هذا الإحساس بالخطر المشترك دفعها إلى البحث عن هويتها الإسلامية التي افتقدتها منذ زمن بعيد، وإحياء لمجموعة من المفردات الإسلامية الغائبة عن واقعنا (التوحيد، الولاء والبراء، الجهاد...)، وكذلك إزالة حاجز الخوف الوهمي (لأن الله هو الرزاق والضار والنافع...) الذي كان مسيطرا عليه، وخرافة الدولة العظمى التي أسقطها المجاهدون بغزوتي نيويورك وواشنطن، والإدراك الجيد لضرورة المرحلة وأولويات العمل.
لكن يجب على العلماء والمفكرين والسياسيين أن يرابطوا على الجبهة العقدية والفكرية والنفسية، وأن يسعوا بكل ما في وسعهم لتحصين الأمة من خطرين راهن عليهما العدو الصليبي في الماضي القريب (الحرب الخليج الثانية، فلسطين...)، ويراهن عليهما الآن في حربه للمسلمين، وهما:
- أنه يراهن على نسيان الأمة السريع/ذاكرتها الضعيفة، وقلة صبرها وتحملها للمعارك والأعمال التي تتطلب نفسا طويلا، أي عدم قدرتها على مواصلة المعركة على المدى المتوسط والبعيد، كما وقع لها في الحرب الصليبية على العراق، وأيضا ما يقع في فلسطين والشيشان وأفغانستان...، وذلك لأنها عاطفية تتحمس وتنطفئ بسرعة، وتفتقد للقناعة العقائدية والسياسية.
- كما يراهن على المفاهيم العلمانية/المعتقدات الجديدة (حرية التدين، الحوار، التسامح، السلام...)، التي يتم توظيفها من أجل هدف استراتيجي يسمح له باختراق البلدان الإسلامية، وتدجين المسلمين، وتمزيق المجتمع، وتشتيت قوته، وتأمين مصالحه وتواجده...
إن هذا السلاح طبق مع الخلافة العثمانية، بل كان أداة فاعلة في الضغط عليها من أجل الخضوع لمصالحه، ويطبق الآن في البلاد الإسلامية تحت عناوين مختلفة (الديمقراطية، حقوق الإنسان، حقوق الأقليات...)، والمؤسف أن بعض المسلمين انطلت عليهم الخدعة، واستسلموا لها حتى لا ينعتوا بالتطرف والإرهاب.
ثامنا - مصر والقاعدة الخلفية لتحرير القدس/فلسطين:
إن مصر كانت تاريخيا بمثابة القاعدة الخلفية بالنسبة للمسلمين وأيضا للصليبيين، ومؤشر قوي على ميزان القوى والاتجاه المستقبلي للصراع، مما جعل العدو الصليبي يستهدفها دائما في حملاته وأيضا المسلمين.
وعليه، فإنها تعتبر منطقة استراتيجية ومركزية في نصرة/تحرير قضايا الأمة عموما وفلسطين بشكل خاص، أي كل من يسيطر عليها يكون قريبا من استكمال حلقات مشروعه.
انطلاقا من هذه الحقيقة التاريخية، والوعي أيضا بموقعها الإقليمي والعالمي، قام العدو الصليبي/الأمريكي بتحييدها في البداية من معادلة الصراع عبر اتفاقية "كامب ديفيد" مع بنته المذللة/آل صهيون، والمساعدات/الرشاوى، ليتم في نهاية المطاف توظيفها لحساب الهيمنة الصليبية والصهيونية كما هو حاصل الآن.
كما يدخل في هذا الإطار احتضانها مؤخرا لحماس والسلطة وباقي الفصائل، وإشرافها المباشر على الحوار من خلال مدير مخابراتها (عمر سليمان)، مما يطرح أكثر من استفهام حول مدى إدراك حماس لخطورة ما يدور حولها، إذ كيف يجتمع رجل سياسي من حماس مع رئيس المخابرات؟
إن النظام المصري والسلطة الفلسطينية منسجمان مع خطهما السياسي، أما حماس والجهاد فلا ندري ماذا وقع لهما.
لذا، فإننا نحذر حماس والجهاد من عاقبة مثل تلك اللقاءات/الفخاخ المشبوهة، التي لن تخدم القضية الفلسطينية بأي من الأحوال، حيث لن تجدي الكلمات الرنانة والتصريحات العنترية التي نسمعها في الفضائيات.
ولإحكام قبضته على مصر طرحت مسألة الأقباط كورقة سياسية ناجحة في الضغط والترويض والتطويع، والتي اتخذت شكلين:
أ - أقباط المهجر:
الذين يعبرون بشكل واضح عن طبيعة مواقفهم وحقيقة أهدافهم، وخلفية العدو من تحريك ملفهم، من خلال جريدة صوت الأقباط التي تقول:" إنه علينا أن نعمل بكل جهدنا وطاقتنا وأموالنا وذكائنا، وأن نطرد الشر ونقاوم كل سهامه الشريرة، وأن نستأصل الاستعمار الإسلامي من جذوره في مصر"
ب - أقباط الداخل:
الذين يمهدون عمليا وبشكل تدريجي للمشروع الصليبي، ويمكن ملامسة ذلك في الحقائق التالية:
- تعيين قبطي "يوسف بطرس غالي" لأول مرة في وزارة الاقتصاد التي تعتبر من وزارات السيادة.
- تدشين أول قناة فضائية قبطية تسمى "سيفن سات"، أي امتلاك لأدوات الإعلام.
- تعديل مناهج التعليم عن طريق مركز ابن خلدون "التجسسي"، لتمكين المصري من معرفة تاريخ الأقباط المجهول، وهذا طبعا تحت عنوان: "نحو حساسية أكبر لهموم الأقباط".
- رد الأوقاف القبطية وتفويض أمرها لهم.
- أصبح القبطي مواطن رقم واحد في البلد الإسلامي مثل الصهيوني، يتمتع بامتيازات خاصة، حيث أصبحت الدولة العميلة تملك حساسية خاصة اتجاهه مخافة الغضب/الرشاوى الأمريكي.
تاسعا - تحرير الجزيرة العربية مقدمة ضرورية لتحرير الأمة:(/25)
إن الجزيرة العربية تعتبر بمثابة العاصمة الدينية والروحية والعلمية للمسلمين، ورمز وحدتهم أيضا، حيث شهدت ميلاد رسولنا العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام، وإقامة الدولة الإسلامية تحت قيادته، والمكان الذي انطلق منه نور الإسلام ورحمته، وكذلك استقبالها لملايين الحجاج من كل بقاع الأرض في مؤتمرها السنوي/الحج، والعمرة في رمضان الكريم، فضلا عن تواجد خيرة العلماء، وامتلاكها لسلاح النفط...
نظرا لمكانتها الدينية وموقعها الاستراتيجي في المشروع الإسلامي، فلقد أدرك العدو الصليبي من خلال التاريخ (الحروب الصليبية) والواقع (صراعه مع المجاهدين) ارتباط الإسلام /دينا والجزيرة العربية/مكانا والمسلمين/عالميا، مما جعله يستهدفها في مشروعه الصليبي الجديد كما صرح بذلك: "لن يتوقف جهودنا وسعينا في تنصير المسلمين حتى يرتفع الصليب في سماء مكة، ويقام قداس الأحد في المدينة".(1)
ولإحكام السيطرة عليها تم التركيز في عملهم الصليبي على اليمن (جنوب الجزيرة) باعتباره البوابة الرئيسية المطلة على المحيط الهندي، حيث اجتمعت فيه كل المصالح الدينية والسياسية والاقتصادية، والعمق الاجتماعي والاستراتيجي لها.
إزاء هذا الهدف، اتبع العدو الصليبي الإستراتيجية التالية في اليمن:
أ - التنصير:
وذلك باستغلال ثالوث "الجهل والفقر والمرض"، والمؤسف أن بعض الجهات النافذة تساعده في ذلك.
ب - الحرب:
وذلك باغتيال المجاهدين، والمؤسف أن النظام الرسمي متحالف معهم، وكذلك الصمت المطبق لبعض الحركات السياسية...
ج - الحوار:
أو الخداع الاستراتيجي والسلاح التمويهي للحركة الصليبية، وذلك بعقد المؤتمرات والندوات تدعو إلى حوار الأديان والتقارب، والتنديد بالإرهاب/الإسلام، لكن المؤسف نجد المؤسسات الدينية الرسمية متعاونة معهم، بل وصلت بهم الوقاحة إلى تقديم الإسلام كقربان للعدو الصليبي، من خلال تطويع المسلمين وتدجينهم لفتح المجال أوسع للزحف الصليبي.
وعليه، فإن ما قام به المجاهد اليمني باغتياله للأطباء الأمريكيين، يعتبر دفاعا شرعيا وسياسيا عن اليمن والجزيرة العربية، وينم عن وعي شرعي وسياسي واستراتيجي عميق، والذي يستوجب التكريم والتشجيع، وليس الإدانة والشجب كما فعل المرتزقة والعملاء وبعض الجهلة والسذج.
عاشرا - الحركة الجهادية وأمل الأمة في التحرير:
ما أشبه اليوم بالبارحة وكأن التاريخ يعيد نفسه، حيث نفس الأوضاع العسكرية والسياسية التي عاشها أجدادنا في الحروب الصليبية، من عجز الحكام (مع اختلاف في التوصيف الشرعي)، وتعدد الكيانات الصغيرة/الدولة القطرية، واختلاف المصالح والولاءات (وصلت إلى حد تشابه موقف الدولة الفاطمية "الشيعية" بموقف الدولة الإيرانية "الشيعية"، فالأولى حاولت الاتفاق مع عدو الأمس ضد المسلمين "السنة" من أجل اقتسام الأرض والنفوذ، والثانية/إيران تحالفت مع عدو اليوم/بوش ضد حركة طالبان "السنية"، وهذا ما تقوم به الآن ضد العراق من أجل مصالحها)، وكذلك استياء الناس من الحكام وبغضهم الشديد للعدو الصليبي، وبداية نهوض بعض العلماء بواجب التحريض والتعبئة، ومبادرة الحركات الجهادية...
إن الحركات الجهادية هي الامتداد الشرعي والسياسي للجيش الإسلامي الغائب، الذي يعتبر من أوجب الواجبات لأن الأمة تؤثم إن لم تقم بإفرازه، وأن مهمته هي الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن دين الأمة وكرامتها، وحمايتها من أي خطر قد تتعرض له في مشارق الأرض ومغاربها، وليس كما تفعل الجيوش النظامية التي تحمي العدو وتقمع الأمة، وأن القيادات الجهادية هي البديل الصحيح للحكام/المرتزقة، وأن العلماء الصادقين هم أهل الحل والعقد "المفتقد"، وأن الأمة هي الجيش الاحتياطي الذي يجب تجنيد كل القادرين فيها، والجهاد هو الإستراتيجية الصحيحة التي تنسجم مع المرحلة التي نعيشها، وأن عنوان المعركة/البرنامج المرحلي مواجهة الصليبيين وتحرير الأمة...، وهذا ليس عملا مبتدعا،(2) بل ما يجب القيام به بدل التفرج والتباكي والتسول، أو الجدال الفارغ الذي يضر ويصب في مصلحة العدو.
وعليه، يجب إعادة صياغة بنية الأمة عقديا ونفسيا وفكريا وسياسيا واقتصاديا، على أساس أن الحرب من حقائق الحياة في هذا العصر وفي كل عصر، وإيجاد نظام إسلامي عالمي قادر على تعبئة الأمة وتجنيدها، والاستعداد الدائم للقتال والضرب بأيادي من حديد، ووضع كل الإمكانيات المادية والمعنوية من أجل الحركة الجهادية.
إن العدو يحاول أن يملأ الفراغ السياسي والعسكري خشية الحركة الجهادية، التي تنافسه وتشكل خطرا حقيقيا عليه، لأنها أكثر حيوية وأشد تصميما على مواجهة العدو الصليبي وتدميره بإذن الله تعالى، لذا فهو يسابق الزمن سواء في العراق أو أفغانستان...، كما فعل في الماضي القريب بالنسبة لفلسطين عندما كانت المؤشرات توحي بأن المنطقة مقبلة على فراغ سياسي وعسكري.
__________
(1) - راجع: الزحف إلى مكة، د عبد الودود شلبي(/26)
(2) - راجع: المحور الرابع من نفس المقال.
وفي هذا الإطار يعتبر الإمام ابن لادن القائد العام والشرعي للمجاهدين خاصة والمسلمين عموما، شأنه شأن القائد عماد الدين زنكي والإمام صلاح الدين الأيوبي، لأنه وضع كل ما يملك في سبيل جهاد الصليبيين وتحرير أراضي المسلمين، بل وكان سابقا في الوعي بالحركة الصليبية عكس الغوغائيين، ويملك أيضا استشرافا مستقبليا، فضلا عن تجاوزه للحكام/المرتزقة الجبناء الذين باعوا الدين والأرض، والحركة الجهادية هي الممثل الحقيقي للأمة كما كانت زمن الحروب الصليبية الأولى، لأنها تعبر عن نبضه وهمومه والشعارات التي ترفع في المسيرات خير دليل، وكذلك حديث الناس فيما بينهم بخصوص الأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية، التي يستوجب دعمها والوقوف بجانبها ونصرتها بكل الوسائل، إنها معركة التوحيد والتحرير والكرامة والولاء والبراء، وكل من تخاذل سيدفع الثمن غاليا في الدنيا والآخرة، بل إنه يدفعه كل يوم تأخر فيه عن الالتحاق بالمسيرة الجهادية التحريرية.
وعليه، يعتبر المجاهدون في كل من الشيشان وفلسطين وأفغانستان والفلبين والجزائر واليمن وكشمير والبوسنة... النواة الصلبة للجيش الإسلامي القادم بإذن الله تعالى، الذي يستوجب على الأمة بأسرها الالتفاف حوله ومده بكل ما يحتاجه، أي أن تضع كل إمكانياتها المادية والبشرية رهن إشارته، لأنه ملك للأمة وللمشروع الإسلامي التحرري، وأن يقوم العلماء الصادقون بدورهم التحريضي والتربوي، وتفعيل المفاهيم الإسلامية (التوحيد، الولاء والبراء، والجهاد...) التي تحصن الأمة من التدجين والتطويع، وتحررها من العجز والضعف، وتدفعها لتتفاعل بكل قواها الكامنة، وتوحيدها لتكون أكثر فاعلية وحضور في خضم الأحداث/الصراع الجارية، لأنهم ورثة الأنبياء، وممثلو هذا الدين في الواقع، وفي المقابل شن الحرب على كل من يحاول التآمر على المجاهدين.
كما يجب على الوعاظ في عيد المسلمين/الجمعة أن يتناولوا قضايا الساعة، واحتياجات البلاد، ويتحدثوا عن مخططات الأعداء بأبعادها العقدية والسياسية والاجتماعية والحضارية، وأن يفضحوا الخونة والمرتزقة لأن خيانتهم عقدية وسياسية وحضارية، ويربطوا الأمة بالمجاهدين الأحرار.
إحدى عشر - الخاتمة:
حاولنا في هذا المقال أن نسلط بعض الأضواء على الحركة الصليبية في الماضي والحاضر، على أمل أن يكون ذلك حافزا للأمة، لكي تعود إلى دينها وتاريخها، وتتحرر من غسيل الدماغ والوجدان الذي تعرضت له من طرف العدو، فتتعرف على ممثليها الحقيقيين وأيضا على أعدائها، لتقرر في النهاية مواصلة المسيرة التي بدأها أجدادها، لتكون بحق امتدادا صحيحا لحركة الأنبياء وعلى رأسهم رسولنا العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام.
ولتتعرف على الأسباب التي شجعت العدو على غزونا، وكيف تمت مواجهته وهزيمته، فضلا عن عدائه العقدي لنا، وطبيعة مشروعه الاستيطاني.
إن الأمة تمر من منعطف تاريخي خطير، فهي وكما يعلم الجميع مستهدفة في دينها وعرضها وأرضها، ودلائل ذلك نعيشها في كل البلاد العربية والإسلامية، لذا فعليها أن تختار مصيرها، إما أن تنهض وتجاهد العدو وتنال إحدى الحسنيين "النصر أو الشهادة"، فتغسل العار الذي أصابها، وتكتب تاريخها من جديد كما فعل المجاهدون الأولون، فيكون مصدر عز وكرامة لأبنائنا، أو تتجرع الذل والاستعباد والخضوع للعدو الصليبي، فتضيف صفحة سوداء في تاريخها، تجعل أبنائنا وأحفادنا يدفعون ثمنا مضاعفا كما يقع لنا الآن بسبب تقاعس أجدادنا، فنكون مصدر خجل وحياء لهم، فلا نستحق ترحمهم علينا.
وبالمناسبة ندعو كل المخلصين الذين يتواجدون ضمن الأنظمة العربية العميلة سواء في مصر أو السعودية أو سوريا واليمن...، أن يساعدوا المجاهدين بكل ما يستطيعون، وأن يوظفوا مواقعهم (السياسية والاجتماعية والأمنية والعسكرية...) في خدمة قضايا الأمة، وذلك بمساعدة المجاهدين ونصرتهم، لأن تبرير تقاعسهم غير مقبول في هذه المرحلة العصيبة التي تمر منها الأمة.(
وقفات تربوية
مع الحرب الصليبية الجديدة
أبو سعد العاملي
الحمد لله رب العالمين الذي جعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس وشاهدة على باقي الأمم، وجعل فيها من يحمل راية الحق إلى يوم الدين، رغم كيد الكائدين، القائل {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}(البقرة: 217)، والصلاة والسلام على رسوله الأمي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
لقد كتب الله على هذه الأمة أن تكون شاهدة على الأمم وخاتمة للرسالات السماوية، ومن تبعات هذه المهمة العظمى أن تلقى العنت والتكذيب بل وتواجه بالكيد والمكر والمحاربة من قبل أعدائها، وفي مقدمتهم رأس الحربة "التحالف الصليبي اليهودي"، {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}(المائدة: 82).(/27)
ولقد عرفت هذه الأمة هجمات عديدة من قبل هؤلاء الأعداء، على مر العصور، أو مِنْ قِبَلِ مَن ألَّبه هؤلاء، فكانت الحرب بيننا وبينهم سجال، يوم لنا ويوم علينا، تكونت من حلقات وجولات عديدة، ما زالت رحاها تدور إلى اليوم، وقد استطاعت هذه الأمة أن تقاوم هذه المكائد كلها وتواصل سيرها في أداء رسالتها وترفع الحصار المضروب عليها لخنقها وتكبيلها عن أداء هذه الأمانة الكبرى، أمانة الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أجل هذا فقط تكالبت أحزاب الكفر والنفاق وتحالفت لضرب كيان هذه الأمة وزعزعة صرحها، {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[البروج: 8].
أولاً: معالم هذه الحرب الصليبية
1 - شاملة في شكلها
حيث أنها تشمل جميع المجالات بدون استثناء، ففي المجال السياسي، نصَّب الأعداء عملاءهم من الحكام المرتدين على مناصب الحكم في بلداننا، وذلك غداة انتهاء مدة احتلالهم لكل البلاد الإسلامية، فأرادوا أن يضمنوا استمرارية هذا الاحتلال بأقل الخسائر الممكنة، ولكونهم أدركوا أهمية الحكم ومدى تأثيره على باقي الميادين الحيوية. ولا زالوا يقفون إلى جانب هذه الأنظمة بالتأييد والتوجيه في كل حين.
أما اقتصادياً فلا يخفى على كل عاقل الحضور الكبير والواسع لمؤسسات العدو الاقتصادية في بلداننا، ومدى تأثيرها على مجريات اقتصادنا، خاصة وأنهم قد وجدوا أنظمة سياسية تفتح لهم الأبواب على مصراعيها وتسهل لهم كل الإجراءات القانونية للسيطرة على ثروات البلاد وخيراتها المادية والبشرية، هذا من الداخل، أما من الخارج فلا زالت صادرات العدو تستحوذ على أسواقنا وتلقى الرواج الكبير بالرغم من وجود بضائع محلية منافسة لها في الجودة والسعر، إلا أن الأنظمة الحاكمة تفرض قيوداً وشروطاً عديدة وتعجيزية على الشركات المحلية لتظل الشركات الصليبية واليهودية هي المسيطرة في الساحة، أحب من أحب وكره من كره.
أما ثقافياً فلا زلنا نرزح تحت الغزو الصليبي - يهودي، وذلك عبر تدفق القنوات الفضائية المتعددة، التي تلقى الرواج بين أبناء الأمة في السر والعلن، وما زالت برامجنا الدراسية والتربوية مستوحاة من هؤلاء الأعداء، فنشأت بذلك أجيال خنوعة فاقدة لتراثها ودينها وهويتها، تتخذ من هذا الغرب المثل الأعلى في كل شيء، بدءاً بطريقة اللباس وانتهاء بطريقة التفكير.
أما من الناحية العسكرية، فهناك ارتباط وثيق بالصليبيين وتبعية عمياء لمؤسساتهم العسكرية، حيث أن جيوشنا تبقى مكتوفة ومشلولة في خوض أي صراع حتى تحصل على الضوء الأخضر من الخبراء العسكريين الصليبيين أو اليهود، بل إن القرارات الحاسمة والمصيرية في حروبنا (ضد بعضنا البعض أو في تدخلات جيوشنا المكبلة في مواجهة الشعوب الغاضبة) تُتخذ وتُدبَّر بليل في غرف عمليات الأعداء، بالمزيد من القمع والاضطهاد لهذه الشعوب. كما أن أسلحتنا هي الأخرى تبقى سجينة في الثكنات، تكدّس لسنوات حتى يعتريها الصدأ، أو نحصل على فتاتهم وأحط الأنواع وأقلها كفاءة بأغلى الأسعار وأعلى التكاليف.
هذه هي بعض الميادين التي تظهر فيها سيطرة العدو علينا، وتبين بالتالي شمولية هذه الحرب الصليبية الجديدة.
2 - شرسة في مضمونها
حينما تكون الأمة منصاعة للأعداء، مؤتمرة بأوامرهم ومنتهية عن نواهيهم، يكون هناك الرضا والود التامين من قبلهم {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}(البقرة: 120)، ذلك ما كنا نلحظه في العقود السابقة، حيث كان يبدو لنا هذا العدو حميماً ووديعاً (شعوباً وحكومات)، وكان الكثير منا يعتبره قدوة ومثلاً أعلى في الأخلاق والتعامل، لكن وجهاً قبيحا وخبيثاً كان يتوارى وراء هذه الهالة المزيفة، وبمجرد أن بدأنا نعصي أوامره ونحاول أن نفكر بعقولنا ونحدد مصائرنا بأيدينا ونعود إلى ديننا، بدأ يظهر هذا الوجه الحقيقي، وبرزت مخالبه ليعيدنا إلى حظيرة عبوديته وتبعيته، نبقى دوماً في موقف المنتظر لرحمته وعفوه وكرمه، وحينما قررنا الكفر به وبقوانينه، وبدأنا العزم في الإعداد لمقاومته ومحاولة طرده من أراضينا ومحاولة استرجاع حقوقنا والدفاع عن ديننا، رأينا ردود فعله شرسة إلى أقصى حد، ولم يستطع أن يصبر على تضييع هذه المكاسب، فبادر إلى استعمال كل أساليب البطش والمكر والتنكيل المتوفرة لديه {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة: 8).(/28)
خاصة بعدما قامت إمارة الإسلام في أفغانستان، وتحدَّت معالم الكفر وتعاليمه، رأينا كيف ساهم الصليبيون واليهود في ضرب هذه الإمارة الفتية بكل قوة وهمجية، يقودهم فرعون العصر "أمريكا"، وكيف نكلوا بالمجاهدين وأنصارهم في عقر ديار هذه الإمارة وفي عقر ديار هؤلاء الأنصار، وبعدها سارعوا إلى ضرب حصار محكم ومتواصل على المجاهدين في كل مكان، ثم سجنوا من سقط في أيديهم بغير تهمة سوى الانتماء إلى معسكر الإيمان (الذي سموه بالإرهاب)، فلقي المؤمنون على أيدي هؤلاء الصليبيين وأحلافهم اليهود في فلسطين وفي كل بلاد الصليب أشد أنواع التعذيب والتنكيل، أمثال ما يلقاه المجاهدون في بلدانهم الأصلية على أيدي الأنظمة المرتدة. واختفت كل الشعارات الزائفة المتعلقة بما سمَّوه "بحقوق الإنسان"،كما خفتت أصوات كل المنظمات الحقوقية التي تدافع عن حقوق إنسانهم وغضت الطرف عما يعانيه مجاهدونا وأطفالنا ونسائنا وشيوخنا من تعذيب وتشريد وتقتيل وكأننا – في نظرهم - جراثيم ينبغي أن تزول من الوجود.
من يطّلع على حالة الحقد الدفين الذي يكنونه لنا، يدرك حقيقتهم، ويدرك بالتالي كم كنا مغبونين ومخدوعين في هؤلاء الكفار، {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ}.
ألم نر آلاف الأطنان من القنابل المحرمة (وفيها اليورانيوم المنضب) التي سقطت على بلاد الرافدين منذ عقد من الزمن – ولا تزال - ثم على الإمارة الإسلامية مؤخراً، ولا زالت الأرض والإنسان والنبات والحيوان يعانون من نتائج هذا القصف العشوائي المشين والبغيض؟!
ألم نر الدعم اللامحدود – سياسياً وعسكرياً واقتصادياً- الذي يقدمه هذا الغرب الصليبي الحاقد للكيان الصهيوني في فلسطين، ليدمّر كل ما له علاقة بالتواجد الإسلامي على هذه الأرض المباركة؟! ولا زالت هذه الجرائم تُرتكب هناك على مرأى ومسمع من العالم، بل وبمباركة من هذا العالم الصليبي البغيض {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً}.
3 - تجميع للأحزاب
من أهم سمات هذه الحرب أنها جمعت كل الأطراف المعادية للحق في جبهة واحدة، بالرغم من الاختلاف الظاهر بينهم في المناهج السياسية، إلا أنهم أبوا إلا أن يجمعوا كيدهم ويأتونا صفاً واحداً من كل حدب وصوب، ليرموننا عن قوس واحدة، وكأن التاريخ يعيد نفسه ليتكرر يوم الأحزاب بقيادة أمريكا، وقد استطاع المجاهدون بقيادة "تنظيم قاعدة الجهاد " أن يحفروا خنادق عديدة، ليحتموا من هجمات هذه الأحزاب، وسلموا من بطشهم وضرباتهم العشوائية، وهاهم اليوم يتواجدون في موقع المهاجم، وتنقلب الصورة، لنجد هذه الأحزاب في موقع المدافع، وفي موقع الخائف الوجل الذي يترقب الضربة في كل لحظة، ويترقب الموت في كل مكان.
إن الأحزاب قد اجتمعت على صعيد واحد، وتناست كل خلافاتها لتحاربنا كافة، وتحقق قول الله تعالى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: 36)، ولم يعد هناك ما يخفيه هؤلاء من إعلان العداء لنا وجمع للصفوف وتكاثف للجهود – سياسياً وعسكرياً -، وتحدوا كل أعرافهم وقوانينهم في احترام المواثيق والعهود مع المسلمين، وضحوا بالكثير من المصالح المادية الآنية مقابل القضاء على الخطر الإسلامي لكي يضمنوا المصالح الآجلة. لقد تحقق قول رسول الله (: "الكفر ملة واحدة"، فمهما تعددت ألوان هذا الكفر واختلفت وجهاته السياسية، فإنه في الأخير يبقى كياناً واحداً لونه الطاغي هو الكفر والباطل في مواجهة الإسلام والحق.
4 - خبيثة في أهدافها
لم تعد أهداف هذا التحالف الصليبي اليهودي مجرد أهداف اقتصادية أو سياسية فحسب، هذا على الأقل ما كان يبدو لنا في العقود السابقة، وفيما عُرف بمرحلة الاحتلال لبلداننا الإسلامية، بل تعدّتها إلى أهداف أخرى خفية، بدأت تنجلي خلال هذه الحرب الأخيرة، موافقة لقول الله عز وجل {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة: 217)، وقوله سبحانه {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}(النساء: 89). وأكبر دليل على هذا هو مبادرتهم العاجلة وحرصهم المستميت على ضرب الإمارة الإسلامية وإبادة معالمها وأسسها وعزلها عن أنصارها، بالرغم من أن هذه الإمارة لم تبد أي نية في مهاجمتهم أو بدئهم بالحرب، وكانت جل أطوار هذه الحرب هجومية {ألا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (التوبة: 13).(/29)
فكما هو معلوم أن كل بلداننا محتلة - من إخمصها إلى قدميها – من قبل التحالف الصليبي اليهودي، وكل الأهداف المادية التي كانوا يحلمون بها قد نالوها وزيادة، ولكن لن يشبعوا ولن يوقفوا حملتهم الشرسة هذه إلا بتحقيق أكبر وأخبث الأهداف على الإطلاق {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}(البقرة 217).
ومن أجل تحقيق ذلك جندوا جيوشاً جرارة من العسكر والقساوسة والمثقفين، وأرسلوهم إلى بلداننا لتنخر فيها كما ينخر السوس في الخشب، تحت غطاءات ناعمة وخادعة، وكل هذا من أجل إخراج العباد من عبادة الله وحده إلى عبادة أوثانهم ومذاهبهم وأهوائهم.
5 - طويلة في أجلها
هي حرب طويلة في أجلها ومدتها {وَلاَ يَزَالوُنَ يُقَاتِلُونَكُمْ}، وقد تعلمنا من تاريخ الصراع الدائر بيننا وبينهم أن أعداءنا لا يفترون عن قتالنا ومحاربة إطفاء نور الله في الأرض {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (الصف: 8)، خاصة وأن طبيعة المعركة هي معركة وجود بين الحق والباطل، إذ لا يمكن أن يتعايشا جنباً إلى جنب.
كما أن لهذه الحرب حلقات متعددة، قد تهدأ لبعض الوقت لكنها لا تنقضي حتى يتم القضاء على الطرف المقابل بصفة نهائية. وبين هذه الحلقات فترات ترصُّد وإعداد لا تقل أهمية وحماسة من فترة الحرب نفسها. والعدو شأنه شأن إبليس، لا يفتر ولا يمل ولا ييئس في حربه لأصحاب الحق، وهو لا يخفي هذه النية ويعلنها صراحة ودون تلميح بأن الحرب ستكون طويلة الأمد حتى يتم القضاء نهائياً على الإرهاب وجذوره وروافده.
ونحن نعتقد أنه لن يغير من هذه الاستراتيجية قيد أنملة، حيث يحس بالخطر يداهمه من كل جانب وفي كل لحظة، ويعمل بالقاعدة المعروفة: "خير وسيلة للدفاع الهجوم"، ولكننا على يقين بأنه لن يستطيع فتح جبهات عديدة في نفس الوقت، ولن تكون لديه القدرة على تحمل تبعات هذه الحرب أطول مما يخطط ويحاول أن يوحي لنا.
ستكون حرباً طويلة الأمد على جميع الجبهات، ولا ينبغي التفكير في عكس هذا، حتى لا نتقاعس، بل يجب أن نعد للأمر عدته ونكون في مستوى الصراع، ولا ننخدع بشعارات العدو الزائفة، من قبيل التعايش أو ما يسمونه بحوار أو التقاء الحضارات.
6 - حرب كاشفة وفاضحة
قد يبدو للوهلة الأولى أن هذه الحرب شر مطلق لا خير فيها، وبأنها أضرار ولا نفع فيها، لكن الحقيقة غير ذلك، فكل أمر لابد أن تجد فيه الخير والشر {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216)، ومن أجل هذا فنحن مطالبون بالوقوف طويلاً وبكل تأنِّ ورويِّة أمام تأثيرات هذه الحرب، لنعرف كيف نحوِّل سلبياتها إلى إيجابيات ونتمكن بالتالي من كسب معاركها المتعددة بأقل الخسائر الممكنة وفي أقرب الآجال.
أولاً: أظهرت حقيقة العدو للأمة بعامة، وللعوام بخاصة، حيث كنا نرى نوعاً من التخدير لدى الكثير من أبناء الأمة اتجاه الصورة الحقيقية للعدو. سواء على مستوى الأخلاق والتعامل، حيث أنه كان قدوة للبعض في العديد من المجالات، وموضع احترام للبعض الآخر، ذلك أنه في السنوات الماضية، كان هناك نوع من التخفي والمداراة لدى العدو في حربه لنا، أما اليوم فقد كُشفت أوراقه وظهرت نواياه جلية لكل ذي عينين.
ومن جانب آخر، كشفت لنا هذه الحرب العديد من الهفوات والثغرات في كيان هذا العدو، والكثير من الضعف الناتج عن المتناقضات المتواجدة في مؤسساته ومختلف شرائحه. وبأن هناك أماكن حساسة في كيانه لا يستطيع أن يحميها، وبنيات تحتية تبدو صلبة في الظاهر لكنها أوهن مما نتصور بكثير. ومهما ادعى هذا العدو عكس ذلك وحاول أن يواري سوءاته، فلن ينفعه ذلك في شيء، لأن شباب الأمة قد أفلحوا في إدراك حقيقته واطلعوا على مواطن ضعفه، وسلكوا طريق التحرر والجهاد، غير عابئين بهذا العدو، بل إنه يبدو لهم أوهن وأصغر وأضعف.
ثانياً: فضحت العدو الداخلي أمام الجميع، هذا العدو الذي يتمثل اليوم في هذه الأنظمة المرتدة التي تسلطت على رقاب العباد وسيطرت على خيرات البلاد، ومعها جيوشها من العسكر والمخابرات والمفكرين الخونة، وأعوانهم من أصحاب المصالح المادية، كلهم يقفون في صف الأعداء الصليبيين، ويعلنون عداءهم ومحاربتهم للفئات المجاهدة ولكل من ينصرهم في السر والعلن، ويتم هذا بطرق مباشرة، تحت غطاء محاربة الإرهاب والتطرف، وأحياناً بدون أي غطاء.(/30)
ثالثاً: كشفت فرقة النفاق، وأبرزت دورها الخبيث والخطير في دعم الأعداء، بصورة مباشرة وغير مباشرة، هذا الدور الذي تقوم به بعض التجمعات "الإسلامية" المشبوهة، وخاصة تلك التي تقف في مواجهة أصحاب الحق وتساند أصحاب الباطل، بحجة محاربة التطرف ومحاولة نشر الإسلام المسالم، وأقصد هنا - أساساً - رؤوس هذه التجمعات، وأستثني قواعدهم التي نأمل فيها الخير الكثير، فقد رأينا الكثير منهم يتعاطفون بل يتمنون أن يكونوا في صفوف المجاهدين وأن يساهموا بأموالهم وأوقاتهم وأيديهم في هذه الحرب الجديدة.
ويلي هؤلاء خطورة بعضُ علماء السلطان اللاهثين وراء فتات الأنظمة المرتدة من مناصب اجتماعية ملوثة أو سياسية ملغومة. ثم تأتي في الدرجة الأخيرة الفئات المتقاعسة التي لا تجيد سوى البكاء على الأطلال، وتقضي جل وقتها في الحنين إلى أمجاد الأمة بالأحلام والأماني، وتتمنى ظهور أو عودة صلاح الدين الجديد الذي سيخلص الأمة مما هي فيه من ذل وصغار واستعباد، ونحن نقول لهذه الفئات وننبهها إلى أن العيب والنقص فيها هي، فها هي جماعات الجهاد قائمة لمن أراد حقا الدفاع عن دينه وكرامة أمته، وها هو صلاح الدين العصر موجود بينها، إنه الإمام "أسامة بن لادن" – حفظه الله – بكل جدارة واستحقاق، فقد تجمعت فيه كل مواصفات القيادة والريادة، عسكرياً وسياسياً، فماذا ينتظر هؤلاء المتقاعسون يا ترى لكي ينضموا إلى قافلة الجهاد المباركة تحت إمرة هذا القائد الإمام الفذ؟!
كل هؤلاء المثبطين (حكاماً ورؤوس طوائف وأحزاب وعلماء سوء ومتقاعسين) أصبحوا اليوم في عزلة مشينة، وهاهي بضاعتهم قد كسدت حتى تعفنت. ولم يعد يثق فيهم أحد من أبناء الأمة، وصار هؤلاء الشباب يعتمدون – بعد الله تعالى - على العلماء العاملين بعلمهم، الصابرين المحتسبين، الذين يخشون الله وحده ويقفون إلى جانب المجاهدين.
وعلى ضوء ما سبق ذكره، يمكننا تسمية هذه الحرب بالفاضحة أو الكاشفة، فكما كشفت سورة براءة فئات المنافقين على عهد رسول الله (، فإن هذه الحرب قد كشفت فئات من المنافقين والمخذلين والمتقاعسين لم يكونوا لينكشفوا بغير هذه الحرب، فرب ضارة نافعة.
ثانياً: مكتسبات تربوية والدور المطلوب
نصل الآن إلى أهم نقطة في هذا الموضوع، وهي التي تتعلق بالجانب التربوي لأصحاب الحق ولأنصارهم، لنقف على أهم المكتسبات التربوية لهذه الحرب الصليبية الجديدة، ونختم بالدور المطلوب من شباب الأمة بخاصة وكل الفرقاء والشرائح الأخرى.
أولاً: كشفت حقيقة الطائفة المنصورة وأبرزت خصائصها، لتظهر جلية للأمة. وهذه الخصائص لا يمكن أن تبرز – بالشكل الواضح – إلا خلال المواجهة مع الأعداء، وفي زمن تيه هذه الأمة وتقاعسها وقعودها عن الجهاد. ومن أهمها:
1 – " قائمون بأمر الله: أي ملتزمون بشرعه وأمره، وذلك بالجهاد والقتال وإعلان الحق والتزامه والأمر والنهي به، والدفع عن أهله إذا دخل عليهم الصائل فهذا أوجب الفرائض بعد الإيمان.
2 - مُكذّبون من الغالبية: أي أنهم في غربة من الناس لما درس من أمور الدين، فإن مجيبهم قليل ومعارضهم كثير، كما جاء في كثير من أحاديث الغربة.
3 - مُخذَلون من العموم: أي غير منصورين فعلياً حتى ممن وافقهم في الرأي فإنه لا ينضم إليهم عملياً إلا القليل.
4 - ماضون ثابتون لا يضرهم التخذيل والتكذيب: أي أنهم أصحاب همة وثبات وعناد في الحق يدْعون فيُكذّبون إلا من القليل، ويعملون فيخذلون إلا من النادر، ومع ذلك فهم معلنون للحق ثابتون عليه.
5 - يقاتلون إلى قيام الساعة: وهذه من أخص خصائصهم، والنصوص طافحة في ذلك بشكل علني ثابت يصعب معه التمحك لنفي صفة القتال عنهم وجعلهم من أهل المناظرة أو العلم بلا قتال كما قال البعض.
6 - قاهرون لعدوهم: إما أنهم قاهرون لهم بالنصر الحقيقي والظفر في نهاية الصراع – كما بشر بذلك الله سبحانه وتعالى ورسوله الله ( في كثير من الآيات والأحاديث – بالرغم من أنهم قد يُهزمون في بعض معاركهم ومواقعهم، وإما أنهم قاهرون لهم بعدم تراجعهم عن الحق رغم هزائمهم المؤقتة، فهم ثابتون ثباتاً يقهر العدو.
7 - منصورون من الله تعالى: بوعده سبحانه {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَاد} (غافر:51) فهم منصورون حقيقة في الدنيا أو منصورون بالمعنى بنجاتهم عند الله وقبول أعمالهم وحسن خاتمتهم.
8 - ظاهرون على الحق: أي منصورون، وهو من الظهور أي العلو والغلبة، وقد يكون من ثنايا المعنى ظاهرون من الظهور وهو الاستعلاء بالدعوة ورفع الراية علناً لا خفاء، والله أعلم.(/31)
9 - فقههم الله في الدين: وجاء إشارة إلى هذا في مقدمة بعض الروايات، ودليل فقههم هو القتال والجهاد كما قال تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69)، وقد فسرها بعض السلف كابن المبارك وأحمد رحمهما الله بأن الفقه والفتح في الفهم هو في علماء الثغور.
10 - رزقهم الغنيمة: كما في رواية سلمة بن نفيل – وهي في أحمد والنسائي- ذكر أن رزقهم في أيدي من أضل الله قلوبهم، وهذا دليل على صفة الرزق وأمر غير مباشر بالسعي له وهو الغنيمة.
11 - يقاتلون باستمرار ولا ينقطع وجودهم: إلى قتال الدجال ونزول عيسى بن مريم حيث يكون آخرهم مع الإمام المهدي عليه السلام وتحت قيادة نبي الله عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام"(1).
ثانياً: تفجير طاقات الأمة لمساندة هذه الطائفة على الأقل عاطفياً، وإن كنا نرى دعماً مالياً ولوجستياً بل وحتى عملياً عن طريق الانضمام إلى صفوف هذه الطائفة وتكثير سوادها.
فحينما يرى شباب الأمة نماذج فريدة من أمثال كوكبة الشهداء الماضين على درب الجهاد والاستشهاد، وأخص بالذكر هنا، شهداء غزوتي نيويورك وواشنطن، ومن سبقهم أو من لحق بهم في معارك الجهاد والاستشهاد، سواء على أرض أفغانستان أو الشيشان أو فلسطين أو غيرها من بلاد الإسلام، وبلاد الإسلام أصبحت اليوم كلها أرض لهذه الحرب الصليبية الجديدة، قلت: حينما يرون مثل هذه النماذج فإنهم يتسابقون للانضمام إلى صفوف المجاهدين، ليسطروا بدمائهم ملامح جديدة، ويقرِّبوا الأمة يوماً بعد يوم من النصر الموعود. فكَم من طاقات قد أهدرت - ولا تزال - في الباطل أو في سفاسف الأمور، وكم من جهد يُبذل في غير محله، وهاهي قوافل الشهداء الماضية وقوافل المجاهدين الآتية، تحت إشراف جماعات الحق والجهاد، وعلى رأسها تنظيم قاعدة الجهاد، تستقطب هذه الطاقات وتستوعبها ثم توظفها في مواجهة جموع الكفر وجنود الصليب لزعزعة أركانه وهدم كيانه.
ثالثاً: إحياء فريضة الجهاد وفهم سليم وشرعي لحقيقة الصراع بين الحق والباطل بكل أبعاده، والإعداد لتحمل تداعيات وتبعات هذا الصراع. بحيث أن مفهوم الجهاد كان قد انتابته شوائب كثيرة، وكان الناس يحصرونه في جانبه الدفاعي فقط، ناسخين لمفهوم جهاد الطلب، طلب العدو في عقر داره أو في عقر قواعده العسكرية بالتحديد.
أو إحياء التعامل بالمثل مع هذا العدو، سواء بالتهديد أو بالمباشرة الفعلية، سواء في استهداف ما يسمى بالمدنيين أو بهدم مؤسساته وبنياته التحتية، أو بحرق ونسف موارده المعيشية، وهي أساليب مهجورة، لها أصول شرعية في شرعنا الحنيف(2)، هجرها المسلمون وتوقفوا عن العمل بها بسبب ما دخل على ديننا من شوائب وهجمات صليبية يهودية منذ عقود من الزمن، حاولوا فيها طمس معالم هذه الفريضة المقدسة، وتغييبها من عقول المسلمين، لكي يتسنى لهم امتلاكنا والسيطرة علينا حينئذ.
رابعاً: كسر حواجز الخوف والتهيب لمواجهة مخططات الأعداء، وهي العقبة الكبرى التي ظلت لعقود من الزمن تكبل طاقات المسلمين، وتجعلهم يظلون في موقع الإنهزام وانتظار رحمة العدو.
فكانت هذه الحرب الصليبية الجديدة فرصة لتجاوز هذه العقبة بنجاح كبير، والتحرر من قيد الضعف والهزيمة، وذلك بفضل ضربات قاعدة الجهاد الأخيرة، التي عبَّدت الطريق لباقي المجاهدين في العالم، وبيّنت لهم أن هذا العدو الغاشم أضعف مما نتصور.
فاستطاع جيل الجهاد والاستشهاد أن يحيي المفهوم الصحيح للجهاد في الإسلام، الموافق لما جاء به رسول الله (: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا"(الحديث)، أو كما جاء في كتاب الله تعالى: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: 23).
فرأينا كيف انقلبت معادلة الصراع بيننا وبينهم، وصاروا يترقبون ضربات وهجمات المجاهدين في كل حين، فانقلبت حياتهم إلى جحيم لا يُطاق، وقذف الله في قلوبهم الرعب، مما أدى إلى إرباك حساباتهم وإضعاف استراتيجية هجومهم، وضيعوا جهودهم وأموالهم في إيجاد وسائل للدفاع بدلاً من تطوير وسائل الهجوم، فتحقق بفضل الله تعالى للمسلمين شيء مما كانوا يتمنونه، وهو إرعاب العدو وإرهابه في عقر داره، وتحويل ديار هذا الأخير إلى ساحة للمعركة بدلاً من أن تظل بلداننا هي وحدها أرض لها.
خامساً: تجسيد هذا التجاوب والتعاطف من قبل المسلمين عامة وشباب الإسلام خاصة، بإنشاء تنظيمات وتجمعات جهادية محلية ولو في معزل عن تنظيم قاعدة الجهاد أو حركة طالبان، اللذان يشكلان رأس الرمح في مواجهة هذه الحملة الصليبية القائمة.
__________
(1) - عن نشرة الظاهرون على الحق – العدد الأول - للشيخ أبي مصعب السوري بتصرف.
(2) - انظر بتفصيل تأصيل هذه المسألة في كتاب" حقيقة الحرب الصليبية الجديدة" لكاتبه ( صلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين).(/32)
فقد رأينا – بحمد الله تعالى – ظهور العديد من التجمعات الجهادية هنا وهناك، تأخذ زمام المبادرة في ضرب مصالح العدو الإستراتيجية المنتشرة في بلداننا – وما أكثرها -، ودخلت بذلك في الصراع مباشرة بتوسيع دائرة الحرب، وإشغال العدو أكثر ودفعه إلى بذل المزيد من الجهد وحشد المزيد من الإمكانيات المادية والبشرية لمواصلة هذه الحرب.
فكان من نتيجة هذه الثمرة المباركة، أن صارت أراضينا وأراضيه ساحات لهذه الحرب، مما دفع بالعدو إلى تشتيت قوته وعدم الاستطاعة على التركيز في هذه الحرب، وهذه بداية هزيمته بحول الله.
سادساً: أبرزت هذه الحرب الصليبية أن لا فرق بين الكفار الأصليين (الصليبيين واليهود) وبين الطواغيت المرتدين (الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين)، وبأن هؤلاء كالجسد الواحد، إذا ضربتَ واحداً منهم انتفض الآخر ليدافع عنه ويحميه. فالأنظمة المرتدة تحمي مصالح الأعداء في الداخل مقابل أن يحميهم الصليبيون واليهود من شعوبهم ويحافظوا على عروشهم وقروشهم، فالقاسم المشترك فيما بينهم هو المصالح ومحاولة الحفاظ عليها بالقوة، وعدوهما المشترك هو هذه الجماعات المجاهدة التي تعكِّر عليهم صفو أجوائهم وتدعو الشعوب المسلمة للانتفاضة وأخذ زمام أمورها بأيديها، وفق ما يمليه عليها دينها الحنيف.
فتحتم على هذه الجماعات إعداد برامج عملية جهادية لمواجهة أعداء الداخل والخارج، بحيث يكون هناك تكامل بين المشروع العالمي العامل على مواجهة العدو الخارجي والمشاريع القطرية القائمة لمواجهة أعداء الداخل، على أن يكون التركيز في المرحلة الراهنة على السند الرئيس لهذه الأنظمة المرتدة، وهو العدو الخارجي، وذلك بضرب مفاصله واستهداف مراكز الثقل في قوته، بقصد إرباكه ثم زعزعته لكي ينهار في نهاية المطاف أو على الأقل لينشغل بنفسه، وهو ما يجعل مهمة محاربة الأنظمة الطاغوتية أيسر وأسهل.
سابعاً: من أهم سمات هذه الحرب – كما سبق الإشارة إليه – هو أنها جمعت الأحزاب الكافرة والمنافقة لإنشاء تحالفات عديدة وموحدة، بقيادة أمريكا، لضرب الإسلام ومحاولة القضاء على قوته. وهو ما دفع بالمسلمين الصادقين، وخاصة فصائل المجاهدين إلى التفكير في التحالف والتعاون لمجابهة هذه الهجمة الصليبية، وتحقيق أمره تعالى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّة}.(1) وقد تم ذلك أولاً على أرض أفغانستان، حيث اجتمع المجاهدون – من شتى بقاع الأرض – وشكلوا ما يُعرف بتنظيم القاعدة بقيادة الشيخ أسامة بن لادن، ثم توسع فيما بعد بانضمام العديد من المجاهدين الآخرين وفي مقدمتهم تنظيم الجهاد المصري بقيادة الشيخ أيمن ظواهري، فتشكل ما عُرف بتنظيم "قاعدة الجهاد"، وهو تنظيم أوسع وأكبر وأقوى.
وثانياً على مستوى الأمة ككل، بدأت الكثير من التنظيمات المجاهدة في توسيع دائرة التحالف والتنسيق فيما بينها، لمواجهة هذه الحملة الصليبية التي تتهدد وجودهم، فتحقق بالفعل هذا الأمر ورأينا – بحمد الله – تعاوناً وتنسيقاً كبيراً بين شتى جماعات الجهاد، بالرغم من شدة الحصار وضيق السبل وقلة النصير، والدليل على نجاح هذا الأمر هو هذه العمليات الجهادية المباركة المتواصلة، التي تُحدث أكبر الضرر في جسد العدو، ولا يستطيع أن يوقفها أو حتى تفاديها. ونحن نعلم أن سر قوة المسلمين تتجلى في توحيد جهودهم وجمع صفوفهم، فإن تعذَّر عليهم ذلك لظروف قاهرة، فلا أقل من تحقيق هذا التنسيق والتعاون، وتفادي الفرقة والاختلاف.
ثامناً: إحياء فريضة الاستشهاد والتسابق إلى الموت قصد الفوز بالشهادة، الذي أصبح منتشراً ويكتسح الساحة، هذا في الوقت الذي نرى فيه هجراناً لمتاع الدنيا وشهواتها.
وهذا سلاح ذو حدين، حيث يمكِّن المسلمين من أخذ زمام المبادرة أكثر، فهو السلاح الذي لا يمكن للعدو أن يمتلكه أبداً {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 96)
تاسعاً: علمتنا هذه الحرب القائمة أن مسألة استنزاف العدو وتقويض أركانه أصبح أمراً ممكنا بل وفي المتناول، وبأنه هدف استراتيجي ينبغي التركيز عليه.
هذا ما ابتكره إخواننا في تنظيم قاعدة الجهاد كوسيلة جديدة وانتهجوها في هذه الحرب الصليبية بكل نجاح، ما دام أن الطرفين غير متكافئين على مستوى العدة والعتاد، فلابد من ابتكار أسلوب جديد، لا يقوى العدو على تفاديه أو مواجهته، ذلك هو أسلوب الاستنزاف المتواصل، ومحاولة تقويضه من الداخل، والتركيز على ضرب مفاصل قوته الاقتصادية والعسكرية، واستهداف قياداته ورؤوسه.
__________
(1) - انظر بتفصيل مقال أخينا سيف الدين الأنصاري "وقاتلوا المشركين كافة " – مجلة الأنصار- العدد الرابع.(/33)
وها نحن نرى نتائج هذه الاستراتيجية الجديدة من الآن، حيث يتواجد العدو في مآزق سياسية واقتصادية خانقة، لم يكن ينتظرها ولا أعدَّ لها حلولاً. أما في السنوات وربما الشهور المقبلة فستكون الحالة أعقد وأدهى وأمر، مما سيسمح للمجاهدين بأخذ مواقع متقدمة في حلبة الصراع، وزمام المبادرة أكثر في إعادة قيادة هذه البشرية التائهة من جديد. هذا وعد من الله سيتحقق لا محالة، وليس مجرد حلم سياسي لتسلية النفوس.
الخاتمة
مما تقدم، يظهر لنا جلياً أن هذه الحرب الصليبية الجديدة تميزت بكثير من الإصرار والتركيز على إبادتنا، وكأنها فرصتهم الأخيرة لفعل ذلك، ذلك أنهم أحسوا- أكثر من أي وقت مضى – بأن هذه الجماعات المجاهدة (وعلى رأسها تنظيم قاعدة الجهاد)، قد تمكنت من فهم طبيعة كيان العدو، والاطلاع على حقيقته وبالتالي كشف مواطن ضعفه، بالرغم من ادعائه عكس ذلك. مما سيسهل على المجاهدين قيادة هذه الحرب في ظروف أسهل وربما بأقل الخسائر الممكنة، بينما يحس العدو أنه سيضطر إلى دفع المزيد من الجهد والأجر للدفاع عن كيانه والمحافظة عليه، بدلاً من التفكير في شن حرب هجومية – كما كان من قبل-. فأقصى ما يصبو إليه العدو هو تفادي ضربات المجاهدين، ومحاولة الإبقاء على الحالة السابقة بدلاً من تضييع كل شيء.
ولكن المجاهدين لهم كلمتهم ورأيهم المخالف، فقد قرروا هم كذلك الانتقال إلى موقع الهجوم، ولكنه هجوم من نوع آخر، لا يمكن للعدو أن يتفاداه باستمرار، مما سيؤدي إلى انقلاب الصورة التي كنا نعرف، والاقتراب أكثر وبخطى واثقة وأكيدة نحو وعد الله تعالى بالنصر والتمكين، على أنقاض هذا الكيان الغاصب، أما بخصوص أذياله وروافده التي تمثلها هذه الأنظمة المرتدة العفنة، فستذوب بأسرع مما نتصور وتنهار ثم تزول، بسبب انقطاع عناصر الحياة عنها.
نتيجة حتمية، لا ريب فيها، بنصوص قرآنية مجيدة {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}(المجادلة: 21).{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر: 51) {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور: 55).
والحمد لله وهو ولي التوفيق.(/34)
الحرب اللبنانية السادسة الدروس والعبر
مهران ماهر عثمان
أحمد الله حمداً كثيراً، وأصلي وأسلم على المُرسَل بشيراً ونذيراً .. أما بعد؛
فقد نشبت الحرب السادسة في لبنان ، وخلَّفت وراءها كثيراً من الدروس والعبر ، فنقف معها، ثم نشفعها بذكر بعض التنبيهات المهمات، يتلو ذلك بيان للواجب الشرعي حيال المنكوبين من المسلمين ..
أما الدروس فهي:
الأول :أنَّ المستقبل لهذا الدين ، مهما حاول الأعداء القضاء عليه، مهما خططوا لذلك فإنّ المستقبل للإسلام ، قال ربنا تبارك وتعالى :} يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ{ [1] .
الثاني : تنبئ هذه الأحداث عن واقع مزرٍ أليم ، وضعف كبير، يخيم على أمة الإسلام، فالأمة التي بلغ عددها أكثر من مليار وثلاثمائة فرد لا تقوى على فعل شيء لرفع الظلم على إخواننا في لبنان ! يُؤسر علج يهودي فتمتلئ الدنيا ضجيجاً، بينما يمكث عشرة آلاف أسير فلسطيني في سجون الصهاينة ولا أحد يُحرِّك ساكناً !! والله المستعان . هذا هو الضعف والهوان الذي تنبأ به نبينا صلى الله عليه وسلم ، فعَنْ ثَوْبَانَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا))، فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ :((بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ))، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ :((حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)) [2] .
الثالث : أنَّ هذه الأمة أمة باقية لن تباد، مهما خطط الأمريكان واستعملوا اليهود كأداةٍ لتحقيق ذلك فلن يقدروا على إبادة هذه الأمة، لن يتمكنوا من إعدامها، مهما نفذوا فيها من مجازر، مهما قتَّلوا فلن يقدروا .. فعَنْ ثَوْبَانَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :((إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ : يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا)) [3] ، وقال :((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ)) [4] .
الرابع :علمتنا هذه الحرب أنَّ من رام مجداً فلا يكون ذلك إلا برفع راية الجهاد في سبيل الله ، لن يعود للأمة مجدُها ولن تسترد كرامتها إلا بالجهاد، يصدق ذلك حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ :((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)) [5] .
أما المناداة بسلام دائم مع اليهود فهذا هدم للشرع ، وعدم عقل ، إن اليهود لا تجدي معهم إلا لغة واحدة ، هي لغة القتال والجهاد .(/1)
الخامس:من دروس هذه الحرب أنَّ أجبن عباد الله عند النزال، وأحرصهم على البقاء وعدم الزوال، هم اليهود، لقد عاين الناس وأدركوا عظيم جبن اليهود وكبير حرصهم على الحياة الدنيا ، رأينا جنوداً منهم توجهت إليهم الأوامر بالتوجه إلى مواقع النزال فبكوا بكاء الثكلى من النساء، فلما جاءهم الأمر بالانسحاب وتوقَّفَ إطلاق النار رقصوا وفرحوا ! قال الله عنهم :} وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ{ [6]، وقال :{ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [7].
السادس :تعلمنا هذه الأحداث ما للإعلام من دور كبير في توجيه الأمة وبناء تصوراتها .. فلقد كان من المستقر عند الناس بسبب هذا الإعلام المضل أنَّ الجيش اليهودي جيش لا يُقهر وكيان لا يُكسر !! ولكن تبدد هذا الوهم بالوعد الصادق[8] ، لقد قُصف اليهود في يوم واحد قبل وقف إطلاق النار بأكثر من (250) كاتيوشا !! وهم عاجزون عن صدها والتصرف حيالها إلا بمغادرة مساكنهم إلى الملاجئ والنحيب من الجنسين .
ولذا نهى الله عزَّ وجل عن كل ما من شأنه أن يفت في عضد الأمة بإشاعة الأخبار الكاذبة وترويج الشائعات المغرضة { لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } [9] .
السابع :من الدروس : أنَّ اليهود متى ما عادوا إلى الغطرسة والبغي والإفساد عاد الله عليهم بالإذلال ، وهذا هو تأويل قول الله تعالى :} ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا{ [10] ، قال البغوي رحمه الله :" }عسى ربكم{يا بني إسرائيل } أن يرحمكم { بعد انتقامه منكم، فيرد الدولة إليكم }وإن عدتم عدنا { أي : إن عدتم إلى المعصية عدنا إلى العقوبة " [11] .
الثامن : أنّ الذلة والمهانة قدر مكتوبٌ على اليهود، وقد قال تعالى في ذلك :} فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ{ [12] ، لقد سامهم الله سوء العذاب بصواريخ القسام من مجاهدي غزة، وبكاتيوشا لُبنان ، وقال تعالى:} ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ{ [13] .
التاسع : من الدروس أنَّ للخيانة دوراً كبيراً في هزيمة الأمة، لقد اجتمع العرب لحرب اليهود من قبلُ فكانت النكسة لوجود الخيانة، ولذا امتلأ القرن الكريم بالنهي عنها لخطورة أمرها وعظيم خَطْبها ..
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [14] .
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [15] .
العاشر :أنَّ النصر بيد الله ..
حزبٌ واحدٌ فقط يقف في وجه قوة عسكرية بهذه الآليات الضخمة ويوقع النكايات العظيمة بها ..
لأول مرة تُقصف حيفا، ونهاريا، وعكا، وكرمئيل بالصواريخ ، لأول مرة ينام مليون يهودي في الملاجئ، خسر اليهود –حسب الإحصائيات التي نُشرت في بعض صُحفهم عقب قرار الأمم المتحدة - (5.7) ملياراً من الدولارات ..
وأما التنبيهات المهمات :(/2)
الأول :من المعلوم أنَّ هذا الحزب شيعي ، ولكنَّ المسلم يفرح بوقوع النكاية على اليهود بغضِّ النظر عن الذي أوقعها . ويدل لذلك قول الله تعالى في القرآن الكريم :} الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ{ [16] .
فقد أقرَّ الله تعالى فيها فرح الصحابة بانتصار الروم الكتابيين على الفرس الوثنيين .
الثاني :وهو من الأهمية بمكان ..
فرق بين الفرح ، وبين أن نشهد بصحة ما هم عليه من الضلال أو نعلن انتماءنا إليهم .. فرق بين الفرح وبين طمس الهوية وتغيير المبادئ، بعض الناس ينقادون لعواطفهم ، ويكبلون عقولهم ، فلا يتعدى نظرهم موضعَ أقدامهم .. فلهذه النكاية التي أوقعتها المقاومة اللبنانية على شرذمة اليهود يشهدون بصحة مذهبهم، وربما أدى ذلك إلى إعلان انتمائهم إليهم !! وفاتهم أنَّ الصحابة الذين فرحوا بانتصار الروم على الفرس لم يُصَحِّحوا مذهبهم ، ولم يتحولوا إليه . بل قاتلوهم في معارك عديدة .
الثالث :من مهمات التنبيهات أنّ عالماً من علمائنا إذا قال في مسألة برأيه تتعلق بعدم مناصرة طرف من الأطراف، فهذا لا يسوغ لنا أن نقع في عرضِه ، وأن نكشف عن عوار أخلاقنا بسبِّه ، فما هكذا نعامل علماءنا .
لقد أفنى الشيخ الجبرين حفظه الله ورعاه عمره في تعلم وتعليم الوحي الذي أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، فهذا رأيه الذي يدين الله به، وهذه الفتوى قديمة ، فكيف نتجرأ على علمائنا ؟ أما علمنا أن المجتهد بين الأجر والأجرين، أما قال نبينا صلى الله عليه وسلم :((إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ)) [17] .
الرابع :إذا كنَّا نحزن لقتل إخواننا في لبنان على يد اليهود الغاضبين فلنحزن على تقتيل إخواننا في العراق على يد الشيعة الخائنين .
الخامس:لا شك أن اليهود سيبحثون عن فريسة يحاولون أن يمسحوا فيها عار هزيمتهم في لُبنان، وهذه الفريسة هي إخوانكم في فلسطين، فأكثروا لهم من دعاء الله تعالى .
السادس :يقول أحد الفضلاء :" عند النظر إلى ما يحدث الآن من صراع ، فليس من العدل ولا من الحكمة أن يحشر الناس في زاوية ضيقة و أن يخيروا بين خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تكون مع هذا الطرف أو مع ذاك، فتستبدل عدوا بعدو ، وخصما بآخر. إن المسلم ، وإن كان يفرح بكل ما يقع في العدو الصهيوني من خسائر و جراحات ونكايات ، فلا يلزم من هذا أنه يؤيد كل الأطراف المقاومة في لبنان ، أو يقف معها في خندق واحد ويشاركها مشروعها وأهدافها .
كما أن انتقاده المقاومة و بيانه لحقيقتها و حديثه عن أخطائها ومثالبها لا يعني أبدا أنه يقف مع العدو الصهيوني أو يسكت على جرائمه ويغض الطرف عنها ، أو يسوغ له عدوانه الذي يقع في حقيقة الأمر على الشعب اللبناني الأعزل كله ، و على كافة مناطقه وفئاته ، إنَّ مقاومة العدوان الصهيوني والاحتلال اليهودي لفلسطين أو لأي أرض عربية ، هو حق لا مرية فيه بل هو واجب شرعي على الجميع ، كل حسب طاقته واستطاعته ، ولكن مصير الأمة لا يجوز أن يكون رهنا لعواطف جياشة أو تبعا لحماس جماهير غاضبة لا تدرك العواقب أو تحركات عجلى لا تبنى على حقائق ".
بقي الكلام عن واجبنا حيال أهلنا المنكوبين في لبنان، إنَّ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يحتمان علينا أن نقف مع المنكوبين في كل مكان ..
قال تعالى :} وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ{ [18] ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم :(( الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إِنْ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ)) [19] .
وصلِّ اللهم، وسلم وبارك على نبيك، وآله، وصحبه أجمعين .
------------
[1] / التوبة (32-33) .
[2] / أحمد (21363) ، وأبو داود (3745)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3567) .
[3] / مسلم (2889) .
[4] / البخاري (6767)، ومسلم (1920) .
[5] / سنن أني داود (3003)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3462) .
[6] / البقرة (96) .
[7] / الجمعة (6-7) .
[8] / الوعد الصادق اسم أطلقته المقاومة على عملياتها العسكرية تجاه اليهود .
[9] / الأحزاب (60-62) .
[10] / الإسراء (6-8) .
[11] / تفسير البغوي، ص (80) .
[12] / الأعراف (166-167) .
[13] / آل عمران (112).
[14] / الأنفال (27) .
[15] / الحج (38) .
[16] / سورة الروم (1-5) .
[17] / البخاري (6805)، ومسلم (1716) .
[18] / التوبة (71) .
[19] / مسلم (2586) .(/3)
الحرب النفسية بين المسلمين والمنافقين من خلال سورة التوبة
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، قال تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? [سورة : آل عمران- آية 102] ، قال تعالى : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً? [ سورة: النساء-آية 1 ] ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، وبعد:
ففي سورة التوبة بيانُ مسجلُ، لأقوى مواجهة بين المسلمين من طرف وبين أعدائهم من المنافقين، ومن يقف وراءهم من المشركين واليهود من طرف آخر، وصلت إلى ما نسميه اليوم بالحرب النفسية، استخدم كل طرف فيه أقوى وأفتك الوسائل، فمن سلاح الشائعات والإرجاف التي استخدمها المنافقون، إلى أسلحة التشكيك والكيد والتضليل وغيرها كثير، فيما واجههم القرآن بالفضح والتعرية، وغيرها من أساليب الحرب النفسية، وهو ما صورته سورة التوبة، وما علَمنا إياه القرآن الكريم، في كيفية التعامل إعلامياً مع أعدائه.
فكانت أقوى وأعظم مواجهة إعلاميه بين المسلمين من جهة وبين المنافقين من جهة أخرى، هذه السورة بالصوت كما أظهرت صورة شاملة، عن الإعلام الإسلامي.
أسباب اختيار الموضوع :
1- خدمة الإسلام والمسلمين، في ميدان من أعظم الميادين، وثغر من أهم الثغور اليوم.
2- قلة الكتابة في موضوع التأصيل الشرعي، للقضايا والجوانب الإعلامية.
3- خدمة كتاب الله الكريم، باستخراج بعض كنوزه القرآنية منه، ودراستها دراسة موضوعية، لإظهار عظمة وإعجاز هذا الكتاب العزيز، وشموله لكل جوانب الحياة.
4- إظهار وإبراز أقوى حرب نفسية بين معسكر اليمين حزب الله وبين تحالف الشمال ، المنافقين، المشركين، اليهود استخدام كل طرف فيه أفتك الوسائل، حتى قال الله تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ? [سورة : التوبة- آية 73 ] ، وفي المقابل أخرج المنافقون ثروتهم الموروثة عن تحالف الشمال، من يهود وغيرهم، والذين كان لهم باع كبير في الحرب النفسية، وذلك للاستفادة منه في هذه المعركة.
منهجية البحث :
قمت في هذا البحث، بدراسة استقرائية تحليلية، قامة على البحث والتقصي، في النصوص القرآنية, وأقوال المفسرين وأهل الاختصاص، وإعمال الفكر والنظر فيها، لاستنباط المفاهيم والدلالات المتعلقة بموضوع البحث من الآيات الدالة على تلك المفاهيم، دلالة مباشرة أو غير مباشرة، دون ليّ أو تحوير لهذه النصوص، حريصاً على الخروج بنتائج مرضية، وبشكل يتناسب مع أهمية البحث، الناتجة عن أهمية وعظمة القرآن الكريم موضوع البحث- فهي دراسة قرآنية أولا ثم دراسة لأسلوب من أساليب المنافقين ـ والذي أضفى بجلاله وعظمته أهمية على هذا البحث، فسعيت لأن يكون هذا الموضوع مفيداً، بقدر ما فيه من أهمية، متحرياً الدقة، ومتوخياً الموضوعية، مستخدماً العبارة الجزلة والمناسبة للموضوع ، من الناحية الشرعية وغيرها.
وكانت طريقتي في البحث وفق الخطوات التالية:
1- اختيار الموضوع المتعلق بالحرب النفسية الذي تناولته سورة التوبة مباشرة أو ألمحت إليه، والاستشهاد عليه بعد ذلك من الآيات المتعلقة به والواردة في السورة أولاً ثم الواردة في بعض السور الأخرى ثانياً.
2- الاستشهاد بالحوادث والمواقف في غزوة تبوك، والتي كانت سبباً لنزول الآيات، واستلهام بعض الدلالات الإعلامية، من هذه المواقف.
3- جمع كل ما يتعلق بالحرب النفسية في مطالب خاصة يتم تناول كل مطلب بشكل كامل، كما هو موضح في الفهرس.
4- عزو الكلام المقتبس، إلى قائله وإلى مراجعه الأصلية، ما استعطت إلى ذلك سبيلاً.
5- تخريج الآيات, والأحاديث، الواردة في هذه الدراسة، وفهرستها، وكذا ترجمة الأعلام، المذكورين في هذه الرسالة، وفهرستها.
وكانت الخطة التي سرت عليها كما يلي :
عنوان البحث : الحرب النفسية من خلال سورة التوبة.
المقدمة: وتشتمل على ما يلي:
- أهمية البحث وأسباب اختياري له.
- منهجية البحث.
المبحث الأول : سورة التوبة: ويشتمل هذا المبحث على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف لفظ سورة وذكر أسماء سورة التوبة.
المطلب الثاني: مناسبتها لما قبلها.
المطلب الثالث: أهدافها.(/1)
المبحث الثاني: من أساليب المنافقين الإعلامية الحرب النفسية.
المطلب الأول: تعريفات لغوية، واصطلاحية لمصطلحات: الحرب، الإرجاف ، النفسية.
المطلب الثاني: أهداف المنافقين من الحرب النفسية.
المطلب الثالث : أهمية الحرب النفسية وخطورتها.
المطلب الرابع: الأسس الإعلامية لمعالجة الحرب النفسية .
الخاتمة والتوصيات:
المبحث الأول
تعريف بسورة التوبة
المطلب الأول
أسماء سورة التوبة
الفرع الأول: تعريف السورة لغة
السورة هي : المنزلة ، والجمع سُوَرٌ ، وسُوْرٌ . والسُّور: الشرف والفضل والرفعة، قيل: ومنه سُمِّيَتْ سُورة القرآن. وسميت السورة بذلك: قيل لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة من الأخرى.
قال ابن سيدة : سميت السورة من القرآن سورة لأنها درجة إلى غيرها، ومن همزها جعلها بمعنى بقية من القرآن وقطعه ، وأكثر القراء على ترك الهمزة فيها.
وقيل: سميت سورة القرآن تشبيهاً بسورة المدينة، لكونها محيطة بآيات وأحكام إحاطة السور بالمدينة .
وسورة التوبة إحدى سور القرآن الكريم، وهي سورة مدنية، عدد آياتها: 127 وقيل 130, وهي مدنية باتفاق .
ترتيبها: السورة التاسعة في المصحف، نزلت في أواخر السنة التاسعة للهجرة وهي من أواخر ما نزل من القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فقد أخرج البخاري عن البراء بن عازب قال: "أن آخر سورة نزلت سورة براءة" ، يقول الدكتور شحاته: وقد عرفت سورة التوبة من العهد الأول للإسلام بجملة أسماء تدل بمجموعها على ما اشتملت عليه من المبادئ والمعاني التي تجب مراعاتها في معاملة الطوائف كلها مؤمنهم ومنافقهم، وكتابيهم ومشركهم .
الفرع الثاني: من أسماء هذه السورة:
1- سورة التوبة: وسميت بذلك لأن فيها التوبة على المؤمنين ، قال تعالى: ? لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ? [سورة التوبة: 117، 118 ] .
2- وتسمى الفاضحة، قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس- رضي الله عنه - عن سورة براءة فقال: تلك الفاضحة، ما زال ينزل: ومنهم حتى خفنا ألا تدع أحداً ، وسميت بالفاضحة لأن من افتضح كان أهلاً للبراءة منهم.
3- وكانت تسمى البحوث: لأنها تبحث عن أسرار المنافقين، ولأنه لا تبحث إلا عن حال البغيض.
4- وتسمى المبعثرة: والبعثرة: البحث، أخرج ابن المنذر عن ابن إسحاق قال: كانت براءة تسمى زمن النبي وبعده المبعثرة، لما كشفت من سرائر الناس، ولأنه لا يبحث إلا حال العدو.
5- وتسمى بالمقشقشة: لكونها تقشقش من النفاق: أي تبرئ منه، أخرج ابن مردويه عن زيد بن أسلم أن رجلاً قال لعبد الله بن عمر: سورة التوبة، فقال ابن عمر وأيتهن سورة التوبة؟ قال: براءة. فقال: وهل فعل بالناس الأفاعيل إلا هي؟ ما كنّا ندعوها إلا المقشقشة. وسميت بالمقشقشة لأنهم قالوا أن معناها المبرئة من النفاق، من تقشقشت قروحه إذا تقشرت للبرء، وتوجيه ذلك أن من عرف أن الله بريء منه ورسوله والمؤمنين لأمر فهو جدير بأن يرجع عن ذلك الأمر، قال أبو الحسن ابن عمر البقاعي : وعندي أيضاً أنه مضاعف القش الذي معناه الجمع، لأنها جمعت أصناف المنافقين وأحوالهم، ومادة قش، ومقلوبها: شق، ومضاعفهما: قشقش وشقشق تدور على الجمع وتلازمه الفرقة، فإنه لا يجتمع إلا ما كان مفرقاً ولا يفرق إلا ما كان مجتمعاً .
6- وتسمى بالمخزية: لكونها أخزت المنافقين.
7- وتسمى بالمثيرة: لكونها تثير أسرارهم.
8- وتسمى الحافرة: لكونها تحفر عنها.
9- وتسمى المنكلة: لما فيها من التنكيل للمنافقين.
10- وتسمى المدمدمة: لأنها تدمدم عليهم.
11-وتسمى سورة العذاب: فقد أخرج أبو عبيد وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه، عن حذيفة قال: يسمون هذه السورة سورة التوبة، وهي سورة العذاب وأخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود.
12-وتسمى المنقرة: أخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبيد بن عمير قال: كانت براءة تسمى المنقرة، نقرت عما في قلوب المشركين.
13-كما سميت بالمشردة: وهي عظيمة المناسبة مع قوله تعالى: فشرد بهم من خلفهم في سورة الأنفال.
14-وتسمى بسورة براءة: وهي تشير إلى غضب الله ورسوله على من أشرك بالله وجعل له نداً وشريكاً.
المطلب الثاني:
مناسبة سورة التوبة لما قبلها :(/2)
إن المتأمل في الآيات التي ختمت بها سورة الأنفال والآيات التي بدأت بها سورة التوبة يجد أن بينها مناسبة عظيمة جعلت بعض الصحابة يظنون أنهما سورة واحدة، وقد ذكر غير واحد من أهل الاختصاص بعض هذه المناسبات ومن ذلك أن مناسبة أولها لآخر الأنفال هو الدعوة إلى البراءة ممن يخشى نقضه للعهود.
قال أبو الحسن ابن عمر البقاعي: ولما كانت مناسبة أولها ـ الداعي إلى البراءة ممن يخشى نقضه للعهد – لآية الأنفال، وقدمت الأنفال مع قصرها على براءة مع طولها واشتباه أمرها على الصحابة في كونها سورة مستقلة أو بعض السورة، فكان ما ذكر من البراءة والتولي شرحاً لآخر الأنفال.
وقال السيوطي: صدر سورة براءة تفصيل لإجمال قوله في الأنفال: ?وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ? [الأنفال:58].
وآيات الأمر بالقتال متصلة بقوله تعالى: ?وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ? [الأنفال:60].
ثم بين السورتين تناسب من وجه آخر: وهو أنه سبحانه وتعالى تولى قسمة الغنائم في الأنفال وجعل خمسها خمسة أخماس، وفي براءة قسم الصدقات وجعلها لثمانية أصناف.
افتتاح السورة ببراءة:
قال أهل البيان: من البلاغة حسن الابتداء وهو أن يتأنق في أول الكلام لأنه أول ما يقرع السمع فإن كان محرراً أقبل السامع على الكلام ووعاه وإلا أعرض عنه ولو كان الباقي في نهاية الحسن، فينبغي أن يؤتى فيه بأعذب الألفاظ وأجزله وأرقه وأسلسه وأحسنه نظماً وسبكاً وأصحه معناً وأوضحه وأخلاه من التعقيد والتقديم والتأخير الملبس أو الذي لا يناسب.
وقد أتت جميع فواتح السور على أحسن الوجوه وأبلغها وأكملها كالتحميد وحروف الهجاء، والنداء وغير ذلك.
ومن الابتداء الحسن نوع أخص منه يسمى: براعة الاستهلال وهو: أن يشمل أول الكلام على ما ناسب الحال المتكلم فيه ويشير إلى ما سيق الكلام لأجله، وهو ما نراه جلياً في هذه السورة، كما نرى عنصري التشويق والإثارة التي تميز هذه السورة بترك البسملة، وبافتتاحها واستهلالها بإعلان براءة الله ورسوله من أهل الشرك.
وفي خواتم السور:
هي أيضاً مثل الفواتح في الحسن لأنها آخر ما يقرع الأسماع، فلهذا جاءت متضمنة للمعاني البديعة مع إيذان السامع بانتهاء الكلام حتى لا يبقى معه للنفوس تشوف إلى ما يذكر بعد، لأنها بين أدعية ووصايا وفرائض وتحميد وتهليل ومواعظ ووعد وعيد إلى غير ذلك وكوصف الرسول- - صلى الله عليه وآله وسلم - -ومدحه والتهليل الذي ختمت به براءة ?لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ?[التوبة:129،128].
المطلب الثالث :
أهداف سورة التوبة :
قال أبو الحسن بن عمر ألبقاعي: مقصودها معاداة من أعرض عما دعت إليه سورة الأنفال، من اتباع الداعي إلى الله في توحيده واتباع ما يرضيه، وموالاة من أقبل عليه، وأدل ما فيها على الإبلاغ في هذا المقصد قصة المخلفين، فإنهم ـ لاعترافهم بتخلفهم عن الداعي بغير عذر في غزوة تبوك ـ هجروا وأعرضوا عنهم بكل اعتبار حتى بالكلام، فذلك معنى تسميتها بالتوبة، وهو يدل على البراءة لأن البراءة منهم بهجرانهم حتى في رد السلام كان سبب التوبة، فهو من إطلاق المسبب على السبب.
وقد جاء في كتب السيّر أنه -- صلى الله عليه وآله وسلم - - خرج في السنة التاسعة لغزو الروم في غزوته المعروفة بغزوة تبوك.
كما خرج أبو بكر في أواخر سنة تسع على رأس وفد حجاج المسلمين إلى بيت الله الحرام، والذي كان تمهيداً لحج النبي- صلى الله عليه وسلم - في السنة التي تليها.
وقد كان للسورة بحكم هذين الحدثين العظيمين هدفان أصليان:
أحدهما: تحديد القانون الأساسي الذي شيدت عليه دولة الإسلام، وإعلان التصفية النهائية بين المسلمين ومشركي العرب.
ثانيهما: إظهار ما كانت عليه نفوس أتباع النبي- - صلى الله عليه وآله وسلم - - حينما استنفرهم ودعاهم إلى غزو الروم. وفي هذا الموضوع تحدثت السورة عن المتثاقلين منهم والمتخلفين والمثبطين، وكشف الغطاء عن فتن المنافقين، وما انطوت عليه قلوبهم من أحقاد، وما قاموا به من أساليب النفاق.(/3)
وبالجملة فإن هذه السورة قد تناولت المنافقين المندسين بين صفوف المسلمين والذين هم أشد خطراً من المشركين، ففضحتهم وكشفت أسرارهم ومخازيهم، وظلت تقذفهم بالحمم حتى لم تبق فيهم صفة ذميمة إلا ذكرتها ولا مرضاً إلا فضحته وبينت علاجه، وقد وصل بهم الكيد في التآمر على الإسلام إلى حد جعلهم يتخذون من بيوت الله أوكاراً للتخريب والفساد كما بين الله ذلك في حد جعلهم يتخذون من بيوت الله أوكاراً للتخريب والفساد كما بين الله ذلك في قصة مسجد الضرار فقال: ? وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ?[التوبة:107].
قال سيد قطب: ثم يجيء المقطع الرابع وهو يستغرق أكثر من نصف السورة في فضح المنافقين وأفاعيلهم في المجتمع المسلم، ووصف أحوالهم النفيسة والعملية، ومواقفهم في غزوة تبوك وقبلها وفي أثناءها وما تلاها، وكشف حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصف.. إلى أن قال: وهذه الحملة الطويلة تشير بما كان للمنافقين في هذه الفترة من محاولات كثيرة لإيذاء الصف المسلم وفتنته وشغله بشتى الفتن والدسائس والأكاذيب عن وجهته. كما أنها في الوقت ذاته تكشف حالة من الخلخلة وعدم التناسق في التكوين العضوي للمجتمع الإسلامي في هذه الفترة، يشير إليها قوله الله سبحانه وتعالى: ? وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ?[التوبة :47]، هذه الحالة التي نشأت عن دخول جماعات كثيرة في الإسلام بعد الفتح لم يكن الإيمان قد استقر في قلوبهم، ولا كانوا قد انطبعوا بالطابع الإسلامي الصحيح.
المبحث الثاني:
الحرب النفسية
المطلب الأول:
تعريف الحرب النفسية:
الحرب النفسية لفظ مركب من كلمتين حرب ـ نفسية وسنعرفه أولاً بمعناه اللفظي، ثم بمعناه أللقبي باعتباره لقباً لعلم معين.
أولاً: التعريف اللفظي: أ ـ معنى الحرب . الحرب : نقيض السلم.
نقيض السلم لشهرته ويعنون به القتال. والذي حققه السهيلي أن الحرب هو الترامي بالسهام ثم المطاعنة بالرماح ثم المجالدة بالسيوف ثم المعانقة والمصارعة إذا تزاحموا .
ومن الألفاظ اللغوية التي تدل على الحرب النفسية الإرجاف، قال تعالى: ? لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً? [الأحزاب:60].
والإرجاف: الرجفان: الاضطراب الشديد.
وأرجف: خفق واضطرب اضطراباً شديداً.
والراجفة الزلزلة رجفت الأرض إذا تزلزلت، ورجف القوم إذا تهيئوا للحرب. وقال الليث: أرجف القوم إذا خاضوا في الأخبار السيئة وذكر الفتن.
قال تعالى: ? وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ? وهم الذين يولدون الأخبار الكاذبة التي يكون معها اضطراب في الناس.
وقال الراغب: الإرجاف: إيقاع الرجفة إما بالقول وإما بالفعل.
ب ـ النفسية نسبة إلى النفس :
والنفس في كلام العرب على ضربين: أحدهما: الروح كقولك: خرجت نفس فلان، أي: روحه.
والثاني : فيه معنى جملة الشيء ، وحقيقته.
تقول: قتل فلان نفسه وأهلك نفسه أي أوقع الإهلاك بذاته كلها وحقيقته.
وتطلق على الغيب. ومنه قوله تعالى: ? تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ? [المائدة :116].
قال ابن خالويه: النفس : الروح. والنفس: ما يكون به التمييز.
قال إبن بري: أما النفس الروح والنفس ما يكون به التمييز فشاهدهما ?اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ? [ الزمر:42] فالنفس الأولى هي التي تزول بزوال الحياة والنفس الثانية التي تزول بزوال العقل.
ثانياً: التعريف اللقلبي الاصطلاحي للحرب النفسية:
نظراً لأن الحرب النفسية تعتبر أحد أركان الحرب الشاملة والتي عادة ما يعتمد عليها العسكريون ويتكئون عليها نجد أن أكثر التعريفات للحرب النفسية تعريفات عسكرية. ومن هذه التعريفات:
1- الحرب النفسية: حرب هجومية يخوضها جيش بأسلحة فكرية وعاطفية من أجل تحطيم المقاومة المعنوية في جيش العدو وفي السكان المدنيين، وتخاض هذه الحرب للتقليل من نفوذ العدو في أعين الدول المحايدة.
2- الحرب النفسية هي: الكلمات والأفعال التي توهن من تصميم العدو على القتال بإضعاف روحه المعنوية.
3- وعرفها الجنرال مارك كلارك بقوله: يتضمن التعبير الواسع -الحرب النفسية- أي عمل من شأنه أن يجبر العدو على أن يحول رجاله وعتاده من الجبهة النشطة، وتجعله يقيد رجاله وأسلحته استعداداً لصد هجوم لن يأتي.(/4)
4- التعريف الذي تجمع عليه القوات العسكرية الأمريكية: الحرب النفسية: هي استخدام أي وسيلة بقصد التأثير على الروح المعنوية وعلى سلوك أي جماعة لغرض عسكري معين.
5- أصدر الجيش الأمريكي معجماً عرف فيه الحرب النفسية بأنها: هي استخدام مخطط من جانب الدولة في وقت الحرب أو في وقت الطوارئ لإجراءات دعائية، بقصد التأثير على آراء وعواطف ومواقف وسلوك جماعات أجنبية عدائية أو محايدة أو صديقة، بطريقة تعين على تحقيق سياسة الدولة وأهدافه(.
6- ثم أصدرت وزارة الحرب طبعة جديدة للمعجم أظهرت فيه بعض التغييرات في التعريف فكان كالتالي:
الحرب النفسية: هي استخدام مخطط من جانب دولة أو مجموعة من الدول للدعاية وغيرها من الإجراءات الإعلامية الموجهة، إلى جماعات عدائية أو محايدة أو صديقة، للتأثير على آرائها وعواطفها ومواقفها وسلوكها، بطريقة تعين على تحقيق سياسة وأهداف الدولة المستخدمة أو الدول المستخدمة.
7- الحرب النفسية: هي الاستخدام المخطط للدعاية أو ما ينتمي إليها من الإجراءات الموجهة إلى الدول المعادية المحايدة أو الصديقة، بهدف التأثير على عواطف وأفكار وسلوك شعوب هذه الدول، بما يحقق للدولة ـ التي توجهها ـ أهدافها.
والذي يظهر من التعريفات السابقة أن هذه التعريفات لا تنطبق على حقيقة الحرب النفسية الإستراتيجية وإنما هي خاصة بالحرب النفسية التكتيكية التي يستخدمها العسكريون قبل وأثناء الحرب.
تعريفي للحرب النفسية:
ومن خلال قراءاتي لموضوع الحرب النفسية، فقد أمكن لي تعريفها بأنها: حرب هجومية دفاعية شاملة، ترتكز على أقوال وأفعال، بغرض السيطرة على عقل الإنسان وذاته، وشل فكره وإرادته.
وإن كنت لا أدعي أنه تعريف جامع مانع إلا أنه أقرب التعاريف للحرب النفسية من وجهة نظري، فقد بينت في هذا التعريف طبيعة هذه الحرب ووسائلها وأهدافها وأثرها، فطبيعة هذه الحرب هجومية ودفاعية في آن واحد.
هجومية: بتوجيهها نحو الخصم وتحطيم معنوياته وتفنيد دعواه وإفشال مخططاته.
ودفاعية: بتوجيهها نحو الأنصار والأتباع لتحصين الجبهة الداخلية، المستهدفة بنشاط الخصوم. وإن كنا هنا لا نسميها حرباً إلا مجازاًً.
كما أنها هجومية دفاعية من ناحية أخرى، بأنها تشغل الخصم وتربكه بالرد وبتحصين جبهته عن توجيه حربه وتنفيذ خططه الهجومية فتبقيه دائماً في حالة دفاعية، تعتمد سياستها على ردود الأفعال. وهو ما يسميه الإعلامية والسياسيون بالهجوم الدفاعي. ولا تخفى فائدة ذلك على أحد بما يحدثه أسلوب الدفاع من نصر للمهاجم، الذي حصن أتباعه وشغل خصمه عن توجيه الرسائل لأفراده.
شاملة: وهي حرب شاملة لأنها لا تعرف حدود الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، فهي مستمرة في زمن السلم والحرب تشمل وتتوجه إلى جبهات القتال، والمواقع الساخنة. كما تشمل المواقع الخلفية والبعيدة عن خط النار والمواجهة تستهدف القيادات والأفراد والجماعات، والمبادئ والأفكار والمعتقدات.
