: الشعور بعدم الإخلاص في الخطاب الدعوي، فهو خطاب ما أريد به وجه الله.
• خطاب أسلوبه في أغلبه نقدي: و النقد البناء لمسيرة الدعوة و لأداء الدعاة أمر ليس ممنوعاً، فجهد البشر له إيجابياته و سلبياته بحسب قربه أو بعده من مشكاة النبوة.
و لكن الإشكال أن الخطاب الدعوي الصادر عن بعض الدعاة أو غيرهم ربما يلاحظ عليه الحرص على تصيُّد العثرات و تضخيم الأخطاء و إبرازها بصورة مبالغ فيها إلى درجة طغيانها على الإيجابيات.
إن البرنامج الدعوي لدى بعض الدعاة يقوم أساساً على الرّد الشفاهي أو الكتابي على الآخرين بحجة إظهار الحق و تقويم الاعوجاج، و النتيجة عدم تقديم شيء في التعريف بالناس و محاولة هداية الناس إليه، أو تصحيح المفاهيم الخاطئة، أو تعليم الجاهلين به.
• ضعف الاستفادة من الوسائل الحديثة([27]): سريعة التأثير داخل و خارج البلد مثل شبكة المعلومات (الانترنت)، و لو سألنا أنفسنا: ما هي الجهات الدعوية التي أنشأت موقعاً يعنى بالدعوة على الأقل باللغة العربية؟ سنجد أن الاجابة محبطة.
ما الذي يمنع من ذلك؟ الإمكانيات؟ لا...
عدم وجود الكفاءات؟ لا...
و إنما عدم الاهتمام الكافي بالدعوة، و قصر النظر عند الكثيرين و تركيز الاهتمام على الأساليب و الوسائل التقليدية محدودة الأثر بسبب عدم الدخول فيما يجلب التعب و المزيد من المسؤولية. و ربما أيضاً قصر أمر الدعوة و التخطيط لها و التنفيذ على أسماء محددة كان لها فضل و جهد و سبق البذل، و لكن هناك غيرهم ممن لم تتح لهم الفرصة للعطاء ليتم التعرف عليهم و الاستفادة من قدراتهم.
و أعلم أن بعض المؤسسات الدعوية أنشأت لها مواقع و لكن أين تلك المواقع؟ و من يعرفها؟ و من يدخل عليها؟ ماذا فيها؟ لا شيء !! لماذا؟
• ضعف – بل ربما انعدام- وسائل تقويم أداء الخطاب الدعوي: يلاحظ أن الإمم الناجحة هي التي ترسم الخطط بعد أن تضع الأهداف، ثم تحدد الوسائل و الأساليب المناسبة لتحقيق الأهداف، ثم بعد العمل – بل و أثناءه- يكون التقويم الدقيق القائم على الإحصاءات و القياس العلمي، و بناءً عليه يتم الاصلاح للانحراف أو معالجة الأخطاء لتستمر المسيرة بصورة سليمة.
فأين ذلك عندنا؟
قد يقال : الندوات و السمنارات و الورش ... تعقد لأجل ذلك .. نقول: فأين العمل بتوصياتها؟ و أين قياس الاستفادة من تلك التوصيات و القرارات؟ من يتابعها؟ من يحاسب؟
أخيراً يلاحظ أن الخطاب الدعوي عندنا يقتصر في الغالب على المسلمين، و بناءً عليه فإن الوسائل المستخدمة و كذا الأساليب تركز على مخاطبة المسلمين مع ما ذكرنا سابقاً أنها قاصرة حتى في مخاطبة المسلمين من حيث المكان أو الفئة المستهدفة أو نوعية الخطاب... إلى غير ذلك.
و لا شك أن الذي يعرف طبيعة الدعوة الإسلامية منذ انطلاقتها في عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يدرك أنها ليست موجهة فقط لمن اهتدى إلى هذا الدين بفضل الله تعالى فقط، و إنما هي موجهة بدرجة كبيرة لغير المسلمين الذين قد يحال بينهم و بين التعرُّف على الإسلام، و لذا فالمسئولية كبيرة على ولاة الأمر من حكام و علماء و دعاة في توصيل الدعوة إلى أولئك بالإساليب و الوسائل المناسبة.
و نحن في السودان معنيون بهذا الأمر ربَّما أكثر من غيرنا بالنظر إلى طبيعة التركيبة السكانية بهذا البلد، و المشكلات التي نعيشها بسبب الحرب، و البوادر الطيبة الآن بحدوث السلام.
و لعل الكثيرون يتفقون معي في أن العمل الدعوي لو كان بالصورة المناسبة و وجد الدعم و الاهتمام منذ الاستقلال و بعده لكان الحال غير ما نرى الآن، و ليتنا ننتبه الآن بعد كل هذا لبذل الجهد للعناية بالدعوة – وسائل و أساليب- مع غير المسلمين في هذا البلد.
خاتمة:
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله، محمد بن عبد الله، و على آله و صحبه و من ولاه ... و بعد:
بعد هذا الاستعراض للخطاب الدعوي في السودان – من خلال هذا البحث الذي ركز على المنهج و الوسائل و الأساليب المستخدمة- نرى أن أهم النتائج التي تستخلص تتمثل في الآتي.
1. الخطاب الدعوي لا بد أن ينطلق من منطلقات شرعية سليمة، و لا بدَّ أن يُتفق حول مضمونه.
2. منهج الخطاب الدعوي منضبط بأصول و قواعد شرعية تؤكد سلامته من حيث محدداته العامة، و لكن هذا المنهج يقبل التعدد من حيث التفاصيل و بالنظر إلى الاختلافات بين البشر و رؤاهم و ظروفهم.
3. هناك ملاحظات على الخطاب الدعوي في السودان من حيث المنهج تدور حول المرجعية و العلمية، و التوازن و الاستقرار و الممارسة، و المعايير المستخدمة في الحكم على المنهج نفسه:(/6)
4. الوسائل و الأساليب يجب أن تكون مشروعة، و أن تربط بالمقصد المشروع، و أن ينظر في المصالح و المفاسد المترتبة على استخدامها بحسب الأحوال. و هي – أي الوسائل و الأساليب- توقيفية من حيث المشروعية الأصلية و الأدلة المبادئ و القواعد العامة التي تندرج تحتها، أما من حيث التفصيل و التطبيق فهي بحسب الأحوال و الأشخاص و الظروف.
5. هناك ملاحظات على الوسائل و الأساليب المستخدمة في الخطاب الدعوي في السودان، و تدور حول: الانضباط و الاستقرار فيها، و مراعاة الحكمة، و التوزيع و التركيز الجغرافي، و الارتجال، و المخاطبين و أنواعهم، و التقليدية، و التركيز على لونية معيَّنة أو فئات محددة، و المذهبية المؤثرة، و نوعية الوسائل في الاتصال أو التقويم...إلخ.
التوصيات:
و نوصي بالآتي:
1. المراجعة العلمية المستمرة للأداء الدعوي، و استخدام وسائل تقويم دقيقة علمية لمعرفة الوضع بالضبط وفق المنهج المحدد مسبقاً.
2. رصد الملاحظات بدقة من خلال غيرنا، و الاستفادة منها في التقويم.
3. العناية بالخطط التي تضبط مسار الخطاب الدعوي و تحكم أداءه في كل الظروف و الأحوال.
4. الاستفادة من الكفاءات الموجودة، و تجديد القيادات الدعوية، و محاولة المزاوجة بين علم الشيوخ و حكمتهم و بين حماسة الشباب و اندفاعهم و طاقاتهم.
5. العناية بالتخصصات في الدعوة دراسة و ممارسة: نحتاج إلى متخصصين في الوسائل و الأساليب، يقدمون فيها الدراسات العلمية الدقيقة التي تطرح الوسائل و الأساليب المتجددة المناسبة لكل بيئة و لكل ظرف.
6. إعطاء الدعوة الأولوية لدى صناع القرار و ولاة الأمور، فلا تكون أقل من غيرها و في ذيل الاهتمامات. و الأمر ليس تكفي فيه العاطفة و الوعود، بل التنفيذ.
و أؤكد مرة أخرى أن ما جاء في هذا البحث يعدُّ شيئاً موجزاً لموضوع كبير، يمكن أن يدلي فيه أخيار ذوو تجربة أرسخ منا، و قد تختلف الرؤى و الآراء حول الموضوع، لأنها ملاحظات، قد يكون تم فيها التركيز على السلبيات تحفيزاً على معالجتها أو تفاديها أو تدارك النقص لإكماله، و إلا فالإيجابيات كثيرة، و جهود العلماء الأخيار و الدعاة الفضلاء بيِّنة لا تنكر، و كذا الجمعيات و المنظمات و المؤسسات.
أسأل الله أن يثيبنا على ما أصبنا فيه و يعفو عنَّا فيما أخطأنا.. و الله المستعان.
مصادر البحث و مراجعه:
أولاً: كتب التفسير:
1. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار الشعب، مصر، بتحقيق: عبد العزيز غنيم و آخرون.
ثانيا: كتب السنة و شروحها:
2. صحيح البخاري مع شرحه، فتح البارين ابن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي و محب الدين الخطيب و المطبعة السلفية و مكتبتها، القاهرة، 1380هـ.
3. صحيح مسلم بشرح النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1392هـ ط/2.
4. المسند، أحمد بن حنبل، مؤسسة قرطبة، مصر.
5. النهاية في غريب الأثر، ابن الجزري، المكتبة العلمية، بيروت، 1979م، تحقيق: أحمد الزاوي، محمود محمد الطناحي.
ثالثاً: الفقه و أصوله و قواعده:
6. إعلام الموقعين، ابن القيم، دار الجيلن بيروت، 1973م، تحقيق: طه عبد
الرؤوف سعد.
7.الأشباه و النظائر، ابن نجيم، دار الكتب العلمية، بيروت، 1400هـ، 1980م.
8. الأشباه و النظائر، السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت،1403هـ، ط/1.
9. الفروق، القرافي، دال المعرفة، بيروت، عن طبعة إحياء الكتب العربية، القاهرة،1347هـ.
10. القواعد، المقري.
11. قواعد الأحكام، العز بن عبد السلام، دار الكتب العلمية، بيروت.
12. مجموع الفتاوى، ابن تيمية،مكتبة ابن تيمية، ط/2، تحقيق: عبد الرحمن بن قاسم النجدي.
13. الموافقات، الشاطبي، دار المعرفة، بيروت، تحقيق: عبد الله دراز.
14. الوسائل و أحكامها في الشريعة الاسلامية، د. عبد الله التهامي، مقال منشور في مجلة البيان، العدد(106)، جمادى الآخرة 1417هـ، نوفمبر 1996م.
رابعاً: كتب الدعوة:
15. أخطاء في فهم المنهج، محمد عبد الله الدويش (مقال) مجلة البيان، العدد(100)، ذو الحجة 1406هـ، مايو1996م.
16. الحكمة، د. سعيد القحطاني.
17. الحكمة، ناصر العمر.
18. تجديد الدعوة، د. عبد الحميد أبو سليمان، بحث منشور ضمن أبحاث و وقائع اللقاء الخامس لمنظمة الندوة العالمية للشباب الإسلامي، كينيا، 20-244/1982م، ط/2، 1985م.
19. تحولات التعبير عن الفكر الإسلامي المعاصر، د. محمد يحي (مقال)، مجلة البيان، العدد(110)، شوال 1417هـ، مارس 1997م.
20. الخطاب الدعوي المعوقات و الموجهات، د. إبراهيم على محمد أحمد، مجلة أبحاث الإيمان، يصدرها المركز العالمي لأبحاث الإيمان في السودان (محكمة)، العدد(14)، يناير 2004م.
21. الدعوة إلى الله بين الأسلوب و المضمون، د. صلاح عبد الفتاح الخالدي (مقال)، مجلة البيان، العدد (4)، جمادى الآخرة1407هـ، فبراير1987م.(/7)
22. دعوة الجماهير، مكونات الخطاب و وسائل التسديد، د. عبد الله الزبير عبد الرحمن، سلسلة كتاب الأمة، رقم(76)، ربيع الأول1421هـ.
23. فقه الدعوة إلى الله، د. علي عبد الحليم محمود ، دار الوفاء، المنصورة، مصر، 1990م.
خامساً: المعاجم اللغوية:
24. القاموس المحيط، الفيروزآبادي، المطبعة الأميرية ببولاق، ط/3، 1301هـ.
25. لسان العرب، ابن منظور، الإفريقي، دار صادر، بيروت.
26. مختار الصحاح، الرازي(محمد بن أبي بكر عبد القادر)، مكتبة لبنان، بيروت،1995م، تحقيق: محمود خاطر.
27. المفردات، الراغب الأصفهاني.
----------
1- سورة يوسف، الآية (108).
2- سورة فصلت، الآية (33).
3- ابن حجر العسقلاني: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي و محب الدين الخطيب، دار المعرفة بيروت، 1379هـ 13/302. شرح النووي على صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط/2، 1392هـ 16/226-227.
[4] - انظرلسان العرب، ابن منظور(أبو الفضل أحمد جمال الدين بن مكرم الإفريقي المصري)، مادة (نهج)، دار صادر بيروت(بدون رقم طبعة ولا تاريخها)، 2/383،. القاموس المحيط، الفيروزآبادي( مجد الدين محمد بن يعقوب)، مادة (نهج)، المطبعة الأميرية ببولاق، مصر، ط:3، 1301هـ 1/209.
[5]- انظر صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، 1/46. "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه و سلم( بني الإسلام على خمس )، تحقيق عبد العزيز بن باز، خدمة محمد فؤاد عبد الباقي و محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية و مكتبتها، القاهرة 1380هـ (بدون رقم طبعة). تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق عبد العزيز غنيم آخرين، دار الشعب، مصر (بدون تاريخ طباعة و رقم الطبعة) 3/120 . فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 1/48
[6] -المسند، أحمد بن حنبل، 4/27
[7]- عبد الفتاح الخالدي : الدعوة إلى الله بين الأسلوب و المضمون، مقال منشور في مجلة البيان، العدد(4)، جمادى الآخرة 1407هـ، فبراير1987م، ص53.
[8] - أنظر محمد عبد الله الدويش:أخطاء في فهم المنهج، مجلة البيان، العدد(100)، ذو الحجة 1416هـ، مايو 1996م، ص26.
[9]- انظر: د. عبد الحميد أبو سليمان: تجديد الدعوة، بحث منشور ضمن أبحاث و وقائع اللقاء الخامس لمنظمة الندوة العالمية للشباب الإسلامي، كينيا، 20-24/ 4/1982، ط/2، 1985م، ص 85. بعض سمات الدعوة المطلوبة في هذا العصر، أبو الحسن الندوي، المرجع السابق، ص397.
[10] -انظر الأساس في البلاغة، ص 499، المفردات، الأصفهاني، ص871، النهاية في غريب الحديث و الأثر، 5/185، لسان العرب، ابن منظور،11/724-725.
[11] -الفروق، القرافي، 2/32.
[12] -انظر: القواعد، المقري، 1/242، إعلام الموقعين، ابن القيم، 3/279، الموافقات، الشاطبي، 2/358، الأشباه و النظائر السيوطي، ص 86، 157، الأشباه و النظائر ابن نجيم، ص 90، 161، قواعد الأحكام، العز بن عبد السلام، ص 53، 79، مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 20/48،51،54.
[13] - و قد قال أهل العلم:"للوسائل أحكام المقاصد": انظر: شرح تنقيح الفصول،السعدي، ص449، الفروق،2/33.
[14] -انظر: المراجع السابقة، نفس المواضع.
[15] قال الشاطبي: " النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً". انظر: الموافقات، 4/194.-
[16] - انظر: الموافقات، الشاطبي، 4/198، إعلام الموقعين، ابن القيم، 3/147.
[17] - انظر: قواعد الاحكام، العز بن عبد السلام، ص105-106، شرح تنقيح الفصول، السعدي، ص449، الفروق، القرافي، 2/33. و انظر: الوسائل و أحكامها في الشريعة الإسلامية، مقال للدكتور عبد الله التهامي،مجلة البيان، العدد (106)، جمادى الآخرة 1417هـ نوفمبر 1996، ص8.
[18] - انظر: لسان العرب، ابن منظور، مادة(سلب)،1/473-474، 13/328، مادة (فنن)، مختار الصحاح، الرازي، مادة سلب،10/130، مادة (فنن)، 1/215.
[19] - انظر: فقه الدعوة إلى الله عز وجل، علي عبد الحليم محمود، دار الوفاء، المنصورة،مصر،ط/1، 1990، 1/215.
[20] - الحكمة، سعيد القحطاني، ص 30.
[21]- الحكمة، ناصر العمر، ص 25.
[22] - الحكمة، ناصرالعمر، ص 13.
[23] - فقه الدعوة إلى الله تعالى، د. علي عبد الحليم محمود، دار الوفاء للنشر و التوزيع، المنصورة، مصر، ط/1، 1410هـ، 1990م، 1/216.
[24] - تحولات التعبير عن الفكر الإسلامي، د. محمد يحي، مقال منشور بمجلة البيان، العدد(110)، شوال 1417هـ مارس1997م.
[25] - انظر: الخطاب الدعوي، المعوقات و الموجهات، د.إبراهيم علي أحمد، بحث منشور في مجلة أبحاث الإيمان، العدد(14)، يناير 2004م،ص29. و في هذا البحث فوائد غزيرة تتصل بموضوعنا. جزى الله كاتبه خيراً.(/8)
[26] - و من المهم هنا أن نذكر التجربة الرائدة لمركز الدعوة و تنمية المجتمع في جامعة إفريقيا العالمية في تسيير قوافل الطلاب الدعوية لمعظم ولايات السودان، و قد استمر هذا العمل فترة طويلة – ولا زال- بحمد الله يحقق نتائج ظاهرة في الدعوة، لمس ثمرات ذلك أهل تلك المناطق و كذلك طلاب الجامعة الذين ينتون إلى أكثر من ستين قطراً.
راجع تقارير القوافل الدعوية بمركز الدعوة- جامعة إفريقيا العالمية.
[27] - انظر: ما كتبه د. عبد الله الزبيرحول تعددية وسائل الدعوة في كتابه "دعوة الجماهير، مكونات الخطاب و وسائل التسديد" سلسلة كتاب الأمة، رقم (76)، ربيع الأول 1421هـ، ص 113 و ما بعدها. انظر: بحث د.إبراهيم علي محمد "الخطاب الدعوي، المعوقات و الموجهات"، بحث منشور في مجلة أبحاث الإيمان، العدد 14، يناير2004م، ص 7-42.(/9)
الخطاب الدعوي ومآسي الأمة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وبعد...فإن هذا الكتيب يحوي مقالين كتبا في فترتين سابقتين, أذكر بها نفسي المقصرة وإخواني, سائلاً الله أن يكتب بهما النفع, فما أصبت فيه ووفقت فمن الله وبفضله, وما أخطأت فيه فمن نفسي والشيطان.
المقال الأول يعرض -على شكل نقاط- عدداً من الإشكالات التي لوحظت في العديد من الخطابات الدعوية التي حدثت تفاعلاً مع مآسي أمتنا (وتخبطاتها) الكثيرة المتنوعة المتكررة في عصرنا الحالي الذي نعيشه, والمقال الثاني يُذَكِّر ببعض الواجبات والمستوى الذي يؤمل أن يكون عليه الدعاة إلى الله خاصة في وقتنا هذا الذي كثرت فيها آلامنا واستبيحت دماؤنا وأذللنا أيما إذلال.
وقد ذيل المقالان بهوامش بها نقاط تذكيرية هامة أتمنى الإلتفات لها, خاصة هوامش المقال الثاني والتي منذ سنوات وأنا أتمنى نشرها في كتيب مستقل وأتت الآن فرصة لأضعها باختصار في هذه الهوامش, فأسال الله أن ينفع بها. وأتقدم بالشكر والدعاء لكل من أعانني في إخراج هذا الكتيب وتنقيحه.
اللهم عجل بفضلك وكرمك هداية أمتنا, وأعنا على أداء واجباتنا, وارزقنا الإخلاص وصدق محبتك, واكتب لنا يا عظيم النصر على الأعداء, وأفرحنا بكرمك بنيل رضاك, وبدخول فردوسك, وبلذة النظر إلى وجهك الكريم يوم لقاك.
4/6/1424هـ
________________________________________
الخطاب الدعوى و مآسي المسلمين
هذه الكلمات في الفقرات التالية موجهةٌ لروح الأمة, وحاملي همها من الدعاة والمصلحين, وأصحاب الأقلام الطيبة, وإن كان الأصل أن كل الأمة تكون كذلك, فالدعوة إلى الله مسؤولية الجميع.
أولا: إشكالات في الخطاب:
1- يحز في النفس كثيراً أن العديد من الخطباء والمحاضرين والكتاب والشعراء في وقتنا الحاضر وبالذات في مآسينا (وأيضاً تخبطاتنا) الأخيرة الرهيبة, لا يقومون في خطبهم ودعائهم وتوجيهاتهم -عند الحديث عن هذه المآسي- بتذكير المسلمين بواجب العودة إلى الله, وواجب كل مسلم في تحقيقها بالشكل الواضح والكافي, والمؤثر الحار, الذي يوصل هذه الحقيقة إلى كل المسلمين, مبيناً لهم بوضوح أن هذا هو الحل,..... ومشعراً لهم بأن مسؤولية تحقيقه تقع على كل فرد مسلم,
مع أن هذا هو الحل الحقيقي الجذري (1) الموصل لتحقيق النصر, وإيقاف المآسي, وردع أعداء الدين.
قال تعالى: ( إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ )..الآية (محمد:7),
وقال تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)..الآية(الرعد:11),
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن ابن عمر ( إذا تبايعتم بالعينة, وأخذتم أذناب البقر, ورضيتم بالزرع, وتركتم الجهاد, سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) (سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني).
ويبدو أن عدم وضوح بعض الأسس الإسلامية, إضافة إلى الضياع الفكري والتوجهي الذي تعيشه أمتنا حاليا, قد أثرا أيضا حتى على العديد من الدعاة والمصلحين ؛ فرأينا البعض يتكلم ويكتب عن مآسي ومذابح الأمة بنظرة سمتها التركيز على الحلول الجزئية بما فيها الإكثار من نقد التوجه العالمي, والتحدث عن الأسباب السياسية والمادية أكثر من النظر للخلفيات الشرعية(2) المتعلقة بهذه الأحداث.
والأهم من ذلك عدم التركيز بدقة, وإيضاح تام كافٍ على الحل الحقيقي لكل هذه المآسي بالشكل الذي يصل إلى قلب ويقين كل مسلم (وليس إلى فكره فقط), مشعرا له بواجبه في التغيير(3) والعودة والدعوة إلى الله.
وفي بعض الخطابات والبيانات المتعلقة بالمآسي وكثير من المشكلات التي تعيشها الأمة ذكر موضوع التوبة وعودة الأمة والحذر من المعاصي ولكنه كان يذكر عَرَضَاً, أو باختصار شديد قد لا ينتبه له, أو فقط كنقطة من النقاط ضمن نقاط أخرى عديدة وبدون التركيز الكافي عليه, مع أنه أس قضايانا وكما يقال قضية القضايا.
2- أيضاً وعلى الرغم من سرور قلوبنا بما نقرؤه ونسمعه من العديد من الصادقين من تألم على الواقع والجراح, إلا أننا من كثرة المآسي والجراح, وفي غياب التذكير بالحل الحقيقي بوضوح, أصبحنا نمل أحيانا من كثرة البكاء والتباكي على واقع الأمة المتكرر,
فهل الهدف هو البكاء للبكاء؟
أم هل الهدف هو البكاء والتألم فقط لجمع المال للمنكوبين والمشردين؟ والذي لاشك في أهميته إلا أنه حل جزئي ووقتي, خاصة إذا لم يربط بالحل الحقيقي,...
فالأصل أن يكون الهدف والمؤمل الأكبر من البكاء والتألم هو(/1)
جعل ذلك شعلة(4) للأمة للانطلاقة نحو التغيير في واقعها, والعودة إلى الله, والدعوة إليه, التي -بإذن الله- بها وبنتائجها وثمراتها تعز الأمة, ويعود مجدها, وينطلق بقوة جهادها, وتنتصر وتحل كل مشكلاتها(وتخبطاتها) .
3- أيضاً يلاحظ في الكثير من المآسي التركيز على الدعاء والدعم المالي مع الضعف في تذكير الأمة بواجب التوبة والعودة وإصلاح المسار,.... والدعاء والدعم المالي على الرغم من أهميتهما وضرورتهما إلا أنهما ليسا الواجب الوحيد والأهم, وقد أصبح هذا المظهر أي مواجهة المذابح فقط بالدعاء والدعم المالي سمة لأمة الإسلام في العقود الأخيرة, وهل يعقل أن يستمر حال أمة الإسلام في كل مذبحة لأبنائها بهذا الشكل, بل إن أي أمة لا ترضى أن يستمر حالها هكذا في كل مذبحة ومأساة تتعرض لها, فكيف بنا أمة الإسلام ونحن مَنْ مِنَ المفترض أننا ندرك قيمة الدم المسلم عند خالقنا العظيم سبحانه وتعالى.
لذا فبالإضافة إلى تذكير الأمة بواجب الدعاء والدعم المالي وقت حدوث المآسي, فلا بد من التذكير والتركيز في ذات الوقت على واجب التوبة والعودة وإصلاح المسار, لأنها الطريق الذي سيقود الأمة بإذن الله إلى العزة والجهاد والنصر, حتى يأتي اليوم الذي توقف هذه المذابح والمآسي حال حدوثها, ولا نكتفي عندها فقط بالدعاء وتضميد الجراح, بينما السفاحون يقتلون ويبيدون!!.
بل في ذلك الوقت أي عندما تسترجع الأمة عزتها لن يتجرأ عليها بإذن الله أعداء الدين, ويستبيحون كرامتها في كل حين, كما هو حاصل الآن حتى أننا أصبحنا أذل أمة على وجه الأرض.
خاصة أن الأمة في أيام الأحداث تكون متأثرة ومتفاعلة, وخسارة عظيمة أن لا تذكر بواجب التوبة وإصلاح المسار وهي في قمة تفاعلها.
وإن من سلبيات التركيز على الدعاء المقتصر على الدعاء للمنكوبين, وعلى الدعم المالي لهم مع ضعف التركيز على تذكير الأمة بالتوبة والإصلاح أن يحدث تخدير للمسلمين, فيشعرون أنهم -بعمل ذلك فقط- يكونون قد أدوا ما عليهم, بينما هم مستمرون ويستمرون في الغفلة واقتراف المنكرات والإصرار على المعاصي التي هي مصيبتنا العظمى(5), وأساس ذلنا وضعفنا وهواننا, واستئساد الكفار علينا وتمكنهم منا, وعجزنا عن إنقاذ إخواننا, كما بين ذلك لنا كتاب ربنا العظيم وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم.
4- يتكلم العديد من المحاضرين والشعراء والكتاب وتصدر توجيهات من بعض الدعاة بعد العديد من المآسي والمحن عن الجهاد وعزة الأمة ووحدتها ونخوتها, ولاشك أن هذا تذكير نحتاجه وأن هذه أسس هامة جداً ونحن بأمس الحاجة إليها وبها بإذن الله يتحقق النصر ولكن......
كيف السبيل إليها؟
وهل وُضِّح للناس كيف نصل لطريق الجهاد؟ وكيف يتحقق النصر فيه؟
وكيف تحدث العزة والوحدة؟
هل نريد من المسلمين أن يثبوا فجأة للجهاد, رغم كل العوائق وأهمها الذنوب والمعاصي؟,.. ونتمنى أن يحدث ذلك ولكن المخدر بشكل عام عادة لا يقوم فضلاً من أن يثب وثوباً حقيقياً.
ثم لو حصل الجهاد من أمتنا بدون تركها المعاصي ومجاهرة الجبار بها فلن يحصل النصر الحقيقي التام. (6)
وحتى لو حصل نصر مؤقت فهل يكفينا حدوثه بينما أمتنا مستمرة في بعدها, وأين نضع هذا بالنسبة لأهداف الجهاد العظيمة وغاياته؟!! وهل هدف الجهاد في الإسلام هو فقط إنقاذ المسلمين؟! فعلى الرغم من أهمية وضرورة هذا الهدف, إلا أن الهدف الأعلى والأعظم للجهاد هو حفظ الدين وإقامته وتعبيد الناس لله رب العالمين (ويكون الدين لله)(البقرة:193, الأنفال:39).
ولا يخفى على الدعاة والمصلحين ما حصل في أمتنا من بعد كبير عن حقيقة دينها, ولا يخفى أيضا ما يفعله المفسدون في الأمة, حتى وصل الأمر إلى حد محاربة أوامر الله وتحكيم غير ما يرضاه.
وليتنا نرجع إلى كتب التفسير ونتأمل بعض الحكم المستفادة من قوله تعالى في سورة محمد[سورة القتال]: ( طاعةٌ وقولٌ معروفٌ فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم) (محمد:21).
ومسألة أخرى هامة تجدر الإشارة إليها هنا وهي: أن تذكيرنا للأمة بالجهاد بدون توجيهها للتوبة والعودة قد يؤدي إلى حدوث اتكالية وتأخر في التغيير والإصلاح - الذي هو الطريق الذي يقود الأمة بفاعلية للجهاد ويحقق لها النصر فيه بإذن الله- بين أفراد الأمة, بحجة أن الجهاد لم يقم وأننا ننتظر اليوم الذي يبدأ فيه حتى ننصر إخواننا بمشاركتنا فيه, فتنسى الأمة وتغفل عن أن استمرارها في الذنوب والغفلة وعدم تحقيق العودة الصادقة إلى الله هو أحد أهم أسباب تأخر الجهاد في الأمة وتأخر تحقيق النصر فيه.
وكم واجهنا من المسلمين الذين عندما نذكرهم بترك اللهو والمعاصي غِيرةً على الأقل على واقع الأمة نجدهم يحتجون بحجة عدم وجود الجهاد الآن, وأنه لو كان موجوداً لتفاعلوا معه في إنقاذ إخوانهم, ونَسوا أنهم بأعمالهم هذه ولهوهم يكونون من أهم أسباب تأخر بدء وحصول الجهاد في الأمة.(/2)
وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وسلفنا الصالح كانوا عندما يرسلون جيوشهم التي حوت خيار الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم كانوا يوصونهم بتقوى الله والحذر من الذنوب وأنها أهم العدة على الأعداء(7)...... فكيف يُنسى هذا -أو يذكر بدون إعطائه حقه- عندما نذكر أمتنا بالجهاد, وهي على ما هي عليه من الغفلة والبعد وتضليل المضلين وإفساد المفسدين.
بل ويبدو أن تذكير الأمة بالجهاد بدون تذكيرها بالتوبة والرجوع ومساعدتها على تحقيقه, قد يؤدي إلى نشوء شوائب الحمية في إخلاص الأمة عند حماسها للجهاد, مما قد يجعل توجه البعض للجهاد تشوبه نية الحمية, التي تضعف تحقق العبودية فيه. وفي الحديث المتفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياءً أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). وصفاء النية من شوائب الإخلاص تحتاج إلى أفرادٍ تربوا على الصدق مع الله, والتزام أوامره, والحرص على ما يرضيه.
5- وبالنسبة لجانب تفرق الأمة ووحدتها فمن الإشكالات في الخطاب الدعوي والإصلاحي أن تُوْهَم الأمة أن السبب الأساس لتخبط الأمة وتأخر النصر هو عدم وحدة الأمة وإتحاد صفها وتلاحمها, فليس الأساس كذلك, بل نحتاج في الخطاب الدعوي إلى أن نؤكد للمسلمين بأن أمتنا لن تنتصر النصر الحقيقي وتحفظ حتى ولو اتحدت وتلاحم أبناؤها طالما أنها لم تطبق شرع الله وتحترم أوامره.
وذلك حتى لا تعتقد الأمة أن أساس دائها هو التفرق (ولا خلاف في أنه مشكلة هامة), ولتدرك في واقعنا الحالي أنه ليس إلا عرضاً من أعراض مأساتها الكبيرة, ألا وهي بعدها عن حقيقة الدين, وعن التمسك الكامل به في كل أمور وجوانب الحياة. قال تعالى: (أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض) الآية (الأعراف:65).
ورجوع الأمة إلى دينها وتمسكها به سيكون أقوى دافع لاتحاد الأمة ولحمتها, بل هو جزء أساس من معاني الرجوع إلى الدين وصدق التمسك به وبتعاليمه.
6- أيضا يلاحظ في أحيانٍ عديدة التركيز على كيد الكافرين ومؤامراتهم وخططهم وخطورتهم والسبل المادية لمواجهتهم أكثر من التركيز على الإصلاح وعودة الأمة, مع أن صلاح الأمة هو الأساس لردنا أي كيد وأي اعتداء, وخالقنا العظيم العليم أخبرنا سبحانه بأن كيدهم لن يضرنا إذا صبرنا واتقينا (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) (آل عمران:120).
ولا شك أن أقوى ما نواجه به الكافرين هو صدقنا مع الله والتزامنا بأوامره, وأن أهم أسباب هزيمتنا وذلنا هو المعاصي, وبعدنا عن الله وعن التطبيق الحقيقي الكامل لشرعه وأوامره, ولا رد حقيقي لكيد الأعداء ونحن نقويه بذنوبنا ومعصيتنا.
بل وإن التركيز على كيد الأعداء(الذي من المُسَلّمْ بأنه لا خلاف في الأصل على أهميته ) بطريقة تُشْعِر بأنه الأساس في مصائبنا وبدون تذكير الأمة بأمراضها التي كانت السبب في ذلها واستئساد الأعداء عليها وتمكنهم منها, قد يكون أيضا عاملاً آخراً يضعف التفات الأمة لمرضها الأساس, ودائها الأهم, وأولوياتها في طريق إنقاذ نفسها من الأخطار المحيطة بها؛ قال تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم)( آل عمران: 165).
7- يكثر بعض الدعاة أحيانا من ذكر "صلاح الدين" وغيره من أبطال الأمة خاصة في الأشعار والأناشيد عند كلامهم عن مآسينا, ولاشك في أن أمتنا تحتاج إلى أمثالهم وبشدة, ولكن.......
أن نجعل أن كل مشاكل الأمة وكل مآسينا بسبب عدم وجود"أمثال صلاح الدين" يعتبر فهماً خاطئاً, وله خطورته من حيث أنه يصرف أنظار الأمة عن أمراضها الحقيقية التي تنخر في جسدها, كما وضح ذلك صاحب كتاب " هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس" الدكتور ماجد الكيلاني .
ثم كيف يخرج لنا مثل "صلاح الدين"؟!, هل ننتظر أن يوجد بيننا حتى ونحن على ما نحن عليه!!!!؛
إن العودة إلى الله ومناهج الإصلاح هي التي تخرج لنا" صلاحاً" -بإذن الله-!!. و"صلاح الدين" نفسه كان أحد ثمار المنهج الإصلاحي الذي عاصره وسبقه.
ولا شك أن ذكر" صلاح الدين" والأبطال مهم ونحتاجه, ولكن ليكن وسيلة لتحفيز الأمة للعودة إلى الدين, والنخوة له, والجهاد الصادق في سبيله, وليكن حافزا لنا لنكون على مثل ما كان عليه "صلاح الدين" من صلاح(8) وتقوى, سبقت بطولته وإنجازاته.
وذلك حتى يكون ذكره حافزا لنا في معرفة واجباتنا ومسؤوليتنا في الإصلاح, لا أن يكون ذكره وذكر عدم وجود أمثاله شماعة!!!! يستغلها الشيطان لكي تُلقي الأمة عليها أخطاءها بينما هي سادرة في غفلتها ولهوها وذنوبها, والتي هي أساس مأساتها وتخبطها وتفرقها وضياعها وهوانها.(/3)
8- يبدو أيضا أن كثرة استخدام الدعاة والمصلحين والشعراء مصطلح العودة إلى الدين بالشكل الذي يخاطب الأمة بشكل عام لا بشكل فردي مثل عبارة "عودي إلى الله" التي تخاطب الأمة وعبارة "الحل في عودتنا لما كنا عليه سابقا" قد لا تشعر الفرد المسلم بواجبه في التغيير, خاصة مع وجود الغبش الكبير في فكر وسلوك أمتنا الديني, فقد يعتقد الكثير من أبناء الأمة أنهم ليسوا هم المقصودين بهذه العودة, خاصة مع وجود عدو الإنسان الكبير الشيطان الرجيم وشياطين الإنس, الذين يلبسون على المسلم أحكام دينه ويجعلونه يرضى بواقعه, على الرغم من وجود التقصير الكبير في تطبيقه والتزامه بالدين وأحكامه. وأيضا قد لا يكون واضحا للفرد أن بداية تغيير واقع الأمة وعودتها إلى الله تبدأ بالفرد نفسه, بالتزامه الصادق الكامل وبدعوته غيره من أفراد المجتمع ( عودة ودعوة(9)).
9- مما يدل أيضا على أن خطابنا الدعوي كان ناقصاً هو ما نلاحظه من البرود و الانتكاس العاطفي والعملي السريع, والعودة للضلال واللهو الذي يحدث للأمة بعد فترة وجيزة من انتهاء إحدى نكبات المسلمين.
بل حتى أنه مع استمراء الواقع وكثرة المذابح أصبح الكثير من الأمة يلهو ويغني, وينشغل بالدنيا, والمعاصي التي يؤخر بها نصر أمته في نفس الوقت الذي يرى أمامه يوميا إخوانه وهم يذبح أطفالهم, وتهدم منازلهم, وينكل بهم أشد تنكيل.
10- يبدو أن من آثار عدم تركيز الدعاة وغيرهم من المصلحين والغيورين على طريق النصر الحقيقي-بالقدر الكافي- في خطابهم الدعوي أننا أصبحنا نرى العديد من الإنتاجات الطيبة التي كانت ردة فعل للمحن من مقالات وأشعار وكتابات, وإصدارات إعلامية متنوعة, وتوجهات شعوبية(10) , كلها طيبة لكن الكثير منها يتسم بعدم تلمس طريق النصر الحقيقي بإيضاح جيد لا بكلمات رنانة عامة, وأفعال حماسية غير دقيقة في توجهها لأساس الداء والدواء.
بل إن بعض ردود الفعل تجاه المحن سواء كانت نثراً أو شعراً أو خطابةً أو مظاهرات أو غير ذلك كانت تتكلم عن المحن بالطريقة التي يتكلم بها أي إنسان يضيع عليه مجده أو وطنه أو ينتهك عرضه ودمه, فبعضها جاف من المعاني الإسلامية, ومعاني العبودية, وفي بعضها سمة الحمية أظهر من سمة العبودية والإخلاص والتجرد والعمل من اجل إرضاء الله.
11- ومن الإشكالات التي لوحظت ما يمكن أن نسميه التخدير بالنصر والتفاؤل الذي يحدث عندما يحرص بعض الأفاضل الكرام الغيورين من الدعاة والمصلحين في خطاباتهم -كلمات كانت أو شعرا أو توجيهات- على طمأنة الأمة بأن النصر قادم, وبث روح التفاؤل فيها بدون أن ُتذَكَّر الأمة بأهمية أن تصحح مسارها, وتتوب من المعاصي التي وقعت فيها, وتعلن وتبدأ بجدية في العودة الصادقة إلى الله, وإلى حقيقة دينها وتطبيقه الكامل, والدعوة والبذل والتضحية من أجله, فنكون بذلك كمن يطمئن الطالب الكسول المحبط بأن عليه ألا ييأس وأنه سينجح بدون أن يذكره بان عليه أن يثابر ويجتهد.
ولا يعني هذا عدم التشجيع على بث روح الأمل والتفاؤل, فهو أمر مطلوب محمود, ولكن القصد أن يكون معه تذكير واضح بالعمل والسعي للتغيير, حتى تُتَلافى سلبية الركون واستمراء الواقع.
(( إن أمتنا تحتاج إلى التفاؤل ولكنها.....
تحتاج أكثر ما تحتاج إلى من يهزها بقوة لتستيقظ من نومها العميق وبُعدها,
تحتاج أكثر من التفاؤل إلى من يحذرها من حدوث مآسٍ وعقوبات أخرى من الجبار سبحانه لها فهي:
لم تفق وترجع إلى الله وهي في أشد مآسيها وذلها وهوانها,
لم تعد ولم تتب من المعاصي(11) وهي ترى المسلمين يذبحون ذبح النعاج بما فيهم أطفالهم!!! الأبرياء, لم تعد(12) وهي تسمع بآلافٍ !!!! من أخواتهن يغتصبن!!!! .
لم تعد ولم تتب وهي ترى الأعداء يتربصون بها من كل جانب!!
لم تعد ولم تتب وهي ترى العالم يعيش في قمم من الضياع والتعاسة والكفر
والضلال, وهي المسؤولة عن تبليغه طريق النجاة...أولاً :بتمثلها هي نفسها الإسلام
حقيقة وصدقاً (فهو الأهم لنشر الدين), وثانياً: بتبليغها الإسلام بكل عزم وهمة.
إن أمتنا التي لم تفق(13) ولم تعد وهي ترى كل هذه البلايا....
تحتاج أكثر ما تحتاج إلى من يخوفها من حصول مثل ما حصل لإخوانهم عليهم.
وإذا أردنا أن نخفف بعض إحباطاتها فليُصاحب ذلك تذكيرٌ بالطريق والوسيلة التي بحصولها وبالبدء بتحقيقها نتفاءل التفاؤل الحقيقي الذي يكون تفاؤلا مفيداًً لا أماني قد تضر أكثر مما تفيد ))(14).(/4)
12- ومن سلبيات بعض الألفاظ التي تستخدم للتعبير عن بعض مآسي ومحن الأمة ووصفها مثلاً بأنها القضية الأخطر التي تواجهنا ونعيشها أو بأنها مشكلة المسلمين وقضيتهم الكبرى -وذلك في غياب أو ضعف تذكير الأمة بواجبها في الصلاح والإصلاح عند الحديث عن هذه الأحداث- أن تصرف الأمة عن التركيز على قضيتها الكبرى و مأساتها الأكبر ألا وهي بعدها عن حقيقة الدين, والالتزام بأوامره, والتي نتجت واستمرت بسببها شتى المآسي التي تعيشها الأمة من ضعف وتفرق وتخبط, وذل وهوان, وضياع للمقدسات والأوطان,..... فتعتقد الأمة أن المأساة هي فقط فيما حصل من فقدان للأراضي والبلاد,...وكأنه يرضي الله وتتحقق رسالتنا في الأرض فقط باسترداد ما فقد منا, وبأن ننتصر على الأعداء, وإن استمررنا على مداومة المعاصي والبعد عن حقيقة الدين.
13- وختاماً فمن بعض النقاط السابقة يلمس المرء أن بعض أحبتنا من الدعاة والمصلحين في حديثهم عمّا يتعلق بالمآسي التي نعيشها يخاطبون(في أحيانٍ قليلة أو كثيرة) الأمة أو بعض فئاتها وكأنها بشكل عام الأمة المستقيمة على ما يرضي الله والمطبقة لشرعه والسائرة على هداه, والتي لم يبق لها إلا توجيه لقضية معينة قصرت فيها, أو مسألة واحدة أخطأت في فهمها, أو فقط اجتماع كلمتها على حُكمٍ في مسألة,..... ولكن القضية أكبر وأشمل من ذلك,....إنها قضية إحياء أمتنا التي قتلها الأعداء والمفسدون والشيطان والهوى منذ عقود عديدة بإبعادها عن أساس حياتها, ومقتضيات رسالتها, وسر سعادتها في الدنيا والآخرة.
ثانياً: ما نتمناه في خطابنا الدعوي عن المآسي:
1- نتمنى من الخطاب الدعوي والإصلاحي عن مآسي امتنا وتخبطاتها أن يكون مركزا على الحل الأساس الأهم حسبما عرفنا من السنن الربانية التي عرَّفنا بها قرآننا العظيم, ونبينا صلى الله عليه وسلم, وعلماء الأمة وسلفها الصالح, ألا وهو رجوع الأمة إلى دينها, وتطبيقه الكامل, وابتعادها عن المعاصي والذنوب التي هي أساس المصائب والفتن والنكبات والشرور.
وأن يركز على علاج مرض أمتنا أكثر من التركيز على علاج أعراضه(15),
وأن يكون مستمرا لا منقطعا, حتى لا يكون فقط ردة فعل تأخذ وقتها ثم تبرد وتنتهي.
2- نتمنى أيضا من الخطاب الدعوي - عندما يوضح أن نصرنا بالعودة(16) إلى ديننا- أن يكون خطابه معروضاً بطريقة مفصلة دقيقة, تبين لكل فرد كيف يكون دوره في العودة والتغيير, لا أن يكون الخطاب بكلمة عامه فقط لا تُشعر الفرد بدوره ومسؤوليته في تحقيقها, بل وتؤدي أحيانا إلى أن نَجْعَل الفرد ممن يقول ما لا يفعل, فهو قد يتغنى بأن الحل في العودة ولكنه بعيد عن تحقيقها وعن معانيها وواجباتها.
فنحن نتمنى أن تكثر الكلمات القوية والأشعار المؤثرة التي تجعل الفرد المسلم يخرج منها بخطوات عمليه عمَّا ينبغي أن يفعله هو بنفسه لتغيير واقع أمته, لا أن يخرج فقط بحماس وانفعال قد يبرد سريعا, فأمتنا تريد عملا وعاملين.
3- حبذا أيضا لو كان في خطابنا الدعوي- نثرا كان أو شعرا أو خطابة - تبيين وتذكير ببعض المنكرات التي انتشرت في الامه وخاصةً التي استمرأها المسلمون, وهذا أفضل من العموميات في الكلام عن العودة والذنوب, لكي يتضح للفرد المسلم نقاط خلله وتقصيره(17), ومن ثم يكون خطابنا أقوى في النتيجة العملية الناتجة منه بإذن الله.
وليت خطابنا الدعوي لا يُغفل تذكير الفرد والمجتمع بخطر المعاصي كلها بشتى أنواعها, بما فيها خطر الإصرار على الصغائر(18), الذي تساهل به حتى الكثير من الأفاضل والطيبين, نسياناً منهم لبعض الحقائق والأسس المتعلقة بهذا الموضوع, ومنها تحول الصغائر إلى كبائر بأمور عديدة منها الإصرار والمجاهرة وعدم الحياء والخجل من الله في عملها كما وضح هذه الحقائق علماء الأمة وسلفها الصالح.
فنحتاج في خطابنا إلى تبصير الأمة بهذه الحقيقة التي نُسيت, وخاصة وأننا نرى الانتشار الضخم في الإصرار على كثير من الصغائر في واقع أمتنا الحاضر, والذي لا شك في أن إفساد المفسدين وتضليل المضلين دعمه وقوَّاه في قضايا كثيرة.
وعلينا أن لا ننسى أن كثيراً من الكبائر التي انتشرت في الأمة كان مبدؤها التساهل بصغائر متعلقة بها وتؤدي إليها. كما أن التهاون والإصرار على الصغائر يُجَرِّئ المسلم على غشيان غيرها من المعاصي ولو لم تكن متعلقة بها.
4- نتمنى أن يُشْعِر الخطاب الدعوي والإصلاحي المسلمين بفاعلية بالتحديات الخطيرة التي تواجه الأمة, ويربطها بضرورة تصحيح المسار والإصلاح,... حتى يكون الشعور بالتحدي فعالا في إيقاظ المسلمين وعودتهم.
وقد كان الشعور بالتحدي فعالا في تغيير حياة كثير من شعوب العالم بعد نكبات ألمت بهم (اليابان أحد هذه الأمثلة).(/5)
5- نحن في حاجة كبيرة إلى الخطاب الدعوي الذي -عندما يخاطبنا في مآسينا, ومشكلاتنا, وفي كل أمور وشؤون حياتنا وانفعالاتنا وتحركاتنا- يربطها بعبوديتنا لله, فهذا هو الأصل الذي ربانا الإسلام عليه وامرنا الله به وخلقنا من أجله,
قال تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) (الأنعام: الآيات 162-163).
وإن صدق الإخلاص لله في أمورنا –مع التزامنا بالنهج الصحيح بالطبع - من أهم أسباب نصرنا, بل حتى حميتنا وغيرتنا عندما نرى ذبح إخواننا ينبغي أن تكون مربوطة بعبوديتنا لله, فنسعى لإيقاف ذلك لأنه يغضب ربنا سبحانه, ويعوق نشر دينه, وتحقيق خلافة الإنسان في الأرض, لا أن يكون غيرة وحمية أرضية.
6- يحدونا أملٌ كبير -إن حقاً ذكرنا أمتنا بفعالية بدائها الأساس وجعلناه قضيتها الكبرىالأهم- أن ينتج عن ذلك حصول توجه ضخم لأمتنا نحو الحل الأساس بما يمكن أن نسميه للتذكير "مقاطعة الذنوب".
وعلى الرغم من أهمية وضرورة المقاطعة الاقتصادية وفرحنا بها إلا أن مقاطعة الذنوب! هي المقاطعة الأهم, وهي الدواء الأساس الذي بِعَدَمِهِ يفشل أي دواء أو عمل مساند في تحقيق الشفاء والتمكين لأمتنا المريضة الجريحة الذبيحة.
بل إن مقاطعة الذنوب بمفهومها الحقيقي الكامل تشمل المقاطعة الاقتصادية, وتقويها, وتدعمها, وتحفز الأمة لها.
وإن تحمس المسلمين الكبير للمقاطعة الاقتصادية التي دعا إليها الكثير من الدعاة والمصلحين لهي دلالة واضحة عن وجود البذرة الصالحة والاستعداد في الأمة للتوجه بحماس للعودة إلى الله في حال تذكيرها بهذه القضية بصورة مركزة كما حدث في المقاطعة الاقتصادية.
فكما فرحنا بإحساس أمتنا بالمقاطعة الاقتصادية الذي أدركه وتحمس له حتى الكثير من أطفالنا!!!.... فإننا ننتظر فرحنا بحصول توجه كبير في الأمة نحو المقاطعة الأهم التي هي الأساس لحصول النصر واستعادة العزة.
ختاماً:
نقول لكل غيور قال أو كتب كلمة قوية مؤثرة وذرف الدموع تأثرا بالمآسي, وكتب الكلمات الحارة, نقول له: أكثر الله من أمثالك فبالصادقين أمثالكم- الذين يوضحون للأمة نهج الحق والصلاح بصدقٍ وغيرةٍ- تنتصر الأمة بإذن الله ويقترب فرجها.
وإنكم عندما تتألمون لقلة الناصر للمسلمين فثقوا-كما لا يخفى عليكم- بأن النصر الأعظم والأكبر سيكون بإذن الله عندما تعود الأمة لله, فيومئذ يعظم العطاء و التضحية (19) من أمة عظيمة عاشت لله بمنهج الله, وتضحي بالمال والأنفس رخيصة في سبيل الله.
(ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله) سورة الروم.
________________________________________
حتى نحقق النصر والفلاح
أخي هل تراك سئمت الكفاح وألقيت عن كاهليك السلاح
فمن للضحايا يواسي الجراح ويرفع راياتها من جديد(20)
إخوتنا الدعاة إلى الله – والأصل أن أبناء أمتنا كلهم دعاة إلى الله – يا من حملتم مشاعل الأمل لهذه الأمة في طريقها إلى العودة والنصر. إخوتنا إن مسئوليتنا تعظم مع هذه المآسي, فتقصيرنا في الدعوة وفي تربية أنفسنا التربية القوية في شتى الجوانب الهامة يعني إطالة معاناة الأمة واستمرار مذابح إخواننا.
فهل نهنأ والحال كذلك!!؛....
إن أملنا في حاملي مشاعل الأمل هو أن:
يحققوا أولاً صدق إخلاصهم وتجردهم لله(21),
وصدق محبتهم له سبحانه(22),
وارتفاعهم في درجات العبودية,
وقوتهم في أعمال القلوب, وسلامتهم من أمراضها(23), (فهذه الأمور من أقوى عوامل الفلاح والنصر).
وأن يلتزموا ما ورد في الكتاب والسنة والدليل الصحيح -فلا فلاح ولا نصر بدون هذا-,.. وحتى لا نقع في تمييع أحكام الدين أو التنطع,
وأن يكونوا قدوة حقة تتحدث أفعالهم قبل أقوالهم(24),
وأن يكونوا قمة في أخلاقهم(25),
وقمة في تربيتهم الروحية الإيمانية(26) بما فيها الزاد العظيم زاد قيام الليل, وزاد الصلاة الخاشعة والذكر الذي يواطيء القلب فيه اللسان(27),
وأن لا ينسوا أن يتسلحوا بالسلاح العظيم ألا وهو الدعاء في كل أمورهم,... خاصة دعاء أوقات الاستجابة,
وأن يركزوا في دعوتهم للناس على تربية الإيمان والعقيدة أولا(28),
وأن يركزوا على الأولويات(29),.......
والأهم فالأهم(30),
وألا تفوت عليهم الموازنة بين الواجبات(31),
وألا يركّزوا على الأعراض أكثر من الأمراض(على مستوى الفرد أو المجتمع),
وأن يقدموا العطف واللين والحسنى والتسامح والتحبب والإحسان في تعاملهم الدعوي مع الآخرين, فهو يأتي بما لا تأتي به الشدة التي –في غالبها- تنفر أضعاف ما تقرب, وتُخسِّرُ أكثر مما تُكسب(32), ومن أُغْضِبَ وخُسِرَ قلبُه ومحبته لا يستجيب للنصح غالباً وإن غُلِبَ في الحجة والتبيان(33),
وألا ينشغلوا في طريق دعوتهم بأمور أو معارك جانبيه تشغلهم عن الأساسيات والواجبات الأهم, وعن الأعداء الحقيقيين(34),
وألا ينشغلوا بغير الأولى والأجدى والأهم للدعوة والإصلاح, فالوقت غالٍ ومحدود والواجبات كثيرة جدا(35),(/6)
وأن يحفزوا الهمم, ويشدوا العزم, وينطلقوا متفانين باذلين كل أوقاتهم وأموالهم لا بعضها فقط, فهم ممن يفترض أنهم باعوا أنفسهم وأموالهم لله شراءً لجنته,
وأن يشحوا بأوقاتهم وأموالهم بأن تضيع في غير ما يخدم الدين ويساهم في تقريب النصر,... لأنهم قد باعوا حياتهم لله فهي ليست لهم!!,
وألا يدعوا أي فرصة فيها خدمة للدعوة إلا واستغلوها أحسن استغلال, ولو كانت فرصة صغيرة أو عارضة(36),
وأن يضحوا براحتهم في سبيل نصر الدين والعمل له, ليبزغ بإذن الله
فجر العزة والسؤدد الذي طال انتظاره.
وليكونوا كما قيل:
نبي الهدى قد جفونا الكرى وعفنا الشهي من المطعم
نهضنا إلى الله نجلو السرى بروعة قرآنه المنزل(37)
وأن يجددوا العهد إن ضعف العزم:
جدد العهد وجنبني الكلام إنما الإسلام دين العاملين
وانشر الحق ولا تخش الظلام فبصدق العزم يعلو كل دين(38)
يقول أحد الدعاة متحدثا عن الدرجة التي ينبغي أن نكون عليها في حماسنا لديننا ودعوتنا:
(( إنه من الواجب أن تكون في قلوبكم نار متقدة تكون في ضرامها على الأقل!!! مثل النار التي تتقد في قلب أحدكم عندما يجد ابناً له مريضاً ولا تدعه حتى تجره إلى الطبيب, أو عندما لا يجد في بيته شيئا يسد به رمق حياة أولاده فتقلقه وتضطره إلى بذل الجهد والسعي.
إنه من الواجب أن تكون في صدوركم عاطفة صادقة, تشغلكم في كل حين من أحيانكم بالسعي في سبيل غايتكم, وتعمر قلوبكم بالطمأنينة, وتكسب لعقولكم الإخلاص والتجرد, وتستقطب عليها جهودكم وأفكاركم, بحيث أن شؤونكم الشخصية وقضاياكم العائلية إذا استرعت اهتمامكم، فلا تلتفتون إليها إلا مكرهين!!.
وعليكم بالسعي أن لا تنفقوا لمصالحكم وشؤونكم الشخصية إلا أقل ما يمكن من أوقاتكم وجهودكم,!!!! فتكون معظمها منصرفة لما اتخذتم لأنفسكم من الغاية في الحياة. وهذه العاطفة ما لم تكن راسخة في أذهانكم ملتحمة مع أرواحكم ودمائكم آخذة عليكم ألبابكم وأفكاركم، فإنكم لا تقدرون أن تحركوا ساكنا بمجرد أقوالكم )).
قال تعالى:( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) (الأحزاب:23).
--------------------
الهوامش
1- قد يخطر في فكر بعض المسلمين شبهة أن السبب الأساس لعجز الأمة هو تأخرها التقني والعسكري وتفرقها, والحقيقة أنه سبب هام بلا شك ولكنه ليس السبب الرئيس, لأن سنة الله اقتضت أن النصر الحقيقي التام لا يتحقق لأمتنا بدون عودة صادقة إليه واستقامة على أوامره حتى لو تقدمت ماديا وعسكرياً واتحدت.
ومن المعروف على مدى العصور أن أمتنا كانت ذات شأن في القوة بل وفي التقدم المادي عندما كانت مطبقة لدينها, وأن بداية تأخرها وضعفها وذهاب عزها تحصل عندما تنحرف عن دينها وشريعة ربها, لذا فالتخلف التقني والعسكري والتفرق في الأمة الإسلامية لاشك أنه من أسباب ضعفها(ويجب على الأمة أن تجتهد في تقويته) ولكنه متعلق وناتج بالدرجة الأولى من ُبعدها عن الله و حقيقة منهج الإسلام. وهو بالدرجة الأولى عرضٌ للمرض الأساس للأمة وليس هو المرض نفسه,..... ثم إن الأمة الإسلامية إذا صدقت في العودة إلى الله والاستقامة على شرعه ثم جاهدت أعداءها- في الوقت والظرف المناسبين- فهي منصورة بإذن الله ولو لم تصل في العدة والعتاد والاستعداد إلى مثل مستوى أعدائها, فقط هي مطالبة بأن تعد ما تستطيعه من القوة وقتئذٍ. وتاريخنا الإسلامي شاهد على انتصارات المسلمين الكثيرة على أعداء لهم فاقوهم كثيرا في استعداداتهم المادية . وحبذا الرجوع إلى رسالة قيمة (من نشر دار ابن المبارك) تتحدث عن هذا الموضوع عنوانها (ما هو سبب تخلف المسلمين).
ولنتذكر أيضاً أن تقصير أمتنا في الأخذ بأسباب القوة المادية اللازمة هو أحد ذنوبها.
2- للشيخ ابن عثيمين رحمه الله رسالة صغيرة هامة جداً تتحدث عن مشكلة عدم النظر للأسباب والخلفيات الشرعية في الأحداث عنوانها:(أثر المعاصي على الفرد والمجتمع).
وحقيقة أننا نستغرب من كلمات بعض الدعاة والكتاب الذين لا نكاد نرى أو أصبح نادراً في كلماتهم تذكير للأمة بالتوبة وتقوى الله وآثار المعاصي عند الحديث عن آلامنا ومشاكلنا وأزماتنا في أي جانب.
3- لا شك في أن الدعاة يذكرون الأمة بالتوبة والصلاح وهذا أساس دعوتهم, ولكن الجانب الذي لوحظ فيه النقص عند العديد هو التذكير بالتوبة والصلاح بتركيز عند الحديث عن مآسي الأمة وتخبطاتها.
4- لقد مرت أمتنا وبالذات في السنوات الأخيرة بمآسٍ مؤلمة مبكية وأحداث عظيمة, وشاهدتها الأمة –خاصة مع إمكانيات وسائل الإعلام الحديثة- رأي العين, وتأثرت بها كثيرا, وأظن لو أنه تم تذكير الأمة بعمق بحقيقة وواجب الرجوع إلى الله وأنها هي الحل لحصل بإذن الله توجه كبير في الأمة نحو ذلك ولحدث بإذنه تعالى تصحيح طيب في وضع الأمة وتوجهاتها.
5- إن أكبر مأساة تعيشها الأمة هي بعدها عن حقيقة دينها, والالتزام بكل شرائعه, وصدق التمسك به.(/7)
6- قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله كلمة مسجلة له تعتبر بالغة الأهمية, فقد قالها وسط غمرة أحداث الانتفاضة الفلسطينية المباركة الأخيرة وبالضبط يوم الاثنين 19رجب 1421هـ, فقال رحمه الله معلقا على الأحداث:
(( كيف نؤمل النصر ونحن هذه أفعالنا ونياتنا.إذن لنرجع لأنفسنا لا تأخذنا العاطفة !.......المسجد الأقصى لا يمكن أن يرجع إلا إلى أصحابه ومن هم أصحابه... اسمع قول الله عز وجل(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)..(إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)...... لن يرجع المسجد الأقصى إلا إذا قاتل المسلمون لله عز وجل, لكي تكون كلمة الله هي العليا مهما عمل الناس ......... أرجو ألا تأخذنا العاطفة.. ألا تأخذنا العاطفة! وأن نغفل عن الأشياء الأساسية !........ نحن لا نرضى أن يقوم طاغية من طغاة اليهود كشارون يطوف ببيت المقدس لإهانة المسلمين ولكي يرتفع عند قومه من وجه آخر...لا نرضى بهذا أبدا ولن يرضى بذلك أي مسلم...ولكن علينا أولا أن نصلح أنفسنا...أنفسنا ما صلحت إلا ما شاء الله...فكروا بهذه الأمور..لا تأخذكم العاطفة(( .* هذه الكلمة ملحقة في نهاية شريط قيم للشيخ عبد المحسن القاضي عن الأقصى وقد قامت تسجيلات الاستقامة في القصيم بإضافتها نظراً لأهميتها.
7- كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص عندما أخبره عن كثافة جيش هرقل بإزاء جيش المسلمين: ( إنكم لا تغلبون بقلة عددكم وإنما تغلبون بالمعاصي على كثرة عددكم فاحترسوا منها ) "نقلاً من كتاب أسباب سعادة المسلمين وشقائهم للعلامة محمد الكاندهلوي".
ومما كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص عندما أرسله لفتح فارس:( أما بعد, فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال, فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب وآمرك ومن معك بأن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم) "نقلا عن كتاب توجيهات إسلامية لإصلاح الفرد والمجتمع للشيخ محمد جميل زينو. .
8- كلمة معبرة للشيخ جميل عقاد(من سوريا) رحمه الله عن القدس يستشهد بها هنا وهي: ( لن تعود حتى نعود ).
9- هاتان الكلمتان تعبران باختصار عن دور المسلم في الإصلاح بتغييره نفسه ودعوته غيره, ويمكن أن يستفاد منها كشعار عملي يرمز لهذا الواجب. والشعارات لها أثرها الطيب الذي لا ينكر في التذكير والتحفيز.
10- إننا نأمل أن تصبح شعارات وكلمات الرجوع والعودة إلى الدين, والتحفيز للتوبة والصلاح هي السمة الأساس التي لا تفتقد في أي تفاعل طيب يحدث من الشعوب المسلمة بعد الآلام التي تراها... فهذا هو الطريق الحق لعزنا ونصرنا وفلاحنا في الدنيا والآخرة.
11- أمثلة المعاصي والانحرافات التي وقعت فيها الأمة وجاهرت الجبار بها واستمرأتها (وكأنها حلال) وأصرت عليها وانتشرت فيها كثيرة وفي جوانب متنوعة عديدة,....ولكن لا أجد مثلاً أوضح على ذلك –كما يبدو لي- مثل قضية إصرار الأمة -سواءً المنفذين أو المشاهدين- على قبول واستمراء المنكرات التي تأتي بها القنوات ووسائل الإعلام وتساهلها بعرضها ورؤيتها (خاصةً مع معرفة الكثير بحرمتها) وإن كان ذلك مجرد النظر إلى المرأة المتبرجة مذيعةً كانت أو غير ذلك (وهذا من باب ضرب المثل بالأقل وإلا فإن هذه الوسائل يعرض فيها أكثر من ذلك بكثير, ويعرض في كثير منها ما يشيب له الرأس مما يفسد المجتمع دينياً وأخلاقياً). وعلينا أن لا نستهين بهذا الجانب فخطر وأثر الانحراف في هذه الوسائل عظيم الأثر على فكر وقيم وسلوك وتوجهات واهتمامات وتربية أي مجتمع حتى لو غض الطرف عن جانب المعاصي المباشرة المتحققة بالنظر لها. وهي -بتعويدها الأمة على استسهال المعصية- تهيؤها للتمادي في معاصٍ أخرى في شتى المجالات.
12- لا يخلو المسلم من الذنوب فهذا من طبيعة النفس البشرية, ولكن الخطورة على الفرد والأمة تكمن في الإصرار عليها والمجاهرة بها,.. وخطر الذنوب وأثرها على الفرد والمجتمعات والأمة بشكل عام فصله علماء ودعاة الأمة في السابق والحاضر. ومن أفضل الكتب الحديثة – حسب إطلاعي- التي كتبت عن الذنوب وأثرها كتاب"المعاصي وأثرها على الفرد والمجتمع" للشيخ حامد المصلح.
13- لا تعني هذه العبارات فقدان الأمل في الأمة, بل إن الأمل في الخير الكامن فيها هو ما يدفع لكتابة مثل هذه الكلمات, ولا يُنكر أن الأحداث غيرت العديد من المسلمين,.. ولكن بشكل عام فإن الغفلة لا زالت مستمرة والاستيقاظ المأمول لم يحصل حتى الآن.
14- جزء من مقال يتحدث عن هذا الجانب من موقع"مأساتنا والحل:عودة ودعوة", وهو موقع يركز على التذكير بواجب العودة وإصلاح المسار www.awda-dawa.com .(/8)
15- أيضاً لوحظ التركيز على الأعراض أكثر من المرض نفسه في كلمات بعض المصلحين بعد ما أصاب الأمة من أخطاء أو انحرافات, أو أزمات حادة أو مصائب أو نكبات, أو فتن أو تخبطات معينه, فكنا نجد التركيز على الفتاوى والأحكام والتوجيهات والنظرات الخاصة بذلك الحدث مع ضعف الاستفادة من الحدث لتذكير الأمة بوضوح وتركيز بدائها الأساس الذي تسبب في هذا الواقع وانحرافاته, فبذلك النهج نكون قد توجهنا لعلاج العرض ونسينا الأصل المتسبب في ظهوره.
ولا شك أننا نحتاج بشدة إلى الفتاوى والتوجيهات التي تبين لنا الحكم الشرعي والنظرة الصحيحة في حدث مؤلم أو انحراف معين, وينبغي علينا توضيحها للأمة، ولكن الأهم هو علاج المرض الضخم الكبير الأساس الذي نتجت عنه تخبطات الأمة وانحرافاتها , وتفرقها واختلافها , وتشتت آرائها وتوجهاتها , وقلة البركة في رزقها , وضعفها وذلها, وتسلط الطغاة عليها, وتمكن الأعداء منها, ووضعها المأساوي الذي تعيشه,....ألا وهو عدم استقامتها على الإسلام كاملا, وبعدها عن صدق التمسك بالدين, واستمراؤها الذنوب والمعاصي وإصرارها عليها, وعدم عيشها للدين حقيقةً لا خيالاً.
قال تعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} (الشورى 30).
16- أرجو ألا يُعْتَقَد بأن التركيز على العودة يعني تقليل أهمية الجهاد,....فأولا: بلا أي شك فإن جزءاً هاماَ وأساسياً مما ينبغي أن تعود إليه الأمة هو الجهاد في سبيل الله,....وثانياً: علينا ألا ننسى وأن نتذكر أن أقوى ما يُعِدْ وتستعد به الأمة للجهاد هو عودتها إلى الله والتزامها أوامره,....وثالثاً: أن نصر الله لأمتنا مرتبط بنصرها له سبحانه وتعالى (العودة مَوْقِدُ شُعْلَةِ الجهاد وَسِرُّ انتصاره) .
17- من أمثلة العموميات في الخطاب وبغض النظر عن مسألة المآسي وواجب العودة أن تكثر الكلمات المتحدثة عن التوبة بدون أن توضح هذه الكلمات من ماذا تكون التوبة؟ بذِكر بعض الأمثلة (وليس شرطاً أن تذكر الأمثلة في كل كلمة), فالسامع للكلمة قد يكون واقعا في العديد من المنكرات(سواءً في أمر العقيدة أو الفكر أو السلوك) ولكن ضعف التصور وهوى النفس قد تجعله يرى أنه ليس هو من المقصودين بالتوبة, وأن المقصود بها غيره من الواقعين في الكبائر الظاهرة مثل شرب الخمر والزنى وغيرها.
بل أحيانا يُذكَر مثلٌ ولكنه مثل عام يحتاج إلى توضيح وتحديد, فيشارك أيضا الهوى وضعف التصور في إيهام المستمع بأنه ليس المقصود؛.... فمثلا الكلام عن النظر الحرام قد يتصور البعض أن المقصود به هو رؤية الأفلام الفاحشة والشديدة التبذل وأما أن يرى المرأة المتبرجة(بل أحيانا الكاسية العارية من شدة تبرجها) فلبس هذا من النظر الحرام في تصوره,... خاصة مع الاستمراء الكبير للعديد من المنكرات في مجتمعات المسلمين في عصرنا الحاضر.
18- إن التنبيه على خطورة الإصرار على الصغائر لا يعني أبداً أنها أهم انحرافات الأمة, فحتى الإصرار على الكبائر إنتشر في الأمة,...... ففي الأمة الكثير من الشرك والانحرافات العقدية, وضعف تحقيق التوحيد وتمثل معانيه!, والبدع, وتحكيم غير شرع الله, والخلل في الولاء والبراء, ومحاربة المصلحين, والاستهزاء والتهاون بقيم الدين, وترك الصلاة, والتعامل بالربا, والظلم والغش وتضييع الأمانات, والغيبة, ...وغير ذلك, ولكن نبه على الصغائر لأن التذكير بها وبخطرها قد يغفل وينسى.
19- يقول الأستاذ منير سعيد في كتاب هام له عن الانتفاضة الفلسطينية الأولى عنوانه "على طريق الانتفاضة المباركة: إشراقة أمل وواجب الأمة نحوها":
(إذا كانت الانتفاضة المباركة تمثل أمل الأمة في التحرير والنصر فإنها لا يمكن أن توصل إلى النصر إلا إذا تضافرت معها جهود الأمة كاملة,... ولكن أمة الإسلام اليوم تعيش واقعا بعيدا كل البعد عن مقومات النصر وأسبابه, مما يتطلب منها أن تعيد النظر في هذا الواقع بما يكفل لها تحقيق الشرط الرباني في تحقيق النصر.
إن العودة لله تعالى تطلب منا أن نحقق في ديارنا مبادئ الإسلام الحنيف التي تدعو إلى العدالة والحرية والمساواة, وتجعل التقوى ميزان التفاضل بين الناس, وتطلب منا محاربة للمنكرات المحرمات, وأداء لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, حتى يشيع الخير في الأمة من جديد,... عند ذلك فقط نسير في الطريق الصحيح الموصل لخيري الدنيا والآخرة, وعند ذلك نتلاقى مع إخواننا في فلسطين في نصرة الله تعالى فينزل علينا نصره الموعود ).
20- شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث: حسني جرار، أحمد الجدع، (الجزء الرابع) من القصيدة البليغة المؤثرة "أخي" لسيد قطب، ص 44.
21- إن الإخلاص كما قال علماؤنا عزيز وتحقيقه يتطلب جهداً كبيراً وحرصاً بالغاً وهو هام جداً, فأولاً: ضعف الإخلاص قد يحبط العمل وقد يؤدي بالمسلم إلى الهلاك, وثانياً: هو عامل هام يؤدي عدم تحقيقه إلى تأخر نصر أمتنا بلا شك.(/9)
ولا تخفى التنبيهات العديدة في القرآن العظيم والأحاديث الشريفة وكلام الكثير من علماء الإسلام في السابق والحاضر عن أهمية هذا الجانب والانتباه للصدق في تحقيقه, خاصة أن الشوائب والضعف في الإخلاص قد توجد بدون أن ينتبه لها الداعية أو العالم, فقد يظن نفسه محققاً الإخلاص بينما قد يوجد في إخلاصه الكثير من النقص والعديد من الشوائب التي تساهم في دفعه للدعوة بدون أن يشعر بها, وقد نبه الإمام محمد بن عبدالوهاب في كتاب التوحيد إلى مثل هذا الأمر عندما علق على قوله تعالى (( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )) فبين أن من المسائل المستفادة من هذه الآية التنبيه على الإخلاص فقال:( فيه مسائل. . . الثانية: التنبيه على الإخلاص لأن كثيرا لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه ), أي أنه قد يكون سبب دعوته هو تحقيق شهوات خفية لإرضاء نفسه وإسعادها لإتباع الناس لما يقول, أو لفرحٍ دنيوي بأنه أصبح ذو شأن ونشاط وذو حركة وتميز(كما يحصل لمقتنع أي فكر أومبدأٍ أرضي يعمل ويبذل من أجله), وليس دافعه الأساس الدعوة إلى الله, وفي الحديث الصحيح: ( يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل) (صحيح الترغيب والترهيب:تحقيق الألباني). ونبه ابن رجب الحنبلي رحمه الله لشوائب الإخلاص في رسالته الهامة عن شرح حديث(ما ذئبان جائعان), ولسيد قطب رحمه الله لفتات وتوجيهات هامة جداً عن الإخلاص والتجرد لله, ذكرها في أكثر من موضع في الظلال خاصة عند حديثه عن وعد الله للمسلمين بالنصر, فحبذا الرجوع إليها.
22- تحقيق المحبة الصادقة ليس بالأمر الهين ويحتاج إلى جهد ومجاهدة,.. فهل حقاً أن الله ورسوله (وما يحباه!!) أحب إلينا من أنفسنا!!!! ومما سواهما؟!,..... وهل نحن حقاً نتأثر!! ونغضب لله أويتمعر وجهنا ونتألم! عند رؤية المنكرات أو سماع أخبارها!! وما يتعلق بها!!!!!(كما لو أن شيئاً يصيبنا)؟!!!,.... وهل نحن حقاً نحب في الله!! ونبغض في الله؟!!.
23- كان سلفنا الصالح مثل شيخ الإسلام ابن تيميه وابن القيم وغيرهما يهتمون بأعمال القلوب ويحذرون من أمراضها وخطورتها, ويركزون بالذات على من تصدر للدعوة من أهل الصلاح خوفا عليهم من الضعف فيها, فإثم ذلك عظيم وشره كبير. وليتنا نرجع إلى كتبهم ورسائلهم عن هذا الجانب, ومنها "التحفة العراقية في أعمال القلوب" لشيخ الإسلام إبن تيمية. ومن جانب آخر فإن تحسن المسلم في أعمال القلوب يرفعه درجات أكبر و أكبر مما ترفعه أعمال الجوارح.
وأيضاً قد توجد في الإنسان – وهو غير منتبه- العديد من أمراض القلوب الخطيرة مثل الكبر والعجب والحسد والرياء وغيرها والتي هي كما ذكر ابن القيم رحمه الله في المدارج أبغض إلى الله وأخطر من العديد من الكبائر الظاهرة.
وحقيقة أننا عندما نرى الاختلاف بين بعض فئات الصحوة من جهة, أوبين فئات الصحوة وغيرهم من المثقفين والمفكرين الخيرين من جهة أخرى فإن سببه الأهم ( والله أعلم ) الضعف في الإخلاص وفي أعمال القلوب والتي تجعل الإنسان لا يتقبل الرأي الآخر حتى مع وضوح وإيضاح!! الحق والدليل الشرعي فيه!!, نظراً لما قد أصابه من أمراض القلوب من عجب بالنفس والرأي, وكبر على الآخرين وعلى تقبل الحق منهم, و حب للرياسة.
- ولا شك أيضاً أن من عوامل تأخر النصر الضعف في أعمال القلوب ووجود أمراضها, ولا أدل من ذلك من أن الصحابة الأطهار رضوان الله عليهم تأخر عليهم النصر في غزوة حنين لحدوث عُجْبٍ عَارِض!! كاد أن يكون سبباً في هزيمتهم ( ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً )(التوبة:25), وانظر كلام ابن القيم البليغ عن العبر من غزوة حنين في زاد المعاد.
24- القدوة أساس ومن أهم أسباب نجاح الدعوة, وضعفها مشكلة كبيرة ومن أهم أسباب النفور وعدم التقبل,... فأذكر نفسي وإخوتي الكرام بأن نتقي الله في هذا, وحتى لا نكسب إثم تنفير أحد, خاصة أن الكثير يضعوننا تحت المجهر وحتى الخطأ الصغير يستكثر منا (ولا يليق بنا).
ومن أهم الجوانب التي تعيننا بإذن الله على تحقيق ذلك؛ التناصح بين الدعاة أنفسهم, والذي كثيرا ما نحتاجه..وكثيرا ما ننساه!! ونقصر ونجامل فيه!..وننسى أن جزءاً هاماً وواجباً!! من واجبات الدعوة أن ينصح الأخ أخاه ويقومه(بل وأيضاً نحتاج إلى أن نحسن ونطور جهودنا بالتناصح بيننا!).(/10)
25- لا نشك في أن الشباب المتدين في واقعنا المعاصر في عمومهم يتميز الكثير منهم بالقرب من الأخلاق الحسنة بدرجات مختلفة في هذا القرب, ويعتبر الشباب المتدين بشكل عام أقرب إلى حسن الخلق وسماته وصفاته(وذلك لأثر التدين الذي لا ينكره منصف),.....ولكن الدرجة التي وصل إليها الشباب المتدين بشكل عام في جانب حسن الخلق لا تتناسب مع المستوى الذي ينبغي أن يكونوا عليه, وهم الذين من المفترض أن لا تخفى عليهم الدرجة الهامة و الأجر العظيم الكبير لحسن الخلق في الإسلام والذي يتبين من كثير من الأحاديث الصحيحة مثل قوله صلى الله عليه وسلم:(أكمل المؤمنين إيماناً أحاسنهم أخلاقاً..)الحديث, وقوله:(أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً), وقوله:(أثقل شيء في الميزان الخلق الحسن) وقوله: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل صائم النهار), وقوله:(أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس....ولأن أمشي مع أخٍ في حاجةٍ أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهرا)" الأحاديث من سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني".
أيضا من الخسارة ألا يكون الجل الأعظم من الدعاة قمة في أخلاقهم وهم يدركون أثر حسن الخلق في التأثير على الناس وتقبلهم وتأثرهم.
26- حبذا الرجوع إلى العديد من الكتب القيمة التي تكلمت وتطرقت للجوانب الإيمانية التربوية بما فيها أعمال القلوب والسلامة من أمراضها الخطيرة مثل العبودية لشيخ الإسلام إبن تيمية,و"مختصر منهاج القاصدين" لإبن قدامة المقدسي,و"تهذيب مدارج السالكين" لعبدالمنعم العزي, و"تزكية النفوس وتربيتها كما يقرره علماء السلف" للدكتور أحمد فريد, وكتاب الرقائق لمحمد أحمد الراشد, وسلسلة"توجيهات نبوية على الطريق" للدكتور السيد محمد نوح. وإن أعظم اللذة والسعادة والفرح والفوز يكمن في تحقيق هذه الجوانب.
27- إن من أعظم ما يحقق الفائدة من الصلاة والذكر ويَعْظمْ به أجْرُهما حضور القلب واستشعار المعاني.
28- إن عدم البدء والتركيز على تربية الإيمان وتقوية العقيدة في الله والدار الآخرة بين المدعوين, وفي المقابل التركيز فقط على النهي والأمر يؤدي إلى نفورهم وعدم استجابتهم,.. فَتَمَكُّنْ العقيدة والإيمان في النفوس هو الذي سيجعلها بإذن الله تستجيب لأوامر الشرع, كما حصل مع الصحابة رضوان الله عليهم, فبعد أن تَرَبَّى الإيمان والعقيدة والتطلع إلى الآخرة فيهم في الفترة المكية من الدعوة, أتت الأوامر والأحكام الشرعية في الفترة المدنية فنفذوها مباشرة بلا أي تلكؤ, لأنهم عرفوا أنها أوامر العظيم رب الكون الذي مُلئت نفوسهم بمحبته, وبالإيمان بعظمته, وما عنده من الأجر الكبير لمن اتبع وأطاع, وما عنده من العذاب الشديد لمن عصى وعاند.
وعموماً فالطريق الدعوي الفعال الأقوى للتأثير على الناس ونقلهم بإذن الله إلى الالتزام بالدين هو معايشتهم والاحتكاك المستمر بهم وتقوية إيمانهم وعقيدتهم والإحسان إليهم لا مجرد الإنكار عليهم.
29- ليتنا ونحن في طريق الدعوة نتذكر الأهداف والأولويات!!, حتى لا نغرق في وسيلة ونهتم بها حتى تصبح وكأنها هدف ونقدمها على الأهداف الحقيقية, أو حتى لا نقدم الأقل أهمية على الأهم منه. فمثلاً ليس الهدف الأساس للدعوة ازدياد معلومات المسلمين الفقهية - وإن كانت أمراً هاماً ووسيلة ضرورية لتحقيق معرفة المسلمين لأحكام الدين التي يجب عليهم معرفتها- فالهدف الأساس في الدعوة هو عودة الأمة إلى حقيقة الدين والصدق في تطبيقه والالتزام بأوامره في كل الأمور, وكمثل آخر ليس الهدف الأهم الأساس حفظ كتاب الله(مع جلالة هذا العمل العظيم)ولكن الأهم هو تطبيق الأفراد والمجتمعات لأوامر القرآن ونهجه, وتربيهم على معانيه وقيمه,(أيضاً المواضيع الفكرية هي وسيلة لا غاية!!).
وهذا يُذكرنا بأهمية أن يستفيد الدعاة من أفكار ومبادئ الإدارة التي تساعد على تقوية ملكات تقدير الأهداف والأولويات, وتقييم وتحسين!! الإنتاجية!!!!, والبحث عن الطرق الأكثر فاعليةً!!.
وبمناسبة ذكر الاستفادة من العلوم الإدارية فأحب أن أذكر بالفائدة الكبيرة بإذن الله للخطباء والدعاة من معرفة ودراسة مهارات الإلقاء والاتصال والحوار(تقدم بعض المؤسسات الدعوية أو التدريبية دورات جيدة في هذا الجانب), وأيضا معرفة القواعد التربوية المتعلقة بتغيير السلوك مثل ما يتعلق بالمعرفة والتوجهات وعلاقتها بتغيير السلوك(وأن المعرفة وحدها لا تكفي عادةً للتغيير).(/11)
30- (أ) من الأولويات والأمور الأهم التي تفوت علينا أحياناً مسألة التذكير بالتوبة في مواسم الخير مثل شهر رمضان والعشر الأواخر فيه وعشر ذي الحجة وغيرها, حيث نجد التذكير مركزاً على الازدياد في النوافل والسنن والأذكار والصدقات وفضائل الأعمال, ويقل التركيز على التذكير بالتوبة والبعد عن المعاصي وأداء الواجبات المفروضة مع أنها أهم الأعمال وأحب الأعمال إلى الله, خاصة في هذا الواقع الذي بعدت فيه الأمة وتهاونت في كثير من الأحكام الواجبة وانتشرت فيه الكثير من المعاصي, فكما ورد في الحديث القدسي الصحيح:(وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إليَّ مما افترضته عليه..) صحيح البخاري, وفي الحديث أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (اتق المحارم تكن أعبد الناس) "حسنه الألباني في صحيح الترمذي, وفي الأثر عن ابن عمر رضي الله عنه: (لرد دانق من حرام أحب إلى الله من إنفاق مائة ألفٍ في سبيل الله).
أيضاً يفوت علينا أحياناً التذكير بالتوبة والالتزام بأوامر الدين عند الحديث عن حِكَمِ بعض العبادات مثل الحج والعمرة, والأضحية!!, وصيام رمضان, وقراءة القرآن وواجبنا تجاهه, وصيام التطوع في مواسمه المختلفة, والأذكار وغير ذلك, مع أن التوبة من أعظم وأهم حكم هذه العبادات.
بل إن التركيز في المواسم على فضائل الأعمال, والتركيز على حكم العبادات بدون التذكير بالتوبة قد يؤدي إلى تكريس رضا الأمة بواقعها الذي بعد كثيرا عن الالتزام الكامل بالدين, بحيث يمكن أن يتربى في فكر الفرد المسلم(بشكل غير مباشر)أنه يكفيه أن يتقرب إلى الله بفضائل الأعمال في المواسم وغيرها بينما هو مستمر في إصراره على ذنوب لا يرضاها الله سبحانه وتعالى, أي تحصل لديه اتكالية كبيرة على فضائل الأعمال التي يقوم بها, ( ومن المهم أن تُذكّر أمتنا بأن من علامات قبول الأعمال التوبة والأوبة بعدها ) .
(ب) أيضاً عندما يتحدث داعية لأفراد مجتمعاتنا في هذه الأيام عن حديث البطاقة بدون أن يتكلم عن شروط لا إله إلا الله,... أو يُذَكِّر في موعظة عن سعة رحمة الله ومغفرته بدون أن يستدرك في الأخير وينبه أن سعة رحمة الله يجب أن لا تنسينا أنه سبحانه شديد العقاب؛ فتزيد بذلك الاتكالية!.
(ج) ومثل آخر على تفويت الأولويات وموازنتها أن نجد بعض الأفاضل ممن لا نشك كما نحسبهم في مدى تقواهم وصدقهم فتجدهم يجتهدون ويبذلون الأموال من أجل الاعتكاف في الحرم الشريف في العشر الأواخر ويفوت عليهم سعيهم لدعوة أهلهم وأقربائهم في موسم العيد (بتجهيز وشراء ما يمكن أن يوزع عليهم من وسائل الدعوة في فترة العيد, أو بغير ذلك من طرق ووسائل الدعوة) مع أن الدعوة والبذل لها واجب أهم من الاعتكاف.
(د) ومثل آخر على تفويت الأولويات ما يحدث أحياناً من حماس لتوزيع أشرطة أو كتيبات أو مطويات أو أي وسيلة أخرى لا تتحقق فيها الأولوية الدعوية من حيث أثرها في الدعوة وإحداث التأثر والتوبة والتغيير لديهم على حساب الأشرطة والوسائل الأهم في التذكير والإصلاح. فتوزيع ما يحوي قصص التائبين ووصف الجنة وأحوال الآخرة والتذكير بعظمة الله ومعاني!! العقيدة أهم وأكبر أثراً من توزيع ما يتعلق بفتوى عن قضية محددة أو الأذكار(مع عدم إنكار أهمية توزيع كل ما ذكر, ولكن المسألة هي على ماذا نركز ونبذل الجهد الأكبر),........ وللجمع بين الخيرين!! فليتنا مثلاً عندما ننشر كتيبا عن الأذكار نضيف فيه(في باطن غلافه أو صفحته الأولى أو الأخيرة) كلمة أو قصة تذكيرية عن التوبة (وبالذات القصص أو كلمات التائبين, فلها أثر عظيم وقد اهتدى أناسٌ كثيرون بسببها).
(هـ) أيضاً عندما نقدم بعض أنواع النوافل على عمل فيه خدمة للآخرين وإسعاد لهم, فالأخير هو الأهم وأجره أكبر.
31- قد نسرف أحياناً في واجب دعوي على حساب واجبات أخرى هامة أو أهم, ولعل من أمثلة ذلك ما قد يحدث في إسراف في الوقت المعطى للدعوة عن طريق الإنترنت على حساب واجبات أخرى,..
وأيضاً إنكار المنكرات فعلى الرغم من أهميته إلا أنه يجب الانتباه إلى أن لا ننشغل أكثر من اللازم في إنكار منكر معين فيشغلنا ذلك عن منكرات أخرى أهم, أو عن واجبنا الدعوي التربوي الذي هو الأكبر فعالية في الإصلاح. بل يبدو لي أحياناً أن بعض المفسدين قد يفرحون بانشغال الدعاة انشغالاً أكثر من اللازم في إنكار منكر(وقد يكونوا قصدوا ذلك الإشغال), فحتى الكثير من أعداء الدين يعلمون بأهمية وفعالية العمل الدعوي التربوي فيفرحون بانشغالنا عنه, وباختلاط الأولويات علينا.
32- يكفي دليلاً على أهمية تقديم الرفق أمر الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام بأن يخاطبوا الطاغية فرعون بالقول اللين ليكون ذلك الأسلوب عوناً على الهداية, فأسلوب الشدة غالباً ما يعين الشيطان ليحرف الإنسان ويعوقه عن الاستجابة للحق (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى) (طه:44).(/12)
وأسلوب الشدة يجعلنا نكسب!!عداوة الكثيرين,.. في الوقت الذي نحن بحاجةٍ إلى أن نجعل كل مسلم وكل ضالٍ مع الحق لا عليه!!!
33- من العبارات التربوية الجميلة القيمة التي ينبغي أن نستفيد منها في الدعوة وعندما نناقش ونحاور عبارة: "إن كسب القلوب أهم من كسب المواقف", وهي منقولة من كتاب رائع وقيم ينصح جداً بقراءته وعنوانه"أصول الحوار" صدر من الندوة العالمية للشباب الإسلامي.
34- من المؤلم ما نراه أحيانا من انشغال بعض الدعاة والمصلحين والغيورين والأخيار الأفاضل بالرد على خطأ أو وجهة نظر أخرى من دعاة آخرين بطريقة غير مقبولة, أو بإعطاء الموضوع أكثر مما يستحق, ولا نقول أن يقفل باب التناصح والرد على الأخطاء, ولكن ليعطى كل شيء حقه وبالطريقة المناسبة وبدون أن يحمل الموضوع أكثر مما يحتاجه, وبدون أن ننسى فضل وخير من يُنتقدون, خاصة إذا كانوا ممن نفع الله بهم الأمة كثيرا.
وأيضا على الناقد أن يتأكد أولا, فقد يكون الرأي الآخر صواباً أو يعذر فيه صاحبه, وخاصة أن أهواء النفوس تدخل في مثل هذه الأمور حتى بدون أن يشعر الإنسان بها.
وليس من الصحيح أن يصبح ذلك جل همنا, فمحاربو الدين ومضيعوه هم الأولى بالوقوف في وجههم, بل هم من أهم أسباب الواقع البعيد عن الدين وعن المنهج الحق الذي نعيشه, والذي من آثاره حدوث تفرق في الأمة, واجتهادات مختلفة للدعاة والمصلحين, قد يحدث الخطأ في بعضها.
بل وحتى الكثير من الفاسدين المفسدين والكثير من المنحرفين والمخطئين في فكرهم وتوجهاتهم يحسن أن يُرفق بهم وأن يُدعوا باللين والحسنى في أحيانٍ كثيرة عند دعوتهم, فبعضهم ليس خبيث النفس سيء النية, ولكنها الغفلة والبعد والضياع والتناقض الذي تعيشه أمة الإسلام في عصرنا(ونأمل أن يهتدي الكثير منهم ليقفوا معنا ضد الكفار المحاربين),....فكيف بمن يكون أخاً لنا في الدعوة ويضحي بالكثير من أجلها.
ويجب أن نحذر بشدة في هذا الموضوع لأنه لا شك أن الشيطان الرجيم يدخل في مثل هذه الأمور ويقويها, وأيضا شياطين الإنس وأعداء التدين وأعداء الإسلام يسرون جدا من ذلك, بل هو من أسعد الأمور إلى قلوبهم أن يروا الدعاة والمصلحين والغيورين والأخيار مشغولين ببعضهم البعض, ويعطل بعضهم خير بعض. وإن مثل ذلك مثل أخوين في غابة مليئة بالسباع يفترض أن يكونا في غاية الحب والعون لبعضهما, فإذا بهما يتقاتلان بينما السباع تقترب منهما!...فلنتق الله ولنحذر من أن نكون سببا في استمرار جراح الأمة وتعطيل الدعوة وتأخير النصر.
35- كثيرا ما نجامل!! بعضنا بعضاً وفي أمور يضيع فيها الوقت بل والمال أحياناً فيما ليس له ضرورة أو أولوية دعوية!, فليتنا نقلل من ذلك, ولنتقي الله في أوقاتنا,...وليعذر الواحد منا الآخر في هذه الأمور, ولنشجع بعضنا بعضاً على التقليل من ذلك.
36- لقد سمعت من أحد الدعاة كلمة عظيمة في معناها أتمنى أن نتمثلها جميعاً, وهي: ( أن واقع أمتنا!! يقتضي أن يكون كل داعية مثل الجهاز المتعدد الأغراض ) يقصد أن يعمل للدعوة في كل اتجاه, ولا يقول مثلا: أنا داعية كبير مشغول فليس من مهامي( إذا أمكنني وتيسر ذلك) أن أوزع شريطاً, أو أضع كتيبات في أماكن الإنتظار!!!, أو ألقي كلمة وعظية عابرة في مسجد أو مجلس!!, أو أن أنكر منكراً أراه أمامي, أو أن أعظ وأنصح شباباً مجتمعين على رصيف, أو أن أُنسق لحلقة ذكرٍ للأقارب أو الجيران,أو أن أعلق إعلان محاضرة أو ورقة نافعة,.. وغير ذلك, ولا تعارض بين هذه الكلمة وموضوع التخصص الذي تحتاجه الدعوة في بعض مجالاتها, اللهم إلا إذا كان وقته وظروفه بالفعل نظرا لتخصصه وانشغاله لا تسمح له ولو بشيء من ذلك,... ولكن في أحيانٍ كثيرة –عند البعض- ليس التخصص أو الإنشغال السبب, ولكنه نسيان الواجب,وضعف إدراك الأجر والفائدة, وضعف في الهمة وكسل, وضعف في الشعور والتألم لجراح الأمة التي تدفع المستشعر لها حقا أن يبادر بكل وبِأَي شيء لتضميدها وإيقاف نزفها,.. وقد يكون ضعف صدق الإخلاص ودخول الشوائب فيه سبب عدم اجتهاد بعضنا في أعمال دعوية غير التي نقوم بها عادة وتألفها وتحبها!!! أنفسنا!!.
ومما يُحزن أننا نرى حتى الآن!!! العديد من الدعاة ممن يبخل على الدعوة بماله, أو يكون حرصه على دنيا يصيبها أو مال يحصل عليه أعظم من حرصه على الدعوة،... وتأثره وقهره لما يفقده في الدنيا أعظم من تأثره إذا قصر في الدعوة والبذل من أجلها, أو إذا ضاعت عليه فرصة كان من الممكن أن يخدم الدعوة فيها بكلمة أو عمل معين ولو كان صغيرا, أو إذا فوت(أو أخر!!) أي شيء متعلق بها,... وكأنه لا يستشعر - وهو الداعية العارف بواقع الأمة وآلامها- أن تأخره وضعفه في همته الدعوية يعني تأخر نصر الإسلام ويعني!! تأخير إنقاذ أبناء أمتنا المذبحين في كل مكان.(/13)
وأصبح أداء العديد من الدعاة لواجب الدعوة تشوبه (الروتينية!) والبرود! والفتور ويفتقد الحرارة والحماس والهمة العالية, والتألم والحرقة على الواقع, والحرص والغيرة الشديدة على أن لا يفوت عليه أي شيء فيه فائدة للدعوة ولو كان من غير المجالات التي يهتم بها هذا الداعية عادة.
ومتى لم نبلغ الدرجة اللازمة في حرصنا وهمتنا وبذلنا وتضحيتنا فلنعلم أن نصر الإسلام سيتأخر كما وُضِّحَ ذلك في الكلمة المؤثرة لأحد الدعاة والتي ستُذكَر في آخر هذا المقال. وحقاً ما قيل من أن جهود الدعاة والأخيار في الدعوة بشكل عام تعتبر قليلة مقارنةً بأعدادهم .
37- شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث: حسني جرار، وأحمد الجدع، من قصيدة الكتائب لعبدالحكيم عابدين، ص 40.
38- شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث: احمد الجدع وحسني جرار الجزء الرابع, من قصيدة (نداء القرآن) للشاعر أحمد حسن القضاة, ص 106.
الصفحة الرئيسة | مقالات(/14)
الخطاب الدعوي ومذابح المسلمين )
- هذه الكلمات في الفقرات التالية موجهةٌ لروح الأمة وحاملي همها من الدعاة والمصلحين وأصحاب الأقلام الطيبة, وإن كان الأصل أن كل الأمة تكون كذلك فالدعوة إلى الله مسؤولية الجميع .
أولا: إشكالات في الخطاب:
1- يحز في النفس كثيراً أن العديد من الخطباء والمحاضرين والكتاب والشعراء في وقتنا الحاضر وبالذات في مآسينا الأخيرة الرهيبة, لا يقومون في خطبهم ودعائهم وتوجيهاتهم عند الحديث عن مآسي الأمة بتذكير المسلمين بواجب العودة الى الله وواجب كل مسلم في تحقيقها بالشكل الواضح والكافي والمؤثر الذي يوصل هذه الحقيقة إلى كل المسلمين ,مبينا لهم بوضوح أن هذا هو الحل..... ومشعرا لهم بأن مسؤولية تحقيقه تقع على كل فرد مسلم,
مع أن هذا هو الحل الحقيقي الجذري الموصل لتحقيق النصر وايقاف المآسي وردع أعداء الدين .
** ويبدو أن أثر ضعف فهم بعض الأسس الإسلامية والضياع الفكري والتوجهي الذي تعيشه أمتنا حاليا قد أثر أيضا حتى على العديد من الدعاة والمصلحين ؛ فرأينا البعض يتكلمون ويكتبون عن مذابح الأمة بنظرة فيها سمة التركيز على الحلول الجزئية بما فيها الإكثار من نقد التوجه العالمي, والتحدث عن الأسباب السياسية أكثر من النظر للخلفيات الشرعية في هذه الأحداث,
والأهم من ذلك عدم تركيزهم بدقة ووضوح على الحل الحقيقي لكل هذه المآسي بالشكل الذي يصل إلى قلب ويقين كل مسلم(وليس إلى فكره فقط), مشعرا له بواجبه في التغيير والعودة والدعوة إلى الله .
** أيضاً وعلى الرغم من سرور قلوبنا بما نقرؤه ونسمعه من العديد من الصادقين من تألم على الواقع والجراح إلا أننا من كثرة الجراح, وفي غياب التذكير بالحل الحقيقي بوضوح, أصبحنا نمل أحيانا من كثرة البكاء والتباكي على واقع الأمة المتكرر,
فهل الهدف هو البكاء للبكاء؟
أو هل الهدف هو البكاء والتألم فقط لجمع المال لهم ؟والذي لاشك في أهميته إلا أنه حل جزئي ووقتي خاصة إذا لم يربط بالحل الحقيقي .
فالمفترض أن يكون الهدف الأكبر من البكاء والتألم هو جعل ذلك شعلة للأمة للانطلاقة نحو التغيير في واقعها والعودة إلى الله والدعوة إليه التي بها تنتصر الأمة وتحل كل مشاكلها .
2- يتكلم الكثير من الخطباء والشعراء والكتاب وغيرهم عند تألمهم على المحن عن الجهاد وعزة الأمة ووحدتها ونخوتها, ولاشك أن هذه أسس هامة جداً ونحن بأمس الحاجة إليها وبها بإذن الله يتحقق النصر ولكن......
كيف السبيل إليها؟
وهل وضِّح للناس كيف نصل لطريق الجهاد؟ وكيف النصر فيه.
وكيف تحدث العزة والوحدة؟
هل نريد من المسلمين أن يثبوا فجأة للجهاد رغم كل العوائق وأهمها الذنوب والمعاصي؟ , ونتمنى أن يحدث ذلك ولكن المخدر بشكل عام عادة لا يقوم فضلا من أن يثب وثوباً حقيقياً.
ثم لو حصل الجهاد من أمتنا بدون تركها المعاصي ومجاهرة الجبار بها فلن يحصل النصر الحقيقي التام.
ولا يخفى على الدعاة والمصلحين ما حصل في أمتنا من بعد كبير عن حقيقة دينها ,ولا يخفى أيضا ما يفعله المفسدون في الأمة حتى وصل الأمر الى حد محاربة أوامر الله وتحكيم غير ما يرضاه.
** ويجب أيضاً أن ندرك وأن نوضح للمسلمين بأن أمتنا لن تنتصر النصر الحقيقي حتى ولو اتحدت طالما لم تطبق شرع الله وتحترم أوامره.
*** ومسألة أخرى هامة تجدر الإشارة إليها هنا وهي ان تذكيرنا للأمة للجهاد بدون توجيهها للتوبة والعودة يؤدي إلى حدوث إتكالية وتأخر في التغيير والإصلاح (الذي هو الطريق الذي يقود الأمة للجهاد ويحقق لها النصر فيه بإذن الله) بين أفراد الأمة بحجة ان الجهاد لم يقم واننا ننتظر اليوم الذي يبدأ حتى ننصر إخواننا,ونسوا أن إستمرارهم في الذنوب والغفلة هو أحد اهم أسباب تأخر الجهاد في الأمة وتأخر تحقيق النصر فيه(العودة موقد شعلة الجهاد وسر إنتصاره).
- وكم واجهنا من المسلمين الذين عندما نذكرهم بترك اللهو والمعاصي غيرة على الأقل على واقع الأمة نجدهم يحتجون بحجة عدم وجود الجهاد الآن وأنه لو كان موجودا لتحركوا فيه لإنقاذ إخوانهم,ونسوا انهم بأعمالهم هذه ولهوهم من أهم أسباب تأخر بدء وحصول الجهاد في الأمة.
3- يكثر بعض الدعاة أحيانا من ذكر صلاح الدين وغيره من أبطال الأمة خاصة في الأشعار والأناشيد عند كلامهم عن مآسي الأمة ولاشك في أن الأمة تحتاج إلى أمثالهم وبشدة, ولكن.......
أن نجعل أن كل مشاكل الأمة وكل مآسينا بسبب عدم وجودهم يعتبر فهم خاطئ وله خطورته من حيث أنه يصرف أنظار الامه عن أمراضها الحقيقية التي تنخر في جسدها كما وضح ذلك صاحب كتاب (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس"د ماجد الكيلاني").
- ثم كيف يخرج لنا مثل صلاح الدين, هل ننتظر أن يوجد بيننا حتى ونحن على ما نحن عليه!!!!؛
إن العودة إلى الله ومناهج الإصلاح هي التي تخرج لنا صلاح -بإذن الله-!!. وصلاح الدين الأيوبي نفسه كان إحدى ثمار المنهج الإصلاحي الذي عاصره وسبقه.(/1)
ولا شك أن ذكر صلاح الدين والأبطال مهم ونحتاجه, ولكن ليكن كوسيلة لتحفيز الأمة للعودة إلى الدين والنخوة له والجهاد الصادق في سبيله,وليكن حافزا لنا لنكون على مثل ما كان عليه صلاح الدين من صلاح وتقوى سبقت بطولته وإنجازاته.
وذلك حتى يكون ذكره حافزا لنا في معرفة واجباتنا ومسؤوليتنا في الإصلاح لا أن يكون ذكره وذكر عدم وجود أمثاله شماعة!!!! يستغلها الشيطان لكي تلقي الأمة عليها أخطائها بينما هي سادرة في غفلتها ولهوها وذنوبها والتي هي أساس مأساتها وكل التخبط والتقرق والضياع والهوان الذي تعيشه.
4- يبدو أيضا أن استخدام الدعاة والمصلحين والشعراء مصطلح العودة إلى الدين بالشكل الذي يخاطب الأمة بشكل عام لا بشكل فردي مثل عبارة "عودي إلى الله" التي تخاطب الامه وعبارة "الحل في عودتنا لما كنا عليه سابقا" قد لا تشعر الفرد المسلم بواجبه في التغيير, خاصة مع وجود الغبش الكبير في فكر وسلوك أمتنا الديني,
فقد يعتقد الكثير من أبناء الأمة أنهم ليسوا هم المقصودين بهذه العودة, خاصة مع وجود عدو الإنسان الكبير الشيطان الرجيم وشياطين الإنس الذين يلبسون على المسلم ويجعلونه يرضى بواقعه على الرغم من وجود التقصير الكبير الحادث منه .
وأيضا قد لا يكون واضحا للفرد أن بداية تغيير واقع الأمة وعودتها إلى الله تبدأ بالفرد نفسه بالتزامه الصادق الكامل وبدعوته غيره من أفراد المجتمع.
5- مما يدل أيضا أن خطابنا الدعوي كان ناقصا هو ما نلاحظه من البرود و الانتكاس العاطفي السريع والعودة للضلال واللهو الذي يحدث للأمة بعد فترة وجيزة من انتهاء أحد نكبات المسلمين .
بل حتى أنه مع استمراء الواقع وكثرة المذابح أصبح الكثير من الأمة يلهو ويغني وينشغل بالدنيا والمعاصي ,في الوقت الذي يرى أمامه يوميا إخوانه وهم يذبح أطفالهم وتهدم منازلهم وينكل بهم أشد تنكيل .
6- يبدو أن من آثار عدم تركيز الدعاة وغيرهم من المصلحين والغيورين على طريق النصر الحقيقي في خطابهم الدعوي أننا أصبحنا نرى العديد من الإنتاجات الطيبة التي كانت ردة فعل للمحن من مقالات وأشعار وكتابات وتوجهات كلها طيبة لكن أكثرها تتسم بعدم تلمس طريق النصر الحقيقي بإيضاح جيد لا بكلمات رنانة عامة .
بل إن بعض ردود الفعل تجاه المحن سواء كانت نثرا أو شعرا أو خطابه أو غير ذلك كانت تتكلم عن المحن بالطريقة التي يتكلم بها أي إنسان يضيع عليه مجده أو وطنه أو ينتهك عرضه ودمه, فبعضها جاف من المعاني الإسلامية ومعاني العبودية لله .
7- ومن الإشكالات التي لوحظت ما يمكن ان نسميه التخدير بالنصر والتفاؤل الذي يحدث عندما يحرص بعض الأفاضل الكرام الغيورين من الدعاة على طمأنة الأمة بأن النصر قادم وبث روح التفاؤل فيها بدون أن ُتذكر الأمة بأهمية ان تصحح مسارها وتتوب من المعاصي التي وقعت فيها وتعلن وتبدأ بجدية في العودة الصادقة إلى الله وإلى حقيقة دينها وتطبيقه الكامل والدعوة والبذل من أجله. فنكون بذلك كمن يطمئن الطالب الكسول المحبط بأن عليه ألا ييأس وأنه سينجح بدو ن أن يذكره بان عليه ان يثابر ويجتهد.
ثانياً: ما نتمناه في خطابنا الدعوي عن المآسي:
1- نتمنى من الخطاب الدعوي والإصلاحي عن مآسي امتنا أن يكون مركزا على الحل الأساسي الأهم حسب ما عرفنا من السنن الربانية التي عرفنا بها علماء الأمة وسلفها الصالح ألا وهو عودة الأمة الى دينها وتطبيقه الكامل ونصرها لله سبحانه, وأن يركز على علاج مرض أمتنا أكثر من التركيز على علاج أعراضه,
وأن يكون مستمرا لا منقطعا , حتى لا يكون فقط ردة فعل تأخذ وقتها ثم تبرد وتنتهي.
2- نتمنى أيضا من الخطاب الدعوي عندما يوضح أن نصرنا بالعودة إلى ديننا أن يكون خطابه معروضاً بطريقة مفصلة دقيقه تبين لكل فرد كيف يكون دوره في العودة والتغيير,
لا أن يكون الخطاب بكلمة عامه فقط لا تُشعر الفرد بدوره ومسؤوليته في تحقيقها, بل وتؤدي أحيانا إلى أن يصبح الفرد ممن يقول ما لا يفعل, فهو قد يتغنى بان الحل في العودة ولكنه بعيد عن تحقيقها وعن معانيها وواجباتها .
فنحن نتمنى أن تكثر الكلمات القوية والأشعار المؤثرة التي تجعل الفرد المسلم يخرج منها بخطوات عمليه عن ما ينبغي أن يفعله هو بنفسه لتغيير واقع أمته لا أن يخرج فقط بحماس وانفعال قد يبرد سريعا, فأمتنا تريد عملا وعاملين .
3- نتمنى أن يُشعر الخطاب الدعوي والإصلاحي المسلمين بالتحديات الرهيبة التي تواجه الأمة ويربطها بضرورة تصحيح المسار والإصلاح , حتى يكون الشعور بالتحدي فعالا في إيقاظ المسلمين وعودتهم .
وقد كان الشعور بالتحدي فعالا في تغيير حياة كثير من شعوب العالم بعد نكبات ألمت بهم (اليابان أحد هذه الأمثلة).(/2)
4- حبذا أيضا لو كان في خطابنا الدعوي- نثرا كان أو شعرا أو خطابة- تبيين وتذكير ببعض المنكرات التي انتشرت في الامه. وهذا افضل من العموميات في الكلام عن العودة والذنوب لكي يتضح للفرد المسلم نقاط خلله وتقصيره ,ومن ثم يكون خطابنا أقوى في النتيجة العملية الناتجة منه بإذن الله.
5- نحن في حاجة كبيره إلى الخطاب الدعوي الذي يخاطبنا في مآسينا وفي كل أمور حياتنا وانفعالاتنا وتحركاتنا ويربطها بعبوديتنا لله, فهذا هو الأصل الذي ربانا الإسلام عليه وامرنا الله به وخلقنا من أجله , قال تعالى( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) الأنعام: الآيات 162-163 .
- وإن صدق الإخلاص لله في أمورنا –مع التزامنا بالنهج الصحيح بالطبع- من أهم أسباب نصرنا . بل حتى حميتنا وغيرتنا عندما نرى ذبح إخواننا ينبغي أن تكون مربوطة بعبوديتنا لله, فنسعى لإيقاف ذلك لأنه يغضب ربنا سبحانه ويعوق نشر دينه وتحقيق خلافة الإنسان في الأرض, لا أن يكون غيرة وحمية أرضية فقط .
ختاماً:
- نقول لكل غيور قال أو كتب كلمة قوية مؤثرة وذرف الدموع تأثرا بالمآسي وكتب الكلمات الحارة نقول له أكثر الله من أمثالك فبالصادقين من أمثالك الذين يوضحون للأمة نهج الحق والصلاح بصدقٍ وغيرةٍ تنتصر الأمة ويقترب فرجها.
وإنكم عندما تتألمون لقلة الناصر للمسلمين فثقوا-كما لا يخفى عليكم- بأن النصر الأعظم والأكبر سيكون بإذن الله عندما تعود الأمة لله فيومئذ يعظم العطاء و التضحية من أمة عظيمة عاشت لله بمنهج الله وتضحي بالمال والأنفس رخيصة في سبيل الله
{ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله} (سورة الروم).
د مهدي قاضي
http://www.saaid.net/arabic/ar38.htm(/3)
الخطاب الصفوي
أ.د عبد الكريم بكار 7/12/1424
29/01/2004
نحن في الساحة الإسلامية بحاجة إلى لونين من الخطاب. خطاب صفوي نخبوي، وخطاب بياني تبليغي. والهدف من تنويع الخطاب هو القيام بمهمتين عظيمتين: الأولى: العمل على تجديد الخطاب الإسلامي وتعميقه والارتقاء به. أما الثانية فهي التمكن من إيصال الرسالة الإسلامية إلى الشرائح المتوسطة والدنيا من المجتمع، على وجه الخصوص. وسوف أترك الحديث عن الخطاب التبليغي إلى مقال تالٍ، وأتحدث اليوم عن سمات الخطاب الصفوي. والذي أعنيه بالخطاب هنا مجمل المفاهيم والتوجهات والأفكار والآراء التي تعبر عن الثوابت والأدبيات التي نرغب في بلورتها وتعميمها من خلال تداولها وسوقها في نسق متميز محكوم بقواعد وآليات منطقية وبيانية معينة.
في ظني أن الاشتغال على بلورة الخطاب الصفوي يتطلب منا معرفة حسنة بالمبادئ الكلية للشريعة السمحة، إلى جانب معرفة مقاصدها وما هو مجمع عليه من أحكامها، بالإضافة إلى فهم عميق للاحتياجات المعرفية والحياتية للناس، إلى جانب تلمس مستمر للتحولات التي تطرأ على الذائقة الثقافية لديهم. إن الدفق المعرفي الهائل الذي يتعرض له الوعي المسلم اليوم يُدخل على عقول الناس وعلى اهتماماتهم وطرائق استيعابهم للأمور الكثير من التغيير والتحوير.ولا بد لنا من متابعة ذلك وتطوير خطابنا بما يتلاءم معه.
وأتصور أن من سمات الخطاب الصفوي الذي نحن في أمس الحاجة إليه الآتي:
-هو خطاب خاص يتداوله العلماء والمفكرون والباحثون في مؤتمراتهم وبحوثهم وحواراتهم ومجلاتهم العلمية المتخصصة. وسبب خصوصيته أن الأفكار التي يتم تداولها فيه تكون في العادة معقدة ودقيقة وموضع اختلاف وجدل، إنها ما زالت في مرحلة البلورة والإنضاج، وليس من الملائم تداولها ونشرها في النطاق العام.
-يشتغل الخطاب الصفوي على مفاهيم عميقة، ويستخدم مصطلحات غير معروفة لدى كثير من الناس والذين جرت عادتهم بالتعامل مع المعاني السطحية والمباشرة للكلمات، كما أنه يستخدم تشبيهات وتعليلات لا يستخدمها السواد الأعظم من الناس.
-من ملامح الخطاب الصفوي الأساسية اشتماله على رؤية نقدية لأوضاع المسلمين السياسية والأخلاقية، والاجتماعية والاقتصادية... إنه يتلمس مواجع المسلمين وأشكال القصور في حياتهم، ثم يبحث في أسبابها وفي كيفية معالجتها. إننا من خلال الخطاب الصفوي نوضح مساحات الجمال والخير في حياتنا العامة، كما نسلط الضوء على المساحات السلبية والقاتمة، بغية تكوين أوضح صورة ممكنة للحياة الإسلامية.
-الخطاب الصفوي خطاب تحليلي، يقوم على فهم طبيعة المشكلات التي يعاني منها المسلمون، ويبحث بعمق في أسبابها وجذورها وأعراضها والعلاقات الجدلية القائمة بين مختلف جوانب حياتنا المعاصرة. إنه يبحث عن الجذور الأخلاقية لأزمة سياسية حادة، كما يبحث عن الجذور الاجتماعية لوضعية اقتصادية متدهورة، ويبحث في أثر قصور المفاهيم في ردود الفعل الخاطئة...
-الخطاب الصفوي الذي نحتاجه هو خطاب تنموي، يدل الناس على الدروب المفتوحة، كما يحذرهم من سلوك الطرق المسدودة، إنه يطرح الرؤى والنظريات التي تفتح حقولاً للعمل والممارسة، ويشرح إمكانات الحركة ومجالات الإصلاح والتطوير الشامل في الظروف السيئة؛ إنه يفعل كل ذلك لأنه ينطلق من مقولة: كل نظرية تفضي بالناس إلى اليأس والقنوط والقصور عن العمل؛ هي نظرية خاطئة، ويؤمن بقوة أن الله – جل وعلا- ما أنزل داء إلا أنزل له دواء.
-من سماته كذلك البعد عن القطع والجزم في صيغ التداول، ومن الحذر من إيراد القطعيات في موارد الظنيات، إنه يستخدم صياغة احتمالية لأنه يطرح أفكاراً لينة وفرعية، ويشتغل على شرح نظريات وتوجهات اجتهادية، هي موضع جدل ونقاش وأخذ و ردٍّ.
-الخطاب الصفوي هو خطاب منفتح بطبيعته: منفتح على الاجتهادات داخل المذهبية الإسلامية، كما أنه منفتح على الأفكار والمفاهيم المتداولة خارج النطاق الإسلامي؛ لأنه يستهدف إثراء ذاته بكل ما يُحسَّن بصيرة المسلمين بما لديهم وبما لدى غيرهم .
-هو خطاب غني بالأدلة والبراهين والشواهد والاستنتاجات والتشبيهات العلمية الراقية؛ وذلك لأنه يستهدف بلورة رؤى مركبة وعميقة للماضي والحاضر والمستقبل، كما يستهدف التأثير في عقول مثقفة ومدركة لأشكال النقص الذي يعتري الأعمال التنظيرية عامة.
-يعتمد الخطاب الصفوي طريقة النظر من الزوايا المختلفة لأنه في الأساس وإن اشتغل على الكثير من ا لمعطيات الجزئية؛ إلا أنه يظل معنيًّا ببلورة رؤى كلية ومقولات كبرى. وهذا يحتم علينا أن نتمتع بالقدرة عل تقليب الأمور على وجوهها المختلفة ومحاولة فهمها من آفاق متعددة.(/1)
-يعتمد الخطاب الصفوي الملاحظة الذكية في طروحاته، إذ إن قراءة سنن الله – تعالى- في الأنفس والآفاق والمجتمعات وشفافيته نحو استيعاب منطق الأشياء، تتيح للمشتغلين به دائماً نوعاً من النفاذ إلى الحقائق التي لا تدرك على سبيل البداهة أو من خلال النظر العقلي العجول؛ ولهذا فإنه يتمتع بدرجة حسنة من الجاذبية، ويستحوذ على بعض الإعجاب.
-هذا الخطاب الذي عرضت لأهم سماته ضعيف جداً في الساحة الإسلامية بسبب قلة المفكرين العظام الذين حظيت بهم الصحوة الإسلامية في العصر الحديث، وبسبب قلة المؤسسات التي تعمل على وضع البرامج البحثية وإنتاج المفاهيم الدعوية والإصلاحية المتقنة. وبما أن الوعي الإسلامي قد جفل منذ أمد بعيد من كل شيء اسمه فلسفة وتنظير؛ فإن صناعة الأفكار لدينا راكدة، كما أن الجهات المستعدة لإنفاق المال على الأعمال العلمية الممتازة شحيحة إلى حد الندرة، وهذا كله يصب في مصلحة الطروحات المناوئة للفكر الإسلامي.
إنه لا فكر من غير إنتاج فكري، ولا إنتاجًا فكريًّا من غير مؤسسات تهتم به وترعاه وتهيئ له ظروف التكوين والانتشار(/2)
الخطبة الخطبة يا خطباء الجمعة
12/9/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم، وبعد:
إن خطبة الجمعة محاضرة أسبوعية واجب حضورها على كل مسلم عاقل بالغ مقيم صحيح، والتخلف عنها جد خطير، ففي مستدرك الحاكم وغيره عن أبي الجعد الضمري قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه" قال الحاكم: "حديث صحيح على شرط مسلم"(1).
وهذه المكانة للجمعة تلقي بأعبائها على الإمام والمأموم، وأخطأ من تصور أن الاعتناء بالجمعة واجب يقع على عاتق المأموم، فليبكر في الحضور متنظفاً متطيباً، وليصخ سمعه لما يقول الإمام، ولا يتلفت ولا يتشاغل، وغير ذلك مما ينبغي للمأموم أن يراعيه، ثم لا يجول بخاطره أن تلك التوجيهات تتضمن الأمر للخطباء والأئمة بإحسان الخطبة وإتقانها وإلاّ:
فلماذا يبكر ويحرص على شهود الخطبة قبل مبتدئها!
ولماذا ينصت إذا كان الإمام يلقي كلاماً مرتجلاً مليء بالعثرات لا يستحق أن يلقى له بال!!
ولماذا لا يتشاغل فلا يمس حصى ولا يفرقع أصابع، وكلام الإمام منذ العام هو هو لم يتغير!
وكيف يحترم الخطيب أو كلامه، والخطيب لم يحترم آلاف العقول التي بين يديه فيما يقدمه لها! ولم يحترم قبل ذلك الأمانة التي حملها!!
وبعد ذلك يأتي بعضهم فيتساءل: ما بال الناس يتأخرون في الحضور؟ ولماذا لا يتفعالون مع الخطبة!
سبحان الله تثبطهم بفعلك ومقالك ثم تتساءل عن سبب تأخرهم!
كيف يتفاعل الحاضرون مع خطبة لم يتفاعل معها ملقيها!
وكيف يتأثرون بكلام لم يؤثر في قائله!
قد يتصنع الإمام العبارات، وقد يحسن إظهار انطباعات لم يتعدى أثرها إلى قلبه، فتكون النتيجة أن يحسن الناس تصنع الإنصات غير أن الكلام يدخل بأذن ويخرج بأخرى لا يمس قلباً، وتظل الحال هي الحال.
وبالمقابل:
حديث الروح للأرواح يسري
وتحمله القلوب بلا عناء
أما التفاعل الصادق مع الخطبة فقد كان من هديه _صلى الله عليه وسلم_ ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله _رضي الله عنهما_ قال: كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ [وهو الصادق المصدق] إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم.
فهل تأمل هذا ذلك الخطيب الذي يلقي خطبة لا تحرك فيه ساكناً ولا يتفاعل معها، بل نبراته مصطنعة، وكلماته باردة لم تؤثر فيه فضلاً عن أن يتعدى أثرها إلى غيره! فلا عجب أن تجلب خطبته النعاس إلى أناس جاؤوا مستيقظين بعد نوم طويل مغتسلين آكلين شاربين مهيئين بأسباب القبول الحسية التي أمر بها الشرع.
إن الخطيب ينبغي له أن يعتني بأمور، حتى تكون خطبته مؤثرة، منها ما يتعلق بموضوع الخطبة كحاجة الناس إليه وتوقيته، ومنها ما يتعلق بمراعاة السامعين وأحوالهم، ومنها ما يتعلق بأسلوب الأداء، فإذا راعى الخطيب هذه الأمور كان للخطبة شأن وأثر عظيم.
إن المسلم يحضر في العام أكثر من خمسين درساً، ومع ذلك فإن المستفيد قليل، وما ذلك إلاّ لعدم توظيف المنابر توظيفها الأمثل، ولك أن تتخيل لو أتيحت هذه المنابر للأهل الكفر من الغربيين كيف كانوا يصنعون؟!
إنني أوجه دعوة لأولئك الذين لا يجتهدون و لا يعتنون بما يلقونه في خطبهم، بل جل همهم إزاحة هم نزل بهم، وقضاء وقت فرض عليهم، دعوتي إليهم بأن يتقوا الله، وأن يحترموا عقول السامعين، فما هكذا تؤدى الأمانة.
وقد صح عنه _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلاّ حرم الله عليه الجنة". [البخاري ومسلم] قال القاضي عياض: "معناه بَيِّنٌ في التحذير من غش المسلمين، لمن قلده الله _تعالى_ شيئاً من أمرهم واسترعاه عليهم، ونصبه لمصلحتهم في دينهم أو دنياهم، فإن خان فيما اؤتمن عليه فلم ينصح فيما قُلِّده إما بتضييعه تعريفهم ما يلزمهم من دينهم، وأخذهم به... فقد غشهم" ثم ذكر القاضي أن ذلك من الكبائر الموبقة المبعدة عن الجنة(2). وأخشى ما أخشاه أن ينال بعض الخطباء نصيب من ذلك.
نسأل الله ألا يجعلنا من الذين ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، قائمين بأمر الله صالحين مصلحين، كما نسأله أن يعيننا على القيام بالحقوق والواجبات، وأن يتجاوز عن التقصير والزلات، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
_____________
(1) حسنه النووي في الخلاصة 2/758، وصححه الألباني ينظر صحيح الجامع 6143.
(2) ينظر شرح النووي على مسلم 2/166.(/1)
الخطوط الكبرى لخريطة العمل الإسلامي
د.فتحي يكن
من خلال استعراضنا لما جاء في كتاب الله تعالى، وما ثبت عن رسول الله ص، ونزولاً عند قوله ص: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض" (حديث صحيح رواه الحاكم عن أبي هريرة)، وحيال المتغيرات والتحديات التي تواجه الإسلام والمسلمين والإسلاميين على مستوى العالم، وبخاصة بعد أحداث سبتمبر 2001 وما شهدته الساحة الإسلامية ولا تزال تشهده من فوضى وعفوية وضياع وتيه وتشرذم، نتيجة غياب المرجعية العالمية التي تفصل فيما يجري من خلاف واختلاف بين الإسلاميين وباسم الإسلام، كان لابد من مبادرة ولو متواضعة وأولية على طريق تحديد الخطوط الكبرى لخريطة العمل الإسلامي، ووضع "بوصلة" لترشيد التوجهات، وتصويب الاتجاهات.
أولاً: في المبادئ:
1 اعتبار أن الإسلام دين الله الخاتم.. بدليل قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا(المائدة).
2 اعتبار أن البشر جميعاً مدعوون لاعتناق الإسلام.. بدليل قوله تعالى: وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا(سبا:28) وقوله: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا (الأعراف:208) وقوله: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة (البقرة:208). وقوله: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون 30 (الروم:30).
3 اعتبار أن الإسلام قد نسخ الديانات السابقة جميعاً، وأنه احتوى كل ما فيها من خير.. بدليل قوله تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى" به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى" وعيسى" أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه (الشورى:13).
ثانياً: في الأهداف:
1 الدعوة إلى وحدانية الله تعالى بدليل قوله تعالى: وقاتلوهم حتى" لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله (الأنفال:39) وقوله ص: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله الا الله، وبؤمنوا بي، فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله" (رواه مسلم) وقوله: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى" كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله (آل عمران:64).
2 تحقيق عبودية الله تعالى في الأرض، بدليل قوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون 56 (الذاريات) وقوله: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون 25 (الأنبياء).
3 إقامة حاكمية الله تعالى في الأرض من خلال تحكيم شرعه والاحتكام إليه: إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه (يوسف) وقوله: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله(الشورى:10) وقوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون 45 )المائدة) وفي موضع آخر: الكافرون. وفي ثالث: الفاسقون.