وأما وسائلها وسلاحها: فالقول والفعل، وذلك لأنها حربّ معنوية فأسلحتها معنوية كذلك أثرها معنوي:
وقد ذكرنا أن من أسلحتها الفعل، وإن كان الغالب في أسلحتها هو القول. لكن الفعل قد يكون أيضاً حرباً نفسية ومن كذلك ما مارسه النبي- صلى الله عليه وسلم- في مواقف كثيرة منها:
1- الاستعراض الرياضي في عمرة القضاء، وبيان قوة المسلمين للرد على الشائعات التي أطلقها مشركوا قريش، وعن ضعف المسلمين وإنهاك حمى يثرب لهم. فعن ابن عباس قال: إنما سعى رسول الله بالبيت ليري المشركين قوته وسنتحدث عنها بالتفصيل لاحقاً في مبحث الشائعات إن شاء الله.
2- الاستعراض العسكري أمام ـ القيادة العسكرية العليا لمعسكر الشرك ـ أبي سفيان قبيل فتح مكة، وكذا الاستعراض في الدخول إليها من جهات مختلفة وفق خطة عسكرية محكمة، كان لها تأثيرها النفسي قبل التأثير العسكري في القضاء على نفسية الأعداء.
ومن الحرب النفسية القائمة على الفعل: ما فعله المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أبي يوم أحد عندما رجع بثلث الجيش. وما أحدثه هذا الفعل من هزة نفيسة أربكت الجيش الإسلامي، وكادت أن تعصف ببعض أركانه وكتائبه.
وفي ذلك يقول تعالى: ? إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ?[ آل عمران:122] والقصة في ذلك معروفة وموافق المنافقين الفعلية في حربهم النفسية مع المسلمين كثيرة.
وإنما أردنا هنا أن نؤكد على أن الحرب النفسية كما تكون بالقول والشائعات والإرجاف تكون أيضاً بالفعل.
كما بين التعريف هدف الحرب النفسية وخطورتها وأثرها. بيان استهدافها لذاتية الإنسان وكينونته، وما يحمله من مبادئ وقيم ومشاعر وعواطف وأحاسيس ولعقله وما يحلمه من أفكار ومعتقدات. فبسيطرة العدو على عقل الإنسان وفكره ومعتقداته تمت سيطرته على كل شيء.(/5)
وبهذا التعريف يظهر التطابق أكثر بين معنى الإصطلاحي ـ الذي ذكرته ـ والمعنى اللغوي للحرب النفسية. فالحرب النفيسة حرب شاملة وقوية وأسلحتها فتاكة، وخطرها عظيم، وتأثيرها كبير. ولا تختلف عن الحرب العسكرية إلا في نوعية السلاح فالأسلحة في الحرب العسكرية مادية، بينما هي في الحرب النفسية معنوية، يتراشق فيها الخصوم بالتهم ويتضاربون بالشائعات ويتجالدون بالكلمات.
وتظهر خطورة الحرب النفسية في كونها تستهدف روح الإنسان وذاته وحقيقته بخلاف العسكرية التي تستهدف جسده أو جزءً منه.
فانطباق معناها على اللفظ اللغوي انطباق كامل. لشموخ لفظها لروح الإنسان وعقله وذاته، وكذلك لأساليبها الخفية. وبالنظر إلى مطابقة اللفظ للمعنى فقد سميت بأسماء مختلفة كلها تدل على المعاني السابقة.
فسميت الحرب بالباردة، وحرب الأعصاب، وحرب الشائعات، حرب الأفكار، حرب الإرادات، حرب الدعاية، الحرب النفسية، الحرب المعنوية.
وخلاصة التعريف:
أن الحرب النفسيه أعم وأشمل من أي حرب أخرى. لأن هدفها ذات الإنسان وعقله وفكره و عقيدته، والأمة كالفرد ينطبق عليها ما ينطبق عليه، والانتصار يبتدئ من العقل والروح والإرداة والنفس، والانكسار يبتدئ منها كذلك.
وما الحرب الاقتصادية والعسكرية إلا وسائل لتحقيق أهداف الحرب النفسية الاستراتيجية.
يقول صلاح نصر: وقد يستخدم في الحرب النفسية الاستراتيجية أكثر من أي عنصر من عناصر الحرب، فإلى جانب الدعاية والحرب الباردة قد تلجأ الدولة إلى استخدام الحرب الاقتصادية وأحياناً الحرب العسكرية.
وعليه فيمكن القول أن الحرب النفسية هي هدف ووسيلة في آن واحد. فهي هدف إستراتيجي للعدو، يتمثل في رغبته في السيطرة التامة على الإنسان. وله وسائل لتحقيق هذا الهدف منها: الإعلام والسياسية والاقتصاد والجيش وغيرها. كما أن كل من هذه الوسائل تستخدم الحرب النفسية في تحقيق مراميها. فالساسة والإعلاميون والعسكريون كل واحد منهم يستخدم الحرب النفسية لتحقيق أغراضه وأهدافه. وذلك لقدرة الحرب النفسية بأساليبها ووسائلها المختلفة على إحداث التأثير وتشكيل الآراء والقناعات المناسبة، وتكوين الاستجابات المطلوبة، بطريقة لا تثير المقاومة، وبكلفة أقل وجهدٍ أبسط.
المطلب الثاني
أهداف المنافقين من الحرب النفسية:
مارس المنافقون في حربهم مع المسلمين الحرب النفسية لما لها من خطورة، ذلك لتحقيق جملة من الأهداف، نذكر منها مايلي:
1. زعزعة إيمان المؤمنين: ذلك من خلال تشكيكهم برسالة سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم - من أساسه. ولهم في ذلك موافق كثيرة منها ما جاء في سورة الأحزاب قال تعالى:? وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ?. [الأحزاب12:]
وذلك أن طعمه بن أبيرق وابن قشير وجماعة نحو من سبعين رجلاً قالوا يوم الخندق: كيف يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحدنا أن يتبرز.
وجاء في الكشاف: أن معتب بن قشير قال حين رأى الأحزاب: يعدنا محمد فتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقاً أي: خوفاً.
كما قالوا: ? وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً ?[ الأحزاب:13]. جاء في أحد المعنيين في تفسير هذه الآية: أي فارجعوا عن الإسلام كفاراً ليمكنكم المقام واستلموا محمداً وإلا فليست يثرب لكم بمكان.
كما أنهم قد حاولوا التشكيك برسالة الرسول- صلى الله عليه وسلم- مرة ثانية في غزوة تبوك، حين ضلت ناقة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأنه يخبركم بخير اللصيت وهو رجل من المنافقين: إن محمداً يزعم أنه نبي وأنه يخبركم بخبر السماء وهو لا يدري أين ناقته!! ولكن الله عز وجل رد على ذلك وجعل كيدهم في نحورهم حيث كشف الأمر للنبي- صلى الله عليه وسلم - فقال - صلى الله عليه وسلم - : إن رجلاً يقول كذا وكذا وإني والله لا أعلم ألا ما علمني الله وقد دلني عليها. إنها في شعب كذا، وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوني بها. فذهبوا ووجدوها كما قال عليه السلام فجاءوا بها
ومن تشكيكهم أيضاً برسالة سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم - وصدق نبوته قولا سويد بن الصامت ووديعة بن ثابت: والله لئن كان محمد صادقاً على إخواننا الذين هم سادتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير.
وقد تصدى له عامر بن قيس فقال: أجل والله إن محمداً الصادق مصدق وإنك لشر من حمار وأخبر- النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل: بل سمعه ولد امرأته وأسمه عمير بن سعد فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك.(/6)
والملاحظة في هذه المواقف المتتابعة في هذا الغزوة أن من واجه هذا التشكيك، ووقف في وجهه بقوة هم الصحابة أنفسهم قبل النبي- صلى الله عليه وسلم - فقد كانت الخبر يصل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - مع تفصيل موثق، وردود الفعل التي واجهت تلك الحملة. وهذا يدل على مدى الفهم الدقيق الذي وصل إليه الجندي المسلم، لطبيعة الخصم، ومعرفة سلاحه وأساليبه في الحرب النفسية، التي يشنها على الإسلام والمسلين وقيادتهم. كما عرف أساليب الرد وكيفية المواجهة لهذا العدو، وغم بساطة هذا الجندي أحياناً وصغر سنه أحياناً أخرى. كما يدل على عمق التربية التي تلقاها الصحابة على يد النبي- صلى الله عليه وسلم - من خلال رؤيتنا لإيمانهم العيمق بصدق رسالته. فكان إيمانهم كالجبال تتحطم عليها تلك الشبهات وحملات الحرب النفسية، وتعود صفعات في وجوه مروجيها، والقائمين عليها.
ومن هذا كله فقد عالج القرآن كل من مرحلة من مراحل الحرب النفسية وكل حملة من حملات التشكيك أولاً بأول في سورة التوبة تثبيتاً للمؤمنين ?وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ? [ التوبة:124] وبأساليب متعددة محدودة.
كما كان تشكيكهم في غزوة تبوك أيضاً بمعجزاته. فقد ذكر
أن محمود بن لبيد قال: أخبرني رجال من قومي عن رجل من المنافقين معروف نفاقه، كان يسير مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حيث سار، فلما كان من أمر الناس بالحجر ما كان، ودعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حين دعا فأرسل الله السحابة، فأمطرت حتى ارتوى الناس. قالوا أقبلنا عليه نقول: ويحك، هل بعد هذا شيء؟ قال: سحابة مارة".
2- بث اليأس من النصر في نفوس الجيش الإسلامي، وزعزعة الثقة في قوته من كافة الجوانب.
وذلك بعدة طرق منها:
أ0 إثارة الرعب: وذلك بالمبالغة في وصف قوة الأعداء الروم وكثرة عددهم وعدتهم وقوة بأسهم وتضخيم قدراتهم القتالية.
قال ابن إسحاق: وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير يسيرون مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال. إرجافاً وترهيباً للمؤمنين.
وفي رواية الطبري عن قتادة أنهم قالوا: أنظروا، هذا يفتح قصور الشام ويأخذ حصون بني الأصفر.
وقال الرازي أنهم قالوا: أتراه يظهر على الشام ويأخذ حصونها وقصورها هيهات هيهات.
قال الدكتور نهيم الدردساوي: وقد عمل المنافقون بكل ما أوتوا من قوة لتحطيم معنويات الجيش الإسلامي. ووضعوا لذلك خطط وبرامج منها: تشكيك الجماهير بقيادتها السياسية وتشكيك الجماهير في قدراتها المسلحة على مواجهة عدوها.
ب0 النصح بترك المواجهة نظراً لعدم توفر الأجواء الطبيعية والمناخية المناسبة والمساعدة على النصر.
ومن ذلك قولهم: لا تنفروا في الحر قال تعالى: ?فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ? [التوبة:81]. فصورا للخارجين صعوبة القتال في هذا المناخ وهذا الفصل من السنة، مع وجود المشقة الحاصلة في السفر، وكذا عدم الرغبة في الخروج لتعلق قلوبهم بالزرع والثمار، ليلفتوا أنظار الجنود إليها وهذا مما يضعف الهمم عند الجنود ويقتل العزائم. فأظهروا النصح بعدم الخروج لهذه الأسباب، وهي في الحقيقة وسائل نفسية خبيثة غير مباشرة.
وقد رد الله عليهم بنفس مبررهم الذي انطلقوا منه للتخذيل فقال: ? قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ? فإذا كان المبرر في ترك الخروج هو شدة الحر، فأخبرهم يا محمد أن نار جهنم أشد حراً. وفي هذا لفت نظر لمن كان قد أصابه غباراً أو دخان شبهات المنافقين فهم بالقعود إلى خطورة صنيعه وعاقبة أمره، فإذا كان حرصه على القعود ناتج عن خوفه من حر الشمس والرمضاء فلا شك أنه سيكون أشد حرصاً على الخروج إذا ما قارن حر الصيف الشمس بحر نار جهنم.
03 بث الفرقة والشقاق بين صفوف المجتمع الإسلامي، لأضعافه وإحداث ثغرات في جبهته الداخلية عن طريق:
أ0 الدس والوقيعة.
قال تعالى: ? لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ? [التوبة:47] .
وقال القرطبي: الخبال: الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف. والمعنى: أي ما زادوكم قوة ولكن طلبوا الخبال.(/7)
قال الزاري: والخبال: الشر والفساد من كل شيء. ومنه سمي العته بالخبل. والمعنى ما زادكم إلا شراً. وقيل: إلا مكراً. وقيل: إلا غياً. وقال الضحاك: إلا غدراً.
وقيل الخبال: الاضطراب في الرأي. وذلك بتزيين أمر القوم وتقبيحه لقوم آخرين، ليختلقوا وتفترق كلمتهم.
والمراد من الآية: حرصهم على السعي بين المسلمين بالتخريب والنميمة، يبغون لهم الفتنة باختلافهم فاختلاف الرأي هو من أعظم الأمور التي يجب الاحتراز عنها، لا سيما عند الحرب، لأن حصول الاختلاف في الرأي يسبب الهزيمة والانكسار. قال تعالى. ?واْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاوَأَطِيعُصْبِرُواْ إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ ?[ الأنفال:46]
ومع حرص المنافقين على بث القرفة ووجود الاختلاف في الصف الإسلامي فقد كانوا أشد حرصاً على إشاعة النميمة إمعاناً في الإفساد و التفريق.
ب0 العمل على تكوين الجيوب الداخلية والخلايا السرية. للاستفادة منهم وقت الحاجة، ولتنفيذ مخططات المنافقين ـ من قبل الخلايا المتأثرة
بشخصيات المنافقين ـ بسهولة ويسر. وذلك أن المروجين وأصحاب المقترحات في الظاهرهم من عامة المسلمين ممن لم يعرفوا بالنفاق وذلك إلى قبول آرائهم ومقترحاتهم وأقوال وأفعال، وإن كانت تحمل في طياتهم الإضرار بالمسلمين، إعمالاً لحسن لظن بهؤلاء الذين لم يعرفوا بعد النفاق. قال تعالى: ? وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ? جاء في أحد التفسيرين للآية عند القرطبي: وكان المنافقون أشرافاً في قومهم فثبطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده، وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم. فقال: ? وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ? والمعنى: وفيكم أهل سمع وطاعة لو صحبوكم أفسدوهم عليكم بتثبيطهم إياهم عن السير معكم.
ونقل الرازي قول قتادة: وفيكم من يقبل منهم قولهم ويطيعهم، فإذا ألقوا إليهم أنواعاً من الكلمات الموجبة لضعف القلب، قبلوها ففتروا بسببها عن القيام بأمر الجهاد كما ينبغي.
ويقول سيد قطب: وهذه الحملة الطويلة الكاشفة تشي بما كان للمنافقين في هذه الفترة من محاولات كثيرة لإيذاء الصف المسلم وفتنته وشغله بشتى الفتن والدسائس والأكاذيب عن وجهته. كما أنها في الوقت ذاته تكشف عن حالة في الخلخلة وعدم التناسق في التكوين العضوي للمجتمع الإسلامي في هذه الفترة، يشير إليها قول الله سبحانه: : ? وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ. ?
وعمل المنافقون على تشكيل هذه الجيوب من ضعاف الإيمان المتأثرة إما بشخصيات المنافقين أو بأفكارهم. كما قال تعالى:? وَإِذَارَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ? [المنافقون:4].أو من حديثي العهد بالإسلام ممن لم يخالط الإيمان بشاشة حال غفلة إيمانية من هؤلاء الصحابة وغياب وعي وإدراك لما يخطط لهم، عن طريق استثارة حميتهم الجاهلية، التي قد تطفوا على السطح، كما حدث في غزوة بني المصطلق عند المريسيع، عندما كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين.
فقد أستغل ابن أبي هذا الموقف ـ وهو وما يسمى في اصطلاح الإعلاميين بتوظيف الحدث ـ فباشر حملة حرب نفسية ضد النبي والمهاجرين، لبث الفرقة وإحداث الشقاق في الصف الإسلامي ، باسم العصبية القبلية.
وإن كان يحصل عند بعض الصحابة نوع من التجاوب مع هذه الحوادث فما ذلك إلا لبيان بشريتهم وعدم عصمة أحد غير النبي- صلى الله عليه وسلم - وإن كان من كبار الصحابة.
كما أهتم المنافقون في هذا المجال بتنمية وتقوية روابط العصبية القبلية وتغذيتها كجزء من الحرب النفيسة ضد القيادة الإسلامية، العمل على ادخارها وتخزينها كقنابل موقوتة يستخدمونها عند الحاجة وفي الظرف المناسب، لإحداث الفرقة والشقاق في الصف الإسلامي وإعلان التمرد.
وللعمل على الاستفادة منها بشكل مباشر في حماية شخصياتهم بعد مباشرتها حملات الحرب النفسية، باعتبارها ملاذاً آمناً وركناً شديداً يأوون إليه. يدل على ذلك ما حدث بعد غزوة بني المصطلق حين تولى إبن أبي كبر الإفك. قال ابن هشام: فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فاستعذر. يومئذ من عبد الله بن أبي بن سلول فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: يامعشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً.. فقام سعد بن معاذ . الأنصاري فقال : يا رسول الله أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.(/8)
فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ـ وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية ـ فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ ـ سيد الأوس ، فقال لسعد بن عبادة لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتشاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا أو سكت.
فاستفاد ابن أبي في قبيلته ـ الخزرج ومن حميتهم- ولولا معرفة الصحابة بحقيقة سعد بن عبادة وبقوة إيمانه وصدق إخلاصه لدينه وولائه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصدقوا مقولة أسيد بن حضير فيه بأنه منافق يجادل عن المنافقين .
يقول الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: ? وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ?.. قال: فإن قلت: كيف يجوز ذلك على المؤمنين مع قوة إيمانهم ونيتهم في الجهاد؟ قلنا: لا يمتنع فيمن قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين، ولا فيهم، ولا يمتنع أن يكون بعض المسلمين أقارب رؤساء المنافقين فينظرون إليهم بعين الإجلال والتعظيم، فلذا السبب يؤثر هؤلاء الأكابر من المنافقين فيهم ولا يسعى في الأرض بالفساد، ثم أن الفريق الثاني من المنافقين يحملونهم على السعي بالفساد بسبب إلقاء الشبهات والأراجيف إليهم.
وأرجع سيد قطب سبب هذه الحالة إلى دخول جماعات كثيرة متنوعة من الناس في الإسلام بعد الفتح لم تتم تربيتها ولم تنطبع بعد بالطابع الإسلامي الأصيل.
وإن كان زعماء المنافقين يعتمدون بالدرجة الأولى على ضعاف الإيمان، وضعاف الشخصيات الذين يستخف بهم هؤلاء الزعماء فيطيعونهم. وفي هذا يقول براون مؤكداً على ذلك: إن الدعاية لا تنجح عموماً إلا حينما توجه إلى أفراد يرغبون بالاستماع إليها ويهضمون المعلومات المقدمة إليهم ويعملون بمقتضاه(.
4- العمل على إحداث فجوة عميقة وشرخ كبير في العلاقة الحسنة فيما بين القيادة الإسلامية وبين الجماهير، والعمل على زعزعة الثقة المتبادلة.
بمحاولة إشعار القيادة بعدم وجود الولاء الكامل لها عند الجماهير، وأن من الجماهير و الاتباع من يعمل للقضاء على هذه القيادة.
وكذا السعي لإقناع الجماهير بضعف تمثيل هذا القيادة لها وبعدم شرعيتها وذلك بعدم تمثيلها للجماهير التمثيل الصحيح الذي يراعي مصالحها ويلبي احتياجاتها.
يدل على الموقف الأول: ما قام به المنافقون من محاولة اغتيال فاشلة للقيادة العليا ـ ممثلة بشخص النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ وفي غزوة تبوك قال تعالى: ?يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ....?[التوبة:74].
قال المفسرون: وهموا بما لم ينالوا يعني: المنافقين من قتل النبي ليلة العقبة في غزوة تبوك وكانوا أثنى عشر رجلاً.
وقال الرازي: المراد أطباقهم على الفتك بالرسول- صلى الله عليه وسلم - والله تعالى أخبر رسوله بذلك حتى أحترز عنهم ولم يصلوا إلى مقصودهم.
وقد ذكر ابن القيم عن أبي الأسود عن عروة قال: ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قافلاً من تبوك إلى المدينة، حتى إذا كان ببعض الطريق، مكر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - - ناس من المنافقين، فتأمروا أن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق، فلما بلغوا العقبة، أرادوا أن يسلكوها معه، فلما غشيهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أخبر خبرهم فقال: من شاء منك أن يأخذ ببطن الوادي، فإنه أوسع لكم وأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - العقبة، وأخذ الناس ببطن الوادي إلا النفر الذين هموا بالمكر برسول الله -- صلى الله عليه وسلم - - لما سمعوا بذلك استعدوا وتلثموا، وقد هموا بأمر عظيم، وأمر رسول الله -- صلى الله عليه وسلم - - حذيفة بن اليمان وعمار ين ياسر، فمشيا معه فبينما هم يسيرون، إذا سمعوا وكزة القوم من ورائهم، وأبصر حذيقة غضب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فرجع محجن واستقبل وجوه رواحلهم فضربها ضرباً بالمحجن، وأبصر القوم وهم ملثمون، ولا يشعر إلا أن ذلك فعل المسافر، فأرعبهم الله حين أبصروا خديفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه، فأسرعوا حتى خالطوا الناس.(/9)
وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله -- صلى الله عليه وسلم - - فلما أدركه، قال: اضرب الراحلة ياحذيفة، وأمشي أنت ياعمار فأسرعوا حتى أستووا بأعلاها، فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس، فقال الني- صلى الله عليه وسلم - لحديفة: هل عرفت من هؤلاء الرهط أو الركب أحد؟ قال حذيفة : عرفت راحلة فلان وفلان، وقال: كانت ظلمة الليل وغشيته وهم متلثمون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل علمتم ما كان شأن الركب وما أردوا؟ قالوا: لا والله يا رسول الله، قال: فإنهم مكروا ليسيروا معي، حتى إذا طلعت في العقبة طرحوني منها، وقالوا: أولا تأمر بهم يا رسول الله إذا فنضرب أعناقهم، قال: اكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمداً قد وضع يده في ،أصحابه، فسماهم لهما، وقال: أكتماهم.
وأما محاولتهم زعزعة ثقة الجماهير بالقيادة فباشاعتهم وحديثهم عن الضعف تمثيل القيادة للجماهير، وعدم حرصها على مصحلتهم ورعايتهم. ويدل على ذلك محاولتهم الإثارة في صفوف شباب الأنصار الذين وجدوا في أنفسهم، بعد ما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -غنائم حنين. فقد أخرج ابن إسحاق والإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري، قال: لما أعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطي من تلك الغنائم في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت القالة، حتى قائلهم: لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه.
وفي رواية: قال ناس من الأنصار: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، والله إن هذا لهو العجب، وإذا كانت شديدة ندعى وتعطى لغيرنا، ووددنا أن نعلم ممن كان هذا؟ فإن كان من الله صبرنا، وإن كان من رأيه - صلى الله عليه وسلم - استعتبناه.
وفي حديث أبي سعيد عند احمد وابن إسحاق: قال رجل من الأنصار: لقد كنت أحدثكم من لو استقامت الأمور، لقد أثر عليكم غيركم، فردوا عليه رداً عنيفاً.
يقول محمد الصادق عرجون: وعندنا أن هذا الرجل لم يحسن أن يتكلم بكلمة الإيمان المهذب، ولا ندري إذا صحت الرواية هل كان ممن آمن ولم يرسخ الإيمان في قلبه، فغلبت عليه عنجهيتة الجاهلية، فقال ما قال؟
ومن ثم فقد عنف في الرد عليه المؤمنون الصادقون، أو كان ممن في قلبه مرض، فتلكم بأسلوب مرضى القلوب.
والوقائع المتكررة تظهر بصمات المنافقين على هذا الحديث، وترجح حقيقية وتصنيف الرجل. ذلك أنهم يستغلون الفرص ويوظفون الحدث لما يخدم فكرتهم. ومما يؤكد ما ذهبنا إليه قوله: لقد كنت أحدثكم أنه لو استقامت الأمور.
فقد سبق منه الإرجاف وبشكل متكرر، وهذا ليس بفعل المؤمن. وهذا الرجل يكرر هذا الموقف ليؤكد شناعة فعله وقوله.
قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ?[آل عمران:118] فالمنافق مهما تستر فإنه يظهر في كلامه ما يدل على مكنونات قلبه.
يقول الرازي في تفسير قولة تعالى: ? قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ? إنه لا بد من المنافق من أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه ومفارقته لطريق المخالصة في الود والنصيحة، ونظيره قوله تعالى: ?وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ?[محمد:30] .
5- العمل على إيقاف نشر الدعوة والزحف الإسلامي، بمحاولة القضاء على وذروة سنام الإسلام ـ الجهاد ـ أو تحجيمة، وذلك من خلال:
أ- التواصي بعدم الخروج للجهاد، وترك الإعداد له.
قال تعالى: ?فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ? [التوبة:81 ]
فهؤلاء المنافقون والمتخلفون لم يكتفوا بتخلفهم وإظهار فرحهم بهذا التخلف وكذ كراهيتهم للجهاد، بل دعوا غيرهم إلى عدم الخروج، بحجة عدم توفر الظرف المناسب للغزو كما سبق وأن بينا.
قال الرزاي: وأعلم أن الفرح بالإقامة يدل على كراهة الذهاب.
وأما عن تركهم الإعداد فقد قال تعالى: ?وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ?[التوبة:46] قال ابن عباس: عدة من الزاد والماء والراحلة، لأن سفرهم بعيد في زمان حرٍ شديد، وفي تركهم العدة دليل على أنهم أرادوا التخلف، فلوا أرادوا الجهاد لتأهبوا أهبة السفر.(/10)
وكانوا قد قالوا: أن لم يؤذن لنا في الجلوس أفسدنا وحرضنا المؤمنين، وقيل أن قوله ?وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ?[التوبة:46] أنه من قول بعضهم لبعض، وقيل: هو من قول النبي- صلى الله عليه وسلم - قاله غضباً، فأخذوا بظاهر لفظه، وقالوا: قد أذن لنا.
وقال الرازي: ومما يؤكد تخلقهم بهذا الخلق الذميم وسلوكهم هذا المسلك القذر وقوله تعالى: ? الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ? [التوبة:67]فلفظ المعروف هنا عام يدخل فيه كل حسن، ويدخل فيه ترك الإنفاق في الجهاد، ونبه على تخلفهم عن الجهاد.
وقال محمد رشيد رضا: ومن المعروف الذي ينهون عنه الجهاد وبذل المال في سبيل الله للقتال وغير القتال.
بـ ـ طلب الإذن في التخلف: لأن هذا الطلب في حد ذاته يشجع ويجرئ الكثير ممن في قلبه مرض أو ضعف إيمان على الاعتذار بالأعذار الواهية، طمعاً في التخلف وكراهية في الخروج. وهذا مكر آخر من مكر المنافقين وأسلوب من أساليب التنشيط والتخذيل. قال تعالى: ?إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ? [لتوبة:45 ].
فلا يستأذن في التخلف عن مواطن الجهاد وما شابهها إلا المنافقون فليس من عادة المؤمنين التخلف عنه - صلى الله عليه وسلم - .
قال الزمخشري: والذين أستاذنوا في التخلف عن غزوة تبوك، كانوا من المنافقين وكان عددهم تسعةً وثلاثين.
ومن الأعذار الواهية التي قدامها بعضهم لرسول الله- صلى الله عليه وسلم - ما ذكره الله وتعالى، مبيناً قبحها: ? وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ? [ التوبة:49] إي: ائذن لي في القعود ولا تفتني ولا توقعني في الفتنة وفي الإثم، بأن لا تأذن لي، فإني أن تخلفت بغير إذنك أثمت.
وهذا العذر قاله الجد بن قيس، حينما طلب منه الرسول صلى الله -صلى الله عليه وسلم- الاستعداد للخروج فقال: قد عرف قومي أني مغرم بالنساء، وأني أخشى إن رأيت النساء نساء بني الأصفر لا أصبر عنهن، فلا تفتني وأذن لي في القعود. فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: قد أذنت لك.
وقال تعالى أيضاً مبينا كراهيتهم وتخوفهم من الجهاد: ?وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ? [التوبة: 86] وقال الرازي: واعلم أنه تعالى قد بين في الآيات المتقدمة أن المنافقين احتالوا في رخصة التخلف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقعود على الغزو، وفي هذه الآية زاد دقيقة أخرى، وهي أنه متى نزلت آية مشتملة على الأمر بالإيمان وعلى الأمر بالجهاد مع الرسول، إستأذن أولو الثروة والقدرة منهم من التخلف عن الغزو، وقالوا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم - ذرنا نكن مع القاعدين: أي مع الضعفاء من الناس والساكنين في البلد.
ووصفهم بأولي الطول: لبيان أن الذم لهم ألزم لأجل كونهم قادرين على السفر والجهاد.
ومع أنهم من أولي الطول: وهم الزعماء والرؤساء والكبراء وأهل السعة في المال لم يخجلوا من الاعتذار وإبداء المبررات الهزيلة، فمن دونهم من أهل النفاق أكثر حرصاً على الاعتذار والتهرب لأن عندهم من المسوغات والمبررات ما ليس عند أولي الطول.
ومبالغة في أحداث الهزة النفيسة العنيفة في صفوف الجيش الإسلامي فقد أخر المعذرون من الأعراب اعتذاراتهم إلى قبيل سفره، عند خروجه بعسكره إلى ثنية الوداع، قال ابن سعد: وهم اثنان وثمانون رجلاً.
ج ـ الخروج مع الجيش ثم العودة بجزء منه بقصد إغراء وتحريض الخارجين للجهاد على العودة، وهز وتحطيم معنويات العازمين على الخروج.
قال ابن سعد: فلما خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ضرب عسكره ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبي ومن معه على جده عسكره أسفل منه، نحو ذباب، وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين، فلما سار رسول الله تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب.
وهذا الفعل ليس بغريب عليهم، فقد سبق أن فعلوه في غزوة أحد كما هو معلوم.
المطلب الثالث :
أهمية الحرب النفسية وخطورتها:
الحرب النفسية والشائعات من أعظم الأساليب الإعلامية خطراً وأقواها تأثيراً، ولذا عدت الحرب النفسية من أسحلة الحرب الرئيسية، حتى ليقال عنها أنها السلاح الرابع إلى جانب الجيش والبحرية والطيران.
يقول الدكتور إمام: كما أنها تسبق الصراع المسلح وتواكبه وتدعم انتصاراته..(/11)
وقد تجلت خطورة وأثر هذين الأسلوبين ـ الحرب النفسية والشائعات ـ في غزوة تبوك بشكل جلي وكبير. فسبب الغزوة ومقدمتها في الشائعات، وسبب نتيجتها المعروفة هي الحرب النفسية.
فقد ذكر أصحاب السير أن الأنباء وصلت للنبي- صلى الله عليه وسلم - أن الروم جمعت جموعاً، وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من نصارى العرب، وأن مقدمتهم بلغت إلى البلقاء.
وقد كان لهذه الشائعة أثرها في نفوس الصحابة، يدل على ذلك فزع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أخبره صاحبه أنه قد حدث أمر عظيم ففزع فزعاً شديداً وظن أن غسان قد جاءت لغزو المدينة. كما كن الخوف يتسورهم كل حين فلا يسمعون صوتاً غير معتاد إلا ويظنونه زحف الرومان.
وأما نتيجة المعركة وخشية الرومان ورعايتهم من العرب من مواجهة الجيش الإسلامي، كذا مصالحة أكيدربت عبد الملك صاحب دومة الجندل للمسلمين، فقد كانت كلها قائمة على الحرب النفيسة.
يقول الدكتور محمد المخلف: وعلى الرغم من أن الحرب النفسية بوسائلها وأساليبها وتقنياتها الحديثة كانت غير معروفة وقت نزول الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنه بتطبيق المقاييس العلمية الحالية على ما قام به أعداء الإسلام ـ من بداية ظهور الدعوة سواء في العهد المكي أوالمدني ـ من أساليب إعلامية متعددة على رأسها الحرب النفسية، لمواجهة النفسية قد مورست علمياً بقوة كبيرة، وبضعف أكبر، وبتخطيط دقيق، يتناسب مع أعلى المواصفات العلمية اليوم.
ولنا أن نؤكد ذلك من خلال دارستنا للموافق والمواجهات التي تحدث في ذلك العصر، ومن خلال دراستنا للشخصيات التي قامت وخططت ونفذت الحرب النفسية والإعلامية في تلك الموافق، أنها كانت أعظم وأخطر حرب في تاريخ الأمة الإسلامية وأن كل قواعد ونظريات الحرب النفسية والإعلامية وأساليبها ووسائلها التي تعرفها اليوم ما هي إلا نتيجة استقراء ودارسة لتلك الممارسات والمواجهات والمواقف والشخصيات.
فمن جانب معسكر الإيمان قاد تلك الحملة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- المؤيد من ربه بالوحي، والذي أطلعه الله على حقيقة خصومة وما تكنه صدورهم وما يعلنون.
ومن جانب معسكر الأعداء قاد تلك الحملة رؤوس الجاهلية وأساطين الكفر كأبي جهل وأمية بن خلف، وأبي لهب،
ومن اليهود: حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وكعب بن أسد، وكعب بن الأشرف.
ومن المنافقين عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير وزيد بن اللصيت وغيرهم، فلم ولن يمر في تاريخ الأمة الإسلامية من هو أشد عداوة وأكثر خطراً وأعظم ودهاءً ومكراً وحقداً من أجنحة المكر الثلاثة ومحور الشر في العهد النبوي، فاليهود لن ينجبوا أدهى وأخطر ممن ذكرنا من قياداتهم التاريخية.
والمنافقون اليوم مهما بلغ نفاقهم ومكرهم فلن يبلغ أحدهم درجة ابن أبي أو نصفها.
فكما أن مرجعية المسلمين اليوم هي الوحي وأقوال وأفعال النبي- صلى الله عليه وسلم- فكذلك المنافقون واليهود والمشركون مرجعيتهم هي أفعال وأقوال أسلافهم ممن ذكرنا. وما حملات الحرب النفسية التي توجه اليوم إلى العالم الإسلامي إلا نموذجاً متكرراً لما فعله اليهود والمشركون والمنافقون في العهد النبوي وما بعده. والتي ذكر الله بعض صورها، فقال تعالى: ?الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ?[آل عمران :173 ]. وكذا حملات التشويه والتضليل الإعلامي التي قام بها المشركون من ادعائهم تارة أن الرسول الله- - صلى الله عليه وسلم - -ساحر، وتارة أخرى كاهن، وأخرى أنه مجنون وكذا الحرب النفسية التي تعرض لها الصحابة رضوان الله عليهم سواء في مكة أو المدينة، وسنتعرض لبعضها في حديثناً عن الشائعات، والتضليل الإعلامي، والتشويش.
فقد استخدمت قريش كل أساليب الإرهاب والتهديد والمضايقة، وشنت على الصحابة حرباً نفسية عاتية، منذ أن كان المسلمون في مكة، كما مارسوها بعد الهجرة، فصادروا أموال المسلمين وديارهم ومنعوهم من أهليهم وذراريهم،كما استخدم لنبي - صلى الله عليه وسلم - -هذا الأسلوب، وحقق من خلاله نجاحات كبيرة في صراعه مع أعداء الإسلام، يقول اللواء الركن محمد جمال الدين محفوظ: ومن أعظم الدروس التي تستخلص من سنة رسول الله-- صلى الله عليه وسلم - -في إدارته للصراع مع الأعداء أن استخدام العلم النفسي ضرورة حيوية لتحقيق الأهداف أللإستراتيجية من بين ثمانية وعشرين غزوة قادها الرسول- صلى الله عليه وسلم - بنفسه نجد تسعة عشر غزوة حققت أهدافها بلا قتال، إذ فرالأعداء تحسباً لنتائج مواجهة قوة المسلمين.
وإذا ما رجعنا إلى تعريفات الحرب النفسية التي ذكرناها سابقاً سيظهر لنا أكثر، مدى أهميتها وخطورتها.(/12)
يقول اللواء محفوظ: فمن المعروف أن إرادة القتال والمقاومة والصمود الإيجابية في العمل والإبداع والابتكار، وأن الهزيمة والاستسلام واليأس والسلبية، هي كلها حالات عقلية تنشأ في عقل الإنسان، تحت ظروف معينة، فتتوفر لديه الداوافع النفسية التي تدفعه إلى السلوك الذي يعبر عن تلك الحالات.
الحرب النفيسة بأساليبها ووسائلها، قادرةعلى أحداث التأثير المطلوب، وتشكيل الآراء والقناعات المناسبة، التي تحقق أهداف الجهة القائمة بها، بطريقة لا تدعوا إلى الإثارة المقاومة كما هو الحال مع أساليب المواجهة كالحرب التقليدية وبكلفة أقل بالمقارنة مع الكلفة الباهضة لهذه الحروب.
ويبين اللواء محفوظ مكمن الخطورة في الحرب النفسية فيقول: ولذا فقد بات التعامل مع المستوى النفسي يمثل الحيز الأكبر بين الإسلحة المستخدمة لدى الجهات المتطلعة للسيطرة والتأثير على وعي الجمهور المستهدف، لما تحدثه من تأثير عميق، ولما تتمتع به الحرب النفسية من خصائص أخرى ومن ذلك أنها مستمرة دائمة لا تقتصر على الحروب والأزمات ولا على الأزمنة والأوقات.
كما أنها ليست حكراً على المؤسسة العسكرية من حيث الممارسة، بل يشترك معهم غيرهم في إدارتها وتنفيذها، لخلق قناعات وإرادات معينة، وبالتالي فكل جهد مدني أو عسكري اقتصادي أو اجتماعي أو إعلامي يمكن استثماره في تحليل إدارة الصراع كما تظهر خطورتها في أنها تستهدف قلب الإنسان وعقله وعواطفه.
ويستشهد الدكتور إبراهيم إمام على خطورة الحرب النفسية بقولي روميل وجلوبز فيقول: قال روميل: القائد الناجح هو الذي يسيطر على عقول أعدائه قبل أبدانهم.
وقال جوبلز وزير الدعاية الألماني: لقد استطعمنا بالإذاعة أن نقضي على روح التمرد.
المطلب الرابع
الأسس الإعلامية في معالجة الحرب النفسية من خلال سورة التوبة
لقد اهتم القرآن الكريم بالإعلام والمواجهة الإعلامية اهتماماً بالغاً، ويظهر ذلك من خلال استقرائنا لآياته التي ذكرت المواقف الإعلامية ودعت إلى إيصال المعلومات الصحيحة والصادقة، وتحصين الرأي العام وحمايته من التخريب والحرب النفسية، وتوجيهه الوجهة السلمية.
وعندما نستقري آيات من القرآن التي تحدثت عن المواجهة الإعلامية، وأسلوب التعامل مع الدعاية المضادة نجد أن القرآن الكريم قد ركز على أساليب أساسية عديدة، منطلقاً من أسس نفسية وموضوعية بالغة الأهمية، لتكوين الدوافع وكسب الاستجابة والمواقف وأهم هذه الأسس هي:
1ـ التركيز على كشف أهداف أعداء الإسلام:
من الكفار والمنافقين واليهود، وأساليبهم في حرب نفسية وشائعات ودعايات مضادة، لكي يكون المسلمون ملمين ومدركين وواعين لكل ذلك، ومحصنين تحصيناً نفسياً وإعلامياً لعدم الاستجابة لها والتأثر بها، ومواجهتها ببيان كذبها وتناقضها والرد عليها لعدم الاستجابة لها والتأثر بها، ومواجهتها ببيان كذبها وتناقضها والرد عليها.
وقد حرص القرآن الكريم والنبي- صلى الله عليه وسلم - على بيان هذا الكشف من خلال ما يلي:
أ ـ كشف محاولات زرع بذور الشقاق والفتنة:
قال تعالى: ?لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ? [التوبة:47]
ب ـ كشف محاولات التخذيل وتثبيط الهمم والعزائم:
وقد بينا سابقاً كيف كشفهم الله وفضحهم وعلق على تصرفاتهم القولية والفعلية الهادفة لهذا الخذلان: ولأضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة.
فقد كشف الله كل أهدافهم ورد على كل ادعاءاتهم، ودافع عن شخص الرسول- صلى الله عليه وسلم - بأسلوب يظهر فيه التحدي والمحاكمة للخصم، كما كشف تناقضات أقوالهم وتآمرهم وتضليلهم للآخرين إعلامياً. مما يعريهم أمام الرأي العام ويشكل الحواجز بينهم وبين الجمهور الذي يسعون للتأثير عليه، فيفقدون ثقة الجمهور بهم وتجاوبه معهم.
يقول سيد قطب في سياق حديثه عن سورة التوبة: ثم يجيء المقطع الرابع في سياق السورة ـ وهو أطول مقاطعها ـ ويستغرق أكثر من نصفها ـ في فضح المنافقين وأفاعيلهم في المجتمع المسلم، ووصف أحوالهم النفسية والعملية، ومواقفهم في غزوة تبوك وقبلها وأثنائها وما تلاها، وكشف حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصف، وإيذاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم - والخُلص من المؤمنين، يصاحب هذا الكشف تحذير الخلصاء من المؤمنين من كيد المنافقين.(/13)
3 ـ الهزوالإسقاط: لقد استعمل القرآن أسلوباً إعلامياً آخر ذا فاعلية نفسية لهز الخصم من داخله، وإشعاره بتفاهة شخصيته ومواقفه، ويزرع الهزيمة في أعماقه النفسية، ويسلب منه الروح المعنوية والقدرة على المواجهة، فضلاً عن قدرته على الهجوم. وذلك بتوجيه الخطاب الإعلامي إليه كطرف هزيل يوضع موضع الاستهزاء والسخرية. كقوله تعالى: ? وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ? [ التوبة:49
وكقوله تعالى: ?قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ? [التوبة:53] وقوله: ?وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ?[التوبة:57] وكقوله: ?يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ? [التوبة: 66] وقوله:? فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ? [التوبة:82] وقوله:?وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ? [التوبة:87] وقوله:? وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ?[التوبة:107]، فهذه الجملة الإعلامية القوية قد فضحت المنافقين وأحدثت هزة عنيفة في نفوس كثير منهم، وبينت دناءة أخلاقهم وحقارة سلوكهم، التي ينفر عنها صاحب الخلق القويم والفطرة السليمة، فضلاً عن صاحب الدين المتين.
فالله قد بين دخائل نفوسهم، وكشف خباياها وعلق على تصرفاتهم بأساليب قوية أظهرت قبح ما هم عليه. هذه الجملة جعلت الكثيرين منهم يعيدون حساباتهم ويراجعون علاقتهم مع الله سبحانه وتعالى، فتابوا إليه وحسنت توبتهم.
ومن هؤلاء مخشي بن حمير الذي تسمى بعبد الرحمن وسأل الله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر.
3 ـ الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة: وهذا أسلوب من أساليب القرآن الكريم، أسلوب نفسي يؤثر في الطرف المتلقي، بتلقيه الخطاب اللين والكملة الجذابة المؤثرة.
قال تعالى:? وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ?[ فصلت:34 ] وقال تعالى: ? ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ? [النحل:125](/14)
وقال أيضاً:? اذْهَبْا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ?[طه:44 ] . ومن أسلوب الحكمة في الخطاب الإعلامي مع المنافقين الواردة في سورة التوبة فتح باب التوبة أمامهم بعد كل ما صدر منهم. قال تعالى: ? لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ? [التوبة: 66]. وقال: ? يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ?[ التوبة:74] قال بعد كل ذلك: ? وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? [التوبة:102]
كما أن التعامل الحكيم فوت على المنافقين تحقيق الكثير من أهدافهم لا سيما الإستراتيجية، والتي منها بث الفرقة وإحداث الشقاق وزرع بذور الفتنة داخل الصف الإسلامي، وإن كانت الوسيلة لتحقيق هذه الأهداف التضحية ببعض رؤوسهم وجعل دمائهم وقواداً يشعل الفتن. كما مر معنا في حادثة الإفك ومحاولة اغتيال النبي- صلى الله عليه وسلم - في تبوك، ولو قتل ابن أبي في حادثة الإفك لتحقيق مراده، يدل على ذلك ما ذكرناه من حرب كلامية بين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة زعيما الأوس والخزرج بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم - .
وقوله- صلى الله عليه وسلم - لعمر كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي أقتله لأرعدت له أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.
فهنا ظهرت ثمرة هذا القول، ظهرت الثمرة النفسية لأسلوب الحكمة، فقد كان له تأثير كبير على أتباع وقرابات المنافقين جعلتهم يبدون استياءهم وامتعاضهم من تصرفات المنافقين، بل ويكونون في مقدمة المتصدين والمواجهين لقراباتهم من المنافقين.
ذلك أن المتلقي إذا أحس باحترام الرسالة الإعلامية الموجهة إلى شخصه، وحسن نية الجهة التي تخاطبه وحرصها على حفظ مصالحه وكرامته، فإنه يتجاوب مع الطرف المرسل، فيكسب المرسل ود المستقبل وثقته كما يتقبل المستقبل أفكار المرسل وخطابه ويتبناها ويدافع عنه وعنها.
4 ـ الإقناع بالحوار: فكما يخاطب الإعلام الجانب النفسي والعاطفي عند الإنسان ويستعمله كمدخل لشخصية المتلقي للخطاب الإعلامي، وللتأثير على مساحات واسعة من الرأي العام، فإنه يستخدم الإقناع المنطقي والأسلوب العقلي والموضوعية العلمية بدعوة الطرف الآخر إلى الحوار السليم لإقامة الحجة بعيداً عن الإكراه والتعصب.
5 ـ الإهمال: ومن أساليب الحرب النفسية التي استخدمها القرآن في مواجهته لأعدائه هو أسلوب الإهمال وعدم الاكتراث بالخصم، ليشعر بعدم قدرته على إثارة الطرف الإسلامي، وبضعف موقفه وضآلة قدره، فيعود كيده في نحره ويكتوي بناره والإهمال في بعض الأحيان علاج فعال، ولذا حث القرآن عليه قال تعالى:? وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ?[ المؤمنون3:] وقال:? وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ?[الفرقان:63] وقال تعالى: ?وإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ? [القصص:55] .
وجاء في ديوان الإمام الشافعي:
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرجت عنه وإن خليته كمداً يموت
وقال أيضاً:
يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيباً
يزيد سفاهة فأزيد حلماً كعود زاده الإحراق طيباً
6 ـ الكشف والتعرية والفضح والتشهير:
وهذا من أعظم الأدوية فعالية، وأسرعها تأثيراً وهو ما كان يخشاه المنافقون كما قال تعالى: ? يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ?
وما سميت سورة التوبة بالفاضحة والمقشقشة والأسماء الأخرى التي سبقت بيانها في الباب الأول إلا لمجيئها بهذا العلاج الناجح. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ? يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ?: في شأن المنافقين تخبرهم بمخازيهم ومساوئهم ومثالبهم، ولهذا سميت بالفاضحة والمثيرة، والمبعثرة، وقال الحسن: كانوا يسمون هذه السورة الحفارة لأنها حفرت ما في قلوب المنافقين فأظهرتها .(/15)
7 ـ التهديد والوعيد: وذلك أن هذا الأساس له أثر نفسي على الموجه إليه يردعه ويوقفه عند حده، وسواء كان هذا التهديد بعقوبة في الدنيا أو في الآخرة، ومن الآيات التي أشارت إلى هذا الأساس في سورة التوبة قوله تعالى: ?وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ? [ التوبة:49] وقوله: ?قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ? [التوبة52: ] وقوله:? فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ? [التوبة: 55] وقوله:? أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ? [التوبة:63]، وقوله: ?وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ? [التوبة:68]، وقوله:? اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ? [التوبة:80 ].
8 ـ القمع وتحطيم الرموز المعادية: تشكل الرموز المعادية الهدف الأول للحرب النفسية المضادة، ذلك لأن الرموز والقيادات هي القوة المركزية والموجه الحركي لجماعتهم وجمهورهم، وكلما كان لهذه الجماعة والجمهور ثقة برموزها وتقديس لقيادتها وارتباط وثيق بها، صعب اختراق الإعلام لها ما لم تظهر هذه الرموز على حقيقتها، وكشف هذه الرموز يؤدي إلى تحطيمها وتدمير الثقة بها، وعزل تأثيرها،ولذا تتركز الحملة الإعلامية في القرآن على رموز الجريمة والعدوان وأرباب الزيغ والفساد، لهدم شخصياتهم وللإجهاز على دورهم القيادي، وتحطيم الثقة بينهم وبين أتباعهم، قال تعالى: ?وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ? [لتوبة:12 ] .
9 ـ الهجر والحجر: وذلك بهجر الجماعة المسلمة لكل من ثبت تورطه بتعاونه مع أعدائها، وعمل على تنفيذ مخططاتهم.
وكذا بإقامة حجر نفسي وجسدي لهؤلاء المرضى، فمرضهم أخطر من الأمراض الجسدية التي دعا الإسلام إلى إقامة حجر صحي اتقاء لخطرها.
وقد جاء في سورة التوبة ما ينبه على اتخاذ مثل هذا الأسلوب الذي يمثل إجراءاً وقائياً وتطويقاً للمرض والمرضى قال تعالى:? فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ? [التوبة: 83 ] وقال تعالى:? سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلا? [الفتح:15 ]
فالله سبحانه وتعالى قد حث القيادة المسلمة على العمل على تطهير الصف من هؤلاء المرضى ومن هذا المرض، فنهى القيادة عن السماح لهؤلاء باختراق جسد الصف الإسلامي باعتبارهم فيروسات وجراثيم خبيثة وعدوى مرضية مضرة، ولذا ثبطهم الله تعالى عن الخروج للقتل مع الجماعة المسلمة، حماية لهذا الصف وحفاظاً على صحته وتماسكه، لأنهم بخروجهم ينشرون المرض.
قال تعالى: ?وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ? [التوبة:47] .
يقول الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى: ?فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ ? قال: يريد المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، والمخلف: المتروك ممن مضى.
فإن قيل: إنهم احتالوا حتى تخلفوا فكان الأولى أن يقال: فرح المتخلفون.(/16)
والجواب من وجوه نذكر منها: إن رسول- الله - صلى الله عليه وسلم - - منع أقواماً من الخروج معه لعلمه بأنهم يفسدون ويشوشون، فهؤلاء كانوا مخلفين لا متخلفين، وقال القرطبي: خلفهم الله وثبطهم، أو خلفهم رسول الله- - صلى الله عليه وسلم - -والمؤمنون لما علموا تثاقلهم عن الجهاد.
قال القاسمي: وإيثار المخلفون على المتخلفين لأنه -- صلى الله عليه وسلم - -منع بعضهم من الخروج فغلب على غيرهم.
وزيادة في تأكيد تطهير الصف المسلم من هؤلاء المرضى وعدم مخالطتهم يقول تعالى: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ? [آل عمران:118] ، قال القرطبي: هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطون حلفاءهم من اليهود وأهل النفاق، نهى الله عز وجل المؤمنين وأهل الأهواء دخلاً وولجا يفاوضونهم في الآراء ويسندون إليهم أمورهم. ويقال كل من كان على خلاف منهجك فلا ينبغي أن تحادثه.
قال النسفي: وعن مجاهد: أنها نزلت في المنافقين، وهذا مروي عن ابن عباس. وقال قتادة: نهى الله عزوجل المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين أو يؤاخوهم، أي يتولوهم من دون المؤمنين.
وقال مقاتل: هم المنافقون يحبهم المؤمنون لما أظهروا من الإيمان ولا يعلمون ما في قلوبهم.
وقال ابن كثير: يقول تبارك وتعالى ناهياً المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة، أي يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم.
قال الرازي والقاسمي: هم المنافقون، وذلك لأن المؤمنين كانوا يغترون بظاهر أقوال المنافقين ويظنون أنهم صادقون فيفشون إليهم الأسرار ويطلعونهم على الأحوال الخفية، فالله تعالى منعهم من ذلك وحجة أصحاب هذا القول أن ما بعد هذه الآية يدل على ذلك وهو قوله:? وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور?ِ [آل عمران:119] .
الخاتمة:
وبعد أن منّ الله سبحانه وتعالى بفضله وكرمه عليّ في إكمال هذا البحث الذي أرجو منه سبحانه أن يكون قد حقق أهدافه، وأن يحقق نفعاً للإسلام والمسلمين.
نخلص إلى أن هذا البحث هي دراسة تأصيلية للحرب النفسية من خلال الدراسة التحليلية تحليلاً إعلامياً لسورة التوبة.
وبيان أن الحرب النفسية لها أصولها وأسسها بهذا الدين الحنيف، كما أنها ضرورة عصرية يحتاج إليها الإنسان المسلم وغيره في ظل هذه الهيمنة الثقافية والإعلامية المخالفة للشرع الحنيف ولفطرة الإنسان.
كما أظهر هذا البحث مدى العلاقة الوثيقة والحميمة، بين المحاربين لهذا الدين بمناهجهم المختلفة اليهودية منها والشركية والنفاقية، فقد أظهر البحث مدى التوافق والتداخل في كثير من الأهداف والوسائل والأساليب في هذه المناهج والمدارس الثلاث.
بحث تخرج مقدم من الطالب : حسان بن علي ناجي شريان
مراجعة : عادل احمد البعداني
لسان العرب، ج6 – ص427 وتاج العروس ، ج6 – ص553 مرجعان سابقان.
فتح القدير ، ج2 – ص378 ، مرجع سابق .
أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي مولاهم البخاري، حبر الإسلام ولد في بخارا عام 194هـ، أكثر من الرحلة في لطب العلم، سمع من نحو ألف شيخ، وكان رأساً في العلم والذكاء والورع والعبادة، بدأ بالتصنيف وعمره 18 عاماً ، قال ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من البخاري، توفي عام 256هـ في خرتنك (إحدى قرى سمرقند). انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر (9/47) .
البراء بن عازب بن حارث بن مالك بن الأوس الأنصاري، يكنى أبا عمارة ، شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة غزوة، مات سنة 72هـ، انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر (1/147).
أخرجه البخاري ومسلم، انظر:صحيح البخاري، تفسير سورة التوبة، وأخرجه مسلم في كتاب الفرائض، انظر: المنهاج ج11 ، ص60 رقم الحديث: 4129 .
د. عبد الله محمود شحاته، أهداف كل سورة ومقاصدها في القرآن الكريم، ج1 ص109 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية، 1981م .
التوبة: 117118 .
الجامع لأحكام القرآن، ج8 ص40 .
هو العلامة الحافظ الإخباري أبو بكر محمد بن إسحاق ابن يسار ، رأى أنس بن مالك وحدث عنه، كان أحد أوعية العلم حبراً بمعرفة المغازي والسيرة، ولد سنة 80هـ، وأقام بالمدينة ثم خرج إلى بغداد ومات بها سنة 151هـ، انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر (9/38).
أبو الحسن إبراهيم عن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي ، الشافعي ، توفي سنة 885هـ.
أبو الحسن ابن عمر البقاعي: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ج3 ص255 وما بعدها، تخريج ووضع حواشي عبد الرزاق المهدي، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى 1995م.(/17)
الشوكاني : فتح القدير ، ج2 ، ص378 .
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ج3 ص256 (بتصرف) مرجع سابق.
السيوطي : أسرار ترتيب القرآن ص107 ، دراسة وتحقيق : عبدالقادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، الطبعة الثانية، 1978م.
السيوطي : الإتقان في علوم القرآن، ج2 ، ص969 ، تقديم وتعليق: د. مصطفى البغا، دار ابن كثير – دمشق – ودار العلوم الإنسانية – دمشق ، الطبعة الثانية/ 1993م .
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ، ج3 ص255 ، مرجع سابق .
انظر: زاد المعاد ج3 ص449 و503 ، وسيرة ابن هشام ج4 ص169و197 .
أهداف كل سورة ومقاصدها في القرآن الكريم ، ص112 ، ومحمد علي الصابوني، قبس من نور القرآن الكريم: دراسة تحليلية موسعة بأهداف ومقاصد السور الكريمة، ج4 ص6 ، دار القلم ، دمشق ، الطبعة الأولى ، 198 .
في ظلال القرآن ج3 ص1568 مرجع سابق .
لسان العرب ج3، ص99 .
تاج العروس ج1 ص49 .
الراغب الأصفهاني: أبو القاسم الحسين بن محمد بن مفضل، أديب ومتكلم، وشاعر، توفي عام 502هـ، انظر: سير أعلام النبلاء (18/120).
لسان العرب، ج5 ص153 ، تاج العروس ج12 ص222 .
لعله يريدها العقل ويفسره كلامه اللاحق.
لسان العرب ج14 ص233 وتاج العروس، ج9 ، ص14 مادة نفس.
د. أحمد بدر ونقله عنه الدكتور محمد بن صالح.
الحرب النفسية في صدر الإسلام (العهد المدني) ص27 .
المرجع السابق.
صلاح نصر : الحرب النفسية ، ص71 ، الوطن العربي ، الطبعة الثانية ص1988م .
المرجع السابق .
المرجع السابق .
المرجع السابق .
لواء ركن محمد جمال الدين محفوظ: مجلة الوعي الإسلامي خذوا حذركم من الحرب النفسية.
رواه البخاري والترمذي وأحمد: أنظر صحيح البخاري وكتاب الحج ج1 ص490رقم الحديث .1649وصحيح سنن الترمذي للألباني الحج، ج1 ص258 رقم الحديث: 685.
الحرب النفسية، ص80. مرجع سابق.
الجامع لأحكام القرآن :ج14ص97.
الكشاف ج3 ص 535.
محاسن التأويل ج12 ص 232. الكشاف ج3 ص535.
ابن القيم: زاد المعاد، ج3 ص533وابن كثير اليسرة النبوية ج4 ص16الروض الأنف في شرح سيرة ابن هشام ج7 ص391.
تفسير القرآن العظيم، ج2ـص381. مرجع سابق.
محمود بن لبيد بن رافع بن أمرؤ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصاري الأوسي الأشهلي، قال البخاري: له صحبة، وذكره ابن حبان في التابعين. أنظر: الإصابة في تمييز الصحابة (3/367).
سيرة ابن كثير:، ج4 ص16 والروض الأنف ج7 ص392.
تفسير القرآن العظيم، ج2 ص381. وزاد المعاد، ج3 ص536.
الجامع لأحكام القرآن العظيم، ج2 ص125.
مفاتيح الغيب ج16 ص98.
د. نعيم رزق الدردساوي: أساليب القرآن في الرد على الحملات الإعلامية ص287، دار الفرقان، الطبعة الأولى، 2000م.
الجامع لأحكام القرآن،: ج8 ص100.
مفاتيح الغيب مجلد 8 ج16 ص66.
الجامع لأحكام القرآن، ج10 ص166.
مفاتيح الغيب: ج16 ص66.
الكسع: هو أن تضرب بيدك أو برجلك بصدر قدمك دبر إنسان أو شيء، أنظر لسان العرب ج12 ص92.
استعذر: أي قال من يقول بعذري إن كافأته على سوء صنيعه ولا يلزمني لوماً على ما يكون مني إليه، وجاء أيضاً من يعذرني: أي من ينصفني . أنظر لسان العرب مادة عذر.
سعد بن معاذ بن النعمان بن أمرؤ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، السيد الكبير، سيد الأوس، الذي أهتز عرش الرحمن لموته، أسلم على يد مصعب بن عمير، واستشهد من سهم أصابه في عزوة الخندق سنة 5هـ وعمره 37سنة، أنظر: سير أعلام النبلاء (1/279). وتقريب التهذيب لأبن حجر (1/346 ).
سعد بن عبادة بن ديلم بن حارثة الأنصاري سيد الخزرج، يكنى أبا ثابت ويلقب بالكامل المعرفته الكتابة الرماية والسباحة، شهد العقبة وكان مشهوراً بالجود، خرج إلى الشام فمات بحوران سنة 15هـ، أنظر: الإصابة لأبن حجر (3/80). وسير أعلام النبلاء (1/270).
أسيد بن الحضير بن سماك بن عتيك بن امرؤ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصاري، يكني أبا يحيى وأبا عتيك، كان أبوه فارس الأوس ورئيسهم يوم بعاث، وكان أسيد من السابقين إلى الإسلام، وهو أحد النقباء ليلة العقبة، توفي سنة، 20هـ في خلافة عمر. أنظر الإصابة لأبن حجر (1/64).
سيرة ابن هشام، ج3ـ ص328 وزاد المعاد، ج3ـ ص265.
مفاتيح الغيب: مجلد 8 ج16 ص66. مرجع سابق.
في ظلال القرآن ج3 ص1570. مرجع سابق.
أساليب الإقناع وغسيل الدماغ، ص58. مرجع سابق.
الجامع لأحكام القرآن ج8 ص123، والدر المنثور ج4 ص242، وروح المعاني م5 ج10 ص328.
مفاتيح الغيب: ج16 ص109.
زاد المعاد: ج3 ص 545. السيرة النبوية لأبن كثير ج3 ص 34.
أبو سعيد الخدري: الإمام المجاهد، مفتى المدينة، سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر بن عون بن الحارث ين الخزرج واسم الأبجر خدرة، وقيل: بدخدرة هي أم الأبجر، مات سنة 63هـ أنظر سير أعلام النبلاء (3/16).
محمد الصادق عرجون: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهج ورسالة بحث وتحقيق ج4 ص398.
مفاتيح الغيب، م4 ج8 ص174.
مفاتيح الغيب، ج16 ص199.(/18)
البحر المحيط ج5 ص427، الجامع لأحكام القرآن: م4 ج8 ص100، ومفاتيح الغيب م8 ج16ص62.
المراجع السابقة.
مفاتيح الغيب م8 ج 16 ص465. مرجع سابق.
تفسير المنار ج10 ص465. مرجع سابق.
الكشاف: ص2 ج262، البحر المحيط ج5 ص427. مرجعان سابقان.
الكشاف: ج2 ص264 وبمثله قال الرازي في مفاتيح الغيب ج16 ص 67. مرجعان سابقان.
الجامع لأحكام القرآن م4 ج8 ص101. وتفسير القرآن العظيم، ج3 ص 118.
زاد المعاد ج5 ص529.
الجدة: جانب كل شيء. أنظر تاج العروس مادة جدد.
ذباب بالكسر وبالضم: جبل المدينة. سيرة أبن هشام، ج4 ص221، وسيرة ابن كثير ج4 ص12، وزاد المعاد: ج5 ص529.
مفاتيح الغيب م8 ص 16 ص124.
سيرة ابن هشام، ج4 ص221، وسيرة ابن كثير ج4 ص12، وزاد المعاد: ج5 ص529.
الإعلام والإتصال بالجماهير ص284. مرجع سابق.
د / محمد بن مخلف بن صالح
: الحرب النفسية في صدر الإسلام (العهد المدني)، ص79، دار عالم الكتب، الرياض، الطبعة الرابعة، 1998م..
لواء ركن محمد جمال الدين محفوظ، خذوا حذركم من الحرب النفسية، مجلة الوعي الإسلامي.
المرجع السابق
المرجع السابق
الإعلام والاتصال بالجماهير، ص392 مرجع سابق.
في ظلال القرآن، ج3 ص1567، مرجع سابق.
تفسير القرآن العظيم، ج2، ص382 .
انظر: تفسير القرآن العظيم 4/398 ، قال ابن كثير: وهذا سياق غريب، وفيه أشياء نفسية لا توجد إلا فيه. وانظر جامع البيان، 28/131 ، والبداية والنهاية 4/181. وقال سيد محمد بن أبي سعدة في تحقيقه لكتاب ابن تيمية الحسبة في الإسلام: وإسناده لا يصح، ورواه ابن كثير من وجه آخر وقال: حديث غريب . وانظر: المباركفوري : الرحيف المختوم ص305 .
أبو عبدالله محمد بن إدريس بن العباس بن شافع.. الهاشمي المطلبي، يجتمع جده شافع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف، وقد لقي جده شارفع رسول الله وهو مترعرع. والشافعي أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، ولد في غزة بفلسطين عام 150هـ، أقبل على الفقه والحديث وأفتى وهو ابن عشرين سنة وكان شديد الذكاء، توفي في القاهرة سنة 204هـ له عدة مصنفات أشهرها (الأم) في الفقه و(الرسالة) في أصول الفقه. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان (4/163) .
ديوان الشافعي ص30، تحقيق وشرح يوسف الشيخ محمد البقاعي، دار الفكر – الطبعة الأولى 1986م .
الجامع لأحكام القرآن ، 8/124 .
مفاتيح الغيب، ص16، 118 .
الجامع لأحكام القرآن م4 8/137 .
محاسن التأويل م5 8/277 .
الجامع لأحكام القرآن 4/114 .
مدارك التنزيل وحقائق التأويل، 1/285 ، مرجع سابق .
تفسير القرآن العظيم 1/406 ، مرجع سابق .
مفاتيح الغيب م4 8/172 ، محاسن التأويل م2 4/202 ، مرجعان سابقان.(/19)
الحرب على الله ورسوله
د. سامي بن إبراهيم السويلم 23/9/1424
17/11/2003
أثارت موجة التفجيرات الأخيرة في الرياض كثيراً من التساؤلات: ما هي الأسباب؟ وما هي الحلول؟.
إذا رجعنا إلى القرآن العظيم؛ فلن يكون عسيراً أن نمسك بخيوط المشكلة.
إن مجتمعنا -ولله الحمد- يدين بالتوحيد، ولا توجد دعوة تناقض هذا المبدأ، ظاهراً على الأقل. وإذا كان كذلك فلننظر في الانحرافات الأخرى، وأيها يمكن أن يؤدي إلى هذا الوضع.
إن الاضطراب وانعدام الأمن قرين الحرب، فما هي المعصية التي توعدها الله تعالى بالحرب؟.
لن نجد صعوبة في الجواب عن هذا السؤال، إذ ليس في القرآن ذنب توعد الله أهله بالحرب سوى ذنب واحد: الربا. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله). ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله: "إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه، فلم أر شيئاً أشر من الربا، لأن الله أذن فيه بالحرب." (الجامع لأحكام القرآن 3/364).
لقد تطاولت قلاع الربا في بلادنا، واستفحلت الديون الربوية، حتى صار الاقتصاد بأكمله رهناً للمرابين. وتجاوزت الديون الحكومية 600 مليار ريال، تدفع عليها فوائد سنوية تتجاوز 30 مليار ريال. ولمن تذهب هذه الفوائد؟ لا نحتاج إلى قدر كبير من الفطنة لندرك أنها تذهب للمتخمين بالمال الذين لم يجدوا أفضل من إقراضه بربا. إن 30 مليار سنوياً كفيلة بحل معظم المشكلات التي يعاني منها المجتمع، لكنها بدلاً من ذلك تذهب لجيوب المرابين الذين لا يزيدون الاقتصاد إلا وهناً وضعفاً. فالربا حيثما كان وأينما وجد، نزيف في الاقتصاد ونذير شؤم على البلاد.
والربا لا ينشأ من فراغ، بل هو نتيجة للإسراف والتبذير والإنفاق غير المشروع. ولهذا وصف الله –تعالى- المبذرين بأنهم (إخوان الشياطين)، ووصف المرابين بأنهم (لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس). فالتبذير والربا متلازمان، ولهذا كان كلاهما قرين الشيطان.
والربا بدوره لا يؤدي إلا إلى مزيد من التبذير والإسراف. فتتضاعف المشكلة، وتتفاقم البطالة، وتزداد الهوة بين الفقراء والأغنياء، وترتفع حدة التوتر بين فئات المجتمع بشكل مخيف. ولا أمل في الخروج من هذه الدوامة إلا بالعودة الصادقة إلى الله، والحد من مظاهر الإسراف، واستئصال الربا من جذوره.
ما هو أسوأ من الربا
إذا كان الربا هو شر الذنوب؛ لأن الله تعالى آذن أهله بالحرب، فما هو الأسوأ من الربا؟
إنه التحايل على الربا والتلاعب بأحكام الشرع ليظهر الربا المحرم بمظهر البيوع المشروعة. إن اليهود قد أكلوا الربا صراحة، ومع ذلك لم يعاقبهم الله على ذلك في الدنيا بعقوبة عاجلة. لكنهم لما احتالوا على صيد الحيتان يوم السبت مُسخوا قردة، كما قال تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين). لماذا يمسخون على الاحتيال على صيد الحيتان، ولا يمسخون على أكل الربا؟، مع أن الصيد أهون بكثير من الربا؟ لأن التحايل على شرع الله أعظم إثماً وأشد جرماً من المعصية المجردة. فالتحايل على المعصية استحلالٌ لها، والاستحلال أشد بمراحل من الوقوع في الذنب دون استحلال.
وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" [رواه ابن بطة بإسناد جيد]. فهذا نصٌ صريح أن التحايل على المحرمات استحلالٌ لها.
ويدل على ذلك أيضاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليشربنّ ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يُعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير" [رواه مسلم]. وذكر في الحديث الآخر: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلّون الحر والحرير والخمر والمعازف" ثم قال: "فَيُبَيّيتَهم الله ويضع العلَم ويمسخ منهم قردة وخنازير إلى يوم القيامة" [رواه بهذا اللفظ ابن ماجه بإسناد حسن]. فدل مجموع الحديثين على أن استحلال الخمر كان بتسميتها إياها بغير اسمها، وهذا من التحايل بلا ريب، كما يقول شيخ الإسلام [بيان الدليل في إبطال التحليل: ص63].
فهذا يدل أيضاً على أن التحايل على المحرمات تعجل عقوبته في الدنيا، وأنه أشد وأسوأ من الوقوع في المحرم بلا تحايل. ولهذا قال أيوب السختياني رحمه الله: "يتلاعبون بالله تلاعب الصبيان. لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون علي".
فإذا كان الربا سبباً للحرب على الله ورسوله، فما ظنك بالتحايل عليه، أليس أولى بالحرب والنكال المعجل في الدنيا قبل الآخرة؟(/1)
واليوم نشاهد ملء السمع والبصر تعاملات ألبست لباس الشرعية وأخرجت في صورة البيوع الجائزة، وهي في حقيقتها نقود حاضرة بنقود مؤجلة في الذمة أكثر منها. فهي في الصورة بيع وفي الحقيقة ربا النسيئة المحرم بالنص والإجماع. بل بلغ الأمر إلى حد الاحتيال على أسوأ أنواع الربا، وهو ربا الجاهلية، الذي نتيجته زيادة الدين مقابل تأخير الوفاء، أو "أنظرني أزدك." فلم يقتصر التحايل على الفائدة البسيطة، بل تجاوزه إلى الفائدة المركبة، التي تمنعها كثير من الأنظمة الوضعية ابتداء، ولا تقبل التحايل عليها بشكل من الأشكال، حتى قال بعض الغربيين: "إن المسلمين يتحايلون على دينهم بما لا يمكن أن نحتال به على قضاتنا." فإذا بلغ بنا الأمر إلى هذا المستوى، فما ظننا بالله؟ أننتظر من الله النصر والتأييد؟ أم نتخوف العقوبة والنكال والحرب في الدنيا قبل الآخرة؟
إن الله تعالى ليس بحاجة لنا حتى نقبل عليه بهذه الحيل والتلفيقات، ودين الله تعالى أعز من أن نتلاعب بأحكامه وشرائعه تلاعب الصبيان. فإذا أردنا لبلادنا السلم والأمن والرخاء، فلننبذ الخداع جانباً، ولنرجع إلى الله رجعة صادقة.
والله تعالى لا يسلط على قوم الخوف بعد الأمن، والهزيمة بعد النصر، إلا بذنوبهم. وليس بعد الأنبياء أكرم على الله من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لما أصيبوا يوم أحُد تساءلوا: من أين جاءت الهزيمة؟ فرد الله عليهم بقوله: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم). فالعلاج يبدأ من عندنا وأسبابه بأيدينا، فإن فرّطنا فلا نلومنّ إلا أنفسن(/2)
الحرص!
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد:
إن بعض الناس يظن أن الحرص مذموم بإطلاق، وليس هذا صحيح، بل الحرص منه المحمود ومنه المذموم، وفي الصحيح من حديث أبي هريرة أن الله يسأل ملائكته عن عباده وهو بهم أعلم فيقول: ما يقول عبادي؟
قالوا: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك.
قال فيقول: هل رأوني؟
قال فيقولون: لا والله ما رأوك.
قال فيقول: وكيف لو رأوني؟
قال يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيداً وتحميداً وأكثر لك تسبيحاً.
قال يقول: فما يسألوني؟
قال: يسألونك الجنة.
قال يقول: وهل رأوها؟
قال يقولون: لا والله يا رب ما رأوها.
قال يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟
قال يقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة.. الحديث(1). وهذا هو الشاهد، فذكر الله حرصهم في معرض المدح.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال _صلى الله عليه وسلم_: "احرص على ما ينفعك"(2)، وفي التنزيل: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ" [التوبة:128].
ولكن الحرص المذموم ما كان على أمر دنيا لا نفع فيه أو ضرره أكبره من نفعه، فمثل هذا الحرص جدير بأن يذم صاحبه، وقد نسبه الله لليهود في معرض التعريض، فقال: "وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ..." [البقرة:96].
ولعل من المفاهيم الخاطئة عد الحرص على أمور الدعوة محمودا بإطلاق والحق أن الحرص حتى على أمر الدين نوعان؛ حرصٌ إيجابي وحرصٌ سلبي، فالحرص إذا كان هو الدأب على اتخاذ الوسائل اللازمة لتحقيق هداية الناس ومقاصد الشرع فهو حرصٌ إيجابي، يفرح ويحزن.
وينبغي أن يتحرك في نفس المؤمن ضمن الأطر الشرعية والعقلية والبشرية، أما إذا كان الحرص يؤثر سلباً على النفس، وربما أحبط فذلك حرص سلبي؛ لأنه تعدى ما يجب من بذل الأسباب والجد والاجتهاد، إلى تعلق النفس بحصول النتائج، وهذا ليس إلينا، ولذلك يقول الله _جل وعلا_: "وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ"، "إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ" [النحل:37]، "فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ" [فاطر: من الآية: 8]، "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً" [الكهف:6]، "لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" [الشعراء:3]، "إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ" [القصص: من الآية56] فكل هذه الآيات تقول للنبي – صلى الله عليه وسلم – عليك بالحرص الإيجابي، أما الحرص الذي يؤدي إلى إجهاد النفس وإرهاقها بأنواع الضغوط النفسية فلا داعي له؛ لأن هداية البشر بيد الله _جل وعلا_، وقلوب البشر بين أصابع الرحمن _جل وعلا_، لا نملكها نحن البشر، وإنما نملك البلاغ، "إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ..." [الشورى: 48]، "فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ" [النحل: 35].
فالواجب الاعتدال في الدعوة، والتفريق بين الحرص على المبادرة وبذل الأسباب واستفراغ الوسع، وبين الحرص الذي يحطم النفس إن فات مقصودها، فذلك حرص على ما لم يجعله الله إلينا، وليس وراؤه إلاّ إثقال النفس بالهموم وإحراقها، أما العمل الدؤوب وبذل الجهد وما باليد من الأسباب الشرعية المقدورة فحري أن نحرص عليه، وهذا من جملة الحرص الإيجابي طالما لم يكن على حساب الواجبات الأخرى، أما أن تتبع نفسك أمراً ليس إليك وتملؤها غماً إذا فاتك ما تصبوا إليه، فذلك الحرص الذي قد يصل بك إلى التشاؤم واليأس والقنوط فالاعتزال، أو الاستعجال فالتنازل عن الدين أو التهور وركوب كل صعب يحسب من الدين وهو منه براء، وكل هذا منهي عنه "فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ" [فاطر: من الآية8].
ولابد أن تعلم أن للهداية أهلاً اختصهم الله بها، "وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ" [يوسف:103]، "فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ" [آل عمران:20]، "إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ" [الشورى: من الآية48]، ولك في مؤمن آل فرعون أسوة تولى وهو يقول: "فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ" [غافر:44-45].(/1)
وفقني الله وإياك للحرص على ما ينفعنا، والاشتغال بما يلينا...
______________
(1) صحيح البخاري 5/2353 (6045).
(2) صحيح مسلم 4/2052 (2664).(/2)
الحركات الاجتماعية..
د. إبراهيم البيومي غانم ـ إسلام أون لاين
الحركات الاجتماعية.. تحولات البنية وانفتاح المجال
الحركات الاجتماعية هي تلك الجهود المنظمة التي يبذلها مجموعة من المواطنين بهدف تغيير الأوضاع، أو السياسات، أو الهياكل القائمة لتكون أكثر اقترابا من القيم الفلسفية العليا التي تؤمن بها الحركة.
وبالرغم من تراجع مفهوم "الحركة الاجتماعية" خلال العقدين الأخيرين في العلوم الاجتماعية كمفهوم تحليلي لصالح مفهوم "المجتمع المدني"، فإن هناك من لا يزال يدافع عنه من المفكرين المرموقين، منهم على سبيل المثال عالم الاجتماع الفرنسي "آلان تورين" الذي يبني دفاعه عن مفهوم الحركة الاجتماعية على أساس موقفه النقدي الرافض لفكر ما بعد الحداثة الذي أعلن انتهاءها لصالح النسبية وتفضيلا لمفهوم الجماعات المدنية المتنازعة في المجال العام التي تدير نزاعاتها عبر آلية التفاوض المستمر وليس الحركات الواسعة الأيدلوجية، فقد انصب نقد تورين على ما بعد الحداثة باعتباره فكرا هداما للنموذج العقلاني الذي وصلت إليه المجتمعات الحديثة عبر نضالات مريرة على مدى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والذي يقوم بالأساس على السعي لبناء إجماع رشيد.
ولا يبدو أن هناك تعريفا جامعا مانعا لمفهوم الحركة الاجتماعية، حيث يتسع حينا ليشمل في طياته مختلف المسارات أو السيرورات الاجتماعية مهما تنوعت أو تعددت، ويضيق حينا آخر؛ بحيث يشير فقط إلى سلوك جمعي له فرادة تميزه، وله بناء وتنظيم وقيادة، ويهدف إلى تغيير الأوضاع القائمة، أو تغيير بعض جوانبها الأساسية على الأقل.
وثمة تصنيفات عديدة للحركات الاجتماعية، فالبعض يصنفها إلى حركات ريفية وأخرى حضرية، أو حركات قومية وأخرى عالمية، وغير ذلك من التصنيفات التي تستند إلى أسس فئوية أو عرقية. ويرى كل من ريمون بودون وفرانسوا بوريكو أن الحركات الاجتماعية تتشكل في الفترات التي تعاني فيها المجتمعات من أزمة، وتسهم هذه الحركات في عملية التغيير وتجاوز الأزمة.
أنواع الحركات الاجتماعية
ويميز البعض بين نوعين من الحركات الاجتماعية هما: الحركات التي تسعى إلى تغيير القواعد والأحكام المعمول بها، والحركات التي تهدف إلى تغيير القيم وتجديد الأخلاق. ويتحفظ كل من بودون وبوريكو على هذا التمييز، فالمواجهة بين مفهوم نفعي وآخر مثالي للحركة الاجتماعية -في رأيهما- هي مواجهة خادعة؛ إذ المشاركون في حركة اجتماعية واحدة قد تحركهم دوافع مثالية وأخرى نفعية في آن واحد. وفضلا عن ذلك فإن الحركات الموجهة نحو القيم لا تشكل كلا متجانسا؛ فالإرهاب "الروسي" كان حركة اجتماعية على غرار المقاومة السلبية لغاندي، وإن كان الأول يلجأ إلى العنف، والثاني يجعل من تنكره للعنف أحد مبادئه الأساسية. ومع ذلك يمكننا اكتشاف سمة مشتركة بين كل الحركات الموجهة نحو القيم، وهي أنها المكان الراجح لليقين الذاتي حسب تعبير ماكس فيبر.
أما الفكر الماركسي فنجده في عمومه يميز بين خمسة أنواع من الحركات الاجتماعية وهي (العمالية، والطلابية، والفلاحية، والنسائية، والثقافية)، ويستند هذا التمييز إلى أن الفئات الاجتماعية الداخلة فيه هي التي تشكل القوى الرئيسية المكونة لأغلبية الشعوب والمجتمعات المعاصرة، وهي في الوقت ذاته القوى الرئيسية للإنتاج، كما أنها أكثر القوى الاجتماعية تخلفا فيما يتعلق بظروف عملها وأحوال معيشتها.
ولكن كيف تظهر الحركة الاجتماعية إلى حيز الوجود؟
وما أهم المراحل التي تمر بها؟
إن تاريخ كل حركة اجتماعية يبدأ في الغالب الأعم بمرحلة من "التعبئة" الأولية؛ بالمعنى الذي قصده باحث بارز مثل كارل دويتش، حيث قصد بالتعبئة حالة اجتماعية متسمة بتزايد الحركية الجغرافية (الهجرة الداخلية) والمهنية، وسرعة توصيل الأفكار وانتشارها، وكثافة الاتصالات؛ أي أن تعبئة المجتمع -في المعنى الذي استعمله دويتش- تشكل واحدة من مقدمات ظهور الحركات الاجتماعية، ولكن هذا الشرط لا يكفي؛ إذ يقتضي أن يتحرر الأفراد من القيود التقليدية، وأن يطوروا قدرة تنظيمية يستطيعون بفضلها تحديد أهداف مشتركة، ووضع الموارد المطلوبة للوصول إلى هذه الأغراض موضع العمل.
وعادة ما يلاحظ في بدء عملية التعبئة وجود مرحلة مبادرات لا مركزية وغير منسقة تطبع بدايات الحركة، وتليها مرحلة العمل المنظم. ويختزل بعض علماء الاجتماع مراحل تطور الحركات الاجتماعية في مرحلتين: الأولى هي المرحلة التلقائية؛ حيث لا تتميز إلا بشيء قليل من التنظيم، وتكون الأدوار غير واضحة، والأهداف غير متبلورة بشكلٍ كافٍ، والثانية هي مرحلة التنظيم الواضح، والبناء الاجتماعي الذي تحددت فيه الأدوار، وتبلورت الأهداف في إطار أيديولوجية متكاملة.
ويمكن القول بأن الحركات الاجتماعية بشكل عام تمر بثلاث مراحل هي:
1 - تبلور فكر الجديد واتساع دوائر انتشاره.
2 - حشد التأييد الاجتماعي له.(/1)
3- تغيير الواقع، أو الإسهام في تغييره.
ويغلب على كل مرحلة نمط خاص من النشاطات والبرامج التي من المفترض أن تسهم في تحقيق أهداف الحركة.
بقيت الإشارة في هذا السياق إلى أن الحركات الدينية هي نوع من الحركات الاجتماعية، وإن كانت تتميز عن غيرها بكونها تمتلك مطلقات ومراجع كونية؛ كما هو الحال مثلا في الحركات الإسلامية، فلديها "مطلقات" عقيدية وإيمانية تجعل المنتمين إليها مستعدين للموت في سبيلها، كما أن لديها مرجعية متجاوزة للواقع المادي وتفسيراته الوضعية؛ كما أن رسالتها تسمو فوق الفوارق بين التجمعات الطبقية والإثنيات العرقية، واللون والجنس؛ ولذلك نجد أن خطاب هذه الحركات يتجه إلى الناس أجمعين دون تمييز، وتتسم أهدافها بالشمول والكلية، مثل هدف "تغيير الحياة"، و"تجديد الأخلاق"، و"إصلاح المجتمع والقضاء على الفساد" و"إقامة حكم الله في أرضه".
المكون الديني في الحركات الاجتماعية
ويؤكد بعض علماء الاجتماع -من ذوي النزعة النقدية- على أن المكون الديني حاضر في جميع الحركات الاجتماعية وليس في الديني منها فحسب، فحتى أولئك الذين يتصرفون على أنهم مجموعات ضغط في خدمة مصالح ضيقة جدا، نجدهم يستدعون قيما مقدسة، وفي رأي ر. بودون وف. بوريكو أن هذا هو ما توحي به الحركة العمالية في الديمقراطية التعددية للغرب الصناعي؛ حيث تقوم النقابات بالطريقة الأكثر واقعية بالدفاع عن مصالح فئوية ساعية إلى المحافظة -في الوقت نفسه- على الصلة بين إستراتيجية النقابة المهنية هذه، وبين تراث من المساواة والأخوة الشاملة. ولعل هذا هو ما يفسر لنا لماذا اتسم - تاريخيا- عدد مهم من الحركات الاجتماعية بالطوباوية - المثالية (والأمثلة على ذلك كثيرة منها: الحركة الاشتراكية، والحركات الوطنية).
من المهم أن نؤكد إذن على أن مفهوم الحركة الاجتماعية لا يزال ينبض بالحياة، بالرغم من التراجع الذي أصابه بفعل صعود موجة المد الأخيرة لمفهوم المجتمع المدني -الوطني والعالمي. ومن الشواهد على ما نقول أن عددا من الجماعات والتنظيمات التي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية بهدف مناهضة العولمة ومناطحة "النيولبيرالية" أصرت على تسمية نفسها باسم الحركات الاجتماعية، وتصدر بياناتها تحت هذا الاسم، ومنها مثلا: "نداء الحركات الاجتماعية/ بورتو أليجري 2003 ومومباي 2004، ضد الليبرالية الجديدة والحرب، ومن أجل السلام والعدالة الاجتماعية.
والخلاصة هي أن الحركة الاجتماعية تتشكل حول مبادئ و"مصالح معينة" بهدف الدفاع عنها، أو للسعي من أجل تحقيقها، وتشمل كلمة "المصالح" -هنا- الجوانب المادية الملموسة، والجوانب الأخلاقية والمعنوية والقيمية.
سياقات تطور وتنامي الحركات الاجتماعية:
السياق التاريخي العام (الاجتماعي والسياسي) الذي تنشأ فيه الحركات الاجتماعية عادة هو سياق "الأزمة"، ومن أهم عناصر هذه الأزمة التي شكلت المناخ العام لظهور تلك الحركات العوامل الآتية:
أزمة الديمقراطية:
تنشأ الحركات الاجتماعية في مواجهة الدولة نتيجة تعثر الدولة في أداء دورها وتدخل الدولة المتزايد للسيطرة على السوق وتدعيم قوتها وتوسعها على حساب المجتمع المدني، وهو ما يتزامن عادة مع تآكل دور الأحزاب السياسية كمنظمات للتعبئة والتمثيل الشعبي، وعندما تندمج الأحزاب السياسية مع النظام وتدور في فلك الحكومة رغبة ورهبة، وتأخذ شكل الأجهزة الملحقة بالدولة، ومن ثم تفشل الأحزاب في أداء وظيفتها الطبيعية في الرقابة وتقديم سياسات بديلة؛ وحتى أوقات الانتخابات نجدها تتوخى الابتعاد عن القضايا الملحة والخلافية، ولا تركز عليها في برامجها وحملاتها الانتخابية.
ويمكن القول بشيء من الثقة أن دور الأحزاب أصبح أكثر ميلا إلى إضفاء الشرعية على الدولة، وفي أكثر من مناسبة بدت الهوية الأيديولوجية لهذه الأحزاب باهتة؛ إذ طغت براجماتيتها على أيديولوجيتها، وتمثلت هذه البراجماتية في التزام الأحزاب المحافظة على الاستقرار المؤسسي. وليس أدل على ذلك من الانخفاض الملحوظ في المشاركة بالانتخابات العامة في الدول الغربية عموما وفقدان الثقة بالسياسيين خصوصا.
وتنشط الحركات الاجتماعية في ظل هذا العجز لتقوم بمهمة تمثيل المصالح وتقديم خطط بديلة والدفع باتجاه التغيير من خارج النظام، ولتمثل قوة ضاغطة تفرض على الدولة تعديل سياساتها وتطوير أدائها.
وهي تضم قطاعات واسعة من المواطنين -خاصة أولئك البعيدين عن مراكز القوة- للدفاع عن حقوقهم المدنية من الناحية الفعلية. ومع اتساع ظاهرة اللامنتمين الذين لا يشاركون عادة في التصويت وقد ينضمون للحركات تطلعا لتحقق تغيير، وأيضا ذوي الأصوات المستقلة.
وقد يكون الضغط سلميا، كما قد يؤدي لظهور أعمال تمرد.
الدولة والسوق والمجتمع المدني(/2)
إن ما سبق يدل دلالة على اختلال التوازن -النظري والعملي- بين ثلاثية "الدولة، والسوق، والمجتمع المدني"؛ فالدولة تضع نفسها نظريا فوق القوى الاجتماعية المتصارعة، ولكنها في الواقع تفرض نفسها على كافة جوانب الحياة الاجتماعية من خلال الأوامر التكنوقراطية، واستيعاب المطالب الشعبية في الحدود الإدماجية، ولكن ما أن تبدأ هذه التركيبة في مواجهة مشاكل الركود والضغوط الاجتماعية الكثيفة فإنه سرعان ما يتآكل النموذج الإدماجي ويحتدم الصراع من جديد.
الآثار السلبية للتحول الرأسمالي:
إن حالة الاحتقان الاقتصادي الذي أخذ مظاهر متعددة: مثل ضعف معدلات النمو، وعدم استقرار العملة، والأزمات المالية الحادة، وتصدع دولة الرفاهة بصفة عامة، بل والانقلاب عليها بشكل واضح وتقليل فرص العمل، وزيادة حدة البطالة، كل ذلك أدى لنمو وازدهار الحركات الاجتماعية الاحتجاجية.
وفي غمار تلك العمليات، حدثت هوة واسعة بين المجال السياسي والمجال الاجتماعي، مع غلبة الطابع السياسي على الاجتماعي "كأن الحياة الاجتماعية لم تَعُد سوى إطار للمنظومة السياسية" (على حد تعبير آلان تورين)؛ لذا تسعى هذه الحركات لكي تحقق مزجا بين مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، وتؤدي أفكارها إلى توسيع النشاط السياسي ليشمل جوانب أخرى غير الصراع على السلطة، ومن ثَم فهي تقدم بديلا جديدا في كيفية ممارسة السياسة، مما جعل بعض المفكرين يطلق عليها اسم "الهيمنة الصاعدة". وتسهم فعاليات الحركات الاجتماعية في بناء مفهوم الهيمنة بهذا المعنى، وفي إعادة تشكيله أيضا؛ ذلك لأن تلك الفاعليات تعني في جوهرها إعادة تعريف علاقات القوة كعمليات غير مؤسسية، والاتجاه نحو الانفتاح والمشاركة في صنع السياسات في مواجهة النموذج التقليدي بتراتبيته المحكمة، وقيادته الحازمة، وتسعى إلى توسيع المجال أمام المبادرات الشعبية عن طريق بناء هياكل محلية (منظمات - اتحادات - عيادات صحية... إلخ)، وتنظيم المظاهرات، والإضرابات، والمقاطعة، والاحتجاج... إلخ.
وهذه الحركات الاجتماعية الجديدة تتميز بأنها لا تسعى لامتلاك مؤسسات السلطة، ولا تزاحم الأحزاب السياسية في مجال نشاطها، فقط هي تأمل في ترسيخ نمط فعال من المشاركة الاجتماعية، على المستويات المحلية والقومية في بلدانها، وعلى المستوى العالمي بالنسبة للحركات التي تنزع نحو هذا الاتجاه، وذلك بغرض التأثير على سلطات صنع القرار وتحقيق مكاسب جماهيرية على مستوى أو أكثر من تلك المستويات.
فهذه الحركات تمثل مرحلة جديدة من مراحل الصراع من أجل الديمقراطية، من خلال الإسهام في إعادة تعريف مفاهيم أساسية مثل الديمقراطية والقوة وأدوات الهيمنة، فهذه الحركات لا تريد منافسة السلطة الرسمية، ولا تعتمد على المنظمات الجماهيرية المعتادة (كالنقابات مثلا) لتوصيل مطالبها إلى السلطة، وتقع في موضع وسط بين المؤسسات الرسمية والمؤسسات الجماهيرية التقليدية، ومع ذلك تنشغل دوما بقضايا عامة تصب في نهاية المطاف في صالح الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
والواقع أن هذه الحركات تمارس الديمقراطية بمعناها شبه المباشر عن طريق أصغر الوحدات الاجتماعية الممكنة (مثل: الأسرة - المدرسة - الحي... إلخ)، وبالتالي فهي تعمق الممارسة الديمقراطية وتجذرها كممارسة على المستوى الشعبي، ربما أكثر مما تفعله المؤسسات التقليدية (الأحزاب - النقابات)؛ أي أنها تمارس السياسة على المستوى الشعبي -القاعدي.
وهذه الحركات تساعد بذلك على تنمية الوعي الجماهيري، وتترجمه على مستويات تنظيمية دنيا، وهذا النمط من الممارسة الديمقراطية هو الأكثر فعالية على المدى الطويل في تحدي الهياكل المسيطرة، وفي مواجهة الهيمنة القائمة، وبناء هيمنة بديلة على المدى الطويل نسبيا.
وهي تدعو إلى الحل غير العنيف لمختلف الصراعات، ولا شك أن انتشار الرؤية السلمية -من وجهة نظر هذه الحركات- يمكن أن يؤثر على الطريقة التي يتم بها حل قضايا عالمية كبرى مثل مشكلة سباق التسلح، وانتشار الأسلحة النووية.. هذا إلى جانب أن الدعوة إلى الحل السلمي للصراعات يسلب الترتيبات -السياسية والاجتماعية- سطوتها؛ لأن هذه الترتيبات تستمد شرعيتها من قدرتها على التدخل بالقوة لحل الصراعات.
من معالم السياسات الجديدة للحركات الاجتماعية:
1 - بناء تحالفات جديدة لا طبقية وعابرة للأيديولوجيا(/3)
ثمة الحركات الاجتماعية الجديدة تحالفا عريضا يتشكل -وطنيا ودوليا- ضد الليبرالية الجديدة المتوحشة، يشمل الحركات الاجتماعية القديمة، والجديدة، ونشطاء المجتمع المدني، وأحزاب الخضر، والأحزاب الاشتراكية، والحركات السلمية، والإنسانية، وجماعات تحرير المرأة، والراديكالية الدينية المنحازة للفقراء والمستضعفين، ولاهوت التحرير والحركات المناهضة للعنصرية... إلخ، كذلك فإن من أهم سمات هذا التحالف هو أنه لا يقوم على أساس طبقي مغلق مثلما كان حال الحركات الراديكالية والتنظيمات النقابية العمالية التي استلهمت الأفكار الماركسية في المراحل السابقة، كما أنه تحالف عابر للأيديولوجيات.
وقد أدى هذا الانفتاح إلى تنوع في الإستراتيجيات التي تتبناها، فمنها إستراتيجية المقاومة العنيفة، وإستراتيجية مقاطعة بضائع الشركات المتعددة الجنسية، وإستراتيجية المنتديات البديلة، والحملات والمظاهرات المتزامنة. وتنهمك بعض الحركات في صياغة رؤى بديلة يتم التركيز فيه على تحرير الموارد من الاقتصاد العسكري، وتوجيهها إلى الخدمات الاجتماعية، والاكتفاء بمجرد الدفاع الوطني فيما يخص عمليا التسلح، مع بذل قصارى الجهد لإيجاد نشاطات كثيفة العمالة بدلا من أن تكون كثيفة رأس المال لدعم الفئات الأضعف ومكافحة البطالة في الغرب وفي العالم الثالث، وإلغاء المركزية التكنوقراطية، والتحول إلى اللامركزية، وإتاحة فرص المشاركة الديمقراطية والقضاء على آليات الإقصاء، وتبني سياسات للاستيعاب عوضا عن سياسات الاستبعاد.
وما نود التأكيد عليه هنا هو أن مثل هذه التحالفات تتضمن تحولا نوعيا في اهتمامات الحركات الاجتماعية نحو الجمع بين المطالب المادية والأخلاقية في الوقت نفسه، بدلا من التركيز على إعلاء النبرة الأخلاقية فقط كما كان يحدث في السابق، حتى إن الحركات المطالبة بحقوق الإنسان أصبحت تعتبر أن التخلص من الفقر هو حق من حقوق الإنسان. ولا تقتصر هذه التحولات التي أشرنا إليها على الديمقراطيين الاجتماعيين والحركات الشعبية الجديدة وجماعات الخضر في الدول الصناعية فحسب، وإنما تشمل أيضا نظراءهم في عديد من بلدان جنوب العالم وشماله. وثمة شواهد تؤكد أن الجميع بات يدرك أهمية تكوين روابط وتحالفات واسعة بين مختلف القوى المناهضة للممارسات السلبية التي تعاني منها الشعوب والفئات الفقيرة من جراء سياسات العولمة.
وتوضح مواقف الحركات الاجتماعية بتوجهاتها الجديدة خلال السنوات العشر الماضية أنها تعيد صياغة تصوراتها التي انطلقت منها في المراحل السابقة بشأن قضايا أساسية تأتي في مقدمتها قضية الدولة وعلاقتها بالمجتمع المدني، والإستراتيجية السياسية للسلطة في إدارة المجتمع، والمشاركة الديمقراطية؛ وذلك بسبب الأهمية القصوى لتلك القضايا بالنسبة لأية محاولة تسعى لبناء مجتمع جديد من جهة، ولعمق التغيرات النظرية والعملية التي طرأت عليها في السنوات الأخيرة من جهة ثانية.
إن التوجه الجديد الذي تنخرط فيه الحركات الاجتماعية سواء في صورة شبكات إقليمية أو تحالفات عالمية هو ظاهرة إيجابية، يمكن أن تسهم في الجمع بكفاءة بين "الدولة" و"المجتمع المدني" ضمن مفهوم إستراتيجي موحد يستهدف أنسنة سياسات التنمية الاقتصادية وربطها بقيم العدالة الاجتماعية والحريات الديمقراطية.
2 - مواجهة الإمبراطورية وبناء بدائل جديدة
تشير ممارسات الحركات الاجتماعية خلال العقد الأخير إلى انحيازها للمنهج التدريجي الإصلاحي في مواجهة قوى الهيمنة المسيطرة على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، خاصة الإمبراطورية الأمريكية. ويبدو أن الخبرات التي اكتسبتها من ممارساتها السابقة التي اعتمدت في كثير من الأحيان على المنهج الراديكالي العنيف قد أقنعتها بعدم جدوى هذا النهج وأوصلتها إلى طريق مسدود في محاولاتها للتصدي للهيمنة القائمة، وفي سعيها لبناء هيمنة مضادة على حد سواء. لذا نجد تنامي الاتجاه إلى التعريف بمطالبهم وطرح رؤاهم وحشد التأييد لها عبر وسائل الإعلام ووسائط الاتصالات فائقة السرعة التي عادة ما تولي اهتماما مكثفا بمثل تلك المواجهات. وتكون النتيجة هي أن الحكومات والمؤسسات التي ترفع لواء الليبرالية والحريات الديمقراطية تظهر بمظهر ديكتاتوري، بل وفاشي في بعض الحالات.
وحتى يمكن أن تنجح الحركات الاجتماعية وتحالفاتها وشبكاتها في بناء هيمنة مضادة وجديدة في الوقت نفسه، فإن أمامها أشواطا طويلة عليها أن تقطعها على درب المنهج التدريجي، باعتبار أنه النهج الأنسب الذي يمكنها من القيام بأداء دورها في عملية المزج الخلاق بين اعتبارات نظام السوق من ناحية، واعتبارات التضامن الاجتماعي وتفعيل مؤسسات وهيئات المجتمع المدني من ناحية أخرى، مع اعتماد الوسائل السلمية الجديدة التي بدأت تأخذ طابعا عالميا هي الأخرى.(/4)
وإذا كان صعود مفهوم المجتمع المدني خلال الربع قرن الأخير قد خطف الأضواء من الحركات الاجتماعية، فإننا نعتقد أن النشاط المكثف لهذه الحركات خلال العقد الأخير وبخاصة على الصعيد الدولي في مواجهة سلبيات العولمة، ومن منظور مستقبلي يمكن القول أنه كلما ترسخت هذه السمات اتسع المجال أمام الحركات الاجتماعية الجديدة كي تصبح قوة مضافة للقدرة التمدينية Civilizing Potential للنظام الديمقراطي، بشرط الانحياز للإنسان أولا وقبل كل شيء؛ وذلك حيثما تيسرت أمامه سبل الحياة، واتسعت أمامه حرية الاختيار بين بدائل متعددة وجيدة، سواء كان في شمال العالم أو جنوبه، في غربه أو شرقه.
وفي العالم الإسلامي نلاحظ أن التيار العام للحركات الاجتماعية ارتبط بالإسلام وتجديد الخطاب الديني؛ ليصبح مرتبطا بواقع الناس وقضايا العدل والمشاركة السياسية، ودارت الحركات الإسلامية حول مفهوم استعادة تطبيق الشريعة في مواجهة تحديث الدولة قبل وبعد الاستقلال، وإن ميزنا هنا بين ما يمكن بثقة تصنيفه حركة اجتماعية واسعة كالإخوان المسلمين، وبين حركات تغيير بالقوة لا تندرج تحت وصف "الاجتماعية"، بل هي سياسية صرفة. ونمت بجوار هذا التيار العام حركات اجتماعية عمالية/ نقابية وأيدلوجية (ليبرالية ويسارية)، ولم تبرز حركات مساواة المرأة (بالمعنى الحركي وليس النخبوي) إلا متأخرة -على ضعفها- وكذا أنصار البيئة، مع دور ما زال للأسف محدودا لحركة حقوق الإنسان العربية وارتباط للحركة النقابية العمالية بالدولة إلا فيما ندر من انتفاضات عمالية، وشبه غياب لحركة فلاحية قوية.
وقد كشفت تجارب تلك الحركات على مدى النصف الثاني من القرن العشرين عن وجود اختلافات في مستويات أدائها ودرجات فعالياتها؛ وذلك في ضوء الأهداف التي سعت إليها، والآليات التي استخدمتها، والسياق الاجتماعي الذي عملت ضمنه، واللحظة التاريخية التي نشأت فيها أو مرت بها... إلخ، ولكن الصعوبة الكبرى التي واجهتها ولا تزال تواجهها هي أنها تعمل بعيدا عن الأطر الرسمية للنظام السياسي، بمعنى أنها تفضل العمل من خارجه، لا من داخله، وهي وإن كانت بمثابة قاعدة لانطلاق النقد الاجتماعي وممارسته بشكل فعال والسعي للتغيير، إلا أنها تظل في أغلب الأحوال تشكل في مجموعها الكلي غير محدد الملامح وغير متجانس إلى حد كبير؛ الأمر الذي يؤدي إلى آثار سلبية متعددة تتركز في انكفاء هذه الحركات على ذاتها، وتقليل فعاليتها بصفة عامة.
العمل المدني
وإذا كان العمل المدني هو عصب نشاط الحركة الاجتماعية، إلا أنه غير كافٍ لضمان نجاحها، فالنجاح يتطلب تغيير التركيبة السياسية المهيمنة في المجتمع، ومن ثَم فإن أي حركة اجتماعية تواجه تحديا أساسيا من أجل تطوير إستراتيجية سياسية شاملة تكفل إنجاز هذا التغيير الذي تسعى إليه.
وعندما يثور الحديث عن وجود "مجتمع مدني عالمي" يصبح السؤال: كيف يمكن الحديث عن تجانس بين حركات تأتي من مجتمعات تتفاوت في نوعية تطورها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؟ فالحركات الاجتماعية العربية مثلا مختلفة عن نظيرتها في البلدان المتقدمة؛ وذلك لاختلاف مسار ووضعية التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي لكل منها، ومن ذلك على سبيل المثال: وجود شريحة واسعة من المواطنين "المهمشين" الذين يقفون خارج النظام الاقتصادي الرسمي لبلدان العالم الثالث، ووجود فوارق طبقية حادة في مجتمعات هذه البلدان، خاصة البلدان العربية، وتعدد عناصر الانقسام الرأسي التي تقوم على أسس عرقية وإثنية ودينية، وكل هذه العوامل توفر بيئة ملائمة لظهور ونمو الحركات الاجتماعية: إما على أساس شعبوي أو ديني أو ثقافي أو إثني.
وغالبا ما تكون مطالب هذه الحركات متسمة بالعمومية البالغة، كما أنها تتميز بالقدرة على الاستمرار مقارنة بالأحزاب السياسية التي لا تجد في ظل مناخ الاحتقان السياسي والتعثر الديمقراطي بيئة ملائمة لوجودها أو تطورها، وهذا عكس الحال في المجتمعات الغربية المتقدمة التي تمتعت فيها الأحزاب بوجود قوي، ولكنها أدت إلى تجميد التطور الاجتماعي، ومن ثَم إلى نشأة حركات اجتماعية تعبر عن اهتمامات جديدة غير اقتصادية أو "ما بعد مادية"، مثل قضايا البيئة، والمحافظة الأخلاقية، وحركات التجديد الديني المسيحية بأنواعها، وحركات المرأة والنسوية على تنوعها، وأخيرا حركات مناهضة العولمة.
وبينما تكون الفرصة كبيرة لتطوير عناصر الاتفاق بين الحركة الاجتماعية والأوضاع القائمة في النظم المتقدمة عبر تقاليد الحوار والحريات التي تتيحها تقاليد الممارسة الديمقراطية، فإنها على العكس من ذلك في البلدان المتخلفة، حيث تنعدم مثل هذه التقاليد -أو تكاد- وتأخذ علاقة الحركة الاجتماعية بالدولة طابعا تصادميا، وأكثر عنفا وثورية، مقارنة بما عليه الحال في المجتمعات الصناعية المتقدمة، حتى لو كان هدفها مجرد تنظيف الشوارع كما حدث في بلد عربي بالمشرق.(/5)
وأيا كان الأمر فإن الحركات الاجتماعية سواء كانت في شمال العالم أو في جنوبه لها بلا شك أهداف سياسية معلنة أو مضمرة؛ ولا يعني هذا الرغبة في الاستيلاء على السلطة، بل تغيير علاقات القوة الذي هو شرط للتغيير، فهي تستهدف نقد السلطة عبر وسائل متنوعة، وتهدف لإحداث تغييرات في النظام القائم أو في بعض جوانبه على الأقل.
ومع دخول حقبة العولمة منذ تسعينيات القرن العشرين الماضي مرحلة جديدة توحشت فيها جوانبها الاقتصادية والعسكرية اتجهت الحركات الاجتماعية الفاعلة -وبخاصة في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة- إلى تبني رؤى جديدة تكاد تكون مغايرة تماما للرؤى التقليدية الضيقة التي تبنتها خلال الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وهذه الرؤى الجديدة تستمد مضامينها الفلسفية والفكرية من مبادئ إنسانية عامة مثل مبادئ حقوق الإنسان، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة، والمحافظة على البيئة من أجل الأجيال القادمة... إلخ.
فهل تتمكن بأن تسهم في حل مشكلات المجتمعات المعاصرة والتحديات التي تجابهها في عصر العولمة؟ طموح مشروع وأفق مفتوح.(/6)
الحركة الإسلامية ومنهج فهم الشريعة
كمال السعيد حبيب 4/8/1424
30/09/2003
الشريعة هي المنهج الواضح الذي لا لبس فيه ولا غموض، واتِّباعه هو الطريق المستقيم الهادي لمسلك النجاة، ومن ذلك قول الله تعالى للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الجاثية:18] ، وقوله تعالي: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)[ الشورى: من الآية 13] ، وقوله تعالي: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) [المائدة: من الآية 48] . والشريعة الإسلامية هي كلمة الله الخاتمة والأخيرة للبشرية؛ لأنها جمعت فضائل الشرائع السابقة جميعاً, وشملت خيرها وبركتها، وبها أكمل الله دينه وأتم نعمته على الناس، ورضيها سبيلاً واضحاً لا غبش فيه ولا غموض ولا التواء أو تحريف (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) [المائدة: من الآية 3] ، وفي قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9] دليل على حفظ الله للشريعة الإسلامية من التحريف أو التبديل أو العبث، وهو ما تعرضت له الشرائع السابقة.
وكما هو معلوم فإن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- جاءه القرآن وحياً من عند الله ومعه السنة التي هي كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- لتوضيح ما أُبهم، وتفسير ما استغلق، وتقييد ما أطلق، وبيان معاني القرآن ومقاصد الشريعة.
وفي التنزيل (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: من الآية 44] ، والذكر هنا السنة التي تبين للمسلمين القرآن، وهو ما أنزل إليهم؛ فالسنة هي التي وضحت للناس كيفية أداء مناسكهم وعباداتهم وأيضاً معاملاتهم في الزروع والتجارة والزكوات والقصاص والديات والقضاء والشهادات.
وبعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، واتساع الفتوحات الإسلامية ودخول أجناس وبلدان وحضارات في عالم الإسلام؛ بدأ الصحابة يجتهدون بآرائهم واجتهاداتهم، ودخلت مسألة المصالح المرسلة وأعراف الناس في اجتهادات الصحابة في ذلك العصر؛ فمن اجتهادات عمر -رضي الله عنه- أنه جعل الغنائم هي المنقول فقط، أما الثابت فقد جعلها ملكاً للدولة ولمن بقي من المسلمين وذراريهم ، كما اجتهد لأهل الأرض التي فتحت عنوة، وجعل حكمها أقرب لحكم البلدان التي فتحت صلحاً، كما حدث في أرض السواد التي يمثلها العراق اليوم وإيران، حيث كان أهل هذه البلدان يزرعون أراضيهم التي يملكونها، ويدفعون خراجها للدولة الإسلامية، ومن ذلك اعتبار الطلاق ثلاثاً في طلقة واحدة طلاقاً بائناً لما استسهله الناس واستهانوا به، ومن ذلك تعيين ممثلاً من قبل الدولة المسلمة لرعاية ضوال الإبل في عهد عثمان خشية أن تمتد أيدي الناس إلى هذه الإبل ولا يعيدوها لأصحابها، ومن ذلك إنشاء الدواوين، كما كان يفعل أهل الفرس، ومن ذلك إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم لسقوط علة حصولهم على عطائهم من هذا السهم، وهو عدم حاجة المسلمين إليهم بعد قوة الإسلام ورسوخ شوكته. ومن ذلك جمع القرآن الكريم كله وعدم تركه مفرقاً في الرقاع والعظام التي كان الصحابة يكتبونه عليها.
وتميز الاجتهاد في عصر الصحابة بالشورى، حيث كان الصحابي يشاور أقرانه من الصحابة في المسائل التي تعرض عليه، ولكن مع توزع الصحابة في الأمصار بدأت تتكون مدارس فقهية متأثرة بالبيئة التي نشأت فيها هذه المذاهب؛ فمذهب أهل الحديث نشأ في الحجاز، بينما نشأ مذهب أهل الرأي في الحواضر الإسلامية بالعراق، وكل من المدرستين كان لها منهجها الذي فتح آفاقاً هامة للفقه الإسلامي، فكان أهل الحجاز يجمعون فتاوى الصحابة ويلتزمون فيما يفتونه بالنص، فإن لم يجدوا توقفوا عن الإفتاء، أما أهل الكوفة؛ فإنهم كانوا يبحثون عن علل الأحكام والأقيسة، وكلهم أخذوا عن الصحابة، فمدرسة الحجاز سارت على منهج عبد الله بن عمر وابن عباس، أما الكوفة فشربت من حوض ابن مسعود وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، حتى تضلعت منه، ثم تكونت المذاهب الفقهية، وهي تعبير عن أعلى مظاهر الدقة العلمية والضبط، ولم يكن قصد الإمام أن يكون له مذهب باسمه، ولكن تلامذته من بعده هم الذين جمعوا مسائله وشرحوا طريقته في الفهم والاستنباط، وهو ما أصبح مذهباً له، أي طريقة في فهم الشريعة.
نحن هنا أمام فقه إسلامي وشريعة تنمو بمرور الزمن عبر استجابتها لما يطرأ من أسئلة وأحوال جديدة، وأداة الشريعة الإسلامية في ذلك هي الاجتهاد، أي بذل الفقيه المتخصص جهده لفهم واقع الناس، والإجابة عمّا يعترضهم من قضايا ومسائل جديدة.(/1)
ومع الشافعي في القرن الثاني الهجري بدأت الكتابة المنظمة عن أصول الفقه؛ فكانت "الرسالة" للإمام الشافعي أول عمل متكامل في هذا السياق، ومن بعده وضعت كتب الأصول والقواعد الفقهية العامة، وحتى وضع كل مذهب لنفسه قواعده.
والمتأمل لكل الأنشطة الفكرية والثقافية للمسلمين منذ بدأ عصر التدوين كله منصب حول الشريعة الإسلامية، فكل العلوم نشأت من أجلها وليس الفقه وحده؛ فعلم النحو والبيان والبديع والتفسير والعقيدة والفرق والحديث وعلومه كل هذه العلوم انبثقت من الشريعة ومن أجلها.
الحركة الإسلامية وفهم الشريعة
كما أوضحنا؛ فالفقه الإسلامي في غالبه يدور حول القضايا الاجتهادية التي تتنازعها أنظار المجتهدين، فمعنى اجتهاد الفقيه أنه يجتهد في مسألة محتملة للاختلاف، وكان قصد الفقهاء من اجتهاداتهم توسيع قدرة النص الشرعي على استيعاب الواقع بقضاياه الجديدة، فالفقيه يفتق النص عن معان جديدة، ويبدع في اجتهادات كانت غائبة من أجل التيسير على الناس، ومن أجل جعل النص والوحي متصليْن دائما بواقع الناس وحياتهم، وفي كتاب هام لابن القيم عنوانه "الطرق الحكمية " أوضح أن للشريعة الإسلامي أكثر من مئة طريقة للوصول إلى الحكم بين الناس، أي أن الشريعة قادرة على الاستجابة للواقع، وهي أوسع بكثير من مجرد النص، خاصة في مسائل الحكم والسياسة الشرعية.
فمصادر مثل الاستحسان والمصالح المرسلة والعرف وقواعد مثل المشقة تجلب التيسير، ولا ضرر ولا ضرار، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، ودفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وتحمل المفسدة الأدنى بدفع الأعلى وجلب المصلحة الأعلى وإن فاتت الدنيا، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وغيرها مما تزخر به قواعد الأصول، والتي تدور مع حفظ الأصول الكلية الضرورية الخمسة للشريعة؛ وهي: حفظ الدين، والعقل، والنفس، والمال، والنسل؛ مثلت أدوات هامة للمجتهدين في فتح أبواب واسعة من النظر الاجتهادي الفقهي الذي جعل الشريعة موصولة بحياة الناس.
ومع مجيء الحركة الإسلامية بعد سقوط الخلافة، ومحاولة العودة بالشريعة مرة أخرى لواقع الناس بعد محاولة العلمانية فصلهما؛ نلاحظ أن الحركة ركزت في الشريعة والفقه الإسلامي على الجانب الثابت الذي لا يتغير، وهذا شئ طبيعي، حيث تريد الحركة أن تعيد الناس إلى مناهل القيم والعقيدة والقضايا المجمع عليها، وهذا شئ ضروري في العلم، أن يتعلم الناس كبار مسائل العلم وقضاياه قبل صغارها؛ فكان الاهتمام بالعقيدة باعتبارها الأساس لبناء الفرد المسلم، ثم قضايا العبادات خاصة ما يتصل منها بالصلاة والصيام والحج والزكاة، لكن الحركة الإسلامية لم تعر اهتماماً لقضايا الواقع، خاصة وأنها مطالبة بالتعامل اليومي معه، كما أنها مطالبة بطرح البدائل واتخاذ القرارات، وتحديد المواقف من قضايا الواقع.
فقه الواقع ودخول الانتخابات
وبالطبع مسائل العبادات هي من المسائل التي نقلد فيها من سبقنا، أما وجود نظرية للحركة الإسلامية للتعامل مع الواقع؛ فقد كانت غائبة، وذلك بشكل أساسي؛ لعدم فهم الشريعة ذاتها، والتمييز بين قضايا الإجماع ومسائله والعبادات وبين قضايا الواقع وأجوبته، التي تدخل فيما يطلق عليه الجانب المتغير من الشريعة؛ فمثلاً قرار مثل كيفية التعامل مع الواقع بتغييره يدخل في سياق مسائل السياسة الشرعية المتصلة بفهم الواقع وإعطائه حقه من الواجب، وهو قرار تتنازعه المصالح والمفاسد، وفهم الواقع ذاته وتأمله، ولا يخلو فهم الواقع هذا من دراسة طرائق التغيير الاجتماعي الذي توصلت إليها العقول البشرية، وطرق التغيير مفتوحة ولا توجد طرق تحددت سلفاً بحيث لا يجوز لنا أن نتجاوزها مثلاً .
ومن ذلك قرار دخول الانتخابات مثلاً؛ فهذا قرار متصل بدراسة الواقع وأجوبته مفتوحة، فقد يدخل المسلم الانتخابات، ثم تتغير نظرته لواقعه فيتغير اجتهاده، هنا المسألة تدخل فيما يعرف في السياسة بـ"نظرية القرار السياسي"، ولا توجد أية صلة بين دخول المسلم الانتخابات أو تصويته فيها أو ترشيحه أو نجاحه وبين منافاة التوحيد، كما صنف بعض الأخوة مصنفاً وأسماه "القول السديد في أن دخول مجلس الشعب مناف للتوحيد"؛ فمال التوحيد وقرار دخول الانتخابات من الناحية المنهجية؟! كل موضوع منهما يقع في سياق شرعي مختلف؛ فمسائل التوحيد متصلة بقضايا الشريعة القطعية المجمع عليها، والتي هي من جزء من عقيدة المسلم، أما مسألة دخول انتخابات فهي متصلة بالواقع وقضاياه الذي يمثل الاجتهاد أحد أدوات مواجهته، فما الذي خلط المسألتين معاً؟.(/2)
وقد لاحظت في تأملي لهذه القضية أن المودودي وهو الذي كتب المصطلحات الأربعة في تأسيس معنى الرب والإله والتشريع والحاكمية، حين تعرض للنظام السياسي في كتابه "تدوين الدستور الإسلامي" إذا به يطرح اجتهادات متصلة بالواقع، ومنفتحة لأبعد الحدود، ولا يمكن فهم ذلك إلا عن طريق فك الاشتباك من الناحية المنهجية بين القضايا الاعتقادية القطعية، وبين غيرها من قضايا الواقع الاجتهادية، بحيث لا نقحم العقيدة في مسائل الواقع الظنية الاجتهادية ومنتهك القضايا الاعتقادية مع تحقق الشروط وانتفاء الموانع عنه يخرج من الملة، أم قضايا الواقع الظنية، فأقصى ما ينال المجتهد المخطئ فيها أنه أخطأ، ولا وزر عليه.
فهْمُ الحركة الإسلامية للشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي فهماً صحيحاً هو المدخل لبناء نظرية للتعامل مع الواقع الراهن في كل قضاياه المتشعبة والصعبة، وذلك بالتمييز المنهجي داخل الشريعة الإسلامية بين قضايا العقيدة والقيم الثابتة، وبين قضايا الواقع الظنية الاجتهادية المفتوحة التي لا تنتهي، فالإسلام لا يعرف نهاية التاريخ، ولكنه يؤمن بجدل الإنسان الذي لا ينتهي مع واقع(/3)
الحركة النسوية الغربية وأثرها في المجتمعات الإسلامية
01-5-2005
بقلم د. محمد بن حامد الأحمري
"...هذه نماذج ليست لتكون هنا سنة أو بديلاً , ولكنها محاولة للهروب من نمط هذه المدنية الغربية وأخلاقها الجشعة ..."
كانت ليلة عاصفة من النقاش مع غير المسلمين. كان النقاش في الكنيسة عن الإسلام وموقفه من قضايا عدة , وقد دعت لهذا اللقاء إحدى كنائس "البروتستانت" في أمريكا. كلفت باللقاء , وتهيبت ما أمامي منه أيما تهيب , وسيحضر اللقاء معي مسلم واحد -حديث العهد بالإسلام - وهذا امتحان لدينه أمامه وأمامهم , وأمامنا لقاء مفتوح مع شخصيات كنسية رغبت في التعرف والنقاش , وهم كثرة ونحن قلة , ومعهم قسيسة متخصصة في الإسلام والعالم الإسلامي , رأيت - قبل قدومي - بعض ما درسته , وعرفت من لقاء سابق , أنها مهتمة جداً بالإسلام ودراسته من شتى الجوانب , عقيدة وسلوكاً وتاريخاً, وبدى ذلك واضحاً من ورقة البرنامج.
وما أن بدأت الحديث , حتى ثارت إحدى الجالسات في لهجة مندفعة وصوت عال وسلوك نزق , تشتم الطريقة التي أجبرها أهلها فيها على اعتناق المسيحية ودراستها ؛ فقد أجبروها على ما تكره , وألزموها ديناً , فيه الكثير من غير المعقول , فتورمت أنوف الشيوخ الكبار والعجائز المشاهدات , وضاقوا بها وبتعرضها وتشويهها للمسيحية أمام المسلمين , وفي موجة غضب , كانت تهجو المسيحية وتسأل المسلمين وتنتقد الموجودين .
ثم هدأ الموقف - بتهدئة ذوي الأحلام - ليأخذ السياق طابع الجد والنقاش المباشر , وقد هيأ الله لنا باباً في الحديث - هم فتحوه - وكان موضوع (المرأة) .
ولا يأتي ذكر الإسلام عند الأمريكان خاصة , إلا مرتبطاً بالحديث عن أمر المرأة . وكيف أن الإسلام يمنعها من التعليم والحياة , وموقف الإسلام من المرأة يحدده سلوك "طالبان" في أفغانستان ؛ فهو تجهيل للمرأة وحرمان . كما أن السلوك الإسلامي للرجل , يحدده صدام و القذافي والخميني , فهو كراهية للأجناس الأخرى , وحقد وفشل وحصار .. وما شابه .
ومشكلة المرأة في المجتمع الغربي , عقدة حقيقة في الثقافة الأوروبية القديمة , ثم حملتها المسيحية معها عندما تنصرت الشعوب المتوحشة المتخلفة ؛ فقد كانت هذه الشعوب - قبل تنصرها - تشرب الخمر, وتتزوج زوجة واحدة يمتلكها الرجل مدى الحياة ويخونها , ويزني بمن صادف من زمان التوحش إلى زمان "كلنتون" .. ثقافة يتوارثها الآباء عن الأجداد , في البيوت والمكاتب والمدارس والكتب .. وغيرها .
ذكرت لهم : أن عقدة المرأة لم تكن في المجتمع الإسلامي كما هي في ثقافتهم , وأننا اليوم قد استوردنا المشكلة مع مطاعم "مكدونالد والكوكاكولا", وأصبح همهم في هذه "الكنيسة" هو همّ الشارع "المسلم" , فيكفي أن تطلقوا نكتة أو تحدث مشكلة ؛ فتصبح مشكلتنا ! يكفي أن تنشر عندكم صورة إمرأة "بلباس غريب" أو "موضة حديثة" فتكون - هذه - موضة المغلوبين على أمرهم , ولم تسمعوا ولم تروا ولم تكبر عندكم كما كبرت عندنا .
وقرأت "لشريعتي" في مقارنته بين أسلوب تقدم المرأة في البلاد المتخلفة والدول القوية "أن المرأة تقدم في "فرنسا" على أنها بطلة من أبطال المقاومة ضد "ألمانيا" وتحرير باريس من النازيين , وضمن الأساتذة والكتاب والمترجمين والمكتشفين والمخترعين والمناضلين السياسيين والقائمين بخدمة البشر .. وأمور وتخصصات من هذا القبيل , أي الجهاد والمشاركة الفعالة بأكثر ما يمكن , من المفاخر التي كانت - في الغالب -قاصرة على الرجال , أما المرأة العصرية - هنا في إيران- فإن الإحصائية الوحيدة التي تقدمها كدليل دقيق لمعدل التقدم والتطور والحرية لديها, وأكثر الأناشيد الحماسية التي ينشدنها إيقاعاً , ويعتبرنها من الانتصارات التي اكتسبنها في طريق الحرية والتقدم , إنه منذ سنة 57 حتى 76 - وفي فترة لا تزيد عن عشر سنوات تضاعفت - مؤسسات التجميل والزينة وبيع لوازم الزينة والرموش والأظافر الصناعية في (طهران) خمسمائة ضعف , مما أسعد أصحاب محلات من أمثال كريستين ديور" أ.هـ بتصرف , (العودة إلى الذات ص 80). ثم يشير - في مكان آخر - إلى أن النساء الجاهلات أو الأقل تعليماً ومدنية وفي ريف إيران - أشد تعلقاً بالموضات الفرنسية وإنفاقاً عليها , من ساكنات طهران . وكانت إيران تستورد من مساحيق الزينة , أضعاف ما تستورده من المنتجات الثقافية .
ولما وهب الله المرأة من الحساسية الاجتماعية العالية, وسرعة التقليد , والتي تتمثل في تعلم الأشكال والأصوات , بل والبراعة في تعلم اللغات أكثر من الرجل , وهي أمور تساهم سلباً , كما تساهم إيجاباً. فعلى مجتمع الرجل المنهار- التابع لغير المسلمين - ألا يصب اللوم على المرأة وحدها , ولكن الحل أن يبرز الرجال منهم أساتذة ومن النساء يكن قدوات ؛ فينقلب الأمر, كما حدث في "مجتمع النبوة" الأول , وكما يمكن أن يحدث في أي مجتمع بشري . فالنخبة الواعية قادرة على قلب الموازين الثقافية .(/1)
ولما عرجت على أن المرأة المسلمة لم تعرف عقدة الكراهية والشتم - التي امتلأت بها كتب النصارى , وأنها تملك حق الزواج والطلاق والميراث , وأن تكون لها تجارتها وعملها ومالها الخاص , منذ أكثر من أربعة عشر قرناً , وأن خديجة - رضي الله عنها - كانت صاحبة مال وأعمال , عمل عندها الرسول (صلى الله عليه وسلم) في تجارتها . وكان للنساء حضور في الحركة الجهادية والعلمية والسياسية في الإسلام , وما هند بنت عتبة , وعائشة وخطبتها يوم الجمل , بغريبة في الثقافة الإسلامية .
قال الذهبي : - ناقلاً عن (الأحنف بن قيس) لقد استمعت لأبي بكر وعمر , فما سمعت مثل عائشة يوم الجمل أفخم كلاماً. إن مجتمع خفت فيه العقد الداخلية , ولم يستورد أمراض الشعوب الأخرى - كحالنا اليوم - , تمرضه كل هبة ريح , أمل القوي فيستقوي بالوافد , ويضع الصالح لبنة في بنائه الضخم .
ثم أخذنا نستشهد جاء في الإنجيل: "وكما تصمت النساء في جميع كنائس الاخوة القديسين فلتصمت نساؤكم في كنائسكم , فلا يجوز لهن التكلم , وعليهن أن يخضعن كما تقول الشريعة, فإن أردن أن يتعلمن شيئا, فليسألن أزواجهن في البيت, لأنه عيب على المرأة أن تتكلم في الكنيسة" فليس لها أن تتكلم أو تتعلم في الكنيسة . ودع هذا النص , للتالي العجيب ؛ يقول الإنجيل : "فالمرأة المتزوجة تربطها الشريعة بالرجل ما دام حياً, فإذا مات تحررت من رباط الشريعة .. هذا وإن صارت إلى رجل آخر وهو حي فهي زانية" وهنا جاء السؤال هل ترون - معشر الحاضرين - هذا عدلاً ؟ وضجوا .. لا ؟!
لقد كان النقاش والتعقيب منا ومنهم , لنا نصراً , وشعرنا بالانشراح والابتهاج ؛ لأنهم اعترفوا بهذه الحقيقة , وليست هناك مشكلة عندها أن تسوق الأمثلة - بلا نهاية - على الشك والتناقض في أصولهم . وختاماً أقرت خبيرتهم فقالت: "بكل بساطة ووضوح , إن المرأة في المسيحية ما هي إلا جزء من ممتلكات الرجل والمسلمون منذ 14 قرناً , أعطوا للمرأة ما ترون . حقاً إنه عدل مبكر جداً".
الانتقام من المسيحية بالحركة النسوية
كنت قبلها بفترة يسيرة , اطلعت على كلمة لأحد الكتاب الأمريكان , قال فيها : "إن تعاملنا مع مسألة المرأة هذه الأيام , يدمر مجتمعنا" . فالمرأة التي تصبح وتمشي على ثقافة الحركة النسوية المتطرفة , والتي تطالب بأن يخاطب الله - عز وجل - بضمير المؤنث أيضاً "عز وجل عما يفترون" لأنهم إن وصفوا الله بضمير التذكير ؛ ففي هذا امتهان للمرأة . بل لا بد من الإشارة بالضميرين بالتساوي . وجعل كلمة "هي" و"هو" في كل مكان سواء . وأيضاً - يقول : "والأسرة التي تسمع , والأطفال .. هذه الحروب الثقافية , كيف يمكن أن تصنع هذه الثقافة أسرة سعيدة ؟ بل وكيف يشعر الأطفال والآباء أن بينهم مودة ومحبة ؟ إن الأصوات الصاخبة بحقوق المرأة , لم تعد عليها إلا بالتدمير والكراهية والطلاق والمضايقة في مواقع العمل والشوارع , والامتهان والسخرية . إن العلاقة بين الزوجين ليست علاقة "قانونية" مجردة , إنها حب ووئام وألفة وإنصاف ومشاركة , يدخل القانون وقت المشكلة فقط .. وكم كانت الحياة سعيدة هادئة , قبل الحركة النسوية ؟
إن سياق الحزازات والمماحكات بين الرجل والمرأة - والتي أدت لحصول المرأة على نصف ممتلكات الرجل عند الطلاق أو الانفصال - هي التي تجعل الرجل يكره الزواج , ما دام الزنا سهلاً , ويصون عليه ماله , ويتهرب به حتى من المسئولية عن أطفاله .
بل أوجدت هذه القوانين نوعاً جديداً - بدأه شياطين الأفلام - وهو "زواج العقود" وهو (عقد يظهر فيه الرجل على أنه زوج للمرأة ولكن لا يسجل زواجاً) , ويكتب عقداً يبين فيه أنه في حال الانفصال - لكثرته عندهم - ؛ فليس له عندها شيء , وليس لها عنده أي التزام ؛ لأن الحيلة - بأن توقعه في الزواج أو يوقعها - سادت في المجتمع المنحرف , ليخرج - بعد أيام - بنصف مالها , أو هي بنصف ذلك ؛ فكانت هذه الحيلة - التي تجعل العلاقة علاقة نفاق وعدم ثقة وحرب - مبطنة بالابتسامات للمصورين , والتظاهر بالسعادة والحياة الجميلة . وأكثر من نصف الزيجات تنتهي بالطلاق4 في عامة المجتمع , أما بين هذه الطبقات فلا تكاد النسبة تذكر , للباقين على زواجهم . على الرغم من أن الرجل يعاشر المرأة وتعاشره مدة أطول قبل الزواج , منها بعده .(/2)
إن النقمة العارمة من التاريخ المسيحي والعرف الوثني الغربي - الذي يحقر المرأة ويجعلها من سقط متاع الرجل - ؛ هو من أسباب سن القوانين المناصرة للمرأة , والتي تفضلها على الرجل , ولكن .. ماذا جاءت به هذه القوانين ؟ بالمزيد من الكراهية والاستهتار . فالأمريكي العنيف , لم يزل يفكر بالفتوة , والرجولة , والقوة , والغلبة على المرأة والهندي والملون . ولا أنسى قول أستاذنا - لزميل لنا عربي حصلت له مشكلة مع رئيسة التسجيل في الجامعة - قال له الأستاذ : "اذهب وقل لها كذا ؛ فرد الطالب بما يوحي بخوفه منها أو تمسكها برأيها , قال له منتهراً : أنت تخاف من امرأة ؟ حدثنا فيما بعد بالقصة .. يتعجب من أسلوب أستاذه في الاستهتار بصاحبة المنصب الرفيع , التي تهتز لقولها فرائص طلاب العالم الثالث (المتخلف) , إذ يقلبون القوانين والثقافة - دائماً - لتكون ضدهم . صحيح .. إنه قول جريء وغريب في ذلك المجتمع ؛ فهم يمارسون قهر المرأة دون صراحة , والعمل الذي يسندونه لها , يعطونها أقل مما يعطون الرجل , وقد تعمل عملاً أكثر وأشق .
المرأة ومرحلة المجتمع
ولكن المجتمع الأمريكي إلى الآن مجتمع رجولي , وعندما يضعف وينهار سوف تأتي المرأة على رأسه , كما جاءت (تاتشر) عند غروب ونهاية بريطانيا ؛ لتعلن ضياع الأدوار وسقوط همم الرجال , وتواري بأسهم . لقد كان أمراً يستحق الملاحظة أن الدول الإسلامية التي تمت فيها انتخابات حرة ؛ قد تزعمت فيها المرأة أول الحكومات الانتخابية .
في تركيا, والباكستان , وبنغلادش , وأندونيسيا .. لماذا ؟ بل وفي الهند والفلبين - إذا ألحقنا دولاً أخرى ضعيفة أو متخلفة بمقاييس العصر - , بينما هذه المرأة الفرنسية , لم تصل في الانتخابات الحرة بعد الثورة , ولا بعد العلمانية المتطرفة , ولا زمن قوة فرنسا , ولم تصل أمريكا بعد , مع كونها أطول الديموقراطيات الرئاسية عمراً , وهذه اليهودية (مادلين ألبرايت) أول امرأة تتولى منصباً مهماً , في تاريخ أمريكا ؛ بسبب مال اليهود ونفوذهم . ولكنها لا تحلم بالرئاسة , ولو كانت هناك من امرأة قريبة أمل بالرئاسة في أمريكا ؛ فهي المترجلة (إليزابيث دول) . ولكن أمريكا القوية لم تصل بعد إلى عهد النساء , واختلاط المهمات .
ولماذا المرأة في الدول الإسلامية فازت ؟ سأل أحدهم هذا السؤال في مجلس ؛ فقال أحدهم : "هذه شعوب مريضة ومعقدة تحب أن تثبت أنها متطورة فيهرب رجالها للخلف وتتظاهر الشعوب المقهورة بالتقدم والحرية واختيار المرأة !!" .
وقال بعضهم : "إن هذا هو موقع المرأة الحقيقي في هذه الشعوب هي الزعيمة وهي صاحبة القرار في البيت والشارع , ولا يغرك تظاهر الرجال, ولذا لم يفلحوا" . ولكن فترة حكم هذه النساء , في تركيا والباكستان ؛ قد تكشفت عن فساد مالي ووساطات وقرابات , نهبت ميزانية دولهم في عهدهن , فأين القوة والأمانة ؟!
فتش عن العقدة
لم تكن تلك الحوادث التي تقال على الألسن كافية لأن أعرف سر تطرف بعض العربيات في الحركة النسوية العربية , والتي جاوزت الخلق والأدب والمعقول , وأضحت كتابات مشبعة بالفجور ومستفزة , حتى كان ذات يوم , وأعطاني زميل كتاب (نوال السعداوي) .. "مذكرات طبيبة" , وهي نسخة مترجمة للغة أجنبية, إذ لا مناص من إثبات الولاء والحضور في لغتهم , والتماثل .
ومن الصفحات الأولى في الكتاب تظهر لك (العقدة) وعين الأزمة , بلا ستار . لقد كانت عقدتها أنها في أول سنوات بلوغها - وكما تقول هي - ؛ فقد تعرضت لتحرش مؤذ من حارس العمارة - التي كانت تسكن فيها - وهربت منه - كما تقول - وكانت صغيرة جاهلة . وأنشب الخوف والحقد مخالبه فيها منذ ذاك. ثم تبعه - فيما بعد - أزمة علاقات صعبة في البيت مع إخوانها ووالديها , ثم تطورت العقدة إلى زواج فاشل , فنمى الخوف والعقدة , وأزمة البيت والشارع , والجامعة والذكاء والنجاح في الدراسة , والفشل في الحياة ؛ لتخرج بأزمة وأفكار "مريضة" موغلة في الانتقام ممن رأت أنهم "سر" فشلها ومرضها وعقدها المزمنة .
إن الصدمات الموجعة , والتجارب الفاشلة , والعلاقات القاسية في الطفولة والشباب المبكر ؛ تحفر- في النفس والعقل - حفراً كبيرة , يظهر خللها في يوم من الأيام . وتظهر آثار تلك الأزمات في تصرفات غير يسيرة , بل وبأشكال مثيرة ومستفزة , لأن النفس لم تكن سوية , ولم تستطع أن تخفي تلك الحفر (العميقة) , ولا أن يدمسها الزمن ! .
لقد كانت مذكرات "هذه المرأة" جواباً لسؤال كبير أحاط بكتابتها , وتفسيراً لعقدة عتيدة , فقد جاوزت الحد , الذي يقال له "شكوى" , وأحرجت النساء ؛ بما وصل له أسلوبها من طريقة تقضي على الود والرحمة التي فطر الله عباده عليها , وجعلها رباط الزوجين .
التعدد والأفراد(/3)
إن كنتم تريدون أن يكون الغربي مثالاً , أو الشرقي- الصيني والياباني - مثالاً ؛ فلا بأس , وإن أردتم أن يكون "الشيوعي" - المتظاهر بخدمة الطبقة الكادحة - قدوة , فلكم ما أردتم. أنكم لن تجدوا عندهم - وبلا وصاية من كاتب أو ممل لفكرة - غير رجال يعددون النساء في كل أمة وتحت كل قانون , وأنهم يغيرون زوجاتهم , أو يخونونهن , أو يقتلونهن .
ومن قرأ "دعاية السياحة" في بريطانيا - في وسط التسعينات - ؛ فقد كانت مضحكة ومعبرة !! , إنها تقول: "تعالوا إلى بريطانيا فقد مات هنري الخامس منذ زمن طويل" .
لماذا "هنري" .. هذا ؟ إنه هو الذي ساق نساءه للمقصلة في برج لندن , فقد كان كلما عاشر زوجة ثم أعجبته امرأة أخرى, اتهمها , ثم قتلها وجاء بالأخرى .. لم كل هذا ؟ لأن هناك رجالاً لا يستطيعون الاكتفاء بواحدة , وهناك قوانين أو أعرافاً سنها الناس , خلاف سنة الله في عباده ؛ فكان لابد للناس أن يدوروا حول هذه القوانين بالحيل , أو يحطموها , أو أن يعبثوا بها .
في الحوار تلك الليلة معهم أشرنا إلى الأنبياء الذين ورد ذكرهم في التوراة والإنجيل , وأنهم كانوا يعددون الزوجات والجواري , أما (عيسى) فقد رفعه الله في نحو الثالثة والثلاثين, أما قادتهم وقادة الإلحاد المعاصر (الحداثة الشيوعية وغيرها) , فهم معددون في أسوأ نماذج التعدد. ولأضرب لذلك مثلاً بأربعة , من شر صناع الفكر والسياسة في القرنين الأخيرين وهم: هيجل , وماركس , ولينين , وماوتسي تونج.
عاش "ابن هيجل" مع الأسرة , من صديقة كان يزني بها ؛ وسبب هذا مشاكل للأسرة بلا نهاية5. أما "ماركس" فقد كان له - أيضاً - ولد من شبه قصة أستاذه "هيجل" , ومات الابن في بريطانيا في نحو عام 24 بعد انتصار "فلسفة والده" في روسيا6. أما "لينين" فقد كانت "عشيقته" السويسرية , تساكنه شقته , مع زوجته "كروبسكايا" قبل الثورة وفي الكرملين , حتى مات7. أما "ماوتسي تونج" , ففي مذكرات "طبيبه الخاص" من القصص ما لا يحسن ذكره في هذا الجانب . لكن المنحرفين الذين أعماهم التقليد والجهل ؛ لا يجدي معهم شيء ؛ فهم يقولون : إنهم لا يعددون , ولكنهم يفعلون ما هو أسوأ. والمهزوم بالسلاح النووي , يتوقع أن غالبه متميز في كل شيء !! ولله الأمر من قبل ومن بعد .
لقد كنت قبيل محاكمة "كلينتون" , من سامعي البرنامج الذي قدمته شبكة (سي إن إن) , وقد لفت انتباهي , قول أحد الضيوف الكبار, على التلفاز للعالم كله "كلنا نفعل هذا" يقول ذلك عن الرجال الأمريكان , أما الأوروبيون فقد عدوا السؤال والنقاش في الأمر , سخافة وتخلف ؛ فمن عندهم الذي بقي مهتما بمثل هذا الأمر!
ألا ترى المرأة المسلمة , أن التعدد والاعتراف بالفطرة والوضوح والكرامة , خيراً لها . فلنقل إنها هي الزوجة (الأولى) , فكيف ترضى لأختها أن تكون عاهرة , وكيف ترضى أن تكون باقية على نار الشك وعدم الثقة في الرجل سنوات وهي تتوقع منه الانحراف ؟ .
ألم تكن هي من يدعو للانحراف , بإصرارها على تحقيق قوانين الشعوب الأجنبية المتضاربة , التي جاءت من مخلفات الهراطقة والمتوحشين؟ .
بلاد بلا دين ولا خلق , والتصقت بالمسيحية , التي قال الله - عز وجل - عنهم , أنهم سنوا لأنفسهم الالتزامات , ثم إنهم لم يرعوها حق رعايتها . ليس أفراداً منهم فقط . بل الأغلب منهم لم يرعوها , فقال الله - عز وجل - عنهم "فما رعوها حق رعايتها".
لأنه لو كان خرقاً فردياً , لما كان الحكم للمجموع , ولا كان اللوم عليهم , فإما أنهم خرقوا أو , وافقوا , أو سكتوا عن كسر حدود الله . وفي قصة (أصحاب السبت) .. دليل . قد نجد في بلاد المسلمين , رجالاً ونساءاً لا يرعون حدود الله , ولكن ليست بهذه الطريقة الشمولية التي ساقها الله عن غالب أولئك , أو كلهم .
وهل أمنت المرأة - التي تكره وتحارب التعدد - أن تكون هي بحاجة - ذات يوم - أن تكون ثانية , أو ثالثة , أو رابعة لرجل آخر , خير لها من الإهمال والعزوبة والتفرد ؟ وقد تكون نهاية زواجها ؛ بسبب منع زوجها لحقه في الزواج من أخرى , أو بسبب موت أو غيره , فكيف تفكر المسلمة في إلزام الشعوب المسلمة بشرائع الوثنية , التي لم يوقروها ذات يوم ؟ رأيت في المجتمع الغربي - من معايشة طويلة - كيف تتمنى المرأة الغربية - في أحوال عديدة - أن تكون زوجة "ثانية" لمسلم , يكف عنها حياة العدم , والوحدة , والأنانية الطاغية , ولكن المسلمين هناك أيضاً , يقل بينهم من يعدد بسبب الأحوال المادية والقانونية , وبسبب تسرب أفكار الوثنيين للإسلاميين رجالاً ونساءاً ؛ فيقدسون قوانين , أو يخشونها , أو يفكرون في صحتها رغم فرار أهلها منها . والابشع من ذلك أن تنشر مجلة (التايمز) - مقابلة مع إحداهن - وهي تروي كيف سمح لها زوجها بمعاشرة رجال آخرين ؛ لأنه هو لديه نساء أخريات , ويبقى التسجيل القانوني أنهما زوجان , حتى لا تأخذ البيت أو نصفه أو ما جمع من مال ؟(/4)
وفي ولاية "يوتا" تقوم طائفة حديثة من النصارى "المورمن" بالسماح بالتعدد إلى حد تسع زوجات , وذات يوم جاءت إحدى الزوجات لمذيع لتقص عليه "قصة" هذه الأسرة المكونة من رجل وتسع زوجات (كبرى النساء فوق الخمسين وصغراهن عمرها ثلاثة عشر عاماً) , صورت المقابلة , وأعيد إذاعتها على التلفاز عدة مرات , وما هذه الأسرة إلا واحدة من عشرات الألوف - في تلك الولاية وحدها - من المعددين , ومستوى المشكلات الاجتماعية , أقل من غيرهم, ويحرمون الخمر أيضاً , إلا في أيام قليلة في السنة .
جاء المذيع لمحطة الإذاعة التي تعمل فيها هذه الزوجة ؛ وتبين أنها قد تمكنت من أن تقنع زميلتها المذيعة الأخرى لتكون زوجة للرجل نفسه , ثم ذهب المذيع للبيت وقابل الأسرة كاملة , ورأى النساء والأطفال وقد وضع لكل زوجة غرفة , ويرأس النساء وينظمهن أقدمهن وهي "أكبرهن سناً" , أما الصغيرة - التي كانت في الثالثة عشرة - فقد كان أمرها أغرب , لذا ذهب المذيع إلى والدها ووالدتها اللذين زوجاها من هذا العجوز الستيني . وأبو البنت وأمها أصغر من زوج ابنتهما . وقد قال الأب والأم : "إنه كانت لنا بنت أكبر منها , وقد ذهبت مع عشيق أو عشيقة وفسدت , ولا نعرف مصيرها , وقد عرضنا عليه الزواج من ابنتنا , وحببنا لها الأمر , وقبلت وقبل , فهي الآن زوجة لرجل نعرفه في بيت نعرفه . وليس لديها مشكلات , كالتي تعاني منها أختها الهاربة" .
قد تكون أمثال هذه الحادثة قليلة أو نادرة , ولكن يبقى أن من الناس - وإن كفروا - أناس قريبين من الفطرة , تهمهم كرامتهم وصيانة أعراضهم , ويواجهون مشكلاتهم بأسلوب عملي , مهما بدا للغرباء غريباً .
وقد يمط أحدهم شفتيه , مستغرباً لنماذج الحياة الأمريكية هذه ؛ فأمريكا - عنده - , والغرب قوة , وفحش , ومسرحيات , وسيارات , وطائرات , وحرية , حتل لا يشعر أن الإنسان بقي هناك - قابعاً مقهوراً - تحت فحش وتفسخ الحداثة وميراث الوثنية , وصرامة العمل , وغياب العاطفة , ورغبة عارمة في التدين .
وهناك من يدأب للبحث عن البدائل , في الهروب من كل أشكال الحضارة المعاصرة ففي مقاطعات "الآمش" هناك اللذين لا يستخدمون أيا من الوسائل الحديثة , فلا يستعملون السيارات , ولا الطائرات , ولا الكهرباء , ولا الهاتف , في استسلام عجيب لمبادئ "كالفن" الدينية تغطي النساء رؤوسهن إلى اليوم والغد - غالباً - بغطاء أزرق , ويزرعون زراعتهم دون كيماويات ولا مخصبات , مما جعل اللذين يسعون إلى الطعام الطبيعي يقبلون على منتوجاتهم , مما عاد عليهم بالأرباح الكبيرة , مع أنهم لم يغادروا تلك الحياة القديمة جداً , في شمال أوروبا , في القرن السادس عشر والسابع عشر الميلاديين ..
هذه نماذج ليست لتكون هنا سنة أو بديلاً , ولكنها محاولة للهروب من نمط هذه المدنية الغربية وأخلاقها الجشعة . فقد نمى لدى العديد من المفكرين والمؤرخين , مقدار ما أساء به مفكروا اليهود وفلاسفتهم للحياة الغربية , في تدمير الروابط وحل المجتمعات , ووضع المال معيار الحياة الجديدة فقط . وسحق ما عداه .
واستطاع اليهود أن يخرجوا الأفلام السياسية والعقائدية , التي تمجدهم وتهون من غيرهم , فيصورون الإسلام على أنه دين مؤذ ومخيف , ودين رجال بلا خلق ومروءة .
ويزيد الحال سوءاً , بعض من يحاول - من العرب - أن يحسن الصورة ؛ فيرمي نفسه عليهم , بشكل بعيد عن احترام النفس والهوية والذات, يتملقهم الفرصة. وكأنه يستجديهم أن يعترفوا به إنساناً من البشر على الأرض . ولكن أنى له - بعد كل الجهود اليهودية - , والواقع العربي المحزن . وقد أشار (صلى الله عليه وسلم) .. أن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء .
وهكذا هي مكرورة اليوم , ولكن اليهود استطاعوا أن يجعلوها "مشكلة العالم" فتنة الناس .. كل الناس , وكل العالم , وهذه الحروب بين الجنسين , من يوقدها كل يوم في الصحف والمجلات والتلفزيون والمدارس والجامعات , إن هذا الشّرَك , أبعد خطراً مما يخطر , لمن يرى تبسيط المسألة .
ولا أبتعد بك بعيداً في الحديث هنا , فشيء من النقاش , والمزاح , ودراسة الخلل الذي يسئ به الرجال للمرأة .. مطلوب , وصحيح وطبيعي ولم يعش البشر , دون هذه الملاطفات والمعاتبات والسخريات المتبادلة , واللوم أحياناً , ولكن الذي نعيبه هنا - وهو الداء الدوي - أن يستلحقنا غيرنا , وأن نحارب في معركة ليست لنا من بدايتها إلى نهايتها , وأن تفرض علينا المواقف في المعركة , ويفرض علينا السلاح .. فأي قيمة لشعوب تسقط في هذه الأحابيل وأي استقلال ؟(/5)
ولأزيد هذه المسألة بياناً وأمثلة ؛ لعل من قومنا من يفتح عينيه على المشكلة , فقد شاهدنا مئات الآلاف من المسلمين يجندون في الجيش البريطاني , من مسلمي الهند وبدو الجزيرة العربية , والأردن , وسوريا , ورأينا العرب المسلمين يجندون في الجيوش البريطانية والفرنسية والإيطالية , يحاربون لمصالح بريطانيا وفرنسا وأسبانيا وإيطاليا , ويموتون في سبيل التراث الفرنسي والبريطاني والإيطالي , مقابل دراهم قليلة , أو مقابل شيء من الزاد لبطونهم , لم يكن ذلك بعيداً , فرجال من رجال هذه الحروب , أحياء اليوم في عالم الناس , فكيف لا تجد رجالاً ونساء متعلمين أو جاهلين , يحاربون في مدارس الفكر الغربي , ويحاربون إسلامهم وفكرتهم , دون وعي منهم . وأنصاف المتعلمين - ممن حصلوا على شهادات غربية أو زاروا أمريكا أو أوروبا عدة سنوات أو أيام - جهلهم فاضح بأنفسهم وبغيرهم , جهلهم بنظم الحضارات وصراع الأفكار .. فاحش , وغرورهم بشهاداتهم كبير , وبكلمات لقطوها - دون عمق - أكبر . وبعضهم لا يزيد عن كونه "وسيلة اختراق" ناجحة لمجتمعه دون وعي منه .
وهل المرأة المسلمة بلا مشكلات؟
المرأة المسلمة إن سارت في الطريق ؛ فستكون الأسوأ حظاً بين الجميع , فلديها ما تنوء به من مشكلات المجتمع الذي تخلف وفارقته الحيوية الحضارية , وأثقلته مشكلات الجهل والعزلة والاستبداد , لقد هدت مشكلاتنا العويصة المرأة والرجل , وألقت على الطرفين سلوك الخوف والتردد , والسطحية والسلبية في الحياة , وذلك هو الاستجابة الطبيعية للإنسان المقهور , والمقهور إذا سنحت له فرصة تفلت وتخلص ؛ لم يحسن التعامل معها , أياً كان جنسه , رجلاً أو امرأة .
غير أنني أشير هنا .. إلى أن لكل مجتمع - نساءً ورجالاً - مشكلاته, وليس بحاجة إلى أن تفد عليه مشكلات الآخرين وأفكارهم . فكيف إذا أرهقنا الإنسان المسلم المجروح , بل المحطم , وحملناه أفكار ومشكلات غيره ؟ بل , وما هي أفكار الآخرين - سوى مشكلات ومحاولات حلول - فننقل مشكلاتهم إلى مجتمعنا , ونطالبه بحلول لمشكلات عويصة على المجتمع الغربي نفسه , غارق فيها بلا نهاية , ونطالب أنفسنا أيضاً , بحل مشكلاتنا!! .
إن هذا لضرب من العبث والسذاجة , وإهلاك للقوى دون جدوى . إن هؤلاء الذين يفترضون , أو يرون أن يحملوا المرأة والرجل , ثقل الغرب والشرق ومشكلات حضارتين , لا يزيدون قومهم إلا خساراً ووبالاً , وستكون المرأة الغربية أخف حملاً لأنها تعاني مشكلة , تكاد أن تكون واحدة , مشكلتها الثقافية أو عقدتها مع ثقافات اليهود - الذين مارسوا دورهم من داخل المجتمع الغربي - فهي تواجه أزمة معروفة , أو شبه معروفة الأسباب والحدود في أذهانهم , أما "المسلمة" فسيكلفها عدوها ما لا تطيق ؛ فلن يتحول المجتمع الإسلامي ليكون نصرانياً , ولن يتبنى فلسفة اليهودية , ولا الحداثة , ولا العلمانية , فتحل مشكلاته - كما يتخيل المتغربون من هناك - بفلسفة الغرب نفسه بعد استيطانها .
بل شهد عصرنا هذا , وأيامنا هذه , على خلاف ما كان يتوقعه المتغربون (الاستلحاقيون) , فمن شاهد صور (النساء العراقيات قبل حرب 1990) ومن شاهدها عام 99 ؛ يرى الفارق الكبير ! فما كنا نرى صورة امرأة "محجبة" آنذاك .. أما اليوم - وفي زمن قصير جداً - ترى عكس ذلك تماماً .
مست أمتنا آلام الغرب , وإفساده وقتله , وتشريده بالمسلمين ؛ فهرب منه من كان يأمل منه خيراً أو تقدماً . عادوا للدين عادوا للإسلام . بل إن شياطين "حزب البعث" نفسه , غادروا ثقافته ؛ لما كان فيها من سموم القومية "الغربية" لا العربية .
وعند "صدام" اليوم , درجات الترقي - حسب حفظ القرآن . وكم لله في خلقه عجائب ؟ فهذا وزير عربي , درس في "جامعة القاهرة" في بداية الستينات , ثم عاد لها بعد ثلاثين سنة قال : "عدت لأتذكر تلك الأيام ؛ فكان أشد ما شدهني , تحجب النساء , فقبل ثلاثين سنة كانت - ربما - واحدة فقط .. في كل الكلية , تتحجب , أما اليوم , فيقول : "حتى النصرانيات هل يتحجبن" ؟ إن مخلفات الفكر المهزوم والنفوس المبتورة ؛ ستبقى مادام الغرب قوياً لديه السلاح النووي والإعلامي .. هوليوود وما شابه .
ولا نتوقع أن تنقطع فصيلة المهزومين والمستلحقين , ولكن علينا أن لا نغرق في بحر بلا ساحل , وفي معارك ليست لنا .
ملحق إحصائي
يبدو أن هذا الكتاب , مكتوب من قبل إحدى العاملات مع الحركات النسوية المتطرفة , ينحي باللائمة على الرجال في ما وصل له وضع المرأة في العالم , وقد لخصت ما رأيت أن له علاقة بالموضوع , في الأرقام التالية :
الاغتصاب:
1- في أمريكا نسبة "إمكان اغتصاب المرأة" ما بين واحدة إلى خمس , والتقديرات المحافظة , واحدة إلى سبع , أي أنه من بين كل (خمس نساء) إلى (سبع نساء) تكون إحداهن تعرضت للاغتصاب , أو ستتعرض له في حياتها. ص 56(/6)
2- عدد المغتصبات اللاتي سجلن حوادث اغتصابهن عند الشرطة في عام 96 كان 90430 , أما اللاتي لم يسجلن حادثة الاغتصاب فيقدرن بـ 310000 حالة .
وسبب عدم الشكوى ؛ اليأس من إمكان الشرطة أن تعرف أو تساعد , وعدم جدوى التقرير, كما أن عدداً كبيراً , لا يحببن أن يسجل عليهن في البوليس ذلك .
هناك نوع آخر من الجرائم , وتسمى "الجريمة المسكوت عنها" , وهي تحرش أرباب العمل أو المديرين أو المدرسين بالنساء , الاتي يقعن تحت نفوذ رجال متنفذين, وفي العادة لا تسجل هذه الجرائم ؛ بسبب خوف المرأة على وظيفتها , أو طمعها في تعويض, أو صعوبة الإثبات , وأشهر الحوادث التي كشف عنها - منذ نحو ثلاثة أعوام - فقدت اشتكت إحداهن رجلاً من رجال (الكونجرس) من "أوريجون" , وحين اشتهر أمره سجلت عليه 26 امرأة , شكاوى من هذا النوع , ممن سبق أن عملن معه في الكونجرس وخارجه.
3- عدد حالات الاغتصاب في كندا : المسجلة (20530) وليس هناك إحصاء لغير المسجلات , ولكن في كندا (150) مركزاً لمساعدة المغتصبات اللاتي يأتين لطلب المساعدة , بعد الاغتصاب. ورقم المراكز في (أمريكا) لا تتوفر له إحصائية , وذلك أن منه الرسمي , والتطوعي .. ومن يعرف المجتمع , يعرف مدى انتشار هذه المراكز, فهي خدمة اجتماعية منتشرة في الأحياء , والجامعات .
4- في أستراليا (75) مركزاً لمساعدة المغتصبات , وفي نيوزيلاندا (66)
5- حالات الاغتصاب المسجلة في ألمانيا (5527 ) - لم تشر الكاتبة لتقدير الأرقام غير المسجلة" .
6- في جنوب إفريقيا (2600) حالة مسجلة , وغير المسجل يقدر بـ386000
7- إسرائيل بها سبعة مراكز لمساعدة المغتصبات
8- بنغلاديش بها مركز واحد
9- روسيا سجل فيها (14000) أما التقدير للحالات فهو من أعلى دول العالم : (700000) .
قتل النساء في الولايات المتحدة
يقتل كل يوم عشر نساء من قبل الزوج أو الصديق , من هذه الحالات (75%) يتم القتل بعد , أن تترك المرأة صديقها , فينتقم منها بالقتل . أو تطلب الطلاق من زوجها , أو تعصي زوجها. ص 26 في روسيا عام 95 نصف حالات القتل في روسيا , تمت ضد النساء من قبل أزواجهن , أو أصدقائهن, وفي عام 93 قتل (14000) امرأة , وجرح (45000) جراحات شديدة . ص27
ملاجئ النساء
في الولايات المتحدة فقط 14 ملجأ للنساء المضروبات , أو الهاربات من أزواجهن , وهن اللاتي لا يجدن ملجأ عند أهل أو أقارب . ص 26
- في كندا 400 ملجأ
- في ألمانيا 325
- في بريطانيا 300
- في أستراليا 270
- في نيوزيلندا 53
- في هولندا 40
- في استراليا19
- في ايرلندا 10
- في اليابان 5
- في الباكستان 4
- في تونس 1
- في بنغلاديش
نسبة حالات العنف ضد النساء في المجتمع
أعلى الأرقام سجلت - وللأسف - في الباكستان80 % ثم تنزتنيا 60 %. ثم اليابان 59 % بنما 54%. أمريكا 28 %. وكندا 27 % نسبة الطلاق في أمريكا كانت في عام (1970 - 42%) ووصلت في 1990إلى (55%) وفي فرنسا 32 % , وفي بريطانيا 42% . ص 23 وفي السويد إلى 44% , وفي كندا إلى 38% , وتأخر سن الزواج عن عام 1970في نيوزيلندا , ليزيد ست سنوات , وثلاث سنوات في أمريكا , وعامين في كل من كندا , وبريطانيا . ص 23
حالات الإجهاض
المواجهات محتدمة بين أنصار الإجهاض وخصومه في أمريكا , ولذلك أثره الكبير ونقاشه العام , حتى على مستوى من يفوز في الانتخابات , قد يساعد على أن يحدد مصيره , موقفه من الإجهاض ؛ فالمحافظون المتدينون , ضده , ويتهمون المجهضين والموافقين بأنهم قتلة للأطفال , والمعارضون يسمون أنفسهم أنصار الاختيار, والأزمة أغلبها حول أطفال من السفاح , وقد اشتدت المواجهات بالسلاح بينهم .
وإليك هذه الإحصائية : بين عامي 1990و 1995 تم اغتيال خمسة من العاملين في عيادات الإجهاض , و12 حادثة , محاولة أخرى , و196حالة تهديد بالقتل , و65 حادثة مسلحة أو تفجير , تمت للعيادات , و30محاولة غير ناجحة , و 115 تهديداً بالتفجير, و372 محاولة تخريب و إضرار بالعيادات التي تنفذ الإجهاض .
ويموت في العالم ما يزيد عن 200000امرأة , تموت سنوياً ؛ بسبب محاولات الإجهاض غير المسموح به , أغلبهن في آسيا ص 38 - 39 وقد كان شعار أنصار "عدم" الإجهاض .. (أوقفوا القتل) ولكن لما زادت محاولاتهم في قتل الأطباء وتخريب العيادات ؛ بدأت تظهر دعايات ضدهم , وكاريكاتيرات تقول : "أوقفوا القتل أنتم أيضاً" , وهناك أحد هؤلاء الذين فجروا عيادات في "كارولاينا" , لم يزل هارباً - منذ ما يزيد عن عام - وينشر الرعب , هو وأنصاره , ولم يقبض عليه إلى الآن , وهو هارب في الغابات , ويتهم مجموعة من "المتدينين" أنهم يناصرونه .
الإيدز:(/7)
في عام 93 , كان هناك 13 ألف شخص , يصاب يومياً في العالم . والمتوقع أن يصاب بالإيدز هذا العام 99 , ما يقدر بـ60 إلى سبعين مليوناً من البشر. ومناطق العالم الإسلامي هي الأقل إصابة به في العالم , فيقدر منطقة المشرق العربي , وإيران , والباكستان , وتركيا , وإسرائيل , والمغرب العربي .. بنحو 76000 في عام 95 في أمريكا وكندا - رغم التوعية الصحية والإعلامية - ما يزيد عن مليون وثلاثمائة . وأعلى الأرقام في (إفريقيا - جنوب الصحراء) يصل إلى 3 ملايين و360000 .(/8)
الحركة النسويّة الغربيّة ومحاولات العولمة (1/2)
الحركة النسويّة الغربيّة في طور جديد
د. إبراهيم الناصر * 25/3/1426
04/05/2005
الحركة النسويّة: هي حركة غربيّة عُرفت سابقاً بحركة تحرير المرأة ثم انتقلت إلى عالمنا العربي و الإسلامي من خلال الغزو العسكري والثقافي فشقيت بها الأمة منذ عقود من الزمن، وما زالت هذه الأفكار تُستورد تباعاً، كلما حصل تطورات فكريّة لهذه الحركة في موطنها الأصلي.
وتعريفها باختصار عند أتباعها هي: الفلسفة الرافضة لربط الخبرة الإنسانية بخبرة الرجل، وإعطاء فلسفة وتصور عن الأشياء من خلال وجهة نظر المرأة.
والمتخصصون يفرقون بين النسويّة والنسائيّة، فالنسائيّة: هي الفعاليّات التي تقوم بها النساء دون اعتبار للبعد الفكري والفلسفي، وإنما بمجرد أنها فعاليات تقوم بها المرأة، بينما النسويّة تعبر عن مضمون فلسفي وفكري مقصود حسب التعريف السابق.
- موجبات وجود هذه الحركة في الغرب هي صورة المرأة في المصادر الثقافيّة الدينيّة الغربيّة أي في التراث اليهودي والمسيحي باعتبار أن الحركة هي نتاج المجتمع الغربي وثقافته، وليست نتاج المجتمعات الأخرى سواء كانت إسلاميّة أو غير إسلاميّة؛ فقد نشأت فيه وانبعثت منه، فمن أهم أسباب وجودها صورة المرأة في التراث اليهودي والمسيحي؛ فالمرأة في هذا التراث هي أصل الخطيئة؛ لأنها هي التي أغرت آدم بالخطيئة عندما أكلت من الشجرة كما هو منصوص عليه في كتبهم الدينية المحرّفة، فالرب عندما فعلت هذا الفعل حكم بسيادة الرجل عليها نهائياً، وقد ترتب على هذا الموقف – فيما بعد - أحكام وأوصاف أخرى للمرأة في هذا التراث، فهي شيطانة وملعونة، وليس لها روح تستحق من خلال هذه الروح أن تدخل الجنة بل الأغلب أنها تدخل النار، ولا توجد امرأة لديها فضيلة يمكن أن تدخلها إلى الجنة, هذا أحد موجبات وجود هذه الحركة وأسباب انتشار هذه الأفكار التي تجمّعت عليها هذه الحركة.
الموجب الآخر لهذه الحركة المتطرفة هو موقف العديد من المفكرين والفلاسفة الغربيين تجاه المرأة من (أفلاطون) الفيلسوف اليوناني المشهور الذي يصنف المرأة في عدد من كتبه ومحاوراته مع العبيد والأشرار ومع المخبولين والمرضى, إلى الفلاسفة المتأخرين مثل (ديكارت) من خلال فلسفته الثنائية التي تقوم على العقل والمادة: فيربط العقل بالذكر ويربط المادة بالمرأة، والفيلسوف (أوغست كنت) أحد أباء الفلسفة الغربية: يصف المرأة بأنها ضعيفة في كافة الاتجاهات بالذات في قدراتها العقلية, كذلك فيلسوف الثورة الفرنسية (جان جاك رسو) يقول: إن المرأة وُجدت من أجل الجنس، ومن أجل الإنجاب فقط إلى (فرويد) اليهودي رائد مدرسة التحليل النفسي وموقفه المعروف من المرأة الذي يتضمن أن المرأة جنس ناقص لا يمكن أن يصل إلى الرجل، أو أن تكون قريبة منه.
هذا الموقف التراثي الديني المنبعث من التحريف الموجود في العهدين القديم والجديد مع موقف هؤلاء المفكرين والفلاسفة هما الموجبان الرئيسان لهذه الحركة النسوية.
فدعاة النسوية يتخذون من هذه الأفكار منطلقاً لنشر الثقافة المضادة عن المرأة التي شكلت مفاهيم وقيم ومبادئ الحركة النسوية الغربية، ثم هم يهدفون أن تكون حركة نسوية عالمية.
ما هي النتائج التي عكسها الموقف التراثي الديني والموقف الفكري الفلسفي حسب رؤية النسويّين؟
قالوا: إن تهميش المرأة, وسيطرة الرجل عليها سبب نشوء جماعات ذكوريّة متطرفة في نظرتها إلى المرأة مسيطرة عليها لا تعطي لها فرصة إثبات وجودها مما تسبب في نشوء تمييز على أساس الجنس أي تمييز ضد المرأة، ولذلك أصبح الحل في نظر الحركة النسويّة الغربيّة: هو التخلي عن المنطلقات التي كوّنت هذه النظرة، وهي العقائد والأعراف الدينية والشرائع السماوية باعتبار أن هذا الوضع للمرأة هو إفراز لتلك النظرة في التراث الديني.
ثم برزت فكرة الصراع بين الرجل والمرأة من أجل أن تنتزع المرأة الحقوق التي سلبها الرجل منها، أي أن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة صراع على الحقوق، لذا كان من أهم الحلول التي طرحتها الحركة النسويّة الغربيّة هو التخلي عن العقائد ورفض الدين؛ فالفكر النسوي قائم على أساس فكري علماني صرف، وهذه حقيقة لا بد أن ندركها؛ لأن هذا الفكر اللاديني تأثرت به معظم المجتمعات الإسلامية.
و في أثناء مسيرة هذا الفكر نشأ تياران داخل الفكر النسوي في المجتمعات الغربية:(/1)
التيار الأول:التيار النسوي الليبرالي المعروف بحركة تحرير المرأة، وهو الذي بدأ في العالم الغربي منذ قرن ونصف القرن، ويقوم على مبدأين أساسيين هما: المساواة و الحرية, مبدأ المساواة التماثلية بين الرجل والمرأة ومبدأ الحرية شبه المطلقة, وهذان المبدآن الرئيسان اللذان قامت على أساسهما الحداثة الغربية, كيف نشأ هذان المبدآن؟ هذه قصة فلسفية طويلة لا حاجة للوقوف عندها، لكن العبرة بآثارهما؛ فهما الأساسان اللذان قام عليهما الفكر النسوي كأحد منتجات الحضارة الغربية، وقد تم تكريس هذا الفكر على المراحل الآتية:
1- قامت ثورتان في المجتمع الغربي ترفعان هذين المبدأين وهي الثورة الأمريكية عام 1779م والثورة الفرنسية عام 1789م، ومبادئ هاتين الثورتين ضمنتا في الدساتير التي قامت عليه الدولتان الأمريكية والفرنسية، ثم ترسّخت هذه المبادئ في الفكر الغربي المعاصر.
2- قام التنظيم الدولي المعاصر على هذا الأساس, فمبادئ الأمم المتحدة عندما نشأت عام 1945م ضمنت في وثيقتها رفض التمييز على أساس الجنس، وتحقيق المساواة التماثلية بالمفهوم الغربي الذي يقوم على فكرة الصراع بين الرجل والمرأة من أجل الحقوق التي يسيطر عليها الرجل.
3- صيغت الصكوك والاتفاقات الدولية على أساس هذه المبادئ، وأهم وثيقتين في هذا الصدد هما:
ا - الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(1948) وهو ينص على وجوب الالتزام بهذه المبادئ ويؤكد على عدم التمييز على أساس الجنس وعلى تحقيق المساواة التماثلية بين الرجل والمرأة وعلى حرية الزواج خاصة في المادة السابعة والمادة السادسة عشر.
ب - الوثيقة الثانية وهي الأهم والأخطر من بين هذه الاتفاقيات فيما يخص المرأة اتفاقية (سيداوcedaw) أو (اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة) عام ( 1979) . وهي اتفاقية مكونة من (30) مادة، وموادها الست عشرة الأولى تؤكد على عدم التمييز وتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، وتشجيع الاختلاط بين الجنسين، والمساواة بين الزواج والطلاق.
4- مرحلة عولمة هذا الفكر من خلال الصكوك والوثائق الدولية، و ترويجها من خلال المؤتمرات الأممية التي تنعقد بين الفينة والأخرى في القضايا الاجتماعية مثل مؤتمر السكان في القاهرة عام 1994م، ومؤتمر المرأة في بكين عام 1995م، وهذا الأخير هو أخطرها لأن وثيقته اعتبرت مرجعية في مصاف اتفاقية (سيداو) من حيث الأهمية والمتابعة مع أن وثائق المؤتمرات عبارة عن توصيات وليست اتفاقاً دولياً, لكن النشاط المحموم في متابعة تنفيذ مقررات هذه الوثيقة (وثيقة بكين) يدل على مرجعيتها، فانعقد عام 2000م في نيويورك اجتماع دولي سُمّي بِـ(بكين 5) لمتابعة تنفيذ ما في هذه الوثيقة، و في فبراير هذا العام 2005م انعقد في نيويورك مؤتمر (بكين10) لمتابعة تنفيذ توصيات نفس الوثيقة، وفي كل هذه الاجتماعات يُطلب من الدول تقديم تقارير توضح مدى التقدم في تنفيذ هذه التوصيات، وما هي العوائق التي تقف في وجه تنفيذ ما لم يُنفذ.
التيار الثاني: الذي أفرزه الفكر النسوي الغربي عبارة عن تيار نسوي متطرف يطالب بتغيير البنى الاجتماعية و الثقافية والعلمية واللغوية والتاريخية باعتبار أنها متحيزة للذكر، وفي داخل هذا التيار نشأت جيوب تدعو إلى دين جديد (الوثنيّة النسويّة).
(female paganism) أو دين المرأة الجديد الذي يقوم على أساس تأليه المرأة مقابل الأديان الذكورية التي فيها الإله ذكر، فلا بد للمرأة أن تكون آلهة في الدين الجديد.
أهم مبادئ هذا التيار: - التخلي عن الأفكار التي أخذت صفة القدسية، ويعنون بها نصوص الوحي والتراث الديني وهذا موقف يلتقون به مع التيار الأول فمحاربة الأديان قاسم مشترك بين التيارين.
- التخلي عن الأنوثة باعتبار أن الأنوثة هي سبب ضعف المرأة وسبب هيمنة الرجل عليها، فالأنوثة تقود إلى الزواج، والزواج يقود إلى الأمومة، والأمومة تقود إلى تكوين الأسرة، ففي كل هذه المراحل تكون المرأة الطرف الأضعف، والرجل يكون الطرف المهيمن.
كيف يمكن التخلي عن الأنوثة في نظرية هذا التيار؟
يتم ذلك عن طريق عدد من الإجراءات :
ا- تغيير النظام الأسري الذي يصنع نظاماً طبقياً ذكورياً يقهر المرأة, وهذا لا يتم إلا بتقويض مفهوم الأسرة المعروف وإحلال الأسرة الديمقراطية محلها.
ب- حق المرأة في الإجهاض بحرية حسب الطلب، وتسهيل ذلك.
ج- ممارسة الجنس المثلي (اللواط والسحاق) وهذا يعطي المرأة الحرية في أن تمارس حقها الجنسي بحرية، فلا تبقى بحاجة إلى ذكر في المسألة الجنسية.
د- صياغة نظرية نسويّة لتحقيق المساواة التماثلية بين الجنسين، ولا يتم ذلك إلا بخلخلة الثنائية السيكولوجيّة والاجتماعيّة التقليديّة بين الذكر والأنثى، وإيجاد بديل عنها، وهو مصطلح (الجندر) أو الجنوسة وهو النوع الاجتماعي بدلاً عن مصطلح الجنس.
ما هو مفهوم (الجندر)؟(/2)
يقوم هذا المفهوم على أساس تغيير الهوية البيولوجية والنفسية الكاملة للمرأة, و يقوم أيضاً على إزالة الحدود النفسية التي تفرق بين الجنسين على أساس بيلوجي أو نفسي أو عقلي, كذلك يزيل الهويّة الاجتماعيّة التي تحدد دوراً مختلفاً لكل واحد من الجنسين في الحياة وتمايزه عن الجنس الآخر.
سبب التمييز والاختلاف بين الرجل والمرأة حسب تفسير هذا التيار المتطرف للحركة النسوية: أن التنشئة الاجتماعية والأسرية تتم في مجتمع ذكوري، أي أن الأنظمة ذكوريّة والآلهة ذكوريّة حتى عقيدة التثليث المسيحية هي ذكورية فالأب والابن وروح القدس كلهم ذكور يرمز لهم بـ ( He ) ضمير المذكر وليس (She)ضمير المؤنث.
هذه التنشئة الاجتماعية والأسرية والبيئية التي يتحكم فيها الذكر بالأنثى تحدّد دور المرأة في المجتمع فتنشئ تمييزاً جنسياً, فالأنثى اكتسبت خصائص الأنوثة بسبب التنشئة الاجتماعية و البيئية وبسبب المصطلحات اللغوية التي تميز بين الذكر والأنثى، التي أبرزتها كأنثى, بينما الذات الواحدة يمكن أن تكون مذكراً أو مؤنثاً حسب القواعد الاجتماعية السائدة, فلا توجد ذات مذكرة في جوهرها ولا ذات مؤنثة في جوهرها, هذا الاعتقاد هو الذي قاد إلى فكرة (الجندر) أي النوع الاجتماعي باعتبار أنه إذا بقي الوصف بالجنس (ذكر وأنثى) لا يمكن أن تتحقق المساواة مهما بُذل من محاولات لتحققها فلابد من إزالة صفة الأنوثة لتحقيق المساواة أو تخفيفها على الأقل؛ لتخفيف التمييز وبناء على ذلك لا يُقسم المجتمع على أساس الجنس ولا تقوم الحياة الاجتماعية، ولا تؤسس العلاقات الاجتماعية على أساس الذكر والأنثى، إنما يكون نوع إنساني (Gender), وبذا تتخلخل هذه الثنائيّة الاجتماعيّة المكونة من المذكر والمؤنث.
كيف يمكن إيجاد الأسرة الديمقراطيّة وتكريس مفهوم جديد للأسرة يتوافق مع مبادئ هذا التيار باعتبار أن الأسرة التقليديّة عائق في تحقيق المساواة الكاملة؟
يتم ذلك من خلال إجراءات تحقّق في النهاية خصائص الأسرة الديمقراطية، وأهم هذه الإجراءات:
- إلغاء مؤسسة الزواج لأنه معوق أساس في تحقيق المساواة، وهو في النهاية يوجد طبقية بين الزوجين، ويكرس السيادة للمذكر على المؤنث.
- تحرير المرأة من الحمل والإنجاب وإحلال الحمل، والإنجاب الصناعي لأن الحمل والإنجاب عمليتان استبداديّتان في حق المرأة؛ فلابد من تحرير المرأة منهما.
- إلغاء دور المرأة في تربية الأطفال، ومن القيام بالأعمال المنزلية وإقامة مراكز تربويّة لتربية الأطفال داخل المجتمع وليس بالبيت.