4 تحقيق الشهود الإسلامي على الناس، بدليل قوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا (البقرة:143) وقوله: هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس (الحج:78).
5 إقامة الحجة على البشر بلزوم ووجوب اعتناق الإسلام، بدليل قوله تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى" نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى" إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى" وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا 163 ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى" تكليما 164 رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما 165 (النساء).
ثالثاً: في المنهجية:
1 اعتبار أن "الوسطية" هي عنوان منهجية الإسلام، كما هي محتواه بدليل قوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا (البقرة:143)، "فما خُيِّر رسول الله ص بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً" (رواه البخاري) وقوله ص: "خير الأمور أوسطها"(رواه البيهقي).
2 اعتبار أن التطرف والعنف والغلو ليست من الإسلام في شيء، وأن الخطاب القرآني، كما الخطاب النبوي هما خلاف ذلك.. ففي الخطاب القرآني قوله تعالى: ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك (آل عمران 159) وقوله: ادع إلى" سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة (123) وقوله: وقولوا للناس حسنا (البقرة: 83) وفي الخطاب النبوي قوله ص:" يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" (رواه البخاري) وقوله: "إن هذا الدين شديد فأوغلوا فيه برفق" وقوله: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق" (رواه أحمد) وفي رواية: "وما شاد هذا الدين أحد إلا قصمه" وقوله: "خذوا من الأعمال ما تطيقون" (رواه البخاري).(/1)
3 اعتبار " المرحلية" خياراً لازماً في منهجية العمل الإسلامي، بل سنة إلهية لا مناص من اعتمادها والأخذ بها، بدليل رفضه ص الدائم للتعجل ودعوته للتأني من خلال قوله:"إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى" (رواه احمد والبزار).
4 الأخذ بمبدأ الأداء "الحسن" واعتماد "الجودة" في الممارسة والعمل والخطاب، يقول ص: "إن الله يحب من العامل إذا عمل العمل أن يتقنه" (رواه البيهقي) وقوله: "إن الله كتب الاحسان على كل شي" (رواه أحمد).
5 اعتبار أن الإسلام أجاز بعض الممارسات في الحرب فقط، ومع المحاربين من أعداء المسلمين وليس مع المسلمين بحال، وضد الدولة المحاربة والفئات التي تقاتل المسلمين فحسب، ولم يجزه فيما سوى ذلك حتى مع غير المسلمين الذين عناهم الله بقوله: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) (الممتحنة) فكيف بممارسة الإرهاب ضد المسلمين أنفسهم!، وقد حذر الرسول ص من مجرد ترويعهم فقال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يروعن مسلماً".
رابعاً: في الآلية
1 الأخذ بالأسباب كاملة، والإعداد والاستعداد في مختلف الجوانب، بدليل قوله تعالى: ووأعدوا لهم ما استطعتم من قوة (الأنفال:60).
2 الحرص على الأخذ بوسائل العصر وأسباب القوة وبذل الجهد المستطاع في ذلك، وليس بما تيسر وسهل من أسباب: "وسائل الإعلام، وسائل الاتصال، وسائل البرمجة والأرشفة والمسح والإحصاء".
3 الحرص على اختزان هذه الأسباب وعدم استهلاكها، والبعد بها عن سياسة العرض والاستعراض: "استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان" وفي رواية: "استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان"(رواه الطبري وابن ماجه).
4 اعتبار أن "الداعية" هو آلية العمل الأهم، ويقع في مقدمة الأولويات، وأن نجاح الأسباب الأخرى مرهون بتوافر الداعية الناجح، وملاحظة أن إخفاقات وتداعيات العمل الإسلامي مردها إلى الفشل في إعداد الدعاة.
5 اعتبار أن كل حركة اسلامية هي جماعة من المسلمين وليست "جماعة المسلمين" وأنها عرضة للخطأ، وأن ما لديها يؤخذ منه ويرد عليه، وأن التزامها منهج النبوة، واعتمادها التخطيط والتنظيم والانضباط هو سر نمائها ونجاحها وغلبتها، وهو العمود الفقري في آليتها الحركية.
6 اعتبار أن "القدوة الحسنة" مفتاح التوفيق، وسر نجاح كل الخطى والأسباب والآليات، وأن الحركة التي لا تترجم مبادئها واقعاً، ولا يعيش أفرادها الإسلام سلوكاً وعملاً، لن يكتب لها النجاح، مهما بلغت قوتها وتعاظم شأنها، لأن مآلها إلى الانكسار والاندثار.
7 اعتبار أن المال هو العصب الأساس في آلية العمل، وأنه السبيل الوحيد لامتلاك أسباب القوة المادية، وأن المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وأن الطرق التي تؤدي إلى الحصول عليه واستثماره وتنميته يجب أن تكون بمنأى عن أي شبهة أو علامة استفهام.
8 اعتبار أن الهيكليات الإدارية والمناهج التربوية والخطط والمخططات هي ثمرة جهد مرحلي وناتج اجتهاد وفقه آني ظرفي، وأن لكل مرحلة فقهها التنظيمي والإداري والتربوي والسياسي، وأن مراجعة كل ذلك واجبة لتحقيق تقدم العمل وتطويره، وأنْ لا مناص منه ولا غضاضة فيه.
9 اعتبار أن القيادة هي قوام نجاح العمل، وأن الشورى إعلاماً وإلزاماً هي شرط نجاح القيادة وتوفيقها وسدادها، وأن سلامة الجسم من سلامة الرأس، كما أن صلاح القاعدة من صلاح القيادة.. وصدق رسوله الله ص حيث يقول: "صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء".
10 اعتبار أن التطوع في العمل الإسلامي هو الأصل والأساس، وأن على الجميع واجب الانخراط فيه، لاعتباره من التكاليف الشرعية، وأن التفرغ يجب ألا يزيد على حجم الحاجة الذي لا يغطيه ويكفيه التطوع، وأن التفرغ يجب أن ينشأ مؤسسياً.
11 اعتبار أن العمل الجماعي الناجح يجب أن يكون مؤسسياً، وأن المؤسسة آلية من آليات العمل، وليست هدفاً من أهدافه.. وأن استراتيجية الحركة يجب أن تحتضن وتستوعب بتناغم وتفاهم وعدم تضاد وتناقض كل الأجيال، وكل التخصصات، وبخاصة المؤسسات التي أنشأتها كي لا تصبح ضراراً أو ندّا ً لها.(/2)
الخلافة تحدي الإسلام للنظام العالمي؟
نشر موقع الشاشة الإعلامية العالمية (Media monitors) في 31/1/2006 هذا المقال لمؤلفه نعمان حنيف. وفيه قراءة متأنية، ونظرة ثابتة، ورؤيا مستقبلية، لما سيؤول إليه الصراع بين الغرب والإسلام، والذي سيصل بنظره إلى نتيجة واحدة، وهو أنه «ليس لدى الغرب أي خيار سوى قبول حتمية الخلافة». وأحبت الوعي نشره على صفحاتها لما يحمل نشره من خير للأمة، ولجعلها تدرك إلى أي حال تبشر بالخير وصلت إليه.
يسود اعتقاد ديني لدى الحركة الإسلامية المتطرفة بمشروعية دولة الخلافة على أنها قلعة لاستعادة القوة الإسلامية، ووسيلة تتحدى بها تفرد الحضارة الغربية، وينذر بقدوم عاصفة في العالم الإسلامي وما وراءه، وقد تختلف الحركة الإسلامية بناءً على مصادرها من القرآن الكريم والتاريخ الإسلامي حول منهجيتها لإحياء الخلافة بالعمل الجهادي أو الإصلاحي أو السياسي، إلا أنها تجمع بكل أطيافها على هدف إعادة الخلافة.
وكان رد الفعل الغربي على الحركة الإسلامية هو ربط الخلافة بالجهاد العالمي، وبتوسيع رقعة الحرب على الإرهاب، وأدى تطور لغة خطاب العواصم الغربية من "الإرهاب العام" إلى "الإرهاب الإسلامي" ومن ثم إلى "أيديولوجية الشر" وأخيراً ضد "الخلافة" إلى الإقرار بما كانت الحركة الإسلامية تتبناه منذ فترة طويلة بأن الحرب على الإرهاب هي بالأساس حرب على الإسلام.
وكدليل آخر، فقد أفادت الحركة الإسلامية باستدلالها على موقفها من سلسلة من التصريحات الاستثنائية حول الخلافة من قبل القادة السياسيين في واشنطن وأوروبا. ففي خطاب له في مؤسسة هيرتيج في 6/10/2005م قال وزير الداخلية البريطاني تشارلز كلارك: «... لايمكن أن تكون هناك مفاوضات حول إعادة دولة الخلافة، ولا مجال للنقاش حول تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية» أما الرئيس بوش فقد صرح في خطاب له للأمة في 8/10/2005م قائلاً: «يعتقد المقاومون المسلحون أنهم باستيلائهم على بلد واحد سيقودون الشعوب الإسلامية، ويمكنونهم من الإطاحة بكافة الحكومات المعتدلة في المنطقة، ومن ثم إقامة إمبراطورية إسلامية متطرفة تمتد من إسبانيا إلى إندونيسيا». وفي 5/12/2005م قال وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد في تعليق له حول مستقبل العراق في جامعة جون هوبكنز: «ستكون العراق بمثابة القاعدة للخلافة الإسلامية الجديدة التي ستمتد لتشمل الشرق الأوسط وتهدد الحكومات الشرعية في أوروبا وأفريقيا وآسيا، وهذا هو مخططهم، لقد صرحوا (الحركة الإسلامية المتطرفة) بذلك، وسنقترف خطأً مروعاً إذا فشلنا في أن نستمع ونتعلم».
والخلافة حسب تعريف الحركة السنية الإسلامية هي رئاسة عامة لكل المسلمين تهدف إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وحمل الرسالة الإسلامية إلى كل العالم، وهي وريثة الخلافة الإسلامية التي امتدت في يوم من الأيام من إندونيسيا إلى إسبانيا ولمدة ألف وأربعمائة عام، وهي ليست بالملكية، ولا بالديمقراطية، ولا بالديكتاتورية، ولا بالحكومة الدينية (الكهنوتية)، بل هي عقد قيادة بين الخليفة المنتخب والأمة من أجل تطبيق الأحكام الإسلامية في السياسة الداخلية والخارجية.
إن الاختلاف بين الطائفة (المدرسة) السنية والشيعية هو أن طائفة السنة تقبل بإعادة الحكم الإسلامي على يد أي مسلم يتصف ببعض المواصفات المعينة، بينما الشيعة تشترط على أن يكون الشخص الذي لديه السلطة لتطبيق الحكم الإسلامي منحدراً من عائلة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). وبما أن سلالة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد توقفت بعد اختفاء أو اختباء الإمام الثاني عشر عام 941م، هذا يعني أنه من المستحيل الشروع من جديد بتطبيق الحكم الإسلامي إلا بظهور هذا الإمام من جديد. ولهذا السبب، إن الثورة الإيرانية لم تعلن أبداً أو لم تُقبل كخلافة من قبل أغلبية السنة والشيعة في العالم الإسلامي.
وفي هذا المقال، سأتطرق إلى موقف الغرب في تجنب خوض مواجهة مفتوحة مع الإسلام ومقاومتهم للحركة الشعبية المندفعة تجاه إحياء الخلافة، وسأبرهن كيف أصبح من الصعب عليهم أن يحتفظوا بمثل هذا الموقف. إن الحركة الإسلامية تنتصر في كل معركة تخوضها في حرب الأفكار بفضل سلاحها وهو القرآن. إلا أن مؤازرة الإسلام المعتدل كجزء من الليبرالية الغربية في العالم الإسلامي آخذ في الانهيار نظراً للسلطة العليا لعلامة الحركة الإسلامية.
لقد نجحت الحركة الإسلامية بتقديم نموذج أيديولوجي بديل لليبرالية العلمانية الغربية للجماهير المسلمة حيث يتفق هذا النموذج مع القرآن. ويشكل إحياء الخلافة ذروة هذا النموذج ووسيلة لتحدي البناء العالمي المسيطر عليه من قبل الغرب.(/1)
وفي النهاية، إذا قرر الغرب أن يتحدى هذا النموذج فسيضطر إلى شن المعركة ضد الإسلام والقرآن. ولا تعتبر هذه الحركة كتسريع مقصود لوقوع تصادم الحضارات، بل هي بمثابة إقرار واضح على عدم الانسجام (التوافق) بين الإسلام والليبرالية الغربية.
لا يجب أن نتوقع من الغرب أن يغير من سياسته تجاه العالم الإسلامي، فهذا تفكير سفيه، حيث إن الغرب سيستمر بسياسته المبنية على الصراع بين أمن الطاقة، وعولمة الرأسمالية، وترويج الديمقراطية العلمانية، وأقلمة الإسلام المعتدل. وبالتالي فإن أي محاولة من الغرب لفرض الديمقراطية بالقوة وعن طريق الاحتلال في العالم الإسلامي ستؤدي فقط إلى تقوية الحركة الإسلامية. كما أن الاستمرار في دعم الأنظمة الديكتاتورية والملكية التي تهدف إلى القضاء على الحركة الإسلامية وتعارض قيام الخلافة يؤكد للجماهير أن الغرب ينوي الاستمرار بشن حملته الصليبية عليهم. وقد وفرت هذه الظروف البيئة المناسبة لانهيار الأنظمة المحلية وقيام الخلافة، وبالتالي وقوع تغيير جذري في النظام العالمي.
جذور إحياء الحركة الإسلامية
إن الفراغ الأيديولوجي الذي وجد بعد فشل التجربة الشيوعية في روسيا حوّل تركيز النقاش الدولي إلى الإسلام وما إذا كان بإمكانه أن يملأ هذا الفراغ ويصبح تحدياً أمام النظام العلماني الليبرالي العالمي المنتصر بقيادة الولايات المتحدة بأوروبا. وبعد الانهزام الأيديولوجي وغير المتوقع للشيوعية، اعتبر الأكاديميون الذين ترعرعوا في بيئة من التقاليد الغربية العلمانية الليبرالية أن إحياء الحركة الإسلامية هي عبارة عن رد فعل لسمو الأيديولوجية الغربية ولغز استراتيجي، ولكن ليس بمقدورها أن تقف كتحدٍّ أمام النظام الغربي العالمي. لقد سيطر هذا التفكير على الأدب الغربي وأدى إلى خطأ فادح في فهم وتفسير أساس إحياء الإسلام وتحديه للنظام العالمي.
لقد ارتكب الأكاديميون وصناع السياسة الغربيين خطأً كبيراً عندما حللوا مصدر إحياء الإسلام والظروف التي حفزته على أنه أمر واحد، فلم يتم فصل ينبوع الأفكار عن البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عززت نموها. أما بناء الحركة الإسلامية، التي تهدف إلى إعادة إحياء الإسلام بأكمله عن طريق قيام الخلافة، فتعود جذوره إلى مصدر إلهامه ألا وهو القرآن الكريم.
يعتبر القرآن في العالم الإسلامي المشروع المثالي للأفكار، ويعود الفضل له في وضع نهاية للتاريخ قبل 1200 عاماً قبل أن يضع فرانسس فوكوياما "العلامة القياسية" من خلال الثورة الفرنسية. إن الإيمان بكمال القرآن وبالتالي بقوانين الله النابعة منه يزرع جذور الغضب الإسلامي، ويجعل من قيام تضارب الحضارات بين الإسلام والليبرالية العلمانية أمراً لا مفر منه.
وفيما يتعلق بفشل الإسلام السياسي المذكور، فإن النقاش الأكاديمي الغربي يلحق العولمة الغربية لدرجة أنه يكوِّن فرضية عن الإسلام بصورته الخاصة المنتزعة من القرآن ومن إرث الفقه الإسلامي وكذلك قوة الحركة الإسلامية، إن الإيمان بأن القرآن عالمي، وأن هنالك توافق بين المادة والروح، يجعلان من عملية حرف الإسلام أمراً غير ممكن.
وهنالك نقاش حاد من قبل الحركة الإسلامية مبني على آيات القرآن، حول القاعدة التي يقوم عليها الغرب العلماني «أعط ما لله لله، وما لقيصر لقيصر»، وتضيف أنه لا يوجد مرادفات للمفاهيم الغربية التشريعية في الحوار الإسلامي الكلاسيكي أو المعاصر.
وفي الواقع، إن القول بأن الإسلام السياسي قد فشل لأنه لم يتمكن من التأقلم مع الحداثة الغربية ومع البنية السياسية الغربية، لا يعتبر محاكمةً لفشل الإسلام السياسي، بل إنه برهان آخر على أن الإسلام وهندسة السياسة الغربية لا يتلاءمان من الأصل. ومن ناحية أخرى فإن قيام الحركات الإسلامية بتقديم بنية الخلافة، كبديل سياسي ونظامي للأنموذج الغربي العلماني الحالي، يمثل نجاحاً للإسلام السياسي.(/2)
بلا شك إن الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في العالم الإسلامي قد دعم قضية الحركات الإسلامية. ولكن على عكس افتراضات الغرب، فإن الحل لا يكمن في الليبرالية العلمانية أو الرأسمالية بل في الإسلام. ولا بد من التوصل لمثل هذه النتيجة نظراً لما تحمله العالم الإسلامي خلال عقود من التدخل الغربي، سواء عن طريق الاستعمار، أم صراع القوى الكبرى، أم الصداقات القاسية مع الديكتاتوريات غير الإسلامية باسم الاستقرار ومصالح الأمن فيما يتعلق بالنفط. والاستعمار الغربي، والذل، والتدخل، يؤكد للجماهير الإسلامية أن الغرب هو سبب معاناتهم، وليس الإسلام؛ ولهذا فقد شرعت الجماهير الإسلامية بالبحث عن بديل في الإسلام على أمل أن يعيد لهم كرامتهم وقوتهم، ويوفر لهم الحماية والاستقرار من خلال نظام مكرس للفرد والدولة والمجتمع. وإذاً إنه لأمر طبيعي أن يربطوا آمالهم هذه بالقرآن والإرث الإسلامي وبالخلافة. وإن محاولات الغرب إبطال عملية الإحياء هذه وقيام الخلافة عن طريق التدخل العسكري والسياسي والثقافي والاقتصادي سيشعل نار المسلمين أكثر فأكثر.
البعث (الإحياء)
إن النداء إلى قيام الخلافة على يد الحركة الإسلامية يتجاوز الحدود الاستعمارية الزائفة التي رسمها الغرب بعد زوال الخلافة العثمانية. فاليوم يواجه كل نظام في العالم الإسلامي خطراً يهدد وجوده بسبب قيام الحركة الإسلامية التي تتعدى الوطنية. علماً بأن رفض الوطنية باعتبارها هدامة مفرقة، مدعوم بمراجع من القرآن والشريعة والتاريخ مما يعزز المطالبة بإلغاء الدول القائمة على الوطنية في العالم الإسلامي، وإقامة خلافة واحدة بدلاً منها. كما ونتج عن الانهيار السوفياتي توسع سريع للحركة حيث ملأت الفراغ في القوقاز وآسيا الوسطى مكملةً المساحة التي شملها الإحياء الإسلامي.
إن الإيمان بأن الإسلام هو مصدر شامل للتشريع موجه للفرد والدولة والمجتمع، إضافةً إلى الحركة العالمية في الهجرة والأفكار والمعلومات، قد مكن العالم الإسلامي من تخطي شعورهم بالانحطاط الفكري والتكنولوجي والسياسي أمام الحضارة الغربية. يتوفر في العالم الإسلامي ثروة معدنية واستراتيجية وفكرية ومصادر إنسانية مما يتضمن وجود ثقة فكرية حول القدرة على إقامة خلافة تتحدى وتتفوق على السمو الغربي العسكري والتكنولوجي. وبالتالي ليس من المفاجئ أن يعمل أعضاء في الحركة الإسلامية ذوو ثقافة وتعليم عالٍ من بوتقة الحضارة الغربية في واشنطن وباريس وروما على قيادة الترويج العالمي للخلافة بنجاح.
لقد أدت عدة عوامل، بدايةً بقيام إسرائيل وحتى غزو العراق، إلى تغيير جذري في الجو والبنية السياسية في العالم الإسلامي. إن البلوغ السياسي في العالم الإسلامي لم يعد عاجزاً كما كان في المرحلة الأخيرة من الخلافة العثمانية، وذلك بفضل تثقيف الحركة الإسلامية للجماهير الإسلامية وأيضاً بمساعدة السياسة الغربية، ومؤخراً تلاقي المشاريع التي طورتها القوى الغربية بمشاركة الأنظمة المحلية، لصرف نظر الشعوب عن الحركة الإسلامية وسحقها خلال الثمانين عاماً الأخيرة، تمثل تهديداً متزايداً نظراً لانتشار الوعي السياسي. وقد لاقت الحرب على الإرهاب وغزو العراق تحليلاً في العالم الإسلامي مفاده أن هذه حرب على الإسلام، وسياسة متبعة لإبطال قيام الخلافة. ومن هنا لم تعد الحركة الإسلامية تفرق بين السياسة الغربية والحكومات المحلية. ومع مزيد من التثقيف السياسي، فإن الاتجاه نحو تغيير النظام يصبح واقعياً أكثر بنظر الحركة الإسلامية عنه بنظر القوى الغربية.
تحدي النظام العالمي
سيشهد 1400 عاماً من تاريخ الخلافة في غضون الفكر العلمي والعسكري والاقتصادي والسياسي على قيام انقلاب قريب في البنية الدولية التي تسيطر عليها كل من الولايات المتحدة وأوروبا. وتماماً كما تعود الحضارة الغربية دائماً إلى مصادر إلهامها الكلاسيكية القادمة من اليونان وروما، كذلك فإن الحركة الإسلامية قد قررت العودة من ماضيها إلى مستقبلها.
لقد شكل إنجاز الحركة الإسلامية بعث الحياة في مصادر الإسلام الكلاسيكية وتحويلها إلى نموذج حديث يتحدى الأيديولوجية الغربية، وقد شكل هذا نواة مقاومتها ضد الشيوعية بكونها نظاماً سياسياً. ويقاوم نفس هذا النموذج اليوم النظام الرأسمالي العلماني العالمي.
ومن أجل تطبيق هذا النموذج، قامت الحركة الإسلامية بتفصيل النماذج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية البديلة. وقد اشتقت القوانين الشاملة من القرآن والمصادر الكلاسيكية، وصولاً إلى المعاملات الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية وقانون العقوبات والتشريع والحكم والسياسة الخارجية، مما زاد من ثقة الجماهير الإسلامية على أن الإسلام والخلافة قادران على تقديم الحلول للمشاكل المعاصرة.(/3)
ومما يثبت أن قوى الغرب لن تواجه سوى مشاكل صغيرة مع البنية الاجتماعية ونظام الحكم في الخلافة هو سياستهم الخارجية التي يستخدمونها تجاه الأنظمة الديكتاتورية المتتالية في هذه الأيام. بل إن التحدي الحقيقي الذي سيواجه المصالح الغربية والرأسمالية العالمية يكمن في مبادئ وسياسات الاقتصاد والجيش والعلاقات الخارجية.
إن تعريف الحركة الإسلامية للمشكلة الأساسية التي تواجه الاقتصاد هي مشكلة في التوزيع وليست مشكلة في الإنتاج كما في الفكر الغربي. وكذلك في نظام الخلافة، سيصبح الفصل بين الدولة والملكية العامة والخاصة بديلاً لنظام الخصخصة في النموذج الاقتصادي. وفكرة رفض أن يكون السوق هو الموزع الوحيد للثروة والبضائع الأساسية سيشكل ضربةً قويةً في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وأميركا الوسطى والجنوبية، حيث لن يتمكن الاقتصاد الحر والرأسمالية الدولية في تلك المناطق من التغلب على الفقر بالرغم من الوعود بقيام العولمة والتجارة متعددة الأطراف.
وسيتم التعامل مع الثروة المعدنية، والتي تشمل النفط والغاز وفقاً لمبادئ الاقتصاد الإسلامي، حيث تعتبر هذه الثروة من حق كل مواطن، وتتولى الدولة مهمة حفظ حق التصرف بها. وإذاً فإن هذا القانون يتطلب إزالة مصالح النفط الغربية في العالم الإسلامي، علماً أن حصول الغرب الآن على هذه الثروات بثمن زهيد في العالم الإسلامي وبدعم من الحكومات المحلية يجعل من إعادة الخلافة أمراً ذا أهمية بالغة.
ستقوم الخلافة بدورها (كما فعلت في السابق)، مدعومةً بثروة النفط والثقة السياسية، بنشر التنظيم المالي والاستقرار في البيئة الاقتصادية المحلية والدولية. وربما يصبح سلاح النفط الأساس من أجل تحصيل الذهب الكافي لدعم النقد (المال). إن هذا الاستقرار المتوقع في الاقتصاد سيشكل عاملاً أساسياً من أجل إعادة سيطرة الذهب في السوق المالي والتخلي عن الدولار، وذلك بانهيار ثقة قوة سياسية كانت تعتبر العليا.
إن رفض الحركات الإسلامية لفكرة وجود قانون دولي على صرح عقائدي ومبني على فكر هوبس1 سيشكل تهديداً متزايداً لوجود الأمم المتحدة. فالخلافة ستقاوم فكرة وجود القانون الدولي والأمم المتحدة كمسيّرة لشؤون الغرب العلماني، على عكس الاتحاد السوفياتي، وهذا الرفض موجود منذ وقت طويل في العالم الإسلامي والنامي. وكبديل لهذا الأمر، ستلجأ الخلافة كما فعلت في السابق إلى تسيير العلاقات الدولية عن طريق الأبحاث والعادات وقوة الرأي العام الدولي.
من المتوقع أن تكون الهيمنة العسكرية للخلافة سريعة، كما أنها ستقوم بإزالة جميع القواعد العسكرية الغربية في العالم الإسلامي، وبالتالي لن يعود هنالك للغرب أي حق في استخدام الطرق المائية الاستراتيجية والفضاء الجوي والطرق البرية والتعبئة العسكرية، إضافةً إلى أن توفر الخيار النووي سيجعل هذا الأمر مستحيلاً.
لن تواجه الخلافة نقصاً في توفر العقول النابغة، وسيكون لها يد في السوق الدولي من العلماء المفتوح أيضاً لواشنطن وأوروبا. إضافةً إلى ذلك، سيتم بالتأكيد استغلال العقول المسلمة الذكية التي تعمل بشغف في أوروبا والاتحاد السوفياتي العسكري الصناعي السابق وذلك عن طريق ترحيلها من الغرب إلى بلدانها (الإسلامية).
وكما سبق في التاريخ، لابد أن يسيطر السعي للقيادة العسكرية؛ وذلك من أجل تعزيز مسيرة الخلافة تجاه القيادة الأيديولوجية العالمية. ولكن، إن القيادة العسكرية لم تمنع الفساد الأيديولوجي خلال فترة الخلافة العثمانية، حيث كان السبب سياسي تماماً كما حدث في انهيار الاتحاد السوفياتي. ويبدو أن الحركة الإسلامية قد تعلمت درساً من التاريخ، وذلك من خلال إبدائها مهارات سياسية حاذقة في قدرتها بالاحتفاظ بقوتها في العالم الإسلامي. ومن دون شك ستخدم هذه الحنكة السياسية كقوة رائعة تطبقها الخلافة خلال سعيها لإقامة ثورة في النظام العالمي.
قبول الخلافة
في خطاب له خلال المرحلة الأخيرة من تفكيك الخلافة العثمانية، رفع رئيس الوزراء البريطاني السابق، وليام جلادستون، القرآن أمام البرلمان وقال: «مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق». وقد تحقق تنبؤه على أرض الواقع عندما بدأ الاجتهاد (وهو منهج ديني لاستخلاص القانون الإسلامي) والذي مكن الحركة الإسلامية من اللجوء إلى القرآن لحل مشاكل معاصرة كبديل لليبرالية العلمانية الغربية.
ولا تستطيع السياسة الغربية أمام هذا التحدي بالاستمرار بمحاربة الإسلام بشكل غير مباشر أي من خلال الحرب على الإرهاب. كلمة "إسلام" تعني السلام ولكن لهذا الإسلام شروطه من خلال الخضوع الكامل لقانون الله. وبالتالي، وبالرغم من تملق كل من واشنطن وأوروبا السياسي تجاه الإسلام، إلا أنه من غير الممكن أن يكون هنالك تعايش ما بين الإسلام والحضارة الغربية.(/4)
ويبدو أن السياسة الأميركية المتأثرة بحكم الرئيس السابق ريغن والتي تتسم بطابع المحافظين الجدد آخذة بربط الخلافة بطابع "أيديولوجية الشر". ولكن، يجب على السياسة الغربية أن تتسم بشجاعة أكبر كي تُعرِّف الإسلام بكونه التهديد الأساسي، تماماً كما كانت الحال مع الشيوعية. كما أن استمرار حالة الإنكار لدى واشنطن وأوروبا فيما يتعلق بوقوع صراع مع الإسلام، سيولد مزيداً من الارتباك والإحباط والتناقض بين الأكاديميين والدوائر السياسية الذين يعون جيداً عدم التوافق بين النظامين.
إلا أن العالم الإسلامي، من جهته، لا يعاني من حالة الارتباك تلك، حيث لا شك أن ما لديه هو أن السياسة الغربية تستهدف الإسلام، وتحاول منع قيام الخلافة في قلب الشرق الأوسط، ومما يدل على ذلك الغزو الأميركي للعراق، ورفض أن يكون الإسلام مصدر تشريعه، وأن تكون الخلافة بنيته السياسية.
إن بروز الجهاد العنيف العالمي ورد الغرب عليه بشن حرب على الإرهاب قد استقبل بتجاهل من الغرب؛ لأسباب ودوافع بروز شعور مناهض للغرب في العالم الإسلامي. ففي الواقع، إن الجهاد العالمي هو رد فعل محبط لسياسة الغرب التي تتضمن دعم الأنظمة التي تعذب مواطنيها، وتعيق الحركة الإسلامية بتحقيق هدفها ألا وهو إقامة الخلافة.
إن كل من واشنطن وأوروبا تخدع نفسها إذا اعتقدت أن بإمكانها طمأنة مجتمعاتها بالقول إن الحركة الإسلامية ستختفي بكل بساطة بفضل الحرب على الإرهاب وغزو العراق، أو أن العالم الإسلامي سيتبعهم بعد دراسة استعمارية جديدة. إن العامل السياسي يزداد جأشاً في الحركة الإسلامية بينما يزيد الجهاد المخاطر بواسطة توسيع واستمرار الهجمات العنيفة على المجتمعات الغربية.
تستضيف كل من أميركا وأوروبا خاصةً أعداداً كبيرةً من المسلمين الذين لديهم اتصالات قوية مع الحركة الإسلامية العالمية، والذين يدعمون إقامة الخلافة. هذه الظاهرة تشير إلى فشل الغرب بالحصول على سيطرة عقائدية على المسلمين الذين يعيشون في عقره. وسيزداد الوضع سوءاً مع استمرار الحركة الإسلامية بالسعي لتحقيق ندائها العالمي.
لقد عيّن تضارب العقائد بين الإسلام والحضارة الغربية تاريخاً للإعلان عن الحرب غير المتناظرة بين الغرب والحركة الإسلامية والتي ستدوم لعدة أجيال. بينما سيكون هنالك نهاية للحرب على الإرهاب، حيث سيتوقف الصراع الذي يشنه الجهاد مع الأنظمة في العالم الإسلامي والذي امتد للغرب مع ولادة الخلافة. ومن هناك، سيتحول الصراع إلى شكله الأكثر تقليدياً.
إن السياسة التي تقوم على مهاجمة فكرة الخلافة بربطها بالعنف السياسي لحركة الجهاد لن يزيل مشروعيتها المستمدة من القرآن. قد لا يتفق العالم الإسلامي تماماً مع الطرق المسلحة لحركة الجهاد، إلا أنه لا نقاش حول مشروعية الخلافة في القرآن. ولدى الحركة الإسلامية التي تحمل المنطق السياسي وعدم اللجوء للعنف نداء أعمق وأوسع، حيث تعتبر الراعية لفكرة إحياء الخلافة. ويعتبر أي هجوم على الخلافة هجوماً على الإسلام.
والمطلوب هنا هو تغيير جذري في الدوائر الأكاديمية والسياسية في الغرب فيما يتعلق بالإسلام. يجب أن يتجاوز الحوار الغربي الموقف المصر لتجديد الإسلام وفقاً للحضارة الغربية بدون سلطة القرآن. فقد فشلت هذه المحاولة في العالم الإسلامي. إن التركيز على فكرة الخلافة وربطها بالإسلام المتطرف ومحاولة التصدي لهم عن طريق الحرب على الإرهاب سيؤدي فقط إلى غض النظر عن واقع فهم ديناميكية إحياء الإسلام. يجب أن يتم تقدير القرآن بشكل صحيح بدوره كمحرك أساسي للعالم الإسلامي، حيث يوفر لهم الطاقة لإعادة الخلافة، والذي سينتج عنها تحدٍّ للنظام العالمي. وليس لدى الغرب أي خيار سوى قبول حتمية الخلافة وتشكيل موقف واضح تجاه الإسلام، والذي سيقوم بدوره بتعريف عدم التوافق العقائدي هذا بين الاثنين. ويبدو أن العالم الإسلامي قد تبنى موقفه من الآن تجاه الغرب خاصةً مع ازدياد نجاح الجماعات الإسلامية وقبول الجماهير الإسلامية بوجودها.
ــــــــــــــــ
1- ثوماس هوبس هو فيلسوف إنجليزي من القرن السادس عشر، تنص نظريته على أن للناس الحق بالسعي وراء تحقيق مصالحهم ولو بأنانية، إلا أنهم قد يتخلون عن هذه الحقوق من أجل سعادة الجماعة.(/5)
الخلاف شر
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد*
أيها المسلمون في كل زمان ومكان! اجتمعوا؛ ولا تفرقوا، واتحدوا؛ ولا تنازعوا، واعلموا أن المسلمين لم يبتلوا بشيء في هذا العصر أخطر، ولا أشد عليهم من الاختلاف، والتفرق، والتشرذم، ولم يتسلط عليهم الأعداء إلا لتفرقهم، واختلافهم.
لا شك أن الخلاف كائن في هذه الأمة؛ كما كان كائناً في غيرها من الأمم؛ (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك).
ولا شك كذلك أن الخلاف منه ما هو سائغ، ومنه ما هو ممنوع، والتمييز بين ما هو سائغ وما هو ممنوع مطلب شرعي، وواجب ديني.
لا تستطيع قوة في الأرض أن تمنع من وقوع الاختلاف بين الناس، ولكن علمنا ربنا: ماذا نفعل عند الاختلاف؟؛ فقال: (فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول)، وقال: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)، وأدَّبنا رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ وعلمنا أن الخلاف السائغ لا يوجب عداءًا ولا هجراً، وأرشدنا سلفنا الصالح إلى كيفية التعامل مع المخالف، وحذرنا الشارع الحكيم من مغبة البغي، والظلم، والكبر، وقالت الحكماء: اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
جلّ الخلافات بين المنتسبين إلى السنة، والسلفية اليوم تنحصر في الآتي:
1. في بعض الفروع.
2. في وسائل العمل؛ وليس في الغايات.
3. بعض النوازل.
4. بعض التأويلات الخاطئة.
وكلها لا تخرج عن دائرة الخلاف السائغ؛ الجائز في الجملة، الذي لا يوجب عداءًا، ولا تبديعاً، وتضليلاً، وتكفيراً؛ وغاية ما ينتج عنه التخطئة؛ ولا يكون سبباً بحال من الأحوال لما نراه من التفرق، والتشرذم، والتحزب؛ وما نتج عن ذلك؛ من التباغض، والتحاسد، والتبديع، والتكفير في بعض الأحيان.. ومرد كل ذلك لأمور هي:
1. قلة الفقه.
2. قلة الورع، أو انعدامه.
3. انعدام الثقة، وسوء الظن بالآخر.
4. الغرور، والاستكبار.
5. عدم إدراك المخاطر المحيطة بالمسلمين عموماً.
6. قلة الحكمة عند القيادات.
7. سوء أدب كثير من الأتباع.
يتضح ذلك إذا أجرينا مقارنة بين نوع، وحجم الخلاف الذي حدث لسلفنا الصالح، وكيفية تعاملهم مع الخلاف، والتزامهم بالآداب الشرعية، والسنن المرعية، وضبط النفس، والتحلي بالحكمة، والصبر في أحلك المواقف، وبين مانراه، ونشاهده؛ من تباغض، وتناحر، وسباب، وشتم، ومعاداة بين إخوة العقيدة، ورفقاء الدرب؛ من أتباع السنة، والسلفية مع بعضهم البعض؛ حيث لم يسعهم ما وسع سلفهم الصالح.
وهذه نماذج لسلوك بعض السلف مع المخالفين لهم فيما يسوغ فيه الاختلاف، وما لا يسوغ:
1. خالف ابن مسعود عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما في أكثر من مائة مسألة في الفرائض وغيرها؛ ومع ذلك كان عمر رضي الله تعالى عنه من أحب الخلق لابن مسعود رضي الله تعالى عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وكان كل منهما يثني على صاحبه بما هو أهله، ولم نجد لهذه الخلافات أثراً في سلوكهما ومعاملتهما..
فقد كان عمر يقول عن ابن مسعود: (كنيِّف ملئ علماً)، وعندما استشهد عمر قال ابن مسعود: (لم يُصب الإسلام بمصيبة أفدح من هذه).. أوكما قالا.
2. عندما أتم عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه الصلاة الرباعية في موسم الحج بمنى متأولاً أتم معه ابن مسعود؛ فقيل له: (كيف تصلي أربعاً؛ وقد صليتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ركعتين؟!)؛ قال: (الخلاف شر)..
الذي حمل ابن مسعود على إتمام الصلاة الرباعية بمنى مع عثمان خوف الاختلاف؛ الذي لا يأتي بخير، وإن كان المخالف محقاً؛ طالما أن عثمان فعل ذلك متأولاً؛ وهو إمام راشد؛ يُقتدى بفعله.
3. معاملة علي رضي الله تعالى عنه للمقاتلين له من أهل الجمل وصفين، وإكرامه لعائشة رضي الله تعالى عنها، ورده لها إلى المدينة معززة مكرمة مع فريق من النساء، وقد أخرج ابنيه الحسن والحسين مشيعين لها من الكوفة.
وقوله لمن أخبره بمقتل الزبير رضي الله تعالى عنه: (بشِّر قاتل ابن صفية بالنار).
4. ثناء علي رضي الله تعالى عنه على الذين امتنعوا عن القتال معه ومع غيره ومنهم: سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وغيرهم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.(/1)
5. عندما سُئل عن الخوارج - الذين شقوا عصا الطاعة عليه؛ وأضعفوا عسكره، وكفروه؛ وقاتلوه، وفي نهاية المطاف قتلوه ظلماً وعدواناً -: (هل هم كفار؟)؛ قال: (لا!؛ بل من الكفر فروا)؛ فقالوا له: (هل هم منافقون؟)؛ قال: (لا؛ المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء - كما شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم - ينكر أحدكم صلاته إلا صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم... الحديث)؛ فقالوا: (ما هم؟)؛ قال: (إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم!).. قال كل ذلك على الرغم من أنه يملك دليل كفرهم من السنة المطهرة، وعلى الرغم من انشراحه لقتالهم، وعدم انشراحه لقتال أهل الجمل وصفين؛ لأنهم كانوا صادقين في تأويلهم على الرغم من خطئهم في هذا التأويل.
6. اختلف الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى؛ وتناظرا في كفر تارك الصلاة كسلاً، وثبت كل منهما على ما أدَّاه إليه اجتهاده، ولم يؤثر هذا الخلاف، ولا تلك المناظرة في علاقتهما، وودهما لبعض..
قال الشافعي: خرجتُ من بغداد ولم أخلف فيها أفضل، ولا أورع، ولا أعلم من أحمد.. وقال: أحمد إمام في عشرة أمور... ذكر منها الحديث، والفقه، والزهد، والفقر.. وكان أحمد يقول: الشافعي حبيب قلبي.. وكان يدعو له في السحر مع والديه، وبعض أهل وده.
7. صَفْح الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وعفوه عن كل من أذاه؛ بالضرب، والسجن، والتعذيب إلا أئمة الفتنة الحقيقيين.
8. جانب من حلم، وصفح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن خصومه عندما قدر عليهم؛ ومُكِّن منهم.. ونهدي ذلك إلى أولئك الذين يستدلون بأقوال هذا الإمام، ويهملون ما كان يعامل به خصومه من أهل البدع، وغيرهم.
قال الشيخ علم الدين البرزالي: (لما دخل السلطان إلى مصر يوم عيد الفطر لم يكن له دأب إلا طلب الشيخ تقي الدين بن تيمية من الإسكندرية؛ معززاً، مكرماً، مبجلاً؛ فوجه إليه في ثاني يوم من شوال؛ بعد وصوله بيوم أويومين؛ فقدم الشيخ تقي الدين على السلطان يوم الجمعة؛ فأكرمه، وتلقاه، ومشى إليه في مجلس حافل في قضاة المصريين والشاميين، وأصلح بينه وبينهم، ونزل الشيخ إلى القاهرة، وسكن بالقرب من مشهد الحسين، والناس يترددون إليه، والأمراء، والجند، وكثير من الفقهاء، والقضاة؛ منهم من يعتذر إليه، ويتنصل مما وقع منه؛ فقال الشيخ: أنا أحللتُ كل من أذاني.. إلى أن قال: وإن السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة؛ بسبب ما كانوا يتكلمون فيه، وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله - أي الملك -، وأنهم قاموا عليك؛ وآذوك أنت أيضاً، وأخذ يحثّه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم.. وإنما كان حنقه عليهم - أي الملك على العلماء - بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله، ومبايعة الجاشنكير؛ ففهم الشيخ مراد السلطان؛ فأخذ في تعظيم القضاة، والعلماء؛ وينكر أن ينال أحد منهم بسوء؛ وقال: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم؛ فقال له - أي الملك -: إنهم قد آذوك؛ وأرادوا قتلك مراراً.. فقال الشيخ: من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي؛ وما زال به حتى حلم عنهم السلطان، وصفح..
قال: وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية، حَرَّضْنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا، وحاجَّ عنا.
9. وقال ابن القيم مادحاً ابن تيمية: (كان يدعو لأعدائه؛ ما رأيته يدعو على واحد منهم، وقد نعيت له يوماً أحد معارضيه الذي كان يفوق الناس في إيذائه؛ فزجرني، وأعرض عني، وقرأ (إنا لله وإنا إليه راجعون)، وذهب لساعته إلى منزله؛ فعزى أهله، وقال: اعتبروني خليفة له، ونائباً عنه، وسأساعدكم في كل ما تحتاجون إليه.. وتحدث معهم بلطف، وإكرام؛ بعث فيهم السرور.. فبالغ في الدعاء لهم حتى تعجبوا منه..
هذه النماذج الرائعة، والصور الجميلة توضح ما كان عليه سلفنا الصالح؛ من الفقه، والأدب، والورع، وحسن الخلق، وتبين كذلك البون الشاسع، والفرق الواسع بيننا، وبينهم؛ حيث إن بعضنا يفتعل أسباب الخلاف افتعالاً؛ بإفشاء الزلات، وتضخيمها، وستر الحسنات، وإخفائها، ويعادي من غير سبب شرعي؛ على الرغم من أن الأسباب التي تدعو إلى الائتلاف، والتوافق أكثر من أن تحصى في هذا العصر؛ فهي أكثر من تكالب الأعداء؛ من كفار، ومنافقين، وجهلة، ومبتدعين.
والله تعالى أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يرينا، وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً؛ ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً؛ ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعلنا من الذي يستمعون القول؛ فيتبعون أحسنه.. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا القائل: (سدِّدوا، وقاربوا، وأبشروا)، وعلى آله، وصحبه، ومن والاهم.(/2)
الخلافة الإسلامية
الأستاذ أنور الجندي
عندما أسقطت الخلافة الإسلامية عام 1924 م، كان مخططاً خطيراً قوامه النفوذ الأجنبي والصهيونية والشيوعية الذي كان قد بدأ في إعداد هذا العمل سراً منذ أكثر من مائة عام، من خلال جماعة الدونمة. (اليهود الذين هاجروا من الأندلس عام 1492 م وأقاموا في سالونيك ودخلوا في الإسلام تقية) التي عملت بالاشتراك مع جماعة الاتحاد والترقي وتركيا الفتاة والمحافل الماسونية، على تنفيذ هذا المخطط تحت شعار "القضاء على دولة الرجل المريض"، خاصة بعد أن حمل (السلطان عبد الحميد) لواء الدعوة إلى "الجامعة الإسلامية" بمعنى أن ينضوي تحت لواء الخلافة الإسلامية جميع المسلمين في العالم – وليس فقط العرب والترك.
ومن هنا كانت خطواته إلى القضاء على الفرقة التي عمقها الاستعمار بين الترك والفرس، وكانت الدعوة إلى الجامعة الإسلامية في ظل الخلافة العثمانية الإسلامية، أمر بالغ الخطورة، جوبه في الغرب من القوى الثلاث بمؤامرات ضخمة، امتدت قرناً كاملاً: على النحو الذي صوره بها وزير إيطالي منصف: تحت عنوان "مائة مؤامرة على الدولة العثمانية).
ومن هنا يتبين أن (الخلافة الإسلامية) لم تسقط بجرة قلم عام 1924 م عندما ألغاها مصطفى كمال أتاتورك، وإنما يمكن أن يقال أن هذه كانت آخر خطوة في مؤامرة ضخمة واسعة النطاق امتدت سنوات طويلة وشاركت فيها قوى كثيرة ذات مصلحة في تمزيق العالم الإسلامي، مثل إنجلترا وفرنسا، ومنها ما كان يهدف إلى الوصول إلى فلسطين وقلب القدس كالصهيونية العالمية، وليس أدل على ذلك من مساعدة الشيوعية الروسية في تلك المعونة الضخمة التي قدمتها لحكام تركيا بعد إسقاط الخلافة.
ولنعلم أن المحاولات التي جرت عام 1908 م لإسقاط السلطان عبد الحميد كانت هي المقدمات الحقيقية لإلغاء الخلافة، فقد كانت فكرة عبد الحميد كما ذكرنا أن يمتد نفوذ الخلافة فيشمل عالم الإسلام كله ولا يتوقف عند حدود الدولة العثمانية، وقد أخذ عبد الحميد بهذه الفكرة كخطة حاسمة لمواجهة محاولات الغرب.
قوة تواجه زحف الطامعين:
ومنذ أن تولى عبد الحميد، ورأى انتفاض البلقان على الدولة، ركز على دولة إسلامية جامعة تحمل لواء الوحدة الإسلامية، وتضم مختلف المسلمين، الذين هم خارج الزحف الغربي الطامع إلى تمزيق أديم عالم الإسلام والسيطرة عليه. ولما نجحت الخطة وكادت تؤتي أكلها، والتقى شيعة إيران مع سنة تركيا لأول مرة، بعد أن حفر الاستعمار بينهما خندقاً عميقاً منذ ثلاثة قرون أو تزيد، عجل الاستعمار والصهيونية بالقضاء على عبد الحميد خاصة، لموقفه الحاسم في الحيلولة دون وصول اليهود إلى فلسطين.
والمعروف أنه لما ظهرت حركة الاتحاد والترقي داعية لتغريب تركيا. احتضنتها المحافل المساونية، وحولتها من خطة إصلاح عثمانية داخل الدولة الإسلامية الكبرى إلى خطة تغريبية عنصرية، تحمل لواء (الطورانية) وتدعو إلى تتريك العرب ودفعهم إلى التماس مفهوم الماسونية في الثورة الفرنسية والاستجابة له.
وبذلك كانوا جمعاً غريبي الفكر، وكانت مفاهيم القوميات والإقليميات والطورانية والعنصرية، قد سيطرت على فكرهم واستهدفت الانفصال عن المفهوم الإسلامي والكيان الإسلامي. وقد ظلت الفكرة في حضانة الدونمة والماسونية منذ بدأت، حتى استطاعت أن تصرع الوحدة الإسلامية الجامعة بانتزاع عبد الحميد من مكان القيادة – باعتباره صاحب مبدأ الوحدة الإسلامية.
ثم جاء الاتحاديون فأقاموا عهداً أسود في تركيا منذ 1908 م حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، ثم لبسوا ثوباً جديداً أسموه (الكمالية) وهو امتداد لهم أشد خطراً وأعمق أثراً، جاء بعد أن كسبوا من نصر باسم الإسلام، ثثم استداروا عليه استدارة كاملة بعد أن كان هو الورقة التي حققوا بها النصر.
وجه كالح صريح:
وقد وردت في المواثيق التي كشف أمرها أخيراً موافقتهم على خلع الإسلام واللغة العربية والمحاكم الشرغية وملابس الإسلام وشريعته ثمناً لتخليصهم من الاحتلال البريطاني واليوناني، وكان إعلان ترميا دولة علمانية كفيلاً بأن يحقق لها رضاء الغرب وتسليمه وتحريره.
فقد انفصلت تركيا عن الأمة الإسلامية واندمجت كلياً في الغرب العلماني، وسرعان ما حققت الأمل الذي طالما طاف بأحلام العرب – روسية وإنجليزية وفرنسية ويهودية – وهو أن يقضي مسلم بيده على خلافة الإسلام.
ولكن أتاتورك لم يكن مسلماً في حقيقته وإنما كان من الدونمة – التي تخفت تحت صورة الإسلام لتحقيق كل ما استطاعت أن تحققه في تركيا، وكان همه الأكبر "إسقاط الخلافة" وفي سنوات قليلة من 1918-1924 م تحولت دولة غربية علمانية تحكم بقانون نابليون، وتزيح بكلتا يديها ذلك التراث العظيم – تراث الإسلام – وتقاوم ودعاته ومؤسساته.
وهكذا سقطت الخلافة بمؤامرة مشتركة بين اليهود الدونمة والاتحاديين الكماليين، والقوى الاستعمارية الغربية وروسيا.
استبداد دموي:(/1)
وما أسقطت الخلافة بأسلوب الإقناع والتغيير النفسي والفكري، ولكن بأسلوب من العنف والقتل والاستبداد والظلم، الذي قامت به (ثلة) أعدت لها وخططت لذلك في مرحلتين طويلتين منذ 1909 م إلى 1918 م باسم الاتحاديين، ومن بعدها إلى عام 1924 م باسم الكماليين، وهما – في الحقيقة – شيء واحد استطاع في أول الأمر أن يفتح الباب للصهيونية العالمية إلى فلسطين، بعد أن استعصى ذلك عليها طويلاً أيام السلطان عبد الحميد، وأسلمت طرابلس الغرب للإيطاليين، ودفعت الدولة العثمانية إلى أن تكون وقوداً في الحرب العظمى دون داع، حتى تنفصل عنها الشام والعراق وحتى تسلم فلسطين لليهود.
وحاولت الصحف الموالية للتغريب تصوير المسألة بصورة كاذبة مضللة وأن تجعل الاتجاه عنواناً على التقدم، حتى خشي شيخ الإسلام – الذي أخرجوه وأقام في منصر آنذاك – من هذا التحول المحاط بهالة كاذبة من التكريم حين قال سماحة الشيخ مصطفى صبري: إنني أخاف أن تسعد بلاد تركيا وترقى بهذه الإدارة الحديثة اللادينية رفيهاً دنيوياً – وإن كان ذلك في غاية البعد والاستحالة – فيفتتن بها المسلمون الذين قلما سلموا من أن يعجبوا بها وهي توغل في سبيل الإفلاس والإندراس.
وإنما نقول للشيخ من وراء القبر: إطمئن فإن تركيا لم تسعد وأن التجربة لم تحقق أي نجاح، ولم تتقدم تركيا عن الدول الأخرى بل لعلها ما زالت تقاسي من جرائرها وأن جيلاً جديداً نشأ على الإسلام ويجاهد في سبيله.
حملة ظالمة:
إن أكبر ما غذيت به حملة إسقاط الخلافة كانت تلك التصورات الباطلة التي نسب إلى السلطان عبد الحميد الظلم والاستبداد، بينما كان كل ما يحاول عبد الحميد قمعه والحيلولة دونه هو سقوط الدولة العثمانية في براثن القوى الصهيونية والاستعمارية، التي كانت تريد التهامها وتقسيمها، وتسليم فلسطين لليهود ومن أجل ذلك استحق الخلع واستحقت الخلافة الإزالة، بأيدي من تسموا بأسماء المسلمين، وفي مقدمتهم مصطفى كمال الذي كان يدعي أنه مسلم، ويدعو المسلمين إلى الدعاء له بالنصر، حتى إذا ما وجد فرصته ضرب ضربته وسط دهشة العالم الإسلامي كله وعجبه.
وفي الحقيقة أن الخلافة لم تكن مصدر إنحطاط تركيا ولا العالم الإسلامي، ولم يكن أسلوب تعديلها هو إزالتها أو فصل السلطة عن الخلافة كما فعلوا أولاً ليخدعوا الناس يومئذ، إن كان ذلك مقدمة للقضاء النهائي عليها.
وقد كانت هناك مشروعات كثيرة للإصلاح لو خلصت النيات وحسن الاتجاه إلى الإبقاء على وحدة العالم الإسلامي وقيام خلافته.
وإذا كانت هناك قياسات لما وصف بع عبد الحميد من تسلط واستبداد فأين منه ما قام به الاتحاديون والكماليون.. الذين باعوا آخرتهم بدنياهم..؟؟. وهو ما لم يفعله الخلفاء قط، وبينما وقف الأعزل عبد الحميد أمام قوى الصهيونية العالمية، وهي تغريه بالملايين وهي تعرف مؤامراتها وتقودها، وقد وقف صامداً لا يلين.
تمزيق الوحدة الإسلامية:
ولقد كان من وراء إسقاط الخلافة الإسلامية أهداف كثيرة، كان أكبرها هذا الشمل الذي جمعته الوحدة الإسلامية بين مسلمي العالم، وتفريق هذا الجمع الذي ربطته الدولة العثمانية ليسهل توزيعه واحتواؤه، وتقديم فلسطين والقدس لقمة سائغة للصهيونية التي كانت وراء الربا العالمي منذ عصور بعيدة، عاملة على تقريب المسافات إلى تحقيق الغاية، من وراء الاستعمار الغربي.
ومن أهدافنا محاولة حجب حقيقة الإسلام الجامعة بين الدين والدولة والقائمة على أساس أن الإسلام "دين ونظام مجتمع" وإثارة الشبهة حوله بتصويره ديناً لاهوتياً – على النحو الذي صوره به الكماليون في تركيا وعلي عبد الرازق وجماعة اللادينيين في البلاد العربية.
خيبة الأمل في تمزيق المسلمين:
وإذا كان الهدف الأول قد تحقق لأنه داخل في نطاق مرحلة الضعف التي أرخت قبضة المسلمين عن حقوقهم ووممتلكاتهم وسلطاتهم، فإن الهدف الثاني لم يتحقق بعد. لأن المسلمين سرعان ما تنادوا إلى الوحدة في محاولة لإحتواء الخطر، وذلك بالرغم مما طرحه التغريبيون من مفهوم غير أصيل عن أن الإسلام دين عبادي، وأن الخلافة والحكم لم تكن من أسس الإسلام.
بل إن عدداً كبيراً من المستشرقين الغربيين اعترف بأن الإسلام ليس ديناً فحسب بل هو نظام سياسي واجتماعي أيضاً.
يقول فيتزجرالد في كتابه قانون المحمديين (1): على الرغم من أنه قد ظهر في العهد الاخير، بعض أفراد من المسلمين ممن يصفون أنفسهم أنهم عصريون، يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين، فإن صرح الفكر الإسلامي كله قد بني على أساس أن الجانبين متلازمان ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.
وشهد بذلك (تلينو) الذي قال أن محمداً – صلى الله عليه وسلم – أسس في وقت ما ديناً ودولة، وكانت حدودهما متطابقة طوال حياته.
وذلك ما عبر عنه (شاخت) حين قال: على أن الإسلام يعني أكثر من دين، أنه يمثل أبداً نظريات قانونية سياسية وجملة القول أنه نظام كامل يشمل الدين والدولة معاً.(/2)
وهو ما أشار إليه (جب) حين قال: لقد صار واضحاً أن الإسلام، لم يكن مجرد عقائد دينية فردية، وإنما استوجب إقامة مجتمع مستقل. له أسلوبه المعين في الحكم، وله قوانينه ونظمه الخاصة به.
هذا من ناحية (الفكرة) أما من ناحية التطبيق فإن (الفرد كانتول سميث) في كتابه عن "الإسلام في العصر الحديث" كتب تحت عنوان "الإسلام والدنيوية التركية" ما يفهم منه أن سقوط الخلافة وإلغاء نظام الإسلام في تركيا، ليس إلا عملاً قامت به جماعة حاكمة، ولكنه لا يمثل شعور الأمة، ولا يطابق سلوكها.
يقول: إن القول بأن الأتراك بإيثارهم الدنيوية قد تدخلوا عن الإسلام لا يحظى بتأييد من الباحثين في الشرق أو الغرب وإنما هو مجرد إحساس شائع بين الأوروبيين والمسلمين في الأقطار الأخرى والمسألة في حقيقتها لا تعدو الهيئة الحاكمة.
كما يردد الببغاء:
ولذلك فإنه من المؤسف أن يجري بعض الكتاب العرب والمسلمين وراء مفاهيم كلماتهم ويلوكون عباراتهم ويعادون منطق الأشياء الحقيقي، فيخرجون بذلك عن دينهم وأصالتهم دون أن يقدروا النتائج التي تجيء من بعد، والتي هي أكبر من تقديرهم وإدراكهم، فنجد مثلاً الدكتور الخربوطلي الذي يقول في كتابه عن "الخلافة الغسلامية" هذه العبارة المريرة: "فأفلت شمس الخلافة الإسلامية إلى الأبد" وكيف يمكن لباحث أو مؤرخ أن يتنبأ بأن الخلافة قد أفلت شمسها إلى الأبد، وهل يملك من الأدلة على ذلك دليلاً واحداً أو نصف دليل وهو قول لم يقله أكثر الغربيين تعصباًَ ضد الإسلام.
واليوم يرى هؤلاء أنهم كانوا من قصر النظر، بحيث جهلوا أن الحديث عن الخلافة الإسلامية لم يتوقف يوماً واحداً منذ ذلك اليوم، جرى في مناهج الدعوات والحركات والجماعات الإسلامية في العالم الإسلامي كله، كغاية كبرى لابد من ملاحقتها، وجرت حركات التجمع لتذكر دوماً بهذا الحق، الذي لا تطويه الأيام ولا تخفيه الأحداث، مهما تغلف الحديث عنه بالضباب.
وما زلنا نسمع صيحات الدعوة إلى إعادة الخلافة عالية وقوية من مسئولين ومفكرين متعددين ولا يزال المؤتمر الإسلامي الذي يضم أكثر من أربعين دولة إسلامية يضع هذه الحقيقة أمامه.
الوحدة الوجدانية ثم وحدة الفكر:
نعم إن المسلمين بعد إسقاط الخلافة عن طريق المؤامرة لم يستكينوا إلى الهزيمة التي فرضت عليهم، ودبرت من وراء إرادتهم الحرة، ولكنهم فكروا وقدروا، وعملوا لمواجهة هذا الفراغ، فأقاموا روابط كثيرة ومؤتمرات متعددة، وإذا كانت القوى الاستعمارية قد حالت دون تحقيق الوحدة السياسية فإنهم حققوا وحدة اجتماعية ووجدانية لا تزال تنمو قوية وقادرة على أن تحقق في مطالع القرن الخامس عشر (وحدة الفكر التي هي الأساس المكين بعودة الخلافة الإسلامي ولقد كانت الأزمات دائماً قادرة على تجميع المسلمين ووحدتهم إزاء الأحداث والأخطاء.
ولم يكن عمل عبد الحميد في سبيل هذا التجمع إلا قمة الإيمان بالخطر وبالمسئولية إزاء هذا الخطر، وإذا كانت حركته إلى الوحدة الجامعة قد أجهضت فليس لأنها فشلت، بل لأنها نجحت نجاحاً مذهلاً مما دفع القوى الاستعمارية والصهيونية إلى القضاء عليها بإسقاطه قبل أن يتمكن من وضع القواعد التي يمكن أن تسير عليها موضع التنفيذ، ثم جرى العمل على الإجهاز على القاعدة نفسها. وإذا كان العرب بعد سقوط الوحدة الإسلامية قد تجمعوا حول وحدتهم، فإنهم لم يكونوا في ذلك عاملين على إعلاء شأن العناصر والدماء، ولكنهم كانوا يرون في الوحدة العربية حلقة وخطوة إلى عودة الوحدة الإسلامية الكبرى، ولم يكونوا يفهمون من العروبة ما فهمه الغرب من القومية، ذلك لأن العروبة إنما نشأت في أحضان الإسلام سمحة مؤمنة بالإخاء الإسلامي الأكبر، بعيدة عن العنصرية والتعصب والصراع، وقائمة على وحدة قرآنية بالشريعة والإيمان، ولكن القوى الخصيمة هي التي أفسدت مفهوم العروبة وقطعته عن صلته بالوحدة الإسلامية.
عزل العروبة بين الإسلام:
لقد ضربت القوى الغاضبة هذا الاتجاه وعزلته عن جذوره، كما ضربت من قبل الخيوط التي تجمعت في يد السلطان عبد الحميد، وهكذا فإن إسقاط الخلافة لم يكن وفق سنة طبيعية أو قانون اجتماعي صحيح، ولكنها كانت عملية إجهاض زيفت لها مبررات خادعة استطاعت أن تضلل البعض ولذلك فإن الخلافة الشرعية ستظل في فقه المسلمين وشريعة الإسلام وقلوب المؤمنين وعلى أقلام كتاب الإسلام عاموداً أساسياً. فهي جزء لا يتجزأ من الإسلام، ولعلها سقطت لتسقط معها خلافة عجزت عن تطبيق الإسلام تطبيقاً حقيقياً، ليعود من بعد على مفهومها الأصيل وهو ما تتطلع إليه قلوب المسلمين وتهفوا وتعده من آمال القرن الخامس عشر.
حقيقة مؤكدة:
والحقيقة التي يؤكدها الباحثون المنصفون: أن المسلمين لم يناموا على الضيم منذ أسقطت الخلافة الإسلامية وهم لا يستنيمون أو يفرطون أو يغيب عليهم مدى خطرها وجلال شأنها والآثار التي ترتبت على حجبها.(/3)
ومنذ ذلك الوقت وإلى اليوم فإن الخلافة الإسلامية مبثوثة في كل أعمال التضامن الإسلامي والرابطة الإسلامية والأخوة الإسلامية الجامعة.
وقد أحس المسلمون اليوم بأن محاولات التجمع الوطني والقومي لم تنجح لأنها ليست هي الوجهة الحقة الصادرة من أعماق الفطرة، وإن المنهج الصحيح هو اجتماع كلمة المسلمين وقيام ذلك الرباط القوي بينهم مرة أخرى، بعد أن تراخى في السنوات الماضية تحت تأثير الدعوات الإقليمية والقومية، غير أن هذه السنوات قد شهدت عشراتا المؤتمرات والأبحاث والمشروعات والدعوات التي تفتح الطريق إلة وحدة المسلمين وتحقيق الغاية الكبرى.
ومن هذا العرض التاريخي فإننا نصل إلى حقيقتين:
الأولى: أن الخلافة هي بؤرة الجامعة الإسلامية وأن الجامعة الإسلامية يمكن أن تقوم أولاً ثم تنبثق منها الخلافة، وأن حركات التحرر والوحدة والتقارب التي تجرى اليوم في عالم الإسلام يمكن أن تحقق ترابطاً ثقافياً واجتماعياً قبل أن يصبح سياسياً وعسكرياً.
الثانية: أن المسلمين بعد إلغاء الخلافة لم يتفرقوا أيدي سبأ، وأن الهدف الذي كان يطنع فيه النفوذ الاستعماري قد فشل تماماً. وأن العالم الإسلامي قد تلاقى على مستويات كبيرة ومتعددة: اجتماعية وثقافية واقتصادية وأن الفكر الإسلامي ما زال هو المصدر الأول للثقافات العربية والفارسية والتركية والهندية الإسلامية.
وإذا كانت الخلافة قد سقطت بعمل سياسي استعماري دفين أخفى أمره طويلاً وبدقة، وراء غلالات، فإن المسلمين قد بدت أمامهم الحقائق سافرة اليوم، وتنبهوا لما براد بهم فسارعوا إلى اتخاذ وسائل أخرى، تمهد للوحدة فاندغمت رابطتهم في مؤتمر الحج السنوي، وفي الاتجاه إلى الجامعات الإسلامية العلمية، التي لاشك ستوجد الفكر والثقافة والتعليم، وزاد من قوة هذه الروابط تحرر دولتين كبيرتين بعد الحرب العالمية الثانية هما الباكستان وإندونيسيا وعشرات الدول ذات الأغلبية المسلمة في جنوب شرق آسيا وأفريقيا، وبدأت لقاءات واسعة بين العناصر المختلفة من العرب والبربر والسنة والشيعة والأكراد، وتوثقت الصلات وزادت عمقاً وخفت حدة الخصومات والخلافات، التي أججها الاستعمار والنفوذ الغربي حرصاً على استبقاء التمزق والخلاف، كما كشفت الوقائع حقائق كثيرة كانت مطمورة عن الصهيونية والماركسية وعلاقتهما وفشلت دعوات الإقليمية والقومية جمعاً كما فشلت النظم السياسية الواحدة سواء الليبرالية منها لم أم الاشتراكية ولم يعد أمام المسلمين في مطالع القرن الخامس عشر بد من أن يقيموا مجتمعهم على أساس الشريعة الإسلامية، ونظامهم السياسي على أساسا الوحدة الإسلامية، وسوف تنقشع السحب التي تحجب الضوء ويجد المسلمون أنفسهم مضطرين إلى الالتقاء إزاء الخطر الزاحف وهذا هو المنطلق الحقيقي لعودة الخلافة الإسلامية خلال هذا القرن الجديد.(/4)
الخلافة بين الشرع والتاريخ
أثار ما تداولته وسائل الإعلام عن رؤى أعضاء جماعة العدل والإحسان بخصوص التنبؤات بقيام الخلافة سنة 2006م جدلاً واسعاً في الشارع المغربي بين مدافع ومهاجم، وازدادت أهمية هذا الموضوع عالمياً، فتحول من بحث أكاديمي مجرد إلى بحث سياسي حيّ، وعمل نضالي يملأ الساحة الإسلامية. الذي يهمني في هذه المقالة ليس هو الخوض في موضوع الرؤى، بل البحث في صلاحية نظام الخلافة. وسأتناول محورين لعلهما يكونان فاتحة الحوار. الأول: إن إقامة الخلافة وبيعة الخليفة فرضٌ أجمع عليه الصحابة وسار عليه المسلمون. والثاني: إن الحكم على نظام الخلافة لا يجوز أن يكون بالاستناد إلى الأحداث التاريخية، وإنما بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله.
فالخلافة هي شكل الحكم في الإسلام الذي شرعه رب العالمين، وطبقه (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، وظل قائماً إلى أن أزيل في سنة 1924م. ولم يختلف المسلمون قط على أن شكل الحكم في الإسلام هو الخلافة. وقد تواتر ذلك عن الصحابة، رضوان الله عليهم، منذ اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة وانشغالهم بنصب الخليفة، مؤخرين دفن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ولئن كانوا قد اختلفوا في من يكون خليفة رسول الله في الحكم، إلا أنهم لم يختلفوا قط في وجوب نصب الخليفة ومبايعته، وأجمعوا على ذلك عند وفاة أبي بكر وعمر وعثمان ثم علي، رضوان الله عليهم أجمعين. وإجماع الصحابة هو دليل شرعي. وقد سار على ذلك المسلمون من بعدهم، كلما هلك حاكم أو عزل أو تنحى بايعوا حاكماً بدله ليحكمهم بشرع الله.
إن الخلافة هي الطريقة العملية الوحيدة والشرعية لتطبيق أحكام الإسلام في الأرض وحمل رسالته إلى العالمين، وهي التي تجعل الإسلام مجسداً في الواقع، فمن دونها لا يقوض الإسلام كنظام للحياة، وكطريقة معينة في العيش، ويبقى كما هو الآن إسلاماً كهنوتياً، وأشكالاً لاهوتية، وصفات خلقية، لا رابط يربطها بواقع الحياة.
إلا أن الكثيرين ممن يعترضون على نظام الخلافة لا يأخذهم عناء البحث في أحكام الشرع لمعرفتها عن كثب، وإنما يحاولون صرف الناس عنها بالخوض في تاريخ الخلفاء، واقتناص بعضٍ من انحرافاتهم؛ وذلك بغية رسم تصور منفر عنها.
إن فهم أي نظام فهماً صحيحاً لا يكون من تتبع ممارسات من يطبقه، ولكن من دراسة هذا النظام مباشرة من مصادره الأصلية، وذلك أن الذي يمارس التطبيق قد يسيء الفهم، وقد يسيء العمل. ولو كان التطبيق حجة على النظام، لوجب تحميل تبعة انحراف المطبقين عن النظام للنظام. فالذي يتحمل مسؤولية الانحراف هو المنحرف ذاته، ويبقى النظام بريئاً من انحرافه، طبعاً مادام أن الدليل قد قام على أن الممارسة محل الانتقاد هي انحراف ومخالفة لأحكام النظام وليست من صلبه.
والإنصاف يقتضي الإقرار أن الإساءات قد تحصل في أي نظام، إلهياً كان أو بشرياً، إلا أن المرء ليتساءل عن سبب سكوت المنتقدين لنظام الخلافة بسبب انحرافات بعض الخلفاء عن كل الممارسات الوحشية التي تحصل في العالم باسم الديمقراطية. وبإصرارهم على الفصل بين النظام ومطبقيه، فالمسؤولية عن هذه الجرائم بحسبهم محصورة في بوش أو المحافظين الجدد أو حزب هنا وهناك، أما النظام الديمقراطي فهو بريء من تجاوزات مطبقيه.
إن نظام الخلافة يمتلك ميزات لا يمتلكها أي نظام في العالم منها:
1- إنه نظام من رب العالمين الذي خلق الإنسان، ويعلم ما يصلحه وما يفسده، قال تعالى: ? أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ? [الملك 14] ومهما أخطأ الحاكم في الفروع فإنه يبقى في إطار الأصول -الوحي- المنزهة عن الخطأ.
2- يعتمد تنفيذ النظام الإسلامي في الأساس على تقوى الله عند المسلم الذي يؤمن أن هذا النظام هو أوامرٌ ونواهٍ إلهية، طاعتها هي طاعة لله، ومخالفتها هي مخالفة لله، ويؤمن أن طاعة الخليفة وجميع أولي الأمر الذين يحكمون بما أنزل الله فرض لقوله تعالى: ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ? [النساء 59] والمسلم الورع ليس بحاجة إلى رقيب كي يلتزم بالنظام، بل يكفيه أن يرى أن شرع الله مطبق، وأن الحاكم ملتزم بطاعة الله. كما أن الحاكم بصفته مسلماً يعتقد أن الله عليه رقيب، وأنه يأتي يوم القيامة ويداه مكبلتان إلى عنقه لا يفكهما إلا العمل. وهذا الاعتقاد يجعله ينزجر ذاتياً عن مخالفة شرع الله.(/1)
3- يعتمد النظام الإسلامي في الدرجة الثانية على فرضية «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وهذا الفرض ليس واجباً على الحاكم وحده، بل على كل مسلم يرى المنكر، ولا يسقط عنه الواجب حتى تتم إزالته. ومن أصرح الأحاديث في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» [صحيح مسلم]. وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقتصر فقط على الأفراد، بل يشمل الحاكم أيضاً؛ وعليه فالأمة والخليفة يتعاونان في تطبيق النظام بما يوجد هيبة للرأي العام، بحيث لا يجرؤ العاصي فرداً كان أو حاكماً على ارتكاب المعصية.
4- أما إذا لم يُلتزم بالنظام بدافع تقوى الله، ولم تردع المخالف هيبة الرأي العام ورقابته، فهنا يأتي دور السلطان الذي يوقع العقوبة. قال عثمان (رضي الله عنه): «يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» إلا أن إيقاع العقوبة لا يعني الاعتماد عليها، بل يبقى عدل القاضي بدل صرامة الشرطي، وعدالة القانون بدل صرامته، هما الأساس.
هذه أهم ميزات نظام الخلافة، وهي التي نضمن في حال الالتزام بها وحسن تطبيقها أن تجعل هذا النظام بلسماً على أهله، وعلى العالم أجمع.(/2)
الخلافة هي الخلاص ...
23-08-2006
تحت هذا العنوان العريض، يقام مهرجان حاشد، يجتمع فيه لفيف من الدعاة والمثقفين، وما أكثر المهرجانات في أمتنا، إذ تعلو فيه الشعارات البراقة العريضة ، فمن مهرجان الأمة، إلى مهرجان الأقصى، إلى مهرجان العودة، وغيرها من المهرجانات الجماهيرية، التي بات واضحاً أن الهدف منها هو استعراض الأرضية الشعبية التي تتمتع بها تلك الحركات المتنافسة، ومذ كنت صغيراً وأنا أسمع بتلك المهرجانات، وأشارك في بعضها، ونهاية كل مهرجان نخرج متفائلين نحسب أن النصر قاب قوسين أو أدنى، فلا زلت أذكر ذلك اليوم الذي قال لي فيه بعض المسئولين: اعدد ستة أشهر ثم بعدها تقوم الخلافة.
وها قد مضت السنين بعد الأشهر،ذهب عنفوان الصبا، ثم تلاه ربيع الشباب، ثم ها قد انحنى الظهر وشاب الرأس، ولا زالت الأمة على حالها، بل على العكس اتسعت رقعة الخلاف، وقام بدل الحزب أحزاب، وتولد عن الحزب الواحد أفراخ وأفراخ، ثم تقوم تلك المهرجانات مظهرة للأمة أن النصر آت آت، ونحن نعلم يقيناً أن النصر آت بإذن الله تعالى، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، ما هي مقومات النصر؟ وهل فعلاً تحققت الأمة على تلك المقومات، أم أنها أحلام اليقظة البائسين، الذين لم يعودوا يملكوا سوى تلك الحناجر القوية التي ترعد بلا غيث،وتغرف بما لا تعرف، وغاية ما يتسلحون به العزف على جراح الأمة الملتهبة التي باتت السلعة الأنفق، والسهم الأعلى، ويقيناً تؤثر تلك الحناجر في قلوب العامة تهيج فيهم نبضات الأمل، وتنزع منها الشعور باليأس والإحباط ، لكن سرعان ما تصطدم بالواقع فترجع القهقرى.
وقد آن لأولئك المهرجين أن يفهموا أن النصر يحتاج إلى مقومات لا يتحقق من دونها، وأستطيع حصرها بنقطتين اثنتين، القوة المادية، القوة المعنوية، ولا شك بأن القوة المادية تستند بشكل أساسي على القوة المعنوية، والقوة المعنوية هي التسلح بسلاح الإيمان الحق الذي لا يجاريه سلاح، وحتماً لن يكون هذا السلاح بعلو الأصوات وبهرجة الألفاظ، إنما بما وقر في القلوب من حب الله سبحانه وتعالى، وحب دينه، وتقديم ما كان لله على ما كان للنفس مهما كانت النتائج، فعلينا أن نلتزم دين الله سبحان ظاهراً وباطناً،بغض النظر أكانت الأيام لنا،أم كانت علينا، ولا ننس قصة أصحاب الأخدود الذين قتلوا وحرقوا لا لشيء سوى أنهم يقولون ربنا الله، ومع ذلك تنتهي قصتهم دون تحقيق نصر دنيوي ظاهر، بل نجد في الآيات ما تعجب له العقول وتحتار، أناس يقتلون المؤمنين بأفجع سبل القتل، ثم تفتح لهم أبواب التوبة، إذ قال سبحانه( ثم لم يتوبوا) فهذا اللفظ يحتمل أحد معنيين، الأول : أن الله سبحانه سيعذبهم في النار لما فعلوه وأصروا على عدم التوبة منه حتى الهلاك، الثاني : أن الله سبحانه فتح لهم أبواب التوبة ليتوبوا، وعلى كلا الاحتمالين النتيجة واحدة، هي توبة الله سبحانه على عباده مهما أتوا من ذنوب ومعاصي إن هم تحققوا على التوبة النصوح، وما نفهمه من هذا النص وغيره، أن الخلاف الحقيقي بيننا وبين أعدائنا هو خلاف عقدي، وهذا ما يجب أن نربي عليه أتباعنا، وهذا لن يكون إلا من خلال التربية الإيمانية الحقة، التي تجعل من المسلمين رجالاً كأولئك الرجال، الذين امتدحهم الله سبحانه في كتابة، وأشاد بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجال لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، عندها يصبح النصر من الأمة قاب قوسين أو أدنى، أما تجميع العامة على خطابات وشعارات، بعيداً عن بنائها بناءاً إيمانياً لن يؤدي إلى شيء، بل سيزيد الرقعة خرقاُ، والحبل عقداً، ثم أي خلاص هذا الذي سيكون للأمة بقيام الخلافة، أهو خلاص اقتصادي، أم خلاص اجتماعي، أم خلاص فكري، فليرجع أولئك القوم إلى تاريخ الأمة بعد القرون الفاضلة ليعلموا أن كثيراً من خلافات الأمة التي أدت إلى ضعفها وتفككها هو بسبب تناحر القادة على الخلافة.
إن الخلافة ما كان لها أن تسقط يوماً مع بقاء الأمة على إيمانها الحق، أجل إن ما وصلت إليه الأمة من هوان وخور، سببه كثرة المعاصي والذنوب، وقد سطر المولى سبحانه جل في علاه لنا في كتابه الكريم العبر والحكم من خلال أحداث غزوة أحد ، التي جاء ذكرها في سورة آل عمران، فهل اعتبرت الأمة بذلك، وعملت جاهدة للتخلص من أسباب الذل والهوان، أم إن أسباب ضعف الأمة وسقوط الخلافة لا زال يتنامى فيها.
إن الخلافة كانت صرحاً شامخاً لم يسقط في يوم أو يومين، إنما من خلال عوامل كثيرة أدت إلى تصدعه يوماً بعد يوم، حتى انهار دون أثر، وهذا أشبه ببناء أنهكه طول الزمن ثم سقط متأثراً بشروخه التي أصيب بها نتيجة العوامل الداخلية والخارجية، ثم أصبح أطلالاً، ولن يعاد هذا البناء قوياً إلا بإزالة أطلاله، ثم تعميق أسسه ليثبت البناء عليه ويتمكن.
وهكذا الخلافة لن تعود وقد ذهبت وعوامل هدمها لا زالت تزداد قوة على قوة، والأمة لا زالت في سبات عميق إلا من رحم ربي سبحانه .(/1)
ثم إن هذه المهرجانات التي هدفها الأوحد تجميع العامة لكسب تأييدهم، لا يقدم ولا يؤخر في تحديد مصير الأمة،ولكن قلة فقهنا في كتاب ربنا سبحانه، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، هو ما يحملنا على التعلق بأسباب هي أشبه ببيت العنكبوت، فلو كانت النصوص الشرعية واضحة لنا، لكنا على يقين من أن تغيير الأمور لا يناط بكثرة ولا بقلة، إنما بتلك التضحيات التي يحملها أصحاب النفوس الحية لتترجم واقع إيمانهم بما يحملون من عقائد وأفكار.
فالانتصار على النفس والهوى، مقدم على الانتصار على العقبات المادية التي هي في حقيقتها ابتلاء من الله سبحانه، ستزول عاجلاً أو آجلاً بإذن الله تعالى إذا تحققت الأمة على الإيمان الحق، بعيداً عن التعصب للنفس والهوى .
فالخلافة مرحلة من مراحل بناء الأمة، وليست هدفاً بحد ذاته، بل هي وسيلة من وسائل إقامة الدين، كالجهاد في سبيل الله ليس هدفاً بذاته، بل وسيلة من وسائل قيام الدعوة، ليكون الدين كله لله، فإن كان الجهاد وسيلة من وسائل القضاء على الكفر والزندقة والردة، فإن الدولة وسيلة من وسائل حفظ الدين وصيانته، وإلزام للناس بالخضوع إلى حكم الله سبحانه المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، أما أن تصبح الدولة هدفاً لا يراد إلا لنفسه، فهذا جهل مركب بمقاصد الشريعة ومضمونها، بل إن المتأمل بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، يجد أنه عمل على بناء المجتمع المسلم قبل بناء الدولة، لأن الدولة هي رجال آمنوا بعقيدة سعوا جاهدين لإقامتها في حياتهم، فهي إذن تحتاج إلى إيمان وتضحيات وثبات، وبهذا تحقق للجيل الأول ما لم يتحقق للجيل القائم .
وهذا ما نصت عليه النصوص الشرعية،إذ أناط المولى سبحانه تغيير النفوس إلى أصحابها، ونسب تغيير الواقع إلى نفسه، فهو سبحانه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فعلى أولئك القادة الذين يجهدون في تعريف العامة بمكائد أعدائهم، متناسين الأخطار التي تصيب الأمة بذنوبها، علماً بأن ما يصيب الأمة ليس بما كسبت أيدي أعدائها، إنما بما كسبت أيديها هي، فإن الله سبحانه قد عصم هذه الأمة من كيد أعدائها بشرط التزامها بالصبر والتقوى، مبيناً أنه لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، وهذا ما كان واضحاً من سيرته صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يحذر الأمة من كيد أعدائها، بل كان يحذر الأمة من الوقوع فيما وقع فيه أعداؤها فيصيبها ما أصابهم وهذا لعلمه صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه يمكر بالكافرين ويمهلهم رويداً، وأن العاقبة للمتقين مهما بلغ الكافرون قوة وتعجرفاً .
فليت القادة والمهيجين يدركون ذلك، ويعملون على تخليص المجتمع المسلم من الأسباب التي أوقعته في هذا الظلام الدامس، بدلاً من التركيز على أمور لا تسمن ولا تغني من جوع، اللهم إلا توسيعاً في الخرق، والخروج على وحدة الصف، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
بقلم الشيخ ابراهيم بن عبد العزيز
المشرف العام على شبكة أهل السنة الإسلامية(/2)
الخلافات الفقهيّة عناصر الاتفاق وضوابط الافتراق
د. كمال عبيد*
المقدمة : مقتضى الإيمان بالله ورسوله الاعتقاد بأن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قد جمعت فأوعت، وأجابت عن تساؤلات الخلق فيما يخص معاشهم ومعادهم، وعملت على إصلاح حالهم دنيا وأخرى، كل ذلك وفقاً لأحكام عادلة غير صادرة عن البشر (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)، ولكن شاءت قدرة الله تعالى ــ وهو العليم بخبايا النفس البشرية (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) ــ أن يحكم هذه النفس وفق ضوابط محددة، لا تصلح ــ أي النفس البشرية ــ إلا بالتزام هذه الضوابط وتنفيذها والاحتكام إليها.
هذه الضوابط جاءت لتحدد طبيعة هذه العلاقة بين الفرد وربه، وبين الفرد وغيره من الناس، وبين الفرد ونفسه ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا))، وإنها لتتدخل في أخصِّ خصائص حياة الفرد؛ حتى تكون حياته كلها ربانية، وبذلك يتحقق للفرد ما عجزت البشرية عن أن تحققه له اعتماداً على عقلها وإعمالاً لرأيها بعيداً عن الله.
هذه الضوابط ذخر بها كتاب الله تعالى وذخرت بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يألُ فقهاء هذه الأمة جهداً في استنباط الأحكام من هذه المصادر، وصاغوها في قواعد وقوانين تلبّي حاجة البشر مباشرة في كل مكان وزمان؛ وذلك تأكيداً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن القرآن: ((فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد))، وتلبية لحاجات النفس البشرية المختلفة، وحلاًّ لقضاياها حال تدنِّيها، وحال وسطيتها، وحال مثاليتها، وتلبيةً لحاجة المجتمعات في مرحلة البساطة ومرحلة التعقيد، ولعل هذا هو السر في أن يكون الإسلام هو دين آخر الزمان، وأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو آخر الرسل وخاتم النبيين.
هذه الضوابط المستقاة من الكتاب والسنة ــ والتي تأخذ صفة الإلزام، ويتوفر بموجبها للوالي حق الجزاء ــ نطلق عليها لفظ أحكام، وهذه الأحكام في مجملها تكوِّن الشريعة الحاكمة لسلوك الفرد والجماعة، الضابطة لتصرفات الراعي والرعية.
هذه الشريعة شاء الله تعالى أن تكون أحكامها في القرآن بصورة مجملة في كثير من جوانبها، كما كانت طبيعة الحياة وسنة الله في كونه أن تختلف ظروف حياة الأمم من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان في الزمان الواحد، وحتى تستجيب هذه الشريعة الخاتمة للرد على كل التساؤلات، وحل كل المشكلات التي تقابل الناس في حياتهم؛ كان لا بد أن تحتوي على قدر من المرونة يمكِّنها من ذلك، مرونة لا تفقدها فتصاب بالجمود، ولا تفرط فيها فينفرط عقدها.
لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض له المشكلة فيفتح الله عليه حلها وحياً يُتعبد بتلاوته في الكتاب، أو وحياً في السنة يحتكم إليه الناس دون تعبد بتلاوته، ((ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه))، ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي))؛ لهذا لم يتوقف الناس كثيراً أمام المشكلات التي تعترضهم والرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم. واختار الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جواره ولما يأذن الله لحياة الناس بانقضاء، وشاءت قدرته أن تستمر هذه الحياة فتفرز كل صباح جديد مشكلة تشبه أو تختلف عن مشكلة سابقة، والناس في مسيرهم لا بد لهم أن يقفوا على حل لهذه المشكلات، فكان أن قيّض الله لهذه الأمة علماء جعلهم ورثة لأنبيائه في علمهم، وكان أن خص الأمة الخاتمة بخصيصة لم يأذن بها لأمة سلفت، فجعلها جل في علاه لا تصدر عن رأى جماعي فيه ضلالة ولا شبهة ضلالة، ((لا تجتمع أمتي على خطأ، ولا تجتمع أمتي على ضلالة))، بل وكان مما خصها به أن جعل الاختلاف في استنباط الأحكام ــ بلا تعصب قطعاً ــ مظهراً من مظاهر رحمته بالأمة.
لكن ظن البعض أن هذا الاختلاف يعبِّر عن فرقة في الأمة، وشتات في رأيها وانقسام لكلمتها، وودوا لو سار الناس على نهج واحد، وذهب بعضهم إلى تحريم مظاهر الاختلاف، ووجوب حمل الناس على رأى احد.
وهذه الدراسة تعنى ــ إن شاء الله قدر المستطاع ــ بإزاحة الغبار عن هذه المسألة، وفهم مضمون الاختلاف فهمه الصحيح، وبيان سبب الوقوع فيه، وهل بالإمكان تلافيه، ثم بيان لحال من ذهب في الاختلاف مذهباً غير حميد، وما أفضى إليه موقفهم ذاك.
الفصل الأول
عناصر الاتفاق حول الأحكام الشرعية ومصادرها
مدخل:
يعرِّف الأصوليون الحكم الشرعي بأنه "خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين طلباً أو تخييراً أو وضعاً".
أما الفقهاء فيعرفونه بأنه "الأثر الذي يقتضيه خطاب الشارع في الفعل كالوجوب والحرمة والإباحة"([1]).(/1)
هذه الأحكام مصادرها الأساسية الكتاب والسنة وهي أعمال كلَّف الله بها العباد, هذه الأعمال تنقسم إلى قسمين:
الأول: معاملة بين الله والعبد:
وهي العبادات التي لا تصح إلا بالنية، وفيها عبادات محضة وهي الصلاة والصوم، وعبادة مالية واجتماعية وهي الزكاة، وعبادة بدنية اجتماعية وهي الحج، وقد اعتبرت هذه العبادات الأربع بعد الإيمان أساس الإسلام.
الثاني: معاملة العباد بعضهم مع بعض:
وهي أقسام:
(أ) مشروعات لتأمين الدعوة، وهي الجهاد.
(ب) مشروعات لتكوين البيوت، وهي ما يتعلق بالزواج والطلاق والأنساب والمواريث.
(ج) مشروعات لطريق المعاملة بين الناس، من بيع وإجارة وغير ذلك، وهي المعروفة بالمعاملات.
(د) مشروعات لبيان العقوبات على الجرائم وهي القصاص والحدود([2]).
أما هذه الأحكام من حيث الثبات والتغيُّر فإنها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول:
لا يتغير عن حالة واحدة عليها، لا بحسب الأمكنة، ولا الأزمنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقررة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
القسم الثاني:
ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له: زماناً، أو مكاناً، أو حالاً، كمقادير التقديرات وأجناسها وصفاتها؛ فإن الشارع ينوّع فيها بحسب المصلحة([3]).
هذه هي الأحكام المطلوب من الناس الالتزام بها، والوقوف عند حدودها، والمنع من تعدّيها, ولقد كان عدم الفهم وسوؤه هو السبب الأساس لاختلاط هذه الأحكام على كثير من الناس، واختلافهم عليها، ولقد كان ذلك بسبب فهم بعضهم لمراد هذه الأحكام بالإطلاق، وفهم بعضهم لها بالتخصيص، وتداخل الأمر على بعضهم في شأن الأحكام التي تحض على الفعل: هل هي للإيجاب؟ أم لمجرد الندب؟ والتي تنهى عن الفعل هل هي للتحريم؟ أم لمجرد الكراهة؟
وكان الخلط الذي وقع فيه البعض ــ كذلك ــ بشأن هذه الأحكام ناجماً عن تقبُّلهم للنص وتفسيره ودلالاته وما إليها.
وغني عن البيان أن نؤكد أن أحكام الدين إنما هي مستمدة من الكتاب والسنة؛ إذ إنهما وافيان بجميع أمور الدين، ولولا ذلك لما قال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) أي إلى الكتاب والسنة، ومن هنا نعلم أن مصادر الأحكام الشرعية الأساسية هي الكتاب والسنة.
(أ) المصدر الأول: الكتاب:
أما الكتاب فإنه قد اشتمل على أحكام اتصفت في مجملها بالعموم، وجاءت آياته في الأحكام محدِّدة للمدى الأوسع الذي يمكن أن ينطبق فيها الحكم، فآية كآية الزكاة (خذ من أموالهم) لم تبيِّن مثلاً أي الأموال، ولا مقدار المأخوذ، ولا ما يعتبر أموالاً مما لا يعتبر حسب التملك وغيره, ويمكن أن نقسِّم الأمور التي انتظمها القرآن الكريم إلى الآتي:
(1) أمور تتعلق بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذه مباحث علم الكلام أو أصول الدين.
(2) أمور تتعلق بأفعال القلوب والملكات، من الحث على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وهذه مباحث الأخلاق.
(3) أمور تتعلق بأفعال الجوارح، من الأوامر والنواهي والتخييرات، وهذه مباحث علم الفقه([4]).
وبما أن القرآن الكريم قد نزل لإصلاح أحوال العباد؛ فإن الأوامر النواهي التي اشتمل عليها لا بد وأن تحقق سعادة البشرية، (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلُّ لهم الطيبات ويحرِّم عليهم الخبائث)، وحتى يحقق القرآن هذه السعادة فإن أحكامه التشريعية قد روعي فيها:
(1) رفع الحرج. (2) قلة التكاليف. (3) التدرج في التشريع.
والجهل بهذه الأسس التشريعية يوقع الناس في خطل كثير وخطأ كبير، فلا بد للمحتكم للقرآن أن يراعي هذه الأسس كما أن عليه أن يلمَّ إلماما تاماً بما يلي:
(1) اللغة التي نزل بها القرآن، والأساليب اللغوية التي استخدمها القرآن، في الطلب، والتخيير، والكف.
(2) المكي والمدني من الآيات؛ لما لكل نوع منها من مميزات الإلمام بها يساعد على استنباط الحكم.
(3) الناسخ والمنسوخ.
(4) أسباب النزول.
(5) أنواع الأحكام "اعتقادية، خلقية، عمومية".
(6) دلالة آياته وهل هي قطعية أم ظنية؟
فمعرفة هذه الأمور والإلمام بها هي الأساس الذي يرتكز عليه الفرد في معرفة مراد الله تعالى من كلامه، حتى لا يقول فيه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
(ب) المصدر الثاني: السنة:
أما السنة فهي في الاصطلاح الشرعي فهي ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقريراً([5])، وقد جاء في التنزيل الحكيم قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربك)، وقوله: (وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون)، وقوله: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، وقوله: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)، وقوله: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله).(/2)
هذه الآيات وغيرها يمكن أن تساق كأدلة على حجية السنة واعتبارها مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي، وهي في ذلك تلي القرآن الكريم في المرتبة. وموقف السنة من القرآن الكريم يمكن أن يتمثل في الآتي:
(1) تأكيدها لما ورد من أحكام القرآن الكريم، كتأكيدها للأوامر والنواهي والمعاملات.
(2) تفصيلها لمجمل ما ورد في القرآن الكريم من أحكام, كتفصيلها لأحكام الصلاة والصيام والمعاملات.
(3) إنشائها لأحكام سكت عنها القرآن الكريم, كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها... إلخ.
والساعي لمعرفة ما ورد عن أحكام في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم, لا بد له من الإلمام التام ببعض جوانبها:
(1) كحاجته للإلمام بأسانيد السنة، ومعرفة المتواتر والمشهور منها، والفرق بينهما وسنة الآحاد، وما يعتبر قطعياً وما يعتبر ظنياً، والفرق بين قطعي الدلالة ظني الثبوت، وظني الدلالة قطعي الثبوت، وظني الثبوت ظني الدلالة، وقطعي الدلالة قطعي الثبوت.
(2) كما لا بد له من الإلمام بما يعتبر تشريعاً منها، وما يعتبر عملاً خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بأحد الناس.
(3) كما لا بد له من معرفة المواقف والحالات التي قال فيها صلى الله عليه وسلم ذلك القول، أو قام بالفعل، أو أقر عليه؛ فإن بعض ما قام به في السفر مثلاً يمكن ألا يعتبر حكماً في الحضر وهكذا.
(4) وتكون معرفة الفقه عاملاً مشتركاً في فهم الكتاب والسنة على حد سواء, واللغة المقصودة هنا ــ بالقطع ــ ليست هي ما اصطلح عليه من لغة العصر الحالي، إنما هي لغة واصطلاح العصر الذي عاش فيه النبي صلى الله عليه وسلم، والطريقة التي كان يعبر بها عن الأشياء والمفاهيم([6]).
(ج) المصادر الأخرى:
إن الحديث عن الكتاب والسنة كمصدرين من مصادر التشريع الإسلامي ذهب ببعضهم للفهم بأنه ليس ثمة مرجع أو مصدر يعوَّل عليه في أخذ الأحكام التشريعية, ولعل ظاهر كثير من النصوص القرآنية والنبوية يحمل على هذا الفهم؛ ولهذا قال قائلهم: "وعندي أن من استكثر من تتبع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وجد فيها كل ما يطلبه من أدلة الأحكام التي يريد الوقوف على دلالها كائناً من كان"([7]), والقول هنا للإمام الشوكاني رضي الله عنه في معرض رده على ما ذكره الماوردي من أن أصول الشريعة أربعة، والشوكاني يريد أن يصل بقوله هذا إلى إنكار حجية الإجماع والقياس, ويخالفه في هذا الرأي جمهور الأئمة, إذ لا خلاف بينهم في أن الإجماع والقياس تعتبر مصادر لأحكام الشريعة بعد الكتاب والسنة. وفي حجية الإجماع والقياس يسوق شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب معارج الوصول القول على هذا النحو:
"أما إجماع الأمة فهو في نفسه حق لا تجتمع الأمة على ضلالة، وكذلك القياس الصحيح حق, فإن الله بعث رسله بالعدل، وأنزل الميزان مع الكتاب، والميزان يتضمن العدل وما يعرف به العدل, وقد فسروا إنزال ذلك بأن ألهم العباد معرفة ذلك، والله ورسوله يسوِّي بين المتماثلين، ويفرق بين المختلفين وهذا هو القياس الصحيح"([8]).
وقد استطرد كثيراً في بيان حجية القياس والإجماع، حتى إنه ليقيم الأدلة النقلية والعقلية على ذلك، ومما ساقه كدليل عقلي قوله: "فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك، ولم تنه عن المنكر فيه، والله يقول: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، وقال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً), والوسط العدول الخيار، وقد جعلهم الله شهداء على الناس، وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال: ((وجبت، وجبت))، ثم مرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها شراً فقال: ((وجبت، وجبت))؛ قالوا: يا رسول الله، ما قولك وجبت؟ قال: ((هذه الجنازة أثنيتم عليها خيراً فقلت وجبت لها الجنة, وهذه الجنازة أثنيتم عليها شراً فقلت وجبت لها النار, أنتم شهداء الله في الأرض))" ([9]).
وممن ذهب إلى القول بعدم حجية القياس ابن حزم الأندلسي أحد أئمة الظاهرية وفي ذلك يقول: "ثم حدث القياس في القرن الثاني؛ فقال به بعضهم وأنكره سائرهم وتبرؤوا منه، وهو الحكم فيما لا نص فيه بمثل الحكم فيما فيه نص أو إجماع, فقال حُذّاقهم: لاتفاقهما في علة الحكم، وقال بعضهم: لاتفاقهما في وجه الشبه. قلنا هذه قضية باطلة لوجوه: أحدها قولهم: فيما لا نص فيه. وهذا معدوم لأن الدين كله منصوص عليه, وثانيها: أنه حتى لو وجد لما جاز أن يحكم بذلك لأنه دعوي بلا برهان, وثالثها قولهم: لاتفاقهما في علة الحكم, ولا علة لشيء من أحكام الله تعالى؛ إذ دعوى العلة في ذلك قول بلا حجة"([10]).(/3)
فالذي يريد أن يقول في الدين برأي لا بد له أن يعلم بكل ذلك والأسس التي بني عليها, هذا بالإضافة إلى حاجته للإلمام ببقية أصول الشرع ــ غير الأربعة المتقدمة ـــ, ولم نقف عندها كثيراً لكثرة ما دار حولها من خلاف بين الفقهاء. "أما الاستحسان، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، وشرع من قبلنا، ونحو ذلك مما ذكروه في كتاب الاستدلال فليست من الأصول المتفق عليها، بل هي من فروع تلك الأصول عند من يرى الاستدلال بها"([11]).
وتأكيداً لهذا الفهم السابق يذهب الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف إلى القول بأنه: "ثبت بالاستقراء أن الأدلة التي تستفاد منها الأحكام العملية ترجع إلى أربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس, وهذه الأدلة الأربعة اتفق جمهور المسلمين على الاستدلال بها, واتفقوا أيضاً على أنها مرتَّبة في الاستدلال بها هذا الترتيب: القرآن، فالسنة، فالإجماع، فالقياس, أي أنه إذا عرضت واقعة ننظر أولاً في القرآن فإن وجد فيه حكمها أمضى، وإن لم يوجد فيه حكمها ننظر في السنة، فإن وجد فيها حكمها أمضى، وإن لم يوجد فيها حكمها ننظر: هل أجمع المجتهدون في عصر من العصور على حكم فيها؟ فإن وجد أمضى, وإن لم يوجد اجتهد في الوصول إلى حكم لها بقياسها على ما ورد النص بحكمه.
أما البرهان على الاستدلال بها فهو قوله تعالى في سورة النساء: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)، وأما الدليل على ترتيبها في الاستدلال بها هذا الترتيب, فهو ما رواه البغوي عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن فقال: ((كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟))؛ قال: أقضي بكتاب الله؛ قال: ((فإن لم تجد في كتاب الله؟))؛ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((فإن لم تجد في سنة رسول الله؟))؛ قال: اجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله)) ([12]).
هذا الحديث ضعفه ابن حزم حيث جاء في كتابه (ملخص إبطال القياس) ما نصه: "وأما حديث معاذ فغير صحيح لأنه عن الحارث بن عمرو الهزلي الثقفي ابن أخ المغيرة بن شعبة ولا يدري أحد: من هو؟ ولا نعرف له غير هذا الحديث عن رجال من أصحاب معاذ لا ندري من هم. وهوّه قوم فقالوا: هذا منقول نقل التواتر، وهذا كذب لأنه لا يعرف إلا عن أبي عون وما احتج به أحد من المتقدمين رواه عن أبي عون أبو اسحق الشيباني وشعبة, ورويناه عن شعبة عن أبي عون عن ناس من أصحاب معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ... فذكره وحدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي: حدثني شارح ثنى إبراهيم بن أحمد بن فراس: نا محمد ابن علي الصائغ ثنى سعيد بن منصور ثنى أبو معاوية الضرير ثنى أبو إسحق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي هو أبو عون قال: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن... " فذكره. إلا أن هذا الحديث يعتبر من مشهور ما ذكره أبو داود في سننه, كما ورد في سنن الدارمي"([13]).
الفصل الثاني
أسباب الاختلاف ومتى يكون صحياً؟
مدخل:
إذا كان قد ثبت أن مصادر الأحكام الشرعية متفق عليها ــ على الأقل في الأربعة الأولى منها ــ وإذا كان الله تعالى هو الذي أنزل القرآن وجعله تكليفاً لعباده، والكتاب واحد، والنبي واحد، والرب واحد، والأمة واحدة، واللغة واحدة, فإذا كان ذلك كذلك فلماذا يأتي الخلاف؟ وهل هذا الخلاف يعتبر ظاهرة مرضية؟ وكيف يمكن الإفادة منه إذا تبين أنه لا محالة واقع؟ ثم ما هي الأسس التي يمكن الاحتكام إليها للتأكد من صحة الحكم المعين وسط مختلف الأحكام؟ هذا ما سأحاول الإجابة عليه هنا مستعيناً بالله تعالى.
(أ) أسباب الاختلاف:
لم يكن الاختلاف في الآراء شيئاً غريباً على حياة المسلمين، ولم يكن هذا الاختلاف مدعاة لشقاق بينهم, فقد كان طبعياً أن يحدث الاختلاف في الرأي, فقد ظهرت صور من الاختلاف في الرأي والأمة لا تزال قريبة عهد برسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان هذا الاختلاف مظهراً حيوياً في حياتهم, والاختلاف في الرأي حول المسائل الشرعية له ما يبرره، وهناك من الأسباب ما يجعله أمراً لا فكاك منه. وهذه الأسباب هي:
(1) اختلاف بسبب اعتماد المصادر:(/4)
بدا لنا جلياً أن جمهور العلماء ــ وإن كان قد اتفقوا على المصادر الأساسية الأربعة: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس ــ قد اختلفوا في قبول المصادر الأخرى: الاستحسان، والمصالح المرسلة، والعرف، والاستصحاب، وشرع من قبلنا، ومذهب الصحابي، وما إليها، بل أن بعضهم قد رأى رأياً في القياس ــ وقد عرضنا ذلك في موضع متقدم من هذا البحث ــ كرأي ابن حزم في إبطاله وعدم الأخذ به كمصدر للتشريع، واستدل على حجته هذه بثلاثة عشر أثراً ضمنها كتابه (ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل)، وختم كتابه هذا بقول جامع في هذه الأصول بقوله: "من المحال الباطل أن يكون الله يأمرنا بالقياس أو التعليل أو بالرأي أو التقليد ثم لا يبين لنا: ما القياس؟ وما التعليل؟ وما الرأي؟ وكيف يكون كل ذلك؟ وعلى أي شيء نقيس؟ وبأي شيء نعلل؟ وبرأي من نقبل؟ ومن نقلد؟ لأن هذا تكليف ما ليس في الوسع"([14]).
غير أنه تصدى عدد كبير من الفقهاء, وعلماء الأصول وردوا على مثل هذه الآراء إثباتاً للقياس ونفياً للشبه حوله. ولقد كان للإمام الشافعي رحمه الله (150هـ ــ 204هـ) في كتابه (الرسالة) ــ الذي يعتبر أول كتاب أصَّل الأصول وقعّد القواعد ــ أقوال في إثبات القياس يطمئن المرء إليها كثيراً, فقد جاء في هذه الرسالة قوله: "كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم, أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة, وعليه إذا كان فيه بعينه حكم اتباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد والاجتهاد القياس"([15]).
إذاً فالاختلاف في اعتماد المصدر المعين ورفضه قد يفضي إلى اختلاف في الأحكام المستنبطة، فالذين يعتمدون القياس مثلاً جوّزوا المزارعة قياساً على ما كان في خيبر, والذين لا يعتمدون القياس لم يجوزوها وهكذا. ويقال مثل ذلك في بقية المصادر.
(2) الاختلاف حول الاستنباط من المصدر الواحد:
وحتى المصدر المعتمد عند كل الأطراف يحدث أن يختلف عليه لسبب أو لآخر:
(أ) القرآن:
مع اتفاق الناس على اعتماده مصدراً أساسياً يحتل المرتبة الأولى بين المصادر، يحدث أن يكون اختلاف حوله؛ وذلك لأسباب ثلاثة:
(1) قد يرد لفظ يحمل معنيين، كاختلافهم في فهم القرء من قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)، ففهم عمر وابن مسعود أنه الحيضة، وفهم زيد بن ثابت أنه الطهر.
(2) قد يرد حكمان مختلفان لموضوعين يُظن أن يشمل أحدهما بعض ما يشمله الآخر فيتعارضان في ذلك الجزء، ومثل ذلك آية معتدة الوفاة، فقد أوجبت أن تتربص أربعة أشهر وعشراً ويظن شمولها للحامل, وآية الطلاق جعلت عدة الحامل وضع الحمل فمعتدة الوفاة الحامل مترددة بين أن تشملها الآية الأولى فيجب عليها أن تتربص أربعة أشهر وعشراً، وإن وضعت حملها قبل ذلك وبين أن تكون عدتها وضع الحمل ولو لم تتربص تلك المدة عملاً بآية معتدة الطلاق, قال بكل من الرأيين بعض كبار الصحابة([16]).
(3) قد يكون الاختلاف بسبب فهم الحادثة التي كانت سبباً في النزول والموقف من قضية الناسخ والمنسوخ في النصوص وما يمكن أن يترتب عليها من حكم، كما أن معرفة سبب ومكان وزمان النزول تساعد في فهم الأحكام التي تنسخ بعضها البعض، "والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى؛ لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وكلهم قال بوقوعه. وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر: لم يقع شيء من ذلك في القرآن. وقوله ضعيف مردود مرذول. وقد تعسف في الأجوبة عما وقع فيه النسخ, فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول لم يجب على ذلك بقول مقبول, وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة من بيت المقدس لم يجب بشيء"([17]).
(ب) السنة:
أما السنة فإن الاختلاف فيها يقع للأسباب الآتية:
(1) اختلافهم في اعتماد المصدر المعين الذي ورد الحديث عن طريقه، فقد يصحح بعضهم الحديث ويضعفه البعض الآخر، وذلك لما توفر لكل طرف من معلومات عن متن الحديث وسنده.
(2) كما قد ينشأ الخلاف حول السنة في اعتماد أنواع معينة من الأحاديث كأحاديث الآحاد.
(3) كما قد يعرض الخلاف لتفسير النص وحمله على المعنى المعين.
ويرى ابن تيمية أنه قد يحدث أن يصدر قول عن صحابي أو عالم فقيه يخالف حديثاً صحيحاً، ويجد ابن تيمية عذراً لهذا النوع من الناس يلخصها في أعذار ثلاثة:
أولاً: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم قاله (أي الحديث).
ثانياً: اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
ثالثاً: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وهذه الأصناف الثلاثة عنده تتفرع إلى أسباب عدة ملخصها:
السبب الأول:(/5)
أن لا يكون الحديث قد بلغه، وهذا السبب هو الغالب على الأكثر مما يوجد في أحوال السلف, وقد كان صلى الله عليه وسلم يحدّث أو يفتي أو يقضي أو يفعل الشيء فيسمعه أو يراه من يكون حاضراً، أو يبلغه أولئك أو بعضهم لمن يبلّغونه، فينتهي ذلك إلى من شاء الله من العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم, فخفاء بعض السنة على البعض لا يحتاج لبيان, فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة أو إماماً معيناً فهو مخطئ خطأً فاحشاً قبيحاً, ولا يقولن قائل إن الأحاديث دُوِّنت وجمعت فخفاؤها والحال هذه بعيد؛ لأن هذه الدواوين المشهورة في السنة إنما جُمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين، ومع هذا فلا يجوز ادعاء انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في دواوين معينة، ثم لو فرض انحصار الحديث فيها فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط علماً بما فيها, ولا يقولن قائل فمن لم يعرف الأحاديث لم يكن مجتهداً لأنه إن اشترط في المجتهد علمه بجميع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وفعله مما يتعلق بالأحكام فليس في الأئمة مجتهد, وإنما غاية العالم أن يعلم جمهور ذلك أو معظمه بحيث لا يخفى عليه إلا القليل من التفصيل, ثم قد يخالف ذلك القليل من التفصيل الذي لم يبلغه فيكون معذوراً.
السبب الثاني:
أن يكون قد بلغه الحديث لكن لم يثبت عنده, أو لم ينضبط له لفظ الحديث ولهذا وجد في كلام غير واحد من الأئمة تعليق القول بموجب الحديث على صحته، فيقول قولي في المسألة كذا وقد روي فيها حديث بكذا فإن كان صحيحاً فهو قولي.
السبب الثالث:
اعتقاد ضعف الحديث وقد خالفه فيه غيره مع قطع النظر عن طريق آخر سواء كان الصواب معه أو مع غيره أو معهما عند من يقول: كل مجتهد مصيب.
السبب الرابع:
اشتراطه في خبر الواحد العدل الحافظ شروطاً يخالفه غيره, مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على الكتاب والسنة, واشتراط بعضهم أن يكون المحدِّث فقيهاً إذا خالف قياس الأصول, واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان فيما تعم به البلوى إلى غير ذلك إلى مما هو معروف.
السبب الخامس:
أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده لكن نسيه.
السبب السادس:
عدم معرفته بدلالة الحديث تارة لكون اللفظ الذي في الحديث غريباً عنده كألفاظ المزابنة والمحاقلة والمخابرة والملامسة المنابذة والغرر.
السبب السابع:
اعتقاده أن لا دلالة في الحديث، والفرق بين هذا والذي قبله: أن الأول لم يعرف جهة الدلالة، والثاني عرف جهة الدلالة لكن اعتقد أنها ليست دلالة صحيحة بأن يكون له من الأصول ما يرد تلك الدلالة.
السبب الثامن:
اعتقاده أن تلك الدلالات قد عارضها ما دلَّ على أنها ليست مرادة، مثل معارضة العام بخاص، والمطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب، والحقيقة بما يدل على المجاز.
السبب التاسع:
اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله([18]).
(3) الاختلاف حول اعتماد الرأي ورفضه:
وينشأ الخلاف حول الرأي نسبة لأن بعضهم لم يعتمده أساساً ولم يعتد به، وقد ذهب الظاهرية في ذلك المذهب أقصاه وقد ذكر ابن حزم في كتابه (ملخص إبطال القياس) ستة وأربعين أمراً في إبطال الرأي.
وقد ذهب نفس هذا المذهب الإمام أحمد حيث يقول فيما رواه عنه ابنه عبد الله: "لا تكاد ترى أحداً نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل, والحديث الضعيف أحب إليّ من الرأي"([19]).
وقد أُثر عن الصحابة أنهم كانوا يفتون بالرأي، وتختلف الآراء عندهم نسبة لأن رأي الواحد منهم ينشأ أساساً اعتماداً على ما يراه من أن الحكم عنده أقرب إلى روح التشريع ويحقق المصلحة, وهذه مسألة يختلف التقدير فيها من فرد لآخر.
قد كان أبو حنيفة وأصحابه يأخذون بالرأي الذي لا بد منه، وفي هذا يقول محمد صاحب أبي حنيفة: "لا يستقيم الحديث إلا بالرأي، ولا يستقيم الرأي إلا بالحديث"([20]).
والرأي عند ابن قيم الجوزية ثلاثة أقسام:
(1) رأي باطل بلا ريب، وقد ذمه السلف، ومنعوا العمل به.
(2) رأي صحيح، استعمله السلف، وعملوا به، وسوغوا القول به.
(3) رأي هو موضع اشتباه، سوغوا العمل به عند الاضطرار حيث لا يوجد منه بدٌّ، ولم يلزموا به أحداً ولم يحرّموا مخالفته([21]).
وقد قسم ابن القيم كل نوع من هذه الأنواع إلى أقسام مختلفة:
فالرأي الباطل عنده ينقسم إلى:
(1) مخالف للنص:
(2) كلام بالخرص والظن والتعقيد في معرفة النصوص.
(3) متضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله.
(4) رأي أحدثت به البدع وغيّرت به السنن.
(5) القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات، وغيرها.
أما الرأي المحمود فينقسم عنده إلى:(/6)
(1) رأي أفقه الأمة، وأبرهم قلوباً، وأعمقهم علماً، وأقلهم تكلّفاً، وأصحهم مقصداً، وأكملهم فطرة، وأتمهم إدراكاً، وأصفاهم أذهاناً، وهم الصحابة الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم.
(2) الرأي الذي يفسِّر النصوص، ويبيِّن وجه الدلالة فيها، ويقررها ويوضح محاسنها، ويسهل طريق الاستنباط منها.
(3) الرأي الذي تواطأت عليه الأمة، وتلقاه خَلَفهم عن سلفهم؛ فالأمة معصومة فيما تواطأت عليه من روايتها ورؤياها.
(4) أن يكون بعد طلب علم الواقعة من القرآن، فإن لم يجده ففي السنة, فإن لم يجده فبما قضى به الخلفاء الراشدون أو اثنان أو واحد منهم, فإن لم يجد فبما قاله واحد من الصحابة, فإن لم يجد يجتهد رأيه وينظر أقرب ذلك من الكتاب والسنة وأقضية الصحابة([22]).
(ب) متى يكون الخلاف صحياً؟
حثت كثير من آيات القرآن الكريم على الوحدة في الصف واتفاق الكلمة، قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا)، وقال تعالى: (ولتكن منكم أمة)، وحذر من الاختلاف فقال: (ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءههم البينات واولئك لهم عذاب عظيم), وهي ــ أي الوحدة ــ شيء طبيعي في أمة يفترض فيها قيادة البشرية. إذاً لا مكان للفرقة والشتات, فالاختلاف المفضي لهذه الفرقة والشتات يعتبر عملاً مخالفاً لروح الدين الإسلامي، وبالتالي فإن الله تعالى أوجب على ولي الأمر أن يوقفهم عند حدودهم، ويأخذ على أيديهم حفاظاً على وحدة الأمة, لهذا السبب فقد قاتل أبوبكر رضي الله عنه المرتدين وقاتل عليٌ رضي الله عنه الخوارج، وهكذا.
ذلك نوع من أنواع الاختلاف لا توافق عليه الشريعة، ولا تعتبره مظهراً صحياً، بل تعتبره مظهراً مرضياً، تضع في يد الحاكم أسباب علاجه ابتداءً من المعاملة بالحسنى الى البتر والإقصاء. ولكن هناك نوع من الاختلاف إذا انعدم من حياة الناس أصابها الشلل والتوقف, وعلى هذا فإن من صور الاختلاف ما يعتبر صحياً بل لازماً لإنعاش حياة الأمة، والفقه الذى خلّفه سلف هذه الأمة كان كله نتيجة تقابل في الآراء، اندثر منها ما لم يقوَ على الاستمرار، وبقى ما أشبعه أصحابه بالحجة والمنطق, ولعل حضارة لم تتوافر فيها من الألفاظ الدالة على اختلاف الرأى كما توافرت في الحضارة الإسلامية، فوجدنا ألفاظ المحاورة والمناظرة والحجة والبرهان والتعليل بقدر وافر ما يؤكد هذه الحقيقة، والاختلاف في الرأي هذا لم يفضِ إلى نزاع بين الجماعات ولا إلى فرقة في الكلمة، ولم تكن مذاهب الأئمة أدياناً بجانب الإسلام، كما هو الحال عند النصارى، فقد صارت الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية وكأنها ديانات توازن النصرانية، ولا تلاقى بين هذه المذاهب، ولقد كان أئمة المذاهب في الإسلام يجلس بعضهم إلى بعض يحاوره ويناظره، ويفترق الخصمان (تجوُّزاً) وكل منهما يحمل لأخيه من الحب أكثر مما لقي صاحبه عليه.
تأمل معي هذه المناظرة التي انعقدت بين أبى حنيفة النعمان ووفد من الخوارج:
"قدم وفد من الخوارج على أبى حنيفة في المسجد، وكان مذهبهم تكفير مرتكب الكبيرة, فسألوا أبا حنيفة:
هاتان جنازتان على باب المسجد, أما إحداهما فجنازة رجل شرب الخمر حتى كظته وحشرج بها فمات، والأخرى امرأة زنت حتى أيقنت بالحمل فقتلت نفسها؛ فما الرأى فيهما؟
أبو حنيفة: من أي الملل كانا.. أمن اليهود؟
ــ: لا.
ــ: أمن النصارى؟
ــ: لا.
ــ: فمن أي الملل كانوا؟
ــ: من الملة التي تشهد أن لا أله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.
ــ: فأخبروني عن هذه الشهادة: أهي من الإيمان ثلث أم ربع أم خمس؟
ــ: أن الإيمان لا يكون ثلثاً ولا ربعاً ولا خمساً.
ــ: فكم هي من الإيمان؟
ــ: الإيمان كله.
ــ: فما سؤالكم إياي عن قوم زعمتم وأقررتم أنهما كانا مؤمنين"([23]).
وقد اخترت هذه القصة لأدلِّل بها على أن الحوار المستند إلى الحجة والمنطق يمكن أن يكون صحياً ومثرياً للفقه الإسلامي، حتى ولو كان مع فرقة مارقة كالخوارج، ولو التزم الخوارج هذا المنهج في بذل الحجة وقبلوها لما خرجوا عن الصف، إلا أنهم أرادوا أن يخرسوا كل فم لايقول بقولهم، وكل عقل لا يفهم فهمهم ظناً منهم أن ذلك هو روح الدين وخلاصته، فحق عليهم قول القائل إنهم "قوم أرادوا الجنة فأخطأوا اليها السبيل".
والاختلاف في الرأى أمر طبيعي؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل الناس مختلفين في قدراتهم وملكاتهم وطاقاتهم، وتمشياً مع هذا النسق في الاختلاف لم يشأ أن يلزمهم كلهم بأمر واحد، يدركه بعضهم ويجهله البعض الآخر، يطبقه بعضهم ويصعب على الباقين، فلو كان الأمر كذلك لأعنت الناس بعضهم بعضاً، فكان لا بد أن يختلف الرأي عند الناس حول المسألة الواحدة، وذلك مظهر من مظاهر رحمة الله بعباده.(/7)
ثم أن شريعة طُلب إليها أن تحكم حياة الناس من لدن محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، في عالم تختلف أمكنته وأزمنته وطبائع الناس فيه لا بد أن تتيح قدراً من الاختلاف في الفهم والتطبيق؛ حتى تكون مرونتها هذه مدعاة لاستمراريتها، وفق الإطار العام الذى حددته أحكام الشريعة، وتواطأت عليه الأمة، في غير جهالة ولا شبهة ضلال.
ولولا اختلاف الأراء لما حفل الفقه الإسلامي بهذا القدر الوافر من الحلول التي تتناسب مع كل الظروف، ولا يجد المرء نفسه قد خرج ببساطة من دائرة الدين لعدم التزامه في عمل من أعماله برأى منسوب للدين، والتاريخ الإسلامي حافل بالمواقف الدالة على أن اختلاف الرأي كان شيئاً مقبولاً، ويكفينا في هذا المجال أن نشير إلى حادثة واحدة كان الحكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وهي حادثة بني قريظة حينما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بقوله: ((لايصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة))، واختلفت آراؤهم حول هذا الأمر, هل هو للحث أم لا بد من الالتزام الحرفي به تحت كل الظروف، وقد أجاز الرسول صلى الله عليه وسلم كلا الرأيين، وما يهمنا هنا إجازته لمبدأ الاختلاف في الفهم وترتيب العمل عليه.
فلو تعسفنا في الحكم على هذه الحادثة ووقف كل أهل رأي يلتزمونه ولا يحيدون عنه لكفَّر الناس بعضهم بعضاً، فاحتج فريق على الآخر بأنكم خالفتم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقعتم تحت طائلة الآية (ومن يشاقق الرسول...الآية)، ولاحتج الفريق الثاني على الأول بأنكم أخَّرتم صلاة مفروضة من عند الله تعالى عن وقتها (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا). يحدث هذا إذا ألزمت كل فرقة الأخرى بما ترى، فكم كان صلى الله عليه وسلم رحمة بالأمة، والرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيها كان بإمكانه أن يقف مع رأي وتصبح القضية محسومة، وتخرج عن دائرة الرأى إلى دائرة الفصل، أقول: كم كان رحمة بالأمة أن مرَّت هذه الحادثة دون أن تحجر فرقة على أختها وتحملها على ما ترى.
إذاً إذا كان الاختلاف لتحقيق هذه الرحمة، ولرفع ذلك العنت؛ فإنه يصبح مظهراً صحياً، وواجباً حيوياً تلزم الأمة به؛ حتى تجدد للدين شبابه، وتعيد ثقة الناس فيه. على أن لا يكون الرأى في ذلك بالهوى واتباع الشيطان, وقد تقدم بيان ذلك.
الفصل الثالث
ضوابط الافتراق
مدخل:
رغم ما أشرنا إليه من أن الخلاف يمكن أن يكون مفيداً ومثرياً للفقه وللحياة العامة، إلا أن نفوس البشر تنزع إلى الافتراق والشتات، ويكون حينها الافتراق أمراً حتمياً، فإن هو وقع فلا يظن ظان أن الشريعة تنحت وتركت الأمر للأفراد يعملون لأنفسهم ما يشاءون ويشرعون لها ما يحكمها حال افتراقها، ولكن الشريعة التي عالجت كافة جوانب الحياة، لها قول ورأي حتى عند الافتراق، وقولها عند الافتراق ألزم، ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))، لذلك لا بد من ضوابط ولا بد من اجتهاد لإحالة قدر الاختلاف إلى منفعة، ولا بد من معرفة الأسس التي يمكن أن نميز بها الحق من الباطل.
(أ) ما هي ضوابط الاختلاف حول المسائل الفقهية؟
يعتبر الخلاف في الرأى عملاً صحياً ومثرياً للفقه الإسلامي إذا التزم الضوابط الآتية:
أولاً: إذا بُني هذا الخلاف في الرأي على أسس الدين ومصادره، وعمل على استنباط الأحكام منها من غير إفراط في تتبع الحرج وفرضه على الناس، ومن غير تفريط في تتبع الرخص.
ثانياً: إذا التزم منهجاً علمياً في البحث يتحرى الدقة، ويقلب الأراء، وألا يكون إرضاءً لجماعة، أو اتباعاً لهوى، أو مسايرة لمزاج فردي.
ثالثاً: أن يعين الناس بعضهم البعض فيما اتفقوا فيه من الآراء، وأن يعذر بعضهم بعضاً فيما اختلفوا فيه.
رابعاً: أن يلتزم كل فريق في طرح حجته وإبانة رأيه جانب الأدب الإسلامي في مخاطبة الأخرين، فلا يرميهم بالتهم، ولا يكيل لهم السباب، ولا يصفهم بالقصور، بل يلتمس لهم الأعذار.
خامساً: الأمانة في عرض الرأي والرأي المقابل، وأن لا يجتزأ كل فريق من النصوص ما يوافق رأيه ويعمل على تناسي وبتر الجزء الذى لا يدعم رأيه, وأن لا يتحامل كل فريق في صرف معنى النص المتفق عليه من الطرفين إلى المعنى الأقرب لرأيه، سيما إذا كان ذلك النص لا يحتمل هذا التحامل.
سادساً: أن يكون الدخول في الخلاف أساساً لمرضاة الله تعالى،لا رياء ولا تسمعاً، وأن يتحلى الجانبان بالورع والتقوى، وإلا فإن الخلاف سيكون جدلاً ((ما ضلَّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)).
إذا التزم الناس هذا السلوك في خلافاتهم الفقهية فلا شك أن خلاصة الأمر ستكون آراءً ناصعة، وحججاً مبينة، وإرثاً فقهياً تفخر به الأجيال, وإلا فإن المسألة ستعمق من حجم الفرقة بين الأفراد والجماعات فيما لا طائل وراءه، وستكون فتنة ((القاعد فيها خير من القائم)).
(ب) كيف يمكن الإفادة من الافتراق إذا ثبت أنه لا محالة واقع؟(/8)
قلت: إن الاختلاف في الآراء شيء لازم لبيان حيوية الدين، واستجابته لمطالب الحياة والتفاعل معها, ولكن إذا أفضى هذا الاختلاف إلى فرقة وشقاق، وتبين أن هذا الأمر لا محالة واقع فإن الأمة الكيسة الفطنة يمكن أن تفيد من هذا الاختلاف أيضاً، وقد يبدو هذا القول غريباً ولكن على غرابته يمكن تصوره.
إن الله يعلم أن هذا الخلاف لا بد وأن يفضى في بعض صوره إلى شقاق، والآيات الدالة على ذلك من القرآن الكريم كثيرة (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) فهذا الاقتتال يمكن أن يكون مؤسساً على فهم معاكس لبعض حقائق الدين، بل أذهب إلى أن الخلاف حتى لو كان في أساس الدين لأمكن الإفادة منه، وهذا وارد مصداقاً لقوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين).