هذه المبادئ تأخذ عند بعض جيوب هذا التيار شكل إنشاء دين جديد وثني يسمونه دين المرأة الجديد أو الوثنيّة النسويّة ( (female paganism حسب مصطلحاتهم كما ذكرنا سابقاً, وقد اعتنق مبادئ الوثنيّة النسويّة الجديدة حسب آخر الإحصائيات المتاحة في السبعينيات الميلادية أكثر من مائتي ألف امرأة، ويتوقع أن تزداد هذه النسبة في مرحلة ما بعد الحداثة, لأن مبادئ هذا التيار تتوافق مع مبادئ وأفكار هذه المرحلة مثل التعددية النسبية, رفض المُطلقات والثوابت, ومن غرائب أفكار هذا التيار المتطرف (الوثنيّة النسويّة) أنهم يتهمون العلم الطبيعي المادي بأنه تسبب باغتراب الإنسان عن ذاته وعن الإيمان الروحي، ولذلك تضع هذه الحركة من أهدافها إعادة الروح للإنسان من خلال تأليه الطبيعة, الذي يساعد على إعادة العلاقة بين الطبيعة وبين الإنسان بعد أن دمرها الرجل المستبد المسيطر الذي صنع آلات الدمار فدمر بها الطبيعة؛ فلابد من إعادة العلاقة من جديد بين الطبيعة وبين الإنسان من خلال المرأة؛ لأن هناك علاقة مباشرة بين المرأة والطبيعة، فالطبيعة فيها الجمال والخصب وفيها النماء وتوحي بالسلام، وهكذا هي صفات المرأة، فالمرأة متوافقة مع الطبيعة، فإذا ألّهت الطبيعة ألّهت المرأة فتنشأ علاقة مقدسة بينهما، فالطبيعة هي وجه المرأة، والمرأة هي وجه الطبيعة. وبناء على هذه الأفكار نشأ مذهب داخل هذه الحركة في المجتمع الغربي يُسمّى المذهب النسوي البيئي ((Ecofeminism, يكون الربّ فيه مؤنثاً وأظهروا له تماثيل بشكل المرأة ذات الصدر العالي تُسمّى (الإلهة) (Godess) مؤنثة وليس (إله) ((God مذكر، واسترجعوا تاريخ الوثنيات القديمة التي ألّهت الطبيعة في مجتمعات آسيوية وأفريقية قديمة ليضعوه أحد مسوغات هذا الفكر الجديد بوجهه النسوي المتطرف في العالم الغربي.
ومجمل القول: إن هذا الفكر قائم على أساس تدمير الأديان؛ لأنها قامت على أساس ذكوري من الإله إلى الأنظمة السياسية، إلى المجتمع، إلى الرجل الذي يتحكم بالمجتمع الذكوري، ويستبد به، ويصنع هذه البيئة الذكوريّة على حساب المرأة، كما يقوم هذا الفكر على إزاحة البُنى التي قامت على أساس ذكوري، ونبذ القوالب الثابتة والأفكار الجامدة في إشارة إلى الأفكار المتأثرة بالفكر الديني.(/3)
ثم صياغة فكر نسوي يتمثل في الوثنيّة النسويّة أو دين المرأة الجديد يقوم على مفهوم (الجندر)، والأسرة الديمقراطية، ويقوم على عبادة الطبيعة من أجل التوازن البيئي، وربط ذلك بالمرأة لأنها تمثل الجمال والخير والخصب والنماء. والتركيز على المرأة كذات مستقلة عن الرجل وتستغني عنه حتى في الجنس بتشريع السحاق، وباختصار فإن "الفكر النسوي الغربي عبارة عن هجوم على طبيعة الإنسان الاجتماعي، و إلغاء الثنائية الإنسانيّة (الذكر والأنثى) التي يستند إليها العمران الإنساني" كما يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري.
الحركة النسوية الغربية ومحاولات العولمة (2/2)
عولمة الفكر النسوي الغربي والموقف منه محلياً
د. إبراهيم الناصر * 3/4/1426
11/05/2005
هناك حركة محمومة في هذا الاتجاه في عدد من البلدان العربية والإسلامية كل مجتمع بحسبه، ولو أخذنا مثالين من المغرب ومصر؛ ففي المغرب حركة قوية جداًّ في الغارة على ما بقي من أحكام الشريعة الإسلامية في بعض جوانب الأحوال الشخصية تحت شعار إدماج المرأة في التنمية، وأما في مصر فهناك قوانين جديدة للأحوال الشخصية وجدل كبير حول مبادئ النسوية،والجمعيات النسوية الموجودة في مصر من كثرتها يسميها بعض الكتاب الدكاكين النسوية، وهي بالمئات وبعضها تمول تمويلاً أجنبياً للقيام بأنشطة مريبة هناك، فهناك أكثر من خمسين مؤسسة تمويل، أمريكية في الدرجة الأولى ثم كندية ثم أوروبية وأسترالية، ومنها مؤسسات تابعة للأمم المتحدة، وبعضها مؤسسات رسمية، أو شبه رسمية، ومنها مؤسسات طوعية أهلية ليست على علاقات بالحكومات.
ومن أبرز المشاريع التي مولتها بعض مؤسسات التمويل الغربية في مصر مشروعات لمتابعة تنفيذ مقررات وثيقة بكين في مصر، فهناك أكثر من مؤسسة تمويل دعمت أكثر من جمعية لنفس الهدف.
أما على مستوى التنظيم الرسمي فهناك عدد من المجالس واللجان المعنية بشؤون المرأة، مجالس ولجان عليا تخطيطية ولجان تنفيذية ، كذلك صدر عدد من التشريعات لتتوافق مع مقررات (سيداو: اتفاقية القضاء على كافة إشكال التمييز ضد المرأة) ولتتوافق مع مقررات بكين ومن أهمها موضوع الأحوال الشخصية، والجدل الذي دار في مجلس الشعب المصري لتغيير عدد من مواد قانون الأحوال الشخصية في مصر، وصدور عدد من التشريعات في هذا الاتجاه يحكي الحالة المصرية، كما أن التحفظات المصرية المعتادة على بعض الاتفاقيات الدولية في هذا الصدد بدأت تختفي أو زالت بحكم الواقع ، ولو انتقلنا إلى السعودية التي قاطعت رسمياً المؤتمرات هذه (مؤتمر السكان ومؤتمر بكين) وصدر بيانان من هيئة كبار العلماء مستنكراً أفكار وثيقتي المؤتمرين وحضورهما، لكن في المقابل وقعت المملكة على اتفاقية (سيداو) مع التحفظ المعتاد على ما يخالف الشريعة الإسلامية، لكن المشكلة أن القانون الدولي لا يقبل مثل هذه التحفظات لوجود اتفاقية دولية (اتفاقية جنيف) تنص على أن التحفظ على أي بند في أي اتفاقية دولية لا يكون مقبولاً إلا إذا كان يتعلق في جوهر هذه الاتفاقية، ومعلوم أن مخالفة اتفاقية ( سيداو) للشريعة الإسلامية هو في بنودها الموضوعية الجوهرية ، ومن الأشياء التي تُحمد لمجتمعنا في السعودية أن الجمعيات النسائية لم تتورط في هذه الفتنة المتمثلة في هذا الفكر النسوي المنحرف، كما هو الحال في كثير من الجمعيات النسوية في المجتمعات العربية والإسلامية. ومع الأسف أنك تجد أطروحات كثير من هذه الجمعيات في تلك المجتمعات تتوافق مع أطروحات جمعيات الحركة النسوية العالمية، ففي مؤتمر بكين كان من أسوأ الأطروحات ما جاء من بعض الجمعيات النسائية العربية، بينما كانت الجمعيات النصرانية الغربية خاصة الكاثوليكية أكثر محافظة من بعض الجمعيات العربية النسوية.
ومما يحمد للمجتمع السعودي أنه يمنع الاختلاط في أكثر المجالات ، والاختلاط بين الجنسين في فكر الحركة النسوية العالمية وفي اتفاقية ( سيداو) من مظاهر المساواة ومنعه يعتبر تمييزاً في حق المرأة، ولذا فإن هذه الاتفاقية تنص على ضرورة الاختلاط في التعليم وفي العمل، ولكن هذا المجتمع متمسك ومتماسك إلى حد كبير في هذه المسألة عدا بعض الخروقات في بعض مواقع التعليم والعمل مع أن الأنظمة والتعليمات تنص على منع الاختلاط، ونظام العمل والعمال المعمول به الآن ينص على عدم الاختلاط؛ فينبغي المحافظة على هذه القيمة الفاضلة في المجتمع حتى لا نِزل أو نِضل بتشرب هذه الفتن التي ابتليت بها مجتمعات إسلامية وعربية.
وأهم ما ينتقدونه على المجتمع السعودي في اللجان والمؤتمرات هو عدم تمكين المرأة – تمكين المرأة مصطلح نسوي يعني أن تمكن في المجتمع كالرجل تماماً- في تولي الوظائف القيادية والمشاركة في اتخاذ القرار وتولي القضاء، وقد تولت امرأة القضاء في مجلس الدولة في مصر هذه السنة لأول مرة، مع أن الفتوى الشرعية في مصر عدم جواز تولي المرأة للقضاء.(/4)
أيضاً ما ينتقدونه على المجتمع السعودي تمييز الرجل عن المرأة في الميراث، وكذلك الشهادة أمام المحاكم، وموقف هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المرأة، والتمييز ضد المرأة بمنع الاختلاط، ومنعها من قيادة السيارة، وعدم حرية التنقل والسفر دون محرم وخاصة السفر الخارجي، وعدم المشاركة في الوفود الرسمية الخارجية.. هذه أهم الانتقادات التي توجه إلى المملكة العربية السعودية، ومعظم هذه القضايا ذوات أبعاد شرعية واجتماعية، وهذه الاتفاقية وتوصيات المؤتمرات تطالب تطبيق بنودها دون اعتبار للأحكام الشرعية والمواقف الثقافية.
كيف نواجه ضغوط الموقف الخارجي:
على المستوى الخارجي:المشاركة الفعالة في هذه اللجان والمؤتمرات ولا أرى أن المقام يتسع للمقاطعة؛ لأن الضعيف إذا قاطع لا يؤبه به - ونحن ضعفاء مادياً وسياسياً في هذه المرحلة - وإنما إذا شارك أثبت حضوره وقرر فكره ونشر مبادئه بخلاف القوي إذا قاطع فسيكون له أثر، فالولايات المتحدة الأمريكية عندما قاطعت اليونسكو ضعفت اليونسكو بسبب أن الذي قاطع دولة قوية كالولايات المتحدة الأمريكية، لكن إذا أتت بعض الدول الإسلامية وقاطعت مؤتمرات عالمية فإن هذا لا يؤثر كثيراً. فمن الحكمة -والله أعلم- أن نشارك ونطرح وجهة النظر الشرعية والرؤية الإسلامية بقوة ومن دون انهزامية حتى نزاحمهم ونكاثرهم ونثبت في وثائق هذه المؤتمرات وجهة النظر الإسلامية، ونمنع تفرد وجهة نظر النسوية العالمية التي تتبناها السياسة الغربية والأمم المتحدة، والحذر من أن نظهر وكأننا نريد أن نتوافق مع مواد اتفاقية (سيداو) أو مقررات بكين؛ لأننا لا نستطيع أن نستبدل مرجعيتنا الشرعية والثقافية بهذه المقررات، فالله سبحانه وتعالى يقول (فماذا بعد الحق إلا الضلال)، ولأن مجتمعنا سيرفض ذلك تماماً فهذا الخيار غير ممكن، ولذا سنستمر في جدل مع لجان المتابعة ومجاملات لهم توصلنا إلى حال مرتبك، لكن إذا أظهرنا ديننا ومبادئنا وأعلنا ثوابتنا وأن قيم مجتمعنا نشأت على أساس مبادئ وأحكام الشريعة التي قامت عليها شرعية الدولة ونشأ عليها المجتمع؛ فيمكن أن ننفذ بهذه الحجة التي قد لا يقتنعون بها في البداية لكن بعد الإصرار والثبات والعرض القوي الحكيم، ولذا يكون من المناسب أن يتضمن الموقف نقد مفهوم الحرية الغربي ومفهوم المساواة القائم على فكرة التماثل بين الجنسين وظيفياً، ونبين موقف الإسلام من هذه القضايا بحسن عرض وقوة منطق، فنتحدث عن العدل في مقابل المساواة، وأن المساواة ليست دائما تحقق العدل؛ بل تكون أحيانا ظلماً وهذا ما يحصل بالنسبة للمرأة الغربية، فهم يظنون أنهم يحققون لها المساواة وهذا ليس صحيحا لأن التسوية بين المختلفين تكون ظلماً في كثير من الأحيان وفي حالتنا هذه تكون المرأة هي المظلومة.
على المستوى الداخلي:هناك أطروحات ليبرالية داخلية تريدنا أن نبدأ بدرجات السلم الأولى للهبوط من خلال التوافق مع أجندة المؤتمرات أو بعضها مستثمرين ظروف المرحلة. ومواجهة هذه الأطروحات يكون بعمل إيجابي يقوم على حل مشكلات المرأة بالتزامن مع تطوير وتنمية أدائها لوظائفها ودورها الاجتماعي ، ويكون ذلك بالتالي:
أولاً : من خلال تحرير الموقف الشرعي من حقوق المرأة وواجباتها بوضوح، وبيان أن مقتضى كون الشريعة مرجعاً لنا هو قبول هذا الموقف والانقياد له في المجتمع المسلم.
ثانياً: من خلال بيان ما يواجه المرأة من مشكلات؛ فالمرأة تواجه مشكلات كثيرة في أي مجتمع من المجتمعات مثلها مثل غيرها من أفراد المجتمع، فالرجل له مشكلاته، والأطفال لهم مشكلاتهم ، والمعاقون لهم مشكلاتهم وهكذا.. ، ونظراً لأن المرأة لها اعتبار خاص وقضيتها مطروحة الآن وهي مدخل للفتنة في مجتمعنا كما هي فتنة للحضارة الغربية المعاصرة؛ فلا بد أن نواجه هذه القضية بما يكافئها علمياً وعملياً، ومنها أن ننظر في مشكلات المرأة التي تواجهها في المجتمع بنظر شرعي واقعي.
ما هي مشكلات المرأة مع الرجل؟ ما هي مشكلات المرأة في المجتمع؟ ما هي مشكلات المرأة مع الأنظمة؟ ما هي مشكلة المرأة مع المرأة؟ هناك مشكلات تواجهها المرأة مع المرأة يغفل عنها كثير من المهتمين بشأن المرأة ، المرأة كثيراً ما تظلم المرأة، كم تظلم الضرة ضرتها! وكم تظلم زوجة الابن أم الزوج والعكس! كم تظلم العميدة عضوات التدريس! كم تظلم المدرسة الطالبات! وكم تظلم المديرة المدرسات والموظفات! وهكذا...
ثالثاً: اقتراح البرامج العملية لحل هذه المشكلات بأن يبادر أهل العلم والمثقفون والدعاة والمصلحون وأصحاب الغيرة بالتصدي لهذه القضية، ولا تترك للناعقين والمتفيهقين ولمدعي العلم والثقافة ممن في قلوبهم مرض، المستنسخين لفصول من الثقافة النسوية الغربية، مستقوين بفكر العولمة الذي يدعم هذا الاتجاه، ومستغلين ظروف البلاد بعد أحداث سبتمبر عام 2001م.(/5)
من المبادرات الجيدة لبعض أهل العلم والدعوة صدور وثيقة تحمل تصوراً شرعياً لقضايا المرأة، سميت بـ (وثيقة حقوق المرأة وواجباتها في الإسلام) وقعها أكثر من ثلاث مئة عالم وداعية ومفكر ما بين رجل وامرأة، وهذه الوثيقة قسمت إلى أقسام:
أولاً: منطلقات أساسية ذكرت الوثيقة عدداً من المنطلقات التي يجب أن يبنى عليها أي مشروع للمرأة سواء في بيان الموقف الشرعي تجاه المرأة أو عند مناقشة المشكلات أو في مرحلة طرح البرامج والحلول، وأذكر فقرتين كنموذج لما ورد في باب المنطلقات من هذه الوثيقة المتميزة:
الفقرة الأولى: تقرر الوثيقة أن دين الإسلام هو دين العدل، ومقتضى العدل التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين، ويخطئ على الإسلام من يطلق أنه دين المساواة دون قيد، حيث إن المساواة تقتضي أحياناً التسوية بين المختلفين وهذه حقيقة الظلم، ومن أراد بالمساواة العدل؛ فقد أصاب في المعنى وأخطأ في اللفظ، ولم يأت حرف واحد من القرآن يأمر بالمساواة بإطلاق، وإنما جاء الأمر بالعدل قال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) فأحكام الشريعة قائمة على أساس العدل؛ فتسوي حين تكون المساواة هي العدل، وتفرّق حين يكون التفريق هو العدل، قال تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم)، أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام؛ لذا فإن الإسلام يقيم الحياة البشرية والعلائق الإنسانية على العدل كحد أدنى، فالعدل مطلوب من كل أحد مع كل أحد في كل حال، قال تعالى (ولا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).
الفقرة الثانية في هذا الباب: في مجال العلائق بين البشر. تعتبر الجاهلية الغربية المعاصرة الفردية قيمة أساسية، والنتيجة الطبيعية والمنطقية لذلك هو التسليم بأن الأصل في العلاقات بين البشر تقوم على الصراع والتغالب لا على التعاون والتعاضد، وعلى الأنانية والأثرة لا على البذل والإيثار، وهذه ثمرة الانحراف عن منهج الله، فصراع الحقوق السائد عالمياً بين الرجل والمرأة هو نتاج طبيعي للموروث التاريخي والثقافي الغربي بجذوره الميثولوجية (الدينية) الذي تقبل أن فكرة العداوة بين الجنسين أزلية وأن المرأة هي سبب الخطيئة الأولى، وهذا الموروث ربما التقى مع بعض الثقافات الأخرى، ولكنه بالتأكيد لا ينتمي إلى شريعة الإسلام ولا إلى ثقافة المسلمين؛ فالحقوق عند المسلمين لم يقرها الرجل ولا المرأة إنما قررها الله اللطيف الخبير.
وفي باب آخر من هذه الوثيقة: تحت عنوان "أصول شرعية في حقوق المرأة وواجباتها" تكلمت الوثيقة عن عدد من النقاط كان منها: التأكيد على موضوع الأسرة وعلى موضوع العلاقة بين الرجل والمرأة وأنها علاقة تكاملية وليست تماثلية، وقالت في بند من بنودها: "حفظت الشريعة الإسلامية -المراعية للعدل- أن للمرأة حقوقاً في المجتمع تفوق في الأهمية الحقوق التي تضمنتها وثيقة حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة القائمة على أساس المساواة التماثلية وتغفل الجاهلية المعاصرة هذه الحقوق ولا تبالي بانتهاكها، مثل: حق المرأة في الزواج حسب الشريعة الإسلامية وأيضاً حقها في الأمومة وحقها في أن يكون لها بيت تكون ربته ويعتبر مملكتها الصغيرة، حيث يتيح لها الفرصة الكاملة في ممارسة وظائفها الطبيعية الملائمة لفطرتها، ولذا فإن أي قانون أو مجتمع يحد من فرص المرأة في الزواج يعتبر منتهكاً لحقوقها ظالماً لها.
ومعلومٌ أن الفكر النسوي ينتهك هذه الحقوق (حق الزواج وحق الأمومة)، فاتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة تدعو الدولة الموقعة أن تدعم تعليم وعمل المرأة ولو على حساب الزواج، وتحارب الزواج المبكر، هذا فضلاً عن موقف التيار النسوي المتطرف المطالب بإلغاء قدسية الزواج!.
وتكلمت الوثيقة أيضاً في باب آخر تحت عنوان رؤى الوثيقة عن نقاط عدة، منها: أن الإسلام بعد تقرير المساواة بين الرجل والمرأة في معنى الإنسانية والكرامة البشرية والحقوق التي تتصل مباشرة بالكيان البشري المشترك والمساواة في عموم الدين و التشريع، يفرق بين الرجل والمرأة في بعض الحقوق والواجبات تبعاً للاختلاف الطبيعي الحاصل بينهما في المهام والأهداف والاختلاف في الطبائع التي جبل عليها كل منهما ليؤدي بها وظيفته الأساسية، وهنا تحدث الضجة الكبرى التي تثيرها المؤتمرات الكبرى الخاصة بالمرأة وروادها، و يثيرها المنتسبون للحركة النسوية العالمية ومقلدوها في العالم الإسلامي المروجون لفكرة المساواة التماثلية بين الجنسين.(/6)
إن المساواة في معنى الإنسانية ومقتضياتها أمر طبعي ومطلب عادل؛ فالمرأة والرجل هما شقا الإنسانية، والإسلام قرر ذلك بصورة قطعية لا لبس فيها، أما المساواة في وظائف الحياة وطرائقها فكيف يمكن تنفيذها؟ هل في وسع هذه المؤتمرات والحركات النسوية ومنتسبيها من الرجال والنساء بقراراتهم واجتماعاتهم أن يبدلوا طبائع الأشياء؟ وأن يغيروا طبيعة الفطرة البشرية؟
إن مزية الإسلام الكبرى أنه دين ونظام واقعي يحكم في مسألة الرجل والمرأة على طريقته الواقعية المدركة لفطرة البشر؛ فيسوي بينهما حين تكون التسوية هي منطق الفطرة الصحيحة، ويفرق بينهما حين يكون التفريق هو منطق الفطرة الصحيحة، قال تعالى: ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).
وفي فقرة أخرى عللت الوثيقة أسباب التمايز بين الرجل والمرأة في الميراث والشهادة والدية والعمل والتعليم والحجاب وغير ذلك من الرؤى التي تخص المرأة، وفي النهاية تذكر الوثيقة مطالب وتوصيات موجهة للحكام وللمجتمع وللمرأة وأيضاً للناشطين في مجال الحقوق من المسلمين ومن غير المسلمين وتختم الوثيقة مطالبها بالاهتمام بالبرامج العملية التي تقوم على أساسين:
الأول: الثوابت الشرعية من عقائد وأحكام ومقاصد.
والثاني: الملائمة الواقعية لمستجدات الحياة.
ثم تبشر الوثيقة بأن الإسلام هو أكثر الأديان انتشاراً في العالم الغربي وأن أكثر من يسلم في الغرب من النساء... هذه أهم أفكار الوثيقة.
وأرجو أن يتبعها وثيقة أخرى تتكلم عن مشكلات المرأة في المجتمع، ثم ثالثة تطرح البرامج والحلول في المجتمع لتكون مبادرة من أهل العلم والمثقفين وأهل الغيرة والمصلحين لحماية مجتمعهم من هذه الفتنة العاصفة المتمثلة في فساد الفكر الوافد الذي تمثله الحركة النسوية العالمية وإسقاطاتها في المجتمع، وللعناية بالمرأة تربيةً وتنميةً لتقوم بدور فاعل برؤية شرعية واثقة.
|1|2|
* nasser_225@hotmail.com(/7)
الحرمان والتخلف في ديار المسلمين
المؤلف : الدكتور نبيل صبحي الطويل
يتكون الكتاب من خمسة فصول : يتناول الأول منها تعريف الفقر، وعلاقته بالمرض وأسباب انتشاره، ثم يدرج المؤلف إلى تفصيل أهم المشاكل الاجتماعية المنتشرة بين المسلمين في الفصل الثاني والثالث و الرابع أما الفصل الأخير فيوضح كيفية الخروج من دائرة الفقر وطرق المكافحة.
المختصر المفيد للكتاب: إن مهمة الكاتب هي تبصير المسلمين بمشكلاتهم، وإغناء مسلمي اليوم بالرؤية الشمولية عن عالم المسلمين، وبيان الثغور المفتوحة التي تقتضي حق الأولوية في المرابطة، ووضع القادرين من المسلمين أمام مسؤولياتهم، وإذكاء حسهم باستشعار هذه المسؤوليات، وتجديد ذاكرتهم نحو الإسلام، وتحديد المعاني الإسلامية السامية في نفوسهم.. إنه إحدى محاولات تجديد الفهم الإسلامي بعد أن ترسبت عليه أوضاع اجتماعية معينة، أو ترسب هو على عادات وتقاليد ليأخذ شكلها ولتصبح شيئاً فشيئاً من الإسلام أو هي الإسلام!! في نظر بعضنا؛ وتصويب مفهوم العبادة وتحقيق العبودية بالنسبة للمسلمين الموزعين في المواقع المختلفة: فهناك عبادة خاصة بالأغنياء، وعبادة خاصة بالعلماء، وعبادة خاصة بالحكام والأمراء، وعبادة خاصة بالفقراء وطلاب العلم والقائمين على الحراسة في سبيل الله إلخ .. إلى جانب القدر المفروض والمشترك من الصيام والصلاة وبقية التكاليف في بناء الإسلام .. فعبادة الأغنياء وعبوديتهم: أن يؤدوا شكر النعمة بإعطاء الفقير حقه:( والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ) (المعارج:24 ) ذلك أن الله عز وجل جعل حقوق الفقراء أمانةً عند الأغنياء، فإذا جاع الفقير أو عري فبظلم من الغني، فإذا حاول الأغنياء الاقتصار على الصلاة والصيام والحج وأداء النوافل وقعدوا عن إعطاء الفقراء حقهم وظنوا أنهم خرجوا من عهدة التكليف فقد أخطئوا فَهْمَ التكليف الإسلامي، وأخطئوا طريق العبادة وتحقيق العبودية..
وعبادة العلماء: قولة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لئلا يضل الناس أو يضللوا، وألاّ تأخذهم في الله لومة لائم،وألاّ يشتروا بآيات الله ثمناً قليلا من منصب أو جاه أو مال.. حتى لا تنتقل للأمة المسلمة علل أصحاب الأديان السابقة الذين كانوا لا ينهون عن المنكر ولا يستنكرون فعلاً محرماً، قال تعالى: ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السُّحْتَ لبئس ما كانوا يصنعون ) (المائدة: 63 )، فاستحقوا اللعن والسقوط حتى أصبحوا أثراً بعد عين ..
وعبادة الحكام: الحكم بما أنزل الله وتحقيق العدل، والوقوف إلى جانب الضعيف والفقير والانتصاف له من القوي (القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له بحقه ).. إنه ميزان العدالة وطريق العبودية الحقة لله تعالى..
وعبادة الفقراء: الصبر على الواقع وعدم الانكسار أمامه والاستسلام له، الصبر الذي يحمي النفوس ويصقل المواهب، ويفتح النوافذ ويجمع الطاقات ويدفع إلى الانطلاق لتحقيق الكسب..
لقد افتقد مسلم اليوم ـ إلاّ من رحم الله ـ الرؤية الإسلامية الشاملة على مستوى التصور والتطبيق معاً، فبدأ يعيش حالة التبعيض التي تورث الخزي (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ) (البقرة: 85 ) وافتقد تبعاً لذلك الإحساس بترابط الجسم الإسلامي الواحد بعد عمليات البتر والتقطيع التي مورست عليه، فغابت الحقيقة الإسلامية المتمثلة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) لقد قطعت أوصال الجسم الإسلامي فلم يعد المسلم اليوم يحس بما يصيب سائر الجسد، و( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.. ) لقد غابت عن عالم المسلمين اليوم الأصول النفسية للتكافل الاجتماعي التي غرسها الإسلام، غاب مدلول الأخوة وحقوقها مرتكز هذه الأصول جميعاً، قال تعالى:(/1)
(إنَّمَا المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ) (الحجرات:10 ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره ) فكيف نسلم الكثير من المسلمين اليوم إلى الفقر والفاقة والظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي ؟! .وغاب مفهوم الرحمة، وهي الغاية التي من أجلها نزلت شريعة الله عز وجل، قال تعالى: (وما أرسلناك إلاَّ رحمةً للعالمين ) (الأنبياء: 107 ) وغاب مفهوم الإحسان، وهو عدم الاقتصار على إعطاء الناس حقوقهم عدلاً وإنما التنازل لهم عن بعض حقوقنا، إحساناً، والله تعالى يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى.. وغاب مدلول المحبة التي هي من ثمرات الأخوة والتي بدونها لا يستقيم إيمان ولا تتحقق نجاة وفوز(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) وغاب مفهوم الإيثار الذي كان يحكم جماعة المسلمين في الشدة والرخاء، قال تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) (الحشر:9 ) .
ولم يقتصر الإسلام في حمايته مجتمع المسلمين على غرس الأصول النفسية للتكافل، وبذلك تنتهي التعاليم الإسلامية إلى وصايا خُلُقية تحاكي الضمير، وإنما أوجد إلى جانب ذلك التشريعات التكافلية الملزمة من نظام الزكاة والميراث والنفقات الواجبة، وحرس استمرارية هذه المعاني بالتربية في جانب الأصول النفسية، وبالعقوبات الملزمة للتشريعات المالية، وبالرقابة العامة الدائمة على ذلك، ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة كل مسلم ـ من جانب آخر..
وفي اعتقادنا أنه في غيبة تشريعات التكافل الاجتماعي الملزمة بسبب غياب الشريعة الإسلامية عن التطبيق لا بد من التأكيد على هذه الأصول النفسية التي هي في طبيعتها أسبق من التشريعات الملزمة، والمقدمة الطبيعية للانتهاء إليها..ونعود إلى القول: إنه لا بد من مراجعة لفهمنا للإسلام وتجديد هذا الفهم الذي أنتج هذا الواقع الذي نحن عليه، وإن قبولنا بهذا الفهم يعني رضانا بهذا الواقع .. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عنه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له .. ) يقول أبو سعيد: فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافاً من المال ـ غير الظهر والزاد ـ حتى رأينا أنه لا حق لأحدنا في فضل .
إن الظهر والزاد لم تذكر هنا على سبيل الحصر، وإنما ذكرت على سبيل المثال كما هو معلوم، لقد مثل الرسول صلى الله عليه وسلم بها وبغيرها من الأموال ـ فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافاً من المال ـ حتى انتهى رأي الصحابة رضوان الله عليهم فيما يرويه أبو سعيد: حتى رأينا أي انتهى رأينا.. أنه لا حق لأحدنا في فضل .. إنه يحرُمُ الادخار أيام الشدائد والأزمات، التي تتعرض لها الأمة.. الأمر الذي لم تقل به أكثر المذاهب تطرفاً وادعاءً للتكافل الاجتماعي أو للضمان الجماعي، حتى وصل الأمر ببعض الصحابة إلى القول بتحريم الادخار دائماً، وتحديد الكنز بأنه ما زاد عن حاجة يومك في كل الأوقات مما كاد يوقع المسلمين في حرج .. فكان جواب سيدنا عمر رضي الله عنه على ذلك بقوله: لماذا شرعت الزكاة إذن ؟. أليست شرعة الزكاة هي عن المدخرات المملوكة التي يحول عليها الحول ؟ومن هنا نقول : إن الادخار يصل إلى مرحلة التحريم وقت الحاجات والشدائد والأزمات ..هذا كله عدا عن نفي الإيمان عن الذي يبيت شبعان وجاره جائع وهو يعلم (والله لا يؤمن من بات شعبان وجاره جائع وهو يعلم ) ولا يتسع المجال هنا لذكر بعض الفتاوى في هذا السبيل التي تؤكد على عنصر الإلزام في الموضوع، كفتوى ابن حزم وغيره لأنها معروفة في مظانها من كتب الفقه، لكن الذي أردنا إليه هو تحديد موقع الفقراء والمحرومين في المجتمع الإسلامي ..(/2)
إن الحصانة الإسلامية ضد الأفكار والمبادئ الهدامة سوف لا تتأتى باستعارة الإسلام والمبادئ الإسلامية كشعار يرفع في المناسبات، ويكون وسيلة للوصول إلى السلطة أو الاحتفاظ بها، ولا بإطعام فقراء المساكين في المواسم، الدينية وإطعامهم الخطب والمواعظ والكلام والوعود، وإنما بمعالجة الأسباب التي تستدعي هذه المبادئ إلى عالم المسلمين؛ ولو بذل علماء المسلمين الجهود في تربية وتوعية أغنياء المسلمين على الإسلام الباذل ومناصحة أولي الأمر ليقوموا بمسؤولياتهم تجاه ذلك لما احتاجوا إلى مهاجمة هذه المبادئ التي سوف لا تجد طريقاً إلى بلاد التكافل والعدالة الاجتماعية والتغرير بالفقراء ووعدهم بالفردوس المفقود حيث ترتفع آمالهم ويشتد فقرهم.. إن بعض العلماء الذين يستأجرون ليغدقوا على الفقراء الخطب دون أن يجهروا ببيان الأسباب، أسباب الفقر، ومعالجتها سوف لا يجدون آذاناً صاغية من الجماهير الفقيرة ، هذه الجماهير التي تشكل عدة الأمم في السلم والحرب على حد سواء، فهي سواعد الإنتاج في السلم، ودروع البلاد في الحرب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما ترزقون وتنصرون بفقرائكم ) .
من هنا نقول: إن هذا الكتاب وضع أغنياء المسلمين وولاة أمرهم أمام مسؤولياتهم، وأوضح لهم بالأرقام تلك الثغور المفتوحة التي سوف يؤتون من قبلها إن عاجلاً أو آجلاً إذا لم يتداركوا الأمر، ووضع العاملين للإسلام ودعاته في الصورة الدقيقة ليحددوا بعدها أولويات العمل وساحات الجهد الحقيقي ..
لقد قدم الدكتور نبيل صبحي الطويل في هذا الكتاب إحصائيات لواقع البؤس والمرض والجهل والتخلف والأمية في أكثر من بلد إسلامي من خلال تجربته الميدانية وطبيعة عمله في منظمة الصحة العالمية، ولا شك عندنا أن هذه الإحصائيات غائبة غياباً يكاد يكون كاملاً عن العاملين في الحقل الإسلامي فكيف بعامة المسلمين، إن الإحصاء أصبح علماً له وسائله وطرقه، كما أصبح ضرورة لا يستغنى عنها في رسم خطط التنمية، إنه بالنسبة للعمل الصحيح ووضع الخطط أشبه بما يسبق عملية البذر من دراسة للتربة وتحديد لنوعيتها، ودراسة لكمية الأمطار والمناخ الملائم، ومن ثم يأتي اختيار البذر المستنبت .. وقد يكون الأمر الخطير في عالم المسلمين اليوم فيما وراء فسق المترفين الذين هم دائماً سبب دمار هذه الأمم وسقوط حضارتها، وأقنية القاذورات والأمراض الجنسية والانحلال الذي يتسرب إلى جسمها.. قد يكون الأمر الخطير عند المسلمين اليوم: فقدان جدول الأولويات، وليست مسألة تصنيف الإنفاق وتحقيق التكافل بأحسن حالاً من قضاياهم الأخرى الكثيرة التي تغيب فيها جدولة الأولويات وتتغيب الحسابات!! فقد تقدم أموال في بعض بلدان العالم الإسلامي لمشاريع خيرية وفقراء تعتبر إذا ما قيست بالفقراء الذين لا يجدون الكفاف في مناطق أخرى من صور الترف والرفاهية، والعالم الإسلامي كالجسد الواحد، فما بالنا نساهم بتكريس تمزيقه وتقطيع أوصاله ؟ لقد بحث فقهاؤنا أولوية الحاجة، ولعل الذي يرجع إلى بحثهم حول: أيهما أشد حاجة إلى العطاء.. الفقير أم المسكين من مصارف الزكاة، وإذا لم يجد الإنسان إلاّ أن يعطي أحدهما ؟! بَيَّنَ الشافعية والحنفية ما يدلل على هذا النظر الثاقب والبصيرة الواعية التي غابت عن عالمنا ..
ولست بحاجة إلى القول هنا : إن العالم الإسلامي هو عالم متكامل اقتصاديا، إنه يمتلك الطاقة التي تحرك العالم، ويمتلك المساحات الواسعة والمياه والمناخات المختلفة التي تؤهله لأن يكون مخزن العالم بالغذاء أيضاً.. فإذا أضيف إلى ذلك كله العقيدة الوسط، فإن العالم ينتظر دوره في قيادة البشرية إلى الخير وإلحاق الرحمة بها .. لقد قام بعض المتخصصين في الجغرافيا ـ الأستاذ عمر الحكيم رحمه الله ـ بتقديم دراسة رقمية عن واقع العالم الإسلامي المتكامل اقتصادياً.. القادر على أن يكون مخزن غذاء العالم وطاقته في المستقبل فيما إذا أحسنت قضية الاستثمار: فهل من سبيل إلى ذلك لتنتهي مشكلة الفقر في العالم الإسلامي ويتحقق النصر ؟! .
إن تحقيق التكافل الاجتماعي من شروط نهوض الأمم وبناء المجتمعات، وحسبنا أن نعلم أن المسلمين في جيش العسرة (غزوة تبوك ) بعد أن نفد زادهم في طريق العودة، اشترك العشرة منهم في امتصاص التمرة الواحدة، فكان ما كان من النصر والتمكين، فأين واقعنا اليوم من التحقق بشروط النصر ؟ بقلم الدكتور : عمر عبيد حسنة(/3)
الحروب الصليبية بين الأمس واليوم
الشيخ محمد سيد حاج*
(1) مقدمة:
إنّ الصراع بين الحق والباطل قديم قدم الإنسان، فأينما وُجد الإنسان وُجد صراع أولاً في دواخله بين بوادر الخير ونوازع الشر، وثانياً بين أنصار الحق وأعوان الباطل على مر الدهور والأزمان، ((بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق)) [سورة الأنبياء: 18].
وقد أخذ هذا الصراع أشكالاً مختلفة وصوراً كثيرة، تختلف في شكل المنازلات ومجالات المواجهة وصور التحديات، ولكنها تتفق في النتائج ((ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)) [سورة البقرة: 217]، ((وودوا لو تكفرون)) [سورة الممتحنة: 2]. وأهم ما في القضية هو البعد العنصري والمنطلق الديني لهذا الصراع؛ ولهذا سميت بالصليبية لأنها حرب مقدسة عندهم.
وإنّ الحديث عن هذا الموضوع الكبير والشائك لا تكفيه هذه الورقة للإحاطة به، لا سيما وهو حديث عن الماضي استقصاءً، وعن الحاضر قراءةً وتحليلاً، وعن المستقبل تخطيطاً واستشرافاً.
ولكن أبدأ مستعيناً بالله عز وجل:
(2) الحروب الصليبية من خلال القرآن الكريم:
إنّ المتأمل للكتاب الكريم يجد خلاله كشفاً لحقائق الكفار الصليبيين وتبييناً لسبله((وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)) [سورة الأنعام: 55]، وفضحاً لعقائدهم وتعريفاً لنا بأعدائنا ((والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً)) [سورة النساء: 45]، وإنك لتجد إشارات واضحة في القرآن عن دوافع ومنطلقات وأشكال الحروب الصليبية بكلمات جامعة ومعاني رشيدة ومن ذلك:
[1] ((يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)) [سورة التوبة: 32].
[2] ((ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا)) [سورة البقرة: 217].
[3] ((إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودّوا لو تكفرون)) [سورة الممتحنة: 2].
[4] ((ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم)) [سورة البقرة: 109].
[5] ((ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ولئن اتّبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير)) [سورة البقرة: 120].
[6] ((قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر قد بيّنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون)) [سورة آل عمران: 118].
[7] ((إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون)) [سورة الأنفال: 36].
تشير الآيات إلى أهداف الحروب الصليبية، والتي تقصد زعزعة العقيدة الإسلامية، واختراق قيم المجتمع، وإضعاف المسلمين واضطهادهم، من منطلق حقد دفين وكراهية متجذِّرة ((قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر))، وأنهم يستعملون أسلحة كثيرة، منها المال وأسلحة الفكر والثقافة ((حتى تتبع ملتهم)).
((ولا يزالون يقاتلونكم)) يوحي النص بأنها مستمرة وأنها حرب شاملة وحضارية، وكذلك في قوله: ((ولا يزالون)) دليل على أنّ السلاح المستخدم ليس سلاحاً عسكرياً محضاً، بل فيه الأسلحة الاقتصادية والسياسية والإعلامية والعقائدية.
(3) تاريخ الحروب الصليبية:
الحقيقة التي ينبغي أن نعيها أنّ الأديان والمعتقدات هي التي تحرك المجتمعات وتشكل الدول حتى اليوم، وذلك لأن الدين بطبيعته يدعو إلى تغيير أنماط الحياة السائدة، وإصلاح المجتمعات، ويقوم على ثوابت لا تقبل التنازل والتردد، ومن هنا لما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم بدأت الحروب ضده؛ باعتباره ديناً له فواصله وأحكامه وشرعته المستقلة، التي لا تذوب في غيره من الأديان ((قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون)) [سورة الكافرون: 1-2]، وكان دين النصارى قد حُرِّف ومُسخ ولكنه ظل ديناً له أتباع يخضعون له ويؤمنون به. وهنا بدأ في محاربة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أول مواجهة قتالية مع الصليبية كانت في (مؤتة)، ثم عزم النبي صلى الله عليه وسلم على مواجهتهم في تبوك ولم يُقدِّر الله تعالى قتالاً، ثم جاءت بعد ذلك الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الأمويين والعباسيين، فكانت معارك كبرى منها اليرموك التي أزالت النفوذ البيزنطي من الشام كلها وودع هرقل دمشق وداعاً لا لقاء بعده [فتوح البلدان للبلاذري]. ودخل المسلمون بيت المقدس سنة 15 هـ وسُلّم الفاروق مفاتيحها وفرض الجزية وحفظ لهم حقوقهم والراجح عند الطبري أنها فُتحت صلحاً [تاريخ الطبري: 2/449]. واستمرت الفتوحات الإسلامية حتى فتحت الأندلس وأزال المسلمون حكم القوط النصارى عنها وبلغوا وسط فرنسا وحاصروا روما لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى لأنّ لها موعداً لن تُخلفه.
أهم مراحل الحروب الصليبية:
وتأتي أهمية هذه النقطة من أنه مَن لم يعرف ماضيه فلن يفهم حاضره:(/1)
[1] الصدام والالتقاء الأول في الجزيرة العربية ولم يكن صداماً بالمعنى المعروف.
[2] الفتوحات الإسلامية في مواجهات الدول البيزنطية النصرانية في الشرق.
[3] مواجهة دويلات غربية نصرانية الطابع مثل (الأندلس وجنوب فرنسا وإيطاليا).
[4] بداية الحروب الصليبية سنة 489 هـ على يد متطوعين لتخليص القدس وكان رأسها بطرس الناسك، وكانت بدعوى من البابا إيربان الثاني، وفشلت هذه ولكن تلتها الحملة الأولى المنظمة بعد أعوام، وهذه هي التي سقطت فيها القدس سنة 493 هـ، وقد كانت تحت الحكم الفاطمي، وقادها الأمراء والإقطاعيون وجودفري هو الذي حكم القدس وقُتل فيها سبعون ألفاً وبلغ الدم داخل المسجد حتى قوائم الخيول.
ثم جاءت حملة ثالثة تصدى لها نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي القسيم ابن القسيم، انتهت هذه المرحلة بمعركة حطين 583 هـ في عهد صلاح الدين الأيوبي. ويمكن أن نقف على حقائق مهمة هناك :
[أ] انتزاع مصر من الفاطميين كان هو السبيل لاستنقاذ القدس من الصليبيين.
[ب] الاستقامة التامة علي الدين من القائد صلاح الدين، وهنا لابد من كلمة: لا عودة للقدس ولا دحر الصليبين إلا بـ (صلاح الدين!!)، الاستقامة على نهج الكتاب والسنة، صلاح للدين ثم بصلاح الدين القائد.
[5] الحملات من سنة 1189 - 1270م حيث هزمهم خليل ابن قلاوون المملوكي، وهزمهم من العالم الإسلامي بسقوط عكا، وفي بعض الحملات أُسِر لويس التاسع عشر ملك فرنسا على يد الظاهر بيبرس المملوكي.
وفي هذه الفترة واجه العالم الإسلامي خطر التتار وسقوط الخلافة العباسية باتفاق مع البابا أنيوست.
عرفت هذه الحملات عند المؤرخين الإسلاميين كابن الجوزي وابن كثير وابن الأثير بـ (خروج الفرنجة)، وعرفت عند النصارى بـ (الحج إلى الديار المقدسة) - (الحرب في خدمة المسيح) - (أعمال المسيحيين وراء البحر).
آثار الحروب الصليبية الأولى:
[أ] المذابح العظيمة التي لحقت بالمسلمين: ففي الحملة الأولى أباد النصارى أهل أنطاكية وذبحوا أكثر من سبعين ألفاً، وبعد أن فتحها صلاح الدين عليه رحمة الله جاء ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا وفيليب ملك فرنسا وفردريك ملك ألمانيا لاستنقاذها، وفيها قتل قلب الأسد 2700 أسير في عكا.
[ب] تخريب كثير من بلاد الشرق الإسلامي كحمص وحماة وعسقلان وطبرية.
[ج] تشريد كثير من المسلمين من بيوتهم.
[د] مهدت الحروب الصليبية الأولى لحركات الاستعمار فيما بعد.
[6] غيَّر الصليبيون استراتيجياتهم لغزو العالم الإسلامي وهذه بدأت مع حركة الاكتشاف، والتي كانت ذات أبعاد عقدية، حيث مهّدت لما عرف بالاستعمار الأوربي، ومن أشهر هذه الرحلات رحلة (فاسكودى جاما) حيث قالوا: "الآن طوقنا رقبة العالم الإسلامي؛ فلم يبق إلا جذب الحبل فيخنق" [راجع حاضر العالم الإسلامي، د.جميل المصري].
وحملت هذه الحملات الروح الصليبية وتمثلت في كل من هنري الملاح والبابا نيقولا الخامس الذي أصدر مرسوما بذلك.
وهذه المرحلة يمكن تسميتها بالهجمة الصليبية الاستعمارية الاستيطانية وهذه هي التي قال فيها اللورد اللنبي: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، "وها قد عدنا ثانية يا صلاح الدين" قالها غورو، والتي كان من آثارها:
[أ] استنزاف موارد العالم الإسلامي.
[ب] جعله سوقاً لمنتجاته.
[ج]اضطهاد المسلمين.
[د] تقسيم العالم الإسلامي إلى دويلات.
[هـ] التبعية الثقافية والسياسية للمستعمر.
[7] الاستعمار الجديد وذلك بخروج المستعمر وترك أذياله وآثاره، وفرض النمط الغربي، وهو ما عرف بمصطلح هيمنة العصر الأوربي، أو مصطلح التغريب، أو مصطلح النظام العالمي الجديد، وكذلك العولمة أخيراً.
ملامح الحروب الصليبية اليوم:
الملمح الأول:
من السذاجة أن نظن أن الحروب الصليبية لا تقوم إلا على المواجهة العسكرية فقط، لأنّ من أخطر ملامح هذه المرحلة تدمير البنية العقدية التحتية للأمة، أو بمعنى آخر التصفية الروحية القيَميّة للأمة، أو بشكل آخر ما أسموه بتجفيف المنابع. وذلك لأن الحروب الأولى كما هو ملاحظ كانت تعتمد على التصفية الجسدية والموارد المادية أولا ولكن الحروب الحالية تقوم على التصفية الجسدية بعد التصفية الروحية.
أولاً: أهداف الحروب الصليبية اليوم (العولمة):
[أ] استئصال شأفة الإسلام ومحوه من الوجود.
[ب] طمس الهوية الإسلامية وإضعاف التدين في المجتمعات, ولهم في ذلك وسائل كثيرة منها:
1. تدمير الأسرة وإشاعة الجنس وإفساد المجتمع عبر المرأة. اتفاقية سيداو ومؤتمر السكان في القاهرة ومؤتمر المرأة في بكين.
2. تسميم الآبار المعرفية لدى الأمة الإسلامية ونعني بذلك تخريب مناهج التعليم.
3. علمنة المجتمعات وعزل الدين عن الحياة ولابد من القول أنّ مَن أكبر شياطين وجنود العولمة والحرب الصليبية الحديثة, العلمانية باعتبارها طمساً للهوية وإفراغاً للدين من محتواه الحقيقي.(/2)
4. نشر التنصير بالمناهج الباطلة وزرع المنظمات والهيئات المشبوهة كالماسونية وأذرعها والرافضة وروافدهم وما أشبه الليلة بالبارحة سقطت القدس في أيام العبيدية وسقطت القدس في أيام القومية والنصيرية. وسقطت الخلافة بمعاونة نصير الطوسي والوزير ابن العلقمي بعد دار الحكمة المشبوهة.
5. طمس الهوية ونشر فنون اللذة وصنوف الملاهي إضعافاً لروح المقاومة الإسلامية وتدميراً للشباب وذلك عبر الإعلام المسموم.
[ج] من أهداف الحملة الصليبية العالمية اليوم تشكيك المسلمين في دينهم وتحييد الشعور المسلم والوجدان المؤمن، وذلك بزعزعة عقيدة الولاء والبراء وذلك إبعاداً للمسلم عن جوهر دينه وتضليلاً له عن مخططاتهم.
ثانياُ: وسائل الحرب الصليبية اليوم:
[أ] الحرب الإعلامية على الأمة الإسلامية عبر الآلة الإعلامية الضخمة، التي تدعو لتعظيم الذات الأجنبية واحتقار الذات الإسلامية ووصم المسلمين بالإرهاب (السادات مع اليهود - التتار في بغداد) مما أدى إلى الهزيمة لنفسية التي هي شر أنواع الهزائم.
[ب] الاقتصاد والهيمنة على اقتصاديات الدول المسلمة وتحويلها لإخضاعها وإغراق الحكومات في ديون وإلى غير ذلك من الحرب الاقتصادية وكل ذلك تحت مظلة نظام مالي دولي يتحكم في كل الشعوب (صندوق النقد الدولي, البنك الدولي للإنشاء والتعمير).
[ج] الحرب السياسية على العالم : بزرع أنظمة تُقصي كتاب الله عن الحكم، وتنفِّذ سياسات أسيادهم ومع استغلال الكيانات العالمية السياسية لتجريد المسلمين والإسلام ومن ذلك الأمم المتحدة ومواقفها من الإسلام لا تحتاج إلى كثير بيان.
[د] العمل العسكري: ظن كثير من الناس أن استعمال السلاح قد انتهى مع الحروب الصليبية الأولى وأن تصفية الإسلام سيتم بطرق أخرى ولكن أبت الصليبية الحاقدة إلا أن تفرغ سمّها وتخرج حقدها الدفين. وقديما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: "أنّ كل حروب الفرنجة مخالفة للمسيح عليه السلام الذي أمر بالتسامح ولم تكن في ديانته قتال جهاد, علم بهذا ضلال كل من قاتل باسم المسيح عليه السلام). وقد ذكر ابن القيم رحمه الله كلاماً مثله: "بأنّ شريعة موسى كانت شريعة جلال قائمة على المصادمة, وشريعة عيسى كانت شريعة جمال ليس فيها قتال وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم شريعة كمال جمعت بين الجلال والجمال كلٌ في موطنه".
وقفات مع العمل العسكري:
[أ] ازدهرت تقنية السلاح العسكري والسؤال لمن يعده الغرب؟؟ ويأتي السؤال بريئا في ظل سلام عالمي وحرية عامة وديمقراطية سائدة وعولمة مهيمنة, فطالما الأمر كذلك هل توقفت صناعة الأسلحة واستحداثها؟؟ إذن هم يعدونها ليومها وللمسلمين.
[ب] إنّ الهدف من العمل العسكري هو إخضاع العالم الإسلامي وإرهابه وتخويفه بأسلحة الدمار الشامل والتلويح بالحل النووي.
[ج] السؤال الكبير هل حلف الناتو صليبي؟ تأسس حلف الناتو بعد الحرب العالمية الثانية لإيقاف توسع الروس ضد أوربا. ولكن سرعان ما تحول لأداة صليبية ضد العالم الإسلامي, والدليل على ذلك:
1. من بداية حرب البوسنة صرّح وزير الإعلام الصربي: "نحن طلائع الحروب الصليبية الجديدة".
2. في افتتاحية الصاندي تايمز :"آن للغرب والاتحاد السوفيتي أن يستعد لمواجهة إسفين إسلامي أصولي هائل".
3. في 9/1/1994م صرّح المستشار الألماني هيلموت كول "لا يسعني إلا أنّ أنصح الصربيين والأوروبيين بأن يستيقظوا من سباتهم!! هناك خطر حدوث مواجهة مع 800 مليون مسلم في العالم".
4. تصريح وزير الدفاع الفرنسي عام 1994م: "إنّ الأُصولية الإسلامية تغرز خنجرها عميقا في صدر أوربا وأفريقيا".
5. صرح في فبراير 1995م الأمين العام للحلف في مؤتمرٍ أمنيٍّ بألمانيا "منذ انهيار الشيوعية في أوربا الشرقية قبل خمس سنوات برز الدعاة المسلمون المتطرفون وربما كأخطر تهديد يواجه التحالف والأمن الغربي" نُشرت في جريدة (الواشنطن بوست).
الملمح الثاني:
كرّر الرئيس الأمريكي بوش ووزير دفاعه وصف الحرب ضد المسلمين حقيقةً وضدَّ الإرهاب زوراً بأنها حرب شاملة!!
ومعناها أنّها حرب فيها استهداف العقائد والثقافة والخصوصيات الحضارية للشعوب، لأجل تجفيف ينابيع الإرهاب ويقصدون بذلك الإسلام.
الملمح المهم هنا أنّ الحرب الشاملة ضد الإسلام خاسرة وذلك لأن الإسلام لا يُغلب يمكن أن تنتصر أمريكا عسكريا ولكنها لا تنتصر قيمياً. وقد عرف هذه المسألة المفكرون الأمريكان فقد (جاء في لقاء مع صمويل هنتنجتون صاحب نظرية صراع الحضارات يوم 13/4/1997م "ما دام الإسلام إسلاماً والغرب غرباً سيظل الصراع كما كان قائما لأربعة عشر قرناً").(/3)
إنّ الإسلام لن يُهزم فلو مات ابن لادن فإنّ المبادئ التي صنعت ابن لادن لا تزال حية وإنّ القيم التي أوجدت طالبان لا تزال راسخة. من كان يظن أنّ التتار الذين اجتاحوا بغداد وهم وثنيون هم الذين سيدخلون الإسلام في شرق أوربا وروسيا. فالقيم لا تموت والمبادئ لا تُسحق والرسالة لا تُغلب!
الملمح الثالث:
إنَّ كلّ القوى المخالفة لأمريكا في العالم من أمثال (الصين - روسيا) تتّفق مع أمريكا والغرب في القواسم المشتركة اللغة واللون وانصهار الثقافة وكل ما هو ثقافة للرجل الأبيض. هكذا يقولون "الشيوعيون إخواننا والأوربيون حلفاؤنا واليهود أحبابنا ونحن عدونا الإسلام" كما قال إيجيت روستو مستشار الرئيس الأمريكي جونسون عام 1967م.
الملمح الرابع:
إن أكبر الملامح المخزية في الحروب الصليبية الأخيرة أخذ التأييد الإسلامي لضرب الإسلام والمسلمين، وهذا لم يقع في الحروب الصليبية الأولى بهذه الصورة الفاضحة. وهذا ما يسميه الغرب "الشرعية الدولية" و"تأييد الرأي العام العالمي" إلى غير ذلك من المظلات الكاذبة، والتي الغرض منها ضرب الإسلام والمسلمين تحت غطاء عالمي، وذلك لإظهار نوع من الحياد النزاهة وعدم استثارة كوامن الانتماء للإسلام في نفوس المسلمين وعدم إظهار صليبيتهم الحاقدة ولكن أراد الله أن تتفلت من ألسنتهم كقول بوش أنها حروب صليبية وغيرها.
الحروب الصليبية الجديدة من أقوال الصليبيين:
(1) جورج واشنطن أول رئيس لأمريكا سنة 1789م: "الشعب الأمريكي موكّل بمهمةٍ عهد الله بها إليه".
(2) توماس جيفرسون رئيس أمريكي 1801م: "الأمريكيون شعب الله المختار". ويظهر من هذه المقالة تأثر الأمريكان بالعقيدة اليهودية، ولا عجب، حيث إن التحالف الأمريكي اليهودي تحالف أيدولوجي عقدي؛ لأن الأمريكان نصارى ولكنهم بروتستانت، وهي قراءة توراتية للإنجيل، وتؤمن بالمسيح المخلّص الذي عاصمته (القدس). فالديانة العامة في أمريكا ديانة عقدية؛ ولذلك فإن التحالف بين أمريكا واليهود ليس تحالفاً مرحلياً، بل هو تحالف إيديولوجي عقدي.
(3) دوايت إيزنهاور الرئيس الأمريكي 1953م: "حمَّل القدر بلدنا مسئولية قيادة العالم الحر".
(4) نكسون الرئيس الأمريكي: "إننا لا نخشى الضربة النووية ولكننا نخشى الإسلام والحرب العقائدية". والملاحظ هاهنا أنّ خوفهم الحقيقي إنما هو من العقيدة التي تصنع الأجيال وهي عقيدة الإسلام.
(5) وقال أيضاً: "إن العالم الإسلامي يشكل واحداً من أكبر التحديات لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية في القرن الحادي والعشرين".
(6) قال أيوجين روستو مستشار الرئيس الأمريكي نكسون 1967م: "أمريكا مكمّل للعالم الغربي، فلسفته عقيدته ونظامه، لا تستطيع إلا أن تعادي الإسلام، وإلا تنكّرت للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها".
(7) قال بيل كلنتون: "إن تجاهنا التزاماً مقدّساً لتحويل العالم إلى صورتنا".
مقارنة بين حروب الأمس واليوم:
[1] القدس قضية محورية في الصراع طيلة القرون الماضية والحرب الحالية، وهذه نتيجة أراها مهمة.
فقديماً كانت الحملات باسم القبر المقدس وزيارة البيت المقدس، واليوم الغرب نفسه يرعى القدس، ولكن هذه المرة لليهود، وهذا واضح في وعد بلفور 1917م.
[2] الملاحظ أن اليهود أشد عداوة للمسلمين من النصارى، وكل الحروب الماضية كانت مع النصارى، والمتأمل للتأريخ يجد أنّ اليهود ما دخلوا في حرب مواجهة مع المسلمين في أربعة عشر قرناً إلا في زمن النبوة، ثم في حروب الاحتلال الأخير على فلسطين والسبب أنهم يفضلون الحرب الخفية وإشعالها بين الشعوب وقد قال الله تعالى فيهم: ((كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً)) [سورة المائدة: 64].
[3] إنّ سبب طمع الصليبية في المسلمين هو ضعف المسلمين وبعدهم عن الإسلام وتعاليمه ووجود المناهج الباطلة والأنظمة الفاسدة "قارن بين الدولة العبيدية ودول المسلمين اليوم"، كيف يلتقي النصيري مع السني مع البعثي مع المادي مع الدرزي؟؟ وبالجملة استفاد الصليبيون من ضعف المسلمين وتفرُّقهم، وهذا هو الحاصل.
[4] قديماً حصل تعاون وثني مع الصليبية، واليوم الشيء نفسه يتكرر، فكثير من الدول الوثنية (الهند والصين وغيرها) تكاد تقف الموقف نفسه.
[5] عدد القتلى في الحروب الصليبية الأولى لا يتجاوز مائة ألف مسلم بينما القتلى من أطفال العراق بعد الحصار مليون طفل دعك من القتلى في البوسنة وكوسوفا وتيمور وكشمير والشيشان والأفغان وتحت المظلة الدولية.
فوائد الحرب العالمية:
(1) إحياء قضايا علمية شرعية مثل هذه الأوراق التي نحن بصددها كقضايا "الولاء والبراء" و "والمعاهد والذمي والمحارب" و"الجهاد".
(2) تعاطف الشارع وإحياء الشعور الإسلامي وفي هذا مؤشر صحي أن في الشعوب خيراً دفيناً يحتاج إلى تجلية وإيقاظ وتربية.(/4)
(3) إثارة البغض والكراهية تجاه الصليبيين وعلى رأسهم رأس الكفر (أمريكا) وفي هذا فائدة ببقاء الفواصل العقدية والبغض المقدس تجاه الصليبيين.
(4) كسر الطغيان الأمريكي باعتبار ذلك نقطة فاصلة في صراع الحضارات وقرب النهاية الأمريكية إن شاء الله.
(5) دراسة الإسلام في أمريكا والإقبال عليه إقبالاً منقطع النظير.
(6) تنامي الشعور بالمسؤولية تجاه الإسلام في أوساط المجتمعات الإسلامية.
(7) ظهور زيف الشعارات وإسفار العدو عن وجهه، وسقوط أقنعة السلام والحرية وحوار الأديان.
كيف نواجه الحروب الصليبية؟
يقول الله عز وجل: ((وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً)) [سورة آل عمران: 120] وعلى ضوء هذه الآية يمكن أن نقول:
(1) استعادة الوعي بالهوية والقضية: وهذا ما عنته الآية فإن الصبر والتقوى يعنيان المزيد من الالتزام الجاد الصارم، ومقاومة الشهوات، والتضحية لهذا الدين، ومراجعة أنفسنا وإقامة الدين في حياتنا. يقول باكتول: "حاربوا المساجد بالمراقص، والزوجات بالمومسات، وفنون القوة بفنون اللذة والجنس".
(2) تجييش الأمة كلها وتجميع المسلمين تحت راية واحدة عملاً بقاعدة دفع الكافر بالمبتدع كضرورة وقتية، أما بالنسبة للمستقبل فلابد من التداعي لوحدة إسلامية منهجية وفكرية تجمع العالم الإسلامي ضد أعدائه.
(3) ضرورة الجهاد في سبيل الله تعالى باعتباره "مفتاح النصر ولغة العصر"، (وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بذُلٍّ) [الحديث في كنز العمّال للبرهان فوري، الحديث رقم 8447، وعزاه لابن مردويه]، (وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري) [رواه أحمد].
(4) البعد عن المعاصي والدعوة إلى إصلاح المجتمع. فكيف يلهو المجتمع ويغني ويرقص وهو يواجه حرباً شاملة؟؟
(5) السعي نحو التخطيط السليم، وتطوير وسائل المواجهة، وعدم الركون إلى العاطفة فقط، وعدم اعتبار قضية أفغانستان نهاية المطاف، إنما هي بداية المعركة الحقيقية.
تنبيهات مهمة:
[1] الحرب بين الإسلام والصليبية على اختلاف أقنعتها وأنظمتها وأسمائها ستستمر إلى نزول عيسى عليه السلام، لأنها حرب عقدية. وهذا لا يعني التكاسل والتباطؤ؛ فلا ينبغي أن ننخدع بحوار الأديان ودعاوى السلام ونشر ثقافة المحبة؛ إذ الغرض من كل ذلك تخدير المسلمين.
[2] واجب المسلمين المدافعة ومقاومة الكفر والبغي؛ لأن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، وهذا يُلزمنا بإعداد كلِّ قوة؛ لقوله تعالى: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)) [سورة الأنفال: 60].
[3] الهزيمة العسكرية للأفغان لا تعني الهزيمة لأن المبادئ حية، والقيم راسخة، والرسالة خالدة، وقد قال الله عز وجل عن أتباع المرسلين: ((وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)) [سورة آل عمران: 146]، وقال تعالى أيضاً: ((فيَقتلون ويُقتلون)) [سورة التوبة: 111].
[4] الحذر من الإحباط واليأس أو الشك في أن الغلبة في نهاية الأمر للمسلمين والحق، ولو كان الباطل مدعوماً بالترسانات النووية و الذرية و البيولوجية ولو ازّيّنت حضارتهم بالإنترنت وأخذت زُخرفها بالفضائيات فإن وعد الله آتٍ والله لا يخلف الميعاد.
وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه وسلم.
التعقيب على ورقة ((الحروب الصليبية بين الأمس واليوم))
د. محمد علي علوان:
[1] الحروب الصليبية موجهّة دائماً إلى الحنيفية السمحة من لدن أصحاب الفيل إلى يومنا هذا.
[2] تقوم الحروب الصليبية دائماً على أبعاد دينية وتاريخية وجغرافية.
[3] ربط اليوم بالأمس فغزوة الأحزاب مثلاً كانت اجتماعا لملل الكفر وحرباً شاملة على الإسلام.
[4] التذكير بقدرة الله تعالى على الانتقام منهم. وآياته الباهرة في إذهاب الهيبة عنهم ((فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون)).
أ.د. الخضر عبد الرحيم:
[1] الثناء على صحوة الشباب المسلم واهتمامه بقضايا الأمة الإسلامية.
[2] القدس محور الحروب الصليبية (ربط القرآن بين الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى, وبين جرائم بني إسرائيل وبُعدهم عن الدين الصحيح).
[3] بيان نسبة الصليبية إلى الصليب والإشارة إلى الدّلالة الدينية للحرب.
[4]بيان دور الغزو الثقافي في الحروب الصليبية (التنصير, واتباع المناهج المستوردة وأنماط التفكير الغربية).(/5)
الحرية السياسية في الإسلام
بقلم : الأستاذ محمد رجاء حنفي عبد المتجلي
لقد قرّر الإسلام "الحرية السياسية" في جميع مبادئه وكل نظمه ، وإذا كان معنى الحرية بلغة العصر الذي نحيا فيه أن يعطي كل فرد عاقل رشيد الحق في أن يشترك في إدارة الدولة ، وشئون الأمة ، ويلاحظ أعمال السلطة التنفيذية عن طريق الاستفتاء العام ، إذا كان هذا هو مفهوم "الحرية السياسية" في العصر الحديث ، فإن الإسلام قد عرف هذا المفهوم تطبيقًا وعملاً منذ وجد.
وتأكيدًا لهذا المبدأ، أمر المولى تبارك وتعالى ، رسوله صلوات الله وسلامه عليه ، وهو الذي لاينطق عن الهوى ، بأن يشاور المسلمين في أمورهم، وألاّ يبرم أمرًا دونهم ، يقول عز وجل: ?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيْظَ القَلْبِ لاَنْفَضُّوْا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ[-1]? ، و: ?وأمْرُهُمْ شُوراى بَيْنَهُمْ[-2]? .
وكان أساس الشورى عند المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أن يأخذ بما أجمع عليه الصحابة – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - ، أو استقرّت عليه أغلبيتهم ، ومثال ذلك ما حدث في غزوة "بدر"، حيث نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيشه مكانًا غير ملائم للمعركة حربيًا، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح ، الذي كان خبيرًا بهذه الأمكنة التي نزل فيها المسلمون ، ولم يرق في عينه الموقع الذي استقروا فيه ، ولم يطمئن إليه : "يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل ، أمنزلا أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدّمه أو نتأخّر عنه ؟ .. أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟" فقال صلوات الله وسلامه عليه .. "بل هو الرأي، والحرب، والمكيدة"، فقال الحباب: "يارسول الله ! فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزل ، ثم نغور ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء ، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون".
وحينئذ فكّر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه فاقتنع بهذا الرأي السديد ، وأعلن أمام المسلمين أنه قد نزل على رأى الحباب ، وأن في ذلك الحكمة والصواب .
ولمّا نفّذ المسلمون رأى الحباب وبنوا الحوض قال سعد ابن معاذ – رضي الله تعالى عنه - : "نبني لك عريشًا تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ، ثم نلقى عدونا ، فإن أعزّنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلّف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشدّ لك حبًا منهم ، ولو ظنّوا أنك تلقى حربًا ما تخلّفوا عنك ، يمنعك الله بهم ، يناصحونك ويجاهدون معك".
وقد أثنى المصطفى صلوات الله وسلامه عليه على سعد ودعا له بخير؛ لأنه قدّر الظروف وعرف أن مكان القائد هو الإشراف والتوجيه ، فلا ينبغي أن يتعرّض للأخطار ، لأن في حياته حياة الأمة وكرامتها وكيانها ، ثم بنى العريش للمصطفى صلوات الله وسلامه عليه ، حتى يكون بمأمن من العدو إذا لم يكن النصر في جانب المسلمين .
وكما حدث – أيضًا – في شأن أسرى (بدر) الذين عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم على المسلمين ، يستشيرهم ويترك لهم الخيار : أيقتلون؟ .. أو يطلق سراحهم مقابل فداء يدفعونه ؟ .. فأشار معظم الصحابة بقبول الفداء ، وقال أبوبكر الصديق وكان أكثر الناس رحمة وعطفًا: "يا رسول الله بأبي أنت وأمي، قومك منهم الآباء والأبناء والعمومة ، وبنو العم ، والإخوان ، وأبعدهم منك قريب ، فامنن عليهم منّ الله عليك أوفادِهم يستنقذهم الله بك من النار ، فتأخذ منهم ما أخذت قوّة للمسلمين ، فلعلّ الله أن يقبل بقلوبهم".
وأشار فريق آخر من المسلمين في مقدّمتهم عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه - . وسعد بن أبي وقّاص – رضي الله تعالى عنه – بقتلهم جميعًا، قال عمر: "يا رسول الله : هم أعداء الله ، كذّبوك ، وأئمة الضلال ، يوطئ الله بهم الإسلام ، ويذل بهم أهل الشرك" .
وقد تلطّف المصطفى صلوات الله وسلامه عليه مع صاحبَيه الكريمَين أبي بكر وعمر، فضرب لهما أمثلة من الملائكة والأنبياء ، فأما أبوبكر فمثله في الملائكة كمثل ميكائيل ينزل برضا المولى تبارك وتعالى وعفوه عن عباده ، ومثله في الأنبياء كمثل إبراهيم – عليه السلام – كان ألين على قومه من العسل ، قدّمه قومه إلى النار وطرحوه فيها ، فما زاد على أن قال: ?فَمَنْ تَبِعَنِىْ فَإِنَّه مِنّى وَمَنْ عَصَانِيْ فَإنَّكَ غَفُوْرٌ رَحِيْم[-3]? ، وكمثل عيسى – عليه السلام – إذ يقول: ?إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ وإن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّكَ أنْتَ الْعَزِيْزُ الحكِيْم[-4]? .(/1)
وأمّا عمر فمثله في الملائكة كمثل جبريل ينزل بالسخط من المولى تبارك وتعالى على أعداء الله عز وجل ، ومثله في الأنبياء كمثل نوح – عليه السلام – إذ يقول : ?رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الكَافِرِيْنَ دَيَّارًا . إنَّكَ إنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوْا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوْا إلاّ فَاجِرًا كَفّارًا[-5]? ، وكمثل موسى – عليه السلام – إذ يقول : ?رَبَّنَا اطْمِسْ عَلاى أمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلاى قُلُوْبِهِمْ فَلا يُؤمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيْمَ[-6]? .
ومال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه إلى رأي أبي بكر الصديق ، فليس كالعفو شيء يفتح القلوب المغلقة ، فافتدى الكثير من الأسرى أنفسهم، ومن لم يستطع افتداء نفسه وكان يحسن القراءة والكتابة ، كانت فديته أن يعلّم عشرة من أبناء المسلمين ، وقد عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بعضهم بغير فداء .
وبعد تنفيذ القرار في شأن الأسرى نزل القرآن الكريم معاتبًا على اختيار الفدية عن التخلّص من أسرى الوثنية ، كما يشير إلى شرائع الأنبياء السابقين في مثل هذه الظروف ، بيد أن العتاب لم يكن على إطلاق سراح الأسرى والمنّ عليهم بالفداء، ولكن على نفس الأسر أثناء المعركة ، أي: على عمل تكتيكي حدث أثناء القتال ، وهو اكتفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنهاء المعركة بأقلّ ما يمكن من الخسائر في أرواح زعماء "قريش" .
إن المصطفى صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم أن بعضهم قد خرج مكرهًا ، ومن بينهم رجال من "بني هاشم" ، والبعض الآخر سبق أن طالب بنقض "الصحيفة" التي كانت بمثابة مقاطعة اقتصادية لـ "بني هاشم" و "بني عبد المطلب" ، والتي اتّفقت "قريش" بمقتضاها على ألاّ يتزوجوا من نسائهم ، ولا يبيعون لهم شيئًا ، ولايشترون منهم، ولا يخالطونهم ، ولا يقبلون منهم صلحًا ، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل ، واستمرّت هذه المقاطعة المروّعة ثلاثة أعوام لم يجرؤ أحد من "بني هاشم" و "بني عبد المطلب" خلالها أن يدخل "مكة" ، ومد ذلك فقد ضربوا أروع الأمثال في الصبر والاحتمال .
ثم أذن المولى تبارك وتعالى لهذا الليل الطويل أن ينجلي ، فقام خمسة من كرام الرجال فشقّوا صحيفة المقاطعة وأعلنوا نقضها . وحينئذ خرج "بنو هاشم" و "بنو عبد المطلب" من هذا السجن الضيّق المميت إلى معترك الحياة .
ولقد اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عملهم هذا حسنة تجزى بمثلها ، أمّا المسلمون الذين آثروا الأسر على القتل فقد كانوا قلّة ، وإن كان بعضهم كان يرجو من استبقاء الأسرى عرض وأخذ الفداء ، يقول المولى تبارك وتعالى : ?مَا كَانَ لِنَبيٍّ أنْ يَّكُوْنَ لَه أسْراى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيْدُوْنَ عَرْضَ الدُّنْيَا وَالله يُرِيْدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ . لَولاَ كِتَابٌ مِن اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيْمَا أخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيْمٌ[-7]? ، فالمولى تبارك وتعالى ينهى عن اتّخاذ الأسرى قبل الإكثار من قتل الكفّار ، ويعيب على من يريد عرض الدنيا، ولولا حكم سابق من الله – عز وجل– بألاّ يعاقب مجتهدًا على اجتهاده مادام القصد خيرًا؛ لان العذاب الأليم .
وتأكيدًا لمبدأ "الحرية السياسية" قرّر الإسلام أن اختيار الخليفة موكول إلى المسلمين ، وأن الخلافة الشرعية هي ما كانت نتيجة بيعة حرّة ، ذلك : لأنه لم يرد في كتاب الله – عز وجل – ولا في سنة رسوله صلوات الله وسلامه عليه تفصيل في نظام الحك وكيف يكون ، وإن القرآن الكريم قد جعل الشورى أساس الحكم في الإسلام : ?وَشَاوِرْهُمْ في الأمْرِ[-8]? ، و : وأَمْرُهُمْ شُوراى بَيْنَهُم[-9]? . وعلى هذا لأساس الديمقراطي الإنساني النبيل : ولي الحكم الخلفاء الراشدون ، ولم يكتف الإسلام بذلك، بل أوجب على السلطة التنفيذية ألاّ تبرم أمرا م أمور الدولة فيه خطورة ومسؤولية إلا إذا رجعت فيه إلى المسلمين ، وأن هذه السلطة مسؤولة أمام الأمّة عن كل ما تعمله في حدود اختصاصاتها العامة .
ونذكر على سبيل المثال ، مّايؤكّد هذا المعنى في وضوح: ماجاء في خطبة أبي بكر الصديق ، حين مبايعة المسلمين له بالخلافة .
يقول الخليفة الأول أثر بيعته : "إني ولّيت هذا الأمر ، وأنا له كاره ، ووالله لوددت أن بعضكم كفانيه ، ألا وانكم ان كلّفتموني أن أعمل فيكم بمثل عمل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم أقم به ، فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عبد أكرمه الله بالوحي وعصمه به ، ألا وإنما أنا بشر لست بخير من أحد منكم ، فراعوني ، فإن رأيتمون استقمت ، فاتبعوني وإن رأيتموني زغت فقوّموني".(/2)
وكان بقية الراشدين ، وخلفاء المسلمين ، وحكّامهم إذا حدث أمر خطير يتّصل بأمن الدولة وسلامتها ، أو حدث من الشؤون مالم توضع له قواعد من قبل ، إذا حدث هذا : كان الحكاّم والأمراء يجمعون أهل الحلّ والعقد وذوى الرأي منهم ، ويستشيرونهم ، أو يستفتونهم ، وينزلون على رأى الأغلبية منهم ، وذلك تمشّيًا مع مبدأ الشورى وتطبيقًا لروح الإسلام .
وبهذا نستطيع أن نقول : إن النظام السياسي في الإسلام لم يتّخذ لون الحكم التيقراطي ، أي : السلطان الديني الذي عرفته مصر الفرعونية ، وأوروبا في العصور الوسطى ، ولا لون الحكم الأرستقراطي ، أي : سلطة طبقة الأشراف والنبلاء.
لقد كانت حكومة أبي بكر الصديق حكومة شورية ، بويع فيها بالانتخاب العام ، واستمدّ سلطة الحكم من الذين بايعوه في حدود كتاب الله – تبارك وتعالى – سنّة رسوله – صلوات الله وسلامه عليه - . وهذا الحكم المقيّد خاضع لرقابة المسلمين جميعًا ، لكل فرد أن يحاسب القائم بالأمر ، وليس لطائفة أن تستأثر بأمور الحكم بما تمتاز به على غيرها من الطوائف .
والباحث في عهد الصديق – رضي الله عنه – يرى أن تصرّفه كان غاية في الحرص على الالتزام بكتاب الله – عز وجل - ، والتأسّى برسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الرعية ، والتنزّه عن كل مطامع الدنيا وزينتها ، ثقة منه بأن من ساس أمور الناس ، فأفاد لنفسه منها كان ظالماً لنفسه ، وللناس جميعًا .
إن انتخاب رؤساء الجمهوريات في العصور الحاضرة ليس بأكثر من بيعة أبي بكر الصديق التي أنشأتها الشورى ، والحرية الكاملة المقيّدة ، وقد جاء أول خطاب له موطّدًا ومثبتًا أسس وقواعد هذه الشورى .
"لقد ولّيت عليكم ، ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوّموني ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم ورسوله ، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".
هاتان الفقرتان تدلاّن في إقرار صريح على حقّ الرأي العام في مراقبة الخليفة وإرشاده ، وبحق الناس في العصيان إذا عصى القائم أمر الله ، وصدف عن أمره ، كما تدلاّن على أن الإسلام أخذ بمبادئ الحرية السياسية ، بما لم تصل إليه أحدث الديمقراطيات في العصور الحاضرة.
________________________________________
[-1]الآية (159) من سورة آل عمران .
[-2]الآية (38) من سورة الشورى .
[-3]الآية (36) من سورة إبراهيم .
[-4]الآية (118) من سورة المائدة .
[-5]الآيتان (26 ، 27) من سورة نوح .
[-6]الآية (88) من سورة يونس .
[-7]الآيتان (67 ، 68) من سورة الأنفال .
[-8]الآية (159) من سورة آل عمران .
[-9]الآية (38) من سورة الشورى .(/3)
الحرية الفكرية وكتب إدوارد سعيد
حافظ الميرازي: مرحباً بكم معنا في هذه الحلقة من برنامج (من واشنطن).
في هذه الحلقة نسلط الضوء على موضوعين.
الأول: يتعلق بالحرية الأكاديمية والفكرية في أميركا، ومدى تدخل الكونغرس من خلال دعم مشروعات برامج التعليم العالي في الدراسات الدولية ودراسات مناطق العالم المختلفة، لدعم حرية الفكر، أو بالعكس لتدهور حرية الفكر ووضع رقابه فيها.
الموضوع الثاني: يتعلق بدعم برامج الديمقراطية، وتشجيع الحريات السياسية في العالم، وخصوصاً بالنسبة لمصر، وأيضاً مدى تدخل الكونغرس الأميركي من خلال الدعم المالي والمعونات في التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، أو في دعم رؤية بوش لنشر الديمقراطية في العالم، خصوصاً في العالم العربي.
إن كلا الموضوعين مرتبطان، الارتباط هو أنه بالنسبة للموضوعين، وبالنسبة لدور الكونغرس في الموضوعين هناك الكثير من الكلام ومن الأقاويل ومن التأويلات، دون أن تتضح الحقائق بالتحديد، الموضوع الأول الذي ظهر في الصحافة العربية، وتردد في الآونة والأخيرة، واستغرق الأمر وقتاً حتى نعرف حقيقته، هو هل حقاً يريد الكونجرس الأميركي، وقد مرر تشريعاً في مجلس النواب، لحظر كتب (المفكر الفلسطيني الأميركي) إدوارد سعيد من التداول في أميركا أو الطبع؟ بالطبع الإجابة هي لا، سنوضح ذلك.
كما سنوضح في الجزء الثاني من برنامجنا، هل طلب الناشط في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان المصري مئات الملايين من الدولارات؟ أو بخصم مليوني دولار من المعونة الأميركية لحكومته ولبلاده لتقدم لمركزه، مركز ابن خلدون؟ ونحن نتحدث عن الدكتور سعد الدين إبراهيم، وما هو حق.. أو ما أحقية.. حقيقة المبلغ المقدم؟ وما الذي يريد الكونغرس أن يفعله من خلال برامج المساعدات؟ هذا الموضوع أيضاً سنتطرق إليه، وربما يكون أكثر تعقيداً في مسألة النفي أو التأكيد من الموضوع الأول.
الموضوع الأول في الواقع ليس هناك أي شيء في الكونغرس، أو في الولايات المتحدة، لا أحد يتحدث عن حظر كتب إدوارد سعيد من الأسواق، أو من طبعها، لكن كما يقولون لا يوجد دخان بدون نار، وقد تكون الحقيقة أكثر إفزاعاً من المبالغة، أو مما ذكر عن هذا النبأ، نحن نتحدث عن مشروع قانون في الكونغرس الأميركي تم تمريره بالفعل من مجلس النواب، ورقمه 3077، وهو يتعلق بما يسمى وعُرف في الأوساط الأكاديمية الأميركية بالمادة السادسة، أي المادة السادسة من القانون الأميركي الخاص بدعم التعليم العالي ودراسات المناطق، وهو القانون الذي يعود إلى عام 65، ولكن كان هناك ضغوط من عدة جماعات خصوصاً من مجموعة من المفكرين الأميركيين، بعضهم من اليهود الأميركيين، أو أغلبهم، ولكن يربط بينهم في الواقع التحذير بأن دراسات الشرق الأوسط المدعومة من الدولة الأميركية، هذه الدراسات أخفقت، أخفقت في أن تحذرنا من كارثة الحادي عشر من سبتمبر، وأعطتنا صورة وردية عن الإسلام السياسي، وعن العالم العربي ليست هي الصورة الحقيقية، وأخفقت لأنها تدرس مواد ككتب إدوارد سعيد، وطارق علي وغيره، من التي تُحرِّض على أميركا، وتتحدث وتنشئ جيلاً ضد سياسة بلاده الخارجية، بالإضافة إلى أن هذه المراكز لا تقوم بدورها في تشجيع الطلاب الذين يتعلمون اللغة العربية وغيرها من اللغات بمعونات أميركية، لكي يدخلوا وكالات المخابرات المركزية الأميركية، مباحث أمن الدولة F.B.I وغيرها، لكي يخدموا بلدهم، بل بالعكس ينشأون بمشاعر ضد الحكومة.
ماذا حدث في هذا المشروع؟ وما الذي أُريد له؟ هذا الموضوع أناقش فيه مع ضيوفي، ضيفي في الأستوديو أشكره على الانضمام معنا، الدكتور سامر شحاته، شكراً جزيلاً للانضمام إلينا، الدكتور سامر شحاته هو (أستاذ مساعد بمركز الدراسات العربية المعاصرة، هنا في جامعة جورج تاون)، يفترض أن ينضم إلينا بعد قليل من تورنتو كندا، الدكتور دانيال بايبس (مؤسس منتدى دراسات الشرق الأوسط بولاية فيلادليفيا، عفواً في فيلادليفيا ولاية بنسلفانيا)، وهو موجود حالياً في تورنتو كندا، وهو أحد الذين كانوا وراء الدعوة إلى هذا مشروع القانون، مشروع القانون هذا يقوم بوضع هيئة استشارية تقوم بالرقابة على طبيعة ما يُدرَّس في مراكز دراسات الشرق الأوسط بالجامعات الأميركية، أيضاً هناك العديد من النقاط التي سنناقشها، وأيضاً نتعشم أن ينضم إلينا في الحوار (أستاذ كرسي إدوارد سعيد)، الدكتور رشيد الخالدي، وسينضم إلينا من نيويورك أيضاً في هذا النقاش.TOP
مشروع قانون يفرض الرقابة على ما يُدرَّس في مراكز دراسات الشرق الأوسط
أبدأ بالدكتور سامر لتوضح لنا بالتحديد التعديل هذا الذي أُدخِلَ في مشروع القانون، وافق عليه مجلس النواب، لم يوافق بعد عليه مجلس الشيوخ، إلى أي حد يخدم الموضوع الرئيسي، والشائعة الأولى التي صدرت بأنها حظر لكتابات إدوارد سعيد في أميركا؟(/1)
د. سامر شحاتة: لأ غلط، المشروع ليس له أي اتصال بإدوارد سعيد كمفكر أو ككاتب، لكن مشروع القانون يعني عايز ينشأ لجنة استشارية تراجع أعمال مراكز الدراسات الإقليمية في أميركا والأساتذة وأعمالها، في الحقيقة الهدف الرئيسي لهذا المشروع هو قفل الباب على الانتقاد ضد سياسة أميركا الخارجية في الحقيقة، وليس له أي اتصال أو موضوعية بالتقدم التعليمي أو الأكاديمي، يعني هو هدفه سياسي في الحقيقة، ليس أكاديمي أو.. أو تعليمي.
حافظ الميرازي: نعم، لكن ألا يمكن أن تكون النتيجة حين تقول إنني سأقيم لجنة استشارية.. أمامي مشروع القانون هنا الحديث عن إقامة لجنة استشارية، تراجع وتراقب ما يتم تدريسه في مراكز دراسات الشرق الأوسط وغيرها، ألا يعني هذا رسالة إلى أنه كتابات لإدوارد سعيد وغيرهم وغيرهم يمكن أن تمنع؟ أم هم يقولون نحن نطالب بالموازنة؟
د. سامر شحاتة: هم الكلام بالموازنة، لكن فعلاً هم عايزين يضغطوا على المراكز والأساتذة، أن يدرسوا بطريقة معينة، يقدِّموا وجهة نظر معينة، وجهة نظر الحكومة الأميركية، وسياسة أميركا الخارجية، ويريدون أيضاً يعني يخلصوا من المناقضين، لسياسة أميركا في الخارجية هو نوع من الضغط، ونوع من عدم الحرية الأكاديمية في الحقيقة.
حافظ الميرازي: نعم، انضم إلينا من نيويورك الدكتور رشيد الخالدي (أستاذ كرسي إدوارد سعيد في جامعة كولومبيا) دكتور رشيد مرحباً بك، وسؤالنا لو توضح لنا كما ذكرت في مقدمة البرنامج، هناك حديث عن في البداية بأن الكونجرس الأميركي يريد حظر كتابات إدوارد سعيد، نحن أوضحنا بأن هذا ليس الواقع، ولكن الواقع قد يكون أبشع من هذا، لأنه لا يقتصر على إدوارد سعيد أو..، ولكن يتعلق بالحرية الأكاديمية، ما نريد أن نستمع توضيحك لطبيعة هذا التشريع الذي وافق عليه مجلس النواب، ومازال ينتظر موافقة الشيوخ؟
د. رشيد الخالدي: فعلاً لا يطلب.. لا يطلب هذا المشروع منع كتابات إدوارد سعيد من المناهج التعليمية الجامعية الأميركية، إنما فعلاً يشكل هذا المشروع خطر كبير على حرية التعبير في مجال دراسات الشرق الأوسط، وهذا لعدة أسباب، أول سبب: هو تشكيل هذه اللجنة الإشرافية التي ستتكون من أفراد سيتم تعيينهم من قِبَل الإدارة في الأغلب، ويعني ذلك أن نفس الأفراد الذين هم وراء هذا المشروع، أفراد ينتقدون معظم العلماء في مجال دراسات الشرق الأوسط، سيكون لهم الصوت في.. في هذه التعيينات في.. في اللجنة الإشرافية، يعني ذلك نوع من مراقبة لآراء الأساتذة في مشاريع دراسات الشرق الأوسط في جميع الجامعات الأميركية، وأيضاً يعني إمكانية معاقبة المشاريع، أو البرامج، أو الجامعات، التي تعتبر في النهاية غير وطنية، وفعلاً استُخدم هذا التعبير غير وطنية، unpatrioticفي الكثير من الكتابات لأنصار هذا المشروع الجديد، منهم (ستانلي كريس) في معهد هوفر في كاليفورنيا، ومنهم (مارتن كريمر) وهم ضمن التيار المحافظ الجديد، new conservative، يعتبرون الأساتذة في مجال دراسات الشرق الأوسط ألد الأعداء لسياستهم الجديدة المطروحة للولايات المتحدة، والتي هي فعلاً مبنية على العداء للعالم الإسلامي والعالم العربي، وطبعاً أي أستاذ يقول أن هذه السياسة خاطئة، ولا.. ولا تحقق مصالح الولايات المتحدة يعتبر من قِبَل هؤلاء الأفراد غير وطني.
حافظ الميرازي: نعم دكتور رشيد، المشروع قدمه النائب (هوكسترا بيتر) في معاه سبعة من الراعين للمشروع معه، في 11 سبتمبر 2003، وبالطبع اختيار الذكرى الثانية لـ 11 سبتمبر ليقدم المشروع فيها، ثم 21 أكتوبر أحيل لمجلس الشيوخ، مع استخدام رئيس اللجنة (بيتر) لصلاحياته، لكي يعطل التصويت، ويمرر وغير ذلك من الأساليب، كيف يمكن للرأي العام الأميركي بسهولة أن يقبل هذا المجال إلا إن كانت هناك أشياء قدمها الطرف الآخر، كالقول مثلاً بينما أنتم لا تجدون أحداً يتحدث العربية ويراقب ما يحدث، هؤلاء الأساتذة يُكرِّهون الطلاب في حكومتهم، لدرجة أنهم لا يقبلون على التجنيد حين تذهب مندوبي، أو مندوبو C.I.A و F.B.I، وغيرها ليجندوا الطلاب للعمل لديهم، ما الرد على ذلك؟
د. رشيد لخالدي: طبعاً هذه الافتراءات باطلة كلياً، أولاً: يتم التدريس للغة العربية واللغة التركية والفارسية والعبرية أيضاً من خلال هذا التشريع، وهذا وضع قائم منذ عشرات السنين، ومن الذين يدرسون هذه اللغات الكثير من الأفراد الذين ينتمون فيما بعد إلى صفوف أو الجيش الأميركي، أو المخابرات الأميركية، أو وزارة الخارجية.
إذن هذه الافتراءات باطلة كلياً، أساتذة لغة لا علاقة لهم إطلاقاً في المصير.. في مصير الطلاب الذين يدرسون هذه اللغات أولاً.(/2)
ثانياً: يوجد في الجامعات الأميركية الكثير من أنصار السياسة الخارجية الأميركية، من هم؟ أساتذة في مجال دراسات الشرق الأوسط، ومنهم أساتذة في مجالات أخرى، العلوم السياسية، التاريخ، الدراسات الدولية إلى آخره، إذن هذا التشريع يستهدف الذين هم –برأيي- أنصار المشروع ألد أعداء التيار الجديد، أو النهج الجديد في السياسة الأميركية، يريدون إسكات جميع الأصوات المعارضة لهذا التيار، الذي برأيي أنا، وبرأي الكثير من الأساتذة هو في.. في الأساس غير وطني، بمعنى.. بمعنى أنه ضد المبادئ الأميركية الأساسية، منها الاحترام للديمقراطية، منها.. منها الاحترام لسيادة الدول الأخرى، منها طبعاً محاولة خلق الصداقة في العالم العربي، والعالم الإسلامي، وليس خلق الكراهية كما هو حاصل الآن نتيجة لبعض السياسات الخارجية لهذه الإدارة.
حافظ الميرازي: نعم، دكتور سامر شحاتة، مركزكم.. مركز الدراسات العربية المعاصرة يعتبر من أشهر المراكز لدراسات العالم العربي والشرق الأوسط في الجامعات الأميركية، إلى أي حد أنتم تستفيدون من.. من تمويل المادة السادسة لقانون التعليم العالي؟ وهل تمريره في النهاية سيؤثر، أم تعتقد أنه تأثيره قد يكون ضئيل؟
د. سامر شحاتة: إحنا طبعاً كمراكز أخرى بنستفيد بالمنحة من وزارة التعليم الأميركي، حوالي أظن 300 ألف دولار سنوياً، لكن المركز في جورج تاون ومراكز غير جورج تاون، لازم يقدموا كل 3 سنوات لوزارة التعليم على المنحة، لكن طبعاً الميزانية أكبر من الأموال اللي إحنا بنحصل عليها من الوزارة، ولو..
حافظ الميرازي [مقاطعاً]: الميزانية أنا أعتقد أنت تتحدث عن حوالي مائة مليون دولار للمشروع على مستوى الولايات المتحدة الأميركية كم المعونات أو المنح.
د. سامر شحاتة: صح، لكن هذا المشروع القانوني، له علاقة بكل المراكز الإقليمية مش بس دراسات الشرق الأوسط، وعشان كده معظم الأساتذة الأغلبية في الحقيقة، ومعظم الإداريين في الجامعات ومعظم رؤساء الجامعات ضد هذا المشروع، يعني هذا المشروع بس.. مش بس تناقش دراسات الشرق الأوسط في أميركا أو في المراكز اللي بتخصص في.. في هذه الدراسات.
حافظ الميرازي: فيه نقطة أخرى يمكن أيضاً خاصة بك دكتور سامر، وهي مركزكم مثلاً، هناك أكثر من كرسي ترعاه دول عربية، أو تبرعات يمكن خاصة، أو منح عربية أعتقد يمكن تذكرني ببعض الأسماء الكراسي.
د. سامر شحاتة: الكراسي، كرسي من الكويت من دولة الكويت، كرسي من دولة عُمان مثلاً..
حافظ الميرازي: المغرب أعتقد له.
د. سامر شحاتة: لأ..
حافظ الميرازي: أو ليبيا لها.. لها كرسي.
د. سامر شحاتة: لأ، ليبيا لأ..
حافظ الميرازي: لم يعد لهم هذا الكرسي.
د. سامر شحاتة: لأ.
حافظ الميرازي: إذن هناك طرق بديلة يعني.. يعني لمن يريد أن يترك للحكومة الفيدرالية أموالها لا يمكن أن يقف ويقول: لقد فُقد كل شيء، هناك طرق بديلة. نعم.
د. سامر شحاتة: لأ، طبعاً، هناك طرق بديلة، وفي نفس الوقت الميزانية للمركز مركز جورج تاون مثلاً أكثر من المال اللي إحنا بنحصل منها من الوزارة بمرتين أو ثلاث مرات، اللي هيخسروا لو المشروع دا نجح في الحقيقة هم الطلاب، الطلاب اللي يريدون يحصلوا على شهادات عليا في مواضيع مثل دراسات الشرق الأوسط أو كذلك، وبرنامج الـ out reach بيسموه الـ out reach، يعني محاولة تعليم.
حافظ الميرازي: الوصول إلى.. نعم.
د. سامر شحاتة: محاولة تعليم المدرسين مثلاً في المدارس في أميركا عن الشرق الأوسط والإسلام وكذلك.
حافظ الميرازي: نعم، عملية توعية يعني..
د. سامر شحاتة: آه.(/3)
حافظ الميرازي: أُبلغت بأنه دكتور دانيال بايبس لن يحضر للمشاركة معنا من كندا، بعد أن اتفق معنا وحجزنا له، وعلى الأقل نحن حاولنا، وكان من الأجدر به على الأقل أن يفعل ما فعله الآخرون الذين كانوا وراء المشروع، مثل (ستانلي كريس) الذي لم يرد على هواتفنا، مثل (روب ساتلوف) المدير السابق لمركز أو لمعهد واشنطن في واشنطن، والموجود الآن في المغرب لم يرد، وبالتالي أيضاً على الأقل مختلف، (مارتن كريمر) الذي ربما بدأ الحملة من كتابه "أبراج عاجية على الرمال" لينتقد هذه المراكز، ويقول: هي التي خرَّبت على الأميركيين أميركا وحرَّضت وأعطت وجهة نظر عربية متحيزة، أيضاً لم يرد علينا، لكن السيد بايبس اختار أسلوباً سأفترض حسن النية، ولكن للأسف الشديد هذه هي المرة الثانية، من قبل كان معنا في برنامجنا (من واشنطن) وكان يتحدث من فلادليفيا، وبمجرد أن سألناه السؤال الأول الذي لم يعجبه رفع السماعة، وأطاح بها وخرج، أعتقد أن هذا نموذج للحرية الأكاديمية للأسف الشديد سلبي للغاية، خصوصاً أن السيد بايبس في الواقع دائماً الذي الرئيس (بوش) عيَّنه في المعهد الأميركي للسلام، وكان هناك احتجاجات كبيرة من بعض أعضاء الكونجرس ومن بعض أعضاء مجلس الشيوخ كالسيناتور (كيندي)، لأن هو في كتاباته كما أكد السيناتور كيندي نفسه والعديدون يكتب ضد المسلمين والعرب بشكل عام، ولكن الرئيس بوش غافل الكونجرس وهو في إجازة، ووضعه في تعيين طارئ ليكون داعية للسلام، أيضاً السيد بايبس يكتب عن المسلمين والتحذير من خطر المسلمين في الغرب وزيادتهم، وكان قد ذكر في مقابلاتٍ سابقة بأنه يتحدث عن الإسلام السياسي ولا يتحدث عن المسلمين بشكل عام.
كنت أتمنى أن يحضر لكي أقرأ له من صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية ما كتبه بالأمس الأربعاء، ويحدثهم عن معاداة السامية في أوروبا، ويقول: هذا الكاتب أي.. أي نفسه منذ عام 92 وهو يحذِّر من العداء للسامية بسبب العرب، وجانب كبير من ذلك إلى الزيادة المتنامية (دولة) للمسلمين في الغرب.
أعتقد أن الدكتور بايبس له مشكلة مع المسلمين في الغرب وزيادتهم، ولا أدري ما هو الحل له لكي يتخلص من زيادة المسلمين في الغرب.
دكتور رشيد الخالدي، ما العمل؟ في هذا البرنامج نحن تحدثنا من قبل، وأنت كان لك تحفظات كبيرة على أن تظهر مع دانيال بايبس، حرصنا على أن نقدم هذه الأصوات، هذه الأصوات لا تريد –للأسف الشديد كما يبدو- أي وجهة نظر أخرى رغم الحديث عن أننا نريد الحرية الفكرية، نريد غيرها، هذا اتجاه نحو إما رأينا أم لا، هل هناك مشكلة يعانيها هذا الاتجاه بالفعل أن أميركا تتجه نحو سماع وجهة نظر حقيقية كانت محجوبة عنها من السابق، أم هي مبالغة للتخويف فقط؟
د. رشيد الخالدي: هذه الأصوات تدعي أنها تؤيد حرية التعبير، ولكن من الواضح من ممارسات المؤسسات التي تهيمن عليها هؤلاء الأفراد، وعلى سبيل المثال معهد واشنطن من ألد أعداء العرب والمسلمين ودول الشرق الأوسط في الولايات المتحدة، على سبيل المثال ممارسات هذه المؤسسات وهذه المعاهد تبرهن أنهم غير راغبين في الحوار الحقيقي مع أفراد لهم آراء مختلفة لآرائهم، وأنهم يريدون فرض آرائهم على المواطنين الأميركان وعلى العالم من خلال السياسة الأميركية التي لهم نفوذ كبير فيها للأسف الشديد الآن.
ما.. ما هو العمل؟
أولاً: على الأميركان.. على.. على الناخبين الأميركان محاولة التأثير على مجلس الشيوخ قبل التصويت على هذا المشروع في الشهر القادم يناير/ كانون الثاني، هذا المشروع خطير جداً، بداية.. بداية التدخل الحكومي في التعليم العالي في الولايات المتحدة كما ذكر الدكتور شحاته، المبالغ تبين وكأنها قليلة، جامعة كولومبيا على سبيل المثال تأخذ حوالي 400 ألف دولار سنوياً في دراسات الشرق الأوسط، طبعاً فيه مجالات أخرى، إنما مساهمة جامعة كولومبيا في دراسات الشرق الأوسط تعد بالملايين، إنما خسارة هذه المبالغ ستضر بإمكانية فهم الشعب الأميركي لشعوب الشرق الأوسط، وأنا برأيي أنا الشخصي هذا هو الهدف الأساسي لهؤلاء الناس.
ما هو العمل؟
أولاً: معارضة هذا المشروع، وثانياً: يجب على العرب المساهمة في هذا المجال، فِهم الشرق الأوسط يتطلب أولاً: تعليم اللغة العربية، يوجد في الولايات المتحدة كلها تسعة آلاف تلميذ للغة العربية الآن، يجب أن يكون في الولايات المتحدة عشرات الألوف، وهذا يتطلب طبعاً مبالغ باهظة.
حافظ الميرازي: نعم، هل لا يوجد في القانون الأميركي –وأرجو أن تصحح لي يا دكتور سامر- ما يمنع من أن تقدم جامعات عربية منح للطلاب الأميركيين كما تقدم "أميركا فولبرايت" لكي يدرسوا لديها في العالم العربي، وكي يدرسوا اللغة العربية أو يدرسوا الشرق الأوسط في جامعات عربية ولو حتى جامعات أميركية في العالم العربي، كالجامعة الأميركية في القاهرة أو في بيروت أو في غيرها.
د. سامر شحاتة: هذا غير صحيح.(/4)
حافظ الميرازي: هل يوجد أي شيء يمنع؟ دكتور رشيد، هل.. هل هناك سؤال يمكن لا أدري إذا كنت أدركت سؤالي أم لا؟ هل يوجد أي شيء يمنع أن تقوم الدول العربية بذلك؟
د. رشيد الخالدي: على.. على علمي لا يوجد أي مانع لمساهمات عربية أو غير عربية في تعليم اللغة، ويوجد في دمشق، وفي عمَّان، وفي فلسطين، وفي مصر العشرات من الطلاب العرب الذي يدرسون في الجامعات العربية وفي الجامعات الأميركية في القاهرة، وفي اسطنبول، وفي بيروت، إذن على علمي لا يوجد أي مانع لهذا.. لهذا الشيء.
حافظ الميرازي: شكراً جزيلاً لك دكتور رشيد الخالدي (أستاذ كرسي إدوارد سعيد بجامعة كولومبيا) شكراً جزيلاً، يمكن كنت أخشى أن نفقد الاتصال مع الدكتور رشيد قبل نهاية هذه الفقرة، ولكن هناك فقرة أخرى دكتور سامر في المشروع، وهي الفقرة الأخيرة الثامنة، في الواقع استوقفتني أيضاً، إنه تحدث عن يقول أنه المشروع يأمر الوزير -وزير التعليم- بأن يبحث ويبلغ الكونجرس عن جاليات اللغات الأجنبية -وهو التعبير المهذب لكلمة الجاليات العربية- من المواطنين الأميركيين أو المقيمين فيها التي تشتمل متحدثين بلغات تكون حساسة للأمن القومي، معناها أنك حتى الذين أبناء العرب الأميركيين والمسلمين الأميركيين الذين يدرسون اللغة العربية أو يدرسون في الشرق الأوسط مطلوب أن يُبلَّغ عنهم، أم ما المقصود؟
د. سامر شحاتة: لأ، أظن المقصود إن على وزير التعليم الأميركي أن يعمل دراسة على المجموعات اللي.. اللي بيتكلموا لغات معينة، لغات الحكومة الأميركية شايفها في مصالح أميركا، مثل: العربي، أو فارسي، أو تركي كذلك، ليست أكثر، أظن.
حافظ الميرازي: نعم.. نعم، دكتور رشيد، عفواً هل لك أي تعليق على هذا الموضوع الفقرة الثامنة في.. في.. في القانون المعدل الآن أو المشروع القومي الذي يريد أن يُمرَّر.. ما الذي يُقصد بـ to study and report للكونجرس عن جاليات اللغات الأجنبية، والتي تدرس أو منها متحدثون في الجامعات الأميركية.
د. رشيد الخالدي: هذه الفقرة غامضة جداً، ويخشى الكثير من إنها ممكن أن تُستخدم لمراقبة أبناء هذه الجاليات الذين يريدون دراسة اللغة الأم العربية، أو التركية، أو الفارسية، ولكن في الحقيقة هذه الفقرة غامضة جداً.
حافظ الميرازي: نعم، تعليق بسيط يمكن ذكرت معهد واشنطن، وربما للأمانة أو للموضوعية لو أحد من معهد واشنطن موجود سيقول لك، ولكننا نستضيف عرباً وناس مختلفين معهم في كل.. أو في ندواتنا الكثيرة استضفنا نبيل عمرو من السلطة الفلسطينية في مؤتمرنا السنوي، نستضيف أسامة الباز من مصر، نستضيف ناس كثيرين، فكيف تتهمنا بأننا نأخذ موقفاً، بل إن حتى أحد الأساسيين لدينا (ديفيد ماكوفسكي) مثلاً معهد واشنطن مهتم بالديمقراطية في مصر، وكتب مع صحفية مصرية في "الأهرام" كتبوا مع بعض مقال في صحيفة "واشنطن بوست" عن كيف ندعم الديمقراطية في مصر.
د. رشيد الخالدي: والله أنا أعتبر مساهمة أبناء العرب أو بنات العرب في مشاريع وأمور هذه المؤسسة هذا المعهد خطأ كبير، هذا معهد إسرائيلي في واشنطن، هذا معهد.. معهد تم تأسيسه من قِبَل "الإيباك" اللوبي الصهيوني، ويستضيف العشرات من الإسرائيليين سنوياً، وجود عربي أو عربيين سنوياً لا يغطي على طابع هذا المعهد كأهم مركز للنفوذ الصهيوني في واشنطن منذ عشر سنوات على الأقل، أنا أتأسف جداً لمشاركة مسؤولين وغير مسؤولين، وأكاديميين عرب في نشاطات هذا المعهد، لأنه فعلاً إذا الواحد.. إذا يراقب الواحد إنتاج هذا المعهد، هذا الإنتاج موجه ضد الفلسطينيين، وضد العرب، وضد المسلمين في شكل عام، ويصف الفلسطينيين بأنهم إرهابيين، وفعلاً عمله الأساسي هو نشر الافتراء والكذب حول العالم العربي، طبعاً تحت في صبغة أكاديمية، في صبغة علمية، إنما أساساً هذا من أهم أدوات الدعاية الصهيونية في الولايات المتحدة، هذا في رأيي أنا الشخصي.
حافظ الميرازي: نعم، الرأي الشخصي ووجهة نظر الدكتور رشيد الخالدي، شكراً جزيلاً لك، أستاذ كرسي إدوارد سعيد في جامعة كولومبيا، كلمة أخيرة دكتور سامر في هذا الموضوع.
د. سامر شحاتة: آه، أنا بأتفق مع الدكتور رشيد فعلاً إن معهد واشنطن غير معهد أكاديمي، معهد سياسي وأهدافه سياسية وغير تعليمية، وإن من المفروض إن أيضاً نقول إن الأشخاص اللي ورا مشروع القانون (3077) غير أكاديميين خارج الجامعات، دانيال بايبس يعني ليس أستاذ جامعة.
حافظ الميرازي: في الجامعة.
د. سامر شحاتة: و(ستانلي كريس) نفس الشيء، ومارتن كريمر نفس الشيء، الهدف سياسي وغير.. ليس للتحسُّن الأكاديمي أو مستوى التعليم عن الشرق الأوسط أو غير الشرق الأوسط في أميركا.
حافظ الميرازي: شكراً جزيلاً لك.
د. سامر شحاتة: عفواً.(/5)
حافظ الميرازي: دكتور سامر شحاته (أستاذ مساعد بمركز الدراسات العربية المعاصرة بجامعة جورج تاون)، وأشكر ضيفيَّ، وكما ذكرت كنا نتمنى أن تكون وجهة النظر الأخرى موجودة، ووعدت بأن تكون موجودة ولكن لم تحضر، لعل العذر يكون خيراً.
أعود إليكم بعد فاصل قصير في برنامجنا، ونقاش آخر متعلق بما صدر عن الكونجرس الأميركي وما يوُضع فيه من تشريعات ومشاريع قوانين، وما هي الحقيقة من الخيال بعد أن تأكدنا من أنه لا يوجد حظر لكتابات إدوارد سعيد، ولكن هناك حديث عن تقييد للحرية الأكاديمية والفكرية خصوصاً من كتابات كإدوارد سعيد وغيره، ننتقل إلى ما الحقيقة في مشروع الميزانية الأميركية للعام المالي الجديد والمعونات لمصر، هل هناك أيضاً تلاعب ومحاولة التدخل في الشؤون الداخلية لصالح مركز ابن خلدون، أم الموضوع مختلف؟TOP(/6)
الحرية في الإسلام
المفهوم .. والملامح .. والأبعاد
أ.د/
جابر قميحة
komeha@menanet.net
جاء الإسلام ليرفع من كرامة الإنسان ـ من حيث هو إنسان ـ فكرمه بالعقل وكفل له الرزق والطيبات، وحقق له أفضلية على كثير من المخلوقات، يقول تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا).
ووضع الإسلام الأسس التي تكفل التخلص من نظام الرق، وأبطل استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، فلا عبودية إلا لله الفرد الصمد (...وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ...) وأعلن أن الناس سواسية لا يتفاضلون إلا بالتقوى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) .. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) . وفي كل أولئك تقرير لوحدة الأصل مما يقتضي عدم التمايز بالجنس أو الطبقة.
والذين يعيرون الإسلام ظلمًا وعدوانًا بأنه شرع أو أقر الرق أعجزهم العثور على آية واحدة أو حديث واحد يدعو إلى الرق، ونسوا أنه عند ظهور الإسلام كان الرق هو القاعدة الركينة التي يعتمد عليها النظام الاقتصادي العالمي اعتمادًا يكاد يكون كليًا، "فنرى أرسطو طاليس ـ كغيره من الإغريق ـ يؤيد الاسترقاق ويحبذه، فليس الناس لديه سواسية في الحقوق والواجبات، بل هم متمايزون، وينبغي في نظره أن يكون في البلد أحرار وعبيد، وهؤلاء العبيد غير جديرين بالمساهمة في إدارة الحكم، وفي انتخاب من يلي الأمر؛ لأنهم بطبيعتهم كالحيوانات. مهتهم خدمة الأحرار يزرعون و يحصدون، ويعملون لمن يملكونهم، وليس لهم أي حق من حقوق المواطنين.
فلو أن الإسلام حرم الرق طفرة بقرار سريع حاسم ـ وهو الدين العالمي الخالد الذي جعل التدرج أهم صفاته التشريعية ـ لاهتز كيان الاقتصاد العالمي، بل لانهار بناؤه "فجملة التعاليم التي بين أيدينا من الكتاب والسنة تشهد بأن الإسلام عند ظهوره وجد منابع الرق كثيرة، ومصارفه قليلة أو معدومة، فكثَّر المصارف، ونظمها ووسعها، وردم المنابع، أو وضع لها من الوصايا ما يجعلها تجف من تلقاء نفسها".
مصطلح قرآني..
والذين ينظرون في آيات القرآن الكريم لابد أن يلفت بصيرتهم أن المصطلح القرآني الذي تناول الرقيق هو مصطلح الرقبة ـ وليس العبد ـ وأن هذا المصطلح مقترن دائمًا في القرآن بالتحرير (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) .. (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) .. (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) .. (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ . فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ).
وبالإضافة إلى إلغاء أغلب روافد "نهر الرقيق" وتوسيع مصابِّه شرع الإسلام للأرقاء حقوقًا، ورفع عن كاهلهم التكليف بما لا يطيقون حتى لقد أوشك أن يساويهم بسادتهم كل المساواة ,الأمر الذي جعل تحريررقبة إسلامية لا يمثل خسارة مادية ذات بال، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "للمملوك طعامه وكسوته، ولا تكلفونه من العمل ما لا يطيق" . بل لقد ذهب إلى حد التشريع لإلغاء كلمة "عبد" و "أمة" من مصطلحات الحياة الاجتماعية، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا يقل أحدكم عبدي وأَمَتِي، وليقل فتاي وفتاتي".
كذلك جعل الإسلام من المكاتبة ـ أي شراء الرقيق لحريته شراء منجمًا ميسورًا يعينه عليه مالكه ـ ومن زواج المالك بفتاته ـ أي أمته إذا هي أنجبت منه وصارت أم ولد جعل من ذلك وغيره مصابَّ جديدة لتحرير الأرقاء".
ولنوازن هذا بما ذهب إليه أرسطو إذ يقول: إن من الخير للعبد نفسه أن يبقى رقيقًا, حيث وضعه الله، أو وضعته الطبيعة ليخدم الوطن كما يخدمه الحيوان الأعجم سواء بسواء.
حرية شاملة منضبطة(/1)
فالإسلام إذن ـ من منطلق "تكريم بني آدم" عمل على تحرير الإنسان من الرق، ليس هذا فحسب، بل كان أول نظام يمنح الإنسان ـ بصرف النظر عن جنسه ولونه ومعتقده ـ ما يمكن أن نسميه "الحرية الشاملة" . ولا يعني هذا الحرية المنطلقة المتسيبة بلا ضوابط ولا قيود فتلك هي الفوضوية بعينها .. الفوضوية التي تقود الفرد إلى الضياع وفساد الدين، وتؤدي بالمجتمع إلى الخراب والانهيار. ولكن المقصود بالحرية الشاملة تلك التي تتناول كل جوانب الحياة، وتمكن الإنسان من العيش والمعايشة بإرادته دون أن يكون مقهورًا أو مظلومًا، أو واقعًا تحت ضغط غير مشروع، أو هي كما عرفها أحد المفكرين المحدثين "الانطلاق المشروع في الرأي والاعتقاد وفي القول وفي الفعل، وفي الاتصال بالغير".
وقد كفل الإسلام للإنسان حرية التفكير. وحرر العقل الإنساني من الأوهام والخرافات والوقوع في أسر التقليد الأعمى. ومن حق الإنسان أن يتمتع بهذا النوع من الحرية: فقد خلقه الله من مادة "الطين" , ونفخ فيه من "روحه" , وكرمه "بالعقل" الذي وعى حقيقة الأشياء اسمًا ومسمى.. والعقل هو الذي كفل له أن يكون خليفة الله في أرضه )وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) [سورة البقرة].
ولقد كرم الله الإنسان ـ بالحواس ـ لا لذاتها ـ ولكن بقدر ما توصل صاحبها إلى طريق الفهم والاهتداء والتقوى والصلاح: (.. ألم نجعل له عينين ولسانًا وشفتين وهديناه النجدين) [سورة البلد]. وإذا لم تستطع الحواس أن ترتفع بالحقيقة الإنسانية في نفس الإنسان، وتكون وسائل لتحصيل العلم والوصول إلى اليقين والهدى، والتحرر من ربقة الظلم، فوجودها كعدمها سواء، بل إن الإنسان في هذه الحالة يكون أحط مكانة من البهائم؛ لأن البهائم تستخدم حواسها بأقصى طاقاتها حفاظًا على بقائها، أما هو فقد عطل حواسه التي أنعم الله بها عليه لاستعمالها كصاحب رسالة كرمه الله باستخلافه عنه في الأرض، وما قيمة العقل إذا ما عطلت طاقته عن الخير؟ وما قيمة العين إذا لم تبصر طريق الهدى؟ وما قيمة الأذن إذا لم تصغ لصوت الحق واليقين؟ (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)) [سورة الأعراف].
مفهوم شامل للعقل..
والقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه.
وبهذا المفهوم الشامل للعقل، تحريرًا له من الجمود والتوقف والتخلف عن التفاعل الحي مع ما يرى من مظاهر الكون والحياة، دعا الإسلام إلى النظر والتفكير والتأمل، ونعى على الذين لا يفكرون، ولا يتأملون خلق الله، ولا يعملون عقولهم خلوصًا إلى اليقين (وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)) [سورة الذاريات].. (مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) [سورة الروم: 8].
وفي عشرات من الآيات القرآنية، بل مئات منها تتكرر كلمة "العقل" وما ارتبط بها من ألفاظ "الفقه" و"العلم" و"التفكير" على النحو الآتي:
أ ـ "عقل" ومشتقاتها (عقلوه ـ تعقلون ـ تعقل .. الخ) ذكرت 48 مرة.
ب ـ "علم" ومشتقاتها (علم ـ يعلم ـ يعلمون .. الخ) ذكرت 866 مرة.
جـ ـ "فقه" ومشتقاتها (تفقهون ـ تفقه ـ يفقهوا ـ يفقهوه .. الخ) ذكرت 20 مرة.
د ـ "فكر" ومشتقاتها (فكر ـ تتفكروا ـ يتفكرون ... الخ) ذكرت 87 مرة.
هـ ـ "وعي" ومشتقاتها (تعيها ـ أوعى ـ واعية ... الخ) ذكرت 4 مرات.
ومجموع هذه المواد التي ذكرتها 1043 (ثلاث وأربعون وألف) لفظة، وكلها تدور على تقدير القرآن للعقل والنظر والتفكير. وهذه المواد التي عرضنا لها هي المواد المباشرة، وهناك مئات من الألفاظ تدور حول العقل والتفكير بطريقة غير مباشرة لم نعرض لها.(/2)
والإسلام يقرر للإنسان أن يفكر فيما شاء كما يشاء وهو آمن من التعرض للعقاب على هذا التفكير، ولو فكر في إتيان أعمال تحرمها الشريعة، والعلة في ذلك أن الشريعة لا تعاقب الإنسان على أحاديث نفسه، ولا تؤاخذه على ما يفكر فيه من قول أو فعل محرم، وإنما تؤاخذه على ما أتاه من قول أو فعل محرم، وذلك معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تتكلم".
التدرج في التفكر..
وقد تدرج القرآن الكريم في تدريب الناس على التفكر في مراحل متعاقبة:
فالطريق الأول: إعمال الفكر بالنسبة للمحسوسات والمرئيات.
والطريق الثاني: يخاطب فيه القرآن الناس لإقناعهم عن طريق الأسباب والمسببات.
والطريق الثالث: وهو طريق الاتجاه الرفيع بعد أن يكون العقل قد تدرج في التفكير حتى وصل إلى هذه المرتبة، وفي ذلك يقول تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات: 21].
كما أن هناك طرائق أخرى للفكر تجمعها جميعًا آية واحدة هي قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت: 53].
هذه هي حرية الفكر والتفكير في الإسلام، ربطها الله سبحانه وتعالى بوجود الإنسان ذاته، ودعاه القرآن إلى استعمال حقه في التفكير والتأمل مستخدمًا طاقاته العقلية دون أن يعطلها بالتقليد الأعمى، أو يهدرها فيما لا ينفع ولا يفيد، وكذلك كفل الإسلام للإنسان حرية الاعتقاد، وكان من قواعد الإسلام الراسخة قاعدة "لا إكراه في الدين" و "لكم دينكم ولي ديني" أما الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما عليه إلا البلاغ، وسبيل هذا البلاغ هو الحكمة والموعظة الحسنة (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)) [سورة فصلت].
بل إن الإسلام ليأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكل مسلم ألا يغلق بابه في وجه مشرك استجار به، بل عليه أن يجيره ويحميه ولا يتخلى عنه إلى أن يبلغ بر الطمأنينة والأمان (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) [فصلت: 6].
وقد كانت عهود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه للذميين دليلاً قاطعًا على كفالة الحرية الشاملة لهم وخصوصًا حرية الاعتقاد، كما نرى في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنصارى نجران: ذلك العهد الذي أكده ووثقه خلفاؤه الأربعة، فنرى في عهد أبي بكر لهم ينص العهد على أنه "أجارهم بجوار الله وذمة محمد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أنفسهم وأرضهم وثلتهم ـ أي جماعتهم ـ وأموالهم وحاشيتهم، وعبادتهم وغائبهم، وشاهدهم، وأساقفتهم ورهبانهم وبيعهم ...".
التاريخ يتكلم..
وحينما فتح المسلمون إيلياء (القدس) كتب عمر ـ رضي الله عنه ـ كتابًا سنة 15 هـ نص فيه على أنه ".. أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود..".
وعقد الأمان أو عقد الذمة يوجب على المسلمين حماية الذميين من العدوان الخارجي، ومن الظلم الداخلي، وحماية أموالهم، وتأمينهم عند العجز والشيخوخة والفقر، وكفالة حرية التدين والاعتقاد والعمل والكسب.
يقول ابن حزم في كتابه "مراتب الإجماع": من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك صونًا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن المواقف التطبيقية لهذا المبدأ الإسلامي موقف شيخ الإسلام "ابن تيمية" حينما تغلب التتار على الشام، وذهب الشيخ المسلم ليكلم "قطلوشاه" في إطلاق الأسرى، فسمح القائد التتري للشيخ بإطلاق أسرى المسلمين، وأبى أن يسمح له بإطلاق أسرى أهل الذمة، فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال: "لا نرضى إلا بافتتاك (إطلاق) جميع الأسارى من اليهود والنصارى، فهم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيرًا لا من أهل الذمة، ولا من أهل الملة" . فلما رأى إصراره وتشدده أطلقهم له.
فاختلاف العقيدة لم يمنع المسلمين من رعايتهم للذميين والوفاء بعهودهم معهم، وحمايتهم مما يحمون منه أنفسهم، حتى عاش الذميون يتمتعون بالعدل والحرية شأنهم شأن المسلمين، بل كان لبعضهم في بعض العهود مراكز ومناصب ونفوذ وثروات تفوق ما كان عليه كثير من المسلمين، مما لا يتسع المقام لشرحه، وضرب الأمثلة له.
حقائق ناصعة(/3)
ولكن قد يتلجلج في الخاطر تساؤل مؤداه: إذا كان الإسلام يدعو إلى حرية الاعتقاد، ويحيطها بكل هذه الضمانات، فلماذا لا يترك للمسلم حرية الارتداد عن دينه، واعتناق دين آخر , بل يعاقبه الإسلام بالقتل؟ أليس في هذا نوع من الإكراه للإنسان على البقاء على الإسلام الذي جاء بقاعدة "لا إكراه في الدين" ؟؟ . ولكن هذا الخاطر أو هذه الشبهة سرعان ما تنمحي إذا وضعنا نصب عيوننا الحقائق الآتية:
1 ـ الإسلام هو أكمل الأديان وأوفاها وأشملها، وأكثرها رعاية لحقوق الإنسان وكرامته، فنكوص المسلم عن الإسلام يعد إهدارًا لعقله وشخصيته بترك الفاضل إلى المفضول.
2 ـ لم يجبر الإسلام أحدًا على اعتناقه، إنما كان أساس دعوته إلى الناس يتمثل في الحكمة والموعظة الحسنة، وقد نص القرآن ـ كما رأينا ـ على أنه لا إكراه في الدين، وترك المسلمون النصارى واليهود والمجوس في بلاد الشام والعراق، ومصر على دينهم، ولم يفرضوا الإسلام على أحد منهم.
3 ـ اعتناق الشخص للإسلام يعني "التزامًا جادًا" بقواعد هذا الدين، ما دام قد اختاره بمحض إرادته، وتعتبر الردة في هذه الحال "خيانة عظمى" و "إخلالاً خسيسًا" بهذا الالتزام.
4 ـ والإسلام ليس بدعًا في هذا، فالمسيحية هي الأخرى تهدر دم المرتد عنها، وكذلك تفعل الأديان الأخرى.
5 ـ والإسلام لا يقتل المرتد حال ارتداده، وإنما يعطيه أمدًا يحاسب فيه نفسه، ويستتاب فيه، فإن لم يتب ويثُب إلى صوابه قتل.
ولا قيمة لحرية الفكر وحرية الاعتقاد والتدين ما لم يكن هناك حرية التعبير، فالفكر والاعتقاد من الأمور الخفية، والتعبير عنهما هو المظهر العملي التطبيقي للحرية في لونيها السابقين، وقد رفع الإسلام "الكلمة البانية" مقامًا عليًا، وسماها "الكلمة الطيبة، وهي تلك الكلمة الفاعلة الهادية التي تحمل العلم والحق والفضيلة والخير للناس (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [سورة إبراهيم: 24 ـ 25].
كما ذم القرآن "الكلمة الخبيثة" التي تكُب الناس في النار على وجوههم، كما يقول الحديث النبوي الشريف. إنها الكلمة التي تؤدي إلى تخريب الفرد وتدمير المجتمع (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) [سورة إبراهيم: 26].
وتنطلق الكلمة الحرة لا يقيدها إلا ضوابط الخلق والنظام، وهي ـ في الواقع ـ ليست "قيودًا أو موانع، بل هي "معايير وضوابط" والمسلم مطالب ـ على سبيل الإلزام ـ أن يواجه الباطل والمنكر باللسان إن عجز عن المواجهة والتغيير باليد، فإذا ما قادته هذه المجابهة إلى الموت فهي الشهادة، بل أعلى مراتب الشهادة وأكرمها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أكرم الشهداء على الله رجل قام إلى وال جائر، فأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر فقتله".
من المراجع :
1- عبد الكريم العيلي : الحريات العامة في الفكروالنظام السياسي في الإسلام .
2- محمد علي علوبة : الإسلام والديمقراطية .
3- محمد الغزالي : الإسلام والاستبداد السياسي .
4- محمد عمارة :الإسلام وحقوق الإنسان .
5- د . محمد البهي : الإسلام والفلسفات المعاصرة .
6- عباس العقاد : التفكيرفريضة إسلامية .
7- عبد القادر عودة :التشريع الجنائي الإسلامي .
8- جابرقميحة : المدخل إلى القيم الإسلامية .
9- د.يوسف القرضاوي :غيرالمسلمين في المجتمع الإسلامي .
10- د.محمد حسين هيكل : الحكومة الإسلامية .
11- عبد الوهاب خلاف : السياسة الشرعية .
12- الإزالي : إحياء علوم الدين .
13- ابن حزم : مراتب الإجماع .
14- أبو يوسف : الخراج .
15- تاريخ الطبري .(/4)
الحرية في ميزان الإسلام
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
1ـ تمهيد :
إن أخطر القضايا التي ثارت في تاريخ الإنسان قضية الحرّية . إنها قضيّة أثارت المفكرين والفلاسفة والأدباء والعلماء ، حتى ادعى كل فريق لها نماذج ومحتوى . وأثارت الشعوب حتى خاضوا من أجلها ثورات وحروباً ، وزعزعت نظماً حتى تهاوت أمام زحوف المظلومين . إنها قضية تملأ التاريخ بالأحداث والنظريات والصراع المستمر .
ولقد رأينا في الصفحات السابقة كيف تغنّى " فوكوياما " بالحرّية المزيفة من خلال أهواء الفلاسفة ومن يسمّون بالمفكرين ، ومن خلال المصالح المادية الهائجة ، من خلال المظالم والعدوان والجرائم ، من خلال الكفر الصريح والإلحاد .
ورأينا كذلك أوروبا كيف مارست " حرّيتها المعتدية الظالمة " في التخطيط لتقسيم الدولة العثمانية المسلمة خلال أكثر من ستمائة سنة وضعت فيها أكثر من مائة مشروع ، حتى ارتكبت أعظم جريمة في حق البشرية حين أسقطت خلافة الإسلام .
ورأينا نيكسون يتحدث عن الحرية في كتبه الثلاثة ، لا يفهمها إلا من خلال مصلحة أمريكا وحدها ، ومن خلال توفير الفرصة لزعامة أمريكا للعالم ، ومن خلال الديمقراطية التي أقامت ألف ميزان للعدل وللحرية، تتبدّل الموازين مع تبدل الهواء والمصالح .
ولقد رأينا كله واضحاً جليا فيما عرضناه ، لندرك حقيقة الواقع غير المسلم الذي يحتاج بعض المسلمين أن يتعاملوا معه .
لذلك أصبح من الضروري أن يعرف المسلم ميزان الحرية في دينه ، ويدرك عظمة الحرية الصادقة العادلة التي يدعو بها الإسلام ، والتي يجاهد من أجلها المسلمون جهاداً في سبيل الله . فلا ينخدع المسلم بالزخارف الكاذبة ، ولا ينزلق إلى الفتنة المهلكة ، وليعرف مسؤولياته وواجباته التي سيحاسَب عليها يوم القيامة ، يوم لا ينفع غرب ولا شرق ، ولا زخرف ولا زينة ، ولا يُغني مولى عن مولى شيئاً .
إن قضية الحرية وأهميتها تبرز حين ندرك ارتباط قضايا كثيرة في حياة الإنسان بها ، أو ارتباطها بقضايا أخرى كثيرة . إنها ترتبط بمعنى العدالة وبممارستها ، وترتبط بمعنى المساواة وحدودها ، وترتبط بالأمن معنى وتطبيقا ، وترتبط بالإخاء وتصوره وقواعده .
كل هذه الكلمات لا تصلح في حياة الإنسان إذا كانت متفلتة من القيود . إن الحرية المتفلتة هي حرية الأهواء والشهوات ، وحرية الوحوش والذئاب . إنها الفتنة الواسعة في الأرض ، الفتنة التي لا يمكن أن يقوم بها عدالة ولا مساواة ولا إخاء ولا أمن . كل كلمة من هذه الكلمات لا تصدق في ميدان الممارسة إلا إذا عُرفت أسسها وقواعدها وحدودها . كيف تقوم المساواة إذا لم يكن لها حدود وضوابط من الحقوق والمسؤوليات ، والوسع والطاقة ، والالتزام والحساب . وكيف تقوم هذه أو تلك إذا لم تكن كلها مترابطة في نهج واضح جلي متماسك .
هذه ناحية واحدة من نواحي عظمة الإسلام وتفرّده عن جميع المناهج البشرية . إنه منهاج رباني جاء من عند الله رب العالمين ، خالق الإنسان وخالق كل شئ ، يعلم ما يحتاج خلقه وما يصلح حياتهم في الدنيا وما ينجيهم في الآخرة .
ولا نستطيع هنا إلا نعطي لمحات عن الحرية في ميزان الإسلام وقبسات من منهاج الله ، مع أمثلة سريعة من فساد الحرية لدى المناهج البشرية الأُخرى .
2ـ الحرّية والثورات التي قامت من أجلها :
لقد كانت دعوى الحرّية من أهم شعارات الثورة الفرنسية . وارتبطت دعواها بشعارين آخرين هما الإخاء والمساواة . ولكنّ الثورة الفرنسية لم تعرف الحرية ولا الإخاء ولا المساواة ، ولا قدّمت من ذلك شيئاً غير الشعار تهتف به الحناجر وتُحفَر به النُّصب والأَحجار ، ثمَّ تُرتكب أَبشع المظالم ، فتتناثر الجماجم تحت المقاصل ، وتتطاير الأَشلاء عَبَثَ الظالمين ، وتدور أَوسع جرائم الأَرض ، ويُطوَى ذلك تحت أَستار الدعاية الزّاهية والسلطة القاهرة . وتُطوى معه الشعارات التي نادى بها فولتير ( 1694ـ1778م ) وجان جاك روسو ( 1712ـ 1778م ) والتي مهّدت لقيام الثورة الفرنسية . وتُطوى بين أمواج الجريمة القيمُ التي بنتها النبوّة في تاريخ الإنسان الطويل .
وثورات أُخرى كثيرة قامت لتصارع من أجل صورة الحرّية التي توهمتها ، وتعاقبت الثورات في تاريخ الإنسان حتى يومنا هذا . ولكن الإنسان في الأرض اليوم ما زال يفقد الحرية الحقيقية وما زال يجاهد من أجلها .
لقد فشلت معظم هذه الجهود لأَنها لم تطلب الحرّية بصورتها المتكاملة ، وميزانها العادل ، فاضطربت المقاييس وامتد الصراع ، وربما استبدلت بها المظلم والظلام . أين الحرّية اليوم في الأرض ، إلا حرية الجنس المتفلت ؟!(/1)
لقد قامت الشيوعية تدعو إلى حقوق الطبقة العاملة وحرّيتهم وإنقاذهم من المجرمين الظالمين في الرأسمالية. فماذا كانت النتيجة ؟! لم ينل العمال حقوقهم ولا حرّيتهم ولم تحترم أدنى درجات الإنسانية ، ولكن الشيوعية وأحزابها في صراعها مع الرأسمالية استبدلت بمجرمي الرأسمالية مجرمين اشتراكيين وشيوعيين ، استبدلت بالظالمين ظالمين جدداً . فأفنت الملايين من البشر في ظلمات فوقها ظلمات .
قامت شعوب كثيرة تطالب بحريتها . فمن فشلت جهودهم من هذه الشعوب سُحِقوا تحت شعار الحرية والعدالة ، ومن نجحت جهودهم أقاموا لوناً آخر من الظلم والفساد في الأرض ، ولوناً آخر من العدوان والنهب .
أين الحرية اليوم ؟! إلا حرية الكلمة المخدّرة أو الكلمة المرتجفة ، أو الكلمة المترنحة ، أو حرية صاحب القوة والنفوذ ، أو الحرية في التقاط الفُتات مما يُلْقيه المجرمون المعتدون ، أو حرية الخمور والفاحشة في مواخير الليل ، أو حرية الزنا في الشوارع والحدائق والزوايا ، أو حرية اللواط يحميه القانون وترعاه العصابات ؟!!
3ـ ارتبط الحرية الحقيقية بالإيمان والتوحيد :
إن النموذج المثل للحرّية والصورة الصادقة الأمينة ، النموذج المتكامل والصورة النقيّة ، لم تعرفها البشرية في تاريخها الطويل إلا بما دعا إليه الرسل والأنبياء ، ولم يحملها إلى الناس إلا رسالة الله إلى عباده وخلقه ، ولم يُطبقها في واقع الإنسان إلا الأنبياء والرسل وأصحابهم وحواريوهم الذين حملوا الرسالة من بعدهم وصدقوا الله في حملها ، دون تحريف أو تبديل . ولقد كانت رسالة الأنبياء والمرسلين رسالة واحدة هي الإسلام . فالله واحد ، والدين واحد ، وخُتمت الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم وبكتاب الله ، القرآن الكريم ، بمنهاجه الربّاني – قرآناً وسنة ولغة عربية -، حيث جاء مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه .
ذلك لأن الحرية الحقيقية الطاهرة الصادقة مرتبطة كل الارتباط بالإيمان والتوحيد وأسسهما ، مغروسة في فطرته السوية التي فطر الله الناس عليها ، إذا لم تنحرف أو تتشوه أو تفسد .
ولعل كلمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي قالها لعمرو بن العاص رضي الله عنه ، حين اعتدى ابنه محمد على أحد الناس وضربه بالسواط ، ثم جعل عمرُ الرجل يأخذ حقَّه من ابن عمرو بن العاص فضربه بالدرة واستوفى واشتفى ، لعل كلمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومَها مازالت تدوِّي ملءَ العصور والأَجيال ، تعلم الناس نموذجاً رائعاً من نماذج الحرِّية ، نموذجاً جامعاً لكثير مما ذكرناه أُعلاه . قال عمر رضي الله عنه : " أُيا عمرو ! متى تعبَّدتُم الناس وقد ولدتهم أُمهاتهم أَحراراً " ( [1] )
إنها الفطرة التي فطرها الله عليها ، فولدتهم أُمهاتُهم بهات مع أُودع فيها من أَسرار وقوى ورغبات . وكان أَهمَّ ما أَودع الله في فطرة الإنسانِ الإِيمانُ والتوحيدُ ، ليرويا ويغذّيا جميع الطاقات والرغبات ، فتظل تعمل متوازنة عادلة . فإذا اضطرب هذا الريُّ والغذاء ، أُو انقطعا أَو استُبْدِل بهما مصدر فاسد ، انحرفت واضطربت الموازنة وساء
العطاء . فتصبح الشهوةُ فجوراً وعدواناً ، والحبُّ والموالاة وثنيّةً وشركاً ، والحرّيةُ أَنانيّة واستبداداً ، والإِخاءُ عصبيةً واستغلالاً .
من هنا تأخذ الحرِّية معناها الإيماني حين ترتبط في فطرة الإنسان بالإيمان والتوحيد ، وتأخذ بُعدَها الإنسانيَّ حين أَودعها الله فطرة الإنسان ، لتأخذ حقيقة هذا البعد وجوهره . من هنا ترتبط الحرّية بكل المعاني التي يتغنّى بها الناس والشعارات التي يرفعونها لتظل صادقة بها أَمينة معها . ومن هما تأخذ الحرّية معناها الكامل ومحتواها المتكامل والمترابط ، وممارستها المتناسقة . فإذا انفصلت عن هذا المنبع الغني الذي يرويها انقلبت فتنةً في الأَرض وفساداً ، وانفصلت عن خصائصها ومقوّماتها ، وأَخذت خصائص جديدة من الشرِّ والانحراف والفتنة .
من هذا الارتباط بالفطرة التي فطر الله الناس عليها ، ومن هذا الارتباط بالإيمان والتوحيد ، تكتسب الحرّية العادلةُ ، الحرّية الحقيقية ، الحرّيةُ في الإسلام ، خصائص هامة مؤثرة في واقع الإنسان والشعوب مع العصور كلها ، ومؤثرة كذلك في واقعنا اليوم نحن المسلمين .
الحرّية نفسها ، وسائر الغرائز والميول المغروسة في فطرة الإنسان ، تظل تؤدي الوظيفة التي خلقها الله لها ، وتظل في ميزان الله " تقوى " " وعملاً صالحاً " ما دامت مرتبطة بالإيمان والتوحيد مرتوية من نبعه الفياض ، نبعاً غنياً يفتحه ويدفع تدفُّقه النيّة الخالصة لله ، النية الصادقة الواعية . فإذا انفصلت الحرية ، أو أي غريزة أو ميل مغروس في الفطرة عن الإيمان والتوحيد ، وعن ريّهما الغنيّ ، أو إذا استبدلت الحريةُ بالإيمان والتوحيد ريّا آخر فإنها تصبح " فجوراً " وفتنة وعملاً غير صالح .
(( ونفس وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساّها ))[الشمس : 7 –10 ](/2)
4ـ الحرية في الإسلام تقوم على أساس المسؤولية والحساب :
ومن أول هذه الخصائص وأَهمها المسئولية والحساب . فهاتان الصفتان هما من خصائص الإيمان والتوحيد ، وخصائص كل سجيّة ترتبط بهما . ولا بد هنا أَن نشير بإيجاز إلى الإيمان والتوحيد يمثلان قضيّة مفاصلة وحسم لا مساومة معها ولا تراخ :
(( إنه لقول فصل * وما هو بالهزل )) [ الطارق : 13 ، 14]
إنهما يمثلان تكاليف ربانية في ميادين شتى من الحياة ، والتزاماً بها ، وجهاداً من أجلها في سبيل الله ، ويمثلان قضية مسؤولية وحساب .
فر حرّية في نظر الإسلام دون مسؤولية وحساب ، فحين يعطي الله سبحانه وتعالى حرّية الاختيار للإنسان ، ويوفّر له كلّ أَسباب ممارستها ، فإنه لا يتركه مع حرِّيته هذه متفلَّتا من مسؤولية اختياره . بل يجعل الله لكل اختيار يمضي إليه الإنسان نتيجة جليّة وجزاء عادلاً لا يستطيع أَن يفرّ منه أَبداً . ويمضي هذا الجزاء في الدنيا على سنن لله ثابتة ، علمنا الله بعضها في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وفي الآخرة إلى إِحدى نتيجتين – جنّةٍ أَو نار – لتمثل كل نتيجة منهما حصاد اختيار الإنسان في الحياة الدنيا . ونأخذ مثلاً على ذلك من كتاب الله :
(( وقل الحقُّ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين ناراً أَحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يُغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أَجر من أحسن عملاً * أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسُنت مُرتفقاً ))[ الكهف : 29 – 31 ]
(( وقل الحقّ من ربكم … )) ! هذا هو المنطلق ! إعلان الحق الذي لا باطل معه أبداً لأنه من عند الله . إعلانه والدعوة إليه !
(( .. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. )) ! ثمَّ تأتي فرصة الإنسان ليختار على مسؤوليته الإيمان الحق من عند الله ، أو الكفر به ، إنها مسؤولية الإنسان ، فلا ينفع إيمان يدّعيه الإنسان رهبة من سلطة دنيوية أَو رغبةً في غرض من الدنيا ، أَو نفاقاً يزينه الشيطان له . لا بُدَّ أَن يكون الإيمان قناعةً تستقرّ في القلب حتى تطمئن النفس بها .
ولا يختار الإيمانَ بالحقِّ إلا الفطرة السليمة ، كما أشرن إليها قبل قليل ، يهديها الله إلى صدق الاختيار برحمته وفضله ، وعفوه وعدله . وأَما من وقع في المعصية والهوى ، والآثام والمظالم ، حتى انحرفت فطرته أَو تشوَّهت بما كسبت يداه ، وحتى غلبته الفتنة وأَغواه الشيطان ، حتى لم يعد يستحق الهداية من الله بما ظلم به نفسه ، فإنه يختار عندئذ الكفر على سنن الله ماضية في خلقه ، وحكمة لله غالبة ، وعدالة ماضية ، لا يظلم معها الله أحداً .
(( كذلك حقَّت كلمتُ ربك على الذين فسقوا أَنهم لا يؤمنون )) [ يونس : 23 ]
ولا تمضي هذه الحرية في الاختيار كما عبَّرت عنها الآية الكريمة السابق ذكرها من سورة الكهف . دون مسؤولية وحساب . تمضي لتبيّن لنا الجزاء الحق والحساب العادل : ((.. إنا أعتدنا للظالمين ناراً أَحاط بهم سرادقها..)) فهذا جزاء الكافرين الذين يموتون على كفر علمه الله بهم . وأما من اختار الإيمان فجزاؤه جنات عدن : (( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً * أولئك لهم جنات عدن .. )) .
ولا تكون المسؤولية والحساب في الآخرة فحسب ، ولكنها كذلك في الدنيا حيث تمضي سنن الله الثابتة العادلة على هؤلاء وهؤلاء على حكمة الله غالبة وعدالة ماضية :
(( أَم حسب الذين اجترحوا السيئات أَن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون )) [ الجاثية : 21 ]
وربما يلتبس الأمر على بعض الناس حين يرون بعض آيات الله في ابتلاء المؤمنين ، فتغيب عن بالهم سنة الله في الابتلاء ليمحص الله بها عباده ، وليميز بها الخبيث من الطيب ، ولتقوم الحجة على كل إنسان يوم القيامة .
5ـ من قواعد الحرية في الإسلام المساواة أمام التكاليف الربانية :
لا تستقيم الحرّية في ميزان الإسلام حين تفسد الفطرة ، ويضطرب الإيمان والتوحيد ، وتتفلّت المسؤولية والحساب تبعاً لذلك . فمن أَهم خصائص الإيمان قضيّة " الأمانة " التي يحملها الإنسان في الحياة الدنيا ، وليكون الالتزام والوفاء بها أساس الحرّية ومنطلقها وميدان ممارستها .
فإذا كانت التكاليف الربّانيّة والالتزام بها ، وما ينشأ عن ذلك من مسؤولية وحساب ، يمثل هذا كله بعض القواعد الهامة التي تقوم عليها الحرّية في ميزان الإسلام ، والتي تنبثق من الإيمان والتوحيد ، فإن هنالك قواعد هامة أُخرى للحرية تنضمّ إلى القواعد السابق ذكرها .(/3)
ومن أهم القواعد مساواة الناس أَمام التكاليف والالتزام والمسؤولية والحساب ، لا يختلف في ذلك إنسان عن إنسان إلا بمقدار الوسع والطاقة والمسؤولية والأَمانة . فإن الله سبحانه وتعالى نفساً إلا وُسعها كما نصَّ القرآن على ذلك . و لا تقوم المسؤولية أَيضاً إلا على قدر الوُسع والطاقة . والوُسع الذي نتحدّث عنه هو " الوسع الصادق " الذي يضعه الله في عبده هذا أو ذاك فيحاسبه عليه ، لا " الوسع الكاذب " الذي ترسمه الهواء والأماني والأعذار .
(( ولا تكلف نفساً إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون ))[ المؤمنون : 62 ]
6ـ وقاعدة أُخرى هي الشمول والامتداد :
وقاعدة أُخرى هامة هي الشمول والامتداد . فليست الحرية الكلمة فقط ، ولكنها حرية ممتدة في واقع المؤمن تقوم على الأُسس السابقة في ميدان الفكر والسعي والكلمة وغيرها من الميادين ، وهي حرية الفرد والجماعة والأُمة ، حرية ممتدة شاملة تضبطها وتوجهها القواعد السابقة كلها وخصائص الإيمان والتوحيد . فالإسلام الذي حرّر الإنسان من داخله وحرّر روحه وعقله وكيانه كله من الأغلال الباطلة والقيود الظالمة ، أَطلق الحرية في ميادين الحياة نديّة بالإيمان غنيّة بالتوحيد لتهب الحياة الجمال الحق ، ولتهب الإنسان المتعة الطاهرة الدائمة الممتدة .
7ـ ومن قواعد الحرية في الإسلام الأمن والنفس المطمئنة إلى ربّها :
ومن القواعد الهامة للحرِّية في ميزان الإسلام الأمن . والأمن الذي ينبع أولاً من داخل الإنسان ، من ذاته ، من إيمانه ويقينه ، حتى إذا استقر في نفس الإنسان انطلق إلى واقعه ومجتمعه ، إلى ميادين الحياة ، إلى الممارسة والتطبيق ، ليضيف الأَمنُ إلى الحرية جمالاً إلى جمال ، ومتعة ، وقوة إلى قوة .
فلا بد إذن أن تتوافر في واقع أَي أُمة خصائص الإيمان والتوحيد ، ووسائل رعاية الفطرة وحمايتها ، ليكون هذا كله أَولَ حقٍّ من حقوق الإنسان . إنه حقٌّ أَهملته الجمعيات والهيئات التي تنادي اليوم بحقوق الإنسان ، وأهملته القوى الديمقراطية التي أَطلقت الأَهواء والشهوات لتنسلَّ خدراً في العروق يشل قوى الإنسان ويسحق جوهره . ثم يقال له أنت حرّ بعد أن كبّلوه وقيّدوه وخدّروه ورموه في لهيب مضطرم . فمارسوا بذلك أسوأ أنواع الاستبداد والظلم في تاريخ الإنسان .
قد تُخنق الكلمة بتكميم الأَفواه ، أو في ظلمة السجون ، أو تحت سياط القهر والتعذيب . وهذه جريمة كبيرة حين تكون الكلمة حقاً وأمانة وبلاغاً وقوة ، وصدقاً وعبادة وتقوى . ولكن خنق الكلمة في داخل الإنسان وهو طليق جريمة أكبر في حق الإنسان ، لأنها تكون عندئذ جريمة تمتدّ في الأرض على غيبوبة وخدر ، أو هلع وحذر ، لا يكاد يحس بها الناس ، أو يعتادونها فيألفونها ، ويمضي المجرمون في طغيانهم وعُتوّهم واستكبارهم ، حتى يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر .
فالأمن الحقيقي الممتد من داخل الإنسان وذاته ،إلى واقعه ومجتمعه ، إلى نظامه وإدارته ، إلى سلطانه ونفوذه وقوته ، هذا الأَمن هو الذي تقوم عليه الحريّة لتكون عبادة لله وطاعة ، وجمالاً في الحياة ومتعة .
واستمع إلى إبراهيم عليه السلام يرُسِّخ هذه القاعدة العظيمة قاعدة إيمان وتوحيد ، وعبودية لله وطاعة، في الحياة البشرية كلها :
(( إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين * وحاجّة قومه قال أَتحاجونّي في الله وقد هدان ولا أَخاف ما تُشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كلّ شيء علماً أفلا تتذكرون * وكيف أَخاف ما أشركتم ولا تخافون أَنكم أشركتم بالله ملم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أَحقُّ بالأَمن إن كنتم تعلمون * الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون*وتلك حجتنا آتيناهم إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ))[ الأنعام : 79 – 83 ]
قاعدة العدل الذي يقوم على أساس الإيمان والتوحيد ومنهاج الله :
ولا يستقرُّ الأَمن في واقع الإنسان إلا ساد العدل الحق على أساس ميزان الإيمان أَيضاً :
(( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون )) [ النحل : 90 ]
ولا يترك الإسلام العدل والإحسان ، والأَمن وغير ذلك شعارات غير محددة . ولكنه يفصلها حتى تكون حجّة على الناس يوم القيامة ، وحتى تكون ميزاناً دقيقاً أَميناً يستطيع الإنسان ممارسته في واقعه البشري .
هذه بعض قواعد الحرّية وركائزها في ميزان الإسلام . تنبع كلها من الإيمان والتوحيد المغروسين في فطرة الإنسان ليرويا الفطرة بجميع قدراتها وطاقاتها ، حتى تتوازن هذه القدرات فتؤدي مَهَمَّتها التي خلق الله هذه القدرات لأَدائها ، وليكون عمل الإنسان وعطاؤه حينئذٍ عملاً صالحاً .
9ـ اضطراب معنى الحرّية في واقع المسلمين اليوم :(/4)
هذه الحرّية ، وكذلك ركائزها ، اضطراب في واقع المسلمين اليوم . اضطربت حين اضطربت الفطرة واضطرب توازنها ، وحين امتدّ الغزو والعدوان على حياتنا وديارنا ينفث سموم الحضارة الغربية تحت شعارات مزخرفة مضللة من " الحرّية " والإِنسانية ة والإخاء والمساواة . فإذا الحرّية هي إرادة القويّ الظالم المعتدي يفرضها بالإغراء أَو بالنار . وإِذا الإنسانية والإخاء شعار يساوي الفقير ويؤاخي المسحوق بالمسحوق ، حتى يستطيع المعتدي المستكبر أن ينهب ويترفّه في فجوره وظلمه . وإذا المساواة هي مساواة الرجل بالمرأة لتنزل المرأة رخيصة بين يدي الشهوة ، هيّنة راضية بالفجور ، خلعت الحياء واللباس والعفاف الذي زيّنها الله به .
وظن شبابنا المخدوعون أَن هذه الحضارة هي التي تقدّم للإنسان حرِّيته وأَمنه وحقوقه . وطغى ضجيج الدعاية طويلاً حتى انجرف في الفتنة شباب ونساء وكهول ، ومجتمعات ، وأقطار شتى . ومضت قرون على هذه الدعايات المظللة . فإذا هي حروب ممتّدة في الأرض لا تهدأ ، يذهب الملايين من بني البشر قرباناً لمصالح العصابات المجرمة في الأرض .
10ـ الديمقراطية أطلقت الحرية الفردية من ضوابطها وجرّدت الإنسان من جوهر قوته وسلامة فطرته :
إذا كانت هذه هي الخصائص الإيمانية الرئيسة للحرية في ميزان الإسلام ، فما هي الحرية في الديمقراطية وفي سائر المذاهب البشرية ؟ المثالية كما دعا إليها هيجل وسواه لا تختلف كثيراً عن المادية التي دعا إليها إنجلز وماركس ولينين وغيرهم . لم يختلفا إلا فيما هو أسبق في الحياة : المادة أم الروح . والروح في مفهومهما واحد . إنها الفكر وليست الروح التي يتحدث عنها الإسلام ، إنهم لا يؤمنون بها . الديمقراطية والرأسمالية والمثالية أطلقت للفرد حرّيته دون ضوابط وجرّدته من جوهر قوته وسلامة فطرته ، بعد أن خدرته بالشهوات والأهواء . والمادية الشيوعية ودكتاتوريتها خنقت الحرية لا بالتخدير ولكن بالبطش والاستبداد ، وخنقت في الإنسان حقيقة قوته وقتلت فطرته . فمن أين تأتي الحرية الصادقة بعد ذلك ؟
كلٌّ يدّعي الحرّية ، وكل يصوغها على نمط مصالحه المادية وشهواته المتفلتة فالديمقراطية حين أطلقت الحرية الفردية دون ضوابط ، فإنها أَغرقتها في أوحال الحرية الجنسية الملوّثة وأوحال الجريمة والمعصية ، لا توقفها مسؤولية في الدنيا ولا رهبة من عذاب الآخرة . وعندما يطلقون حرية الدين كما يزعمون فإنهم في حقيقة أَمرهم يقتلون الحرية ويدفنونها . ذلك لأنهم خدَّروا الناس بالشهوة والمصالح والجري اللاهث وراء الدنيا ، ليكون هذا هو ميزان الحياة ومقياس الحرية أو الظلم . فجرَّدوا الإنسان بذلك من جوهر قوته التي يفكر بها حرّاً طليقا . جرّدوه من سلامة الفطرة التي لوَّثتها المعصية وأَحاطت بها الجريمة وخنقتها الأهواء والشهوات الثائرة . فأَنى للإنسان أَن يفكر حرّاً . ثم صاغوا له القوانين التي تدفعه إلى الانحراف دفعاً ، وهيأوا له من وسائل الإعلام ما يجعل الشهوة ناراً يلتهب بها دمه ، ثمَّ حبسوا الدين في الكنائس هناك ، لا يخرج للناس منه إلا ظنون وأَوهام ، وأَحقاد وعصبيات ، لا علم معها ولا بحث عن الحقّ ولا دراسة ولا تَقَصٍّ . حبسوا الدين في الكنائس لا يخرج منها إلا للدعاية التي تحتاجها المصالح الشخصية المتصارعة ، أو لإطلاق حركات التنصير خارج بلادهم لتكون مُمهِّدة للجيوش الزاحفة بظلمها وعدوانها ، أَو لإطلاق المستشرقين ليسوّغوا الضلال ، ويوفّروا التأويل الكاذب ، ويدخلوا التحريف الفاسد ، ويطلقوا الحجة المريضة . ثمَّ بعد ذلك كله يستغلون السلطة والمال والإعلام لينصروا ديناً على دين ، ومذهباً على مذهب ، ويطلقوا الحرّية المتفلّته لهذا ويحجروها على ذاك ، فيتناقضوا مع دعوى يزعمونها وزخرف كاذب يظهرونه حرّية كاذبة مريضة هذه التي يدّعونها ، وفتنة واسعة يلهبون بها الأرض وينشرون بها الفساد .
ولقد جاءت السنوات الأخيرة بخاصة تكشف زيف هذه الحضارة وعمق بؤسها وإجرامها في حق الإنسان ، وتكشف أَن الحرّية لم تكن أَكثر من حرّية الجشع والنهب والاستغلال وانتهاز الفرص ، حتى سمى نيكسون – رئيس جمهورية الولايات المتحدة سابقاً – كتابه الأَخير الذي نشرت بعضه جريدة الشرق الأوسط " انتهاز الفرصة " وكتابه الأسبق " نصر لبلا حرب " يعلن فيه خُطة الحرب الباردة للقضاء على أَعداء أمريكا وتأمين مصالحها الخاصة على حساب شعوب الأرض وبخاصة شعوب العالم الثالث ، كما ذكرنا في الفصول السابقة .
فإذا انهار الاتحاد السوفياتي وتفككت دولته ومؤسساته وبطل سحره ، فإن الغرب نفسه انكشفت أَوراقه وبان زيفه ، وأَخذت تنمو الخانقة شيئاً فشيئاً ، وبدأ الإنسان هناك يشعر أَنه لا يملك حرّية ولا يجد مساواة ولا يرى إخاء ، وإنما يرى نفسه إنساناً مسحوقاً .(/5)
فما يسمى " بالسوق الحرّة " كانت في الحقيقة سوق استغلال وفساد . والمؤسسات المالية أصبحت متورطة بأنواع شتى من الجرائم والغش والرشوة ، وصفقات الأسلحة والمخدرات ، وجرائم القتل والمؤمرات . وامتلأت الصحف في بريطانيا وأمريكا تتحدث عن الجرائم اليومية في المجتمع بما تقشعر منه الأبدان ، وكذلك في غيرها من أَقطار الغرب " المتحضر " .
في أمريكا عجزٌ متزايد في الميزانية ، ركود اقتصادي ، زيادة العاطلين عن العمل حتى بلغوا (25) مليون أمريكي سنة 1991م ، تسريح عدد كبير من عمال المصانع ، إغلاق شركات كبرى وإفلاسها ، ازدياد عدد الذين يعانون من الفاقة والحاجة . ثم أَخذت الصحف في بريطانيا وأمريكا وغيرهما مثل واشنطن بوست ، نيوزويك ، الغارديان ، الإندبندنت وغيرها تعرض خلال السنتين الماضيتين إحصائيات ودراسات عن هذه المشكلات بصورة تثير الحيرة والقلق والفزع . ولا يختلف الحال في بريطانيا ، وربما كانت بعض المشكلات عندها أَشد إيلاماً . وكذلك أَزمات تتصاعد في ألمانيا وفرنسا ، وكذلك في اليابان .
وامتدّت الجريمة في العالم الغربيّ كله وفي الاتحاد السوفياتي سابقاً ، وفي روسيا وغيرها اليوم . وأوربا يعتبرون لندن مدينة الجريمة لهول ما يقع فيها من جرائم .
الجريمة هناك امتدت إلى الطفل والطفلة ، إلى المرأة والفتاة ، إلى العجائز ، إلى الكهول والشيوخ . وانتشرت حتى لم يعد الشارع آمناً ، ولا الحديقة ولا الفندق ولا المدرسة ولا البيت ولا مكان البيع والشراء . لم يعد الإنسان يجد الأمن ولا الحرّية ، ولم يعد القانون والسلطة ورجالها قادرين على توفير الحماية . الجريمة تكاد تكون يومية تعرضها الصحافة والإذاعة والتلفاز . لقد أصبحت الحرية هي حرّية المجرم في اختير ضحيته وفي اختيار وقت الجريمة ومكانها .
انفلتت ضوابط الحرّية انفلاتاً واسعاً حتى إن فتاة تدخل الانتخابات في إيطاليا ، فتكون حملة دعايتها أَن تعرض جسمها العاري على الجمهور . هي نالت حريتها لتفعل ذلك ، والجمهور نال حرّيته لينظر ويُسَرَّ ثم لينتخبها . هذه الفتاة هي " ليوناستالر " البلغارية الأصل والمسماة تشيتسولينا ( [2] )
تاريخ الحرية في أمريكا عجيب مرعب بالرغم من إقامة تمثال للحرية جامد من الصخر لا حياة فيه . حسبك أن تقرأ كتاب " الجذور Roots " للكاتب الأمريكي الزنجي الكس هالي " Alex Haley " لترى أَبشع جريمة يرتكبها الأمريكان ، حين يسرقون الزنوج المسلمين من أفريقيا ، ويسوقونهم عبيداً تنهبهم السياط ليعملوا في مزارع البيض هناك في أمريكا ، فتُسحق إنسانيتهم وتنتهك أعراضهم ويصحبون ملكاً مباحاً لظلم الأمريكي . ويمتد هذا الظلم قروناً في تاريخ أمريكا لينفجر الزنوج مرة بعد مرة ، كان آخرها حادثة لوس أنجلوس حين اعتدى أربعة رجال مرور على سائق زنجي ارتكب مخالفة السرعة ، فطرحوه أرضاً في الشارع وجلدوه أمام الناس . هاوٍ مرَّ مصادفة فصَوّر الحادث كله ، ورُفعت القضية إلى القضاء الأمريكي لتنكشف حقيقة القضاء المزيّف ويسقط القناع ، فيحكم القضاء ظلماً بتبرئة رجال المرور البيض . وتثور المدينة في أحداث مريعة . السائق الزنجي فقد حرّيته وفقد أمنه ، وفقد القضاء الأمريكي العدالة ، وضاعت المسؤولية واضطرب الحساب . كل ركائز الحرّية منهارة في المجتمع الأمريكي ، وفي مجتمع الحضارة الغربية كلها .
محاكمة " وليم كندي سميث " والفتاة التي اتهمته باغتصابها صورة مفزعة أُخرى لانهيار كل دعائم الحريّة والأمن وسائر ركائزها ، وانهيار العدالة والطهارة في القضاء الغربي . لم يبق من معاني الحرية إلا ممارسة الفاحشة على أوسع نطاق إجرامي .
في ميزان الله هذه جرائم وكبائر ، وفي ميزان الحضارة الغربية هذه حرّية ! أَصدر " مركز الضحايا الوطني "ومركز " الأبحاث ومعالجة ضحايا جريمة الاغتصاب " معلومات هائلة مريعة : (78 ) امرأة تُغتصب كل ساعة في أمريكا . 29% من حوادث الاغتصاب لفتيات دون الحادية عشرة ! ( [3] )
الإنسان في الحضارة الغربيّة مسحوق ومخدَّر . وكل العلوم الحديثة والصناعة تحوّلت إلى أَدوات تسحق الإنسان وتُخدِّر فيه إحساسه وقواه . وإذا نظرت إلى المناهج السياسية في الحضارة الغربية لراعك الحال وأفزعك ، حيث تتضاءل الجرائم السابق ذكرها أمام الجرائم السياسية التي تُفني البشر بالآلاف ، بل بعشرات الآلاف ومئات الآلاف ، ثم تمتدّ حتى تفنيَه بالملايين .
قرون طويلة امتدت والحضارة الغربية هي التي تقود الإنسان ، بعد أن انحسر الإسلام وزالت خلافته في الأرض . لقد كانت هذه القرون مجازر ومآسي ودموعاً وحسرات تكاد لا تتوقف . وفقد الإنسان خلالها جوهر حقوقه وحرّيته . وأَصبح الإسلام اليوم ، كما كان دائماً ، حاجة البشرية كلها ، حاجتهم الملحة . لن ينقذ الإنسان اليوم إلا الإسلام ليعيد له كرامته التي كرَّمه الله بها ، وحقوقه التي سلبتها عصابات المجرمين ، وحرّيته التي قتلها الطغاة الظالمون .(/6)
إنها اليوم مسؤولية المسلمين ، مسؤولية كل مسلم صادق ، أَن ينهض لبناء الأُمة المسلمة الواحدة في الأَرض ، لنقدّم للبشرية النموذج التطبيقي للحرّية والإخاء والعدالة ، لنقدم للناس النظام العالميّ الحق الذي يحتاجه ، وليسود الأَرض شرع الله بدلاً من " الشرعية الدولية المزّيفة " ! فشرع الله أَعلى وأصدق وأَوفى . فهل ينهض المسلمون لهذا الواجب والأَمانة ؟! إِنها الأَمانة التي وضعها الله في عنق الإنسان المؤمن ، في عنق الأُمة المسلمة . إنها رسالة الله ودعوته ودينه ، يحمله الصادقون إلى الناس كافة !
(( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأَشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيماً )) [ الأحزاب : 72،73 ]
لقد كان الإنسان ظلوماً حين ظلم نفسه فقصَّر عن حمل الأَمانة التي أكرمه الله بها ، وكان جهولاً حين جهل عظمة الأَمانة وشرفها وخيرها ، وحين جهل أنها ابتلاء من الله يميز به المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات عن المؤمنين والمؤمنات الذين صدقوا .
إن الديمقراطية والرأسمالية والشيوعية والعلمانية والحداثة لم تفقد جوهر الحرية وحقيقتها فحسب . إنها فقدت معها الأمن والعدل والكرامة الإنسانية وهبطت به أسفل سافلين . إنها أفقدت الناس حقيقة الإيمان والتوحيد اللذيْن هما أساس حياة الإنسان وأساس مستقبله في الدنيا والآخرة .
انظر في الأرض أنّى شئت لا تكاد ترى إلا أَمواج المظالم تتدافع في أجواء الديمقراطية والشيوعية . هذه البوسنة والهرسك حيث تُرْتَكب الجريمة الكبرى بعد جريمة فلسطين المروّعة . وهذا حال المسلمين في الهند وكشمير والشيشان وغيرها من بقاع الأرض وبخاصة في العالم الإسلامي ، حيث تُرتكب أفظع الجرائم في تاريخ الإنسان ، وحيث يُسحق الإنسان المبادئ والمثل والقيم ، وتسقط الشعارات في أوحال الجريمة والفساد . وحيث يهوي النظام العالمي الجديد ليدفن نفسه بين الجماجم والأشلاء والدماء التي تتدفق .
وهذه بلجيكا اليوم تطلع علينا بأبشع صور الجريمة في حق الأطفال . حيث يُسرَق الأطفال ويتُاجر بهم في أوحال الجنس الذي تقشعرّ منه الأبدان وستظل الديمقراطية الغربية تفرز كل يوم نموذجاً جديداً من الجرائم والفساد . وهذه موسكو طغت عليها الجريمة وغاب عنها الأمن واضطربت الحرية ودُفنت !
البشرية كلها بحاجة اليوم إلى الإسلام فهل ينهض الدعاة المسلمون إلى مسؤولياتهم قبل أن يُنزِل الله عقاباً أشد من عقاب ، وبلاء أشد من بلاء .
--------------------------------------------------------------------------------
( [1] ) علي الطنطاوى وناجي الطنطاوي : أخبار عمر _ دار الفكر بيروت _ (ط:2) (1379هـ _ 1980م ) _ (ص:156 ) .
( [2] ) الوطن العربي : العدد 223 ـ 749 ـ الجمعة 28/6/1991م .
( [3] ) الحياة : العدد 1067 ، الأحد 24/10/1412هـ (26/4/1992م ) .(/7)
الحرية
1 – الحرية
عندما نسمع كلمة ( الحرية ) نتذكر على الفور قولة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ ) .
وقد نتذكر كذلك ( الثورات ) التي قادها أصحابها باسم ( الحرية ) ..
وقد نتذكر السجون ودهاليز التعذيب الجهنمية الرهيبة .
وقد نتذكر أعواد المشانق التي أقيمت وما تزال تقام بين الحين والحين هنا وهناك بهدف (تأديب) المنادين بالحرية
وقد نتذكر .. ونتذكر ..
قد نتذكر ذلك كله مادام الحديث يدور عن ( الحرية ) ..
ومن العجيب أن ينحصر جل تفكيرنا بالمعنى السياسي للكلمة ، مع أن للحرية معاني كثيرة أوسع وأشمل من مجرد فهم سياسي محدود .. فما الذي يجعل تفكيرنا يتوجه نحو السياسة وحدها دون سواها ؟
إنه – دون ريب – ضغط الواقع الذي يعيشه الإنسان اليوم ، في كثير من بلدان العالم ، حيث حرية الرأي ، وحرية الحياة ، وحرية التعليم ، وحرية التملك .. وكل الحريات الأخرى مهددة بالإعدام في لحظة واحدة نتيجة قرار سياسي أحمق !
غير أن هذا الواقع الأليم – على فداحته – لا يصح أن يحجب عن الرؤية الموضوعية للمسألة ، ولا أن يمنعنا من الفهم الصحيح للحرية ، التي ننادي جميعاً بها .. لأننا من غير تلك الرؤية ، وهذا الفهم ، لن نستطيع أن نتجاوز أزمتنا الحضارية الراهنة ، بل قد نزيد هذه الأزمة تعقيداً ، وقد ينتهي بنا الأمر إلى خسارة أخرى من حريتنا ، التي يفترض ألا نقبل بها إلا كاملة ، غير منقوصة .
فما هي الحرية يا ترى ؟
ربما كانت الحرية من أكثر المصطلحات التصاقاً بحياة الإنسان وبمصيره ، وربما كان هذا هو السبب ، الذي من أجله يتعرض مفهوم الحرية للكثير من عمليات التشويه والتلبيس والتلاعب .. وقد ظلت الحرية على مدار التاريخ عرضة لعمليات ( تحجيم ) ماكرة يراد منها أن تخدم مصالح بعض أصحاب القرار ، الذين لا يؤمنون أصلاً بالحرية إلا بمقدار ما تمنحهم هذه الحرية من ( سلطات ) تضاف إلى رصيدهم من التسلط والطغيان والجبروت !
ويقودنا البحث عن معنى الحرية أول ما يقودنا إلى رحاب القرآن الكريم الذي يخبرنا بأن الله عز وجل – الذي خلق السموات والأرض – لم يترك هذا الخلق ليعيش على هواه ، ويتصرف بلا ضابط ولا نظام (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين )(الدخان: 28) ، بل أخضع الله ذلك كله لمجموعة من السنن لتحكم مسيرة هذا الخلق (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) ( الفرقان: 2) . وتوحي آيات كثيرة بأن هذه السنن تعد بمثابة حواجز تحد من حرية الإنسان في هذا العالم ، وتقيد حركته ، نلمح هذا مثلاً في قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا )(الرحمن: 33) فالنفاذ لا يكون إلا لوجود مانع أو حاجز ، لكن إرادة الله سبحانه شاءت ألا تكون هذه الحواجز مطلقة بحيث لا يستطيع الإنسان الفكاك من أسرها ، بل جعل الله عز وجل هذه السنن قابلة للتسخير من قبل الإنسان ، لكي يتمكن من القيام بأمانة التكليف، وهذا معنى قوله تعالى (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه )( الجاثية: 13 ) ، لكنه سبحانه جعل شروطاً لابد للإنسان أن يوفرها حتى يتمكن من تسخير السنن الربانية ، ومن تلك الشروط أن يعرف طبيعة السنن ، التي تحكم الأشياء التي يريد تسخيرها ، وأن يهيئ الظروف المواتية لهذا التسخير .. نلمح هذا المعنى في قوله تعالى تعقيباً على تحدي الجن والإنس أن ينفذوا من أقطار السموات والأرض في ختام الآية السابقة من سورة الرحمن (لا تنفذون إلا بسلطان ) ويرجح أن السلطان هنا هو معرفة السنن الربانية التي تعين الإنسان على الطيران وتجاوز أقطار السموات والأرض .. والملاحظ أن الإنسان عندما استطاع أن ينفذ من أقطار السموات والأرض اكتسب هامشاً جديداً من الحرية ، إذ تحرر من قيد الجاذبية ، وتحرر من قيد السرعة ، التي منحت له فطرة ، وهي سرعة مشيه على قدميه ، فأصبح قادراً على الحركة بسرعات مذهلة تتجاوز عشرات الآلاف من الأميال في الساعة الواحدة !!
ويمكن أن نزيد هذه الفكرة توضيحاً بمثال آخر .. فلو أننا أتينا بإنسان لا يعلم شيئاً عما وصلت إليه الاختراعات والتقنية الحديثة من تقدم ، ثم عرضنا عليه سيارة .. فما يكون موقفه منها يا ترى ؟ إنه – دون ريب – سيقف حيالها حائراً مستغرباً مندهشاً ، وربما فر منها خائفاً مذعوراً ! فهي بالنسبة له عالم مجهول تماماً ، ينطوي على كل ما ينطوي عليه المجهول من خوف ومفاجآت.(/1)
ولو أننا طلبنا من هذا الإنسان ، أن يتصرف بالسيارة على مقدار ما لديه من علم فطري ، فربما اكتفى باستخدامها مأوى لدجاجاته .. وهذا غاية ما قد يقوده إليه تفكيره من استخدام هذه الآلة العظيمة .. أي أنه لن يستطيع أن يستفيد من الحرية الواسعة ، التي يمكن أن توفرها السيارة له ، وما ذلك إلا لجهله بالقوانين التي تحكم عملها .. بينما نجد أن إنساناً آخر لديه علم بتلك القوانين ، سيتصرف بالسيارة بصورة مختلفة تماماً ، فهو يعرف كيف يشغلها ، وكيف يحركها ، وكيف يجعلها تحمل متاعه ، وتجري به بسرعة كافية ، تعينه على توفير الوقت ، وتقريب المسافات .. فهذا الإنسان اكتسب بعلمه بالسنن ، التي تحكم عمل السيارة هامشاً إضافياً من حرية الحركة في هذا العالم ، كما اكتسب قوة جديدة أضيفت إلى قوته الجسدية ، فأصبح قادراً على بلوغ أماكن ، وتحقيق أهداف ، لم يكن ليبلغها أو يحققها بقوته الجسدية وحدها.
الحرية والعلم بالسنن
وعلى هذه الشاكلة من المعرفة بالسنن يكتسب الإنسان المزيد من الحرية في هذا العالم .. ونستشف من خلال استعراض الخلق في القرآن الكريم أن الإنسان أول ما أوجده الله فوق هذه الأرض أصيب بخيبة أمل كبيرة ، فبعد أن كان يعيش في الجنة سيداً ، ينعم بحرية مطلقة .. أهبط إلى الأرض ليجد نفسه فجأة في عالم يتنكر له ، عالم مختلف تماماً عن عالم الجنة ، لأن كل ما فيه عصي على الأمر المباشر .. كان آدم في الجنة يأمر فيطاع .. أما هنا في عالم الأرض فإن الأمر وحده لم يعد يكفي للوصول إلى الهدف ، بل لابد من جهد ، وعلم بالقوانين ، أو السنن ، التي تحكم هذا العالم .. وهكذا وجد آدم نفسه فجأة مقيداً داخل حدود السنن .. ووجد نفسه بسبب جهله بسنن العالم الجديد خاضعاً لسيطرة المخلوقات الأخرى ، والتي كانت أكثر منه عدداً ، وأشد قوة ! فاحتار :
- ماذا يصنع ؟
- أيستسلم ؟
- أيقف مكتوف اليدين أمام هذا الواقع الجديد ، الذي اختاره بنفسه طائعاً ؟
- أم يتحرك ليسترد حريته من جديد ؟
ولم تطل به الحيرة ، فاختار – بما وهبه الله من عقل – أن يتحرك ، وراح يواجه العالم المحيط به ، بكل ما آتاه الله من عزم وتوق إلى الحرية ، فأخذ يفك طلاسم الوجود ، ويكشف من أسراره ما شاء الله له أن يكشف ، فاهتدى إلى معرفة الكثير من السنن ، التي على نهجها تسير الحياة ، وبهذه المعرفة السننية ، تمكن من تسخير العالم المحيط به ، وتحرر من السيطرة التي كانت مفروضة عليه ، وشيئاً فشيئاً راحت تتوسع دائرة حريته ، حتى تمكن في النهاية من قلب الموازين ، وتغيير المعادلات ، فأمسى العالم الذي كان يفرض عليه سيطرته رهن أوامره هو !
ما مدى حريتنا في عالم اليوم ؟
ويمكن أن نوسع مفهوم الحرية كما قدمناه ، لننظر على ضوئه إلى أزمتنا الراهنة .. فبعد عصور التخلف والانحطاط والأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية .. التي تعاقبت على أمتنا ، أصابنا الوهن ، وقعدت بنا الهمة عن متابعة الدرس والبحث ، والسير في الأرض ، لكشف المزيد من السنن الكونية ، التي كان يمكن أن نستفيد من تسخيرها في عمارة الأرض ، وتشييد الحضارة الإنسانية التي نتوق إليها ..
وكان من نتيجة تخلفنا أننا أصبحنا اليوم نقف أمام ما استجد في العالم من اكتشافات واختراعات وحقائق ، موقف ذلك الذي وقف خائفاً مهزوماً أمام السيارة ، لا يدري ما طبيعتها ، ولا كيف يتعامل معها !
وأما ( الآخرون ) فقد انطلقوا بالمقابل يبحثون ويدرسون ويجربون ويكتشفون ، حتى عرفوا الكثير من سنن الوجود ، فكسبوا بذلك هامشاً رائعاً من الحرية .. هذا في الوقت الذي ضاقت فيه مساحة الحرية ( المتاحة ) لنا .. فانتهت بنا هذه المعادلة غير المتكافئة ، أن أمسينا تابعين غير متبوعين ، وهذا جانب هام من أزمتنا جدير بوقفة تأمل طويلة !
ويخطئ من يظن أن سبب أزمتنا الراهنة نقص في الطاقات المادية .. فإن هذه الطاقات مبثوثة في الأرض كلها ، حتى لا تكاد تجد دولة من دول العالم إلا وتجد فيها من الثروات والطاقات ما يغنيها ويكفيها ، لتعيش حياة حرة كريمة هانئة .. وربما كانت بلادنا من أغنى الأرض من حيث خصوبة أراضيها ، ووفرة الثروات المخبوءة فيها .. فما الذي ينقصنا إذن؟
إن الذي ينقصنا حقاً هو موقف متجدد من الحياة ، ونظرة متجددة إلى واقعنا .. موقف متجدد ونظرة متجددة ينطلقان على هدى التوجيه الرباني الحكيم (قل انظروا ماذا في السموات والأرض )(يونس: 101) فلقد غفلنا عن هذه الدعوة الربانية أمداً بعيداً ، وقصرنا في دراسة السنن التي جعلها الله سبباً لتسخير هذا الكون .. ويوم نعاود البحث والدرس ، ونفهم طبيعة هذه السنن ، ونهيئ الشروط اللازمة لتسخيرها .. فيومئذ يمكن أن تنفتح السبل أمامنا ، وتنهار الحواجز التي قيدت حريتنا عصوراً طويلة !(/2)
الحرية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? [ آل عمران : 102] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً?[ النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
إن من أعظم ما ينشده الإنسان في هذه الحياة هي الحرية والكرامة، ولذلك جعل الإسلام الحرية من أخص الخصائص الإنسانية، فالإسلام هو المنهاج الوحيد الذي جعل الناس أحراراً يتساوون في العبودية لله عز وجل، فهو الذي أعلن هذا المبدأ للعالمين في قوله: ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ?[آل عمران:64].
وقال تعالى : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ?[الحجرات:13]. فهم يتساوون في الخلقة والأصل "الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحد على أحد إلا بالإيمان والتقوى وكلكم لآدم وآدم من تراب" (1)
ومن أعظم الحقوق في الإسلام المساواة في الحرية وقد قال يوماً عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين استعلى أحد أبناء المسئولين على أحد الرعية: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. وأعظم ثمرة للحرية هي الشورى التي اعتبرها الإسلام فريضة قرآنية وركيزة حضارية يقوم عليها النظام السياسي في الإسلام ، وقد جاء ذكرها في سورة الشورى بين فريضتي الصلاة والزكاة، قال تعال: ? وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ?[الشورى:38].
ولقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بهذا المبدأ في سورة آل عمران بقوله تعالى: ? فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ?[آل عمران:159]. هكذا تبدو عظمة هذا المبدأ من خلال أمر الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بعد غزوة أحد التي جرت فيها الممارسة العملية للشورى حين استشار الرسول الصحابة الكرام في المسجد، وكيفية مواجهة قريش الذين جاؤوا لغزو المدينة، فكان رأي أغلبية الصحابة هو الخروج لملاقاتهم خارج المدينة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى خلاف هذا الرأي ، ولكنه نزل على رأي الأغلبية ، ومع مرارة النتائج التي ترتبت على ذلك، فإن الله يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بها حتى لا يتزلزل المؤمنون بهذا المبدأ العظيم.
وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشاور أصحابه ويأخذ برأيهم ومشورتهم وهو سيد البشر الذي يوحى إليه ، فمن باب أولى أن يكون غيره مهما كانت منزلته أكثر التزاماً وتطبيقاً للشورى .. ولقد سار الخلفاء الراشدون على هدي نبيهم - صلى الله عليه وسلم - في الأخذ بمبدأ الشورى في كل شؤونهم.
أيها المؤمنون : إن الشورى حين تطبق فعلياً في حياة الأمة فإنها تثمر ثماراً عظيمة من أهمها:
أنه لا يصعد إلى موقع القرار إلا الكفء الذي تختاره الأمة بمحض إرادتها ، ومن ثمارها أنها عصمة لولي الأمر من أن يقدم على أمر يضر بالأمة ، ومن ثمار الشورى أنها تبعد الأمة من أن يتسلط عليها الظالمون الفجرة، لأن غياب الشورى من الحياة يؤدي إلى الانحراف السياسي والطغيان الاجتماعي ومصادرة حقوق الأمة.(/1)
ومن ثمار الأخذ بمبدأ الشورى في الاختيار والترشيح أن الشخص المنتخب في أي مكان في السلطة التشريعية والتنفيذية أو المحلية يكون قريباً من الناس مهتماً بحوائجهم وشؤونهم ، يعيش همومهم ، لأنه منهم وإليهم، ولأن ولايته وعزله يتم من قبلهم، فمبدأ الشورى يجعل الحكام وكلاء عن الأمة وفي هذا مساعدة لهم على الاستقامة وعدم الخروج على ثوابت الأمة أو التفريط في حقوقها وكنا في الماضي نبرهن على هذا من الواقع الإسلامي، فهذا عمر بن الخطاب يقول لرعيته: إن رأيتم فيَّ اعوجاجاً فقوموني، فقالوا: لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا. وغير ذلك من الصور العظيمة التي تظهر المسئول بأنه أجير عند أمته.
ويؤسفنا اليوم أن نضرب أمثلة من واقع غير المسلمين في بلاد الشرق والغرب، لقد فرغوا من هذه القضية وحسموا أمرها بعد رحلة طويلة من التسلط والاستبداد ، فأي مسؤول إنما هو موظف يخدم شعبه وأمته ، حتى عباد البقر انضموا هم الآخرون لهذا الركب وأصبح لا يرى في الركب قومي وقد عاشوا أئمته سنيناً.
أيها المؤمنون .. أن التاريخ علمنا أن الأمة الإسلامية قد شهدت تراجعاً كبيراً في حياتها الحضارية والسياسية والاجتماعية والعلمية والأدبية والأمنية يوم غاب مبدأ الشورى من حياتها وتسلط عليها حكم الفرد فأردى بها إلى الحضيض.
لقد جعل الإسلام الشورى حقاً من حقوق الأمة لا يحق لأحد أن ينتزعه منها لأن انتزاعه منها هو انتزاع لحريتها وكرامتها، فالشورى ليست هبة من أحد يمنحها للأمة متى شاء ولكنه حق كفله الإسلام للمسلمين، وواجب الأمة أن تكون واعية راشدة لديها القدرة والعزيمة على ممارسة حقوقها، لأن الحرية والكرامة لا تنال بالأحلام أو الأماني والأوهام ولكنها تنزع انتزاعاً، ولقد أحسن من قال:
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
ونحن في هذه البلاد اليمنية ولله الحمد لدينا دستور ولدينا قوانين نظرية تكفل للمواطنين ممارسة حقهم وهذا ما يصرح به كبار المسئولين في الدولة فهم يؤكدون وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية بأن مبدأ الشورى أو ما يسمونه بالديموقراطية ، هو الخيار الوحيد الذي لا مناص من الأخذ به وأن المواطن يختار من يشاء بكامل حريته وإرادته بدون أي ضغط أو تهديد عليه من أحد.
أيها المؤمنون .. إن ما يعيشه الناس وما يشكونه من مظاهر الفقر والظلم والفساد وما نعانيه من انفلات أمني وأخلاقي وغيره .. سببه أعمال الناس السيئة والفاسدة ، فما حلت بنا الكوارث والمصائب ولا تسلط علينا الفجار والظلمة الأشرار إلا بالذنوب والمعاصي ، هذا ما نطقت به الآيات وصرحت به، قال تعالى: ? وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ?[الشورى:30 ].
وقال سبحانه: ? ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ?[الروم:41].
وقال سبحانه: ? أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ?[آل عمران165].
إن هذه الآيات تحمل الأمة مسؤولية التفريط في حقوق الله وحقوق نفسها ومصالحها، إن المجتمعات التي تفسق عن أمر ربها ورسله وتتقاعس عن معالي الأمور وتسقط همتها لا تأمر بمعروف ولا تنهى عن منكر ولا تأخذ على يد الظالم ولا توقفه عند حده يسلط الله عليها عقاباً من عنده ثم يدعوا خيارهم فلا يستجاب لهم.
نسأل الله عز وجل أن يصلح أمورنا وأحوالنا وأن يولي علينا خيارنا وأن يجعلنا سلماً لأوليائه حرباً لأعدائه. اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
الخطبة الثانية:
التفاؤل من الصفات الحميدة التي كان يحبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لأن في التفاؤل انشراح لقلب الإنسان وفيه إحسان الظن بالله وتوقع الخير بما يسمعه من الكلم الصالح الحسن الطيب. ففي سنن أبي داؤود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع كلمة فأعجبته فقال: "أخذنا فألك من فيك"(2).
وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه الفأل الحسن ويكره الطيرة(3)
وفي الصحيح عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا عدوى ولا طيرة ، ويعجبني الفأل ، الكلمة الحسنة والكلمة الطيبة"(4)
وعن بريدة - رضي الله عنه - أن النبي r كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملاً سأل عن اسمه، فإذا أعجبه اسمه فرح به، ورُئي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمه رُئي كراهية ذلك في وجهه، وإذا دخل قرية سأل عن اسمها ، فإن أعجبه اسمها فرح بها ورُئي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمها رُئي ذلك في وجهه.(5)(/2)
وكان - صلى الله عليه وسلم - عليه وسلم يتفاءل في غزواته وحروبه، والإنسان إذا عاش عاملاً متفائلاً فإنه سيجني فوائد عديدة منها أنه يحسن الظن بالله تعالى ، ويجلب السعادة إلى نفسه وقلبه.
وفي التفاؤل ترويح للمؤمن وسرور له، وفيه تقوية للعزائم ومعونة على الظفر وباعث على الجد، وفيه اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأخذ بالأسوة الحسنة.
وانطلاقاً من التفاؤل فإننا ننظر إلى الانتخابات المحلية والتجربة التي أقدمت عليها البلاد من هذا المكان، فإن الناس بين متشائم وبين متقاعس وآيس، ومتفائل وعامل.
دعونا نتفاءل .. ونتصور بأن الناس على مستوى من الوعي والمسئولية وأنهم جادون صادقون في التغيير وإصلاح الأوضاع السيئة المعوجة، دعونا نتفاءل بأن جمهور الناس يتطلعون إلى صناعة غد مشرق خال من الفساد والمفسدين ، وإقامة مجتمع متعاون على بناء الخير وحمايته متعاونون على إنكار الظلم والفساد وإزالته حتى تنعم الأمة بالاستقرار وتستظل كلها بالأمن والرخاء وتحتمي بالحق والعدل فلا تخشَ ظلماً ولا بخساً.
دعونا نتفاءل بأن الناخبين سيكونون على مستوى المسؤولية والأمانة ، فلن يختاروا إلا صاحب الدين والأمانة القوي الأمين الصادق مع الله ومع خلقه، الجريء في الحق المشهود له بالاستقامة وحسن الخلق.
أملنا أن الأمة لن تختار إلا من تراه قادراً على تحمل المسؤولية ممن يخدم الأمة ويتواضع لها ويعيش همومها ومشكلاتها. مناصراً للحق وأهله بعيداً عن الفساد والمفسدين.
إن الأمة إذا فعلت ذلك لا شك أنها ستجني الخير وترسخ للحق وللعدل وتضع الأمور في مكانها الصحيح، وتؤدي الأمانة إلى أهلها كما أراد الله وأمر في قوله الكريم: ? إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ?[النساء:58 ].
أيها الأخوة .. إنما تفسد الأوضاع وتنهار القيم والأخلاق ويفسد الدين والدنيا إذا انعكست الأمور ووضعت في غير مواضعها، حين يكذب الصادق ويصدق الكذوب، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين ويتحكم السفهاء والأراذل في أهل الحكمة والعقول ، وهذا ما تخوف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من وقوعه حين سأله سائل عن الساعة فقال - صلى الله عليه وسلم - "إذا ضيعت الأمانة فاتتظر الساعة، قال وكيف إضاعتها، قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله"(6).
فأحسنوا الاختيار، وضعوا الأمانة في مكانها، واتقوا الله ربكم، وتعاونوا على البر والتقوى، واحرصوا على أخوتكم الإسلامية، وحذارِ من أن يكون التنافس سبباً في التنافر والتناحر وسوء الأخلاق، فإن في ذلك الشر والضرر على ديننا ودنيانا.
راجعه: عبد الحميد أحمد مرشد.
ـ حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة ج 3ص8 رقم الحديث: 1009بلفظ : (الناس ولد آدم ، وآدم من تراب)
ـ سنن أبي داؤود 2/411، حديث رقم : 3917 ، وصححه الألباني.
ـ صححه الألباني في صحيح ابن ماجة ج2 ص 270 رقم الحديث: 2848
ـ صحيح البخاري، ج4 كتاب الطب. باب: لا عدوى. الحديث رقم: 5438 .
ـ صححه الألباني في صحيح أبي داود ج2 ص 742 رقم الحديث3319
ـ صحيح البخاري ج1 كتاب العلم. باب: من سئل علما وهو مشتغل في حديثه، فأتم الحديث ثم أجاب السائل. الحديث رقم: 59(/3)
الحريَّة بين الإسلام والديمقراطيَّة
عبد المنعم مصطفى حليمة 6/5/1423
16/07/2002
لا توجد كلمة تغنّتْ بها الشعوب ، واستهوتها قلوبهم ككلمة " الحرية "!
تنادوا بها في كل وادٍ ونادٍ، وخطبة ومقالٍ و كتاب ، ورفعوها شعاراً ، وجعلوها غاية يرخص في سبيلها كل غالٍ ونفيس !
وفي كثير من الأحيان ينادون بها ولا يعرفون ما الذي يريدونه منها !
إلى أن أصبحت هذه الكلمة ـ لشدة فتنة الناس بها ـ مطيَّة دهاقنة الحكم والسياسة إلى أهدافهم ومآربهم ومصالحهم الخاصة وليصرفوا إليهم وجوه الناس !
وأصبحت الحرية ـ في كثير من الأحيان ـ ذريعة وسبباً لوأد الحرية والحريات، وإعلان الحروب على كثير من الشعوب!
وصوروا أن الديمقراطية هي التي تحقق لهم الحرية، لأنها تقوم عليها .. لذا جعلوا من لوازم مناداتهم بالحرية التنادي بالديمقراطية، وكأن كل واحدة منهما لازمة للأخرى ومؤدية إليها ولا بد ، فمن كان محباً للحرية والتحرر لا بد من أن ينادي بالديمقراطية، ويكون محباً لها والعكس كذلك . وكل من كان عدواً للديمقراطية فهو عدوٌ للحرية .. كما زعموا !!
والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة: هل الديمقراطية ـ كما تمارس في أرقى الدول الغربية ـ فعلاً تحقق الحرية التي يحتاجها ويريدها الإنسان، وترقى به إلى المستوى المطلوب والمنشود من الحرية ؟
وما هي نوعية وصفة وحدود الحرية التي تحققها الديمقراطية للشعوب ؟
وهل الإنسان الأمريكي أو الأوروبي فعلاً حر، وهل الحرية التي يعيشها في بلاده ومجتمعاته فعلاً هي الحرية .. أو منها ؟
وهل الإسلام يتعارض مع مبدأ الحرية ؟ أم يقرها ويدعو إليها؟!
ثم ـ إن كان يقرّها ـ كيف ينظر للحرية ، وكيف يمارسها، وما هو الممنوع منها وما هو المسموح ؟
وهل الحرية التي يريدها الإسلام هي ذات الحرية التي تريدها الديمقراطية ،أم يوجد فارق بينهما ؟!
ثم أيهما أصدق لهجة وواقعاً مع الحرية المنشودة ، الإسلام أم الديمقراطية ؟!
هذه الأسئلة وغيرها تحملنا على المقارنة بين الحرية كما يريدها الإسلام ، وكما مارسها لأكثر من ألفٍ وأربعمئة سنة خلت ، ولا يزال يمارسها ويدعو إليها .. وبين الحرية كما تريدها الديمقراطية، وكما تمارس في أرقى الدول والمجتمعات الديمقراطية المعاصرة؛ لنرى أيهما أجدى نفعاً ، وأصدق لهجة .. وسلامة ، وأقرب للحق والصواب!
فأقول: الحرية في الديمقراطية يقوم بتحديدها وتحديد المسموح منها من الممنوع الإنسان القاصر الضعيف وفق ما تملي عليه أهواؤه ونزواته وشهواته، وهذا يعني أن مساحة الحرية في الديمقراطية تتسع أحياناً وتضيق أحياناً بحسب ما يراه الإنسان المشرِّع في كل يوم أو ظرف، وبحسب ما يظن فيه المصلحة!
وهذا يعني أن الشعوب تكون حقل تجارب، وهي في حالة تغيير وتقلب مستمر مع ما يجوز لهم ومالا يجوز لهم من الحرية ..!
بينما الحرية في الإسلام يقوم بتحديدها، وتحديد المسموح منها من الممنوع ، هو الله –تعالى- وحده، خالق الإنسان، والمنزه عن صفات النقص أو الضعف والعجز، العالم بأحوال عباده وما يُناسبهم وما يحتاجون إليه، وبالتالي فالحرية في الإسلام تمتاز بالثبات والاستقرار، فالذي يجوز من الحرية للإنسان قبل ألف وأربعمئة سنة يجوز له إلى قيام الساعة، فكل امرئٍ يعرف ما له وما عليه، والمساحة التي يمكن أن يتحرك بها كحق وهبه الله له !
كما أنها تمتاز بالحق المطلق والعدالة المطلقة؛ لأنها صادرة عن الله – عز وجل-، وهذا بخلاف الحرية في الديمقراطية الصادرة عن الإنسان الذي يحتمل الوقوع في الظلم والخطأ، والقصور!
الحرية في الديمقراطية يكون الإنسان فيها حراً في دائرة المباحات التي أذن له المشرَّعون من البشر أن يتحرك من خلالها !!
بينما الحرية في الإسلام يكون الإنسان حراً في دائرة المباحات والمسموحات التي أذن الله بها، وأذن لعبده استباحتها والتنعم بها والتحرك فيها!
الحرية في الديمقراطية تحارب وتنكر الشر الذي يتفق عليه المشرعون من البشر بأنه شرٌّ ، وهذا من لوازمه ـ بحكم جهلهم وقصورهم وعجزهم ـ أن يدخلوا كثيراً من الشر في دائرة الخير الجائز والمباح، كما أن من لوازمه أن يدخلوا كثيراً من الخير في دائرة الشر الممنوع والمحظور عقلاً وشرعاً!
فكم من أمر أجازوه تحت عنوان الحرية ثم بعد ذلك يظهر لهم خطؤهم وظلمهم فينقضونه ويمنعونه .. وكذلك كم من أمر يحرمونه ويمنعونه ثم يظهر لهم نفعه .. فيجيزونه ويُبيحونه .. وهذا كله يقلل من قيمة الحرية التي يدّعونها!
بينما الحرية في الإسلام .. تحارب وتنكر الشرَّ الذي حكم الله – تعالى- عليه بأنه شرٌّ .. الذي ما بعده إلا الخير .. وذلك لما ذكرناه آنفاً أن الله – تعالى- منزه عن الخطأ أو الزلل .. فهو لا يجيز إلا الخير والنافع، كما أنه لا يحرم إلا كل شرٍّ وقبيح! فالله – تعالى- جميل يحب الجمال ، وبالتالي فهو لا يُشرِّع إلا الجميل والجمال، فحاشاه سبحانه وتعالى أن يشرع القبيح أو يأذن به !(/1)
ومنه نعلم أن الحرية في الإسلام تتحرك في جميع ميادينها مع الجميل والجمال، وتبتعد كل البعد عن الخبائث والقبائح !
الحرية في الديمقراطية تُعبَّد العبيد للعبيد، فتجعل العبيد منقادين لعبيد ربما يكونون أقل منهم شأناً، يُشرَّعون ويُقنَّنون ويُحرَّمون ويُحلوَّن لهم، وليس على الآخرين إلا الطاعة والاستسلام والانقياد، والخضوع ..!
فأي حرية هذه مع العبودية للمخلوق ؟!
بينما الحرية في الإسلام تعمل على تحرير العباد ـ كل العباد ـ من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد وحده سبحانه وتعالى .
فعبادة العبد لخالقه وحده عزٌّ، وفخر، ورفعة، وشرف ما بعده شرف، بينما عبادته للمخلوق العاجز الضعيف ظلم، وذلّ، وضياع وعذاب ما بعده عذاب!
الحرية في الديمقراطية تُخضع الإنسان لكثير من المؤثرات والضغوط الخارجية التي تفقده كثيراً من حرية الاختيار والتفكير: ضغط الإعلام بجميع فروعه وتخصصاته ووسائله، ضغط إثارة الشهوات ووسائل اللهو بجميع أصنافها وألوانها .. وما أضخمها وضغط الحاجة والسعي الدؤوب وراء الرزق والكسب ، ضغط سحرة الساسة والأحبار والرهبان ومدى تزويرهم للحقائق، وضغط المخدرات والمسكرات المنتشرة في كل مكان، وأخيراً التلويح باستخدام عصا الإرهاب والتهديد الجسدي والمادي لمن يستعصي على جميع تلك الوسائل والضغوطات، ولا يستعصي عليها إلا من رحمه الله .. وقليل ما هم!
فهذه الضغوط والمؤثرات تسلب المرء صفة حرية الاختيار، والتفكير، واتخاذ المواقف التي يريدها ويرضاها بعيداً عن تلك المؤثرات الخارجية المصطنعة التي يصعب الفكاك منها، فتسلبه حريته، وإن زعم بلسانه أو ظهر للآخرين بأنه حر !
لذلك نجد طغاة القوم ومستكبريهم وأحبارهم ورهبانهم، لا يحتاجون إلى مزيد عناء عندما يريدون من شعوبهم أن تسير في اتجاه دون اتجاه ، أو يريدون حملهم على استعداء جهة دون جهة ، أو على اختيار شيء دون شيء ، إذ يكفي لتحقيق ذلك أن يُسلطوا عليهم قليلاً من تلك المؤثرات والضغوطات الآنفة الذكر، ولفترة وجيزة من الوقت!
وهذه الضغوط والمؤثرات هي المعنية من قوله – تعالى-:( وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )(سبأ:33).
ليس مكر الليل وحسب، أو مكر النهار وحسب، بل هو مكر الليل والنهار وعلى مدار الوقت، بحيث لا يُعطى المرء منهم لحظة واحدة يخلد فيها للراحة والهدوء والتفكير .. حتى لا يهتدي إلى الحق، ويعرف أين هو من الصواب !
بينما الحرية في الإسلام تحرر المرء من جميع تلك المؤثرات الخارجية التي تقلل من حريته وحرية اختياره وقراره، وربما تسلبها كلها لتعيد إليه جميع قواه النفسية والجسدية والمعنوية ، وترفع عنه جميع الأغلال والقيود، ثم تقول له بعد ذلك: اختر الذي تريده (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ).
الحرية في الديمقراطية تمر بصاحبها على الجيف المتآكلة، وعلى القبائح وعلى والأمراض وعلى الفساد ، وعلى كل ما يُفسد الذوق الجميل والطبائع السوية، فتجرئه على الشذوذ والاعتداء والإدمان على ذلك!
ومثله كمثل الذي يقود سيارة بلا كوابح، أو ضوابط، أو مراعاة لحقوق طريق أو مار، .. فيصطدم بالجميع .. ويمر على الجميع .. ويعتدي على الجميع!
بينما الحرية في الإسلام ، تمر بصاحبها على كل ما هو جميل أو طيب ، كما أنها لا تسمح له أن يتعدى ذلك، ليمر على الخبائث والجيف والأمراض فتحافظ على سلامة ذوقه، وتفكيره، وصحته، وإيمانه .
ومثله كمثل الذي يقود سيارة بكوابح وضوابط ، ينطلق حيث ينبغي الانطلاق، ويقف حيث ينبغي التوقف، ويُعطي كل ذي حقٍّ حقه من غير إفراطٍ ولا تفريط.
الحرية في الديمقراطية تظهر وكأنها منحة يمُّن بها الإنسان على أخيه الإنسان فيعطيه منها ما يشاء ويسلبها منه متى يشاء!
بينما الحرية في الإسلام حق وهبه الله – تعالى- لعباده، وفطرهم عليه ،لا منة فيه لمخلوق على مخلوق، لا يجوز أن يُسلب أو يُنتقص منه شيء إلا بإذن الله ، وبسلطانٍ بينٍ منه سبحانه وتعالى .. يتجسد هذا المعنى في مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبعض أمرائه:" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ".
هذه هي الحرية في الديمقراطية ، وهذه هي الحرية في الإسلام .. فأي الفريقين أولى بالحرية، والسلامة، والحق ؟(/2)
الحساب
من حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الحياة الدنيا دار اجتهاد وعمل ، وجعل الآخرة دار حساب وجزاء ، يحاسب فيها الناس ، فيجزى المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته ، قال تعالى : { لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } ( إبراهيم:51) ، ففي ذلك اليوم يقف العباد بين يدي ربهم خاضعين أذلاء ، يكلمهم ربهم شفاها من غير ترجمان ، فيسألهم عن الصغير والكبير ، والنقير والقطمير ، مع ما هم عليه من العنت والمشقة ، ومعاينة أهوال ذلك اليوم العظيم ، فياله من موقف ، وياله من مقام تخشع فيه القلوب ، وتنكس فيه الرؤوس ، نسأل الله الثبات حتى الممات .
ويبدأ الحساب بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن الخلق يطول بهم المقام في الموقف ، وينالهم منه تعب وشدة ، فيذهبون إلى الأنبياء ليشفعوا لهم عند ربهم ليقضي بين العباد ، ويبدأ الحساب ، فيأتون آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وكلهم يأبى عليهم ، ويذكر لنفسه ذنباً - إلا عيسى عليه السلام - ويحيل على غيره من الأنبياء ، حتى يحيل عيسى عليه السلام على نبينا صلى الله عليه وسلم ، فيأتي الناس النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها ، أنا لها ، فيشفع صلى الله عليه وسلم إلى ربه ليبدأ الحساب ، وهذا هو المقام المحمود الذي وعده الله إياه .
وتختلف محاسبة الله لعباده تبعاً لأعمالهم في الدنيا ، فقسم لا يحاسبهم الله محاسبة من توزن حسناته وسيئاته وإنما تعد أعمالهم وتحصى عليهم ، ثم يُدْخلون النار، وهؤلاء هم الكفار ، قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً، إلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } ( النساء:168- 169) . وقال أيضا : { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ } (الرحمن:41) .
وقسم يدخلهم الله الجنة بغير حساب ، وهم المؤمنون الموحدون الذين تميزوا عن سائر الأمة بحسن التوكل على الله جل وعلا ، قال صلى الله عليه وسلم : ( يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب . هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون ) متفق عليه . ومعنى لا يسترقون أي : أنه لا يطلبون الرقية من أحد توكلا على الله سبحانه ، وإن كانوا يرقون أنفسهم أو يرقون غيرهم ، ومعنى لا يتطيرون أي: لا يتشاءمون، معنى لا يكتوون: لا يتداوون بالكي لتوكلهم على الله .
وقسمٌ يعرض الله عليهم ذنوبهم عرضاً ويقررهم بها ثم يدخلهم الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: ( يدنوا المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه - ستره - فيقرره بذنوبه، تعرف ذنب كذا ؟ يقول : أعرف ، رب أعرف مرتين ، فيقول : سترتها في الدنيا وأغفرها لك اليوم ، ثم تطوى صحيفة حسناته ) رواه البخاري و مسلم .
وقسم لم يتحدد مصيرهم بعد وهم أصحاب الأعراف ، وهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، فهؤلاء يوقفون على مرتفع بين الجنة والنار ، ثم يدخلهم الله الجنة برحمة منه سبحانه ، قال تعالى : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كلاً بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } ( الأعراف:46) .
وقسم غلبت سيئاتهم حسناتهم فاستحقوا العقاب وهم عصاة المؤمنين، وهؤلاء تحت مشيئة الله سبحانه، إن شاء عفا عنهم ، وإن شاء عذبهم ، ثم يخرج من عُذِّب منهم بالنار بشفاعة الشافعين أو بكرم أرحم الراحمين جلا وعلا ، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً } ( النساء:48 ) .
هذا عن حساب المكلفين من الإنس والجن، أما البهائم فإنها تحاسب ويقتص لبعضها من بعض كما قال صلى الله عليه وسلم: ( لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) رواه مسلم . والشاة الجلحاء هي التي لا قرون لها ، والقرناء هي ذات القرون.
وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من حقوق الله الصلاة ، وأول ما يحاسب عليه من حقوق العباد الدماء ، قال صلى الله عليه وسلم : ( أول ما يحاسب به العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس في الدماء ) رواه النسائي وصححه الألباني .(/1)
والحقوق المتعلقة بالخلق من أشدِّ ما يحاسب عليه العبد بعد الشرك بالله ، وذلك أن العفو عنها مرتبط بالمظلومين أنفسهم ، والناس في ذلك اليوم أحرص ما يكونُ على الحسنات ، لذلك أمر صلى الله عليه وسلم بالتحلل من المظالم في الدنيا قبل أن يكون القصاص بالحسنات والسيئات ، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم . إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ) رواه البخاري .
ومن كمال عدل الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم أنه يحاسب العبد فيقرره بذنوبه، فإن لم يقر أشهد عليه أعضاءه ، فتشهد عليه بما عمل، قال تعالى: { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ( النور:24 ) وتشهد عليه الملائكة الكرام الكاتبون كما ثبت ذلك في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن كمال عدله سبحانه أيضاً أنه يقيم للحساب ميزاناً يزن به أعمال الخلق، حتى يعلم العبد نتيجة حسابه معاينة، فإن الله لا يظلم الناس شيئا، قال تعالى: { وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ } ( الأعراف:8 - 9).
فإذا علم المسلم ما يكون في ذلك اليوم من الحساب والعقاب، وكيفية القصاص في المظالم والسيئات، كان حريَّاً به أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، كما قال عمر رضي الله عنه: " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وتزينوا للعرض الأكبر " نسأل الله عز وجل أن يصلح أعمالنا، وأن يدخلنا الجنة من غير سابق عذاب ولا حساب، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، والحمد لله رب العالمين.(/2)
الحسبة على الحاكم ووسائلها في الشريعة الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وشرع لنا اتباع قدوة الأنام محمد ، عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم أتم الصلاة والسلام ،
وبعد :
فقد وجهت إليّ دعوة كريمة من أمين عام جمعية الإصلاح الإجتماعي ، للمشاركة في ندوة في موضوع الحسبة مع الشيخ الدكتور الفاضل جاسم المهلهل الياسين وعقّب عليها الأستاذ الكبير المستشار سالم البهنساوي ، كما حظي الحضور أيضاً بتعقيب مفيد من الشيخ الداعية أحمد القطان ، والأستاذ المحامي المطوع ، والأستاذ الدكتور عادل حسون ، وذلك ضمن فعاليات أسبوع الشريعة الإسلامية الذي تقيمه – مشكورة – جمعية الإصلاح الإجتماعي سنوياً لتسليط الضوء على قضية تحكيم الشريعة الإسلامية ، تذكيراً بهذا الأصل العظيم الذي فرط في هذا العصر على وجه لم يسبق مثله في تاريخ الأمة قط ، ولتداول الآراء والاستفادة من الخبرات ، وتبادل وجهات النظر .
وكان موضوع الندوة عن الحسبة ودورها في وقاية وحماية المجتمع الآمن ، وقد رأيت أن تكون ورقتي في موضوع الحسبة مقسمة إلى : ثلاثة جوانب :
الجانب الأول : حسبة الدولة على الرعية .
الجانب الثاني : حسبة الرعية على الدولة .
الجانب الثالث : حسبة الرعية على الرعية .
غير أني قد رأيت أيضاً أن أجعل عُظم ما فيها عن حسبة الرعية على الدولة في الفقه الإسلامي ، أو ( الحسبة على الحاكم ووسائلها في الإسلام ) ، وذلك حتى لا يكون حديثي في الندوة مكرراً مع الأستاذين الفاضلين المشاركين ، ثم رأيت بإشارة من بعض الأخوة الكرام – أن أنشر ورقتي المقدمة لأسبوع الشريعة على صفحات ( مشكاة الرأي ) في صحيفة الوطن ، حتى يعلم نفعها ، فأعدت ترتيبها وزدت عليها زيادات مهمة ثم نشرها الدكتور عبد الرزاق الشايجي مشكوراً جزاه الله خيراً على حلقات في مشكاة الرأي في صحيفة الوطن ، ثم ألح كثير من الإخوة أن نعيد نشرها مطبوعة لتصل إلى طلاب العلم ، وها نحن أولاء نجيبهم إلى ما سألوا .
هذا وإني لأعلم أن هذا البحث قد يثير كثراً من الجدال والقيل والقال ، بسبب ما يروجه أولئك الذين يزعمون أن الحاكم في الفقه الإسلامي ليس عليه حسبة ولا رقابة من الأمة ، فله أن يفعل ما يشاء ، ويحكم بالحكم المطلق من كل قيد ، فشابهوا دعوة القائلين بنظرية ( الحق الإلهي ) ، وهو اصطلاح سياسي أطلق على تلك النظرية التي سادت في أوروبا في القرون الوسطى ، إذ كانت الكنيسة تُعطي هذا الحق ، حق الطاعة المطلقة والتصرف المطلق في الرعية لبعض الملوك ، وينزلونهم منزلة الأرباب ، كما وصف الله تعالى شأن ضلال النصارى في القرآن : ( اْتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانْهُمْ أَرْبَاباً مِن دُون اللهِ ) .
وقد زعم هؤلاء المنتسبون إلى العلم الشرعي أن الأمة ليس لها الاعتراض على ما يفعله الحاكم ، وليس في الشريعة الإسلامية وسيلة لتقويمه أو تقييد سلطته البتة ، إلى وسيلة واحدة فحسب ، وهي نُصْحهُ سِراً فقط في أضيق الحدود ولا شيء وراء ذلك البتة ، وهؤلاء أخذوا بنص واحد مختلف في صحة إسناده ولم يفقهوه حق فقهه ، ورجحوه بالإطلاق ـ بلا نظر ولا فقه صحيح ـ على نصوص كثيرة تعارضه معارضة صريحة ، كما ضربوا بعمل فقهاء الملة في مختلف العصور عرض الحائط ، وركب بعضهم مركباً صعباً إذ زعم أن كل من استعمل وسيلة لتقويم الحاكم غير النصح السري فهو خارجي مارق ، أشد على الأمة الإسلامية والملة المحمدية من اليهود والنصارى ، ولا ريب أن من وصل إلى هذه الدرجة من التجني على الفقه الإسلامي ، فإنه يكون ظالما للشريعة الإسلامية رامياً لها بعيب ونقص كبيرين ، وهو مع ذلك يؤيد من حيث يشعر أو لا يشعر العلمانيين الذين يثيرون الشبه على الشريعة الإسلامية برميها بعدم القدرة على مواكبة العصر .
هذا وقد قابل هؤلاء قوم دعوا إلى إهدار قاعدة تحمل أدنى المفاسد خشية الوقوع في أعلاها ، والتي دلت عليها نصوص الشريعة المتظافرة ، ونادوا بأخذ ما في بلاد الغرب وما عند غير المسلمين في هذا العصر من الوسائل السياسية لتقييد السلطة بلا حدود ولا قيود ، متناسين أن الشريعة – على سبيل المثال – قد رجحت الحفاظ على وحدة الأمة ولو على نقص فيها ، على تقويم اعوجاج الحاكم إذا كان تقويمه يؤدي إلى ضرب وحدتها ، وذلك من باب ارتكاب أدنى المفسدين .
وقد حاولت أن أسير بين هاتين السبيلين الجائرتين طريقاً وسطاً ، إذ كان الحق هدى بين ضلالتين ، وحسنة بين سيئتين ، وذلك بحسب ما دلت عليه النصوص مجتمعة ليبين بعضها بعضاً ، لا بأخذ بعض النصوص مقطوعة عن بابها وقواعد الفقه وأصول الشريعة .
وعلى أية حال ، فإني أعلم أن هذا الموضوع في بلادنا العربية كالحرم المحرم ، لا يكاد ينطق فيه أحد بحق إلا ويُجرَّم ، فلا جرم سيثور معه إذا انهدر سيله زبد رابي ، غير أنه سيذهب جفاء ، وسيبقى الحق النافع للناس إن شاء الله تعالى .(/1)
وبعد ، فإني أرحب بالنقد إن كان من ناصح متأدب بآداب البحث العلمي ، لم يأخذ التقليد بتلابيب عقله ، ويرديه في حفرة التعصب الأعمى المقيت ، وسأنقاد بعون الله تعالى وتوفيقه إلى الحق إن تبين ، على أساس من الدليل والبرهان ، لا قول فلان وفلان ، اللهم إلا الإجماع المتيقن وذلك إجماع الصحابة لا من بعدهم من أهل سائر الأزمان .
تمهيد
في بيان أن تحكيم الشريعة الإسلامية في جميع شؤون الحياة
من أصل الدين وأساس عقيدة التوحيد
في أواخر عهد الخلافة العثمانية صدر قانون التجارة عام 1850 م ، نقلاً عن القانون الفرنسي ، فكانت أول نقطة تراجع للشريعة الإسلامية في عقر دار الإسلام ، ثم أعقب ذلك – وثم للتراخي – مرحلة نشاط الخديوي إسماعيل على إثر أولى محاولات تغريب مصر على يد محمد على وأبنائه ، نشاط الخديوي في إحلال القوانين الوضعية محل التشريعات الإسلامية ، ثم تتابعت بعد ذلك مؤامرات تنحية الشريعة الإسلامية شيئاً فشيئاً تزحف على بلاد الإسلام .
وفي أواخر القرن الثالث عشر الهجري وأوائل القرن الرابع عشر الهجري ، ثم ما بعده انفرط العقد فتناثرت حباته ، ونقضت عروة الحكم في بلاد الإسلام ، وهي أول عرى الإسلام تنقض ، كما صح في الحديث المرفوع ، ( تنقض عرى الإسلام عروة عروة فأولها نقضا الحكم وآخرها الصلاة ) .
ومنذ ذلك الحين والأصوات الصادقة لا تكف عن المطالبة بضرورة العودة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية ، وأنها ضرورة لا تحتمل التأخير ولا التهاون و التأجيل.
انطلقت هذه الصيحات من إيمانها بأن الحكم بما أنزل الله تعالى من مقتضى الشهادتين اللتين هما عنوان هذا الدين ، ومن أصل التوحيد الذي يقوم عليه كل دين الإسلام ، ولهذا جعل الله تعالى التحاكم إلى غيره عبادة للطاغوت ، كما قال الحق سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ إلى اْلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ ومَاَ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلى اْلطَّاغُوتِ وَقَدْ أْمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ اْلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلال بَعِيداً ) وجعل الإشراك به في حكمه من الشرك بالله تعالى ، قال تعالى : ( وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) وقرئ ( ولا تُشْرِك في حُكْمِهِ أحداً ) ، وجعل الصدود عن حكم الله من أخص صفات المنافقين كما قال : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى اْلرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُونَ عَنكَ صُدُوداً ) ، ونفي الإيمان عمن لا يحكم ما جاء به الرسول في كل شيء كما قال : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكَّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) وسمى الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى كافراً وظالماً وفاسِقاً ، قال تعالى : ( وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ) وإنما نزلت في اليهود الذين وضعوا تشريعا واحداً بدل حكم الله تعالى ، وهم يعلمون أنهم وضعوه من عند أنفسهم لا من عند الله ، فكيف بمن وضع تشريعاً عاماً وهو يقر أنه اتبع فيه الكفرة الملاحدة أعداء الرسل دون ما أنزل الله تعالى ، وإذا كان الله تعالى قد جعل تغيير حكمه في الأشهر الحرم زيادة في الكفر كما قال تعالى : ( إِنَّمَا النَّسِئُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ) وقد كان في إرجاء أهل الجاهلية الشهر الحرام وإبداله بالحل ليقاتلوا عدوهم فيه ، إذ كانوا يحرمون القتال في الأشهر الحرم تعظيماً لها ، فسمّى الله فعلهم هذا في تغيير وإرجاء حكم الله تعالى في الشهر الحرام ، زيادة في الكفر ، فكيف بمن أرجأ الشريعة كُلها أو جُلها ، وأحل محلها قوانين الكفرة الملاحدة أعداء الرسل والدين ، فإلى أي مدى تبلغ زيادة كفره إذن .
غير أن هذه الأصوات لم تصل إلا إلى شيء واحد فحسب ، هو أن تبقى على ذلك النص التقليدي الذي تصدر بعض دساتير الدول العربية ( دين الدولة الإسلام ، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع ) ، وهو كما قال عبد الحميد متولي متهكماً : ( إن هذا النص لا يترتب عليه أي التزام بتحكيم الشريعة وإنما هو بمثابة تحية كريمة للعقيدة الدينية التي تدين بها الأغلبية أو كفارة تقدمها الدولة لعدم التزام أحكام الشريعة في تشريعاتها ) .
ولا ريب أن هذا النص ما هو إلا أحد الأمثلة على ضروب التناقض التي تعيشها الأمة الإسلامية التي ضلت طريق الهدى بعد نبذ كتاب الله تعالى وأحكامه ، ويعكس مدى الحيرة والتيه الذي صارت إليه .(/2)
ذلك أن معنى الدين هو الخضوع بالطاعة والانقياد ، ومعنى الإسلام الاستسلام لله تعالى ورأس ذلك التسليم لأحكامه كلها بلا استثناء ، قال تعالى : ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، وقال تعالى : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُوُنَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي اْلْحَيَاةِ اْلدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) .
وكما قال تعالى : ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِ النَّاسِ (1) مَلِكِ اْلنَّاس (2) إِلَهِ اْلنَّاسِ (3) ) ، فالرب هو الذي يخلق وينعم ، والملك هو الذي يأمر وينهى ويحكم ، والإله هو المعبود ، فمن أكمل هذه المقامات الثلاثة أتم دين الإسلام كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ( وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد : أن لا يتخذ سواه رباً ، ولا إلهاً ، ولا غيره حكماً ) ( مدارج السالكين 2 / 190 ) .
فالإيمان بالله تعالى والإقرار بدين الإسلام يقتضي ضرورة التحاكم إليه وحده دون سواه ، ومع هذا كله ، فقد صار هذا النص منقوضاً بنفس الدساتير التي تصدره فإنّا لله وإنا إليه راجعون .
العودة إلى الشريعة الإسلامية تقوم على أمرين :
ولا بد إذا أردنا عودة صادقة للشريعة الإسلامية أن نقيم هذا المشروع على أمرين :
1– الأمر الأول : تقريب الفقه الإسلامي ، بحيث يحتوي المسائل العصرية ويستوعب أحكامها ، بصورة واضحة التفاصيل ، حتى لا يكون القانون الوضعي الذي يتميز بالتفصيل والوضوح أدنى إلى المهتمين بهذا المجال من أحكام الشريعة الإسلامية من جهة الفهم والدراسة النظرية والتطبيق العملي .
والسبب في كون أحكام الشريعة لم توضع في مثل صورة القانون الوضعي ، أعني من جهة وضوح التفاصيل المناسبة للمستجدات العصرية وبلغتها ، هو تعطيلها بل محاربتها ، فتباطأت عملية تطوير وسائل تيسير تداولها نظرياً وعملياً ، ولهذا تجدها في كثير من النواحي ، قد بقيت في صنعتها وصيغها ومصطلحاتها الخاصة ، وقد تتطلب جهداً لفهمها .
ومن هنا فقد أخطأ خطأً عظيماً من رجال القانون من وصف بعض النواحي في الفقه الإسلامي ، مثل القانون العام في الشريعة الإسلامية أنه في ( عهد الطفولة ) كما قال عبد الرزاق السنهوري ، ويتردد هذا القول الخاطئ المبني على عدم فهم لطبيعة الفقه الإسلامي ، يتردد بين كثير من المفكرين المتأثرين بالقانون الوضعي .
وهؤلاء يفقدون الموضوعية في منهجية البحث ، عندما يزيحون عامل إبعاد الشريعة الإسلامية عن التطبيق الواقعي مما أبقى خطاباتها العامة ولغتها بعيدة عن فهمهم هُمْ لقصور فيهم ، لا لقصور في الفقه الإسلامي ، ومما أبقى كثيراً من تفاصيل الحياة العصرية المعقدة مدلولاً عليها بالقواعد الكلية للشريعة ، أو بعموم نصوص أو قياس على أشباه ونظائر غير متداولة في هذا العصر ، وهم أمر لا يفهمه إلا الخواص من العلماء .
ولم يمكن – بسبب تعطيلها ومحاربتها – من تيسير ذكرها مفصلة فروعها بوضوح وفي متناول الدارسين ، ولو كان الفقه الإسلامي يطبق في واقع الحياة وسمح له بأن يتطور من جهة وسائله وإلحاق تفاصيله بكلياته ، ويعتني به شرحاً وإيضاحاً وتسهيلاً وتقريباً فِي جوانبه المدنية والجزائية والقانون العام ونحوها ، لصار بحيث من العار أن يقارن به قانون آخر أصلاً ، وهو أيضا في أصله لا يقارن به قانون وضعي ، لأنه من عند الله تعالى العليم الخبير ، هذا مع أنه قد نشطت في الآونة الأخيرة لجان كثيرة عالمية ومحلية للعناية بهذا الأمر ، ونشير هنا إلى جهود مشكورة في هذا المجال المهم للجنة استكمال تطبيق أحكام الشريعة في الكويت .
2 – الأمر الثاني : الذي يقوم عليه مشروع إعادة تحكيم الشريعة – هو : إيمان الحكام بضرورة الشريعة الإسلامية ، وأنها ضرورة عُظمى ، وأنها هي رمز الاعتزاز بهوية الأمة وتميزها ، وأن تركها ليس معه فلاح لهذه الأمة أبداً ، بل ستبقى في التخلف وراء الأمم كما قال تعالى :( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاْتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ اْلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .
الحسبة بمعناها العام تجسيد لمبدأ رقابة الأمة على الحكام
الحسبة هي الاسم الشرعي لإشراك الأمة في مبدأ الرقابة والمحاسبة ، ومن المعلوم أن هذا المبدأ هو أحد ركائز ما يُسمى في هذا العصر بالنظام الديمقراطي، الذي يقوم في الأصل على مبدأ إشراك الأمة ، غير أن هذا النظام باصطلاحه الأصلي يتجاوز بالأمة أيضاً حدوداً لا يجوز تجاوزها عندما يعطيها حق التشريع المطلق ولو حكم الله تعالى .(/3)
أما الفقه الإسلامي قد سبق ما يسمى بالنظام الديمقراطي في محاسنه ، وسَلِمَ من مساوِئِه ، فقد احتوى الفقه الإسلامي على إشراك الأمة في القرار وهو نظام الشورى الذي ورد في القرآن ، وعلى تكليفها بالرقابة على الدولة ، ومتابعة التزامها بـ ( الدستور ) الذي هو الشريعة الإسلامية ، وتقويمها إذا انحرفت عنه ، كما احتوى على تحميل الأمة مهمة النهوض بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع لحمايته من انتشار عوامل ضعفه أو تفككه أو فقدانه هويته بذوبانه في هوية ثقافات أجنبية أخرى ، وقيد كل هذه المهام بأن تكون وفق هداية الله تعالى والتزام شريعته .
منزلية الحسبة في نظام الحكم الإسلامي:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( جميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، سواء في ذلك الحرب الكبرى : مثل نيابة السلطنة ، والصغرى مثل ولاية الشرطة ، وولاية الحكم ، أو ولاية المال وهي ولاية الدواوين المالية ) (مجموع الفتاوى 28 / 66) .
وهذه العبارة تصف بدقة منزلة الحسبة في الإسلام ، فجميع الولايات الإسلامية وجدت لهدف تحقيق الحسبة بمعناها العام ، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا بمعناها الخاص وهو الولاية الخاصة التي تسمى ولاية الحسبة ، وهي التي تختص بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نطاق ضيق محدد .
والدليل على أهمية مكانة الحسبة بمعناها العام ، قوله تعالى : ( اْلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي اْلأَرْضِ أَقَامُواْ اْلصَّلاةَ وَءَاتَوُاْ اْلزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةِ اْلأُمُورِ ) .
ومعلوم أن الصلاة والزكاة من المعروف الذي يأمر به ، فقد جعل الله تعالى في هذه الآية الغاية النهائية من التمكين في الأرض الذي أمر الله به المؤمنين ، وأمر باتخاذ وسائله من الجهاد ونصب الإمام وإقامة الولاية ، هو تحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ولهذا فإن المقصود بالإمامة في الشريعة إقامة الدين ، والدين هو فعل المعروف والأمر به ، وترك المنكر والنهي عنه ، كما قال شيخ الإسلام أيضاً : ( يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين ، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها ) (مجموع الفتاوى 28 /390 ) .
ومعلوم أن الدولة في الإسلام أصل وجودها لتحقيق الحسبة بمعناها العام ، وهي أيضاً أعني الحسبة أمانة في عنق الأمة ، كما قال تعالى : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَونَ عَنِ الْمُنكَرِ ) .
والدولة إذا عطلت هذا الأمر – وهو الأمر الذي نسب إليه نظام الدولة في الإسلام في النصوص التي جاءت بلفظ ( أولى الأمر ) - فقدت أصل مشروعيتها ، بل سبب وجودها الشرعي ، ولهذا جاء في الحديث : ( رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ) ، فـ ( الأمر ) هو الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم المدلول عليه بآية ( اْلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي اْلأرْضِ . . . ) الآية ، ووليه هو القائم عليه الذي يرعاه ويقيمه ، فإن لم يرعه ولم يقمه لم يصلح ولياً له .
والعجب ممن يجعل كل متولٍ على المسلمين بأي شريعة يحكمهم ولي أمر شرعي ، فليت شعري أفلا يتدبر هذا القائل - إن لم يؤت الفقه في الدين – اللفظ الظاهر على أقل تقدير ، فأي ( أمر ) تولاه الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى ، حتى يستحق هذا الإسم ، أهو أمر ( دين الإسلام ) أمر الله ورسوله ، أم أمر المناهج الوضعية والنظم الطاغوتية ، ويا للعجب فبأي شريعة يصح أن يكون متول إقامة الطاغوت حاكماً بين العباد من دون الله تعالى ، ولي أمر المسلمين ، وأي أمر للمسلمين غير دينهم الذي قال الله تعالى عنه مُمتناً عليهم : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ اْلإِسْلاَمَ دِينًا ) وقال : ( وَتَّمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ) ، أي تمت كلمته الشرعية التي تضمنها كتابه المفصل الحاكم بين العابد ، صدقاً في الأخبار ، وعدلاً في الأحكام .
أنواع الحسبة بمفهومها العام :
وبناء على المفهوم الشرعي للحسبة والذي ذكرناه سابقاً ، يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع :
النوع الأول : حسبة الدولة على الرعية :
ومقتضاها أن يكون ضمن مؤسسات الدولة ما يكون اختصاصه حفظ واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمة ، ومراقبة حالة المجتمع ومدى تمثل مبادئ الإسلام فيه ، وقد قدمنا آنفاً ، أن نظام الدولة في حد ذاته في الشريعة الإسلامية ، وسيلة لتحقيق هذا الأمر بمعناه العام .
النوع الثاني : حسبة الرعية على الدولة :(/4)
ولم نقل هنا حسبة الدولة على الدولة ، لأن الحسبة الذاتية لا يمكن الاعتماد عليها في مثل هذه الحالة التي يتعلق بها مصير الأمة والمجتمع ، فلهذا أقامت الشريعة الإسلامية هنا مبدأ الحسبة على الدولة منطلقاً من الأمة ، وحملتها مسؤولية تقييد السلطة بقيد هو احترام الدستور ( الشريعة الإسلامية ) وتقويم الدولة إذا انحرفت عنه .
تقييد السلطة ضرورة اجتماعية وفريضة شرعية :
وتقييد السلطة في الإسلام ضرورة اجتماعية ، وذلك انطلاقاً من حقيقتين اثنتين :
الأولى : أن تولي السلطة واحتكار أدوات القوة والقدرة على استعمال العنف مدعاة إلى الاستبداد ضرورة انقياد الطبيعة البشرية لحب التسلط المركوز فيها ، وهذه الطبيعة وإن كانت يمكن معارضتها بالوازع الذاتي ، غير أنه محجوب في طي القلوب ، ولا يمكن ضمانه أو ضمان استمراره ، فضلاً عن أن باب ارتكاب المحظورات بالتأويل مفتاحه الاستبداد بالرأي ، وهو ملاصق للسلطة المطلقة من القيود ، وهذا الباب قد دخل منه من ظن فيه الاستقامة والمثالية وقوة الوازع الذاتي الذي يفترض أن يمنع من سوء استعمال السلطة إلى ارتكاب عظائم من التعسف في استعمال السلطة باسم الدين ، فإذن تقييد السلطة والحسبة بمعنى الرقابة والمحاسبة الشعبية للسلطة ضرورة اجتماعية .
الثانية : أن تضخم أجهزة الدولة في العصر الحديث وتشعبها إلى مختلف أنشطة الحياة وتملكها إلى جانب استعمال أدوات العنف ( الشرطة ، الأمن ، الجيش ، أجهزة الاستخبارات . . إلخ )، أدوات تمكنها من تشكيل العقول وصياغتها وخداعها ( الإعلام ، التعليم . . إلخ ) وأدوات التحكم في الإنتاج والاقتصاد ومستوى حياة الأفراد المعيشية وقدرتها على زيادة هامش التحكم في المجتمع وزيادة توسيع صلاحياته المركزة وإخضاعه من فوقه بشتى أنواع الإخضاع ، كل هذا يقتضي بالضرورة العقلية والواقعية عدم ترك السلطة التي هذا شأنها بلا قيود ، لأن سوء استعمال السلطة والحالة هذه يؤدي إلى كوارث شاملة ماحقة قد تصل إلى تقويض المجتمع وزواله ، أو تغير جذري في تاريخه ، وكم من أمم ودول زالت وصارت تاريخاً ، بسبب الاستبداد وترك السلطة بلا قيود .
ومن يستقرأ تاريخ الأمم يلحظ بوضوح تلك النقطة البارزة التي كانت وراء الدمار الهائل الذي أصابها في كثير من الأحيان ، وهي نقطة استبداد الدولة ، ومن الأمثلة القريبة النظام الفاشستي الذي تولى كبره موسوليني ، وعرفه بقوله : ( إن المفهوم الفاشستي للدولة مفهوم شامل ، وخارج نطاقه لا وجود لقيم إنسانية أو روحية ، ولا لأي قيمة أخرى ، كثر ذلك أو قل ، وبالنسبة للفاشستية الدولة مطلقة ، والأفراد والمجموعات لا يقبل بهم إلا بقدر ما يتصرفون وفق ما تريده الدولة ) ، وقد اعتبر هذا التفسير الرسمي للفاشستية بمثابة ميثاق عام للشيوعية ، ولا يخفى أن الإنسان لم يكن له أي اعتبار ، ولا لأي قيم روحية أخرى في الأنظمة الاستبدادية التي عملت بهذا المفهوم سواء في بلادنا العربية وغيرها ، وإهدار قيمة الإنسان وحقوقه يعد في حد ذاته ، كارثة لا تدانيها أية كارثة .
ومن الأمثلة على ذلك أيضاً ما لقيته الشعوب الروسية من فرض التجربة الماركسية فرضاً باستبداد الدولة حتى قال: ( يلتسن ) رئيس روسيا الحالي ، واصفاً ما لقيه شعبه ( إن بلادنا ليست محظوظة ، فقد فرض علينا تنفيذ التجربة الماركسية والقدر هو الذي دفع بنا في هذا الاتجاه ، وبدلاً من أن تتم هذه التجربة على دولة ما في أفريقيا مثلاً فقد بدأوا بنا ، وفي النهاية استطعنا إثبات أنه لا مكان لهذه الفكرة ، ولكن بعد أن دفعت بنا بعيداً عن مسار الدول المتحضرة في العالم ، وينعكس علينا هذه اليوم حيث أن 40 / من الشعب يعيش تحت خط الفقر ، فضلاً عن الإهانة المستمرة التي تلحق به وهو يستخدم البطاقات للحصول على احتياجاته ، إنها إهانة مستمرة تذكر المواطن في كل وقت بأنه مجرد عبد في هذه الدولة ) .
ومعلوم أن الإسلام قد جاء بتحصيل المنافع والمصالح ، منافع ومصالح الناس في دينهم ودنياهم بحسب الاستطاعة ، وإلغاء وتفويت المضار والمفاسد في الدين والدنيا بحسب الاستطاعة ، فلا يمكن أن يكون هناك شأن من الشئون ، الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، في حال تفردهم واجتماعهم ، وإلا ويأتي في الإسلام الأمر به والحث عليه ، ولهذا فقد سبق الفقه الإسلامي جميع النظم الوضعية في تقرير هذا المبدأ ، مبدأ تقييد السلطة ، ورقابة الشعب للدولة ، هو حسبة الرعية على الدولة .
وفي هذا الإطار ، نجد جميع الآلات والوسائل التي تستخدمها النظم الحديثة لتحقيق هذا الأمر المهم ، وضمان عدم انحراف الدولة عن مقصودها الأساسي – وهو إدارة وتنظيم أحوال الرعية بحيث تتحقق مصالحهم بحسب نظام الشريعة الإسلامية المطهرة – نجدها منصوص عليها أو مدلول عليها بالأدلة العامة أو القواعد الكلية أو القياس المطرد الصحيح في الشريعة الإسلامية ، وقد مارسها علماء الإسلام قبل النظم الوضعية بقرون .(/5)
غير أن الفقه الإسلامي في نصوصه العامة ومصادره الأصلية – في عامة القضايا المتعلقة بتنظيم الحياة المتغيرة والمتطورة –يوجه نحو المعاني والحقائق العامة ، ويحرك عوامل التفكر والتدبر ، ويدع للإنسان التفريع على القواعد ، حتى يتسنى استيعاب المتغير ، وذلك بخلاف القضايا الثابتة المتعلقة بالعبادات مثلاً ، وهو أيضاً في تلك القضايا الحياتية يربط القانون الإسلامي – وأعني به القواعد الشرعية والأصول العامة – يربطه بأسماء خاصة لها دلالة واضحة على البعد الإيماني بالآخرة ، على سبيل المثال اسم الحسبة واسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك ، لان الفقه الإسلامي يضع عند وضع القوانين الحياة نصب عينيه توجيهها نحو حفظ المبدأ العام في الإسلام وهو أن تكون قضية الإيمان بالله والآخرة أعظم قضية أمام الإنسان ومن هنا فإن الذين يتجاوزون هذه النقطة عند المقارنة بين القوانين الإسلامية والوضعية يفقدون نقطة في غاية الأهمية في منهجية بحث المقارنة نفسه .
وسائل تقييد السلطة في الفقه الإسلامي على أساس مبدأ الحسبة :
وسوف نستعرض بعض الأدلة والنماذج من التاريخ للتأكيد على أن الفقه الإسلامي ، وضع أصول ووسائل تقييد السلطة والحسبة عليها قبل أن تعرفها النظم الوضعية بقرون .
وسأذكر على سبيل المثال أربع وسائل :
الوسيلة الأولى : وسيلة محاسبة أهل العقد والحل للحاكم :
ومن ذلك ما ذكره ابن القيم في أعلام الموقعين (أن عمر رضي الله عنه وقف في الناس وعليه ثوبان فقال : أيها الناس ألا تسمعون ؟ فقال سلمان الفارسي : لا نسمع ، فقال عمر : ولم يا أبا عبدالله ؟ ، قال : إنك قسمت علينا ثوباً ثوباً وعليك ثوبان ، فقال لا تعجل ، يا عبدالله ، يا عبدالله ، فلم يجبه أحد ، فقال يا عبدالله بن عمر ، فقال : لبيك يا أمير المؤمنين , فقال : نشدتك الله الثوب ائتزرت به أهو ثوبك ، قال : نعم ، اللهم نعم ، فقال سلمان : أما الآن فقل نسمع ) (2/180) .
ويبدو لي – بغض النظر عن مدى صحة إسناد هذه القصة حيث لا أعلم درجته من حيث الرواية – لكن استئناساً بنقل العلماء لهذه القصة مقرين لها مستدلين بها على مبدأ محاسبة الحاكم مما يدل على سلامة المبدأ من حيث الجملة علماً بأن الأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر أصلاً ، يبدو لي أنه ليس مقصود ( سلمان ) رضي الله عنه إباحة التمرد على السلطة ، وشق وحدة الأمة بسبب أدنى مخالفة ، بل مقصوده – والله أعلم – الإيماء إلى حقيقة أن الإخلال بالمبادئ من قبل الحاكم سيؤدي إلى إخلال الرعية بالطاعة وهذه قاعدة لا تتخلف قدراً أيضاً ، وذلك من الميزان الذي وضعه الله تعالى وأنزل به الكتاب ، وهذا من عظيم الفقه الذي تميز به سلف هذه الأمة حيث كانوا يعبرون عن المعاني والمفاهيم الكبيرة العظيمة بأوجز الألفاظ أو بالمواقف أحياناً ، وكما قال ذلك الصحابي الجليل لعمر رضي الله عنه لما تعجب من تبليغ المسلمين الأموال العظيمة القدر من الغنائم غير منقوصة بريئة من الخيانة ، فقال له تقريراً للقاعدة السالفة : (عففت يا أمير المؤمنين فعفت الرعية ) .
كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : (ولهذا كان أولوا الأمر هم العلماء والأمراء إذا صلحوا صلح الناس ، وإذا فسدوا فسد الناس ، ولما سألت الأحمسية أبا بكر الصديق ما بقاؤنا على هذه الأمر ، قال : ما استاقمت لكم أئمتكم ) انتهى ، وإنما تعني بـ (الأمر ) استقامة الحال وصلاح الأحوال واجتماع الشمل وانتشار العدل خلاف ما كانوا عليه في الجاهلية ، فبين لها أن ذلك مرهون باستقامة ولاة الأمر ، ولهذا قال من قال من العلماء لو كان لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان ، لأن في صلاحه صلاح الناس ، كما قيل ( الناس على دين ملوكها ) ، وهو أمر معلوم بضرورة العقل وشهادة الواقع والحس ، ومن الخطأ الشائع الظن أن فساد السلطة نتيجة لفساد الرعية ، والعكس أولى بالصواب ، غير أن الرعية تعاقب على سكوتها عن ظلم السلطان ، ورضاها به ، باستدامة ذلك الظلم عليهم جزاء وفاقاً ، ولا يظلم ربك أحداً .
ذلك أن السكوت على ظلم الظالم من أعظم أسباب عقوبة الله تعالى ، وقد ورد فيه حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم )رواه الترمذي وفيه أيضاً حديث الصديق رضي الله عنه مرفوعاً ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) رواه أبو داود والترمذي .
ولهذا ورد في السنة كما في صحيح مسلم أن من الخِلال الحسنة في الروم كونهم أمنع الناس لظلم الملوك ، ولما كانت هذه الخُلة الجميلة فيهم ، لا يكاد يسلط عليهم ظالم من أنفسهم يستبيحهم كما يحدث عند غيرهم .(/6)
كما أن مقصود (سلمان ) رضي الله عنه أيضاً – والله أعلم – الإشارة إلى أن من حق أهل الحل والعقد محاسبة الحاكم ومراقبته على نفقاته ودخله ، وهو ما يسمى هذه الأيام ( الوضع المالي للدولة الذي يشرف عليه ديوان المحاسبة ) ، ولم يعرف التاريخ في ذلك الوقت ، ولا بعده بقرون مديدة ، مثل هذا الوعي السياسي إلا في الفقه الإسلامي ، فليقرأ الذين أعماهم الإعجاب بثقافة الغرب في الناحية السياسية ما في هذا الدين العظيم من تأسيس مبادئ الإصلاح السياسي للمجتمع قبل أن يعرفه العالم بأسره بقرون متطاولة ، بل نجزم بأن ما لدى غير المسلمين من مبادئ السياسة الصحيحة في إصلاح الراعي والرعية ، إنما أخذ من المسلمين بعد احتكاك أوروبا بالثقافة الإسلامية .
ولا ريب أن في التاريخ نماذج كثيرة غير أننا نكتفي بهذا المثال ، ولا ريب أن جميع الوسائل العصرية – حتى لو كانت مقتبسة في الأصل من غير المسلمين – إذا لم تكن محرمة لذاتها وصارت وسيلة لتحقيق مبدأ محاسبة أهل الحل والعقد للحاكم ، لضمان عدم انحراف السلطة ، إنها مشروعة ومطلوبة في الفقه الإسلامي السياسي .
ولعل الشريعة قد أومات إلى هذا المبدأ النافع العظيم ، في فقه الصلاة نفسها ، والتي هي عمود هذا الدين ، ومعلوم أن الصلاة نموذج يشير إلى علاقة السلطة بالرعية ، وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم هذه العلاقة عندما قالوا عن الصديق (اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لِدِيِنِنَا أفلا نختاره لدنيانا ) وقد ذكر غير واحد من العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى تولية الصديق الخلافة ، بتأكيد على توليته إمامة الصلاة ، وذلك من باب القياس والاعتبار .
ثم انك إذا اعتبرت ذلك فقها ، علمت ما أوتيه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم من الفقه العميق ، والنظر الدقيق ، وبيانه أننا وجدنا الإمام في الصلاة ، يليه أولو الأحلام والنهى كما قد صح في الحديث ، وهم بإزاء أهل الحل والعقد في النظام السياسي .
وعلى المأمومون أن يختاروا لإمامتهم أقومهم بأمر الصلاة كما صح في الأحاديث ، وكذلك الأمة تختار للإمامة العظمى أقومها بها بصيرة في الدين وقوة في سياسة الدنيا به ، كما قال تعالى (أُوْلِى الأَيْدِي وَالأَبْصَار ) .
ثم الإمام مقيد بأداء الصلاة كما في الشرع ، ليس له أن يتجاوز ذلك ، وكذلك الإمام في النظام السياسي مقيد بممارسة مهامه وفق الشريعة ليس له أن يتجاوز ذلك ، فإذا بدر من الإمام خطأ في الصلاة نُبِّه على ذلك – علناً لا سراً – ممن يليه وهو مقصود اختيارهم لهذا الموضع ، وذلك لأن الخطأ هنا يتعدى لغيره وليس قاصراً على نفسه حتى يسر إليه بالنصيحة ، وكذلك في النظام السياسي ، يوضع أهل الحل والعقد وراء الإمام لينبهوه إذا أخطأ ، فإن فعل ما يقتضي بطلان الصلاة عامداً فارقه المصلون إذ قد بطلت صلاته ، وكذلك في النظام السياسي إن أبطل الشريعة (دستور الدولة الإسلامية ) .
فهذا بازاء هذا ، وذاك بإزاء ذلك ،( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً )، فتدير عظمة هذا الدين والله الموفق.
الوسيلة الثانية : حرية الكلمة والتعبير عن الرأي :
ومن صورها العصرية حرية الصحافة ، وكالحصانة التي يعطيها المجلس النيابي لأشخاص ينتخبهم الشعب ، ولهم الحق في النقد العلني والمحاسبة والانتقاد لكبح جماح السلطة .
وأصل ذلك في الفقه الإسلامي ضمان بذل النصيحة وبقاؤها حقاً عاماً للرعية لا يجوز مصادرته من قبل السلطة ما دام في دائرة الكلمة الحرة ، كما صح في الحديث عن تميم الداري رضي الله عنه مرفوعاً : ( الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله ، قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) رواه مسلم .
ولهذا وجدنا في الأحاديث أعلى درجات الحض على العمل بهذا المبدأ ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أفضل المسلمين عملاً من ينتقد السلطة إذا جارت كما روى النسائي عن طارق بن شهاب البجلي أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز .. أي الجهاد أفضل ؟ قال : (كلمة حق عند سلطان جائر ) ، وعن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (سيد الشهداء حمزة ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ) رواه الحاكم والضياء في المختارة .
ومعلوم أن الجهاد أفضل متطوع به ، وفي هذا الحديث أن أفضله هو كلمة الحق الناقدة لجور الحاكم .
وليس في هذا ما يقتضي إسراراً لكلمة النقد ، بل هو إلى الحض على إعلانها أقرب ، لأن ما جعلت أفضل الجهاد إلا من أجل أن في الإعلان التعرض لبطش الظالم وفي ذلك أعظم البذل للجهد وارتكاب المشقة في سبيل الله تعالى ، وإما الإسرار فليس فيه في الغالب بذل النفس لأنه ليس مظنة القتل غالباً ، ولأن في ذلك تخويف الحاكم الجائر من تشجيع المجاهر بالإنكار لغيره على الإنكار أيضاً مما يؤدي إلى ارتداعه عن الظلم ، فهي في الحقيقة وسيلة مؤثرة لكبح جماح السلطة وتقييدها .
أمثلة من النقد العلني للحاكم :(/7)
ومن الأمثلة التي ذكرت في التاريخ لقيام العلماء بهذا الواجب المهم ما يلي :
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : (خرجت مخاصراً مروان حتى أتينا المصلى فإذا كثير من الصلت قد بنى منيراً من طين فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرني نحو المنبر ، وأنا أجره نحو الصلاة ، فلما رأيت ذلك منه قلت : أين الابتداء بالصلاة ؟ فقال لا يا أبا سعيد قد ترك ما تعلم ، قلت : كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم ، ثلاث مرات ثم انصرف )رواه مسلم ، وروى أيضاً عنه قال : ( إن أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان فقام إليه رجل فقال الصلاة قبل الخطبة ، فقال : قد ترك ما هنالك ، فقال أبو سعيد : أما هذا فقد قضى ما عليه ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من رأى منكم منكراً فليغيره بيده .. الحديث ) وفي هذين الحديثين أن أبا سعيد أنكر على الوالي وكذلك أنكر ذلك الرجل علناً ، قال النووي : (أو أنه خاف وخاطر بنفسه وذلك جائز بل متسحب ، ويحتمل أن أبا سعيد هَمَّ بالإنكار فبادره الرجل فعضده أبو سعيد ) وقال : ( وأما قوله فقد قضى ما عليه ففيه تصريح بالإنكار أيضاً من أبي سعيد ) (شرح مسلم 2/22) .
وقال الإمام عبدالرحمن بن أبي بكر الحنبلي في كتابه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص201 :(والمقصود انه كان من عادة السلف الإنكار على الأمراء والسلاطين والصدع بالحق وقلة المبالاة بسطوتهم إيثاراً لإقامة حق الله سبحانه على بقائهم واختيارهم لإعزاز الشرع على حفظ مُهَجهم واستسلاماً للشهادة إن حصلت لهم ) وقال : ( يجوز للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يعرض نفسه للضرب والقتل إذا كان لأمره ونهيه تأثير في رفع المنكر أو كسر جاه الفاسق أو تقوية قلوب أهل الدين ) .
ومما ذكر في التاريخ أيضاً في هذا الباب ما ذكره ابن عبدالهادي في العقود الدرية في مناقب ابن تيمية من جملة أشياء تدل على استعماله هذا المبدأ في الحسبة على الدولة ، من ذلك موقفه مع السلطان محمد بن الناصر قلاوون في أول مجلس له بعد رجوع الحكم إليه في محضر أعيان العلماء والكبراء والشيوخ والقضاة والأمراء ، وعرض على السلطان طلب من النصارى بدفع مال زيادة على ما كانوا يدفعون ليؤذن لهم بالعودة إلى ما كانوا يلبسون مثل المسلمين ، فسكت الحاضرون ، فجثا الشيخ على ركبتيه وقال للسلطان : لا تفعل وإني أعيذك أن يكون أول مراسيمك – في أول مجلس لك بعد أن عاد الله إليك الملك ونصرك على عدوك – أن تنصر فيه الكفار وتعزهم من أجل الدنيا الفانية )(1/281) .
ومن ذلك ما ذكره الذهبي في ترجمة أبي بكر النابلسي : قال أبو ذر الحافظ : سجنه بنو عبيد ، وصلبوه على السنة ، سمعت الدارقطني يذكره ويبكي ، ويقول : كان يقول وهو يسلخ : (كان ذلك في الكتاب مسطوراً ) قال أبو الفرج بن الجوزي : أقام جوهر القائد لأبي تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسي ، وكان ينزل الأكواخ فقال له : بلغنا أنك قلت : إذا كان مع الرجل عشرة أسهم ، وجب أن يرمي في الروم سهماً ، وفينا تسعة ، قال : ما قلت هذا ، بل قلت : إذا كان معه عشرة أسهم ، وحب أن يرميكم بتسعة ، و،ن يرمي العاشر فيكم ، أيضاً ، فإنكم غيرتم الملة ، وقتلتم الصالحين ، وادعيتم الإلهية ، فشهره ثم ضربه ، ثم أمر يهودياً فسلخه وقيل. سلخ من مفرق رأسه حتى بلغ الوجه ، فكان يذكر الله ، ويصبر حتى بلغ الصدر ، فرحمه السلاخ فوكزه بالسكين في موضع قلبه فقضى عليه ) (سير أعلام النبلاء 16/148).
ومن ذلك أيضاً ما رواه ابن الجوزي في المنتظم عن الإمام أحمد بن بديل الكوفي وكان قاضياً قال : بعث إلي المعتز رسولاً بعد رسول فلبست عمتي ولبست نعلا طاقاً ، فأتيت بابه فقال الحاجب : يا شيخ ، نعليك ! فلم ألتفت إليه ودخلت الباب الثاني فقال الحاجب نعليك ! فلم ألتفت إليه فدخلت الباب الثالث ، فقال الحاجب : يا شيخ نعليك ! فلم ألتفت إليه ثم قلت : أبالوادي المقدس أنا فأخلع نعلي ؟ فدخلت بنعلي ، فرفع المجلس وجلست على مصلاه ، فقال أتعبناك أبا جعفر ؟ فقلت : أتعبتني وذعرتني ، فقال : ما أردنا إلا الخير ، أردنا أن نسمع العلم ، قلت : ألا جئتني ؟ فإن العلم يؤتى ولا يأتي ، قال نعتب أبا جعفر ، فقلت : خلبتني بحسن أدبك أكتب ما شئت ، فأخذ الكتاب والدواة والقرطاس ، فقلت : أتكتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قرطاس بمداد ؟ قال : فيم أكتب ؟ قلت : في رق بحبر ، فأخذ الكتاب يريد أن يكتب ، فأمليت عليه حديثين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من استرعى رعية فلم يحطها بالنصيحة حرم الله عليه الجنة ، والثاني : ما من أمير يأمر عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً ) (12/140) .(/8)
وبالجملة فالأمثلة كثيرة ، وهى وإن كان بعضها لم تجتمع فيه شروط الصحة من جهة الإسناد ، غير أنه مما لم يعلم كذبه فتجوز روايته تحت أصل صحيح ، ومعلوم أن قيام العلماء بواجب الإنكار العلني على السلطة مع أمن وقوع مفسدة أكبر مستفيض استفاضة تغني عن التفتيش عن إسناد كل خبر على حدة ، والنماذج من تاريخنا كثيرة جداً ، ولهذا قال الإمام عبدالرحمن بن أبي بكر الحنبلي في كتابه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 201 : ( والمقصود أنه كان من عادة السلف الإنكار على الأمراء والسلاطين والصدع بالحق وقلة المبالاة بسطوتهم إيثاراً لإعزاز الشرع على حفظ مهجهم واستسلاماً للشهادة إن حصلت لهم ) .
وأما ما يقرره بعض الباحثين من أن نقد الحاكم الجائر لا يجوز أن يكون إلا سراً في جميع الأحوال ، فليس عليه دليل يقتضي الحصر ، حتى لو سلم صحة حديث عياض بن غنم الذي يدل على بذل النصيحة للسلطان سراً – مع أنه متكلم في إسناده – فإن سبيل الجمع بينه وبين الأحاديث التي تعارضه أن يحمل ما ورد في شأن الإسرار على ما كان من النصيحة في مخالفات الحاكم القاصرة عليه ، وما ورد في الإعلان على المنكر المتعدي كالظلم وإشاعة الفساد ونحو ذلك ، ولم يزل العلماء يوفقون بين النصوص التي يظن بينها تعارض على هذا النحو ، كما قيل في التوفيق بين أحاديث استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة ، ونقض الوضوء بلمس الذكر ، وصلاة المأمومين إذا صلى الإمام جالساً ، وأحاديث نفي العدوى مع الأمر بالفرار من المجذوم ، وما ورد في المخابرة في باب المزارعة ، ونحوها كثير ، وأما إلغاء النصوص التي عضدها عمل الفقهاء وعادة العلماء وتعطيل دلالاتها ، والتمسك بنص واحد دون سواه رضوخاً لضغط الواقع ، ثم تأويل الشرع ليوافقه ، فليس من صنيع أهل الفقه والتحقيق .
الوسيلة الثالثة : الاستفادة من أثر الرأي العام للرقابة على السلطة :
ومن الأمثلة في التاريخ ما رواه ابن الجوزي بإسناده أن المأمون قال : لولا يزيد بن هارون لأظهرت أن القرآن مخلوق فقال بعض جلسائه : يا أمير المؤمنين ، ومن يزيد حتى يُتقى ؟ ، قال ويحك ، إني أخاف أن يرد علي ، فيختلف الناس وتكون فتنة ، وأنا أكره الفتنة ، فقال له الرجل : فأنا أخبر لك ذلك منه ، فقال له : نعم ، قال : فخرج إلى واسط ، فجاء إلى يزيد بن هارون ، فدخل عليه المسجد ، وجلس إليه فقال له : يا أبا خالد إن أمير المؤمنين يقرئك السّلام ويقول لك إني أريد أن أظهر أن القرآن مخلوق فقال : كذبت على أمير المؤمنين ، أمير المؤمنين لا يحمل الناس على ما لا يعرفون ، فإن كنت صادقاً فعد غداً إلى المجلس ، فإذا اجتمع الناس فقل ، قال : فلما كان الغد اجتمع الناس فقام ، فقال : يا أبا خالد ، رضي الله عنك ، إن أمير المؤمنين يقرئك السّلام ويقول لك : ( إني أريد أن أظهر أن القرآن مخلوق ، فما عندك في ذلك ؟ قال : كذبت في ذلك على أمير المؤمنين ، أمير المؤمنين لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه وما لم يقل به أحد ، قال : فقدم فقال : يا أمير المؤمنين ، كنت أنت أعلم ، قال : وكان من القصة كيت وكيت ، فقال له : ويحك ، لعب بك ) ( المنتظم 10/158) .
وقوله : ( أنا أخبر لك ذلك منه ) يقصد به أرى إن كان الإمام يزيد بن هارون سيستعمل قدرته على التأثير على الرأي العام ضد السلطة فيما لو أظهرت هذا القول ، أم سوف يكون إنكاره لها رأياً شخصياً بيننا وبينه فقط أو سوف يُؤثِر السكوت ، أو نحو ذلك مما سيكون تأثيره محدوداً .
وفي هذه القصة أن الإمام يزيد بن هارون أراد أن يبلغ السلطة أنه سوف يستفيد من تأثيره على الرأي العام لتحجيمها ومنعها من استغلال موقعها لفرض آرائها الفكرية الخاطئة ، ولهذا دعا رسول الخليفة أمام الناس ليشهدهم على موقفه ، ويكون في ذلك إشارة واضحة للسلطة لتكف عما تخطط له ، ولم يكتف رحمه الله بذكر ذلك فيما بينه وبين مندوب السلطة خاصة ، وهو يدل على قيام العلماء في ذلك الزمان برسالتهم ووعيهم الوسائل الكفيلة بتحقيق أهدافها .
وقد روى لنا التاريخ أيضاً هذه القصة الطريفة :(/9)
جاء في حسن المحاضرة : ( أنه كان بمصر مغنية تدعى عجيبة ، أولع بها الملك الكامل ، فكانت تحضر إليه ليلاً ، وتغنيه في مجلس ابن شيخ الشيوخ وغيره ، فاتفقت قضية شهد فيها الملك الكامل عنده ، وهو في دست ملكه ، فقال القاضي عبد الله بن الصفراوي الملقب بعين الدولة ، هذا السلطان يأمر ، ولا يشهد ، فأعاد عليه القول ، فلما زاد الأمر ، وفهم السلطان أنه لا يقبل شهادته ، قال : أنا أشهد ، تقبلني أم لا ؟ فقال القاضي : لا ، ما أقبلك وعجيبة تطلع إليك كل ليلة ، وتنزل ثاني يوم بكره ، وهي تتمايل سكرى على أيدي الجواري ، وينزل ابن الشيخ من عندك ، فقال له السلطان : يا كبواج ! وهي كلمة شتم بالفارسية ، فقال القاضي : ما في الشرع يا كبواج ! اشهدوا عليّ أني قد عزلت نفسي ، ونهض ، فقام ابن الشيخ إلى الملك الكامل ، فقال له : المصلحة إعادته ، لئلا يقال لأي شيء عزل القاضي نفسه ، وتطير الأخبار إلى بغداد ، ويشيع أمر عجيبة ، فنهض الكامل إلى القاضي وترضاه ) عن حاشية كتاب رفع الصر لمحققه 2/302، ويستفاد من القصة أن القاضي استعمل أثر الرأي العام لتحجيم السلطة ومنعها من التدخل في القضاء والتعسف في استعمال موقعها لإضاعة حقوق العباد ، ويمكن أن يستفاد من هذه القصة استعمال وسيلة الإضراب عن العمل للضغط على السلطة بغية إلزامها بالحق وعدم التدخل للتأثير على القضاء ضد الشريعة .
وفي الجملة فالأمثلة كثيرة ، وعلماء الإسلام لم يغفلوا عن أي وسيلة تمكنهم من منع السلطة من التعسف في استعمال أدواتها للالتفاف على الشريعة الإسلامية التي تمثل ثوابت الأمة التي لا تقبل الالتفاف عليها بوجه من الوجوه ، لأن كيان الأمة أصلاً مبني على إقامة الشريعة الإسلامية وبدونها تضيع هويتها وتسلب مكانتها وتتهاوى هيبتها .
الوسيلة الرابعة : وسيلة استعمال جماعات الضغط في المجتمع :
والمقصود بهذه الوسيلة أن تستغل جماعات الضغط ( وهي التكتلات التي تخشى السلطة من ردة فعلها إذا تعدت السلطة صلاحياتها أو قصرت في واجبها ، ويكون لهذه التكتلات التي توجد في كل مجتمع قدرة على التأثير في السلطة ، وربما كانت هذه التكتلات أحزاباً فكرية أو جبهة من العلماء الذين لهم ما يسمى هذه الأيام ( سلطة روحية ) على الشعب وقد تكون منافسة لسلطة الدولة ، وربما كانت أقوى من سلطة الدولة في بعض الأحيان ، أو طوائف مهنية أو مذهبية .. الخ ) تستغل جماعات الضغط موقعها للرقابة وتقييد السلطة ، وقد ورد في التاريخ الإسلامي كثير من النماذج التي تدل على وعي العلماء بأهمية هذه الوسيلة للرقابة على الحكام والقيام بواجب الحسبة عليهم :
فمن ذلك :
ما ذكره ابن الجوزي في المنتظم قال في حوادث سنة 464هـ ، قال : ( وفي جمادى الآخرة لقي أبو سعد بن أبي عمامة مغنية قد خرجت من عند تركي بنهر طابق فقبض على عودها وقطع أوتاره ، فعادت إلى التركي فأخبرته ، فبعث التركي إليه من كبس داره وأفلت ، وعبر إلى الحريم إلى بن أبي موسى الهاشمي شاكياً ما لقي ، واجتمع الحنابلة في جامع القصر من الغد فأقاموا فيه مستغيثين ، وأدخلوا معهم الشيخ أبا إسحاق الشيرازي وأصحابه ، وطلبوا قلع المواخير وتتبع المفسدات ومن يبيع النبيذ وضرب دراهم المعاملة بها عوض القراضة ، فتقدم أمير المؤمنين بذلك ، فهرب المفسدات ، وكبست الدور ، وارتفعت الأنبذة ، ووعد بقلع المواخير ومكاتبة عضد الدولة برفعها ، والتقدم بضرب دراهم يتعامل بها ، فلم يقتنع أقوام منهم بالوعد ، وأظهر أبو إسحاق الخروج من البلد فروسل برسالة سكتته ) (16/139) .
ويستفاد من هذه الحادثة عناية العلماء برسالة الإصلاح في المجتمع ، سواء كانت إصلاح الأخلاق أو الاقتصاد كما يدل على ذلك تقدمهم بإصلاح نظام النقد ، كما يستفاد منها تعاون العلماء والمصلحين فيما يتفقون عليه – بالرغم من الخلاف المشهور بين الحنابلة والشافعية – لتحقيق المصلحة العامة للإسلام ، واستعمالهم وسيلة الاعتصام إذا أمنت الفتنة والمفسدة الراجحة ، وحققت مصلحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
هذا وقد سألت – دحضاً لمن يزعم الإجماع على تحريم هذه الوسيلة مع أن الإجماع بعد العصر الأول متعذر أصلاً – الشيخ العلامة الفقيه محمد بن سليمان الأشقر في شهر جمادى الآخرة 1419هـ في مجلسنا أثناء دعوة شرفنا بقبولها أثناء زيارته للكويت لحضور مؤتمر الطب الإسلامي ، وسجل في شريط أصدره مركز صوت الحق الإسلامي بعنوان : (صوت الحق مع الشيخ محمد الأشقر ) ، عن استعمال هذه الوسيلة لتحقيق مصالح شرعية إذا كانت الأحوال المقترنة بها ترجح منفعتها على المفسدة ، وأنقل هنا نص الحوار مختصراً ، استئناساً برأي هذا الفقيه الكبير .(/10)
السؤال :( هنا سؤال حدث بسببه خلاف في الكويت ونطرحه عليكم ، أحياناً تكون الدعوة الإسلامية في بلد ذي نظام فيه ما يسمى (مؤسسات ديمقراطية ) وما يسمى معارضة وحرية صحافة وحرية التعبير عن الرأي .... وبعض الناس يقول يجوز للمسلمين أن يعبروا عن آرائهم بطرق الاحتجاج التي يسمح بها النظام ، إذا كانوا اتحاد عمال أو نقابة مثلاً ، ينظمون أحزاباً حسب النظام للتعبير عن المطالبة بحقوقهم وأن هناك فرق بين الوجود في هذا النظام والوجود في نظام الحكم الإسلامي وأن الأحكام تختلف باعتبار تعارض المصالح والمفاسد ، مثل عندنا في الكويت الصحافة حرة ، لها انتقاد الوزراء علناً وتنتقد الحكومة علناً ويوجد عندنا اتحادات ونقابات لها الحق أن تعترض وتطال بالحقوق عبر قنوات محددة مثل تنظيم إضراب ، وبعض الناس من اعترض وقال إنه تشبه بالكفار ، وهو أن تستعمل النقابة أو الاتحاد لتنظيم إضراب لتطالب بحقوق العمال أو اتحاد طلبة مثلاً ينظم إضراب أو اعتصام ببعض الحقوق أو يعترض على بعض القوانين ؟) .
قال الشيخ : ما هو الإشكال ، ولماذا يسمى عمل الكفار ؟
قلت : يقولون إنه تشبه بالكفار ، فهم الذين جاءوا بهذا النظام الديمقراطي .
قال : وليكن ؟ ماذا في ذلك ؟ إذا أتيح لنا أن نبين الحق من الباطل وننتقد ، هل يكون من عمل الكفار .
قلت : من جهة أخرى يقولون إن هذا الحاكم يجب أن ينصح سراً ، أنت ليس لك الحق أن تظهر مثلاً تجمهر؟
قال : لكن الحاكم قبل بذلك ، يقول نحن دولة ديمقراطية انتقدوني ما شئتم .
قلت : يقولون : هو قابل بخلاف الشرع ، المفروض أنه لا يقبل ( ضحك من الحضور والشيخ ) .
وقال: والله لست أفهم !!
وقلت : يعني مثلاً نظم اتحاد الطلبة اعتصاماً سلمياً للمطالبة بتعديل بعض نظام المقررات مثلاً ، يجتمعون في ساحة الكلية ويخطب بعضهم ويرفعون بياناً للمطالبة ؟
قال : ما المانع من هذا ؟
قلت : هم يقولون : فليذهب شخص واحد للمسؤول وينصحه سراً هذا هو منهج السلف؟
قال : ليس بصحيح أنه منهج السلف ، ذلك في أمور فيها غض على فاعلها ، مثل أن يرتكب جريمة أو يشرب خمراً ، فهذا أنصحه بيني وبينه ، لئلا أفضحه ، أما هذه الأمور الظاهرة فليس فيها فضيحة ، فنحن عندما يخطئ الإمام ( يعني في الصلاة ) ألسنا ننصحه على رؤوس الأشهاد ، لكن لو كان في أمور فيها غض منه ، مثل لو ذكر علانية فيه فضيحة فلا .
قلت : الاحتجاج بأن الشيء لم يكن في عصر السلف ، فإذن هو حرام ، هل هي حجة سليمة ؟
قال : لا ليست هذه القاعدة سليمة على إطلاقها .
ثم سأل بعض الحاضرين هذا السؤال : لكن أليست المظاهرات بذرة صغيرة للخروج على الحاكم وتهييج العامة البسطاء الذين لا عقول لهم وزجهم بمظاهرة .
قال : المظاهرة إذا كان يخشى منها وجود ناس يريدون استغلالها ، طبعاً سد الذرائع هذا مطلوب ، لكن طلبة الجامعة يعلمون أنهم لا يريدون فعل شيء ، يقولون : ننظم اعتصاماً ونكتب عريضة ونرفعها ونذهب إلى الدراسة .
قال السائل : الاعتصام قد يكون سلمياً لكن المظاهرة قد تكون غوغائية ؟
قال الشيخ : المظاهرات قد تكون مسيرات أحياناً ، تكون في بلاد تنظمها وتعتني بها ولا تدع مجالاً للفوضى ، لكن إذا كان يخشى أن تتطور إلى أضرار ونحو ذلك لا تعمل ، الأمور تقدر بقدرها ، وسد الذرائع تقدر بقدرها ، ليس بأكثر من قدرها .
قال السائل : إن كانت سلمية تجوز ؟
قال الشيخ : إذا كانت سلمية وجربت وما حصل شيء وعرف أن أهل هذه المنطقة أنهم مسالمون ، أما إذا يخشى منه نتركه .
السائل : يقال أن السلمية قد يندس فيها رجل مخرب ثم يفجر داخلها .