وأقوى دليل أسوقه في بيان ما ذهبت إليه دليل مأخوذ من التارخ الإسلامي، فإن فقهاً نشأ أثناء حروب الردة وفقهاً نشأ في فترات مختلفة من التاريخ الإسلامي ما كان له أن يظهر وينشأ لولا هذه الخلافات، بل أن مفكرين وفقهاء إسلاميين ما كان يقدر لنا معرفتهم والإفادة من آرائهم لولا هذه الخلافات، فأسماء مشهورة كابن تيمية وابن القيم وغيرهم أكثر ما عرفناه عنهم أنهم تصدوا في العقيدة والشريعة لفرق ضلت وأضلت، فأنشأوا في الرد على هؤلاء فقهاً لا يستطيع واحد من الناس أن ينكر أثره في إثراء الفقه وبيان حقيقة الدين.
فإذا كان الفقه المتولد نتيجة الرد على فرقة ضالة قٌدِّر له أن يثرى الحياة العلمية الإسلامية، وهو فقه من جانب واحد، أي أن ما يمكننا الإفادة منه والاعتماد عليه هو الفقه الذى قدمه ويقدمه الجانب الملتزم الفكر الإسلامي دون تحريف أو تغيير، فكيف بنا والحوار بين جهتين ملتزمتين روح الدين ترتكزان على أرضية واحدة، لا شك أن ما سيتمخض عن هذا الاختلاف سيكون خيراً وبركة على الأمة، وهذا لا يتحقق إلا إذا التزمت الفرقتان بما أشرت إليه في الصفحات السابقة من ضوابط؛ لأن الخروج عنها ــ في يقيني ــ يجعل الخلاف مجرد مراء ((والمراء لا يأتي بخير)).
(ج) الأسس التي يمكن الرجوع إليها لتمييز الحق من الباطل:
عند تعرضنا للحديث عن المصادر التي تعتمد عليها الأحكام الشرعية استطردنا في الحديث عن الكتاب والسنة بحسبانهما المصدرين الأساسيين لاستنباط الأحكام، وهما بهذه الوضعية يعتبران الأساس الذي على المتخالفين في الرأى الرجوع إليهما والاحتكام إلى ما فيهما لتأييد حجة كل منهما.
والبراهين القطعية في ذلك لا تحصى:
يقول تعالى: (ياأيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول). ويقول تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولِي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)، ويقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم). ويقول: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً). والأدلة أكثر من أن تحصى.
إذاً فالأساس الذى يُرجع إليه للتأكد من صحة الرأي أو الرأي المقابل هو القرآن والسنة، وإن لم يكن ذلك ممكناً فإن ميراثاً فقهياً ثراً ينتظرنا من سلف الأمة الصالح يمكن التعويل عليه للفصل في الاختلافات الناشئة بين وجهات النظر المختلفة, وأن لم يحتوِ ذلك الفقه على حل لتلك المسألة، وهذا قول في رأيي فيه كثير من التجاوز، فإن الاعتماد على قواعد عامة في الدين الإسلامي تكون هي الفيصل كقاعدة: (لا ضرر ولا ضرار)، وقاعدة: ((الأصل في الأشياء الإباحة))، وغيرها من القواعد المعتبرة التي عليها مدار التشريع الإسلامي كله.
الخاتمة
وتبقى كلمة أخيرة أشهد الله عليها:
أننى ما اخترت هذا الموضوع إلا لما يكتنف مجتمعاتنا اليوم من جدل يخفت أحياناً ويتعالى الصياح فيه أحياناً كثيرة، وهذا الجدل على الحادبين أن يوجهوه وجهته الصحيحة، لا سيما وأننا ننعم ببداية نهضة إسلامية في طريقها لأن تكون نهضة شاملة تعم جوانب الحياة المختلفة بإذن الله. وهذه النهضة مطلوب منها أن تعالج بالموضوعية كلها المشاكل التي نجمت عن غياب الشرع الإسلامي عن الساحة مدة ليست باليسيرة.(/9)
وإزاء هذه النهضة ترتفع أصوات حاقدة حيناً ومشفقة حيناً آخر، بعضها يعلم كل الحقيقة وبعضها يعلم جزءاً منها، والكثير لايعلم شيئاً, وبزعم كل فريق أن ما يذهب إليه من رأي حق لا يدانيه باطل، ولقد تابعت كثيراً من الجدل الدائر بشأن موضوعات مختلفة في العقيدة والفقه والأصول فوجدت سوقاً للحديث تقوم وتنفضُّ، ومدارس مختلفة تدخل الساحة وتنصرف بعضها راشد وبعضها غير بعيد عن الضلال, وأكثر ما أخافني أن كثيراً من الداخلين إلى هذه السوق والخارجين منها لا يعتمدون خلفيةً واحدة يستندون إليها، فمن منكر لبعض الأسس المعلومة من الدين بالضرورة، ومن جاهل بتاريخ الفقه الإسلامي وأبعاد الخلاف فيه، ومن مدعِّم لحجته بأسس كلامية، ومن زاعم بأنه لا خلاف فالقول ما تقول الفرقة الناجية ــ وهكذا ــ، فيصبح المتطلع إلى اكتمال هذه النهضة مشفقاً من أن تنمو أطرافها محتوية على هذا الخبث، فوجدت أن الوقفة عند الخلاف وأسبابه والإفادة مما تتيحه من فرص لعرض الإسلام ناصعاً ثغرة لا بد أن ينبرى لها بعض من كان همهم أن تكتمل النهضة، ولا أدعي براعة في ذلك، بل إنها هموم أحسب أن المساهمة في حلها ولو بكلمة فيه إبراء للذمة، فإن كنت قد أصبت فمن الله، وأن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان (وما أبرئ نفسي).
([1]) عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، دار القلم، الطبعة العاشرة، 1972م، ص 100.
([2]) محمد الخضري بك، تاريخ التشريع الإسلامي، دار الفكر، الطبعة الثامنة، 1967م، ص 29.
([3]) أحمد موافي، عقوبة الإعدام بين الشريعة والقانون، الناشر مكتبة المنار بالكويت، ص 19.
([4]) محمد الخضري، المرجع السابق، ص 15.
([5]) راجع ابن رشد، بداية المجتهد، ص 2، طبعة دار الفكر، وعبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، طبعة دار الحكم، ص 36، وتاريخ التشريع الإسلامي، لمحمد الخضري بك، ص 30.
([6]) من محاضرة للدكتور جعفر شيخ إدريس بكلية الطب جامعة الخرطوم عن (منهج البحث العلمي في معرفة حقيقة الدين).
([7]) محمد حسنين مخلوف، بلوغ السول في مدخل علم الأصول، طبعة البابي الحلبي، ص 94.
([8]) ابن تيمية، معارج الوصول إلى معرفة أن أصول الدين وفروعه قد بيَّنها الرسول، المكتبة العلمية، ص 22.
([9]) ابن حزم الأندلسي، ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل، تحقيق سعيد الأفغاني، دار الفكر، 1969م، ص 5.
([10]) محمد حسنين مخلوف، المرجع السابق، ص 88ــ89.
([11]) ابن تيمية، المرجع السابق، نفس الصفحة.
([12]) عبد الوهاب خلاف، المرجع السابق، ص 21.
([13]) راجع سعيد الأفغاني، ملخص إبطال القياس.
([14]) الإمام الشافعي، الرسالة، مطبعة البابي الحلبي، سنة 1969م، ص 206.
([15]) ابن حزم الأندلسي، المرجع السابق، ص 73.
([16]) انظر الشيخ الخضري، المرجع السابق.
([17]) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة، سنة 1969م، ص 151، المجلد الأول.
([18]) ابن تيمية، رفع الملام عن الأئمة الأعلام، المكتبة العلمية، ص 4ــ17.
([19]) ابن حزم، ملخص إبطال القياس، ص 67.
([20]) محمد حسنين مخلوف، المرجع السابق، ص 60.
([21]) ابن تيمية، المرجع السابق، نفس الصفحة.
([22]) المرجع السابق، ص 62ــ63.
([23]) أحمد حسين، من قضايا الرأى في الإسلام، دار الكتاب العربي، ص 74.
المراجع
(1) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار المعارف.
(2) ابن كثير، الباعث الحثيث، شرح أحمد محمد شاكر، دار المكتبة العلمية.
(3) الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، الطبعة الثانية، سنة 1966م.
(4) الأمير، الإكليل شرح مختصر خليل، مكتبة القاهرة.
(5) ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث، سنة 1973م، دار الجيل، بيروت.
(6) ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار الفكر.
(7) النيسابوري، أسباب النزول، دار الكتب العلمية، سنة 1975م.
(8) ابن حزم، ملخص إبطال القياس والرأى والاستحسان والتقليد والتعليل، تحقيق سعيد الأفغاني، دار الفكر سنة 1969م.
(9) الشافعي، الرسالة، مطبعة البابي الحلبي، الطبعة الأولى، سنة 1969م.
(10) القرضاوي، الحلال والحرام في الإسلام، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية عشرة، سنة 1978م.
(11) صبحي الصالح، علوم الحديث ومصطلحه، دار العلم للملايين.
(12) عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، دار القلم الكويت.
(13) أحمد حسين، من قضايا الفكر في الإسلام، دار الكاتب العربي.
(14) محمد الخضري بك، تاريخ التشريع الإسلامي، دار الفكر بيروت.
(15) محمد حسنين مخلوف،بلوغ السول في مدخل علم الأصول، مطبعة البابي الحلبي.
(16) د. مصطفى حلمي، الخوارج، الأصول التاريخية لمسألة تكفير المسلم، دار الأنصار بالقاهرة.
(17) ابن تيمية، معارج الوصول إلى معرفة أن أصول الدين وفروعه قد بيَّنها الرسول، المكتبة العلمية.
(18) ابن تيمية، رفع الملام عن الأئمة الأعلام، المكتبة العلمية.(/10)
الخلافات الفقهيّة عناصر الاتفاق وضوابط الافتراق
د. كمال عبيد*
المقدمة : مقتضى الإيمان بالله ورسوله الاعتقاد بأن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قد جمعت فأوعت، وأجابت عن تساؤلات الخلق فيما يخص معاشهم ومعادهم، وعملت على إصلاح حالهم دنيا وأخرى، كل ذلك وفقاً لأحكام عادلة غير صادرة عن البشر (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)، ولكن شاءت قدرة الله تعالى ــ وهو العليم بخبايا النفس البشرية (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) ــ أن يحكم هذه النفس وفق ضوابط محددة، لا تصلح ــ أي النفس البشرية ــ إلا بالتزام هذه الضوابط وتنفيذها والاحتكام إليها.
هذه الضوابط جاءت لتحدد طبيعة هذه العلاقة بين الفرد وربه، وبين الفرد وغيره من الناس، وبين الفرد ونفسه ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا))، وإنها لتتدخل في أخصِّ خصائص حياة الفرد؛ حتى تكون حياته كلها ربانية، وبذلك يتحقق للفرد ما عجزت البشرية عن أن تحققه له اعتماداً على عقلها وإعمالاً لرأيها بعيداً عن الله.
هذه الضوابط ذخر بها كتاب الله تعالى وذخرت بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يألُ فقهاء هذه الأمة جهداً في استنباط الأحكام من هذه المصادر، وصاغوها في قواعد وقوانين تلبّي حاجة البشر مباشرة في كل مكان وزمان؛ وذلك تأكيداً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن القرآن: ((فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد))، وتلبية لحاجات النفس البشرية المختلفة، وحلاًّ لقضاياها حال تدنِّيها، وحال وسطيتها، وحال مثاليتها، وتلبيةً لحاجة المجتمعات في مرحلة البساطة ومرحلة التعقيد، ولعل هذا هو السر في أن يكون الإسلام هو دين آخر الزمان، وأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو آخر الرسل وخاتم النبيين.
هذه الضوابط المستقاة من الكتاب والسنة ــ والتي تأخذ صفة الإلزام، ويتوفر بموجبها للوالي حق الجزاء ــ نطلق عليها لفظ أحكام، وهذه الأحكام في مجملها تكوِّن الشريعة الحاكمة لسلوك الفرد والجماعة، الضابطة لتصرفات الراعي والرعية.
هذه الشريعة شاء الله تعالى أن تكون أحكامها في القرآن بصورة مجملة في كثير من جوانبها، كما كانت طبيعة الحياة وسنة الله في كونه أن تختلف ظروف حياة الأمم من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان في الزمان الواحد، وحتى تستجيب هذه الشريعة الخاتمة للرد على كل التساؤلات، وحل كل المشكلات التي تقابل الناس في حياتهم؛ كان لا بد أن تحتوي على قدر من المرونة يمكِّنها من ذلك، مرونة لا تفقدها فتصاب بالجمود، ولا تفرط فيها فينفرط عقدها.
لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض له المشكلة فيفتح الله عليه حلها وحياً يُتعبد بتلاوته في الكتاب، أو وحياً في السنة يحتكم إليه الناس دون تعبد بتلاوته، ((ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه))، ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي))؛ لهذا لم يتوقف الناس كثيراً أمام المشكلات التي تعترضهم والرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم. واختار الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جواره ولما يأذن الله لحياة الناس بانقضاء، وشاءت قدرته أن تستمر هذه الحياة فتفرز كل صباح جديد مشكلة تشبه أو تختلف عن مشكلة سابقة، والناس في مسيرهم لا بد لهم أن يقفوا على حل لهذه المشكلات، فكان أن قيّض الله لهذه الأمة علماء جعلهم ورثة لأنبيائه في علمهم، وكان أن خص الأمة الخاتمة بخصيصة لم يأذن بها لأمة سلفت، فجعلها جل في علاه لا تصدر عن رأى جماعي فيه ضلالة ولا شبهة ضلالة، ((لا تجتمع أمتي على خطأ، ولا تجتمع أمتي على ضلالة))، بل وكان مما خصها به أن جعل الاختلاف في استنباط الأحكام ــ بلا تعصب قطعاً ــ مظهراً من مظاهر رحمته بالأمة.
لكن ظن البعض أن هذا الاختلاف يعبِّر عن فرقة في الأمة، وشتات في رأيها وانقسام لكلمتها، وودوا لو سار الناس على نهج واحد، وذهب بعضهم إلى تحريم مظاهر الاختلاف، ووجوب حمل الناس على رأى احد.
وهذه الدراسة تعنى ــ إن شاء الله قدر المستطاع ــ بإزاحة الغبار عن هذه المسألة، وفهم مضمون الاختلاف فهمه الصحيح، وبيان سبب الوقوع فيه، وهل بالإمكان تلافيه، ثم بيان لحال من ذهب في الاختلاف مذهباً غير حميد، وما أفضى إليه موقفهم ذاك.
الفصل الأول
عناصر الاتفاق حول الأحكام الشرعية ومصادرها
مدخل:
يعرِّف الأصوليون الحكم الشرعي بأنه "خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين طلباً أو تخييراً أو وضعاً".
أما الفقهاء فيعرفونه بأنه "الأثر الذي يقتضيه خطاب الشارع في الفعل كالوجوب والحرمة والإباحة"([1]).(/1)
هذه الأحكام مصادرها الأساسية الكتاب والسنة وهي أعمال كلَّف الله بها العباد, هذه الأعمال تنقسم إلى قسمين:
الأول: معاملة بين الله والعبد:
وهي العبادات التي لا تصح إلا بالنية، وفيها عبادات محضة وهي الصلاة والصوم، وعبادة مالية واجتماعية وهي الزكاة، وعبادة بدنية اجتماعية وهي الحج، وقد اعتبرت هذه العبادات الأربع بعد الإيمان أساس الإسلام.
الثاني: معاملة العباد بعضهم مع بعض:
وهي أقسام:
(أ) مشروعات لتأمين الدعوة، وهي الجهاد.
(ب) مشروعات لتكوين البيوت، وهي ما يتعلق بالزواج والطلاق والأنساب والمواريث.
(ج) مشروعات لطريق المعاملة بين الناس، من بيع وإجارة وغير ذلك، وهي المعروفة بالمعاملات.
(د) مشروعات لبيان العقوبات على الجرائم وهي القصاص والحدود([2]).
أما هذه الأحكام من حيث الثبات والتغيُّر فإنها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول:
لا يتغير عن حالة واحدة عليها، لا بحسب الأمكنة، ولا الأزمنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقررة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
القسم الثاني:
ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له: زماناً، أو مكاناً، أو حالاً، كمقادير التقديرات وأجناسها وصفاتها؛ فإن الشارع ينوّع فيها بحسب المصلحة([3]).
هذه هي الأحكام المطلوب من الناس الالتزام بها، والوقوف عند حدودها، والمنع من تعدّيها, ولقد كان عدم الفهم وسوؤه هو السبب الأساس لاختلاط هذه الأحكام على كثير من الناس، واختلافهم عليها، ولقد كان ذلك بسبب فهم بعضهم لمراد هذه الأحكام بالإطلاق، وفهم بعضهم لها بالتخصيص، وتداخل الأمر على بعضهم في شأن الأحكام التي تحض على الفعل: هل هي للإيجاب؟ أم لمجرد الندب؟ والتي تنهى عن الفعل هل هي للتحريم؟ أم لمجرد الكراهة؟
وكان الخلط الذي وقع فيه البعض ــ كذلك ــ بشأن هذه الأحكام ناجماً عن تقبُّلهم للنص وتفسيره ودلالاته وما إليها.
وغني عن البيان أن نؤكد أن أحكام الدين إنما هي مستمدة من الكتاب والسنة؛ إذ إنهما وافيان بجميع أمور الدين، ولولا ذلك لما قال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) أي إلى الكتاب والسنة، ومن هنا نعلم أن مصادر الأحكام الشرعية الأساسية هي الكتاب والسنة.
(أ) المصدر الأول: الكتاب:
أما الكتاب فإنه قد اشتمل على أحكام اتصفت في مجملها بالعموم، وجاءت آياته في الأحكام محدِّدة للمدى الأوسع الذي يمكن أن ينطبق فيها الحكم، فآية كآية الزكاة (خذ من أموالهم) لم تبيِّن مثلاً أي الأموال، ولا مقدار المأخوذ، ولا ما يعتبر أموالاً مما لا يعتبر حسب التملك وغيره, ويمكن أن نقسِّم الأمور التي انتظمها القرآن الكريم إلى الآتي:
(1) أمور تتعلق بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذه مباحث علم الكلام أو أصول الدين.
(2) أمور تتعلق بأفعال القلوب والملكات، من الحث على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وهذه مباحث الأخلاق.
(3) أمور تتعلق بأفعال الجوارح، من الأوامر والنواهي والتخييرات، وهذه مباحث علم الفقه([4]).
وبما أن القرآن الكريم قد نزل لإصلاح أحوال العباد؛ فإن الأوامر النواهي التي اشتمل عليها لا بد وأن تحقق سعادة البشرية، (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلُّ لهم الطيبات ويحرِّم عليهم الخبائث)، وحتى يحقق القرآن هذه السعادة فإن أحكامه التشريعية قد روعي فيها:
(1) رفع الحرج. (2) قلة التكاليف. (3) التدرج في التشريع.
والجهل بهذه الأسس التشريعية يوقع الناس في خطل كثير وخطأ كبير، فلا بد للمحتكم للقرآن أن يراعي هذه الأسس كما أن عليه أن يلمَّ إلماما تاماً بما يلي:
(1) اللغة التي نزل بها القرآن، والأساليب اللغوية التي استخدمها القرآن، في الطلب، والتخيير، والكف.
(2) المكي والمدني من الآيات؛ لما لكل نوع منها من مميزات الإلمام بها يساعد على استنباط الحكم.
(3) الناسخ والمنسوخ.
(4) أسباب النزول.
(5) أنواع الأحكام "اعتقادية، خلقية، عمومية".
(6) دلالة آياته وهل هي قطعية أم ظنية؟
فمعرفة هذه الأمور والإلمام بها هي الأساس الذي يرتكز عليه الفرد في معرفة مراد الله تعالى من كلامه، حتى لا يقول فيه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
(ب) المصدر الثاني: السنة:
أما السنة فهي في الاصطلاح الشرعي فهي ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقريراً([5])، وقد جاء في التنزيل الحكيم قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربك)، وقوله: (وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون)، وقوله: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، وقوله: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)، وقوله: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله).(/2)
هذه الآيات وغيرها يمكن أن تساق كأدلة على حجية السنة واعتبارها مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي، وهي في ذلك تلي القرآن الكريم في المرتبة. وموقف السنة من القرآن الكريم يمكن أن يتمثل في الآتي:
(1) تأكيدها لما ورد من أحكام القرآن الكريم، كتأكيدها للأوامر والنواهي والمعاملات.
(2) تفصيلها لمجمل ما ورد في القرآن الكريم من أحكام, كتفصيلها لأحكام الصلاة والصيام والمعاملات.
(3) إنشائها لأحكام سكت عنها القرآن الكريم, كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها... إلخ.
والساعي لمعرفة ما ورد عن أحكام في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم, لا بد له من الإلمام التام ببعض جوانبها:
(1) كحاجته للإلمام بأسانيد السنة، ومعرفة المتواتر والمشهور منها، والفرق بينهما وسنة الآحاد، وما يعتبر قطعياً وما يعتبر ظنياً، والفرق بين قطعي الدلالة ظني الثبوت، وظني الدلالة قطعي الثبوت، وظني الثبوت ظني الدلالة، وقطعي الدلالة قطعي الثبوت.
(2) كما لا بد له من الإلمام بما يعتبر تشريعاً منها، وما يعتبر عملاً خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بأحد الناس.
(3) كما لا بد له من معرفة المواقف والحالات التي قال فيها صلى الله عليه وسلم ذلك القول، أو قام بالفعل، أو أقر عليه؛ فإن بعض ما قام به في السفر مثلاً يمكن ألا يعتبر حكماً في الحضر وهكذا.
(4) وتكون معرفة الفقه عاملاً مشتركاً في فهم الكتاب والسنة على حد سواء, واللغة المقصودة هنا ــ بالقطع ــ ليست هي ما اصطلح عليه من لغة العصر الحالي، إنما هي لغة واصطلاح العصر الذي عاش فيه النبي صلى الله عليه وسلم، والطريقة التي كان يعبر بها عن الأشياء والمفاهيم([6]).
(ج) المصادر الأخرى:
إن الحديث عن الكتاب والسنة كمصدرين من مصادر التشريع الإسلامي ذهب ببعضهم للفهم بأنه ليس ثمة مرجع أو مصدر يعوَّل عليه في أخذ الأحكام التشريعية, ولعل ظاهر كثير من النصوص القرآنية والنبوية يحمل على هذا الفهم؛ ولهذا قال قائلهم: "وعندي أن من استكثر من تتبع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وجد فيها كل ما يطلبه من أدلة الأحكام التي يريد الوقوف على دلالها كائناً من كان"([7]), والقول هنا للإمام الشوكاني رضي الله عنه في معرض رده على ما ذكره الماوردي من أن أصول الشريعة أربعة، والشوكاني يريد أن يصل بقوله هذا إلى إنكار حجية الإجماع والقياس, ويخالفه في هذا الرأي جمهور الأئمة, إذ لا خلاف بينهم في أن الإجماع والقياس تعتبر مصادر لأحكام الشريعة بعد الكتاب والسنة. وفي حجية الإجماع والقياس يسوق شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب معارج الوصول القول على هذا النحو:
"أما إجماع الأمة فهو في نفسه حق لا تجتمع الأمة على ضلالة، وكذلك القياس الصحيح حق, فإن الله بعث رسله بالعدل، وأنزل الميزان مع الكتاب، والميزان يتضمن العدل وما يعرف به العدل, وقد فسروا إنزال ذلك بأن ألهم العباد معرفة ذلك، والله ورسوله يسوِّي بين المتماثلين، ويفرق بين المختلفين وهذا هو القياس الصحيح"([8]).
وقد استطرد كثيراً في بيان حجية القياس والإجماع، حتى إنه ليقيم الأدلة النقلية والعقلية على ذلك، ومما ساقه كدليل عقلي قوله: "فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك، ولم تنه عن المنكر فيه، والله يقول: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، وقال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً), والوسط العدول الخيار، وقد جعلهم الله شهداء على الناس، وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال: ((وجبت، وجبت))، ثم مرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها شراً فقال: ((وجبت، وجبت))؛ قالوا: يا رسول الله، ما قولك وجبت؟ قال: ((هذه الجنازة أثنيتم عليها خيراً فقلت وجبت لها الجنة, وهذه الجنازة أثنيتم عليها شراً فقلت وجبت لها النار, أنتم شهداء الله في الأرض))" ([9]).
وممن ذهب إلى القول بعدم حجية القياس ابن حزم الأندلسي أحد أئمة الظاهرية وفي ذلك يقول: "ثم حدث القياس في القرن الثاني؛ فقال به بعضهم وأنكره سائرهم وتبرؤوا منه، وهو الحكم فيما لا نص فيه بمثل الحكم فيما فيه نص أو إجماع, فقال حُذّاقهم: لاتفاقهما في علة الحكم، وقال بعضهم: لاتفاقهما في وجه الشبه. قلنا هذه قضية باطلة لوجوه: أحدها قولهم: فيما لا نص فيه. وهذا معدوم لأن الدين كله منصوص عليه, وثانيها: أنه حتى لو وجد لما جاز أن يحكم بذلك لأنه دعوي بلا برهان, وثالثها قولهم: لاتفاقهما في علة الحكم, ولا علة لشيء من أحكام الله تعالى؛ إذ دعوى العلة في ذلك قول بلا حجة"([10]).(/3)
فالذي يريد أن يقول في الدين برأي لا بد له أن يعلم بكل ذلك والأسس التي بني عليها, هذا بالإضافة إلى حاجته للإلمام ببقية أصول الشرع ــ غير الأربعة المتقدمة ـــ, ولم نقف عندها كثيراً لكثرة ما دار حولها من خلاف بين الفقهاء. "أما الاستحسان، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، وشرع من قبلنا، ونحو ذلك مما ذكروه في كتاب الاستدلال فليست من الأصول المتفق عليها، بل هي من فروع تلك الأصول عند من يرى الاستدلال بها"([11]).
وتأكيداً لهذا الفهم السابق يذهب الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف إلى القول بأنه: "ثبت بالاستقراء أن الأدلة التي تستفاد منها الأحكام العملية ترجع إلى أربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس, وهذه الأدلة الأربعة اتفق جمهور المسلمين على الاستدلال بها, واتفقوا أيضاً على أنها مرتَّبة في الاستدلال بها هذا الترتيب: القرآن، فالسنة، فالإجماع، فالقياس, أي أنه إذا عرضت واقعة ننظر أولاً في القرآن فإن وجد فيه حكمها أمضى، وإن لم يوجد فيه حكمها ننظر في السنة، فإن وجد فيها حكمها أمضى، وإن لم يوجد فيها حكمها ننظر: هل أجمع المجتهدون في عصر من العصور على حكم فيها؟ فإن وجد أمضى, وإن لم يوجد اجتهد في الوصول إلى حكم لها بقياسها على ما ورد النص بحكمه.
أما البرهان على الاستدلال بها فهو قوله تعالى في سورة النساء: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)، وأما الدليل على ترتيبها في الاستدلال بها هذا الترتيب, فهو ما رواه البغوي عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن فقال: ((كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟))؛ قال: أقضي بكتاب الله؛ قال: ((فإن لم تجد في كتاب الله؟))؛ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((فإن لم تجد في سنة رسول الله؟))؛ قال: اجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله)) ([12]).
هذا الحديث ضعفه ابن حزم حيث جاء في كتابه (ملخص إبطال القياس) ما نصه: "وأما حديث معاذ فغير صحيح لأنه عن الحارث بن عمرو الهزلي الثقفي ابن أخ المغيرة بن شعبة ولا يدري أحد: من هو؟ ولا نعرف له غير هذا الحديث عن رجال من أصحاب معاذ لا ندري من هم. وهوّه قوم فقالوا: هذا منقول نقل التواتر، وهذا كذب لأنه لا يعرف إلا عن أبي عون وما احتج به أحد من المتقدمين رواه عن أبي عون أبو اسحق الشيباني وشعبة, ورويناه عن شعبة عن أبي عون عن ناس من أصحاب معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ... فذكره وحدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي: حدثني شارح ثنى إبراهيم بن أحمد بن فراس: نا محمد ابن علي الصائغ ثنى سعيد بن منصور ثنى أبو معاوية الضرير ثنى أبو إسحق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي هو أبو عون قال: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن... " فذكره. إلا أن هذا الحديث يعتبر من مشهور ما ذكره أبو داود في سننه, كما ورد في سنن الدارمي"([13]).
الفصل الثاني
أسباب الاختلاف ومتى يكون صحياً؟
مدخل:
إذا كان قد ثبت أن مصادر الأحكام الشرعية متفق عليها ــ على الأقل في الأربعة الأولى منها ــ وإذا كان الله تعالى هو الذي أنزل القرآن وجعله تكليفاً لعباده، والكتاب واحد، والنبي واحد، والرب واحد، والأمة واحدة، واللغة واحدة, فإذا كان ذلك كذلك فلماذا يأتي الخلاف؟ وهل هذا الخلاف يعتبر ظاهرة مرضية؟ وكيف يمكن الإفادة منه إذا تبين أنه لا محالة واقع؟ ثم ما هي الأسس التي يمكن الاحتكام إليها للتأكد من صحة الحكم المعين وسط مختلف الأحكام؟ هذا ما سأحاول الإجابة عليه هنا مستعيناً بالله تعالى.
(أ) أسباب الاختلاف:
لم يكن الاختلاف في الآراء شيئاً غريباً على حياة المسلمين، ولم يكن هذا الاختلاف مدعاة لشقاق بينهم, فقد كان طبعياً أن يحدث الاختلاف في الرأي, فقد ظهرت صور من الاختلاف في الرأي والأمة لا تزال قريبة عهد برسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان هذا الاختلاف مظهراً حيوياً في حياتهم, والاختلاف في الرأي حول المسائل الشرعية له ما يبرره، وهناك من الأسباب ما يجعله أمراً لا فكاك منه. وهذه الأسباب هي:
(1) اختلاف بسبب اعتماد المصادر:(/4)
بدا لنا جلياً أن جمهور العلماء ــ وإن كان قد اتفقوا على المصادر الأساسية الأربعة: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس ــ قد اختلفوا في قبول المصادر الأخرى: الاستحسان، والمصالح المرسلة، والعرف، والاستصحاب، وشرع من قبلنا، ومذهب الصحابي، وما إليها، بل أن بعضهم قد رأى رأياً في القياس ــ وقد عرضنا ذلك في موضع متقدم من هذا البحث ــ كرأي ابن حزم في إبطاله وعدم الأخذ به كمصدر للتشريع، واستدل على حجته هذه بثلاثة عشر أثراً ضمنها كتابه (ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل)، وختم كتابه هذا بقول جامع في هذه الأصول بقوله: "من المحال الباطل أن يكون الله يأمرنا بالقياس أو التعليل أو بالرأي أو التقليد ثم لا يبين لنا: ما القياس؟ وما التعليل؟ وما الرأي؟ وكيف يكون كل ذلك؟ وعلى أي شيء نقيس؟ وبأي شيء نعلل؟ وبرأي من نقبل؟ ومن نقلد؟ لأن هذا تكليف ما ليس في الوسع"([14]).
غير أنه تصدى عدد كبير من الفقهاء, وعلماء الأصول وردوا على مثل هذه الآراء إثباتاً للقياس ونفياً للشبه حوله. ولقد كان للإمام الشافعي رحمه الله (150هـ ــ 204هـ) في كتابه (الرسالة) ــ الذي يعتبر أول كتاب أصَّل الأصول وقعّد القواعد ــ أقوال في إثبات القياس يطمئن المرء إليها كثيراً, فقد جاء في هذه الرسالة قوله: "كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم, أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة, وعليه إذا كان فيه بعينه حكم اتباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد والاجتهاد القياس"([15]).
إذاً فالاختلاف في اعتماد المصدر المعين ورفضه قد يفضي إلى اختلاف في الأحكام المستنبطة، فالذين يعتمدون القياس مثلاً جوّزوا المزارعة قياساً على ما كان في خيبر, والذين لا يعتمدون القياس لم يجوزوها وهكذا. ويقال مثل ذلك في بقية المصادر.
(2) الاختلاف حول الاستنباط من المصدر الواحد:
وحتى المصدر المعتمد عند كل الأطراف يحدث أن يختلف عليه لسبب أو لآخر:
(أ) القرآن:
مع اتفاق الناس على اعتماده مصدراً أساسياً يحتل المرتبة الأولى بين المصادر، يحدث أن يكون اختلاف حوله؛ وذلك لأسباب ثلاثة:
(1) قد يرد لفظ يحمل معنيين، كاختلافهم في فهم القرء من قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)، ففهم عمر وابن مسعود أنه الحيضة، وفهم زيد بن ثابت أنه الطهر.
(2) قد يرد حكمان مختلفان لموضوعين يُظن أن يشمل أحدهما بعض ما يشمله الآخر فيتعارضان في ذلك الجزء، ومثل ذلك آية معتدة الوفاة، فقد أوجبت أن تتربص أربعة أشهر وعشراً ويظن شمولها للحامل, وآية الطلاق جعلت عدة الحامل وضع الحمل فمعتدة الوفاة الحامل مترددة بين أن تشملها الآية الأولى فيجب عليها أن تتربص أربعة أشهر وعشراً، وإن وضعت حملها قبل ذلك وبين أن تكون عدتها وضع الحمل ولو لم تتربص تلك المدة عملاً بآية معتدة الطلاق, قال بكل من الرأيين بعض كبار الصحابة([16]).
(3) قد يكون الاختلاف بسبب فهم الحادثة التي كانت سبباً في النزول والموقف من قضية الناسخ والمنسوخ في النصوص وما يمكن أن يترتب عليها من حكم، كما أن معرفة سبب ومكان وزمان النزول تساعد في فهم الأحكام التي تنسخ بعضها البعض، "والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى؛ لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وكلهم قال بوقوعه. وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر: لم يقع شيء من ذلك في القرآن. وقوله ضعيف مردود مرذول. وقد تعسف في الأجوبة عما وقع فيه النسخ, فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول لم يجب على ذلك بقول مقبول, وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة من بيت المقدس لم يجب بشيء"([17]).
(ب) السنة:
أما السنة فإن الاختلاف فيها يقع للأسباب الآتية:
(1) اختلافهم في اعتماد المصدر المعين الذي ورد الحديث عن طريقه، فقد يصحح بعضهم الحديث ويضعفه البعض الآخر، وذلك لما توفر لكل طرف من معلومات عن متن الحديث وسنده.
(2) كما قد ينشأ الخلاف حول السنة في اعتماد أنواع معينة من الأحاديث كأحاديث الآحاد.
(3) كما قد يعرض الخلاف لتفسير النص وحمله على المعنى المعين.
ويرى ابن تيمية أنه قد يحدث أن يصدر قول عن صحابي أو عالم فقيه يخالف حديثاً صحيحاً، ويجد ابن تيمية عذراً لهذا النوع من الناس يلخصها في أعذار ثلاثة:
أولاً: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم قاله (أي الحديث).
ثانياً: اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
ثالثاً: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وهذه الأصناف الثلاثة عنده تتفرع إلى أسباب عدة ملخصها:
السبب الأول:(/5)
أن لا يكون الحديث قد بلغه، وهذا السبب هو الغالب على الأكثر مما يوجد في أحوال السلف, وقد كان صلى الله عليه وسلم يحدّث أو يفتي أو يقضي أو يفعل الشيء فيسمعه أو يراه من يكون حاضراً، أو يبلغه أولئك أو بعضهم لمن يبلّغونه، فينتهي ذلك إلى من شاء الله من العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم, فخفاء بعض السنة على البعض لا يحتاج لبيان, فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة أو إماماً معيناً فهو مخطئ خطأً فاحشاً قبيحاً, ولا يقولن قائل إن الأحاديث دُوِّنت وجمعت فخفاؤها والحال هذه بعيد؛ لأن هذه الدواوين المشهورة في السنة إنما جُمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين، ومع هذا فلا يجوز ادعاء انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في دواوين معينة، ثم لو فرض انحصار الحديث فيها فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط علماً بما فيها, ولا يقولن قائل فمن لم يعرف الأحاديث لم يكن مجتهداً لأنه إن اشترط في المجتهد علمه بجميع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وفعله مما يتعلق بالأحكام فليس في الأئمة مجتهد, وإنما غاية العالم أن يعلم جمهور ذلك أو معظمه بحيث لا يخفى عليه إلا القليل من التفصيل, ثم قد يخالف ذلك القليل من التفصيل الذي لم يبلغه فيكون معذوراً.
السبب الثاني:
أن يكون قد بلغه الحديث لكن لم يثبت عنده, أو لم ينضبط له لفظ الحديث ولهذا وجد في كلام غير واحد من الأئمة تعليق القول بموجب الحديث على صحته، فيقول قولي في المسألة كذا وقد روي فيها حديث بكذا فإن كان صحيحاً فهو قولي.
السبب الثالث:
اعتقاد ضعف الحديث وقد خالفه فيه غيره مع قطع النظر عن طريق آخر سواء كان الصواب معه أو مع غيره أو معهما عند من يقول: كل مجتهد مصيب.
السبب الرابع:
اشتراطه في خبر الواحد العدل الحافظ شروطاً يخالفه غيره, مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على الكتاب والسنة, واشتراط بعضهم أن يكون المحدِّث فقيهاً إذا خالف قياس الأصول, واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان فيما تعم به البلوى إلى غير ذلك إلى مما هو معروف.
السبب الخامس:
أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده لكن نسيه.
السبب السادس:
عدم معرفته بدلالة الحديث تارة لكون اللفظ الذي في الحديث غريباً عنده كألفاظ المزابنة والمحاقلة والمخابرة والملامسة المنابذة والغرر.
السبب السابع:
اعتقاده أن لا دلالة في الحديث، والفرق بين هذا والذي قبله: أن الأول لم يعرف جهة الدلالة، والثاني عرف جهة الدلالة لكن اعتقد أنها ليست دلالة صحيحة بأن يكون له من الأصول ما يرد تلك الدلالة.
السبب الثامن:
اعتقاده أن تلك الدلالات قد عارضها ما دلَّ على أنها ليست مرادة، مثل معارضة العام بخاص، والمطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب، والحقيقة بما يدل على المجاز.
السبب التاسع:
اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله([18]).
(3) الاختلاف حول اعتماد الرأي ورفضه:
وينشأ الخلاف حول الرأي نسبة لأن بعضهم لم يعتمده أساساً ولم يعتد به، وقد ذهب الظاهرية في ذلك المذهب أقصاه وقد ذكر ابن حزم في كتابه (ملخص إبطال القياس) ستة وأربعين أمراً في إبطال الرأي.
وقد ذهب نفس هذا المذهب الإمام أحمد حيث يقول فيما رواه عنه ابنه عبد الله: "لا تكاد ترى أحداً نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل, والحديث الضعيف أحب إليّ من الرأي"([19]).
وقد أُثر عن الصحابة أنهم كانوا يفتون بالرأي، وتختلف الآراء عندهم نسبة لأن رأي الواحد منهم ينشأ أساساً اعتماداً على ما يراه من أن الحكم عنده أقرب إلى روح التشريع ويحقق المصلحة, وهذه مسألة يختلف التقدير فيها من فرد لآخر.
قد كان أبو حنيفة وأصحابه يأخذون بالرأي الذي لا بد منه، وفي هذا يقول محمد صاحب أبي حنيفة: "لا يستقيم الحديث إلا بالرأي، ولا يستقيم الرأي إلا بالحديث"([20]).
والرأي عند ابن قيم الجوزية ثلاثة أقسام:
(1) رأي باطل بلا ريب، وقد ذمه السلف، ومنعوا العمل به.
(2) رأي صحيح، استعمله السلف، وعملوا به، وسوغوا القول به.
(3) رأي هو موضع اشتباه، سوغوا العمل به عند الاضطرار حيث لا يوجد منه بدٌّ، ولم يلزموا به أحداً ولم يحرّموا مخالفته([21]).
وقد قسم ابن القيم كل نوع من هذه الأنواع إلى أقسام مختلفة:
فالرأي الباطل عنده ينقسم إلى:
(1) مخالف للنص:
(2) كلام بالخرص والظن والتعقيد في معرفة النصوص.
(3) متضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله.
(4) رأي أحدثت به البدع وغيّرت به السنن.
(5) القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات، وغيرها.
أما الرأي المحمود فينقسم عنده إلى:(/6)
(1) رأي أفقه الأمة، وأبرهم قلوباً، وأعمقهم علماً، وأقلهم تكلّفاً، وأصحهم مقصداً، وأكملهم فطرة، وأتمهم إدراكاً، وأصفاهم أذهاناً، وهم الصحابة الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم.
(2) الرأي الذي يفسِّر النصوص، ويبيِّن وجه الدلالة فيها، ويقررها ويوضح محاسنها، ويسهل طريق الاستنباط منها.
(3) الرأي الذي تواطأت عليه الأمة، وتلقاه خَلَفهم عن سلفهم؛ فالأمة معصومة فيما تواطأت عليه من روايتها ورؤياها.
(4) أن يكون بعد طلب علم الواقعة من القرآن، فإن لم يجده ففي السنة, فإن لم يجده فبما قضى به الخلفاء الراشدون أو اثنان أو واحد منهم, فإن لم يجد فبما قاله واحد من الصحابة, فإن لم يجد يجتهد رأيه وينظر أقرب ذلك من الكتاب والسنة وأقضية الصحابة([22]).
(ب) متى يكون الخلاف صحياً؟
حثت كثير من آيات القرآن الكريم على الوحدة في الصف واتفاق الكلمة، قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا)، وقال تعالى: (ولتكن منكم أمة)، وحذر من الاختلاف فقال: (ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءههم البينات واولئك لهم عذاب عظيم), وهي ــ أي الوحدة ــ شيء طبيعي في أمة يفترض فيها قيادة البشرية. إذاً لا مكان للفرقة والشتات, فالاختلاف المفضي لهذه الفرقة والشتات يعتبر عملاً مخالفاً لروح الدين الإسلامي، وبالتالي فإن الله تعالى أوجب على ولي الأمر أن يوقفهم عند حدودهم، ويأخذ على أيديهم حفاظاً على وحدة الأمة, لهذا السبب فقد قاتل أبوبكر رضي الله عنه المرتدين وقاتل عليٌ رضي الله عنه الخوارج، وهكذا.
ذلك نوع من أنواع الاختلاف لا توافق عليه الشريعة، ولا تعتبره مظهراً صحياً، بل تعتبره مظهراً مرضياً، تضع في يد الحاكم أسباب علاجه ابتداءً من المعاملة بالحسنى الى البتر والإقصاء. ولكن هناك نوع من الاختلاف إذا انعدم من حياة الناس أصابها الشلل والتوقف, وعلى هذا فإن من صور الاختلاف ما يعتبر صحياً بل لازماً لإنعاش حياة الأمة، والفقه الذى خلّفه سلف هذه الأمة كان كله نتيجة تقابل في الآراء، اندثر منها ما لم يقوَ على الاستمرار، وبقى ما أشبعه أصحابه بالحجة والمنطق, ولعل حضارة لم تتوافر فيها من الألفاظ الدالة على اختلاف الرأى كما توافرت في الحضارة الإسلامية، فوجدنا ألفاظ المحاورة والمناظرة والحجة والبرهان والتعليل بقدر وافر ما يؤكد هذه الحقيقة، والاختلاف في الرأي هذا لم يفضِ إلى نزاع بين الجماعات ولا إلى فرقة في الكلمة، ولم تكن مذاهب الأئمة أدياناً بجانب الإسلام، كما هو الحال عند النصارى، فقد صارت الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية وكأنها ديانات توازن النصرانية، ولا تلاقى بين هذه المذاهب، ولقد كان أئمة المذاهب في الإسلام يجلس بعضهم إلى بعض يحاوره ويناظره، ويفترق الخصمان (تجوُّزاً) وكل منهما يحمل لأخيه من الحب أكثر مما لقي صاحبه عليه.
تأمل معي هذه المناظرة التي انعقدت بين أبى حنيفة النعمان ووفد من الخوارج:
"قدم وفد من الخوارج على أبى حنيفة في المسجد، وكان مذهبهم تكفير مرتكب الكبيرة, فسألوا أبا حنيفة:
هاتان جنازتان على باب المسجد, أما إحداهما فجنازة رجل شرب الخمر حتى كظته وحشرج بها فمات، والأخرى امرأة زنت حتى أيقنت بالحمل فقتلت نفسها؛ فما الرأى فيهما؟
أبو حنيفة: من أي الملل كانا.. أمن اليهود؟
ــ: لا.
ــ: أمن النصارى؟
ــ: لا.
ــ: فمن أي الملل كانوا؟
ــ: من الملة التي تشهد أن لا أله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.
ــ: فأخبروني عن هذه الشهادة: أهي من الإيمان ثلث أم ربع أم خمس؟
ــ: أن الإيمان لا يكون ثلثاً ولا ربعاً ولا خمساً.
ــ: فكم هي من الإيمان؟
ــ: الإيمان كله.
ــ: فما سؤالكم إياي عن قوم زعمتم وأقررتم أنهما كانا مؤمنين"([23]).
وقد اخترت هذه القصة لأدلِّل بها على أن الحوار المستند إلى الحجة والمنطق يمكن أن يكون صحياً ومثرياً للفقه الإسلامي، حتى ولو كان مع فرقة مارقة كالخوارج، ولو التزم الخوارج هذا المنهج في بذل الحجة وقبلوها لما خرجوا عن الصف، إلا أنهم أرادوا أن يخرسوا كل فم لايقول بقولهم، وكل عقل لا يفهم فهمهم ظناً منهم أن ذلك هو روح الدين وخلاصته، فحق عليهم قول القائل إنهم "قوم أرادوا الجنة فأخطأوا اليها السبيل".
والاختلاف في الرأى أمر طبيعي؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل الناس مختلفين في قدراتهم وملكاتهم وطاقاتهم، وتمشياً مع هذا النسق في الاختلاف لم يشأ أن يلزمهم كلهم بأمر واحد، يدركه بعضهم ويجهله البعض الآخر، يطبقه بعضهم ويصعب على الباقين، فلو كان الأمر كذلك لأعنت الناس بعضهم بعضاً، فكان لا بد أن يختلف الرأي عند الناس حول المسألة الواحدة، وذلك مظهر من مظاهر رحمة الله بعباده.(/7)
ثم أن شريعة طُلب إليها أن تحكم حياة الناس من لدن محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، في عالم تختلف أمكنته وأزمنته وطبائع الناس فيه لا بد أن تتيح قدراً من الاختلاف في الفهم والتطبيق؛ حتى تكون مرونتها هذه مدعاة لاستمراريتها، وفق الإطار العام الذى حددته أحكام الشريعة، وتواطأت عليه الأمة، في غير جهالة ولا شبهة ضلال.
ولولا اختلاف الأراء لما حفل الفقه الإسلامي بهذا القدر الوافر من الحلول التي تتناسب مع كل الظروف، ولا يجد المرء نفسه قد خرج ببساطة من دائرة الدين لعدم التزامه في عمل من أعماله برأى منسوب للدين، والتاريخ الإسلامي حافل بالمواقف الدالة على أن اختلاف الرأي كان شيئاً مقبولاً، ويكفينا في هذا المجال أن نشير إلى حادثة واحدة كان الحكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وهي حادثة بني قريظة حينما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بقوله: ((لايصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة))، واختلفت آراؤهم حول هذا الأمر, هل هو للحث أم لا بد من الالتزام الحرفي به تحت كل الظروف، وقد أجاز الرسول صلى الله عليه وسلم كلا الرأيين، وما يهمنا هنا إجازته لمبدأ الاختلاف في الفهم وترتيب العمل عليه.
فلو تعسفنا في الحكم على هذه الحادثة ووقف كل أهل رأي يلتزمونه ولا يحيدون عنه لكفَّر الناس بعضهم بعضاً، فاحتج فريق على الآخر بأنكم خالفتم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقعتم تحت طائلة الآية (ومن يشاقق الرسول...الآية)، ولاحتج الفريق الثاني على الأول بأنكم أخَّرتم صلاة مفروضة من عند الله تعالى عن وقتها (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا). يحدث هذا إذا ألزمت كل فرقة الأخرى بما ترى، فكم كان صلى الله عليه وسلم رحمة بالأمة، والرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيها كان بإمكانه أن يقف مع رأي وتصبح القضية محسومة، وتخرج عن دائرة الرأى إلى دائرة الفصل، أقول: كم كان رحمة بالأمة أن مرَّت هذه الحادثة دون أن تحجر فرقة على أختها وتحملها على ما ترى.
إذاً إذا كان الاختلاف لتحقيق هذه الرحمة، ولرفع ذلك العنت؛ فإنه يصبح مظهراً صحياً، وواجباً حيوياً تلزم الأمة به؛ حتى تجدد للدين شبابه، وتعيد ثقة الناس فيه. على أن لا يكون الرأى في ذلك بالهوى واتباع الشيطان, وقد تقدم بيان ذلك.
الفصل الثالث
ضوابط الافتراق
مدخل:
رغم ما أشرنا إليه من أن الخلاف يمكن أن يكون مفيداً ومثرياً للفقه وللحياة العامة، إلا أن نفوس البشر تنزع إلى الافتراق والشتات، ويكون حينها الافتراق أمراً حتمياً، فإن هو وقع فلا يظن ظان أن الشريعة تنحت وتركت الأمر للأفراد يعملون لأنفسهم ما يشاءون ويشرعون لها ما يحكمها حال افتراقها، ولكن الشريعة التي عالجت كافة جوانب الحياة، لها قول ورأي حتى عند الافتراق، وقولها عند الافتراق ألزم، ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))، لذلك لا بد من ضوابط ولا بد من اجتهاد لإحالة قدر الاختلاف إلى منفعة، ولا بد من معرفة الأسس التي يمكن أن نميز بها الحق من الباطل.
(أ) ما هي ضوابط الاختلاف حول المسائل الفقهية؟
يعتبر الخلاف في الرأى عملاً صحياً ومثرياً للفقه الإسلامي إذا التزم الضوابط الآتية:
أولاً: إذا بُني هذا الخلاف في الرأي على أسس الدين ومصادره، وعمل على استنباط الأحكام منها من غير إفراط في تتبع الحرج وفرضه على الناس، ومن غير تفريط في تتبع الرخص.
ثانياً: إذا التزم منهجاً علمياً في البحث يتحرى الدقة، ويقلب الأراء، وألا يكون إرضاءً لجماعة، أو اتباعاً لهوى، أو مسايرة لمزاج فردي.
ثالثاً: أن يعين الناس بعضهم البعض فيما اتفقوا فيه من الآراء، وأن يعذر بعضهم بعضاً فيما اختلفوا فيه.
رابعاً: أن يلتزم كل فريق في طرح حجته وإبانة رأيه جانب الأدب الإسلامي في مخاطبة الأخرين، فلا يرميهم بالتهم، ولا يكيل لهم السباب، ولا يصفهم بالقصور، بل يلتمس لهم الأعذار.
خامساً: الأمانة في عرض الرأي والرأي المقابل، وأن لا يجتزأ كل فريق من النصوص ما يوافق رأيه ويعمل على تناسي وبتر الجزء الذى لا يدعم رأيه, وأن لا يتحامل كل فريق في صرف معنى النص المتفق عليه من الطرفين إلى المعنى الأقرب لرأيه، سيما إذا كان ذلك النص لا يحتمل هذا التحامل.
سادساً: أن يكون الدخول في الخلاف أساساً لمرضاة الله تعالى،لا رياء ولا تسمعاً، وأن يتحلى الجانبان بالورع والتقوى، وإلا فإن الخلاف سيكون جدلاً ((ما ضلَّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)).
إذا التزم الناس هذا السلوك في خلافاتهم الفقهية فلا شك أن خلاصة الأمر ستكون آراءً ناصعة، وحججاً مبينة، وإرثاً فقهياً تفخر به الأجيال, وإلا فإن المسألة ستعمق من حجم الفرقة بين الأفراد والجماعات فيما لا طائل وراءه، وستكون فتنة ((القاعد فيها خير من القائم)).
(ب) كيف يمكن الإفادة من الافتراق إذا ثبت أنه لا محالة واقع؟(/8)
قلت: إن الاختلاف في الآراء شيء لازم لبيان حيوية الدين، واستجابته لمطالب الحياة والتفاعل معها, ولكن إذا أفضى هذا الاختلاف إلى فرقة وشقاق، وتبين أن هذا الأمر لا محالة واقع فإن الأمة الكيسة الفطنة يمكن أن تفيد من هذا الاختلاف أيضاً، وقد يبدو هذا القول غريباً ولكن على غرابته يمكن تصوره.
إن الله يعلم أن هذا الخلاف لا بد وأن يفضى في بعض صوره إلى شقاق، والآيات الدالة على ذلك من القرآن الكريم كثيرة (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) فهذا الاقتتال يمكن أن يكون مؤسساً على فهم معاكس لبعض حقائق الدين، بل أذهب إلى أن الخلاف حتى لو كان في أساس الدين لأمكن الإفادة منه، وهذا وارد مصداقاً لقوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين).
وأقوى دليل أسوقه في بيان ما ذهبت إليه دليل مأخوذ من التارخ الإسلامي، فإن فقهاً نشأ أثناء حروب الردة وفقهاً نشأ في فترات مختلفة من التاريخ الإسلامي ما كان له أن يظهر وينشأ لولا هذه الخلافات، بل أن مفكرين وفقهاء إسلاميين ما كان يقدر لنا معرفتهم والإفادة من آرائهم لولا هذه الخلافات، فأسماء مشهورة كابن تيمية وابن القيم وغيرهم أكثر ما عرفناه عنهم أنهم تصدوا في العقيدة والشريعة لفرق ضلت وأضلت، فأنشأوا في الرد على هؤلاء فقهاً لا يستطيع واحد من الناس أن ينكر أثره في إثراء الفقه وبيان حقيقة الدين.
فإذا كان الفقه المتولد نتيجة الرد على فرقة ضالة قٌدِّر له أن يثرى الحياة العلمية الإسلامية، وهو فقه من جانب واحد، أي أن ما يمكننا الإفادة منه والاعتماد عليه هو الفقه الذى قدمه ويقدمه الجانب الملتزم الفكر الإسلامي دون تحريف أو تغيير، فكيف بنا والحوار بين جهتين ملتزمتين روح الدين ترتكزان على أرضية واحدة، لا شك أن ما سيتمخض عن هذا الاختلاف سيكون خيراً وبركة على الأمة، وهذا لا يتحقق إلا إذا التزمت الفرقتان بما أشرت إليه في الصفحات السابقة من ضوابط؛ لأن الخروج عنها ــ في يقيني ــ يجعل الخلاف مجرد مراء ((والمراء لا يأتي بخير)).
(ج) الأسس التي يمكن الرجوع إليها لتمييز الحق من الباطل:
عند تعرضنا للحديث عن المصادر التي تعتمد عليها الأحكام الشرعية استطردنا في الحديث عن الكتاب والسنة بحسبانهما المصدرين الأساسيين لاستنباط الأحكام، وهما بهذه الوضعية يعتبران الأساس الذي على المتخالفين في الرأى الرجوع إليهما والاحتكام إلى ما فيهما لتأييد حجة كل منهما.
والبراهين القطعية في ذلك لا تحصى:
يقول تعالى: (ياأيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول). ويقول تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولِي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)، ويقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم). ويقول: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً). والأدلة أكثر من أن تحصى.
إذاً فالأساس الذى يُرجع إليه للتأكد من صحة الرأي أو الرأي المقابل هو القرآن والسنة، وإن لم يكن ذلك ممكناً فإن ميراثاً فقهياً ثراً ينتظرنا من سلف الأمة الصالح يمكن التعويل عليه للفصل في الاختلافات الناشئة بين وجهات النظر المختلفة, وأن لم يحتوِ ذلك الفقه على حل لتلك المسألة، وهذا قول في رأيي فيه كثير من التجاوز، فإن الاعتماد على قواعد عامة في الدين الإسلامي تكون هي الفيصل كقاعدة: (لا ضرر ولا ضرار)، وقاعدة: ((الأصل في الأشياء الإباحة))، وغيرها من القواعد المعتبرة التي عليها مدار التشريع الإسلامي كله.
الخاتمة
وتبقى كلمة أخيرة أشهد الله عليها:
أننى ما اخترت هذا الموضوع إلا لما يكتنف مجتمعاتنا اليوم من جدل يخفت أحياناً ويتعالى الصياح فيه أحياناً كثيرة، وهذا الجدل على الحادبين أن يوجهوه وجهته الصحيحة، لا سيما وأننا ننعم ببداية نهضة إسلامية في طريقها لأن تكون نهضة شاملة تعم جوانب الحياة المختلفة بإذن الله. وهذه النهضة مطلوب منها أن تعالج بالموضوعية كلها المشاكل التي نجمت عن غياب الشرع الإسلامي عن الساحة مدة ليست باليسيرة.(/9)
وإزاء هذه النهضة ترتفع أصوات حاقدة حيناً ومشفقة حيناً آخر، بعضها يعلم كل الحقيقة وبعضها يعلم جزءاً منها، والكثير لايعلم شيئاً, وبزعم كل فريق أن ما يذهب إليه من رأي حق لا يدانيه باطل، ولقد تابعت كثيراً من الجدل الدائر بشأن موضوعات مختلفة في العقيدة والفقه والأصول فوجدت سوقاً للحديث تقوم وتنفضُّ، ومدارس مختلفة تدخل الساحة وتنصرف بعضها راشد وبعضها غير بعيد عن الضلال, وأكثر ما أخافني أن كثيراً من الداخلين إلى هذه السوق والخارجين منها لا يعتمدون خلفيةً واحدة يستندون إليها، فمن منكر لبعض الأسس المعلومة من الدين بالضرورة، ومن جاهل بتاريخ الفقه الإسلامي وأبعاد الخلاف فيه، ومن مدعِّم لحجته بأسس كلامية، ومن زاعم بأنه لا خلاف فالقول ما تقول الفرقة الناجية ــ وهكذا ــ، فيصبح المتطلع إلى اكتمال هذه النهضة مشفقاً من أن تنمو أطرافها محتوية على هذا الخبث، فوجدت أن الوقفة عند الخلاف وأسبابه والإفادة مما تتيحه من فرص لعرض الإسلام ناصعاً ثغرة لا بد أن ينبرى لها بعض من كان همهم أن تكتمل النهضة، ولا أدعي براعة في ذلك، بل إنها هموم أحسب أن المساهمة في حلها ولو بكلمة فيه إبراء للذمة، فإن كنت قد أصبت فمن الله، وأن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان (وما أبرئ نفسي).
([1]) عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، دار القلم، الطبعة العاشرة، 1972م، ص 100.
([2]) محمد الخضري بك، تاريخ التشريع الإسلامي، دار الفكر، الطبعة الثامنة، 1967م، ص 29.
([3]) أحمد موافي، عقوبة الإعدام بين الشريعة والقانون، الناشر مكتبة المنار بالكويت، ص 19.
([4]) محمد الخضري، المرجع السابق، ص 15.
([5]) راجع ابن رشد، بداية المجتهد، ص 2، طبعة دار الفكر، وعبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، طبعة دار الحكم، ص 36، وتاريخ التشريع الإسلامي، لمحمد الخضري بك، ص 30.
([6]) من محاضرة للدكتور جعفر شيخ إدريس بكلية الطب جامعة الخرطوم عن (منهج البحث العلمي في معرفة حقيقة الدين).
([7]) محمد حسنين مخلوف، بلوغ السول في مدخل علم الأصول، طبعة البابي الحلبي، ص 94.
([8]) ابن تيمية، معارج الوصول إلى معرفة أن أصول الدين وفروعه قد بيَّنها الرسول، المكتبة العلمية، ص 22.
([9]) ابن حزم الأندلسي، ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل، تحقيق سعيد الأفغاني، دار الفكر، 1969م، ص 5.
([10]) محمد حسنين مخلوف، المرجع السابق، ص 88ــ89.
([11]) ابن تيمية، المرجع السابق، نفس الصفحة.
([12]) عبد الوهاب خلاف، المرجع السابق، ص 21.
([13]) راجع سعيد الأفغاني، ملخص إبطال القياس.
([14]) الإمام الشافعي، الرسالة، مطبعة البابي الحلبي، سنة 1969م، ص 206.
([15]) ابن حزم الأندلسي، المرجع السابق، ص 73.
([16]) انظر الشيخ الخضري، المرجع السابق.
([17]) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة، سنة 1969م، ص 151، المجلد الأول.
([18]) ابن تيمية، رفع الملام عن الأئمة الأعلام، المكتبة العلمية، ص 4ــ17.
([19]) ابن حزم، ملخص إبطال القياس، ص 67.
([20]) محمد حسنين مخلوف، المرجع السابق، ص 60.
([21]) ابن تيمية، المرجع السابق، نفس الصفحة.
([22]) المرجع السابق، ص 62ــ63.
([23]) أحمد حسين، من قضايا الرأى في الإسلام، دار الكتاب العربي، ص 74.
المراجع
(1) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار المعارف.
(2) ابن كثير، الباعث الحثيث، شرح أحمد محمد شاكر، دار المكتبة العلمية.
(3) الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، الطبعة الثانية، سنة 1966م.
(4) الأمير، الإكليل شرح مختصر خليل، مكتبة القاهرة.
(5) ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث، سنة 1973م، دار الجيل، بيروت.
(6) ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار الفكر.
(7) النيسابوري، أسباب النزول، دار الكتب العلمية، سنة 1975م.
(8) ابن حزم، ملخص إبطال القياس والرأى والاستحسان والتقليد والتعليل، تحقيق سعيد الأفغاني، دار الفكر سنة 1969م.
(9) الشافعي، الرسالة، مطبعة البابي الحلبي، الطبعة الأولى، سنة 1969م.
(10) القرضاوي، الحلال والحرام في الإسلام، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية عشرة، سنة 1978م.
(11) صبحي الصالح، علوم الحديث ومصطلحه، دار العلم للملايين.
(12) عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، دار القلم الكويت.
(13) أحمد حسين، من قضايا الفكر في الإسلام، دار الكاتب العربي.
(14) محمد الخضري بك، تاريخ التشريع الإسلامي، دار الفكر بيروت.
(15) محمد حسنين مخلوف،بلوغ السول في مدخل علم الأصول، مطبعة البابي الحلبي.
(16) د. مصطفى حلمي، الخوارج، الأصول التاريخية لمسألة تكفير المسلم، دار الأنصار بالقاهرة.
(17) ابن تيمية، معارج الوصول إلى معرفة أن أصول الدين وفروعه قد بيَّنها الرسول، المكتبة العلمية.
(18) ابن تيمية، رفع الملام عن الأئمة الأعلام، المكتبة العلمية.(/10)
الخلفية الدينية للدعم الغربي لإسرائيل
الدكتور / علي المطرفي قسم الاستشراق – كليةالدعوة فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – المدينة المنورة 7/7/1423
14/09/2002
يشترك اليهود والنصارى في خلفية دينية واحدة تشكل جزءا مهما من العلاقات بينهما وإن اختلفت تفاصيلها بين اليهود وبين النصارى أو بين فرق النصرانية نفسها. وهذه الخلفية الدينية مرتبطة بتفسير جزء كبير مما جرى في الماضي وما يجري اليوم في فلسطين من اليهود والنصارى ، بل إنها مرتبطة ارتباطا كبيرا بمستقبل العلاقة مع الغرب ، ولاسيما ما يتعلق بدعمه لإسرائيل ، وردود أفعاله ومواقفه من الأزمة في فلسطين ، ومن إخواننا الفلسطينيين والمسلمين بعامة.
والحديث هنا هو عن بيان أسس هذه الخلفية الدينية المؤثرة في الغرب النصراني من خلال مسلمات النصارى أنفسهم ؛ لمعرفة كيف يفكرون من خلال ما يؤمنون به ؛ وليطلع الكثير من مثقفي العالم الإسلامي وسياسيه على مصادر أهل الكتاب ومواردهم الحقيقية فيما يتعلق بفلسطين بخاصة والدول العربية والإسلامية بعامة؛ وليعلموا أنها مصادر دينية تنبع من توراتهم وأناجيلهم المحرفة؛ وليتبينوا أن أهل الكتاب مستمسكون بدينهم المحرف المنسوخ وإن زعموا - تضليلا ومكرا - غير ذلك0
إن هذا الإرث الديني المشترك بين النصارى و اليهود أو العقائد النصرانية المتهودة بعامة والبروتستانتية المتصهينة بخاصة وقفت و تقف خلف الدعم الغربي لليهود ولإسرائيل منذ ما قبل قيامها وإلى اليوم ، إلا أنها ازدادت تمكنا في قلوب النصارى مع مرور الوقت ، ومشاهدة ما يزعمون انه واقع معاش يصدق نبواتهم التوراتية والإنجيلية المزعومة0
و على كل فالمعروف أن البايبل أو الكتاب المقدس عند النصارى يتكون من قسمين هما : العهد القديم ( أو التوراة الحالية تجوزا ) والعهد الجديد ( أو الأناجيل ) . فالعهد القديم عندهم هو : مجموعة من الأسفار التي يرى أهل الكتاب أنها وحي إلهي على نحو عام . بل هناك من يرى أنها وحي باللفظ والمعنى . وتبلغ عدد أسفاره عند البروتستانت من النصارى ( 39) سفرا متبعين في ذلك اليهود العبرانيين ،أما الكاثوليك والأرثوذكس فيرونه ( 46 ) سفراً 0 وعلى نحو عام يعده النصارى كاليهود وحيا إلهيا بكل ما يؤدي إليه ذلك من : الإيمان بصحة نصوصه ، والسعي لاتباع الكثير من عقائده ، وتصديق نبواته، والدفاع عنها عن عقيدة وإيمان . أما العهد الجديد أو الأناجيل فهي تخص النصارى وحدهم حيث يكذبها اليهود جملة وتفصيلا
وإن من النصوص الإنجيلية التي يرون إنها غرست إيمانهم بالعهد القديم ما ينسب إلى عيسى عليه السلام أنه قال : (( لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس [ توراة موسى علية السلام ] أو الأنبياء [ أسفار أنبياء بني إسرائيل الآخرين ]ما جئت لأنقض بل لأكمل ))(1) ولا شك أن الإنجيل الحق مكمل للتوراة الصحيحة ، ولعل هذا من الروابط التي بقيت بعد تحريفهم لكتبهم ، لكن الواقع أن كلا الكتابين خاص ببني إسرائيل ، فلا يدخل في ذلك اليونان ولا الرومان أو غيرهم ؛ لكن لما حرف اليهود الإنجيل عن طريق بولس وغيره كان مما ادخلوا فيه من عقائد يريدون بها إفساد الإنجيل وإبعاده عن أن يكون موجها لهم و ضد مصالحهم المختلفة : عالمية النصرانية ؛ و الواقع أن ذلك أدى إلى ربط النصارى من الأمم الأخرى بالتوراة المحرفة المملوءة بتمجيد اليهود وتفضيلهم ومحبتهم ووجوب خدمتهم... إلى غير ذلك مما سيمر بنا إنشاء الله .
وعلى كل أصبح تقديس التوراة الحالية من قبل النصارى هو أهم عامل ربط النصارى ويربطهم من خلال العقيدة بخدمة اليهود والدفاع عنهم والخضوع لهم . فكل مدح وتبجيل لليهود،أو وعد لهم ، أ و وعيد لغيرهم ، أو نبوة صادقة أو محرفة ، أو قصة تاريخية صحيحة أو كاذبة ،أو غير ذلك مما يزعمون انه في توراة اليوم مطلوب من النصارى أن يؤمنوا به ، ويصدقوه ، ويؤيدوه ، بل ويساعدوا – في زعمهم - على تحقيق ما يرون انه لم يقع بعد - كما يرى جيمي سواغارت وبات روبرتسون وغيرهم - فضلا عن الدفاع عنه.
ولذا يعتقد الكثير من النصارى أنهم بذلك يحققون أوامر الرب ووصايا المسيح عليه السلام وأنهم مثابون إذا نفذوا ما جاء في توراة اليوم المحرفة ولاسيما ما يرتبط باليهود، الشعب المقدس عندهم الذي ولد منه ربهم بحسب الجسد - كما يزعمون – المسيح وحاشاه عليه الصلاة والسلام ، وما يرتبط بفلسطين الأرض المقدسة التي ولد على ثراها ربهم بزعمهم ، والأقنوم الثاني من أقانيم ثالوثهم الوثني ( الابن ) وسوف يأتي إليها ثانية (2) ... إلى غير ذلك.(/1)
وكنتيجة طبعية لتقديس النصارى للتوراة الحالية أصبحت هناك عقائد توراتية نصرانية ليست بالقليلة تخدم اليهود خدمة كبيرة 0 و أصبحت هذه العقائد معينا لا ينضب في صالح اليهود حيث تجبر النصارى على خدمة اليهود عن عقيدة وإيمان ، بغض النظر عن ما يستخدمه اليهود من مكر وأساليب من أساليب الشيطان .وإن من أهم هذه العقائد ذات العلاقة بموضوعنا ما يلي :
أ- عقائد نصرانية نابعة أساسا من التوراة تسخر النصارى لخدمة اليهود والخضوع لهم ، ومن ذلك:
1- اعتقادهم أن الله وعد بني إسرائيل أن يعطيهم فلسطين إلى الأبد بعد طرد اليهود للفلسطينيين فقد جاء في التوراة الحالية ما نصه : (( ألست أنت إلهنا الذي طردت سكان هذه الأرض [ فلسطين] من أمام شعبك إسرائيل وأعطيتها لنسل إبراهيم خليلك إلى الأبد ))(3) وقوله ((إنكم [ يابني إسرائيل] عابرون الأردن إلى أرض كنعان فتطردون كل سكان الأرض [فلسطين] من أمامكم ... وتخربون مرتفعاتهم وتملكون الأرض وتسكنون فيها لأني قد أعطيتكم الأرض لكي تملكوها ))(4) ،وغيرها كثير.
ومن ثم فالنصارى ينظرون إلى فلسطين على أنها حق ديني طبعي لليهود ، فهم حين يهاجرون أو يهجَّرون إلى فلسطين إنما يهاجرون إلى ملكهم وفق وعد الهي – بزعمهم- ولذا ساعدوهم ويساعدونهم على الهجرة من قديم بشتى السبل الحسية والمعنوية والمادية وغير المادية ومنها القرارات السياسية على المستوى الدولي لتحقيق هذا الوعد الديني وتحويله إلى واقع ملموس ، وإن من أشهر ذلك كما هو معروف : وعد بلفور، الذي يقول عن نفسه : (( أنا صهيوني أكثر من أي صهيوني )) ولذا يقول وايزمان - عن بلفور - في مذكراته :(( أتظنون أن بلفور كان يحابينا عندما منحنا الوعد ..كلا إن الرجل كان يستجيب لعاطفة دينية يتجاوب بها مع تعاليم العهد القديم )) (5) .
2 – ومنها ما يزعمون انه وعد إلهي بإعادة اليهود إلى فلسطين وتجميع اليهود فيها من جميع أنحاء العالم وقد جاء في التوراة الحالية ما نصه (( قال السيد الرب ها أنذا آخذ بني إسرائيل من بين الأمم التي ذهبوا إليها وأجمعهم من كل ناحية وآتي بهم إلى أرضهم )) (6)ويشير أحد النصارى إلى هذه العقيدة والتي قبلها عند بني دينه فيقول : (( إن عودة اليهود إلى أرض الميعاد [ فلسطين ] وامتلاكهم لأرض كنعان إرادة إلهية وحق ديني موعود به من الله لهم ولأحفادهم من بعدهم بحسب توراة موسى الكتاب المقدس لدى اليهود والمسيحيين معا ))(7)
ولهذا وقف البروتستانت منذ نشأتهم خلف تهجير اليهود إلى فلسطين – للمساعدة على تحقيق النبوتين السابقتين بزعمهم - فقد نادى مارتن لوثر الزعيم البروتستانتي المشهور بتهجير اليهود قسرا إلى فلسطين وذلك في بداية القرن السادس عشر الميلادي ( منتصف العاشر الهجري تقريبا ) كما أنشأ الإنجليز- على سبيل المثال - في عام (1809م) جمعية تنصيرية من أول أهدافها تجميع اليهود المتفرقين في العالم وتهجيرهم إلى فلسطين (8) ؛ ولذا ليس غريبا أن تقول دائرة المعارف البريطانية : (( إن الاهتمام بعودة اليهود إلى فلسطين بقي حيا في أذهان النصارى المتدينين وعلى الأخص بريطانيا التي كان اهتمامها أكثر من اهتمام اليهود أنفسهم ))(9) . وما ذلك إلا للعقائد النصرانية ولا سيما البروتستانتية .
ومن المفارقات المهمة في النبوات المزعومة السابقة أن الكاثوليك (10)– بعامة – يرون أن هذه النبوات تحققت قبل المسيح عليه السلام بينما يرى البروتستانت(11) أنها هي التي تمت حديثا من قيام دولة إسرائيل(1948م)
3- من عقائد النصارى أيضا أن اليهود مباركون في أنفسهم ومبجلون من قبل الرب وأنهم الشعب الذي ولد منه ربهم – بزعمهم – السيد المسيح عليه السلام الذي يرونه بحسب الجسد يهوديا من بني إسرائيل . فقد جاء في التوراة ما نصه (( أسكب روحي على نسلك وبركتي على ذريتك )) كما جاء في الأناجيل أن بطرس قال مخاطبا بني إسرائيل : (( أنتم أبناء الأنبياء والعهد الذي عاهد الله آباءنا قائلا لإبراهيم وبنسلك تتبارك جميع قبائل الأرض )) (13) كما يقول مقدس النصارى بولس : (( لأجل إخواني حسب الجسد الذين هم إسرائيليون ولهم المجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد ولهم الآباء ومنهم المسيح … ))(14) .(/2)
4- من عقائد النصارى التوراتية المرتبطة بما سبق والتي لها تبعات دينية ودنيوية عميقة بين النصارى : ادعاء أن اليهود شعب محبوب من قبل الرب وأنهم الشعب المختار لله بل يعدونهم أولاد الرب وأبناء الله الحي - بزعمهم - جاء في التوراة الحالية ما نصه (( لأنك شعب مقدس للرب إلهك إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعبا أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض ... من محبة الرب إياكم ... )) (15) وقوله : (( أنتم أولاد للرب إلهكم ... لأنك شعب مقدس للرب إلهك وقد اختارك الرب لكي تكون له شعبا خاصا فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض ))(16). وقد كذبهم الله – سبحانه وتعالي- جميعا في محكم التنزيل فقال : (( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ...))(17) الآية
5- كذلك من عقائد النصارى التوراتية أيضا والمؤيدة بنصوص إنجيلية :عقيدة مباركة الرب لمن يبارك اليهود ولعن الرب لمن يلعن اليهود في زعمهم وهو ما يعني وجوب مباركة النصارى لليهود لينالوا بركة الرب والحذر كل الحذر من لعنهم لليهود كي لا يتعرضوا للعن من قبل الرب . جاء في التوراة ما نصه (( ليكن لا عنوك [ يا إسرائيل ] ملعونين ومباركوك مباركين ))(18)((وقوله (( و أبارك مباركيك ولاعنك العنه ))(19) وقوله (( مباركك مبارك ولاعنك ملعون (20)
والمقصود عندهم بمباركة إسرائيل دعم اليهود وتأييدهم ومناصرتهم في كل الأمور. كما أن المقصود بلعن اليهود عكس ذلك : كإيذائهم والتقصير في دعمهم وتأييدهم وما شابه ذلك . يقول مايك ايفنز : (( إن الله يريد من الأمريكيين نقل سفارتهم من تل أبيب إلى القدس لأن القدس هي عاصمة داود ويحاول الشيطان أن يمنع اليهود من أن يكون لهم حق اختيار عاصمتهم وإذا لم تعترفوا بالقدس ملكية يهودية فإننا سوف ندفع ثمن ذلك من حياة أبنائنا وآبائنا إن الله سيبارك الذين يباركون إسرائيل وسيلعن لاعنيها )) (21)فهاهو يشرح المباركة واللعن عمليا وينهي ذلك باقتباس النص التوراتي آنف الذكر للتأثير على المخاطبين . كما يقول جيري فولويل – القس المشهور والقسيس الرسمي لرونالد ريجن - : (( لقد بارك الله أمريكا لأننا تعاونا مع الله في حماية إسرائيل التي هي عزيزة عليه )) (22) .
6- أن المسيح سوف يأتي ثانية ولكن مجيئه مرتبط بتحقق نبوات معينه منها:
o هجرة اليهود إلى فلسطين أو بالأحرى تهجيرهم .
o إقامة دولة إسرائيل بعاصمتها ( الأبدية ) القدس.
o هدم المعبد ( المسجد الأقصى حرسه الله ) وإقامة هيكل سليمان مكانه . وهذه النبوات –المزعومة – مشتركة بين اليهود والنصارى ، والملاحظ أن الأمرين الأولين تحققا تقريبا لحكمة، يعلمها الله سبحانه وتعالى ولم يبق إلا أن تتخذ القدس عاصمة رسمية ، أما هدم المسجد الأقصى فهم يسعون جادين لذلك و قد وضعوا في العام الماضي ( 1422هـ ) مجسما للهيكل في ساحة المسجد الأقصى ولا أراه مجرد حلم أو زخرف لخداع الرأي العام عندهم ، فهل يستيقظ المسلمون والعرب بخاصة ؟ و هناك نبوات مزعومة ينفرد بها النصارى إضافة إلى ما سبق منها :
o تنصير العالم أجمع ، أو دخول الإنجيل إلى كل مدن العالم ، فيما يزعمون .
o قيام حرب عالمية بل بعضهم يراها حربين ولكن يهمنا منها حرب يسمونها بمعركة هورمجدون ، يرونها بين العرب - ومعهم إما روسيا أو فارس أو الحبشة ...الخ ويقولون إن العرب يحاولون من خلالها تدمير إسرائيل ( المقدسة عندهم ) - وبين أهل الكتاب ، ويعتقدون أن رحاها سوف تدور في فلسطين بل في وادي مجدون ، ويرونها حرب دمار شامل ؛والمهم ليس صحة النبوة من عدمها عندنا وإنما معرفة ما يبنيه النصارى على مثل هذه الاعتقادات من قرارات وتصرفات 0 والعجيب أن تأثر اعتقاد النصارى وبخاصة البروتستانت - ومن أبرزهم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا - بهذه الحرب واضح جدا في السياسة الخارجية للدول البروتستانتية تلك السياسات المرتبطة بالعالم العربي والإسلامي ومن ذلك ما يسمونه بـ : محاربة الإرهاب ، و منع انتشار أسلحة الدمار الشامل في المنطقة ؛ حيث يجتهدون في منع هذه الأسلحة عن العرب بخاصة والمسلمين بعامة0 بينما يمكنون لإسرائيل كل ما تريد من أسلحة الدمار الشامل ، ومن وسائل إيصالها إلى أقصى المدن العربية والإسلامية حتى ؛ إذا ما جاءت تلك الحرب - فيما يرون - كانت إسرائيل مهيأة تماما لها ، فضلا عن أنهم من خلفها بل معها آنذاك بالطبع كما يزعمون . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.(/3)
هذه بعض العقائد التي يرونها شرطا لمجيء المسيح عليه السلام إذ قبل تكاملها لا يأتي – بزعمهم – ولذا يحرصون بطرق شتى على مساعدة الرب (هكذا بزعمهم ) وذلك بدعم تحقيق هذه النبوات ليأتي إلههم وربهم الذي يدعون . وكما ترى فإن ادعاءهم المساعدة على تحقيق هذه النبوات ما هو إلا خدمة كبيرة جدا جدا لليهود وتحقيقا لتطلعات اليهود وأمانيهم الباطلة فإذا انضاف إلى ذلك بقية العقائد السابقة اتضح مدى تعلق النصارى الديني بخدمة اليهود والدفاع عنهم وبرهم بهم أكثر مما يبرون آباءهم وأمهاتهم إن كانوا يعرفون البر أصلا .
ونتائج ما سبق كثيرة جدا لمن أنعم النظر، و لكن منها :
- أن هذه العقائد النصرانية المنبثقة من التوراة و الأناجيل تفسر إلى درجة كبيرة - من خلال مسلمات النصارى - دعم الغرب النصراني لإسرائيل واليهود، و توضح أنه دعم مبني على أسس عقدية بالدرجة الأولى ومن ثم له صفة الديمومة عندهم 0 يقول بول فندلي : (( الواقع أن جميع المسيحيين [ !!! ] ينظرون إلى الشرق الأوسط على الأقل من منظار الصلة الروحية بإسرائيل ومن زاوية الميل إلى معارضة أو عدم تصديق أي شيء يشكك في سياسة إسرائيل000 والقناعات الدينية [ !!!] جعلت أمريكيين كثيرين يستجيبون لنداءات اللوبي الإسرائيلي [ لاحظ ليس الضغوط الاقتصادية أو الأخلاقية ...الخ على الرغم من أهميتها وإنما ( القناعات الدينية )] ...وهكذا فإن التقاليد الدينية ونشاطات اللوبي المكشوفة تحصران النقاش المشروع ضمن حدود مصطنعة ضيقة ))(23)
والواقع أنه يحكم على ذلك ويهيمن عليه قبل كل شيء قول ربنا تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم...)) الآية (24) وهذا ولاء عقدي بينهم وضحه الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه في جانب تحذيرنا من اتخاذهم أولياء؛ ولذا يجب على العرب أن يفكروا جيدا في دلالات ذلك ويتصرفوا إيجابيا في ضوئه ؛ فالرابط الأول والأساس بين اليهود والنصارى هو : العقيدة. كما دلت عليه الآية السابقة ، وكما هو صريح عقائدهم التي مرت بنا . كما أن العامل الأول والأساس في بغض أهل الكتاب للمسلمين والعرب منهم بالذات وحقدهم عليهم هو : العقيدة أيضا ، كما قال تعالى (( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ... )) الآية (25) فعن عقيدة يوالي بعضهم بعضا وعن عقيدة يعادون المسلمين.
- ومنها أن مؤتمرات ( السلام ) مع اليهود لا تجدي نفعا ؛ ففضلا عن نقضهم للعهود كما أخبرنا ربنا سبحانه وتعالى ، وعن عدم مناسبة الحال؛ لضعف حكومات العرب والمسلمين اليوم وتفرقهم واستغلال أهل الكتاب لذلك ...الخ فإنها سوف توظف من قبل الدول النصرانية - والبروتستانتية بخاصة كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا - على نحو يخدم إسرائيل لما مر من عقائد نصرانية تربط النصارى بخدمة اليهود والدفاع عنهم كما يدافعون عن أنفسهم أو أشد ؛ ولذا ينبغي الحيطة والحذر منهم بل سوء الظن بهم .
- كذلك على أضعف الأحوال إن كان ولابد من عقد مؤتمرات ( السلام ) فحبذا لو استفيد من التفاوت النسبي في المواقف والعقائد بين الكاثوليك والبروتستانت ؛ لتخفيف الضرر مع الأخذ في الحسبان الترابط بين اليهود وغيرهم من النصارى على نحو عام ؛ إذ هناك تفاوت عقدي بين البروتستانت والكاثوليك فيما يتعلق بمواقف كل منهم من اليهود وفلسطين ولهذا التفاوت اثر في ارض الواقع و من الممكن في ضوئه و في حالات الضرورة الاستفادة منه لتخفيف الضرر عن المسلمين.
- كذلك إن كثيرا من القرارات الخارجية للدول النصرانية- والبروتستانتية بخاصة - المتعلقة بما يسمى : ( الشرق الأوسط ) تتأثر بل تسترشد على نحو مباشر أو غير مباشر بالعقائد السابقة و بما يزعمون من نبوات مستقبلية مرتبطة بالمنطقة ولاسيما الحروب المزعومة وتداعياتها وما يدع إليه ذلك من محاولات تحجيم السلاح والجيوش العربية والإسلامية وتقوية إسرائيل على نحو عام في مقابل إضعاف العرب والمسلمين...الخ ؛ ولذا ينبغي على العرب الفطنة والانتباه لذلك والتعامل بحكمة فاعلة مع ما تدل عليه هذه العلاقات من تحيز نصراني عقدي لليهود عميق الجذور،ليس لتأثيره حد يقف عنده فهو يبدو واضحا في : السلاح النووي في المنطقة ، و أسلحة الدمار الشامل ، و بيع السلاح من الغرب ولاسيما البروتستانتي لدول المنطقة كما أنه واضح في : قرارات الأمم المتحدة وما يستخدم فيها من حق النقض ( الفيتو) من قبل أمريكا لدعم إسرائيل والتغطية عليها تحت مبررات واهية ، بل إنه يشمل جميع المجالات التي من الممكن أن تأثر فيها الدول البروتستانتية والنصرانية عموما على المنطقة وهي كثيرة جدا كما هو معروف .(/4)
- كما أن هذه العقائد والنصوص الدينية تدل على أن إسرائيل دولة مقدسة عند بعض القيادات الغربية وكثير من النصارى بل ربما عد البعض منهم الدفاع عنها أوجب من الدفاع عن بعض مدنهم وولاياتهم والواقع المعاش خير شاهد ؛ ولذا فإن التنسيق بين إسرائيل وبعض القيادات البروتستانتية العظمى في كل الأمور المرتبطة بإسرائيل وبالمنطقة برمتها أمر بدهي لا يحتاج إلى إثبات وثائقي أو اعتراف غربي معلن في ضوء العقائد السابقة ، على الرغم من وجود هذه الاعترافات علانية وتكاثرها يوما بعد يوم في ضوء الوضع المزري لكثير من القيادات الإسلامية.
هذه النتائج غيض من فيض ، والمتمعن الفطن سوف يكتشف نتائج لا حصر لها تبعا للعقائد النصرانية السابقة – ولا سيما البروتستانتية - ولذا أدْعُ سياسيي العالم الإسلامي إلى أخذ ذلك في الحسبان ، والنظر مليا في تداعيات هذه الاعتقادات النصرانية الصهيونية .
ب- الحروب والحصار والمجازر الجماعية من خلال التوراة الحالية:
وهذا من الإرث العقدي المهم المشترك بين اليهود والنصارى ولذا استحق أن يفرد . ومن اللافت للنظر هنا أن اليهود في إسرائيل اقتفوا آثار نصوصهم التوراتية المقدسة لديهم ولدى النصارى بدقة عجيبة فارتكبوا المجازر الجماعية البشعة سواء المعاصرة كما حدث في جنين وغزة أو الماضية كديرياسين أو غيرها والله أعلم بما يخفيه المستقبل وكل ذلك اتباعا للنصوص المقدسة عندهم كما سوف نرى
كما أن النصارى بعامة والبروتستانت بخاصة دافعوا ماضيا عن جرائم اليهود (الشعب المختار عندهم والمبارك من الرب ... الخ ) ويدافعون حاضرا عنهم وعن جرائمهم و من المؤكد أنهم سوف يدافعون عنهم مستقبلا ومن الواضح أن ذلك نابع مما توجبه عليهم النصوص والعقائد الدينية المشتركة السابقة وغيرها التي هي – فيما يرى الكثير من النصارى – وحيا مقدسا ، و أوامر للرب ، ووصايا للمسيح عليه السلام .
وعلى كل فإن من النصوص التوراتية التي تتحدث عما فعله بنو إسرائيل وماهم مأمورون بفعله من الحروب وسفك الدماء والتدمير والحرق بالنار وإهلاك الحرث والنسل والإفساد بعامة - ومن ثم يشكل سوابق تشريعية و تاريخا مقدسا لهم وللنصارى يجب اتباعه فضلا عن الدفاع عنه وعن اليهود الشعب المقدس للرب بزعمهم- ما يلي:
1-جاء في سفر التثنية قوله (( حين تقترب [ يا إسرائيل ] من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها وإذا دفعها الرب إلهك إلى يديك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك هكذا تفعل بجميع المدن ))(26) .هذا هو التوجيه المقدس المزعوم ، فإن سالمت الشعوب وصالحت – وعقدت معاهدات صلح وسلام وفق ما يريدون حتما - فهي مستعبدة لهم ومعدة للتسخير، وإن لم تسالم وتصالح فالويل لها إذ سوف تحاصر تماما كما حوصرت جنين والضفة الغربية وغزة وغيرها ، ثم تباد كما أبيدت جنين وديرياسين .
2-جاء في توراتهم المحرفة(( الآن اذهب [ ياشاول ] واضرب عماليق وحرموا كل ماله ولا تعف عنهم بل اقتل رجلا وامرأة طفلا ورضيعا بقرا وغنما جملا وحمارا )) (27) . يالها من مجزرة وأي مجزرة !! حتى النساء والأطفال لم ينجوا منها ، بل ولا الرضع !! ولا البهائم فضلا عن الرجال . هذه من مجازرهم التي في كتبهم المقدسة لديهم هم والنصارى ، وهذا تاريخهم العسكري المقدس عندهم والتاريخ يعيد نفسه اليوم ، فهل هؤلاء ومن شايعهم من النصارى البروتستانت وغيرهم يمكن أن يكونوا أهلا للرحمة والشفقة أو العدل والحياد أو الإنسانية التي يدعون والإنصاف ؟ ثم كيف يكونون وسطاء محايدين في ضوء هذه النصوص والعقائد التي مرت بنا آنفا ؟
3-جاء في توراتهم أن بني إسرائيل (( تجندوا على مديان وقتلوا كل ذكر وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم أوي وراقم وصور وحور ورابع خمسة ملوك مديان وبلعام بن بعورة قتلوه بالسيف وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكل أملاكهم وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار وأخذوا كل الغنيمة وكل النهب من الناس والبهائم ))(28) . كما جاء في توراتهم أيضا : أنهم (( ... حرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف ... وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة الرب )) (29) .(/5)
يالها من إبادة جماعية عنيفة بل بركان جاثم بحممه على الشعوب ؛ حيث أحرقوا جميع مدن مديان بمن فيها من أحياء وبما فيها من مساكن بالنار واستأصلوا الجميع في إبادة جماعية لكن المال نعم المال حفظوه من الإبادة ثم نهبوه زاعمين جعله في خزانة الرب. فما الفرق بين يهود الأمس- من غير المؤمنين الصادقين - ويهود اليوم ؟ وما الفرق بين ما فعلوه في مديان وما يفعلونه اليوم في جنين وغزة وسائر فلسطين؟ أليس هذا اقتداءً من بني إسرائيل اليوم ببني إسرائيل الأمس ؟ ترى ما الذي فعله أسلافهم ولم تفعله حثالة اليوم؟ أليس فلسطينيو اليوم هم مديان الأمس عند اليهود ومن يؤمن بهذه النصوص المقدسة والإلهية- بزعمهم- من النصارى بعامة والبروتستانت المتعصبين لليهود بخاصة ؟ ومن ثم فهي مجازر مبررة دينيا سواء عند اليهود أو النصارى . فكيف إذا انضاف إلى ذلك أنها مجازر ترتكب ضد المسلمين الذين يعدونهم العدو المتبقي لهم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي كما أوصى بذلك مؤتمر حلف الأطلسي عام ( 1989 ) في هلسنكي الذي أعلن الحرب على الإسلام بوصفه البديل الموضوعي للشيوعية ؟ وهو من أوائل القرارات العلنية –فيما أعلم- من العالم الغربي التي دعت إلى صراع الحضارات كما يقال بل الحرب ضد الإسلام والمسلمين بعد أفول ما يعرف بـ (الحرب الباردة ) . وسبحان الله علام الغيوب القائل : (( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم..))(30) الآية .
4-جاء في التوراة الحالية :(( وأخرج الشعب الذي فيها ووضعهم تحت المناشير ونوارج حديد وفؤوس حديد وأمرَّهم في أتون الآجر وهكذا صنع بجميع مدن بني عمون )) (31).
ترى هل بعد هذا يستغرب مستغرب ما يصنعه اليهود اليوم من مجازر وإبادات جماعية ؟ وهل يستغرب مستغرب من دعم النصارى لليهود في مجازرهم الحديثة وهم يشتركون مع اليهود في تقديس هذه النصوص ويرونها وحيا يوحى واجب التسليم والقبول وعقائد متبعة يجب تصديقها والدفاع عنها واقتفاء أثرها ؟ بل هل يستبعد عاقل بعد هذا إمكان استخدام الأسلحة النووية- وغيرها من أسلحة الدمار الشامل- من قبل إسرائيل بخاصة والنصارى بعامة وبخاصة البروتستانت ضد المسلمين تحت أي مبرر، وليس اليورانيوم المستنفد فحسب الذي استخدموه فعلا في أكثر من دولة إسلامية بما في ذلك فلسطين؟
5-كما جاء في التوراة الحالية قوله (( تضربون كل مدينة محصنة وكل مدينة مختارة وتقطعون كل شجرة طيبة وتطمون جميع عيون الماء وتفسدون كل حقلة جيدة بالحجارة ... فهدموا المدن وكان كل واحد يلقي حجرة في كل حقلة جيدة حتى ملؤها وطموا جميع عيون الماء وقطعوا كل شجرة طيبة ))(32) . سبحان الله !! حقا إن يهود اليوم مفسدون وليسوا بشرا أسوياء إنهم شعب إرهابي حكومة وأفرادا .
و لهذه النصوص المقدسة عند أهل الكتاب وغيرها ليس غريبا أن تجد كثيرا من النصارى يؤيدونهم في كل ما يفعلونه من مجازر وإبادات وحشية بل ويجتهدون في الدفاع عنهم والاعتذار لهم كما حصل في جنين وغيرها ؛ لما بينهم من عقائد دينية راسخة قوية التأثير في النصارى تسخرهم لخدمة اليهود بما يرضي اليهود وأكثر.
إن هذا الدمار والخراب وعلى هذا النحو قد لا يحدث حتى من القنابل النووية و النيتروجينية لكن النصوص المقدسة عند أهل الكتاب تخبر عن وقوعها وتأمرهم بها جاعلة منها نماذج تحتذى . أما اليهود فقد نفذوها حرفيا ولا زالوا والواقع المشاهد خير دليل، وأما النصارى وبالذات البروتستانت فقد أيدوهم عليها ونافحوا ضد إدانتها واستخدموا حقوق النقض ( الفيتو ) ويؤيدونهم عمليا تأييدا قويا . وأرى انه متى ما احتاج النصارى أنفسهم هذه النصوص وأمثالها ولا سيما مع المسلمين – مثل أفغانستان وغيرها وكالحروب الصليبية سابقا - فلن يراعوا ما زعموا من حقوق الإنسان أو الشرعية الدولية أو غيرها من الألاعيب السياسية المفصلة أصلا لخدمة مصالح العالم الغربي والتي يسلطونها على رقاب المسلمين والمستضعفين في العالم إذا كانت في صالحهم ويتخذونها ظهريا إذا كانت عليهم – وما جوانتانامو ونقض معاهدة جنيف لأسرى الحرب عنا ببعيد –لأنهم يعدون سوابقهم التاريخية الدينية في المجازر والحروب الوحشية سوابق مقدسة ويكفي بذلك مبررا حقيقيا عندهم ومن البدهي ألا يظهر هذا علنا ، فكيف إذا كانت ضد المسلمين الذين يعدهم أهل الكتاب عدوا أساسيا لهم قبل سقوط الاتحاد السوفيتي و بعده؟ . فضلا عن أن الغاية – عندهم – تبرر الوسيلة كما أرشدهم إلى ذلك مقدَّسهم ورسولهم – كما يزعمون - بولس قبل مكيافيلي بقرون .
ج- المواثيق والعهود والنفي والإبعاد في توراة النصارى واليهود:(/6)
وهذا أمر يساعد بوضوح على تفسير ما حدث وما يحدث للمسلمين من اليهود وكذا النصارى – من خلال مسلماتهم - فيما يتعلق بنقض أهل الكتاب للعهود والمواثيق بما في ذلك الدولية – وأولها قرارات الأمم المتحدة ومواثيقها - التي يرى البعض صعوبة نقضها وصعوبة عدم التقيد بها إن لم يكن استحالته لكن الأحداث الحالية أثبتت عدم صحة ذلك بالنسبة لأهل الكتاب أما بالنسبة للضعفاء في العالم فمن المستحيل تقريبا ألا يلتزموا بها .
جاء في العهد القديم ما يلي :
1- (( كلم بني إسرائيل وقل لهم إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان فتطردون كل سكان الأرض [ فلسطين ] من أمامكم ... وتخربون مرتفعاتهم وتملكون الأرض وتسكنون فيها لأني قد أعطيتكم الأرض لكي تملكوها ... وإن لم تطردوا سكان الأرض [ فلسطين ] من أمامكم يكون الذين تستبقون منهم أشواكا في أعينكم ومناخس في جوانبكم ويضايقونكم على الأرض التي انتم ساكنون فيها )) (33) .
2- وجاء فيه أيضا (( احفظ ما أنا موصيك اليوم ها أنا طارد من قدامك الأموريين والكنعانيين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين احترز من أن تقطع عهدا مع سكان الأرض [ أيضا المقصود بها فلسطين ] التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فخا في وسطك بل تهدمون مذابحهم وتكسرون انصابهم وتقطعون سواريهم ... احترز من أن تقطع عهدا مع سكان الأرض [فلسطين] ))(34)
فإضافة إلى ما مر من المجازر والتدمير والإبادات الجماعية الموجودة فيما سبق وفي هذه النصوص ، فان معنى ذلك أن اليهود مطالبون وفق نصوص توراتهم هم والنصارى بطرد إخواننا الفلسطينيين وإبعادهم عن فلسطين فضلا عن السماح لهم بالبقاء وسطهم - كما يقول النص – فما موقع هذه النصوص مما حدث من تهجير إخوتنا الفلسطينيين من بلداتهم وقراهم في( 48 ) و( 1967م) و في : مرج الزهور مثلا ، وما يحدث اليوم للفلسطينيين من طرد ونفي وإبعاد، ومن ذلك : إبعاد المسلمين الفلسطينيين الذين اعتصموا – للأسف ضرورة - في كنيسة المهد وغيرها وما يحدث من إبعاد لعائلات الاستشهاديين وغير ذلك كثير ؟ وما ردة فعل النصارى ولاسيما البروتستانت على ما يقوم به اليهود من مخالفة للقوانين الدولية أثناء الحروب بل مخالفة كل قوانين الأمم المتحدة المتعلقة بفلسطين التي يدعون أنها شرعية دولية وعادلة ؟
هل يعقل في ضوء عقائد النصارى الملزمة لهم بتأييد اليهود والخضوع لهم على النحو القوي الذي مر سابقا أن يواجهوا اليهود ويحجموا من استعمارهم لفلسطين فضلا عن أن يحاولوا قتالهم أو المساعدة على ذلك بالسلاح أو القرارات الدولية الملزمة أو غيره ...الخ ؟ هل من المنطقي أن يخالفوا أوامر الرب ومدلولات وصايا المسيح ونبوات كتبهم – في زعمهم - ويعادوا السامية ( أي اليهود) أيضا من أجل: المسلمين الذين يعدونهم أصلا عدوا لهم ولليهود ؟ ولا سيما في عصر تفجر التيارات المسيحية الأصولية الصهيونية في الغرب اليوم ، وهل من الممكن أن يسمح النصارى – ولاسيما البروتستانت منهم - بتعرض مرتكبي تلك المجازر والجرائم وجزاريها من المجرمين اليهود كشارون وبيريز وبن لعازر وغيرهم لمحاكمات مجرمي الحرب الدولية مثلا ؟
إن من يطلع على خلفيات النصارى العقدية: التوراتية والإنجيلية وبخاصة البروتستانت – التي مررنا بطرف منها - يعلم أن صدور هذا من العالم الغربي النصراني إنما هو من الجنوح إ لي الخيال والأوهام بل من المستحيلات العظام - فيما أرى - إن لم يقدر الله أمرا غير ذلك0على الرغم أنه من العجيب حقا واللافت للنظر أن نطالب الغرب النصراني - ذا الخلفية آنفة الذكر- بالدفاع عن المسلمين أو عن حقوقهم أو ننتظر منه ذلك ولاسيما ضد اليهود والأمر كما ترى من خلال مسلماتهم . فكيف وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى أنهم مثل اليهود لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم ، وأن بعضهم أولياء بعض كما مر ، وأنهم لا يودوننا ، ولا يودون لنا أن ينزل علينا من خير من ربنا - سبحانه وتعالى – كما قال : (( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ))(35) ، وأن منهم من يتخذ ديننا هزوا ولعبا كما قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين )) (36) ، وهو مشاهد اليوم من رؤسائهم وكبرائهم علانية كـ : بوش الابن وبيرلسكوني وشرويدر وتاتشر وغيرهم من علمائهم وكبرائهم ، وما تخفيه صدورهم أكبر وأعظم ،ولكن الله مظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون .(/7)
كما أن النصوص السابقة تحذر اليهود أشد الحذر من أن يقطعوا عهودا ومواثيق مع سكان فلسطين( الأرض) وهذا يعني أن ما قد يحدث من معاهدات مخالف لشريعتهم المقدسة عندهم ومن ثم فإن من الأولى وفق شرعهم نقضها وإبطالها أو على الأقل التحايل عليها؛ ولذا كان هذا هو ديدن اليهود في المعاهدات التي عقدت وكذا التي سوف تعقد ألم يقل العليم الخبير سبحانه وتعالى : (( أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون))(37)
. ولذا يجب الاحتياط الشديد في المعاهدات والمواثيق مع اليهود والنصارى وأخذ جبلتهم هذه في الحسبان بل في ضوء النصوص السابقة ينبغي الاستعداد لهم في كل المجالات ولاسيما العسكرية والحذر منهم ومن محاولاتهم إبعاد الفلسطينيين حتى مما تبقى من الضفة وغزة فضلا عن القدس الشرقية تحت أي ( سيناريو) يتفق عليه مع بعض الدول البروتستانتية العظمى حيث يتولى اليهود دور المجانين والقاصرين الذين يعملون مالا يعمل وتتولى الولايات المتحدة دور المصلح و الوسيط (النزيه ) و ( المحايد ) الذي يحاول في الظاهر معالجة الأمور من خلال الحوار والوساطة بعيدا عن دهاليز الأمم المتحدة و إحراجات - على الرغم من تهافتها أصلا - حيث إنه في آخر الأمر لا يتم إلا المتفق عليه مسبقا مع اليهود، بل ربما أخذت الولايات المتحدة لإسرائيل واليهود مالا يستطيع اليهود أن يأخذوه بأنفسهم كما هو مشاهد.
إن ما سبق يبين أن شارون اليوم لم يبتدع نقض المعاهدات من تلقاء نفسه ، وإنما يسير في ضوء النصوص المقدسة عنده وعند النصارى ، كما أن النصارى لا يغمضون أعينهم عن نقض اليهود للعهود ونفيهم لإخواننا الفلسطينيين من ديارهم وإبعادهم عنها مخالفين للقوانين الدولية ... الخ لأمر شخصي في اليهود أو خضوعا لضغوط يهودية صرفة – على الرغم من أهمية ذلك - كما يزعم : اقتصادية أو سياسية أو أخلاقية أو إعلامية أو غير ذلك ، وإنما من أجل ما تلزمهم به النصوص المقدسة عندهم جميعا و ما تدعوهم إليه بالدرجة الأولى؛ ولذا فإن دعم العالم النصراني لليهود ليس مرتبطا بأشخاص بأعيانهم لا من اليهود ولا من النصارى . فإن كثيرا من الحكومات الغربية بغض النظر عمن يكون رئيسها أو رئيس وزرائها سوف تدعم إسرائيل على كل حال وبما يرضي عقائد شعوبها النصرانية وعقائد ناخبيها النصارى- التي مررنا بطرف منها – تلك العقائد المرضية لليهود والتي خلاصتها ولاء عقدي لليهود وبغض وحقد وبراء عقدي من المسلمين وعليهم.
وكذا اليهود مدعومون من الغرب بغض النظر عن رئيس الوزراء الإسرائيلي سواء شامير أو شارون أو غيرهما؛ لأن الخلفية الدينية التوراتية والإنجيلية للنصارى تلزمهم بدعم الإسرائيليين واليهود كأمة بغض النظر عن الأشخاص والأسماء ، ولا سيما - كما أسلفت – البروتستانت ثم الكاثوليك والأرثوذكس وغيرهم. ولذا يقول جيمي سواغارت (( أنا لا أدعم اليهود من أجل سواد أعين اليهود وإنما من أجل الرب السيد المسيح )) ؛ لذا ولغيره يقول بول فندلي : (( أصبح ممكنا لحكومة إسرائيل أن تعتمد على مساندة الحكومة الأمريكية للسياسة الإسرائيلية بالغة ما بلغت شطحاتها ))(38) ، وهو المشاهد اليوم والذي تدع إليه العقائد النصرانية التوراتية كل الشعوب والحكومات النصرانية ولا سيما البروتستانتية .
والمؤسف حقا انهم يسيرون وفق نصوص كتبهم المنسوخة المحرفة بينما هناك فئات من المسلمين - هداها الله - اتخذت دين الله المنزل على خاتم رسل الله صلى الله عليه وسلم ظهريا أو كادت على نحو عام وفي قواعد التعامل الإسلامية مع أهل الكتاب والمشركين على نحو خاص تحت اسم السياسة والعلاقات الدولية إلا ما رحم ربك.
(1) - إنجيل متى ( 5 : 17 ) .
(2) -ولاشك في نزوله آخر الزمان عليه السلام فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية مسلما لله متبعا محمدا صلى الله عليه وسلم .
(3) - سفر أخبار الأيام الثاني ( 20 : 7 ) .
(4) - سفر العدد ( 33 : 5 ) .
(5) - نقلا عن : " قبل أن يهدم الأقصى " ص: ( 142 ) .
(6) - سفر حزقيال ( 37 : 21 – 22 )
(7) - الأب طانيوس منعم " خطر اليهودية الصهيونية على النصرانية والإسلام " ص ( 22 ) .
(8) - " التبشير والاستعمار " : ص (181 ) .
(9) - المرجع السابق : ص ( 142 ) .
(9) - منهم اليوم : فرنسا وإيطاليا وأسبانيا وبلجيكا والبرتغال وكل دول أمريكا اللاتينية .
(10) - منهم اليوم : أمريكا وبريطانيا وهولندا والدول الاسكندنافية وكندا ونيوزيلندا وأستراليا وغير ذلك(11)
(12) - سفر أشعياء ( 44 : - 3 )
(13) - سفر أعمال الرسل ( 3 : 25 ) .
(14) - رسالة رومية ( 9 : 3 – 5 ) .
(15) - سفر التثنية ( 7 : 6 – 8 ) .
(16) - سفر التثنية ( 14 : 1 – 2 ) .
(17) - سورة المائدة : ( 18 ) .
(18) - سفر التكوين ( 27 : 29 )
(19) - سفر التكوين ( 12 : 3 ) .
(20) -سفر العدد ( 24 : 9 ) .
(21) - نقلا عن : غرس هالسل " النبوءة والسياسة " : ص ( 192 ) .(/8)
(22) - المرجع السابق : ص (144) .
(23) - بول فندلي " من يجرؤ على الكلام " ص : ( 392 – 393 ) .
(24) -سورة المائدة آية : (51 )
(25) - سورة البقرة : ( 120 ) .
(26) - التثنية ( 20 : 10-15 ) .
(27) - 1 صموئيل ( 15 : 3 ) .
(28) - العدد ( 31 : 7-11 ) .
(29) - يشوع ( 6 : 21- 24 ) .
(30)- سورة البقرة ( 120 )
(31) - 2 صموئيل ( 12 : 30- 31) .
(32) - 2 الملوك ( 3 : 19 و 25 ) .
(33) - العدد ( 33 : 50 – 55 ) .
(34) - الخروج ( 34 : 11-15 ).
(35) - سورة البقرة : ( 105 ) .
(36) -سورة المائدة : (57 )
(37) - سورة البقرة ( 100 ) .
(38) - (من لقاء له مع ديدات ، انظر : احمد ديدات " العرب وإسرائيل شقاق أم وفاق " : ص ( 53 - 54(/9)
الخلوة خطر يجب اتقاؤه 24/9/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
في سياق وقفاتنا مع سورة يوسف _عليه السلام_ نقف مع كيد النساء -إن أغواهن الشيطان- وكيف يجب أن نتعامل معه، لنصون المرأة ونحفظ المجتمع، فالعزيز لما لم يحسن التعامل مع المنكر الذي اقترفته امرأته عمدت إلى تكراره على نحو آخر.
يقص القرآن الكريم علينا خبر افترائها على يوسف _عليه السلام_ بعد أرادت أن تغويه وكتب الله له العصمة؛ لأنه من المخلصين، حاولت أن تخلع عليه ثوب التهمة وتظهر بمظهر البريء المعتدى عليه، يقول _تعالى_: "وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (يوسف:25). انظروا إلى هذا الكيد العظيم، حيث بهتته بالدعوى مفاجأة مع أنها هي التي راودته، وهي التي قالت: هيت لك، وهي التي لحقته، وهي التي قدت قميصه من دبر، ومع ذلك في لحظات سريعة وتصرف سريع وبديهة سريعة تفاجئه بهذا البهتان "مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" فما كان من يوسف _عليه السلام_ إلا أن رد بقوله: "هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي" (يوسف: من الآية26)، لكنه في الحقيقة كان أمام مشكلة؛ لأن المرأة هنا هي التي تصدق، والرجل في موقع التهمة، فكان في حرج شديد، ومع أنه رد الدعوى، ومع صدق يوسف، لكن يحتاج الأمر إلى دليل حاسم فينقذه الله _جل وعلا_ ، ويأتي الشاهد فيقول: "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا" (يوسف: من الآية26). ذكر المفسرون أقوالاً في هذا الشاهد، قيل: إنه صغير، وقيل: إنه في المهد، وقيل: رضيع، ولكن يبدو أنه ليس كذلك؛ لأن الذين قالوا: إنه في المهد بناء على أنه رأى، بينما شهادة الشاهد تدل على أنه لم ير القضية، وإنما ذكر دليلاً عقلياً يبين مَن المتهم ومَن البريء، ثم ثبت عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كما في صحيح مسلم أنه قال: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة" ولم يذكره منهم، فيدل على أن هذا الشاهد كان رجلاً كبيراً يؤخذ بقوله، وهو القول الأقوى، وبخاصة _كما قلت_ مع عدم الدليل على القول الآخر، ويبدو أن الشاهد كان مصاحباً لزوجها، أو جاء بعد ذلك ورأى المشكلة.
"وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا" (يوسف: من الآية26)، كان هذا من أعظم الفرج؛ لأننا إذا تصورنا المحنة التي كان فيها يوسف في هذه اللحظة وسرعة البهتان، ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم؟ فجاء هذا الشاهد وأنقذ الله _جل وعلا_ يوسف من هذا البلاء. أولاً: عندما وجدا زوجها عند الباب. وثانياً: هذه الشهادة التي أنقذته من هذه المحنة العظيمة.
ومن الفوائد هنا أهمية الأخذ بالقرائن، وهذا فصل فيه الفقهاء، متى تعد القرينة مؤثرة ومتى لا تعد، وليس هذا مكان البيان هنا؛ لأننا نعيش في هذه الأجواء القرآنية، ولكنها إشارات تمر علينا أحياناً ومن أراد المزيد فعليه أن يرجع إلى كتب التفسير، وبخاصة كتب أحكام القرآن، فقد فصلوا في هذه المسألة، كيف حكم هذا الشاهد؟ أولاً نجد أنه قال: "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا". أي: أنه بعيد عن التهمة في أن يكون في صف يوسف، ففي هذه الحالة إذا شهد ليوسف من خلال القرينة التي ذكرها والدليل الذي ذكره، فشهادته صادقة، وحجته قوية دامغة. كيف فعل هذا الشاهد؟ ماذا قال هذا الشاهد؟ قال: إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين، نلحظ هنا أنه بدأ بالشهادة لصالح المرأة من أجل أن يبعد أي تهمة عليه، وهذا يؤكد أنه لم يكن حاضراً للواقعة، أي: لم يكن صغيراً، وبخاصة أن في القصة، أنها أغلقت الأبواب، فليس هناك أحد، فقال: إن كان قميصه قد من قبل فصدقت؛ لأنه إن كان هو الذي لحقها فالطبيعي أن يقد قميصه من قبل، أما إن كانت هي التي لحقته وهو الذي هرب منها، فيكون قطع القميص أو شق القميص من دبر، فماذا رأى العزيز رأى قميصه قد من دبر، فعلم في هذه الحالة أن المرأة قد كذبت وأن يوسف _عليه السلام_ قد صدق، "فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ" (يوسف:28). إي والله إن كيدهن عظيم.(/1)
وهنا وقفة مهمة كيف نجمع بين قوله _تعالى_: "إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ" (يوسف: من الآية28) وبين قوله _تعالى_:"إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً" (النساء: من الآية76) هنالك من قال بناء على هاتين الآيتين، أن كيد النسوة أعظم من كيد الشيطان، وهذا غير صحيح. فكيد الشيطان عندما وصفه الله _تعالى_ بأن كيد الشيطان كان ضعيفا، وصفه في سياق معين، وكيد المرأة وصف في سياق معين، والدليل أن كيد الشيطان أعظم من كيد النسوة، أن كيد المرأة هنا جزء من كيد الشيطان، فالذي جعل المرأة تفعل هذا الفعل هو من كيد الشيطان، ومن تسويل الشيطان، ومن حيل الشيطان، وهو الذي تابع مسلسل الإخراج من أوله إلى آخره، لكن هنا ملحظ مهم، وهو: أن العزيز كان يصف الكيد الذي أمامه، "إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ" (يوسف: من الآية28)، فلم يكن المقام مقام مقابلة بين كيد الشيطان وبين كيد المرأة ، فحتى نقول: إن كيد المرأة أو كيد النساء أعظم من كيد الشيطان. إنما هو الآن يصف المشهد الذي أمامه ولا شك أنه كيد عظيم، من إغلاقها الباب، ومن مراودتها ليوسف، ومن محاولتها ولحقها إياه وقدّ القميص، ثم لما قلبت الدعوى عليه، بعد كل ما فعلت، وهذا كيد عظيم ولا شك، أما هناك فالله _جل وعلا_ يبين للمؤمنين ألا يتأثروا بالشيطان وألا ينخدعوا بمحاولاته؛ لأن كيده ضعيف. "مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ" (إبراهيم: من الآية22)، كما يقول يوم القيامة، "فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ" (إبراهيم: من الآية22)، ولذلك قال النبي _صلى الله عليه وسلم_ وهو يصف كيد الشيطان: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة". فإذن ليست المقارنة بين كيد المرأة وكيد الشيطان حتى نقول: إن كيد المرأة أعظم من كيد الشيطان. الصحيح أن كيد الشيطان أعظم من كيد النساء؛ لأن هذا الكيد من المرأة هو جزء من كيد الشيطان، ومن إيحاء الشيطان، ومن تأثير الشيطان، فاستجابت له وأصبحت صدى له، هذا الذي يظهر لي من هذه الآيات، ومع ذلك أقول: إن الشيطان يكيد عن طريق الوسوسة، بينما المرأة تكيد مباشرة. هنا الفرق في المسألتين، ولذلك يكون تأثير الشيطان بالنسبة للمؤمن الصادق تأثير قليل وضعيف إذا تحصن بالأوراد، إذا تحصن بالأدعية، إذا تحصن بكل وسائل مقاومة الشيطان، فإن كيد الشيطان ضعيف، أما مخالطة النساء والخلوة مع المرأة فهنا كيد النساء عظيم.
ومن هنا أنبه إلى خطورة الخلوة بالنساء، فهناك من تساهل في ذلك وبخاصة مع بعض الأقارب أو مع الخدم والسائقين، حتى أصبح السائق في كثير من البيوت وكأنه من أهل البيت، وهذا خلل تساهل فيه أولياء الأمور وأرباب البيوت، ووقعت مصائب عدة لا تخفى على العاقل. إذا كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ لما سئل عن الحمو، (وهو: أخ الزوج أو قريب الزوج)، قال: "الحمو الموت". مع أن قريب الزوج يكون عنده من العوامل والأسباب ما يردعه ويمنعه أعظم مما لدى الرجل الغريب الأجنبي، فالخلوة بالنساء أمرها عظيم، والشيطان قد يزين للمرأة أو الرجل، أو لكليهما فيقع المحذور، وقد قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما"، أي: ما خلا بامرأة لا تحل له وليست محرماً له وليس محرماً لها، ولذلك بين النبي _صلى الله عليه وسلم_ أن الرجل لا يخلو مع المرأة إلا ومعه محرم، سداً للذريعة، وإبعاداً للتهمة.
وهنا يرد سؤال: ماذا فعل العزيز لما ثبت له أن يوسف بريء وزوجته مذنبة؟ قال: "يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ" (يوسف:29). فقال له: أعرض عن هذا، لا تتكلم بهذا الموضوع من أجل ألا ينتشر ويفشو هذا السر وهذا الخطأ، ثم بين أن المرأة هي التي وقعت في الذنب، فقال لها: "وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ..." (يوسف:29)، أكد هذا، "كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ" (يوسف: من الآية29). وبهذا نرد على الذين قالوا: إن يوسف _عليه السلام هم بها هماً لا يليق به_، فالدليل على أن المرأة هي التي أخطأت، ويوسف _عليه السلام_ لم يخطئ أبداً.(/2)
و ذكر بعض المفسرين كشيخ الإسلام وغيره أن العزيز تهاون وتساهل مع امرأته، وكان ينتظر منه أن يعاقبها عقاباً شديداً، وأن يتخذ قراراً وهو عزيز مصر بأن يفصل يوسف عن زوجته، لكنه اكتفى بهذه العبارات "يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ" (يوسف:29)، وهذا لا يكفي، ولذلك تكررت المأساة بصورة أخرى _كما سيأتي_، ومن هنا نقول: إنه يجب على المسلم ابتداء ألا يكون هناك مجال للريبة أو الخلوة، ولكن لو وقع شيء من ذلك ووقع أحد في الخطأ، أن نتخذ القرار الحاسم، بأن لا يعود الأمر مرة أخرى ، سواء في مثل هذه القضية أو في غيرها. لأنه كما قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين?ً، وهذا الذي وقع فيه عزيز مصر، وتساهل واكتفى بهذه النصيحة، "يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ" أخطأ في اتخاذ القرار المناسب.
نسأل الله تعالى أن يحفظ المسلمين، وأن يرفع عنهم بلاء الخلوة والاختلاط الذي عم كثيراً من ديار الإسلام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/3)
الخلوة؛ دعوة للشيطان وطرد للعفة 6/9/1425
أ.د ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
يقول الله _تعالى_: "وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ" (يوسف:23).
وهذه القصة قصة غرام ومراودة بلغت أشدها من امرأة العزيز "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" (يوسف:30). ومع ذلك ومع أنها قصة غرام، نجد الدقة في الألفاظ، والعفة في العبارات. حتى امرأة العزيز وهي تراوده تأتي بهذه العبارات، فتقول: هيت لك، وتقول لزوجها بعد مدة: ما جزاء من أراد بأهلك سوء. والوقفة هنا، تأملوا قصص الغرام التي يكتبها بعض الأدباء، ترى ما فيها من استخفاف، ما فيها من عشق، وما فيها من إسفاف، يستحي المرء من قراءتها فضلا عن سماعها أو قولها، ومع ذلك تعرض هذه القصة التي هي قمة غرام امرأة العزيز بيوسف "قد شغفها حباً"، ومع ذلك تعرض بهذا الأسلوب العجيب، بالأسلوب الرفيع، بالأسلوب الأديب. هذا هو الأدب الحقيقي.
إن الأدب إذا لم يكن فيه أدب في نطقه ومعناه فليس أدباً!
كيف يكون أدباً وصاحبه لم يتأدب في عباراته؟
والذي يقرأ بعض هذه القصص التي تقال، قصص الأدب والغرام، يجد فيها ما يستحي المرء من أن يقرأه سراً، فضلاً عن أن ينشر على الملأ!
وقصة امرأة العزيز تبين لنا أهمية الالتزام بالعبارات التي هي الأدب الحقيقي.
إن أساليب القصص الهابطة التي درج على سلوكها كثير من أدباء الزور، ليست من الأدب في شيء، أما أسلوب القرآن فهو القمة السامقة في أدب العبارات وألفاظ.
وقوله الله _تعالى_: "وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ" (يوسف: من الآية23)، يبين خطورة الخلوة، تلك البلية التي تساهل فيها كثير من الناس.
إن الشرع قد أغلق منافذ الشر، ولذا قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: " ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما"، وقال _صلى الله عليه وسلم_: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم"، ولما سأله الصحابة عن الحمو (وهو قريب الزوج أو أخ الزوج، الذي قد يكون موجوداً في البيت)، قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "الحمو الموت".
ومصداق ذلك في هذه السورة، فلما حدثت الخلوة، جاء الشيطان إلى امرأة العزيز وأثار كوامن في نفسها مع أنها امرأة متزوجة، وزوجها عزيز مصر، ومع ذلك غلقت الأبواب، وقالت: هيت لك، واستمرت في مراودتها، بل لحقته حتى قدت قميصه من دبر وكأن الشيطان يدفعها دفعاً!
ومع ذلك فقد تساهل كثير من الناس في هذا الباب، وبالذات مع بعض الأقارب، وأشد من ذلك مع السائقين والخدم.
فكثير من الناس يتساهلوا في خلوة أبنائهم مع الخادمة، يخرج من في البيت ولا يبقى إلا بعض الأبناء والخادمة، والأب مطمئن والأم مطمئنة، وماذا يحدث بعد ذلك كما هو ثابت ومشاهد!
وعكس ذلك يخلو السائق بالزوجة أو بالبنات، فماذا يحدث بعد ذلك؟ اسألوا المؤسسات الاجتماعية. اسألوا الهيئات تجدون.. والله عجبا!
إذن فخطورة الخلوة ظاهرة بينة فلنتق الله _جل وعلا_ ولا نتساهل في أعراضنا.
وليست المسألة اتهام لفلان أو فلان، اتهام لقريب أو سائق أو خادم، و إنما هي قضايا تتعلق بالنفس والشيطان والهوى، و"ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" هكذا قال الصادق المصدوق _صلى الله عليه وسلم_.
وقد قال الله _تعالى_ في شأن يوسف وهو من هو _عليه السلام_: "ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه"، وهنا وقفة مهمة تتعلق بالإسرائيليات، فقد رجعت إلى بعض كتب التفسير، ووجدت أن بعضهم قد أورد من الأخبار ما يتنافى مع مقام يوسف _عليه السلام_،والذي أخبر الله _عز وجل_ عنه، فقال: "كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ"(يوسف: من الآية24). سبحان الله كيف تسود الصفحات بمثل ذلك الكلام، والله _جل وعلا_ يقول: "وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ"(يوسف: من الآية23)، كل الأبواب مغلقة وليس باباً واحداً، ثم يأتي هؤلاء فينقلون عن الإسرائيليات، أنه خلع ثيابه، ثم يذكرون قصصاً غريبة، ولنا أن نتساءل من الذي أعلمكم وقد غلقت الأبواب، ولم يكن هناك أحد حاضر، هل صرح لكم –عليه السلام- بشيء!
إن كثيراً من أخبار بني إسرائيل، وقصص بني إسرائيل، اشتملت على أباطيل ظاهرة، وبمجرد النظر فيها يدرك المسلم أنها ليست صحيحة، ورحم الله المفسرين الذين خلصوا كتبهم من هذه الإسرائيليات.(/1)
ومن الوقفات في هذه القصة أيضاً أن جميع مقومات الإغراء كانت متوافرة ليوسف _عليه السلام_، الدواعي متوافرة، وزالت الموانع البشرية، ومع ذلك كان موقف يوسف _عليه السلام_ في غاية القوة والصلابة والشجاعة.
رجل بعيد عن أهله، غريب في هذا البلد، والتي تراوده امرأة العزيز، وغلقت الأبواب، وفيها مقومات الإغراء، مال ومنصب وجمال ومع ذلك يقول: "معاذ الله".
فما أحوجنا إلى أن نتدبر هذا الموقف فقد يبتلى الإنسان، وقد يكون في موقع من حيث لا يدري ومن حيث لا يحسب ومن حيث لا يرتب كما حدث ليوسف _عليه السلام_، وحينها فليتذكر عفة يوسف، وليتذكر قول النبي _صلى الله عليه وسلم_ في السبعة الذين يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: " ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال".
نسأل الله أن يجنبنا وإياكم مواطن الفتن، وأن يرزقنا العفاف والتقى، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(/2)
الخليفة الراشد المهدي محمد بن عبد الله
في آخر الزمان يخرج خليفة راشد من أهل البيت يؤيد الله به الدين و يملك سبع سنين ، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً و ظلماً ، تنعم الأمة في عهده نعمة لم تنعمها قط ؛ تخرج الأرض نباتها و تمطر السماء قطرها ، و يعطى المال بغير عدد. و يسمى بالمهدي. في زمانه تكون الثمار كثيرة ، و الزروع غزيرة ، والمال وافر والسلطان قاهر ، و الدين قائم والعدو راغم ، و الخير في أيامه دائم . و المهدي هو رجل يخرج في آخر الزمان من نسل الحسن بن علي رضي الله عنهما. اسمه محمد و اسم أباه عبد الله. و سمي الفاطمي المنتظر لأنه يخرج من ذرية فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم. هو من الأنصار يعيش جلّ حياته في المدينة المنورة في ظل الخلافة الراشدة. على أنه يحدث خلاف عند موت الخليفة الراشد الحادي عشر (و على ما يبدو أن ذلك في دمشق). و يستولي على الشام حاكم فاجر فيهرب المهدي إلى مكة فيتبعه الناس و يبايعونه مكرهاً فيبعث حاكم الشام عليه جيشاً فيخسف الله بذلك الجيش في بيداء المدينة فيعلم المسلمون بأنه المهدي المنتظر فيبايعه أبدال الشام و عصائب العراق فتتم له البيعة و الخلافة الراشدة و يحكم العرب كلهم من عاصمته دمشق. و في زمانه يقود المسلمين إلى نصر عظيم على الروم النصارى (الأميركان و الأوربيين) في حرب تسمى الملحمة الكبرى. تدوم تلك الحرب ستة سنين من أعظم الحروب في تاريخ البشرية. يموت فيها معظم الرجال حتى يكون الرجل الواحد قيماً على خمسين امرأة. يفتح الله على يده روما عاصمة النصرانية. و في السنة السابعة يخرج المسيح الدجال اليهودي (مهدي الرافضة) فيَصل إلى أصفهان في إيران فيتبعه منها سبعين ألف يهودي (لاحظ أن الرافضة يعتبرون من اليهود). و يجوب الأرض كلها إلا مكة و المدينة ثم يحاول أن يغزو دمشق عاصمة الخلافة فينزل المسيح عيسى بن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق (نظنها منارة الجامع الأموي) فيتبع الدجال و يقتله في فلسطين و يقتل المسلمون اليهود كلهم. ثم يكسر عيسى بن مريم الصليب و يقتل الخنزير و يدعو الناس للإسلام فعندها لا يبقى إنسان على سطح الأرض إلا و يدخل بالإسلام. و يموت المهدي ثم يحكم بعده عيسى بن مريم عليه السلام و يعم السلام على الأرض قاطبة.
و من الحقائق الهامة التي يجب معرفتها ، إن الإمام الثاني عشر لدى الشيعة وهو الغائب المنتظر شخصية موهومة لا حقيقة لها ، نسب للحسن العسكري الذي مات عقيماً، و صفى أخوه جعفر تركته على انه لا ولد له، و لم يسجل له ولد في سجل العلويين الذي يسجل فيه المواليد و لا يعرف العلويون للحسن العسكري أنه مات عن ولد ذكر، و لكن لما مات الحسن العسكري عقيماً و وقفت سلسلة الإمامة عند أتباعهم الإمامية رأو أن المذهب مات بموته و أصبحوا غير إماميين لأنهم لا إمام لهم، فاخترع لهم شيطان من شياطينهم يسمى: محمد بن نصير، فكرة أن للحسن ولدا مخبوءاً في سراديب بيت أبيه ليتمكن هو و زملاؤه من الاحتيال على عوام الشيعة و أغنيائهم بتحصيل الخمس منهم باسم إمام موجود و اختلف هو و زملائه بسبب تحديد الشخص الذي يكون الباب على السرداب ( الغيبة الصغرى و الكبرى ) إلى آخر هذه الأسطورة التي يريدون من جميع المسلمين الذين انعم الله عليهم بنعمة العقل أن يصدقوها !!!
و الشيعة ينظرون إلى أنه ولد منذ القرن الثالث وأنه ما زال حياً إلى الآن وأنه يظهر أحياناً في صورة شبحية لبعض اتباعه كظهوره لابن المطهر الحلي ( وهو من علماء الشيعة الكبار ) و ظهوره في أكثر من مكان مرة في شيراز و مرة في غيره. و يذكر الكافي وغيره من الكتب المعتمدة عند الشيعة طريقة ولادة الأئمة بطريقة أشبه ما تكون بالأسطورة ، و هذا لا بد من النظر إليه بعين الاعتبار. من الأمور الغريبة كذلك مسألة اقتران أبيه الحسن العسكري بأم المهدي التي كانت نصرانية و رأت رؤية و بيعت كما يُباع العبيد ثم تنتهي الأسطورة بأن تكون هذه المرأة هي المرأة المختارة لاحتضان قائم آل محمد!!
و قد الأحاديث التي جاءت بالمهدي كثيرة لكن كثير منها ضعيف و موضوع. و لو أن الصحيح منها بلغ درجة التواتر المعنوي في إثبات وجود المهدي. و فيما يلي سرد موجز لأهم الأحاديث الصحيحة :
صفته : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المهدي مني – أي من نسلي – ، أجلى الجبهة – أي منحسر الشعر من مقدمة رأسه ، أو واسع الجبهة - ، أقنى الأنف – أي طويل الأنف و دقة أرنبته مع حدب في وسطه - ، يملأ الأرض قسطاً و عدلاً ، كما ملئت ظلماً و جوراً ، و يملك سبع سنين ) . رواه أبو داود ( برقم 2485) و إسناده حسن .(/1)
و قد جاءت الأحاديث الصحيحة الدالة على ظهور المهدي ، و هذه الأحاديث منها ما جاء فيه النص على المهدي ، و منها ما جاء فيه ذكر صفته فقط ، و سأذكر هنا بعض هذه الأحاديث ، وهي كافية في إثبات ظهوره في آخر الزمان علامة من علامات الساعة .
1 – عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( يخرج في آخر أمتي المهدي ؛ يسقيه الله الغيث ، تخرج الأرض نباتها و يعطى المال صحاحاً وتكثر الماشية وتعظم الأمة يعيش سبعاً أو ثمانياً ) – يعني : حججاً - . مستدرك الحاكم (4/557-558) و قال هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه و وافقه الذهبي .
2 - وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبشركم بالمهدي ؛ يبعث على اختلاف من الناس و زلازل فيملأ الأرض قسطاً و عدلاً ، كما ملئت جوراً و ظلماً ، يرضى عنه سكن السماء وساكن الأرض ، يقسم المال صحاحاً ، فقال له رجلاً : ما صحاحاً ؟ قال : بالسوية بين الناس ) قال : ( و يملأ الله قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم عدله ، حتى يأمر منادياً فينادي فيقول : من له في مال حاجة ؟ فما يقوم من الناس إلا رجل فيقول : ائت السدّان – يعني الخازن – فقل له : إن المهدي يأمرك أن تعطيني مالاً ، فيقول له : احث ، حتى إذا حجزه و أبرزه ؛ ندم فيقول : كنت أجشع أمة محمد نفساً أو عجز عني ما وسعهم ؟! قال : فيرده فلا يقبل منه ، فيقال له : إنا لا نأخذ شيئاً أعطيناه ، فيكون كذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين ، ثم لا خير في العيش بعده ) أو قال : ثم لا خير في الحياة بعده ) . المسند (3/37) و رجاله ثقات ، و أنظر مجمع الزوائد ( 7/313-314) .
3 - عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المهدي منا أهل البيت ، يصلحه الله في ليلة ) . المسند (2/58) بسند صحيح.
و قوله : ( يصلحه الله في ليلة ): فلعل المراد بذلك أن الله يصلحه للخلافة أي يهيئه لها، و يوفقه و يلهمه و يرشده ، بعد أن لم يكن كذلك. و قال القاري في المرقاة (5/180) : ( يصلحه الله في ليلة ) : أي يصلح أمره و يفع قدره في ليلة واحدة ، أو في ساعة واحدة من الليل ، حيث يتفق على خلافته أهل الحل والعقد فيها. و هذا معناه قطعاً أن المهدي لن يعرف نفسه أنه المهدي حتى يبايعه الناس. و ليس قطعاً بطالب للخلافة و لا ظان لأهليته لها، و لذلك يبايعه الناس و هو كاره.
4 - عن أم سلمة رضي الله عنها ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( المهدي من عترتي ، من ولد فاطمة ) .سنن أبي داود (11/373) بسند صحيح .
5 - عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي : تعال صل بنا ، فيقول : لا إن بعضهم أمير بعض ؛ تكرمة الله هذه الأمة . المنار المنيف لابن القيم (ص 147-148) بسند جيد و له شواهد من الصحيح.
6 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( منا الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه ). ذكره المناوي في فيض القدير (6/17) بسنده صحيح.
7 - عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلا يَوْمٌ– قال الشعراني : يعني من أيام الرب سبحانه المشار إليه بقوله تعالى :{ وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} . اليواقيت ( ص 142) . –لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلًا مِنِّي أَوْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمُ أَبِي– فيكون اسمه : محمد بن عبد الله ، و فيه رد على الشيعة الذين يقولون : إنه محمد بن الحسن العسكري ، و معنى يبعث :أي يظهر - ، زاد في حديث فطر : ( يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا ) . و في رواية للترمذي : «لا تذهب– أو :لا تنقضي –الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي». أبو داود ( برقم 4282) و هو حديث حسن صحيح و تحفة الأحوذي (6/486).
و قوله صلى الله عليه وسلم : ( حتى يملك العرب ) : قال القاري : أي ومن تبعهم من أهل الإسلام ، فإن من أسلم فهو عربي. و قال الطيبي رحمه الله : لم يذكر العجم ، و هو مراد أيضاً ، لأنه إذا ملك العرب ، و اتفقت كلمتهم و كانوا يداً واحدة ، قهروا سائر الأمم . و يمكن أن يقال : ذكر العرب لغلبتهم في زمنه ، أو لكونهم أشرف أو هو من باب الاكتفاء ، ومراده : العرب والعجم ، كقوله تعالى{سرابيل تقيكم الحر} أي : والبرد ، والأظهر أنه اقتصر على ذكر العرب لأنهم كلهم يطيعونه بخلاف العجم بمعنى ضد العرب ، فإنه قد يقع منهم خلاف في طاعته والله تعالى أعلم . مرقاة المفاتيح (5/179).(/2)
8 - روى الأمام أحمد عن زر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقوم الساعة حتى يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي ) . المسند (1/376) بسند صحيح.
9 - روى الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه بلفظ : ( لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً ، كما ملئت جوراً ) ، و في لفظ : ( لو لم يلق من الدنيا إلا يوم لبعث الله عز وجل رجلاً منا يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً ). المسند (1/99) بسند صحيح.
وهذه جملة من الأحاديث يحتمل كونها في شأن المهدي:
1 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يوشك أن أهل العراق لا يجيء إليهم قفيز– مكيال لأهل العراق - ولا درهم ) ، قلنا من أين ذلك ؟ قال : ( من قبل العجم ، يمنعون ذلك ) ، ثم قال : ( يوشك أهل الشام أن لا يجيء إليهم دينار ولا مُدي– مكيال لأهل الشام – ) ، قلنا : من أين ذلك ؟ قال : ( من قبل الروم ) ، ثم سكت هنيهة ، ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يكون في آخر أمتي خليفة– قال صاحب التاج الجامع للأصول (5/342) : هذا هو المهدي رضي الله عنه بدليل الحديث الآتي – يعني حديث أبي المتقدم رقم (2) – و ذلك لكثرة الغنائم و الفتوحات مع سخاء نفسه ، و بذله الخير لكل الناس - ، يحثي المال حثياً ، لا يعده عداً ) ، قال الجريري : قلت لأبي نضرة وأبي العلاء : أتريان أنه عمر بن عبد العزيز ؟ فقالوا : لا . مسلم برقم (2913).
2 - عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : عَبِث – أ ي تحرك – رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه ، فقلنا : يا رسول الله ! صنعت شيئاً في منامك لم تكن تفعله ، فقال : ( العجب أن ناساً من أمتي يؤمون– أي يقصدون –البيت لرجل من قريش قد لجأ بالبيت ، حتى إذا كانوا بالبيداء– المفازة وهي الأرض الواسعة القفر –خسف بهم ) ، فقلنا : يا رسول الله ! إن الطريق قد تجمع الناس ، قال : ( نعم فيهم المستبصر– المستبين للأمر القاصد له –والمجبور– المكره والمقهور - ، وابن السبيل ، يهلكون مهلكاً واحداً و يصدرون مصادر شتى– المقصود أن مهلك هذا الجيش مهلك واحد يخسف بهم جميعاً ، إلا أنهم يصدرون عن الهلكة مصادر متفرقة فواحد إلى الجنة و آخر إلى النار على قدر أعمالهم و نياتهم . جامع الأصول (9/279) - ، يبعثم الله على نياتهم ) . البخاري (4/284،285 ) و مسلم ( برقم 2884).
3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يبايع لرجل بين الركن والمقام ، ولن يستحل البيت إلا أهله ، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب ، ثم تأتي الحبشة فيخربونه خراباً لا يعمر بعده أبداً ، وهم الذين سيتخرجون كنزه ) . رواه الإمام أحمد (2/291) بسند صحيح.
4 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم ، و إمامكم منكم ) . البخاري ( 6/358) و مسلم ( 2/193).
5 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ، فينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم : تعال صل لنا ، فيقول : لا إن بعضكم على بعض أمراء ، تكرمة الله هذه الأمة ) . المسند (3/384) و مسلم (2/193) ، في لفظ : ( فإذا هم بعيسى بن مريم ، فتقام الصلاة فيقال له : تقدم يا روح الله ، فيقول : ليتقدم إمامكم فليصل بكم ) وقد أورد الشيخ صديق حسن خان رحمه الله في الإذاعة (ص 144) جملة من أحاديث المهدي ، جعل آخرها حديث جابر المذكور عند مسلم ، ثم قال : وليس فيه ذكر المهدي ، و لكن لا محل له و لأمثاله من الأحاديث إلا المهدي المنتظر ، كما دلت على ذلك الأخبار المتقدمة ، و الآثار الكثيرة .
6 – أخرج مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لا يَنْقَضِي حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً قَالَ ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلامٍ خَفِيَ عَلَيَّ قَالَ فَقُلْتُ لأَبِي مَا قَالَ قَالَ كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْش.(/3)
7 - أخرج مسلم دَخَلَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ وَ أَنَا مَعَهُمَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَسَأَلاهَا عَنِ الْجَيْشِ الَّذِي يُخْسَفُ بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُوذُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ فَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا قَالَ يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ هِيَ بَيْدَاءُ الْمَدِينَةِ حَدَّثَنَاه أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَفِي حَدِيثِهِ قَالَ فَلَقِيتُ أَبَا جَعْفَرٍ فَقُلْتُ إِنَّهَا إِنَّمَا قَالَتْ بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ كَلَّا وَاللَّهِ إِنَّهَا لَبَيْدَاءُ الْمَدِينَةِ.
8 - لَيَؤُمَّنَّ هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ يَغْزُونَهُ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوْسَطِهِمْ وَيُنَادِي أَوَّلُهُمْ آخِرَهُمْ ثُمَّ يُخْسَفُ بِهِمْ فَلَا يَبْقَى إِلَّا الشَّرِيدُ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْهُمْ. (أخرجه مسلم).
9 - تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ثُمَّ فَارِسَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ اللَّه.ُ قَالَ فَقَالَ نَافِعٌ يَا جَابِرُ لَا نَرَى الدَّجَّالَ يَخْرُجُ حَتَّى تُفْتَحَ الرُّومُ. (أخرجه مسلم).
10 - قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو أَبْصِرْ مَا تَقُولُ قَالَ أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ. (أخرجه مسلم) و قد تحقق ذلك فأصبح الروم اليوم أكثر الناس.
11 - الْمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ. (أخرجه أبو داوود).
12 - أخرج بن ماجة و الحاكم و صححه و ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه:
سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ يقول: إِذَا وَقَعَتِ الْمَلَاحِمُ خرج بَعْث مِنَ الْمَوَالِي من دمشق هُمْ أَكْرَمُ الْعَرَبِ فَرَسًا وَ أَجْوَدُهُم سِلَاحًا يُؤَيِّدُ اللَّهُ بِهِمُ هذا الدِّين.
13 - عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ. (أخرجه الترمذي).(/4)
14 - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَكُونُ اخْتِلَافٌ عِنْدَ مَوْتِ خَلِيفَةٍ فَيَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَارِبًا إِلَى مَكَّةَ فَيَأْتِيهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَيُخْرِجُونَهُ وَهُوَ كَارِهٌ فَيُبَايِعُونَهُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَيُخْسَفُ بِهِمْ بِالْبَيْدَاءِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَإِذَا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ أَتَاهُ أَبْدَالُ الشَّامِ وَعَصَائِبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَيُبَايِعُونَهُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ ثُمَّ يَنْشَأُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَخْوَالُهُ كَلْبٌ فَيَبْعَثُ إِلَيْهِمْ بَعْثًا فَيَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ بَعْثُ كَلْبٍ وَالْخَيْبَةُ لِمَنْ لَمْ يَشْهَدْ غَنِيمَةَ كَلْبٍ فَيَقْسِمُ الْمَالَ وَيَعْمَلُ فِي النَّاسِ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُلْقِي الْإِسْلَامُ بِجِرَانِهِ فِي الْأَرْضِ فَيَلْبَثُ سَبْعَ سِنِينَ ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. وفي رواية أخرى تِسْعَ سِنِينَ. (أخرجه أبو داوود بسند لا بأس به، و تدعمه الكثير من الأحاديث الصحيحة الأخرى).
إثبات صحة حديث أبي داود
ما كنت بحاجة لسرد هذا البحث و الإطالة به لولا تضعيف الشيخ الألباني لهذا الحديث رغم صحة سنده و كثرة شواهده.
حدثنا علي بن حمشاذ العدل ثنا إبراهيم بن الحسين الهمداني ثنا عمر بن عاصم الكلابي ثنا أبو العوام القطان ثنا قتادة عن أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبايع لرجل من أمتي بين الركن والمقام كعدة أهل بدر. فيأتيه عصب العراق و أبدال الشام. فيأتيهم جيش من الشام، حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم ثم يسير إليه رجل من قريش أخواله كلب فيهزمهم الله قال وكان يقال إن الخائب يومئذ من خاب من غنيمة كلب». المستدرك على الصحيحين (4\478).
حدثنا يعقوب بن إسحاق المخرمي ثنا عفان بن مسلم ثنا عمران القطان عن قتادة عن أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يبايع لرجل بين الركن والمقام عدة أهل بدر فيأتيه عصائب أهل العراق وأبدال الشام فيغزوهم جيش من قبل الشام حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم ثم يغزوهم رجل من قريش أخواله كلب فيلتقون فيهزمهم الله فكان يقال الخائب من خاب من غنيمة كلب. المعجم الكبير (23\389). و رجاله رجال البخاري إلا المخرمي فلم أجد ترجمته.
حدثنا أحمد بن موسى الشامي البصري ثنا سهل بن تمام بن بزيع ثنا عمران القطان عن قتادة عن أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يبايع لرجل بين الركن والمقام عدة أهل بدر فيأتيه عصائب أهل العراق وأبدال أهل الشام فيغزوهم جيش من أهل الشام حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم يغزوهم رجل من قريش أخواله كلب فيلتقون فيهزمهم فكان يقال الخائب من خاب من غنيمة كلب. المعجم الكبير (23\295).
حدثنا محمد بن المثنى ثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن صالح أبي الخليل عن صاحب له عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يكُونُ اخْتِلَافٌ عِنْدَ مَوْتِ خَلِيفَةٍ، فَيَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَارِبًا إِلَى مَكَّةَ، فَيَأْتِيهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَيُخْرِجُونَهُ وَهُوَ كَارِهٌ. فَيُبَايِعُونَهُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ. وَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَيُخْسَفُ بِهِمْ بِالْبَيْدَاءِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. فَإِذَا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ أَتَاهُ أَبْدَالُ الشَّامِ وَعَصَائِبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَيُبَايِعُونَهُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ. ثُمَّ يَنْشَأُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَخْوَالُهُ كَلْبٌ فَيَبْعَثُ إِلَيْهِمْ بَعْثًا فَيَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ بَعْثُ كَلْبٍ، وَالْخَيْبَةُ لِمَنْ لَمْ يَشْهَدْ غَنِيمَةَ كَلْبٍ. فَيَقْسِمُ الْمَالَ وَيَعْمَلُ فِي النَّاسِ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُلْقِي الْإِسْلَامُ بِجِرَانِهِ فِي الْأَرْضِ. فَيَلْبَثُ سَبْعَ سِنِينَ ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. وفي رواية أخرى تِسْعَ سِنِينَ. سنن أبي داود (4\107).(/5)
نلاحظ من هذه الأحاديث و ما بعدها أن مدار السند على قتادة عن أبي الخليل عن بن الحارث عن أم سلمة رضي الله عنها. و كل هؤلاء ثقاة إلا أن قتادة مدلس و قد عنعن هنا. و الصواب أن يعامل حديث عنعنة قتادة كالحديث المرسل، فإن اعتضد بشواهد ارتفع لمرتبة الحسن. و هذا الحديث له أحاديث صحيحة تشهد له منها:
• أخرج مسلم: دَخَلَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ وَ أَنَا مَعَهُمَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَسَأَلاهَا عَنِ الْجَيْشِ الَّذِي يُخْسَفُ بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَعُوذُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ فَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا قَالَ يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ». وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ هِيَ بَيْدَاءُ الْمَدِينَةِ.
و هذا يؤيد ما جاء في حديث أبي داود: يكُونُ اخْتِلَافٌ عِنْدَ مَوْتِ خَلِيفَةٍ، فَيَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَارِبًا إِلَى مَكَّةَ، فَيَأْتِيهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَيُخْرِجُونَهُ وَهُوَ كَارِهٌ.
• حدثنا يزيد أنا بن أبي ذئب عن سعيد بن سمعان قال سمعت أبا هريرة يخبر أبا قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يبايع لرجل بين الركن والمقام ، ولن يستحل البيت إلا أهله ، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب ، ثم تأتي الحبشة فيخربونه خراباً لا يعمر بعده أبداً ، وهم الذين سيتخرجون كنزه ) . رواه الإمام أحمد (2/291) بسند صحيح. و أخرجه الحاكم في المستدرك (4\499) بسند آخر، و قال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
و هذا يؤيد ما جاء في الحديث السابق فَيُبَايِعُونَهُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ.
• لَيَؤُمَّنَّ هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ يَغْزُونَهُ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوْسَطِهِمْ وَيُنَادِي أَوَّلُهُمْ آخِرَهُمْ ثُمَّ يُخْسَفُ بِهِمْ فَلَا يَبْقَى إِلَّا الشَّرِيدُ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْهُمْ. (أخرجه مسلم).
و هذا يؤيد ما جاء في الحديث وَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَيُخْسَفُ بِهِمْ بِالْبَيْدَاءِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
• أما الجزء فَإِذَا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ أَتَاهُ أَبْدَالُ الشَّامِ وَعَصَائِبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَيُبَايِعُونَهُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ. فمن المنطقي جداً أن يبايعه أبدال الشام و عصائب أهل العراق إذا علمنا أنه يملك العرب. عدا أنه بدون بيعة أبدال الشام لا تجتمع كلمة المسلمين عليه و لا يكون من الخلفاء الراشدين! أما أن البيعة بين الركن و المقام فقد سبق الحديث عنها.
بقي من نص الحديث ثُمَّ يَنْشَأُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَخْوَالُهُ كَلْبٌ فَيَبْعَثُ إِلَيْهِمْ بَعْثًا فَيَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ بَعْثُ كَلْبٍ، وَالْخَيْبَةُ لِمَنْ لَمْ يَشْهَدْ غَنِيمَةَ كَلْبٍ. و هذا يؤيده ما أخرجه الحاكم بسند صحيح: حدثنا سليمان بن بلال عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: المحروم من حرم غنيمة كلب ولو عقالا. والذي نفسي بيده لتباعن نساءهم على درج دمشق حتى ترد المرأة من كسر يوجد بساقها. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. المستدرك على الصحيحين (4\478).
• عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( يخرج في آخر أمتي المهدي ؛ يسقيه الله الغيث ، تخرج الأرض نباتها و يعطى المال صحاحاً وتكثر الماشية وتعظم الأمة يعيش سبعاً أو ثمانياً ) – يعني : حججاً - . مستدرك الحاكم (4/557-558) و قال هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه و وافقه الذهبي.
فهذا مؤيد تماماً لآخر حديث أبي داود: فَيَقْسِمُ الْمَالَ وَيَعْمَلُ فِي النَّاسِ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُلْقِي الْإِسْلَامُ بِجِرَانِهِ فِي الْأَرْضِ. فَيَلْبَثُ سَبْعَ سِنِينَ ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. وفي رواية أخرى تِسْعَ سِنِينَ.
فالخلاصة أن الحديث صحيح بلا أدنى شك كما هو واضح، خاصة أنه روي بإسناد آخر في المعجم الكبير (23\390). و الله أعلم.
أحلام و رؤى أناس صالحين عن المهدي و قرب ظهوره!!(/6)
قد يبدو هذا عجيبا لبعض الناس ممن يرفضون مجرد قبول فكرة أننا في الأيام القلائل الأخيرة التي تسبق الملاحم التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم !! و حسبي أن أروي ما سمعت من أحلام و رؤى لأناس -نحسبهم صالحين و لا نزكيهم على الله-. فمنهم مشايخ معروفون و مجاهدون و أخوة من طلبة العلم المعروف عنهم صدق أحلامهم و انطباق الواقع عليها!
1. أحد المجاهدين من بلاد الجزائر، ممن قبض عليهم! في بلاد الحرمين و تم تعذيبهم بشتى أنواع التعذيب التي ربما فاقت شدة تعذيب محاكم التفتيش الصليبية لمسلمي الأندلس الضائع. يقول هذا المجاهد أنه فقد وعيه مرة من شدة التعذيب، فرأى كأن ملكا كريما يطير به إلى السماء الدنيا. و هناك يرى عيسى عليه السلام الذي يضمه إلى صدره بشدة و يقول له : أنت ممن سيقاتل معي! ثم ينظر إلى الأرض فيرى المجاهد الأسد xxx على فرس و حوله ناس. فيقول عيسى عليه السلام : إلزم هذا الرجل. يقول هذا الأخ : فبعد أن خرجت من السجن طرت سريعا إلى xxx و انضممت إلى الشيخ المجاهد xxx حفظه الله.
2. و مجاهد من بلاد الحرمين يرى في المنام أحد الأخوة و قد قتل شهيداً. ثم يرى كأن أحد المشايخ يحمل السلاح الذي قتل به هذا الأخ! .. يقول هذا المجاهد : فسألت أحد أهل العلم ممن عرفوا بصحة تأويل الرؤى، فقال : ليس لهذا الحلم أي علاقة بشخص ذلك الشيخ، و إنما تأويله أن (المهدي حي يرزق و هو يقاتل في أحد جبهات الجهاد الآن!). يقول هذا الأخ : و عندما ذهبت إلى أفغانستان و رويت هذا الحلم للأخوة، أخذني أحد طلاب العلم هناك ( و هو من فلسطين ) إلى مكان لوحدنا، و حلفني بالله إن كنت رويت صورة ما رأيت في الحلم تماماً. فرددت عليه بالإيجاب، فقال تأويل هذا أن المهدي موجود في وقتنا هذا و هو يقاتل الآن في ساحات الجهاد، تماماً كما أولها ذلك الشيخ في بلاد الحرمين!
3. و ثالث من الأخوة المجاهدين من أهل الطائف، ممن يعرف بصحة أحلامه و صدق انطباق الواقع عليها. يقول : رأيت ( فلانا!) في زنزانة جالسا، ثم كأنه يخرج من زنزانته فيسجد له الفرس و النصارى ! فسألته : هل أنت المهدي !؟ فتبسم و مضى. و هذا ( الفلان ) اسمه أبو عمر محمد بن عبد الله السيف، و هو من شمال الجزيرة العربية. و يرجع نسبه بزعم البعض إلى الأشراف الهاشميون الذين دخلوا في بعض القبائل البدوية. و أغلب تلاميذه -بفضل الله- من الشباب الجهادي. يقول هؤلاء الأخوة : كل صفات المهدي التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه و سلم منطبقة عليه أشد انطباق! بل حتى كبار السن عندنا في بلدتنا كانوا يظنونه المهدي، فلما ذهب إلى ( الشيشان ) للجهاد صاروا يجزمون بذلك، حيث أن المهدي يأتي من قبل المشرق! و هو يغضب جداً عندما يسمع أن أحدهم ذكر أنه هو المهدي. و هذه أيضاً من علامات المهدي كما مر معنا في حديث يصلحه الله في يوم و ليلة. و للعلم فقط، فإن تلاميذه الذين كانوا يجلسون إليه الآن مطلوبون للقبض عليهم في بلاد الحرمين، لا لشيء غير أنهم من أصحابه. و معلوم رعب النظام الحاكم ممن يثار حولهم مثل هذا الكلام! و هم الآن مطاردون في الأرض. و هو اليوم المسؤول الشرعي للمجاهدين الشيشان. مع العلم أن البعض أكد أنه ينتسب لبني تميم و ليس للهاشميين، و الله أعلم.
4. يقول أحد المشايخ المعروفين في الكويت، أنه رأى الدجال في الحلم، ينفخ و يتململ من قيوده ليتخلص منها!
و الحقيقة الأحلام كثيرة و لعلها إرهاصات قرب ظهور المهدي و قرب الملاحم. فهل أعددنا لذلك !؟
الطريف في الموضوع: أن الشيخ المجاهد الذي يقال أنه ربما يكون هو المهدي -إن شاء الله تعالى- ، ممن يقع فيه الجامية، و هو عندهم من أهل الفتن و الخارجين على أولي الأمر! نسأل الله السلامة، و نخشى أن يبتليهم الله فيكونوا من خصوم و أعداء خليفة الله المهدي ( إن صدق الظن أنه هو المهدي و صدقت الرؤى عنه). و هذا ثابت في الأحاديث الصحيحة التي تصف الخوارج بأنه ينضم آخرهم للدجال!!
و على كل حال، تبقى أحلاما و رؤى، نسأل الله تعالى أن يعجل لنا ما فيها من خير و يكفينا ما فيها من شر، و نسأله تعالى بأنه لا اله إلا هو الحي القيوم الواحد الأحد الفرد الصمد أن ينصر المجاهدين في كل مكان و يهزم الكفار و يزلزل الأرض من تحتهم و يخلع قلوبهم من الرعب. اللهم آمين.
الأحاديث الضعيفة
نَظَرَ عَلِيٌّ رَضِي اللَّهم عَنْه إِلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ فَقَالَ إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ كَمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَيَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ رَجُلٌ يُسَمَّى بِاسْمِ نَبِيِّكُمْ يُشْبِهُهُ فِي الْخُلُقِ وَلَا يُشْبِهُهُ فِي الْخَلْقِ ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةً يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلاً.
لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ لَطَوَّلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَمْلِكُ جَبَلَ الدَّيْلَمِ وَالْقُسْطَنْطِينِيَّةَ.(/7)
إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان، فأتوها و لو حَبواً فإن فيها خليفة الله المهدي.
(كل أحاديث الرايات أحاديث وضعها بعض الفرس ليؤيدو الثورة العباسية التي انطلقت من خراسان)
فائدة : المسيح عليه السلام نبيٌ و صحابي
ثبت أن النبي صلى الله اجتمع بعيسى عليه السلام ليلة الإسراء ، و هو اجتماع حقيقي ، لأن الإسراء كان بالجسد والروح ، كما هو مذهب طوائف الفقهاء والمتكلمين والمفسرين والمحدثين . قال الحافظ في الفتح : و تواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة ، فلا ينبغي العدول عن ذلك ، إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى التأويل . (15/44) . و على هذا يكون عيسى عليه السلام صحابياً لانطباق تعريف الصحابي عليه ، و لذا ذكره الذهبي في الصحابة ، فقال في التجريد : عيسى ابن مريم نبي و صحابي ، فإنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم فهو آخر الصحابة موتاً . (1/432) .
قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (4/761) : و يتجه ذكر عيسى خاصة لأمور اقتضت ذلك :
أولها : أنه رفع حياً .
ثانيها : أنه اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس ، و لا يكفي اجتماعه به في السماء .
ثالثها : أنه ينزل إلى الأرض فيقتل الدجال و يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فبهذه الثلاث يدخل في تعريف الصحابي .
و من الذين قالوا بذلك : الحافظ العراقي في نكته على ابن الصلاح ، و الحافظ السيوطي في التهذيب ، و في الإعلام بحكم عيسى عليه السلام ، وألغز فيه التاج ابن السبكي بقوله كما في الإصابة(4/761) :
من باتفاق الخلق أفضل من خير الصحابة أبي بكر ومن عمر ؟
ومن علي و من عثمان وهو فتى من أمة المصطفى المختار من مضر .
قال العلامة أبو عبد الله محمد الطالب بن الحاج في حاشيته على شرح المرشد المعين : و جوابه :
ذاك ابن مريم روح الله حيث رأى نبينا المصطفى في أحسن الصور
فوق السماوات ليلاً عندما اجتمعا كذلك عند ظراب البيت و الحِجْرِ .
أنظر : عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام للغماري ( ص44 ) .
حديث : ( لا مهدي إلا عيسى بن مريم ) والجواب عنه.
احتج بعض المنكرين لأحاديث المهدي بالحديث الذي رواه ابن ماجة والحاكم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يزداد الأمر إلا شدة ولا الدنيا إلا إدباراً ولا الناس إلا شحاً ، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ، ولا مهدي إلا عيسى بن مريم . سن ابن ماجة (2/1340-1341) و مستدرك الحاكم (4/441-442 ) . قال الحاكم : فذكرت ما انتهى إلي من علة هذا الحديث تعجباً لا محتجاً به في المستدرك على الشيخين .وابن عبد البر في جامع العلم (1/155) وأبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن (4/9)
و يجاب عليهم بأن هذا الحديث ضعيف ؛ لأن مداره على محمد بن خالد الجندي ، قال الذهبي فيه : قال الأزدي منكر الحديث ، و قال أبو عبد الله الحاكم : مجهول ، قلت – أي الذهبي - : حديثه ( لا مهدي إلا عيسى بن مريم ) وهو خبر منكر أخرجه ابن ماجة . ميزان الاعتدال ( 3/535) . و قد ضعفه شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية ( 4/211) . و قال فيه الحافظ ابن حجر : مجهول . تقريب التهذيب (2/157) . قال الصنعاني عن هذا الحديث أنه موضوع كما في الأحاديث الموضوعة للشوكاني ( ص 195) . قال السيوطي في العرف الوردي في أخبار المهدي (2/274) من الحاوي : قال الإمام القرطبي في التذكرة : إسناده ضعيف.
و قال الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة حديث رقم ( 77) : إنه حديث منكر ثم قال حفظه الله : هذا الحديث تستغله طائفة القاديانية لنبيهم المزعوم ؛ ميرزا غلام أحمد القادياني الذي ادعى النبوة ثم ادعى أنه عيسى بن مريم بنزوله آخر الزمان ، وأنه لا مهدي إلا عيسى بناء على هذا الحديث المنكر . أهـ .
أسال الله عز وجل أن يعز الحق و أهله و أن يكبت الباطل و أهله إنه ولي ذلك و القادر عليه، و صلى الله على نبينا محمد و على آله و أصحابه أجمعين.
قال أبو حفص الواعظ في تاريخ أسماء الثقات (1\182): أبو العوام عمران القطان من أخص الناس بقتادة وكانوا يقولون إنه يميل إليه إلا انهم لي يثبتوا عليه شيئا. و قال العسقلاني في تلخيص الحبير (4\181): وفيه مقال إلا أنه ليس بالمتروك وقد استشهد به البخاري بكذا له بن حبان والحاكم وروى الطبراني في الأوسط.
صالح أبو الخليل بن أبي مريم. وثقه ابن معين والنسائي. (سير أعلام النبلاء 4\479). و هو من رجال البخاري و مسلم. و هو أيضاً صاحب قتادة.
عبد الله بن الحارث بن نوفل. أخرج له البخاري و مسلم. قال عنه العسقلاني في تقريب التهذيب (1\299): عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي أبو محمد المدني أمير البصرة له رؤية ولأبيه وجده البغوي قال بن عبد البر أجمعوا على ثقته.
حافظ ثبت أخرج له البخاري و مسلم. إنظر ترجمته في تهذيب التهذيب (7\205).(/8)
محمد بن المثنى بن عبيد أبو موسى الزمن. ذكره الذهبي في طبقات المحدثين (1\90). و أخرج له البخاري مائة حديث وثلاثة أحاديث ومسلم سبعمائة واثنتين وسبعين حديثا. تهذيب التهذيب (9\378).
معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي. أخرج له البخاري و مسلم. ثقة صدوق و على الإحتجاج به كلام. إنظر تهذيب التهذيب (10\177). و ذكره الذهبي في كتاب الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب (1\164). و ذكره أيضاً في طبقات المحدثين (69).
من أئمة المدينة و هو من أقران الإمام مالك.
تابعي معروف من أهل المدينة.
أبو أيوب ويقال أبو محمد سليمان بن بلال التيمي. وثقه إبن حنبل و يحيى بن معين و أبو زرعة (الجرح و التعديل 4\103) و كثير من علماء الحديث (تهذيب التهذيب 4\154). و هو من رجال البخاري و مسلم.
ذكره إبن حبان في الثقات (9\26).
قال إبن حجر: خت د ت ق البخاري في التعاليق وأبي داود والترمذي وابن ماجة الوليد بن رباح الدوسي المدني مولى بن أبي ذباب روى عن أبي هريرة وسهل بن حنيف وسلمان الأغر وعنه أبناه محمد ومسلم وكثير بن زيد الأسلمي قال أبو حاتم صالح وقال البخاري حسن الحديث وذكره بن حبان في الثقات قلت وأرخ وفاته سنة سبع عشرة ومائة. تهذيب التهذيب (11\117).(/9)
الخليفة والخياط
عندما يكون ولي أمر المسلمين رجلا يخاف الله عز وجل ويقيم شعائر الدين ويحوط جنابه من عبث العابثين وانحراف المفسدين فإن ذلك الأمر يفتح الطريق أمام الدعاة للقيام بأسمى المهمات ألا وهي مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى ولو كان من أقل الناس شأنا وبذلك تنصلح الأمة.
واسمع لهذا الموقف العجيب في إقامة شعائر الدين والفطنة فى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي وقع أيام الخليفة المعتضد بالله العباسي سنة 281هجرية فقد ذكر القاضي أبو الحسن الهاشمي أن شيخا من التجار ببغداد قال كان لي على بعض الأمراء مال كثير فماطلني ومنعني حقي وجعل كلما جئت أطالبة يمنعني وأمر غلمانه يؤذونني فاشتكيت إلى الوزير فلم يفد ذلك شيئا وإلى أولياء الأمر من الدولة فلم يقطعوا منه شيئا وما زاده ذلك إلا منعا وجحودا، فآيست من المال الذى عليه ودخلني هم من جهته، فبينما أنا كذلك وأنا حائر إلى من أشتكي إذ قال لي رجل ألا تأتي فلانا الخياط إمام مسجد هناك فقلت وما عسى أن يصنع خياط مع هذا الظالم وأعيان الدولة لم يقطعوا فيه؟
قال لي: هو أقطع وأخوف عنده من جميع من اشتكيت إليه؛ فذهب إليه التاجر فقام معه هذا الخياط وذهبا إلى الأمير فعندما رأه الأمير قام إليه واحترمه وأكرمه،
فقال له: الخياط ادفع إلى هذا الرجل حقه وإلا أذنت، فتغير لون الأمير ودفع إلى التاجر حقه فورا .
قال التاجر: فعجبت من ذلك الخياط مع رثاثة حاله وضعف بنيته كيف انطاع ذلك الأمير له فسألته عن خبره.
فقال: إن سبب ذلك أنه كان عندنا فى جوارنا أمير تركي من أعالى الدولة وهو شاب حسن فمرت به ذات يوم امرأة حسناء قد خرجت من الحمام فقام إليها وهو سكران فتعلق بها يريدها عن نفسه ليدخلها منزله وهى تصرخ وتصيح يا مسلمين أنا امرأة مسلمة وهذا رجل يريدنى على نفسي ويدخلني منزله وقد حلف زوجى بالطلاق ألا أبيت خارج البيت.
فقال الخياط: فقمت إليه فأنكرت عليه وأردت خلاص المرأة من يديه فضربنى بدبوس فى يده فشج رأسى وغلب المرأة على نفسها وأدخلها منزله قهرا فرجعت أنا فغسلت الدم عني وعصبت رأسي وصليت بالناس العشاء, ثم قلت: للجماعة إن هذا قد فعل ما قد علمتم فقوموا معى إليه لننكر عليه ونخلص المرأة منه فقام الناس معي فهجمنا على داره فثار إلينا في جماعه من غلمانه بأيديهم العصي والدبابيس يضربون الناس بقسوة وقصدني هو من بينهم فضربني ضربا شديدا مبرحا حتى أدماني وأخرجنا من منزله ونحن فى غاية الإهانة فرجعت إلى منزلي وأنا أكاد لا أهتدى إلى الطريق من شدة الوجع وكثرة الدماء فنمت على فراشي فلم بأخذني نوم وتحيرت ماذا أصنع حتى أنقذ المرأة من يده في الليل لترجع فتبيت فى منزلها حتى لا يقع عليها يمين الطلاق فألهمت أن أؤذن الصبح فى أثناء الليل لكي يظن أن الصبح قد طلع فيخرجها من منزله فتذهب إلى منزل زوجها فصعدت المنارة ثم أذنت وأنا أنظر إلى باب داره، هل تخرج المرأة أم لا ؟ وبينما أنا كذلك إذ امتلأت الطريق فرسانا ورجالة وهم يقولون أين الذى أذن هذه الساعة ؟ فقلت ها أنا ذا، وأنا أظن أنهم يعينوني على هذا الأمير الفاسق, فقالوا: أنزل، فنزلت، فقالوا: أجب أمير المؤمنين، فأخذوني وذهبوا بي لا أملك من نفسى شيئا
حتى أدخلوني عليه، فلما رأيته جالسا فى مقام الخلافه ارتعدت من الخوف وفزعت فزعا شديدا، فقال: ادن، فدنوت، فقال لي ليسكن روعك ويهدأ قلبك، وما زال يلاطفني حتى اطمأننت وذهب خوفي، فقال: أنت الذى أذنت هذه الساعة ؟
قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال ما حملك على أن أذنت هذه الساعة وقد بقي من الليل أكثر مما مضى منه ؟ فتغر بذلك الصائم والمسافر والمصلى وغيرهم ؟
فقلت: أيؤمنني أمير المؤمنين حتى أقص عليه خبري ؟
فقال: أنت آمن، فذكرت له القصة فغضب غضبا شديدا وأمر بإحضار ذلك الأمير والمرأة من ساعته على أي حالة كانا، فأحضرا سريعا، فبعث بالمرأة إلى زوجها مع نسوة من جهتة ثقات ومعهن ثقة من جهته أيضا، وأمره أن يأمر زوجها بالعفو والصفح عنها والإحسان إليها فإنها مكرهة ومعذورة، ثم أقبل على ذلك الشاب الأمير فقال له: كم لك من الرزق ؟ وكم عندك من المال ؟ وكم عندك من الجوار والزوجات ؟
فذكر له شيئا كثيرا، فقال له: ويحك أما كفاك ما أنعم الله به عليك حتى انتهكت حرمة الله وتعديت حدوده وتجرأت على السلطان وما كفاك ذلك أيضا حتى عمدت إلى رجل أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر فضربته وأهنته وأدميته ؟ فلم يكن له جواب، فأمر به فجعل في رجله قيد وفي عنقه غل، ثم أمر به فأدخل فى جوال ثم أمر به فضرب بالدبابيس ضربا شديدا،
قال الخياط: حتى خفت، ثم أمر به فألقي فكان ذلك أخر العهد به، ثم أمر بدرا صاحب الشرطة أن يحتاط على ما فى داره من الحواصل والأموال التي كان يتناولها من بيت المال،(/1)
ثم قال للخياط الصالح: كلما رأيت منكرا حقيرا كان أو كبيرا ولو على هذا وأشار إلى صاحب الشرطة فأعلمني؛ فإن اتفق اجتماعك بي وإلا فعلامة ما بينى وبينك الأذان، فأذن فى أي وقت كان، أو في مثل وقتك هذا.
قال الخياط للتاجر الذى كان يسأله عن خبره فى أول الكلام: فلهذا لا آمر أحدا من هؤلاء الدولة بشىء إلا امتثلوه ولا أنهاهم عن شىء إلا تركوه خوفا من المعتضد، وما احتجت أن أؤذن فى مثل هذه الساعة إلى الآن(/2)
الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم من أولي العزم من الرسل، جمع الله له من المناقب الكريمة والصفات العظيمة الشيء الكثير فتجسدت فيه عليه الصلاة والسلام معاني الخير والإيمان والإحسان فكان كما ذكر الله عنه أمة: ? إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ?[النحل:120-121].
إبراهيم نبي الله الخليل، أمرنا الله أن نقتدي به وأن نسير على منهجه وأن نتبع ملته، فالأمة المسلمة وارثة لنسبه وعقيدته، قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ...?[النحل:77-78].
ذكر الله عز وجل لنا في كتابه الكريم مواقف عظيمة ومتعددة لنبيه وخليله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ومن مواقفه العظيمة التي ذكرها الله عز وجل هجرة إبراهيم إلى ربه تعالى وهو أول من سن الهجرة في سبيل الله وترك العشيرة والقبيلة والوطن والأسرة في سبيل الله.
فقد أقام إبراهيم في وطنه وبين عشيرته وقومه يدعوهم إلى الله وإلى عبادته وحده لا شريك له وترك عبادة غيره ، جادل القوم وحاجهم، وبرهن لهم أن الأصنام التي يعبدونها لا تضر ولا تنفع فحطمها وكسرها ليبين لهم أنها لو كانت تستطيع فعل شيء لدافعت عن نفسها.
ولكنهم بدلاً من الاعتراف والرجوع إلى الصواب ، قرروا محاكمته إحراقاً بالنار، انتصاراً لآلهتهم، ولكن الله تعالى نجاه من كيدهم ومكرهم. بعدها قرر الخليل إبراهيم وعزم على الهجرة من أرض بابل، ليتخلص من أذى قومه وعنادهم، ويرتاد مكاناً آخر يعبد الله عز وجل ويدعو عباده إليه.
فسبب هجرة نبي الله إبراهيم عليه السلام إذاً هي العداوة الشديدة التي حصلت بينه ومن آمن معه وبين عبدة الأصنام الذين أصروا على شركهم وباطلهم، فتبرأ إبراهيم منهم وأعرض عنهم، وقد مدح الله له هذا الموقف من قومه وحث المؤمنين على الاقتداء به فقال تعالى: ? قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ... ?[ الممتحنة:4].
ترك إبراهيم قومه وشركهم وأصنامهم وأعلن لهم تحوله عنهم: ? وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ?[ الصافات: 99].، وكان نبي الله حتى هذه اللحظة ، وحيداً لا ذرية له، ولهذا دعا ربه أن يرزقه من يؤانسه في غربته من الذرية والأبناء، فقال كما أخبر الله في القرآن ? رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ?[ الصافات: 100]. أي ارزقني غلاماً تقياًُ كاملاً في الصلاح، يعني على الدعوة والطاعة فاستجاب له الله دعاءه وقال: ? فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ?[ الصافات: 101].(/1)
وقد جمع الله بإبراهيم ثلاث بشارات في هذه الآية: وهي أن المولود سيكون غلاماً، وأنه سيبلغ الرشد وأنه سيكون حليماً، والحليم هو من لا يتسرع في الأمور ويتحمل المشاق. وهذا الغلام الذي بُشر به هو إسماعيل نبي الله ابن نبي الله إبراهيم وهو الذي ينتسب إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد ابتلى الله إبراهيم وولده إسماعيل ببلاء عظيم كبير، فبعد أن رزق الله إبراهيم بهذا المولود المبارك إسماعيل على كبر وشيخوخة ، وشب الغلام وترعرع ، ونشأ نشأة التقى والصلاح، وبلغ السن التي تمكنه من أن يعين أباه في أمور الحياة والمعاش، رأى إبراهيم عليه السلام في منامه رؤيا أن الله يأمره بذبح ولده ـ ورؤيا الأنبياء حق وهي وحي ـ فما كان من إبراهيم عليه السلام إلا أن أسرع إلى تنفيذ أمر الله، دون تلكؤ أو تردد ولكنه قبل أن يقدم على الأمر، أراد أن يختبر ولده، ويرى مقدار استجابته وطاعته لتنفيذ أمر الله عز وجل.
إنه لأمر شاق وعظيم على النفس أن يذبح الوالد ولده، إنه لم يؤمر بأن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة ولا أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته، وإنما طلب إليه أن يتولى ليذبحه بيده، ثم يقابل الأمر بهدوء وسكينة ، إنه لا يأخذ ابنه على غرة وينتهي، إنما يعرض الأمر عليه لأنه أمر الله فليكن ما يريد الله على العين والرأس، فعلى الابن أن يعرف الأمر ويأخذه طاعة وإسلاماً، لا قهراً واضطراراً ، لينال كلاهما أجر الطاعة والاستسلام والانقياد لله رب العالمين.
لتستمعوا إلى الآيات البينات وهي تقص علينا قصة الذبح والفداء ، قصة التضحية والامتثال: ? فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ...? أي السن التي يمكنه أن يسعى مع أبيه، في أشغاله وحوائجه،?... قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ?[الصافات102].
انقياد واستسلام وامتثال .. إن الكلمات لتعجز عن وصف هذا القول الذي يتمثل فيه الرضى التام بتضحية النفس في سبيل الله ، تضحية: الوالد بولده، وتضحية الابن بنفسه . إبراهيم الحريص على الذرية والذي رزق بهذا الولد وهو في سن الشيخوخة.. الولد الذي هو مهجة القلب، ووارث اسمه يأمره الله أن يضحي بابنه ليمتحن إيمانه، ويرى مبلغ استجابته لأمره.. فيلبي نبي الله مسرعاً لإجابة دعوة الله ، لا يتردد ولا يخالجه شعور، إلا شعور الطاعة والإذعان بتنفيذ أمر الله، دون أن يسأل ربه أو يتردد.
ألا ما أعظمه من موقف وما أرفقها من صورة ناصعة من صور الإيمان وما أعظمها وأجلها في تاريخ الإنسانية ، فليس الإيمان ادعاءات تلوكها الألسن، وليس الإيمان تسلية للأحزان لفترة ما، وليس الإيمان نظرية من النظريات الفلسفية التي يعيشها العقل ويغوص أو يخوض في خفاياها. كلا بل الإيمان اعتقاد في القلب وأقوال باللسان وعمل وتضحية وجهاد، وانقياد وطاعة وامتثال لله رب العالمين.
ويمضي إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومعه ابنه البار الكريم إسماعيل في تنفيذ أمر الله، وإذا بالأب يضع ابنه على شقه، ويضع السكين على حلقه، ويمرها فوق عنقه، كأنما يذبح كبشاً، يقدم ولده فلذة كبده ، قرباناً لربه، ولكن السكين لم تقطع، فقد سلبها الله خاصية الذبح والقطع، كما سلب النار خاصية الإحراق عندما ألقي إبراهيم في النار.. قال تعالى: ? فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ? [الصافات: 103]يعني استسلما لأمر الله عز وجل ، وخضعا لحكمه وقضاءه، ? وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ?[الصافات: 104-107] ناديناه يا إبراهيم: قد نفذت ما أمرت به وحصل المقصود من رؤياك، بإضجاعك ولدك للذبح ، فهذا هو الامتحان المبين، الذي يتميز به الصادق من المنافق، ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وامتثلت، يفديها بذبح عظيم، قيل إنه كبش وجده إبراهيم مهيأً بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلاً من إسماعيل.
أيها المؤمنون ما أحوجنا اليوم إلى الأخذ بهذا الدرس في هذا الزمن الذي أصبح فيه المال والولد والمرأة ، يستأثرون بحب الإنسان الذي يؤثرهم على كل شيء حتى أصبحوا معبودات له من دون الله ، ألا ما أحقر الإنسان حين يعيش عبداً لغير خالقه وبارئه وما أرفع شأنه حين يحقق العبودية ويخلصها لله بامتثال أمره واجتناب نهيه والتسليم له والانقياد التام .(/2)
أيها المؤمنون: إن الله عز وجل لم يكلفنا شططاً ولم يطلب منا أن نقدم أنفسنا وأبناءنا قرابين، إنه يعلم عجزنا وضعفنا، فخفف عنا جل وعلا ورضي لنا الإسلام ديناً، فهو دين السماحة واليسر متضمن لكل خير في عاجلنا وآجلنا، فما علينا إلا امتثال أوامر الله ورسوله واجتناب ما نهى عنه الله ورسوله، إن فعلنا ذلك نكون قد قمنا بالواجب وحققنا مراد الله ونلنا رضوانه وجنته، قال تعالى: ? وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً?[النساء:66-70].
الخطبة الثانية:
شرع الله لهذه الأمة وسن لها الأضاحي، فقد شرعت في السنة الثانية من الهجرة كالزكاة وصلاة العيدين، وثبتت مشروعيتها بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: ? فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ? [الكوثر:2]وقال: ? وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ ... ?[ الحج:36] أي من أعلام دينه.
وقد ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين، وأجمع المسلمون على مشروعية ذلك. حيث دلت الأحاديث على أن الأضحية من أحب الأعمال إلى الله يوم النحر، وأنها تأتي يوم القيامة على الصفة التي ذبحت عليها، ويقع دمها بمكان من القبول قبل أن يقع على الأرض، وإنها سنة إبراهيم الخليل كما بينا لقوله تعالى: ? وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ? [الصافات:107].
والحكمة من تشريعها: هو شكر الله على نعمه المتعددة، وتحقيق العبودية له بالتقرب إليه، ولتكفير السيئات والذنوب وللتوسعة على أسرة المضحي وغيرهم من الفقراء والمساكين وفيها تدريب على البذل والإنفاق والتصدق.
فعلى القادر المستطيع أن يتقرب إلى الله عز وجل بذبح الأضاحي في عيد الأضحى.
وقد اشترط الفقهاء للأضحية شروطاً لابد من توفرها ، منها: سلامة الحيوان المضحى به من العيوب، وهناك عيوب تمنع قبول الأضحية كالعور البين، والمرض والعرج ، والعجف وهو الهزال، فلا تجزئ العوراء البين عورها ولا المريضة البين مرضها، ولا العرجاء البين ضلعها. وقد اتفق العلماء على أن الأضحية لا تصح إلا من نَعَم وهي الإبل والبقر، والغنم، ويشترط في الحيوان المضحى به أن يكون مستوفي السن: الضأن وهي الكباش ما كان له أكثر من ستة أشهر، والماعز ما كان له سنة ودخل في الثانية، والبقر ما كان له سنتان ودخل في الثالثة، والإبل ما أتم خمس سنوات ودخل في السادسة، وتجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته، وتجزئ البدنة أو البقرة عن سبعة أشخاص يشتركون فيها لحديث جابر عند مسلم وغيره، قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج، فأمرنا أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة".
أفضل وقت للتضحية هو اليوم الأول من أيام العيد وهو يوم النحر قبل الزوال لأنه هو السنة، لحديث البراء بن عازب في الصحيحين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس له من النسك في شيء" ، فالذبح قبل صلاة العيد لا يجوز عملاً بهذا الحديث. ويمتد وقت الذبح يومين بعد أول ايام العيد.
والمستحب في الأضحية أن توزع أثلاثاً يأكل المضحي ثلثها، ويهدي ثلثها لأقاربه وأصدقائه، ويتصدق بثلثها على المساكين والفقراء عملاً بقول الله عز وجل: ?... فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرّ ...? [الحج: 36].وقال: ?... وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ?[الحج: 28].(/3)
أيها المؤمنون احرصوا على فعل الخير وقدموا لأنفسكم ، واختاروا الطيب الجيد من الأضاحي وكلوا وتصدقوا وأحيوا شعائر دينكم، واشكروا الله على نعمه وعظموا دينه وأحكامه، واستمعوا إلى قول الله عز وجل وهو يبين لنا هذه الأحكام والحكم قال سبحانه: ? ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ?[الحج:32-37].
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد
(1)ـ مسلم 2/955، حديث رقم: 1318 .
(2)ـ البخاري 1/328 ، حديث رقم: 922، ومسلم 3/ 1552، حديث رقم: 1961.(/4)
الخمر بين الإسلام والنصرانية
الشيخ احمد ديدات
تمهيد:
ان جمهورية جنوب افريقيا ذات الاقلية البيضاء, التي تقدر باربع ملايين نسمة, من بين مجموع السكان البالغ عددهم اربعين مليون نسمة.بها حوالي ثلاثمائة الف مدمن خمر.يسمونهم ( الكحوليين ).
وتظهر الاحصائيات ان عدد مدمني الخمر من الملونين في جنوب افريقيا يوازي خمسة اضعاف عدد مدمني الخمر ضمن اي جنس اخر.
ويذكر المبشر الانجليزي, جيمي سواجرت.في كتاب له بعنوان (الخمر):
ان امريكا بها احد عشر مليون مدمن, واربعة واربعين مليون من المفرطين في شرب الخمر.
الخمر النصرانية:
ان شرور معاقرة الخمر منتشرة في العالم كله.وروح القدس لم يبد رايه و لم يعلن قراره في هذه المصيبة والكارثة من خلال اي كنيسة لحد الان.
ان العالم النصراني يتغاضى عن معاقرة الخمور على اساس ثلاث حجج واهية.تستند الى الكتاب المقدس.
الخمر في العهد القديم:
( اعطوا مسكرا لهالك و خمرا لمريئ النفس يشرب وينسى فقره ولايذكر تعبه).(الامثال6:
31).
انك ستوافقني تماما بان هذه الفلسفة ناجحة لمن يريد ابقاء الامم الخاضعة مستعبدة.
الخمر في العهد الجديد:
يقول شاربوا الخمر:
ان يسوع لم يكن هادم لذات.فلقد حول الماء الى خمر في اول معجزاته على الاطلاق, كما هو مدون في الكتاب المقدس.
( قال يسوع املاوا الاجران ماء.فملاوها الى فوق.ثم قال لهم:
استقوا وقدموا الى رئيس المتكأ.فقدموا, فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمرا ولم يعلم من اين هي.لكن الخدام الذين كانوا قد استقوا علموا.دعا رئيس المتكأ العريس, وقال له:
كل انسان انما يضع الخمر الجيدة اولا, ومتا سكروا فحينئذ الدون.اما انت فأبقيت الخمر الجيدة الى الان ).( يوحنا 7:2 ).
ومنذ ان جرت تلك المعجزة, والخمر لم تزل تتدفق كالمياه في العالم النصراني.
النصيحة الرزينة:
ان القديس بولس الحواري الثالث عشر للمسيح.الذي عين نفسه تلميذا للمسيح, والمؤسس الحقيقي للنصرانية, ينصح احد رعاياه المتحولين حديثا الى النصرانية, ويدعى تيموثاس, قائلا: ( لاتكن فيما بعد شراب ماء بل استعمل خمرا قليلا من اجل معدتك و اسقامك الكثيرة ).( رسالة بولس الى ثيموثاوس 23:
5 ).
موقف النصرانية ومفسري الكتاب المقدس من الخمر:
ان النصارى يقبلون جميع شواهد المشروبات الكحولية والمسكرة, والتي ذكرناها سابقا.باعتبارها كلام الله المعصوم.وهم يعتقدون ان الروح القدس الهم مؤلفي اسفار العهد الجديد بكتابة مثل هذه النصائح الخطيرة.
ويبدو ان القس دميلو, لديه بعض الشكوك بخصوص رسالة بولس., ويقول: ( انها تعلمنا انه من الصواب تعاطي المسكرات من الخمر.ولقد تعلم الالاف من النصارى ادمان الخمور, بعد ان رشفوا ما يسمونه دم المسيح اثناء المشاركة في شعائر الكنيسة ).
الخمر في الاسلام:
الاسلام هو الدين الوحيد على وجه الارض الذي حرم الخمر بالكامل.وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما اسكر كثيره فقليله حرام ).
فلا يوجد عذر في دين الاسلام لمن يرشف رشفة او يتناول جرعة من اي شراب مسكر.
ان القران الكريم كتاب الحق.حرم باشد العبارات ليس فقط شرب الخمر وما تجلبه من شرور.
بل حرم كذلك الميسر والقماروالنصاب والازلام .
اي انه حرم الخمر وعبادة الاوثان والاصنام والعرافة وقراة الطالع في اية واحدة.
الخمر في القران:
( يا ايها الذين امنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) .
موقف المسلمين من الخمر:
وعندما نزلت هذه الاية افرغ المسلمون اوعية الخمر في شوارع المدينة, ولم يعودوا الى شربها مرة اخرى.
ان هذا التوجيه الصريح البسيط, قد جعل الامة الاسلامية اكبر تجمع من الممتنعين امتناعا تاما عن شرب الخمرفي العالم .
بين يدي الرسالة:
( ان الخمر تشل الحواس وتجعل من المرء يترنح ويتقيأ, وتطفئ البصيص الضعيف من القدرة على الجدل و الاقناع بالحجة والمنطق, التي تتقد ثم تخبو في تردد داخل عقولنا, وسرعان ما تتغلب الخمر على اشد الرجال قوة وتحوله الى شخص ثائر هائج عنيف, تتحكم فيه طبيعته البهيمية, محمر الوجه, محتقنة عيناه بالدم, يجأر ويقسم ويتوعد من حوله ويسب اعداء خياليين, ولا يوجد مثل هذا السلوك المخزي بين اي نوع من انواع الحيوانات, لا بين الخنازير ولا ابن اوى ولا الحمير.وابشع ما في الوجود هو السكير, فهو كائن منفر, تجعل رؤيته المرء يخجل من انتمائه لنفس النوع من الاحياء ) .
من اقوال الدكتور الفرنسي ( شارل ريشيه )الحاصل على جائزة نوبل للفسيولوجيا.
هناك العديد من القوى المدمرة التي تنتهك وتدمر الامم, واحد اخبث واخطر هذه القوى في الخمر.(/1)
السود في جنوب افريقيا ينفقون الف مليون راندا سنويا على الخمر.ينفق السود مبلغا مذهلا سنويا على الخمر.هذا المبلغ المذهل يبدده افراد شعب من السود الفقراء على الخمر فقط.وتكلف الخمر جنوب افريقيا خمسمائة مليون راندا سنويا بسبب الحوادثوالاسر المنهارة والانفس الضائعة.فمعظم حوادث الطرق يتسبب فيها اشخاص واقعون تحت تأثير الخمر .والسيارة التي يقودها سائق مخمور تتحول الى نعش .
والخمر لا تحتوي على اي قيمة عذائية .فهي لا تحتوي على اي املاح معدنية او بروتينات.ويذهب تسعون بالمئة منها الى مجرى الدم.وبناء عليه فانها لاتحتاج لاي هضم وليس لها اي تاثيرات نافعة على الجسم.والخمر عامل هام من العوامل المسببة لامراض القلب والكبد والمعدة والبنكرياس.كما ان الخمر تسبب الاكتأب النفسي.وتسبب في اشد التغيرات المدمرة في المخ.
ان سبعين في المئة من حالات الطلاق والاسر المنهارة هي بسبب الخمر.
وللاسف فان اكثر الناس يعتقدون ان شرب الخمر هو امر يقربهم الى المجتمع ويدمجهم فيه.فهم يريدون الانتماء الى المجتمع .ويريدون ان يعدوا في مصاف العصريين والتقدميين.
ليست لديهم الشجاعة والارادة لكي يثبتوافي وجه ما يلاقونه من ضغط وهجوم.فلا يستطيعوا ان يرفضوا هذا السم بصوت عال واضح.
وصانعوا الخمر لايشعرون بتأنيب الضمير.فلا يهمهم ان تغرق الامة طالما يحققون ارباحهم.وهم يعلنوها بصراحة: ( اننا لانشعر بالذنب ).ولكي يجعلوا الخمر في متناول الجمهور.فانهم يرعو نويمولون الرياضة والاحتفالات.وهذا لكي يصطادوا الشباب .
ان ادمان الخمر عادة سيئة يمكن ان تبدا بتناول كاس واحدة.كتلك التي يتناولها النصارى في احتفالاتهم الدينية, ومتى بدات فانك تصبح مدمنا للخمر مدى الحياة الا ان يشاء الله.
ان الاطفال الذين يولدون للنساء اللاتي يشربن الخمور يكونون عادة متخلفين عقليا ولديهم خلل تناسلي وثقوب بالقلب ويكونون اصغر حجما واخف وزنا من الاطفال العاديين.
ان الخمر داء .ومن المستفيد ؟
لوان المال المبدد كان ينفق في حماية الضعفاء ومساعدة الفقراء وشفاء المرضى واعانة الارامل والايتام وايجاد فرص عمل وتقليل البؤس وجلب السعادة.ربما امكن الدفاع عن هذا التبديد.
بخلاف جميع الاديان والمذاهب الوضعية في العالم يبرز الاسلام لموقفه الصلب المشرف ضد شرب الخمر.
فقد اعلن الاسلام الحرب الشاملة ضد الخمر منذالف واربعمائة سنة.
فلاسبيل للمداهنة مع الشر ولاشك ان الخمر التي ينصح الكتاب المقدس بشربها, شر .فالخمر عدوهائل متربص بنا يجب ان ندمره .
و نحن كمسلمين لا يجوز لنا ان نتغاضى عن ادانة شرب الخمر على سبيل المجاملة او الصداقة, فالقران يقول:
( يا ايها الذين امنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون.إنما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله و عن الصلاة فهل انتم منتهون).
وقد قال اعظم المجددين والبطل الذي اعاد الى الانسان كرامته, محرر البشرية النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
1- كل شراب اسكر فهو حرام.ما كثيره يسكر فقليله حرام.
2- كل مسكر حرام.
3- ليست الخمر دواء بل داء.
4- ايما امرئ شرب مسكرا فلن تقبل منه اربعين صلاة فأن تاب تاب الى الله بنعمته و رحمته غفر الله ذنبه.
5- لعن في الخمر عشر, عاصرها ومعتصرها وشاربها ومقدمها و حاملها والمحمولة اليه وبائعها وشاربها ومهديها واكل ثمنها.
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الإسلام يهدي السبيل:
ان كل امة تتوق الى ان تكون حرة ومحترمة ومشرفة وان تحيا في سلام وكرامة.
ولايمكن تحقيق هذه الغايات في امة يعتدي افرادها بأنتظام على اجسامهم بشرب الخمر و تعاطي المخدرات.
ولكي تكون الامة حرة ومحترمة ومشرفة حقا.فعليها ان تتالف من افراد لهم عقيدة وهدف .افراد على استعداد كامل للالتزام بهذه العقيدة وذلك الهدف.وتلك الاهداف يمكن تحقيقها فقط اذا حفظت العقول والاجسام طاهرة نقية.وللاسلام عقيدة فريدة تكشف الطريق لكل اولئك الذين يتوقون الى الشرف والحرية.
فللحفاظ على طهارة الجسم.حرم الله الخمر والمخدرات ولحم الخنزير والميتة ....الخ.تحريما تاما.
وللحفاظ على طهارة العقل.امر الله بالايمان والطاعة التامة له واسلام الامر له والايمان بأن الله واحد وفرد وليس كمثله شيئ, وهو خالق كل شيئ والرزاق والحي والمميت والحفيظ.و الايمان بأن البشرية امة واحدة .متساوية من كل جهة ولا فرق بين الناس الا بالتقوى .قال الله عز وجل: ( إن افضلكم عند الله اتقاكم ).
كما يجب تنشئة شخصية اخلاقية سوية بالصدق والامانة والاخلاص والعدل .ومحاسبة النفس يوميا, بسؤالها ماذا عملت اليوم واحصاء الحسنات والسيئات خلال ذلك اليوم.لتتجنب الاعمال السيئة وتستمر على الصالحات.
ان اتباع المنهج الاسلامي الصحيح, سوف يحرر الانسان والمجتمع من الظلم والاضطهاد .فالاسلام يهدي السبيل حقاالى الحرية.(/2)
الخمر والعدوان أ.د. جعفر شيخ إدريس*
سأله صاحبه ما رأيك في القول بأن شرب الخمر ينبغي أن لا يعد جريمة يعاقب عليها القانون إلا إذا ارتبط بعدوان.
فأجابه: هذا كلام من لا عقل له.
سأله: لماذا؟
فأجاب: وهل يعاقب القانون على العدوان إذا لم يكن مرتبطا بخمر؟
سأله: ماذا تعني؟
فأجاب: إذا ضربك إنسان بعصا فهشم أسنانك هل يعد القانون فعله عدوانا يعاقبه عليه أم أنه يشترط فيه أن يكون مخمورا؟
قال صاحبه: إن تهشيم الأسنان عدوان سواء كان المعتدي مخمورا أو غير مخمور.
فأجابه: ما دام القانون يعاقب المعتدي مخمورا كان أو غير مخمور، فإنه لا تكون لشرب الخمر علاقة بالعقوبة. فصاحب القول الذي رويته عنه يريد أن يقول للناس إنه لا بأس عليكم من تشربوا الخمر، لكن احذروا إذا شربتم أن تسكروا، لأنكم إن سكرتم فربما اعتديتم وإذا اعتديتم فربما عوقبتم.
سأله: لكن بعض البلاد التي لا تحرم شرب الخمر تعاقب السائق السكران إذا ارتكب حادثا ما لا تعاقب غير السكران.
فأجاب: ذلك لأنها وإن لم تحرم شرب الخمر تحرم القيادة والسائق سكران سواء ارتكب حادثا أو لم يرتكب. إذا رآك شرطي الحركة وأنت تقود بطريقة تجعله يظن أنك سكران فإن من حقه أن يوقفك ويختبرك فإذا وجدك ثملا كان من حقه أن يتهمك وأن تعاقب سواء اعتديت أم لم تعد. أما ما رويته عن صاحبك فإنه يدل على انه لا يرى بأسا بالسكر نفسه، وإنما البأس بالاعتداء، أي أنه إذا ثمل ولم يعتد فلا يكون قد ارتكب مخالفة قانونية. .
قال صاحبه: نعم أرى الفرق.
قال له: ثم إن الله تعالى لم يحرم الخمر لمجرد أنها تقود إلى الاعتداء الحسي، وإنما قال في تعليل تحريمها ومعاقبة شاربها:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)[المائدة(/1)
الخمس أكبر خدعة في تاريخ الشيعة
أحمد فهمي
تأملات في خفايا الصراع بين قم والنجف 2 من2
تكلمنا في الحلقة السابقة عن جذور الصراع الهائل بين مدينتي قم والنجف على المرجعية الشيعية العامة ، وأن إنهاء نظام صدام حسين شكل تهديدا كبيرا لانفراد قم بالمرجعية أكثر من خمسة وعشرين عاما ، فمرجعيات العراق تخطط لعودة المرجعية إلى مجراها الطبيعي والتاريخي في النجف ، وهو ما لن يرضي الملالي في إيران ، وقد ذكرنا بعض جوانب الصراع بين المرجعيتين ، ومنها ولاية الفقيه ، وزعامة الطائفة الشيعية ، وسوف نكمل الحديث اليوم عن الركيزة الثالثة من ركائز الخلاف المستعر بين قم النجف ، وهي : الخمس ..
والحديث عن الخمس في الواقع لا يكفيه مقال واحد ، بل يحتاج إلى مجلدات ، فهذه الفريضة المزعومة هي أكبر خدعة في التاريخ الشيعي ، فهي تثبت من جهة خبث القادة والرموز ، ومن جهة أخرى حماقة الأتباع ، وسوف نقسم الحديث عن هذه الركيزة في عدة نقاط ، تتناول تعريفا مختصرا لها ، وكيفية جمعها وتقسيمها ، وأثرها على المذهب الشيعي ، بما يوضح في النهاية لماذا يعد الخمس بمفرده المحرك الخفي للصراع بين قم والنجف ..
أولا : أصل الخمس .. قصة الاختراع وأهم المعالم :
الدليل الواضح على كون الخمس فريضة مخترعة ، على الرغم من مكانتها الهائلة وتأثيرها البالغ في تاريخ المذهب الشيعي ، هو أنه حتى أواخر القرن الخامس الهجري لم يكن هناك شئ في الفقه الشيعي يسمى الخمس ، وجميع كتب الفقه في المذهب التي ألفت قبل هذا التاريخ ليس بها باب أو حتى مسئلة تتحدث عن هذه الفريضة المزعومة ، وأحد مؤسسي الحوزة العلمية في النجف ، واحد اكبر فقاءههم ، والذي يطلقون عليه شيخ المذهب : محمد بن حسن الطوسي ، لم يذكر في كتبه الفقهية الأشهر لدى الشيعة أي شئ عن فريضة الخمس هذه ، رغم أنه عاصر أوائل القرن الهجري الخامس ..
وقد بدأ الحديث عن الخمس إبان الخلافة العباسية ، التي لم تكن تفرض لعلماء الشيعة أي أعطيات أو مخصصات لعدم اعترافها بمذهبهم ، ولم تكن الأموال الموقوفة من أثرياء الشيعة كافية ، وكانت النتيجة أن الفقهاء وطلاب العلم في المذهب كانوا يعانون من الفقر والعوز الشديدين ، وكان المخرج الذي تفتقت عنه الأذهان وقتها تقديم تفسير جديد مخترع للآية الكريمة (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) وهذا التفسير البدعي المزعوم يعني أن يدفع الإنسان خمس ما يغنمه في الحرب أو في غير الحرب حسب التقسيم المذكور في الآية ، فالخمس إذن واجب في كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب وأرباح التجارة وفي الكنوز والمعادن والغوص وغير ذلك ، و الأصل لدى الشيعة أنه يدفعها للإمام ، ولأن الإمام غير موجود فهو يدفعها لنائبه ، أي المرجع الديني الذي يقلده ..
ولما كان إلزام الشيعة بهذا المبدأ المبتدع يبدو عسيرا بالدعوة المجردة ، أضيفت طائفة من المقبلات والمشهيات ، فظهرت فجأة النصوص التي تهدد وتتوعد من يتخلف عن دفع الخمس بعذاب النار الأبدي وأنه يصير من الكفار ، وبرزت أحكام عجيبة تتحدث عن عدم إقامة الصلاة في دار الشخص الذي لا يستخرج الخمس من ماله ، أو الجلوس على مائدته وهكذا ..
ومع الوقت ترسخت الفريضة في المذهب ، وصارت من ركائزه الأساسية ، وانتعشت وأثرت المرجعية الدينية التي تحولت إلى دولة موازية للدولة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي في مناطق انتشار المسلمين الشيعة وبالأخص في إيران، وتبلغ ميزانية بعض المراجع المتولدة من نسبة الخمس الآن حدًا من الضخامة يجعله يزيد عن ميزانيات دول في العالم الثالث، لكن يظل هناك عدم إعلان عن أرقام هذه الميزانيات ..
ومن المهم هنا أن نذكر أن فقهاء الشيعة في مقابل تضييقهم على أتباعهم بفرض الخمس في أموالهم ، فتحوا لهم المجال واسعا بإباحتهم أكل أموال أهل السنة - والذين يسميهم الشيعة بـ" الناصبة " - واعتبار ذلك من الأعمال المندوب إليها ، ويذكرون في ذلك نصوص ينسبونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم والسلف زورا وبهتانا ، مثل : " خذ مال الناصب حيثما وجدته وادفع إلينا الخمس" ، " مال الناصب وكل شيء يملكه حلال" وجاء في كتب الفقه عندهم "إذا أغار المسلمون على الكفار فأخذوا أموالهم فالأحوط بل الأقوى إخراج خمسها من حيث كونها غنيمة ولو في زمن الغيبة وكذا إذا أخذوا بالسرقة والغيلة " ( العروة الوثقى ) ومن المسلم به أن مفهوم الكفار عند الشيعة الإثنى عشرية يشمل كل المسلمين ما عدا طائفتهم ..
ثانيا : الخمس نصفه الأول للمرجعيات ، والنصف الآخر .. للمرجعيات :(/1)
قرر فقهاء الشيعة أن الخمس يقسم ستة أسهم ، سهم لله وسهم للنبي عليه الصلاة والسلام ، وسهم للإمام ، وهذه الثلاثة تدفع لصاحب الزمان يعني المهدي الغائب المنتظر – لاحظ أنها لم تكن تدفع من الأصل لأي من الأئمة الإثنى عشر في حياتهم – وطالما أنه لم يظهر بعد ، فإن نصيبه يذهب مؤقتا للفقيه الشيعي المجتهد ، أما الأسهم الثلاثة الأخرى للأيتام والمساكين وأبناء السبيل ، فيوزعها الإمام أيضا بمعرفته وعن طريق وكلائه المنتشرين في بقاع جغرافية في أنحاء العالم ، ويشترط أن توزع على الشيعة الإمامية لا غيرهم ..
ويقول الدكتور علي السالوس : " ومن واقع الجعفرية في هذا الأيام نجد أن من أراد أن يحج يقوم كل ممتلكاته جميعاً ثم يدفع خمس قيمتها إلى الفقهاء الذين أفتوا بوجوب هذا الخمس وعدم قبول حج من لم يدفع ، واستحل هؤلاء الفقهاء أموال الناس بالباطل " ويعتبر كثير من المختصين أن حرص حكومة الملالي على زيادة أعداد حجاجها سنويا هو بغرض تعظيم نسبة الخمس التي يدفعها هؤلاء قبل حجهم ..
ثالثا : تأثير الخمس في المذهب الشيعي :
يمكن بثقة أن نقول – والله أعلم – أنه لولا الخمس لاندثر المذهب الشيعي منذ زمن بعيد ، فقد كان المال المتدفق من هذه الفريضة هائلا للدرجة التي حولت المرجعيات الدينية الشيعية إلى أباطرة يحكمون كقادة الدول ، ويتحكمون في العباد وأحوالهم ، ويقدرون على أن يُسيروا في ركاب مذهبهم من يغريه بريق الذهب ، فصادف المذهب مراحل انتعاش كبرى وتوسعت دائرة أتباعه ، ولكن مع ملاحظة أن عددا كبيرا منهم كان العامل المشترك بينهم الاستجابة للبريق الأصفر ..
والحال هكذا أصبح منصب المرجع منصبا تهفو إليه القلوب وتتطلع له الأنظار، لأنه مصب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، وأصبحت البلد التي تجمع كبار المرجعيات وتعد عاصمة المذهب الشيعي وقبلته العلمية ، مدينة خليقة بأن توضع في مصاف الدول ، كونها تجمع بقوة المال نفوذا وسلطانا هائلين ، وقد تمكن الخميني بفضل قوة المرجعية الشيعية في قم وإمكاناته المالية الهائلة من إسقاط نظام الشاه في إيران ، ومن ثم فتح المجال واسعا لضخ كميات هائلة من الأموال إلى خزائن المرجعيات في قم في غيبة تامة للنجف ..
وهذه القدرة التمويلية هي التي غذت وتغذي دور النشر التي تقذف سنوياً بمئات النشرات والكتب والمراجع المليئة بما هو ضد الأمة الإسلامية السنية ودينها ، والتي كانت الصبغة الإيرانية واضحة عليها طيلة السنوات الخمس والعشرين الماضية ، حتى أن كثيرا من ذوي التطلعات والراغبين في الإثراء من الكتاب والصحفيين والإعلاميين بصفة عامة ، وبعض رجال الدين والنافذين في مجالات مختلفة ، كانوا يسعون لتقديم خدماتهم للمارد المالي الشيعي ، ولو بتحولهم إلى دعاة للمذهب الشيعي في بلادهم ..
ويمتد أثر هذا المال المتراكم إلى العلاقة بين الشيعة والسنة ، حيث يقول د. علي السالوس : " وأعتقد أنه لولا هذه الأموال لما ظل الخلاف قائماً بين الجعفرية وسائر الأمة الإسلامية إلى هذا الحد ، فكثير من فقهائهم يحرصون على إذكاء هذا الخلاف حرصهم على هذه الأموال " ..
ويذكر بعض الباحثين أن توافر المال بهذه الصورة بين أيدي علماء الشيعة جعلهم – عن طريق أتباعهم - يحاولون السيطرة على معظم الأعمال التجارية والشركات ومواد التموين في البلاد التي يتواجدون فيها ، حتى يتحكموا بأقوات الناس وضرورياتهم ..
رابعا : الخمس أفسد مرجعيات الشيعة :(/2)
في ظل الخمس تحول المرجعيات الدينية إلى ما يشبه شركات الجباية المنظمة ، حيث يفتتح المرجع له في عدد كبير من الدول مكاتب ويتخذ وكلاء يقومون بتقديم الفتاوى للمقلدين بصفة ثانوية ، وبجمع أموال الخمس منهم بصفة رئيسة ، ويحدث بين هذه المكاتب والوكلاء تنافس محموم على جذب الأتباع المغفلين الذين يقدمون خمس أموالهم إلى المرجع الديني وهم يتمنون الرضا ، وقد أصبحت منزلة المجتهد محل منافسة شديدة ويتكالب عليها أعداد كبيرة من علماء الشيعة ، واللافت هنا انه لا توجد أي رقابة على المرجع في تسلمه للأموال أو كيفية إنفاقه لها ، ويقول بعض الباحثين في الشأن الشيعي أن : " الفقه الشيعي المفبرك الذي اخترع فريضة الخمس واستحدث لها نصوص موضوعة ، لم يتحدث عن كيفية متابعة أو رقابة المجتهد في إنفاقه لهذه الأموال ، بل تتحدث المراجع عن حرية مطلقة في هذا الباب " ولذلك انتشر الفساد بين رجال الدين الشيعة بسبب هذه الأموال ، ويقول الباحث محمد مال الله : " أعرف مجتهداً من مجتهدي الشيعة لا زال على قيد الحياة وقد ادخر من الخمس ما يجعله زميلا لقارون الغابر أو القوارين المعاصرين ، وهناك مجتهد شيعي في إيران قتل قبل سنوات معدودة كان قد أودع باسمه في المصارف مبلغا يعادل عشرين مليون دولار أخذها من الناس طوعا أو كرها باسم الخمس والحقوق الشرعية ، وبعد محاكمات كثيرة استطاعت الحكومة الإيرانية وضع اليد على تلك الأموال كي لا يقسمها الورثة فيما بينهم " ..
وعلى صعيد التنازع بين قم والنجف ، فقد كان محمد صادق الصدر والد مقتدى الصدر الزعيم الشيعي البارز حاليا ، مرجعا دينيا في العراق في عهد صدام حسين ، وكان معارضا وناقما على السيطرة الإيرانية على منصب المرجع في العراق ، واتهم مراجع النجف بالفساد في إدارة أموال الخمس ، وكشف أن العراقيين لا يستفيدون من هذه الأموال الطائلة التي تجبى منهم كل عام ، بل إن أهالي النجف أنفسهم حيث يعيش المرجعيات يعانون من الفقر وشظف العيش في ظل مرجعيات تتحكم بعشرات الملايين من الدولارات ، وقد كانت هذه المعارضة من صادق الصدر والتهديد بسلب مراجع النجف الإيرانيين مصدر قوتهم وعزتهم سببا رئيسا في اغتياله عام 1999م كما يرجح كثير من الباحثين على أيدي هذه المراجع وعلى رأسهم السيستاني والحكيم ، وليس بأيدي مخابرات صدام حسين ، وهو ما يفسر سبب العداء الواضح بين مقتدى بن صادق الصدر وهذه المراجع في الوقت الحالي ، ومعروف أن أتباع الصدر قتلوا عبد المجيد الخوئي أحد معارضي نظام صدام ، وابن المرجع الخوئي المعروف – مات عام 1993 م – وكان الخوئي الابن قد قدم بغداد في حماية قوات الاحتلال للاضطلاع بدور في عهد ما بعد صدام لكنه قتل على باب منزل مقتدى الصدر وبأيدي أتباعه ، والخوئي المقتول كان يدير مؤسسة الخوئي العالمية من لندن بعد أن ورث أموال الخمس بعد مقتل أبيه ، وهي تعد حسب التقديرات غير الرسمية بعشرات الملايين من الدولارات التي لم يستطع أحد أن يسترجعها منه ..
ونذكر مثالا لما يكتبه بعض المثقفين الشيعة المعارضين لتلك الحال الفاسدة ، حيث يقول الكاتب الشيعي سالم علي متحدثا عن تسلسل الفساد في المرجعية بدءا من الخوئي : " ورث المنصة – المرجعية - السيد الخوئي ، وموقفه لا يحتاج إلى بيان ، والمليارات التي ورّثها لأولاده وأرحامه لا تأكلها النيران ، والجاه والنعيم الذي يعيشه أولئك فوق الخيال ، بل يكفي أن يتأمل أحد كيف كان يعيش ولده مجيد في لندن ، بل وكيف كان يحيا صهره جلال وأولاده الذين جابوا شرق الدنيا وغربها وهم ينثرون حقوق الفقراء من الشيعة على ملاذهم وملاهيهم " ويوسع الكاتب دائرة الاتهام لتشمل المرجعيات الإيرانية في العراق والتي يقول أنها كانت موالية لنظام صدام حسين ولذلك : " لا غرو أن تتضخم ثروات هؤلاء المراجع ، وتزداد قدراتهم ، وتمتد شبكاتهم، وتجند لتحقيق هالاتهم الكثير من الأقلام المأجورة، والنيات الساذجة، حين تطارد اللعنة والاتهامات، بل والقتل غيرهم " ، ثم يوجه سهام نقد خاصة للسيستاني : " واليوم تطل علينا مرجعية لا يجهل حقيقتها إلا السذّج والبسطاء ، انتقلت إلى يديها قدرات مادية ضخمة ، وشبكات معقدة تمتد إلى أنحاء العالم ، ومصالح مادية متشابكة ستكشفها الأيام ، باتت ووفق سياسة لم تعد خافية تتحدث جزافاً وظلماً باسم شيعة العراق، ودون وجه حق، أو حجة منطقية خلا ما يروج له اتباعها ومريدوها " ..
وقبل ذلك كان نجل أبو الحسن الأصفهاني – أحد المراجع الشيعية السابقة – قد قتل لأسباب تتصل بالأموال الشرعية للمرجعية ..(/3)
ولنا أن نتخيل عددا محدودا من رجال الدين يتحكمون في أرصدة تقدر بمئات الملايين من الدولارات – غير معروفة على وجه الدقة – ثم تبدأ فئات جديدة من رجال الدين في الظهور ، وتسلك مسلكا تنافسيا لسلب هؤلاء نفوذهم ، وسحب البساط السحري من تحت أقدامهم ، إن الصراع الذي ينشب في هذه الحالة خليق بأن يشكل الحدث الأبرز في تاريخ الشيعة المعاصر ..
خامسا : المرجعيات والدجاجة الخليجية والذهب :
لا توجد في الخليج مرجعية دينية مؤهلة لتقليدها وجمع أموال الخمس من الأتباع ، ولذلك يتوزع شيعة الخليج بين مختلف المراجع الدينية ، فهناك من يتبع السيستاني – إيراني - في العراق ، وآخرون يتبعون خامنئي المرشد الإيراني أوالشيرازي والتبريزي وهم إيرانيون مقيمون في إيران ، وقلة تتبع محمد حسين فضل الله في لبنان ..
وهذا يعني أن الخمس الخليجي – المتضخم – يصب جزء كبير منه في جيب الإيرانيين ، وهذا لعمري نفوذ هائل ومزرعة دجاج لا تتوقف عن بيض الذهب ، وبدونه ستفقد قم مصدر دخل كبير لا يعوض ، وهذا الفقد سيأتي في المقام الأول من المنافسة الواعدة للنجف العراقية ، حيث الانتماء العربي له تأثير في هذا المجال ، كما أن الفقه العراقي الشيعي يتميز عن مثيله الإيراني بالسهولة والبساطة إلى حد ما ، ما يعني أن بوصلة التقليد والاتباع في الفتاوى ستبدأ في تغيير وجهتها نحو النجف ، وهو ما يحفر أخاديد هائلة في خفايا العلاقة بين مرجعيات المدينتين الشيعيتين الأكبر ..
وقد أثمر هذا الصراع الخفي بين قم والنجف في ظهور دعوات بين شيعة الخليج تطالب بمرجعيات دينية خليجية تتسلم أموال الخمس وتفتي أتباع المذهب بعيدا عن التنافس العراقي الإيراني على أموالهم ، ولتظل البيضة داخل العش ..
وهناك عوامل من شأنها أن تسعر هذا الصراع ، منها أن تزايد معدلات استخراج النفط العراقي من شأنه ان يساهم في زيادة متوسط الدخل ، ولو انتعش اقتصاد الدولة ، فإن ذلك يعني زيادة هائلة في مدخولات الخمس التي يدفعها الشيعة العراقيون سواء إلى قم أو النجف ..
ولا ينتهي الصراع بين النجف وقم عند الزعامة أو الولاية أو الخمس ، فهناك ركائز أخرى لهذا الصراع المشهود ، ولكن لها حديث آخر إن شاء الله ..(/4)
(1)
الخنجر المسموم الذي طُعِن به المسلمون
ما هو الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون ؟!
ذلك هو السؤال الذي تلح الأحداث المتوالية في العالم الإسلامي على إلقائه وتطلب الإجابة عليه، وهو تساؤل مقدم اليوم على كل سؤال، لقد تحدث المصلحون عن مقاتل متعددة أصيب المسلمون بها في كيانهم وذكروها وأولوها اهتمامهم وبحثوا أمرها، ولكنهم لم يركزوا كثيراً على "الخنجر" الذي طعنوا به في هذه المقاتل، وأولى لهم أن ينتزعوه من جسمهم أولاً قبل أن يعالجوا مكانه النازف بالدم، ذلك لأنهم إذا لم ينتزعوه فسوف يظل ينزف وسوف لا يكون جدوى لشيء ما من إصلاح أو تصحيح أو تحرير أو علاج، إذ لابد أن يبدأ العمل من نقطة أولية:
هي نقطة الخنجر، ذلك الخنجر في تقديري وفيا وصل إليه اعتقادي واعتقاد الكثيرين من العاملين نفي دراسات التغريب والغزو الثقافي هو "التعليم" وما يتصل به من شأن التربية والثقافة، هذا هو الخنجر المغروس في الجسد الإسلامي، ومازال ينزف دماً، ولقد كان المستعمرون غاية في الدهاء عندما بدأوا معركتهم مع المسلمين والعرب من المدرسة وعن طريق برامج التعليم ومن خلال الإرساليات والسيطرة على أجهزة المعارف والتخلص من المناهج والمقررات والكتب التي كانت تدرس في مختلف أنحاء العالم الإسلامي والبلاد العربية الأزهر والزيتونة والقرويين ومعاهد الحديث ورجالها والعاملين بها وإحلال مناهج جديدة ومقررات جديدة وإذا كان يرمز إلى هذا بدنلوب في مصر فإن البلاد الإسلامية قد عرفت عشرات من أمثاله وأنداده.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في شريعتهم فأقصيت عن ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ومجتمعنا فإنما مرد ذلك كله إلى هذا الخنجر المدفون في أعماق الجسم الإسلامي.
وإذا كان المسلمون قط طعنوا في شريعتهم فأقصيت عن مجال التطبيق في مجتمعاتهم وحل محلها القانون الوضعي فإنما مرد ذلك إلى التعليم الذي خرج أجيالاً تحتقر الشريعة وتؤمن بعظمة قانون نابليون.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في لغتهم وبرزت دعوى العاميات في مختلف أنحاء الوطن العربي وغيرت الأبجديات في بعض الأقطار الإسلامية فإنما مرد ذلك إلى مناهج التعليم التي خدعت العرب والمسلمين بدعوى عظمة اللغات الأجنبية ودخول اللغة اللاتينية إلى المتحف فلماذا تبقى العربية العجوز. وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفهومهم الإسلامي للاقتصاد فإنما يرجع ذلك إلى أن المسلمين والعرب درسوا في مدارس الإرساليات وفي المدارس الوطنية الموجودة في العالم أن الربا هو القاسم المشترك الأعظم على كل الأنظمة والمشروعات.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفهومهم السياسي الإسلامي فإنما يرجع ذلك إلى تلك الصور الزاهية التي قدمت لهم في مدارسهم وجامعاتهم عن الديمقراطية والليبرالية والجماعية وغيرها من أنظمة الغرب فخدعهم.
وإذا كان المسلمون قط طعنوا في مفهومهم للعلم فإنما يرجع ذلك إلى تلك المقررات المدرسية والجامعية التي ترد العلوم الحديثة من كيمياء وفيزياء وفلك وطبيعة وتكنولوجيا إلى علماء الغرب وحدهم متجاهلة ذلك الدور الخطير الذي قام به المسلمون والعرب في بناء الطابق الأساسي من منشئة العلم وأنهم هم الذين قدموا المنهج العلمي التجريبي إلى البشرية كلها.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفاهيمهم الاجتماعية فإنما مراد ذلك إلى مناهج التعليم الذي يدرس المجتمعات الغربية ومنهج مدرسة العلوم الاجتماعية الذي يقوم على إنكار فطرية الأسرة وأصالة الدين وثبات الأخلاق ويدعو إلى التطور المطلق وإلى الجيرية الاجتماعية، كل ذلك بدراسة أبناء المسلمين في مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم على أنه حقائق مقررة، لا على أنه نظريات مؤقتة مرتبطة ببيئاتها وعصورها، قابلة للخطأ والصواب لأنها من نتاج عقليات بشرية تخطئ وتصيب.
هذا هو الخطر الواضح من وراء الخنجر الذي طعن به المسلمون ومفهوم هذا الخطر أن النفس الإسلامية في العالم الإسلامي كله من حيث أنها قد انحسرت في بيوتها مفاهيم الثقافة الإسلامية القائمة على القرآن والسنة، وضعفت القدرة التي تبني الشباب، فإنها تسلم إلى المدرسة شباباً غضاً، يحس بالفراغ في مجال وجدانه وعاطفته وفكره، فلا يجد إلى مفاهيم الإسلام سبيلاً، ثم إذا به يلتقي بتلك المفاهيم التي تصور له فكر الغرب على صورة العقيدة، وتملأ نفسه بحب تاريخ الغير، وترفع في نظره شأن لغة الغريب وتقدم له العلم والاقتصاد والقانون والاجتماع من نتائج مجتمعات أخرى على أنه هو الفكر الإنساني والثقافة البشرية.
وأين الفكر الإسلامي في ذلك كله والمسلمون لهم منهج حياة كامل وله مفهوم جامع للحياة والمجتمع والسياسة والاقتصاد والتربية.
هذا كله مما لا يزال ضائعاً ولا يزال ناقصاً ولا يزال مهملاً.(/1)
ومن هنا فإن النفس المسلمة التي عجزت عن أن تملأ فراغها الروحي والفكري بمقدراتها وقيمتها لا تلبث أن تملأه بأي شئ، وبما يقدم إليها زاهياً براقاً في كتب ملونة مزخرفة، بينما هي تعجز عن أن تجد من فكرها ما يرد عنها الخطر أو يصحح لها الخطأ أو يزيح عن نفسها الشبهات.
تلك هي القضية الأولى أيها السادة في التحدي الخطير الذي يواجهه المسلمون اليوم في كل مكان، ومن هذه النقطة نصل إلى كل قضية وكل أزمة، وكل موقف ومن خلال الطريق الطويل استطاعت قوى الصهيونية والاستعمار والشيوعية أن تحقق ما وصلت إليه لأنها استطاعت أن تبث فكرها في النفس الإسلامية وأن تحتويها وأن تنقلها من دائرة الإسلام المرنة الجامعة المتكاملة الوسيطة إلى دائرة الغرب المغلقة القاتلة.
ومن هذه النقطة نصل إلى كل ما تطمعون فيه من وحدة وتقدم وقيام أمة الإسلام في أرضها بدورها الرباني الإنساني العالمي الذي هو مفروض عليها والذي هو حق في أعناقنا جميعاً والذي يجب أن نلقى (الله) عليه صادقين وإلا فنحن آثمون مقصرون مأخوذون بجريرة الذنب.
لكي نفهم هذه القضية الكبرى أعمق فهم لابد أن نبحث عن أبعادها إلى أقصى مدى ولا نقع في الأخطاء التي فرضها علينا نفوذ الدائرة المغلقة بأن نقصر البحث على ما هو أمامنا من واقع لأن كل واقع أمامنا لابد أن يكون متصلاً بأبعاد أخرى غير منظورة في المكان أو التاريخ ونحن في الإسلام نؤمن بالتكامل والنظرة الجامعة ونرى كل العناصر مؤدية إلى بناء عمل واحد فلا نفرق بين التربية أو الأخلاق أو الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة أو الفن.
كذلك فنحن في واقعنا القائم يجب أن تكون نظرتنا ممتدة إلى يوم أن بعث الله رسوله بهذه الرسالة من ناحية وإلى اليوم الآخر الذي يقع فيه الجزاء حتماً وأن نعرف أن روابطنا بالأمم ليست حديثة وإنما هي قديمة جداً، وليست اقتصادية أ وسياسية أو دينية وإنما هي كل هذا.
ولنعرف الحقيقة الكبرى التي رسمها القرآن وهي أن عالم الإسلام تكون من قلب عالم أهل الكتاب وهو منذ وجد في صراع معه وسيظل إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
هذا هو التحدي القائم الذي يجب أن يظاهر حياة المسلمين وحضارتهم ولا يغيب عنهم لحظة، ذلك أن الأمم لا تموت إلا إذا فقدت عنصر التحدي أو الطموح، ولقد كانت أزمة المسلمين في مرحلة ضعفهم وتخلفهم هي فقدان عنصر الطموح والاستنامة إلى ما وصلوا إليه، هنالك اندفع العدو الذي يرقبهم وينتظر منهم لحظة غفلة فأدال منهم.
(ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة)، فليأخذ المسلمون بالحذر ليجعلوا التحدي نصب أعينهم، هذا التحدي الذي هو صورة مغايرة لهدف محدد يتكرر تحت أسماء مختلفة في التاريخ من حروب صليبية في المشرق إلى حروب الفرنجة في المغرب إلى حروب التتار إلى الاستعمار الحديث إلى الصهيونية العالمية إلى الدعوات الهدامة من شيوعية وإباحية والحادية ووثنية ومادية.
ونحن نعرف أن معركة حاسمة دارت بين الإسلام والغرب هي معركة الحروب الصليبية، وقد عاشها المسلمون بالمقاومة والجهاد مائتي عام وانتهوا منها بالنصر، ولكن هل كان هذا هو نهاية الشوط بالنسبة للغرب، وهل توقف طموحه للسيطرة على أرض الإسلام وبلاد الإسلام، أن شيئاً من ذلك كله لم يحدث، لقد استمرت المؤامرة واضطردت وتبلورت في مفهوم جديد.
كان ذلك المفهوم يتصور أن المسلمين قد غلبوا الغرب وهزموه لأنهم متقدمون حضارياً وعسكرياً فلابد من هزيمتهم حضارياً وعسكرياً، فانقض الغرب على ميراث المسلمين ونقل منهج العلم التجريبي وانطلق وسبق به المسلمين حتى كانت معارك الدولة العثمانية مع الغرب في أخرها تمنى دائماً بهزيمة المسلمين لأمر واحد هو أن الغرب استحدث أساليباً في الصناعة والحرب عجز عنها المسلمون.
غير أن الغرب لم يقف عند هذا في صراعه ومؤامراته ولكنه وصل إلى مقطع الأمر كله وذلك عندما قرر أن تكون الحرب الموجهة إلى عالم الإسلام هي حرب فكر، ذلك أن المسلمين مهما تخلفوا في ميادين الصناعة والعلم فسوف تبقى لهم عقيدتهم الراسخة التي تحمل طابع الجهاد والتي تدفع بألوفهم إلى ساحات الاستشهاد في سبيل الدفاع عن الحق، وعن الأرض، وعن العرض، إذن فالمعركة يجب أن تبدأ أولاً من هذه النقطة الخطيرة ولابد من تزييف هذه العقيدة وامتصاص ما فيها من قوة وجهاد وإيمان حتى يفقد المسلمون هذا السر الخطير الكامن في نفوسهم، وقد تصور الغرب أنهم عندئذٍ يصبحون قطيعاً من السائمة التي تنطوي وتقهر، ومن هنا بدأت المعركة أطلق عليها أسماء كثيرة:
(التبشير، الاستشراق، التغريب، الغزو الثقافي، الاحتواء).
الوثيقة الأولى:(/2)
لقد وضعت الخطة منذ وقت مبكر وإن لم تستكشف إلا بعد سنوات طويلة وكانت أولى علاماتها المستكشفة في وصية لويس التاسع بعد هزيمته في المنصورة بما يمكننا من القول بأن نهاية الحروب الصليبية كانت بداية المخطط الجديد للغزو الثقافي والفكري ودحر الإسلام كفكر بعد العجز عن دحر أمته.
وتعد وصية لويس التاسع أخطر وثيقة في هذا الاتجاه فهي التي فتحت الباب واسعاً أمام عملية التبشير والاستشراق.
وعلى أثرها مباشرة بدأت حركة أوربا المعروفة إلى ترجمة القرآن والتعرف على الإسلام، وبدأت نواة التبشير والاستشراق في المعاهد الأوربية: دراسة للغة العربية والإسلام والقرآن بمفهوم الرد عليه وإنقاصه وإثارة الشبهات حوله.
وقد ظاهر هذه الحركة عملية "سرقة" التراث العربي الإسلامي من البلاد العربية والإسلامية بواسطة القناصل والتجار وأستميحكم العذر في أن أقول "سرقة" لأن عملية الاستيلاء على الفكر الإسلامي في الأندلس أيضاً كانت "سرقة" بالرغم من أن المسلمين كانوا يؤمنون بأن العلم للجميع حتى العلم التجريبي الذي هو الآن من أسرار الأمم الحديثة والتي عجز المسلمون والعرب خلال قرن ونصف قرن في الحصول عن أصوله ومعادلاته.
أما المسلمون فكانوا يعملونه في جامعات الأندلس وجزيرة صقلية في حرية تامة، غير أن الغرب في تناهي حقده لم يقف عند هذا الحد، بل إنه عزل الموقع الإسلامي كله وصادره بما في وأخرج من المسلمين إخراجاً، وكذلك فعل في الأندلس حيث أحرزت أوربا كل ثمرات النتاج الإسلامي العلمي والفكري بأرضه ومعامله ومعاهده وحوائطه، ولم تبق للمسلمين حتى مجرد القدرة على استئناف تجاربهم وهم في أرض أخرى هاجروا إليها.
لقد عكف لويس التاسع بعد هزيمته في المنصورة خلال محبسه في دار ابن لقمان يفكر ويستعرض هذه الحملات الصليبية المتوالية على بيت المقدس ودمشق ومصر وكيف هزمت هزيمة منكرة وكيف هزمت حملته في قلب دلتا النيل، وسبق إلى الاعتقال، وكيف كان المصريون والعرب المسلمون يقاتلون ببسالة عجيبة في الدفاع عن بلادهم خلال سبع حملات متوالية ووصل إلى نتيجة حاسمة: هي أن المسلمين لا يهزمون ما دام فكرهم باقياً وما دامت عقيدتهم قائمة، ذلك لأنهم تدفعهم في قوة إلى الاستشهاد في سبيل حماية الزمار ومقاومة الغاصب وتطهير الأرض من دنس الغزاة، والإسلام يجعل القتال في سبيل تحرير الأرض من دنس الغزاة، والإسلام يجعل القتال في سبيل تحرير الأرض ديناً وعقيدة ولذلك فإن سبيل الغرب إلى الانتصار على المسلمين والسيطرة على أرضهم يجب أن تبدأ أولاً من حرب الكلمة ولابد من أن تقوم في الغرب قوى من الباحثين والدارسين يترجمون القرآن ويدرسون العربية ويعملون على القضاء على تلك المفاهيم القوية التي تتصل بالجهاد في سبيل الله، فإذا استطاع الغرب أن يفعل ذلك فقد استطاع أن يقضي على القوة الروحية والنفسية القائمة وراء تلك المقاومة الجبارة وعندئذٍ يمكن للغرب السيطرة على العالم الإسلامي ومن هذه النقطة بدأت حرب الكلمة بالتبشير والاستشراق والتغريب والغزو الثقافي والسيطرة على التعليم والتربية والثقافة والفكر والصحافة، وقد استطاعت هذه الخطة أن تحقق للغرب انتصاراته التي يمكن أن يطلق عليها الاستعمار الغربي الحديث، ولا ريب أن وثيقة لويس التاسع تنصح بهذا الاتجاه الخطير وتدعو إليه.
ولقد بلغ لويس درجة القداسة في نظر الغرب؛ لأنه حمل الصليب وحارب به في مصر، ثم كانت حملته التاسعة المشهورة على تونس.
وإذا كانت الحملات الصليبية ثم توقفت منذ استعاد المسلمون عكا بقيادة الأشرف خليل عام 690 هجرية/ 1291 ميلادية، وعلى أثر ذلك قامت الدولة الإسلامية العثمانية الكبرى بعد تسع سنوات لا غير من سقوط الحروب الصليبية وهزيمة أوربا، هذه الدولة التي استمرت حتى عام 1337 هجرية الموازية لعام 1918 الميلادي أي أنها استمرت تحمل لواء الإسلام خمسة قرون ونصف القرن.
نقول إذا كانت الحملات الصليبية قد توقفت منذ عام 690 هجرية فإن أوربا لم تتوقف فقد استأنفت حركتها مرة أخرى بعد وقت قصير حين تدافعت بعد سقوط الأندلس على الطريق الأفريقي من ناحية الغرب دون توقف: الأسبان والبرتغال ومن ورائهم الإنجليز والفرنسيين والهولنديين.
أما في أفق البلاد العربية فإن عام 830 كان علامة الخطر حين بدأت فرنسا في غزو الجزائر وامتدت المعركة إلى تونس فمصر والسودان. منذ ذل كاليوم بدأت طلائع التبشير تعمل وأخذت حركة الاستشراق تزدهر وكانت بؤرة العمل هي ساحل البحر الأبيض الشرقي: في مواجهة الشام من الشرق وإستانبول من الشمال ومصر من الجنوب.
وانتقلت المطابع وبدأت المدارس وتصارعت قوى البروتستانتية الأمريكية والكاثوليكية الفرنسية على تقديم مناهجها.
ثم جاءت حكومات الاستعمار في كل البلاد العربية فأخذت مناهج مدارس الإرساليات ونفذتها تواً.(/3)
وفي عديد من مصادر تاريخ اللقاء بين الشرق والغرب نجد إشارة إلى وصية لويس التاسع الذي كان أول من أشار إلى تجنيد المبشرين الغربيين في معركة سلمية لمحاربة تعاليم الإسلام ووقف انتشاره ثم القضاء عليه معنوياً واعتبار هؤلاء المبشرين في تلك المعركة جنوداً للغرب.
وإذا كانت الحروب الصليبية منذ بدأت 1299م وانتهت 1499 فإن انسحاب المسلمين من الأندلس انتهى 1493 وكان ذلك بعد انم استولى محمد الفاتح على القسطنطينية عام 1354 (857 هجرية) في ظل ذلك كله بدأ العمل تواً على إنشاء قاعدة للغرب في قلب الشرق العربي يتخذها نقطة ارتكاز له ومعقلاً لمعركته العقائدية الفكرية التي تستهدف حصار الإسلام والوثوب عليه.
وقد اختيرت هذه الأراضي على شاطئ البحر الأبيض الشرقي مسرحاً لهذا العمل منذ ذل كالوقت وتحرك العمل بين بيروت والقاهرة والقسطنطينية. وفي نفس الوقت الذي كان عمل مماثل يتحرك في تونس والجزائر ومراكش، وأعمال أخرى في المناطق الإسلامية في الهند وفي جاوة وأندونيسيا والفيليبين.
الوثيقة الثانية:
أما الوثيقة الثانية فهي تقرير من أحد معاهد الإرساليات بقلم الأستاذ نبيه أمين فارس يكشف فيه إبعاد الخطة كلها وهي في نظرنا وثيقة تطبيقية لمخطط لويس التاسع يقول: "بينما كان الشرق الأدنى مطمحاً لأفكاره بناء الإمبراطوريات كان أيضاً مطمح إنظار جماعة أخرى من الناس تنشد أن تنجز عن طريق "الكلمة" ما عجز أجدادها الصليبيون عن تحقيقه عن طريق السيف. وبعبارة أخرى تنشد احتلال مهد المسيحية وإخضاع العالم كله للمسيح. إن هذا الحلم المسيحي قديم-قدم المسيحية ذاتها وهو يستمد وحيه الدائم من الوصية العظمى كما سجلها أبو المبشرين، القديس بولس.
ولعل سبب سيطرة هذه الوصية كرة أخرى على عقول المسيحيين يعود إلى اليقظة الدينية التي عمت إنكلترا في أواخر القرن الثامن عشر، واليقظة الدينية المقابلة لها في الولايات المتحدة التي تمثلت فيما سمى بروح إنكلترا الجديدة، وعلى ذلك فقد شهدت السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر والسنوات الأولى من القرن التاسع عشر ظهور كثير من الجمعيات التبشيرية التي كرست نفسها لحمل الإنجيل إلى جميع البشر، ويمكن أن يضاف إلى هذين العاملين عامل آخر هو ازدياد المطامع السياسية والاقتصادية في ممتلكات رجل أوربا المريض (يقصد الدولة العثمانية الإسلامية) ومن المحتمل أن يكون لهذا العامل الأخير علاقة باختيار الشرق الأدنى ميداناً مفضلاً للنشاط التبشيري.
ومن أهم هذه الجمعيات التبشيرية التي ظهرت في هذه الفترة: الجمعية التبشيرية الكنسية التي أسست في لندن 1799 والمجلس الأمريكي لمندوبي البعثات التبشيرية. وقد أرسل المجلس الأمريكي بعد تسع سنين من تأسيسه أول مبشرة إلى الشرق الأدنى، ولما كانت المشكلة الأولى التي واجهت أولئك المبشرين هي اختيار مركز ملائم لهم. وقدم سوريا 1823 مبشراً آخرين وانتقلوا إلى بيروت وكان غرض البروتستانت أن يتمكنوا بالاشتراك مع كنائس الشرق الناهض من كسب الكفار إلى دين المسيح غير أنهم سرعان ما وجدوا أن الإسلام لم يكن قد فقد سيطرته على قلوب المؤمنين وصمم المبشرين منذ البداءة على استعمال الكلمة حيث فشل استعمال السيف، وفي سبيل هذه الغاية أسسوا المطبعة الأمريكية أولاً في مالطة 1822 ثم في بيروت 1834، وأخذوا يفتحون مدارس للبنين والبنات بصورة منتظمة حتى بلغ عدد هذه المدارس ثلاثاً وثلاثين في أقل من هذا العدد من السنين وعكفوا على إنجاز تلك المهمة العظيمة: مهمة إعداد ترجمة عربية صالحة مقروءة للتوراة.
وعدوا فوق ذلك حمل لواء الحرية الدينية بصورة خاصة والمطلقة بصورة عامة(1).
الوثيقة الثالثة:
ومن الجزائر تقدم تقم هذه الوثيقة: من قلم الدكتور محمد تقي الدين الهلالي نشرها في الفتح عام 1931.
"إن هؤلاء الأوروبيين الفاتحين المبعدين للأحرار المحربين للديار مازالوا يحرمون عبيدهم من كلمة الجهاد ويعدون ذكراه فضلاً عن فعله من أعظم الذنوب وهو آية الهمجية والتعصب الديني الممقوت، وبلغ بعضهم الأمر أن حرموا على المسلمين تفسير آيات الجهاد في كتب الفقه وبعيني شاهدت صحيفة الأذن Permited التي حصل عليها شيخنا محمد بن حبيب الله الشنقيطي رحمه الله في مدينة المشربة قسم وهران من الجزائر وفيها أن الإذن بتدريس علوم الدين مقيد بأن المدرس لا يفسر أي آية أو حديث يدل على الجهاد وأن لا يدرس شيئاً من أبواب الجهاد في كتب الفقه ولما راجت دعاية هؤلاء في الشرق صار المسلمون ينفرون من لفظ الجهاد".
__________
(1) مجلة الأبحاث أيلول-سبتمبر 1958، م 11، ص 383.(/4)
ويعد المبشرون أن أولى فرصتهم جاءت بعد سقوط السلطان عبد الحميد عام 1908 حيث أمكن منذ ذلك الوقت تفسيخ الدولة العثمانية وتوسع بعثات التبشير على النحو الذي حقق تنفيذ مناهج التعليم على النحو الذي رسمته مخططات الغزو حتى ليقول الدكتور زويمر زعيم المبشرين وكبيرهم في الشرق في مثل هذا التاريخ الذي نقلنا فيه وثيقة الجزائر تقريباً ما يأتي:
إن السياسة الاستعمارية لما قضت من نصف قرن –أي منذ عام 1882 تقريباً- على برامج التعليم في المدارس الابتدائية أخرجت منها القرآن ثم تاريخ الإسلام وبذلك أخرجت ناشئة لا هي مسلمة ولا هي مسيحية ولا هي يهودية. ناشئة مضطربة مادية الأغراض لا تؤمن بعقيدة ولا تعرف حقاً فلا للدين كرامة ولا للوطن حرمة.
الوثيقة الرابعة:
وهذه الوثيقة يقدمها عميد المبشرين في البلاد العربية في الثلاثينات (وهي أخطر مراحل تاريخ العالم الإسلامي الحديث فهي مرحلة تكوين الأسس والقواعد والخطط التي خرجت من بعد نتائجها الخطيرة).
يقول صمويل زويمر في تقريره في مؤتمر المبشرين سنة 1924: "في كل حقل من حقول العمل يجب أن يكون العمل موجهاً نحو النشء الصغير من المسلمين وموزعاً فيما بينهم ليحيط بهم وليكونوا منه على صلة مباشرة، ويجب أن يقدم هذا على كل عمل سواه في الأقطار الإسلامية فإن تنور روح الإسلام في الناشئ الحديث يبتدئ باكرا من عمره فيجب والحالة هذه أن يؤتي بالنشء الصغير من المسلمين قبل أن يتكامل نمو عقليتهم وأخلاقهم وحينئذ يستعصي على المبشر ولم يزل التعليم التبشيري هو أفضل طريقة للوصول إلى المسلمين".
ويعود في المؤتمر التالي بعد عشر سنوات 1933 فيصور ما تحقق من نتائج وما يجب التأكيد عليه في المرحلة القادمة في مؤتمر المبشرين في القدس"
"إن مهمة التبشير الذي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية فإن ذلك هداية لهم وتكريماً. وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية.
هذا ما قمتم به خلال الأعوام المائة السابقة خير قيام.
لقد قضينا في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، ونشرنا في تلك الربوع مكامن التبشير والكنائس والجمعيات والمدارس المسيحية تلك التي تهيمن عليها الدول الأوربية والأمريكية. ولذلك جاء النشء الإسلامي طبقاً لما أراده له الاستعمار المسيحي لا يهتم بالعظائم ويحب الراحة والكسل ولا يعرف أهمية في دنياه إلا الشهوات فإذا تعلم فللشهوات وإذا جمع فللشهوات وإذا تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل المال يجود بكل شئ.
وفي نفس الطريق تقول المبشرة (أنامليجان):
"ليس ثمة طريق إلى حسن الإسلام أقصر مسافة من هذه المدرسة، إن المدرسة أقوى قوة لجعل الناشئين تحت تأثير الدين المسيحي، هذا التأثير يستمر حتى يشمل أولئك الذين سيصبحون يوماً قادة أوطانهم.
الوثيقة الخامسة:
وهنا وثائق أخرى حية: تتمثل في أفراد وأحداث، أما في 1909 فقد ثار الطلاب المسلمون في إحدى مدارس الإرساليات الكبرى لإجبارهم على الصلاة المسيحية يومياً فأصدرت هذه الكلية بياناً قالت فيه:
"إن هذه الكلية مسيحية أسست بأموال شعب مسيحي هم اشتروا الأرض وهم أقاموا الأبنية ولا يمكن للمؤسسة أن تستمر إذا لم يسندها هؤلاء، وكل هذا قد فعله هؤلاء ليوجدوا تعليماً يكون الإنجيل من مواده فيعرض منافع الحقيقة المسيحية على كل تلميذ وكل طالب يدخل مؤسستنا يجب أن يعرف سابقاً ماذا يطلب منه.
ثم جاء النص الآتي: "إن الكلية لا تؤسس للتعليم العلماني ولا لبث الأخلاق الحميدة ولكن من أولى غاياتها أن تعلم الحقائق الكبرى التي في التوراة وأن تكون مركزاً للنور المسيحي".
الوثيقة السادسة:
قد كشف ذلك طالب عربي معروف هو عبد القادر الحسيني (ابن كاظم باشا الحسيني وبطل معركة القسطل فيما بعد) الذي وقف في حفل توزيع الدبلومات في إحدى العواصم العربية على المنصة وفي يده الشهادة التي أخذها ثم اتجه إلى الحاضرين وكانوا علية القوم وقال:
"إن هذه الجامعة تظهر أمام الناس في مظهر المدرسة العلمية ولكنها في الحقيقة بؤرة إفساد للعقائد الدينية وهي تطعن في الدين الإسلامي ولذلك لا يصح للمسلمين أن يبقوا أولادهم بها".
كان ذلك يوم 27 مايو 1932.
فاهتزت الدنيا للحدث وأسرع المبشرون الأساتذة يمزقون الدبلوم من يد الطالب وينهرونه، ولم يلبث عبد القادر أن نشر قصته في الصحف وأعلن عن الكتب المقررة التي تهاجم الرسول والإسلام وحاولت الجامعة أن تتنصل وتقول إن هذه الكتب ليست مقررة.
***
وكان الدكتور وطسون مدير الجامعة قد أعلن قبل ذلك بقليل.(/5)
إن المعتقدات الإسلامية آخذة في الانحلال وأنها غير ملائمة للحالة الحاضرة وأن الجيل الناشئ الذي تنصل به نراه مهتماً كل الاهتمام لا بالإسلام ولكن بالمسائل المادية والإلحاد، ونحن نسر حين نستطيع أن نجعل فتى مسلماً يقبل مبادئ المسيحية ووحي المسيح.
وقال الدكتور وطسون:
"وإننا نراقب سير القرآن في المدارس الإسلامية ونجد فيه الخطر الداهم ذلك أن القرآن وتاريخ الإسلام هم الخطران العظيمان اللذان تخشاهما سياسة التبشير".
الوثيقة السابعة:
وهناك وثائق تشهد على أصحاب المخطط نفسه ذلك أنه عندما بدأت حركة التغريب التي تضم التبشير والاستشراق في تقييم عملها تقدم خمسة من المستشرقين لدراسة العالم الإسلامي كله وقدموا تقارير شاملة عن مختلف الأقطار نشرت تحت عنوان هوزر إسلام (المترجمة وجهة الإسلام).
وفيها يتحدث كبيرهم هاملتون جب عن التعلم فيقول -وهي وثيقة أخرى نقدمها للباحثين:
"إن إدخال طرائق جديدة في البلاد الإسلامية كان سيطلب نظاماً جديداً في التربية من عهد الطفولة في المدارس الابتدائية والثانوية قبل الانتقال للدراسات العالية، وأن إصلاح التعليم على النحو لم يكن في ذلك الوقت يخطر على بال السلطات المدنية الإسلامية، ولكن هذا الفراغ ملأه هيئات أخرى؛ فقد انتشرت في منتصف القرن التاسع عشر شبكة واسعة من المدارس في معظم البلاد الإسلامية ولاسيما في تركيا وسوريا ومصر وذل يرجع غالباً إلى جهود جمعيات تبشيرية مسيحية مختلفة. وربما كان أكثرها عدداً المدارس الفرنسية وقد كانت المدارس الإنجليزية في الإمبراطورية العثمانية أقل منها في الهند وكانت المدارس الهولندية قاصرة على جزء الهند الشرقية.
هذه المدارس صاغت أخلاق التلاميذ وكونت أذواقهم والأهم أنها علمتهم اللغات الأوربية التي جعلت التلاميذ قادرين على الاتصال المباشر بالفكر الأوربي فصاروا في سبيل حياتهم مستعدين للتأثر بالمؤثرات التي فعلت فعلها أيام الطفولة (أي التعليم على الطريقة المسيحية).
وفي أثناء الجزء الأخير من القرن التاسع عشر نفذت هذه الخطة إلى أبعد حد من ذلك بإنماء التعليم العلماني تحت الإشراف الإنجليزي في مصر والهند، ولعل هناك نصيباً من الحق في التهم التي ترمي بها هذه المدارس الأجنبية من أنها مفسدة لقومية التلاميذ وإن كنا لا نستطيع القول بأن التطورات السياسية التي أعقبت ذلك في البلاد الإسلامية أيدت هذه التهمة.
ولكن الذي فعلته بلا ريب أنها ربت في التلاميذ خروجاً على الأنظمة الاجتماعية وأضعف من هذه الوجوه سلطان النزعة الإسلامية القديمة على التلاميذ وأخلت في بناء المجتمع الإسلامي أداة هامة وقطعت بعض الأوامر التي كانت تربطه وتحفظه".
ويقول جب راسماً خطة المستقبل: "لقد استطاع نشاطنا التعليمي والثقافي عن طريق المدارس العصرية والصحافة أن يترك في المسلمين ولو من غير وعي منهم آثرا يجعلهم في مظهرهم العام لا دينيين إلى حد بعيد ولا ريب أن ذلك خاصة هو اللب المثمر في كل ما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامي على حضارته من آثار".
هذه صورة سريعة للخنجر الذي غُرس في جسم الأمة الإسلامية جاءت بعد خمسين عاماً محققة للهدف مكونة للأجيال التي أرادها الاستعمار.
تحقق هذا منذ أن دعاء إليه لويس التاسع وحدده غلادستون عندما وقف في مجلس العموم البريطاني ومعه المصحف الشريف وقال: "إننا لا نستطيع أن نحكم المسلمين مادام هذا الكتاب باقياً في الأرض".
ثم جاء كرومر وقال: "جئت لأمحو ثلاث: القرآن والكعبة والأزهر"، وجاء تقرير لورد دوفرين إلى اللور جرانفيل وزير خارجية إنجلترا بعد الاحتلال البريطاني لمصر محدداً الخطة التي توقف نمو الأزهر وتركز على التعليم المدني وترفع من شأن العامية وتخفض من شأن القرآن. قال دوفرين في تقريره الذ نشرته "المقتطف" في المجلد السابع ص 668: "إخال أن أمل التقدم في مصر ضعيف طالما أن العامة تتعلم اللغة الفصيحة العربية، لغة القرآن، كما في الوقت الحاضر حالة كونها لا تتعلم اللغة العربية الدارجة؛ لأن نسبة اللغة المصرية الدارجة إلى لغة القرآن كنسبة الإيطالياني إلى اللاتيني والإغريقي القديم، وعربية الفلاح لغة قائمة بنفسها وقواعدها خاصة بها، وإذا لم توجد الاحتياطات الفردية للحصول على النتائج المقبلة في المدارس العديدة التهذيبية التي أشرت إليها يستمر الجيل الجديد كسابقه وغير صالح لخدمة وطنه، وساء كان للقيادة العسكرية أو في الصنائع أو في الخدمات، وتبقى عبارة مصر للمصريين كما كانت اسماً بلا مسمى".
ولقد كانت مهمة كرور واضحة ومستمرة؛ فهو دائب في كل عام أن يرددها:(/6)
"في مصر جيل جديد يختلف عن أجداده في أشياء كثيرة فيمكن أن تحدثه نفسه يوماً بأن يمد إلى تلك الأركان القديمة يداً لا تعرف حرمة القديم، فيكون أشد عليها من يد حكومة تمدها اليوم طبقاً لإرشاد قوم لا شأن لهم في الأمر (يعني الإنجليز)؛ لأنهم لا يدينون بالدين الإسلامي، فإذا كان لهذا الحساب نصيب من الصواب فالأجدر بأبناء اليوم أن يشرعوا في الإصلاح ويلاقوا الأمر قبل حلوله".
هذا في مصر، والتاريخ يحفظ مثله في تونس والمغرب والجزائر لكرومرها ودنلوبها: وفي كل بلد إسلامي كرومر ودنلوب يجري على نفس الخطة وينفذ نفس المخطط.
ويعلق اللورد لويد (المندوب السامي في مصر) بعد كرومر بعشرين عاماً في كتاب له تحت عنوان (مصر منذ أيام كرومر) على خطة التعليم فيقول:
"إن التعليم الوطني (في مصر) عندما قدم الإنجليز كان في قبضة الجامعة الأزهرية الشديدة التمسك بالدين والتي كانت أساليبها الجافة تقف حاجزاً في طريق أي إصلاح تعليمي وكان الطلبة الذين يتخرجون من هذه الجامعة يحملون معهم قدراً عظيماً من غرور التعصب الديني، فلو أمكن تطوير الأزهر لكانت هذه خطوة جليلة الخطر، فليس من اليسير أن يتصور لنا أي تقدم طالما ظل الأزهر متمسكاً بأساليبه هذه، ولكن إذا بدا أن مثل هذه الخطوة غير متيسر تحقيقها فعندئذٍ يصبح الأمل محصوراً في إيجاد التعليم اللاديني الذي ينافس الأزهر حتى يتاح له الانتشار والنجاح" اهـ .
وقد حقق الاستعمار هذا تماماً حين فرق التعليم في العالم الإسلامي إلى ديني ومدني فجمد الأول وحجب تخريجه عن مناصب القيادة ودفع الثاني دفعة قوية إلى الصراع والتعارض والخصومة وأعلاه في خبث ومكر شديدين.