قال : وحتى الناس في بيوتهم ، لو نحن جالسون وواحد فعل شيئاً هل يعني لا أحد يجتمع !
تعقيب من أحد الحضور : وقد يقع ذلك في المسجد .
قال الشيخ : نعم والمسجد .
قلت سائلاً : هل يجوز استعمالها كوسائل للدعوة إذا كانت نافعة مثل بعض الدول إذا لم يقوموا بمظاهرات تهضم حقوقهم مثل ما سمعنا في الهند أو غيرها ؟
قال : لا شيء في ذلك ، هذه وسائل ، والوسائل بابها واسع ، الوسيلة التي تؤدي إلى خير ، هي خير ، والتي تؤدي إلى شر شر .
قلت سائلاً : يقولون توقيفية ؟
قال ( لا ليس بصحيح ، التضييق لهذه الدرجة لا يصح ، عندما نقول الأمور التي ليست على عهد السلف هذا في أمور العبادات أما أمور الدنيا هذه لا نهاية لها ..) انتهى المقصود نقله من الشريط ، وليرجع القارئ إلى المصدر في مركز صوت الحق .(/11)
هذا وقد منع بعض المعاصرين استعمال هذه الوسائل العصرية التي تسمى وسائل الاحتجاج السلمي كالإضراب والاعتصام والمسيرة السلمية مطلقاً ، وقبل أن ننقد هذا الرأي الذي نراه مجانباً للصواب من جهة إطلاقه ، نذكر قاعدة اتفق عليها العلماء ، وحاصلها أنه لا يصح في مناهج أهل التحقيق الخوض في الأحكام الشرعية ، قبل تفصيل القول في الألقاب والأسماء التي تتعلق بها هذه الأحكام ، وتبيين ما كان منها من مجمل يحتمل عدة معان حتى لا تشتبه الأحكام المختلفة ، لاشتباه معاني متعلقاتها .
فعلى سبيل المثال لفظ المظاهرات ، قد حدث فيه اشتباه بسبب الإجمال ، فهو ربما أطلق وأريد به إثارة الشغب والفوضى والفساد ، وغالب ما يتبادر إلى ذهن العامة هذا المعنى ، ويطلق ويراد به أي صورة من صور التجمهر ولو لم يكن فيه غير الاعتصام في موضع معين ، ويطلق ويراد به اجتماع الناس لسماع الخطب وما يسمى هذه الأيام المهرجان الخطابي ، ويطلق ويراد به ما يسمى المسيرة السلمية وهي أن يخرج الناس يسيرون بأعداد كبيرة للاحتجاج على أمر ما أو المطالبة بأمر ما ، وقد تكون على صورة اتباع جنازة يتعمد متبعوها أن يسار بها علناً لمسافة طويلة ويحشد لاتباعها عدد كبير من المشيعين في رسالة احتجاج تتعلق بحدث اقترن بهذه الجنازة ، وكل هذه الصور قد تحدث بإذن السلطات أو بغير ذلك ، بل قد تكون بأمر السلطات ، وقد تحدث في بلاد الإسلام تحت إمامة شرعية ، وقد لا تكون كذلك ، بل تكون في أرض العدو الذي لا يمكن قتاله بالسلاح كما في فلسطين ، أو في بلاد الكفار الذين اعتادوا على ذلك وسمحوا به مثل بلاد الغرب .
وقد تصاحبها المنكرات كاختلاط الرجال والنساء لأنها مما لا يمكن السيطرة عليها ، وقد يترتب عليها مفسدة راجحة ، وقد يحدث الضد ، فيترتب عليها مصالح عظيمة للدعوة .
وبعضها يقصد به إثارة الشغب والفوضى ويستعمل فيها العنف – كما أشرنا- لإسقاط النظام إو إسقاط الثقة به ليؤدي إلى الثورة ضده .
وغالبها يقصد بها استحثاث وسائل الإعلام ، لاستدعاء الرأي العام العالمي أو المحلي لقضية يرى أصحابها أنها لا تحظى بالاهتمام المطلوب الذي يتوقع أن يؤدي إلى حلها ، وغالباً ما يحدث هذا النوع في الأنظمة التي تسمح بوسائل الاحتجاج السلمية مثل الكويت ، فقد نصت المادة 44 من دستورها على ذلك صراحة .
والمقصود أن هذه صور مختلفة جداً ولا يجوز البتة في النظر الفقهي الصحيح أن يطلق حكم واحد على جميع ما يحتمله اللفظ العام من الصور والمعاني مع اختلاف أحوالها، إذا كان مناط التحريم أو الإباحة يختلف باختلاف تلك الصور .
ولا أريد أن أتعرض هنا لمظاهرات العنف فإن تحريمها ما لم تكن ضد عدو في أرض حرب مثل الأرض المحتلة في فلسطين وما يشبهها ، وما في حكمها مثل الخروج على الحاكم الكافر ، وتحريمها واضح لا يحتاج إلى بيان ، وإنما المقصود مناقشة من يحرمها مطلقاً وان كانت سلمية مقصدها إعلامي يهدف إلى ممارسة الضغط المعنوي فحسب .
هذا وقد سلك المحرِّمون لهذه الوسائل وإن كانت سلمية يسمح بها النظام ثلاث طرق :
الأولى : دخولها في عموم النصوص المحرمة للتشبه بالكفار .
الثانية : دخولها في عموم النصوص المحرمة للإحداث في الدين لأنها لم توجد في العصر الأول .
الثالثة : الاحتجاج بقاعدة سد الذرائع ، إذ هذه الوسائل ذريعة لوقوع منكر أكبر مما يراد إزالته بها غالبا ، ومعلوم أن الحكم إنما يعلق على غالب الأحوال لأنه مثار غالب الظن الذي تنبني عليه أحكام الفروع .
أما الطريق الأولى : فالاحتجاج بها ضرب من الغفلة عند أهل التحقيق ذلك أن الوسائل والصناعات والعادات المحضة ونحوها ، إذا عمت في الناس يفعلها المسلمون والكفار ، ولم تختص بالكفار بحيث تصير شعاراً لهم خاصة دون غيرهم ، فإنها لا تدخل في تحريم التشبه بالكفار إذ لا يتحقق فيها هذا المعنى ، ولا يصدق عليها اللفظ والمبنى .
فالوسائل – ما لم تكن محرمة بعينها أو صارت شعاراً للكفار دون سواهم – فلا بأس من الاستفادة منها في مقاصد الشريعة ، كما أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في النفع الذي يفعله المسلم والكافر كالبناء والخياطة والنسيج والصناعة ونحو ذلك أنه يجوز أخذه من غير المسلم , ينظر الفتاوى 30/206 ، وذكر أنه لهذا أجاز المسلمون استعمال القوس الفارسية بعد فتح فارس في عهد عمر رضي الله عنه لأنهم وجدوها أفضل من العربية ، وكذلك كان الصحابة ومن بعدهم من المسلمين يلبسون الملابس التي وردت من بلاد الكفار ، وقد استفادوا بعد الفتح بعض التنظيمات الإدارية من الكفار ، ينظر التفسير الكبير لابن تيميه 7/547 ،548 وينظر أيضاً مجموع الفتاوى 31/85 .(/12)
ومعلوم أن الصناعات والتنظيمات الإدارية – على سبيل المثال – التي أنشأها غير المسلمين ، قد تصير وسائل لإنكار المنكر والدعوة إلى الله تعالى ، وفي هذا العصر تداخلت الوسائل الإدارية والمادية التي تنظم شؤون الناس بصورة لم يسبق لها مثيل ، ولا يكاد شيء منها يختص بجنس من البشر حتى يقال أنه من عمل الكفار دون المسلمين ، ولهذا تجد المانعين لمثل هذه الوسائل ( المظاهرات السلمية ونحوها ) محتجين بأنها تشبه بالكفار لابد أن يتناقضوا تناقضاً بيناً ، فهم يستعملون من الوسائل الحادثة ما لا يعد كثرة حتى ما ورد في أصله التحريم مثل التصوير ونحو ذلك ويجيزونه في بعض وسائل الدعوة ، بل ما يسمى فن الصحافة إنما نشأ في بلاد الكفار ثم عم في الناس ، وسائر وسائل الإعلام وفنونه التي أضحت اليوم من أهم وسائل الدعوة ، يستعملون هذه الوسائل الحادثة التي اخترعها غير المسلمين وانتشرت فيهم قبل أن تصل إلى بلاد الإسلام ، ثّمَّ يحرمون وسائل الاحتجاج في العمل النقابي لأنها من بلاد الكفار فتأمل هذا التناقص العجيب .
فضلاً عن استعمال بعض هؤلاء المتناقضين الذين يحرمون الشيء ، ويبيحون لأنفسهم نظيره ، النظم الإدارية التي أحدثها غير المسلمين ، حتى تنظيماتهم الدعوية وما تستدعي من نظم داخلية ، وبعض هؤلاء المتناقضين يستبيح لنفسه طلب علوم الشرع في بلاد الكفرة وفي جامعات النصارى لِيُزَكُّوُهُ في علم شريعة الإسلام !! وبعضهم لا يرى غضاضة في دراسة الشريعة بنظام الماجستير والدكتوراه وهو في الأصل نظام أحدثه غير المسلمين ، وغيرهم يرى وجوب دخول البرلمانات التي هي أوروبية المنشأ ، وغير ذلك من الصور ما لا يحصى ، والصواب أن هذا كله داخل فيما يباح بالبراءة الأصلية ، فإن صار وسيلة لخير أو شر دخل في قاعدة الوسائل لها حكم المقاصد ، وإنما لم تدخل هذه الوسائل في عموم النهي عن التشبه بالكفار لأنها ليست شعاراً لهم ولا مختصة بهم ، بل عامة في الناس يفعلها المسلم والكافر في جميع بقاع الأرض وقد صارت من جنس الصناعات ، وما كان مختصاً بهم قد يجوز للضرورة أو لارتكاب أخف الضررين أيضاً .
هذا مع أنه لا يسلم البتة – كما سيأتي بيانه بالأدلة والوقائع التاريخية – أن هذه الوسائل الاحتجاجية السلمية لم يعرفها المسلمون في تاريخهم ، بل هو خطأ محض لا يقوله من يعرف التاريخ الإسلامي، ولا من تأمل في سنن الحياة ، إذ لا معنى لاختصاص الكفار بأمر يتولد من النظام الاجتماعي نفسه , وتستدعيه نفس طبائع آدم في اجتماعهم .
الطريقة الثانية : التي اعتمد عليها من حرم المظاهرات وغيرها من الوسائل السلمية في الاحتجاج أو التعبير عن الرأي هي دخولها في عموم النصوص الناهية عن الإحداث في الدين لأنها لم تكن في العصر الأول ، ولنا مسلكان في إبطال هذه الطرق :
الأول : إبطال الحجة من رأسها ببيان أن الوسائل العصرية التي يتوصل بها إلى الدعوة وإنكار المنكرات لا تدخل في الإحداث في الدين .
الثاني : بيان أن هذه الوسائل كانت في العصور الأولى بل نص عليها بعض الأئمة ، واشتهرت ولم تنكر ، فدل على أنها ليست محدثة أصلاً .
أما المسلك الأول : فحاصله إن الإحداث في الدين يقصد به عند العلماء التقرب إلى الله تعالى بعبادة لم يشرعها ، وهي البدع التي عَظُمَ نكِيْرُ السلف على فاعلها والتحذير منها ، حتى عدّوها أشد خطراً من الكبائر ، وهي نوعان : أصلية وهي إحداث عبادة ليست مشروعة أصلاً مثل إقامة المناحات في ذكرى موت الصالحين والمولد ونحو ذلك ، وإضافية مثل تخصيص فضل لمكان أو زمان أو هيئة في عبادة مشروعة في الأصل ، لكن بلا دليل على التخصيص مثل تعيين فضل للدعاء عند قبور الصالحين أو الذكر الجماعي على هيئة معينة وإن كان الدعاء والذكر مشروعين بالأصل .
أما الوسائل التي يتوصل بها لأداء الواجب المطلق – وهو الذي لم يأت الشرع بتحديد كيفية أدائه على صورة مخصوصة مثل الجهاد وقيام الإمامة بإصلاح شؤون الرعية ، والدعوة إلى الله تعالى ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإحسان إلى الناس وبر الوالدين ونحو ذلك – أو التي تتعلق بالعبادة تعلق الوسائل فحسب ، فلا تدخل في الإحداث في الدين ، لأنها لا يقصد بها التقرب بها بخصوصها وإنما تستعمل لأداء الواجب أو غيره من باب الوسائل ، فلو تغير الزمان أو المكان تغيرت ، فهي غير مقصوده لذاتها .(/13)
وفي هذا الباب أمثلة كثيرة ، ففي أحكام الأذان مثلاً : استعمال مكبرات الصوت ورفعها على المآذن لإسماع الناس بعد أن علت الدُور وتباعدت واحتيج إلى تبليغ الصوت ، وفي الصلاة : مثل استعمال البوصلة الحديثة لمعرفة القبلة ، وكما وضعت خطوط قوسيّة مؤخراً في المسجد الحرام يستدل بها الذي لا يرى الكعبة على اتجاه القبلة لأنه يجب عليه استقبال عينها في المسجد الحرام ، وفي الزكاة : حسابها بالوسائل العصرية وإخراجها بها مثل الخصم الحسابي بالأقساط قبل الحول شهريا تيسيراً على مخرجها ، لأنه يجوز تعجيل إخراجها على الصحيح ، وفي الحج : مثل إنشاء الطابق الثاني في المسجد الحرام للطواف والسعي ورمي الجمرات ، وفي الجهاد : مثل وسائل الجهاد العصرية التي لم تكن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كوسائل الاستخبارات العسكرية المتطورة والسلاح ، ونظم إدارة الجيوش ومراتب الجند ونحوها للقيام بالجهاد في أكمل صوره .
وفي باب الدعوة إلى الله تعالى : مثل استعمال الإعلام والصحافة واضطرار الدعاة أحياناً إلى استعمال الصور لإيضاح أحوال المسلمين واستحثاث الناس لإعانتهم ، وفي طلب العلم الشرعي : مثل مسابقات تحفيظ القرآن وغيرها مما يقصد به حث الناس على العلم الشرعي ، ومثل جعل طلب العلوم الشرعية على نظام الكليات الحديثة والطرق العصرية التي لم تعرف في العصر الأول ، وفي إنكار المنكرات : قد أفتى أجلة العلماء بجواز دخول الدعاة المجالس النيابية في البلاد التي تجعل للشعب سلطة الرقابة على النظام ومحاسبته وتشرك الشعب في اتخاذ القرارات ، وإنما يتحقق ذلك بالتصويت والانتخابات العصرية ، وكذلك دخول نقابات العمال واتحادات الطلبة ونحوها ، وكلها وسائل حادثة يقصد بها تحقيق مقاصد الدعوة الإسلامية ، وكذلك الوسائل العصرية في مكافحة الجريمة ، وتتبع المجرمين وكشفهم وهو من باب إنكار المنكر المأمور به شرعاً ويدخل في هذه البصمات اليدوية والوراثية وأحماض الدم وحتى الكلاب البوليسية ، وغيرها من الوسائل الحديثة في مكافحة الجريمة ، ومعلوم أن مكافحة الجريمة من إنكار المنكر ، بل ولاية الدولة كلها إنما المقصود بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما بينا .
والأمثلة لا تحصى في هذا الباب ، وكل هذه الوسائل لم تكن في العصر الأول ، وكل ذلك لا يدخل في الإحداث في الدين ، ولا يفتي بذلك من يعرف مقاصد الشريعة ولا من يعلم قواعد الفقه وأصوله التي تنبني عليها الأحكام ، ولهذا يفرق العلماء بين ابتداع ذكر على هيئة مخصوصة لم تشرع وبأذكار مخترعة لم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو السماع الصوفي ، ويجعلون كل ذلك بدعة ، وبين استعمال وسيلة السبحة لِعَد الأذكار المشروعة والواردة في السنة ، ولشيخ الإسلام فتوى مشهورة بإباحة السبحة لأنها من باب الوسائل ، وإن كان في ذلك خلاف مشهور لكن المقصود أنه لا ينكر على فاعله ، كما يفرّقون بين الزيادة على ألفاظ الأذان لأنها بدعة ، وبين استعمال المآذن العالية وسيلة لتبليغ الصوت كما في الحرمين فهو مشروع ، ويفرقون بين الزيادة على خطبتي الجمعة خطبة ثالثة أو صلاة الظهر بعدها فهما بدعتان ، وبين جعل المنبر أكثر من ثلاث درجات إن احتيج إلى ذلك لكثرة الناس فهو مشروع وكذا أن تكون الخطبة بِلُغَةِ المصلين إذا لم يكونوا من العرب فهو مشروع مع أنه لم يفعل على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم .
وحتى في باب الإمامة العظمى ينبغي التفريق بين بدعة توريثها على سبيل المثال ، وبين استعمال وسائل أكثر فاعلية لانتخاب وبيعة الإمام وتنظيم سلطات الدولة ، لضمان سلامة أداءها لواجباتها ، فهذه وسائل تتبع حكم مقاصدها ، وتلك - توريث الإمامة العظمى – بدعة لا تجوز إلا لدفع ضرر أكبر كخشية وقوع نزاع يفضي إلى فتنة بين المسلمين وضرب وحدة الأمة .
والمقصود أن الأمثلة لا تحصى والتفريق بين الأمرين :( البدعة المحرمة والوسائل التي لها حكم مقاصدها ) لا بد منه شرعاً وعقلاً ، بل لو حرمت كل وسيلة عصرية يتوصل بها إلى أداء ما أمر الله تعالى به أو ندب إليه ، لكان ذلك من الضلال المبين والجناية على الدين ، بل تحريم هذه الوسائل في حد ذاته بدعة شنيعة .(/14)
والقاعدة في هذا الباب أن الوسائل التي يتوصل بها إلى امتثال الشرع لا تمنع لمجرد كونها لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو عصر السلف ، لأنها قد لا توجد لعدم المقتضى حينئذ لفعلها في عهده صلى الله عليه وسلم ، إما لأنها لم في ذلك الزمان أصلاً ، أو لعدم الحاجة إليها في ذلك العصر , أو لوجود مانع من ذلك , كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( وهذا باب واسع بسطناه في غير هذا الموضع وميزنا بين السنة والبدعة وبينا أن السنة هي ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة لله ورسوله ، فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فُعل على زمانه أو لم يفعله ولم يفعل على زمانه لعدم المقتضى حينئذ لفعله أو لوجود المانع منه ) مجموع الفتاوى 21/381 .
وانطلاقاً من هذا الفهم الدقيق استعمل الصحابة وعلى رأسهم عمر رضي الله عنه وسائل لم تكن على زمن التنزيل إن لم يرد فيها نص مانع ، كما أنشأ عمر الدواوين وكما جعل دية قتل الخطأ على أهل الديوان وجعلهم العاقلة بدل العصبة ، وكان فقهه رضي الله عنه قائم على هذا الفهم السديد للشريعة ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( فإن جند الشام كتبوا إلى عمر رضي الله عنه : أنَّا إذا لقينا العدو ورأيناهم قد كفروا – أي : غطوا أسلحتهم بالحرير – وجدنا لذلك رعباً في قلوبنا ، فكتب إليهم عمر : وأنتم فكفروا أسلحتكم كما يكفرون أسلحتهم ) مجموع الفتاوى 28/27 ، ولم يقل عمر إنه تشبه بالكفار ولا قال لم يكن ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع أن لبس الحرير قد ورد فيه النهي ، غير أن الفقهاء أجازوه للضرورة في القتال ولهم قولان في لبسه لإرهاب العدو ، وإنما لم يقل عمر رضي الله ذلك لأنه من باب الوسائل وما كان كذلك لا يكون من الإحداث في الدين , كما أنه يباح للمصلحة الراجحة ، كرؤية المخطوبة ونحو ذلك مما عرف مواضعه في الفقه ، وكما جمع الصحابة المصحف ، وكما أمر عثمان بتحريق المصاحف إلا واحداً درء للفتنة .
وكل من جرب القضاء والفُتيا العامة ، وفي النوازل تيقن ما ذكرناه هنا، ولهذا لا يسلم من يحرم الوسائل العصرية للاحتجاج الجماعي بحجة أنها محدثة من تناقض أيضاً ، فتجده يجيز ما لا يحصى من وسائل الدعوة وتحصيل العلم والجهاد وغيرها مما لم يكن في العصر الأول فإذا جاء إلى هذه الوسيلة حرمها لأنها لم تكن في العصر الأول فيا للعجب .
وأما المسلك الثاني : فالتاريخ الإسلامي حافل منذ العصور الأولى بشواهد القيام الجماعي لإنكار المنكر ، والعجب كل العجب ممن ينكر هذا مع استفاضته ، ويَدَّعِى أن السلف لم يفعلوا شيئاً منه ، ومن ذلك :
أن الإمام أحمد رحمه الله كان يفتي بأن يجتمع الناس لإنكار المنكر للتهويل والتشهير بالمنكر وأهله ، فقد روى الخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن محمد بن أبي حرب قال : سألت أبا عبدالله عن الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه ، قال : يأمره , قلت : فإن لم يقبل ؟ قال : تجمع عليه الجيران وتهول عليه . ص50 .
وروي عن جعفر بن محمد النسائي قال : سمعت أبا عبدالله سئل عن الرجل يمر بالقوم يغنون ؟ قال : إذا ظهر له ، هم داخل ، قلت : لكن يسمع الصوت يسمع في الطريق ، قال : هذا ظهر عليه أن ينهاهم ، ورأى أن ينكر الطبل يعني إذا سمع حسه ، قيل : مررنا بقوم وقد أشرفوا من علية لهم ، وهم يغنون فجئنا إلى صاحب الخبر فأخبرناه ، فقال : ( لم تكلموا في الموضع الذي سمعتم ؟ فقيل : لا ، قال : كان يعجبني أن تكلموا ، لعل الناس كانوا يجتمعون وكانوا يشهرون ) ص 50/51 .
ومن ذلك ما ذكره ابن الجوزي في المنتظم قال : ( واجتمع في يوم الخميس رابع عشر المحرم خلق كثير من الحربية ، والنصرية ، وشارع دار الرقيق ، وباب البصرة ، والقلائين ، ونهر طابق ، بعد أن أغلقوا دكاكينهم ، وقصدوا دار الخلافة وبين أيديهم الدعاة والقراء وهم يلعنون أهل الكرخ – أي منكرين لبدعة إظهار شتم الصحابة التي وقعت من أهل الكرخ – واجتمعوا وازدحموا على باب الغربة ، وتكلموا من غير تحفظ في القول فراسلهم الخليفة ببعض الخدم أننا قد أنكرنا ما أنكرتم ، وتقدمنا بأن لا يقع معاودة , فانصرفوا ) 16/94 .
وأما ما وقع من شيخ الإسلام ابن تيمية فكثير جداً ، فمن ذلك :
ما ذكره خادم الشيخ إبراهيم الغياني قال : ( فبلغ الشيخ أن جميع ما ذكر من البدع يتعمدها الناس عند العمود المخلق الذي داخل ( الباب الصغير ) الذي عند ( درب النافدانيين ) فشد عليه وقام واستخار الله في الخروج إلى كسره ، فحدثني أخوه الشيخ الإمام القدوة شرف الدين عبدالله بن تيمية قال : فخرجنا لكسره , فسمع الناس أن الشيخ يخرج لكسر العمود المخلق ، فاجتمع معنا خلق كثير ) ص 10 رسالة بعنوان ناحية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق محب الدين الخطيب .(/15)
وشواهد التاريخ لا تحصى كثرة ، والعاقل يعلم أن مثل هذه الوسائل السلمية للاحتجاج الجماعي إنما تتولد من النظام الاجتماعي نفسه ، ومن كون الإنسان اجتماعياً بطبعه ، يجتمع مع بني جنسه فيما يتفقون عليه فهو أمر لا يخلو منه عصر ، ولا يحتاج إلى فكر، وإنما تدفع إليه الحاجة ، والناس إذا توافقوا تعاونوا ، فالعجب ممن يظن أن هذه الوسائل حادثة ، ومن طرائف الأخبار أن شاباً ممن اعتاد على إلغاء عقله بتقليد حزبه ، ذكر له أن جماعة من الدعاة أقاموا تجمهراً حشد له الناس في خيمة كبيرة بهدف إظهار النكير لإضعاف المنكر ، وسئل هل يجيز هذا الأمر حزبه الذي يحرم التجمهر لأنه في زعمهم تشبه بالكفار ولم يفعله السلف ، قال هذا يجوز لأنه تحت الخيمة ن فقيل له أرأيت لو أزلنا الخيمة وكان ذلك كله في العراء ، قال لا يجوز حينئذ لأنه مظاهرة ، وعش تر ما لم تر !!!
الطريقة الثالثة التي سلكها المانعون لوسائل الاحتجاج السلمي هي :
وهي قاعدة سد الذرائع ، وقالوا إن هذه الوسائل غالباً ما تفضي إلى مفاسد أرجح من المصالح التي تبتغي بها ، وقد علم من دلائل الشريعة الكثيرة حظر ما يفضي إلى المفسدة ، ويكتفى في اعتبار ذلك بغالب الأحوال إذ هي مثار غالب الظن الذي تنبني عليه الأحكام .
وهذا الطريق أسلم حجة استدل بها على المنع ، غير أن المعلوم أن الذرائع تقدر بقدرها لا أكثر من قدرها ، ويجب عند العمل بهذه القاعدة ، أن يتوفر أمران :
الأول: العلم بأن الوسيلة هي حقاً ذريعة إلى مفسدة تربو على المصلحة ، لا أن يكون ذلك بناء على الوهم أو ضرب من الوسوسة أو بدافع الخوف النفساني المجرد أو بناء على أحوال يختلف فيها القياس والتمثيل .
الثاني : أن لا يتجاوز بالذريعة قدرها فيؤدي إلى تحريم المباح أو تفويت مصالح شرعية محققة ، فمثلاً إذا كان الاعتصام بغير إذن السلطة يفضي إلى مفسدة راجحة ، فلا يحرم ما كان حقاً مكفولاً بحكم القانون إلا إذا أفض إلى مثل ذلك ، وقس على ذلك .
وعليه ، وبناء على ما سبق ، فإن حكم ما يسمى وسائل الاحتجاج الجماعي من مظاهرات واعتصامات وإضرابات ومهرجانات خطابية ومسيرات .....الخ ، أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : محرمة ، وذلك فيما لو كانت بقصد العنف المحرم – يستثنى ما يقع في أرض عدو محارب كفلسطين وغيرها ما لم يكن الضرر أعظم كما هو الحال في حكم الجهاد – أو كانت سلمية لكن يخشى إفضاؤها إلى عنف لعدم القدرة على السيطرة عليها ، أو كانت سلمية أيضاً لكنها متضمنة لما يمنع شرعاً كاختلاط محرم بين الرجال والنساء ، أو أدت إلى وقوع منكر أكبر ، أو ضرر يصيب المسلمين أو شعائر دينهم كما يفعل الملحدون الروافض في الحرم ، أو ضرر يلحق بالدعوة الإسلامية يربو على ما يتحقق بهذه الوسيلة من مصالح ، وغالباً ما تكون كذلك في الأنظمة التي لا تنص قوانينها على حق المواطنين في التعبير عن الاحتجاج بهذه الوسائل العصرية ، وهي في بلادنا الشرقية والعربية خاصة أكثر من غيرها .
القسم الثاني : مباحة ، وهي فيما إذا كانت السلطة تسمح بهذه الوسائل وتنظيمها للاتحادات والنقابات ونحوها فتستعمل للوصول إلى غرض مباح ، مثل زيادة الأجور أو تخفيف ساعات العمل أو الحصول على الحقوق المادية ونحو ذلك ، أو تأمر بها الدولة لاستحثاث وسائل الإعلام لحماية مصالح مواطنيها في دولة أخرى أو إثارة قضية تخصها مثل الأسرى ونحو ذلك ، فهذه كلها مباحة ما لم تؤد إلى الوقوع في محظور كما في القسم الأول فتمنع .
القسم الثاني : مستحبة – أو واجبة بحسب الحال وما يراد تحقيقه بها - وذلك فيما إذا كان مقصدها مستحباً أو واجباً ، ومن أمثلة هذا النوع أن تكون في أرض العدو للضغط عليه للوصول إلى مصلحة شرعية للمسلمين ، كما كان فيما سمي ( مظاهرات الحجارة ) التي قصد بها الشعب الفلسطيني إثارة الرأي العالمي ضد جرائم اليهود بالمسلمين ، بغية تحريك القضية وفضح مكائد اليهود ، ولم يبلغنا أن أحداً من علماء المسلمين حرم تلك المظاهرات ، أو تكون للضغط على المحتل الكافر لإخراجه من البلاد كما كان يفعل المسلمون إبّان الاستعمار الذي عم البلاد الإسلامية ، أو كانت وسيلة للخروج على حاكم يجب الخروج عليه مع القدرة لظهور الكفر البواح ، وهذه فيما يخص مظاهرات العنف ، ويجب أن يراعى فيها أن لا تتعدى إلى الاعتداء على المسلمين أو تؤدي إلى ضرر عليهم راجح على مصالحها .(/16)
وأما السلمية فتدخل في هذا القسم إذا كانت في أنظمة تسمح بها وتجعلها حقاً للأفراد عبر منظمات لهم تسمى نقابات أو اتحادات ، فيسمح لهم القانون أن ينظموا إضراباً أو اعتصاماً أو مسيرة سلمية للحصول على مطالبهم فإذا كانت تلك المطالب شرعية دعوية ، كان لهذه الوسيلة حكم مقصدها ، وهذا – أعني السماح بهذه الوسائل – قد يكون عرفاً سائداً لا قانوناً منصوصاً عليه ، فهذه كلها إذا خلت من محاذير أخرى فهي مستحبة – أو واجبة إذا لم يتم الواجب إلا بها وبحسب مقصدها – ، ولا مانع شرعاً البتة أن تستعمل لتحيق بعض أهداف الدعوة أو إنكار المنكر ، وكل ذلك ما لم تُفْضِ إلى الوقوع في منكر أكبر .
وفي هذا الباب يحصل المسلمون في بلاد الغرب – حيث تنص غالب الدساتير على حقوق الشعوب باستعمال هذه الوسائل - على كثير من حقوقهم ويخففون الأذى عليهم من أعداءهم ، مستغلين هذه الوسائل المسوح بها وإذاعة وسائل الإعلام لها لإيصال صوتهم إلى العالم ، وكل ذلك مشروع ما لم يفض إلى محرم أشد ضرراً .
هذا ، وتحقيق هذه الفتوى على الواقع ، يجتهد فيه أهل كل بلد ممن له أهلية ذلك لأنهم أعرف بأحوالهم ، ولا عجب أن يفتي بتحريم هذه الوسائل مطلقاً من ينكر وجود سلطة في العالم تسمح لموطنيها بالاحتجاج العلني عليها ، ويقول حتى لو وجدت فلا تلبث أن تبطش بهم ، غير أنه لم يعد خافياً أن وجود مثل هذه القوانين التي تعطي الشعب حق الاعتراض والنقد العلني كحرية الصحافة وتنظيم وسائل الاحتجاج الجماعية ونحوها ، إنما يتحقق في الأنظمة التي تقوم علي فصل السلطات ، وفيها تكون السلطة التنفيذية ما هي إلا سلطة واحدة من الدولة والشعب يشارك فيها بقوة القانون أيضاً ، وتشاركهم في اتخاذ القرارات – بل هي المخولة أصلاً ـ ولها حق مراقبة الحكومة وتفرض عليها الخضوع للقوانين التي منها حقوق الرعية بالتعبير عن رأيهم ، فحتى لو كرهت السلطة التنفيذية الإنكار عليها فإنها لا تستطيع أن تمنع ذلك وتتجاوز صلاحياتها ، حتى ربما استطاع الشعب عبر ممثليه أن يغير السلطة التنفيذية ، ويأتي بغيرها ، وكل ذلك يكثر وجوده في حكومات العالم الغربي حيث يعيش المسلمون هناك وربما احتاجوا إلى تلك الوسائل لحماية أنفسهم ودينهم ، وتوجد في بعض البلاد الإسلامية كذلك ، هذا والواجب أن يتعرف المفتي على هذا الواقع حتى يعلم تحقق قاعدة سد الذرائع في البلاد التي أفتى لأهلها بالمنع المطلق أم لا .
هذا ، وإنه لمن المقرر في أحكام الفتوى وآدابها أن لا يقصر المفتي نظره على البلاد التي يعيش فيها فحسب ، ويرى العالم كله من خلالها ، ويبني الفتوى على ما يراه حوله فقط ، فإن هذا من شأنه أن يجعل الفتوى تأتي بضد مقصودها ، وقد حكيت لبعض أفاضل أهل العلم ما تسمح به البيئة الكويتية – على سبيل المثال – من وسائل لإنكار المنكرات علنية تطال أعلى السلطات وتعد في الكويت كالأعراف المعتادة لكل الناس ، ما صار بهم إلى الدهشة وكأنهم لم يسمعوا بذلك قط ، وقد نبهت إلى وجوب اطلاعهم على أحوال العالم الإسلامي ، قبل تصدير الفتوى لما في ذلك من الأهمية العظمى .
وقلت لهم إننا نعلم أن نظام الحكم الإسلامي قد كفل من وسائل تحقيق العدل ومنع الظلم وكفاية الرعية وحفظ الحقوق ، وإلزام السلطة بواجباتها عبر قنوات شرعية ، ما يجعله نظاماً مميزاً ، وأنه لا يجوز استبداله بالأنظمة الغربية ، غير أن هذا الأصل لا يعني أن لا ينظر المفتي إلى واقع الحال وحاجة الناس إلى تخفيف الشر وتحصيل الخير ما أمكن في غياب الإمامة الإسلامية العادلة ، وأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والبلاد والزمان والمكان .
كما ننبه هنا أنه لا يجوز أن نغفل سد ذرائع المنكر، عندما ننظر إلى سد ذرائع الأضرار التي تترتب على إنكار المنكر ، فقد يكون المنكر منكراً إلى درجة يهون معها وقوع الأذى الجزئي في إعلان النكير على فاعليه حتى لو كانت السلطة ، فلا شيء يبيد النعم كظلم السلطة ، وقد ورد في الحديث ( أخوف ما أخاف عليكم حيف الأئمة ) وفيه أخاف على أمتي الأئمة المضلين ) ولهذا صار أعظم الجهاد الإنكار على جور السلطان ، لأن في استمراره على جوره وقوع الفساد العام ، وإنما تحل العقوبة الإلهية عند السكوت عنه كما صح في الحديث، كما أن في ترك إظهار الإنكار بالكلية خشية حصول مفاسد جزئية ، اختلاط الحق بالباطل ، وانقلاب المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً ، وخفاء الدين على الناس ، واندراس معالمه ، ولعمري ، إن هذه المفاسد لا تضاهيها مفسدة ، فينبغي أن ينظر في سد هذه الذريعة أيضاً عند الترجيح ، وقد وجدنا بعض المفتين لا يعير لهذا الجانب، اهتماماً وإنما يتوجه نظره فحسب إلى منع الدعاة من إعلان النكير على شيء خوفاً عليهم ، حتى عمت المنكرات وطمت ، وصار ما كان يحذر منه ، قد وقع في أعظم منه ، فهذا باب مهم جداً .
النوع الثالث من الحسبة : حسبة الرعية على الرعية(/17)
هذا وقد كانت مسألة ( حكم المظاهرات ) استطراداً جرنا إليه الحديث عن الوسيلة الرابعة من وسائل حسبة الرعية على السلطة ، وقد مضى فيما سبق من هذا البحث الحديث عن حسبة السلطة على الرعية ، ثم حسبة الرعية على السلطة .
وأما النوع الثالث من أنواع الحسبة ، فهي حسبة الرعية على الرعية والمقصود بها نهوض الأمة بهذا الواجب ، واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد اعتنى العلماء بأحكام هذا الفرض العظيم حتى عده بعضهم سادس أركان الإسلام ، وذكروا في آدابه وأحكامه جملاً كثيرة مأخوذة من نصوص الكتاب والسنة ، ولا ريب أن تكليف الأمة كلها لتقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل على اختصاصها بأنها أمة حيّة متحركة تسعى لتغير الواقع حولها ليخضع لتعاليم الإسلام .
وأول من يكلف بهذا الفرض أولو الأمر وهم العلماء والأمراء كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( ولذلك كان أولو العلم هم الأمراء والعلماء إذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس , ولما سألت الأحمسية أبا بكر الصديق ما بقاءنا على هذا الأمر قال ما استقامت لكم أئمتكم ) ، وهذا النوع من الحسبة لا يسقطه شيء فلا يسقط بعدم وجود الدولة الحاكمة بالشريعة ولا بعدم قيامها بالحسبة ، أو قيامها به على وجه لا يوافق الشرع ،بل هو حق عام مكفول لأفراد الأمة جميعاً كل بحسب استطاعته .
قال الإمام النووي رحمه الله :( ومما يتعلق بهذا الأمر أن الرجل والمرأة والعبد والفاسق والصبي المميز يشتركون في جواز الإقدام على إزالة هذا المنكر وسائر المنكرات ، ويثاب الصبي عليها كما يثاب البالغ ، ولكن إنما تجب إزالته على المكلف القادر ، قال الغزالي في الإحياء : وليس لأحد منع الصبي من كسر الملاهي وإراقة الخمور وغيرهما من المنكرات ، كما ليس له منع البالغ ، فإن الصبي وإن يكن مكلفاً ، فهو من أهل القرب وليس هذا من الولايات ، ولهذا يجوز للعبد والمرأة وآحاد الرعية ) روضة الطالبين5/18 .
قال الإمام ابن قدامة في مختصر منهاج القاصدين ص 124 : (واشترط قوم كون المنكر مأذوناً فيه من جهة الإمام أو الوالي , ولم يجيزوا لآحاد الرعية الحسبة ، وهذا فاسد ، لأن الآيات والأخبار عامة تدل على أن كل من رأى منكراً فسكت عنه عصى ، فالتخصيص بإذن الإمام تحكم ) .
ومن المهم أن ننبه هنا أن باب الحسبة في الفقه الإسلامي ، بني على قاعدة تحصيل المصالح بحسب الإمكان ودفع المفاسد بحسب الإمكان وتقديم أرجح الأمرين عند التعارض ، وتفويت المصلحة الأدنى لفعل الأعلى عند التزاحم ، وارتكاب المفسدة الصغرى لدفع الكبرى عند التزاحم .
كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله :( وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات والمستحبات فلا بد أن تكون المصلحة فيه راجحة على المفسدة إذ بهذا بعث الرسل ونزلت الكتب والله لا يحب الفساد بل كل ما أمر الله به فهو صلاح فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به ) وقال : ( وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكون مأموراً به بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو ميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنه وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر ) الحسبة ص 63 .
هذا ، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(/18)
الحسبة في الإسلام ...
عرف نظام الحسبة في الشريعة الإسلامية بأنه إزالة المنكر إذا ظهر فعله، والأمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ويمثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بذلك نظاما رقابيا يتكامل مع النظام الاجتماعي والسياسي في المجتمع الإسلامي المثالي. وفي هذا اللقاء نضع ستة أسئلة حول نظام الحسبة في الإسلام أمام مجموعة من العلماء ليحدثونا عن هذا الموضوع ما هو تحديد مصطلحي المعروف والمنكر؟ ما هي صفات القائمين بالحسبة؟ كيف تحدد طريقة تغير المنكر ؟ ما حكم الإتلاف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ كيف تطبق المجتمعات نظام الحسبة؟ في المجتمعات التي لا تطبق الشريعة الإسلامية؟ مكيف يمكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ يبدأ الدكتور صالح السدلان حديثه بتعريف المعروف بأنه كل ما عرف في الشرع إحسانه، والمنكر هو كل ما عرف الشرع إنكاره، وعلى ذلك فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتناول الأمور التالية : 1- الأمور الدينية: ما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع العلماء عليه، أو كان مستحسنا شرعا وعرفا ثم تركه شخص، تعين أمره بالمعروف وبيان كونه معروفا لا يجوز تركه، وكذلك من ارتكب شيئا من النواهي الشرعية التي جاء بها النص عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع العلماء عليه، أو كان مستقبحا شرعا وعرفا وعادة فإنه يتعين الإنكار عليه وبيان وجه الحق له وتحذيره من مغبة ارتكاب النواهي . 2- الأمور العادية: ما استحسنه الناس ولم يكن فيه مخالفة للشرع بأي وجه من الوجوه ثم خالفه شخص بالفعل أو الترك فإنه ينكر عليه ذلك حتى لو كان من قبيل العادات التي تدخل تحت قاعدة المباحات. 3- الأمور العرفية: ما استقبح الناس فعله عادة وعرفا ولكن الشرع لم يتعرض له فسكت عنه فإنه يتعين الإنكار على فاعل لمخالفة العادة والعرف الذي ألفه الناس. ويضيف فضيلة الشيخ محمد حسن الدريعي (الأستاذ بكلية المعلمين) بأن مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تخضع للتذوق والهوى النفسي وإنما ترتبط بشريعة الله التي ألزمتنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولما كان الأمر كذلك فإن الشريعة الإسلامية كما يقول الدكتور مناع القطان – رحمه الله (وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية للدراسات العليا) لم تكتف ببيان المعروف وتعدد أنواعه ولكنها ترسم للإنسانية منهاج الحياة المتكامل على وجه ينمي فيها المكارم والفضائل ويبعث فيها روح الخير ويساعدها على النماء والرقي ويحبب إليها فعل المعروف بكافة صوره، كما لا تكتفي بالنهي عن المنكر وبيان الرذائل، وإنما توضح مضارها وتحذر من اقترافها حتى يصير المجتمع المسلم مجتمعا فاضلا نظيفا. هذا وقد اتفق العلماء على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكن هل هذا الأمر فرض عين أم فرض كفاية؟ يقول الدكتور مناع القطان – رحمه الله – إن بعض العلماء يرى أن الحسبة فرض عين، وفرض العين هو ما طلبه الشارع من كل فرد من أفراد المكلفين، ولا يجزي قيام مكلف به آخر، واستدل أصحاب هذا القول بقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) وجه الدلالة عندهم أن من هنا بيانية وليس للتبعيض فالمعنى: كونوا كلكم أمة تدعون إلى الخير وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر كما في قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) وقال آخرون: إن الحسبة فرض كفاية، وفرض الكفاية هو ما طلب الشارع فعله من مجموع المكلفين، لا من كل فرد منهم، بحيث إذا قام به بعض المكلفين أدى الواجب وسقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم به أي فرد من أفراد المكلفين أثموا جميعا، وقال أصحاب هذا القول: إن (من) في قوله تعالى (منكم) للتبعيض، واستدلوا بأدلة أخرى لا يتسع المقام لبيانها وإذا قلنا إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية وهو الحكم السائد، فإن مسؤولية ذلك تقع على ولي الأمر الذي أناط الإسلام به حراسة دين الله وإصلاح شؤون الأمة في دينها ودنياها، وهذا هو شأن الأمة التي تطبق شريعة الله فيكون فيها من أنواع الولايات ولاية الحسبة للقيام على الأمر والنهي عن المنكر. . وليست الحسبة أمرا مطلقا يفعله كل من شاء بل إن لها شروطا لا بد من تحققها وصفات يتحتم توافرها ويعرض لنا الدكتور مناع القطان – رحمه الله – شروط الحسبة فيما يلي :- 1- أن يكون عاقلا يميز بين الخير والشر والحلال والحرام، وبناء على ذلك فإن الدكتور مناع يرى أنه لا يمنع الصبي من الحسبة لأن الاحتساب أحد القربات التي يتقرب بها إلى الله، وهو من أهل التقرب إلى الله فلا يمنع منها كالصلاة وإن كان في نفس الوقت لا يكون من أهل ولاية الحسبة حتى يصير بالغا عاقلا فبالبلوغ والعقل يكون مكلفا. 2- أن يكون المحتسب مسلما لأن الحسبة تهدف إلى إصلاح الناس وحماية الدين ولا يقوم بهذا إلا مؤمن بالدين. 3- العدالة بأن يعمل بما يأمر(/1)
الناس به ويدعوهم إليه وإن كان هذا الشرط محل خلاف بين العلماء. أماالصفات التي ينبغي توافرها في العاملين في مجال الحسبة فيبينها الدكتور صالح بن سعود آل علي المدرس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ) فيما يلي : 1- ينبغي أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عارفا عالما بالمعروف الذي يدعو إليه والمنكر الذي ينهى عنه، لأنه إذا لم يكن عارفا بهما لا يأمن أن يأمر بمنكر أو ينهى عن معروف، وكما هو معلوم فإن الحكم على الشيء فرع من تصوره، ولذا قال الله تعالى: 2- ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم ) 2- أن يكون بصيرا بالأمور من حيث ما يترتب على أمره ونهيه بحيث يعرف موقع ما يقوم به هل يؤدي أمره ونهيه إلى منكر أكبر فيحجم، فيدرأ السيئة الكبرى بالسكوت عن الصغرى، فلا ينهى عن شرب خمر وهو يعلم أن نهيه هذا سيؤول إلى قتل نفس معصومة، ويؤكد هذا الأمر الشيخ الدريعي مستدلا على ذلك بقول الله تعالى: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ...) 3-أن يكون – والكلام للدكتور صالح العلي – على علم بحال المدعوين وأعرافهم وعاداتهم ونفسياتهم بحيث يأتيهم من المدخل الذي يسهل انصياعهم لدعوتهم وعدم نفرتهم منه، وهذا مهم جدا لكل داع إلى الخير ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم) وهي الإبل النفيسة فالجاهل بأحوال المدعوين لا يأمن أن يحصل له عكس ما قصد، وربما نشأت عن دعوته مفاسد كبيرة تضر بالإسلام والمسلمين. 4-أن يكون طويل البال واسع الصدر لا يتسرع الإجابة، وله في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، فإنه لما خرج من الطائف بعدما آذته ثقيف ولم يستجيبوا لدعوته، بل ورموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه فأتاه ملك الجبال وقال له إن الله أرسلني إليك وأمرني أن أعمل بأمرك أتريد أن أطبق عليهم الأخشبين (الجبلين العظيمين) فقال عليه الصلاة والسلام لا، لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا . 5-أن يتدرج في أمره ونهيه بحسب حال من يدعوهم، ويجعل نفسه بمثابة الطبيب مع المريض الذي قد يؤجل العلاج عنه فترة، ثم إذا كان مهيأً بدأه بالعلاج، ولكن على جرعات قد تمتد أياما وليال وقد تستمر شهورا بل قد تمتد سنين طويلة بحسب المرض، والداعية البارع يقدر حال المدعوين إذ قد يكتفي في البداية بالاتصال بهم ومخالطتهم وإيناسهم، وإذا ما رأى أن الفرصة سانحة بدأ شيئا فشيئا. 6-أن يبدأ بالأهم قبل المهم ويأمر بالأركان قبل الواجبات وبالواجبات قبل المندوبات، ونهى عن الموبقات من الكبائر قبل المحرمات الدنيا، وهكذا وقد علم هذا من منهجه صلى الله عليه وسلم فقد مكث في مكة زهاء ثلاث عشرة سنة وهو يدعو إلى التوحيد ومكة تمارس فيها صنوف المعاصي. 7-أن يكون رفيقا كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: يا عائشة إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه، وذلك أن العنف لا جدوى منه بل هو ضار، وكثيرا ما يأتي بأوخم العواقب، ولا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه المثقفون الذين يحتم وضعهم أن يكون الحوار معهم هادئا رفيقا بعيدا عن القسوة والحدة حتى لا ينفروا أو ينأوا بأنفسهم إلى الشر. وصدق الله (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ...) ويوافق الدكتور الدريعي على ما ذكره الدكتور العلي ويضيف إلى تلك الشروط ما يلي 8- أن يصبر ويتحمل ما قد يلاقيه من العنت والتعب ويعلم أن قد يؤذى بالكلمة أو بالإشارة فلا بد له من الصبر أما من يتحمل هذه المسؤولية ثم يحدث له فتنة إذا أوذي أو أسيء إليه فهذا ليس مرشحا لهذه المهمة وهذا يجب أن يقرأ قوله تعالى: (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) 9- أن يدفعه إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دافع الإخلاص لدينه والإصلاح للمجتمع بعيدا عن المطامع الدنيوية، وهذا سيسدد بإذن الله ويوفق وسيعدل في الناس فلا يعامل أحدا بشراسة وقهر وقوة بل سيتعامل مع الآخرين باللين والسهولة والتسامح، فالعدل رائده وهو الذي يسيره أينما سار، أما الذي عنده طمع مادي فسيجره هذا الطمع ليقول: إن هذا المنكر معروف ويبرر للعاصي معصيته، وهذا ما ستجره إليه المصلحة المادية، وهي من المصائب التي تحدث في المجتمع فيما يتعلق بتلك القضية. وأن يحتسب أجره على الله وإذ فعل ذلك فسوف لن يرى في أي عمل في هذا المجال ما يثقل عليه وسيسهر وسيتعب وسيتواضع للخلق ويرحمهم وسيبذل ما يستطيع لإيصال كلمة الحق إلى المحرومين منها. 10- أن يأخذ بمبدأ القدوة الحسنة فالقدوة الحسنة هي التي تؤثر في النفس في أكثر الأحيان ما لا تؤثره الكلمة، ولذا فلا بد من أن يكون ملتزما في نفسه كما قال الله تعالى حكاية عن شعيب: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن(/2)
أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) بل إنه عز وجل ذم الذين تخالف أفعالهم أقوالهم في قوله (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) تلك هي الشروط التي يجب أن تتوافر في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ., ويؤكد الدكتور صالح السدلان على أنه ينبغي أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر على جانب من الدين والخلق والصفات الجميلة والأفعال الحميدة، وأن يكون بعيدا عن التشدد والتكلف وينبغي أن يتصف بما يأمر به بعيدا عما ينهى عنه. وهنا قضية مهمة وهي هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يختص بفئة معينة أم أنه متاح للجميع، وما هي حدود الإنكار وكيفيته. الدكتور صالح السدلان يحدثنا عن ذلك فيقول: إن كل مسلم مخاطب بالأمر والمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما دل عليه قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ...) وقال فيه صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) . إذن فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة كل مسلم ومسلمة، ولولاها لضاع الدين، وبها استحقت أمة محمد أن تكون خير أمة أخرجت للنا س ويشترك فيها الناس كل بحسب قدرته. ويرى الدكتور السدلان أنه إذا رغب بعض الشباب في المساهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحمسوا لذلك، فأرى أنه ينبغي تحقيق مطلبهم هذا، وتمكينهم منه، ولكن تحت ضوابط وشروط، وتحت قيادة ذات خبرة ومعرفة في هذا المجال، وثبت استفادتهم منه وعدم اندفاعهم وتحمسهم على وجه يترتب عليه مضار ومفاسد تشوه وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويفصل الدكتور الدريعي مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيقول: إن على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يستحضر في ذهنه تلك الدرجات التي بينها الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الباب، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكر فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) فالدرجة الأولى هي مهمة الولاة والمسؤولين أي الإمام ومن ينوب عنه في هذا الباب، وقضية التغيير باليد يسبقها الإعلام والتوجيه والتوعية إذ لا يؤخذ الناس على غرر وعلى جهل، ولا بد من دراسة سبب المنكر ثم معالجته بالتوجيه والنصيحة أولا، ثم بالعفو ثانيا إلا في ما لا يعذر فيه كسرقة مثلا أو زنا أو شرب خمر وغير ذلك من المنكرات المعروفة من الدين بالضرورة، فهذه عندما يقارفها في بلد إسلامي يطبق عليه الحد وهذا شأن ولاة الأمر. أما الدرجة الثانية: فهي للعلماء وطلبة العلم والدعاة والعارفين بالأحكام الشرعية، فهؤلاء لهم الحق أن يبينوا حكم الله ولكن بالأساليب المرغبة، كل على قدر عقله وفهمه، فإذا خاطبنا عالماً بدين من الأديان لا يكون وزنه كالجاهل، ولعل قصة معاذ رضي الله عنه عندما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال له: إنك ستأتي قوما أهل كتاب، يعني تهيأ لهم بالإجابة عن تساؤلاتهم ومناقشاتهم، فهم سيناقشونك عن علم بالكتاب، فإذا لم تكن مؤهلا فلا يجوز لك أن تدخل معهم في حوار، ولذا قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) وهذه المرحلة هي مهمة أناس معينين، وليست مهمة الغوغائيين ولا الجاهلين ولا العابثين أو منتهزي الفرص، إذ قد يدخل في هذا الباب بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من له أغراض سيئة في المجتمع، يريد إثارة الشبهات أو تفكيك الأمة وتمزيقها من الداخل، أو التحريش بين الناس وإثارة العصبيات والمذهبيات، أو من ليس لديه القدرة على بيان الحقيقة فيسيء إلى الدين أكثر مما يحسن. أما المرحلة الأخيرة فهي الإنكار بالقلب وهذا لكل مسلم ومسلمة، فإن لم تكن مسؤولا تنفيذيا أو عالما شرعيا وترى أن هذا حرام بحكم فطرتك السليمة وبحكم ما تسمعه من الموجهين والمعلمين فموقفك هنا موقف المتألم قلبيا، والقصد منه هو اعتقاد حرمة هذا الحرام واعتقاد عدم مشروعيته، فإن رأيت ارتكابا للممنوع ضاق صدرك وتألمت وظهرت علامات الإنكار عليك فهذا من دلائل الإيمان. وهذه الدرجات الثلاث تجعل الأمة كلها مشتركة في هذا الباب لكن كل عل قدرته، وتعالى الله القائل (فاتقوا الله ما استطعتم) أما عمل اليد فهو ليس عمل كل واحد منا فعملية الإتلاف أو عملية الأذى – إن صحت تسميتها بهذا الاسم – لا تتأتى إلا ممن وضعت بيده هذه المسؤولية، وهؤلاء لهم حق الإتلاف أو الضرب أو التأنيب. أما عامة الناس وطلبة العلم فليس من حقهم أن يسارعوا لإتلاف شيء لم يؤذن لهم فيه من قبل السلطة القائمة على أمر الدين، وقد يحدث بهذا شر وفتنة، ونحن في غنى عن ذلك بل يطلب من الجهة المختصة أن(/3)
تتولى هذا الأمر فالفوضى والفتنة مما لا يقره الشرع. وكما ترى فإن هذا الأمر مبني على ما إذا كانت الدولة تقوم على أمر الحسبة وترعاه وتعتني به، لكن يا ترى ما العمل في الدول التي لا تعطي هذا الأمر أهمية ولا تتبنى أمر الحسبة. يرى الدكتور مناع القطان أنه إذا افتقد أمر الحسبة – كما هو الشأن في أغلب الدول الإسلامية اليوم إلا من عصم الله – فإن هذا لا يسقط فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – وهو فرض كفاية – ولا يعذر الناس بإهمال الحاكم لهذا الواجب بل عليهم التعاون فيما بينهم والقيام بهذا الواجب الكفائي، وإلا كانوا جميعا آثمين. وهذا هو السند الشرعي الذي تستند إليه الجمعيات الإسلامية التي لا توجد فيها ولاية الحسبة، فكيف إذا كانت الدولة تساند أهل الشر والفساد وتفسح المجال للزائفين والملحدين وأصحاب المبادئ والأفكار المنحرفة وتضيق الخناق على الدعاة إلى الله وتكتم الأفواه وتبطش وتقهر؟ أما الدكتور محمد الدريعي فله رأي آخر بالنسبة للمجتمعات التي لا تحكم بالشريعة الإسلامية فيقول: إن هذه المجتمعات لها أساليب أخرى من نوعين: الأول إذ1 كانت الأجواء مفتوحة ومهيأة للكلمة فنلقيها في مظانها في وسائل الإعلام والمناهج التعليمية وفي الأندية وغيرها. الثاني إذا لم يكن للكلمة سماح بإطلاقها، في تلك المجتمعات فإن القدوة الطيبة التي تتمثل بحسن السلوك والسمعة والمعاملة الحسنة ستكون داعية لك. ولكن إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يفعل طاعة لله ورسوله، فما حكم هذا الراتب الذي يأخذه العامل في هذا المجال من قبل الدولة؟ وهل يعتبر أخذه حراما بناء على أنه يأخذه لتبليغ شرع الله وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؟ يزيل هذا الإشكال الشيخ الدريعي بقوله: إن الذي يعمل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويكون موظفا بذلك من قبل الدولة فإن الراتب الذي يأخذه ليس مقابل أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بل هو مقابل تفرغه لهذا العمل وتهيئته له، وكل منا مطالب بأن يستغني بقواه الجسدية والعقلية ليكسب لقمة العيش، فلا يمكن أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عالة على المجتمع يسألهم ويستجديهم، كما أنه قد لا يستطيع أن يجمع بين العمل في هذا المجال الذي فرغ نفسه له وبين كسب لقمة العيش وإعالة أسرته، لذا كان هذا الراتب الذي يأخذه هو في الحقيقة نتيجة لهذا التفرغ الذي حصل منه(/4)
الحسد شماعة الخائبين
أبو عمار المصري**
يبالغ البعض في الفزع من الحسد.. والتعلل به
يتكل الكثيرون على الحسد، ويبررون كل أخطائهم وخسائرهم، ويعلقونها على شماعة الحسد. وقد يتقاعسون عن مهامهم؛ وعندما يستحثهم أحد يتحججون بالحسد، فهل يبالغون أم أنهم على حق؟.
الأصل ألا يجعل المسلم من الحسد والحُساد عقبة في طريقه، بل يتجاهل كل هذا، ويعتمد على الله، ويستعيذ بالله، من شر الحسد والحاسدين، ويأخذ بأسباب الانفراج، ويجتهد في إزاحة ما نزل به من ضر.
ولكن في الوقت ذاته؛ فإن الحسد بالعين حقيقة واقعة، ففي الحديث: "العين حقٌّ، ولو كان شيء سابَقَ القَدَرَ لسبقتْه العين".
ما الحسد؟
الحسد هو تَمَنِّي زوال نعمة الغَيْر، سواء تَمَنَّى الحاسد تَحَوُّل هذه النعمة إليه دون المحسود، أو لم يَتَمَنَّ ذلك، وليس الحسد قاصرًا على ذلك، بل من الحسد فرح المرء لزوال النعمة عن غيره، أو إصابته بمصيبة، أو حزنه لحصول غيره على نعمة وخير، وذلك حسد مذموم؛ إذ وَصَفَ الله تعالى الكافرين به بقوله: {إنْ تَمْسَسْكُمْ حسنةٌ تَسُؤْهُمْ وإنْ تُصِبْكُمْ سيئةٌ يَفْرَحوا بها...} أو حرصه على ألا يصل الخير إلى الغير، أو تَمَنِّيه ألا يصل إليه، وهذا حسد مذموم كذلك؛ لأن تمني عدم حصول النعمة مساوٍ لتمني زوالها بعد حصولها.
والحسد من أفعال القلوب؛ لأنه مجرد تمني زوال النعمة عَمَّن حدثت له، أو عدم حصوله عليها، أو الفرح لزوالها عنه، أو الحزن لحصوله عليها، أو الحرص القلبي على عدم حصوله عليها، وكل هذه من أفعال القلوب.
والحسد يأكل الحسنات؛ كما تأكل النار الخطب.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحسد يأكل الحسناتِ كما تأكل النارُ الحطب"، ورُوِيَ عن معاوية بن حيدة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الحسد يُفْسِد الإيمان كما يُفْسِد الصبرُ العسلَ".
ويختلف الحسد -بهذا المفهوم- عن الغِبْطَة، رغم اشتراكهما في أن الحاسد والغابط ينظر كلٌّ منهما إلى ما عند الغير من نعمة. فإن الغبطة: هي تَمَنِّي المرء أن يكون له مثل ما لغيره من غير أنْ يَتَمَنَّى زوالَه عن الغير، والحرص على هذا يُسمَّى منافسة، فإن كانت في الخير فهي محمودة، وإن كانت في الشر فهي مذمومة.
وقد يُطلَق الحسد على الغِبْطة مجازًا، كما في حديث ابن مسعود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا حَسَدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسَلَّطَه على هَلَكَته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يَقْضي بها ويُعَلِّمها". فالحسد في الحديث يُراد به الغِبْطة؛ لأن كلا من الرجلين تمنَّى لنفسه مثل ما عند الآخر، ولم يتمنَّ زوالَ النعمة عنه.
نعم الله موزعة
الحسد يأكل الحسنات ويصيب الآخرين بالأزمات
ومما ينبغي اعتقاده أن الله سبحانه لم يجمع النِّعَم الدنيوية عند أحد من خَلْقه، فقد يُعطى المرءُ مالاً وولدًا، ويُحرَم الصحة، أو يُعطى مالاً وصحة، ويُحرَم الولد، أو يُعطى الصحة والولد، ويُحرم المال، أو يُعطى كل ذلك ويُحْرم نعمة الاستقرار أو نعمة السعادة أو نعمة الشعور بالأمن.
فإن مَن أُعْطِي نعمة أو أكثر حُرِمَ ما سواها، وأولى بمَن حُرِمَ بعض النِّعَم ألا ينظر إلى ما أنعم الله به على غيره مما حُرِمَ منه؛ حتى لا يصل به الحال إلى عدم شكر الله تعالى على ما أنعم به عليه، أو تَمَنِّي زوال هذه النعمة عن الغير، أو تمنِّي تحولها إليه دون غيره.
بل ينبغي أن يَعتَبِر بقول الله تعالى: {ولا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ به بعضَكم على بعضٍ للرجالِ نصيبٌ مما اكْتَسَبوا وللنساءِ نصيبٌ مما اكْتَسَبْنَ واسْأَلُوا اللهَ مِن فضلِه} [النساء: 32]. وبقوله سبحانه: {ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنَا به أزواجًا مِنْهم زَهْرَةَ الحياةِ الدنيا لنَفْتِنَهُمْ فيه ورِزْقُ ربِّك خيرٌ وأبْقَى} [طه: 131].
ولا ينبغي أن ينظر إلى مَن فوقه في النِّعَم، بل ينظر إلى مَن دونه فيها؛ حتى لا يَزْدَري نعمةَ الله عليه، فقد رُوِيَ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "انْظُروا إلى مَن هو أسفلَ منكم، ولا تنظروا إلى مَن هو فوقَكم؛ فهو أجدرُ أن لا تزدروا نعمةَ الله عليكم".
فلا يكون المرء على حال في هذه الدنيا، إلا وُجِدَ من أهلها مَن هو أدنى حالا منه. فإذا تفكَّر في ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممَّن فُضِّل عليه بذلك، فيُلْزِمْ نفسَه شكرَ الله عليها، وأما نظره إلى مَن يَفُوقه في النِّعَم فهو باعث من بواعث الحسد.
الحاسد.. إنسان سلبي
إن من يلجأ إلى الحسد والنظر إلى ما عند الغير إنسان غير سوي نفسيا، وهو إنسان سلبي في تعامله، فالأولى له بدلا من أن يتمنى زوال النعمة من عند أخيه أن يجتهد ويأخذ بأسباب النجاح والتفوق كي يحقق مثلها، وربما أفضل منها؛ بدلا من حصاد ثمار الخيبة والتقاعس.(/1)
فليجتهد وليزرع شجرة، وليضئ شمعة خير له من أن يلعن الظلام. ورحم الله العالم المصري الشيخ محمد متولي الشعراوي؛ فقد ضرب مثلا لذلك فقال: "لو أن طالبا نبغ في بلدك ودخل كلية الطب ولم يتحقق ذلك لولدك، فلِمَ تحسده وتحسد أباه على ذلك؟! أوليس من الأفضل لك أن يكون هناك طبيب في بلدك خير من أن تسافر إلى بلد آخر بحثا عن طبيب؟"، فالحاسد إنسان أحمق يسير ضد مصلحته ومصلحة أمته.
والحسد نوع من معاداة الله، والاعتراض على حكمه، فإن الحاسد يكره نعمة الله على عبده، فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته، ولذلك كان إبليس عدوه حقيقةً؛ لأن ذنبه كان عن كِبْرٍ وحسد.
وقد اُبتلي نبي الله يوسف -عليه السلام- بحسد إخوته له، حيث قالوا: {إذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8] فحسدوه على تفضيل الأب له؛ ولهذا قال يعقوب ليوسف: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يوسف: 5] ثم إنهم ظلموه بتكلمهم في قتله وإلقائه في الجبّ وبيعه رقيقاً لمن ذهب به إلى بلاد الكفر، فصار مملوكاً لقوم كفار.
وقد قيل للحسن البصري رضي الله عنه: أيحسِد المؤمن؟ فقال: ما أنساك إخوة يوسف لا أبا لك؟! ولكن غمه في صدرك، فإنه لا يضرك ما لم تعد به يدا ولسانا.
وقال تعالى في حق اليهود: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109] يودون أي يتمنون ارتدادكم حسدا، فجعل الحسد هو الموجب لذلك الودّ، من بعد ما تبين لهم الحق؛ لأنهم لمّا رأوا أنكم قد حصل لكم من النعمة ما حصل - بل ما لم يحصل لهم مثله حسدوكم.
وكذلك في الآية الأخرى {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء: 54-55].
وكان بين الأوس والخزرج منافسة على الدين، فكان هؤلاء إذا فعلوا ما يفضلون به عند الله ورسوله أحب الآخرون أن يفعلوا نظير ذلك، فهي منافسة فيما يقربهم إلى الله، كما قال تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.
الوقاية من الحسد
والمؤمن معرَّض لأنْ يَحْسُده إنسان آخر، وما عليه إلا أن يتحصَّن بقوة الإيمان بالله، والثقة به، وقراءة القرآن وبخاصَّة آية الكرسي، وأواخر سورة البقرة وسورة يس، ويدعو الله أن يَقِيَهُ شرَّ الحاسدين ويقرأ أيضا: "قل هو الله أحد، وقل أعوذ بربِّ الفلق، وقل أعوذ برب الناس"، فهذه السور هامة في هذا المجال.
فعليك -أخي المسلم- الاستمرار في نشاطِكَ وعملك ولا تُبَالِ بما يقول أو يفعله أو يُضمره لك غيرُك، وعليك أيضا أن تقوِّي إيمانك بالله، وترضى بقضائه وقدره خيره وشره، حلوه ومره، وألا تيأس عند حُلول نِقْمة أو فشل في مشروع، فذلك امتحان من الله.
يقول تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
فلا تيأس من رحمة الله أبدًا، فكم في السابقين ممَن تَوَالَتْ عليه المِحَن فصبر وصابَر فكان النجاحُ الباهر، ولك في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، وقد قال الله لرسوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [سورة الأحقاف: 35].
يقول ابن كثير: قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: "ليزلقونك" لينفذونك "بأبصارهم" أي يعينونك بأبصارهم، بمعنى يحسدونك لبغضهم إياك لولا وقاية الله لك وحمايته إياك منهم. وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة.
وصدق قول مَن قال:
كُلُّ الْعَدَاوَةِ قَدْ تُرْجَى إزَالَتُهَا *** إِلاَّ عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاكَ عَنْ حَسَدِ
0000000000000000
** باحث ماجستير بقسم الفلسفة الإسلامية- كلية دار العلوم جامعة القاهرة؛ يمكنكم التواصل معه أو مراسلتنا بآرائكم وخواطركم الإيمانية عبر بريد الصفحة: tazkia@iolteam.com.(/2)
الحسد
يتناول الدرس معنى الحسد والأسباب التي تدعو إلى وجوده، وكيفية اتقاء الحسد، ثم كيف يتوب الحاسد والوسائل المعينة على ذلك .
معناه : الحسد: هو تمني زوال النعمة عن صاحبها؛ سواءً كانت نعمة دين أو دنيا.
التحذير منه : قال سبحانه وتعالى في ذم الحاسدين , واستنكار أفعالهم:
] أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ .....[54] [ سورة النساء .
وقد أمر الله ـ جل وعلا ـ بالاستعاذة من شر الحاسد فقال ـ تعالى ـ: ] ومن شر حاسد إذا حسد[ سورة الفلق .
وللتحذير من الحسد وعواقبه قال صلى الله عليه وسلم: [إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ أَوْ قَالَ الْعُشْبَ]أخرجه أبو داود عن أبي هريرة.
قال بعض الحكماء: بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه:
أولها : قد أبغض كل نعمة قد ظهرت على غيره.
و الثاني : سخط لقسمته؛ كأنه يقول لربه: لم قسمت هكذا؟
والثالث: أنه ضن بفضله؛ يعني أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو يبخل بفضل الله تعالى.
والرابع : خذل ولي الله ـ تعالى ـ, لأنه يريد خذلانه وزوال النعمة عنه.
والخامس: أعان عدوه يعني إبليس لعنه الله.
ويقال: الحاسد لا ينال في المجلس إلا مذمة وذلاً، ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضًا، ولا ينال في الخلوة إلا جزعًا وغمًا ، ولا ينال عند النزع إلا شدة وهولاً ، ولا ينال في الموقف إلا فضيحة ونكالاً، ولا ينال في النار إلا حرًا واحتراقًا..!!
أسباب الحسد:
1- العداوة والبغضاء: فإن من آذاه إنسان بسبب من الأسباب , وخالفه في غرضه , أبغضه قلبه, ورسخ في نفسه الحقد.
والحقد يقتضي التشفي والانتقام , فمهما أصاب عدوّه من البلاء فرح بذلك , وظنه مكافأة من الله ـ تعالى ـ له، ومهما أصابته نعمة ساءه ذلك، وإنما غاية التقي أن لا يبغي , وأن يكره ذلك من نفسه..
2- الكبر والعجب: وأما الكبر؛ فهو أن يصيب بعض نظرائه مالاً أو ولاية, فيخاف أن يتكبر عليه , أو يكون من أصاب ذلك دونه ؛ فلا يتحمل ترفعه عليه أو مساواته ، وكان حسد الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم قريبًا من ذلك ، قال الله تعالى : ] وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ[34] [ سورة المؤمنون .
3- حب الرياسة والجاه: وأما حب الرياسة والجاه فمثاله رجلٌ يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون ؛ فيسمع بنظير له في أقصى العالم ؛ فيسوؤه ذلك , ويحب زوال النعمة التي يشاركه فيها .
وقد كان علماء اليهود ينكرون معرفة النبي صلى الله عليه وسلم , ولا يؤمنون به خوفًا من بطلان رئاستهم.
4- خبث النفس وبخلها: تجد من الناس من لا يشتغل برئاسة ولا تكبر , وإذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله ـ تعالى ـ شق عليه ذلك، وإذا وصفت له اضطرب أمور الناس وإدبارهم فرح به.
ثمرة الحسد:
إن الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن , واحتقن فيه فصار حقدًا؛ فالحقد ثمرة الغضب , والحقد يثمر ثمانية أمور:
الأول: الحسد؛ وهو أن يحملك الحقد على أن تتمنى زوال النعمة عنه.
الثاني: تشمت بمن أصابه من البلاء.
الثالث: أن تهجره , وتنقطع عنه ؛ وإن أقبل عليك.
الرابع: وهو أن تعرض عنه استصغارًا له.
ولذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد , والتاجر يحسد التاجر , فأصل العداوة التزاحم على غرض واحد، والغرض الواحد لا يجمع متباعدين ، ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا؛ فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمي ن، وأما الآخرة فلا ضيق فيها , ولهذا فإنه بحسب فضل الإنسان , وظهور النعمة عليه يكون حسد الناس له, فإن كثر فضله كثر حُسّاده، وإن قلّ قلوا.
الخامس: أن تتكلم فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وإفشاء سر وهتك ستر وغيره.
السادس: أن تحاكيه استهزاء به وسخرية منه.
السابع: إيذاؤه بالضرب وما يؤلم بدنه.
الثامن: أن تمنعه حقه من قضاء دين أو صلة رحم أو رد مظلمة.
ما يصيب الحاسد:
ليس شيء من الشر أضر من الحسد؛ لأنه يوصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل إلى المحسود مكروه:
أولهما: غم لا ينقطع. والثاني: مصيبة لا يؤجر عليها. والثالث: مذمة لا يحمد بها.
والرابع: يسخط عليه الربّ. والخامس: تغلق عليه أبواب التوفيق.
موقف المسلم من حاسديه:
جمع الله تفصيل ذلك في قوله تعالى: ] وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [134] [سورة آل عمران .
قال أهل العلم: ثلاث منازل للمبتدئين والمقتصدين والسابقين بالخيرات.
المنزلة الأولى: من أسيء إليه فليكظم.
المنزلة الثانية: فإن زاد على الكظم ] وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [.
المنزلة الثالثة: من جمع ما سبق ] وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [.
فأحسن إليه بصلة أو هدية.
وللمسلم مواقف من الحسد وحاسديه:(/1)
أولاً: الرجوع إلى الله, والتوبة من الذنوب؛ فإن ما أصابه من تسلط الأعداء عليه إنما هو بذنوبه.. قال تعالى: ] وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ[30] [سورة الشورى.
ثانيًا: التوكل على الله؛ فالتوكُّل على الله من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم,قال تعالى: ] وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ .....[3] [ سورة الطلاق .
ثالثًا: الاستعاذة بالله ـ تعالى ـ وقراءة الأذكار والأوراد المشروعة؛ فقد أمر الله ـ جل وعلا ـ نبيّه صلى الله عليه وسلم بالتعوذ من شر حاسد إذا حسد.
رابعًا: الدعاء والتضرع إلى الله بأن يقيك الله ويحفظك من شر أعدائك وحسادك.
خامسًا: العدل معه , وعدم الإساءة إليه بالمثل.
سادسًا: الإحسان إليه؛ فكلّما ازداد أذى ازددت إليه إحسانًا وله نصيحة.
سابعًا: مداراته والتودد إليه؛ لعل الله أن يهديه ويكفيك شره.
وسائل التوبة من الحسد:
أولاً: الإخلاص: عن جبير بن مطعم ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالنَّصِيحَةُ لِوُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ] رواه ابن ماجة وأحمد و الدارمي.
ومن المعلوم أن من أخلص دينه لله ـ عز وجل ـ فلن يحمل في نفسه تجاه إخوانه المسلمين إلا المحبة الصادقة , وعندها سيفرح إذا أصابتهم حسنة , وسيحزن إذا أصابتهم مصيبة.
ثانيًا: رضا العبد عن ربه وامتلاء قلبه به: قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في الرضا: أنه يفتح للعبد باب السلامة؛ فيجعل قلبه نقيًا من الغش والدغل والغل، ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم.
كذلك وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضا، وكلما كان العبد أشد رضًا كان قلبه أسلم , فالخبث والدغل والغش : قرين السخط، وسلامة القلب وبره ونصحه :قرين الرضا، وكذلك الحسد هو من ثمرات السخط، وسلامة القلب منه من ثمرات الرضا.
ثالثًا: قراءة القرآن وتدبره: فهو دواء لكل داء، والمحروم من لم يتداوَ بكتاب الله، قال الله تعالى: ] قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ .....[44] [ سورة فصلت , وقال: ] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ...[82] [ سورة الإسراء .
رابعًا: تذكر الحساب والعقاب الذي ينال من يؤذي المسلمين من جرّاء خبث نفسه , وسوء طريقته.
خامسًا: الدعاء: فيدعو العبد ربه دائمًا أن يجعل قلبه سليمًا على إخوانه , وأن يدعو له أيضًا، فهذا دأب الصالحين.. قال تعالى: ] وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[10] [ سورة الحشر .
سادسًا: الصدقة: فهي تطهر القلب , وتزكي النفس ، ولذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ] خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا .....[103][ سورة التوبة , ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [داووا مرضاكم بالصدقة]، وإن أحق المرضى بالمداواة مرضى القلوب.
سابعًا:تذكر رابطة الأخوة : فإن من تنفث عليه سمومك هو أخ مسلم , فلِم توجه الأذى نحوه .
ثامنًا: إفشاء السلام: عن أبي هريرة رضي الله عنه ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا أَنْتُمْ فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ] خرجه السبعة ماعدا البخاري والنسائي.
اسم الكتاب: الحسد ..... تأليف: عبد الملك القاسم(/2)
الحسم في السلبيات
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ))
(( إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته ))
ما زلنا نبحث عن وسائل متعددة لإصلاح الأسرة المسلمة هذه الأسرة التي هي مفتاح الهزائم ومفتاح الانتصارات .. فبقدر ما تكون قريبة من الإسلام فإنها تكون سعيدة منتجة وبقدر ما تكون بعيدة عن الإسلام تكون شقية متفرقة.
ذكرنا نقاطا :
• تخفيف مثيرات الشهوة في البيوت " صيد الفوائد تربة الأبناء "
• اشاعة ثقافة المصارحة في البيوت .
• مراعاة الفروق الفردية في الأسرة
نتابع اليوم:
الحسم في السلبيات :
إن الإسلام جاء للعالم كله وهذا يعني أنه منفتح على العالم كله قال تعالى " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " (107) الأنبياء
ونتيجة لهذا الانفتاح الذي هو ميزة لهذا الدين قد يتسرب للمجتمع المسلم بشكل عام وللأسرة المسلمة بشكل خاص بعض الأمور والحيثيات الغربية أو الشرقية والغريبة عن المجتمع المسلم وعن مبادئه وأهدافه .
ومن هنا يكمن دور الأسرة في تحصين البيت من هذه السلبيات المختلفة وهي مسؤولية عظيمة وجسيمة تقع على أكتاف وأعناق الآباء والأمهات ذلك أن هذا الانفتاح الخطير والاختلاط الكبير جعل كثيرا من الأمور السلبية تتسرب إلى بيوتنا ونحن عنها غافلون وربما الكثير الكثير من المسلمين لا يلقون لها بالا وهي أشد أخطر وأكثر ضررا.
ولقد حذر النبي عليه السلام في كثير من أحاديثه من هذا التقليد الأعمى فقال " لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه " البخاري
ووقف أمام هذه الواردات الغربية والشرقية موقفا منهجيا علميا :
1- فما وافق الأصول الإسلامية ووافق الأهداف الإسلامية قبله .
فعندما قدم تميم الداري رضوان الله عليه من بلاد الشام وتعلم من هناك كيف تشعل السرج وأنار بها المسجد النبوي دعا له النبي عليه السلام بأن ينور قبره وقبل منه هذا الوافد الجديد الذي لا يخالف أصولا إسلامية بل يفيد الدعوة ويفيد الأمة
2- ماخالف هذه الأصول والأهداف رفضه رفضا قاطعا لا هوادة فيه حرصا منه على استقلالية الإسلام والمسلمين . روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد "
ومن هذا القبيل أمره عليه السلام بمخالفة اليهود والنصارى فعن عبادة بن الصامت قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اتبع الجنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد فعرض له حبر فقال هكذا نصنع يا محمد قال فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال خالفوهم قال أبو عيسى هذا حديث غريب
وهكذا يجب أن يكون تعامل المسلمين اليوم مع هذه الواردات المختلفة.
إن الأسرة تولد كما يولد الطفل وإن الفترات الذهبية لتربية الأسرة هي تلك الفترات الذهبية لتربية الطفل أي في السنوات الأولى من ولادتها
لكن ويا للأسف الشديد فإن كثيرا من الأزواج يبدؤون حياتهم الزوجية وهم غير ملتزمين بالإسلام فتبدو الأسرة في الفترات الذهبية لتربيتها ضائعة لا تعرف منهجا ولا طريقا وينشأ قسم من الأولاد على هذا المنوال
ثم يبدأ الأب والأم بالتوبة عندما يقتربون من الثلث الأخير في أعمارهم ويريدون أن يزيلوا كل السلبيات التي كانت دفعة واحدة فيحصل الصدام بين الأزواج أو بين الأب والأم من جهة وبين الأولاد من جهة أخرى
لقد كان منهج النبوة في السلبيات التي توجد في البيت منهجا واضحا وصريحا هو عدم السماح لهذه السلبيات أن تبيت ليلة واحدة في البيت لقد كان منهجه هو الحسم في السلبيات .
فعن عائشة قالت جعلت على باب بيتي سترا فيه تصاوير فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل نظر إليه فهتكه قالت فأخذته فقطعت منه نمرقتين " روه الإمام أحمد وأصله في الصحيحين
فالنبي عليه السلام كان موقفه عندما رآى شيئا مخالفا وسلبيا في بيته هو الحسم في هذه السلبية حتى أنه نزع هذه التصاوير بيده كما صرح الإمام أحمد في روايته
ومرة تتكلم السيدة عائشة عن صفية فيكون موقف النبي حاسما فقد روى أبو داود في سننه
عن عائشة قالت قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا قال غير مسدد تعني
قصيرة فقال " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته "
إن الحسم في السلبيات في السنوات الذهبية من عمر الأسرة له الدور الكبير في سير هذه الأسرة في الطريق الصحيح والسليم
لكن إذا تأخر الرجل في الحسم وإنهاء السلبيات من بيته حتى سن متأخرة فهذا لا يعني اليأس لكنه مكلف شرعا بإزالته ولكنه يحتاج إلى جهد أكبر يرافقه حكمة بالغة(/1)
إن السكوت عن السلبيات المختلفة في الأسرة يجعلها تتراكب وتتواكب لتشكل سدا منيعا في طريق إصلاح الأسرة التي كلفنا الله سبحانه وتعالى بإصلاحها والأخطر من ذلك هو أن القائمين على الأسرة من الآباء والأمهات هم الذين يكرسون هذه السلبيات المختلفة فتنشأ الأسرة بعيدة كل البعد عن المنهج القويم والصراط المستقيم والأمثلة على ذلك كثيرة فمن ذلك التدخين أمام الأولاد والجلوس في البيت والأب ذو عورة مكشوفة ومتابعة الساعات الطوال على شاشات الفضائيات وغير ذلك مع أن الله جعل الأب حاكما على بيته فمن يمنعه على الأقل من تطبيق الإسلام في بيته "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون "
والله ولي التوفيق
عبد اللطيف البريجاوي(/2)
الحسن البصري في بعض وصاياه
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
يجد الباحث في سير هؤلاء الرجال الذين كانوا على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم سلوكاً واتباعاً "أنهم كانوا على خير حال في نصحهم لأنفسهم ونصحهم لمن ولاهم الله أمرهم تربية وتعهداً ودلالة على ما به نجاتهم وفوزهم في الدنيا والآخرة، عملاً بقول النبي عليه الصلاة والسلام: "الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم".
ولا شك أن من نصح المؤمن لمن ولي إليه أمره، ووكلت إليه تربيته وإعداده، أن يأخذ بيده إلى مواطن مرضاة الله تعالى، وأن يرفعه عن حمأة الدنيا وأوضارها، ويعمل على أن يجعل قلبه مزداناً بخشية الله، يبكي لذنبه، ويحزن على ما يفوته من أمور الآخرة، ويندم على ما فرط في جنب مولاه سبحانه، حتى يصبح ذلك كأنه طبع له وسجية.
فقد روى ابن أبي الدنيا عن حمزة الأعمى قال ذهبت بي أمي إلى الحسن فقالت: يا أبا الحسن ابني هذا قد أحببت أن يلزمك، فلعل الله أن ينفعه بك، قال: فكنت أختلف إليه فقال لي يوماً: يا بني: "أدم الحزن على خير الآخرة لعله أن يوصلك إليه، وابك في ساعات الخلوة في الليل والنهار لعل مولاك أن يطلع عليك، فيرحم عبرتك فتكون من الفائزين".
هذه واحدة من وصايا الحسن لحمزة، وقد ائتمنته أمه على تربيته وتوجيهه، وإشراق هذه الوصية فيما تحمل من النصح وفيما تضيء من الطريق واضح لكل من تذوق معنى الخضوع بين يدي الله، وأسعده الله بالدمعة الحرى يطفئ بها لهيب المخالفة، ويغسل بجوهرها الفذ أدران المعاصي، وما يكون من قسوة القلب –والعياذ بالله-.
ولعل من الخير أن نذكر أن هؤلاء الربانيين –والحسن واحد منهم- كانوا في سلوكهم حكماء معلمين قبل أن يكونوا في كلماتهم نصحة مؤدبين ومربين، قال حمزة: وكنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكي، وربما جئت إليه وهو يصلي فأسمع بكاءه ونحيبه، فقلت له يوماً: إنك تكثر البكاء، فقال: يا بني ماذا يصنع العبد إذا لم يبك؟ يا بني إن البكاء داع إلى الرحمة.. وقال: ما هو إلا حلول الدار إما الجنة وإما النار، ما هنالك منزل ثالث، وقال: بلغنا أن الباكي من خشية الله لا تقطر من دموعه قطرة حتى تعتق رقبته من النار، ولو أن باكياً بكى في الأمة خشية الله لرحموا جميعاً، وليس شيء من الأعمال إلا له وزن إلا البكاء من خشية الله، فإنه لا يقدم لله بالدمعة منه شيئاً.
أما بعد: فلم يكن هذا الذي نرى من خلق الحسن رحمه الله، إلا بعضاً من خلائق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أكرمه الله بلقاء نفر منهم، فلقد ثبت أن هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم كانوا بما أدبهم به رسول الله مثالاً يحتذى في خشية الله والبكاء على أنفسهم أن لا تكون العاقبة هي المرتجاة، فحين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً".
ضجوا بالبكاء وكان لهم حنين، ورسولنا جعل من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" رجلاً ذكر الله خالياً فدمعت عيناه".
رحم الله الحسن ورضي عنه، فلقد كان نعم الناصح الأمين بحاله وقاله، وأكرم بالكلمة يلقيها من يلقيها، وقد سبقها منه العمل والسلوك، وياما أحيلاها وصية.
هي من معدن النبوة أصالة وإشراقاً، ومن خلائق رجال رضي الله عنهم ورضوا عنه نسباً وسبباً، اللهم اجعلنا من أولئك الذين صدقوا في العبودية لك، من امتحنت قلوبهم للتقوى، فكانوا إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً.
اللهم أكرمنا بأن نكون من عداد الذين قلت فيهم:
"والذين هم من خشية ربهم مشفقون".
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(/1)
الحسّ الاعتراضي
سالم بن عبد الرحمن السيف 4/7/1423
11/09/2002
. . . مع كل إشراقة شمس صبيحة كل يوم، ومع أول فنجان قهوة صباحي تحتسيه إبّان قراءتك صحيفتك اليوميّة المفضلة لا تفتأ تجدُكَ تُطالع ، طولاً وعرضاً ، مقالات الأعمدة بشتى صنوف ( الاعتراضات ) ووسائل الانتقاد للوضع الآني السياسي أو الحكومي أو التعليمي وكافة الأصعدة .. وترى وتسمع على شاشات التلفاز والقنوات الفضائيّة عن أحزاب " معارضة " ومناوئة للنظام الحاكم في البلاد ، وعن التوجهات اليمينية واليساريّة المتطرفة ، بأشكال ومظاهر متعددة تبيّن مدى رسوخ النزعة الاعتراضية في الأوساط كلها، السياسي والاجتماعي والديني ! .
تتيح مساحات ديموقراطيّة الرأي والتعبير فرصة للأقلام والآراء والأصوات لطرح الانتقادات والاعتراضات لآراء معيّنة وربما " تمجيد " آراء وقرارات أخرى صادرة - القويمة منها والسقيمة- ، ولا يخفى أثر ذلك سلبًا أو إيجابًا .
هذه الحريّة إضافةً إلى تنوع الثقافات والاختلاف في زوايا النظر من ذوي الأقلام والمحاور الإعلامية ؛ جميعها صانع رئيس لتعدد الاتجاهات الباعثة للاعتراض والشجب ، يضاف إليها أحيانًا شيء من الحوافز ( الذاتيّة ! ) الدافعة للاعتراض من بحث عن المواجهة والمضادة وحب الظهور والوقوف نداً للتيّار ، تناقش القرارات وتضعها على شريحة المجهر ، والمأساة هنا هي لِذة الشعور بالأهميّة والمقارنة، وتغييب الواضحات في سحائب جدليّة كبادرة للخوض في دوّامة حركية جدلية تلبث ثم لا تتمخّض إلا عن " فئران ! "، تحت أسلوب دقيق متطور يسمى ( الاعتراض لأجل الاعتراض ، والنقد لذات النقد!) يرمي إلى خلق دوائر حواريّة هي غاية بذاتها لا ما ينتج عنها ، تكون– بقصد أو دونه – وغالبًا ما تنشط أيام الأزمات !