وجملة القول في هذا أن الخنجر الذي طُعِن به المسلمون قد وُضِع بذكاء في موضع القلب وقصد به أن تكون المناهج كلها وخاصة في العقيدة والتاريخ واللغة قائمة على أساس فلسفة الغرب ومفاهيمه وإعلاء شخصيته وتاريخه وحتى يكون تاريخ الإسلام وعقيدتهم ولغتهم هي موضع احتقار شبابها ومثقفيها. ولن أحدثكم عن النتائج فأنتم تعلمونها وأن كل ما يتصل بأزمة المسلمين والعرب اليوم إنما مرده إلى هذا الخنجر المغروس قريباً من القلب وهو ما يزال ينزف بغزارة. أناشدكم الله أن تبحثوا عن السبيل الذي يمكنكم من اقتلاعه وتضميد جراحه.
أنور الجندي(/7)
(1)
الخنجر المسموم الذي طُعِن به المسلمون
ما هو الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون ؟!
ذلك هو السؤال الذي تلح الأحداث المتوالية في العالم الإسلامي على إلقائه وتطلب الإجابة عليه، وهو تساؤل مقدم اليوم على كل سؤال، لقد تحدث المصلحون عن مقاتل متعددة أصيب المسلمون بها في كيانهم وذكروها وأولوها اهتمامهم وبحثوا أمرها، ولكنهم لم يركزوا كثيراً على "الخنجر" الذي طعنوا به في هذه المقاتل، وأولى لهم أن ينتزعوه من جسمهم أولاً قبل أن يعالجوا مكانه النازف بالدم، ذلك لأنهم إذا لم ينتزعوه فسوف يظل ينزف وسوف لا يكون جدوى لشيء ما من إصلاح أو تصحيح أو تحرير أو علاج، إذ لابد أن يبدأ العمل من نقطة أولية:
هي نقطة الخنجر، ذلك الخنجر في تقديري وفيا وصل إليه اعتقادي واعتقاد الكثيرين من العاملين نفي دراسات التغريب والغزو الثقافي هو "التعليم" وما يتصل به من شأن التربية والثقافة، هذا هو الخنجر المغروس في الجسد الإسلامي، ومازال ينزف دماً، ولقد كان المستعمرون غاية في الدهاء عندما بدأوا معركتهم مع المسلمين والعرب من المدرسة وعن طريق برامج التعليم ومن خلال الإرساليات والسيطرة على أجهزة المعارف والتخلص من المناهج والمقررات والكتب التي كانت تدرس في مختلف أنحاء العالم الإسلامي والبلاد العربية الأزهر والزيتونة والقرويين ومعاهد الحديث ورجالها والعاملين بها وإحلال مناهج جديدة ومقررات جديدة وإذا كان يرمز إلى هذا بدنلوب في مصر فإن البلاد الإسلامية قد عرفت عشرات من أمثاله وأنداده.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في شريعتهم فأقصيت عن ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ومجتمعنا فإنما مرد ذلك كله إلى هذا الخنجر المدفون في أعماق الجسم الإسلامي.
وإذا كان المسلمون قط طعنوا في شريعتهم فأقصيت عن مجال التطبيق في مجتمعاتهم وحل محلها القانون الوضعي فإنما مرد ذلك إلى التعليم الذي خرج أجيالاً تحتقر الشريعة وتؤمن بعظمة قانون نابليون.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في لغتهم وبرزت دعوى العاميات في مختلف أنحاء الوطن العربي وغيرت الأبجديات في بعض الأقطار الإسلامية فإنما مرد ذلك إلى مناهج التعليم التي خدعت العرب والمسلمين بدعوى عظمة اللغات الأجنبية ودخول اللغة اللاتينية إلى المتحف فلماذا تبقى العربية العجوز. وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفهومهم الإسلامي للاقتصاد فإنما يرجع ذلك إلى أن المسلمين والعرب درسوا في مدارس الإرساليات وفي المدارس الوطنية الموجودة في العالم أن الربا هو القاسم المشترك الأعظم على كل الأنظمة والمشروعات.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفهومهم السياسي الإسلامي فإنما يرجع ذلك إلى تلك الصور الزاهية التي قدمت لهم في مدارسهم وجامعاتهم عن الديمقراطية والليبرالية والجماعية وغيرها من أنظمة الغرب فخدعهم.
وإذا كان المسلمون قط طعنوا في مفهومهم للعلم فإنما يرجع ذلك إلى تلك المقررات المدرسية والجامعية التي ترد العلوم الحديثة من كيمياء وفيزياء وفلك وطبيعة وتكنولوجيا إلى علماء الغرب وحدهم متجاهلة ذلك الدور الخطير الذي قام به المسلمون والعرب في بناء الطابق الأساسي من منشئة العلم وأنهم هم الذين قدموا المنهج العلمي التجريبي إلى البشرية كلها.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفاهيمهم الاجتماعية فإنما مراد ذلك إلى مناهج التعليم الذي يدرس المجتمعات الغربية ومنهج مدرسة العلوم الاجتماعية الذي يقوم على إنكار فطرية الأسرة وأصالة الدين وثبات الأخلاق ويدعو إلى التطور المطلق وإلى الجيرية الاجتماعية، كل ذلك بدراسة أبناء المسلمين في مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم على أنه حقائق مقررة، لا على أنه نظريات مؤقتة مرتبطة ببيئاتها وعصورها، قابلة للخطأ والصواب لأنها من نتاج عقليات بشرية تخطئ وتصيب.
هذا هو الخطر الواضح من وراء الخنجر الذي طعن به المسلمون ومفهوم هذا الخطر أن النفس الإسلامية في العالم الإسلامي كله من حيث أنها قد انحسرت في بيوتها مفاهيم الثقافة الإسلامية القائمة على القرآن والسنة، وضعفت القدرة التي تبني الشباب، فإنها تسلم إلى المدرسة شباباً غضاً، يحس بالفراغ في مجال وجدانه وعاطفته وفكره، فلا يجد إلى مفاهيم الإسلام سبيلاً، ثم إذا به يلتقي بتلك المفاهيم التي تصور له فكر الغرب على صورة العقيدة، وتملأ نفسه بحب تاريخ الغير، وترفع في نظره شأن لغة الغريب وتقدم له العلم والاقتصاد والقانون والاجتماع من نتائج مجتمعات أخرى على أنه هو الفكر الإنساني والثقافة البشرية.
وأين الفكر الإسلامي في ذلك كله والمسلمون لهم منهج حياة كامل وله مفهوم جامع للحياة والمجتمع والسياسة والاقتصاد والتربية.
هذا كله مما لا يزال ضائعاً ولا يزال ناقصاً ولا يزال مهملاً.(/1)
ومن هنا فإن النفس المسلمة التي عجزت عن أن تملأ فراغها الروحي والفكري بمقدراتها وقيمتها لا تلبث أن تملأه بأي شئ، وبما يقدم إليها زاهياً براقاً في كتب ملونة مزخرفة، بينما هي تعجز عن أن تجد من فكرها ما يرد عنها الخطر أو يصحح لها الخطأ أو يزيح عن نفسها الشبهات.
تلك هي القضية الأولى أيها السادة في التحدي الخطير الذي يواجهه المسلمون اليوم في كل مكان، ومن هذه النقطة نصل إلى كل قضية وكل أزمة، وكل موقف ومن خلال الطريق الطويل استطاعت قوى الصهيونية والاستعمار والشيوعية أن تحقق ما وصلت إليه لأنها استطاعت أن تبث فكرها في النفس الإسلامية وأن تحتويها وأن تنقلها من دائرة الإسلام المرنة الجامعة المتكاملة الوسيطة إلى دائرة الغرب المغلقة القاتلة.
ومن هذه النقطة نصل إلى كل ما تطمعون فيه من وحدة وتقدم وقيام أمة الإسلام في أرضها بدورها الرباني الإنساني العالمي الذي هو مفروض عليها والذي هو حق في أعناقنا جميعاً والذي يجب أن نلقى (الله) عليه صادقين وإلا فنحن آثمون مقصرون مأخوذون بجريرة الذنب.
لكي نفهم هذه القضية الكبرى أعمق فهم لابد أن نبحث عن أبعادها إلى أقصى مدى ولا نقع في الأخطاء التي فرضها علينا نفوذ الدائرة المغلقة بأن نقصر البحث على ما هو أمامنا من واقع لأن كل واقع أمامنا لابد أن يكون متصلاً بأبعاد أخرى غير منظورة في المكان أو التاريخ ونحن في الإسلام نؤمن بالتكامل والنظرة الجامعة ونرى كل العناصر مؤدية إلى بناء عمل واحد فلا نفرق بين التربية أو الأخلاق أو الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة أو الفن.
كذلك فنحن في واقعنا القائم يجب أن تكون نظرتنا ممتدة إلى يوم أن بعث الله رسوله بهذه الرسالة من ناحية وإلى اليوم الآخر الذي يقع فيه الجزاء حتماً وأن نعرف أن روابطنا بالأمم ليست حديثة وإنما هي قديمة جداً، وليست اقتصادية أ وسياسية أو دينية وإنما هي كل هذا.
ولنعرف الحقيقة الكبرى التي رسمها القرآن وهي أن عالم الإسلام تكون من قلب عالم أهل الكتاب وهو منذ وجد في صراع معه وسيظل إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
هذا هو التحدي القائم الذي يجب أن يظاهر حياة المسلمين وحضارتهم ولا يغيب عنهم لحظة، ذلك أن الأمم لا تموت إلا إذا فقدت عنصر التحدي أو الطموح، ولقد كانت أزمة المسلمين في مرحلة ضعفهم وتخلفهم هي فقدان عنصر الطموح والاستنامة إلى ما وصلوا إليه، هنالك اندفع العدو الذي يرقبهم وينتظر منهم لحظة غفلة فأدال منهم.
(ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة)، فليأخذ المسلمون بالحذر ليجعلوا التحدي نصب أعينهم، هذا التحدي الذي هو صورة مغايرة لهدف محدد يتكرر تحت أسماء مختلفة في التاريخ من حروب صليبية في المشرق إلى حروب الفرنجة في المغرب إلى حروب التتار إلى الاستعمار الحديث إلى الصهيونية العالمية إلى الدعوات الهدامة من شيوعية وإباحية والحادية ووثنية ومادية.
ونحن نعرف أن معركة حاسمة دارت بين الإسلام والغرب هي معركة الحروب الصليبية، وقد عاشها المسلمون بالمقاومة والجهاد مائتي عام وانتهوا منها بالنصر، ولكن هل كان هذا هو نهاية الشوط بالنسبة للغرب، وهل توقف طموحه للسيطرة على أرض الإسلام وبلاد الإسلام، أن شيئاً من ذلك كله لم يحدث، لقد استمرت المؤامرة واضطردت وتبلورت في مفهوم جديد.
كان ذلك المفهوم يتصور أن المسلمين قد غلبوا الغرب وهزموه لأنهم متقدمون حضارياً وعسكرياً فلابد من هزيمتهم حضارياً وعسكرياً، فانقض الغرب على ميراث المسلمين ونقل منهج العلم التجريبي وانطلق وسبق به المسلمين حتى كانت معارك الدولة العثمانية مع الغرب في أخرها تمنى دائماً بهزيمة المسلمين لأمر واحد هو أن الغرب استحدث أساليباً في الصناعة والحرب عجز عنها المسلمون.
غير أن الغرب لم يقف عند هذا في صراعه ومؤامراته ولكنه وصل إلى مقطع الأمر كله وذلك عندما قرر أن تكون الحرب الموجهة إلى عالم الإسلام هي حرب فكر، ذلك أن المسلمين مهما تخلفوا في ميادين الصناعة والعلم فسوف تبقى لهم عقيدتهم الراسخة التي تحمل طابع الجهاد والتي تدفع بألوفهم إلى ساحات الاستشهاد في سبيل الدفاع عن الحق، وعن الأرض، وعن العرض، إذن فالمعركة يجب أن تبدأ أولاً من هذه النقطة الخطيرة ولابد من تزييف هذه العقيدة وامتصاص ما فيها من قوة وجهاد وإيمان حتى يفقد المسلمون هذا السر الخطير الكامن في نفوسهم، وقد تصور الغرب أنهم عندئذٍ يصبحون قطيعاً من السائمة التي تنطوي وتقهر، ومن هنا بدأت المعركة أطلق عليها أسماء كثيرة:
(التبشير، الاستشراق، التغريب، الغزو الثقافي، الاحتواء).
الوثيقة الأولى:(/2)
لقد وضعت الخطة منذ وقت مبكر وإن لم تستكشف إلا بعد سنوات طويلة وكانت أولى علاماتها المستكشفة في وصية لويس التاسع بعد هزيمته في المنصورة بما يمكننا من القول بأن نهاية الحروب الصليبية كانت بداية المخطط الجديد للغزو الثقافي والفكري ودحر الإسلام كفكر بعد العجز عن دحر أمته.
وتعد وصية لويس التاسع أخطر وثيقة في هذا الاتجاه فهي التي فتحت الباب واسعاً أمام عملية التبشير والاستشراق.
وعلى أثرها مباشرة بدأت حركة أوربا المعروفة إلى ترجمة القرآن والتعرف على الإسلام، وبدأت نواة التبشير والاستشراق في المعاهد الأوربية: دراسة للغة العربية والإسلام والقرآن بمفهوم الرد عليه وإنقاصه وإثارة الشبهات حوله.
وقد ظاهر هذه الحركة عملية "سرقة" التراث العربي الإسلامي من البلاد العربية والإسلامية بواسطة القناصل والتجار وأستميحكم العذر في أن أقول "سرقة" لأن عملية الاستيلاء على الفكر الإسلامي في الأندلس أيضاً كانت "سرقة" بالرغم من أن المسلمين كانوا يؤمنون بأن العلم للجميع حتى العلم التجريبي الذي هو الآن من أسرار الأمم الحديثة والتي عجز المسلمون والعرب خلال قرن ونصف قرن في الحصول عن أصوله ومعادلاته.
أما المسلمون فكانوا يعملونه في جامعات الأندلس وجزيرة صقلية في حرية تامة، غير أن الغرب في تناهي حقده لم يقف عند هذا الحد، بل إنه عزل الموقع الإسلامي كله وصادره بما في وأخرج من المسلمين إخراجاً، وكذلك فعل في الأندلس حيث أحرزت أوربا كل ثمرات النتاج الإسلامي العلمي والفكري بأرضه ومعامله ومعاهده وحوائطه، ولم تبق للمسلمين حتى مجرد القدرة على استئناف تجاربهم وهم في أرض أخرى هاجروا إليها.
لقد عكف لويس التاسع بعد هزيمته في المنصورة خلال محبسه في دار ابن لقمان يفكر ويستعرض هذه الحملات الصليبية المتوالية على بيت المقدس ودمشق ومصر وكيف هزمت هزيمة منكرة وكيف هزمت حملته في قلب دلتا النيل، وسبق إلى الاعتقال، وكيف كان المصريون والعرب المسلمون يقاتلون ببسالة عجيبة في الدفاع عن بلادهم خلال سبع حملات متوالية ووصل إلى نتيجة حاسمة: هي أن المسلمين لا يهزمون ما دام فكرهم باقياً وما دامت عقيدتهم قائمة، ذلك لأنهم تدفعهم في قوة إلى الاستشهاد في سبيل حماية الزمار ومقاومة الغاصب وتطهير الأرض من دنس الغزاة، والإسلام يجعل القتال في سبيل تحرير الأرض من دنس الغزاة، والإسلام يجعل القتال في سبيل تحرير الأرض ديناً وعقيدة ولذلك فإن سبيل الغرب إلى الانتصار على المسلمين والسيطرة على أرضهم يجب أن تبدأ أولاً من حرب الكلمة ولابد من أن تقوم في الغرب قوى من الباحثين والدارسين يترجمون القرآن ويدرسون العربية ويعملون على القضاء على تلك المفاهيم القوية التي تتصل بالجهاد في سبيل الله، فإذا استطاع الغرب أن يفعل ذلك فقد استطاع أن يقضي على القوة الروحية والنفسية القائمة وراء تلك المقاومة الجبارة وعندئذٍ يمكن للغرب السيطرة على العالم الإسلامي ومن هذه النقطة بدأت حرب الكلمة بالتبشير والاستشراق والتغريب والغزو الثقافي والسيطرة على التعليم والتربية والثقافة والفكر والصحافة، وقد استطاعت هذه الخطة أن تحقق للغرب انتصاراته التي يمكن أن يطلق عليها الاستعمار الغربي الحديث، ولا ريب أن وثيقة لويس التاسع تنصح بهذا الاتجاه الخطير وتدعو إليه.
ولقد بلغ لويس درجة القداسة في نظر الغرب؛ لأنه حمل الصليب وحارب به في مصر، ثم كانت حملته التاسعة المشهورة على تونس.
وإذا كانت الحملات الصليبية ثم توقفت منذ استعاد المسلمون عكا بقيادة الأشرف خليل عام 690 هجرية/ 1291 ميلادية، وعلى أثر ذلك قامت الدولة الإسلامية العثمانية الكبرى بعد تسع سنوات لا غير من سقوط الحروب الصليبية وهزيمة أوربا، هذه الدولة التي استمرت حتى عام 1337 هجرية الموازية لعام 1918 الميلادي أي أنها استمرت تحمل لواء الإسلام خمسة قرون ونصف القرن.
نقول إذا كانت الحملات الصليبية قد توقفت منذ عام 690 هجرية فإن أوربا لم تتوقف فقد استأنفت حركتها مرة أخرى بعد وقت قصير حين تدافعت بعد سقوط الأندلس على الطريق الأفريقي من ناحية الغرب دون توقف: الأسبان والبرتغال ومن ورائهم الإنجليز والفرنسيين والهولنديين.
أما في أفق البلاد العربية فإن عام 830 كان علامة الخطر حين بدأت فرنسا في غزو الجزائر وامتدت المعركة إلى تونس فمصر والسودان. منذ ذل كاليوم بدأت طلائع التبشير تعمل وأخذت حركة الاستشراق تزدهر وكانت بؤرة العمل هي ساحل البحر الأبيض الشرقي: في مواجهة الشام من الشرق وإستانبول من الشمال ومصر من الجنوب.
وانتقلت المطابع وبدأت المدارس وتصارعت قوى البروتستانتية الأمريكية والكاثوليكية الفرنسية على تقديم مناهجها.
ثم جاءت حكومات الاستعمار في كل البلاد العربية فأخذت مناهج مدارس الإرساليات ونفذتها تواً.(/3)
وفي عديد من مصادر تاريخ اللقاء بين الشرق والغرب نجد إشارة إلى وصية لويس التاسع الذي كان أول من أشار إلى تجنيد المبشرين الغربيين في معركة سلمية لمحاربة تعاليم الإسلام ووقف انتشاره ثم القضاء عليه معنوياً واعتبار هؤلاء المبشرين في تلك المعركة جنوداً للغرب.
وإذا كانت الحروب الصليبية منذ بدأت 1299م وانتهت 1499 فإن انسحاب المسلمين من الأندلس انتهى 1493 وكان ذلك بعد انم استولى محمد الفاتح على القسطنطينية عام 1354 (857 هجرية) في ظل ذلك كله بدأ العمل تواً على إنشاء قاعدة للغرب في قلب الشرق العربي يتخذها نقطة ارتكاز له ومعقلاً لمعركته العقائدية الفكرية التي تستهدف حصار الإسلام والوثوب عليه.
وقد اختيرت هذه الأراضي على شاطئ البحر الأبيض الشرقي مسرحاً لهذا العمل منذ ذل كالوقت وتحرك العمل بين بيروت والقاهرة والقسطنطينية. وفي نفس الوقت الذي كان عمل مماثل يتحرك في تونس والجزائر ومراكش، وأعمال أخرى في المناطق الإسلامية في الهند وفي جاوة وأندونيسيا والفيليبين.
الوثيقة الثانية:
أما الوثيقة الثانية فهي تقرير من أحد معاهد الإرساليات بقلم الأستاذ نبيه أمين فارس يكشف فيه إبعاد الخطة كلها وهي في نظرنا وثيقة تطبيقية لمخطط لويس التاسع يقول: "بينما كان الشرق الأدنى مطمحاً لأفكاره بناء الإمبراطوريات كان أيضاً مطمح إنظار جماعة أخرى من الناس تنشد أن تنجز عن طريق "الكلمة" ما عجز أجدادها الصليبيون عن تحقيقه عن طريق السيف. وبعبارة أخرى تنشد احتلال مهد المسيحية وإخضاع العالم كله للمسيح. إن هذا الحلم المسيحي قديم-قدم المسيحية ذاتها وهو يستمد وحيه الدائم من الوصية العظمى كما سجلها أبو المبشرين، القديس بولس.
ولعل سبب سيطرة هذه الوصية كرة أخرى على عقول المسيحيين يعود إلى اليقظة الدينية التي عمت إنكلترا في أواخر القرن الثامن عشر، واليقظة الدينية المقابلة لها في الولايات المتحدة التي تمثلت فيما سمى بروح إنكلترا الجديدة، وعلى ذلك فقد شهدت السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر والسنوات الأولى من القرن التاسع عشر ظهور كثير من الجمعيات التبشيرية التي كرست نفسها لحمل الإنجيل إلى جميع البشر، ويمكن أن يضاف إلى هذين العاملين عامل آخر هو ازدياد المطامع السياسية والاقتصادية في ممتلكات رجل أوربا المريض (يقصد الدولة العثمانية الإسلامية) ومن المحتمل أن يكون لهذا العامل الأخير علاقة باختيار الشرق الأدنى ميداناً مفضلاً للنشاط التبشيري.
ومن أهم هذه الجمعيات التبشيرية التي ظهرت في هذه الفترة: الجمعية التبشيرية الكنسية التي أسست في لندن 1799 والمجلس الأمريكي لمندوبي البعثات التبشيرية. وقد أرسل المجلس الأمريكي بعد تسع سنين من تأسيسه أول مبشرة إلى الشرق الأدنى، ولما كانت المشكلة الأولى التي واجهت أولئك المبشرين هي اختيار مركز ملائم لهم. وقدم سوريا 1823 مبشراً آخرين وانتقلوا إلى بيروت وكان غرض البروتستانت أن يتمكنوا بالاشتراك مع كنائس الشرق الناهض من كسب الكفار إلى دين المسيح غير أنهم سرعان ما وجدوا أن الإسلام لم يكن قد فقد سيطرته على قلوب المؤمنين وصمم المبشرين منذ البداءة على استعمال الكلمة حيث فشل استعمال السيف، وفي سبيل هذه الغاية أسسوا المطبعة الأمريكية أولاً في مالطة 1822 ثم في بيروت 1834، وأخذوا يفتحون مدارس للبنين والبنات بصورة منتظمة حتى بلغ عدد هذه المدارس ثلاثاً وثلاثين في أقل من هذا العدد من السنين وعكفوا على إنجاز تلك المهمة العظيمة: مهمة إعداد ترجمة عربية صالحة مقروءة للتوراة.
وعدوا فوق ذلك حمل لواء الحرية الدينية بصورة خاصة والمطلقة بصورة عامة(1).
الوثيقة الثالثة:
ومن الجزائر تقدم تقم هذه الوثيقة: من قلم الدكتور محمد تقي الدين الهلالي نشرها في الفتح عام 1931.
"إن هؤلاء الأوروبيين الفاتحين المبعدين للأحرار المحربين للديار مازالوا يحرمون عبيدهم من كلمة الجهاد ويعدون ذكراه فضلاً عن فعله من أعظم الذنوب وهو آية الهمجية والتعصب الديني الممقوت، وبلغ بعضهم الأمر أن حرموا على المسلمين تفسير آيات الجهاد في كتب الفقه وبعيني شاهدت صحيفة الأذن Permited التي حصل عليها شيخنا محمد بن حبيب الله الشنقيطي رحمه الله في مدينة المشربة قسم وهران من الجزائر وفيها أن الإذن بتدريس علوم الدين مقيد بأن المدرس لا يفسر أي آية أو حديث يدل على الجهاد وأن لا يدرس شيئاً من أبواب الجهاد في كتب الفقه ولما راجت دعاية هؤلاء في الشرق صار المسلمون ينفرون من لفظ الجهاد".
__________
(1) مجلة الأبحاث أيلول-سبتمبر 1958، م 11، ص 383.(/4)
ويعد المبشرون أن أولى فرصتهم جاءت بعد سقوط السلطان عبد الحميد عام 1908 حيث أمكن منذ ذلك الوقت تفسيخ الدولة العثمانية وتوسع بعثات التبشير على النحو الذي حقق تنفيذ مناهج التعليم على النحو الذي رسمته مخططات الغزو حتى ليقول الدكتور زويمر زعيم المبشرين وكبيرهم في الشرق في مثل هذا التاريخ الذي نقلنا فيه وثيقة الجزائر تقريباً ما يأتي:
إن السياسة الاستعمارية لما قضت من نصف قرن –أي منذ عام 1882 تقريباً- على برامج التعليم في المدارس الابتدائية أخرجت منها القرآن ثم تاريخ الإسلام وبذلك أخرجت ناشئة لا هي مسلمة ولا هي مسيحية ولا هي يهودية. ناشئة مضطربة مادية الأغراض لا تؤمن بعقيدة ولا تعرف حقاً فلا للدين كرامة ولا للوطن حرمة.
الوثيقة الرابعة:
وهذه الوثيقة يقدمها عميد المبشرين في البلاد العربية في الثلاثينات (وهي أخطر مراحل تاريخ العالم الإسلامي الحديث فهي مرحلة تكوين الأسس والقواعد والخطط التي خرجت من بعد نتائجها الخطيرة).
يقول صمويل زويمر في تقريره في مؤتمر المبشرين سنة 1924: "في كل حقل من حقول العمل يجب أن يكون العمل موجهاً نحو النشء الصغير من المسلمين وموزعاً فيما بينهم ليحيط بهم وليكونوا منه على صلة مباشرة، ويجب أن يقدم هذا على كل عمل سواه في الأقطار الإسلامية فإن تنور روح الإسلام في الناشئ الحديث يبتدئ باكرا من عمره فيجب والحالة هذه أن يؤتي بالنشء الصغير من المسلمين قبل أن يتكامل نمو عقليتهم وأخلاقهم وحينئذ يستعصي على المبشر ولم يزل التعليم التبشيري هو أفضل طريقة للوصول إلى المسلمين".
ويعود في المؤتمر التالي بعد عشر سنوات 1933 فيصور ما تحقق من نتائج وما يجب التأكيد عليه في المرحلة القادمة في مؤتمر المبشرين في القدس"
"إن مهمة التبشير الذي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية فإن ذلك هداية لهم وتكريماً. وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية.
هذا ما قمتم به خلال الأعوام المائة السابقة خير قيام.
لقد قضينا في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، ونشرنا في تلك الربوع مكامن التبشير والكنائس والجمعيات والمدارس المسيحية تلك التي تهيمن عليها الدول الأوربية والأمريكية. ولذلك جاء النشء الإسلامي طبقاً لما أراده له الاستعمار المسيحي لا يهتم بالعظائم ويحب الراحة والكسل ولا يعرف أهمية في دنياه إلا الشهوات فإذا تعلم فللشهوات وإذا جمع فللشهوات وإذا تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل المال يجود بكل شئ.
وفي نفس الطريق تقول المبشرة (أنامليجان):
"ليس ثمة طريق إلى حسن الإسلام أقصر مسافة من هذه المدرسة، إن المدرسة أقوى قوة لجعل الناشئين تحت تأثير الدين المسيحي، هذا التأثير يستمر حتى يشمل أولئك الذين سيصبحون يوماً قادة أوطانهم.
الوثيقة الخامسة:
وهنا وثائق أخرى حية: تتمثل في أفراد وأحداث، أما في 1909 فقد ثار الطلاب المسلمون في إحدى مدارس الإرساليات الكبرى لإجبارهم على الصلاة المسيحية يومياً فأصدرت هذه الكلية بياناً قالت فيه:
"إن هذه الكلية مسيحية أسست بأموال شعب مسيحي هم اشتروا الأرض وهم أقاموا الأبنية ولا يمكن للمؤسسة أن تستمر إذا لم يسندها هؤلاء، وكل هذا قد فعله هؤلاء ليوجدوا تعليماً يكون الإنجيل من مواده فيعرض منافع الحقيقة المسيحية على كل تلميذ وكل طالب يدخل مؤسستنا يجب أن يعرف سابقاً ماذا يطلب منه.
ثم جاء النص الآتي: "إن الكلية لا تؤسس للتعليم العلماني ولا لبث الأخلاق الحميدة ولكن من أولى غاياتها أن تعلم الحقائق الكبرى التي في التوراة وأن تكون مركزاً للنور المسيحي".
الوثيقة السادسة:
قد كشف ذلك طالب عربي معروف هو عبد القادر الحسيني (ابن كاظم باشا الحسيني وبطل معركة القسطل فيما بعد) الذي وقف في حفل توزيع الدبلومات في إحدى العواصم العربية على المنصة وفي يده الشهادة التي أخذها ثم اتجه إلى الحاضرين وكانوا علية القوم وقال:
"إن هذه الجامعة تظهر أمام الناس في مظهر المدرسة العلمية ولكنها في الحقيقة بؤرة إفساد للعقائد الدينية وهي تطعن في الدين الإسلامي ولذلك لا يصح للمسلمين أن يبقوا أولادهم بها".
كان ذلك يوم 27 مايو 1932.
فاهتزت الدنيا للحدث وأسرع المبشرون الأساتذة يمزقون الدبلوم من يد الطالب وينهرونه، ولم يلبث عبد القادر أن نشر قصته في الصحف وأعلن عن الكتب المقررة التي تهاجم الرسول والإسلام وحاولت الجامعة أن تتنصل وتقول إن هذه الكتب ليست مقررة.
***
وكان الدكتور وطسون مدير الجامعة قد أعلن قبل ذلك بقليل.(/5)
إن المعتقدات الإسلامية آخذة في الانحلال وأنها غير ملائمة للحالة الحاضرة وأن الجيل الناشئ الذي تنصل به نراه مهتماً كل الاهتمام لا بالإسلام ولكن بالمسائل المادية والإلحاد، ونحن نسر حين نستطيع أن نجعل فتى مسلماً يقبل مبادئ المسيحية ووحي المسيح.
وقال الدكتور وطسون:
"وإننا نراقب سير القرآن في المدارس الإسلامية ونجد فيه الخطر الداهم ذلك أن القرآن وتاريخ الإسلام هم الخطران العظيمان اللذان تخشاهما سياسة التبشير".
الوثيقة السابعة:
وهناك وثائق تشهد على أصحاب المخطط نفسه ذلك أنه عندما بدأت حركة التغريب التي تضم التبشير والاستشراق في تقييم عملها تقدم خمسة من المستشرقين لدراسة العالم الإسلامي كله وقدموا تقارير شاملة عن مختلف الأقطار نشرت تحت عنوان هوزر إسلام (المترجمة وجهة الإسلام).
وفيها يتحدث كبيرهم هاملتون جب عن التعلم فيقول -وهي وثيقة أخرى نقدمها للباحثين:
"إن إدخال طرائق جديدة في البلاد الإسلامية كان سيطلب نظاماً جديداً في التربية من عهد الطفولة في المدارس الابتدائية والثانوية قبل الانتقال للدراسات العالية، وأن إصلاح التعليم على النحو لم يكن في ذلك الوقت يخطر على بال السلطات المدنية الإسلامية، ولكن هذا الفراغ ملأه هيئات أخرى؛ فقد انتشرت في منتصف القرن التاسع عشر شبكة واسعة من المدارس في معظم البلاد الإسلامية ولاسيما في تركيا وسوريا ومصر وذل يرجع غالباً إلى جهود جمعيات تبشيرية مسيحية مختلفة. وربما كان أكثرها عدداً المدارس الفرنسية وقد كانت المدارس الإنجليزية في الإمبراطورية العثمانية أقل منها في الهند وكانت المدارس الهولندية قاصرة على جزء الهند الشرقية.
هذه المدارس صاغت أخلاق التلاميذ وكونت أذواقهم والأهم أنها علمتهم اللغات الأوربية التي جعلت التلاميذ قادرين على الاتصال المباشر بالفكر الأوربي فصاروا في سبيل حياتهم مستعدين للتأثر بالمؤثرات التي فعلت فعلها أيام الطفولة (أي التعليم على الطريقة المسيحية).
وفي أثناء الجزء الأخير من القرن التاسع عشر نفذت هذه الخطة إلى أبعد حد من ذلك بإنماء التعليم العلماني تحت الإشراف الإنجليزي في مصر والهند، ولعل هناك نصيباً من الحق في التهم التي ترمي بها هذه المدارس الأجنبية من أنها مفسدة لقومية التلاميذ وإن كنا لا نستطيع القول بأن التطورات السياسية التي أعقبت ذلك في البلاد الإسلامية أيدت هذه التهمة.
ولكن الذي فعلته بلا ريب أنها ربت في التلاميذ خروجاً على الأنظمة الاجتماعية وأضعف من هذه الوجوه سلطان النزعة الإسلامية القديمة على التلاميذ وأخلت في بناء المجتمع الإسلامي أداة هامة وقطعت بعض الأوامر التي كانت تربطه وتحفظه".
ويقول جب راسماً خطة المستقبل: "لقد استطاع نشاطنا التعليمي والثقافي عن طريق المدارس العصرية والصحافة أن يترك في المسلمين ولو من غير وعي منهم آثرا يجعلهم في مظهرهم العام لا دينيين إلى حد بعيد ولا ريب أن ذلك خاصة هو اللب المثمر في كل ما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامي على حضارته من آثار".
هذه صورة سريعة للخنجر الذي غُرس في جسم الأمة الإسلامية جاءت بعد خمسين عاماً محققة للهدف مكونة للأجيال التي أرادها الاستعمار.
تحقق هذا منذ أن دعاء إليه لويس التاسع وحدده غلادستون عندما وقف في مجلس العموم البريطاني ومعه المصحف الشريف وقال: "إننا لا نستطيع أن نحكم المسلمين مادام هذا الكتاب باقياً في الأرض".
ثم جاء كرومر وقال: "جئت لأمحو ثلاث: القرآن والكعبة والأزهر"، وجاء تقرير لورد دوفرين إلى اللور جرانفيل وزير خارجية إنجلترا بعد الاحتلال البريطاني لمصر محدداً الخطة التي توقف نمو الأزهر وتركز على التعليم المدني وترفع من شأن العامية وتخفض من شأن القرآن. قال دوفرين في تقريره الذ نشرته "المقتطف" في المجلد السابع ص 668: "إخال أن أمل التقدم في مصر ضعيف طالما أن العامة تتعلم اللغة الفصيحة العربية، لغة القرآن، كما في الوقت الحاضر حالة كونها لا تتعلم اللغة العربية الدارجة؛ لأن نسبة اللغة المصرية الدارجة إلى لغة القرآن كنسبة الإيطالياني إلى اللاتيني والإغريقي القديم، وعربية الفلاح لغة قائمة بنفسها وقواعدها خاصة بها، وإذا لم توجد الاحتياطات الفردية للحصول على النتائج المقبلة في المدارس العديدة التهذيبية التي أشرت إليها يستمر الجيل الجديد كسابقه وغير صالح لخدمة وطنه، وساء كان للقيادة العسكرية أو في الصنائع أو في الخدمات، وتبقى عبارة مصر للمصريين كما كانت اسماً بلا مسمى".
ولقد كانت مهمة كرور واضحة ومستمرة؛ فهو دائب في كل عام أن يرددها:(/6)
"في مصر جيل جديد يختلف عن أجداده في أشياء كثيرة فيمكن أن تحدثه نفسه يوماً بأن يمد إلى تلك الأركان القديمة يداً لا تعرف حرمة القديم، فيكون أشد عليها من يد حكومة تمدها اليوم طبقاً لإرشاد قوم لا شأن لهم في الأمر (يعني الإنجليز)؛ لأنهم لا يدينون بالدين الإسلامي، فإذا كان لهذا الحساب نصيب من الصواب فالأجدر بأبناء اليوم أن يشرعوا في الإصلاح ويلاقوا الأمر قبل حلوله".
هذا في مصر، والتاريخ يحفظ مثله في تونس والمغرب والجزائر لكرومرها ودنلوبها: وفي كل بلد إسلامي كرومر ودنلوب يجري على نفس الخطة وينفذ نفس المخطط.
ويعلق اللورد لويد (المندوب السامي في مصر) بعد كرومر بعشرين عاماً في كتاب له تحت عنوان (مصر منذ أيام كرومر) على خطة التعليم فيقول:
"إن التعليم الوطني (في مصر) عندما قدم الإنجليز كان في قبضة الجامعة الأزهرية الشديدة التمسك بالدين والتي كانت أساليبها الجافة تقف حاجزاً في طريق أي إصلاح تعليمي وكان الطلبة الذين يتخرجون من هذه الجامعة يحملون معهم قدراً عظيماً من غرور التعصب الديني، فلو أمكن تطوير الأزهر لكانت هذه خطوة جليلة الخطر، فليس من اليسير أن يتصور لنا أي تقدم طالما ظل الأزهر متمسكاً بأساليبه هذه، ولكن إذا بدا أن مثل هذه الخطوة غير متيسر تحقيقها فعندئذٍ يصبح الأمل محصوراً في إيجاد التعليم اللاديني الذي ينافس الأزهر حتى يتاح له الانتشار والنجاح" اهـ .
وقد حقق الاستعمار هذا تماماً حين فرق التعليم في العالم الإسلامي إلى ديني ومدني فجمد الأول وحجب تخريجه عن مناصب القيادة ودفع الثاني دفعة قوية إلى الصراع والتعارض والخصومة وأعلاه في خبث ومكر شديدين.
وجملة القول في هذا أن الخنجر الذي طُعِن به المسلمون قد وُضِع بذكاء في موضع القلب وقصد به أن تكون المناهج كلها وخاصة في العقيدة والتاريخ واللغة قائمة على أساس فلسفة الغرب ومفاهيمه وإعلاء شخصيته وتاريخه وحتى يكون تاريخ الإسلام وعقيدتهم ولغتهم هي موضع احتقار شبابها ومثقفيها. ولن أحدثكم عن النتائج فأنتم تعلمونها وأن كل ما يتصل بأزمة المسلمين والعرب اليوم إنما مرده إلى هذا الخنجر المغروس قريباً من القلب وهو ما يزال ينزف بغزارة. أناشدكم الله أن تبحثوا عن السبيل الذي يمكنكم من اقتلاعه وتضميد جراحه.
أنور الجندي(/7)
الخواطر
حررت بتاريخ 12/رجب/1422
الخاطرة الأولى
-
لازلت أذكر ذلك اليوم قبل ثلاثين عاما، حين كنا في تلك القرية الصغيرة التي لم يصل إليها كهرباء أو طريق معبد، وكنا نريد بناء جزء إضافي في منزلنا. وكل الذي تطلبه الأمر اجتماع مجموعة من الرجال، ويبدأ أحدهم ليخط في الأرض بقدمه محددا الأبعاد، ثم يتعاون الجميع في البناء تحت إشراف من يسمونه (الاستاد) الذي لم يلتحق بأي معهد فني بل تعلم بالممارسة، وكانت النساء يقمن بتجهيز مواد التسقيف التي تشمل جريد النخل، كما يقمن بتجهيز مايحتاجه الرجال من طعام. وتمت عملية البناء في يوم أو يومين. واليوم حين تحتاج للبناء فلا بد من مهندس، بل عدة مهندسين، ومتخصص، بل عدة متخصصين في كل ميدان من ميادين العمل. ومثل ذلك المدرسة التي كان يديرها ويدرس فيها شخص واحد لم ير يوما ما كلية إعداد معلمين، ولم يقرأ كتابا في التربية وعلم النفس. واليوم زاد الأمر تعقيداً. لذا فأولئك الذي يرون أن التربية اليوم في ظل هذه المجتمعات يمكن أن تتم بصورة تلقائية كما كانت تتم من ذي قبل، ويرون أن نجاح آبائنا في تربيتهم -وهم لايعرفون أسس التربية المعاصرة- دليل على عدم حاجتنا لذلك. على هؤلاء أن يعيدوا النظر في اقتناعهم، أو يبنوا بيوتهم بالطريقة نفسها. فالحياة قد تعقدت وتغيرت جوانب كثيرة فيها، وهذا يعني أن ما يصلح لعصر من وسائل وأساليب ليس بالضرورة يصلح لسائر العصور.
الخواطر
حررت بتاريخ 12/رجب/1422
الخاطرة الثانية
-
يسود في مجالس طائفة من الخيرين والغيورين انتقاد الواقع المعاصر، والحديث عن حجم الفساد المنتشر في المجتمع.
والانتقاد للواقع المخالف أمر لاغبار عليه، بل هو خطوة لابد منها للإصلاح، لكن هذا الانتقاد كثيرا مايجاوز حد الاعتدال، فيُبالَغ في تصوير حجم الفساد، ويُضخَّم من قدر المفسدين وتمكنهم وجهدهم وتضحيتهم..، وفي المقابل يهمش جهد المصلحين، ويقلل من قدراتهم.
إن الدعاة إلى الله تبارك وتعالى -بغض النظر عن ضآلة إمكاناتهم- يملكون جوانب من القوة لايملكها غيرهم، ومنها:
أولا: توفيق الله وإعانته، فالأمور كلها بمشيئة الله عز وجل، ونواصي الخلق بيده، وقد كتب الغلبة والتمكين لأوليائه (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي).
ثانيا : الدعاة وحدهم هم الذين يدعون الناس إلى طريق الفطرة التي فطر الناس عليها، وإلى المنهج الذي يتفق فيه الشرع والعقل ولايتعارضان.
ثالثا: أنهم يرفعون صوتهم عاليا، ويعلنون أهدافهم بوضوح، ويفتخرون بسيرهم في هذا الطريق، بخلاف غيرهم الذين يظهرون خلاف مايبطنون، ويحلفون على الكذب وهم يعلمون.
رابعاً: أنهم على خير إن أصابتهم سراء وتمكين شكروا، وإن أصابتهم ضراء صبروا واحتسبوا وراجعوا أنفسهم، فكان ذلك كله خيراً لهم.
خامسا: أنهم محفوفون بتأييد عباد الله وأوليائه الصالحين، فهم يرفعون أكف الضراعة لهم ويسألون الله عونهم وتوفيقهم، وكم في هؤلاء من لو أقسم على الله لأبره؟ وإنما ينصر الناس ويرزقون بضعفائهم.أيها الدعاة إلى الله: أنتم الأقوى لو تعلمون فسيروا في طريق الخير، وانشروا دعوة الإسلام في أرجاء المعمورة (ولاتهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس)
الخواطر
حررت بتاريخ 12/رجب/1422
الخاطرة الثالثة
-
يسود في مجالس طائفة من الخيرين والغيورين انتقاد الواقع المعاصر، والحديث عن حجم الفساد المنتشر في المجتمع.
والانتقاد للواقع المخالف أمر لاغبار عليه، بل هو خطوة لابد منها للإصلاح، لكن هذا الانتقاد كثيرا مايجاوز حد الاعتدال، فيُبالَغ في تصوير حجم الفساد، ويُضخَّم من قدر المفسدين وتمكنهم وجهدهم وتضحيتهم..، وفي المقابل يهمش جهد المصلحين، ويقلل من قدراتهم.
إن الدعاة إلى الله تبارك وتعالى -بغض النظر عن ضآلة إمكاناتهم- يملكون جوانب من القوة لايملكها غيرهم، ومنها:
أولا: توفيق الله وإعانته، فالأمور كلها بمشيئة الله عز وجل، ونواصي الخلق بيده، وقد كتب الغلبة والتمكين لأوليائه (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي).
ثانيا : الدعاة وحدهم هم الذين يدعون الناس إلى طريق الفطرة التي فطر الناس عليها، وإلى المنهج الذي يتفق فيه الشرع والعقل ولايتعارضان.
ثالثا: أنهم يرفعون صوتهم عاليا، ويعلنون أهدافهم بوضوح، ويفتخرون بسيرهم في هذا الطريق، بخلاف غيرهم الذين يظهرون خلاف مايبطنون، ويحلفون على الكذب وهم يعلمون.
رابعاً: أنهم على خير إن أصابتهم سراء وتمكين شكروا، وإن أصابتهم ضراء صبروا واحتسبوا وراجعوا أنفسهم، فكان ذلك كله خيراً لهم.(/1)
خامسا: أنهم محفوفون بتأييد عباد الله وأوليائه الصالحين، فهم يرفعون أكف الضراعة لهم ويسألون الله عونهم وتوفيقهم، وكم في هؤلاء من لو أقسم على الله لأبره؟ وإنما ينصر الناس ويرزقون بضعفائهم.أيها الدعاة إلى الله: أنتم الأقوى لو تعلمون فسيروا في طريق الخير، وانشروا دعوة الإسلام في أرجاء المعمورة (ولاتهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس)
الخواطر
حررت بتاريخ 12/رجب/1422
الخاطرة الرابعة
-
أليس هذا هو الحل الذي ينبغي اتباعه.
بلى: لكنه غير واقعي، وصاحبي لايستطيع أن يفعله، فسيكون البديل حينها أسوأ مما تريد.
إذا أنت تدعوني إلى التنازل؟
لا لست أدعوك إلى التنازل، ولكن سم الأمور بأسمائها، أدعوك إلى أن ترتكب أدنى المفسدتين حين تضطر إليهما، وأدعوك إلى أن تفعل أعلى المصلحتين حين تتعارضان.
هذا حوار دار بين شخصين حول مشكلة أحد أبنائهما.
إننا قد نكون مثاليين في حلولنا.
وقد نفكر في مشكلات الناس بعقولنا نحن لابعقولهم هم.
وقد نجعل من حياتنا الشخصية وتجاربنا معيارا نحاكم الناس إليه.
فلو غيرنا في ذلك كله لتغيرت نظرتنا لمشكلات أولادنا وطلابنا.
الخواطر
حررت بتاريخ 12/رجب/1422
الخاطرة الخامسة
-
لازلنا نضيق ذرعاً بالخلاف
على المستوى النظري نقرر دوما أنه يجب أن تتسع صدرونا للخلاف والرأي الآخر، ونعيب من يضخم الأمور الخلافية.
لكننا على المستوى العملي لانزال نضيق ذرعاً بالخلاف، ونصاب بصدمة حين ينقل لنا أن فلاناً قال بكذا أو رأى كذا مع أن المسألة تقبل الاجتهاد، وليس فيها نص يلزم اتباعه.
ونُكوِّن مواقف سلبية تجاه من قرروا في مسائل معينة، أو حفظت لهم أقوال تخالف ماهو سائد عندنا، ويتحول الأمر من تعظيم للنصوص إلى تعظيم للاقتناعات الشخصية.
ثمة مسافة شاسعة بين التقرير النظري والواقع العملي، وعلينا أن ندرك أن جهد تقرير المفاهيم والمنطلقات لاينتهي بمجرد الإقناع المعرفي لها مالم نعايشها في الواقع.
الخواطر
حررت بتاريخ 12/رجب/1422
الخاطرة السادسة
-
قدر لي هذه الأيام أن أزور بعض البلاد التي تخلصت من الحكم الشيوعي وصليت في بعض مساجدها فرأيت معظم المصلين من كبار السن الذين احدودبت ظهورهم.
إنهم لايتركون الصلاة في المسجد حتى في البرد القارس.
وعجبت كيف حافظ هؤلاء على الدين مع هذه السنين المتطاولة من البطش والتضييق، ومع فقدان المعين والناصر، لكنه هذا الدين بإعجازه وعظمته.
وتمنيت أن الشباب المهتدين حديثا الذين يختصمون معهم حول بعض البدع العلمية، وحول كثير من سنن الصلاة يدركون هذه القضية ويتسمون بالحكمة والعلم والبصيرة.
وتمنيت أن يراهم شبابنا الذين يسافرون يمنة ويسرة باحثين عما لايجدونه في بلادهم من الفساد.
إن إبراز هذه الصور والاعتناء بهذه الجوانب ربما أفادنا كثيراً.
الخواطر
حررت بتاريخ 12/رجب/1422
الخاطرة السابعة
-
* دعم سخي تلقيناه من بعض الأخوات.
* ملحوظة حول ماورد في الخاطرة.
* ملحوظة على إجابة بعض الأسئلة.
* مقترحات وأفكار وآراء سديدة.
* تأييد وتشجيع.
إنها صور من الدعم المتواصل الذي نلقاه من زوار الموقع وهو يزيد من شعورنا بالمسؤولية والأمانة.
فلكل هؤلاء وغيرهم نسجل الشكر والعرفان ومن لايشكر الناس لايشكر الله.
ولا نزال بحاجة إلى دعم إخواننا وتواصلهم معنا مناصحة واقتراحا وتسديداً .
الخواطر
حررت بتاريخ 12/رجب/1422
الخاطرة الثامنة
-
لاتخافوا على الإسلام
يملك المسلمون الخيرون عاطفة تجاه الإسلام، ويخشون في كل موطن على مستقبله.
إنها مشاعر خيرة وجميلة، وحري بالمؤمن ألا يتمحور حول ذاته.
لكن لاننسى أن أمر الله فوق أمر البشر، وأن نور هذا الدين أكبر وأعظم من يطفئه عدو حاقد، أو أن يخبته تصرف لم يحسب صاحبه عواقبه.
فلنتساءل دوما ماذا قدمنا لديننا؟ وماذا عملنا؟ أما الإسلام فأمره بيد من قال (والله متم نوره ولو كره الكافرون).
الخواطر
حررت بتاريخ 12/رجب/1422
الخاطرة التاسعة
-
ولاتلبسوا الحق بالباطل
إن كتمان الحق خطيئة، وقول الباطل خطيئة أعظم.
وحين يتحدث متحدث عن موقف عملي محدد وعن تنزيل الحكم الشرعي عليه فقد يقع في الخطأ بقصد وبغير قصد.
وأسوأ من ذلك كله أن نعيد مناقشة الثوابت والأحكام الشرعية لتسويغ موقف والحكم باطراده.
ولو ابتلي الإنسان بقول الباطل فلأن يقصر حديثه على موقف معين أولى من أن يناقش المسلمات الشرعية، وأولى من ذلك أن يسكت عن قول الباطل، وأولى من ذلك كله أن يقول الحق.
فاللهم ارزقنا الفقه في الدين واجعلنا من أوليائئك المتقين،،،
الخواطر
حررت بتاريخ 12/رجب/1422
الخاطرة العاشرة
-
لاتزال العاطفة تقودنا
ننتقد السير وراء العواطف كثيرا.
لكن لاتزال العواطف تأخذ منا حيزاً أكبر مما تستحق.
فتؤثر علينا في موقفنا من الأشخاص، وحكمنا على الأحداث، ولغة خطابنا وحديثنا، وردود أفعالنا.(/2)
ويزداد أثر العاطفة مع ضخامة الموقف وهول المفاجأة.
فمتى نتجاوز ذلك ونعطي العاطفة حجمها الطبيعي؟
وفي المقابل فالذين لاتتحرك مشاعرهم هم قوم متبلدوا الإحساس، بل هم بحاجة لمراجعة إيمانهم فالمؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد.
فالإفراط فيها مذموم، والسير وراءها وحدها مذموم، والمنهج الحق الاعتدال ووضع كل شيء في موضعه.
الخواطر
حررت بتاريخ 6/شعبان/1422
الخاطرة الحادية عشر
-
استثمار الحدث أولى
إن التفاعل مع الأحداث أمر إيجابي، والتساؤل عن الموقف والأسلوب الصحيح في التعامل معها خطوة إيجابية.
لكن أكثر من ذلك كله وأولى منه أن ننتقل إلى أن نستبق الأحداث، ونخفف من الشرور المتوقعة، ونزيد من المكاسب الممكنة فهل نقبل هذا التحدى؟
وحين نفكر بهذا التفكير فسوف نكتشف أن فرصنا في التأثير تفوق مانتوقعه ونحسبه.
الخواطر
حررت بتاريخ 13/شعبان/1422
الخاطرة الثانية عشر
-
اجلس بنا نؤمن ساعة
نخوض في مجالسنا في أمور الدنيا.
ونتحدث أحيانا في مسائل العلم ونتباحث فيها، ونتحدث أحيانا عن هموم المسلمين وواقعهم، ونتناقش في أمور الدعوة والتربية. وهذا خير كله.
لكن الحديث حول أمور الإيمان ومايرقق القلب نادر في مجالسنا ووميضه لايتناسب مع أهميته.
فما أجمل أن يكون في حديثنا ومجالسنا مايقوي الإيمان ويزيل الغفلة كما كان الصحابة يقول أحدهم لصاحبه "اجلس بنا نؤمن ساعة".
الخواطر
حررت بتاريخ 24/شعبان/ 1422
الخاطرة الثالثة عشر
-
نحن على الطريق ننتظر الوداع
* اعتاد الذهاب مع زملائه من مدينته إلى الجامعة التي يدرس فيها، ويوم الأثنين ذهب لوحده ليصيبه حادث فيرحل للدار الباقية وهو صائم يومه ذلك.
* عرفته منذ أن كان في المرحلة الثانوية شابا صالحا -أحسبه كذلك والله حسيبه- وتقدمت السنون وكان أحد العاملين في هذا الموقع، أصابه حادث آخر ساعة من يوم الجمعة فمضى إلى الآخرة مع زوجته وطفلته الصغيرة.
* رحمهم الله جميعا ووسع مدخلهم وجعل الجنة مثواهم.
ونحن على هذا الطريق سائرون ننتظر أن يدعونا المنادي فنجيب، ولاندري متى تحل ساعتنا، فالله الله في الاستعداد للرحيل.
نسألك اللهم حسن الختام والموت على الإسلام.
الخواطر
حررت بتاريخ 3/رمضان/1422
الخاطرة الرابعة عشر
-
نحن ورمضان
من شيم الرجال إكرام الضيف والاحتفاء به، فكيف إذا كنا أصحاب الحاجة؟
هاهو رمضان شهر الخير والمغفرة قد قدم علينا فما أحرانا أن نجتهد فيه من أجل أنفسنا.
ومما يتأكد أن نعتني به الفرائض فهي أفضل مايتقرب به العبد إلى ربه.
وأن نجعل منه فرصة لإصلاح النفس وتزكيتها أكثر من مجرد الاستكثار من الأعمال.
وأن نغتنم إقبال الناس على الخير في دعوتهم والسعي لإصلاحهم.
إنها أيام قلائل وسرعان مانودعه كما استقبلناه، وهاهي صفحات أعمارنا تطوى صفحة بعد أخرى، فنسألك اللهم حسن الختام وقبول صالح الأعمال.
الخواطر
حررت بتاريخ 10/رمضان/1422
الخاطرة الخامسة عشر
-
نحن غيرُ الآخرين
ثمة فرق بين مانختاره لأنفسنا من آراء ومن طريقة في التفكير، ومن عزيمة أو رخصة، ومن اهتمامات وأولويات، وبين مانقيم الناس على أساسه.
إن تقييم الناس ومواقفهم يجب أن يكون على أسس موضوعية بعيدا عن آرائنا الشخصية، وأن نفترض اختلافا في طريقة التفكير والاهتمامات والأولويات، وإلا فلن يعجبنا في النهاية إلا أنفسنا.
وأخطر مافي ذلك أن نقيم الدعاة والمصلحين من خلال معاييرنا الشخصية. وأن ننتظر منهم أن يقولوا مانريد، ويتحدثوا عما في أنفسنا.
الخواطر
حررت بتاريخ 16/رمضان/1422
الخاطرة السادسة عشر
-
الرؤى والأخبار الواهية
في أوقات الضعف والأزمات المتلاحقة تروج سوق الأخبار والمرويات الضعيفة، والرؤى والمنامات، ويتعلق الناس بها.
ورؤيا المؤمن حق لكن الاعتراض على الإفراط في التعامل معها، واعتبار اجتهادات المعبرين -ولو كانت تخالف سنن الله في الأمم و المجتمعات- نصاً لايقبل النزاع.
وبدلاً من السعي وراء الرؤى والأخبار الواهية جدير بنا أن نعنى بسنن الله في المجتمعات، وأن نسعى لتحميل أنفسنا ومجتمعاتنا مسؤولية النهوض بالواقع والإصلاح.
الخواطر
حررت بتاريخ 26/رمضان/1422
الخاطرة السابعة عشر
-
من المنتصر؟
"باسم الله رب الغلام" تلك الكلمة التي لم يستطع الجبار أن يقتل الغلام إلا حين قالها.
فمن المنتصر أهو الملك –وهو أقوى رجل في البلد- الذي جمع قوته وبطشه وجبروته لأجل قتل غلام ضعيف، ولم يطق ذلك إلا بعد محاولات عدة، وأنواع من الأسلحة. أم الغلام الذي واجه الملك بقوته وسلطانه، وثبت على مبدئه، وتقدم للموت بنفس راضية مشتاقة للقاء الله؟
لقد مات الغلام، ومضى شهيدا، ومات الملك شقياً مذموما، فماذا ذكر التاريخ عن كل منهما؟
إن الانتصار لايقف عند الحياة الدنيا فهي ليست نهاية المطاف، فهل ندرك معنى الانتصار الحقيقي؟
الخواطر
حررت بتاريخ 7 /شوال/ 1422
الخاطرة الثامنة عشر
-
للظلم نهاية(/3)
عن أنس قال كانت ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء وكانت لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين وقالوا سبقت العضباء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه". .رواه البخاري
فكيف إذا كان هذا المرتفع كافرا بالله تعالى؟
فكيف إذا طغا وظلم، وتجبر وتسلط؟
فكيف إذا اعتز بسلطانه واغتر بما أوتي من قوة؟
.فحق على الله أن يضعه، لكن الناس يستعجلون
الخواطر
حررت بتاريخ 15/شوال/1422
الخاطرة التاسعة عشر
-
حتى الأخبار لاتسلم من العواطف
التعامل مع الأخبار أحوج مايكون إلى الموضوعية
لكن العاطفة تؤثر علينا كثيرا في تلقي الأخبار، فما يتفق مع عواطفنا ومشاعرنا نقبله ولو كان غير منطقي، وما لايتفق مع عواطفنا نرفضه ولو استفاض وصار حقيقة
ومصدر الآفة في ذلك أن من يحدثنا ثقة، لكن الثقة قد يبالغ، وقد يفسر الخبر، وتختلط روايته للخبر بتقويمه وتفسيره، كما أن عاطفته هو تؤدي به إلى ألا ينظر إلى الأحداث نظراً موضوعيا متجرداً
إن من مصلحتنا أن نرى الواقع كما هو سواء اتفق مع عواطفنا أو لم يتفق
الخواطر
حررت بتاريخ 23/شوال/1422
الخاطرة العشرون
-
حتى نفهم الآخرين
كثيرا مانخطيء في فهم الآخرين وتفسير مواقفهم.
ونحتاج أولا: حتى نفهم فهما صحيحاً أن نفكر بعقولهم هم لابعقولنا نحن.
وأن نقيس الأمور من خلال منطلقاتهم هم لامنطلقاتنا نحن.
كما نحتاج ثانيا: إلى أن نفرق بين موقفنا من رأيهم وطريقة تفكيرهم، وبين تفسيرنا لمواقفهم.
ونحتاج ثالثا: أن تتسع صدرونا لمن يخالفنا الرأي وإلا فلن نرى غير أنفسنا.
الخواطر
حررت بتاريخ 29/شوال/1422
الخاطرة الحادية والعشرون
-
ولكن ما العمل؟
انفجر صاحبي غاضبا حين دعوته إلى التريث والعمل المنتج: ألا تعرف عمق مأساة الأمة؟
ألا ترى ماهي فيه من هوان؟
أليس لديك نخوة وغيرة؟
قلت له: جزاك الله خيرا، ونحن مقصرون كثيرا، لكن ماذا تقترح بعد ذلك؟
نحن نريد حلولا عملية واقعية تزيح الهوان والذل عن الأمة.
لنتجاوز هذا الحديث ولتقل لنا: افعلوا كذا، نحتاج أن نفعل كذا.
والخطوات يجب أن تكون واقعية وفي مقدورنا وإمكاناتنا.
وأن تكون موصلة للطريق الصحيح لامعوقة ومؤخرة عنه.
فلنُبقِ على العاطفة الخيرة، ولكن لنحولها مع ذلك إلى رصيد عملي واقعي.
الخواطر
حررت بتاريخ 6/ذي القعده/1422
الخاطرة الثانية والعشرون
-
لابديل عن المجاهدة
يتساءل كثير من الإخوة والأخوات عن مشكلات يعانون منها، ومعاص لم يستطيعوا التخلص منها.
ويبحثون عن وسائل تعينهم على مفارقتها، ومهما قدمت من آراء وحلول فالأساس والمنطلق هو مجاهدة النفس والانتصار عليها، وسيبقى المرء في صراع مع الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، ينهض تارة ويكبو أخرى، ولن نصل إلى حال نستغني فيها عن مجاهدة النفس والصبر عن معصية الله.
فحري بنا وحري بالمربين والوعاظ أن يضعوا أيديهم على مكمن الداء.
الخواطر
حررت بتاريخ 14/ذي القعدة/1422
الخاطرة الثالثة والعشرون
-
التفكير والمراجعة المطلوبة
ألقيت محاضرة بعنوان (أخطاء في التفكير) وحين تأملت الأسئلة التي وردتني وجدت أن عددا منها يؤكد لي بصورة عملية أن أهمية الموضوع أكثر مما نتصور.
فشعرت أننا بحاجة ماسة إلى الاهتمام بالوعي لدى الدعاة والموجهين أولا.
و لدى المربين ثانيا.
وفي صياغة البرامج ثالثا.
وأن الأمر لايكفي فيه الحديث عن أهمية التفكير، ولا التأكيد على امتلاك مهاراته.
بل لابد من مراجعة واسعة لتربيتنا على ألا تصاب المراجعة بداء فاقد الشيء لايعطيه.
الخواطر
حررت بتاريخ 23/ذي القعدة/1422
الخاطرة الرابعة والعشرون
-
ما نختاره لأنفسنا قد لايسوغ لغيرنا
قد نختار لأنفسنا أن نتورع أو نمتنع عما لاتطمئن له نفوسنا، وهو مسلك محمود وممدوح.
لكن لايسوغ أن نلزم الناس أو نطالبهم بمجرد التورع، فضلا عن أن نقيمهم ونحكم عليهم من خلال ذلك.
وقد نشعر أن للناس من الحاجات مايقتضي الترخيص، أو القبول بمفسدة درءا لمفسدة أكبر منها، لكن هذا لايوسغ لنا نحن أن نقع في المفسدة أو نرتكبها، ونحن أولى بالورع والبعد عن الشبهة، وليس لدينا من الحاجة ماللناس.
الخواطر
حررت بتاريخ 4/ذي الحجة/1422
الخاطرة الخامسة والعشرون
-
لنبحث عن جوانب الخير
مواقف كثيرة نراها في الحج تبرز الجهل الذي يخيم على كثير من المسلمين. يأتي أحدهم يزاحم الناس على الحجر، يزاحم على الجمرات، يتعرض للشمس الحارقة، يعتمر بعد الحج، ويطوف نافلة مراراً، يعرض عما رخَّص له فيه الشرع ولو تحمل النصب والتعب.
إنها صور بقدرما تدل على جهل صاحبها فهي تدل على جانب يغيب عنا وهو الحرص والدافع والرغبة في الخير، فماذا لو بحثنا عن جوانب الخير لدى الناس واستثمرناها في دعوتهم.
الخواطر
حررت بتاريخ 14/ذي الخجة/1422
الخاطرة السادسة والعشرون
-
العيد فرح أم ترح(/4)
شرع العيد يوم فرح للناس، وأبيح فيه مالم يبح في غيره، فالفرح فيه مقصود، وإحياء النفوس به مطلب شرعي.
لكن بعض الغيورين من الخطباء يغتالون هذا الفرح ويكررون دوما أنه لايحق للأمة أن تفرح بالعيد وهي تعيش مآسيها، ويذكر الحاضرين بطائفة من المآسي.
فلو أننا أجلنا الحديث عن المآسي إلى مناسبة أخرى، واقتصرنا في العيد على توجيه الناس للتعاطف مع إخوانهم والإحسان إليهم لكان أولى.
الخواطر
حررت بتاريخ 11/3/1423هـ
الخاطرة الثالثة والثلاثون
-
الخواطر
حررت بتاريخ 28/7/1423هـ
الخاطرة السادسة والثلاثون
-
لسنا وحدنا المقياس
قال لي صاحبي وقد حدثت له مشكلة مع ضابط الجوازات :"إنه يكره المتدينين"
فقلت له: أهو يكره المتدينين أم أنه رأى من سلوكك وتصرفك ما يدعوه إلى النفور من شخصك؟
فقال لي : يبدو أنها الثانية.
ثمة مواقف كثيرة نصنف الناس فيها على أنهم أعداء للدعوة، أو للصالحين، أنهم لايقبلون النصيحة...
بينما كان موقفهم من أشخاصنا، أو أنهم لم يستوعبوا تصرفاتنا، وقد نكون ارتكبنا خطأ أدى إلى صدودهم عنا.
فما أجمل الوضوح والموضوعية في التقويم، وما أجمل أن نجعل الأحكام التي يصدرها من نحبهم على الآخرين مجالا للتقويم والنقاش.
الخواطر
حررت بتاريخ 22/ذي الحجة/1422
الخاطرة السابعة والعشرون
-
المستعصون على التغيير
في كل مؤسسة طائفة من الجيل الذي يستعصي على التغيير، وفي الأغلب أن هؤلاء لهم تاريخ وسابقة.
وكثيرا ماتصل المؤسسة إلى اقتناع بضرورة التغيير.
لكن مشروعات التغيير قد تصطدم باقتناعات هؤلاء، ومن ثم تتصارع لدى أصحاب القرار الرغبة في التغيير، والحرص على مراعاة الجيل القديم.
والتحدي أن نصل إلى صورة نحفظ فيها لأهل السابقة والفضل فضلهم، دون أن يؤثر ذلك على مشروع التغيير المنتظر.
الخواطر
حررت بتاريخ 1/1/1423هـ
الخاطرة الثامنة والعشرون
-
قال أبو عبدالرحمن
نحرص كثيراً على عتاب أولادنا حين يخطئون، وقد يكون ذلك بمحضر الناس وأمامهم.
لكن حين يجيد أحدهم ويفعل مايستوجب الثناء فغاية مايلقاه منا أن ينجو من اللوم.
إن تصحيح الخطأ مطلوب، وكثيرا مايدفعنا له حرصنا على مصلحة أولادنا.
لكن الثناء على المواقف الإيجابية، والإشادة بالنجاح يلبي حاجة مهمة، ويسهم في زيادة ثقة أولادنا بأنفسهم.
(هذه مشاركة من أحد الإخوة الأفاضل كان دوري فيها الاختصار وإعادة الصياغة فنشكر له ولا حرمه الله الأجر والثواب).
الخواطر
حررت بتاريخ 16/محرم/1423
الخاطرة التاسعةوالعشرون
-
المربون والتحدي الأكبر
أن ننشيء عملا ونقيمه فهذا تحد.
وأن نستمر عليه ولا نمل مع طول الوقت فهذا تحد أكبر.
والتحدي الأكبر من ذلك كله أن نطور العمل ونرتقي به.
ثمة جهود مشكورة اليوم في تربية الناشئة ورعايته، وقد حققت إنجازات رائعة رغم ضعف الإمكانيات.
وتجاوز المربون التحدي الأول.
وانهار بعضهم أمام التحدي الثاني فملوا العمل وانشغلوا بدنياهم.
وبقي طائفة من الخيرين نتمنى أن يكملوا المسيرة ويتجاوزوا التحدي الثالث فيحدثوا نقلة في العمل التربوي تتلاءم مع التحديات المعاصرة.
الخواطر
حررت بتاريخ 12 /صفر /1423
الخاطرة الثلاثون
-
أطفال يحررون رسائل إدانة
تحمل لنا الأخبار بين آونة وأخرى عن أطفال لم يجر عليهم القلم يتسللون إلى الأرض المباركة ليجاهدوا في سبيل الله.
إنهم ببراءتهم يحررون رسالة إدانة لكل من بتاجر بقضايا الأمة، ولكل مثبط عن الجهاد، ولكل من ينشغل بالتوافه من الأمور.
ويحررون رسائل إدانة لشبابنا المشغوفين بالفن والرياضة، والعبث واللهو. بل لشبابنا الصالحين الذين يضيعون أوقاتهم بما لاينفع وهم يعايشون وقع أمة تذبح وتهان.
الخواطر
حررت بتاريخ 21/صفر/1423
الخاطرة الحادية والثلاثون
-
هل لنا أن نكون من هؤلاء؟
من السهل جدا أن نقدم اقتراحات بناءه، ومن السهل جدا أن ننتقد العاملين، وأن ننتقد المشروعات والمؤسسات الدعوية، ولكن التحدي الحقيقي أن نعمل وأن ننتج.
إنني أتطلع إلى عامل جاد منتج فأرى هؤلاء نوادر، فهل نسعى لأن نحقق التحدي ونكون من النوادر هؤلاء؟
الخواطر
حررت بتاريخ 28/صفر/1423
الخاطرة الثانية والثلاثون
-
همة عالية ولكن!
جميل أن نحرص على تربية أولادنا، وجميل أن نكون متطلعين لهمم عالية، ولايلام الأب أو الأم حين يريدون أن يكون أولادهم خيرا منهم.
لكن حين نتجاوز الاعتدال في طموحاتنا من أولادنا نحملهم ما لايطيقون، وقد يتولد منهم ردة فعل في الاتجاه المعاكس.
وكثير من أولاد الصالحين كان سبب انحرافهم هذا الأمر.
نعتز بلمحوظاتكم
هذا ما كتبه لي أحد الإخوة فأنقله بنصه:
"لي تعليق بسيط على الخاطرة التي تكتبونها دوريا
أغلبها خواطر نقد :
جميل .. و لكن .. نفعل دائما و لنفكر و لكن الخ
لست أعترض على النقد ياشيخ و لكن اسمعنا بالله عليك خاطرة مشجعة بين الحين و الاخر خاطرة مدح خاطرة فرحة اكتب :
أعجبني شيء
أو أنوار في الصحوة
أو أبشروا
أو يارب(/5)
أو بتوقيق الله تقدمنا في كذا و فعلنا كذا
الخواطر
حررت بتاريخ 14/4/1423هـ
الخاطرة الرابعة والثلاثون
-
ورع في زمن الغفلة
لا احصي كم هي الأسئلة التي تلقيتها من الشباب ايام الامتحانات بشأن درجات -لاتزيد في الأغلب عن أربع -حصلوا عليها عن طريق الغش- ويبدي أصحابها الاستعداد في تعمد ترك إجابة فقرات يعرفونها لتعوض عنهم هذا الخطأ
أما الذين هم مثلهم في الورع ولم يسألوا لأن الأمر لم يحصل لهم فهم أضعاف هؤلاء
يأتي ذلك كله في زمن تنمو فيه أجساد طوائف من المسلمين على الحرام المحض
إننا بإذن الله نؤمل على مثل هذا النشء المبارك حين يتولى مسؤوليات الأمة، فاللهم ارزقهم الثبات والسداد.
الخواطر
حررت بتاريخ 17/5/1423هـ
الخاطرة الخامسة والثلاثون
-
وعن شبابه فيم أبلاه
يتسابق الناس في الإجازات إلى اللهو، والسفر إلى حيث الوقوع في الحرام والبحث عن مواطن الفساد، والمحافظ منهم يضيع وقته في النوم والكسل، أو السفر بحثا عن النزهة والمتعة.
لكن ثمة طائفة من الشباب يتلهفون للإجازة ليغتنموا الفراغ فيها في طاعة الله.
منهم من يتفرغ لحفظ القرآن، أو للدروس العلمية، أو للقراءة والاطلاع، ومنهم من يتفرغ ليقضيها في أنشطة دعوية: في الجولات الدعوية، في حلق القرآن، في المراكز الصيفية...إنهم كثير يعملون بهدوء وصمت، لايرجون من الناس جزاء ولاشكورا -نحسبهم كذلك والله حسيبهم-.
فهنيئا لهؤلاء حين يسأل أحدهم عن شبابه فيم أبلاه، وحشرنا الله معهم في دار كرامته.(/6)
________________________________________
الخوف من الإسلام القادم
رئيسي :فكر :الأحد 3 ذو الحجة 1424هـ - 25 يناير 2004م
الخوف رد فعل طبعي بالنسبة للإنسان، وهو في نفس الوقت يشكّل أول مراحل المواجهة؛ وهو أول خط من خطوط الإنذار التي تبدأ تشحذ القوى الموجودة عند الإنسان .فيبدأ أولاً بعد الشعور بالخطر بالدراسة والتحليل، ثم يبدأ بشحذ القوى نحو التوقع والدراسات المستقبلية، ثم بعد ذلك يبدأ في وضع الخطوات العملية المكافئة والمناسبة؛ فإن الإنسان إذا لم يكن يدرك الخطر ولم يستشعر الضرر؛ فإنه لا يكون عنده أي حافز وتوجه للقيام بأية صورة عملية في أي ميدان من الميادين .
ومن هنا: تكمن أهمية الرصد لظاهرة التخوف من الإسلام؛ لأن هذا الرصد سيوقفنا على طبيعة النقاط والموضوعات المحدَّدة والمعيَّنة لهذا التخوف، وإذا عرفنا هذا سنعلم أن هذه القنوات التي شكَّلت هذا التخوف هي المزايا التي ينبغي أن نحرص عليها .
وسيظهر لنا أيضاً الأمور التي لا تشكل خطراً على الأعداء، فنعرف أنها لا تحتاج منا إلى جهد كبير، وبعضها ربما يحتاج أن نلغيه من صفوفنا؛ لأنه موضع لرغبة العدو المواجه لنا، في أن يكرس هذه الجوانب التي لا يخشى منها.
ومن هنا أحب أن أقول في البداية: أن التخوف هو أول خطوة تنشأ عنها كثير من الخطوات، ذلك أن هناك صيحات لهذا التخوف ليست وليدة اليوم بل هي قديمة، ثم هي صيحات من هذا الإسلام القادم.
فأولًا: نحن نعرف تماماً أن هذا التخوف منشأه الصراع العقائدي الذي هو جوهر الصراع بين الحق والباطل منذ أن خلق الله هذه الخليقة، وبعث فيها الرسل، ومن هنا فإننا نجد أن صيحات التخوف من الإسلام قديمة، فمنذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومروراً بالتاريخ كله نجد أنها ظاهرة ملازمة في كل موضع يتعاظم فيه دور الإسلام، وقيامه كمؤسسات أو حكومات، أو تطبيقات متكاملة، ومنذ أن بزغ فجر الرسالة المحمدية بدأ التخوّف، فكما ذكر ابن كثير في تاريخه: ' لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة عندما وصل إلى قباء قبل أن يدخل المدينة، ذهب حيي بن أخطب زعيم اليهود ومعه أخٌ له يقال له أبو ياسر، ذهبا لاستطلاع الخبر، فذهبا ثم عادا مرة أخرى إلى مكانهما وهما كالَّين تعبين على ظهورهما كأمثال الجبال من الهموم، فقال أبو ياسر لأخيه: أهو هو ؟! - يعني أهو محمد المذكور خبره - قال: نعم، فقال: ما لك عنده ؟، فقال: عداوته ما بقيت ' .
وهذا يدلنا على أن الإنذار المبكر بمجرد معرفة الإسلام الصادق الصحيح الذي هو تصوّر كامل لهذا الوجود، والذي هو تشريع كامل يتناول ميادين الحياة، والذي هو تطبيق عملي يتجاوز مجرد الشعارات والنداءات، بمجرد وجود هذه الظاهرة يبدأ التخوف .
ومنذ بدايات هذا القرن في أوج التفوق الاستعمارى الغربي الصهيوني، كان هذا الأمر لا يجعلها غافلة عن حقيقة الخطر الذي يتهددها، والكامن في طبيعة وحقيقة هذا الدين، حينما يتضح لحملته وأبنائه، ثم يحصل التفاعل بين هذه الحقيقة وبين حامليها، مهما كانوا قلة، ومهما كانت إمكانياتهم محدودة، فمنذ بدايات هذا القرن، وحين دخل النصارى واليهود إلى ديار الإسلام بقواهم العسكرية وغزواتهم الفكرية، وهم ينبهون على هذا الخطر .
صيحات التخوف القريبة العهد
الوقفة الأولى: التخوف من تمكّن الإسلام في دياره: ومن هذه النماذج: مقال لصحفية يهودية اسمها روث كارث تقول فيه: إن قادة الحركة الإسلامية يحاولون إقناع العرب بأنهم أسمى الشعوب على وجه البسيطة، وأن الإسلام هو خير الأديان جميعاً، وأفضل قانون تحيى به شعوب الأرض كلها ' . ثم تتابع قائلة:'والآن وقد أصبح قادة الحركة الإسلامية ينادون بالاستعداد للمعركة الفاصلة التي توجه ضد التدخل المادي للولايات المتحدة في شئون الشرق الأوسط، وأصبحوا يطلبون من كل مسلم أن لا يتعاون مع هيئة الأمم المتحدة، فقد حان الوقت لكي يعرف الشعب الأمريكي أي حركة خطرة هي هذه الحركة الإسلامية ' .
ووقفة أخرى مع تعليق في راديو إسرائيل في إحدى نشراته في الأعوام القريبة، يقول المعلق:
' إن عودة الروح الدينية للظهور من جديد في المنطقة، تشكل تهديداً مباشراً لمستقبل إسرائيل ومستقبل الحضارة الغربية بأسرها ' .
والقضية عندهم ذات بُعد تأصيلي، يظهر ذلك أيضاً في كلام لخبيرة سياسية أمريكية اسمها روبرن رايت:'إن على الغرب أن يدرك أنه أعجز- الغرب كله على اختلاف حكوماته وقواته ـ أنه أعجز من أن يواجه هذه الصحوة مواجهة عسكرية، وإن من الأفضل أن يسالم الغرب الإسلام' .
ويقول جيمس بل أستاذ العلوم السياسية بأنه:'يتنبأ أنه من خلال الأربعين سنة القادمة، سوف يكون الإسلام الجماهيري قوة أيدلوجية في العالم' .(/1)
ويقول ألبير شامبو في كتابه عن 'حمراء غرناطة':'هذا العربي الشجاع استطاع أن يغزو نصف العالم، وترك لنا في حمراء غرناطة آثار فخاره، إن هذا العربي الذي نام نوماً عميقاً قد استيقظ وأخذ ينادي العالم ها أنا لم أمت، من يدري قد يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الفرنج مهددة بالعرب المسلمين مرة ثانية في الوقت المناسب والزمن المناسب، فيحطمون الغرب عدوهم الأبدي' .
وهؤلاء القوم نعرف أنهم إلى حد ما لا يتكلمون من فراغ، فيؤكد ويقول:' لست أدعي النبوة ولكن الأبحاث تدل على ذلك، والأمارات التي تدل على هذه الاحتمالات كثيرة جداً ' . فإذاً القضية مبنية على دراسة.
ثم يؤكد خطورة الأمر بالنسبة له ويقول:' أبيدوا هذه الأشباح التي تنتظر البعث، أسكتوها إلى الأبد' . فهو يرى ليست هناك طريقة إلا الوأد الخفي قبل أن يولد المولود، ويستهل صارخاً ثم يغدو فتى يافعاً ثم يمارس دوره في هذه الحياة.
هذه صيحات تحذّر من الإسلام بشكل عام ضد الحضارة الغربية كلها على اختلاف حكوماتها وقواتها، وكذلك التحذير قويٌ جداً من الخطر الإسلامي في شرق العالم، وبالذات في الاتحاد السوفيتي الذي انتهى أمره إلى ما هو معلوم، فذكرت مجلة جورج كوركنيل وهي من ا لصحف اليهودية الواسعة ا لانتشار في مقال لها تربط الخطر وأنه يعم كل العالم حتى المعسكر الشرقي والروسي في ذلك الوقت:' إنه لا العالم الغربي ولا الإتحاد السوفيتي أن يرقبا بهدوء هذه اليقظة الإسلامية، التي لو أُسيء استعمالها من قبل الجماعات المتعصبة، لنتج عن ذلك ليس هلاك إسرائيل، وإنما زعزعة استقرار جزء كبير من العالم، ولن تسلم من ذلك لا الحضارة الغربية، ولا الحضارة الشيوعية ' ويقول السفير اليهودي في الأمم المتحدة:'إننا نشهد اليوم ظاهرة غريبة ومثيرة للاهتمام وتحمل في ثناياها الشر للمجتمع الغربي بأسره، وهذه الظاهرة هي عودة الحركات الإسلامية التي تعتبر نفسها عدوة طبيعية لكل ما هو غربي، وتعتبر التعصب ضد اليهود بشكل خاص، وضد الأفكار الأخرى بشكل عام فريضة مقدسة ' .
وأيضاً نلمح أن القضية عند القوم واسعة المدى من حيث التخوّف من الإسلام في عقر ديار الغرب والكفر، ومن هنا تقول إحدى الصحف السويدية تبين هذه الظاهرة وتخوِّف منها:'إن الإسلام بدأ ينتشر في الولايات المتحدة الأمريكية، بسرعة مذهلة ' . وأضافت الإحصائيات الرسمية التي قدمها مركز إعلام الاتحاد المسيحي في بريطانيا:'أن معدل انتشار المساجد في أمريكا هو مسجد واحد في كل أسبوع ' .
وأصدر وزير الداخلية الفرنسي السابق أوامره إلى كبار موظفي الوزارة بإعداد تقرر عن فرنسا 'ذات الألف مئذنة والألف مسجد' على أن يبينوا كافة التفاصيل عن تأثير الأصوليين الإسلاميين، فالظاهرة بدأت تأخذ حجمها في الخوف في داخل ديار القوم، وأحد الكتاب جير كيبل له كتاب [ فرنسا ضاحية الإسلام ]، وعنوان الكتاب ينبئ عن التخوف الكبير والرصد التحليلي الذي يعتمد على الإحصائيات والتنبؤات المستقبلية، فيقول: ' فرنسا ضاحية الإسلام كأنها أصبحت إحدى عواصم الإسلام ليس في العصر الحديث، وإنما في العصر الإسلامي الزاهر '، ويقول: ' إن هذه الانفجارة الكبرى في تأكيد الهوية الإسلامية خلال ما يقل عن العقدين الآخرين تمثل مشكلة تواجه المجتمع الفرنسي لم يسبق له مواجهة مثيل لها من قبل، وأعتقد في بعض الأخبار التي تتداول سواء في بعض الحوادث البسيطة مثل حوادث الحجاب وغيرها، ما يبين كثير من هذه الظواهر' .
ولذلك روبن رايت تقول مرة أخرى حول الأصولية الإسلامية: ' إن على أمريكا والغرب عموماً إدراك أن الأصولية الإسلامية لا يمكن أن تُحْتَوَى، أو يكون لها هزيمة عسكرية، أو مقاطعة إقتصادية؛ لأنها ليست ذات حدود ولكنها موجات تتحرك على مساحات شاسعة ' .
ولذلك تقول: ' إن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يتبناها الغرب هو التعايش والوفاق مع هذه الأصولية '، طبعاً من وجهة نظرها، وتقول: ' يجب أن نعترف أن الإسلام قوة أيدلوجية وقدرة ترشحه للبقاء فتيَّاً معافاً قادراً على العطاء وإثبات الحضور حتى قرننا المقبل ' .
فإذاً الجانب الآخر: هو أن الصيحات والتخوف من الإسلام في داخل دياره ظاهرة واضحة جداً .(/2)
طبعاً لا شك أن أبرز صيحات التخوف وأكثرها وضوحاً، تخوُّف اليهود من الإسلام القادم؛ لأنهم يعلمون أن قضية وبؤرة الصراع بين الإسلام وبين اليهودية سيما التفوق اليهودي الحالي، وعلمهم أنه أحد الجولات، وأن الجولة القادمة طال الزمان أو قصر للإسلام، ولذلك أصبحت الدراسات والحديث يتعلق كثيراً بالربط المباشر والكبير والضخم جداً بين العمل الإسلامي بشكل عام، وظهور الروح الإسلامية في غالب الأراضي الفلسطينية المحتلة أكثر من أي وقت مضى، وهذه صورة واضحة جداً . الوقفة الثانية: دراسات وتحليل: ليست القضية هي عبارة عن مقالات، أو عبارة عن تصريحات عابرة، وإنما هي صورة أخرى لها، وهي صورة الدراسة والتركيز والتحليل حول هذه الظاهرة الإسلامية من منطلق التخوف منها .
ملامح من الدراسات حول الظاهرة الإسلامية:
أولاً: عقد مركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة ' جورج تاون ' بواشنطن ندوة استمرت يومين عن العمل الإسلامي .
ثانياً: جمعية دراسات الشرق الأوسط في مؤتمرها السنوي العشرين والحادي عشرين في مدينة بوسطن وبلتمور في نوفمبر 1986م ـ 1987م تخصص هذين المؤتمرين لدراسة الظاهرة الإسلامية.
ثالثاً: تصريح بأن أحد الرؤساء في مراكز الأبحاث تلقى مبلغاً قدره خمسين ألف دولار من وكالة المخابرات المركزية مقابل تنظيم مؤتمر عالمي عن الإسلام الأصولي .
رابعاً: عقدت وزارة الخارجية الأمريكية عام 1987 م سيمناراً حول الأصولية الإسلامية ووجهات النظر على السياسة الأمريكية .
خامساً: على مستوى أوروبا عقد مؤتمر أوروبي لمناقشة ظاهرة المد الإسلامي في منطقة الشرق الأوسط، مما يدل أيضاً على أن القضية ذات طابع عملي ودراسة في هذا الباب .
ومن هنا يتنادى هؤلاء المذعورين إلى ضرورة الجانب العملي في هذا الباب، ولذلك من هذه الدراسات خلاصات تقول: ' لا بد من الاعتراف أن الحاجة ملحة لمزيد من المعلومات عن تكوين هذه الحركات وأعضاءها ' .
وتجدر الإشارة إلى القول بأن كثير من هذه الدول تفرغ أجهزة متخصصة للرصد والتحليل والدراسة، فالدراسات المتعلقة بالمخابرات الأمريكية أو الإسرائيلية نجد أن التخصص في هذا الجانب والتركيز على تبادل المعلومات فيه قوياً ووطيداً، حتى إن بعض الدول الغربية عندما تعطي تأشيرات للدخول إذا جاءت طلبات من مسلمين أو عرب، فإنها قبل إعطاء التأشيرات ترسل مباشرة إلى إسرائيل لتأخذ بعض المعلومات إن كان هناك تحفظات على اعتبار أن إسرائيل في نظر بعض الدول الغربية تعتبر ملف المعلومات الأقوى، بحيث توفر عليهم وتعطيهم التحذير المطلوب والمناسب بشكل يؤدي الحاجة التي يحتاجون إليها، وهذه كثيرة جداً بحيث تغني عن ذكرها بشكل أو بآخر .
الوقفة الثالثة: الصور العملية في التخوف من الإسلام:
الصورة الأولى: عمل المؤتمرات والدراسات التخصصية:وأعتقد أن بعض الجهود البسيطة في هذا الشأن تعطينا مثالاً على ذلك، ومن ذلك أحد مطبوعات الرابطة عن الصحوة الإسلامية في الصحافة الغربية .
الصورة الثانية: جمع وتبادل المعلومات:عن العمل الإسلامي بين أعداء الإسلام رغم اختلافهم، ومن ذلك من أول الإستثمارات اليهودية لتفكك الإتحاد السوفيتي الحرص على هذه المعلومات التي لم تكن متوفرة لديهم بشكل أو بآخر .
الصورة الثالثة: التحذير والتخويف:للحكومات في المناطق الإسلامية وغير الإسلامية، التي قد يرى أنها غافلة عن هذا الخطر، أو على أقل تقدير لا تعطيه الاهتمام المناسب.
الصورة الرابعة: التضييق والتعطيل:لمشروعات العمل الإسلامي المتعلقة بمجالات الحياة الحيوية.
مواضع التخوف من الإسلام
السؤال المهم وأحد النقاط الجوهرية في هذا الموضوع هو:ما هو بالضبط موضع التخوف ؟.
هل التخوّف من بعض الصور الشعائر التعبدية، من بعض الأفكار، من أي شيء على وجه التحديد؟ لا بد أن نستخلص أهم وأركز الأشياء التي هي مبعث التخو،ف لماذا نستخلص هذا ؟ لنعرف أن هذه الجوانب التي هي أكثر الجوانب إرهاباً، أو تخويفاً لأعداءنا قطعاً ستكون أهم الجوانب التي نعطيها الأولوية والدعم في العمل؛ لأنها ما دامت هي موضع التخوّف فلا شك أنها ستكون هي الموضع الذي فيه الفاعلية، والقوة المؤثرة.
ويمكن أن نلمح ثلاث محاور أساسية، ربما فيها تقارب أو تدرج لكنها تنبئنا أن الجوهر يتعلق بهذه النواحي:
الموضع الأول: النظام السياسي في الإسلام: التخوّف من ربط الإسلام بالسياسة، ثم في مرحلة أخرى هل يرقى هذا النظام لو فرض التسليم بوجوده هل يرقى أن يصل إلى مرحلة قيام الدولة وتطبيق الحكم الإسلامي .
الموضع الثاني: تطبيق الشريعة الإسلامية: أو بتعبير آخر كما يقول البعض: ' قيام الدولة الدينية ' .
الموضع الثالث: نهج الجهاد في الإسلام: هل هذه الدولة الإسلامية- إن وجدت- ستتبنى أحد أكثر الأمور إرهاباً أو تخويفاً لأعداء الإسلام ؟ هل تتبنى نهج الجهاد الإسلامي الذي يدعو إلى تحرر كل الأرض من كل سلطان إلا سلطان الإسلام .(/3)
ثلاث نقاط أساسية وجوهرية وهي في حقيقة الأمر تدرجية:
1- خوف من سياسة الإسلام .
2- ترقي ذه السياسة لأن تكون دولة تحكم وتطبق؟
3- تكون من منهاجها أن ترفع راية الجهاد وتتحرك ؟
هذه الجوانب الثلاثة، هي التي حظيت بكثير من الدراسة والتحليل والتخوف، هذه القضايا في الجوانب الثلاثة نوجزها:
الموضع الأول: الإسلام السياسي: نجد التركيز منصباً بصورة واضحة على أن يكون للإسلام دور في أي مجال يمكن أن يُحتمل هذا إلا أن يكون له صلة بالناحية السياسية، ولذلك يقول د. كمال أبو المجد في حوار لا مواجهة، يقول:' الإسلام لم يفرض نظاماً سياسياً مفصلاً، والخلافة ليست نظام محدد المعالم ' .
وكل النصوص التي نوردها عنهم إنما تهدف في آخر الأمر إلى قضية واحدة، وهو أن يُعرَّى الإسلام من ثوبه السياسي ونظامه المستمد من نصوص كثيرة، وتطبيقات عملية امتدت واستمرت زمناً ودهراً طويلاً، يقول أيضاً رأي آخر نرفضه كذلك: ' يرى أن للإسلام نظام في الحكم، مفصَّل المعالم متميز القسمات أقامه النبي صلى الله عليه وسلم وألزم المسلمين من بعده بإقامته، وأنهم أقاموه في أيام الخلافة الراشدة قبل أن تتحول إلى ملك عضوض وأن على المسلمين أن يرفضوا كل ما حولهم من أنظمة الحكم والسياسة وأن ينحوها عن مقاعد السلطة والرئاسة ليجعلوا نظامهم الإسلامي على رأس دولتهم الجديدة ' .
هذا المبدأ المرفوض يراد أن يكرَّس سواء في دراسات الغرب، أو في دراسات أتباع الغرب ممن تأثروا بهم، أو نهجوا نهجهم، ولذلك نجد هذه القضية واضحة في كتابات كثيرة، ومن ذلك أيضاً كلام للدكتور محمد خلف الله في كتاب [ النص والحكم والاجتهاد في الإسلام ]، يقول: ' إن التاريخ الإسلامي يكشف لنا عن حقيقة أن نظام الخلافة ليس مصدره النص وإنما مصدره الاجتهاد '، ثم يقول: ' ونحن حين نقول الاجتهاد في هذه القضية إنما نعني أن العقل البشري هو الواضع لنظام الخلافة، وهنا حقيقة لا بد من لفت النظر إليها وهو ما كان من اجتهاد العقل البشري لا يكون ديناً وإنما يكون تشريعاً مدنياً ' .
وهذا النص لا يخفى ما فيه من تفريغ الإسلام من هذا المضمون المهم، الذي هو أحد أخطر التفاعلات الحديثة بين المسلمين والصحوة الإسلامية في هذا العصر .
وأيضاً يؤكد هذا الكلام في نص آخر يقول فيه: ' نظام الحكم والإسلام مصدره الاجتهاد وليس النص، وما جاء عن اجتهاد يمكن أن يستبدل به اجتهاد جديد يحقق المصلحة، والجماعات الدينية يجب أن تترك هذه القضية لتكون محل اجتهاد جديد، لأن الفكر السياسي في نظام الحكم فكر بشري خالص تستطيع المؤسسات العلمية من أمثال كليات العلوم السياسية أن تجتهد فيه، وليس من أمثال الكليات الشرعية ولا العلماء أن يخوضوا في مثل هذا المجال ' .
وأيضاً نجد أن د. محمد عمارة في 'المعتزلة وأصول الحكم' يقول: ' الإسلام له مفاهيم عليا ومثل عليا ثم للناس أن يحددوا ويشرعوا ويطوروا حياتهم وفق المصلحة، فليس الحكم ـ لاحظ هذه العبارة - ليس الحكم والقضاء والإمامة والسياسة ديناً وشرعاً وبلاغاً يجب فيهما التأسي والاحتذاء بما في السنة من وقائع وتطبيقات ' . لا يجب هذا الأمر ولذلك هنا كان التنبيه على هذا ا لجانب بشكل إجمالي .
الموضع الثاني: تطبيق الشريعة الإسلامية، أو إقامة الدولة الإسلامية: ونحن نعلم كم هي الصراعات والصيحات في هذه النقطة حتى إن مجلس الشعب المصري أصدر قرارًا رسميًا واعتمد بشكل أو بآخر بأن لا يفتح في موضوعات المجلس بصورة أو بأخرى في أي جلسة موضوع تطبيق الشريعة، وأغلق الباب فيما هو مقرر حتى الآن
فنجد أن قضية إقامة الدولة الإسلامية موضع نقد شديد وموضع تخوف كبير، تصور أن تطبيق الإسلام كما صرح بعضهم: ' إذا طبَّقْنا الإسلام وطبقنا الشريعة سنجد أن نصف المجتمع مقطوعي الأيدي وذوي عاهات ' . على اعتبار تطبيق الشريعة .
التصوير المرعب والمخيف لعموم المجتمعات المسلمة من تطبيق الحكم الشرعي الإسلامي خاصة أنهم يتناولون جانب تطبيق الحدود، وكذلك جانب تصوير أن إقامة الحكم الإسلامي سيجعل المجتمع المسلم، الذي يقام فيه هذا الحكم، مجتمع ضيق في علاقاته، عدائياً في معاملاته، بل بدائياً في تصوراته، وهذا التأكيد دائماً نجده في كثير من المقولات التي تعالج أو تنتبه إلى هذا الموضوع، وطبعاً النصوص في ذلك كثيرة، ربما نختار بعضاً من النصوص التي تؤكد التخوف من هذا الجانب، أو العداء له على وجه الخصوص، قول د. محمد عمارة: ' إن أحداً لن يستطيع الزعم بأن الشريعة يمكن أن تثبت عندما قرره نبي العصر ـ يعني أن تبقى كما كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم - ثم نستطيع أن نطبقها اليوم في هذا الجانب ' .(/4)
ثم تصوير الشريعة بأنها نوع من السيطرة والقهر، وللأسف أن كثيرًا من هؤلاء دخلوا في كلامهم على أنهم مفسرين، وأنهم فقهاء مجتهدين، وأنهم أصحاب علم بأصول فقه، وغير ذلك، ولذلك يقول محمد خلف الله: ' إن القرآن الكريم كان يلفت ذهن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس على الناس بوكيل، أو مسيطر، أو جبار، أو ما إلى ذلك من كل ما هو من شئون الحكم والرئاسة ـ وهذا هو التفسير عنده لـ:{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ[22]}[سورة الغاشية] أي: فيما يتعلق بشؤون الحكم والسياسة - وعلى أساس هذا كان القرآن يطلب إليه أن يترك أمر معاقبة الناس على مخالفتهم تعاليم الله على الله نفسه 'اهـ . وهذا يعني عنده أنه ليس هناك من حاجة إلى تطبيق الحكم والسياسة، أو التشريع الإسلامي .
وأيضاً النقد لهذه الظاهرة يتركز في نقد المنهج حتى في الصور التي يتشبث بها المسلم الواعي ويرتبط بها، ومن أقرب الأمثلة كلام الإسلاميين عن الخلافة العثمانية وما كان لها من دور، وأنها كانت نموذجًا لوحدة الأمة الإسلامية، نجد أن الطعن في هذا الجانب في الدراسات التاريخية والمنهجية كثيرٌ جداً مما يؤكد أن هناك تخوف من أن تكون حكومة، أو تطبيق للشرع الإسلامي بتكامله المنهجي .
ولذلك يقول د. محمد جابر الأنصاري - منزعجاً بشدة لتلك المحاولات العجيبة التي تحاول إعادة الاعتبار للتاريخ العثماني ولتاريخ السلاطين الأتراك في العالم العربي والإسلامي، باعتبارهم رموزاً للجامعة الإسلامية وللكيان الإسلامي الواحد -: ' وهذا المنحنى التاريخي الجديد للثقافة العربية الإسلامية المعاصرة، مرده إلى إخفاق الحركات القومية والتقدمية التي ثارت على الدولة العثمانية وانفصلت عنها لإقامة ... النظام المصري الجديد وهو منحنى يرتبط بمفكري الاتجاه الإسلامي الجديد وفصائله ' .
ولذلك نجد الكتابات مركزة في هذا الجانب، حتى كتب د. عبد العظيم رمضان في أكتوبر [ وجلدوا الأئمة الأربعة بالسياط ]، واستعرض فتنة الأئمة الأربعة الإمام مالك وأبو حنيفة قال: ' هذه الحكومات والتطبيقات للشريعة الإسلامية التي تريدونها انظروا كيف كانت في العصور التي تستشهدون بها انظروا كيف جلد الإمام مالك والإمام الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة !' .
كنوع من استقراء لبعض الحوادث التاريخية الجزئية في غير تكامل منهجي، وهذه نقطة مهمة؛ لأن الدراسة التاريخية المجتزأة يمكن أن تغير نظرة الإنسان في قضية معينة، فإذا أخذنا هذا الجانب كحادثة معينة، إذاً تشوه التطبيق بينما هي نموذج لقضايا معينة محدودة معروفة الأسباب، ويمكن فهمها في غير هذا الإطار المجتزأ، فيقول:'لست أعتقد أن هناك من المسلمين من يرفض سيرة عثمان بن عفان كحاكم ـ يقول-: رفض حكمه كبار الصحابة من معاصريه لدرجة قتله، ورفض دفنه في مقابر المسلمين، ثم دفن دون الصلاة عليه إلى آخر هذه الوقائع المحزنة'اهـ . وطبعاً ليست وقائع حتى تكون محزنة لأنها ليست صحيحة .
الموضع الثالث: منهجية الجهاد في الإسلام:حينما تقوم الدولة الإسلامي هل ستأخذ بهذا النهج ؟ طبعاً الاستماتة كبيرة جداً في هذا الجانب، ولعل أهم النقاط التي ربما تلفت النظر في التغيرات السياسية التركيز على مبدأ الجهاد، حتى أن شامير الهالك في افتتاحه الرسمي في مؤتمر مدريد للسلام، قال بالحرف الواحد:'عليكم ـ هو يخاطب الوفود - أن تعملوا على إلغاء الجهاد ضد غير المسلمين ' .
وقضية الجهاد لا شك أنها أحد أهم مواطن الإرهاب الذي يخشى منه غير المسلمين، لذلك للأسف من مقالات نفس الباحثين أو غيرهم نجد هذه الصورة واضحة، يقول د. محمد عمارة: ' لا الحرب التي كانت في حروب الردة كانت دينية، ولا حروب علي مع خصومه كانت دينية، لأنها كانت حرب في سبيل الأمر، أي في سبيل الرئاسة والإمامة، وهذه سلطة ذات طبيعة سياسية مدنية، ومن ثم كانت الحرب التي نشأت لأجلها سياسية مدنية 'اهـ. إذاً ليس هناك شيء اسمه حرب دينية أي جهاد إسلامي، ويقول أيضاً في كتابه' الإسلام والوحدة الدينية': ' أنه طوى صفحة التاريخ الذي كان يقسم الناس إلى مؤمنين وكفار، طويت هذه الصفحة ليبسط مكانها الحضارة الحديثة، التي تميز بين الأمم والشعوب على أساس فقط من التحضر والخشونة والبداوة ' .
والعشماوي ألف كتاباً كاملاً عن الإسلام السياسي جعل نصفه عن الجهاد في الإسلام واستقرأ بعض الآيات، وخرج بقرارات أو بتصورات يريد أن يكرسها، من ذلك قوله: ' المعنى السليم للجهاد فُسِّر خطئاً من جانب بعض الفقهاء، وحُرِّف عمداً من جانب بعض السلطات السياسية في التاريخ الإسلامي، ونحن نعلم أنه ما من كتاب فقهي على أي مذهب من المذاهب إلا وفيه باب من أبواب الجهاد وأحكامه والفيئ والغنيمة لأنها نصوص قرآنية ثابتة ' .(/5)
ويقول هنا أيضاًً: ' أنه فُسِّر خطئاً من جانب بعض الفقهاء، وحرف عمداً من جانب بعض السلطات فبعض الفقهاء الذين أثروا على العقل الإسلامي و يقولون أن الصلة بين الإسلام وغيره من الدول أو المجتمعات هي الحرب دائماً ' .
طبعاً التقسيم الإسلامي: 'دار حرب' 'دار إسلام' تقسيم فقهي مؤصل له تفصيلاته، وأحكام المتعاملين مع ديار الإسلام، أيضاً لها أحكام تفصيلية في هذا الجانب، ولذلك يقول هؤلاء الفقهاء أن الصلة بين الإسلام وغيره هي الحرب دائماً، وأن السلم ليس إلا هدنة مؤقته ريثما يتهيأ المسلمون للحرب، وزاد البعض فرأى أنه من غير الجائز لإمام المسلمين أن يتعاقد على سلم دائم مع بلد من بلاد الحرب، لأن في مثل هذا السلم إلغاء لفريضة الجهاد وهو كذلك، وطبعاً خلص إلى أن الجهاد هو وغيره إنما هو عبارة عن الصورة الدفاعية في بعض الأوقات، وإنما هو جهاد النفس، وتصويره بعد ذلك بصورة تعبيرية جميلة، يقول فيها: ' وبهذا يكون الجهاد أسلوباً كريماً، وباعثاً قوياً، ودافعاً سامياً للارتقاء بالذات والسمو بالنفس، والعلو بالروح حتى تعطي دون توقع للرد، وتبذل دون نظر للمقابل، وأنه يكون تربية للمؤمن على أسلوب الدفاع عن النفس، الذي يبدأ عند بداية العدوان وينتهي بنهايته، فلا يجنح بالابتداء بالعدوان، ولا ينحرف إلى الاستمرار كما تهوى النفوس عادة، ما لم تضبط بالمجاهدة الحق والمكابدة السليمة ' .
فإذاً هذه صور تبين لنا أن هذه المحاور الثلاثة كانت هي موضع الدرس، والتركيز؛ لأنها هي أحد أهم المعالم لهذا التخوف .
لماذا الخوف من الإسلام ؟ لماذا تعاظم هذا التخوف من الظاهرة الإسلامية؟
في تصوري أن هناك بعض الملامح المهمة لباعث الخوف من الإسلام يتلخص في انتقال الطرح الإسلامي عبر مراحل كثيرة، وظروف متغيرة من كونه قضايا فكرية أو تطبيقات عملية لدى فئة محدودة من أبناء الحركة الإسلامية إلى كونه قضية شعبية دخلت في هموم الناس وحاجاتهم اليومية، وهذا أبرز أحد المعالم المتنامية في الفترة الأخيرة، طبعاً هذا التحرك والقدرة على هذا التحريك الشعبي بصورة عملية واضحة، وأن المسألة ليست مجرد خطابات أو شعارات أحد أبرز المعالم المهمة في هذا الجانب، ولذلك أيضاً نجد كثير من الكلام يتركز حول هذه الشعبية بل حتى أساليبها البسيطة المحددة، فنجد الكلام حول حرب الأشرطة، وأنها أحد الأساليب الترويجية التي نقلت كثير من المفاهيم والأفكار بشكل قوي ومتشعب في هذه الجوانب .
من ملامح شعبية التوجه الإسلامي:
1- انتقال العمل إلى الفئات الشعبية: أول نقطة من النقاط التحولية التي زادت من التخوف من الإسلام هو انتقال العمل أو الصورة الإسلامية من فئة مجموعات وجماعات، إلى فئات شعبية واسعة المدى وعريضة النطاق .
2- النماذج العملية للتطبيقات الإسلامية في ميادين الحياة:بمعنى أن العمل الإسلامي والإسلام كان في الفترة الماضية يؤكد على شموليته، ويؤكد على ضرورة معايشته لواقع الناس واحتياجاتهم، لما بدأت تبرز الصور العملية لذلك كان أحد المعالم لقوة التيار الإسلامي، وبالتالي أحد أبرز المعالم للتخوف الكبير لهذا الإسلام القادم، ومن الأمثلة في بعض الجوانب:الاقتصاد والإعلام على وجه الخصوص.
3- ظهور الصورة العملية لاحتياجات الناس اليومية
منهجية هذا التخوف: ما نحتاج إليه نحن من هذا السرد أو أمثاله بشكل أو بآخر:
أولاً: الجمع لما يُسمع من أخبار ومعلومات .
ثانياً: الربط فيما بين المعلومات والأخبار: لأن القضية حينما تكون جزئية يكون النظر نحوها جزئياً، وحينما تجمع من هنا ومن هنا تعطي صورة متكاملة، تبيِّن أن الأمر قد يكون بُيِّت بليل، وأن الأمر يكون فيه تنسيق بين أطراف متعددة، وأن الأمر يحظى باهتمامات كبيرة وإلى آخره .
ثالثاً: التحليل والدراسة للاستنباط: ومثال على الاستنباط: هذه الجوانب الثلاثة هي التي عليها التركيز لماذا نحتاج أن نعرف ؟ لأن الآخرين يرون أنها هي العوامل أو النقاط الفاعلة في تحريك الإسلام ضد أعدائه بشكل قوي .
رابعاً: تقوية الجوانب التي منها الخوف والخطر عند أعداءنا: لأن أعداءنا لا يخشون من شيء إلا وهو في حقيقة الأمر سبب من أسباب قوِّتنا، وأحد مؤهِّلات تفوقنا وانتصارنا عليهم، بالتالي أيضاً إظهار الجوانب التي لم ترد في تخوفاتهم، بل ربما قبلوها وربما أيضاً دعموها، ولذلك ينشأ من هنا التصور الكلي الذي نحتاج إليه: وهو ترتيب الأولويات، ومعرفة القضايا الثانوية والهامشية التي ينبغي أن لا تزحم ما هو أهم منها، وأن لا تشغل عن تكريس ما هو أولى في ظهور قوة الإسلام، وأسرع في تقدم خطواته، نحو النجاح والنصر والتمكين .(/6)
وبالتالي هذه الصورة الموجزة يمكن أن نرى أن هذه الصيحات، وأن التخوُّف إنما هو ظاهرة صحية بالنسبة للمسلمين أن يخشى منهم، فهذا أمر يدل على وجود ظاهرة إيجابية، والذين لا يخشى منهم وقد يفرحون بذلك ويعتبرون أنفسهم حضاريين وأنهم مقبولين عالمياً ودولياً، إنما يفقدون في الحقيقة قيمتهم .
خامساً: تضخيم على حساب المستقبل: فنحن نحتاج لنعرف أن العمل الإسلامي- وإن كان بسيطاً في دائرة معينة- فإنه يؤذن له بإذن الله أن يكبر، وأن يعظم، وأن يكون ذا أثر فعال في فرص قريبة ربما أقرب مما نظن، والله نسأل أن يمكن لدين الإسلام، وأن يجعل هذا التخوف رعباً في قلوب أعداء الإسلام، ويكون أحد أسباب النصر الذي كان لمحمد صلى الله عليه وسلم حينما قال: [...نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ...]رواه البخاري ومسلم. ونرجو أن ينصر المسلمون برعب أعداءهم منهم كما نرى في صور كثيرة .
من محاضرة:'الخوف من الإسلام القادم' للدكتور/ علي بن عمر بادحدح
»(/7)
الخوف من الله ..وجيل النصر
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
إن من الوسائل المهمة التي تحيي القلب وتدفع بالعبد إلى التسابق في الخيرات، وتحول بينه وبين المعاصي والآثام، هي الخوف من الله عز وجل، إننا نريد خوفاً يصل بنا إلى درجة الانزعاج والفزع، فتتصدع به القلوب وتشيب له الرؤوس ، فإن لم يصل الخوف إلى هذه الدرجة أو قريباً منها فإن التأثر به يصبح وقتياً يزول أثره.
إن الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً بدءوا دعوتهم بتحذير أقوامهم من المآل الذي ينتظرهم إن استمروا على ما هم عليه من كفر وفساد وإعراض، فنوح عليه السلام يقول لقومه ? قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ?[ نوح:2] وقال لهم ?... يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ?[ الأعراف:59]
وهود عليه السلام يقول لقومه كما قص الله: ? وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ?[ الأحقاف:21]. وهكذا جميع الأنبياء أنذروا وخوفوا الذين أرسلوا إليهم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء وإمام المرسلين لما نزل عليه قول الله: ? وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ?[ الشعراء:214].
صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصفا، فجعل ينادي
"يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال ( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ) . قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . فقال أبو لهب تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت { تبت يدا أبي لهب وتب . ما أغنى عنه ماله وما كسب "
وفي رواية أنه جعل يقول - صلى الله عليه وسلم - : "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل( وأنذر عشيرتك الأقربين) . قال ( يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا يا بني مناف لا أغني عنكم من الله شيئا يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا"
إن الخوف من الله تعالى هو الوسيلة الأكيدة التي توقظ الراقدين، وتنبه الغافلين، استخدمها الرسل أجمعون، وسار على نهجهم الدعاة الصادقون والعلماء العاملون، ففتح الله على أيديهم أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً.
الخوف من الله هو الدواء الناجح لمن أسر قلبه الهوى، وغلب عليه حب الدنيا ، الخوف من الله هو البداية الحقيقية لسير القلب إلى الله كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل إلا إن سلعة الله غالية ، ألا أن سلعة الله الجنة".
والمعنى من خاف الله عز وجل حمله خوفه على سلوك الصراط المستقيم والإقبال على الآخرة والمبادرة بالعمل الصالح خوفاً من الشواغل والقواطع والعوائق. كالمسافر الذي يغتنم أوقات الليل فيقطع المسافات قبل طلوع الشمس وحرارة الجو ونفاد الزاد وعند الصباح يخمد القوم.
وعن إبراهيم بن شيبان قال: الخوف إذا سكن القلب أحرق مواضع الشهوات فيه، وطرد منه رغبة الدنيا، وأسكت اللسان عن ذكر الدنيا.(/1)
وقال ذو النون المصري: الناس على طريق ما لم يزل عنهم الخوف ، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق، ولم لا يكون الخوف على هذه الدرجة من الأهمية؟ وقد مدح الله أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام ، فقال عنهم: ?... إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ?[ الأنبياء: 90] ، وقال عن المؤمنين: ? وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ?[ الرعد: 21].
وأثنى على الملائكة لخوفهم الشديد من ربهم فقال: ? يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ?[ النحل: 50] ، ?... وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ?[ الأنبياء:28].
ووبخ الله الكفار على غفلتهم وجرأتهم على محارم الله فقال على لسان نبيه : ? مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ?[ نوح: 13] ، قيل في التفسير لا تخافون عظمة الله.
إن الخوف من الله هو الذي منع ابن آدم الأول أن يقتل أخاه عندما هم بقتله فقال: ? لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ?[المائدة: 28].
الخوف من الله هو الذي دفع الرجلين من بني إسرائيل إلى حث قومهما على الشجاعة والثبات والدخول عل الجبارين لجهادهم ومقاتلتهم : ? قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ?[ المائدة: 23].
والخوف من الله هو الذي أعان القلة الباقية مع طالوت على الثبات وهزيمة جالوت وجنوده كما قال تعالى مخبراً عنهم: ? قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ?[ البقرة: 249].
والخوف من الله والإيمان به هو الذي جعل أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يقولون حينما خوفهم المرجفون بالناس فكان كما قال سبحانه عنهم: ? الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ?[ آل عمران173].
الذين يخافون الله لا يخشون غيره كائناً من كان وقديماً قال الحسن البصري رحمه الله : من خاف الله خاف منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه كل شيء.
الخوف من الله هو الذي يدفع العباد إلى إخلاص الدين والعمل لله فلا يبتغون به جزاءاً دنيوياً، ولا مدحاً أو ثناء وإطراء من الناس كما قال تعالى عن المؤمنين: ?وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ?[ الإنسان:8-10].
الخوف من الله عز وجل من أهم صفات ومواصفات جيل النصر جيل التمكين والاستخلاف في الأرض كما قال سبحانه وتعالى: ? فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ?[ إبراهيم:13-14].
إن الخوف من الله عز وجل هو حقيقة التقوى، هي وصية الله تعالى للأولين والآخرين، قال تعالى: ?... وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ...?[ النساء: 131].
الخوف من الله عز وجل هو سبيل الفوز يوم القيامة كما قال سبحانه : ? وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ?[ النور: 52].
الخوف من الله هو رأس الحكمة كما قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - خير الزاد التقوى ورأس الحكمة مخافة الله.
والناس إنما يقتربون ويبتعدون عن ربهم بمقدار التقوى والخوف من قلوبهم يقول سبحانه: ? ... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ...?[ الحجرات:13] ، والعبادات والطاعات التي شرعها الله هي من أجل زيادة التقوى والخوف من الله ، وخضوع القلوب وخشوعها لبارئها وخالقها فليس المطلوب من العبادات والطاعات بجوارحهم، دون أن تتأثر بها قلوبهم، قال تعالى عن الأضاحي والهدايا التي يتقرب بها إلى الله يوم النحر : ? لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ...?[ الحج: 37] فالمراد من إراقة دماء الهدي في الحج هو زيادة التقوى في القلوب.
وكذلك الحال في سائر العبادات والطاعات، فشهادة لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله هي كلمة التقوى من قالها خالصاً من قلبه عاملاً بها دخل الجنة.(/2)
والصلاة عنوان الفوز والفلاح مربوطة بالخشوع ? ...وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ?[ البقرة: 45] ، ? َقدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ?[ المؤمنون:1-2] ، ? وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ?[ الإسراء: 109].
والزكاة تطهر النفس وتسمو بها وهي دليل الصدق والإيمان : ? خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ...?[ التوبة: 103]، والصدقة برهان والصوم الذي فرضه الله تعالى إنما هو لتربية الروح والنفس على الإيمان والتقوى ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ?[ البقرة: 183].
والقرآن إنما ينتفع به الذين يخافون ويتقون ? وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ?[ الأنعام: 51] ، ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً... ?[ الأنفال:2].
فالتقوى هي مقصود العبادات والطاعات، ولذلك أمر الله تعالى عباده بالتزود منها فقال سبحانه: ?... وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ?[ البقرة: 197].
الخطبة الثانية:
الخوف من الله تعالى أصل كل خير في الدنيا والآخرة كما قال أو سليمان الداراني : الخوف من الله عز وجل هو سمة الأنبياء والصالحين، يقول - صلى الله عليه وسلم - : "إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصَعُدات تجأرون إلى الله تعالى"، وقال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله، أراك شبت؟ فقال : "شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت".
ويقول عبد الله الشخير بن عوف - رضي الله عنه - : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء.
وروي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه كان يمسك بلسانه ويقول هذا الذي أوردني الموارد، وكان يبكي كثيراً خوفاً من الله.
ويقول: ياليتني خَضرة تأكلني الدواب.
وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قرأ سورة الطور.. حتى إذا بلغ قول الله عز وجل: ? إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ?[ الطور:7] بكى واشتد بكاؤه، حتى مرض وعاده الناس.
وكان في وجهه - رضي الله عنه - خطان أسودان من البكاء، قال له ابن عباس رضي الله عنهما في مرض موته: يا أمير المؤمنين مصر بك الأمصار وفتح بك الفتوح وفعل وفعل فقال: وددت أن أنجو ولا أجر ولا وزر. وعثمان بن عفان - رضي الله عنه -، كان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته، وقال: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير.
وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يبكي خوفاً من الله.. وكان يقول يا دنيا غري غيري، وأبو الدرداء - رضي الله عنه - كان يقول: إن أشد ما أخاف على نفسي يوم القيامة أن يقال لي : يا أبا الدرداء، قد علمت فكيف عملت فيما علمت.
وقرأ تميم الدري - رضي الله عنه - ليلة سورة الجاثية فلما أتى على هذه الآية? أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ?[ الجاثية: 21] ، جعل يرددها ويبكي عليها حتى أصبح وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله إذا ذكر الموت خنقته العبرة وكان يقول : الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب، وإذا ذكرت الموت هان علي كل أمر الدنيا، إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل.
أيها المؤمنون إن اضطراب أمورنا وأحوالنا وفسادها سببها عدم الخوف من الله والدار الآخرة، فسبب إعراض المعرضين وتكذيب المكذبين واستكبار المستكبرين هو عدم خوفهم من الله والدار الآخرة كما قال تعالى فيهم: ? كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ?[ المدثر: 53] ، فلو خافوها لما أعرضوا ولما غفلوا : ? فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ?[المدثر:49-53].(/3)
الذين يمارسون الظلم ويعتدون على الآخرين في أموالهم وأعراضهم ودمائهم الذين يفعلون ذلك لا يخافون الله ولا يرجون لقاءه الذين ينتهكون المحرمات ويستبيحون الزنا والربا والخمر ويروجون للفساد في المجتمعات هؤلاء لا يخافون الله ولا يخافون الآخرة.
الذي يعبث بمقدرات الأمة ويهدر ثرواتها ويبدد طاقاتها الذي يسرق وينهب ويختلس ويخادع هؤلاء لا يخافون الله ولا يخافون الآخرة.
الذي يخون دينه ويتآمر على أمته ويبيع أخلاقه وقيمه ومبادئه بعرض من الدنيا قليل، من يفعل ذلك لا يخاف الله ولا يخاف من لقاءه.
من يحارب أولياء الله ويوالي أعداء الله، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل من يفعل ذلك لا يخاف الله ولا يرجو لقاءه. هذا الموقف المتخاذل والمخزي والمشين الذي يقفه الحكام وتتفرج الشعوب على إخوانهم الذين يقتلون ويشردون ويحاصرون ويتآمر عليهم العدو الخارجي والداخلي في فلسطين سببه عدم الخوف من الله وعدم اليقين بلقائه.
أمور كثيرة ومظاهر عديدة تعج بها الأسر والمجتمعات وتكتوي بنارها في الحياة سببها الحقيقي الجهل بالله وعدم الخوف منه، والاغترار بهذه الحياة الزائلة والمنقضية.
وإذا ما أردنا أن نصلح نفوسنا وأحوالنا فما علينا إلا أن نتعرف على الله ربنا وخالقنا وأن نطيعه وأن نخافه وأن نذكره ونشكره ونواصل الليل بالنهار في ذكره وشكره وطاعته وعبادته لنكون من أهل قوله سبحانه وتعالى: ? أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ?[ الزمر: 9].
العلم الذي يعرفك بالله ويكسبك خوفه وتقواه هو العلم النافع الذي يخلصك من عذاب الله، هذا العلم لا يوجد إلا في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويلتمس عند العلماء الربانيين الذين يخشون الله ويتقونه كما بينهم في كتابه العزيز.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
(1)ـ البخاري 4/1787 ، حديث رقم: 4492.
(2)ـ البخاري 3/1012، حديث رقم: 2602.
(3)ـ سنن الترمذي 4/633 ، حديث رقم: 2450، وصححه الألباني.
(4)ـ سنن الترمذي 4/566 ، حديث رقم: 2312 ، وحسنه الألباني.
(5)ـ سنن الترمذي 5/402 ، حديث رقم: 3297، وصححه الألباني.(/4)
الخوف من الله عز و جل
منزلة الخوف و حكمه :
من أجلّ منازل العبودية و أنفعها و هي فرض على كل أحد. قال تعالى ( فلا تخافوهم و خافون إن كنتم مؤمنين ) و قال عز وجلّ ( و لمن خاف مقام ربه جنتان ).
تعريف الخوف :
قيل : الخوف توقع العقوبة على مجاري الأنفاس - الخوف قوة العلم بمجاري الأحكام - الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره - الخوف غمّ يلحق بالنفس لتوقع مكروه. قال ابن المناوي في كتابه - التوقيف على مهمات التعاريف -:( الخوف توقع مكروه أو فوت محبوب ذكره ابن الكمال، و قال الحرالي: حذر النفس من أمور ظاهرة نضرة، و قال التفتازاني : غمّ يلحق الإنسان مما يتوقعه من السوء، و قال الراغب: توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة كما أن الرجاء توقع محبوب كذلك و ضده الأمن و يستعمل في الأمور الدنيوية و الأخروية، و عند الصوفية: ارتعاد القلب لما عمل من الذنب، وقيل أن يترقب العقوبة و يتجنب عيوبه، و قيل انزعاج السريرة لما عمل من الجريرة).
فوائد الخوف:
قال أبو حفص عمر بن مسلمة الحداد النيسابوري: الخوف سراج القلب به يبصر ما فيه من الخير و الشر، وكل أحد إذا خفته هربت منه، إلا الله عز جلّ فإنك إذا خفته هربت إليه. - قال أبو سليمان : ما فارق الخوف إلا خرب- قال إبراهيم بن سفيان: إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها، و طرد الدنيا عنها. - قال ذو النون: الناس على الطريق ما لم يَزُل عنهم الخوف، فإذا زال الخوف ضلّوا الطريق.
أنواع الخوف من حيث الحُكم:
1 - الخوف المحمود الصادق: هو ما حال بين صاحبه و بين محارم الله عز و جلّ، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس و القنوط. قال عثمان الحيري: صدق الخوف هو الورع عن الآثام ظاهراً و باطناً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله. 2 - الخوف الواجب: هو ما حمل على فعل الواجبات و ترك المحرمات. 3 - الخوف المستحب: هو ما حمل على فعل المستحبات و ترك المكروهات.
الجمع بين الخوف و الرجاء و الحب: لا بد للعبد من الجمع بين هذه الأركان الثلاثة، لأن عبادة الله بالخوف وحده طريقة الخوارج؛ فهم لا يجمعون إليه الحب و الرجاء؛ و لهذا لا يجدون للعبادة لذة و إليها رغبة، و هذا يورث اليأس و القنوط من رحمة الله، و غايته إساءة الظن بالله و الكفر به سبحانه. و عبادة الله بالرجاء وحده طريقة المرجئة الذين وقعوا في الغرور و الأماني الباطلة و ترك العمل الصالح، و غايته الخروج من الملة، و عبادة الله بالحب وحده طريقة غلاة الصوفية الذين يقولون: نعبد الله لا خوفاً من ناره، و لا طمعاً في جنته، و إنما حباً لذاته، و هذه طريقة فاسدة لها آثار وخيمة منها الأمن من مكر الله، وغايته الزندقة و الخروج من الدين. قال بعض السلف كلمة مشهورة و هي: " من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، و من عبده بالخوف وحده فهو حروري- أي خارجي - و من عبده بالرجاء و حده فهو مرجيء، ومن عبده بالخوف و الحب و الرجاء فهو مؤمن موحد." . قال ابن القيم : " القلب في سيره إلى الله عز و جل بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه و الخوف و الرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس و الجناحان فالطائر جيد الطيران، و متى قطع الرأس مات الطائر، و متى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد و كاسر" .
أيهما يُغلَّب الرجاء و الخوف ؟
قال ابن القيم: " السلف استحبوا أن يقوي في الصحة جناح الخوف على الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوي جناح الرجاء على جناح الخوف، هذه طريقة أبي سليمان و غيره.
و قال: ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا غلب الرجاء فسد.
و قال غيره: أكمل الأحوال اعتدال الرجاء و الخوف، و غلبة الحب، فالمحبة هي المركب و الرجاء حادٍ، و الخوف سائق، و الله الموصل بمنّه وكرمه.
أقسام الخوف:(/1)
1 - خوف السر: و هو خوف التأله و التعبد و التقرب و هو الذي يزجر صاحبه عن معصية من يخافه خشيةً من أن يصيبه بما شاء من فقر، أو قتل، أو غضب، أو سلب نعمة، و نحو ذلك بقدرته و مشيئته. فهذا القسم لا يجوز أن يصرف إلا الله عز و جل و صرفه له يعد من أجلّ العبادات و من أعظم واجبات القلب، بل هو ركن من أركان العبادة، و من خشي الله على هذا الوجه فهو مخلص موحد، و من صرفه لغير الله فقد أشرك شركاً أكبر؛ إذ جعل لله نداً في الخوف، و ذلك كحال المشركين الذين يعتقدون في آلهتهم ذلك الاعتقاد، و لهذا يخوِّفون بها أولياء الرحمن كما قال قوم هود ـ عليه السلام ـ الذين ذكر الله عنهم أنهم خوفوا هوداً بآلهتهم فقالوا: ( إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء)، و كحال عُبّاد القبور، فإنهم يخافون أصحاب القبور من الصالحين بل من الطواغيت كما يخافون الله بل أشد، ولهذا إذا توجهت على أحدهم اليمين بالله أعطا لك ما شئت من الأيمان صادقاً أو كاذباً، فإذا كانت اليمين بصاحب التربة لم يقدم على اليمين إن كان كاذباً، و ما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أخوف عنده من الله. و كذا إذا أصاب أحداً منهم ظلم لم يطلب كشفه إلا من المدفونين في التراب، و إذا أراد أحدهم أن يظلم أحداً فاستعاذ المظلوم بالله لم يعذه، و لو استعاذ بصاحب التربة أو بتربته لم يقدم عليه بشيء و لم يتعرض له بالأذى.
2 - الخوف من وعيد الله: الذي توعد به العصاة و هذا من أعلى مراتب الإيمان و هو درجات و مقامات و أقسام كما مضى ذكره قبل قليل.
3 - الخوف المحرم: و هو أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بغير عذر إلا لخوف الناس و كحال من يفر من الزحف خوفاً من لقاء العدو فهذا خوف محرم و لكنه لا يصل إلى الشرك.
4 - الخوف الطبيعي: كالخوف من سَبُع أو عدو أو هدم أو غرق و نحو ذلك مما يخشى ضرره الظاهري فهذا لا يُذم و هو الذي ذكره الله عن موسى ـ عليه السلام ـ في قوله عز وجل ( فخرج منها خائفاً يترقب) و قوله ( فأوجس في نفسه خيفةً موسى )، و يدخل في هذا القسم الخوف الذي يسبق لقاء العدو أو يسبق إلقاء الخطب في بداية الأمر؛ فهذا خوف طبيعي و يُحمد إذا حمل صاحبه على أخذ الأهبة و الاستعداد و يُذم إذا رجع به إلى الانهزام و ترك الإقدام.
5 - الخوف الوهمي: كالخوف الذي ليس له سبب أصلاً أو له سبب ضعيف جداً فهذا خوف مذموم و يدخل صاحبه في وصف الجبناء و قد تعوذ النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ من الجبن فهو من الأخلاق الرذيلة، و لهذا كان الإيمان التام و التوكل الصحيح أعظم ما يدفع هذا النوع من الخوف و يملأ القلب شجاعةً، فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه الخوف من غير الله، و كلما ضعف إيمانه زاد و قوي خوفه من غير الله، و لهذا فإن خواص المؤمنين و أقوياءهم تنقلب المخاوف في حقهم أمناً و طمأنينة لقوة إيمانهم و لسلامة يقينهم و كمال توكلهم ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل . فانقلبوا بنعمةٍ من الله و فضل لم يمسسهم سوء ) .
للاستزادة يُنظر : مدارج السالكين 1/ 507 - 513 ، و شروح كتاب التوحيد باب ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياء ) .
من مطوية ( كلمات في الخوف ) للشيخ - دار ابن خزيمة
====================================
من الأسباب التي تورث الخوف من الله عز و جل:
1 - إجلال الله و تعظيمه و معرفة حقارة النفس .
2 - خشية التقصير في الطاعة و التقصير في المعصية .
3 - زيارة المرضى و المصابين و المقابر .
4 - تذكر أن الله شديد العقاب و إذا أخذ الله الظالم لم يفلته .
5 - تذكر الموت و ما فيه .
6 - ملاحظة الله و مراقبته .
7 - تذكر الخاتمة .
8 - تدبر آيات القرآن الكريم .
9 - المحافظ على الفرائض و التزود من النوافل و ملازمة الذكر .
10 - مجالسة الصالحين و الاستماع لنصائحهم .
محمد بن إبراهيم الحمد(/2)
الخوف من الله - عز وجل -
محمد بن إبراهيم الحمد
منزلة الخوف و حكمه :
من أجلّ منازل العبودية و أنفعها، وهي فرض على كل أحد قال - تعالى-: (( فلا تخافوهم و خافون إن كنتم مؤمنين ))، وقال - عز وجلّ -: (( ولمن خاف مقام ربه جنتان )).
تعريف الخوف :
قيل: الخوف توقع العقوبة على مجاري الأنفاس.
الخوف قوة العلم بمجاري الأحكام.
الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره.
الخوف غمّ يلحق بالنفس لتوقع مكروه.
قال ابن المناوي في كتابه "التوقيف على مهمات التعاريف ":( الخوف توقع مكروه، أو فوت محبوب؛ ذكره ابن الكمال، و قال الحرالي: حذر النفس من أمور ظاهرة نضرة، وقال التفتازاني: غمّ يلحق الإنسان مما يتوقعه من السوء، وقال الراغب: توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة كما أن الرجاء توقع محبوب كذلك، وضده الأمن، ويستعمل في الأمور الدنيوية و الأخروية، وعند الصوفية: ارتعاد القلب لما عمل من الذنب، وقيل أن يترقب العقوبة ويتجنب عيوبه، وقيل انزعاج السريرة لما عمل من الجريرة).
فوائد الخوف:
قال أبو حفص عمر بن مسلمة الحداد النيسابوري: الخوف سراج القلب؛ به يبصر ما فيه من الخير و الشر، وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله - عز جلّ - فإنك إذا خفته هربت إليه.
قال أبو سليمان : ما فارق الخوف إلا خرب.
قال إبراهيم بن سفيان: إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها.
قال ذو النون: الناس على الطريق ما لم يَزُل عنهم الخوف، فإذا زال الخوف ضلّوا الطريق.
أنواع الخوف من حيث الحُكم:
1 - الخوف المحمود الصادق: هو ما حال بين صاحبه وبين محارم الله - عز وجلّ -، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط، قال عثمان الحيري: صدق الخوف هو الورع عن الآثام ظاهراً و باطناً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله.
2 - الخوف الواجب: هو ما حمل على فعل الواجبات وترك المحرمات.
3 - الخوف المستحب: هو ما حمل على فعل المستحبات وترك المكروهات.
الجمع بين الخوف و الرجاء و الحب:
لا بد للعبد من الجمع بين هذه الأركان الثلاثة لأن عبادة الله بالخوف وحده طريقة الخوارج؛ فهم لا يجمعون إليه الحب والرجاء؛ ولهذا لا يجدون للعبادة لذة وإليها رغبة، وهذا يورث اليأس والقنوط من رحمة الله، وغايته إساءة الظن بالله، والكفر به سبحانه.
وعبادة الله بالرجاء وحده طريقة المرجئة الذين وقعوا في الغرور والأماني الباطلة، وترك العمل الصالح، وغايته الخروج من الملة، وعبادة الله بالحب وحده طريقة غلاة الصوفية الذين يقولون: نعبد الله لا خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته، وإنما حباً لذاته، وهذه طريقة فاسدة لها آثار وخيمة منها: الأمن من مكر الله، وغايته الزندقة والخروج من الدين، قال بعض السلف كلمة مشهورة وهي: " من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري - أي خارجي -، ومن عبده بالرجاء و حده فهو مرجيء، ومن عبده بالخوف والحب والرجاء فهو مؤمن موحد"، قال ابن القيم : " القلب في سيره إلى الله - عز وجل - بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر".
أيهما يُغلَّب الرجاء أم الخوف؟
قال ابن القيم: " السلف استحبوا أن يقوي في الصحة جناح الخوف على الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوي جناح الرجاء على جناح الخوف، هذه طريقة أبي سليمان و غيره، وقال: ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا غلب الرجاء فسد،وقال غيره: أكمل الأحوال اعتدال الرجاء والخوف، وغلبة الحب، فالمحبة هي المركب، والرجاء حادٍ، والخوف سائق، والله الموصل بمنّه وكرمه.
أقسام الخوف:
1 - خوف السر: وهو خوف التأله والتعبد والتقرب، وهو الذي يزجر صاحبه عن معصية من يخافه خشيةً من أن يصيبه بما شاء من فقر، أو قتل، أو غضب، أو سلب نعمة.. ونحو ذلك بقدرته ومشيئته، فهذا القسم لا يجوز أن يصرف إلا الله - عز وجل -، وصرفه له يعد من أجلّ العبادات، ومن أعظم واجبات القلب، بل هو ركن من أركان العبادة، ومن خشي الله على هذا الوجه فهو مخلص موحد، ومن صرفه لغير الله فقد أشرك شركاً أكبر؛ إذ جعل لله نداً في الخوف، وذلك كحال المشركين الذين يعتقدون في آلهتهم ذلك الاعتقاد، ولهذا يخوِّفون بها أولياء الرحمن كما قال قوم هود - عليه السلام - الذين ذكر الله عنهم أنهم خوفوا هوداً بآلهتهم فقالوا: (( إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء))، و كحال عُبّاد القبور فإنهم يخافون أصحاب القبور من الصالحين بل من الطواغيت كما يخافون الله بل أشد، ولهذا إذا توجهت على أحدهم اليمين بالله أعطا لك ما شئت من الأيمان صادقاً أو كاذباً، فإذا كانت اليمين بصاحب التربة لم يقدم على اليمين إن كان كاذباً، وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أخوف عنده من الله.(/1)
وكذا إذا أصاب أحداً منهم ظلم لم يطلب كشفه إلا من المدفونين في التراب، وإذا أراد أحدهم أن يظلم أحداً فاستعاذ المظلوم بالله لم يعذه، ولو استعاذ بصاحب التربة أو بتربته لم يقدم عليه بشيء، ولم يتعرض له بالأذى.
2 - الخوف من وعيد الله الذي توعد به العصاة: وهذا من أعلى مراتب الإيمان، وهو درجات ومقامات وأقسام كما مضى ذكره قبل قليل.
3 - الخوف المحرم: وهو أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير عذر إلا لخوف الناس، وكحال من يفر من الزحف خوفاً من لقاء العدو؛ فهذا خوف محرم ولكنه لا يصل إلى الشرك.
4 - الخوف الطبيعي: كالخوف من سَبُع أو عدو أو هدم أو غرق ونحو ذلك مما يخشى ضرره الظاهري فهذا لا يُذم، وهو الذي ذكره الله عن موسى - عليه السلام - في قوله - عز وجل -: (( فخرج منها خائفاً يترقب))، وقوله: (( فأوجس في نفسه خيفةً موسى ))، و يدخل في هذا القسم الخوف الذي يسبق لقاء العدو، أو يسبق إلقاء الخطب في بداية الأمر؛ فهذا خوف طبيعي و يُحمد إذا حمل صاحبه على أخذ الأهبة والاستعداد، ويُذم إذا رجع به إلى الانهزام وترك الإقدام.
5 - الخوف الوهمي: كالخوف الذي ليس له سبب أصلاً، أو له سبب ضعيف جداً فهذا خوف مذموم، ويدخل صاحبه في وصف الجبناء، وقد تعوذ النبي - صلى الله عليه و سلم - من الجبن فهو من الأخلاق الرذيلة، ولهذا كان الإيمان التام والتوكل الصحيح أعظم ما يدفع هذا النوع من الخوف، ويملأ القلب شجاعةً، فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه الخوف من غير الله، وكلما ضعف إيمانه زاد وقوي خوفه من غير الله، ولهذا فإن خواص المؤمنين وأقوياءهم تنقلب المخاوف في حقهم أمناً وطمأنينة لقوة إيمانهم، ولسلامة يقينهم، وكمال توكلهم (( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل . فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضل لم يمسسهم سوء )) للاستزادة يُنظر: مدارج السالكين 1/ 507 - 513 ، و شروح كتاب التوحيد باب (( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياء )).
ومن الأسباب التي تورث الخوف من الله - عز وجل -:
1 - إجلال الله وتعظيمه ومعرفة حقارة النفس.
2 - خشية التقصير في الطاعة والتقصير في المعصية.
3 - زيارة المرضى والمصابين والمقابر.
4 - تذكر أن الله شديد العقاب، وإذا أخذ الله الظالم لم يفلته.
5 - تذكر الموت وما فيه.
6 - ملاحظة الله ومراقبته.
7 - تذكر الخاتمة.
8 - تدبر آيات القرآن الكريم.
9 - المحافظ على الفرائض والتزود من النوافل وملازمة الذكر.
10 - مجالسة الصالحين والاستماع لنصائحهم.
المصدر : http://www.heartsactions.com(/2)
الخيانة الزوجيّة... أزواج وزوجات في قفص الاتهام.. من منهم يقتل الحياة؟
بشار دراغمة وخلف خلف / فلسطين / خاص 29/1/1427
28/02/2006
الزواج رباط مقدس وعهد وثيق. الأصل فيه الاستقرار والطمأنينة والأمانة. بصفته أنه سيكون أسرة تكون لبنة أساسية في المجتمع. إلاّ أن بعض البيوت باتت مغلقة على مآسي بسبب الخيانات الزوجية، وقاعات المحاكم تعج بالقضايا، وتطالعنا الصحف على صفحاتها اليومية بحالات كثيرة وقصص بشعة، وما خفي منها أعظم. ومن فينا لم يقرأ أو يسمع عن حالات خيانة أزيل الغموض الذي يلفها وأخرى ما زالت مجهولة الأسباب؟
الخيانة بدأت تظهر للسطح بسبب عوامل عدة. أهمها انتشار ثقافة الغرب في صفوف الشباب والفتيات في المجتمعات العربية والإسلامية. في وقت بات بعض الناس ينظر فيه لخيانة الرجل أمراً طبيعياً يحتاج "المسامحة" أحياناً، بعكس خيانة المرأة. ولم يكن أحداً يسمع في خيانة زوجة مسلمة أو زوج طوال سنين حينما كانت الأمة العربية والإسلامية في أوج عهدها إلا في حالات نادرة؛ إذ كان الحد الشرعي والخوف من الله كفيلين في ردع تفشي مثل هذه الظاهرة.
إذاً ما الأسباب التي سمحت بتفشي هذه الرذيلة في المجتمعات العربية والإسلامية في هذه الأيام؟ وكيف نوقفها؟ هل القانون المطبق كافياً لردعها؟ وكيف تنعكس الخيانة على استقرار الأسرة وتماسك المجتمع؟ وما هو الدور الذي لعبته وسائل الاتصال كالهاتف المحمول والإنترنت وبعض الفضائيات في تفشي هذه الظاهرة؟ كل هذه الأسئلة سنحاول الإجابة عنها في محاولة للوقوف على الأسباب ووضع أيدينا على الحلول.
اختلاط وفروق وخيانة "متبادلة"
يقول الخبير الاجتماعي مهند حماد: إن الخيانة الزوجية بدأت تشق طريقها مع بداية السماح للمرأة بالعمل في أماكن مختلطة بشكل غير شرعي. وكذلك إهمال إحدى الزوجين للآخر، وهذا أصبح منتشراً بشكل كبير في عالمنا المتسارع، وأيضاً الحرية الزائدة التي يمنحها الزوج لزوجته في بعض الأحيان. الكذب في العلاقة الزوجية؛ فإنه يعصف بأركان هذه العلاقة ويثير قلاقل ومشاكل قد تؤدي لعلاقات غير شرعية لدى الزوجين. ناهيك عن الزواج الخاطئ من البداية حين يكون بين الزوجين فرق شاسع في العمر. وتفضيل ذات الحسب والنسب والمال على صاحبة الأخلاق. والأمر ذاته بالنسبة للفتيات. وأيضا الفرق في المستوى التعليمي يكون باباً لعدم التفاهم أحياناً. بسبب تباعد مشاعر الزوجين أو سوء التفاهم المتبادل فيما بينهما، وإهمال أحدهما أو كلاهما أواصر الحياة الزوجية وحسناتها، عندئذ تكون بداية الغرس غير المشروع لفكرة الخيانة، العلاقات غير الشرعية، وما يُطلق عليها صداقة بين الشاب والفتاة، وبخاصة رفقاء ورفيقات السوء. ولا نغفل هنا دور الإنترنت في عصرنا؛ إذ تكشف معظم العلاقات غير الشرعية أنها بدأت عن طريق التعرف من خلال شبكة الإنترنت.
الرجل السبب أم المرأة؟
أما أخصائية التربية والاجتماع عهود الماني فإنها ترى أن الرجل والمرأة كليهما يتحمل جانباً من المسؤولية؛ إذ إن المرأة يجب ألاّ تشغل نفسها دائماً في أمور البيت وتربية الأطفال دون أن تلتفت لتجديد مظهرها وتنمية ثقافتها لكي لا تسمح للرجل أن يبحث عن شيء مفقود لديه في الخارج بطريقة محرمة.
كما أن الرجل أيضاً يكون سبباً لخيانة زوجته، حين يمارس ضدها عنفاً جسدياً ونفسياً. مثل منعها من إبداء الرأي أو ضربها أو منعها من حقوقها كزوجة. كل هذه الأمور من المحتمل أن تقود لخيانة الزوجة وبخاصة إذا كانت الظروف لديها مهيأة لمثل هذا الأمر.
وأضافت "الماني": "ناهيك أن معظم الدراسات تؤكد أن الخيانة تكون عادة متبادلة. إذا انحرف الزوج وخان هناك احتمالية كبيرة أن تقبل زوجته على مثل هذا الأمر. وهذا نابع عن جهل أحياناً حين يعتبر أحد الزوجين أن في ذلك انتقاماً. ويؤكد الخبير الاجتماعي أن هذه الثقافة منتشرة بشكل كبير في المجتمعات الغربية وبدأت تتسلسل لدى المجتمعات العربية".
أمور هامة يجب معرفتها
ويؤكد "حماد" على أنه من الضروري على الأزواج معرفة الأمور الهامة التي قد تؤدي لانتشار حالات الخيانة لإزالة هذه الظاهرة البشعة من المجتمع. ويختتم الدكتور قوله: من يتعرف على أسباب الفساد والشر لا يقع فيهما، بل يعمل قدر طاقته على تلافي هذه الأسباب، وتحصين أهله منها، ليتجنب جمارها وأهوالها.(/1)
وفيما إذا كان للتطور التكنولوجي دور في تفشي ظاهرة الخيانة الزوجية يؤكد "حماد" أن التكنولوجيا بجميع حالاتها سلاح ذو حدين، قائلاً: الهاتف المحمول والإنترنت مما لا شك فيه أنها مثلت طفرة نوعية في حياتنا اليومية وجعلتها أفضل. ولكن هناك من يستخدمها بالوجه الآخر. ولا نستطيع الإنكار هنا أن الهاتف المحمول والانترنت سهلا عملية الخيانة الزوجية للذين يسعون إليها. بمعنى أنه على الرغم من تطور وسائل الاتصال لم يوجد ذلك الخيانة الزوجية بل أتاح الفرصة أمام من لديهم الرغبة في الخيانة، والنتيجة انهيار الأسرة وضياع الأبناء.
الجانب النفسي
الدكتور في علم النفس فايز عقل يقول: الأسباب التي تقود للخيانة تتعدد وتُردّ في بعض أحيانها إلى جذور العلاقة الزوجية وعدم التوافق والانسجام بين الزوج والزوجة سواء كان انسجاماً فكرياً أو عاطفياً، وهما جانبان مهمان لإنجاح أي زواج، وفي حال افتقاد أحدهما فإن الحياة الأسرية قد تتعرض للانهيار أو حدوث شروخ فيها مثل الخيانة.
ويضيف دكتور علم النفس: العيادات النفسية تسجل حالات كثيرة لأزواج وزوجات من مشاكل الخيانة. ويرى الدكتور أن التربية في المجتمعات العربية تنشئ أجيالاً بتصور خاطئ عن المرأة والعكس صحيح. ولكن الدكتور يرى أن المرأة يُلقى على كاهلها مسؤولية كبيرة؛ إذ إنها التي تربي وتعلم وتثقف، وهي التي تتحمل في النهاية مسؤولية الخيانة الزوجية.
وعن الطرق التي يمكن للزوجين اكتشاف خيانة أحدهما يقول الدكتور عقل: الجانب النفسي يلعب دوراً، فمجرد سؤال أحد الزوجين عن المكان الذي تواجد فيه أو أي شيء من هذا القبيل والتقاء العينين يتضح كل شيء.
وكما أن الإنسان في حالة الكذب يقوم بإغلاق يده اليسرى كونها مرتبطة بالدماغ؛ إذ يدلل ذلك على أن العقل الباطني يرفض الإفصاح عما يجول بداخله.
وعن الحلول التي يقترحها الدكتور يقول: العلاقة السليمة بين الرجل والمرأة يجب أن تقوم بالأساس على الاختيار السليم لبعضهما بعضاً، والمرأة لا يمكنها أن تقضي حياتها تكافح من أجل ألاّ يخونها زوجها.
وفي رده على كيفية تصرّف كلا الزوجين في حال اكتشف خيانة الطرف الآخر قال الدكتور عقل: أستطيع القول: إن ذلك بداية سيسبب النقمة، وسيشكل جرحاً نرجسياً للطرف الذي صُدم بالخيانة. أما فيما يتعلق بالحلول فأعتقد أن لكل حالة لها ظروفها، ولا نستطيع الحكم هكذا. فالشريعة الإسلامية أوضحت العقاب الذي يستحقه الخائن. ولكن في ضوء تعطيل العمل بالشريعة في هذا الجانب يُترك الباب مفتوحاً لاجتهادات المجتمع(/2)
الخير عادة
خالد البهلال 23/1/1425
14/03/2004
حد الخير هو ما كان ضد الشر، وهو الفاضل من كل شيء، وفي الأثر:
"خير الناس خيرهم لنفسه".
ومن يسرُّه الخيرُ يصيب الناسَ فهو من خيارهم، وشرهم من داراه الناس لشره، ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه.
ما الخير صوم يذوب الصائمون له ... ...
ولا صلاة ولا صوف على جسد
وإنما هو ترك الشر مطرحاً ... ...
ونفضك الصدرَ من غلٍّ ومن حسد
قال الله جل وعلا: (ليْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة:177].
إن الخير موافق للعقل السليم، فلا يقبل إلا إياه ولا يميل إلا إليه؛ بخلاف الشر فإن العقل السليم ينفر عنه ويقبحه، والبدار إلى عمل الخير اختياري، ورده إلزامي.
فاستغنم الخير فالدنيا على أحد ... ...
ليست تدوم وهذي عادة الزمن
وإن من الخير للنفس المؤمنة تعويدها فعل الخيرات والتجافي عن المنكرات؛ فالخير عادة والشر لجاجة.
العادة سلوك ذاتي باستطاعة المرء مع الصبر والإرادة الصادقة تطويره وتنميقه وتحسينه وتزويقه؛ فالإنسان قد منحه الله مرونة لإعادة صياغة ذاته، وتطوير عاداته بما يتناسب مع احتياجاته ومكتسباته ومتطلباته، وفي هذا حديث أشج عبد القيس الذي قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة" فقال: أشيء تخلقتُ به أم جبلتُ عليه يا رسول الله ؟ فقال : "لا.. بل جبلتَ عليه" فقال: الحمد لله الذي جبلني على خصلتين يحبهما الله ورسوله. [رواه مسلم]
وخبر الرجل الذي قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أوصني، قال: "لا تغضب" فردد مرارًا، قال: "لا تغضب" [رواه البخاري].
ومع تكرار الفعل وممارسته تتعلق نفسه به شَعُر أو لم يشعر، فيكتسبه عادةً، سواء حسنت أم قبحت، ويتكيف عليها؛ بل ويألفها ولا يستهجنها، وللمعرّي أبيات:
والمرء يوجد من عدْمٍ وما نقلتْ ... ...
عنه الحوادثُ من عاداته رِيعًا
إن يألَفِ الهضْبَ لا يَبْغِ الوُهودَ به ... ...
أو يألفِ الوهد لايُؤْثِرْ به الرِّيعا
وفي الضّرورَة يلغى ما تَعوّدَه ... ...
والعُفْرُ تأكل في الرمل اليساريعا
وفي لسان العرب: الرِّيع: المكان المرتفع على جوادِّ الطرق، والهضب: المكان المتمنع، والوهد: المكان المطمئن، والعفر: الظباء، واليساريع: دود.
ومتى وجد الجاد من نفسه إقبالاً فليحملها على الخير وليقتنص الفرصة، وإذا تثاقلت عن ذلك فلا يقسرها فتمل، ولا يركن إلى الدعة والكسل؛ فإن النفس تستمرئ ذلك وتعتاده.
والنفس إن أعطيتها هواها ... ...
فاغرة نحو هواها فاها
فاكتساب العادة الحسنة يتطلب صبرًا ومرانًا وممارسة ودربة، ومع مرور الزمن تصبح أمرًا ميسورًا معتادًا، وكل عادة خيرة تُكتسب تضيف إليك خبرةً، وتضفي عليك بهجةً ونضرةً وتألقاً، وتزاحم العوائد التي بلا فوائد.
وقدماً شاع وذاع لمالئ الدنيا وشاغل الناس: لكل امرئ من دهره ما تعودا.
وليس من العسير أن يعوِّدَ المرء نفسَه على معالي الأمور فيألفها وتألفه، فمن طبيعة الإنسان أنه يألف ويؤلف، وفي المأثور: الإنسان ابن عادته، والكريم يألف الكمالات.
ومن مقول أبي الدرداء -رضي الله عنه-: إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يعطه، ومن يتوقَّ الشر يوقه.
ومن السداد والتوفيق أن يكون من وكد المرء وهمه أن يعتاد الخير ويراقب نفسه في مكتسباته..
- فيتعود أن يعالج نيته؛ فرب عمل قليل كثرته النية، ورب عمل كثير قللته النية.
- يتعود التقوى؛ فمن يتق الله يجعل له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرًا.
- يتعود ذكر الله؛ فالذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحي والميت، والبيت العامر والخرب.
- يتعود أن يسأل الله بأسمائه الحسنى من خيري الدنيا والآخرة، ولا يحمل هم الإجابة.
- يتعود بر والديه حيين أو ميتين، وفيهما فجاهد فثَمَّ الجنة.
- يتعود صلة الرحم فيغنم سعة الرزق وطول العمر؛ فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله.
- يتعود الصدق؛ فإن الصدق نجاة وسلامة، والكذب جبن وندامة.
- ويتعود حفظ جوارحه عن أعراض المسلمين، وخاصة اللسان؛ فكل اغتياب جهد مَن ما لَه جهد.
- يتعود الدعوة؛ فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمْر النعم.
- يتعود البذل والجود وبسط الكف؛ فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه.(/1)
- يتعود الفرح بتوبة التائبين ورجوعهم لرب العالمين، والشفقة عليهم من الوقوع في سخط الجبار -جل وتعالى-.
- يتعود أن يهتم بشأن المسلمين؛ فمن لم يهتم بشأن المسلمين فليس منهم.
- يتعود الحلم وكتم الغيظ؛ فمَنْ ردَّ غضبَه هدَّ مَنْ أغضبه.
لا يبلغ المجد أقوامٌ وإن كرُموا ... ...
حتى يَذلوا - وإن عزّوا- لأقوامِ
ويُشتَموا فترى الألوان مسفرةً ... ...
لا صفحَ ذلٍّ ولكنْ صفحَ أحلامِ
- يتعود أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر تشمله الخيرية.
- يتعود الابتسام وطلاقة الوجه؛ فتبسمك في وجه أخيك صدقة.
- يتعود أن يتشبع بالأمل؛ فالأمل حادي العمل، وإياه واليأس فهو بريد الانتكاس والارتكاس.
- يتعود التخطيط لحياته، وتحديد أهدافه يحسن اختياره، ويتضح مساره.
- يتعود تطوير نفسه وتنمية ثقافته وبناء ذاته يتسع أفقه، وتتجدد حياته، ويصنع السعادة لنفسه ولغيره.
- يتعود أن يكون قارئاً؛ فالقراءة تنمي الفكر وتكسب التجارب وتعلم الحكمة.
- يتعود الاستقلال بشخصيته والاعتداد بها مع عدم الإعجاب بالذات، لكي لا ينجرف مع كل ناعق، وحتى لا تكثر الصور المكررة في الميدان، وكي يكثر الإبداع، فالتنوع ظاهرة صحية.
- يتعود أن يراعي الذوق العام ويحترم مشاعر الآخرين؛ فالذوق قيمة سامية، ومؤشر على الرقي والوعي يضفي على حياة الفرد بهاءً وجمالاً ويجعلها أكثر سعادة وهناء.
- يتعود تنميق عباراته وانتقاء كلماته؛ فالحديث المزوق ينفذ الآذان ويهز الوجدان، وإن من البيان لسحرًا.
- يتعود أن يكون مستمعاً جيداً يحسن الإنصات؛ فلن يبلغ المجد ناشده حتى يصبر على سِرَارِ الشيوخ البُخْر.
- يتعود الرفق في شأنه كله؛ فما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه.
- يتعود الإيثار وترك حظ النفس وعدم الانتصار لها؛ بل واتهامها بالتقصير خاصة مع الله -سبحانه وتعالى-.
- يتعود الأناة والتريث؛ فالعجلة طيش ونزق وندامة، وفرق بين العجلة والمبادرة لاقتناص الفرص.
- يتعود الاقتصاد في الكلام؛ فخير الكلام ما قل ودل وجل، ولم يطل فيمل.
- يتعود الاعتدال في الطعام؛ فالبطنة تذهب الفطنة، وسبب للفدامة والعي، وقسوة للقلب.
- يتعود الانتظام بالمنام والقيام؛ فكثرة النوم هدر للوقت وبلادة وذبول وخمول.
- يتعود الحيوية والجد في مختلف شؤون حياته يجد ذلك يسيرًا عليه، ويرى الثمرة بعينيه.
فمن رغب النُّجْح والسعد فليفعل وإن كان ثمة عناء؛ فكل امرئ رهنٌ بما يتعود، وإنما يألف الراحات من تعبَ.
وليس بمعجز خوض الفيافي ... ...
"إذا اعتاد الفتى خوض المنايا"(/2)
الخير كله في ذكر الله
الشيخ محمد الهدار
الحمد لله الحنان المنان ، المذكور بكل لسان ، وصلاة الله وسلامه على سيد ولد عدنان نبينا محمد صاحب الحجة والبرهان ، وبعد ....
إن لذكر الله سبحانه وتعالى نصيب وافر في الكتاب والسنة ، فكم من آيات وأحاديث ورد فيها الحث على ذكر الله ، وبيان فضله ، وأنواعه وأعداده وأوقاته ، قال تعالى : " يأيها الدين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا " ، وقال عز من قائل " فاذكروني أذكركم " وقال الكبير المتعال " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الدين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم " ، وروى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " سبق المفردون ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات " . وجاء في صحيح البخاري قوله صلى الله عليه وسلم " مثل الذي يذكر ربه والدي لا يذكر ربه مثل الحي والميت " وروى أحمد والترمذي والحاكم وقال صحيح الإسناد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أنبئكم بخير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق - أي الفضة ـ وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال ذكر الله " .
هذا ويعد ذكر الله أعظم زاجرا لعبد عن المعاصي والفواحش ، إذا أداه بضوابطه ، مع مراعاة معانيه العامة والخاصة ، بعد تأدية الفرائض والأركان العملية ، والتي من أهمها الصلاة في أوقاتها ، قال تعالى "عن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " ، وقال سبحانه عنها " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " ثم قال عز من قائل " ولذكر الله أكبر " ومن المعاني التي ذكرها كثير من المفسرين لقوله تعالى " ولذكر الله أكبر " إن ذكر الله على الدوام أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة ، لأنها في بعض الأوقات دون بعض ، ذكر دلك ابن الجزري وأشار إليه القرطبي وغيره ، ورحم الله الجميع .
والذكر كما عرفه العلماء : هو ما جرى على اللسان والقلب من تسبيح الله تعالى وتنزيهه وحمده والثناء عليه ووصفه بصفات الكمال ونعوت الجلال والجمال " والذكر يكون مطلقا ويكون مقيدا ويدخل فيه الصلاة وتلاوة القرآن وتعليمه وتعلمه ن ويدخل فيه تعلم العلوم النافعة عموما وتعليمها ، ويدخل فيه التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد ، والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم ، والاستغفار والدعاء ، وكل طاعة لله سبحانه وتعالى تعتبر ذكر الله ، قال سعيد بن الجبير رحمه الله " كل عامل لله بطاعة فهو ذاكر لله " .
قلت : فعلى كل مدرس ومدرسة وطبيب وطبيبة ، وكل موظف وموظفة ن وكل منتج ومنتجة ، على هؤلاء جميعا وغيرهم ، أن يتقنوا أعمالهم بإخلاص ، مراعين أن الله مطلع عليهم ولا تخفى عليه خافية ، وهذا هو مقام الإحسان ، الذي عرفه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله " إن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " فمراقبة الله تعالى في السر والعلن ، تعتبر من أعلى وأغلى وأثمن أنواع الذكر ، وبالحرص على دالك يعم الخير كل المجتمع ، وتنتهي الفوضى والغش والخيانة والسرقة ، وجميع السلبيات التي تسبب في تأخره وعدم ازدهاره ، فلم تعد تجد مثلا مدرسة أو مدرسا يبخل على طلابه بالشرح الواضح الصحيح من أجل اضطرارهم للدروس الخصوصية ، ولم تعد تجد مثلا طبيبة أو طبيبا يبخل على مرضاه بالتشخيص السليم من أجل إضرارهم إلى العيادات التخصصية , وهلم جرا .
أيها الأفاضل هذا فيما يخص ذكر الله عموما، وينبغي مراعاته مع الأذكار الخاصة المتعلقة بالتسبيح والتكبير والتهليل ، الخ ... وليعلم كذلك أن ذكر الله عز وجل بعمومه وخصوصه ، يعد حصنا حصينا للعبد من شيطانه ، الذي يجري منه مجرى الدم في العروق ، كما جاء في الحديث الصحيح ، بل إن الله سبحانه قال في كتابه العزيز " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهوا له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون " ، ومعنى الآية : ومن يتعامى ويتغافل عن ذكر الله نجل له شيطانا ملازما له ويمنعه من ذكر الله . وهذا والله حرمان ما بعده حرمان وخسران ما بعده خسران ، نسأل الله السلامة والعافية .(/1)
كما أن ذكر الله يعد حصنا حصينا للإنسان من نفسه التي بين جنبيه ، تلك النفس الأمارة بالسوء فبذكر الله يكون الإنسان بعيدا عما قد تمليه النفس من سوء كالغيبة والنميمة والكذب وتزيين أخد الرشوة والسرقة من المال العام ، كسرقة خطوط الكهرباء مثلا ، والسرقة من الدوام الرسمي للعمل ، أو تدعو إلى التلفظ بالفاحش من الكلام ، واللغو الباطل ، وذكر الله سبحانه يعد أيضا حصنا حصينا للعبد من عذاب الله يوم القيامة ، روى أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما عمل آدمي عملا قط أنجى له من عذاب الله ، من ذكر الله عز وجل " ، كما أن ذكر الله سبحانه يعد سببا لنيل شرف معية الله سبحانه الخاصة ، بعد المعية العامة ، فالله جل ذكره مع مخلوقاته عموما بعلمه وإحاطته ، والمعية الخاصة هذه للمؤمنين الذاكرين الله كثيرا ، فهو معهم بحفظه لهم وهو معهم بتوفيقه لهم ، وهو معهم بتأييده ونصره لهم ، وهو معهم سبحانه بتمكينهم من العلوم النافعة ، وإمدادهم بالخيرات العاجلة والآجله , روى البخاري ومسلم في الحديث القدسي " أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني " ، الحديث ... فأعظم بها من معية ، لا تعادلها مزية
إذا العناية لاحظتك عيونها فنم فالمخاوف كلهن أمان
كما أن ذكر الله سبحانه وتعالى ، يعد من أقوى أسباب طمأنينة القلب ، وما أحوجنا إليها في هذا الزمان ، الذي كثرت فيه المشاغل الملهية للقلوب ، والمطغية أحيانا والعياذ بالله ، وخير دليل على أن ذكر الله سبحانه سببا لطمأنينة القلوب ، قوله عز من قائل " الدين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب "، قال أحد العلماء " ذكر الله سبحانه من أعظم القربان بل هو طب القلوب ودواؤها وعافية الأبدان وشفاؤها ونور الأبصار وضياؤها به تطمئن القلوب وتنفرج الكروب وتغفر الخطايا والذنوب " . فعليكم بذكر الله بمعناه الخاص والعام ؛ لأنه خير كله في الدنيا والآخرة ، روى أحمد والطبراني أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي المجاهدين أعظم أجرا ؟ قال : أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا ، ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة ، كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا ، قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما : يا أبا حفص .. ذهب الذاكرون بكل خير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أجل " ،، نسأل الله أن يجعلنا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات ، والحمد لله أولا وآخر(/2)
الخَادِمَة
قال: لدي قصة أحب أن أقصها عليك، وإنك لتعلم أني لست ممن يؤلف القصص، ولست ممن يحسن الاستعارة والتشبيه وسائر أبواب المجاز التي تعلمنا أسماءها في المدرسة، فلا تأمل أن تسمع مني قصة أدبية معقودة من وسطها بعقدة فنية، مردودة الأول على الآخر، فيها الصورة النادرة، والفكرة المبتكرة، والأسلوب البارع، فليس عندي من ذلك شيء، وإنما هي واقعة أرويها كما رأيتها وسمعتها، وإن فيها لدرسا نافعا لمن يرى الحياة مدرسة، فهو يدأب على الاستفادة منها والانتفاع بها، فهل تحب أن تسمعها؟
قلت: نعم.
قال: لا أدري من أين أبدأ القصة لتجيء محكمة الوضع يرضى عنها أهل الأدب، فدعني أبدأها من نصفها، فما لك في أولها كبير نفع، وإن أولها ليلخص مع ذلك في كلمة، هي أن لي أقرباء إخوة ثلاثة شبابا أعزابا يقيمون مع أمهم العجوز التي ربتهم وقامت عليهم منذ تركهم لها أبوهم أيتاما صغارا، حتى إذا كلّت وهرمت، وعجزت عن خدمة الدار، ذهبوا يفتشون لها عن خادم تعينها، ولو فتشوا عن ثلاث زوجات لهم لكان ذلك أهون عليهم وأدنى إليهم، فلما طال التفتيش وزادت الحاجة، وجدوا بنتا من (التواني) فقنعوا بها، وأنت تعلم أن (التواني) قرية منزوية ضائعة بين الأدوية المقفرة والجبال، وأن أهلها من أقذر القرويين وأجفاهم وأبعدهم عن المدنية، على صحة فيهم وجمال. وكانت بنتا -كما يقولون- ذكية، فسرعان ما ألفتهم وألفوها، وأقامت فيهم مدة طويلة ما أنكروا منها شيئا، ولم أرها أبدا على كثرة ما كنت أتردد على الدار، حتى كان اليوم الذي جعلته مبدأ قصتي هذه....ِ
وكنت أزور أقربائي هؤلاء، فدعوني إلى الشاي، فإذا هي تدخل فتقدمه إليّ، وإذا فتاة في نحو السادسة عشرة، قد تخمرت بخمار أبيض لفّته من فوق رأسها إلى ما تحت ذقنها، فعل القائمة إلى الصلاة، فسترت به شعرها وجيدها، وبدا منه وجهها مدوّرا أبيض مورّدا يطفح بالصحة والصبوة، ويشع منه السحر والدلال، وكانت تلبس ثوبا قصيرا لا يكاد ينزل علن الركبتين، يكشف عن ساقين بضّتين غضّتين ممتلئتين في غير سمن، ممشوقتين في غير هزال، مصبوبتين صب التمثال، وفوق الثوب صدار من وشي رقيق كالذي تتخذه أنيقات الخادمات، قد شدّ شدّا، فهو يبرز من ورائه نهدين راسخين، يلقيان عليه ظلا لهما خفيفا لا يعرف موقعه من النفس إلا من قرأ سطور النهود في صدور العذارى.... وكانت تحمل الشاي بأكف كأنها خلقت بلا عظام، وكان جسمها ينبض بالعاطفة التي تلين أقسى الرجال، وتستخرج الصبوة من قرارات النفوس فتظهرها، ولو قيدتها قيود من الخلق المتين، ولو غطّتها ستور من الهمّ الدفين، ولو أنساها صاحبها علم يشتغل به، أو مال يسعى وراءه، ولو أن الصبوة قد ماتت، لردّها هذا الجمال المطبوع حيّة.... أما عيناها، فدعني بالله من وصفهما، فما أدري ما لونهما وما شكلهما، فإن لهما سرا يشغلك عن التفكير في وصفهما.... إنهما تروعانك فتبقى معلقا بهما، فإذا حاولت أن تضبط نفسك وتعود إلى ما كنت فيه، لم تشعر إلا وأنت قد عدت إليهما.... إن فيهما مغناطيس يجذب الأبصار والقلوب....
فلما خرجت، قلت: أهذه هي الخادمة القروية التي جئتم بها من (التواني) ؟
قالوا: نعم.
قلت: فأخرجوها من هذه الدار، فإنها أخطر من البارود! فضحكوا وعدوها نكتة.
*********
وعدت مرة أخرى، فإذا هي بلا خمار، فسألتها عنه، فقالت -وياليتها لم تقل، فما كنت أدري أن لها مع جمالها هذا الصوت الذي يرنّ كأجراس الفضة في مواكب الأحلام.. أو كرنّات العيدان في خيال متذكر ليلة غرام- قالت: إني قد استثقلته فألقيته أمام الأقرباء، وأنت منهم (مُشْ هيك) ؟
وشفعتها ببسمة من فيها، وغمزة من مقلتيها، وهزة من كتفيها…. فما هذه البنت؟! ومن أين لها هذا كله؟! صدقني لو أنها ربيت في مسارح (مونمارتر) في باريس لكان هذا كثيرا منها، فكيف تعلمته في مزابل (التواني) ؟!
وعبست فما أحببت أن أوغل معها في هذا الطريق، فولّت ترقص رقصا لا تمشي مشيا، وشعرها الذهبي حقا لا تشبيها، المنشور على كتفيها وظهرها، البالغ حقويها يرقص معها!
وعدت بعد ذلك، فإذا هي قد جزّت شعرها على (الموضة)، وأمرّت يد الزينة على وجه ما يحتاج إلى زينة، وطرحت صدارها، ولبست ثياب فتاة غنية مدللة، لا ثياب خادم، فانفردت بأكبر الإخوة من أقربائي فقلت له: إنك أنت وإخوتك من أمتن الناس خلقا وأقومهم سيرة، ولكن هذه البنت تفتن والله العابد، وتستزل الزاهد، وتحرك الشيخ الفاني.... وإنها لتسحر بكل نظرة وكل حركة، ويكاد جسمها يتفجر إغراء بالمعصية، وإذا أنتم بقيتموها في هذه الدار فما أظن الأمر ينتهي بسلام!
واستجاب لما قلته له، ورآه حقا، فأخرجها وأدخل مكانها زوجة صالحة.
*********(/1)
قال: ودخلت البنت دارا أخرى، دار قوم مترفين منعّمين لا يسألون عن المال أين ذهب، وكانوا كلهم ثلاثة أبا تاجرا جاهلا، همه عمله في النهار، وسهراته في الليل، وأما شغلها ثيابها وزياراتها واستقبالاتها، وولدا شابا في العشرين طالبا في الجامعة صاحب جد ودراسة وخلق ودين، غير أنه كان -ككل الصالحين من لداته- يطوي صدره على مثل البارود المحبوس في القنبلة إذا طار منها مسمار الأمان، أو صدمتها فرجّتها تمزقت ومزقت من حولها! وكانت الصدمة لها هذه الخادمة اللعوب!
وبدأت من اليوم الأول تولي اهتمامها صاحبنا الذي أسميه (الشاب) كراهة أن أصرح باسمه، وتنسج حوله خيوطها.... فإذا ناداها لحاجة له -ولم يكن له بدٌّ من أن يناديها- قفزت قفزة الغزال وأقبلت تحف بها شياطين الشهوة.... فتراه منصرفا عنها، فتبسم له، وتسأله عما يريده، بصوت يقطر فتونا، وتسلط عليه من عينيها مغناطيس مكهربا يذيب القلوب، ولو كانت من صفا الجلمود، وإن أعانته في رفع نضد أو تسوية كرسي أو ناولته شيئا، دنت الملعونة منه حتى لامست بهذا الجسم اللدن الدافئ المكهرب، جسمه القوي القرم إلى (اللحم) ! أو قرّبت وجهها الفاتن من وجهه حتى ليحس لسع أنفاسها، ويشم رائحة جسمها، وإنها لأفتن من كل عطور الدنيا وطيبها، وأين العطر من ريح جسم المرأة؟ أو تتعمد حركة تزيح ثوبها القصير لحظة عن بياض فخذيها. وكان المسكين بشرا، اجتمعت عليه صبوة الحب في نفسه، وإغراء الجمال في خادمته…. وحماقة أبويه اللذين جاءاه بها وغفلا عنه وعنها، وصارا يتركانه معها وحيدين في الدار طول النهار، حتى لقد بعثاها مرة تناوله الصابون في الحمام…. وثار في أول الأمر عليها، وأعرض عنها، ثم أحس أن سمّها سرى في جسده وروحه، فاستنفر آخر قوى الفضيلة في نفسه وألح على أبويه في إخراجها من المنزل، فأبيا، وكيف يفرطان فيها وقد وجداها بعد طول البحث، وكبير العناء؟ وهل تدع (السّت) زياراتها وسينماها، وتشتغل هي: بالطبخ والكنس لمجرد أن البنت الخادمة جميلة و (دلّوعة) ويخشى منها؟ كلام فارغ!
هكذا كان يفكر الأبوان المحترمان…. وضربا بالعمى عن حقيقة لا تخفى على عاقل، هي أن الرجل والمرأة حيثما التقيا وكيفما اجتمعا: معلما وتلميذة، وطبيبا وممرضة، ومديرا وسكرتيرة، وشيخا ومريدة، فإنهما يبقيان رجلا وامرأة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلا رجل بامرأة (هكذا، على الإطلاق) إلا كان الشيطان ثالثهما".
ومرض الشاب، وعجز عن الاحتمال.... فكانت الخادمة هي التي تقوم على خدمته، وتصرم الليل كله ساهرة عليه، وتبدل ثيابه فتراه كما هو وتستبيح بالنظر واللمس كل إصبع في جسده، وهو لا يحس بها، حتى إذا تماثل للشفاء، ومرّ في طريق النقاهة رآها إلى جانبه، وكان المرض قد أضعف عزمه وأوهن إرادته، فانكسر السد وطغى الحب.... وفي ليلة كان النعاس قد نال منها، حلف عليها إلا أن تستريح وتنام، وكان في الغرفة سرير آخر فاستلقت عليه أمامه.... وكان هذا أكثر من أن تتحمله أعصاب رجل في الدنيا، فطار النعاس، وكانت النتيجة المحتومة لهذه المقدمات! ودخلت (الست) في الصباح، فرأت الخادمة بين ذراعي ابنها!!
صحت البنت من سكرتها، وصحا الأهلون وأرادوا إصلاح ما فسد، وهيهات! إن الماء قد انسفح على الرمل فمن يردّ الماء المسفوح؟ وعود الكبريت قد احترق فمن يعيد العود المحروق؟ وعرض البنت قد مزق فمن يرتق العرض الممزق؟ لا أحد!
ووثبوا يفتشون كالمجانين عن طريق الخلاص، وأقبل الشيطان مرة ثانية، وكانت المؤامرة، وانجلت عن ستر هذه الجناية بجناية أخرى، هي أن ترد البنت إلى أبيها الذي يطلبها ليزوجها من ابن عمها، وقبلت، وماذا تصنع إذا هي لم تقبل؟
وكان الفصل الآخر من المأساة وإني سأختصره اختصارا:ِ
دبّر الأمر على عجل، وعقد العقد، وسيقت العروس (الشامية....) إلى الشاب القروي، وحسب المسكين كأنما رأى ليلة القدر فدعا فهبطت عليه حوراء من حور الجنان.... وكان الدخول، واحتوى بين ذراعيه الخشنتين ذلك الجسم الذي تتقطع عليه نفوس أبناء الأمراء حسرات و.... فإذا الثمرة مقطوفة!ِ
قلت: ثم ماذا؟ِ
قال: ماذا؟ صار ابن العم في السجن، والبنت في القبر! وأسدل الستار على فصل جديد من هذه المأساة التي تتكرر فصولها دائما في بيوت الشام.(/2)
الخِصالُ المُكَفِّرَةُ للذنوب
• ... المقدمة
• ... التمهيد
• ... تقسيم المعاصي إلى صغائر وكبائر
• ... توضيح المراد بحقوق الله وحقوق العباد
• ... أثر التوبة على حقوق الله وحقوق العباد
• ... المبحث الأول : الخصال المكفرة للذنوب
• ... المبحث الثاني : كلام أهل العلم على الأحاديث السابقة
• ... المبحث الثالث : تكفير الحج للذنوب
• ... المبحث الرابع : كلام أهل العلم في قوله تعالى ( إن الحسنات يذهبن السيئات )
• ... المبحث الخامس : ترجمة الخطيب الشربيني
• ... مصنفاته
• ... المبحث السادس : وصف المخطوطة
• ... نص المخطوط محققاً
• ... قائمة المصادر
المقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) سورة آل عمران الآية 102 .
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) سورة النساء الآية 1 .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) سورة الأحزاب الآيتان 70-71 .
وبعد …
فإنه أثناء قيامي بفهرسة مخطوطات مؤسسة إحياء التراث الإسلامي في بيت المقدس ، التابعة لوزارة الأوقاف الفلسطينية ، عثرت على مخطوطة صغيرة ، ضمن مجموعة مخطوطات ، وهذه المخطوطة الصغيرة ، عبارة عن سؤال وُجِهَ إلى العلامة الخطيب الشربيني حول تكفير الحج للذنوب ، فأجاب عنه إجابة موجزة .
فرغبت في نشر هذه المخطوطة ، ليُنتفعَ بها ، وقد دعاني هذا إلى توضيح بعض القضايا المتعلقة بموضوع السؤال والجواب ، فتحدثت بإيجاز في التمهيد ، عن تقسيم المعاصي إلى صغائر وكبائر ، ثم بينت المراد بحقوق الله وحقوق العباد ، ووضحت أثر التوبة على حقوق الله وحقوق العباد .
وفي المبحث الأول ذكرت طائفة عطرة من الأحاديث النبوية الواردة في الخصال المكفرة للذنوب .
وفي المبحث الثاني ذكرت كلام أهل العلم على الأحاديث السابقة الذكر ، وماهية الذنوب التي تكفرها الأعمال الصالحة ، وهل يدخل في ذلك الكبائر أم لا ؟
وفي المبحث الثالث تكلمت على تكفير الحج للذنوب ، وذكرت كلام أهل العلم في ذلك ، وخصصت الحج بالكلام لأنه موضوع المخطوطة .
وفي المبحث الرابع ذكرت كلام أهل العلم على قوله تعالى :
( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) سورة هود الآية 114 ، حيث إن كثيراً من أهل العلم ، قد استدلوا بهذه الآية الكريمة على غفران الذنوب صغيرها وكبيرها .
وفي المبحث الخامس : تحدثت بإيجاز عن العلامة الخطيب الشربيني ، فذكرت اسمه ونسبه وثناء العلماء عليه ومؤلفاته .
وفي المبحث السادس : قدَّمت نص المخطوطة محققاً ومعلقاً عليه .
ثم أتبعت ذلك بفهرس المصادر وفهرس المحتويات .
وفي الختام ، فإني أرجو أن ينتفع العبد الفقير المذنب ، بهذا الكتاب وأن يحافظ على الخصال المكفرة للذنوب ، وكذا إخواني المسلمين ، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم ، أن يغفر لي ولكم ولجميع المسلمين .
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه د. حسام الدين بن موسى عفانه
القدس - أبوديس
ضحى يوم الجمعة السابع من صفر الخير 1423هـ
وفق التاسع عشر من نيسان 2002 م
تمهيد
ويشمل ما يلي :
1- تقسيم المعاصي إلى صغائر وكبائر .
2- توضيح المراد بحقوق الله وحقوق العباد .
3- أثر التوبة على حقوق الله وحقوق العباد .
أولاً : تقسيم المعاصي إلى صغائر وكبائر :
اعلم أن جماهير العلماء قد قالوا إن المعاصي والذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر ، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة أذكر بعضها :
قول الله عز وجل :( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) سورة النساء الآية 31 .
وقوله تعالى :( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) سورة الشورى الآية 37 .
وقوله تعالى :( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) سورة النجم الآية 32 .(/1)
وعن أنس بن مالك رضي االله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال :( الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين ، وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قال : قول الزور ، أو قال شهادة الزور ) رواه البخاري ومسلم .
وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً ، الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور أو قول الزور ، وكان رسول الله متكئاً فجلس ، فما زال يكررها حتى قلنا يا ليته سكت ) رواه البخاري ومسلم .
وعن أبي هريرة رضي االله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر ) رواه مسلم .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه ، قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ) رواه البخاري .
وعن نعيم المجمر أن صهيباً مولى العتواريين حدثه أنه سمع أبا هريرة وأبا سعيد الخدري رضي الله عنهما يخبران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أنه جلس على المنبر ثم قال والذي نفسي بيده ثلاث مرات ، ثم سكت فأكب كل رجل منا يبكي حزناً ليمين رسول الله ، ثم قال : ما من عبد يؤدي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى إنها لتصطفق ثم تلى :( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ ) رواه النسائي وابن حبان وابن خزيمة .
وعن أنس رضي االله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) رواه الترمذي ، وقال حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه ، ورواه الحاكم وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ . وغير ذلك من النصوص .
ولكن أهل العلم اختلفوا في حقيقة الكبيرة ، وهذه بعض أقوالهم :
فمنهم من يرى أن الكبيرة هي ما لحق صاحبها بخصوصها وعيد شديد بنص من القرآن الكريم أو السنة النبوية ، قال ابن عباس رضي الله عنهما :[ الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ] تفسير القرطبي 5/159 .
ومن العلماء من يرى أن الكبيرة هي كل معصية أوجبت الحد .
ومنهم من يرى أن الكبيرة هي كل محرم لعينه ، منهيٌ عنه لمعنى في نفسه ، فإن فُعل على وجهٍ يجمع وجهين أو وجوهاً من التحريم كان فاحشة ، فالزنا كبيرة ، وأن يزني الرجل بزوجة جاره فاحشة .
وقال الواحدي المفسر:[ الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به ، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها ، ولكن الله عز وجل أخفى ذلك عن العباد ، ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر ، ونظائره إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة ونحو ذلك ] الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/16 .
وقد لخَّص الشيخ ابن حجر المكي تعريفات العلماء للكبيرة فذكر ما يلي :
أحدها : أنها ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيدٌ شديدٌ بنص كتاب أو سنة .
ثانيها : أنها كل معصية أوجبت الحد .
ثالثها : أنها كل ما نص الكتاب على تحريمه ، أو وجب في جنسه حدٌ وترك فريضة تجب فوراً .
رابعها : كل جريمة تعلم بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة .
خامسها : أنها ما أوجبت الحد ، أو توجه إليه الوعيد .
سادسها : أنها كل محرم لعينه منهيٌ عنه لمعنى في نفسه .
سابعها : أنها كل فعل نص الكتاب على تحريمه ، أي بلفظ التحريم وهو أربعة أشياء : أكل لحم الميتة والخنزير ومال اليتيم ونحوه والفرار من الزحف ، ورُدَّ بمنع الحصر في الأربعة .
ثامنها : أنه لا حدَّ لها يحصرها يعرفه العباد . وغير ذلك من الأقوال الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/14 - 16 .
ثم ذكر ابن حجر المكي طائفةً من أقوال العلماء في الكبيرة :
قول ابن عباس :[ الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار ، أو غضب أو لعنة أو عذاب ] .
قول الحسن البصري وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك :[ كل ذنب أوعد فاعله بالنار ] .
قول الغزالي :[ كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف ووجدان ندم تهاوناً واستجراءً عليها فهي كبيرة ، وما يحمل على فلتات النفس ولا ينفك عن ندم يمتزج بها وينغص التلذذ بها فليس بكبيرة ] .
وقال الغزالي في موضع آخر :[ ولا مطمع في معرفة الكبائر مع الحصر، إذ لا يعرف ذلك إلا بالسمع ولم يرد ] .
قول العز بن عبد السلام :[ الأولى ضبط الكبيرة بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعار صغر الكبائر المنصوص عليها قال : وإذ أردت الفرق بين الصغيرة والكبيرة ، فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها ، فإن نقصت عن أقل الكبائر فهي صغيرة وإلا فكبيرة ](/2)
قول ابن صلاح في فتاويه :[ الكبيرة كل ذنب عظم عظماً يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبيرة ، ويوصف بكونه عظيماً على الإطلاق ، ولها أمارات منها : إيجاب الحد .
ومنها : الإيعاد عليه بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة .
ومنها : وصف فاعلها بالفسق .
ومنها : اللعن ] .
وقال البارزي :[ والتحقيق أن الكبيرة كل ذنب قرن به وعيد أو لعن بنص كتاب أو سنة ، أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به وعيد ، أو حد أو لعن أو أكثر من مفسدته أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها ] .
واعلم أن كل ما سبق من الحدود إنما قصدوا به التقريب فقط ، وإلا فهي ليست بحدود جامعة وكيف يمكن ضبط ما لا طمع في ضبطه ] الزواجر 1/17-19 .
والذي عليه أكثر أهل العلم أن كبائر الذنوب كثيرة ، وليست محصورة في عدد معين ، وإن ذكر في بعض الأحاديث عددها ، فليس المراد الحصر ، فمن ذلك ما ورد في الحديث ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً ، الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور أو قول الزور ، وكان رسول الله متكئاً فجلس ، فما زال يكررها حتى قلنا يا ليته سكت ) رواه البخاري ومسلم .
وعن أنس بن مالك رضي االله عنه قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال :( الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قال قول الزور ، أو قال شهادة الزور ) رواه مسلم .
وعن أبي هريرة رضي االله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( اجتنبوا السبع الموبقات ، قيل يا رسول الله وما هن ؟ قال:الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) رواه البخاري ومسلم .
قال الإمام النووي:[ وأما قوله صلى الله عليه وسلم :( الكبائر سبع ) فالمراد به من الكبائر سبع، فإن هذه الصيغة وإن كانت للعموم ، فهي مخصوصة بلا شك ، وإنما وقع الاقتصار على هذه السبع وفي الأخرى ثلاث ، وفي الرواية الأخرى أربع ، لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها لا سيما فيما كانت عليه الجاهلية ولم يذكر في بعضها ما ذكر في الأخرى ، وهذا مصرح بما ذكرته من أن المراد البعض ] شرح النووي على صحيح مسلم 1/264 .
ويؤيد عدم انحصار الكبائر في سبع ، أو ثلاث ، أو أربع ، ما ورد عن ابن عباس رضي االله عنه ، أنه لما سئل عن الكبائر أسبعٌ هي ؟ فقال: هي إلى سبعين أقرب .
وقال سعيد بن جبير :[ قال رجل لابن عباس الكبائر سبع ؟ قال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع ، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار ] . انظر تفسير القرطبي 5/159 .
وهذا هو الراجح إن شاء الله ، وهو أن الكبائر ليست محصورة في عدد معين ، وقد ذكر الإمام ابن حجر المكي يرحمه الله عدداً كبيراً من الذنوب التي تعد من الكبائر وساق الأدلة على ذلك فمن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتابه القيم الزواجر عن اقتراف الكبائر .
ثانياً : توضيح المراد بحقوق الله وحقوق العباد:
قسم جمهور الفقهاء والأصوليين الحق باعتبار صاحب الحق إلى أربعة أقسام وهي :
أولاً : حق الله تعالى ويسمى الحق العام :
وهو ما قصد به التقرب إلى الله تعالى وتعظيمه وإقامة شعائر دينه ، أو قصد به تحقيق النفع العام دون اختصاص بأحد ، ونسب هذا الحق لله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه كما قاله ابن نجيم الحنفي في فتح الغفار 3/59 .
وحق الله تعالى يشمل الإيمان به جلَّ جلاله ، والصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وإقامة الحدود والكفارات وغير ذلك . انظر الفروق 1/140-141 ، أصول الفقه لأبي زهرة ص 323 - 326 ، نظرية الحكم القضائي ص 239-242 ، الفقه الإسلامي وأدلته 4/13-15 ، الموسوعة الفقهية 18/14-19 .
ثانياً : حق العبد المحض :
وهو ما كان متعلقاً بمصالح الإنسان الخالصة ، قال القرافي :[ وحق العبد مصالحه ] الفروق 1/140 .
وحق العبد المحض يشمل الحقوق المالية ، قال الشيخ محمد أبو زهرة :[ حقوق العباد الخالصة وذلك كالديون والأملاك وحق الوراثة وغير ذلك مما يتعلق بالأموال نقلاً وبقاءً ، فهذه كلها حقوق العباد خالصة والاعتداء على حقوق العباد ظلم ، ولا يقبل الله تعالى توبة عبد قد أكل حقاً من حقوق العباد إلا إذا أداه أو أسقطه صاحبه وعفا ] أصول الفقه ص324 .
وحق العبد يقبل الإسقاط ، فإذا أسقط إنسان حقاً له على غيره فله ذلك ، قال القرافي :[ ونعني بحق العبد المحض أنه لو أسقطه لسقط ] الفروق 1/141 .
ثالثاً : ما اجتمع فيه حق الله وحق العبد وحق الله غالب :
ومثاله حد القذف فهو من جهة أن فيه مساً بأعراض الناس علناً فهو حق لله تعالى ، ومن جهة أن المقذوف بالزنى قد اتهم في عرضه فهو حق له ولكن حق الله غالب فيه .(/3)
وكذلك حد السرقة بعد أن يبلغ الإمام ، وكذلك عدة المطلقة وعدة المتوفى عنها زوجها ، فحق الله فيها صيانة الأنساب عن الاختلاط وحماية المجتمع من الفوضى ، وأما حق العبد فيها فهو المحافظة على نسب أولاد الزوج وحق الله غالب . نظرية الحكم القضائي ص 242 ، أصول أبو زهرة ص 324-325 الفقه الإسلامي وأدلته 4/15 الموسوعة الفقهية 18/18 .
رابعاً : ما اجتمع فيه حق الله وحق العبد وحق العبد الغالب :
ومثاله القصاص وعقوبات الدماء بشكل عام كالديات .
[ فالقصاص لله فيه حق لأنه اعتداء على المجتمع واعتداء على مخلوق الله وعبده ، الذي حرم دمه إلا بحق ، ولله في نفس العبد حق الاستعباد حيث قال عز وجل :( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) سورة الذاريات الآية 56 . وللعبد في القصاص حق ، لأن القتل العمد اعتداء على شخصه لأن للعبد المقتول في نفسه حق الحياة وحق الاستمتاع بها فحرمه القاتل من حقه وهو اعتداء على أولياء المقتول لأنه حرمهم من رعاية مورثهم واستمتاعهم بحياته فكان القتل العمد اعتداء على حق الله وحق العبد ولذلك كان في شرعية القصاص إبقاء للحقين وإخلاء للعالم من الفساد ، تصديقاً لقول الله تعالى :( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) سورة البقرة الآية 179 .
وغلب حق العبد لأن ولي المقتول يملك رفع دعوى القصاص أو عدم رفعها وبعد المطالبة بالقصاص والحكم على الجاني القاتل يملك التنازل عنه والصلح على مال أو الصلح بغير عوض كما يملك تنفيذ حكم القصاص على القاتل إن أراد ذلك وكان يتقن التنفيذ ولا يجوز ذلك إلا بإذن الحاكم لئلا يفتات عليه فلو فعل وقع القصاص موقعه واستحق التعزير ] الموسوعة الفقهية 18/ 18-19.
ثالثاً : أثر التوبة على حقوق الله وحقوق العباد :
اعلم أن المعصية إذا كانت متعلقة بحقوق الله المالية فلا بد للتائب منها أن يؤدي حقوق الله تعالى، ولا يكفي مجرد الإقلاع عن المعصية .
قال الإمام النووي : [ … ثم إن كانت المعصية لا يتعلق بها حق مالي لله تعالى ولا للعباد ، كقبلة الأجنبية ومباشرتها فيما دون الفرج فلا شيء عليه سوى ذلك ، وإن تعلق بها حق مالي كمنع الزكاة والغصب والجنايات في أموال الناس وجب مع ذلك تبرئة الذمة عنه ] روضة الطالبين 11/245- 246.
وذكر الخطيب الشربيني أن حق الله تعالى كالزكاة والكفارات لابد من أدائها . مغني المحتاج 4/440 .
وقال الإمام النووي أيضاً :[ وإن تعلق بالمعصية حق ليس بمالي ، فإن كان حداً لله تعالى بأن زنى أو شرب الخمر ، فإن لم يظهر عليه فله أن يظهره ويقر به ليقام عليه الحد ، ويجوز أن يستر على نفسه وهو الأفضل ، فإن ظهر فقد فات الستر فيأتي الإمام ليقيم عليه الحد ] روضة الطالبين 11/ 246- 247 .
وكلام النووي يدل على أن الحدود المختصة بالله تعالى كحد الزنا والسرقة وشرب الخمر لا تسقط بمجرد التوبة ، ولا بد من إقامة الحد وهذا مذهب جمهور الفقهاء . انظر الموسوعة الفقهية 18/18-19.
وكذلك فإنه من المقرر عند العلماء أن من شروط التوبة من المعصية المتعلقة بالناس رَدُّ الحقوق لأصحابها
قال الإمام النووي :[ وإن تعلق بها حق مالي كمنع الزكاة والغصب والجنايات في أموال الناس ، وجب مع ذلك تبرئة الذمة عنه بأن يؤدي الزكاة ويرد أموال الناس إن بقيت ، ويغرم بدلها إن لم تبق ، أو يستحل المستحق فيبرئه ، ويجب أن يعلم المستحق إن لم يعلم به، وأن يوصله إليه إن كان غائباً إن كان غصبه منه هناك ، فإن مات سلَّمه إلى وارثه ، فإن لم يكن له وارث وانقطع خبره ، دفعه إلى قاضٍ تُرضى سيرتهُ وديانته ، فإن تعذر تصدق به على الفقراء بنية الغرامة له إن وجده … وإن كان معسراً نوى الغرامة إذا قدر ، فإن مات قبل القدرة فالمرجو من فضل الله تعالى المغفرة .
قلت - أي النووي - ظواهر السنن الصحيحة تقتضي ثبوت المطالبة بالظلامة ، وإن مات معسراً عاجزاً إذا كان عاصياً بالتزامها ، فأما إذا استدان في مواضع يباح له الاستدانة واستمر عجزه عن الوفاء حتى مات ، أو أتلف شيئاً خطأً وعجز عن غرامته حتى مات ، فالظاهر أن هذا لا مطالبة في حقه في الآخرة ، إذ لا معصية منه والمرجو أن الله تعالى يعوض صاحب الحق ] . روضة الطالبين 11/245- 246 .
وقال النووي أيضاً : [ وإن كان حقاً للعباد كالقصاص وحد القذف فيأتي المستحق ويمكنه من الاستيفاء فإن لم يعلم المستحق وجب في القصاص أن يعلمه فيقول أنا الذي قتلت أباك ولزمني القصاص ، فإن شئت فاقتص وإن شئت فاعف …
وأما الغيبة إذا لم تبلغ المغتاب فرأيت في فتاوى الحناطي أنه يكفيه الندم والاستغفار وإن بلغته … فالطريق أن يأتي المغتاب ويستحل منه فإن تعذر لموته أو تعسر لغيبته البعيدة استغفر الله تعالى ولا اعتبار بتحليل الورثة هكذا ذكره الحناطي ] . روضة الطالبين11/ 247 .
وذكر الشيخ أحمد النفراوي المالكي أن الإسنوي والسنوسي قالا :(/4)
[ التوبة من الغصب والسرقة والحرابة ونحو ذلك يشترط في صحتها رد المغصوب ] . الفواكه الدواني 1/ 76 .
وقال النفراوي أيضاً :[ وإن تعلقت - المعصية - بحقوق العباد لزم مع الندم رضا العبد أو بذله إليه إن كان الذنب ظلماً كما في الغصب وقتل العمد ] الفواكه الدواني 1/ 76 .
وقال النفراوي أيضاً :[ ومن واجبات التوبة رد المظالم إلى أهلها بأن يدفعها إليهم إن كانت أموالاً ولو أتى ذلك على جميع ما عنده أو يردها إلى الوارث فإن لم يجد له وارثاً تصدق به على المظلوم .
وإن كانت أعراضاً كقذف أو غيبة استحلل المقذوف أو المغتاب إن كان حياً وإن وجده مات فيكثر من فعل الحسنات ليعطي منها المظلوم ] الفواكه الدواني 2/ 301 .
وقال الشيخ أحمد النفراوي المالكي:[ وأما تبعات العباد فلا يكفرها التوبة ، بل لا بد من استحلال أربابها ، لأن حقوق العباد لا يقال لها ذنوب ] الفواكه الدواني 2/ 302 .
وقال الخطيب الشربيني :[ يشترط في التوبة منها إقلاع عنها وندم عليها وعزم أن لا يعود لها وردُّ ظلامة آدمي من مال وغيره وقصاص وحد قذف إن تعلقت به والله أعلم ، فيؤدي الزكاة لمستحقها ويرد المغصوب إن بقي وبدله إن تلف لمستحقه أو يستحق منه أو من ورائه ويعلمه إن لم يعلم فإن لم يوجد مستحق أو انقطع خبره سلمها إلى قاض أمين فإن تعذر تصدق بها ويؤدي الغرم أو يتركها عنده ] . مغني المحتاج 4/ 439 .
المبحث الأول
الخصال المكفرة للذنوب
ثبت عن النبيصلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أن الأعمال الصالحة تكفر الذنوب وتمحها ومن هذه الأعمال ما يلي :
أولاً : الوضوء وقد جاء فيه أحاديث كثيرة منها :
عن حمران أنه قال : فلما توضأ عثمان قال والله لأحدثنكم حديثاً والله لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يتوضأ رجل فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها ) قال عروة الآية :( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى … اللَّاعِنُونَ ) . رواه مسلم
وعن عثمان رضي االله عنه أنه دعا بطهور ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله ) رواه مسلم .
وعن عثمان بن عفان رضي االله عنه أنه دعا بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاث مرات ثم مضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاث مرات ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك ثم مسح رأسه ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ثم غسل اليسرى مثل ذلك ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فركع ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ) رواه مسلم .
وعن حمران مولى عثمان قال أتيت عثمان بن عفان بوضوء فتوضأ ثم قال إن ناساً يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث لا أدري ما هي إلا أني رأيت رسول الله توضأ مثل وضوئي هذا ثم قال :( من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة ) رواه مسلم .
وعن أبي هريرة رضي االله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً ما تقول ذلك يبقي من درنه ، قالوا لا يبقي من درنه شيئاً ، قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا ) رواه البخاري .
وعن مسعر عن جامع بن شداد أبي صخرة قال سمعت حمران بن أبان قال كنت أضع لعثمان طهوره فما أتى عليه يوم إلا وهو يفيض عليه نطفة وقال عثمان حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند انصرافنا من صلاتنا هذه قال مسعر أراها العصر فقال ما أدري أحدثكم بشيء أو أسكت فقلنا : يا رسول الله إن كان خيراً فحدثنا وإن كان غير ذلك فالله ورسوله أعلم قال :( ما من مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب الله عليه فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارات لما بينها ) رواه مسلم .
وعن أبي هريرة رضي االله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كانت بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب ) . رواه مسلم .(/5)
وعن عبد الله الصنابجي رضي االله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إذا توضأ العبد فمضمض خرجت الخطايا من فيه ، فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه ، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه ، حتى تخرج من تحت أشفار عينيه ، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه ، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه ، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه ، ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة ) . رواه مالك والنسائي وابن ماجة والحاكم وقال : صحيح على شرطهما ولا علة له ، والصنابجي صحابي مشهور . وقال الألباني : صحيح .
وعن عمرو بن عبسة السلمي رضي االله عنه قال : كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان فسمعت برجل في مكة يخبر أخباراً فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث إلى أن قال : فقلت : يا نبي الله فالوضوء حدثني عنه ؟ فقال :( ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ثم يغسل رجليه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء فإن هو قام فصلى فحمد الله تعالى وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله تعالى إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه ) رواه مسلم .
وعن أبي أمامة رضي االله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أيما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفيه نزلت كل خطيئة من كفيه مع أول قطرة فإذا مضمض واستنشق واستنثر نزلت خطيئته من لسانه وشفتيه مع أول قطرة فإذا غسل وجهه نزلت كل خطيئة من سمعه وبصره مع أول قطرة فإذا غسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سلم من كل ذنب كهيئته يوم ولدته أمه قال : فإذا قام إلى الصلاة رفع درجته وإن قعد ، قعد سالماً ) رواه أحمد وغيره من طريق عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب وقد حسنها الترمذي لغير هذا المتن وهو إسناد حسن في المتابعات لا بأس به وقال الألباني : صحيح .
وعن علي بن أبي طالب رضي االله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إسباغ الوضوء على المكاره وإعمال الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة يغسل الخطايا غسلاً ) رواه أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم وقال الألباني : صحيح .
وعن أبي هريرة رضي االله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا : بلى يا رسول الله قال : إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط ) رواه مالك ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة بمعناه وقال الألباني : صحيح .
ورواه ابن ماجة أيضاً وابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري إلا أنهما قالا فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا ويزيد به في الحسنات ويكفر به الذنوب ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : إسباغ الوضوء على المكروهات وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ) رواه ابن حبان في صحيحه عن شرحبيل بن سعد عنه . وقال الألباني : صحيح .
وعن أبي أيوب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( من توضأ كما أمر وصلى كما أمر غفر له ما تقدم من عمل ) رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه إلا أنه قال :( غفر له ما تقدم من ذنبه ) وقال الألباني : صحيح .
وعن أبي عثمان قال : كنت مع سلمان رضي االله عنه تحت شجرة فأخذ غصناً منها يابساً فهزه حتى تحات ورقه ثم قال : يا أبا عثمان ألا تسألني لم أفعل هذا ؟ قلت : ولم تفعله ؟ قال : هكذا فعل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه تحت الشجرة فأخذ منها غصناً يابساً فهزه حتى تحات ورقه فقال:( يا سلمان ألا سألتني لماذا أفعل ذلك ؟ قلت: ولم تفعله ؟ قال : إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما تحات هذا الورق وقال : ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) رواه أحمد والنسائي والطبراني ، وقال الألباني : حسن .
ثانياً : الصلوات الخمس :
عن أبي هريرة رضي االله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر ) رواه مسلم .
وعن أبي هريرة رضي االله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ) رواه مسلم .(/6)
وعن أبي وائل عن حذيفة رضي االله عنه قال : قال عمر رضي االله عنه : من يحفظ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة قال حذيفة رضي االله عنه أنا سمعته يقول :( فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة … ) رواه البخاري ومسلم .
وقد سبق في إحدى روايات حديث عثمان رضي االله عنه قوله صلى الله عليه وسلم :( ما من مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب الله عليه فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارات لما بينها ) رواه مسلم .(/7)
الداعية د. جعفر شيخ إدريس في حوار
(الشبكة الإسلامية) الرياض - عبد الحي شاهين
الغربيون مغرورون, والأمريكيون يقولون كما قال قوم عاد (من أشد منا قوة).
أمراض العالم الإسلامي تنقل إلى كل مكان يذهب إليه المسلمون, وبعض الجهات عرقلت الدعوة إلى الإسلام.
اليهود يقولون عن الإسلام والحركات الإسلامية كلامًا نحن نقول ليته كان صحيحا، والأمريكيون يريدون أن يتهموا كل من ينتقد إسرائيل بمعاداة السامية !
الحكومة الأمريكية خائفة من مهاجمة ومنافسة الحضارة الإسلامية، وحوادث سبتمبر منحت الفرصة للتضييق على المسلمين.
ـــــــــ
قال الداعية الدكتور جعفر شيخ إدريس : إن على العالم الإسلامي أن يهتم بعد الآن بالمسلمين الغربيين ليكونوا قوة ضغط مناصرة للمسلمين في قضاياهم السياسية ضد اللوبي الصهيوني النافذ وسط الدوائر الرسمية في دول الغرب.
وأضاف الدكتور جعفر، الذي يرأس مجلس إدارة الجامعة الإسلامية المفتوحة في أمريكا، أن جمعيات الضغط الصهيونية والنصرانية تلعب دورا كبيرا في تشويه صورة الإسلام والمسلمين وتقدمهم كإرهابيين وبرابرة, وقال : إن الغرب يعتبر المواجهات بين المسلمين والدول الغربية, نوعًا من صراع الحضارات, مشيرا إلى إمكانية أن يحل هذا الصراع باستخدام الحوار المباشر والفاعل . وفيما يلي نص الحوار :
يتحدث كثيرون عن صراع بين الإسلام والغرب , ما دوافع هذا الصراع ؟
الصراع بمعنى أن يكون الإسلام مختلفًا عن الغرب في عقائده الأساسية فهذا أمر بديهي, فالعالم الإسلامي مبني على عقائد الدين الإسلامي، وهي ألا يعبد إلا الله سبحانه وتعالى، وأن يشهد أن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وخاتم النبيين، وأن القرآن حق وهكذا, أما الغرب فتتقاسمه اعتقادات مختلفة، فهناك العقيدة النصرانية باختلاف طوائفها, ثم هناك العقيدة اليهودية, لكن الغالب على الغرب من الناحية العملية، بغض النظر عن الانتماءات الدينية, هو عدم أخذ الدين مأخذ الجد ووضعه في ركن من أركان الحياة، فلا يتدخل في السياسة ولا في الاقتصاد ولا يراعى في القرارات الديمقراطية، مثل القرار الذي أقره البرلمان البريطاني قبل أيام بالسماح للشاذين جنسيا من الرجال بتبني الأطفال, فهم لا يراعون الناحية الدينية التي هي أساس الصراع, وأجد نفسي متفقا مع هنتنغتون في رأيه أن لب الحضارة هو الدين, وإذا كنا مختلفين مع الغرب في لب الحضارة فبيننا خلاف حضاري بجانب ما بيننا من اختلافات في المصالح، وهنالك خلافات سببها الناحية التاريخية، والغربيون والمسلمون لا ينسون الحروب الصليبية, وأن الغرب سيطر على العالم الإسلامي بقوة السلاح, وهنتنغتون نفسه يعترف بذلك في كتابه حيث يقول : ( لم نقنع الناس بفكرنا ولا غيره، لكن هزمناهم بقوة السلاح، وإن المسلمين لم ينسوا هذا أبدا) , وكلامه في هذا صحيح, لكن هذا الصراع يمكن أن يحل بغير السلاح, باستخدام الحوار المباشر والفاعل، لكن تقسيم هنتنغتون للحضارات بأنها الحضارة الإسلامية مع الكونفوشية ضد الغرب، هو تقسيم خاطئ، فلو أخذنا في الاعتبار كلامه السابق بأن لب الحضارة هو الدين، فمن المؤكد أن الإسلام والنصرانية أقرب إلى بعضهما من الكونفوشية، فوضع الإسلام مع الكونفوشية من الناحية الدينية خطأ, أما من الناحية السياسية فمرد ذلك أن مشكلة الحضارة الغربية ممثلة في أمريكا خصوصا- مع أنها دولة قوية وذات اقتصاد ضخم - لكنها تعيش حالة هلع خشية أن تزول سيطرتها وقوتها، ولذلك لا تريد لأي دولة أخرى أن يكون لديها قوة، فربما هذا يجعل الحضارة الإسلامية فعلا تتعاون مع الحضارات الأخرى التي تستهدف الغرب بقيادة الولايات المتحدة ويستهدفهم الغرب كذلك، ويحاول أن يكبتهم بمنعهم من التقدم أو يكبت لديهم أي نوع من القوة.
هل ترون أن ذهنية الحروب الصليبية ما تزال تسيطر على الغرب, وكيف يفهم خطاب بوش الأخير بعد أحداث سبتمبر الذي تعرض فيه إلى ذكر كلمة الحرب الصليبية ؟
كلمة "كروسيد" التي استخدمها بوش تستخدم أحيانا مجازا ولا تستعمل بمعنى الدين أو الصليبية, وكل عمل قوي حتى لو كان من الناحية المعنوية يسمونه كروسيد، وأظنه قصد هذا المعنى، لكن ربما كانت زلة منه, ولذلك انتقده فيها بعض الأمريكيين، ومنذ ذلك الوقت لم تتكرر أبدا, لكن الرئيس الأمريكي فعلا ينظر إلى هذا الصراع من الناحية الدينية، ويعتبر أن كل هذه الدول وكل هذه الأشكال من الحكومات الإسلامية والجماعات يجمعها الإسلام، وأنها خطر على الغرب, لكن من ناحية المسلمين فهم حتى لا ينطلقون من ناحية إسلامية، ولا ينظرون إلى الغرب على أنه خصم من الناحية الدينية, الدول الغربية تأثرت في نظرتها بالفكرة الغربية القومية التي ما كانت عند المسلمين أبدا.
في ظل هذا الصراع ماذا عن إمكانية الحوار؟(/1)
الحوار بالنسبة للمسلم لا ينقطع, ونحن مستعدون دائمًا لكل من يريد أن يحاورنا حتى لو كان أكبر الأعداء, والله سبحانه وتعالى أمرنا بالدعوة والتي لا بد لها من حوار، والذي يسميه القرآن المجادلة, فعندما تدعو إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، أحيانا تثير هذه الدعوة عند من دعوته أسئلة واعتراضات فيحتاج إلى حوار، لذلك قال الله سبحانه وتعالى : (وجادلهم بالتي هي أحسن) حتى إن بعض العلماء قالوا : إن من الخطأ أن يقال بأن الدعوة هي بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار, حيث إن هذين شيئان مختلفان، فيجب أن ندعو بالحكمة والموعظة الحسنة ، وبعد ذلك نجادلهم، أي "جادلهم" معطوفة على "ادع" وهما شيئان مختلفان، فكل من يستمع إلى الدعوة ويعرف شيئًا عن الإسلام ويريد أن يحاورنا فأهلا به, حيث تكمن قوتنا الحقيقية في أن الحق معنا، فالحوار دائما في مصلحتنا إن شاء الله, وإذا كنا الآن ضعفاء من الناحية الاقتصادية والإعلامية ومن ناحية السلاح المادي, فما نزال أقوياء من ناحية الدين الذي نحمله، وهذا هو السبب في أن الناس في الغرب يسلمون، ولا أحد من العالم الإسلامي يتنصر أو يتحول عن دينه، بسبب امتلاكنا لقوة الحق, وكثير من العقلاء إذا عرفوا الإسلام رأوا فيه أنه الدين الحق , فالله سبحانه وتعالى أمرنا بالدعوة قبل الأمر بالقتال وأمرنا بالجهاد بالقرآن قبل الجهاد بالسنان ، وقال : (وجاهدهم به جهادًا كبيرًا) حتى بعد أن أذن للمسلمين أن يقاتلوا وبعد أن أمروا بالقتال لم يتوقف الأمر بالدعوة بالتي هي أحسن ولا بالمجادلة, فالحوار واجب، وإذا طلب غير المسلم الحوار فيجب أن نراه واجبا شرعيا.
الدين الإسلامي يدعو إلى الحوار والتسامح لكن من نحاوره (الغرب) غير جاد في ذلك وخطابه غالبًا ما يكون استعلائيًا ؟
نعم هناك استعلاء والغربيون مغرورون فعلاً, والأمريكيون يقولون كما قال قوم عاد : (من أشد منا قوة) ويقولون : ليس هناك دولة في التاريخ كان لها من القوة ما لنا ، ويرون نظامهم السياسي هو النظام الأمثل، وإذا نظرت إلى العالم ورأيت كيف أن الناس في العالم كله معجبون بالديمقراطية، ولا أحد ينتقدها إلا الغربيون أنفسهم, فكأن النظام السياسي الغربي صار حتى بالنسبة لأعداء الغرب هو النظام النموذجي الذي ينبغي أن يحتذى، وهذا يغرهم, ويدعون كذلك أن النظام الرأسمالي هو الذي جعلهم أقوياء من الناحية الاقتصادية, وأن جميع البشر يريدون أن يحتذوا بهم, فهم لديهم الأسباب التي تجعلهم مغرورين، لكن هنالك كثير من العقلاء منهم, ينظرون إلى ما وراء هذا، وإلى الأسئلة الأساسية في هذه الحياة عن الخالق سبحانه وتعالى وعن حقوقه، وكثير ممن يسلمون - إن لم يكونوا جميعهم - فإن سبب انتقالهم من النصرانية إلى الإسلام هو عدم اقتناعهم بأنه يمكن أن يكون للخالق (ولد), نعم هنالك كثير منهم يتحدث بغير موضوعية كالبيان الذي أخرجه مجموعة من المثقفين الأمريكيين، ورد عليه مجموعة من المثقفين العرب، وهو فعلاً فيه نوع من الاستعلاء, وقد رد عليه أيضا مجموعة من المثقفين الألمان، وقالوا لهم : نحن نوافقكم في القيم الخلقية التي ذكرتموها، لكنكم لم تلتزموا بها في حربكم ضد المسلمين في أفغانستان, وليس هناك من فرق بين أن يقتل الأبرياء في نيويورك وأن يقتل الأبرياء في أفغانستان .
هل تلحظون دورًا للحركة الصهيونية في تعزيز هذا الصراع ؟
بعض اليهود نصبوا أنفسهم متخصصين في كل ما له علاقة بالإسلام، وهم يخيفون الغربيين من المسلمين إخافة شديدة، ويقولون عن الإسلام والحركات الإسلامية كلاما نحن نقول ليته كان صحيحا.
وقد كتب أحدهم، وهو متخصص في شؤون العالم الإسلامي، بحثا قال فيه : إن كل الحركات الإسلامية في الحقيقة حركة واحدة بأسماء مختلفة، وإن قيادتها العليا هي الدكتور حسن الترابي في السودان والشيخ حسن نصر الله في لبنان .
وبالإضافة إلى الحركة الصهيونية هنالك جماعات متعصبة من النصارى، وهم وراء تشويه الإسلام، ويعملون على إقناع الكونغرس وغيره من المؤسسات الأمريكية بأن السودان مثلا أكثر بلد لا توجد فيه حرية للأديان، مع أني أظنه من أكثر البلاد تساهلاً في هذا الأمر مع النصارى, فهذه الجماعات هي التي تؤلب القيادات السياسية في أمريكا ضد بلد كالسودان والسبب هو الناحية الدينية.
ذكر بحث صدر حديثا أن لليهود نفوذا كبيرا في المؤسسات الرسمية في أمريكا، وأن غالبية العلماء في الغرب هم من أصل يهودي, وهم يعملون بشتى السبل لتشويه صورة الإسلام والمسلمين؟(/2)
من المبالغ به أن يقال بأن غالبيتهم من اليهود لأن نسبتهم ضئيلة جدا بالنسبة للشعوب الغربية، لكن نسبتهم في العلماء أكثر من نسبة عددهم, واليهود كالآخرين ليسوا على قلب رجل واحد، فهناك جماعة من اليهود ضد دولة إسرائيل نفسها، ويرون أن هذا شيء مخالف للدين، ويعتقدون أن الصهيونية ليست هي حركة دينية، وإنما هي حركة علمانية لبست ثوب الدين، كما أن كثيرا منهم ملحدون لا يؤمنون بأي دين، لأن اليهودية اختلط فيها الانتساب الديني مع الانتساب العرقي فصارت اليهودية كأنها جنس, وهنالك فعلا عدد كبير من المؤثرين في مجالات الإعلام مثل فريدمان أو ويليام سفاريام الكاتب في نيويورك تايمز ، وهؤلاء مؤيدون لإسرائيل تأييدا مطلقا، هذا بالنسبة للولايات المتحدة, أما في أوربا وإن كان هنالك تأييد لكنه أقل بكثير مما في أمريكا, ومؤخرا قرأت مقالا في صحيفة الاندبنديت يقول كاتبه : إن الأمريكيين يريدون أن يتهموا كل من ينتقد إسرائيل بمعاداة السامية، وهذا خطأ كبير .
بعد هجمات سبتمبر هل حدثت لكم كدعاة أي مضايقات من الأمريكيين؟
لم نلحظ تضييقا في مجال الدعوة، لكن هناك تضييق بشكل عام على المسلمين وغيرهم، وهذه من المسائل التي تناقش كثيرا في الصحف، وهي قضية الموازنة بين الأمن والحرية، وهذه مشكلة كبيرة عندهم الآن, نعم هناك تضييق بصفة خاصة على المسلمين، لكن ليس في الدعوة بمعنى أن يقال لك : لا تقل هذا الكلام أو لا تخطب هذه الخطبة .
إذن ماذا عن التفتيش الذي طال بعض المؤسسات الإسلامية في أمريكا مؤخرا؟
هذا يدل كما ظهر بعد حوادث 11-9 على أن الأجهزة الأمريكية لا تتعاون كثيرا فيما بينها، فيمكن أن تكون هناك مؤسسة ذات صلات قوية بالحكومة الأمريكية لدرجة اتهامها بالعمالة للحكومة, ثم بعد ذلك تأتي جهة أخرى من الأجهزة الحكومية وتعتبرها جماعة إسلامية كالجماعات الأخرى فتتعرض لها بالتفتيش والتضييق, لكن الحكومة الأمريكية أعادت كل ما أخذته من هذه المؤسسات التي تعرضت للتفتيش والمصادرة .
والأمريكيون أكثر ما يخافون من المنظمات الإسلامية التي لديها أموال طائلة, فيخشون أن تمول هذه المنظمات الإرهاب في العالم حتى وإن ظهرت بمظهر المؤيد لأمريكا.
بعد 11/سبتمبر دخلت مجموعات كبيرة في الإسلام , ألم تنزعج الحكومة الأمريكية من ذلك؟
حتى لو كان هناك انزعاج فهي لا تصرح بذلك ، وحتى قبل 11/ سبتمبر فقد اعترفت مستشارة البيت الأبيض لشؤون الأمن القومي كوندوليزا رايس بأن الإسلام هو أسرع الأديان انتشارا في الولايات المتحدة، وهذا صحيح، فلابد أن يكون مصدر قلق بالنسبة لهم لكن ماذا يفعلون؟ وربما تكون حوادث سبتمبر أعطتهم فرصة للتضييق على المسلمين, وكنت أظن دائما أن التضييق قادم لا محالة، وقلت لبعض الدعاة أن ينتهزوا هذه الفرصة ويعملوا على نشر الدعوة، لأنهم يخافون أن تأتي الحضارة الإسلامية وتهاجمهم وتنافسهم من الداخل وهو مالا يقبلونه أبدا.
هلا عقدت لنا مقارنة بين حرية الدعوة في الغرب وبين العالم الإسلامي؟
في البلاد الغربية معروف أن هناك حرية كلمة للحق وللباطل، وهم يقولون لنا : نحن نسمح لكم بنشر دينكم، فلماذا لا تسمحون لنا بنشر ديننا, فرددنا بأنهم لا يفعلون ذلك تفضلا منهم على المسلمين, هم يعتقدون أن هذا النظام يصلح لهم ويفيدهم, وكما يسمحون للمسلمين يسمحون للبوذيين والعراة والشواذ والشيوعيين حتى لمن يعبدون الشيطان، فهو ليس تفضلا منهم على المسلمين, هذا نظامهم، وعلينا نحن أن نستغل هذا النظام في الدعوة إلى الحق, أما في العالم الإسلامي ، وخاصة في البلاد التي فيها نوع من الاستمساك بالدين فلا يمكن أن تكون حرية الدعوة مفتوحة إلى كل الأديان بهذه الطريقة التي في الغرب, لكن هناك بعض البلاد المنتسبة إلى الإسلام تحارب حتى الدعوة إلى الإسلام الصحيح، ومن المؤكد أنها في هذا أسوأ من الدول الغربية، لأن الغرب يسمح لمن يدعو إلى هذه الدعوة الصحيحة، كما يسمح لغيره أن يدعو إلى دعواه الباطلة لكن هنا السماح للدعوات الباطلة وتضييق على الدعوة الحق.
هل هناك عدد كبير من الدعاة في أمريكا ؟
عدد الدعاة الذين يعرفون دينهم ويتكلمون الإنجليزية بطلاقة فيه ندرة كبيرة، ونحن نعاني من ذلك معاناة شديدة .
ألم يسبب ذلك إشكالا, خاصة وأن الإسلام يواجه حملة شديدة لتشويه صورته, الأمر الذي يستدعي الكثير من الجهود؟(/3)
نعم سبب الكثير، و قد لا يتمكن بعض الدعاة الذين كانوا يأتون في المواسم من القدوم، أو يقل عددهم في أحسن تقدير، وعلى العالم الإسلامي أن يعين المسلمين هناك، فلو ركزنا جهودنا على المسلمين الأمريكيين الأصليين، سواء كانوا من البيض أم السود وفتحنا لهم أبواب التعليم في البلاد الإسلامية ودعمنا مؤسساتهم التعليمية واهتممنا بهم حينها يمكن أن نخرج منهم دعاة, وهناك فعلا بعض الدعاة الممتازين منهم، لكن عددهم قليل جدا، فحبذا لو اهتم الناس بهم في العالم الإسلامي, فهم لا يدخلون في الإسلام فقط، بل سيكونون عونا للمسلمين في قضاياهم السياسية الآن,لأن الجالية المسلمة دائما ما تشتكي من اللوبي الصهيوني, فيمكن أن يصبح هؤلاء قوة ضغط كبيرة توازي اللوبي الصهيوني.
في الغرب العديد من الطوائف والجماعات الإسلامية, وكل واحدة منها تعمل على نشر الإسلام بحسب تصورها, ألم يخلق ذلك خلطا في أذهان الغربيين عن الإسلام؟
طبعا يسبب خلطا كبيرا، لكن هذه هي أمراض العالم الإسلامي تنقل إلى كل مكان يذهب إليه المسلمون, وفعلا بعض هذه الجهات عرقلت الدعوة إلى الإسلام، فأنت تقول كلاما، ويأتي غيرك فيقول كلاما آخر مناقضا لما قلت، لكني أظن أن التيار العام هو تيار سني.
هل نأمل في أن تلقى الدعوة الإسلامية قبولا كبيرا في الغرب؟
في أمريكا خاصة، فإن معدل انتشار الإسلام يزيد سنويا، وأنا متفائل جدا بمستقبل الإسلام في أمريكا .
هل تعتقدون أن الأقليات الإسلامية في الغرب في حاجة إلى فقه جديد؟
غالبية المسلمين ذهبوا إلى الغر ب لتأمين حياة معيشية أفضل وليس للدعوة، ومعظم هؤلاء يضيعون أو يضيع أبناؤهم، حتى إن بعضهم يقول: (لا ندري هل عدد الأطفال الذين نفقدهم أكبر أم عدد الأمريكيين الذين ندخلهم في الإسلام).
ولا يوجد فقه أمريكي أو أوربي أو غيره، لكن هناك ما يسمى بفقه النوازل، بمعنى إذا كان هناك حالات لا يوجد لها مثيل في العالم الإسلامي، على الأقل في الوقت الراهن، وتحتاج إلى نظر، فهذا شيء مستمر بالنسبة للدين الإسلامي، والعلماء قالوا إن النصوص محدودة والحوادث والنوازل غير محدودة، سواء أكان في العالم الإسلامي أم الغربي، لذلك لا بد من الاجتهاد دائما، فلا يجدد الإسلام إلا بالاجتهاد العلمي الصحيح الذي يتحرى الإجابات الأقرب للنصوص(/4)
الداعية والبيئة والمجتمع
________________________________________
على المسلم الحق أن يتفاعل بإخلاص وحيوية مع بيئته ومجتمعه ليحدث التغيير المنشود. فالمسلم لا يعيش في فراغ، وإنما يتواصل مع من حوله باستمرار، يهتم بهم ويهتمون به. لذا لا تعد الصلاة والصيام والتسبيح والذكر المعيار الوحيد لتقييم صلاح المسلم، وإنما المعيار هو مدى نفع المرء ليغيره من الناس، عملا بالقول المأثور: "من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".
ليقوم الداعية بهذا الدور عليه أن يتحلى بالمعرفة حول أمور أربع . هي: الأمور الغيبية، الأمور الكونية، الأمور العالمية، الأمور المحلية.
أولا: الأمور الغيبية:
وتشمل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. وهذا الإيمان يجنب العقل البشري الخوض في الأمور التي تتجاوز حدود الإدراك البشري. وهو أيضا لا يتغير بتغير الزمان أو المكان أو الأفراد، فهو ثابت في كل الظروف.
ثانيا: الأمور الكونية:
يجب أن يتحلى الداعية بمعرفة عن آيات الله في الكون وسننه الطبيعية، وأن يعلم أن هذا الكون مسخر له ليستفيد منه. وهذه المعارف أيضا من المعارف المشتركة بين جميع الناس لكن قد تتطور مع الزمن.
ثالثا: الأمور العالمية:
على الداعية أن يكون لديه حد أدنى من المعرفة عن الشعوب والأمم. كما يجب أن ينظر للمسلمين كإخوة أينما كانوا، لا تفصل بينهم الحدود السياسية بين البلدان، فيدافع عن الحق وينكر الباطل أينما وجد.
رابعا: الأمور المحلية:
إن المجتمع الذي يعيش فيه الداعية هو ساحة عمله الرئيسية. لذا عليه أن يقوم بالمهام التالية:
1- على الداعية أن يكون على وعي كامل بواقعه ومعرفة جيدة بالظروف الاجتماعية (نسبة الذكور، والإناث، والبطالة، والأغنياء، والفقراء ... الخ) والاقتصادية (معدل الناتج القومي، والدخل الفردي، والصادرات، والواردات ... الخ) والسياسية (الأحزاب، والقوانين ... الخ) والتعليمية (الأمية، المناهج ... الخ) والدينية (الأديان، المذاهب، الفرق ... الخ) للبلد الذي يعيش فيه.
2- على الداعية أن يشغل نفسه بمشكلات مجتمعه، ولا يتخذ منها موفقا سلبيا. ليكن الداعية كالطبيب، الذي يسعى لعلاج مرضاه، بالرغم من أنه غير مسؤول عن إصابتهم بالمرض. وحتى إن لم يجد الحل الأمثل، عليه أن يسعى لتخفيف الآلام والمعاناة عنهم. على الداعية أن يضع الحلول العملية من وجهة النظر الإسلامية، فمن السهل انتقاد الأنظمة الحاكمة، لكن الأهم من ذلك هو إيجاد الحلول لتصحيح الوضع القائم.
ولزيادة ثقة المجتمع في الداعية، لابد له أن يقدم الخدمة والمساعدة لمن حوله في المجتمع. فعندما يشعر الناس بأن هؤلاء الدعاة يسعون لخدمتهم وحل مشكلاتهم ورعاية مصالحهم، ستزيد الثقة بهم وسيفتحون لهم قلوبهم.
وأختم حديثي هذا بنادرة حول الدعوة بين النظرية وتطبيق:
قام شيخ جليل بتعليم طلابه أساليب الدعوة ومفاهيمها لمدة ستة شهور، ومن ثم عزم على إعطائهم الجانب التطبيقي في ثلاثة شهور أخرى. إلا أن أحد طلبته الذين تفوقوا في الجزء النظري اكتفى بذلك وقرر أن يعتمد على قدراته في الجزء العملي. فحذره الشيخ من ذلك، إلا إنه لم يصغ إليه.
اتجه الطالب لقرية بعيدة لممارسة الدعوة هنالك. وفي خطبة الجمعة سمع من الإمام خطبة مليئة بالأكاذيب على الله ورسوله، فما كان منه إلا أن صرخ بالمصلين "إن الإمام كاذب فلا الله سبحانه وتعالى ولا النبي عليه السلام قالا ما ذكره الإمام". فرد الإمام "إن هذا الشاب كافر ويستحق العقاب". فانقض المصلون على الشاب وضربوه ضربا مبرحا.
عاد الشاب لشيخه وعظامه محطمة وروى له الحكاية. فقال له الشيخ دعني أريك مثالا جيدا للدعوة العملية. وفي الجمعة التالية ذهبا معا إلى المسجد ذاته، حيث ألقى الإمام خطبة مماثلة. وبعد أن استمع الشيخ للخطبة نهض وقال "إن إمامكم رجل من أهل الجنة وكل من يأخذ شعرة واحدة من لحيته سيدخل الجنة". وعلى الفور، هجم الناس على الإمام ينزعون شعره بقوة، حتى تركوه مدمى الوجه منتوف اللحية. عندئذ همس الشيخ في أذن الإمام "هل ستتوقف عن قول الأكاذيب على الله ورسوله؟ أم تريد عقابا أكثر؟" فندم الإمام على ما فعل.
أدرك الطالب خطأه وطلب من الشيخ إعطاءه الدروس العملية. فالهوة بين النظرية والتطبيق واسعة!
المرجع: د. هشام طالب، دليل التدريب القيادي.
تلخيص: خالد الحر(/1)
الدجال
الدجال إحدى العلامات الكبرى التي أقامها الله إيذاناً باقتراب الساعة ودنو أجلها ، وهو من أعظم الفتن التي ابتلى الله عباده بها ، حتى شبه النبي صلى الله عليه وسلم فتنة القبر بفتنته ، فقال عليه الصلاة والسلام : ّ( .. إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريب من فتنة المسيح الدجال ) رواه البخاري . ومما يدل على عظم فتنته أيضاً أن الأنبياء جميعا حذورا أقوامهم منه ، وبالغ النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير منه حتى ظنَّ كثير من الصحابة أنه قريب منهم ، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري .
ولا تكمن فتنته في دعواه الربوبية فحسب ، بل فيما أجرى الله على يديه من خوارق العادات التي اتخذها دليلا على صدق دعواه ، فمما يجري على يديه من الخوارق ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم من أن معه جنة ونارا ، - وحقيقة جنته نار ، وحقيقة ناره جنة - ، وأن معه أنهار العسل والماء ، وجبالاً من الخبز ، وأنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر ، والأرض أن تنبت فتنبت ، ويأمر الأرض أن تخرج كنوزها فتخرج كأسراب النحل ، ويأتي القوم فيؤمنون به فينزل عليهم المطر ، وتخضر أرضهم ، وتسمن ماشيتهم ، ويأتي القوم فيردون دعوته ولا يصدقون أمره ، فيصابون بالجوع والقحط ، كل ذلك يحصل بإذن الله ومشيئته ابتلاء من الله وفتنة .
غير أن الدجال وإن عظمت به الفتنة ، وزاد به البلاء ، إلا أن الشارع الكريم قد بين أسباب دفع فتنته ،ما يجعل الفتنة به محصورة فيمن فرّط في معرفة شأنه ، أو قصّر في العمل بالأسباب الشرعية التي بينتها الشريعة لدفع شره ، ومن تلك الأسباب :
1- معرفة حاله وصفاته : فقد حرص صلى الله عليه وسلم على تعريف المؤمنين بصفات الدجال الخلقية ، حتى إذا ظهر كانوا منه على بصيرة ، فمن صفاته التي أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم : أنه مكتوب بين عينيه كافر يقرأها القارئ والأمي ، وأنه أعور العين اليمنى ، وهو شاب أبيض يميل لونه إلى الحمرة ، وأنه جعد شعر الرأس ، قصير القامة ضخم البنية .
2- معرفة ما يدفع شره من قراءة القرآن والأدعية وغير ذلك .
فقد كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته : ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، ومن فتنة المسيح الدجال ...) متفق عليه ، وأمر صلى الله عليه وسلم بالمواظبة على هذا الدعاء بعد التشهد في الصلاة ، كما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا تشهد أحدكم ، فليستعذ بالله من أربع ، يقول : اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شر فتنة المسيح الدجال ) رواه مسلم .
وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن مما يدفع به المسلم عن نفسه شر فتنة الدجال حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف . فقد روى مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال ) .
ومن أسباب دفع فتنة الدجال الفرار منه ، والابتعاد عنه ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : (من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات ) رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني .
فهذه بعض أسباب الوقاية منه التي بينها الشارع الكريم ما يجعل الفتنة به شبه منعدمة ، - ولا سيما في حق من عرف شأنه ، وتبين له أمره ، بل ربما كان ظهوره سببا في زيادة إيمان العارفين به ، لما يرون من تحقق خبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجه - لذلك فقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم أن معظم أتباع الدجال هم من الكفرة وجهلة المسلمين .
هذا عن فتنة الدجال وطرق دفعها ، أما عن مدة مكثه ونهايته ، فقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم أن : لبثه في الأرض يكون أربعين يوما ، يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامنا . كما رواه مسلم .
أما نهاية الدجال - التي هي من أعظم الأدلة على كذبه ودجله - فتكون على يدي نبي الله عيسى عليه السلام ، حيث أخبرنا صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام يطلب الدجال عقب نزوله من السماء ، فيدركه عند باب لدٍّ فيقتله . كما ثبت في صحيح مسلم . وباب لد قرية قريبة من بيت المقدس .
هذا هو الدجال - لعنه الله - جعله الله فتنة لعباده ، ليختبر صدق إيمانهم وقوة يقينهم ، وهي فتنة لن ينجو منها إلا من اعتصم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، نسأل الله عز وجل أن يعيذنا من فتنته ، وأن يجيرنا من بليته ، وأن يجعلنا من المعتصمين بشرعه ، والحمد لله رب العالمين .(/1)
الدخان إحصائيات وأرقام
مفكرة الإسلام : نظرا لأن الناس يحتاجون إلى تحويل الحقائق الكلامية إلى أرقام لا يمكنهم النظر بدقة إلى الواقع المحيط بهم كان لا بد من عرض الحقائق الصادقة المتعلقة بالتدخين في صورة أرقام وإحصائيات تجسد حجم تأثير الدخان سواء على المستوى المادي والاقتصادي ومعدلات الإنفاق على مستوى الدول والأفراد أو على المستوى الصحي وكونه أحد أهم مسببات الأمراض وبيان معدلات الوفاة المتسبب فيها التدخين.
• جاء في تقرير إيفريت كوب وزير الصحة الأمريكية [كبير الأطباء] في تقدمته لكتاب 'تجار الموت' لمؤلفه لاري وايت المحامي الصادر عام 1988م ' إن ضحايا التدخين في الولايات المتحدة الأمريكية سنويا هم ثلاثمائة وخمسون ألفا [350000] نتيجة التدخين المباشر وخمسون ألفا نتيجة التدخين السلبي [50000] فالمجموع أربعمائة ألف أما الخمور فقد كان عدد الذين يلاقون حتفهم بسببها كل عام مائة وخمسة وعشرون ألفا [125000] أما ضحايا المخدرات بأنواعها المختلفة مجتمعة فلم يبلغوا سوى ستة آلاف [6000] بما في ذلك جرائم العنف وحوادث القتل المرتبطة بتهريبها واستخدامها'[1].
• أما في بريطانيا فإن ضحايا التبغ قد جاوزوا المائة ألف وضحايا الخمور يبلغون في أعلى تقدير أربعين ألفا [40000] أما ضحايا المخدرات فقد كانوا [159] شخصا.
• إن منظمة الصحة العالمية تقرر أن ضحايا التبغ قد جاوزوا المليونين ونصف المليون سنويا بينما كان عدد ضحايا القنبلتين الذريتين اللتين تم إلقاؤهما على مدينتي هيروشيما ونجازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية 1945م كان مائتان وستون ألف شخص فقط وأن الذين توفوا نتيجة الإصابة بمرض الإيدز المرعب منذ ظهوره عام 1981م إلى نهاية عام 1992م هم كما وردوا في سجلات منظمة الصحة العالمية ربع مليون شخص فقط بينما تقدر المنظمة الدولية أن هناك نقصا في التبليغ فترفع الرقم إلى مليون وسبعمائة ألف [1700000] ولو أخذنا بهذا الرقم الافتراضي فمعناه أن عدد الذي لاقوا حتفهم نتيجة لتعاطي التبغ بكافة صوره وأشكاله في سنة واحدة فقط كانوا يفوقون عدد ضحايا مرض الإيدز على مدى اثنتي عشرة عاما كاملة.
• في تقرير منظمة الصحة العالمية رقم [ WHA 14-39] في اجتماع المنظمة المنعقد بتاريخ 15 / مايو / 1986م جاء الآتي: ' إن استخدام التبغ بكافة صوره وأشكاله تدخينا وسعوطا ومضغا ونشوقا يعيق الوصول إلى قرار المنظمة وهو : الصحة للجميع عام [2000م] ويؤكد التقرير أن عدد الذين يلاقون حتفهم أو يعيشون حياة مليئة بالأمراض والأسقام الناتجة عن استخدام التبغ بأشكاله المختلفة يفوق بلا ريب ولا أدنى شك عدد الذين يموتون نتيجة للإصابة بأمراض الطاعون والكوليرا والتيفوس والتيفوئيد والسل والجدري والجذام مجتمعة كلها في كل عام.[2].
• ويؤكد التقرير أن التوقف عن استخدام التبغ بكافة طرق استعماله سيحسن المستوى الصحي وإطالة الأعمار بما لا تستطيع جميع الوسائل الصحية والطبية الأخرى مجتمعة.
• 'ثلاثة من كل عشرة يدخنون سيلاقون حتفهم بسبب أمراض ناتجة عن التدخين وأن أغلب الباقين سيعانون من أمراض لها علاقة بالتدخين ' ' إن تدخين السجائر في العصر الحديث يسبب من الوفيات ما كانت تسببه أشد الأوبئة خطرا في العصور السابقة وأن كمية النيكوتين الموجودة في سيجار واحد كفيلة بقتل إنسان في أوج صحته لو تم حقنه بالوريد'[3].
• ' إن تدخين واستخدام التبغ يؤدي إلى [90%] من جميع حالات سرطان الرئة [ التي تقدر بمليون حالة كل عام في العالم ] و[ 75% ] من جميع حالات التهاب الشعب الهوائية المزمن وحالات الأمغيزيما [انتفاخ أسناخ الرئة] بالإضافة إلى مساهمته الأكيدة في ضيق شرايين القلب وبالتالي في الجلطات والذبحات الصدرية كما أن التدخين واستعمال التبغ مسبب رئيس في الإصابة بجملة من السرطانات المختلفة مثل سرطان الحنجرة والمريء والفم والبلعوم ويؤدي إلى مضاعفات شديدة للأجنة في بطون الأمهات'[4].(/1)
• ' إن الاعتياد [الإدمان] على النيكوتين أكثر من الاعتياد على الخمر فإذا شرب مائة شخص الخمر فإن [10% – 15% ] منهم سيكونون مدمنين للخمر بالمقارنة بالتدخين فإذا استخدم مائة شخص التبغ فإن [85%] منهم سيصبحون مدمنين له مع ملاحظة أن إدمان الخمر أخطر بالتأكيد وبلا شك من إدمان التدخين أو النيكوتين بمعنى أدق'[5] ' ويقع النيكوتين وسط سلم العقاقير المسببة للاعتياد [الإدمان] فيأتي على رأس القائمة في سرعة تسبب الإدمان: الأفيون ومشتقاته والهيروين والمورفين وتسبب هذه المواد اعتمادا جسديا ونفسيا عليها...ويأتي الكوكايين والكراك المشتق منه في أعلى قائمة المواد المسببة للاعتياد النفسي..ثم يأتي بعد ذلك النيكوتين والغريب حقا أن نجد أن الإدمان على النيكوتين أشد من الإدمان على الحشيش وعلى القات وهي حقيقة علمية لا جدال فيها حيث أن متعاطي الحشيش أو القات في أغلب الحالات يستطيع أن يترك تعاطي هذه المواد دون معاناة بينما نجد أن أغلبية متعاطي التدخين يعانون عند ترك التبغ'[6].
• أثر التدخين على الأطفال:
-1- إن كل طفل يدخن أحد والديه في المنزل ما بين عشر إلى عشرين سيجارة يوميا يكون هذا الطفل قد دخن ربع هذا العدد.
-2- يتسبب التدخين السلبي في دخول ما لا يقل عن سبعة عشر ألف طفل [17000] دون سن الخامسة سنويا في بريطانيا وحدها إلى المستشفيات نتيجة أمراض ناتجة عن تدخين الوالدين أو أحدهما.
-3- الأمراض التنفسية خاصة الربو تتضاعف نسبة الإصابة بها لدى الأسر التي يدخن أحد أفرادها عن تلك التي ليس فيها مدخنين.
-4- ثلث حالات الصمم في الأطفال ترجع إلى تدخين الوالدين أو أحدهما وقد يسأل سائل وما علاقة التدخين بالسمع؟ فنجيب: السبب الرئيس أن الأمهات المدخنات يتحد عندهم أول أكسيد الكربون الذي يتحد مع هيموجلوبين الدم فيكون ما يسمى ' الكربوكسيلي هيموجلوبين' وقد ثبت أن تواجد هذه المادة ولو بكميات منخفضة في الدم يؤثر على مستوى السمع كما أن تناقص تدفق الدم في الأوعية بعد التدخين له تأثيره في ضعف السمع.
أما بالنسبة للإحصائيات على المستوى الاقتصادي والمالي فالوضع كالتالي:
• الإنتاج العالمي للتبغ: يزرع التبغ كما تؤكد منظمة الفاو [الأغذية والزراعة العالمية] في أكثر من مائة وعشرون دولة [120] وأكثر هذه الدول تقع في دول العالم الثالث حيث يعاني السكان من سوء التغذية بل والمجاعات أما الدول العشر الأولى المنتجة للتبغ فهي على الترتيب [ الصين – الولايات المتحدة – الهند – الاتحاد السوفيتي – تركيا – البرازيل – بلغاريا – اليابان – اليونان – بولندا ] ويأتي بعدها لا على الترتيب [ كندا – كوريا الجنوبية – زيمبابوي ][7] أما الدول العربية التي تزرع التبغ هي: العراق , سوريا , لبنان , اليمن , عمان , دول المغرب العربي ومن الدول الإسلامية : تركيا, أذربيجان , أوزبكستان , كازاخستان , الباكستان , إندونيسيا , ماليزيا , مالاوي, تنزانيا[8].
• أما الإنتاج السنوي على مستوى العالم فيبلغ عشرة ملايين طن [10000000] تنتج الصين وحدها عشر هذه الكمية أي مليون طن وتنتج الولايات المتحدة كمية مقاربة تسعمائة وستون ألف طن سنويا [960000] وتبلغ قيمة التجارة العالمية في التبغ حوالي مليار دولار سنويا [1000000000] هذا بالطبع طبقا لإحصائيات عام 1995م[9].
• إن عملية تجفيف ورق التبغ بعد حصاده تحتاج إلى مصادر الطاقة المكلفة مثل البترول وغازاته وبعض الدول تستخدم الفحم الحجري والخشبي أما الدول الفقيرة فتقوم بإحراق الأخشاب بعد قطع الأشجار الكبيرة من الغابات فتجفيف التبغ في دول مثل البرازيل وباكستان وإندونيسيا وكينيا وزيمبابوي يؤدي إلى إحراق سبعة ملايين هكتار من الغابات سنويا[10] وهي كارثة اقتصادية وبيئية وصحية بكل المقاييس حيث أن محصول فدان واحد من التبغ يحتاج كي يتم تجفيفه إلى حرق 150 شجرة كبيرة في كينيا مثلا[11].
• إن حجم المبالغ التي يتم إنفاقها سنويا على العلاج من الأمراض التي يتسبب التدخين فيها تفوق حجم الأرباح المكتسبة من زراعة التبغ وتصنيعه بمعدلات فائقة.
إحصائيات الأرباح والخسائر :
أولا الولايات المتحدة الأمريكية:
بما أنها من أكبر الدول مصنعة للسجائر على مستوى العالم فهي كذلك من أكبر أسواق التبغ وقد نقل لاري وايت المحامي الشهير في كتابه تجار الموت حساب الأرباح والخسائر الناتجة عن التبغ في الولايات المتحدة الأمريكية وكانت كالتالي:
المبلغ ... بيان الأرباح ... المبلغ ... بيان الخسائر
140مليار دولار ... ضرائب على التدخين ... 30 مليار دولار ... ثمن التبغ المستهلك
7مليار دولار ... صافي أرباح شركات التبغ ... 21100 مليون دولار ... دخل مبكر [وفاة مبكرة]
4مليار دولار ... مكاسب المزارعين ... 9300 مليون دولار ... التغيب عن العمل لأمراض التبغ
ــــــــ ... ـــــــــــــ ... 23300 مليون دولار ... الرعاية الصحية لأمراض التبغ(/2)
ــــــــ ... ـــــــــــــ ... 5 مليار دولار ... الحرائق الناتجة عن التدخين
والنتيجة 25 مليار دولار مكاسب يقابلها 89 مليار دولار تقريبا خسائر وهذا مع عدم إغفال الحقيقة التي تؤكد وفاة [350000] شخص نتيجة التدخين المباشر و[50000] شخص نتيجة التدخين السلبي.
ثانيا: ألمانيا الغربية [سابقا]:
حصلت الدولة على 12 مليار مارك من الضرائب على التبغ بينما كانت محصلة الخسائر الناتجة عن التدخين 80 مليار مارك بالإضافة لوفاة مائة وأربعون ألف شخص سنويا وإصابة نفس العدد بأمراض مزمنة.
ثالثا: بريطانيا
كسبت الدولة أربعة مليارات جنيه إسترليني من الضرائب على التبغ عام 1981م وفي المقابل خسرت خمسين مليون يوم عمل بسبب التغيب عن العمل الناتج عن أمراض السبب الرئيس فيها التدخين بالإضافة لوفاة مائة ألف شخص ودخول مئات الآلاف المستشفيات للعلاج بمليارات الجنيهات من أمراض كانت أصابع الاتهام تتجه كلها نحو التدخين باعتباره المسبب الأول والمتهم الأوحد[12].
رابعا: مصر
مصر تستورد التبغ ولا تزرعه وحسب إحصائيات الثمانينات كان معدل ما تحصل عليه الدولة كضرائب على التبغ لا يتجاوز النصف مليار جنيه مصري وهناك زيادة مضطردة في أعداد المدخنين في مصر تتراوح بين [6-8%][13] وتزيد نسبة التدخين بين العمال لتصل إلى حوالي [80%][14] وفيما يلي بيان لمعدل الاستهلاك خلال سنوات سابقة:
عام 1977م ... 26 مليار سيجارة
عام 1979م ... 32 مليار سيجارة
عام 1985م ... 45 مليار سيجارة
وقد بلغ عدد المدخنين بمصر عام 1980م حوالي تسعة ملايين شخص ينفقون يوميا مليون ونصف المليون جنيه على التدخين وعدد المدخنين يزيد بمعدل غير طبيعي حيث يبلغ 25 مدخن كل ساعة وأن إنتاج السجائر في مصر يتزايد بمعدل 227% في الفترة ما بين 1950 إلى 1977م وما زال في ازدياد[15].
وما زال في الجعبة الكثير عن الأرقام الخاصة بكل الدول مرورا بباكستان وتركيا والمملكة العربية السعودية واليمن وغيرها مما يجلب الفزع أن الأرقام في ازدياد لا انخفاض وأعداد المبتلين بهذا الداء والإدمان لا يتوقف عن الزيادة في الدول الإسلامية والعربية بعكس الدول الغربية التي لا تتوقف المعدلات الاستهلاكية للتدخين فيها عن النقصان عاما بعد الآخر لما ظهر لهم من أثرها المدمر والسيئ ولكنهم يوجهون فائض إنتاجهم إلى العالم الثالث غير عابئين بحجم الضرر الذي يصدرونه ما داموا سيقبضون الأرباح جاهزة.
________________________________________
[1] ملف التدخين ص 42.
[2] ملف التدخين ص45
[3] تقرير الكلية الطبية الملكية بالمملكة المتحدة 1983م.
[4] تقرير منظمة الصحة العالمية الصادر عن المجلس التنفيذي للمنظمة في الجلسة 77 يناير/1986م.
[5] تقرير الكلية الملكية الطبية عام 1977م.
[6] هل التبغ والتدخين من المحرمات؟ د. محمد على البار ص:20-21.
[7] ملف التدخين محمد أمين عثمان ص 56.
[8] التجارة الخاسرة د.محمد على البار ص 19.
[9] التجارة الخاسرة د.محمد على البار ص 21.
[10] المجلة الطبية البريطانية BMG.
[11] تقرير وزارة الزراعة الأمريكية عن التبغ وزراعته 1995م.
[12] التجارة الخاسرة د,محمد على البار ص 48.
[13] ندوة الوقاية من السرطان القصيم 1991م.
[14] التدخين أو صحتك عليك أن تختار د.على سعود نقابة أطباء مصر 1980م.
[15] بحث التدخين د. آمال سامي إبراهيم مقدم للندوة العالمية للصحة والوقاية من التدخين مصر 1993م.(/3)
الدخان والتاريخ المجهول
بسم الله الرحمن الرحيم
الدخان والتاريخ المجهول
عزيزي المدخن:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
تحية من عند الله تعالى طيبة مباركة إليك أخي المسلم, طبت أهلا وحللت سهلا وأتشرف بصحبتك على مدى الدقائق الغالية الآتية:
هذا الخطاب موجه إليك عزيزي المدخن سواء كنت من الباحثين عن الحل للتخلص من الآفة أو ممن حاولوا مرات عديدة وكان الفشل حليفهم في كل مرة أو حتى إن كنت ممن لا يريد التخلص من التدخين فلم لا تشاركنا القراءة.
التبغ نبات من الفصيلة الباذنجانية السامة , وكان أول منشئه من جزيرة تابعة للولايات المتحدة الأمريكية في أول اكتشافها تسمى 'تاباغو'.
ففي عام 1492م وصل الرحالة الأسباني ' كريستوفر كولمبس' إلى العالم الجديد ' أمريكة ' ووجد كريستوفر أن السكان الأصليون للبلاد ' الهنود الحمر ' يدخنون لفائف تشبه السيجار فلما عاد إلى أسبانيا حمل معه من ضمن ما حمل من أخبار الاستكشافات عادة التدخين ومن خلال أسبانيا انتشرت زراعة التبغ في أوروبا ومن بعدها في العالم كله.
ففي عام 1560م قام جين نيكوت سفير فرنسا في أسبانيا – اشتق النيكوتين من اسمه- بإحضار كمية كبيرة من بذور التبغ من أسبانيا وقدمها كهدية ملكية إلى ملكة فرنسا آنذاك ' كاترين دي مسيس '
وإذا كانت أوروبا قد عرفت التبغ في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي وانتشر فيها في القرن السادس عشر فإن العالم الإسلامي عرف التبغ في أوائل القرن الحادي عشر الهجري وقد انتشر من بلاد الشام أولا باعتبارهم على احتكاك مستمر بالبلاد الأوروبية وعرف عندهم باسم ' الدخان ' أو ' التتن 'ثم عربت كلمة 'تاباغو' إلى 'تبغ'.
قال الإمام الحصكفي الحنفي:' قال شيخنا النجم الغزي الشافعي : والتتن الذي حدث وكان حدوثه بدمشق سنة خمس عشرة بعد الألف'[1]وكان هذا أول ذكر لتاريخ التبغ في كتب المؤرخين والفقهاء في العالم الإسلامي[2].
تاريخ الاتهام والإدانة:
كانت الإصابة بمرض السرطان نادرة الحدوث نادرة الحدوث خلال القرن التاسع عشر الميلادي ولكن خلال القرن العشرين وبتتبع إحصائيات الوفاة لوحظ أن هذا المرض قد أصبح سببا رئيسيا في الوفاة في كثير من بلدان العالم بين الرجال والنساء معا ممن تجاوزوا سن الخامسة والأربعين علما بأن الرعاية الصحية في القرن العشرين كانت قد تطورت بالتأكيد أكثر مما كانت عليه في القرن التاسع عشر.
وبحلول عام 1950م أظهرت الدراسات العلمية في إنجلترة والولايات المتحدة الأمريكية تطابقا غير مسبوق في الربط بين عادة التدخين وحدوث سرطان الرئة.
وفي عام 1954م نشر الباحثون في إنجلترة وأمريكا دراسات مستقلة - بعضها عن بعض – تثبت ارتفاع معدل الوفيات بين المدخنين عنه بين غير المدخنين.
وبحلول الستينات تعرض التاريخ الاجتماعي للتدخين والتبغ لمنعطف خطير إذ ظهرت وثيقتان هامتان تم فيهما الكشف عن الآثار الضارة للتدخين على الصحة العامة كانت الأولى هي التقرير الطبي العام الذي أصدرته الكلية الملكية للأطباء في لندن عام 1961م.
وفي عام 1964م قدمت اللجنة الطبية الاستشارية الأمريكية برئاسة كبير الأطباء 'وزير الصحة' تقريرها عن أضرار التدخين إلى الصحافة العالمية في كتاب بلغت عدد صفحاته '387' صفحة عنوانه 'الدخان والصحة' وقد تألفت هذه اللجنة الاستشارية من عشرة من العلماء كان بيانهم كالتالي: خمسة منهم يدخنون السجائر واثنان يدخنون السيجار وثلاثة غير مدخنين ' أي أن الأكثرية كانوا معتادين على التدخين' ولقد كانت نتائج مقرراتهم وأبحاثهم بالإجماع وكانت مطابقة تماما لنتائج تقرير الجمعية الطبية الملكية التي نشرت تقريرها عام 1961م وإليكم في سطور نتائج هذا التقرير:' التدخين ضار بالصحة حتما وسبب رئيس لعدد كبير من الأمراض المميتة وتدخين اللفائف هو المسؤول الأول عن معظم هذه الأخطار ولا تختلف الآثار الضارة بين تدخين اللفائف ذات المصفاة أو بدون مصفاة'[3].
وقد أدت هاتان الوثيقتان وغيرهما من الدراسات المستقلة إلى إحداث توجه لدى الحكومات لإعلام الناس عن مخاطر التدخين حتى وصل الأمر إلى الإلزام بحكم القانون على من يصنع التبغ والدخان بكافة أنواعه أن يكتب على كل عبوة للسجائر أو الدخان [التبغ] عبارة:' التدخين ضار جدا بالصحة ' ثم تطور الأمر بالدول إلى إلزام المواطنين بعدم التدخين في أماكن متعددة بدأت بالمطارات والطائرات والمستشفيات والمواقع المهمة في الدولة ثم وصلت إلى منع التدخين في عموم الدوائر الحكومية ووسائل المواصلات والتغريم لمن يتم ضبطه بهذا الفعل.
ويقاس تقدم الدول في المجال الصحي على مستوى دول العالم المتقدم بحجم الإجراءات التي تتخذها هذه الدولة للقضاء على ظاهرة التدخين أو تقليصها والتقليل من انتشارها حتى أنه تم سن قانون يمنع شراء التبغ لمن هم أقل من سن 18 سنة كوسيلة للحد من تداول التبغ وأنواعه المختلفة بين الشباب والأطفال.(/1)
وخلال الربع الأخير من القرن العشرين تم حسم قضية التدخين علميا: طبيا واقتصاديا, عالميا ودوليا, وفي جميع المحافل الرسمية وغير الرسمية الطبية وغيرها[4] واتضحت آثاره السيئة على الصحة العامة وأصبح المدخن يدرك إدراكا تاما أنه إنما ينتحر ببطء بمحض رغبته وإرادته.
مكونات الدخان [ التبغ]: تتعدد المواد التي يحتويها دخان السجائر كمكونات رئيسية وهي:-
مواد ذات تركيب كيماوي بسيط والأحماض وهي ' مواد مهيجة 'ومواد أروماتية بسيطة منها الفينولات التي تنفرد بعض أنواعها بخصائص مسرطنة ومواد غير عضوية والنيكوتين ومواد مسرطنة.
أهم المواد الضارة في الدخان:
[1] النيكوتين: مادة شديدة السمية والجرعة القاتلة منها هي واحد ملليغرام لكل كيلوجرام من وزن الجسم.
[2] مواد مسرطنة: وقد تم التعرف على ست عشرة مادة مسرطنة تتواجد داخل تركيب دخان التبغ منها: القطران المسرطن, والهيدروكربونات عديدة الحلقات المسرطنة وفينولات لها خواص مسرطنة.
[3] مواد مثيرة ومهيجة وهي المواد التي تؤثر في الأغشية المخاطية للمدخن ومنها النشادر وعدد كبير من الأحماض الطيارة والألدهيدات وكيتونات وفينولات.
[4] أول أكسيد الكربون: وهو غاز سام جدا يتحد مع هيموجلوبين الدم فيمنعه من أداء وظيفته بنقل الأكسجين الضروري من حجرات الرئة إلى داخل الجسم.
[5] ثالث أكسيد الزرنيخ: مادة مسرطنة.
وتتنوع طرق تعاطي الدخان فمنها تدخين السجائر ومنها استعمال مسحوق التبغ سعوطا أي باستنشاقه من الأنف ومن أشد طرق تعاطي التبغ تحقيقا للضرر هي طريقة مضغه بالفم وهكذا فتنحصر المواد المكونة للدخان في كونها مواد مسرطنة أو مهيجة أو سامة لا غير.
كانت هذه نبذة يسيرة عن تاريخ الدخان من أين نشأ وكيف انتقل إلى العالم القديم من العالم الجديد وكيفية تنبه العلماء إلى حقيقة مخاطره وأضراره على صحة الإنسان ثم بيان موجز للتركيب الكيماوي الخاص به عافانا الله تعالى وإياكم من الوقوع في براثن هذا البلاء.
-----------------
[1] الدر المختار: شرح تنوير الأبصار كتاب الأشربة الإمام الحصكفي المتوفى سنة 1088هـ.
[2] ملف التدخين محمد أمين عثمان ص 14
[3] محمود النسيمي: الطب النبوي والعلم الحديث ج1/347.
[4] ملف التدخين ص(/2)
الدخول إلى التاريخ
عن طريق الهجرة النبوية
شعر: داود معلا
أقبل الليل ففجرنا من التاريخ بابا
وحملنا مشعل الحق نداءً وخطابا
فملكنا بالهدى من ملكوا الأرض
اغتصابا
وخطونا فملأنا الأرض رجلاً وركابا
يوم أرسلنا إلى " نقفور" رداً وجوابا
وعلونا قمة الدنيا .. وخاطبنا السحابا
أين يا تاريخ هذا هل لنا عودة تبعث في الفجر الشبابا
ربما كان لنا في صحوة الحق دليلا
يا بلادي ... إزرعيني فيك حورا
ونخيلا
واملئي الأرض جذورا ...
واملئي كفي شوكاً وحرابا
وارفعيني علماً يشتد إيماناً ونورا
وسيوفاً وزنودا
تحفر الأرض قبورا
لمن احتلوا بلادي
* * *
لمن اغتالوا الفراشات ... وأوراق الخزامى
وصلاة الفجر في الأقصى ... وأحلام اليتامى
فاقذفيني رصداً في كل باب
لا يهابْ
يقتل الخوف الذي ظل لباساً للشوارع
ويصارع ..
كل رأس مال من فرط الشراب
لمن احتلوا بلادي
غصبوا أرض الخليل ... أحرقوا كل النخيل
عذبونا ... شردونا ... لاحقونا
كتموا الأنفاس جيلاً بعد جيل
لمن اغتالوا شباب الصبر.. والزعتر
والزيتون .. والظل الظليلا
* * *
يا بلادي
إزرعيني فيك حوراً ونخيلا
واملئي الدنيا فروعا
وامسحي عن مقلة المغلوب في الأرض
الدموعا
وابعثينا فيك فجراً يعشق السيف الصقيلا
واقذفينا رصداً في كل شارع
يقتل الخوف بتغريد البنادق
ويعانق
شجر الزيت .. وأصوات المدافع
وازرعينا علماً في لجنة الأحداث
يمتد ... شراعا
واقذفينا لهباً .. يخترق الأفق اتساعا
قبل أن يزداد عمر الصمت ... باعا ..
أو ذراعا
واحرقي العالم كله ...
واتركي في مجلس الأمن الأدلة
واسألي العالم ما ذنبي إن صرت
رحى للموت في كل مدار
في ليالي البرد .. في منتصف الليل
وفي طول النهار
واسأليهم كيف كانوا " كلهم " خنجر خائن
طعنوني " كلهم " في القلب في كل المواطن
جعلوا مني ركابا ..
فاقذفيني ... قدراً ... ينقض
إعصاراً .. وناراً ... وعذابا
واحرقي العالم كله ..
واتركي في مجلس الأمن الأدلة
وانظري كيف على أعتابه عشنا أذلة
فاسحقي الرأس وحزي ... بالمناشير
الرقابا
وانزعي عنهم إذا شئت الثيابا
واغرسي الخنجر في كل أغانيهم
وذريها شتاتا
فلقد كانت جراحاتي لهم
كأساً ... وأفيوناً ... وقاتا(/1)
الدخول في البرلمانات.. هل يتعارض مع السياسة الشرعية؟ 27/12/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
جاءت الشريعة بتحصيل المصالح وتكميلها ، ونفي المفاسد وتعطيلها، وشريعة الإسلام شريعة خالدة عالمية كاملة، وجاءت لتحقيق مصالح البشر إلى قيام الساعة، ومن شمولية هذا الدين وكماله استيعابه لكل المستجدات، ورعايته للأحوال الحادثة مهما اختلف الزمان والمكان.
ومن أعظم ما عُني به الإسلام ما يتعلق بالسياسة الشرعية، حيث وضع أصولاً ومنطلقات لهذا الجانب العظيم من حياة الأمة، وقد استجدت أحوال وأوضاع في القرون الماضية تصدى لها العلماء بالبيان والتحقيق، وألّفوا في ذلك الكتب والرسائل المعينة على تنزيل تلك الأحوال في منازلها الشرعية، ومن أهم ما أُلِّف في ذلك "السياسة الشرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -، حيث جلّى كثيراً من الحقائق، وبيّن الحكم الشرعي في كثير من المسائل المشكلة.
ومما استجد في هذا العصر في جانب سياسة الدول وإدارتها لشؤونها ما يتعلق بالبرلمانات وما شاكلها من مجالس الأمة والشعب والشورى، تختلف الأسماء والحقيقة واحدة، ونظراً لاختلاف البلدان المنشئة لهذه المجالس، واختلاف الأنظمة الخاصة بكل مجلس عن الآخر تبعاً لاختلاف نظام حكم هذه الدول وسياساتها؛ ولأن المسلمين جزء من هذا العالم الذي توجد فيه هذه المجالس، ولذا نشأت الحاجة إلى بيان الحكم الشرعي في دخول هذه البرلمانات والمشاركة فيها، ولبيان هذه القضية وتحقيق الحكم الشرعي فيها، أقول:
إن نظام الحكم في أي دولة لا يخرج عن إحدى ثلاث حالات:
1- أن يكون نظاماً إسلامياً عادلاً.
2- أن يكون نظاماً إسلامياً ظالماً.
3- أن يكون نظاماً يحكم بالكفر.
فإن كان النظام نظاماً إسلامياً عادلاً، فإن إنشاء هذه المجالس، واختيار صيغة دخول الأعضاء فيها من باب السياسة الشرعية، ولا حرج في ذلك، وتبعاً لذلك فإن الدخول في هذه المجالس والمشاركة فيها أمر جائز، بل قد يكون واجباً إذا أمر ولي الأمر بذلك، أو كان مما يتوقف عليه قيام الواجب؛ لأن "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، على أن تكون الطاعة بالمعروف، كما جاءت بذلك النصوص.
أما إن كانت الدولة دولة إسلامية ولكنها ظالمة: فإن الدخول في هذه المجالس والمشاركة فيها يتوقف على صيغة نظام المجلس، ومدى تحقق المصالح ودفع المفاسد، وذلك بمراعاة قواعد تحصيل أعظم المصلحتين، ودفع أكبر المفسدتين، بحيث لا يترتب على مشاركته مفسدة أعظم، أو يفوت بتلك المشاركة مصلحة أكبر.
علماً أن الأصل في المشاركة هو الجواز، والمنع طارئ لأسباب وقرائن تحفّ بالأمر عند تطبيق القواعد المشار إليها آنفاً.
وما يُستأنس به في هذا الباب هو مشروعية الجهاد مع كل بر وفاجر، ما دام القتال شرعياً.
علماً بأن الجهاد مع الفاجر لا يخلو من مفاسد معتبرة، لكنها تتضاءل عند مصلحة إقامة الجهاد، وترك الجهاد مع الفاجر أعظم مفسدة من المفاسد المترتبة على المشاركة فيه معه.
أما إذا كان النظام نظاماً كافراً: فإن الأصل هو عدم جواز المشاركة في تلك البرلمانات لما في ذلك من مفاسد ظاهرة، ولكن نظراً لاختلاف البلدان، واختلاف حاجة المسلمين في كل بلد يحكم بمثل ذلك النظام، وانطلاقاً من قواعد الشريعة الكبرى في تحقيق المصالح ودرء المفاسد، واستدلالاً بقصة يوسف عليه السلام مع ملك مصر، فإنه يترجح لدي جواز المشاركة إذا تحققت الضوابط التالية:
1- ألا يترتب على المشاركة إقرار للكفر أو عمل به.
2- أن تكون مصلحة المشاركة ظاهرة متحققة لا خفية أو موهومة أو لا اعتبار لها.
3- ألا يترتب على تلك المشاركة مفسدة أعظم من المصالح المُراد تحقيقها، أو المفاسد المُراد درؤها ودفعها.
وعند النظر في تحقيق المصالح ودرء المفاسد من خلال المشاركة في هذه المجالس لا بد من اعتبار ما يلي:
1- بيان أن حق التشريع مقصور على الوحي، ولا يجوز لأحد من البشر مزاحمة هذا الحق.
2- أن المشاركة في هذه المجالس لا تلغي مبدأ الولاء والبراء؛ بل يجب أن تكون هذه المجالس ميداناً لبيان هذه القضية وتحقيقها والصدع بها حسب مقتضيات المصلحة الشرعية.
3- أن المشاركة في هذه المجالس ليست بديلاً عن المنهج النبوي في إقامة دولة الإسلام وتغيير الواقع الكفري، وإنما هي من أجل تحقيق المصالح وتخفيف المفاسد.
4- أن المشارك في هذه المجالس يجب أن يُظهر للناس أن مشاركته لا تستلزم الرضا بواقع هذه الأنظمة المخالفة للشرع ومؤسساتها الديمقراطية.
ويجب هنا التنبيه إلى ثلاثة أمور مهمة:
الأول: إن الحكم قد يختلف باختلاف العضو المختار للمشاركة عند النظر في قواعد تحقيق المصالح ودفع المفاسد.
الثاني: إن تطبيق هذه القواعد ليس لكل أحد، بل هو للعلماء المعتبرين الذين يحق لهم الاجتهاد في مثل هذه المسائل الكبرى، وتنزيل الحوادث في منازلها الشرعية.(/1)
الثالث: إن هذه القضية من مسائل الاجتهاد، فلا مجال للإنكار فيها إذا صدرت الفتوى من علماء مجتهدين معتبرين ولو خالفت ما ذكر، وبخاصة أن علماء كل بلد قد يكونون أقدر من غيرهم في تصور الأمر ومراعاة تحقيق المصالح ودرء المفاسد، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، والمهم هو الإخلاص والالتزام بالدليل ومراعاة القواعد والأصول الشرعية في مثل هذه الحوادث النازلة، وألا نجعل من ذلك ميداناً لاختلاف القلوب، ما دامت الأصول والمنطلقات شرعية معتبرة ولو اختلف في تنزيلها على محلها.
ولكنه البيان والنقاش ومقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل والبرهان بالبرهان، مع التقوى والإخلاص وتحري الحق دون تعصب لأقوال الرجال، فكلٌّ يؤخذ من قوله ويُرد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.(/2)
الدراسة في بلاد الغرب
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ ... 11/11/1424هـ
السؤال
أنا مستقيم إن شاء الله، وعسكري في هندسة الطيران، وقد ترشحت في بعثة دراسية لمدة أربعة أشهر في بلاد الغرب، وأنا أجيد اللغة الإنجليزية، وقد نهاني أحد الإخوة، حيث إني سأسكن في سكن عسكري.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
من شروط السفر إلى بلاد الكفار عند أهل العلم، أن يكون السفر مباحاً في طلب علم ينتفع به، ويعود نفعه على المسلمين عامة، وأن يلتزم من يريد السفر إلى هذه البلاد أحكام الإسلام الظاهرة من صلاة، وصيام، وأن يأمن على نفسه من الوقوع في الفتن، فإن القلوب ضعيفة والشبه خطافة كما قيل، ويبدو من السؤال توفر هذه الشروط في السائل – إن شاء الله- وإذا كان الأمر كذلك فسافر يا أخي، وتوكَّل على الله واسأل ربك أن يثبتك على الحق، والزم الطاعات وأكثر منها، وإن استطعت أن تأخذ معك زوجتك فهو أحسن وأجود، وعليك الحرص بملازمة أهل الصلاح من المسلمين من الجاليات الإسلامية هناك، فإن الرفيق يهون عليك السفر، ويؤنسك في الغربة، واعلم أن السفر إلى بلاد الكفار لدراسة هندسة الطيران ونحوها مما يحتاجه المسلمون جائز شرعاً ولا حرج فيه، وربما كان واجباً بعد تعينه عليك، واعلم أنه لا يجوز لك أن تسكن مع امرأة، لو دعيت إلى ذلك، وكلما أظهرت لهؤلاء الكفار، الأمريكان بأنك مسلم ملتزم بدينك لا تشاركهم في مقارفة الحرام كشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، ومصادقة النساء، ونحو ذلك، احترموك وقدروك، وفقنا الله وإياك إلى الخير، وثبتنا وإياك على الحق ونفع بك الإسلام والمسلمين. آمين(/1)
الدروس المستفادة من غزوة الخندق
• ... الغدر طبع اليهود
• ... اختراق فاشل
• ... الحصار مستمر
• ... حرب وسياسة
• ... فقه الدعاء
• ... السلام أصل لدينا
• ... حصار قريظة واجب
في خطبته التي ألقاها بجامع عمر بن الخطاب بالدوحة الجمعة 30 شوال 1426هـ الموافق 2-12-2005، تحدث الشيخ عن الدروس المستفادة من غزوة الخندق، وأكد العلامة الكبير على أن من أهم الدروس على الإطلاق هو نصرة الله للمسلمين رغم أن الكفار جاءوا بكل ما أوتوا من قوة وعتاد للقضاء على الإسلام، وهو ما يعطينا الأمل بأن نصر الله قريب من المسلمين بشرط أن يسيروا على نهج الرسول الكريم وأصحابه.
وقال القرضاوي: إن الرسول الكريم أعطى درسا بليغا في الشورى والاستماع لآراء الصحابة عندما وافق على حفر الخندق، كما أن الخوف الذي أحاط بالمسلمين والظلام الدامس الذي طغى على أجواء الحصار يشبه الظلام والخوف الذي نعيشه هذه الأيام، لكن النصر المؤزر من عند الله جاء حاسما وقويا وردع الكفار عن النبي، وأعطاه الفرصة ليكتشف غدر اليهود الذين انقلبوا عليه وانضموا للكفار رغم وجود معاهدة سلام بينهم وبين المسلمين.
وفي سياق آخر دعا الشيخ يوسف القرضاوي المسلمين السنة في العراق إلى دخول الانتخابات التشريعية القادمة، والمشاركة فيها بقوة سواء بالترشيح أو بالتصويت.
وقال القرضاوي: من الواجب على المسلمين من أهل السنة في العراق أن يذهبوا إلى الانتخاب وبكثافة؛ وذلك لإحقاق الحق. وعن مانع الجهاد قال الشيخ: إنه يجب أن يكون للجهاد رجال والانتخابات أو العمل السياسي رجال؛ أي أن دافع الجهاد لا يتعارض أبدًا مع المشاركة السياسية، فرسولنا صلى الله عليه وسلم كان يجاهد في غزوة الخندق من ناحية، وكان في الوقت نفسه يبعث من يفاوض غطفان أو غيرهم من ناحية أخرى. وكان أهل السنة قد تعللوا في الانتخابات السابقة بأن أمامهم ما هو أهم وهو مجاهدة العدو.
ويوضح القرضاوي ما يقصده بكلمة الجهاد، وهو "الجهاد الذي يقاوم الاحتلال الأمريكي وجنود الاحتلال، لا جهاد الذين يقومون بقتال المدنيين أو قتل الأبرياء". واعتبر أن التصويت في الانتخابات شهادة لله لا بد وأن يؤديه كل مسلم في مكانه؛ لأن بضياع الشهادة ضياع لحق الأمة وحق الشعب {ومن أظلم ممن كتم عنده شهادة من الله}.
كما اعتبر أن ذلك حق لأهل السنة حتى يستطيعوا أن يدافعوا عن حقوقهم بطرق مشروعة، وأن يكون لهم حظهم سواء في الجيش أو الوزارات أو المحافظات بما يتكافأ مع عددهم ونسبتهم وتاريخهم، وفي نفس الوقت حتى يستطيعوا السعي لتغيير الدستور؛ حيث وعدت الحكومة الحالية بتعديل الدستور بعد الانتخابات التالية؛ ولكي لا يأتي من يقول لقد أعطيناهم الفرصة ولكنهم هم الذين أحجموا عنها.
وعن بعض الفتاوى التي أصدرها بعض علماء العراق وخاصة من السنة، عن أن الدخول في انتخابات تحت رعاية الاحتلال الأمريكي حرام، يقول الشيخ إن هذا الكلام ليس مكانه هنا، وإن كانت حرام في أوقات أخرى إلا أن الضرورات هنا تبيح المحظورات، وأهاب بعلماء السنة وعلى رأسهم الشيخ حارث الضاري بألا يتعصبوا في هذا الأمر وأن ينظروا في الأمر من وجوه عدة.
ووجه القرضاوي دعوة لعلماء الشيعة وآياتهم وشيوخ الحوزة وعلى رأسهم جميعًا السيد علي السيستاني - بأن يصدروا فتاوى صريحة بحرمة دماء المسلمين، وبأن دم المسلم حرام بعيدًا عن مذهبه أو عرقه، أسوة بما قام به علماء السنة بإصدار فتوى بذلك.
وكانت غزوة الأحزاب هي محل خطبته الأول وقد استكمل فيها حديثه الذي بدأه الأسبوع الماضي.. قال: إنها الغزوة التي صمم فيها المشركون من قريش وأحابيشهم ومن غطفان ومن يتبعها من القبائل - قبائل البدو - في عشرة آلاف مقاتل أو أكثر، زحفوا علي المدينة، ليس لهم إلا غرض واحد وهم واحد هو أن يبيدوا المسلمين، يستأصلوا شأفة هذا الدين الجديد من جذوره، وألا يبقوا له من باقية، ألا يبقي أحد يعبد الله وحده ويقول لا إله إلا الله.. وزاد الأمر شدة أن هؤلاء الغزاة من الوثنيين المشركين انضم إليهم اليهود: يهود بني قريظة الذين بقوا في المدينة، وكانوا قد فعلوا مع الرسول ما يستوجب العقوبة حين حالفوا بني النضير ضد النبي صلي الله عليه وسلم، ولكنه عفا عنهم وأبقاهم في المدينة، ومع هذا أبت عليهم طبيعتهم إلا أن ينقضوا العهد والميثاق، وقد كان العهد يوجب عليهم أن ينصروا رسول الله علي من يغير علي المدينة ويهاجمها من الخارج، أن يمدوا الرسول بالمال أو بالسلاح أو بالرجال عند اللزوم، كان علي الأقل يجب أن يصمتوا، يقفوا علي الحياد، أن يلزموا حصونهم ولا يفعلوا شيئا، ولكنهم استجابوا لحيي بن أخطب الذي كان يشبه في اليهود بأبي جهل في العرب.. مازال بهم حتى نقضوا العهد، ويبدو أن هذا كان أحب إليهم، وينسجم مع تاريخهم وطبيعتهم.. وحينما بعث النبي إليهم من يستكشف الأمر عرف أن القوم بشر حال.
الغدر طبع اليهود(/1)
وقال د. القرضاوي أن الرسول بعث إليهم - اليهود - أولا - الزبير بن العوام، أرسله يستشف ما عند القوم، فعاد إليه وأخبره الخبر فقال صلي الله عليه وسلم مثنيا علي الزبير: أن لكل نبي حواريا وحواري الزبير.. ومرة قال له: ارم فذاك أبي وأمي، ولم يكتف النبي بذلك، بل أرسل من الأنصار من حلفاء هؤلاء اليهود من يتأكد من هذا، من الأوس مثل سعد بن معاد وسعد بن عبادة وغيرهم.. أرسل إليهم أبا لبابة بن المنذر، فجاءوا وأشاروا للرسول عن طريق الكتابة أن القوم قد غدروا، فعلم ذلك علي رسول الله صلي الله عليه وسلم، ولكنه بعد أن اضطجع فترة من الزمن يفكر في الأمر خرج إلي الصحابة يبشرهم: ابشروا بنصر الله وتأييده، لأن الغدر لا يكون عاقبته إلا الشر علي أصحابه فمن نكث فإنما ينكث علي نفسه ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهل.
وأضاف فضيلته: شق الأمر علي المسلمين وظلوا ليلا ونهارا يحفرون الخندق خصوصا بالليل، خوفا من أن يقتحم المشركون الخندق أو يغدر اليهود وهم في داخل المدينة، وقد قالوا مرة لأبي سفيان بن حرب زعيم قريش ومن معها: ابعث لنا بألف رجل ومن غطفان ألفا ليغير علي محمد، ولكن الله ثبطهم، ورأوا النبي في حراسة ليلا ونهارا، وكان النبي يحلف أن يحرس الصحابة المدينة وأن يطوفوا بها خوفا علي النساء والذرية خوفا عليهم من غدر اليهود فكانوا يطوفون ويكبرون: الله أكبر الله أكبر، فكان اليهود كلما سمعوا التكبير فُتَّ في عضدهم، ودخل الهلع علي نفوسهم فلم يستطيعوا أن ينفذوا ما عزموا عليه.. وكان المشركون يحاولون أن يجدوا مضيقا في الخندق الذي حفره النبي وأصحابه، وبذلوا فيه الجهود وتعبوا وعلي رأسهم رسول الله، لما رأوا هذا الخندق قالوا هذه مكيدة ما كانت لتكيدها العرب، فالعرب يحاربون في المدن المكشوفة.. لكنهم ظلوا ليجدوا فرصة ليقتحموا الخندق والمسلمون لهم بالمرصاد.. رماة النبال والسهام كلما رأوا جماعة يقتربون من الخندق رموهم.
اختراق فاشل
وقال إن جماعة منهم من الشجعان وجدوا مضيقا في ناحية من النواحي فألهبوا ظهور خيولهم فاقتحموا الخندق، من هؤلاء عمرو بن عبد ود العامري وضرار بن الخطاب وعكرمة بن أبي جهل، اقتحموا، وإذا بهم يدخلون أمام المسلمين وعمرو هذا من فرسان العرب المعروفين، الذي لا يقف أمامه أحد، فوقف يتحدي ويقول يا أصحاب محمد هل من مبارز، قال له علي بن أبي طالب أنا له يا رسول الله.. فقال له يا علي: انه عمرو، اجلس، وتحدي عمرو مرة أخري ورد الرسول الرد نفسه، ثم قال عمرو: يا أصحاب محمد: كنتم تدعون أن عندكم جنة من قتل منكم في الميدان دخلها، أين جنتكم هذه هنا نهض علي وقال أنا له يا رسول الله وقام وقال له مستصغرا سنة: يا بني أليس هناك أحد من أعمامك يأتي بدلا عنك فإني لا أحب أن أقتلك، قال له علي: ولكني والله أحب أن أقتلك، فحمي الرجل وكان راكبا فرسه نزل عنه وعقر فرسه بسيفه وكان علي راجلا وهو فارس فضربه عمرو وتلقاها علي، فضربه ضربة أصابه فيها وقتله وكبر المسلمون.. وعرف النبي أن صنديدا من صناديد الكفر قد قتله الله وكبه علي وجهه إلي النار.. ولحق الزبير بنوفل بن عبد الله المخزومي، لحقه الزبير فقتله، وقيل اندقت عنقه وهو يقتحم الخندق فأراد أهله أن يأخذوا جثته وأرسلوا للنبي: نعطيك عشرة آلاف درهم وأرسل لنا جثته فقال لا حاجة لنا فيها، انه خبيث جثته خبيثة، خبيث دينه: خذوه، لا نأكل تمن الموتى.
الحصار مستمر
وذكر فضيلته أن الحصار قد طال، امتد ما يقرب من شهر، لا يكاد المسلمون ينادون أو يشبعون من طعام، فهو قليل في المدينة، والحصار جعلها محاطة لا يصل إليها شيء ولا يستطيعون الخروج منها.. قال: لذلك ظهر النبي لأصحابه خاويا يكاد بطنه يلتصق بظهره، رأي ذلك جابر بن عبد الله فذهب إلي امرأته وقال لها ذلك، أأجد عندك شيئاً يؤكل فقال ما عندي إلا هذه الشاة الصغيرة ومُدَّ من شعير، فقال لها لنذبح هذه الشاة وخذي هذا المد وأخبزيه فإني سأدعو رسول الله صلي الله عليه وسلم.. فلما صنعوا الطعام ذهب إلي النبي وقال له لقد صنعت لك طعاما فتعال وادع
من أحببت من أصحابك فإذا بالنبي يأتيه بأفواج من الصحابة مئات، فقال جابر في نفسه إنها الفضيحة، فدخل لامرأته وأخبرها بالأفواج وبالطعام القليل، قالت له: أنت دعوتهم أم هو الذي دعاهم، قال بل هو قالت له دعهم هو اعلم بما يفعل، فالنبي قال لهم: ضعوا اللحم في القصعة، والخبز أخرجوه من التنور وغطوه، ويكشف ويأخذ من كليهما ويغلق، يقول جابر يأخذ منه وكأنه لم ينقص.. حتى أكل الرسول وأصحابه وشبعوا وجابر وأهله والخير باق والحمد لله.. وكان هذا من آيات الرسول صلي الله عليه وسلم ومعجزاته التي يكرمه الله بها في ساعات الشدة.(/2)
وقال فضيلته ما كان من شأن عمرة بنت رواحة زوجة بشير بن سعد أم النعمان بن بشير قالت: زوجي وأخي ليس عندهما شيء، فأرسلت لهما بحفنة فيها تمر من عجوة المدينة تخص بها زوجها وأخاها، وبعثت ابنتها بذلك فرأها النبي فقال لها: يا ابنتي ماذا معك قالت كذا وكذا.. قال هات ما عندك وفرش السماط وقال صبي هذا ونادوا في الجيش: تعالوا إلي العشاء فجاء الجيش يأخذ ويأكل فشبعوا بهذه التمرات.. كانت هذه من المعجزات لرسول الله صلي الله عليه وسلم.
حرب وسياسة
وأضاف: اشتد هذا الحال من الجوع والخوف والبرد وكان الحال كما وصف الله في سورة الأحزاب (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) في هذه الحال أراد النبي أن يعمل عملا آخر غير العمل العسكري: عمل سياسي، فأرسل إلي قادة غطفان: إلي عيينة بن حصن قائدهم والي الحارث بن عوف المري وأراد أن يفاوضهم بمعزل عن قريش ليفرق جماعتهما، وفاوضهما: ما قولكم أن نعطيكم ثلث ثمار المدينة وترجعون منصرفين عن قريش قالوا، بل نصفها قال: لا ثلثها،، و أخيرا قبلوا.. وبدءوا يكتبون هذا، ولكن النبي صلي الله عليه وسلم قال لابد أن نشاور الجماعة، وكان من خصاله ومن منهجه المتبع أن يشاور أصحابه في الأمور المهمة، شاورهم في بدر وفي احد، وفي أول أمر هذه الغزوة، ويشاورهم الآن خصوصا الأنصار وهم جمهرة أهل المدينة والقوة الضاربة فلابد أن يأخذ رأيهم وخصوصا انه يفاوضهم علي ثلث ثمار المدينة، ثمار نخيلهم وأعنابهم فقال سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقال سعد بن معاذ وهو رجل يحبه كل مؤمن من قرأ سيرته تعلق قلبه بهذا الرجل الذي ليس له نظير في إيمانه وصدقه وبذله لله عز وجل: قال يا رسول الله أهذا أمر من السماء أمرك الله به ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر أم هو أمر لك فيه هوي تحب أن تنفذه أم أمر تفعله من اجلنا رفقا بنا وإشفاقا علينا قال: بل هو أمر اصنعه لكم - إشفاقا، فقد رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، ورموكم من كل جانب فأردت أن اخفف عنكم.. وقبلت هذا الأمر، فقالوا يا رسول الله لقد كنا نحن وغطفان وهذه القبائل علي الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعرف الله ولا التوحيد وما كانوا يطمعون أن يأكلوا من ثمار هذه المدينة ثمرة واحدة إلا بيعا أو قري (نضيفهم) افبعد أن أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا به نعطي الدنية في ديننا والله لا يكون ذلك أبدا والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بينا وبينهم.. عرف رسول الله أن القوم مصممون علي الدفاع عن هذا الدين، عن جماعة المسلمين ولا يفرطون أبدا مهما أصابهم من جهد.. فوافقهم علي ما صنعوا وقال سعد بن معاذ ليجهدوا جهدهم.. واخبر الرسول أن الأمر لن يتم.. فالمشاورة قبل أن يكون الأمر ملزما للطرفين.
وذكر فضيلته أن ممن أصيبوا في هذه المعركة سعد بن معاذ رضي الله عنه في أكحله (عرق في أكحله يسمي عرق الحياة) أصابه ابن العرقة، قال رسول الله: عرق الله وجهه في النار ونقل سعد إلي خيمة رفيدة في المسجد النبوي وتعتبر أول ممرضة في الإسلام وكانت خيمتها تعتبر أول مستشفي ميداني يتلقي المجروحين والمصابين ويهيئ لهم من إسعافات أولية في تلك البيئة.
فقه الدعاء
ظل النبي والمسلمون يدعونه يا رسول الله لقد بلغت القلوب الحناجر، علمنا ماذا نقول وماذا ندعو، قال: قالوا: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، وكان النبي كثير الدعاء يدعو في هذه الغزوة بهذا الدعاء اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وسريع الحساب اهزم الأحزاب، اللهم أهزمهم وزلزلهم.(/3)
وقد استجاب الله دعاء رسوله صلي الله عليه وسلم وهزم هؤلاء الأحزاب وحده كما كان يقول النبي بعد ذلك: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ولاشيء بعده.. أرسل الله عليهم ريحا وجنودا لا يراها الناس (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود، فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها) وهي الملائكة التي نزلت في ثلاث غزوات: بدر والأحزاب وحُنين.. لنصرة المؤمنين.. وخلعت الريح خيامهم وأطفأت نيرانهم وقلبت فلا يبقي لهم شيء.. وأرسل النبي حذيفة بن اليمان ليري ماذا يصنعون، فدخل فيما بينهم وهم لا يعرفونه ووجد أبا سفيان يقول لهم: تحسسوا من حولكم، ليعرف كل منهم من هو جليسه فإن الأمر قد اختلط عليهم فبادر حذيفة بسؤال من عن يمينه حتى لا يفاجئه بالسؤال،قال لهم أبو سفيان: لقد بقينا هذه الأيام ولم نستطع أن نصنع شيئا، لقد أهلكنا البرد والجوع والريح ولم تف قريظة بما وعدت لأن الله هيأ احد المشركين ليسلم في هذا الوقت نعيم بن سعود الأشجعي أسلم فقال له الرسول لا تنضم إلينا واذهب فخذل عنا أن استطعت فإن الحرب خدعة.. وأعمل نعيم عقله وذكاءه في تخذيل المشركين ليفتن بعضهم عن بعض ويشكك وقال لليهود أن القوم جاءوا وسيتركونكم ويعودون لبلادهم وتبقون مع محمد ولا قبل لكم به اطلبوا منهم رهائن من أشرافهم، وذهب إلي قريش وأخبرهم بغدر اليهود بهم وأنهم سيطلبون رهائن منكم .. وضرب الله بعضهم ببعض.. مما دفع أبا سفيان أن يقول لقومه: إني راحل،ليس لنا بقاء هنا، وضرب جمله فقام من عقاله وقال أبو سفيان: إني راحل فارحلوا معي.
السلام أصل لدينا
وقال: أن حذيفة عاد للنبي يخبره ويقول: كان البرد شديدا ولكن حين كلفني رسول الله شعرت أني في حمام فيه حرارة وأخبره الخبر وهكذا ارتحل أبو سفيان ومن معه وارتحل عيينة بن حصن ومن معه وعادوا إلي المدينة وكان النصر من عند الله عز وجل وقال الله تعالي في ذلك.
ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفي الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا (9) أشخاص (6) من المسلمين و(3) من المشركين هم الذين ماتوا وبعض المسلمين أصابه سهم طائش فقتل شهيدا.. وكفي معناه أن المعركة إذا انتهت بغير قتال فهذه نعمة هذا هو الإسلام انه يحب السلام ولا يحب الدماء ولا يتعطش لها بل يخوض المعركة اضطرارا إذا اضطر إليها كتب عليكم القتال وهو كره لكم وكان النبي يقول لأصحابه : لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموه فاثبتوا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف .
ورأي أن المعركة كانت معركة أعصاب زلزل المسلمون فيها زلزالا شديدا حوصروا بهذه القوات الغازية الهائلة مع غدر الغادرين في الداخل، اليهودية تحالفت مع الوثنية،علي إبادة المسلمين وكان البلاء شديدا.. ما أشبه الليلة بالبارحة.
فنحن المسلمين محاصرون بقوي عديدة تريد أن تقتلع المسلمين من جذورهم تحت دعاوي شتي: دعوي الإرهاب، دعوي الأصولية، والقصد هو محاربة هذه الأمة يراد القضاء علي امة الإسلام حتى لا تقوم لها قائمة ولا ترتفع لها راية ولا تعلو لها كلمة ولكن الله سبحانه وتعالي وعدنا بقوله وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا شأن كلمة الله أن تكون هي العليا دائما كلمة الله هي كلمة الحق والعدل والصدق،كلمة الإيمان والإحسان .. نحن الآن في حصار أشبه بحصار الخندق، بحصار الأحزاب لكنا سننتصر أن شاء الله رغم كيد اليهودية ورغم كيد الصليبية ورغم كيد الكائدين ومكر الماكرين إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .
حصار قريظة واجب(/4)
وقال : لقد صمم النبي بعد هذه الغزوة أن يذهب إلي قريظة ليؤدبهم وكان هذا بأمر من الله تبارك وتعالي فقد دخل الرسول إلي بيته وخلع درعه وملابسه الحربية وإذا بجبريل يقول له خلعت السلاح أن الملائكة لا تزال بسلاحها الجنود التي لم ترونها أن الله يأمركم أن تذهبوا إلي قريظة.. وقال لأصحاب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة كان ذلك وقت صلاة الظهر وهم في ضاحية المدينة من 3الي 4 ساعات وفي الفريق اختلف الصحابة ما بين فهم الأمر علي انه كان لسرعة النهوض ولا يريد أن يضيع العصر وخالفهم الآخرون وعملوا بحرفية الأمر ولو وصلوا منتصف الليل ولم يلم الرسول أيا من الفريقين لكن المهم أن هؤلاء الصحابة وقفوا صفا واحدا أمام بني قريظة الذين غدروا في ساعة الشدة وحاصرهم النبي نحو خمس وعشرين ليلة حتى استسلموا ورضوا بحكم رسول الله واختاروا سعد بن معاذ حليفهم في الجاهلية وكان الأوس حلفاء بني قريظة وحكم سعد بأنه لا علاج لهم إلا أن يقتل مقاتلهم وتسبي نساؤهم وتغنم أموالهم وقال له الرسول: لقد حكمت بحكم الله عز وجل.. وهنا قال سعد عندما أصيب في اكحلة: اللهم أن كنت أبقيت لنبيك حربا مع قريش فأبقني حتى أقاتلهم فليس أحب إلي من قتال قوم كذبوا رسولك وآذوه وأخرجوه وان كنت أنهيت الحرب بينهم وبين رسول الله فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى أقر عيني في قريظة وحينما رأي هذا في قريظة انفجر جرحه وحصل علي الشهادة في سبيل الله وقال النبي : اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ.(/5)
الدروس المهمة لعامة الأمة
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
دار الوطن
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فهذه كلمات موجزة في بيان بعض ما يجب أن يعرفه العامَّة عن دين الإسلام، سميتها: (الدروس المهمة لعامَّة الأمة).
وأسأل الله أن ينفع بها المسلمين، وأن يتقبلها مني، إنه جواد كريم.
الدرس الأول: سورة الفاتحة وقصار السور
سورة الفاتحة وما أمكن من قصار السور، من سورة الزلزلة إلى سورة الناس، تلقيناً، وتصحيحاً للقراءة، وتحفيظاً، وشرحاً لما يجب فهمه.
الدرس الثاني: أركان الإسلام
بيان أركان الإسلام الخمسة، وأولها وأعظمها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، بشرح معانيها، مع بيان شروط لا إله إلا الله، ومعناها: (لا إله) نافياً جميع ما يعبد من دون الله، (إلا الله) مثبتاً العبادة لله وحده لا شريك له.
وأما شروط (لا إله إلا الله) فهي: العلم المنافي للجهل، واليقين المنافي للشك، والإخلاص المنافي للشرك، والصدق المنافي للكذب، والمحبة المنافية للبغض، والانقياد المنافي للترك، والقبول المنافي للرد، والكفر بما يعبد من دون الله.
وقد جمعت في البيتين الآتيين:
علم يقين وإخلاص وصدقك مع *** محبة وانقياد والقبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما *** سوى الإله من الأشياء قد ألها
مع بيان شهادة أن محمداً رسول الله، ومقتضاها: تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرعه الله عز وجل، ورسوله .
ثم يبين للطالب بقية أركان الإسلام الخمسة، وهي: الصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً.
الدرس الثالث: أركان الإيمان
أركان الإيمان، وهي ستة: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى.
الدرس الرابع: أقسام التوحيد وأقسام الشرك
بيان أقسام التوحيد، وهي ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
أما توحيد الربوبية: فهو الإيمان بأن الله سبحانه الخالق لكل شيء، والمتصرف في كل شيء، لا شريك له في ذلك.
وأما توحيد الألوهية: فهو الإيمان بأن الله سبحانه هو المعبود بحق لا شريك له في ذلك، وهو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها: لا معبود حق إلا الله، فجميع العبادات من صلاة وصوم وغير ذلك يجب إخلاصها لله وحده، ولا يجوز صرف شيء منها لغيره.
وأما توحيد الأسماء والصفات: فهو الإيمان بكل ما ورد في القرآن الكريم، أو الأحاديث الصحيحة من أسماء الله وصفاته، وإثباتها لله وحده على الوجه اللائق به سبحانه من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، عملاً بقول الله سبحانه: قُلْ هُوَ اللهُ أحد، اللهُ الصمَدُ، لم يلِد ولم يُولَد، ولم يكُن لَّهُ كُفُواً أحد [الصمد: كاملة]، وقوله عز وجل: ليس كمثله شيءُ وَهُوَ السَّمِيعُ البصِيرُ [الشورى:11]، وقد جعلها بعض أهل العلم نوعين، وأدخل توحيد الأسماء والصفات في توحيد الربوبية، ولا مشاحة في ذلك، لأن المقصود واضح في كلا التقسيمين.
وأقسام الشرك ثلاثة: شرك أكبر، وشرك أصغر، وشرك خفي.
فالشرك الأكبر: يوجب حبوط العمل والخلود في النار لمن مات عليه، كما قال الله تعالى: ولو أشركوُا لحبط عنهم ما كانوا يعملُون [الأنعام:88]، وقال سبحانه: ما كان للمُشركين أن يعمُرُوا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفُرِ أُولئك حَبِطتّ أعمالُهُم وفي النَّارِ هُم خالدُون [التوبة:17]، وأن من مات عليه فلن يغفر له، والجنة عليه حرام، كما قال الله عز وجل: إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفرُ ما دُون ذلك لمن يشاءُ [النساء:48]، وقال سبحانه: إنهُ من يُشرِك بالله فقد حرم اللهُ عليه الجنَّةَ ومأواهُ النّارُ وما للظالمين من أنصارِ [المائدة:72].
ومن أنواعه: دعاء الأموات، والأصنام، والاستغاثة بهم، والنذر لهم، والذبح لهم، ونحو ذلك.
أما الشرك الأصغر: فهو ما ثبت بالنصوص من الكتاب أو السنة تسميته شركاً، ولكنه ليس من جنس الشرك الأكبر، كالرياء في بعض الأعمال، والحلف بغير الله، وقول: ما شاء الله وشاء فلان، ونحو ذلك، لقول النبي : { "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" فسئل عنه، فقال: "الرياء" } [رواه الإمام أحمد، والطبراني، والبيهقي، عن محمود بن لبيد الأنصاري بإسناد جيد، ورواه الطبراني بأسانيد جيدة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج، عن النبي ].(/1)
وقوله : { من حلف بشيء دون الله فقد أشرك } [رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورواه أبو داود، والترمذي بإسناد صحيح، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما]، عن النبي : (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، وقوله : { لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان } [أخرجه أبو داود بإسناد صحيح، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه].
وهذا النوع لا يوجب الردة، ولا يوجب الخلود في النار، ولكنه ينافي كمال التوحيد الواجب.
أما النوع الثالث: وهو الشرك الخفي، فدليله قول النبي : { ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه } [رواه الإمام أحمد في مسنده، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه].
ويجوز أن يقسم الشرك إلى نوعين فقط:
أكبر وأصغر، أما الشرك الخفي فإنه يعمهما.
فيقع في الأكبر، كشرك المنافقين، لأنهم يخفون عقائدهم الباطلة، ويتظاهرون بالإسلام رياءً، وخوفاً على أنفسهم.
ويكون في الشرك الأصغر، كالرياء، كما في حديث محمود بن لبيد الأنصاري المتقدم، وحديث أبي سعيد المذكور. والله ولي التوفيق.
الدرس الخامس: الإحسان
ركن الإحسان، وهو: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
الدرس السادس: شروط الصلاة
شروط الصلاة، وهي تسعة:
الإسلام، والعقل، والتمييز، ورفع الحدث، وإزالة النجاسة، وستر العورة، ودخول الوقت، واستقبال القبلة، والنية.
الدرس السابع: أركان الصلاة
أركان الصلاة، وهي أربعة عشر:
القيام مع القدرة، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والاعتدال بعد الركوع، والسجود على الأعضاء السبعة، والرفع منه، والجلسة بين السجدتين، والطمأنينة في جميع الأفعال، والترتيب بين الأركان، والتشهد الأخير، والجلوس له، والصلاة على النبي ، والتسليمتان.
الدرس الثامن: واجبات الصلاة
واجبات الصلاة، وهي ثمانية:
جميع التكبيرات غير تكبيرة الإحرام، وقول: (سمع الله لمن حمده) للإمام والمنفرد، وقول: (ربنا ولك الحمد) للكل، وقول: (سبحان ربي العظيم) في الركوع، وقول: (سبحان ربي الأعلى) في السجود، وقول: (رب اغفر لي) بين السجدتين، والتشهد الأول، والجلوس له.
الدرس التاسع: بيان التشهد
بيان التشهد، وهو أن يقول:
(التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).
ثم يصلي على النبي ويبارك عليه، فيقول: (اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد).
ثم يستعيذ بالله في التشهد الأخير من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ثم يَتَخَيَّر من الدعاء ما شاء، ولا سيما المأثور من ذلك، ومنه:
(اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).
أما في التشهد الأول فيقوم بعد الشهادتين إلى الثالثة في الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وإن صلى على النبي فهو أفضل، لعموم الأحاديث في ذلك، ثم يقوم إلى الثالثة.
الدرس العاشر: سنن الصلاة
سنن الصلاة، ومنها:
1. الاستفتاح.
2. جعل كف اليد اليمنى على اليسرى فوق الصدر حين القيام، قبل الركوع وبعده.
3. رفع اليدين مضمومتي الأصابع ممدودة حذو المنكبين أو الأذنين عند التكبير الأول، وعند الركوع، والرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول إلى الثالثة.
4. ما زاد عن واحدة في تسبيح الركوع والسجود.
5. ما زاد على قول: (ربنا ولك الحمد) بعد القيام من الركوع، وما زاد عن واحدة في الدعاء بالمغفرة بين السجدتين.
6. جعل الرأس حيال الظهر في الركوع.
7. مجافاة العضدين عن الجنبين، والبطن عن الفخذين، والفخذين عن الساقين في السجود.
8. رفع الذراعين عن الأرض حين السجود.
9. جلوس المصلي على رجله اليسرى مفروشة، ونصب اليمنى في التشهد الأول وبين السجدتين.
10. التورك في التشهد الأخير في الرباعية والثلاثية وهو: الجلوس على مقعدته وجعل رجله اليسرى تحت اليمنى ونصب اليمنى.
11. الإشارة بالسبابة في التشهد الأول والثاني من حين يجلس إلى نهاية التشهد وتحريكها عند الدعاء.
12. الصلاة والتبريك على محمد، وآل محمد، وعلى إبراهيم، وآل إبراهيم في التشهد الأول.
13. الدعاء في التشهد الأخير.
14. الجهر بالقراءة في صلاة الفجر، وصلاة الجمعة، وصلاة العيدين، والاستسقاء، وفي الركعتين الأوليين من صلاة المغرب والعشاء.
15. الإسرار بالقراءة في الظهر والعصر، وفي الثالثة من المغرب، والأخيرتين من العشاء.(/2)
16. قراءة ما زاد عن الفاتحة من القرآن، مع مراعاة بقية ما ورد من السنن في الصلاة سوى ما ذكرنا، ومن ذلك: ما زاد على قول المصلي: (ربنا ولك الحمد)، بعد الرفع من الركوع في حق الإمام، والمأموم، والمنفرد، فإنه سنة، ومن ذلك أيضاً: وضع اليدين على الركبتين مفرجتي الأصابع حين الركوع.
الدرس الحادي عشر: مبطلات الصلاة
مبطلات الصلاة، وهي ثمانية:
1. الكلام العمد مع الذكر والعلم، أما الناسي والجاهل فلا تبطل صلاته بذلك.
2. الضحك.
3. الأكل.
4. الشرب.
5. انكشاف العورة.
6. الانحراف الكثير عن جهة القبلة.
7. العبث الكثير المتوالي في الصلاة.
8. انتقاض الطهارة.
الدرس الثاني عشر: شروط الوضوء
شروط الوضوء، وهي عشرة:
الإسلام، والعقل، والتمييز، والنية، واستصحاب حكمها بأن لا ينوي قطعها حتى تتم طهارته، وانقطاع موجب الوضوء، واستنجاء أو استجمار قبله، وطهورية ماء وإباحته، وإزالة ما يمنع وصوله إلى البشرة، ودخول وقت الصلاة في حق من حدثه دائم.
الدرس الثالث عشر: فروض الوضوء
فروض الوضوء، وهي ستة:
غسل الوجه ومنه المضمضة والاستنشاق، وغسل اليدين مع المرفقين، ومسح جميع الرأس ومنه الأذنان، وغسل الرجلين مع الكعبين، والترتيب، والموالاة.
ويستحب تكرار غسل الوجه، واليدين، والرجلين ثلاث مرات، وهكذا المضمضة، والاستنشاق، والفَرْض من ذلك مرة واحدة، أما مسح الرأس فلا يستحب تكراره كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة.
الدرس الرابع عشر: نواقض الوضوء
نواقض الوضوء، وهي ستة:
الخارج من السبيلين، والخارج الفاحش النجس من الجسد، وزوال العقل بنوم أو غيره، ومس الفرج باليد قبلاً كان أو دبراً من غير حائل، وأكل لحم الإبل، والردة عن الإسلام، أعاذنا الله والمسلمين من ذلك.
تنبيه هام: أما غسل الميت: فالصحيح أنه لا ينقض الوضوء، وهو قول أكثر أهل العلم، لعدم الدليل على ذلك، لكن لو أصابت يد الغاسل فرج الميت من غير حائل وجب عليه الوضوء.
والواجب عليه ألا يمس فرج الميت إلا من وراء حائل، وهكذا مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً، سواء كان ذلك عن شهوة، أو غير شهوة في أصح قولي العلماء، ما لم يخرج منه شيء، لأن النبي قبَّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ.
أما قول الله سبحانه في آيتي النساء، والمائدة: أو لامستُمُ النِساءَ [النساء:43، والمائدة:6]، فالمراد به: الجماع، في الأصح من قولي العلماء، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وجماعة من السلف والخلف.
الدرس الخامس عشر: التحلي بالأخلاق المشروعة لكل مسلم
التحلي بالأخلاق المشروعة لكل مسلم، ومنها: الصدق، والأمانة، والعفاف، والحياء، والشجاعة، والكرم، والوفاء، والنزاهة عن كل ما حرم الله، وحسن الجوار، ومساعدة ذوي الحاجة حسب الطاقة، وغير ذلك من الأخلاق التي دلّ الكتاب أو السنة على شرعيتها.
الدرس السادس عشر: التأدب بالآداب الإسلامية
التأدب بالآداب الإسلامية، ومنها:
السلام، والبشاشة، والأكل باليمين والشرب بها، والتسمية عند الابتداء، والحمد عند الفراغ، والحمد بعد العطاس، وتشميت العاطس إذا حمد الله، وعيادة المريض، واتباع الجنائز للصلاة والدفن، والآداب الشرعية عند دخول المسجد، أو المنزل والخروج منهما، وعند السفر، ومع الوالدين، والأقارب والجيران، والكبار والصغار والتهنئة بالمولود، والتبريك بالزواج، والتعزية في المصاب، وغير ذلك من الآداب الإسلامية في اللبس والخلع والانتعال.
الدرس السابع عشر: التحذير من الشرك وأنواع المعاصي
الحذر والتحذير من الشرك وأنواع المعاصي، ومنها: السبع الموبقات (المهلكات) وهي: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حَرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.
ومنها: عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وشهادة الزور، والأيمان الكاذبة، وإيذاء الجار، وظلم الناس في الدماء، والأموال، والأعراض، وشرب المسكر، ولعب القمار ـ وهو الميسر ـ والغيبة، والنميمة، وغير ذلك مما نهى الله عز وجل عنه، أو رسوله .
الدرس الثامن عشر: تجهيز الميت والصلاة عليه ودفنه
وإليك تفصيل ذلك:
أولاً: يشرع تلقين المحتضر: (لا إله إلا الله)، لقول النبي : { لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله } [رواه مسلم في صحيحه]، والمراد بالموتى في هذا الحديث: المحتضرون، وهم من ظهرت عليهم أمارات الموت.
ثانياً: إذا تيقن موته أغمضت عيناه وشد لحياه، لورود السنة بذلك.
ثالثاً: يجب تغسيل الميت المسلم، إلا أن يكون شهيداً مات في المعركة فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه، بل يدفن في ثيابه، لأن النبي صلى الله عليه لم يغسل قتلى أحد ولم يصل عليهم.
رابعاً: صفة غسل الميت:(/3)
أنه تستر عورته، ثم يرفع قليلاً ويعصر بطنه عصراً رفيقاً، ثم يلف الغاسل على يده خرقة أو نحوها فينجيه بها، ثم يوضئه وضوء الصلاة، ثم يغسل رأسه ولحيته بماء وسدر أو نحوه، ثم يغسل شقه الأيمن، ثم الأيسر، ثم يغسله كذلك مرة ثانية وثالثة، يمر في كل مرة يده على بطنه، فإن خرج منه شيء غسله، وسدَّ المحل بقطن أو نحوه، فإن لم يستمسك فبطين حرٍ، أو بوسائل الطب الحديثة، كاللزق ونحوه.
ويعيد وضوءه، وإن لم ينق بثلاث زيْد إلى خمس، أو إلى سبع، ثم ينشفه بثوب، ويجعل الطيب في مغابنه، ومواضع سجوده، وإن طيبه كله كان حسناً، ويجمر أكفانه بالبخور، وإن كان شاربه أو أظفاره طويلة أخذ منها، وإن ترك ذلك فلا حرج، ولا يسرح شعره، ولا يحلق عانته، ولا يختنه، لعدم الدليل على ذلك، والمرأة يضفر شعرها ثلاثة قرون، ويسدل من ورائها.
خامساً: تكفين الميت:
الأفضل أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، كما فعل بالنبي ، يدرج فيها إدراجاً، وإن كفن في قميص وإزار ولفافة فلا بأس.
والمرأة تكفن في خمسة أثواب: درع، وخمار، وإزار، ولفافتين. ويكفن الصبي في ثوب واحد إلى ثلاثة أثواب، وتكفن الصغيرة في قميص ولفافتين.
والواجب في حق الجميع ثوب واحد يستر جميع الميت، لكن إذا كان الميت محرماً فإنه يغسل بماء وسدر، ويكفن في إزاره وردائه أو في غيرهما، ولا يغطى رأسه ولا وجهه، ولا يطيب، لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله ، وإن كان المحرم امرأة كفنت كغيره، ولكن لا تطيب، ولا يغطى وجهها بنقاب، ولا يداها بقفازين، ولكن يغطى وجهها ويداها بالكفن الذي كفنت فيه، كما تقدم بيان صفة تكفين المرأة.
سادساً: أحق الناس بغسله والصلاة عليه ودفنه: وصيه في ذلك، ثم الأب، ثم الجد، ثم الأقرب فالأقرب من العصبات في حق الرجل.
والأولى بغسل المرأة: وصيتها، ثم الأم، ثم الجدة، ثم الأقرب فالأقرب من نسائها، وللزوجين أن يغسل أحدهما الآخر، لأن الصديق غسلته زوجته، ولأن علياً غسل زوجته فاطمة رضي الله عنها.
سابعاً: صفة الصلاة على الميت:
يكبر أربعاً، ويقرأ بعد الأولى: الفاتحة، وإن قرأ معها سورة قصيرة أو آية أو آيتين فحسن، للحديث الصحيح الوارد في ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، ثم يكبر الثانية ويصلي على النبي كصلاته في التشهد، ثم يكبر الثالثة، ويقول: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذَكَرِنا وأنْثَانَا، اللهم من أحْيَيْتَهُ منا فأحْيِه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفّهُ على الإيمان، اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكْرِم نُزُلَه، وَوَسَّع مُدْخَلَه، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبْدِلْهُ داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، وعذاب النار، وافسح له في قبره، ونوِّر له فيه، اللهم لا تَحْرِمْنَا أجره ولا تُضِلَّنا بعده)، ثم يكبر الرابعة، ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه.
ويستحب أن يرفع يديه مع كل تكبيرة، وإذا كان الميت امرأة يقال: (اللهم اغفر لها... إلخ)، وإذا كانت الجنائز اثنتين يقال: (اللهم اغفر لهما...الخ)، وإن كانت الجنائز أكثر من ذلك قال: (اللهم اغفر لهم... الخ) أما إذا كان فرطاً فيقال بدل الدعاء له بالمغفرة: (اللهم اجعله فرطاً وذُخْرَاً لوالديه، وشفيعاً مُجَاباً، اللهم ثَقِّل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، وأجعله في كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وَقِهِ برحمتك عذاب الجحيم).
والسنة أن يقف الإمام حذاء رأس الرجل، ووسط المرأة، وأن يكون الرجل مما يلي الإمام إذا اجتمعت الجنائز، والمرأة مما يلي القبلة، وإن كان معهم أطفال قدم الصبي على المرأة، ثم المرأة، ثم الطفلة، ويكون رأس الصبي حيال رأس الرجل، ووسط المرأة حيال رأس الرجل، وهكذا الطفلة يكون رأسها حيال رأس المرأة، ويكون وسطها حيال رأس الرجل، ويكون المصلون جميعاً خلف الإمام، إلا أن يكون واحداً لم يجد مكاناً خلف الإمام فإنه يقف عن يمينه.
ثامناً: صفة دفن الميت:
المشروع تعميق القبر إلى وسط الرجل، وأن يكون فيه لحد من جهة القبلة، وأن يوضع الميت في اللحد على جنبه الأيمن، وتحل عقد الكفن، ولا تنزع بل تترك، ولا يكشف وجهه سواء كان الميت رجلاً أو امرأة، ثم ينصب عليه اللّبِن، ويطين حتى يثبت ويقيه التراب، فإن لم يتيسر اللَّبِن فبغير ذلك من ألواح، أو أحجار، أو خشب يقيه التراب، ثم يهال عليه التراب، ويستحب أن يقال عند ذلك: (باسم الله، وعلى ملة رسول الله)، ويرفع القبر قدر شبر، ويوضع عليه حصباء إن تيسر ذلك، ويرش بالماء.
ويشرع للمشيعين أن يقفوا عند القبر ويدعوا للميت، لأن النبي كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يُسْأَّل).(/4)
تاسعاً: ويشرع لمن لم يُصَلَّ عليه أن يصلي عليه بعد الدفن، لأن النبي فعل ذلك، على أن يكون ذلك في حدود شهر فأقل، فإن كانت المدة أكثر من ذلك لم تشرع الصلاة على القبر، لأنه لم ينقل عن النبي أنه صلى على قبر بعد شهر من دفن الميت.
عاشراً: لا يجوز لأهل الميت أن يصنعوا طعاماً للناس، لقول جرير بن عبد الله البجلي الصحابي الجليل رضي الله عنه: { كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد الدفن من النياحة } [رواه الإمام أحمد بسند حسن]، أما صنع الطعام لهم، أو لضيوفهم فلا بأس، ويشرع لأقاربه وجيرانه أن يصنعوا لهم الطعام، لأن النبي لما جاءه الخبر بموت جعفر بن أبي طالب في الشام أمر أهله أن يصنعوا طعاماً لأهل جعفر، وقال: { إنه أتاهم ما يشغلهم }.
ولا حرج على أهل الميت أن يدعوا جيرانهم، أو غيرهم للأكل من الطعام المُهْدَى إليهم، وليس لذلك وقت محدود فيما نعلم من الشرع.
حادي عشر: لا يجوز للمرأة الحداد على ميت أكثر من ثلاثة أيام إلا على زوجها فإنه يجب عليها أن تحد عليه أربعة أشهر وعشراً، إلا أن تكون حاملاً فإلى وضع الحمل، لثبوت السنة الصحيحة عن النبي بذلك.
أما الرجل فلا يجوز له أن يحد على أحد من الأقارب أو غيرهم.
ثاني عشر: يشرع للرجال زيارة القبور بين وقت وآخر للدعاء لهم، والترحم عليهم، وتذكر الموت وما بعده، لقول ا لنبي : { زوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة } [خرّجه الإمام مسلم في صحيحه]، وكان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين).
أما النساء فليس لهن زيارة القبور، لأن الرسول لعن زائرات القبور، ولأنهن يخشى من زيارتهن الفتنة وقلة الصبر، وهكذا لايجوز لهن اتباع الجنائز إلى المقبرة، لأن الرسول نهاهن عن ذلك، أما الصلاة على الميت في المسجد، أو في المصلى فهي مشروعة للرجال وللنساء جميعاً.
هذا آخر ما تيسر جمعه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.(/5)
الدعاء ... الدعاء ... الدعاء .... السلاح الغائب
بسم الله ا لرحمن الرحيم
:: من فوائد الدعاء ::
قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يغنى حذر من قدر ، والدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل ، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة )
رواه أحمد والحاكم وصححه عن عائشة مرفوعا
وهذا الحديث يوضح أن الوقاية من المصائب تكون بالدعاء بينما لا ينجح الحذر فى رد هذه المصائب ولكن مع اعتبار قول الله ( وخذوا حذركم )
:: واسمع لهذه القصة ::
جاء رجل إلى أبى الدرداء فقال يا أبى الدرداء لقد احترق بيتك فقال ما احترق ولم يكن الله ليفعل ذلك ، بكلمات سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم من قالها فى أول نهاره لم تصبه مصيبة حتى يمسى ومن قالها آخر النهار لم تصبه مصيبة حتى يصبح . وقد قلتها اليوم .
( اللهم أنت ربى ، لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم أعلم أن الله على كل شىء قدير و أن الله قد أحاط بكل شىء علما ، اللهم إنى أعوذ بك من شر نفسى ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم ) ثم قال انهضوا بنا ، فقام وقاموا معه فانتهوا إلى داره وقد احترق ما حولها ، ولم يصبها شىء .
انظر الوابل الصيب لابن القيم ، الأذكار للنووى .
:: سهام الدعاء تطفىء نيران القذائف ::
ذكر الشيخ عبدالله عزام فى كتابه ( آيات الرحمن فى جهاد الأفغان ) حدثنى أرسلان قال هاجمتنا الدبابات وكان عددها حوالى 120 دبابة ومعهم سيارات كثيرة ونفذت ذخيرتنا حتى تأكدنا من الأسر فلجأنا إلى الله بالدعاء وبعد قليل إذا بالرشاشات تفتح على الشيوعيين من كل مكان ، وهزم الشيوعيون ، ولم يكن بالمنطقة أحد غيرنا إنها الملائكة .
:: ونفك الأسرى بالدعاء ::
جاء مالك الأشجعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أسر ابنى عوف فقال له النبى صلى الله عليه وسلم أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله وكانوا قد شدوا قيده فسقط القيد فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها و أقبل فمر بغنم للعدو فاستاقها فجاء بها إلى أبيه وقص عليه الخبر فقال أبوه قف حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عنها ، فلما أخبره بذلك قال صلى الله عليه وسلم ( اصنع بها ما أحببت ) ونزل قول الله تعالى ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا )
ابن جرير فى تفسيره
أخى : أمن يجيب المضطر إذا دعاه ،
أخى : هل عندك أسير تريد فك أسره ،
أخى : ألست فى حاجة إلى الله ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله )
أخى : فى كل ذلك عليك بالتضرع إلى الله ،،،،،،،،،
الدعاء إلهام من الله
1_ لما عصى آدم ربه جل وعلا وأكل هو وزوجته من الشجرة المحرمة شعر بالندم فألهمه الله صيغة الاعتذار (سبحان الرحيم الغفور يخطىء عبده فى حقه وهو الذى ييسر له ماذا يفعل ) يقول ربنا جل وعز ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم )
وكانت هذه الكلمات هى : ( ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) .
2_ يقول عمر رضى الله عنه أنا لا أحمل هم الإجابة ( لأنه يوقن أن الله يجيب لأنه هو الذى وعد من دعا بذلك فى قوله _ وقال ربكم ادعونى أستجب لكم _ ) و إنما أحمل هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء كانت الإجابة معه .
وهذا كلام نفيس فمن ألهم الدعاء فقد أريد به الإجابة ، فإن الله تعالى قال ( ادعونى أستجب لكم ) ( وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) فإذا خرج الدعاء من قلب ناظر إلى الله راغب فيما عنده زاهد عمن سواه لم يكن بينه وبين الإجابة حائل .
آوى عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى كومة من الرمل بعد أن أجهده الطواف والسعى من مصالح المسلمين ، فلما وجد مس الراحة على الرمال قال : اللهم كبرت سنى وووهنت قوتى وفشت رعيتى ، فاقبضنى إليك غير مضيع ولا مفتون واكتب لى الشهادة فى سبيلك والموت فى مدينة رسولك .
هل فى هذا الدعاء طلب من عمر أن يزداد مالا أو تتحقق له شهوة ؟
هل فى هذا الدعاء شىء للدنيا ؟
وهل دعا بهذا الدعاء لأنه يئس من الحياة ؟ أم قاله وهو يسوس الشرق والغرب ويسعى فى مصالح المسلمين ؟
والدعاء قدر الله .. وما أرى عمر سأل الله إلا ما قدره الله له .. من منا يحب أن يطعن فى بطنه فتتمزق الأحشاء حتى يندلق منها الطعام والشراب ؟ هذا الحادث القاسى كان قدرا من أقدار الله التى خبأها لعمر فألهم الله عمر هذا الدعاء لتصبح هذه الميتة أمنية من أمنياته .. إنه لم ير الحادثة بهذه الصورة التى أوضحناها و إنما رآها شهادة فى سبيل الله توجب له الجنة ..
صورة أخرى توضح الإلهام فى الدعاء :(/1)
فى دعاء سعد بن معاذ رضى الله عنه .. تطابق كامل بين صيغة الدعاء وبين خطوات القدر حينما يقول ( اللهم إن كنت قد أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقنى .. فإنه لا قوم أحب إلى من أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه و أخرجوه ، و إن كنت وضعت الحرب بينه وبينهم فاجعل ما أصابنى اليوم طريقا للشهادة ولا تمتنى حتى تقر عينى من بنى قريظة ) .
وهذا ما حدث لقد انتهت الحرب مع قريش .
وحكمه الله فى بنى قريظة فحكم بقتل الرجال وسبى الذرارى والنساء وتقسيم الأموال حتى هتف النبى صلى الله عليه وسلم لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سماوات ....
فيا أخى عليك أن تطرق باب الله قالباب مفتوح حتى لو أن الإجابة تأخرت فاعلم أن الله قال ( وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ) واعلم أن قدر الله لا يأتى بشر بل إن قدر الله كله خير حتى ولو كان ظاهره غير ذلك .
وقديما قالوا : من أدمن قرع الباب أوشك أن يفتح له وهل من باب يدمن العبد قرعه إلا باب الله
لا تسألن بنى آدم حاجة وسل الذى أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وبنى آدم حين يُسأل يغضب
ومرة أخرى ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ، والله هو الغنى الحميد )
وإلى اللقاء فى حلقة ثانية بعنوان : الدعاء علاج نفسى .
اللهم اجعل عملنا هذا خالصا لك ولا تجعل فيه لأحد من خلقك مثقال ذرة ولا أقل منها يا رب العالمين نسألك ربنا الإخلاص فى القول والعمل ، والسر والعلن ، ونسألك خشيتك فى الغيب والشهادة ، ونسألك الحلم فى الغضب والرضا ، والقصد فى الفقر والغنى ،،،،،،، اللهم آمين .(/2)
الدعاء بعد الصلاة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ كتاب الصلاة/ صلاة التطوع/الوتر والقنوت
التاريخ ... 27/04/1426هـ
السؤال
السلام عليكم وحمة الله وبركاته.
إمام مسجد يتعرض للأذى (إن ترك الدعاء بعد الصلاة والقنوت في صلاة الفجر على الدوام) من المجتمع بالسب، ومن الجهات المختصة بالمساجد للمساءلة، وهو في حيرة من أمره بعد أن علم أن الدعاء بعد الصلاة بدعة، فإن ترك الإمامة تقدم لها من ليس أهلاً لها، فبماذا تنصحونه مأجورين؟
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الدعاء بعد الصلاة جماعة بدعة، حيث لم يرد عن رسول الله، ولا أحد من صحابة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- والنبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718).
وملازمة القنوت في صلاة الفجر لا ينبغي، وإنما يقنت حينا ويترك أحياناً، وهذا قول بعض الفقهاء.
وكان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يقنت في صلاة الفجر وسائر الأوقات شهراً يدعو على أقوام بأعيانهم، ثم ترك. انظر صحيح البخاري (4090)، ومسلم (677).
والأولى لك عدم المداومة على القنوت، ولو تركته بالكلية جاز لك. وأما ما تعيش فيه من المضايقات بين أفراد المجتمع والجهات المختصة بالمساجد، فأمر يخصك، وأنت الذي تقدر الحال. أما كونك إذا تركت الإمامة سيأتيها من ليس لها أهل، فلا يجوز لك حينئذ تركها؛ لأنك معين على الباطل. وفقنا الله وإياك إلى كل خير.
واحذروا من الفرقة فهي أحد مداخل الشيطان لإضعاف العبادة وخلخلة بناء المجتمع. وفقكم الله لهداه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(/1)
الدعاء سلاح المؤمن ... ... ...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين، وبعد:
فالدعاء طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، ومفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، به تُستجلب النعم، وبمثله تُستدفع النقم. ما أشد حاجة العباد إليه، وما أعظم ضرورتهم إليه، لا يستغني عنه المسلم بحال من الأحوال.
والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه.
وأمرٌ هذا شأنه حريٌ بالمسلم أن يقف على فضائله وآدابه، نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم الدعاء وصالح الأعمال.
فضائل الدعاء
للدعاء فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، ويكفي أنه نوع من أنواع العبادة، بل هو العبادة كلها كما أخبر النبي بقوله: { الدعاء هو العبادة } [رواه الترمذي وصححه الألباني]. وترك الدعاء استكبار عن عبادة الله كما قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، وهو دليل على التوكل على الله، وذلك لأن الداعي حال دعائه مستعين بالله، مفوض أمره إليه وحده دون سواه. كما أنه طاعة لله عز وجل واستجابة لأمره، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
وهو سلاح قوي يستخدمه المسلم في جلب الخير ودفع الضر، قال : { من فُتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سُئل الله شيئاً يُعطى أحب إليه من أن يُسأل العافية، إن الدعاء ينفع مما نزل وما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء } [رواه الترمذي وحسنه الألباني].
وهو سلاح استخدمه الأنبياء في أصعب المواقف، فها هو النبي في غزوة بدر عندما نظر إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر استقبل القبلة ثم رفع يديه قائلاً: { اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض } فما زال يهتف بالدعاء ماداً يديه، مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبوبكر فأخذ رداءه وألقاه على منكبه ثم التزمه من ورائه وقال: ( يا نبي الله، كفاك منشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك ) [رواه مسلم].
وها هو نبي الله أيوب عليه السلام يستخدم سلاح الدعاء بعدما نزل به أنواع البلاء، وانقطع عنه الناس، ولن يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، وهو في ذلك كله صابر محتسب، فلما طال به البلاء دعا ربه قائلاً: وَأيُوبَ إذ نَادى رَبَهُ أنّي مَسَنِىَ الضُرُ وَأنتَ أرحَمُ الرّاحِمِينَ (83) فَاستَجَبنَا لَهُ فَكَشَفنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ [الأنبياء:84،83].
والدعاء سبب لتفريج الهموم وزوال الغموم، وإنشراح الصدور، وتيسير الأمور، وفيه يناجي العبدُ ربّه، ويعترف بعجزه وضعفه، وحاجته إلى خالقه ومولاه، وهو سبب لدفع غضب الله تعالى لقول النبي : { من لم يسأل الله يغضب عليه } [رواه أحمد والترمذي وحسنه الألباني]. وما أحسن قول الشاعر:
لا تسألن بني آدم حاجة *** وسلِ الذي أبوابُه لا تحجبُ
الله يغضب إن تركت سؤاله *** وبني آدم حين يسأل يغضبُ
وهو سلاح المظلومين ومفزع الضعفاء المكسورين إذا انقطعت بهم الأسباب، وأغلقت في وجوههم الأبواب، يقول الإمام الشافعي:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه *** وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهام الليل لا تخطي ولكن *** له أمدٌ وللأمد انقضاء
آداب الدعاء
للدعاء آداب كثيرة يحسن توافرها لتكون عوناً بعد الله على إجابة الداعي، ومن هذه الآداب:
1 - افتتاح الدعاء بحمد الله تعالى والثناء عليه، والصلاة على النبي :
لحديث فضالة بن عبيد قال: بينما رسول الله قاعداً إذ دخل رجلٌ فصلّى فقال: اللهم اغفر لي وارحمني. فقال رسول الله : { عجلت أيها المصلي، إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله وصلِّ عليّ ثم ادعه }. ثم صلّى رجل آخر بعد ذلك فحمد الله، وصلى على النبي ، فقال له النبي : { أيها المصلي ادع تُجب } [رواه الترمذي وصححه الألباني].
2 - الإعتراف بالذنب والإقرار به:
وفي هذا كمال العبودية لله تعالى، مثلما دعا يونس عليه السلام: فَنَادى فِي الظُلُمَاتِ أن لآ إلَهَ إلآ أنتَ سُبحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَالٍِمِينَ [الأنبياء:87].
3 - الإلحاح في الدعاء والعزم في المسألة:
لقول النبي : { إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولن: اللهم إن شئت فأعطني، فإنه لا مستكره له } [رواه البخاري ومسلم].
4 - الوضوء واستقبال القبلة ورفع الأيدي حال الدعاء:
فهذا أدعى إلى خشوعه وصدق توجهه، فعن عبدالله بن زيد قال: ( خرج النبي إلى هذا المصلي يستسقي فدعا واستسقى، ثم استقبل القبلة وقلب رداءه ). ولحديث أبي موسى الأشعري لما فرغ النبي من حنين، وفيه قال: فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال: { اللهم اغفر لعبيد بن عامر } ورأيت بياض أبطيه. [رواه البخاري ومسلم].
5 - خفض الصوت والإسرار بالدعاء:(/1)
لقول الله تعالى: ادعُوا رَبَكُم تَضَرُعاً وَخُفيَةٌ إنَهُ لاَ يُحِبُ المُعتَدِينَ [الأعراف:55]. ولقول النبي : { أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم } [رواه البخاري].
6 - عدم تكلف السجع:
وذلك لأن الداعي ينبغي أن يكون في حال تضرع وذلة ومسكنة، والتكلف لا يناسب ذلك، وقد أوصى ابن عباس أحد أصحابه قائلاً: ( فانظر السجع في الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله صلى الله عليi وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب ) [رواه البخاري].
7 - تحري الأوقات المستحبة واغتنام الأحوال الشريفة:
كأدبار الصلوات الخمس، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، والثلث الأخير من الليل، ويوم الجمعة، ويوم عرفة، وحال نزول المطر، وحال السجود، وحال زحف الجيوش في سبيل الله، وغير ذلك.
8 - تجنب الدعاء على النفس والأهل والمال:
لقول النبي : { لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم } [رواه مسلم].
نماذج لأدعية من الكتاب والسنة
أولاً: أدعية من القرآن الكريم:
1 ـ (رَبَنَا اصرٍف عَنَا عَذّابَ جَهَنَمَ إنَ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إنَهَا سَآءَت مُستَقَراً وَمُقَاماً) [الفرقان:66،65].
2 ـ (رَبَنَا هَب لَنَا مِن أزوَجِنَا وَذُرِياتِنَا قُرَةَ أعيُنٍ واَجعَلنَا لِلمُتَقِينَ إمَاماً) [الفرقان:74].
3 ـ (رَبَنَا اغفِر لَنَا وَلإخوَنِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِاللإيمَانِ وَلاَ تَجعَل فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَذِينَ ءَامَنُوا رَبَنَآ إنَكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
4 ـ (رَبِ اغفِر وَارحَم وَأنتَ خَيرُ الرَاحِمينَ) [المؤمنون:118].
5 ـ (رَبَنَآ ءَاتِنَا فِي الدُنّيَا حَسَنَةً وَفيِ الأَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَارِ) [البقرة:201].
6 ـ (رَبَنَا لاَ تُؤَاخِذنَآ إن نَسِينَآ أَو أخطَأنَا رَبَنَا وَلاَ تَحمِل عَلَيَنآ إصراً كَمَا حَمَلتَهُ عَلَى الّذِينَ مِن قَبلِنَا رَبَنآ وَلاَ تَحمِلنَآ مَلاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعفُ عَنّا واغفِر لَنَا وَارحَمنَآ أنتَ مَولَنَا فانصُرنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ) [البقرة:268].
7 ـ (رَبَنَا لاَ تُزِغ قُلُبَنَا بَعدَ إذ هَدَيَتَنا وَهَب لَنَا مِن لَدُنكَ رَحمَةً إنَكَ أنتَ الوَهَابُ) [آل عمرآن:8].
8 ـ (رَبِّ اشرَح لي صَدرِي (25) وَيَسِّر ليِ أمرِي (26) وَحلُل عٌقدَةً مِن لِسَاني (27) يَفقَهُوا قَوليِ) [طه:25-28].
9 ـ (رَبِ إنّيِ ظَلَمتُ نَفسِي فَاغفِر ليِ) [القصص:16].
10 ـ (رَبَنآ لاَ تَجعَلَنَآ فِتنَةً لِلقَومِ الظّالِمينَ (85) وَنَجِنآ بِرَحمَتِكَ مِنَ القَومِ الكَافِرِينَ) [يونس:86،85].
11 ـ (رَبَنآ اغفِر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسرَافَنَا فيِ أمرِنَا وَثَبِت أقدَامَنَا وَانصُرنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ) [آل عمران:147].
12 ـ (رَبَنَآ ءَاتِنَا مِن لَدُنكَ رَحمَةً وَهَيىء لَنَا مِن أمرِنَا رَشَداً) [الكهف:10].
13 - (رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه:114].
14 - (رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ) [المؤمنون:97].
15 - (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الممتحنة:5].
16 - (رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء) [آل عمران:38].
17 - (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة:127].
18 - (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء) [إبراهيم:40].
19 - (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) [إبراهيم:41].
20 - (رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:16].
21 - (رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) [العنكبوت:30].
22 - (رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) [المؤمنون:109].
23 - (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) [التحريم:8].
24 - (رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة:83].
ثانياً: أدعية من السنة النبوية:
1 - { اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر }.
2 - { اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى }.(/2)
3 - { اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والبخل، والهرم، وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم إني أعوذ بك من علم لاينفع، ومن قلب لايخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لايستجاب لها }.
4 - { اللهم اهدني وسددني، اللهم إني أسألك الهدى والسداد }.
5 - { اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك }.
6 - { اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك. أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي }.
7 - { اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك }.
8 - { يامقلب القلوب ثبت قلبي على دينك }.
9 - { اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة }.
10 - { اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار، وعذاب النار، وفتنة القبر، وعذاب القبر، وشر فتنة الغنى، وشر فتنة الفقر، اللهم إني أعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل قلبي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب. اللهم إني أعوذ بك من الكسل والمأثم والمغرم }.
11 - { اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات }.
12 - { اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء }.
13 - { اللهم إني أعوذ بك من شر ماعملت، ومن شر ما لم أعمل }.
14 - { اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت }.
15 - { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين }.
16 - { اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي، ومن شر منيي }.
17 - { اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء }.
18 - { اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني }.
19 - { اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي، وترحمني، وإذا أردت فتنة قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك }.
20 - { اللهم إني أسألك من الخير كله: عاجله وآجله، ماعلمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله: عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم. اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك، وأعوذ بك من شر ما استعاذ منه عبدك ونبيك. اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسالك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً }.
21 - { اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً، ولا تشمت بي عدواً ولا حاسداً. اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك }.
22 - { اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقواتنا ما أحببتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لايرحمنا }.
23 - { اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي }.
24 - { اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة }.
25 - { رب أعني ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني ويسر الهدى إليّ، وانصرني على من بغى عليّ، رب اجعلني لك شاكراً، لك ذكاراً، لك رهّاباً، لك مطواعاً، إليك مخبتاً أواهاً منيباً، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي }.
26 - { اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي }.
27 - { اللهم إني أسألك علماً نافعاً، وأعوذ بك من علم لاينفع }.
28 - { اللهم رب السماوات السبع ورب الأرض، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شي، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شئ أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شئ، وأنت الآخر فليس بعدك شئ، وأنت الظاهر فليس فوقك شئ، وأنت الباطن فليس دونك شئ، اقض عنا الدين وأعننا من الفقر }.
29 - { اللهم حاسبني حساباً يسيراً }.
30 - { اللهم أعنا على ذكرك،وشكرك، وحسن عبادتك }.
31 - { اللهم إني أسألك إيماناً لايرتد، ونعيماً لاينفد، ومرافقة محمد صلى الله وعليه وسلم في أعلى جنة الخلد }.
32 - { اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين، وغلبة العدو، وشماتة الأعداء }.
33 - { اللهم إني أسألك الجنة وأستجير بك من النار } ( ثلاث مرات).(/3)
34 - { اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم }.
35 - { اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علماً }.
36 - { اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً }.
37 - { اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت وبك خاصمت. اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني. أنت الحي الذي لايموت، والجن والإنس يموتون }.
38 - { اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار }.
39 - { اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ماعلمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضاء والغضب، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لاينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضاء بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين }.
40 - { اللهم طهرني من الذنوب والخطايا، اللهم نقني منها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد }.
41 - { اللهم متعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني، وانصرني على من يظلمني، وخُذ منه بثأري }.
42 - { اللهم إني أسألك عيشة نقية، وميتة سوية، ومرداً غير مخز ولا فاضح }.
43 - { اللهم زدنا ولاتنقصنا، وأكرمنا ولاتهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وأرض عنا }.
44 - { اللهم أحسنت خلقي فأحسن خلقي }.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المصدر: كلمات
...(/4)
الدعاء فرادى بعد المكتوبات
الشيخ محمد أبو جليل الهدار / صحيفة أخبار بنغازي – الشبكة الليبية
الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه " وقال ربكم ادعوني استجب لكم " والقائل سبحانه " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان " وصلاة الله وسلامه على نبينا وشفيعنا وقدوتنا محمد بن عبد الله القائل " الدعاء هو العبادة " وجاء في الأدب المفرد للبخاري عن عائشة – رضي الله عنها – قالت:- " سئل الرسول –صلى الله عليه وسلم - :أي العبادة أفضل ؟ فقال :- دعاء المرء لنفسه " .... ثم أما بعد :-
هناك بعض الناس ينهى من يقوم بدعاء الله بعد الصلاة المكتوبة ويعتبر ذلك غير جائز شرعا دون أن يورد دليلا شرعيا يؤيد ما ذهب إليه، والنهي حكم شرعي ، لا يكون إلا بإيراد النص الدال عليه ، أما أن يقول المرء هذا لا يجوز من دون الدليل الشرعي الدال على عدم الجواز فهذا قول على الله بغير علم وهو مجازفة خطيرة من قائله ، قال الله تعالى :- " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله ما لا تعلمون " . فجعل الله سبحانه القول عليه بغير علم من ضمن المحرمات بل من أخطرها لأنه جاء بعد الإشراك به سبحانه ، كما أنه قال عز من قائل :- " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم " وهذا أيضا تحذير عظيم لأولئك الذين ينهون ويأمرون أو يحللون ويحرمون أو يفتون أو يتكلمون في دين الله من دون علم شرعي مؤصل على وفق الكتاب العزيز والسنة المطهرة ، فالحذر الحذر من مثل تلك المجازفات التي تحدث من بعض الأخوة الذين يتكلمون من دون علم شرعي مدعوم بالنصوص المستقاة من الكتاب والسنة أو المستنبطة منهما من قبل العلماء المجتهدين .
إن الدعاء عقب الصلوات المكتوبة مرغب فيه شرعا من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى الترمذي بسند حسن عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه - قال :- " قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع ؟ قال :- جوف الليل الأخير ودبر الصلاة المكتوبة " ومعنى أي الدعاء أسمع أي أقرب للإجابة ، ومعنى دبر الصلاة المكتوبة أي بعد الصلاة المكتوبة كما ذهب إلى ذلك غالب العلماء ، وهذا الحديث نص في هذه المسألة دلالته واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار على جواز الدعاء بعد الصلاة المكتوبة ، بل على الترغيب في الدعاء بعدها .
وقد أخرج الطبري من رواية جعفر بن محمد الصادق قال :- " الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة كفضل المكتوبة على النافلة " ذكر ذلك ابن حجر العسقلاني في الفتح وسكت عنه في أثناء شرحه لكتاب الدعوات في صحيح البخاري ( باب الدعاء بعد الصلاة ) ومما قاله رحمه الله - ابن حجر- في شرحه لهذا الباب :- أي المكتوبة ، وفي هذه الترجمة رد على من زعم أن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع ، انتهى كلامه رحمه الله ، وتسمية البخاري رحمه الله لهذا الباب بهذا الاسم يدل على مشروعية الدعاء بعد الصلاة ، هذا وقد قال الإمام الشوكاني في ( تحفة الذاكرين ) :- " قد ورد الإرشاد إلى الأذكار في دبر الصلوات وهي مشتملة على ترغيب عظيم وفيها أن الذاكر يقوم مغفورا له ـ أي بعد الصلاة الأذكار والدعاء ـ ، وفيها أنه تحل له الشفاعة ، وفيها أنه يكون في ذمة الله عز وجل إلى الصلاة الأخرى ، وفيها أنه لو كانت خطياه مثل زبد البحر لمحتهن ، وغير ذلك من الترغيبات ، وكل هذا يدل على شرف الوقت وقبول الدعاء فيه " .
وقد أرشد كثير نمن العلماء إلى استحباب الدعاء بعد الصلاة المكتوبة في مصنفاتهم منهم الذين سبق ذكرهم وهم البخاري في جامعه وابن حجر في شرحه لصحيح البخاري والشوكاني في كلامه السابق وفي كتابه نيل الأوطار والإمام ابن الجزري الدمشقي في كتابه ( عدة الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين ) ومنه الإمام النووي في كتابه ( الأذكار) وكتابه ( المجموع ) شرح المهذب وقد قال فيه :- " فرع قد ذكرنا استحباب الذكر والدعاء للإمام والمأموم والمنفرد وهو مستحب عقب كل الصلوات بلا خلاف " ، فتأملوا رحمكم الله في قوله بلا خلاف .
ومن العلماء الذين نصوا على استحباب الدعاء بعد الصلاة الأمام العلامة الفقيه الحنبلي منصور البهوتي في كتابه ( كشاف القناع على متن الإقناع ) والإمام العلامة محمد صديق خان القنوجي في كتابه ( المطالب العلية ) والإمام ابن قدامه المقدسي الحنبلي في كتابه ( المغني ) ومنهم الشيخ عبد الله سراج الدين في كتابه ( الدعاء ) ومنهم الإمام الونشريسي في كتابه ( المعيار ) وهو من علماء المالكية ، وغيرهم كثير ، هذا فيما يخص الدعاء على العموم .(/1)
أما بالنسبة للدعاء على وجه الخصوص ، فقد وردت كثير من الأحاديث النبوية الصحيحة التي ترغب في أدعية مخصوصة بعد الصلاة المكتوبة ، منها على سبيل المثال ما رواه البخاري ومسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة قال لا اله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شي قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " . ومنها ما رواه البخاري عن سعد بن وقاص ـ رضي الله عنه - أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ من دبر الصلاة بهؤلاء الكلمات " اللهم إني أعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر " ، ومنها ما رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم "عن معاذ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ أخذ بيده وقال يا معاذ والله أني لأحبك ثم قال أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول : اللهم اعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " ..
وهذه الأدعية الواردة في هذه الأحاديث تستحب عقب كل صلاة مكتوبة من الصلوات الخمس كما يستحب عقب صلاة المغرب وعقب صلاة الصبح خاصة أن يضيف المصلي لما سبق الآتي : روى أبو داود بإسناد حسن " عن مسلم بن الحارث ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - أن أسر أليه فقال إذا انصرفت من صلاة المغرب فقل : اللهم أجرني من النار سبع مرات ، فإنك إن قلت ذلك ثم مت من ليلتك كتب لك جوار منها ، وإذا صليت الصبح فقل كذلك فإنك إن مت من يومك كتب لك جوار منها " . قال ابن القيم رحمه الله في كتابه ( زاد المعاد في هدي خير العباد ) :- " لكن الأذكار الواردة بعد المكتوبة يستحب لمن أتى بها أن يصلي على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن يفرغ منها ويدعو بما شاء " ، وقد نقل هذا الكلام عنه ابن حجر في الفتح أيضا ..
بقيت مسألتان تتعلقان بهذا الموضوع :-
المسألة الأولى :- متعلقة برفع اليدين في الدعاء ، فأقول بخصوصها :- جل العلماء الأوائل أن لم يكن كلهم يرون أن الأصل في الدعاء رفع اليدين ، وقد ورد في السنة كثير من الأحاديث ترغب في ذلك منها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في سنن أبي داود " إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها " وفي رواية للطبراني بسند رجاله ثقات " سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها " وروى بعض أصحاب السنن وأحمد بسند صحيح أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :- " إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا " - أي خاليتين - وهذا النص من أعظم المرغبات في الدعاء ورفع اليدين فيه ـ هذا في العموم ـ أما بخصوص رفع اليدين بعد الصلاة تحديدا ، فقد روى الطبراني بسند قال عنه الهيثمي في مجمع الزائد رجاله ثقات " أن محمد بن أبي يحي قال رأيت عبد الله بن الزبير رأى رجلا رافعا يديه قبل أن يفرغ من الصلاة فلما فرغ من الصلاة قال له أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يرفع يديه حتى يفرغ من الصلاة " ، وجاء في (العتبية ) أن مالكا سئل عن رفع اليدين في الدعاء بعد الصلاة فقال :- " يرفعهما ولكن لا يبالغ " ، قال ابن رشد أجازه مالك ـ رحمه الله ـ في هذه الرواية برفع اليدين في الدعاء عند خاتمة الصلاة هو نحو قوله في ( المدونة ) ، ذكر ذلك صاحب المعيار ؛ وزيادة في إيناس القراء الأفاضل توجد كثير من الفتاوى لكثير من العلماء على كثير من المواقع الإسلامية تقر ذلك وتؤيده .
المسألة الثانية :- تتعلق بالدعاء جماعة بعد الصلوات ، وهي مسالة تنازع الفقهاء فيها قديما وحديثا منهم من أجازها ومنهم من منعها ، ومن الذين قالوا بمنعها الإمام ابن تيميه رحمه الله ، إلا أنه في الاختيارات الفقهية أجازها إذا كانت لعارض كاستسقاء واستنصار وتعليم ، وقد سبقه الإمام الشافعي للتعليم كما في كتابه ( الأم ) وقد ذهب إلى ذلك أيضا ابن الحاج من علماء المالكية كما في كتابه ( المدخل ) ، وقال بالجواز المطلق علامة الحنابلة الإمام منصور البهوتي كما في كتابه ( كشاف القناع ) ووردت فتاوى لبعض علماء المالكية كذلك ذكرها الإمام الونشريسي في كتابه ( المعيار ) ، والمسالة الخلاف فيها قائم بين مانع ومؤيد كما أسلفت ، فلا ينبغي التضييق على الناس في أمر مختلف فيه بين علماء أهل السنة والجماعة ، وهو لا يصادم إجماعا ولا نصا قطعيا ثبوتا ودلالة على المنع ، بل أدلة العموم تؤيد القول بالجواز ، وخصوصا إذا كان هناك عوارض كما ذكر بعض العلماء كما أسلفت وما أكثرها في زماننا ، والله تعالى أعلم وأحكم .
وعليه أقول بعد سرد هذه النصوص قد أضاء الصبح لذي عينين ، وتين لنا أن الدعاء عقب الصلوات المكتوبة مرغب فيه شرعا على وجه الخصوص وعلى وجه العموم ، ويجوز ويستحب رفع اليدين ، فينبغي الحرص على ذلك لما فيه من الخير والنفع ، ومتابعة السنة المطهرة ..(/2)
وأخيرا .. فليتق الله الذين يفتون بغير علم لأنهم بذلك يفترون على الله وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكذب وكفى به إثما مبينا ،، والحمد لله أولا آخرا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما(/3)
الدعاء من أهم معالم دعوة النور
أديب إبراهيم الدباغ
لقد عاشت دعوة "النورسي" في أجواء قدسية من الحضور الإلهي الدائم، ونَمَتْ وكبرتْ في آفاق عالية تحت ظِلٍّ من سحائب الأدعية والتضرعات النورسية المستديمة، فأدراك حقيقة "الطينة البشرية" من حيث كونها مزيجاً من الفقر المطلق، والعجز المطلق، هو الذي يدفع بها في اتجاه اللجوء إلى الغنى الإلهي المطلق، والقدرة الربّانية المطلقة، وهذا هو سِرُّ ما تفتّق عنه وجدان "النورسي" من أدعية وتضرعات شكّلتْ واحداً من أهم معالم دعوته، فالألوف من القناديل اشتعلت في ليالي القلوب حين مَسَّنْها بعض قبسات هذه الأدعية، وأَمّا نُوَّامُ الهِمَمِ فقاموا مسرعين ينفضون عن أهدابهم أثقال سنينَ من السُباتِ المقيت، وأما فجرُ اليقين فسرعانَ ما أضاء غاشيات الشكوك والأوهام، وبدّدَ ما كان يتلاطم في أجواف تلامذته من دياجير الغفلة، وفي رحيق روحه غسل كثيرٌ من الناس مراراتِ نفوسهم، ولم تكن روحه هي وحدها التي طلبت العلوَ فوق الأكوان، بل كُلُّ قطرةٍ من دَمِهِ كانت تشتهي أنْ تعلوَ مع الدّعاء إلى ما عَلَتْ إليه روحه.
إنَّ حشداً هائلاً من رَميم الكلام لا يمكنه أن يقيم قلباً مُعْوَجاً مائلاً للانهدام، أو أنْ يبني روحاً خَرِباً يسكنه الظلام، ولكنّ كلمة دعاء حارّة مخلصة يمكنها أن تفعل المعجزات، فتقيم المعوجات، وتَعْمُرُ الخرائب.إنّ هذا الشعور الدائم بالمعية الإلهية، والأقربية الرحمانية، دفع "النورسي" إلى الاستغناء والاستعلاء على أي مصدر بشرىٍّ من مصادر الأمداد والتأييد، وظلَّ طوال حياته المباركة متعلقاً بالله يستمدُّ منه العونَ والمدد والتسديد، وهذا هو سبب تفَرُّدِ دعوته منهجاً وسلوكاً بين الدعوات.فأدعيته وضراعاته، لها طابعها الدعوي الاستدلالي على وجوده تعالى، وعلى واحديته وأحديته، وحاجة كل موجود إليه سبحانه وتعالى وكما نرى في المناجاة الآتية:
"اعلم: أنَّ قلبي قد يبكي من خلال أنيناته العربية بكاءً تركياً، بتهييج المحيط الحزين، فاكتبُ كما بَكَيْتُ:
"لا أريد من كان زائلاً لا أريد
أنا فانٍ، مَنْ كان فانياً لا أريد، أنا عاجزٌ، من كان عاجزاً لا أريد
سلّمت روحي للرحمن، سواه لا أريد
بل أريد،
حبيباً باقياً أريد.
أنا ذرة شمساً سرمداً أريد.
أنا لا شيء ومن غير شيء، الموجودات كلها أريد.
* * *
لا تدعني إلى الدنيا، فقد جئتها ورأيت الفساد.
إذ لما حجبت الغفلة أنوار الحق،
رأيت الأشياء والدنيا أعداءً ضارين.
ذقت اللذائذ، ولكن وجدت الألم في زواله.
أما الوجود، فقد لبسته،
آه لا تسل كم عانيت من الألم في العدم.
إن قلت الحياة، فقد رأيتها عذاباً في عذاب.
نعم، لما استتر نور الحق عني،
إذا بالعقل يتحول عقاباً، ورأيت البقاء بلاء، والكمال هباء،
والعمر ذهب أدراج الرياح.
نعم!
بدونه، انقلبت العلوم أوهاماً.
وأصبحت الحكم اسقاماً، والانوار ظلمات، والأحياء أمواتاً،
والأشياء أعداء.
ولمست الضر في كل شيء.
والآمال انقلبت آلاماً.
والوجود هو العدم بعينه. وصار الوصال زوالاً.
والألم يعصرنى مما لا بقاء فيه.
نعم! إن لم تجد الله فالأشياء كلها تعاديك؛
أذى في أذى، بل هو عين الأذى.
وان وجدت الله،
فلن تجده إلاّ في ترك الأشياء.
فرأيت بذلك النور: الجنة في الدنيا،
وبدت الأموات أحياء.
ورأيت الأصوات أذكاراً و تسابيح.
والأشياء مؤنسة، واللذائذ في الآلام نفسها.
والحياة أصبحت مرآة تعكس أنوار الحق.
والبقاء رأيته في الفناء.
والذرات تلهج بالذكر.
يقطُر من ألسنتها وتتفجر من عيونها؛
شهدُ شهادة الحق" [1].
-------------
[1] المثنوي العربي النوري ص 289- 290(/1)
الدعاة الصامتون
المحتويات
مدخل
وقفة مع نصوص القرآن الكريم
الداعية الأول و الدعوة الصامتة
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يترسمون معالم المنهج
مزايا الدعوة الصامتة
ما هي مجالات الدعوة الصامتة ؟
مدخل
قد يتبادر إلى ذهن من يسمع هذا العنوان أننا نعني بالحديث عن الدعاة الصامتين أولئك الذين صمتوا عن بيان كلمة الحق و أولئك الذين قعدوا عن سبيل الدعوة إلى الله.
و هؤلاء إنما هم شياطين خرس ليسوا جديرين بوصف الدعوة. إن الذين يسكتون عن الحق حين يجب بيانه والذين يقعدون عن نصرة هذا الدين خاصةً في هذا العصر الذي تكالب فيه الأعداء على هذه الأمة و كشروا عن أنيابهم و أعلنوها حرباً ضروساً ضد الإسلام و على كل من دعا إلى سبيل الله عز وجل - إن أولئك الذين يقفون على الحياد في هذه المعركة التي تعيشها الأمة ليسوا جديرين بأن يوصفوا بأنهم دعاة صامتون ، إنما هم شياطين خرس فالساكت عن الحق شيطان أخرس.
لكننا نعني بالدعاة الصامتين أولئك الذين يدعون إلى الله عز وجل بأحوالهم ، أولئك الذين تبلغ أحوالهم عن دعوتهم ؛ فهم يدعون الناس بأفعالهم وسيرهم وأحوالهم ، إنهم لم يتكلموا ولم ينطقوا وربما كانت أحوالهم وسيرهم أبلغ من أي كلمة و أي بيان.
وقفة مع نصوص القرآن الكريم
أولاً: أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالتأسي بمن سبقه من الأنبياء و الاقتداء بهديهم يقول تبارك و تعالى عن إبراهيم: ((ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسى و هارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم * ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون* أولئك الذين آتيناهم الكتاب و الحكم و النبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسو بها بكافرين * أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين )).
إن الله تعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدى أولئك الذين قص عليه سيرهم أنباءهم في هذا الكتاب ، و هذا الخطاب ليس للنبي صلى الله عليه وسلم وحده بل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم و لأمته من بعده.
ثانياً: أمر الله نبيه و أمته من بعده أن يتأسى بإبراهيم عليه السلام و من معه ((قد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم و الذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم)) و قال ((لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة)).
ثالثاً: أمر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالتأسي به فقال: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر و ذكر الله كثيراً)).
رابعاً: نهى تبارك و تعالى عن التناقض بين القول و العمل و ذم ذلك المسلك و عابه ((يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)) ،وعاب تبارك وتعالى على بني إسرائيل أنهم نسوا أنفسهم إذ يأمرون بالبر غيرهم ((أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم و أنتم تتلون الكتاب)). و تتوالى الآيات في الكتاب التي تدعو المؤمنين إلى أن يكون العمل مصداقاً للقول و ما يدعو إليه الإنسان ((و من أحسن قولاً ممن دعا إلى الله و عمل صالحاً و قال إنني من المسلمين)) و قد استنبط بعض المفسرين من هذه الآية أن فيها الأمر بأن يعمل الداعية بما يقول وبما يدعو إليه.
خامساً: قص القرآن قصص بعض الصالحين و السابقين فيما مضى و يقول تبارك و تعالى: ((أم حسبت أن أصحاب الكهف و الرقيم كانوا من آياتنا عجباً *إذ أوى الفتية إلى الكهف…)) الآيات وهي آيات يقرأها المسلم كل أسبوع يوم الجمعة، يقرأ قصة هؤلاء الفتية من أهل الكهف ، ويقرأ في القرآن الكريم قصة أصحاب الأخدود ، و قصة سحرة فرعون حينما آمنوا بموسى و قالوا لفرعون (فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا).
ويذكر الله تعالى في القرآن أحوال بعض الذين عاصروا التنزيل فأثنى الله عز وجل على مواقفهم أبقاها خالدة تتجاوز حدود الزمان و المكان الذي كانت فيه لتبقى منارة للأجيال من بعدهم ((من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً)).(/1)
سادساً: أخبر تبارك وتعالى أنه تاب على النبي و المهاجرين و الأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كان يزيغ قلوب فريق منهم, ثم قال تعالى:((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين)) و قال في موضع آخر: ((للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلاً من الله و رضواناً و ينصرون الله و رسوله أولئك هم الصادقون* والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة))، و هي آيات كثيرة تقرأها في كتاب الله عز وجل في الثناء على تلك المواقف التي وقفها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
إنها صور يخلدها لنا القرآن من هذه النماذج من أتباع الأنبياء السابقين أو من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
و يقص علينا النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً قصصاً أخرى من مواقف هؤلاء الصابرين ، و من مواقف الذين دعوا إلى الله عز و جل و بذلوا أرواحهم و أنفسهم و أموالهم في سبيل الله عز و جل, إننا نقرأ في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم سيرة شاب آمن بالله و دعا قومه و ضحى بنفسه في سبيل الله حتى آمن أهل قرية و هم يرون هذا الموقف من هذا الشاب و قد جاد بنفسه في سبيل الله فتنادى الناس جميعاً آمنا بالله رب الغلام ، لتنطلق هذه الكلمة سهماً آخر يتجه إلى صدور الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات بعد أن أحرقهم و قطع أحشاءهم ذلك السهم الذي انطلق من قلب هذا الغلام الصادق الذي ضحى بنفسه في سبيل الله عز و جل، و ظن أولئك المفسدون المجرمون أنهم حين يقتلون هذا الغلام سيقتلون الدعوة التي دعا إليها وأنهم سيدفنون هذا الدين الذي آمن به و دعا له فإذا بهم يسمعون الناس يتنادون: آمنا بالله رب الغلام. إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قص علينا هذه القصة ، أو حين قص علينا قصة نفر آواهم المبيت إلى الغار فدعوا الله عز و جل بصالح أعمالهم, أو حين قص علينا قصة تمثل نموذج الشاكر لله عز وجل و نموذج المعرض عن شكر هذه النعمة في قصة الأعمى و الأقرع والأبرص و غيرها التي تملأ دواوين السنة ، إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قص علينا هذه النماذج إنما يعرضها أمام أمته لتكون قدوة لمن يقرأ هذه الأخبار ولمن جاء بعدهم ويصبح أولئك الماضون دعاة صامتين لدين الله عز و جل.
سابعاً: أمر الله تبارك و تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو على المؤمنين سيرة ابني آدم بالحق إذ قتل أحدهما أخاه ظلماً و عدوانا فصار من الدعاة الصامتين للجريمة و القتل، فما من نفس تقتل ظلماً إلا صار على ابن آدم الأول كفل منها إذ هو أول من سن القتل ، كل ذلك تأصيل للقدوة و الأسوة الحسنة ، و دعوة للدعاة إلى الله على منهج النبوة أن يترسموا معالمها ، و هو أيضاً تأصيل لمبدأ التأثير بالسلوك والعمل وامتداد ميدان الدعوة والمخاطبة لتتجاوز الكلمة المجردة فتمتد عبر ميدان فسيح لتصبح الكلمة وسيلة من الوسائل وأسلوباً من الأساليب لا أن تحصر الدعوة في الكلمة وحدها.
الداعية الأول و الدعوة الصامتة
إن الدعاة إلى الله سبحانه و تعالى مهما علا شأن قضية الدعوة لديهم ومهما ابتكروا من الأساليب و الوسائل فهم رهن منهج الداعية الأول و الإمام الأوحد صلى الله عليه وسلم، و التحرر من ذلك يعني التحرر من المنهج والعدوان على السنة المتبعة وولوج الطريق المبتدعة ، لذا فنحن نطالب و ندعو أن تأخذ الدعوة بعداً شمولياً لدى أصحابها, أن تأخذ هذا البعد الذي يتجاوز الجمود على الأساليب التقليدية التي يرثونها ، فنحن أيضاً مع ذلك ندعو أن تحاط الدعوة إلى الله عز وجل سياج اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، و أن لا يكون ذلك مدعاةً لتجاوز هديه ، لهذا كان كل داع إلى الله عز وجل أحوج ما يكون إلى أن يحشد النصوص ويحشد الآثار التي تؤيد هذا المنهج الذي يدعو إليه، والتي تعلن للناس أنه لم يأت ببدعه من القول.
في الحديبية دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس بأن ينحروا بدنهم و أن يحلقوا رؤوسهم فلم يستجب أحد للنبي صلى الله عليه وسلم و قد أصاب الناس ما أصابهم ذلك أنهم جاءوا إلى هذا المكان وهم قد سمعوا الوعد منه صلى الله عليه وسلم أن يدخلوا البيت الحرام و أن يطوفوا بالبيت آمنين محلقين رؤوسهم و مقصرين لا يخافون، فحين أمرهم بهذا الأمر وحين رأوا مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم لقريش وشدهم ذلك الموقف رأوا أبا جندل يرسف في قيوده فيعيده النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ،لم يطق ذلك المؤمنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يستجب أحد لأمره فيأتي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة رضي الله عنها فتشير عليه بأن يخرج و لا يكلم أحدا فيدعو بالحلاق فيحلق رأسه، ثم ينحر بدنه فيخرج صلى الله عليه وسلم فيفعل ذلك فيجتمع الناس حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً.(/2)
وكان صدق حاله صلى الله عليه وسلم من أعظم ما استدل به بعض من آمن على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم و من هؤلاء عبدالله بن سلام رضي الله عنه إذ قال بعد أن رآه قال: فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. لقد كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم ناطقة بصدقه و أنه لم يكن ينطق عن الهوى ، و أنه كان يؤتي الوحي من الله تبارك و تعالى، و أنه كان يأتيهم بخبر من السماء , لذلك كانت حاله وحدها كافية في دعوة الكثيرين إلى الإسلام فمن رآه صلى الله عليه وسلم عرف الصدق في وجهه. و منهم من دخل في الإسلام و آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لموقف أبصره أو مشهد رآه ، و السيرة تزخر بالكثير من هذه المواقف التي دخل فيها فئام من الناس الإسلام لما رأوه من المواقف ، واختار الله له أن يكون في مبدأ حياته أميناً صادقاً ليكون ذلك مرآة على صدقه، و ليقرأ في سيرته وهديه من سمع بدعوته ؛ الصدق وسمو المنهج ، لقد كان صلى الله عليه وسلم يلقب بالصادق الأمين ، لقد عاش صلى الله عليه وسلم مع قومه أربعين سنة عرفوا منه الصدق والإحسان إلى الناس و الأمانة ، عرفوا منه صلى الله عليه وسلم حسن الخلق ولم يكن يجاريهم في مجونهم ولهوهم ، إن تلك الحال التي كان يعيشها صلى الله عليه وسلم كانت دعوة صامتة وإشارة إلى أولئك الجادين في معرفة الحق أن هذا الرجل الذي عرفوا مدخله و مخرجه ، وعرفوا سيرته لم يكن ليكذب على الله بعد أن كان يتحاشى الكذب على الناس.
وهو أمر لم يختص به النبي صلى الله عليه وسلم بل يحكي الله تبارك و تعالى عن قوم صالح أنهم قالوا ((قد كنت فينا مرجواً قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا))، فقد كانت سيرة صالح في قومه كسيرة محمد صلى الله عليه وسلم و سائر الأنبياء و قد كانوا يرجون فيه الخير ، فلما دعاهم إلى الله تعالى خاب ظن أولئك الظالمين بنبيهم صالح.
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يترسمون معالم المنهج
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يترسمون منهجاً اختطه لهم النبي صلى الله عليه وسلم لكي تعيش الدعوة حيةً في قلوبهم و ضمائرهم ، فيقرأ ذلك من يطلع على سيرهم قبل أن يسمع أقوالهم ، حين دعا النبي الناس للصدقة و قد جاء قوم وجتاب النمار فرقَّ صلى الله عليه وسلم و هو صاحب القلب الرحيم لحالهم فتألم وخطب الناس دعاهم بأن يتصدقوا بما يملكون من درهمهم و دنانيرهم ، من صاع برهم وتمرهم ، فلم يتصدق أحد فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع صرة كادت يده أن تعجز عنها بل عجزت فألقاها بين يدي النبي فتتابع الناس بعد ذلك فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم فصار هذا الرجل داعية صامتاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة , ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
وحين استنفر النبي الناس ليغزو الروم ولم يعذر أحداً في ذلك جاء أقوام لا يجدون ما يحملهم يسألون النبي أن يحملهم فلم يجد صلى الله عليه وسلم ما يحملهم فتولوا يبكون لأنهم لم يجدوا ما ينفقون ، ولم يستطيعوا أن يجاهدوا في سبيل الله ، فخلّد القرآن ذكرتهم و سيرتهم ليكون هذا الموقف دعوة لمن جاء بعدهم أن يعيش كما كان يعيش أولئك. إن من لم يفتح له الميدان للجهاد لا يعذر إلا أن يعيش معهم بقلبه وحاله ، وأن ينصح لله ورسوله.
هاهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبعثون رسالة إلى عروة بن مسعود يرجع مشدوهاً لأصحابه يحدثهم بما رأى وقد أدرك أنه أمام جيل آخر دون أن يكون منهم تعبير باللسان.
وهاهي سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تبقى صورة للأجيال ناطقة إذا أراد ، فما أن يتحدث متحدث أو يتكلم متكلم إلا يضطر أن يزين مقالته بمواقف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله وتعلم العلم وغيره من الميادين ؛ ليبقى ذلك الجيل داعية إلى سائر الأجيال في كل صور الدعوة بميدان الجهاد والعلم والعبادة وغيرها.
مزايا الدعوة الصامتة
إننا حين ندعو إلى أن نكون دعاة لدين الله تبارك و تعالى صامتين بأحوالنا و مواقفنا وسيرنا ونستشهد بذلك بسيرة المصطفى وسيرة أصحابه ومواقف سلف الأمة من بعدهم، نجمع مع إدراك فضيلة التأسي والاقتداء تحصيل مزايا تمتاز بها هذه الدعوة الصامتة ، ومنها :(/3)
أولاً: أن الدعوة بالأحوال أبلغ من الدعوة بالقول ؛ فالمرء يستطيع أن يدبج المقال ، و يستطيع أن يحسن الحديث ، وأن يتفوه بما لا يعتقد ، لكن أن يكون ذلك المقال مصداقه حال ذلك الرجل وفعله فهي صورة أخرى وحالة أخرى. لقد أمر النبي الناس أن يحلقوا رؤوسهم وأن ينحروا بدنهم ، وما كان الذين أمرهم النبي من الذين يتلكؤون بالاستجابة وهم أسرع الناس مبادرة للاستجابة إلى أمره صلى الله عليه وسلم و طاعته ، لكن ذلك الأمر القولي أبلغ من حاله حين خرج وحلق ونحر ؛ فكان ذلك الفعل رسالة إلى الناس للاستجابة له صلى الله عليه وسلم ، و لهذا لما أرسل له صلى الله عليه وسلم يوم عرفة بقدح لبن شربه أمام الناس فكان أبلغ دلالة على أنه لم يكن صائماً.
ثانياً: الدعوة الصامتة تدرك من جميع الطبقات ؛ فالكلمة المسموعة أو المقروءة قد يفوق تأثيرها اختلاف المستويات أو مدارك الناس ، والذي يتحدث أمام من ينصت له ، أو يكتب لمن يقرأ له بجد نفسه بين خيارين ، إن حسَّن المقال و ارتفعت لغته فيكون هناك من لا يدرك هذا الكلام أو من لا يفهمه ، وإن كان مقاله دون ذلك شعر المخاطَب أن هذا نزولاً بالكلمة عما تليق بها. أما الذي يدعو الناس بحاله فهو يدعو بدعوة يدركها الجميع و يفهمون مغزاها.
ثالثاً: إن الكلام له أثر عظيم على النفوس ، وكم تترك الكلمة الصادقة من أثر ؟ بل كم تصنع من مواقف ؟ لكن الكلمة الصادقة مهما كانت تبقى عرضة للنسيان ، إنها تبقى فترة ثم تزول ، أما الموقف فإنه يبقى في الذاكرة لا يزول أبداً ، إن النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم كان مع أصحابه فرأى جارية من السبي تأتي لرضيعها و تضمه و ترضعه ؛ فيثيره الموقف صلى الله عليه وسلم وهو الرجل الذي كانت قضية الدعوة وقضية التعليم قضية حية في ضميره صلى الله عليه وسلم فيخاطب أصحابه قائلاً لهم : "أترون هذه طارحة ولدها في النار"؟ فيقول أصحابه : لا ، فيقول صلى الله عليه وسلم :"لله أرحم بعبده من هذه بولدها" فيمضي هذا الموقف ، إن الذين سمعوا الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلم ربما ينسون حديثاً منه صلى الله عليه وسلم أما إذا رأوا امرأة ترضع ابنها فإنهم يتذكرون ذلك الموقف الذي سمعوا فيه تلك الكلمة منه صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: إن الكلمة أيضاً تترك أثراً على الناس و تدعوهم إلى العمل والسلك ، لكن ربما يظن البعض من الناس أن هذه الصور التي يتحدث عنها المتحدث أنها صورة مثالية يصعب تطبيقها ، و إذا أمكن تطبيقها فهي في هذا الزمان الذي مرجت فيه العهود وفسد فيه الناس تستعصي على التطبيق ، أما حين تكون دعوة في الحال و موقفاً يراه الناس فإنها دعوة لكل من يرى هذا الموقف أن هذه الصورة يمكن أن تحدث ، إن الذي يسمع عن مواقف الاستشهاد في سبيل الله ربما يهزه هذا الموقف لكنه قد يشعر أن النفوس البشرية لا تطيق هذا القدر من التضحية ، أما حين يرى هذه النماذج أمام عينه فسيدرك أن هذه القضية ترقى إلى ميدان الواقع ، إنه حين يسمع عن الإنفاق في سبيل الله فيرى من يجود بماله، سيترك أثراً في نفسه أقوى بكثير من أثر الكلمة مهما عظمت فصاحتها.
و لهذا اختار الله تعالى أن يكون أنبياؤه من البشر يأكلون الطعام و يمشون في الأسواق ليكونوا قدوة وأسوة للناس.
خامساً: الدعوة الصامتة أعظم إجابة على سبل المضلين والمفسدين ، إن الصراع لا يمكن أن يقف بين أهل الحق و الباطل و ما يلبث أهل الباطل أن يثيروا الشبهات أمام دعاة الحق فيتهمونهم بأبشع التهم ، وهي تهم ورثوها من فرعون حين قال: ((ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو يظهر في الأرض الفساد)), لقد كانوا يتهمون الأنبياء بأنهم سحرة و مجانين وأن أتباعهم ضعفاء ، و اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم أنه صابئ و أنه مجنون و ساحر ، و أنه يفرق بين المرء وزوجه ، وما يزال المفسدون الأفاكون الظالمون يثيرون الشبه والتهم على من يتبع سنة الأنبياء ويسير على طريقتهم ؛ فحين تكون حال هؤلاء حالاً صادقة للناس يصبح ذلك أعظم إجابة على كذب هؤلاء وإفكهم.
ما هي مجالات الدعوة الصامتة ؟
1. القدوة والأسوة الحسنة وقد مر بنا نماذج كثيرة تغني عن الاستطراد.
2. التفوق في مجالات الحياة المختلفة ؛ فحين يكون الصالحون والدعاة إلى الله عز وجل هم المتفوقون في مجالات الحياة المختلفة ، فهم المتفوقون في دراستهم و في ميادين العمل ، وهم العاملون الصادقون الذين إذا دخلوا إلى مجال فهم المتفوقون دوماً ، فإن هذا يعطي دلالة على أن هؤلاء صادقون ، وهذا يثبت للناس بطلان ما يسعى إليه الأعداء حين يحاولون أن يفسروا هذه الصحوة بأنها إفراز لحالة نفسية و اقتصادية.(/4)
3. الإحسان إلى الناس وتقديم البر لهم والخدمة، لقد كان صلى الله عليه وسلم كما حكت عنه زوجه : يكرم الضيف، ويعين على نوائب الحق، وكان يشفع للناس ويحسن حتى إلى الحيوان، فعندما رأى جملاً قد احدودب ظهره زرفت عينا الجمل إذ رأى في قلبه الرحمة والإحسان فيأتي إليه صلى الله عليه وسلم فيسأل :"أين صاحب هذا الجمل ؟" فيقول: أنا. فيقول: "اتق الله؛ فإنه شكى إلي أنك تجيعه و تتعبه". إن النبي صلى الله عليه وسلم يرسم لنا الأسوة والقدوة في أن نحسن إلى الناس، وأن نسعى إلى تبني قضاياهم وهو من قبله، فهاهو يوسف عليه السلام يقول له أصحابه ((نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين)), فقد رأيا فيه الإحسان إليهما، فالإحسان باب من أبواب الخير، و طريق للتعرف على الناس فيعرف الناس بأن هؤلاء صادقون وأنهم مخلصون.
4. كظم الغيظ و التنازل عن الحقوق الشخصية يقول تعالى :((و لا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم)). ويقول تعالى: ((والكاظمين الغيظ و العافين عن الناس)) ،حين يعرف الناس عنا أنا نتنازل عن الحقوق الشخصية ونعفو عمن ظلمنا بل نحسن إليه سيترك ذلك أثره فيهم. حين فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة وتمكن من أعدائه الذين فعلوا معه ما فعلوا وآذوه و أخرجوه، وكانوا يظنون أن هذا الموقف سيكون فيه حتفهم فأطلقهم صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، وكان ذلك من أعظم الأسباب في دخول كثير منهم في الإسلام؛ لأنهم عرفوا منه الصدق والأمانة والعفو والإحسان قبل أن ينبَّأ، و عرفوا منه ذلك بعد أن نُبَّيءَ وأرسل. وعرفوا منه ذلك بعد أن عادوه و آذوه، وهاهو أحد الصحابة يقول كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء آذوه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه و يقول :((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
5. الصدق في الدعوة ورفع شعار الخير والصلاح، في صلح الحديبية جاء رجل من بني كنانة موفداً من قريش، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له" فبعثت له؛ فاستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: "سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، ورجع من فوره دون أن يسمع كلمة واحدة من النبي صلى الله عليه وسلم.
6. العاطفة الصادقة المتوقدة في النفس الداعية، وهي إفراز لمشاعر صادقة تكمن في نفسه ما تلبث أن تبدو على أرض الواقع، وعلى سلوكه وفي قسمات وجهه؛ فيقرأها كل من يراه لتترك أثراً يفوق ألف خطبة و ألف محاضرة، ويشعر الناس الذين يتعاملون مع هذا الصنف من الناس بما يحركهم ويدفعهم من الداخل، وما نزال نسمع الكثير ممن يتحدث عن العاطفة حديث الذم و النقد، حتى صار من مراتب الجرح والتنقص أن يقال عن شخص إنه عاطفي متحمس، وهذا الذم لهذا الصنف صار مهرباً لبعض من قد تبلد حسه تجاه المنكرات ومصائب الأمة، فصار حين يطلب منه التفاعل أو تُشتكى إليه الحال يتنهد قائلاً إن الأمور لا تحل بالعواطف ولا تعالج بالحماس، نعم إن الإغراق في العواطف مرفوض، والانطلاق وراء الحماس وحده تهور، لكن الدعوة إلى إلغاء ذلك كله تطرف هو الآخر، ولعل سائل يتساءل هل خلق الله تعالى هذه العواطف عند الناس عبثاً، لم يعد يقبل أهل الطب اليوم أن يكون هناك عضو لا يؤدي دوراً فكيف يقبل أن تكون هذه المشاعر المشتركة لدى العامة من الناس ـ والتي تمثل وقوداً للأعمال و مواقف شتى يقوم بها المرء ـ عبثاً لا فائدة منه و يذم المرء حين يتصف به. إننا حين نذم أولئك الذين يتهورون والذين لا يدفعهم إلا الحماس غير المنتظم، إن هذا لا يقودنا أبداً إلى أن نعذر أولئك المثبطين القاعدين الذين قد تبلد حسهم وماتت أرواحهم، وهم يرون الأمة تُنحر، فهم قد ارتكبوا منكراً آخر قد يكون أشد من منكر أولئك ألا وهو السكوت والقعود عن الحق.
7. المواقف المتميزة التي تشكل صدى لدى معاصريها و معايشيها، وتمتد بعد ذلك عبر أفق الزمن لتخترق حواجزه وتصبح منارة للأجيال، إنك لو تصفحت سير الصحابة فستجد عبارات بالأمر بالصبر و الوصاة به بالأمر بالثبات على المبدأ، لكن ذلك لم يكن مثل المواقف التي سطروها رضوان الله عليهم بالصبر على البلاء و المضايقة، فلا يزال في ذاكرة المسلمين أجمع وما يفتأ الخطباء والمتحدثون يرددون صوراً من صبر بلال وعمار، وتضحية ياسر وسمية، لا يزال هؤلاء يتذكرون تلك الصور، وتترك في نفوسهم أثرا لا تقاربه الأقوال والعبارات.وهكذا تبقى المواقف الصادقة منارة للجيل يقرأها المعاصرون فيكون هؤلاء الذين وقفوا هذه المواقف دعاة للأمة بمواقفهم، ثم يبقون بعد ذلك دعاة للجيل من بعدهم.
هذا و صلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم(/5)
الدعاة المغيبون المشكلة والحل
فتحي عبد الستار . إسلام أون لاين
من القضايا التي تبرز الآن على ساحة الدعوة وتفرض نفسها بقوة، غياب بعض الدعاة عن واقع الناس وقضاياهم الحياتية والمعيشية، بشكل يضعهم على هامش الأحداث إلى حد بعيد، مما يسبب أزمة في جهتين: الجهة الأولى انصراف الناس عن الدعاة إلى مَن قد يدخل إليهم عبر قضاياهم ومشكلاتهم، ويشكل لديهم وعيا مغايرا للحقيقة ولما يجب أن يكون عليه المسلم إزاء ما يتعرض له ويواجهه. ومن الجهة الأخرى تغييب دور المسلم وفعله الإيجابي، وحصره في أدوار هامشية يغلب عليها الانفعال لا الفاعلية.
وليت الأمر توقف عند حد المنابر الخشبية والحجرية في المساجد، بل مما ساعد على إبراز هذه القضية بشكل يضعها ظاهرة تلك المنابر الفضائية عبر القنوات المختلفة، متعددة الجنسيات والخلفيات والتوجهات، التي يعمل بعضها – بسبب محتواه وطريقة تناوله للأحداث أو تجاهلها - مخدرا يغيب وعي الجماهير المسلمة، ويكرس سلبيتها، ويدعم عزلها عن مواقع التأثير، ويضعها دائما في خانة المنتظِر المفعول به.
وحتى لا يكون هذا الحديث معمما، أؤكد أن هناك من الدعاة – أفرادا وجماعات ومؤسسات – من يعي خطورة هذا الأمر، ويقوم بدوره في تبصير الجماهير، ويقف مع الأحداث أولا فأولا، محللا الأسباب ومحددا الأدوار، وقائدا للحركة الإيجابية التي تعود بمردود فاعل على الأمة.
وحتى لا يعتبر هذا الحديث أيضا ادعاء يفتقد المصداقية، أشير إلى بعض مظاهر هذه المشكلة:
مظاهر المشكلة
من أكثر مظاهر المشكلة انتشارا:
1- عدم مراعاة الداعية للظروف الحياتية والاجتماعية للمدعوين، فتجده – مثلا – يحذر من متاع الدنيا وغَرورها، ويتحدث عن واجبات الأغنياء، وفضل الصدقات، في بيئة فقيرة تعيش أصلا على صدقات الناس، ولا يعرف متاع الدنيا وغرورها سبيلا إليها!! أو يتحدث عن مشكلات فئة معينة من الناس، وغالبية من يستمع له ينتمي إلى فئة أخرى ليس لها علاقة بما يتحدث عنه الداعية.
2- تجاهل الداعية للأحداث والقضايا المؤثرة على الأمة بشكل مباشر، وإهمالها وعدم تناولها بالبيان والتحليل، وتحديد أدوار المسلمين إزاءها، على اختلاف تخصصاتهم ومواقعهم، مكتفيا بالحديث عن أمور يمكن تأجيلها وتأخيرها وتناولها في أي وقت لحساب الأحداث الطارئة والملحة.
3- الكلام المطلق والحديث غير الموثق والمشوش من قبل الداعية عن القضايا المختلفة، وترديد شتات ما تتلقاه أذنه من هنا وهناك دون تبين.
أسباب المشكلة
تتعدد الأسباب المؤدية لظاهرة الدعاة المغيبين، نذكر من أهمها:
1- ضعف ثقافة الواقع لدى الداعية:
حيث يظن بعض الدعاة أنه يكفيه تحصيل بعض العلوم الشرعية، والخوض في مراجع الأدب واللغة والتاريخ، والأخذ بحظ وافر من بعض العلوم الإنسانية، وهو مع ذلك كله لا يعرف شيئا عن عالمه الذي يعيش فيه ويتوجه إليه بالدعوة، لا يعرف ما يقوم عليه هذا العالم من نُظُم، وما يسوده من مذاهب، وما يحركه من عوامل، وما يصطرع فيه من قُوَى، وما يجري فيه من تيارات، وما يعاني أهله من متاعب ومشكلات، لا يشعر بآلام وآمال بيئته، ولا يعيش أفراحها ومآسيها، ولا يدرك مصادر القوة وعوامل الضعف فيها، وهذا بالطبع ينعكس على خطابه الدعوي، وما يقدمه لجمهور الدعوة، حيث يصير خطابه نظريا جامدا، خاليا من الحياة، مفتقدا للروح، وإن جمله بالتراكيب اللغوية والمحسنات البديعية.
2- مناهج التربية التي يخضع لها الدعاة النظاميون:
إن نظرة عابرة على بعض مناهج التربية والتثقيف المعتمدة داخل الجماعات والمؤسسات الدعوية – الرسمية وغير الرسمية - تعطينا انطباعا بأنه لا فارق كبيرا بينها وبين المناهج التي تدرس في المدارس الرسمية في معظم البلاد العربية والإسلامية، إذ يغلب عليها أسلوب التلقين النظري الأصم، والروح العاطفية التعبوية، بعيدا عن الواقع العملي، وبعيدا كذلك عن غرس روح التأمل والنقد والاستكشاف والاستشراف. ذلك لأن هذه المناهج تحصر نفسها داخل أدبيات المنتمين لهذه الجماعة أو ذاك الفصيل دون أن تنفتح على كتابات الآخرين، ودون أن تستفيد من أفكار وإبداعات مفكري الأمة، ومدارس الرأي المختلفة، بصرف النظر عن انتماءاتها التنظيمية. ولا يكاد يُلحَظ أو يُعرَف – غالبا - أن داعية خرج عن هذا الخط في التحصيل والتلقي إلا حاصرته التحذيرات والتخويفات، لتفرض وصاية فكرية على العقول، بدعوى خوف التأثر وفساد الأفكار!! وهذا بلا شك له تأثير على الداعية وعلى الحركة: على الداعية في تكوينه الثقافي والعقلي، وعلى الحركة في ركودها وعدم تطورها، وفي هجرة من يصر على الخروج من هذا الطوق لها، فتفقد الحركة بذلك عقولا واعية يصعب تعويضها.
3- الرغبة في تجنب المشكلات:(/1)
فقد يؤثِر الداعية أحيانا جانب السلامة، ويبتعد عن تناول بعض القضايا والأحداث، خوفا من أن يتعرض للمساءلة، أو يصنف على تيار من التيارات، مما قد يضعه في مواجهات ومشكلات يرى أنه في غنى عنها!. وقد يسوق مبررا لذلك أراه أبشع من مسألة تجنب الحديث في هذه الأمور، وهو أن هذه الأمور لن تفيد الناس ولا تقع في نطاق اهتمامهم ولا يحبون سماعها، وكأن الداعية تحول إلى مطرب يستجدي رضا الناس وتصفيقهم بتقديم ما يستهوي أسماعهم فقط، دون النظر إلى ما يرقى بفهمهم، ويُعلي من تفكيرهم، ويزيد من ثقافتهم، ويدفعهم للعمل الإيجابي.
4- الحياء المذموم:
وهو من الأسباب التي تحول بين الدعاة وتناول بعض القضايا الحياتية للناس، حيث يقف البعض منهم حائرا مترددا في تناول بعض القضايا الحساسة وينتهي الحال بكثيرين منهم إلى إيثار الصمت حيال هذه المسائل، مما يعطي الفرصة لغيرهم ممن ليسوا مُؤهلين لتناول هذه القضايا، أو ممن يبطنون النوايا السيئة، ليخوضوا غمار هذه المسائل، مستغلين فرصة سكوت علماء الدين والدعاة عنها.
إن السبب الذي أدى إلى نشوء تلك العُقدة لدينا، هو سيطرة بعض التقاليد والمفاهيم الدخيلة، التي تضفي هالة من التعتيم على بعض المسائل، بدعوى "العيب"، ويعتنق الآباء والأمهات والمربون ذلك، بل الدعاة، ناسين أو متناسين أن هناك مصادر أخرى للمعرفة يستطيع الشاب أو الفتاة – أو حتى الطفل - أن يعرف منها ما يريد، من جماعة الرفاق ووسائل إعلام وغيرها، ولكنها - في معظمها - مصادر غير مأمونة، فيتولد عند الشباب خليط من الأفكار والمعلومات والأحكام المشوشة، وغير الدقيقة، فيقعون فريسة لأصحاب النوايا السيئة ومُدعي العلم، والذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
ونحن نرى – للأسف وبسبب إعراض الدعاة عن هذه المسائل – أن هناك من العابثين من يتعرض لها بوسائل مختلفة ويسير دفة الحوار والنقاش في اتجاه لا يُبين وجه الحقيقة ولا يقدم النفع، بقدر ما يشجع على الانحلال والتسيب، بما يخدم أهدافهم، مستخدمين أدواتهم بمنتهى الابتذال والإسفاف، لاعبين على الوتر الحساس لدى الشباب، ولا يجد الشباب متنفسا أمامه إلا أمثال هؤلاء ليأخذ عنهم، ويعتقد ما يقولونه.
علاج المشكلة
إن علاج أية مشكلة يتمثل - ببساطة – في تلافي أسبابها، وتوفير الوسائل التي تساعد على تخطي العقبات في طريق الحل، ومن أبرز الحلول التي أقترحها لهذه المشكلة:
1- التربية الإيمانية:
وأقصد بها العمل – ذاتيا وجماعيا – على رفع إيمانيات الداعية وتقوية صلته بالله، وتذكيره بعظمة الدور الذي يقوم به، وقدسية الرسالة التي يحملها، والثواب الجزيل الذي ينتظره في الآخرة، وما يستحقه ذلك كله من تحمل للتبعات والمسئوليات المترتبة عليه، والابتلاءات التي قد تعترض طريقه، ووجوب تحملها واحتساب ما يلقاه من عنت ومشقة عند الله عز وجل، وضرورة ألا تمنعه تلك الابتلاءات وتوقع حدوثها من المضي قدما في طريق دعوته بحماسة راشدة وعمل متبصر.
2- إدراك الواقع وفهمه ومعايشته:
ما أحوج الداعية لمعرفة واقعه وفهمه ومعايشته؛ فالداعية لا ينجح في دعوته ما لم يعرف مَن يدعوهم، ويعرف كيف يدعوهم، وماذا يقدم معهم وماذا يؤخر، ولهذا حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن قال له: "إِنكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَولَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحدُوا اللهَ تَعَالَى، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَن اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلوا فَأَخْبِرْهُمْ أَن اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاة فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيهِمْ فَتُرَد عَلَى فَقِيرِهِمْ، فَإِذَا أَقَروا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَق كَرَائِمَ أَمْوَالِ الناسِ" (رواه البخاري).
نلاحظ أنه صلى الله عليه وسلم أخبر معاذا بطبيعة القوم الذين سيذهب لدعوتهم، وأنهم أهل كتاب؛ إذ لو كانوا مجوسا أو ملاحدة – على سبيل المثال – لكان عليه أن يدعوهم بطريقة أخرى.
لهذا من الضروري أن يدرس الداعية البيئة التي يعيش فيها قبل أن يتوجه إليها بالدعوة، عليه أن يعرف أوضاعها وتقاليدها، ويتعمق في فهم مشكلاتها ونفسيات أهلها وما يؤثر فيها.
والداعية ذو العقل اليقظ يستطيع أن يأخذ مددا جديدا من كل ما حوله من وقائع الحياة اليومية، ويمكنه أن يعد لذلك سِجلا أو أرشيفا، يُدون فيه ما يهمه من مشاهداته وما يسمعه من وقائع وأخبار، ويصنفها ويضعها عند الحاجة في مكانها.(/2)
و"الثقافة" بمعناها العميق هي التي تحمي صاحبها من التخبط في تيارات الضلال، والتيه في مهاوي الفكر، بل تجعله قادرا على مواجهة هذه التيارات وخوض غمارها والتأثير فيها دون أن يتأثر، فالرمح المثقف عند العرب هو الرمح الذي استوت جنباته وخلت من النتوءات والتشوهات، فحينما تُرمَى به الفريسة فإنه يؤثر فيها، ولكنه لا يتأثر ولا يتكسر، ويخرج منها سليما كما دخل بعد أن يكون قد أدى مهمته.
3- تطوير مناهج تكوين الدعاة:
إن السعي إلى تطوير المناهج الرسمية أو الحركية ليس عيبا أو خطأ، بل العيب كل العيب والخطأ كل الخطأ الاستمرار على مناهج قاصرة بدعوى الاستقرار. لكن هذا التغيير لا بد أن يصدر عن دراسة متأنية وتفكير وتأمل من أهل الخبرة والدراية، وإلا فقد يصير مشكلة بل كارثة إذا تم بغير ذلك، أو كرد فعل عشوائي متسرع لدعاوى التطوير.
نريد مناهج تخرج دعاة واعين بما يدور حولهم، ويؤثرون في واقعهم، لا مجرد نُسَخ لكتب وصحائف عفا عليها الزمن، نريد مناهج تغير الصورة الساذجة للداعية عند الناس، وتعيد إليهم الثقة به مرجعا لهم في شتى القضايا والأحداث، يستلهمون منه الرأي والعمل.
4- تصحيح مفهوم الحياء:
وأقدم للحديث عن هذه النقطة بتساؤل: هل توجَد في ديننا وشِرعتنا مناطق مُحرمة مظلمة، ينبغي عدم السؤال عنها والحديث فيها، وإن وقع الحديث فيها، فلا يكون إلا همسا، وداخل الغرف المظلمة؟؟ لو كانت الإجابة بـ "نعم"، فإن هذه الإجابة تنفي عن ديننا صفة الشمول والإحاطة والصلاحية لكل زمان ومكان، وتخلع عليه صفتَي النقص والقصور.
والإجابة بـ "لا"، تفرض على علمائنا والمنتسبين لهذا الدين أن يعملوا عقولهم وأدواتهم العلمية لاستخراج أحكام شرعية مرتبطة بكل القضايا الاجتماعية، وبحث طرق مناقشتها وعرضها، وإقناع الناس بالصحيح النافع، وتحذيرهم من الخطأ الضار، مستلهمين أساليب القرآن والسنة في مناقشة تلك القضايا وعرضها.
يجب علينا دعاة أن نتحرر من العقدة التي تنتابنا عند مناقشة مختلف القضايا الموجودة بشكل جدي في واقعنا، وألا نسكت عنها بدعوى الخجل والحياء، فالحياء في ديننا له أسس ومفاهيم تحكمه.
إن هذه العقدة تنحل بمعرفة الضوابط التي ينبغي أن نتمسك بها عند التعرض لأمثال هذه القضايا الحرجة، والحدود التي ينبغي الوقوف عندها.
نعم، إن الحياء خُلق أصيل في الإسلام، بل هو الخُلُق الأول فيه، وإن الإسلام يبغض الفُحْش والتفَحش في القول وينكره، ولكن مع ذلك كله، فإن الحياء لا يكون مانعا للمسلم أبدا من أن يتعلم أمور دينه ودنياه، فقد روى البخاري أن أم سليم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأت الماء". فنرى أن أم سليم قد علمت أن دينها يفرِض عليها العِلم، لذا لم تستحي من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما دعت الحاجة إليه مما تستحيي النساء في العادة من السؤال عنه وذِكْره بحضرة الرجال، وقدمت لسؤالها بقولها: "إن الله لا يستحيي من الحق"، حتى تقطع الطريق على من قد يسمع سؤالها، فيتبادر إلى ذهنه أن سؤالها هذا ينافي الحياء.
من هنا نعلم أنه يجب مناقشة جميع المسائل الحياتية، وألا نمتنع عنها حياء من ذِكْرها، فإن ذلك ليس حياء حقيقيا؛ لأن الحياء خير كله، والحياء لا يأتي إلا بخير، والإمساك عن تناولها في هذه الحال ليس بخير، بل هو شر؛ لأن فيه الإقامة على الجهل وتعطيل واجبات الدين، فكيف يكون حياء؟.
ولكن مع ذلك، يجب أن يختار الداعية الكلمات والتعبيرات المناسبة، دون استطراد لا لزوم له، أو ابتذال خارج عن حدود السؤال، كما عودنا أسلوب القرآن، وأسلوب السنة المطهرة. ولقد مدحت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها نساء الأنصار.. هل تعلم لماذا؟ فلنسمعها وهي تقول: "نِعْمَ النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين" رواه مسلم. وَقَالَ مُجَاهِدٌ بن جبر، وهو من التابعين: "لا يتعلم العلم مستحيٍ ولا مستكبر".
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكَني عما يضطره الكلام إليه من أمور يُستحيَا من ذكرها، فقد سألته امرأة عن كيفية الغسل مِنَ الحيْض، فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم كيف تغتسل، ثم قال: "خُذِي فِرْصَة – قطعة من قماش – من مسك فتطهري بها"، فقالت: كيف أتطهر؟ قال: "تطهري بها"، قالت: كيف؟ قال: "سبحان الله، تطهري"، فلما رأت السيدة عائشة أن المرأة رغم كل هذا لم تفهم، ورأت حياء النبي صلى الله عليه وسلم من التصريح بما يريد، جذبت المرأة إليها وقالت لها: "تتبعي بها أثر الدم" رواه البخاري... وغيرها وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي لا يتسع المقام لذكرها.(/3)
فهلا كان المخلصون من الدعاة والعلماء، ممن هم أهل لتناول هذه القضايا، بما يملكون من علم هم السابقين لها ولعلاجها وتناولها، قبل غيرهم ممن يضمر سوءا بشبابنا وبأمتنا، ولا يملك في جعبته إلا الضلال والإفساد؟!! سؤال ننتظر من الدعاة الإجابة عنه.(/4)
الدعاة وأعراف المجتمعات محمد الحبر يوسف*
للأعراف في كل مجتمع من المجتمعات تأثيرها، وسطوتها على عقول الناس ومواقفهم واختياراتهم، وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم أن دعوة الرسل الكرام على ما فيها من حق وإشراق، وما توافر لها من دلائل الصدق والتأييد إلا أن الأمم الجائرة قابلت هذه الهدايات بالتنكر والجحود، وأبت إلا التمسك بأعرافها الموروثة، وتقاليدها المتبعة؛ قال تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)، وقال جل وعلا: (وإذ قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا)، وقد حكى الله عن قوم نوح قولهم: (ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين)، وعن قوم إبراهيم قولهم: (قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون).
ولا زلت أذكر أن شابًا إنجليزيًا (قح) رآني مرة أخطب الجمعة والعمامة على رأسي فألح علي أن أهدي إليه عمامة، ولكني لم أفعل؛ واعتذرت له؛ لأني لم أرَ في ذلك مصلحة تعود عليه، بل خشيت إن لبسها أن ينكره قومه؛ ويظنوا بعقله شرًا!.
ما يزال كثير من الناس إلى عصرنا هذا لا يمنعه من قبول الحق رغم يقينه بأنه حق إلا الخوف من مخالفة قومه، ومما سيلحقه في سبيل هذه المخالفة من عنت؛ فالتحرر من أغلال التقاليد والأعراف الراسخة في المجتمعات ليس بالأمر اليسير؛ ولا يستطيعه إلا من أعد نفسه؛ وهيأها للتضحيات الجسام؛ فقد يبلغ الأمر بمن لا يوافق الناس على ما تواضعوا عليه من خلق ودين أن يُخرج من بلده أو يُقتل؛ (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا)، وقال قوم لوط: (أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون).
هذه هي سطوة الأعراف على المجتمعات، وقد كان الإسلام مدركًا لأثر هذه الأعراف على عقول الناس؛ لذلك ما اعتمد في تغييرها على العنف والشدة، بل أمر بالرفق والحكمة؛ (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، ومن حكم نزول القرآن منجمًا التدرج في تربية المجتمع، وانتزاع مواريث الجاهلية شيئًا فشيئًا.. وكان الإسلام منصفًا أيضًا في نظره لأعراف المجتمعات؛ فلم يأمر بمصادمتها جملة؛ واقتلاع كل ما توارثه الناس، ولكنه وضع القسطاس المستقيم الذي يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال؛ فما وافق الحق قُبل، وما خاصمة رد؛ لذلك لخص لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة دعوته؛ فقال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)؛ فما من عرف حسن، أو خلق كريم استقر في أمة من الأمم إلاَّ وجاء الدين مرحبًا به، وداعما له، وشاهد ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حلف الفضول الذي تداعت له قبائل العرب نصرة للمظلوم: (لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت).
ولا شك أن هذه المرونة في التعامل مع كسب الشعوب كانت من أعظم عوامل تقدم الدين؛ إذ لم تشعر هذه الشعوب بأن الإسلام يكلفها أن تنخلع عن كل عاداتها ومواريثها، كما لم يطالبها بأن تتخلى عن انتمائها لأوطانها، وانتسابها لأصولها، وما رأت الإسلام يومًا يحجر عليها أن تتسمى بأسمائها، أو تتزي بأزيائها..
إن هذه الدائرة في شريعة الإسلام متروكة لسنن الناس وعاداتهم؛ ويكفي أن تأتي الشريعة فيها بقواعد كلية، أو تنهى عن أمور محصورة لو عدّها العادّ لأحصاها.. كأن يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كُلْ ما شئت، وألبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة).
وها نحن نرى شعوبًا دخلت في الإسلام منذ قرون ومع ذلك لا تزال تحافظ على أسمائها، وعلى كثير من عاداتها في طعامها وشرابها ولباسها دون أن يخدش ذلك في انتمائها لدينها.
ومن الخطأ البين أن يخلط الدعاة في هذا الباب بين الشريعة والعادة، وبين السنن الملزمة وغير الملزمة!؛ فقد رأيت في إنجلترا مجموعات من إخواننا المسلمين الجدد يصرون على اللباس العربي، ويمشون به في الشوارع والأسواق والأماكن العامة؛ ظنًا منهم أن هذا اللباس له صلة بالدين!.. ولا زلت أذكر أن شابًا إنجليزيًا (قح) رآني مرة أخطب الجمعة والعمامة على رأسي فألح علي أن أهدي إليه عمامة، ولكني لم أفعل؛ واعتذرت له؛ لأني لم أرَ في ذلك مصلحة تعود عليه، بل خشيت إن لبسها أن ينكره قومه؛ ويظنوا بعقله شرًا! وكم وددت لو أن الدعاة في مثل تلك البيئات علّموا الناس حقائق الإسلام الكبرى، وشرحوا لهم معالمه الأساسية، وبينوا لهم بجلاء أن الإنسان يمكن أن يكون مسلمًا كامل الإسلام وهو يرتدي البدلة، ويأكل بالسكين والشوكة!.(/1)
والتعامل مع عادات الناس وطبائع الشعوب من الفقه الذي نحتاج أن نحسنه، وفي ظني أن الدعوة ستكسب خيرًا كثيرًا إذا وفق الله الدعاة أن يستثمروا الجوانب الحسنة في عادات الشعوب؛ ويجعلوا منها طريقًا موصلاً إلى الله.. وهذا هو عين ما فعله الإسلام يوم أبقى على عادات العرب وأخلاقهم التي لا تعارض الدين، ونقاها من الشوائب والمكدرات؛ فالكرم الذي عرفوا به، وتمادحوا به في أشعارهم حض عليه الإسلام، ولكن لم يعد الباعث عليه مخافة الذم كما هو الحال عندهم، ولكن كما قال القرآن: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءًا ولا شكورًا).. والشجاعة في القتال من مفاخر العرب، وجاء الإسلام؛ ومدح هذه الشجاعة، غير أنه حدد لها إطارًا؛ فلا يجوز للرجل أن يقاتل شجاعة أو حمية، وإنما من يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله.
ومن حق العادات الحسنة أن تشكر، وأن يقابلها الدعاة بمشاعر التأييد؛ حتى يشتد عودها؛ وتصبح من بعد تقليدًا متبعًا، وقاعدة ينطلق منها الدعاة إلى الله في تكثير الخير وتكميله؛ إذ البداية من الأمور المتفق عليها والعادات المستقرة عند الناس أولى من الدخول معهم في صراع حول مسائل لم تبلغها عقولهم؛ ولم يسلموا بها، وقد أخبرنا الله في كتابه أن من أسباب رد الحق احتجاب العقل عن إدراكه؛ فقال: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله)؛ فلتكن من بداياتنا في الدعوة توظيف الأعراف المأذون بها فضلاً عن الأعراف التي هي من صميم ديننا.. أقول هذا وأنا أدرك أن كثيرًا من أعرافنا الحسنة في المجتمعات الإسلامية ربما اختلطت بها بدع ومخالفات شوهت صورتها، ونفرت الطيبين عنها، ولكن العاقل من لا يفوّت أصل المصلحة تشوفًا لكمالها، ولا يُبطل العرف الحسن لاختلاطه بمنكر قبيح.
وعلى الدعاة أن يدركوا أيضًا أن دورهم لن ينتهي بإصدار الأحكام على أعراف الناس أو نقدها؛ فالنقد مهما كان صوابًا فلن يجد آذانًا صاغية؛ حتى نقدم للناس البديل الصالح الذي يتشبثون به؛ (قال أوَ لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم)؛ إن لوطًا عليه السلام أنكر ما عليه قومه من فاحشة الشذوذ وما وقف عند هذا الحد!، ولكنه ندبهم إلى الزواج (البديل الطاهر)؛ وقال لهم: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم)؛ فوظيفة الأنبياء ليست إنكار المنكر فحسب، ولكنها مع ذلك إرشاد ودلالة إلى المعروف وطريق الخير والرشاد؛ (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوارة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم).
إن تقديم البديل الصالح للواقع المنحرف هو الذي سيمنح مشاريع الإصلاح الدعوي قوتها، ويكسبها القبول والثقة؛ فالناس مجبولون على التعلق بما يرونه ماثلاً أمامهم، قائمًا في حياتهم.. ونظرهم إلى الواقع المعاش أسبق من نظرهم إلى الأفكار؛ لذلك قلَّ أن يتمسكوا بشيء غير معهود، أو يتأثروا بموعظة مجردة عن السلوك.. وهذا هو السر في أن الله تعالى أنزل الكتاب، وأرسل الرسول الذي يتحرك بالكتاب، ويمشي به في الناس، ويجرد من نفسه أسوة حسنة؛ وبهذا يقع التأثير، ويتحقق الصلاح.. وقد قرن نبي الله شعيب بين القدوة الحسنة التي تتبع القول العمل والإصلاح المنشود؛ فقال لقومه: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب).
فالخطاب الدعوي المعاصر يجب أن يركز في هذه المرحلة من تاريخ الأمة على البرامج العملية القادرة على مناهضة الواقع الفاسد، وإشاعة العرف الراشد، أما الحديث - الموصول (وكدت أقول: (المعسول)) - عن الحل الإسلامي وبيناته فلا يكفي وحده؛ و(هل ينتفع المرضى - كما قال أحد المشايخ -: بمن يقول لهم الدواء هو الحل؟!).(/2)
الدعاة والبعد الزمني الغائب
حين خرج النبي صلى الله عليه و سلم إلى الطائف ليبحث عن مجال أنسب وأخصب للدعوة، وفعل معه أهل الطائف ما فعلوا، وصف صلى الله عليه و سلم هذه الحال بقوله:«فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأخْشَبَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و سلم :بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»([1]).
لقد قال صلى الله عليه و سلم هذه المقالة عقب هذا الحدث وآثاره لما تزل بعد، ولم يقلها صلى الله عليه و سلم وهو في جلسة تفكير هادئة.
والأمر نفسه نجده في سيرة نوح عليه السلام حين لبث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وحين دعا ربه على قومه قال:((ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً))، إذ كان عليه السلام يؤمل بذريتهم وأولادهم، فلما يأس من هذه الذرية دعا ربه عليهم.
إن هذين الموقفين ليعطيان المسلم دلالة على البعد الزمني في تفكير الأنبياء وتخطيطهم للدعوة، وهو بعد تعاني الأمة اليوم من فقده كثيراً، إنه مرض ورثه بعض الدعاة والخيرين من عقلية المجتمعات الإسلامية التي لاتفكر إلا في ما تزرعه اليوم وتحصده في الغد وتأكله في اليوم الثالث.
ولقد كان من نتائج غياب البعد الزمني في تفكير الدعاة:
1 - الابتعاد عن الأعمال المنتجة العميقة الأثر والتي تحتاج إلى وقت وجهد في القيام بها، ولا تظهر آثارها في الزمن القريب، والعناية أكثر بالأعمال سريعة الأثر وقريبة النتائج، وهي مهما علا شأنها لا يسوغ أن تكون بحال هي الميدان الوحيد الذي يفكر فيه الدعاة.
2 - غياب الرؤية البعيدة والنظر الاستراتيجي العميق للواقع، وعدم دراسة المتغيرات التي تحكمه واتجاهاتها، مما يوقع المجتمعات الإسلامية أمام المفاجآت، ويحرمها من التنبؤ المسبق بالمشكلات، ومن ثم الإعداد لها ومواجهتها، وذلك واجب ينبغي أن يقوم بأعبائه الدعاة إلى الله عز وجل.
3 - التسرع في التقويم والحكم على كثير من الجهود الدعوية التي ربما لا تظهر آثارها في الزمن القريب المنظور، وترتب على ذلك اعتبار الابتلاءات التي تصيب الدعوة دلائل فشل وإخفاق، وافتراض ثبات الأوضاع القائمة بكل متغيراتها وظروفها.
إننا اليوم بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في طريقة تفكيرنا، وإعطاء الأمور وقتها الذي تستحقه مما يؤمل معه أن تنتقل الدعوة إلى مواقع ومساحات كانت قد حرمت منها، وأن تتسع النظرة ويبعد الأفق.
إننا حين نتأمل شاباً مستجمع القوى والنشاط، يملك قدرات وخبرات، وحيوية وفتوة، ندرك أن عقدين من الزمان كانت على الأقل هي فترة بنائه توافر عليها عوامل ومؤثرات عدة لا يمكن أن ينفرد عامل منها في مسؤولية عن جانب واحد من جوانب شخصيته، فهل نحن نفكر اليوم ولو على الأقل على مدى عقدين من الزمان؟ فليت الذين عمرهم في الصحوة ربما يقصر عن هذه الفترة يدركون أن عمر الأجيال والمجتمعات لا يقارن بعمر الأفراد، فكيف حينها نطالب المجتمعات بنضج في وقت لا ينتظر فيه ربما نضج فرد من الأفراد؟
وواقع المجتمعات الإسلامية اليوم لم يكن نتاج قفزة هائلة إنما هو نتاج عوامل عدة أثرت فيه وساهمت مجتمعة في صياغته، يضاف لذلك عشرات من السنين، فكيف يراد إصلاح هذا الواقع في سنيات عدة؟
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه البخاري (3231) ومسلم (1795)(/1)
الدعاء
أولاً: تعريف الدعاء وحقيقته.
ثانياً: نوعا الدعاء والعلاقة بينهما.
ثالثاً: فضل الدعاء.
رابعاً: بين الدعاء والذكر.
خامساً: حكم الدعاء وفائدته.
سادساً: شروط الدعاء وواجباته.
سابعاً: آداب الدعاء ومستحباته.
ثامناً: أخطاء في الدعاء وما يكره فيه.
تاسعاً: من أقوال السلف في الدعاء.
عاشراً: ملحقات البحث.
أولاً: تعريف الدعاء وحقيقته:
الدعاء لغة:
كلمة الدعاء في الأصل مصدر من قولك: دعوتُ الشيء أدعوه دعاءً، وهو أن تُميل الشيءَ إليك بصوت وكلام يكون منك.
قال ابن منظور: "دعا الرجلَ دعوًا ودعاءً: ناداه. والاسم: الدعوة. ودعوت فلانًا: أي صِحت به واستدعيته".
وأصله دعاوٌ؛ لأنه من دعوت, إلا أن الواو لما جاءت متطرّفة بعد الألف هُمزت.
ثمّ أقيم هذا المصدر مقام الاسم ـ أي: أطلق على واحد الأدعية ـ، كما أقيم مصدر العدل مقامَ الاسم في قولهم: رجلٌ عدلٌ، ونظير هذا كثير.
الدعاء شرعًا:
عرِّف بعدة تعريفات:
فقال الخطابي: "معنى الدعاء استدعاءُ العبدِ ربَّه عزَّ وجلَّ العنايةَ، واستمدادُه منه المعونةَ. وحقيقته: إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتبرُّؤ من الحول والقوّة، وهو سمةُ العبودية، واستشعارُ الذلَّة البشريَّة، وفيه معنى الثناء على الله عزَّ وجلَّ، وإضافة الجود والكرم إليه".
وقال ابن منظور: "هو الرغبة إلى الله عز وجل".
معاني الدعاء في القرآن الكريم:
ورد الدعاء في القرآن الكريم على وجوه، منها:
1- العبادة، كما في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف:194].
2- الطلب والسؤال من الله سبحانه، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، وقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
3- الاستغاثة، كما في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40، 41]، وقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23].
4- النداء، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:52]، وقوله تعالى: {إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25].
5- توحيد الله وتمجيده والثناء عليه، كما في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَانَ} [الإسراء:110].
6- الحثّ على الشيء، كما في قوله تعالى: {قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} [يوسف:33]، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} [يونس:25].
7- رفعة القدر، كما في قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلاَ فِى الآخِرَةِ} [غافر:43].
8- القول، كما في قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا إِلا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:5].
9- سؤال الاستفهام، كما في قوله تعالى:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ} [البقرة:68].
10- التسمية، كما في قوله تعالى: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63]، وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَانَ أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسْمَاء الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، قال ابن القيم: "ليس المراد مجرد التسمية الخالية عن العبادة والطلب، بل التسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب، فعلى هذا المعنى يصح أن يكون في {تَدْعُواْ} معنى (تُسَمُّوا) فتأمله، والمعنى: أيا ما تسمّوا في ثنائكم ودعائكم وسؤالكم".
11- وقيل: ورد بمعنى العذاب، كما في قوله تعالى: {تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج:17]، قال المبرد: "تدعو أي: تعذِّب"، وقال غيره: "تناديهم واحدا واحدا بأسمائهم"، قال السمعاني: "وهو الأظهر".
انظر: مقاييس اللغة (2/279).
لسان العرب مادة (د ع و).
لسان العرب مادة (د ع و).
شأن الدعاء (ص3).
شأن الدعاء (ص4).
لسان العرب مادة (د ع و).
انظر: مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصبهاني (ص315-316)، وفتح الباري لابن حجر (11/94)، ولسان العرب مادة (د ع و)، وكتاب الدعاء لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص8-10).
بدائع الفوائد (3/5).
تفسير السمعاني (6/47).
ثانياً: نوعا الدعاء والعلاقة بينهما:(/1)
الدعاء الذي حثَّ الله عليه في كتابه، ووعد المخلصين فيه بجزيل ثوابه، نوعان: دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
أما دعاء المسألة فهو: طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره ودفعه.
وأما دعاء العبادة فهو: التقرب إلى الله بجميع أنواع العبادة، الظاهرة والباطنة، من الأقوال والأعمال، والنيات والتروك، التي تملأ القلوب بعظمة الله وجلاله.
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: "كل ما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء, والنهي عن دعاء غير الله, والثناء على الداعين، يتناول دعاء المسألة ودعاء العبادة, وهذه قاعدة نافعة؛ فإن أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة دعاءُ المسألة فقط, ولا يظنون دخول جميع العبادات في الدعاء, وهذا خطأ جرهم إلى ما هو شر منه".
العلاقة بين النوعين:
دعاء المسألة ودعاء العبادة متلازمان؛ وذلك من وجهين:
الأول: من جهة الداعي؛ فإن دعاءه بنوعيه مبني على الخوف والرجاء.
قال ابن تيمية: "وكل سائل راغب وراهب، فهو عابد للمسؤول، وكل عابد له فهو أيضا راغب وراهب، يرجو رحمته ويخاف عذابه، فكل عابد سائل، وكل سائل عابد، فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه، ولكن إذا جمع بينهما فإنه يراد بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب، ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال. والعابد الذي يريد وجه الله والنظر إليه، هو أيضا راج خائف راغب راهب، يرغب في حصول مراده، ويرهب من فواته، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَبا} [الأنبياء:90]، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16]، ولا يتصور أن يخلو داع لله ـ دعاء عبادة أو دعاء مسألة ـ من الرغب والرهب، من الخوف والطمع".
والثاني: من جهة المدعو؛ فإنه لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر.
قال ابن القيم: "كل من يملك الضر والنفع، فإنه هو المعبود حقا، والمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر، ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضرا ولا نفعا، وذلك كثير في القرآن، كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} [يونس:18]، وقوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} [يونس:106]، وقوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:76]، وقوله تعالى: {أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ * أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:66]، وقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ * إِذْ قَالَ لأِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِين * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:69-73]، وقوله تعالى: {وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حياةً وَلاَ نُشُوراً} [الفرقان:3]، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبّهِ ظَهِيراً} [الفرقان:55]، فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين من دونه النفع والضر، القاصر والمتعدي، فلا يملكونه لأنفسهم ولا لعابديهم، وهذا في القرآن كثير، بيد أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر، فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعى خوفا ورجاء دعاء العبادة، فعلم أن النوعين متلازمان، فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة".
انظر: النبوات (ص136).
انظر: مجموع الفتاوى (15/10)، بدائع الفوائد (3/2).
انظر: تصحيح الدعاء (ص17).
القواعد الحسان (ص154- 155).
مجموع الفتاوى (10/239-240).
بدائع الفوائد (3/2-3).
ثالثاً: فضل الدعاء:
لقد ورد في فصل الدعاء وأهميته آيات كريمة وأحاديث نبوية كثيرة، فمن فضائله العظيمة التي دلَّ عليها الكتاب والسنة:
1- أن الله تعالى أثنى على أنبيائه به، فقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} [الأنبياء:90]، فأثنى سبحانه عليهم بهذه الأوصاف الثلاثة: المسارعة في الخيرات، ودعاؤه رغبة ورهبة، والخشوع له، وبيَّن أنها هي السبب في تمكينهم ونصرتهم وإظهارهم على أعدائهم، ولو كان شيء أبلغ في الثناء عليهم من هذه الأوصاف لذكره سبحانه وتعالى.(/2)
2- أنَّه سنَّة الأنبياء والمرسلين، ودأب الأولياء والصالحين، ووظيفة المؤمنين المتواضعين، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِئَايَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16-17]، وهو صفة من صفات عباد الرحمن، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} إلى قوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:65-77]، وهو ميزة أولي الألباب، قال تعالى: {إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَاتٍ لأوْلِى الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} إلى قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} [آل عمران:190-195].
3- أنه شأن من شؤون الملائكة الكرام، قال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأَرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى:5]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7-9].
4- أنه من أفضل العبادات، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} [غافر:60]، وعن النعمان بن بشير قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة))، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ...}.
قال الخطابي: "معناه أنه معظم العبادة، وأفضل العبادة، كقولهم: الناس بنو تميم، والمال الإبل، يريدون أنهم أفضل الناس أو أكثرهم عددا أو ما أشبه ذلك، وأن الإبل أفضل أنواع الأموال وأنبلها".
قال المباركفوري: "أي هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة؛ لدلالته على الإقبال على الله, والإعراض عما سواه، بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه".
5- أن الله تعالى سماه دينا فقال سبحانه: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ} [الأعراف:29].
6- أنه أكرم شيء على الله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء)).
قال الشوكاني: "قيل: وجه ذلك أنه يدل على قدرة الله تعالى وعجز الداعي، والأولى أن يقال: إن الدعاء لما كان هو العبادة, وكان مخ العبادة كما تقدم، كان أكرم على الله من هذه الحيثية؛ لأن العبادة هي التي خلق الله سبحانه الخلق لها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]".
7- أنَّ الله تعالى أمر به وحثَّ عليه، وكذلك رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء:32]، وقال: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال: {فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14]، وقال: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} إلى قوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف:55-56]، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يسألِ اللهَ يغضبْ عليه)).
8- أنَّ أهل الجنَّة به علَّلوا نجاتهم من عذاب النار فقالوا: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 27-28].(/3)
9- أنَّ الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجالسَ ويلازمَ أهلَ الدعاء، وأن لا يعدُوَهم إلى غيرهم بالنظر فضلا عمَّا هو فوقه، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحياةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
10- أنَّ الله تعالى نهى عن الإساءة إلى أهل الدعاء، تشريفا وتكريما لهم فقال: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52].
11- أن الله تعالى قريب من أهل الدعاء، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، وقد جاء في سبب نزولها أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
قال ابن القيم: "وهذا القرب من الداعي قرب خاص، ليس قربا عاما من كل أحد، فهو قريب من داعيه، وقريب من عابده، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وهو أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه، بل هو قرب خاص من الداعي والعابد".
12- أنَّ من لزم الدعاء فلن يدركه الشقاء، قال الله تعالى عن زكريَّا: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً} [مريم: 4]، وقال عن خليله إبراهيم: {عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا} [مريم: 48].
13- أنَّه من صفات أهل الجنة في الجنة، قال تعالى: {دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
14- أنَّ الدعاء كلَّه خير، فعن أبي سعيد رفعه: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلاَّ أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إمَّا أن يُعجِّل له دعوته، وإمَّا أن يدَّخرها له في الآخرة، وإمَّا أن يصرف عنه من السوء مثلها)).
قال ابن حجر: "كلّ داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة؛ فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعوضه".
15- أنَّ الله تعالى وعد بإجابة الدعاء فقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقال: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء} [النمل: 62]، وقال: {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
16- أنه مفتاح أبواب الرحمة، وسبب لرفع البلاء قبل نزوله وبعد نزوله، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فُتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سئل الله شيئا يُعطى أحب إليه من أن يسأل العافية، إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء))، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاء ليلقى البلاء، فيعتلجان إلى يوم القيامة)).
قال المباركفوري: "قوله: ((من فتح له منكم باب الدعاء)) أي: بأن وفق لأن يدعو الله كثيراً مع وجود شرائطه، وحصول آدابه، ((فتحت له أبواب الرحمة)) يعني أنه يجاب لمسئوله تارة، ويدفع عنه مِثله من السوء أخرى، كما في بعض الروايات: ((فتحت له أبواب الإجابة)) وفي بعضها: (( فتحت له أبواب الجنة))".
وقال في قوله: ((إن الدعاء ينفع مما نزل)): "أي من بلاء نزل بالرفع إن كان معلقاً، وبالصبر إن كان محكماً؛ فيسهل عليه تحمل ما نزل به فيُصَبِّره عليه أو يُرضيه به، حتى لا يكون في نزوله متمنياً خلاف ما كان، بل يتلذذ بالبلاء كما يتلذذ أهل الدنيا بالنعماء، ((ومما لم ينزل)) أي: بأن يصرفه عنه ويدفعه منه، أو يمدّه قبل النزول بتأييد من يخف معه أعباء ذلك إذا نزل به، ((فعليكم عباد الله بالدعاء)) أي: إذا كان هذا شأن الدعاء فالزموا يا عباد الله الدعاء".
17- أنه سبب لدفع العذاب، ومانع من موانع العقاب، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
قال ابن تيمية: "الذنوب تزول عقوباتها بأسباب... وتزول أيضا بدعاء المؤمنين، كالصلاة عليه، وشفاعة الشفيع المطاع لمن شفع فيه".
18- أنه من أعظم ما يزيد في الإيمان، ويقوي حلاوته في القلب.(/4)
قال ابن تيمية: "من تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده، فيدعونه مخلصين له الدين، ويرجونه لا يرجون أحدا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه وحلاوة الإيمان وذوق طعمه والبراءة من الشرك، ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف أو الجدب أو حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة، فإن ذلك لذَّات بدنية ونعم دنيوية، قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل للمؤمن، وأما ما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال، أو يستحضر تفصيله بال، ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه، ولهذا قال بعض السلف: يا ابن آدم، لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك، وقال بعض الشيوخ: إنه ليكون لي إلى الله حاجة فأدعوه، فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي، خشيةَ أن تنصرف نفسي عن ذلك، لأن النفس لا تريد إلا حظها، فإذا قضي انصرفت، وفي بعض الإسرائيليات: يا ابن آدم، البلاء يجمع بيني وبينك، والعافية تجمع بينك وبين نفسك".
19- أنه يرد القضاء، فعن ثوبان مولى رسول الله أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ولا يرد القدر إلا الدعاء)).
قال الشوكاني: "فيه دليل على أنه سبحانه يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد، وقد وردت بهذا أحاديث كثيرة".
وقال: "والحاصل أن الدعاء من قدر الله عز وجل؛ فقد يقضي على عبده قضاء مقيداً بأن لا يدعوه، فإذا دعاه اندفع عنه".
وقال المباركفوري: "القضاء هو الأمر المقدر، وتأويل الحديث أنه إن أراد بالقضاء ما يخافه العبد من نزول المكروه به ويتوقاه، فإذا وُفق للدعاء دفعه الله عنه، فتسميته قضاء مجاز على حسب ما يعتقده المتوقي عنه".
وقال ابن القيم: "والصواب أن هذا المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجرداً عن سببه، ولكن قدر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال".
20- أنه دليل على توحيد الله تعالى وإثبات ربوبيته وأسمائه وصفاته، قال ابن عقيل: "قد ندب الله تعالى إلى الدعاء وفيه معان: الوجود والغنى والسمع والكرم والرحمة والقدرة، فإن من ليس كذلك لا يدعى".
أخرجه أحمد (4/267)، والترمذي (2969)، وأبو داود (1479)، وابن ماجه (3829)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (890) والحاكم (1/490، 491)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح الجامع (3407).
شأن الدعاء (ص5).
تحفة الأحوذي (8/247).
أخرجه أحمد (2/362)، والترمذي (3370)، وابن ماجه (3829)، وقال الترمذي: حسن غريب، وصححه ابن حبان (870)، والحاكم (1/490)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد(549).
تحفة الذاكرين (ص30).
أخرجه أحمد (2/442)، والترمذي (3373)، وابن ماجه (3827)، وصححه الحاكم (1/491)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (512).
انظر: تفسير الطبري (2/158).
بدائع الفوائد (3/8).
أخرجه أحمد (3/18)، والبخاري في الأدب المفرد (710)، وصححه الحاكم (1/493)، وهو في صحيح الأدب المفرد(547).
الفتح (11/95).
أخرجه الترمذي (3548) وضعفه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3409).
أخرجه الطبراني في الدعاء (33)، وصححه الحاكم (1/492)، وتعقبه الذهبي بأن في سنده من هو مجمع على ضعفه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7739).
تحفة الأحوذي (9/374).
مجموع الفتاوى (10/330).
مجموع الفتاوى (10/333-334).
أخرجه أحمد (5/277)، والترمذي في القدر (2139)، وابن ماجه في المقدمة (90)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7687).
تحفة الذاكرين (ص29).
تحفة الذاكرين (ص30).
تحفة الأحوذي (6/289).
الجواب الكافي (ص16).
انظر: الآداب الشرعية (2/280).
رابعاً: بين الدعاء والذكر:
لقد ذكر العلماء من محدثين وغيرهم الأذكار في كتب الدعاء، كما أدرجوا الأدعية في كتب الأذكار، فما هي حقيقة العلاقة بين الذكر والدعاء؟
العلاقة بينهما:
قال ابن القيم: "إن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه، متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه، فهو ذكر وزيادة، كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه الطلب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الدعاء الحمد لله))، فسمى الحمد لله دعاء، وهو ثناء محض، لأن الحمد يتضمن الحب والثناء، والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب، فالحامد طالب لمحبوبه، فهو أحق أن يسمى داعيا من السائل الطالب من ربه حاجة ما... وعلى هذه الطريقة التي ذكرناها، فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب، وهو طلب المحب، فهو دعاء حقيقة، بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه، والمقصود أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه".(/5)
أيها أفضل: قراءة القرآن أم الذكر أم الدعاء؟
سئل ابن تيمية عمن يحفظ القرآن أيما أفضل له: تلاوة القرآن أم الذكر؟
فأجاب: "الحمد لله، جواب هذه المسألة ونحوها مبني على أصلين: فالأصل الأول أن جنس تلاوة القرآن أفضل من جنس الأذكار، كما أن جنس الذكر أفضل من جنس الدعاء، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم عن النبي أنه قال: ((أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر))، وفي الترمذي عن أبي سعيد عنه أنه قال: ((من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين))، وكما في الحديث الذي في السنن في الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن فعلمني ما يجزئني في صلاتي، قال: ((قل: سبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر))، ولهذا كانت القراءة في الصلاة واجبة، فإن الأئمة لا تعدل عنها إلى الذكر إلا عند العجز، والبدل دون المبدل منه، وأيضا فالقراءة تشترط لها الطهارة الكبرى دون الذكر والدعاء، وما لم يشرع إلا على الحال الأكمل فهو أفضل، كما أن الصلاة لما اشترط لها الطهارتان كانت أفضل من مجرد القراءة، كما قال النبي: ((استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة))، ولهذا نص العلماء على أن أفضل تطوع البدن الصلاة، أيضا فما يكتب فيه القرآن لا يمسه إلا طاهر، وقد حكي إجماع العلماء على أن القراءة أفضل، لكن طائفة من الشيوخ رجحوا الذكر، ومنهم من زعم أنه أرجح في حق المنتهي المجتهد، كما ذكر ذلك أبو حامد في كتبه، ومنهم من قال: هو أرجح في حق المبتدئ السالك، وهذا أقرب إلى الصواب.
وتحقيق ذلك يذكر في الأصل الثاني، وهو أن العمل المفضول قد يقترن به ما يصيره أفضل من ذلك، وهو نوعان:
أحدهما ما هو مشروع لجميع الناس، والثاني ما يختلف باختلاف أحوال الناس.
أما الأول: فمثل أن يقترن إما بزمان أو بمكان أو عمل يكون أفضل، مثل ما بعد الفجر والعصر ونحوهما من أوقات النهي عن الصلاة، فإن القراءة والذكر والدعاء أفضل في هذا الزمان، وكذلك الأمكنة التي نهي عن الصلاة فيها كالحمام وأعطان الإبل والمقبرة، فالذكر والدعاء فيها أفضل، وكذلك الجنب الذكر في حقه أفضل، والمحدث القراءة والذكر في حقه أفضل، فإذا كره الأفضل في حال حصول مفسدة كان المفضول هناك أفضل، بل هو المشروع، وكذلك حال الركوع والسجود فإنه قد صح عن النبي أنه قال: ((نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم))، وقد اتفق العلماء على كراهة القراءة في الركوع والسجود، وتنازعوا في بطلان الصلاة بذلك على قولين، هما وجهان في مذهب الإمام أحمد، وذلك تشريفا للقرآن، وتعظيما له أن لا يقرأ في حال الخضوع والذل، كما كره أن يقرأ مع الجنازة، وكما كره أكثر العلماء قراءته في الحمام، وما بعد التشهد هو حال الدعاء المشروع بفعل النبي وأمره، والدعاء فيه أفضل، بل هو المشروع دون القراءة والذكر، وكذلك الطواف، وبعرفة ومزدلفة وعند رمي الجمار، المشروع هناك هو الذكر والدعاء، وقد تنازع العلماء في القراءة في الطواف، هل تكره أم لا تكره؟ على قولين مشهورين.
والنوع الثاني: أن يكون العبد عاجزا عن العمل الأفضل، إما عاجزا عن أصله كمن لا يحفظ القرآن ولا يستطيع حفظه، كالأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم، أو عاجزا عن فعله على وجه الكمال، مع قدرته على فعل المفضول على وجه الكمال، ومن هنا قال من قال: إن الذكر أفضل من القرآن، فإن الواحد من هؤلاء قد يخبر عن حاله، وأكثر السالكين بل العارفين منهم إنما يخبر أحدهم عما ذاقه ووجده، لا يذكر أمرا عاما للخلق، إذ المعرفة تقتضي أمورا معينة جزئية، والعلم يتناول أمرا عاما كليا، فالواحد من هؤلاء يجد في الذكر من اجتماع قلبه وقوة إيمانه، واندفاع الوسواس عنه، ومزيد السكينة والنور والهدى، ما لا يجده في قراءة القرآن، بل إذا قرأ القرآن لا يفهمه، أو لا يحضر قلبه وفهمه، ويلعب عليه الوسواس والفكر، كما أن من الناس من يجتمع قلبه في قراءة القرآن وفهمه وتدبره ما لا يجتمع في الصلاة، بل يكون في الصلاة بخلاف ذلك، وليس كل ما كان أفضل يشرع لكل أحد، بل كل واحد يشرع له أن يفعل ما هو أفضل له، فمن الناس من تكون الصدقة أفضل له من الصيام، وبالعكس وإن كان جنس الصدقة أفضل، ومن الناس من يكون الحج أفضل له من الجهاد كالنساء، وكمن يعجز عن الجهاد، وإن كان جنس الجهاد أفضل، قال النبي: ((الحج جهاد كل ضعيف))، ونظائر هذا متعددة.(/6)
إذا عرف هذان الأصلان عرف بهما جواب هذه المسائل، إذا عرف هذا فيقال: الأذكار المشروعة في أوقات معينة، مثل ما يقال عند جواب المؤذن، هو أفضل من القراءة في تلك الحال، وكذلك ما سنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقال عند الصباح والمساء، وإتيان المضجع، هو مقدم على غيره، وأما إذا قام من الليل فالقراءة له أفضل إن أطاقها، وإلا فليعمل ما يطيق، والصلاة أفضل منهما، ولهذا نقلهم عند نسخ وجوب قيام الليل إلى القراءة، فقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ} [المدثر:20] الآية، والله أعلم".
بدائع الفوائد (3/9-10).
مجموع الفتاوى (23/56-60).
خامساً: حكم الدعاء وفائدته:
وجوب الدعاء والدليل على ذلك:
قال أهل السنَّة والجماعة: الدعاء واجبٌ، ولا يستجاب منه إلاّ ما وافق القضاء. فقد أمر الله تعالى به، وحضَّ عليه، فقال سبحانه: {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55]، وقال: {قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77]، والآيات في الباب كثيرةٍ، ولمَّا ذكر الله تعالى جملةَ ما أمر به ذكر من بين ذلك الدعاء فقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29].
قال الخطابي: "فأما من ذهب إلى إبطال الدعاء، فمذهبه فاسد... ومن أبطل الدعاء فقد أنكر القرآن ورده، ولا خفاء بفساد قوله، وسقوط مذهبه".
قال الشوكاني: "إنه سبحانه وتعالى أمر عباده أن يدعوه، ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى} [غافر:60]، فأفاد ذلك أن الدعاء عبادة, وأن ترك دعاء الرب سبحانه استكبار, ولا أقبح من هذا الاستكبار".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يسأل الله يغضب عليه)).
قال المناوي: "لأن تارك السؤال إما قانط وإما متكبر، وكل واحد من الأمرين موجب الغضب"، ثم نقل عن ابن القيم قوله: "هذا يدل على أن رضاه في مسألته وطاعته، وإذا رضي الرب تعالى فكل خير في رضاه، كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه... فهو تعالى يغضب على من لم يسأله، كما أن الآدمي يغضب على من يسأله".
وقال المباركفوري: "لأن ترك السؤال تكبر واستغناء وهذا لا يجوز للعبد"، ونقل عن الطيبي قوله: "وذلك لأن الله يحب أن يسأل من فضله، فمن لم يسأل الله يبغضه, والمبغوض مغضوب عليه لا محالة".
وقال الشوكاني: "في الحديث دليل على أن الدعاء من العبد لربه من أهم الواجبات, وأعظم المفروضات؛ لأن تجنب ما يغضب الله منه لا خلاف في وجوبه".
فإن قال قائلٌ: ما فائدة الدعاء وقد سبق القضاء؟
فالجواب: أنَّ الله تعالى شرع الدعاءَ لتكون المعاملة فيه على معنى الترجِّي والتعلُّق بالطمع، الباعثَين على الطلب، دون اليقين الذي يقع معه طُمأنينةُ النفس، فيُفضي بصاحبه إلى ترك العمل، والإخلادِ إلى دعةِ العطلة. فإنَّ الأمرَ الدائرَ بين الظفرِ بالمطلوب،ِ وبين مخافة فوته، يحرِّك على السعيِ له والدأب فيه، واليقينُ يُسكِّن النفسَ ويريحها، كما أنَّ اليأس يُبلِّدُها ويطفئُها، والله يريد من العبد أن يكونَ معلَّقا بين الرجاءِ والخوف اللذَين هما قطبا العبودية، وليستخرج منه بذلك الوظائف المضروبة عليه، التي هي سمة كل عبد، ونصبة كل مربوب مدبر.
قال ابن تيمية: "الناس قد اختلفوا في الدعاء المستعقب لقضاء الحاجات، فزعم قوم من المبطلين، متفلسفة ومتصوفة، أنه لا فائدة فيه أصلا، فإن المشيئة الإلهية والأسباب العلوية، إما أن تكون قد اقتضت وجود المطلوب، وحينئذ فلا حاجة إلى الدعاء، أو لا تكون اقتضته، وحينئذ فلا ينفع الدعاء.
وقال قوم ممن تكلم في العلم: بل الدعاء علامة ودلالة على حصول المطلوب، وجعلوا ارتباطه بالمطلوب ارتباط الدليل بالمدلول، لا ارتباط السبب بالمسبب، بمنزلة الخبر الصادق والعلم السابق.
والصواب ما عليه الجمهور من أن الدعاء سبب لحصول الخير المطلوب أو غيره، كسائر الأسباب المقدرة والمشروعة، وسواء سمي سببا أو جزءا من السبب أو شرطا، فالمقصود هنا واحد، فإذا أراد الله بعبد خيرا ألهمه دعاءه والاستعانة به، وجعل استعانته ودعاءه سببا للخير الذي قضاه له".
وقال ابن القيم: "وفي هذا المقام غلط طائفتان من الناس:(/7)
طائفة ظنت أن القدر السابق يجعل الدعاء عديم الفائدة، قالوا: فإن المطلوب إن كان قد قدر فلا بد من وصوله دعا العبد أو لم يدع، وإن لم يكن قد قدر فلا سبيل إلى حصوله دعا أو لم يدع. ولما رأوا الكتاب والسنة والآثار قد تظاهرت بالدعاء وفضله، والحث عليه وطلبه، قالوا: هو عبودية محضة، لا تأثير له في المطلوب ألبتة، وإنما تعبدنا به الله، وله أن يتعبد عباده بما شاء كيف شاء.
والطائفة الثانية ظنت أن بنفس الدعاء والطلب ينال المطلوب، وأنه موجب لحصوله، حتى كأنه سبب مستقل، وربما انضاف إلى ذلك شهودهم أن هذا السبب منهم وبهم، وأنهم هم الذين فعلوه، وأن نفوسهم هي التي فعلته وأحدثته، وإن علموا أن الله خالق أفعال العباد وحركاتهم وسكناتهم وإراداتهم، فربما غاب عنهم شهود كون ذلك بالله ومن الله، لا بهم ولا منهم، وأنه هو الذي حركهم للدعاء، وقذفه في قلب العبد، وأجراه على لسانه.
فهاتان الطائفتان غالطتان أقبح غلط، وهما محجوبتان عن الله:
فالأولى محجوبة عن رؤية حكمته في الأسباب، ونصبها لإقامة العبودية، وتعلق الشرع والقدر بها، فحجابها كثيف عن معرفة حكمة الله سبحانه وتعالى في شرعه وأمره وقدره.
والثانية محجوبة عن رؤية مننه وفضله، وتفرده بالربوبية والتدبير، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حول للعبد ولا قوة له، بل ولا للعالم أجمع إلا به سبحانه، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ومشيئته.
وقول الطائفة الأولى: إن المطلوب إن قدر لا بد من حصوله، وإنه إن لم يقدر فلا مطمع في حصوله، جوابه أن يقال: بقي قسم ثالث لم تذكروه، وهو أنه قدِّر بسببه، فإن وجد سببه وجد ما رتب عليه، وإن لم يوجد سببه لم يوجد، ومن أسباب المطلوب الدعاء والطلب اللذان إذا وجدا وجد ما رتب عليهما، كما أن من أسباب الولد الجماع، ومن أسباب الزرع البذر، ونحو ذلك. وهذا القسم الثالث هو الحق.
ويقال للطائفة الثانية: لا موجب إلا مشيئة الله تعالى، وليس ههنا سبب مستقل غيرها، فهو الذي جعل السبب سببا، وهو الذي رتب على السبب حصول المسبب، ولو شاء لأوجده بغير ذلك السبب، وإذا شاء منع سببية السبب، وقطع عنه اقتضاء أثره، وإذا شاء أقام له مانعا يمنعه عن اقتضاء أثره مع بقاء قوته فيه، وإذا شاء رتب عليه ضد مقتضاه وموجبه، فالأسباب طوع مشيئته سبحانه وقدرته، وتحت تصرفه وتدبيره، يقلبها كيف شاء".
شأن الدعاء (ص8-9).
تحفة الذاكرين (ص 28).
أخرجه أحمد (2/442)، والترمذي (3373)، وابن ماجه (3827)، وصححه الحاكم (1/491)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (512).
فيض القدير (3/12).
تحفة الأحوذي (9/221).
تحفة الذاكرين (ص31) بتصرف يسير.
انظر: شأن الدعاء (ص9-10).
اقتضاء الصراط المستقيم (2/705).
مدارج السالكين (3/108-110).
سادساً: شروط الدعاء وواجباته:
لا يكون الدعاء مقبولا عند الله تعالى إلا إذا توفرت فيه وفي الداعي جملة من الشروط، نذكرها فيما يلي:
1- الإخلاص فيه فلا يدعو إلا الله سبحانه، فإن الدعاء عبادة من العبادات، بل هو من أشرف الطاعات وأفضلِ القربات، ولا يقبل الله من ذلك إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم، قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18]، وقال تعالى: {فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14]، و عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)).
قال ابن رجب: "هذا منزع من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة".
وقال: "واعلم أن سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المتعين, لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضر ونيل المطلوب، وجلب المنافع ودرء المضار، [و]لا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة".
2- الصبر وعدم الاستعجال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي)).
وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل)). قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: ((يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء)).
ومعنى يستحسر: ينقطع.
قال ابن حجر: "وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أن يلازم الطلب، ولا ييأس من الإجابة؛ لما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار".
وقال ابن القيم: "ومن الآفات التي تمنع أثر الدعاء أن يتعجل العبد ويستبطئ الإجابة فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذراً أو غرس غرساً فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله".(/8)
3- الدعاء بالخير، وعدم سؤال الشر أو طلب شيء غير مشروع، لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: ((يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)).
4- حسن الظن بالله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه))، وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني)).
قال الشوكاني: "فيه ترغيب من الله لعباده بتحسين ظنونهم، وأنه يعاملهم على حسبها؛ فمن ظن به خيراً أفاض عليه جزيل خيراته، وأسبل عليه جميع تفضلاته، ونثر عليه محاسن كراماته وسوابغ عطياته، ومن لم يكن في ظنه هكذا لم يكن الله تعالى له هكذا".
5- حضور القلب، وتدبر معاني ما يقول، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما تقدم: ((واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه)).
قال النووي: "واعلم أن مقصود الدعاء هو حضور القلب كما سبق بيانه، والدلائل عليه أكثر من أن تحصر والعلم به أوضح من أن يذكر".
6- طيب المأكل والمشرب والملبس، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً... ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!)).
قال ابن رجب: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((فأنى يستجاب لذلك؟!)) معناه: كيف يستجاب له؟! فهو استفهام وقع على وجه التعجب والاستبعاد، وليس صريحاً في استحالة الاستجابة ومنعها بالكلية؛ فيؤخذ من هذا أن التوسع في الحرام والتغذي به من جملة موانع الإجابة، وقد يوجد ما يمنع هذا المانع من منعه، وقد يكون ارتكاب المحرمات الفعلية مانعاً من الإجابة أيضاً، وكذلك ترك الواجبات".
روى عكرمة بن عمار: حدثنا الأصفر قال: قيل لسعد بن أبي وقاص: تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا عالم من أين مجيؤها؟ ومن أين خرجت؟.
7- عدم الاعتداء في الدعاء، والاعتداء هو كل سؤال يناقض حكمة الله، أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به، قال الله تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، فمن ذلك:
أن يسأل الله تعالى ما لا يليق به من منازل الأنبياء.
أو يتنطع في السؤال بذكر تفاصيل يغني عنها العموم.
أو يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على المحرمات.
أو يسأل ما لا يفعله الله، مثل أن يسأله تخليده إلى يوم القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب، أو أن يسأله أن يطلعه على غيبه، أو يسأله أن يجله من المعصومين، أو يسأله أن يهب له ولدا من غير زوجة ولا أمة.
أو يرفع صوته بالدعاء، قال ابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت بالدعاء.
أو يدعو مع الله تعالى غيره، قال ابن القيم: "أخبر تعالى أنه لا يحب أهل العدوان، وهم الذين يدعون معه غيره، فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانا".
أو أن يدعو غير متضرع، بل دعاء مدل، كالمستغني بما عنده، المدل على ربه به، قال ابن القيم: "هذا من أعظم الاعتداء، المنافي لدعاء الضارع الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته، فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد".
8- أن لا يشغله الدعاء عن أمر واجب أو فريضة حاضرة، كإكرام ضيف، أو إغاثة ملهوف، أو نصرة مظلوم، أو صلاة، أو غير ذلك.
9- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، فتدعونه فلا يستجاب لكم)).
قال أهل العلم: "لذا يمكن الجزم بأن ترك القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مانع من موانع إجابة الدعاء، فعلى كل مسلم يرغب بصدق أن يكون مستجاب الدعوة القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب طاقته وجهده".
رواه أحمد (1/293، 307)، والترمذي (2511)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7957).
جامع العلوم والحكم (ص180، 181).
رواه البخاري في الدعوات (6340)، ومسلم في الذكر والدعاء (2735).
رواه مسلم في الذكر والدعاء (2735).
الفتح (11/141).
الجواب الكافي (ص 10).
أخرجه الترمذي (3479)، والحاكم (1/294)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (245).
رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675).
تحفة الذاكرين (ص12).
الأذكار (ص356).
رواه مسلم (1015) في الزكاة، والترمذي (2982) في التفسير.
جامع العلوم والحكم (1/275).
جامع العلوم والحكم (1/275).
بدائع الفوائد (3/13).(/9)
رواه الترمذي في الفتن (2169) وحسنه، وأحمد (5/288)، والبغوي في شرح السنة (4514)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7070).
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لصالح الدرويش (ص 34).
سابعاً: آداب الدعاء ومستحباته:
للدعاء آداب ومستحبات ينبغي مراعاتها، من ذلك:
1- اختيار أحسن الألفاظ وأنبلها وأجمعها للمعاني وأبينها، ولا أحسن مما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة، فإن الأدعية القرآنية والأدعية النبوية أولى ما يدعى به بعد تفهمها وتدبرها؛ لأنها أكثر بركة، ولأنها جامعة للخير كله، في أشرف الألفاظ وأفضل العبارات وألطفها، ولأن الغلط يعرض كثيرا في الأدعية التي يختارها الناس، لاختلاف معارفهم، وتباين مذاهبهم في الاعتقاد والانتحال.
قال الطبراني مبينا سبب تأليفه كتاب الدعاء: "هذا الكتاب ألفته جامعا لأدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حداني على ذلك أني رأيت كثيرا من الناس قد تمسكوا بأدعية سجع، وأدعية وضعت على عدد الأيام مما ألفها الوراقون، لا تروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن أحد من التابعين بإحسان، مع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكراهية للسجع في الدعاء، والتعدي فيه، فألفت هذا الكتاب بالأسانيد المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقال القاضي عياض: "أذن الله في دعائه، وعلَّم الدعاء في كتابه لخليقته، وعلَّم النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لأمته، واجتمعت فيه ثلاثة أشياء: العلم بالتوحيد، والعلم باللغة، والنصيحة للأمة، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عن دعائه صلى الله عليه وسلم، وقد احتال الشيطان للناس في هذا المقام، فقيَّض لهم قوم سوء، يخترعون لهم أدعية يشتغلون بها عن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأشد ما في الإحالة أنهم ينسبونها إلى الأنبياء والصالحين، فيقولون: دعاء نوح، دعاء يونس، دعاء أبي بكر، فاتقوا الله في أنفسكم، لا تشغلوا من الحديث إلا بالصحيح".
وقال الغزالي: "والأولى أن لا يجاوز الدعوات المأثورة، فإنه قد يعتدي في دعائه، فيسأل ما لا تقتضيه مصلحته، فما كل أحد يحسن الدعاء".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية المشروعة التي جاء بها الكتاب والسنة، فإنَّ ذلك لا ريب في فضله وحسنه، وأنَّه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقا".
2- الطهارة من الخبث والحدث، وذلك بأن يكون متوضئا متطيبا، وأن يستاك لأن الفم هو وسيلة الدعاء، فينبغي أن يكون طاهرا طيبا، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من حنين دعا بماء، فتوضأ ثم رفع يديه، فقال: ((اللهم اغفر لعبيد بن عامر))، قال: ورأيت بياض إبطيه.
3- استقبال القبلة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فدعا على نفر من قريش))، وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: ((خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المصلى يستسقي، فدعا واستسقى، ثم استقبل القبلة، وقلب رداءه)).
4- أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة: كعشية عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، وخاصة العشر الأواخر منه، وبالأخص ليلة القدر، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السحر من ساعات الليل، وبين الأذان والإقامة.
قال الله تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول عز وجل: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)).
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قيل له: يا رسول الله، أي الدعاء أسمع؟ قال: ((جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات)).
5- أن يغتنم الحالات الفاضلة: كالسجود، ودبر الصلوات، والصيام، وعند اللقاء، وعند نزول الغيث.
قال ابن القيم: "((دبر الصلاة)) يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا – يعني ابن تيمية – يرجح أن يكون قبل السلام، فراجعته فيه فقال: دبر كل شيء منه, كدبر الحيوان".
وقال الشيخ ابن عثيمين: "الدبر هو آخر كل شيء منه، أو هو ما بعد آخره".
ورجّح رحمه الله أن الدعاء دبر الصلوات المكتوبة يكون قبل السلام، وقال: "ما ورد من الدعاء مقيداً بدبر فهو قبل السلام، وما ورد من الذكر مقيداً بدبر فهو بعد الصلاة؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:103]".
6- أن يستغلَّ حالات الضرورة والانكسار، وساعات الضيق والشدة: كالسفر، والمرض، وكونه مظلوما.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده)).(/10)
قال ابن رجب: "والسفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء...ومتى طال السفر كان أقرب إلى إجابة الدعاء؛ لأنه مظنة حصول انكسار النفس بطول الغربة عن الأوطان وتحمل المشاق، والانكسار من أعظم أسباب إجابة الدعاء".
7- رفع اليدين وبسط الكفَّين، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: ((دعا النبي صلى الله عليه وسلم ثم رفع يديه، ورأيت بياض إبطيه))، وعن سلمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حي كريم، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين)).
ويشرع هذا الرفع في الدعاء المطلق، أما الأدعية الخاصة فإنه لا ترفع الأيدي إلا فيما رفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم منها، وما لم يثبت رفعه فيه فالسنة فيه عدم الرفع، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
8- إظهار الفقر والمسكنة، والاعتراف بالذلة والعبودية، والإقرار بالذنب والتقصير، وتقديم التوبة والاستغفار، قال الله تعالى عن دعاء يونس عليه السلام: {فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، وقال عن دعاء آدم وحواء عليهما السلام: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وقال عن موسى عليه السلام: {رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، وقال عن أيوب عليه السلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83].
وفي دعاء سيد الاستغفار: ((اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).
وفي الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يقوله في صلاته: ((اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)).
9- التضرُّع والخشوع، والرغبة والرهبة، قال الله تعالى في معرض الثناء على أنبيائه: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} [الأنبياء:90]، قال القرطبي: "أي يفزعون إلينا فيدعوننا في حال الرخاء وحال الشدة, وقيل: المعنى: يدعون وقت تعبدهم، وهم بحال رغبة ورجاء، ورهبة وخوف؛ لأن الرغبة والرهبة متلازمان".
وقال تعالى في وصف أهل الإيمان: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعا} [السجدة: 16]، قال ابن كثير: "أي خوفًا من وبال عقابه, وطمعًا في جزيل ثوابه".
10- الإعراب ومجانبة اللحن ما أمكن إلى ذلك.
11- افتتاحه بالحمد والثناء على الله عزَّ وجلَّ بما هو أهله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فعن فضالة بن عبيد قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد إذ دخل رجل فصلى فقال: اللهم اغفر لي وارحمني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجلت أيها المصلي، إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله، وصلَّ علي ثم ادعه)). ثم صلى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أيها المصلي ادع تُجب)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((كل دعاء محجوب حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم)).
قال السندي: "وفيه إشارة إلى أن حق السائل أن يتقرب إلى المسئول منه قبل طلب الحاجة بما يوجب الزلفى عنده، ويتوسل له بشفيع له بين يديه، ليكون أطمع في الإسعاف وأحق بالإجابة، فمن عرض السؤال قبل تقديم الوسيلة فقد استعجل".
12- التوسُّل إليه سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، قال تعالى: {وَللَّهِ الأسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].
13- التوسُّل إليه سبحانه بالأعمال الصالحة التي يحبها، قال الله تعالى عن دعاء عباده المتقين: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16]، وقال سبحانه: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ ءامِنُواْ بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران:193]، ومن ذلك توسل أصحاب الغار بأعمالهم الصالحة، فتوسل أحدهم ببره بوالديه، وتوسل الثاني بأمانته، وتوسل الثالث بعفته وإعراضه عن الزنا خوفا من الله بعد تمكنه منه.
14- الإلحاح عليه سبحانه فيه بتكرير ذكر ربوبيته، وهو أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء، فإن الإلحاح يدل على صدق الرغبة، والله تعالى يحب الملحين في الدعاء، ومن ذلك تكرير الدعاء، فعن ابن مسعود يصف دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((وكان إذا دَعا دعا ثلاثاً)).(/11)
15- الجزم في الدعاء والعزم في المسألة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)).
قال الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ: "بخلاف العبد؛ فإنه قد يعطي السائل مسألته لحاجته إليه، أو لخوفه أو رجائه، فيعطيه مسألته وهو كاره، فاللائق بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول حاجته على مشيئة المسؤول، مخافة أن يعطيه وهو كاره، بخلاف رب العالمين؛ فإنه تعالى لا يليق به ذلك لكمال غناه عن جميع خلقه، وكمال جوده وكرمه، وكلهم فقير إليه، محتاج لا يستغني عن ربه طرفة عين، وعطاؤه كلام...فاللائق بمن سأل الله أن يعزم المسألة، فإنه لا يعطي عبده شيئاً عن كراهة، ولا عن عظم مسألة".
16- الإكثار من دعاء الله تعالى في الرخاء، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة...))، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكُرب فليكثر من الدعاء في الرخاء)).
قال المباركفوري: "لأن من شيمة المؤمن أن يُريِّش السهم قبل أن يرمي، ويلتجئ إلى الله قبل الاضطرار".
وقال سلمان الفارسي: إذا كان الرجل دعَّاء في السراء، فنزلت به ضراء، فدعا الله تعالى، قالت الملائكة: صوت معروف، فشفعوا له، وإذا كان ليس بدعَّاء في السراء، فنزلت به ضراء، فدعا الله تعالى، قالت الملائكة: صوت ليس بمعروف، فلا يشفعون له.
وقال الضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس عليه الصلاة والسلام كان يذكر الله تعالى، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ * لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143، 144]، وإن فرعون كان طاغياً ناسياً لذكر الله، فلما أدركه الغرق، قال: آمنت، فقال الله تعالى: {ءالئَانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91].
17- أن يبدأ الداعي بنفسه، ثم يدعو لإخوانه المسلمين، وأن يخص الوالدين، وأهل الفضل من العلماء والصالحين، ومن في صلاحه صلاح المسلمين، فعن أبي بن كعب رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه)).
وأرشد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، وقال تعالى عن دعاء نوح عليه السلام: {رَّبّ اغْفِرْ لِى وَلِوالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28]، وأثنى الله تعالى على قوم كان من دعائهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ} [الحشر:10].
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة)).
18- إخفاؤه والإسرار به، فذلك أعظم إيمانا، وأفضل أدبا وتعظيما، وأبلغ في التضرع والخشوع، وأشد إخلاصا، وأبلغ في جمعية القلب على الله في الدعاء، وأدل على قرب صاحبه من الله، وأدعى إلى دوام الطلب والسؤال، وأبعد عن القواطع والمشوشات والمضعفات، وأسلم من أذى الحاسدين.
قال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله يقول: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، وإن الله ذكر عبدا صالحا ورضي بفعله فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً} [مريم:3].
19- التواضع والتبذل في اللباس والهيئة، بالشعث والاغبرار، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)).
ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم للاستسقاء خرج متبذلاً متواضعاً متضرعاً.
20- التأمين بعده، فهو كالخاتم له.
21- ملازمة الطلب، وعدم اليأس من الإجابة.
مقدمة كتاب الدعاء للطبراني.
انظر: شرح الأذكار لابن علان (1/17).
إحياء علوم الدين (1/554).
مجموع الفتاوى (1/336) - القاعدة الجليلة -.
أخرجه البخاري (4323)، ومسلم (2498).
أخرجه البخاري في المغازي (3960).
أخرجه البخاري (6343)، ومسلم (894).
أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758).
أخرجه الترمذي في الدعوات (3499)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (108)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2782).
زاد المعاد (1/305).
من إملاءات الشيخ في درس زاد المعاد نقلاً عن كتاب الدعاء للشيخ الحَمد.(/12)
أخرجه أبو داود (1536)، والترمذي (1905)، وابن ماجه (3862) واللفظ له، وأحمد (2/258)، وصححه ابن حبان (2699)، وله شاهد من حديث عقبة بن عامر عند أحمد (4/154)، وروي مثله عن ابن مسعود رضي الله عنه من قوله.
جامع العلوم والحكم (1/269).
أخرجه البخاري في المغازي (4323)، ومسلم في فضائل الصحابة (2498).
رواه أبو داود في الصلاة (1488)، والترمذي في الدعوات ( 3556)، وابن ماجه في الدعاء (3865)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1757).
أخرجه البخاري (6306)، والترمذي (3393) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
أخرجه البخاري (834) من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
الجامع لأحكام القرآن (11/336).
تفيسر ابن كثير (6/365).
رواه الترمذي في الدعوات (3476)، وأبو داود في الصلاة (1481)، والنسائي في السهو (1284)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3988).
أخرجه الطبراني في الأوسط كما في المجمع (10/160) من حديث علي، وأخرجه الديلمي في الفردوس (4791) من حديث أنس، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4523)، وأخرجه الترمذي في الصلاة (486) موقوفاً عن عمر.
حاشية على سنن النسائي (4/44-45).
أخرجه البخاري (3465)، ومسلم (2743) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
أخرجه مسلم في الجهاد والهجرة (1794).
رواه البخاري في الدعوات: باب ليعزم المسألة (6339)، ومسلم في الذكر والدعاء: باب العزم بالدعاء (2679) واللفظ له.
فتح المجيد (ص 471) بتصرف يسير.
أخرجه أحمد (1/293)، والترمذي (2516)، وأبو يعلى (2556)، وقال الترمذي: "حسن صحيح".
أخرجه الترمذي في الدعوات (3382)، والطبراني في الدعاء (44، 45)، وصححه الحاكم (1/544)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6290).
تحفة الأحوذي (9/229).
جامع العلوم والحكم (1/475).
جامع العلوم والحكم (1/475).
رواه الترمذي في الدعوات (3385)، وأبو داود في القراءات (3984)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4723).
قال في مجمع الزوائد (10/210): "رواه الطبراني وإسناده جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6026).
انظر: بدائع الفوائد (3/6-9).
أخرجه مسلم (2622)، وابن حبان (6483).
ثامناً: أخطاء في الدعاء وما يكره فيه:
1- الدعاء على الأهل والمال والنفس، فعن جابر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)).
قال في عون المعبود: "((لا تدعوا)) أي دعاء سوء ((على أنفسكم)) أي بالهلاك، ومثله ((ولا تدعوا على أولادكم)) أي بالعمى ونحوه، ((ولا تدعوا على أموالكم)) أي من العبيد والإماء بالموت وغيره، ((لا توافقوا)) نهي للداعي، وعلة النهي أي لا تدعوا على من ذكر لئلا توافقوا ((من الله ساعة نيل)) أي عطاء ((فيها عطاء فيستجيب لكم)) أي لئلا تصادفوا ساعة إجابة ونيل فتستجاب دعوتكم السوء".
2- رفع الصوت بالدعاء، قال ابن مفلح: "يكره رفع الصوت بالدعاء مطلقا، قال المروزي سمعت أبا عبد الله يقول: ينبغي أن يسرَّ دعاءه لقوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110]، قال: هذا الدعاء".
3- الدعاء الجماعي، قال مُهنَّا: سألت أبا عبد الله عن الرجل يجلس إلى القوم، فيدعو هذا ويدعو هذا، ويقولون له: ادع أنت، فقال: لا أدري ما هذا؟.
4- تكلّف السجع فيه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعلون إلا ذلك. يعني لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب.
قال الغزالي: "واعلم أنَّ المراد بالسجع هو المتكلف من الكلام، فإن ذلك لا يلائم الضراعة والذلة، وإلا ففي الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات متوازنة لكنها غير متكلفة... فليقتصر على المأثور من الدعوات، أو ليلتمس بلسان التضرع والخشوع من غير سجع وتكلف".
5- اشتماله على توسلات شركية أو بدعية، كالتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو بذاته الشريفة، أو بغيره من الأنبياء والملائكة والصالحين.
6- الاعتداء فيه، كالدعاء بتعجيل العقوبة، أو الدعاء بالممتنع عادة أو عقلاً أو شرعًا، أو الدعاء في أمر قد فرغ منه، أو الدعاء بالإثم وقطيعة الرحم.
7- الاستثناء فيه، أي تعليق الدعاء بمشيئة الله تعالى، مثل أن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، لما في ذلك من شائبة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه، ولما في ذلك أيضا من الإشعار بأنَّ لله مكرها له، تعالى الله عن ذلك.
رواه مسلم (3009) في الزهد، وأبو داود (1532).
عون المعبود (2/274-275).
الآداب الشرعية (2/272).
انظر: الآداب الشرعية (2/102).
أخرجه البخاري (6337).
إحياء علوم الدين (1/555).
تاسعاً: من أقوال السلف في الدعاء:(/13)
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن همّ الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه.
وعنه رضي الله عنه قال: بالورع عما حرم الله يقبل الله الدعاء والتسبيح.
وعن عبد الله بن مسعود قال: إن الله لا يقبل إلا الناخلة من الدعاء، إن الله تعالى لا يقبل من مسمِّع، ولا مراء، ولا لاعب، ولا لاه، إلا من دعا ثبتَ القلب.
وعن أبي الدرداء قال: ادع الله في يوم سرائك، لعله يستجيب لك في يوم ضرائك.
وعن الحسن أن أبا الدرداء كان يقول: جِدوا بالدعاء، فإنه من يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له.
وعن حذيفة قال: ليأتينَّ على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا بدعاء كدعاء الغريِق.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دعوة المسلم مستجابة ما لم يدع بظلم أو قطيعة رحم أو يقول: قد دعوت فلم أجب.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: يكفي من الدعاء مع البر، كما يكفي الطعام من الملح.
وعن محمد بن واسع قال: يكفي من الدعاء مع الورع اليسير، كما يكفي القدر من الملح.
وعن طاووس قال: يكفي الصدق من الدعاء، كما يكفي الطعام من الملح.
وعن عبد الله بن أبي صالح قال: دخل علي طاووس يعودني فقلت له: ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن، فقال: ادع لنفسك، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
وعن أبي بكر الشبلي في قوله تعالى: {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] قال: ادعوني بلا غفلة، أستجب لكم بلا مهلة.
وكان يحيى بن معاذ الرازي يقول: إلهي أسألك تذللا، فأعطني تفضلا.
ويقول: كيف أمتنع بالذنب من الدعاء، ولا أراك تمتنع بالذنب من العطاء.
ويقول: لا تستبطئن الإجابة إذا دعوت، وقد سددت طرقها بالذنوب.
وعن غالب القطان، أن بكر بن عبد الله المزني عاد مريضا، فقال المريض لبكر: ادع الله عز وجل لي، فقال: ادع لنفسك، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
عن الحسن في قوله عز وجل: {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، قال: اعملوا وأبشروا، فإنه حق على الله عز وجل أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.
وعنه قال: كانوا يجتهدون في الدعاء ولا تسمع إلا همسا.
وعن حبيب أبي محمد قال: الترياق المجرب الدعاء.
وعن داود بن شابور قال: قال رجل لطاووس: ادع لنا، فقال: ما أجد لقلبي خشية فأدعو لك.
وعن سعيد بن المسيب قال: إن الرجل ليُرفع بدعاء ولده من بعده.
وعن إبراهيم التيمي قال: كان يقال: إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء فقد وجب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على رجاء.
وعن النخعي قال: كان يقال: إذا دعوت فابدأ بنفسك، فإنك لا تدري في أي دعاء يستجاب لك.
وعن وهب بن منبه قال: مثل الذي يدعو بغير عمل، مثل الذي يرمي بغير وتر.
وعنه قال: من سره أن يستجيب الله دعوته فليطب طعمته.
وعن محمد بن حامد قال: قلت لأبي بكر الوراق: علمني شيئا يقربني إلى الله تعالى ويقربني من الناس، فقال: أما الذي يقربك إلى الله فمسألته، وأما الذي يقربك من الناس فترك مسألتهم.
وعن الأوزاعي قال: أفضل الدعاء الإلحاح على الله عز وجل والتضرع إليه.
وعن مُورِّقٍ العجلي قال: ما وجدت للمؤمن مثلا إلا كمثل رجل في البحر على خشبة، فهو يدعو: يا رب، يا رب، لعل الله عز وجل أن ينجيه.
وعن هلال بن يساف قال: بلغني أن العبد المسلم إذا دعا ربه فلم يستجب له كتبت له حسنة.
وعن السري السقطي قال: كن مثل الصبي، إذا اشتهى على أبويه شهوة فلم يمكناه، فقعد يبكي عليها، فكن أنت مثله، فإذا سألت ربك فلم يعطكه، فاقعد فابك عليه.
وعن ابن عيينة قال: لا تتركوا الدعاء، ولا يمنعكم منه ما تعلمون من أنفسكم، فقد استجاب الله لإبليس وهو شر الخلق، قال: {قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ N قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} [الحجر:36، 37].
وقال بعض العباد: إنه لتكون لي حاجة إلى الله، فأسأله إياها، فيفتح علي من مناجاته ومعرفته والتذلل له والتملق بين يديه، ما أحب معه أن يؤخر عني قضاءها، وتدوم لي تلك الحال.
وقال بعض العارفين: ادع بلسان الذلة والافتقار، لا بلسان الفصاحة والانطلاق.
ذكره في اقتضاء الصراط المستقيم (2/706).
جامع العلوم والحكم (1/276).
شعب الإيمان (2/50-51).
أخرجه أحمد في الزهد (ص135)، وأبو نعيم في الحلية (1/225)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/52).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/24)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/52).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/24)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/40).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/133).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/40).
شعب الإيمان (2/53-54).
شعب الإيمان (2/54).
صفة الصفوة لابن الجوزي (2/289).
شعب الإيمان (2/54).
شعب الإيمان (2/54).
أخرجه الطبراني في الدعاء (1137).
أخرجه الطبري في تفسيره (2/94)، والطبراني في الدعاء (9).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/109).
مجابو الدعوة لابن أبي الدنيا (ص121).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/142).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/119).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/24).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/33).(/14)
أخرجه ابن أبي شيبة (7/39)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/53).
جامع العلوم والحكم (1/275).
طبقات الصوفية للسلمي (ص224)، شعب الإيمان (2/35).
شعب الإيمان (2/38).
الطبقات الكبرى لابن سعد (7/161)، شعب الإيمان (2/39).
شعب الإيمان (2/49).
شعب الإيمان (2/53).
شعب الإيمان (2/53).
مدارج السالكين (2/229).
الإحياء (1/554).
عاشراً: ملحقات البحث:
أبيات شعرية مناسبة:
نحن ندعو الإلهَ في كلِّ كربٍ ثم ننساه عندَ كشفِ الكروبِ
******
كيف نرجو إجابةً لدعاءٍ قد سدَدنا طريقَها بالذنوب
******
وإني لأدعو اللهَ والأمرُ ضيِّق عليَّ فما ينفكُّ أن ينفرجا
ورُبَّ فتىً ضاقت عليه وجوهُه أصابَ له في دعوة الله مخرجاً
******
وقال الشافعي:
أتهزأ بالدعاءِ وتزدَريهِ وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهامُ الليلِ لا تخطي ولكن لها أمدٌ وللأمدِ انقضاءُ
******
تجري الأمورُ على حكمِ القضاء وفي طيِّ الحوادثِ محبوبٌ ومكروه
رُبما سرَّني ما كنتُ أحذرُه وربما ساءني ما كنت أرجُوه
******
لا تسألن بُنيَّ آدم حاجةً وسلِ الذي أبوابُه لا تحجَب
اللهُ يغضبُ إن تركتَ سؤالَه وبُنَيُّ آدمَ حين يُسأل يغضَب
******
وقال الشافعي:
ورُبَّ ظلومٍ قد كُفيتَ بحربه فأوقعه المقدور أيَّ وقوعِ
فما كان لي الإسلام إلا تعبّدا وأدعية لا تتَّقَى بدروعِ
وحسبُك أن ينجوَ الظلومُ وخلفَه سهامُ دعاءٍ من قسيِّ ركوعِ
مُريَّشةً بالهدب من كل ساهرٍ منهلةً أطرافها بدموع
******
أحاديث ضعيفة وموضوعة في الدعاء:
1- ((إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور)).
قال ابن تيمية: "فهذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة".
وقال الشيخ ابن باز: "وهذا الكلام دعوة إلى الشرك بالله عز وجل، فإن الاستعانة بأصحاب القبور والاستغاثة بهم من أعظم أنواع الشرك بإجماع أهل العلم والإيمان".
2- ((إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي؛ فإن جاهي عند الله عظيم)).
قال ابن تيمية: "وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث".
وقال الألباني: "لا أصل له".
وقال: "الأحاديث الواردة في التوسل به صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين: صحيح، وضعيف. أما الصحيح، فلا دليل فيه ألبتة على المدعى، مثل توسلهم به صلى الله عليه وسلم لا بجاهه ولا بذاته صلى الله عليه وسلم، ولما كان التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى غير ممكن، كان بالتالي التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد وفاته غير ممكن وغير جائز".
3- ((حسبي من سؤالي علمه بحالي)).
قال الألباني: "لا أصل له، وأورده بعضهم من قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو من الإسرائيليات، ولا أصل له في المرفوع".
وقال ابن تيمية: "وأما قوله: ((حسبي من سؤالي علمه بحالي)) فكلام باطل خلاف ما ذكره الله عن إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء من دعائهم لله، ومسألتهم إياه، وهو خلاف ما أمر الله به عباده من سؤالهم له صلاح الدنيا والآخرة".
4- ((لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لي...)) الحديث.
رواه الحاكم في المستدرك (2/615) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر، وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: "بل موضوع".
وقال ابن تيمية: "ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه، فإنه قد قال في كتاب المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة، لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه".
وقال الألباني: "وجملة القول أن الحديث لا أصل له عنه صلى الله عليه وسلم، فلا جرم أن حكم عليه بالبطلان الحافظان الجليلان الذهبي والعسقلاني".
5- ((الدعاء مخ العبادة)).
رواه الترمذي من حديث أنس (3371) وضعفه، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي (3611)، ويغني عنه حديث: ((الدعاء هو العبادة))، وهو صحيح.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
عيون الأخبار (2/278).
ديوان الشافعي (ص23).
شعب الإيمان (2/35).
ديوان الشافعي (ص81).
القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة (ص 174).
القاعدة الجليلة (ص 174).
السلسلة الضعيفة (22).
السلسلة الضعيفة (1/74).
مجموع الفتاوى (8/539).
القاعدة الجليلة (ص98، 99).
الضعيفة (1/40).(/15)
الدعاء
الدعاء طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، ومفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، به تُستجلب النعم، وبمثله تُستدفع النقم. ما أشد حاجة العباد إليه، وما أعظم ضرورتهم إليه، لا يستغني عنه المسلم بحال من الأحوال.
فلا تستهن بشأنه العظيم وخيره العميم، وما أحسن قول الشافعي:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه *** وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهام الليل لا تخطي ولكن *** له أمدٌ وللأمد انقضاء
والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه.
وهو سلاح المظلومين ومفزع الضعفاء المكسورين إذا انقطعت بهم الأسباب، وأغلقت في وجوههم الأبواب، فتوجه به إلى العزيز الوهاب وحده:
لا تسألن بني آدم حاجة *** وسلِ الذي أبوابُه لا تحجبُ
الله يغضب إن تركت سؤاله *** وبني آدم حين يسأل يغضبُ
* للدعاء فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، ويكفي أنه نوع من أنواع العبادة، بل هو العبادة كلها كما أخبر النبي بقوله: { الدعاء هو العبادة } [رواه الترمذي وصححه الألباني]. وترك الدعاء استكبار عن عبادة الله كما قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60].
وهو دليل على التوكل على الله، وذلك لأن الداعي حال دعائه مستعين بالله، مفوض أمره إليه وحده دون سواه. كما أنه طاعة لله عز وجل واستجابة لأمره، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]. وهو سلاح المسلم في جلب الخير ودفع الضر، قال: {من فُتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سُئل الله شيئاً يُعطى أحب إليه من أن يُسأل العافية، إن الدعاء ينفع مما نزل وما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء } [رواه الترمذي وحسنه الألباني].
* وهو سلاح استخدمه الأنبياء في أصعب المواقف، فها هو النبي في غزوة بدر عندما بات عليه الصلاة والسلام ليلة بدر يصلي إلى جذع شجرة، ويكثر في سجوده أن يقول:"يا حيُّ يا قيوم" يكرر ذلك ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويسأل الله النصر، وحين رأى جند قريش قال:" اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم أحنهم الغداة". وقد روى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: لمَّا كان يوم بدر نظر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين، فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القبلة، وعليه رداؤه وإزاره، ثمَّ قال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً" قال عمر بن الخطاب: فما زال يستغيث ربَّه ويدعوه، حتَّى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردَّاه، ثمَّ التزمه من ورائه ثمَّ قال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنَّه منجز لك ما وعدك" رواه مسلم (1763)، وأصله في البخاري
وها هو نبي الله أيوب عليه السلام يستخدم سلاح الدعاء بعدما نزل به أنواع البلاء، وانقطع عنه الناس، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، وهو في ذلك كله صابر محتسب، فلما طال به البلاء دعا ربه قائلاً: وَأيُوبَ إذ نَادى رَبَهُ أنّي مَسَنِىَ الضُرُ وَأنتَ أرحَمُ الرّاحِمِينَ (83) فَاستَجَبنَا لَهُ فَكَشَفنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ [الأنبياء:84،83].
والدعاء سبب لتفريج الهموم وزوال الغموم، وإنشراح الصدور، وتيسير الأمور، وفيه يناجي العبدُ ربّه، ويعترف بعجزه وضعفه، إلى خالقه ومولاه، وهو سبب لدفع غضب الله تعالى لقول النبي: {من لم يسأل الله يغضب عليه} [رواه أحمد والترمذي وحسنه الألباني].
من أسباب النصر العظمى الدعاء، والذي يعقبه الكفاح والعمل والبناء،أمَّا أن يدعو الإنسان ربه وليس لديه برامج عملية لنصرة هذا الدين، فإنَّ هذا كطالب مخفق أخرق في دراسته، ثمَّ يسأل الله النجاح ولم يعد لذلك النجاح، فهل ينال حينئذٍ النجاح...هيهات! فليعلم أنَّ هذا الدين يحتاج لرجال أكفاء يقومون بنصرته في جميع ميادين النصر، وصدق من قال:
إسلامنا لا يستقيم عموده *** بدعاء شيخ في زوايا المسجد
إسلامنا نور يضيء طريقنا *** إسلامنا نار على من يقتدي
فليس النصر بالدعاء، وليس هو القوة المادية فحسب، وليس كذلك بالكثرة العددية، إنَّ النصر مجتمع في ذلك كلِّه لا ينفصل جزء من شمول، ولا ينبتر بعض من كل.
ولهذا فإن الله _سبحانه_ وصف حال رسوله العظيم وصحابته الكرام في غزوة بدر بأنهم كثيري الاستغاثة به، ومكثري رجائه ودعاءه فقال:"إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين"(الأنفال: 9) فأين نحن من الاقتداء برسول الله وصحابته بالدعاء للمجاهدين بالنصر، وخذلان عدوهم!(/1)
وعلينا عند نشوب الحرب، واضطرام القتال، أن نرفع أكف الضراعة والاستغاثة بالله، فلعله ـ سبحانه ـ يستجيب لنا فيقهر عدونا، ويمدنا بمددٍ من عنده كما أمد رسول الله وصحابته بجند من عنده من الملائكة المرسلين حين دعوه في غزوة بدر، فانخلعت قلوب الكافرين، وفروا خاسرين، وتم بفضله ـ تعالى ـ النصر المبين.
وقد بوَّب الإمام الترمذي في جامعه(باب في الدعاء إذا غزا) وأورد تحته ما رواه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ إذا غزا قال:اللهم أنت عضدي وأنت نصيري وبك أقاتل" حسَّنه الألباني في صحيح الترمذي برقم(2836).
فلا بد من اللجوء إلى محراب العبودية، والانكسار بين يدي ربِّ البرية، والتضرع والبكاء، والرجاء والدعاء لرب الأرباب، ومسبب الأسباب، بأن يكف الله شرَّ الكافرين، وأن ينصر عباده المجاهدين، وأن يخذل المنافقين وعملاء الصليبيين.
تلك والله سمة المؤمن، وشيمة الموحد، وهو أكبر دليل على صدق ما في قلبه من الحب لإخوانه المؤمنين وحمل همِّهم، وخاصَّة أنَّ الدعاء يستجاب وقت اشتداد المعركة بين المؤمنين والكافرين، فقد قال النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ:" ثنتان لا تردان أو قلَّما تردَّان:الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يُلْحِمُ بعضهم بعضاً" أي: حين تشتبك الحرب بينهم، أخرجه أبو داود، وقال الألباني في (الكلم الطيب): حسن صحيح(صـ76).
* ولقد عاب الله أقواماً نزلت بهم المصائب والبأساء، فأعرضوا عن ربهم،ولم يدعوه لكشف ضرهم، فلم يرفع عنهم تلك النازلة، قال _تعالى_: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (الأنعام:42، 43) وقال في آية أخرى: "وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ" (المؤمنون:76) فصار المصير إلى أن نعلم علم اليقين، أنَّ من أوجب الواجبات في زمن الكوارث والملمات، رفع اليدين بالدعاء لله رب العالمين، فلعل ذلك الدعاء من أكف بيضاء نقية، وقلوب صادقة وفيَّة، وأعين باكية تقيَّة تخفف من تلك المآسي التي أقلقت المسلمين وأقضَّت مضاجعهم، وقد علَّمنا رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ أنَّه"لا يردَّ القضاء إلاّ الدعاء" أخرجه الترمذي(139)، وقال: حسن غريب، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع برقم(7687)، وأخبرنا بأنَّه"لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما قد نزل ومما لم ينزل، وإنَّ البلاء ينزل فيتلقاه الدعاء، فيتعالجان إلى يوم القيامة" حسَّنه الألباني في صحيح الترمذي(2813) ولهذا كان الدعاء من أسباب النصر على الأعداء، وخاصَّة إذا كان ذلك من عباد الله الضعفاء، وقد دلَّ على ذلك حديث رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ "إنما ينصر الله هذه الأمَّة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم) صححه الألباني في صحيح النسائي(2978).
فأين نحن يا أخا الإسلام عن ذلك السلاح العظيم والمنجي لنا من بطش الأعداء؟! وأين الإلحاح على الله بأن يكشف الضر عن المسلمين؟! وأين الانطراح بين يديه؟! وأين الانكباب عليه؟! وأين التوجه إليه؟!
وصدق من قال:
وإنِّي لأدعو الله والأمر ضيِّق *** عليَّ فما ينفك أن يتفرجا
وربَّ فتى ضاقت عليه همومه *** أصاب له في دعوة الله مخرجا
قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "الغازي في سبيل الله، والحاج والمعتمر؛ وفد الله دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم "أخرجه ابن ماجة برقم (2893) في كتاب المناسك، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم(4171).
1- فهاهو طالوت وجنده قبل بداية المعركة يقول _تعالى_ عنهم: "ولمَّا برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين" (البقرة: 250) وبعد هذا الدعاء، كان الجواب من الله: "فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت" وكان النصر حليفهم حين دعوا الله وتوكلوا عليه.(/2)
2- وهاهو الغلام المؤمن صاحب الملك الكافر حين اكتشف أمره، وعلم أنه موحد،أراد أن يفتنه عن دينه، ويخيفه بجنده ولكن هيهات فإنَّ مع الغلام سلاحاً لا ينفد، وكنزاً لن يفقد؛ إنَّه الدعاء فحين أراد جنود هذا الطاغية،أن يلقوه من فوق الجبل إلى هاويته، نطق الغلام بكل مسكنة وافتقار للملك القهار"اللهم اكفنيهم بما شئت"، فسقط الجنود من فوق الجبل وكانوا في الهاوية، بل في القاع، ويمضي ذلك الغلام شامخاً ًبإيمانه إلى الملك الكافر، ليعلمه دروساً في التوحيد من التوكل على الله، والاستعانة به، وعدم الخوف إلا منه إلى غير ذلك، لكن الطغاة متكبرون، ولا يسمعون داعي الإيمان‘ فما كان من ذلك الملك إلاّ أن أمر جنده بأن يذهبوا بذلك الغلام في إحدى السفن فإذا توسطت السفينة في البحر، ألقى الجنود ذلك الغلام ليتخلصوا منه، وحين أرادوا أن يفعلوا ذلك بعد أن توسطت بهم السفينة في البحر، إلاّ ويطلق الغلام سلاحه على أعدائه"اللهم اكفنيهم بما شئت"، واستجاب الله الدعاء، وقلب السفينة بمن فيها من جند الطاغوت ونجا ذلك الغلام المؤمن من مكر الكافرين، والقصَّة معروفة، ومن أراد المزيد فليقرأ تفاسير العلماء لسورة البروج.
3- وهذا المثنَّى بن حارثة الشيباني في وقعة البويب في السنة الثالثة عشرة من الهجرة يدعون له المسلمون، والجند المقاتلون، بأن ينصره الله على أعدائه، ويكفيه شرهم، وكان النصر له في آخر المطاف.
4- وتأمل قصة النعمان بن مقرن في سنة إحدى وعشرين، فبعد أن تحصن الفرس بخنادقهم، وطال حصار المسلمين لهم،استشار النعمان قادته، فأشاروا عليه باستدراج الفرس والتظاهر بالهروب حتَّى إذا ابتعد الجند عن حصونهم وخنادقهم نشبت المعركة، ووافق النعمان على الخطة، وقال لهم: إني مكبر ثلاثاً فإذا كان الثالثة فابدؤوا بالقتال، وهنا لم ينس النعمان الاتصال الروحي مع الله، فقد ذهب النعمان إلى أحد الأمكنة ودعا الله قائلاً: "اللهم اعزز دينك، وانصر عبادك، اللهم إني أسألك أن تقر عيني بفتح يكون فيه عز الإسلام، واقبضني شهيداً"، وبكى الناس مع النعمان وابتهلوا إلى الله وتضرعوا، واستجاب الله دعاءهم فنصرهم على عدوهم نصراً عظيماً، واستجاب الله دعاء النعمان بن مقرن، فكان أول قتيل من المسلمين على أرض المعركة، رضي الله عنه، ورضي عن جميع صحابة رسول الله، الذي رباهم بروضته الشريفة، وبمسيرته المباركة فكان نتاجه عظيماً، وتربيته قديرة، فصلى الله على محمد صلاة دائمة تتعاقب بتعاقب الليل والنهار:
خلَّفت جيلاً من الأصحاب سيرتهم *** تصوغ بين الورى روحاً وريحاناً
كانت فتوحاتهم براً ومرحمة *** كانت سياستهم عدلاً وإحساناً
لم يعرفوا الدين أوراداً ومسبحة *** بل أشبعوا الدين محراباً وميداناً
5- واقرأ ما فعله حبيب بن مسلمة ـ رضي الله عنه ـ حين أمِّر على جيش،فلمَّا أتى العدو قال: سمعت رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يقول: "لا يجتمع قوم فيدعو بعضهم ويؤمِّن بعضهم إلا أجابهم الله _تعالى_" ثمَّ إنَّه حمد الله وأثنى عليه، وقال:"اللهم احقن دماءنا، واجعل أجورنا أجور الشهداء" فبينما هم كذلك إذ نزل أمير العدو، فدخل على حبيب بن مسلمة سُرَادقَه، وسلَّم إليه بدون حرب" أخرجه البيهقي والطبراني
6- وأنعم النظر في قصَّة قتيبة بن مسلم مع محمد بن واسع، فقد ذكر ابن الجوزي في (صفة الصفوة 2/136) أنَّه كان مع قتيبة بن مسلم في معركته الإمام محمد بن واسع، وقد كان قتيبة بن مسلم صاحب خراسان وكانت الترك قد خرجت إليهم فبعث قتيبة إلى المسجد لينظر من فيه، فقيل له: ليس فيه إلا محمد بن واسع رافعاً إصبعه، فقال قتيبة: إصبعه تلك أحبُّ إلي من ثلاثين ألف شاب طرير". وفي (سير أعلام النبلاء 6/121) قال قتيبة بن مسلم: تلك الإصبع أحب إلي من مئة ألف سيف شهير وشاب طرير" فتأمل دعاء الإمام محمد بن واسع وقت المعركة، وحب القائد قتيبة بن مسلم لدعائه ذاك، بل تفضيله لدعائه على وجود ألف شاب مقاتل!
إليك وإلاّ لا تشد الركائب *** ومنك وإلا فالمؤمل غائب
وفيك وإلا فالرجاء مضيع *** وعنك وإلا فالمحدث كاذب
7- ومما يدلًّ على أنَّ النصر يستنزل بالدعاء ما قاله أسد بن عبدالله القسري أمير خراسان في قتاله للفرس:"إنَّه بلغني أنَّ العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا وضع جبهته لله، وإنِّي نازل وواضع جبهتي، فادعوا الله، واسجدوا لربكم، وأخلصوا له الدعاء، ففعلوا، ثمَّ رفعوا رؤوسهم، وهم لا يشكُّون في الفتح" (تاريخ الطبري 7/119).
8- وهكذا كان عقبة بن نافع فقد كان مستجاب الدعوة، وكان يتوجه إلى الله بالدعاء عند الشروع في معاركه، ويصادم العدو في شجاعة مذهلة، كما ذكره عنه أهل السير، ثمَّ يكتب الله له النصر المبين(أبطال ومواقف/صـ187).(/3)
9- وهكذا يمضي جنود الإسلام، وتسير قوافل المجاهدين إلى الله رب العالمين، فهذا الإمام الفقيه أبو نصر محمد بن عبدالملك الحنفي يقول لألب أرسلان في موقعة(ملاذكرد) بعد أن رأى كثرة جيش الروم والتي قُدِّرت بمئتي ألف مقاتل: إنَّك تقاتل عن دين الله وقد وعد الله بنصره، وأرجو أن يكون الله قد كتبه لك بجيشك القليل شرف النصر، فسر إلى العدو الكافر يوم الجمعة، بعد الزوال، والأئمة على منازلهم يدعون لجيشك بالنصر والله غالب على أمره، وتمَّ ذلك عند ظهيرة يوم الجمعة من صيف أربعمئة وثلاث وستين للهجرة، فقد صلَّى وبكى فبكى الناس لبكائه، ودعا الله فدعا الناس بدعائه، وعفَّر وجهه بالتراب ثمَّ ركب وقال للناس: ليس عليكم الآن أمير وكلكم أمير نفسه، من شاء أن ينصرف فليعد إلى أهله، ولبس البياض وتحنَّط، وحمل بجيشه حملة صادقة، فوقعوا في وسط العدو يقتلون ما يشاؤون، وثبت العسكر، ونزل النصر،وولت الروم، واستحر بهم القتل،وقتل طاغيتهم أرمانوس،بعد أن أسره مملوك وسار به ذليلاً ليقتل رغم أنفه". البداية والنهاية(12/91)
10- وانظر في حال نور الدين محمود في فتح حارم سنة559هـ وقد انفرد تحت تل حينما التقى الجمعان وسجد لربه ـ عزَّ وجل ـ ومرَّغ وجهه وتضرع، وقال: "هؤلاء يا رب عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعدائك، فانصر أوليائك على أعدائك"(ما فضول محمود في الوسط) ـ يشير إلى أنَّك يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود يعني نفسه إن كان غير متحقق النصر) ثمَّ بعد ذلك فتح الله على يديه فتحاً عظيماً ).
11- جمع البطل العظيم صلاح الدين محرر القدس الجموع، ونظَّم الجيوش ثمَّ عقد مجلس التشاور في منازلة العدو، وتوقيت المعركة فاتفقوا على الخروج في 17/ ربيع الآخر عام 583هـ بعد صلاة الجمعة، وبين تكبير المسلمين وابتهالهم وتضرعهم بالدعاء".
ويقول القاضي ابن شدَّاد: " وكان صلاح الدين إذا سمع أنَّ العدو قد داهم المسلمين خرَّ إلى الأرض ساجداً لله، داعياً بهذا الدعاء: اللهم قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك،ولم يبق إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك،والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل" ويقول: " ورأيته ساجداً ودموعه تتقاطر على شيبته ثمَّ على سجَّادته، ولا أسمع ما يقول، ولم ينقض ذلك اليوم إلاّ ويأتيه أخبار النصر على الأعداء، وكان أبداً يقصد بوقفاته الجمع، سيما أوقات صلاة الجمعة تبركاً بدعاء الخطباء على المنابر، فربما كانت أقرب إلى الاستجابة" (سيرة صلاح الدين الأيوبي للقاضي ابن شدَّاد _رحمهما الله_ صـ8 وما بعده).
12- وانظر ماذا كان يفعل المظفر قطز في معركة عين جالوت سنة(658)هـ وهو يحمِّس المجاهدين ويصيح واإسلاماه، واإسلاماه، ويسجد ويعفِّر وجهه في التراب ويقول: يا الله انصر عبدك قطز. وقال ابن كثير في البداية والنهاية(13/188) عن قطز: " ولمَّا رأى عصائب التتار، قال للأمراء والجيوش: لا تقاتلوهم حتَّى تزول الشمس وتفيء الظلال وتهب الرياح، ويدعو لنا الخطباء في صلاتهم". واستجاب الله دعاءه وهزم المغول ووقعوا بين يديه ما بين قتيل وجريح وأسير، بل وقع بين يديه قائد المغول فقتله تنكيلاً به، وجزاء إجرامه في قتل المسلمين.
13- أمَّا محمد الفاتح فقد دخل المسجد في صباح يوم التاسع والعشرين من مايو عام 1453م فوجد شيخه ومعلمه ومربيه آق شمس الدين منطرحاً بين يدي ربه مستغرقاً بالدعاء فاستبشر خيراً بالنصر، وحين كان المجاهدون يهيئون للمعركة عدتها كان هتافهم: ياالله، يالله، ولمَّا فتحت القسطنطينية رآه الناس وهو يمرِّغ وجهه في التراب تواضعاً لله والمؤمنون يهنئونه بالنصر وهو لا يزيد على أن يقول النصر من عند الله، النصر من عند الله. (أبطال ومواقف/ صـ450ـ451) هكذا يا ـ أخا العقيدة ـ عرف هؤلاء البواسل دربهم، فساروا إلى ساح الجهاد، وفتحوا الفتوحات، وغيروا مجرى التأريخ لصالح أمة الإسلام الخالدة، وأكثروا الدعاء لربهم، والاستغاثة بمعبودهم، حتى خطَّ الله لهم طريق النصر المبين، والعز والتمكين.
* فيا من قلتم: إننا دعونا الله ولم يستجب لنا، هل ابتعدتم عن جميع الموبقات والفواحش والظلم وموانع إجابة الدعاء؟ وهل دعوتم الله بقلب صادق، وضمير حيٍّ حاضر؟
إن من أهم ما يجب عليكم معرفته أنَّ الله لا يستجيب الدعاء من قلب غافل، فقد روى أبو هريرة أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:" ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه" أخرجه الترمذي(3479) وحسَّنه الألباني في صحيح الترمذي(2766).
ثمَّ ألا تعلموا أن رسولكم ـ صلى الله عليه وسلم قد نهاكم عن استعجال إجابة الدعاء، فقال:" يستجاب لأحدكم ما لم يعجل،يقول: دعوت فلم يستجب لي" متفق عليه، وفي جزء من رواية مسلم قيل : يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: "يقول قد دعوت، وقد دعوت فلم يستجب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء".(/4)
ثمَّ ما أدراكم أيها الفاترون عن الدعاء أن يكون الله قد خفف عنَّا وعن إخواننا المسلمين كثيراً من البلاء الذي كتب أن يحل بنا، وما أدراكم أن يكون من فوائد هذا الدعاء أن يكون دعاؤنا واستغاثاتنا بالله سبباً من أسباب صد المكروه عن بلادنا وعن كثير من بلاد المسلمين، والتي يتمنى عدو الله أن يحتلها ويجدها لقمة سائغة؟! وما أدراكم أن يكون دعاؤنا لإخواننا في ثغور الجهاد، ومواطن الكفاح، حفظاً لهم من أعدائهم، وردءاً لهم من تربصات المحتلين بهم، أو تخفيفاً لما يلاقيه إخواننا في أراضي الجهاد،أو سجون التحالف الكفري"وقد ذكر بعض الأسرى أنَّ العذاب ربما كان يهدأ أحياناً داخل السجن بلا سبب ظاهر، ولا وضع مألوف، فلا يجدوا له تفسيراً إلا دعوات إخوانهم. ووالله لو لم يكن من ذلك الدعاء ورفع الكفين لرب السماء إلا لذة مناجاة الله، وجمعية القلب عليه لكفى!
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "والدعاء من أنفع الأدوية،وهو عدو البلاء يدافعه، ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرقعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، وله مع الدعاء ثلاث مقامات:
1ـ أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
2ـ أن يكون أخفَّ من البلاء فيقوى عليه البلاء، فيصاب به العبد ولكن يخففه، وإن كان ضعيفاً.
3ـ أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم صـ13).
وممن أجاب على تلك الشبهة الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حيث قال:(الدعاء والتوكل والعمل الصالح، سبب في حصول المدعو به من خير الدنيا والآخرة والمعاصي سبب، والحكم المعلق بالسبب قد يحتاج إلى وجود الشرط وانتفاء الموانع، فإذا حصل ذلك حصل المسبب بلا ريب" ـ ثمَّ قال بعد مناقشة عقدية لتلك الشبهةـ(وقد أجيب بجواب آخر وهو أنَّ الله _تعالى_ إذا قدَّر أمراً فإنَّه،يقدر أسبابه، والدعاء من جملة أسبابه، كما أنَّه لمَّا قدَّر النصر يوم بدر وأخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل وقوعه أصحابه بالنصر وبمصارع القوم كان من أسباب ذلك استغاثة النبي ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ ودعاؤه، وكذلك ما وعده به ربُّه من الوسيلة، وقد قضى بها له، وقد أمر أمَّته بطلبها له، وهو _سبحانه_ قدَّرها بأسباب منها ما سيكون من الدعاء)(مجموع الفتاوى14/143ـ148).
وإذا كان الكفار يتعرفون على ربهم وقت الحروب والمعارك، ويطلب منهم رؤسائهم بالدعاء لأجل أن ينصروا على المسلمين، فألا يليق بنا أن يكون ذلك منَّا أشدُّ، والحقيقة المخجلة أنََّ كثيراً من المسلمين نائمون، وقد نشرت مفكرة الإسلام في موقعها بتاريخ27/1/1424هـ، بأنَّ الرئيس جورج بوش طلب من جنوده الدعاء له بأن ينتصر على المسلمين، ووزعت على الآلاف من رجال مشاة البحرية الأمريكية كتيبات بعنوان(الواجب المسيحي)، وتحتوي تلك الكتيبات على أدعية، وعلى جزء يتمُّ نزعه من الكتيب لإرساله بالبريد إلى البيت الأبيض، ليثبت أنَّ الجندي الذي أرسله كان يصلي من أجل بوش!!
وهكذا هو الصراع الدائم بين قوى الإسلام العظيم، وقوى التحالف الصليبي اليهودي، وكل يسير لمبتغاه، ويعمل لتحقيق هدفه، ولكن...هيهات هيهات فإنَّ العزة والغلبة للمؤمنين ولو طال الطريق، وامتدت الحروب، فإنَّ دين الإسلام هو الدين الحق، وهو دين الله، وقد تكفَّل الله بحفظه، وأن يكون له العلو المطلق على سائر الأديان، وحينئذٍ فلا يأس، ولا قنوط، ولا تأخر، ولا تراجع، فإنَّ الغلبة لله ورسوله وجنده المؤمنين، وقد قال _تعالى_: "إنَّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد*يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار" (غافر:51) وصدق الله، وكذب الصليبيون.
لكنه النصر القريب بإذن علام الغيوب
لكنَّ دورك يا أخي أن تقوم بنصرة دين الله ما استطعت، وبما تقدر، وبكامل وسعك الذي فطرك الله عليه،وكن مع ذلك داعياً، لدينك بأن ينصره الله، ويخذل الكفر وأوليائه، وسبح ربك كثيراً، وكفى بربك هادياً ونصيراً.
ارفع أكفك يا مجاهد سائلاً *** ما خاب من يرجو الكريم ويطلب
ما خاب من يرجو الإله *** وعوده فالله حقٌ وعده لا يكذب
اسأله ذلَّا للذين تجبروا *** فالله يقصم من يشاء ويعطب
اسأله نصراً كي يعزَّ مجاهد *** واسأله بالتثبيت فهو المطلب
ارفع أكفك يا مجاهد إننا *** بهوى الصبابة في الملاهي نلعب
لا يستوي عند الإله دعاؤنا *** ودعاء من للكرب دوماً يطلب
فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه و سلم قال: "ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم" فقال رجل من القوم : إذا نكثر؟ قال: "الله أكثر".
وفي الحديث أيضا دليل على أن دعاء المسلم لا يهمل، بل يعطي إما عاجلا أو يؤجل أو يصرف إلى خير أفضل، فخير الله عظيم وخزائنه ملأى لا تنفد، فلتدع المسلمة بما تشاء من خيري الدنيا والآخرة.(/5)
قال ابن القيم: (من دعا واستبطأ الإجابة وترك الدعاء كمن بذر بذرة وسقاها ورعاها فلما حان وقت حصادها ولى وتركها).
وقال الخطابي : (وإن لم يستجب الله له يعطيه سكينة وانشراحا في صدره أو يصرف عنه من السوء أو يدخر له من الأجر مثلها، وعلى كل حال فلا يعدم فائدة).
لقد صلحت أحوال عظيمة وبنيت بيوت قد هدمت أو كادت ورزق العقيم وأصلح الفاسد وهدى الضال وشفي المريض وعاد الغائب.. كل ذلك بالدعاء وما ذاك إلا لفضل الله وتيسيره. نهيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقون من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم) رواه مسلم.
يقول ابن القيم: (الدعاء دواء نافع مزيل للداء ولكن غفلة القلب عن الله تبطل قوته، وكذلك أكل الحرام يبطل قوته ويضعفه).
فتبين بذلك أن للدعاء آدابا وله موانع أيضا..
فمن آدابه: الجزم فيه واليقين على الله بالإجابة كما ذكرنا والإلحاح فيه، والدعاء في كل حال من شدة ورخاء، وأن تسألي الله تعالى بأسمائه الحسنى، والاعتراف بالذنب كما في سيد الاستغفار، وعدم تكلف السجع في الدعاء، والتضرع والخشوع والرغبة والرهبة، وكذا التوبة ورد المظالم والدعاء بصالح الأعمال - كما فعل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم فاستجاب الله دعاءهم -.
ومن موانع إجابة الدعاء: مخالفة ما سلف من آداب، وكذا الدعاء بإثم أو قطيعة رحم، وأكل الحرام وشربه ولبسه، واقتناء وسائل المعصية في المنزل واقتراف المعاصي والإصرار عليها. قابل رجل إبراهيم ابن أدهم و سأله : يقول الله عز و جل ( ادعوني استجب لكم ) فما لنا ندعو الله فلا يستجاب لنا ؟
فقال إبراهيم، من أجل خمسة أشياء . قال ما هي؟
فال : عرفتم الله فلم تؤدوا حقه، و قرأتم القرآن فلم تعملوا بما فيه، و قلتم نحب الرسول و تركتم سنته، و قلتم نلعن إبليس و أطعتموه و الخامسة تركتم عيوبكم و نظرتم في عيوب الناس.
أوصيكم ونفسي بعد تقوى الله عز وجل بالإلحاح عليه بالدعاء فإنه من لم يسأله يغضب عليه وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين .
ويلهج الأنبياء عليهم السلام ألسناً بالدعاء ويكسر القلوب منهم الرجاء، وتشرئب الأعناق وترتفع الأكف ضارعة إلى خالقها ومولاها، تستمطر رحمته، وتستنزل نصرته، إنه الدعاء باب الذل والخضوع إذا أغلقت الأبواب، ومعقد الأفئدة والأبصار إذا أوصدت الدروب، أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون.
وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع الدعاء منازل عبودية مدارج السالكين فيها الإخبات والإنابة والخوف والمراقبة والإجلال والمحبة والشكر والرضى، إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين .
يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا و أنت يا حي يا قيوم لم تنم
إن كان جودك لا يرجوه ذو سفه فمن يجود على العاصين بالكرم
ومع أن الأنبياء عليهم السلام صفوة البشر وخيرة الخلق إلا أنهم كانوا يرجون من الله غفران ذنوبهم ومحو خطيئاتهم.
فها هو آدم وحواء عليهما السلام قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين .
وكذا نوح أول الرسل عليهم السلام قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين .
أما موسى عليه الصلاة والسلام قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم .
وبين يدي الركوع والإنابة يستغفر داود عليه السلام ربه وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب ويحذو الابن حذو أبيه ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب .
أما أكرم الخلق وأحبهم إلى الله، المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكان يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة، ومن دعائه: ((اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطئي وعمدي وهزلي وجدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير)).
أيها المؤمنون:
وتدلهم الخطوب وتبلغ القلوب الحناجر ويحيط بالأنبياء، عليهم السلام وعيد الكفار وتهديدهم ومكرهم وكيدهم عندها تفتح أبواب السماء ليعرج من خلالها دعاء واستغاثة ممن كذبوا وأوذوا بهلاك الظالمين ونجاة المؤمنين.
فأما نوح وصالح عليهما السلام فقد دعوا ربهما بدعاء واحد على تباعد ما بينهما من الزمن قال رب انصرني بما كذبون، فأخذت هؤلاء الصيحة وحل بأولئك الطوفان والغرق.(/6)
وللجريمة الخلقية عقوبة ونكال أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فما كان من لوط إلا أن استغاث بخالقه ولجأ إلى مولاه قال إني لعملكم من القالين رب نجني وأهلي مما يعملون فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين وفي آية قال رب انصرني على القوم المفسدين ويخشى الأنبياء عليهم السلام أن يفتنوا في دينهم على عظم إيمانهم وسمو يقينهم وهذا درس لنا إذ البعض يمني نفسه لو ابتلي أو فتن في دينه أن يثبت ثبات الجبال وما علم أن النبي قال: (لا تتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموه فاصبروا ).
فها هو أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام يدعو هو ومن آمن معه ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم وما طلب النجاة من الله إلا خروجا من البلاء وبعداً عن العقوبة قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين .
وكان يستعيذ بالله من الفتن، فلقد علّمنا أن ندعوا فيما ندعوا به في صلاة الجنازة (اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده).
إذ المال فتنة والأزواج والبنون فتنة كذا النساء والدجال والمناصب وغيرها كثير، فتن كقطع الليل المظلم يوصينا في مثلها بالدعاء (اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن).
ما أجمل أدب الأنبياء في الدعاء وما أزكاه وما أكرمه إن تأملك لأدعية بعضهم يشعرك بالأخوة الإيمانية والخلوص من الأنانية، فإذا ما دعوا نال والديهم وإخوانهم من دعائهم أوفر الحظ والنصيب.
فنوح عليه السلام يقول: رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً .
وإبراهيم الخليل عليه السلام يدعو رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبّل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب .
وهل أحدٌ أكرم أخاه بمثل ما أكرم موسى أخاه عليهما الصلاة والسلام واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي .
ثم ماذا؟ لقد عبد قومه العجل، فدعا ربه قال: رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين .
أما نبينا العزيز عليه ما يشق علينا الرؤوف الرحيم فقد دعا لأهل بيته وأصحابه بل وأمته جمعاء فمن ذلك سؤاله الله ألا يعذبهم بسنة ٍ بعامة وألايهلكهم بالغرق وقبل ذلك الشفاعة (فقال له سبحانه: لك سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قلت: رب زدني فحثا لي بيديه مرتين) وفي رواية: (ومع كل واحد سبعون ألفاً).
اللهم فاجعلنا منهم يا حي يا قيوم فإنه لا يتعاظمك شيء وقد دعا لأمته أن يبارك لها في بكورها.. الخ.
ولذا فإن البشرى تزف إليك أخي المؤمن حين تسمع قوله عليه الصلاة والسلام: (دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب مستجابة، وملك عند رأسه يقول: آمين ولك بمثل ذلك).
وللذرية الصالحة من الدعاء نصيب فكم من نبي سأل الله ذرية مباركة، هنا لك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء .
وهاك دعاء آخر يتعاقب في الذرية جيلاً بعد جيل ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا منا سكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم .
وهنيئا للأنصار رضي الله عنهم فلقد دعا النبي لهم بدعاء كريم فقال: (اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار).
ويتواضع الأنبياء عليهم السلام في دعائهم ولا يمنون على الله جهادهم ودعوتهم وابتلاءهم وهم من هم في علو الإيمان وذروة اليقين.
وما دعاء إبراهيم عليه السلام إلا من ذلك رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين إلى أن قال ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
إنه إبراهيم الأمة القانت الحليم الأواه المنيب، يسأل الله أن يلحقه بالصالحين، تأمل معنى ألحقني، فاللحاق هو إدراك القوم بعد مضيهم، وهذا يذكرنا بقول الإمام العلامة الشافعي رحمه الله، إذ يقول تواضعاً :
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سوياً في البضاعة
وللكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم دعاء كدعاء جده رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين وكذا نبينا عليه السلام يقول: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
وويل للظلمة والمجرمين من دعاء الأولياء والصالحين، فها هم الأنبياء عليهم السلام يتوجهون إلى الجبار المنتقم بهلاكهم وإنزال العذاب بهم.
وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفاراً .
أما موسى عليه السلام فيستفتح بقوله: وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم حتى يروا العذاب الأليم .
الحمد لله جعل الدعاء هو العبادة وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون .(/7)