ومما لا شكّ فيه أثرُ هذا السلوك الاعتراضي على نفسيّة المجتمع ، وتشتيت وحدة أفكاره، وجذبه نحوَ الصلابة والمقاومة وبث روح الاعتراض في أوصاله ، لا تكون في الغالب إلا لأجل أهداف تصب في إناء المصلحة العامّة !
وهذا أيضاً ، مما يُفقد القرارات المُتخذة لصالح العامّة والمجتمع وزنها ويضعها في مواقف حرجة ويسخر من متانة دعائمها ..
ومن المشاهد المتكررة أخيراً من أمثلة " اعتراضية " ما يتولاّهُ المتشدّقة بمعارضة " المقاطعة للمنتجات الأمريكية واليهودية " والتي لم يُرَ حتى الآن أية جدوى ملموسة – المعارضة لا المقاطعة ! – لهذه الفكرة الوليدة التي استعجل نتاجها وثمرتها !
نعلم ، وتعلمون ، ما ذُكرَ في مُحكم الكتاب في قصّة اعتراض بني إسرائيل كبادرة تُضاف إلى سجلّهم الحافل بالاعتراضات ، فقد جاء على لسانهم ( لن نصبرَ على طعامٍ واحدٍ ، فادعُ لنا ربّك يُخرج لنا مما تُنبتُ الأرضُ من بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها… الآية ) فاستنكر نبي الله موسى - عليه السلام- مقولتهم بأن أجاب ( أتستبدلون الذي هوَ أدنى بالذي هو خير ، اهبطوا مِصراً … الآية ) .
وعلى الضفّة الأخرى من النهر .. نجد مثالاً قدوةً في التسليم والطواعية مُتمثّلا في أخذهِ - عليه الصلاة والسلام - بمشورة " سلمان الفارسي " – رضي الله عنه – في الحرب والرأي العسكري المُسدّد في حفرِ خندقٍ تُطرّز بهِ حوافُّ المدينة حصناً من الأحزاب ، الأمر الذي كان خليقاً بالاعتراض من جانبه -عليه الصلاة والسلام- ومن جانب كبار الصحابة -رضوان الله عليهم- فيهم أبو بكرٍ وعمر . . لما فيه من بدعةٍ مُستحدثة لم تجرِ عليها عادة العرب في حروبهم ، ولكنها الفكرة والرأي الحصيف الذي يجد " خصوبةً في الأرض " فينتج " نضجاً " في التنفيذ ! .
يولدُ هاهنا تساؤلٌ : متى يكونُ المجالُ " مفتوحًا " للاعتراضات ومتى – لا نقول "محظوراً" – ولكن " محذوراً " ؟
هذا السؤال وأمثاله يجيب عليه الوضع والبيئة الحوارية والحضارية ومدى "خصوبتها" لتقبل مختلف " المياه" لتنبتَ لنا أشجاراً طيبة " مثمرة " أو أخرى خبيثة " سامّة " لا ظل ولا ثمر !.
في حساب قيمة الرأي الوليد ( الإعتراض ) واستقصاء الزمان والمكان الأنسبان له ؛ ربما تجد اعتراضًا " محرّمًا " كالاعتراض على الأقدار والمسلّمات -حمى الله الجميع - أو " مكروهاً " مما يثيرُ زوابعَ الفتنة أو يثبط الهمّة ، أو "مستحباً" و"واجباً"( فليغيّرهُ بيده فإن لم يستطع فبلسانهِ ! ) .
وحيناً من الأحايين يكون الانقياد " أسلم " من فتح باب " العنف الآرائي" للرياح ، وتشتيت العقول والأحلام !
لفن الاعتراض والنقد فائدة ، ولسوء فهمه مساوئ، فهوَ يقوّم الرأي والقرار بآراء أخرى، ويعمل على تهذيب القرارات الصحيحة وصقلها ، بينما يكون مثار نقع حرب شعواء لدى إساءة فهمه أو إساءة "استخدامه" ، فلنتأمّل !(/1)
الحسّ الدعويّ
د. عبد الكريم بكار 11/4/1426
19/05/2005
هناك خوف مستمر من أن يؤدي طول الأمد وامتداد الزمان إلى حرف الاتجاه وتضييع الأهداف الكبرى؛ إذ إنّ أي انحراف صغير يكبر مع مرور الأيام ليصبح انحرافاً كبيراً. لا نجادل اليوم أن هناك اتجاهاً كبيراً في كل عالمنا الإسلامي إلى التغيير. وفي أحيان كثيرة يشعر الناس بشيء من الإصلاح. وهذا يحدث في غالب الأحيان بسبب الأوضاع الجديدة الناجمة عن التطور التقني –ولا سيما في عالم البث والاتصال- وانفتاح العالم بعضه على بعض. وهذا كثيراً ما يغري شريحة واسعة من الناس بالانغماس في الحديث عن الإصلاح والمطالبة به. ونحن أمة نحتاج في الحقيقة إلى إصلاح كل النظم التي لديها: التربوية والتعليمية والاقتصادية ومن بينها النظام السياسي؛ فأوضاع معظم البلدان الإسلامية في المسائل الحقوقية والنزاهة المالية وحسن تصريف الأمور الإدارية هي أوضاع أقل ما يُقال فيها: إنها مخجلة! لكن من المهم أن نكون على وعي بشيء آخر، هو ضرورة الاحتفاظ بـ (الحسّ الدعويّ) النقيّ والمبرَّأ من شهوة الحصول على منافع شخصية عاجلة. وأودّ هنا أن أُبدي الملاحظات الآتية:
1- يُلاحظ اليوم أن طابع المناداة بالإصلاح يرتدي حلّة المطالبة بالحقوق أكثر من أي شيء آخر. فهذه جماعة تريد أن تحصل على حرية التعبير، كما هو شأن المشتغلين بالإعلام. وهذه فئة تطالب بالسماح لها بتشكيل حزب سياسي. وهذا فريق يطالب بتحسين الأجور... الخ
ومع أن كثيراً من هذه المطالب صحيح إلا أن الإصلاح يظل -بوصفه الحاضر- نزّاعاً إلى أن يكون الحصول على شيء ما. إن طابعه العام هو الأخذ، وعلى الآخرين أن يعطوا، ويقدموا، ويتنازلوا... أما الداعية الحقيقي، أو من يغلب عليه الحسّ الدعويّ الحقيقي فإن الطابع العام لأنشطته هو العطاء غير المشروط، والعطاء المصحوب بالحُرقة على عموم الخلق. وهذا هو شأن الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- إن شعارهم العملي –كما أخبر الله تعالى عنهم هو:(ما أسألكم عليه من أجر). إنهم يدعون الصغير والكبير والشريف والوضيع والغني والفقير، يدعونهم إلى ما فيه صلاحهم في شأنهم الديني والأخروي أولاً وصلاحهم الدنيوي ثانياً. أما الذين يدعون إلى الإصلاح اليوم فإن الذي يغلب عليهم هو المطالبة بإصلاح أمور تمسّ الأمور الدنيوية والمعيشية في المقام الأول. وهم شيئاً فشيئاً بدؤوا ينظرون إلى مسائل التقوى والورع وأداء الشعائر والكفّ عن المعاصي على أنها مسائل شخصية، يتصرّف فيها الناس بحكم أنهم مسلمون واعون ومخلصون. مع أن الذي يتأمل في النصوص الكريمة يجد أن صلاح السلوك الشخصي للمسلم يشكل أهم المحاور التي ذهبت باهتمام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واهتمام من تبعهم بإحسان من أتباعهم وحوارييهم.
2- حين يمتلك المرء الحسّ الدعويّ فإنه يجد نفسه مندفعاً في اتجاه جميع الناس على اختلاف مواقعهم الاجتماعية، وعلى اختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم. إنه يبلغ رسالة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويجعل من صوته امتداداً لأصواتهم. ومن ثم تصبح الدعوة أداة لتمتين اللحمة الاجتماعية، وأداة لتجميع الناس على قضايا محددة وبسيطة: قضية الإيمان والتقوى والعمل الصالح وفعل الخير والنجاة في الآخرة. وكل هذه المفردات تشكل حاجات أساسية لعموم الناس. وتجد في هذه الحالة نوعاً من الاهتمام الخاص يوجّه للفقراء والضعفاء. وكل أولئك المحتاجين إلى العون. وهؤلاء يشكلون البنية الأساسية لأتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والبنية الأساسية لكل الصحوات الإسلامية المتتابعة.
أما حين يضعف الحسّ الدعويّ فإن الخطاب آنذاك تصوغه نخب متحالفة أو متشاحنة، ويصبح الطرح الإصلاحي أداة لتقسيم الناس إلى خاصة وعامة، وأداة لتنمية الروح الحزبيّة وروح الفرقاء المتشاكسين الذين يتحدثون من أفق المجاملة الفكرية والسياسية والثقافية والطائفية...
ويستهدفون باستمرار تحقيق مكاسب حزبية أو تسجيل مواقف تاريخية أو إثبات الأهلية للدخول في تحالفات نقية وغير نقية. وتسود أجواء من ضعف الثقة وضعف المصداقية، ويصبح التشكيك والاتهام من أدوات التنمية الثقافية والسياسية. ويضيع في غمرة كل ذلك الحسّ الأخلاقي العميق والالتزام بتعميق التديّن لدى عموم الناس!
3- حين يضعف الحسّ الدعويّ في مجتمع من المجتمعات المسلمة تسود درجة كبيرة من البطالة في صفوف الشباب؛ لأنهم يفقدون المحرك الداخلي لبذل النصح وهداية الخلق، ويفقدون الأفق الفكري الذي يؤطّر حركتهم الاجتماعية. ويجدون أنفسهم في الوقت نفسه عاجزين عن استيعاب الطروحات الإصلاحية -والتي يصوغها في العادة صفوة -وشرحها للناس لأنهم يشعرون أنهم أصبحوا كمن هدم بيته ليبني في مكانه قصراً مشيداً لكن بعد الهدم وجد أن تكاليف بناء القصر تفوق كثيراً ما لديه، ولهذا فإنه وجد نفسه في العراء!(/1)
المجال الدعوي بطبيعته رحب الأرجاء؛ حيث نجد كل من لديه أدنى علم مؤهَّلاً لقول كلمة خير في سياق نصيحة أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو حث على فضيلة. أما المجال الإصلاحي بوصفه صناعة نخب فإنه لا يتّسع إلا إلى أقل القليل من الشباب، لكن معظم الناس لا يدركون هذا، ويأخذون في الحديث عن أمور لا يعرفون عنها الكثير، ولا يجنون من وراء الحديث فيها أي شيء ذي قيمة، ولو نظرنا إلى مجادلات الشباب اليوم حول الديموقراطية والعلاقة بالغرب وحقوق المرأة وفوائد تشكيل النقابات ونشر الحريات لتأكدت من صحة هذا القول.
من المهم أن يشتغل بالقضايا الإصلاحية واحد أو اثنان في المئة من أهل الخير والعلم. وعلى الباقين أن ينشغلوا بحماية المجتمع من التحلّل الخلقي، وينشغلوا بنشر العلم وتربية الناشئة وإعدادهم للمستقبل، وإلا فسيجد كثير من الناس أنفسهم مشغولين بالإصلاح بوصفه (حديث مجالس) وطقطقات صحفية ليس أكثر.
إن من مهام أهل الفكر والعلم أن يرقبوا وجوه الخلل في توازن المسيرة الدعويّة، ويحاولوا إعادة الأمور إلى مجراها الصحيح، وإلا فإن من شأن الامتداد أن يقتل الاتجاه، كما يقتل المكانُ الزمان.
ولله الأمر من قبل ومن بعد(/2)
الحضارات والهزائم دروس من تجربة الصين
د.باسم خفاجي
مقدمة
مفكرة الإسلام : العلاقة بين الحضارات والهزائم علاقة عجيبة .. تفني بعض الحضارات بعد الهزائم، وتقوى حضارات أخرى بعد الهزائم أيضاً؟ وهو سؤال يحير الكثير من المؤرخين عند دراسة الحضارات المختلفة عبر تاريخ البشرية. بعض الحضارات لا تقبل بالهزيمة، وإنما تصبح الهزائم مصدر قوة لهذه الحضارات لكي تعود للظهور مرة أخرى بشكل أقوى وبصورة أكثر مدنية وتحضراً. وبعض الحضارات الأخرى لا تقبل أيضاً بالهزائم ولكنها تنقاد إلى المزيد من الهزائم التي تقضى عليها. والكثير من الحضارات تقبل بالهزائم وتنزوي لتصبح هامشاً في صفحات التاريخ.
ومن الحضارات التي لم تفنيها الهزائم الحضارة الإسلامية والحضارة الصينية، وكل منهما مر بفترات هزيمة طويلة. لكن المتتبع للتاريخ يجد أن الهزائم لهاتين الحضارتين كانت مصدراً لشحذ همم الأفراد والقادة لكي تعود الحضارة أكثر ازدهاراً وقوة. وفي المقابل اختفت حضارات أخرى كان لها من القوة والمدنية والتقدم التقني والحضاري مثل ما كان للحضارة الإسلامية أو الصينية ومع ذلك لم تستطع البقاء والصمود في وجه الزمن وأحداث التاريخ، ومثال ذلك الحضارة الرومانية واليونانية.
ألمانيا كانت تتربع على عرش الحضارة الغربية في بداية القرن العشرين ولم تقبل بالهزيمة بعد الحرب العالمية الأولى، وعادت بشكل أقوى لتجتاح العالم في الحرب العالمية الثانية. لم تستطع ألمانيا أن تتحمل الهزيمة الأولى، ولكن لم يكن لديها الرصيد الأخلاقي والحضاري اللازم لمواكبة الطموح في السيادة والمدنية وغزو العالم. هنا يكمن مفتاح بقاء الحضارات واستمرارها، وهو أن يتوفر للحضارة الرصيد الكافي من القدرات الداخلية التي تضمن استمرار الصمود والبقاء خلال الأزمات وبعد الهزائم وهو ما لم يتوفر لألمانيا من قبل، ولا تتمتع به الحضارة الغربية اليوم. لذلك لن تتمكن الحضارة الغربية من مقاومة هزائم الزمن لأن الرصيد الداخلي لهذه الحضارة يتناقص يوماً عن يوم.
الرصيد الداخلي للحضارات
إن الرصيد الداخلي للحضارة لا يرتبط بالضرورة بالعوامل المادية والإقتصادية، وإنما يرتبط بشكل أكبر بمنظومة القيم والأخلاق التي تحملها الحضارة من ناحية، وبين الصفات الشخصية والعرقية التي تميز أبناء هذه الحضارة، وهى عوامل قد لا تظهر بشكل واضح عند ازدهار الحضارات، ولكنها تشكل صمام الأمان اللازم لاستمرار الحضارات بعد الهزائم. وهذا ما يميز كلاً من الحضارة الصينية والإسلامية رغم التباين والاختلاف الشديد بين مقومات كل من الحضارتين.
لقد اختفت الحضارة الصينية إلى حد كبير من الساحة العالمية خلال القرون الماضية، أما اليوم فإنها تخطو بخطى واضحة وثابتة نحو التأثير مرة أخرى في مجريات أحداث العالم. إن متابعة عودة الصين إلى الساحة العالمية كقوة عظمى يمكن أن يفيد أبناء الأمة الإسلامية وهى تتلمس طريق العودة إلى المكان اللائق بها حضارياً وإنسانياً.
وإذا كانت النهضة الحضارية ترتبط بمنظومية القيم والصفات العرقية المميزة لأبناء الحضارة، وليس بالضرورة للرصيد المادي أو الإقتصادي أو حتى الفكري، فكيف يمكن للتجديد الحضاري أن يتجاوز عقبات التخلف والجهل التي تحيط وتكبل عودة الأمة إلى مكانها اللائق بين الحضارات والأمم. هنا – مرة أخرى –يمكن أن تعطي تجربة الصين بعض الدلالات والإشارات إلى ذلك الطريق.
الصين والنهوض الحضاري
كانت الصين في بداية القرن العشرين وحتى منتصفه كياناً هزيلاً ضعيفاً يعاني من تفشي الجهل والفقر ونقص التقنية وضعف الهوية القومية والهزيمة النفسية وسيادة القوى الأجنبية. كلها عوامل كانت تكفي لتحطيم أي كيان أو دولة، وهى نفس الأمراض التي تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية في بداية القرن الحادي والعشرين.
ولكن في خلال 50 عاماً انتقلت الصين مرة أخرى في تاريخها الذي يعود إلى أكثر من 5000 عام لتصبح قوة عظمى تنافس الولايات المتحدة على سيادة العالم، وتعتبر اليوم أهم دولة في العالم اقتصادياً وسكانياً وسياسياً، ومع كل ذلك فقد حافظت الصين على هويتها التاريخية، وشخصيتها القومية إلى حد يثير الإعجاب والتأمل.
يرجع البعض كل ذلك إلى شخصية ماوتسي تونج .. ولا شك أنها كانت شخصية تاريخية في حياة الصين المعاصرة، ولكن من يتابع الواقع الحالي للصين يجد أنها بلا شك قد استفادت من تعاليم ماوتسي تونج وقيادته للصين، ولكنها قد تجاوزت ذلك اليوم في طريق نهضتها الحالية، وساهمت عوامل أخرى متعددة في استعادة الصين لدورها كقوة حضارية عالمية.
الرصيد الحضاري للأمم
يمكن إجمال عوامل 'الرصيد الحضاري' للأمة المستمدة من تجربة الصين في الأمور التالية والتي يمكن أن تفيد الأمة الإسلامية لتستعيد دورها ونهضتها في عالم القرن الحادي والعشرين.(/1)
القيادة الفكرية: لا تتقدم الأمم بالتقنية والمدنية والتصنيع فقط، ولكن لابد أن يمتزج كل ذلك من خلال قيادة فكرية تدفع الأمة للأمام وتحافظ على هويتها، وتنجح في تطويع الأفكار العالمية لخدمة القضايا المحلية للأمة، وهو ما نجح فيه ماوتسي تونج على سبيل المثال في الصين.
فرغم أنه اقتنع بالفكر الماركسي إلا أنه لم يقبل بنقل التجربة الروسية إلى الصين، وإنما قام بتطويع الفكر الماركسي ليتناسب مع طبيعة الشعب الصيني. والأمة الإسلامية ليست في حاجه لاستيراد أفكار غربية أو ماركسية للنهوض الحضاري، وإنما هى في حاجه إلى إيجاد صيغ عملية واقعية لتجديد الفكر الإسلامي ليتناسب مع احتياجات الأمة وطبيعتها المتعددة القوميات في القرن الحالي وهذا دور القيادة الفكرية للأمة.
إحياء الشخصية القومية: الاعتزاز بالهوية الخاصة بالأمة أحد أهم عوامل الرصيد الحضاري اللازم للحفاظ على الحضارة. ولذلك فإن إحياء الاعتزاز بالهوية الإسلامية للأمة هو أحد أهم الخطوات إلى عودتها إلى مكانتها الحضارية اللائقة، ولا يعني الاعتزاز بالهوية الإسلامية التمييز العرقي أو الإضطهاد الديني للأعراق أو أبناء الديانات والشعوب الأخرى، وإنما يعني الحفاظ على مقومات الشخصية الإسلامية والاعتزاز بها وتربية الأجيال الناشئة عليها دون غلو أو تفريط. تبرز تجربة الصين المعاصرة أهمية هذا العامل في دفع الشعب إلى الإتقان والتفاني والتضحية من أجل الأمة.
الانغلاق الثقافي محلياً: لكي تنجح الأمة في استعادة حضارتها، فإنها تحتاج إلى نوع من النقاء الفكري والثقافي الذي يستدعي تقليص التأثير الخارجي على الثقافة الخاصة بالحضارة. ورغم أهمية هذا العامل وضرورته إلا أنه دائماً يواجه بالنقد الشديد من قبل الشعوب والخصوم معاً، ففي عالم أصبح كالقرية الصغيرة، تبرز أي دعوة للإنغلاق الثقافي في مرحلة من تاريخ أمة، وكأنها دعوة إلى التخلف والإنغزال عن العالم المعاصر.
ولكنها في المقابل دعوة إلى إعادة البناء الداخلي للشخصية الإسلامية التي تعاني حالياً من أمراض متعددة ومعدية. إن العزل الثقافي في مرحلة البناء والعلاج له نفس قيمة وأثر العزل الصحي للمريض إلى أن يتماثل للشفاء قبل أن يسمح له بمغادرة المستشفى والعودة إلى الاختلاط والتعامل مع الأخرين.
لذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في بداية الدعوة إلى الإسلام عن قراءة الشرائع الأخرى، وكان ذلك في مرحلة البناء، وانتهى بإنتهائها، وكذلك فعلت الصين عند مرحلة البناء فيما يسمى 'بالثورة الثقافية' على ما كان فيها من أخطاء وتجاوزت إلا أنها كانت مرحلة أثبتت فائدتها للأجيال الجديدة التي استعادت الهوية الشخصية للأمة والبناء الثقافي لها.
ولا يعني الإنغلاق الثقافي رفض الأفكار القادمة من الخارج، وإنما يعني تقليل أثر هذه الأفكار على الثقافة المحلية في مرحلة البناء، ويتم ذلك أحياناً بمنع الأفكار من الوصول إلى الشعوب وهى ما لا يعقل أو يقبل في القرن الحادي والعشرين ومع تطور تقنيات التواصل بين الشعوب والأفراد، ولذلك فالبديل الصحيح هو مقاومة الأثار السلبية للأفكار التي ترفضها الحضارة الإسلامية عن طريق استخدام نفس تقنيات التواصل بكفاءة أكبر لبث الثقافة المقبولة للمجتمع والمساعدة على البناء الداخلي للأمة.
البناء الداخلي للفرد والأمة: إذا أرادت حضارة ما أن تستعيد مكانتها بين الأمم والحضارات، فهى في حاجه إلى مرحلة بناء داخلي تستعيد فيه الحضارة قدراتها على الإبداع الحضاري والإكتفاء الإقتصادي والقوة السياسية والعسكرية. وقد تستفيد الأمة في هذه المرحلة من الحضارات والقوى السياسية والإقتصادية الأخرى لمساعدتها على النهوض دون أن تفرض هذه الحضارات هيمنتها الفكرية أو السياسية على الأمة،
إن هذا التوازن بين الاستفادة من الآخر مع الحفاظ على الإستقلالية الفكرية توازن شاق ويحتاج إلى القيادة الحكيمة والمثابرة. وبما أن البناء الداخلي يحتاج إلى وقت وجهد، ولا يثمر نتائج عاجلة فورية، فلابد من إهمال عامل الزمن عند إعادة البناء، ويعني ذلك التركيز على قوة البناء الداخلي، وليس الوقت اللازم لتحقيق ذلك، ومن المهم تحمل المشكلات الآنية التي تطرأ إلى ان يتم العلاج التام لأمراض الأمة في المستقبل.(/2)
تضحية جيل: تستعيد الحضارات ذات الرصيد الحضاري مكانتها عندما يتقبل أحد أجيال الأمة مسئولية إعادة الأمة إلى سلم الحضارة، والتضحية في سبيل ذلك. والتضحية التي يقدمها هذا الجيل تكون في الغالب باهظة الثمن، ولذلك فليس من السهل أن يجبر جيل ما على القيام بهذه التضحية، وإنما تجتمع الظروف والعوامل الأخرى لتكون هذا الجيل وتقدمه ثمناً لاستعادة الحضارة لمكانتها. إن هذا ما حدث في الصين التي فقدت الملايين من جيل ماوتسي تونج والجيل الذي تلاه، وتحصد الصين اليوم نتائج تضحيات ذلك الجيل. وما يحدث اليوم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وغيرها من المناطق الملتهبة في العالم الإسلامي قد تكون بشارة تعكس نفس روح التضحية التي يقدمها أبناء جيل من أجل أمة.
قبول التحدي: الرصيد الحضاري الكامن لدى الأمم لا يتحول إلى قوة دفع إلا عندما تقبل الأمة أفراداً ومجتمعات تحدي مواجهه الواقع وتحدي التغلب على المعوقات والخصوم. فلا تستعيد الحضارات مكانتها بأن تفسح لها الأمم الأخرى مكاناً، ولكنها تستعيد مكانتها بفرض نفسها على الحضارات الأخرى، وتحدي الخصوم من أجل الفوز باحترام العالم وثقة الشعوب. إن العودة الحضارية تفقد الأمة الكثير من الأصدقاء في مرحلة التحدي، ولكنها تعيد إلى الأمة الاحترام العالمي وهو خيار لا يحسم إلا بقبول التحدي. ولا يعني قبول التحدي إساءة معاملة الخصوم، وإنما يعني اكتساب الخصوم إلى صف الأمة بناء على التوافق في المواقف وقبول التضحية من أجل المبادىء ومن أجل إعادة الأمة إلى مكانتها.
كيف تعود أمتنا إلى مكانتها
إن الأمة الإسلامية لها من 'الرصيد الحضاري' ما يكفي لأن تعود إلى قمة الأمم المتحضرة فكرياً وتقنياً وأقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، ولكن الأمة في حاجة إلى اتباع العوامل السابقة لكي يتم تحويل الرصيد الحضاري إلى واقع جديد ينقل الأمة من مأساتها الحالية وينهض بها من كبوتها التي طالت، ولن تجتمع هذه العوامل إلا بتكاتف طليعة المثقفين والمفكرين وقيادات الأمة معاً للتضحية من أجل مستقبل أفضل للأمة على حساب تضحية جيل لن ينعم بالرخاء أو بالراحة، ولكنه سيكون جيل نهضة تذكره الأجيال القادمة ويفوز بالنجاح والنجاة في الدنيا والأخرة.(/3)
الحضارة الغربية وأسباب الفناء العاجل
أنور قاسم الخضري*
لست مجازفاً عندما أتحدث عن فناء الحضارة الغربية، ولست بدعاً في ذلك، فكم هي التنبؤات التي سطرتها الكتب المختلفة - ومنها لمؤلفين غربيين - عن هذا الفناء والزوال القادم على الحضارة الغربية.
كما أنني في هذا الباب لست إلا مذكراً بالحقائق، ومؤكداً على الشواهد، ومنبهاً لكل مفتون.
وإذا كان الأمر كذلك فما مصير القيم الغربية التي تعلقت شعوب الأرض بها؟! وما مصير الشعارات المستوردة من هناك إلينا.. هل ستزول بزوال الأصل أم أنها ستعالج سكرات الموت لأجل آخر قريب؟!
لعلَّ ذلك يكون مدار حديث آخر، أما هذه الأسطر فهي في المحاور التالية:
* عذراء أم عجوز:
هذا سؤال يطرح نفسه في موضوعنا هذا هل الحضارة الغربية عذراء أم عجوز!!
ظاهر هذه الحضارة البراقة التي يراها أغلب الناس أنها عذراء... كيف لا وهي حضارة المساحيق والمكياج والأصباغ.
إلا أن نظرة فاحصة إلى وجه هذه الحضارة تؤكد لنا أن هذه العذراء عجوز عقيم بكافة المقاييس المادية والمعنوية.
فمن الناحية المادية أكد تقرير إحصائي عن التركيبة السكانية في أوروبا أن 25% من سكان أوروبا سوف تكون أعمارهم في عام 2025م فوق 65 عاماً، أي ما يعادل ربع سكان أوروبا، أما المسنين في أمريكا فوق 65 عاماً فسيبلغون في العام ذاته 20% - أي خمس السكان - هذا في تقديرهم، والله أعلم بخلقه.
وهنا نسرد الأسباب التي تقف وراء كون سكان الحضارة الغربية عجزة مسنين:
1. الحروب الضخمة التي أحرقت في أوج احتدامها شباب أوروبا وأمريكا، ومن أهمها الحربين الأولى والثانية.
فيما قتل في أتون المعركة 20 مليون نسمة في الحرب العالمية الأولى التي أنفقت فيها الدول المشاركة 82.4 مليار دولار، قتل أيضاً في الحرب العالمية الثانية ما يقدر بـ35مليون نسمة، وبلغت نفقات التسلح 1100مليار دولار، فيما بلغت خسائر الدول من الحرب 2100 مليار دولار، وقد ذكرت مجلة غربية أن عدد ضحايا الحروب في القرن الماضي يزيد على 207 ملايين نسمة كان للحروب الأهلية والقومية والاستعمار الغربي فيها النصيب الأكبر.
2. التفكك الأسري وبروز مفهوم حرية المرأة الذي دفع بأغلب نساء المجتمع للتعلم والعمل والإعراض عن تحمل أعباء المنزل وتربية الأطفال، مما قلل من حالات الإنجاب المبكر الكثير.
3. الإعراض عن الزواج أو تأخيره والبحث عن الشهوة الجنسية فقط حتى ظهرت ثقافة الجنس عوضاً عن ثقافة الأسرة.
4. الإجهاض والذي أصبح ظاهرة متزايدة في الغرب لدوافع كثيرة، حتى أصبحت القوانين والتشريعات في أغلب الدول الغربية تغض الطرف عنه أو تسمح به.
في أمريكا وحدها وفي عام واحد 85 م سجلت 400ألف حالة إجهاض للفتيات ما بين 12- 17 سنة، ولك أن تتخيل باقي فئات الأعمار الأخرى.
5. العنف: حيث حوادث الاعتداء والقتل والاغتصاب والضرب المبرح.
يقول كلينتون مخاطباً الكونجرس: نحن أقوى وأكبر وأغنى وأجمل دولة في العالم، لكننا مع الأسف الشديد الدولة الأولى في العالم في الجريمة.
وقال: أعد الجميع بتعيين 100.000 رجل شرطة.
وتشير جميع الإحصائيات في أمريكا إلى أن أغلب ضحايا العنف هم الأطفال سواء بالقتل أو الضرب أو الاغتصاب مما يدفعهم في كثير من الأحيان إلى الانتحار.
تقول إحصائية عام 94م عن العنف في أمريكا: عدد القتلى من حوادث العنف 10 آلاف من الأطفال ما بين ( 1- 14عاماً)، و39 ألفاً من المراهقين ما بين (15- 19) فإذا علمت أن مجموع المقتولين من الحوادث هم 70 ألف عرفت عظم نسبة حوادث الاعتداء بالقتل على الأطفال فهي بلا شك 70%، ولذلك سعى كلينتون في قانونه المقدم لعام 94م بخصوص مكافحة الجريمة لاستخدام حكم الإعدام لأكثر من 47جريمة، كما وضع من ضمن تكلفة برنامجه ضد الجريمة المكلف 22بليون دولار 700 مليون دولار في صالح إنشاء السجون وتوسيعها؟!!.
6. المخدرات بجميع أشكالها وأنواعها بدءاً بالتدخين والخمرة وانتهاءاً بالحشائش والحبوب الكيميائية المخصصة لذلك.
تقول التقارير إن الأمريكيون أنفقوا في عام 93م فقط 49 مليار دولار على المخدرات 31 منها للكوكايين، ومن المؤكد أن الخمر لا تدخل في هذه الحسبة وإن كانت أم الخبائث فالحديث عن المخدرات الممنوعة قانوناً.
تقول منظمة اليونيسيف أنها تحتاج 25 بليون دولار سنوياً لمواجهة المجاعات والأمراض التي تحصد ملايين الأطفال في العالم وهو أقل بكثير مما تنفقه أوروبا على السجائر (50 بليون دولار) وما تنفقه أمريكا على البيرة (أي الخمر يسمونها بغير اسمها) (44 بليون دولار ).
هذه المخدرات تحصد أرواح شباب أوروبا وأمريكا في سن حياتهم المبكرة، يقول صاحب كتاب ( أطباء الغرب يحذرون من شرب الخمر ) د/حسان باشا: ذكرت مجلة ميدسين في مقال لها عام 89 م: (أن استهلاك الخمر في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات قد تزايد في العالم تزايداً مريعاً.(/1)
ومع تزايد شرب الخمر منذ الحرب العالمية الثانية تكاثرت الأمراض والمشاكل التي يسببها الخمر، فهناك علاقة وثيقة بين الخمر ونسبة الوفيات، ويذكر كتاب ذافوود ريفلوشن (91م): أن شرب الخمر في العالم يزداد بشكل كبير نظراً لرخصها وسهولة الحصول عليها ( قانونياً واجتماعياً)، ويذكر كتاب ( سيف فورد ) (91م): أن الشباب ما بين (18- 24) الذين كانوا في ال(30) وال(40) أقل الناس تناولاً للخمور ( في أمريكا ) أصبحوا في الثمانينات من أكثر الفئات العمرية تناولاً لها.
وذكرت جامعة كاليفورنيا في موسوعتها عام 91م أن ثلث اليافعين في أمريكا يشربون المسكرات بدرجة تعيق نشاطهم الدراسي في المدرسة، وقد بدأ أغلبهم شرب المسكرات قبل سن الثالثة عشر من العمر!!).
7. التفكك الاجتماعي: كالطلاق أو إعراض الأب عن أبناءه، أو عدم العناية بالأيتام.. هذه وغيرها من الصور سبب في وفاة عدد كثير من الأطفال.
ذكرت تقارير منظمة الأمم المتحدة في أحد أعدادها أن الفترة ما بين عامي 1945م- 1995م شهدت نشوب 149 حرباً قتل فيها 23مليون شخص 90% منهم مدنيون، أما الفترة مابين 86م- 96م فقد سببت الحروب في قتل 2مليون طفل وإصابة 5 ملايين بعاهات، وتشريد 12مليون ومليون يتيم.
وذكرت بعض الدراسات أن ألمانيا وبدءاً من عام 95م أي بعد توجهها للنظام الرأسمالي المنفتح شهدت 33 ألف حالة اختفاء للآباء عن أبناءهم، وأن 127 ألفاً آخرين أنكروا أبناءهم لكي لا ينفقوا عليهم، مما يكلف الدولة 1.5 مليار مارك سنوياً لرعايتهم.
كما جاء في دراسة أخرى أن عدد المدمنات في فرنسا للعام 99م هو: 1.5مليون امرأة يموت منهن 20%بسبب الإدمان.
إن هذه الأمور جميعها تدفع بهؤلاء الأيتام للضياع والتشرد والوقوع في المخدرات والجريمة مما يجعلهم ضحية الاستهلاك، إن رقماً كهذا يدفعك لأن تستشعر المأساة إن ما بين 1.17 مليون حالة إيدز في العالم للعام 95م يقابلها 1.5 مليون حالة للأطفال المصابين فقط، وقد بلغت حالات الاعتداء على الأطفال في أمريكا للعام 83 م مليون حالة اعتداء، وما بين (4- 5) ملايين حالة اعتداء جنسي.
* لكنها لا تزال فاتنة:
نعم إن الحضارة الغربية فاتنة بمظاهرها فقد مكنت مع جمال طبيعتها الساحرة، ومياهها العذبة، وأجوائها النقية، وسهولها الخصبة، ومناخاتها المعتدلة، وشبه الباردة، والباردة، أقول لقد مُكِّنت هذه الحضارة من مفاتيح العلوم الدنيوية وفي جميع الفنون.. فإننا لو لاحظنا لوجدناها كشفت طبقات الأرض، وأظهرت أعماق البحار، وأزاحت ستر الغلاف الجوي، واطلعت على الكواكب والنجوم وأسرار الكون، وعرت الغابات من ظلال الأشجار، وفوق ذلك حددت النظر حتى أصبحت ترى البكتيريا على ساق الذباب، ونواة الخلايا الإنسانية، وإلكترونات الذرات.
كما أنها ملأت الفضاء بأمواج الصوت والصورة، وأنطقت الأجهزة، وحركت الأثقال التي عجز عنها الأولون، وقربت المسافات، وصنعت ما عجزت البشرية عنه لجهلها.. إن آثارها من حولنا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وفوقنا، وتحت أرجلنا، بل وفي ثنايا معاطفنا وثيابنا لمسات هذه الحضارة.
إن المرء يقف أمام هذا كله مدهوشاً ومتعجباً ومنبهراً ومسحوراً لا يوشك أن يفيق من صدمة إلا ويقع في أخرى.. كأنما هي سكرات مخمور تخدعه عيناه وجوارحه، يرى الخيالات حقيقة، والأساطير حية، والخرافات ماثلة أمام عينه وفي متناول يده.
إن هذه الحالة من الانبهار تفقد الكثير صوابهم ورشدهم، فيقعون في الفتنة - الفتنة العصرية - التي أوقعت كثيراً من أبناء المسلمين وغيرهم في دوامة الغرب ولجة بحره.
يقول سيد قطب في معرض حديثه عن قوله تعالى في سورة العنكبوت: (( ألم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون )) الآيات.
(ومن الفتنة: ما نراها بارزة اليوم فتنة أن يجد المؤمن أمماً ودولاً غارقة في الرذيلة وهي مع ذلك راقية في مجتمعها، متحضرة في حياتها، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان، ويجدها غنية قوية وهي مشاقة لله، فتنة إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين، تهتف لهم الدنيا، وتصفق لهم الجماهير، وتتحطم في طريقهم العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد، وتصفوا لهم الحياة..)
ثم قال: ( فإذا طال الأمد، وأبطأ النصر كانت الفتنة أشد وأقسى، وكان الابتلاء أشد وأعنف، ولا يثبت إلا من عصم الله، وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان، ويؤمنون على تلك الأمانة الكبرى أمانة السماء في الأرض، وأمانة الله في ضمير الإنسان ) انتهى كلامه.
وللمفتونين بالحضارة الغربية نقول:
1. إن الدنيا ملك لله - عز وجل - يتصرف بها كيف يشاء، وهو يعطيها لمن أحب ولمن كره، والعبرة عنده بالخواتيم والنوايا: (( من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب )).(/2)
2. أن الأيام دول، والدول تتعاقب، وما من أمة إلا وقد أخذت بحظها ونصيبها في التمكين والعلم، والمعرفة والقوة، ولم يغيرها ذلك شيئاً، وفنيت واندثرت آثارها: ((ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد ))، وقال تعالى: (( فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون )) فماذا كان (( فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً )) مظهر من مظاهر الطبيعة (( في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون )).
3. أن الأمم التي أهلكها الله من قبل لم تكن أمماً ذات حياة بدوية أو بربرية بل كان غالبها حضارات لا تزال أثارها شهادة عليها حتى اليوم تدل على مقدار ما وصلوا إليه من التقدم: فاليونان والآشوريين والفراعنة وغيرهم كانوا لا يجارون في عصورهم علماً وقوة.
4. أن الحضارات الفاسدة والظالمة مهما أطالت في البقاء، ومهما يبلغ عمرها فإنه لا يقاس بشيء بالنسبة لعمر الحياة، وسجل التاريخ (( قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم ))!! حقيقة ستنطق بها تلك الحضارات يوم القيامة.
5. أن الحضارات لا تقاس ببقائها ولا بموتها في الحياة، ولكن تقاس بقيمتها ومبادئها وأفكارها وما أنجزته لخير البشرية الدنيوي والأخروي.
6. أن صانع الحضارة المعاصرة هو الإنسان، غير أن الإنسان صُنع الله، وكم هو مضحك ومبكي في نفس الوقت أن يقوم المدهوشين بالغرب فاغرى الأفواه، ومحدقي الأعين، وفاقدي الوعي أمام انطلاق صاروخ، أو تحريك آلة، أو نجاح عملية جراحية، رغم أنهم يمرون بآيات الله - عز وجل - يومياً غير مكترثين بها، ولا ملتفتين إليها، وصدق وصف القرآن فيهم (( وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ))، ولذلك يلفت القرآن أنظارهم إلى آيات الله الأكبر والأعظم والأقدم (( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت * فذكر إنما أنت مذكر!! )) (( فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صباً * ثم شققنا الأرض شقاً * فأنبتنا فيها حباً *وعنباً وقضباً * وزيتوناً ونخلاً * وحدائق غلباً * وفاكهة وأباً )).. ثم (( أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير ))، لكنها غشاوة الفتنة ((أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعاً لكم ولأنعامكم )).
* من رحم الظلام والظلم:
لكي نتحدث عن النهاية الحتمية للحضارة الغربية لا بد من الحديث عن بداية النشأة لكن بشيء من التلخيص فنقول:
إن أوروبا عاشت ما يعرف بالقرون الوسطى المظلمة والتي كانت الخلافة الإسلامية والعالم الإسلامي في حينه يعيش في أوج حضارته وتقدمه ورقيه في المشرق العربي والفارسي، فكانت تحكم تحت سلطان الكهنوت، حيث عملت الكنيسة عبر تعاليمها المحرفة إلى تعبيد الناس لها بصورة مزرية جداً حتى أصبحت تتحكم في تفكيره وشئونه وخواطره وآخرته، ولم تكتف بذلك بل عملت حلفاً مع الملوك القياصرة على جعل مواطني البلاد خدماً وعبيداً لا يمكلون أبسط حقوق الحياة فضلاً عن المتعة والرفاهية.
ونظراً لتراكم عدة أسباب قامت الثورة الحديثة في أوروبا ضد الاستبداد الملكي الاقطاعي والكهنوتي المسيحي، وسعت الثورة لترسيخ مبدأ حق الشعب في الحياة دون أي استبداد أياً كان.
ومن هنا انطلقت الشعوب تبحث عن معرفة جديدة، وعلم جديد يكشف لها الحقائق من حولها، ومن ثم تعمل على تسخير ما حولها لصالحها الدنيوي، وهكذا كان العلم رديفاً لحقوق الإنسان التي سعت إليها الثورة الأوربية، ومن هنا عملت العقول وذهبت تبحث وتقلب وتستكشف، وتجمع علوم الآخرين، وتترجمها محاولة الإضافة إليها، فأعطيت الحركة العلمية قدراً من الاهتمام الاجتماعي والسياسي، فزخرت البلدان الغربية بالمدارس والجامعات والمختبرات والمعامل، وانطلقت الدور في طباعة ونشر كل جديد تغذية للمجتمع بالمعارف التي حرم منها دهوراً من الزمان.
وفي الحقيقة فقد سارت العجلة سريعاً لأن هناك عدة عوامل ساعدت على ذلك، منها:
• الحروب القومية والاستعمارية التي خاضتها حكومات تلك الدول فيما بينها أو مع الشعوب الأخرى مما حدا بهذه الدول إلى المسابقة لنيل زمام العلوم والمعارف لتمتلك زمام القوة، كما أن هذه الحروب رافقتها كوارث صحية واقتصادية واجتماعية دفعت العقول لحل مشاكلها، ومحاولة تجاوزها، وقد قيل الحاجة أم الاختراع.(/3)
• تراجع الحضارة الإسلامية ووقوع كثير من مؤلفات المسلمين نهباً للأيدي الاستعمارية مما كان له الأثر في اختصار الوقت والجهود.
• الثروات التي نشأت لدى فئات من المجتمع الأوربي جعلت مالكيها يبحثون عن المزيد من الثروة إما بتقديم سلع جديدة، أو خدمات جديدة، أو وسائل جديدة عما سبق، هذه الأسباب وغيرها عجلت بدفع الحركة العلمية والاكتشافات العصرية لدى الغرب.
• ولا ننسى أن المكانة التي أعطاها المجتمع للعلماء كانت ذات أثر لا يمكن إغفاله في الغرب.
وهنا أضيف نقطة ذات اتصال بهذا المبحث ألا وهي أهداف العلم في مراحله الأولى، أو أهداف الحركة والنهضة الغربية في بداياتها:
1. هدفت العلوم والحركة العلمية في الغرب إلى الاكتشاف والاستفادة مما هو موجود في البيئة.
2. كما هدفت إلى رفع الظلم والبؤس عن الإنسان، ودفع الأقدار المؤلمة التي تصيبه.
3. وكان من أهدافها أيضاً امتلاك الطاقة في صورها المختلفة حتى لا يعيش الإنسان أسير مادة ما أو عنصر ما.
4. وكان من أهدافها التسهيل على الإنسان في حركته وتنقلاته.
5. تحقيق الأرباح المالية والرخاء المعيشي للمجتمع.
6. النجاح في التنافس الأممي، والظهور في صورة المثل.
المعاني والإنسان:
قيل المعاني قبل المباني، والإنسان قبل العمران، وبالفعل نجحت الحركة العلمية والنهضة التكنولوجية في الغرب عندما كان ذلك جزءاً من أهدافها ولو في صورة شعارات أو سياسات حكومية تعلن بين الحين والآخر، ولكن ماذا حدث؟ لقد سارت الحركة العلمية قدماً بدون مرشد أو دليل، لقد كانت تسير بعجلة واحدة، ولذلك فقدت توازنها، وأصبحت مأساة وأي مأساة.
في عام 1945م وتحديداً في تمام الساعة 8.15 صباحاً من أحد أيام شهر أغسطس وفي مدينة هيروشيما اليابانية حدث أمر مهول فقد دمرت مدينة بأكملها كان تعدادها السكاني مع القرى المجاورة مئة ألف نسمة، وأصبحت رماداً في ثوان معدودة نتيجة إلقاء قنبلة نووية صنعتها أمريكا.
قيل أن درجة الحرارة في لحظات الانفجار بلغت ما بين 3000 – 4000 درجة بحيث أن أغلب أجساد بني آدم تبخرت في لحظات، والبعيد منهم تفحم في أقل من دقيقة.
لم يفق العالم من هذا الخبر حتى ألقت أمريكا القنبلة الثانية على مدينة ناجازاكى فقتلت 74 ألف نسمة في لحظات.
يقول سيد قطب - رحمه الله -: ( إن رجل الحضارة الغربية ينتج ليستهلك فقط، ويلعب للهو فقط، ويستجم للراحة فقط.
إنه يريد أن يذلل الحياة ليعيش سريعاً منعماً دون أي تضحية أو بذل، وهو في سبيل ذلك يمكن أن يتحول إلى وحش كاسر، أو مجرم سفاح ) الإسلام ومشكلات الحضارة.
وإضافة إلى ما سبق فإن المادية البربرية التي تتسم بها الحضارة الغربية لا تقاوم السمو العقلي فحسب، بل إنها تسحق أيضاً الشخص العاطفي، واللطيف، والضعيف، والوحيد، وأولئك الذين يحبون الجمال، ويبحثون عن أشياء أخرى غير المال.
هذه كلمات رجل غربي عاصر النهضة العلمية في الغرب ثم ألف كتاباً بعنوان ( الإنسان ذلك المجهول )
إن الصناعة والنهضة العصرية تقوم على مبدأ " أعلى مستوى من الإنتاج مع أقل التكاليف "، وبالتالي فهي لا تعطي قيمة للعامل فيها طالما وأنه يكلفها المال.
قال أحد العلماء الذين ساهموا في اختراع القنبلة النووية بعد أن شاهد التجارب الأولى لها: ( لقد كان المسؤولون سعداء يتناولون البيرة بينما لم أستطع أن أرقد ليلتي تلك ) إن العلم يتخذ منحاًً آخر )!! وبالفعل وقع العلم في فخ الإنسان الغربي بعد أن فقد أمرين عظيمين: الدين والأخلاق.
ولأن العلم تحول عن مساره فقد بدأت عجلة الحضارة الغربية تتحطم، وسأضرب لذلك أمثلة:
1- العلم يبحث عن المستحيل: إن هناك أموراً مستحيلة لا يمكن للإنسان مهما بلغ قدره في العلم، وقدرته في القوة على إيجادها أو القيام بها، من ذلك محاولة مؤسسات وهيئات طبية في اكتشاف معادلة كيميائية أو فيزيائية في سبيل إطالة عمر الإنسان لأكبر قدر ممكن من الزمان، وقد أجريت في سبيل ذلك تجارب متعددة في الحشرات والديدان.
2- العلم لا يعالج: نسمع كثيراً عن الأبحاث التي تبذلها المؤسسات الصحية في الغرب في مجال اكتشاف علاج للإيدز أو مصل مضاد له، ورغم ما تنفقه الدول والمنظمات لهذه الغاية إلا أنهم لم يصلوا إلى نتيجة، لماذا؟! الأمر سهل جداً لأن العلماء لا يريدون علاج الظاهرة المسببة للإيدز ألا وهي الفواحش والمنكرات الأخلاقية كالزنا واللواط.(/4)
أفاد تقرير منظمة الصحة العالمية في تقرير له عن الإيدز للعام 95م بأن نسبة المرض ارتفعت إلى 19% لتصل إلى 1.17مليون حالة (رسمية ) أما عام 99م فقد بلغ عدد المصابين 5.6 مليون مات منهم 2.6مليون (أي قريب النصف ) هذا فيما تفيد تقارير أخرى عن وجود ما بين (100 - 300) ألف طفل دون سن (18) يعملون في شبكات الدعارة، وازداد العدد في أمريكا إلى 500ألف، وتقول التقارير الخاصة بالتدخين إن 3.5مليون شخص يموتون سنوياً بسبب التدخين، ويتوقع أن يصل الرقم في الأعوام الحالية إلى 10ملايين شخص.
3- العلم للقيم الرذيلة: أصبح العلماء غير محكومين بأهداف سامية بل هم موظفون مالياً في تسخير عقولهم للقيم الرذيلة.
عمليات التجميل نشأت أساساً لمعالجة المشوهين والعجزة والمعاقين خلقياً، وانتهى بها المطاف إلى أن تكون حرفة للإثراء، واستثماراً للأثرياء، تذكر أحد المجلات الطبية أن هذه المهنة الطبية أصبحت فناً موظفاً للفنانين والممثلين والمغنين ونجوم المجتمع والأثرياء ( طبعاً هذا في ظل سيادة قيمة الجمال المادي على هؤلاء )، ونظراً لصرعات ملكة جمال العالم فقد أصبحت النساء والشباب أكثر الساعين لذلك، تقول إحدى الإحصائيات: دفعت حمَّى البحث عن الجمال 3 ملايين أمريكي للدخول إلى غرف العمليات التجميلية، وأنفقوا عليها خلال عام 91م 18بليون دولار، وأصبح هذا المجال تخصصاً مغرياً للأطباء وطلبة الطب نظراً لارتفاع مردوده المالي، ففي بريطانيا وبالتحديد عام 96م بلغ دخل هذه المهنة 8.5مليون جنيه استرليني، وفي المضمار نفسه تعد عمليات تخفيف الوزن وعلاج السمنة شاغلاً لأغلب شركات تصنيع الأدوية في الغرب نظراً لمردودها.
يُذكر أن 50مليون أمريكي عازمين على تخفيف أوزانهم وستكلفهم هذه العملية 50مليار دولار، ومن الجيد أن نذكر أن ثلث الشعب الأمريكي يصنف في فئة السمان، ورافق هذه الحمَّى عمليات إجرامية نشأت مع الفراغ الروحي، وفقدان الوازع الأخلاقي، فبيع الأعضاء البشرية وسرقتها، وإنجاب الأطفال وإجهاضهم بغية الاستفادة من الأجنة أصبحت مظاهر بارزة في المجتمعات الغربية، ولها تجارها وخبراءها.
4- العلم لمصالح الأغنياء:
لقد أصبح الحاسوب أو ما يعرف بجهاز الكمبيوتر وبالاً على الشعوب كما أنه كان نعمة لبعضهم، ففيما أصبحت أغلب الصناعات والأعمال تتصل بالكمبيوتر، سعى ملاك رؤوس الأموال لاستغلال الرؤوس المفكرة في توفير الأموال الخاصة بالأيدي المستأجرة، من هنا أصبح الحاسوب يحلُّ محل الإنسان في الصناعة والتجارة والزراعة والحرب والطب والطيران والعلوم... إلخ القائمة.
وكم نسمع عن شركات عالمية أصبحت تتخلى عن عشرات الآلاف من العمال الذين يعولون أسراً فقيرة رغم زهادة ما يعطى لهم نظراً لأن الكمبيوتر حلًّ محلهم.
وقد جاء في تقرير منظمة العمل الدولية في تقريرها للعام 97م بأن عدد العاطلين عن العمل في العالم بلغ مليار شخص أي ما يعادل سدس سكان المعمورة.
والبطالة كما هو معلوم لها تأثيرها على الفقر والمظاهر الاجتماعية الأخرى كالجريمة والحروب والفناء الجماعي... الخ، وبالتالي فعوضاً عن خدمة الإنسان خدم المال وأصحاب المال.
5- العلم للفاحشة:
أصبحت المختبرات والعلماء يبحثون عن الطرق المريحة للشواذ لممارسة الجنس دون خوف من عواقبه الصحية والاجتماعية:
حبوب منع الحمل، الأغشية العازلة، عمليات الإجهاض وغيرها من تقنيات الفاحشة تنشر في أوساط المجتمع ليمارس شهوته بلا قيد ولا رادع.
إن عدد الفتيات اللاتي يحملن سفاحاً ما بين سن (12سنة – 17سنة ) بلغ في أمريكا عام 85م: 1.2مليون فتاة مع استخدامهن وسائل منع الحمل المختلفة، أما عدد الأطفال المعتدى عليهم جنسياً فيبلغ ما بين 4- 5ملايين طفل.
6- العلم تحدياً لله، ومضاهاةً له في خلقه:
لقد شطح العلم بالعلماء المعاصرين إلى درجة منازعة الله - عز وجل - خصوصياته ألا وهي مسألة الخلق والتصوير والإحياء والإماتة..
وفي هذا الصدد سأتحدث عن قضيتين خطيرتين أصبحتا مثار اهتمام الإعلام العربي الناعق بما لا يعرف، والناقل عمن لا يصدق ولا ينصف، إنها قضيتي الاستنساخ، وقضية الهندسة الوراثية.
* ما هو الاستنساخ: هو بصورة مبسطة الحصول على نسخة أو أكثر طبق الأصل من الكائن الحي المستنسخ (الأصل).
ومعناه العلمي: معالجة خلية جسمية من كائن معين كي تنقسم وتتطور إلى نسخة مماثلة لنفس الكائن الحي الذي أخذت منه، وتقوم على نظرية أن هناك خلايا جسمية تحتوي على بصمة وراثية كاملة للحيوان وهي توجد في حالة استقرار وراثي بحيث لا تتطلب المرور في مراحل التكوين الأخرى، وفيما إذا ما أتيح لها الفرصة لأن تنمو كخلية أولية فإنها تنتج نسخة كاملة ومطابقة لنفس الكائن الحي من جديد.
* الصورة النهائية لهذا الخيال:
إيجاد معامل طبية لإنتاج عينات بشرية بكميات مختلفة ووفقاً لمواصفات مسبقة.(/5)
ما الهدف من الاستنساخ: كانت الفكرة بداية مستخلصة من تحسين العينات الزراعية من المحاصيل عبر تلقيحها طبيعياً، وبعد نجاح التحكم الصناعي بها - كما يقول الغرب - برزت قضية تحسين الإنتاج البشري لإيجاد مجتمع في صورة متكاملة.
ثمَّ تبنت المسألة والبحوث الشركات والدول الراغبة في زيادة إنتاجها أو تحسين مستوى أفرادها أو تكثير سواد قوميتها ولذلك قيل أن هتلر أبدى ترحيباً بهذه الفكرة في بداية نشأتها.
وليس لي تعليق على الموضوع حيث لا يسعفني الوقت، ولكن أرباب علم التوحيد والمؤمنون بتوحيد الله في ربوبيته، وانفراده بالخلق والملك والتدبير يعرفون كيف يردون على هذه الزندقة، وأحيل المستمع الكريم إلى الأعداد 117 و 118 من مجلة البيان في مقالاتها الخاصة بهذا الصدد.
* أما الهندسة الوراثية فهي تسعى لنفس الهدف ولكن ليس من خلال خلية حية ولكن عبر مواد كيميائية تصنع مسبقاً ليتحدد في ضوءها مواصفات الكائن الحي الجديد من ذكاء وقوة وجمال وقامة...الخ، حيث يتم استخلاص حامض الـ D.N.A من البويضة المخصبة، وتزويدها بالحامض ذاته، ولكن بعد إعداده سلفاً من المعامل.
يقول نزار قباني بعد أن تشرب بهذه العقيدة:
" ومعناه أن العلماء بدأوا يتحدوا السماء... ومعنى هذا أيضاً أن الإنسان لم يعد له رب يؤمن به، ويركع في محرابه، ويصلى له، ويطلب رضاه وغفرانه، لأن المختبرات العلمية أخذت مكان الرب ".
ومن هنا بدأت تتحدث وسائل الإعلام عن استنساخ الأشخاص الميتين كهتلر، ولينين، وفرعون، وعن استنساخ الديناصورات، وعن قضية إمكانية تجميد الإنسان حياً والاحتفاظ به لأعصار متأخرة خاصة بعد أن تم في عام 99م انتاج أول طفلة من بويضة ظلت مثلجة لأكثر من عامين!!
الآيات القرآنية جميعها تشير إلى عاقبة الأمم الفاسدة والظالمة.
الأحاديث النبوية مليئة بالسنن التي يقضيها الله على الأمم إذا خالفت أمره.
الوقائع المشاهدة، اعترافات الغربيين، توقعات وفراسة علماء المسلمين.
كل تلك شواهد تحتشد لنهاية الفصل الأخير من هذه الحضارة.
ولكن تبقى أسئلة:
- ما السبب في استمرار هذه الحضارة؟!
- ومتى ستفنى وتزول؟!
- ومن يخلفها؟!
أما السؤال الثاني والثالث فعلمه عند الله، وأما السؤال الأول فجوابه أن الحضارة الغربية لا تزال تحتفظ بعوامل بقاءها كما أنها لا تزال تغذي هذه العوامل المادية منها والمعنوية، وإن كان ذلك لا يقابل عوامل فنائها التي تتلاطم كأمواج الجبال من حولها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
* مدير مركز الجزيرة العربية للدراسات والبحوث - صنعاء(/6)
الحضارة مقصد شرعي
يعتقد بعض المراقبين للأحداث أننا اليوم على مفترق طرق كالذي حدث أيام انهيار الامبراطوريتين الرومانية والفارسية ، وانبثاق الحضارة الإسلامية على حسابهما . وكالذي حدث أيام انهيار الدولة الإسلامية في الغرب ، وتراجعها في الشرق ، وانبثاق الحضارة الأوربية الحديثة على حساب طرد المسلمين من أوربا ، واستعمارهم في آسيا وافريقيا ....نحن على مفترق طرق : فيه أخذت بوادر السقوط تظهر على فرائص الحضارة الأوربية الحديثة المرتعدة . وأخذ الإنسان المعاصر يتلفت يمنة ويسرة ، يحاول أن يفهم مغزى الأحداث ويتنبأ باليد التي سوف تتناول الشعلة : شعلة الحضارة .ونحن نخطىء اليوم ـ خطأ تاريخياً ـ عندما نعرض الإسلام عرضاً مجزءاً مفتتاً . ربما كان هذا العرض التجزيئى صالحاً عندما كان البناء الإسلامى قائماً شامخاً قوياً لا يحتاج إلى أكثر من سد ثغرة هنا أو ثغرة هناك . أما اليوم ونحن نشهد الركام يتساقط حولنا فإن العرض التجزيئى يصبح عبثاً أو تخريباً أو خطيئة . لأنك عندئذ إنما تأخذ قالباً من البناء المتساقط لتقول : هذا هو الإسلام ، وهو أمر يدعو إلى السخرية .
لن يفهم الناس شيئاً عندما تحدثهم عن أهل الحل والعقد . ولكنهم يستعدون للفهم عندما نقدم لهم ذلك ضمن الإطار الحضارى الكامل . لن يفهم الناس عنا شيئاً عندما نحدثهم عن ربا التفاضل أو ربا النسيئة أو المضاربة ، ولكنهم يستعدون للفهم عندما نقدم لهم ذلك ضمن خطة بناء الحضارة في الإسلام . لن يفهم الناس عنا الكثير عندما نحدثهم عن حجاب المرأة وقوامة الرجل ، ولكنهم يستعدون للفهم عندما تخرج لهم هذه القضية كجزء طبيعي للحضارة الإسلامية . لن يفهم الناس شيئاً كثيراً عندما نحدثهم عن وجوب إعفاء اللحية وستر العورة ، ولكنهم يدركون ذلك ضمن الحرص على شخصية الحضارة الإسلامية بسماتها العامة . القضية اليوم ـ وقد تهدم الكثير من البناء ـ هي قضية تقديم البناء في صورته الكاملة . البناء الكامل في جوهره الحقيقي . إنها قضية الحضارة . وجوهر الحضارة في الإسلام يتلخص في أنها مقصد شرعي قامت على التقدير الإلهى للحضارة : بناء من العلم والعمل والإيمان . ساحته التسليم للمالك . طاقته المحركة العبودية للخالق . آليته : سيطرة الآخرة على الدنيا .
وهكذا قامت الحضارة الإسلامية في أسمى صورها على يد بانيها الأكبر : محمد رسول الله r .
قيام الحضارة على هذه الأرض كان هو الهدف من هبوط آدم عليه السلام إليها .
ولما كان الهدف من خلق الإنسان هو في قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } 56 الذاريات ، فإن المقصد من إنزاله إلى الأرض هو في قوله تعالى : {...إني جاعل في الأرض خليفة } 30 البقرة . وهذه الخلافة هي جوهر مفهوم " الحضارة " . الخلافة هي أن يخلف بعض بعضا. والمعنى الساذج لأن يخلف" بعض بعضا ً" لا يمكن أن يكون هو المقصود في قوله تعالى " خليفة " . لأن جميع الحيوانات ـ بحكم التناسل ـ يخلف فيها بعض بعضا.
ولا يصح أن يكون المقصود بالخلافة قاصراً على معنى الوكالة في التصرف ، فهذه الخلافة بمعنى الوكالة أيضا ًليست خاصة بالإنسان ، إذن لابد من خطوة أخرى لفهم الخلافة هنا : وهى أن يخلف اللاحق السابقَ في البناء على ما خلّفه . فتنشأ من عملية الخلافة طبقات متوارثة من البناء يتلوها طبقات.. وذلك هو خصوصية الإنسان فيما نعرف .وتلك هي خلافته . وتلك هي حضارته على امتداد التاريخ .
ومن هنا جاء تساؤل الملائكة ، واعتراض إبليس . جاء تساؤل الملائكة في قولهم : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء .. }30 البقرة
لا يمكن أن يعنى الملائكة بذلك .. المعنى الساذج من الفساد وسفك الدماء كالذي يحدث من أنواع الحيوان الأخرى ، وإلا لكانوا في مستوى من الإدراك لا يسمح لهم بهذا الخطاب الإلهي .
ولكنهم في تساؤلهم لاحظوا الجانب السلبي في عملية الخلافة وبناء الحضارة . كانوا يعنون مستوى عاليا من الفساد ، هو الفساد الحضاري أو الجانب السلبي في بناء الحضارة . ولذلك فإن الله ردهم ـ إجمالاً ـ إلى الجانب الإيجابي الذي جهلوه ( قال إني أعلم ما لا تعلمون . )30 البقرة
إذن فالحضارة مقصد إلهي شرعي ، ورد أساساً في عملية إنزال الإنسان إلى الأرض . ومن هنا جاء قوله تعالى :{ هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ، فمن كفر فعليه كفره ، ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً } 39 فاطر . إذن فهي خلافة ، وهى حضارة تحت مقاييس الإيمان والكفر .(/1)
وهى خلافة ، وهى حضارة معتنى بها من الله منذ البداية .{ فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } 38 البقرة . وهى خلافة ، وهى حضارة ممدود لها الحبل في عدالة الله إلى يوم آجل { ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ، ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا } 39 فاطر. { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون . } 14 يونس .
ومن هنا يحق لنا أن نقول إن الحضارة كانت هي المقصد الذي من أجله أنزل الله الإنسان إلى الأرض ، لتكون إبداعاً إلهيا : كالفلك ، والشمس ، والقمر ، والأرض والنهر ، والزهرة . وكالغابة . وكبيت النمل . وكعش النحل . هو إبداع من إبداعات الله تعالى ، خلق الله من أجله الأرض والدنيا، وأنزل فيهما الإنسان .
لا يؤثر في كونه إبداعاً لله أن كان الإنسان مكلفا بإقامته ، أو بعبارة أدق : أن كان الإنسان باختياره عنصراً فعالاً في إقامته . لأن كون الإنسان عنصراً فعالاً وبإرادته في مكونات هذا الإبداع هو نفسه إبداع من إبداعات الله سبحانه وتعالى ، ظهر بإرادته وقدرته وكرمه .
ومن هنا كان وجود الشيطان ـ أيضاً ـ على مشارف الحضارة ودخائلها عنصراً فعالاً في إقامتها من حيث إنه يدعم مبدأ تكوين الإنسان المسئول ، ويؤكد دور الإنسان المختار . الشيطان يتعرض للإنسان بالوسوسة ، فيتغلب الإنسان على وسوسة الشيطان ـ أو ينهزم ـ فيستقيم أو يظهر دور الإنسان الفعال المختار المسئول .{ إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } 76 النساء ، تماماً كما كان كيد أعداء يوسف ـ وهم أعداء له يسعون إلى موته وتأثيمه وسجنه الخ ـ يمضون بإرادتهم في مشروعهم ، ولكنهم في نفس الوقت يمضون ـ وبكيد الله ـ في إقامة القدر النافذ الذي أراده الله : ليوسف { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض . }21 يوسف{ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين . }30 الأنفال { إنهم يكيدون كيدا ، وأكيد كيدا }
ومن هنا كانت أهمية " لا إله إلا الله " باعتبارها شرطاً في تحقيق التكليف الأكبر بإقامة " الحضارة " .
ألم يقل محمد رسول الله r { وجعلت لي الأرض مسجداً .. } متفق عليه وقال الله تعالى : { وأن المساجد لله .. }18 الجن ، إذن – وبقياس منطقي - فهي الأرض لله . وهى إذن – وبقياس منطقي أيضاً - : الحضارة ( الأرض + الإنسان + الزمن ) لله .
وأن الحضارة لله .
ومن هنا كان الرفض القاطع للشرك . فهو ـ أي الشرك ـ لا يعنى إهداراً للإنسان الذي يتجه لغير الله فحسب. ولكنه يعنى إهداراً للمشروع الأكبر " للحضارة " إذ تتجه لغير الله . أية حضارة تتجه لغير الله فهي فوق أنها حضارة مشركة هي أيضاً حرب على المشروع الذي يضعه الله ( للإنسان والأرض والزمن ) أي للحضارة .
لابد من " لا إله إلا الله " لتكون الحضارة " لله " حسب المشروع الإبداعي ، والتكليف الإلهي فإذا لم تكن كذلك كانت انحرافاً عن الحضارة الإلهية المرادة أصلاً. انحرافاً إلى مشروع آخر ينظر إلى وجوده ـ كما ننظر إلى الشيطان أو إلى عصيان ما ـ باعتباره تأكيداً لكينونة المشروع الأصلي ، أي ليكون المشروع ـ حسب التصميم الموضوع له ـ قائما باختيار الإنسان ومسئوليته حسب تكليف صاحب المشروع .
ومع ذلك تصبح الحضارة " لغير الله " تأكيداً للحضارة التي هي " لله " من حيث كون الأخيرة قد قامت رغم كيد الأولى ، أي انها قامت - وفقا للمشروع - باختيار الإنسان ، ، في نفس الوقت الذي تكون فيه تلك الحضارة : حضارة غير الله " نوعا من الاعتداء على الحضارة التي هي لله .
تماماً كما ينحرف أحد المنفذين لمشروع هندسي عن إرادة صاحب المشروع ـ ليقيم مشروعاً آخر ـ عمارة بدلاً من بيت ، أو كوبري بدلاً من شارع ـ ليتأكد بظهوره هكذا – موضوعيا - أن الآخر الذي التزم إنما التزم باختيار وإرادة .
وبنفس القدر كانت أهمية " … رسول الله " كعنصر أساسي لقيام الحضارة . أهمية " محمد رسول الله " ومن قبل مبعثه : عيسى رسول الله ، موسى رسول الله ، إبراهيم رسول الله ، نوح رسول الله .. إلخ . لأنه بعد أن ترتبط الحضارة بكونها لله وحده ، كان لابد من رسول يبين ما هو " لله " ، وما هو " لغير الله " . رسول من صاحب المشروع مبين للمشروع . وبيان الرسول الذي يأتي هو شريعة الله سبحانه . وفي شريعته تأتى الملامح والمواصفات الأساسية للمشروع المطلوب. وكان لابد أيضاً من أن يأتي الرسول بحيث يمكن تصديقه ويمكن تكذيبه : ليقوم الإنسان بالمشروع مختاراً غير مقسور وفقا لأصول المشروع نفسه . غير مقسور كالنحل في مشروعه . غير مقسور كالنمل في مشروعه . غير مقسور كالقمر في مشروعه .
شريعة الله هي " كتالوج " المشروع الذي بغيره لا يكون المشروع لصاحبه . بغيره لا تكون الحضارة لله .
ولقد وضع مشروع الحضارة على الأرض وفقا لأركان ثلاثة من عناية الله : العلم ، والعمل ، والإيمان .(/2)
ولهذا أعد آدم منذ البداية وجهز بهذا العلم . { اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم . } سورة العلق
{ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم } 31 ـ 32 البقرة . وتعليم الأسماء هو في بعض وجوهه تعليم عملي ، لأنه تعليم لا من أجل العلم بالأشياء في حد ذاتها ، ولكن من أجل " التعامل مع الأشياء " .وهذا العلم ـ العلم العملي ـ هو جوهر بناء الحضارة .
يقول تعالى : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ... }29 ص لم يقل ليتأملوا ، وما تدبر آياته ؟ إتباع بعمل . { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون .}3 الصف ( اللهم إنى أعوذ بك من الأربع . من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ، ونفس لا تشبع ودعاء لا يسمع . ) أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه .
وفي الأثر : ( من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ) ذكره ابن كثير في تفسيره لسورة اقرأ ، وذكره أبو نعيم في الحلية مرويا عن أنس عن الرسول صلى الله عليه وسلم
يقول عيسى بن مريم عليه السلام فيما يروى عنه في الآثار الإسلامية: ( إلى متى تصفون الطريق إلى الدالجين وأنتم مقيمون مع المتحيرين ؟ إنما يبتغى من العلم القليل ومن العمل الكثير . ) ومن أقواله أيضا ( إن الزرع لا يصلح إلا بالماء والتراب ، كذلك لا يصلح الإيمان إلا بالعلم والعمل ، ويلكم يا عبيد الدنيا إن لكل شيء علامة يعرف بها وتشهد له أو عليه ، وإن للدين ثلاث علامات يعرف بهن : الإيمان والعلم والعمل . ) انظر اقتضاء العلم العمل للبغدادى ص68 . وعن سهل بن عبد الله التستري ( الناس كلهم سُكارى إلا العلماء ، والعلماء كلهم حيارى إلا من عمل بعلمه . ) وقال أبو سعيد الخراز ( العلم ما استعملك ، واليقين ما حملك . ) أى على الفعل ، وعن ابن المنكدر قال : ( العلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه حلّ وإلا ارتحل . ) ، ويقول ابن عبد ربه ( العلم علمان : علم حمل ، وعلم استعمل ، فما حمل منه ضر ، وما استعمل منه نفع ) . ويعرِّف ابن فورك ـ من المتكلمين ـ العلم ( بأنه ما يصح ممن قام به إتقان الفعل . ) وعن أبى الدرداء ( إنك لا تكون عالما حتى تكون متعلماً ولا تكون بالعلم عالماً حتى تكون به عاملاً . ) .
وينضم إلى ركني العلم والعمل في المشروع الإلهي للحضارة على الأرض : ركن الهداية بالايمان .
ذلك أنه إذا كان العلم حظا مبذولاً للجميع ( علّم الإنسان ما لم يعلم..) فإن العلم وحده لا يكفي ، وبعبارة أخرى : العلم الذي يرشح لابتناء العمل عليه ـ هذا العلم وحده لا يكفي .
لابد من الهداية ، وهى لا تعطى كما يعطى العلم ـ للجميع ـ وإنما تعطى لمن يتعرض لها بالإيمان والتسليم . لأن التسليم شرط بديهي في قبولها.{ قل إن هدى الله هو الهدى . } 120 البقرة .{ إن علينا للهدى .. } 12 الليل . { من يهد الله فهو المهتد . } 97 الإسراء .{ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . } 43 الأعراف . { وإن اهتديت فبما يوحي إلىّ ربي . } 50 سبأ .( والله لولا الله ما اهتدينا .. ) أخرجه البخاري في صحيحه
ولذلك كان أنفع الدعاء وأعظمه ـ كما يقول ابن أبى العز في شرحه للعقيدة الطحاوية ـ دعاءُ الفاتحة ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين . )
إن العقل المتعلم ـ المستقل عن الهدى ـ يمكنه أن يصل إلى شيء من الظن ، لكنه لا يصل مستقلاً إلى شيء من الهدى الذي تشعر فيه النفس بالطمأنينة والسكون واليقين . إن الفلسفات والعلوم التجريبية التي يصل إليها العقل مستقلاً خاضعةٌ لما تخضع له عقولنا من النسبية والنقصان . لذلك فإن ما نصل إليه اليوم من علم يظهر لنا نقصُه غداً ، وما نزال نكتشف بتقدم البحث جهلنا ، وهزال معارفنا ، وحاجتنا إلى الهدى واليقين الذي لا تفرزه عقولنا .
في ظل العلوم التجريبية والفلسفات الناقصة يتقدم العلم التجريبي ، ويطرد الحصول على منافع الدنيا ، لكن الإنسانية في عملية بناء الحضارة لابد لها من أهداف ثابتة واضحة راسخة على مدى القرون ، وإلا كان ضلالها عن أهدافها لا يمكن تلافيه أو البرء منه .
والعلوم النسبية تضل دائماً عن الأهداف البعيدة الراسخة . فهذا ليس من شأنها ولا يمت إلى قدرتها بسبب ، ومن هنا كان الإنسان " حيوان الحضارة " بحاجة إلى مصدر خارجي يهديه إلى هذه الأهداف ويرسم لها الطريق : ( الصراط المستقيم . )(/3)
ومن هنا جاءت ملاحقة العناية الإلهية للإنسان وهو يُعَد للقيام بمهمته " بناء الحضارة " بعد أن " علمّه " جاءت هذه الملاحقة في قوله تعالى { فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } 123 – 124 طه.ولا يتلقى الإنسان هذا الهدى إلا من نافذة الإيمان . ولكي يقوم الإيمان فالطريق في " التسليم " .
ويتضح ذلك ـ في الذاتية الإسلامية ـ من حقيقة كبرى مؤداها أن الاتجاهات الفكرية البشرية مهما اختلفت ومهما وضعت من شروط ـ على اختلافها ـ للتوصل إلى المعرفة فإنها تتنازل عن شروطها هذه في الأسس التي تقوم عليها ، وتؤمن بهذه الأسس إيمانا تسليمياً نزولا على حكم الضرورة العملية .
فعلت ذلك الفلسفة العقلية اليقينية ، والفلسفة اللاأدرية ، والفلسفة التجريبية ، أقرت بذلك علنا ،
أو أقرت به خفاء .
ومن هنا جاء خطاب الوحي إلى البشرية وكان مدخل هذا الخطاب عن طريق " الإنذار باليوم الآخر" في جميع رسالات الأنبياء كما تحدث عن ذلك القرآن الكريم ، وفي رسالة محمد r كما جاء في القرآن الكريم أيضاً ، وفي السيرة النبوية في وضوح شديد . { يا أيها المدثر قم فأنذر . } سورة المدثر ، { يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغنى عنكم من الله شيئاً }.رواه أحمد في مسنده ، ومسلم في صحيحه ، وفي غيرهما بمثله .
والإنذار يصنع موقفا يتلخص في كلمتين : خبر عن مجهول ، يقابل بالتصديق أو يقابل بالتكذيب . وهو منطق عملي يركز فيه المنذر على أمر نمارسه في حياتنا العملية ـ جميعا مهما اختلفت فلسفاتنا ـ : الأخذ بالأحوط فيما يتضمن الخبر عنه تحذيرا من خطر شديد محتمل { إن عليك إلا البلاغ } 48 الشورى .
وهنا تبدأ الخطوة الأولى في الإيمان ، وهى خطوة تحقق اليقين في النجاة . ولأنها خطوة مبنية على التسليم لله ـ في موازاة الذين يسلمون لغيره ـ فإنها تستتبع وراءها عناية الله بزيادة الهدى ، وعنايته بزيادة الإيمان ، وعنايته باليقين التام { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم . } 4 الفتح .
وهكذا صنع إيمان أبى بكر وعمر وعلى وعثمان والصحابة والتابعين ـ وفقا لشروط عملية طبقت فيما يتعلق بأركان الإنذار الأربعة : في مصدره ، وموضوعه ، وحامله ، ومتلقيه .{ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا . } سورة الفرقان هكذا وفقا للذاتية الإسلامية . - . انظر كتابنا " الأسس المنهجية لبناءالعقيدة الإسلامية " نشر دار الفكر العربى 1976 وانظر كتابنا " " فلسفة التسليم " ، وكتابنا " مداخل إلى العقيدة الإسلامية " لطلاب كلية أصول الدين -
إذن فالحضارة ـ وفقا للمفهوم الإسلامي ـ مقصد شرعي إلهي يصنع باختيار وابتلاء ، وفق الإرادة الإلهية . وقيام حضارة أخرى تتصف بالإنسانية دون الإلهية هو ابتلاء وفرز يؤذن بتدافع حضاري محتوم . ومن هنا فإننا نؤكد أنه لا أمل في قيام نظام إسلامي دنيوي بحت ، حتى في الأمور الدنيوية ، حتى في الأمور المتصلة بماديات هذه الدنيا .
التصور الإسلامي لابد أن يجعلها مغموسة بالنظرة الأخروية . هذه هي طبيعة هذا النظام . وهذا هو اختيار الله لنا في هذا النظام . فمن أراد نظاماً إسلامياً للحضارة فليدرك البعد الأخروي في كل فقرة من فقراته ، وكل حلقة من سلسلته ...والذين يتصورون قيام حضارة إسلامية دنيوية بحتة يجربون خدعة بلقاء .وسوف ينتهي بهم الطريق إلى سد . لأنهم من البداية حاولوا أن يطلبوا من النظام الإسلامي للحضارة ألا يكون إسلامياً . البعد الأخروي لابد منه عند اختيارنا للإسلام . وتلك هي الحضارة الإسلامية في ذاتيتها التي تحققت . وهى هي الحضارة الإسلامية في ذاتيتها إن أردنا لها أن تتحقق مرة أخرى .
وهكذا وفقا للذاتية الإسلامية قامت الحضارة الإسلامية على أركانها الثلاثة المترابطة : العلم والعمل والإيمان . حضارة فذة في تاريخ البشرية ، مرت بأطوارها في البناء والاستقرار قرونا طويلة .
وفي ضوء هذا التصور يمكنني القول بأن الحضارة وهي مقصد شرعي إلهي فإنها تمثل الكل بالنسبة لأجزائه من المقاصد الشرعية الأخرى الخمسة في حفظ الدين والعقل والنفس والعرض والمال ، ولكنها فوق ذلك تمثل طابع الحركة الناشطة من داخل هذه المقاصد الحافظة . كما يمكنني القول بأن هذا التصور يعد بوجه من الوجوه استجابة من ناحية المبدأ ، وتطويرا من ناحية التطبيق ، لما طرحه الداعية الكبير فضيلة الأستاذ الشيخ محمد الغزالي في بعض كتاباته من ضم مقصد " العدالة " أو ما طرحه العلامة التونسي الكبير الشيخ ابن عاشور من ضم مقصد " الحرية " ، - أنظر جريدة الاتحاد في حوار مع الشيخ الغزالي بتاريخ 26\1\1990 –(/4)
وفي تقديري أن مقصد " الحضارة " أكثر شمولا من ناحية وأكثر التصاقا بنص القرآن من ناحية أخرى في تحديده للغرض من نزول آدم وزوجه إلى " الأرض " ، حسبما قدمناه ، وهو المقصد الذي يفترض أن ينتقل بالمقاصد الخمسة - في حالة تغلغله فيها - من حالة السكون والكمون إلى حالة الحركة والحياة .
وفي رأيي أنه لم يبدأ التداعي في هذا المشروع بعد أن تم إنجازه تاريخيا إلا بدخول التفكك في هذه الثلاثية التى قام عليها المشروع . التفكك في ثلاثية العلم والعمل والإيمان . وقد جاء هذا التفكك على مرحلتين : أولاهما مبكرة على يد الفلسفة اليونانية : في التفكك بين العلم والعمل ، وثانيتهما جاءت متأخرة على يد العلمانية : في التفكك بين العلم والعمل من ناحية و الإيمان من ناحية أخرى ، وفي المرحلتين جاء المرض من الغرب
في مرحلة التفكك الأولى جاء هذا المرض الحضاري من الفلسفة اليونانية التي انفتح لها المسلمون من نافذة " العلم " والشغف بالمعرفة . واستشرى هذا المرض عن طريق " المتكلمين " الذين خاضوا بحسن نية في مباحث نظرية لا صلة لها بالعمل ، كالعلاقة بين الذات الإلهية والصفات ، وخلق الأفعال ، وخلق القرآن ، والجوهر والعرض .. الخ ، ومن هنا بدأ التداعي .
ومن عجب أن الحضارة الغربية المعاصرة لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بالتمرد على هذا التراث اليوناني والأخذ بالمنهج التجريبى كصورة من صور الربط بين العلم والعمل : درساً تلقته عن الحضارة الإسلامية .
نختار هنا من بين شهادات كثيرة شهادة برتراند راسل ، حيث يذكر أن هناك اتجاها فكريا في أوربا ، ( يعتبر سلطان القدماء اليونان كابوسا جاثما ، ويذهب إلى أن من الأفضل اليوم أن ننسى معظم ما أضافوه إلى الفكر ) أنظر تاريخ الفلسفة الغربية ج1 ص 73
وهو يرى أن اليونان ( استكشفوا الرياضة وفن التدليل القياسي وابتكروا الهندسة ، إلا أن ضيق نظر اليونان وانحصاره في جانب واحد يظهر في الرياضة ، فتفكير اليونان كان يتجه بهم في التدليل على نحو قياسي يبدأ بما يظهر لهم أنه بديهي ، ولم يكن تفكيرهم يسير سيرا استقرائيا ، بادئا مما شاهدته الحواس ) .
ثم يقول في عبارة صريحة إنه ( على الرغم من أن فئة قليلة منهم هم الذين أشرقت عليهم أشعة المنهج العلمي لأول مرة إلا أنهم بصفة إجمالية لم يكونوا يستسيغون المنهج العلمي بطبيعة عقولهم ) المصدر السابق ص 64
وفي عبارة أكثر صراحة يقول عن تطور نظرة قدماء فلاسفة اليونان إلى القول برجوع المادة إلى العناصر الأربعة : التراب والنار والهواء والماء : .. يقول : ( هاهنا عند هذا الحد وقفت كيمياء القدماء وقفة الأموات ، ولم يخط هذا العلم خطوة أخرى حتى أخذ الكيميائيون المسلمون في بحثهم عن حجر الفيلسوف وإكسير الحياة .. ) المصدر السابق ص 80-81
ولكن هذا العجب يلحقه الأسى إذ أن هذه الحضارة الغربية لم تكمّل الدائرة الثلاثية فاستبعدت عنصر الإيمان : ربطت بين العلم والعمل من جانب ، ولكنه فصلت بينهما وبين الإيمان من جانب آخر ، وقامت على العلمانية .
وحيث استفادت من الحضارة الإسلامية الربط بين العلم والعمل صدرت إلينا الفصل بينهما وبين الإيمان ، في صيغة العلمانية التي استبعدت الدين ، فجمعنا بين السوءتين : فصل قديم بين العلم والعمل ، وفصل حديث بينهما وبين الدين ، فكانت قاصمة الظهر ، بينما انطلقوا هم وقد ربطوا بين العلم والعمل وعلى أكتافهم سوءة واحدة – هي العلمانية - تظهر آثارها بعد حين .
ومن هنا تتضح الفروق الذاتية بين المشروع الذي قامت ـ وتقوم ـ عليه الحضارة الإسلامية وبين مشروع قامت عليه الحضارة الغربية المعاصرة . يتضح الفرق أساساً في أن هذه الحضارة الغربية قامت في جوهرها نقضا من ناحية مباشرة ،ولكن تأكيداً ضمنيا من ناحية أخرى للمشروع الأصلى للحضارة " أن الحضارة لله " .
. والمسلمون اليوم مدعوون إلى مشروعهم الأصلى الذي " جُعلوا " له، لا إلى مشروع آخر هو في ذاته نقض لذات المقصد الشرعي : نقض لذاتية الحضارة الإسلامية . والله أعلم(/5)
الحضن الدافئ لمشكلات المراهقة
بقلم / د. محمد هشام راغب
مفكرة الإسلام: عندما تنتقل الفتاة من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ والمراهقة فإنها تنتقل إلى عالم جديد تمامًا عليها يصاحبه ثورة عارمة في جسدها ونفسها, ولعل هذا التغيير يكون أهم تغيير في حياتها كلها. وتكون الفتاة الصغيرة خلال هذا الانتقال شديدة الحاجة لأم تقف بجوارها تمدها بالحنان والحب, وتزودها بالمعلومة والفهم الصحيح والحوار الهادئ. وإن لم تجد الفتاة الصغيرة هذا العون فربما تنزلق لمشاكل نفسية خطيرة تشوه فترة حساسة في حياتها.
تتأرجح الفتاة في مرحلة البلوغ بين رغبتها في أن تعامل كفتاة كبيرة راشدة وبين رغبتها وحاجتها أن يهتم بها من حولها؛ ما يحدث إرباكًا للوالدين، ولكن لا مفر للوالدين من التحلي بالصبر في التعامل مع التغييرات المتلاحقة التي ستمر بفتاتهما الصغيرة، وعلى الأم أن تتحمل مسئوليتها في العبور بابنتها إلى بر الأمان في هذه المرحلة الحساسة.
يتراوح سن البلوغ لمعظم البنات بين 10 و14 سنة, وفي المناطق الحارة ربما يبدأ قبل ذلك، ولذلك تبدأ الأم من قبل سن العاشرة في حوار هادئ مع ابنتها حول ما سيطرأ على جسدها من تغيرات؛ كظهور الشعر في أماكن من جسمها وزيادة مطردة في طول قامتها وبروز ثدييها, وهذا التنبيه يساعد الفتاة ويشعرها بالطمأنينة عندما ترى وتلمس هذه التغيرات الفسيولوجية قد وقعت بالفعل. ويصاحب هذا الحوار زرع للثقة في نفس الفتاة بأن تبين لها الأم أنها أصبحت الآن فتاة كبيرة جميلة لها شخصيتها واحترامها, وأصبح لها حياؤها الذي يزينها ويزيدها جاذبية وجمالاً, ومما يساعد في بث هذه الثقة أن تبتعد الأم تمامًا عن العتاب والتوجيه المباشر, وأن تتجنب تعبيرات مثل 'أنا أكبر منك وأفهم هذه الأمور' و'أنتِ غلطانة في كذا و كذا...', بل تبدأ الحوار في كل مرة بذكر محاسنها وصفاتها الجميلة, ولا تمل من ذلك.
ثم تحدثها عما سيحدث عندما يأتيها الحيض لأول مرة، وهي تجربة شديدة الحساسية بعيدة الأثر في نفس كل فتاة، وتوضح لها أنها تغيرات طبيعية جدًا, وتشرح لها الشعور ببعض الآلام المصاحبة وهيئتها وكيف يحدث الحيض. وتغلف كل هذا بالمعاني الإيمانية الراقية، وتقول لها: إن الحيض هو الاستعداد الشهري للرحم لاستقبال البويضة الملقحة, والتي ستصبح بعد ذلك مولودًا, وأن كل هذه التغيرات التي ستطرأ عليها ما هي إلا إعداد لها لدورها العظيم ورسالتها الكريمة في الحمل والولادة والأمومة. ولتحذر الأم من انزلاق الحوار المطلوب إلى جدال وخلاف؛ فإن هذا يصيب العلاقة مع ابنتها بالفتور والضيق، ولتوطن الأم نفسها على الاستعداد للتنازل في بعض الأمور كلون الملابس ونوع الطعام, وتبدي في هذا مرونة يجعلها تلتقي مع ابنتها في منتصف الطريق عند حدوث خلاف في الرأي؛ لأن العصبية والتوتر اللذان يصاحبان فترة البلوغ يحتاجان إلى سعة صدر لاحتوائها.
وتوضح لها أن الأمر – مع ما يصاحبه من حياء طبيعي – لا يدعو إلى الخجل والانطواء أو الشعور بالعيب, ولما اشتكت عائشة للنبي صلى الله عليه و سلم أنها حاضت في حجة الوداع وهي محرمة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم بحنان وعطف: 'إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم...', يعنى لا عيب فيه ولا ذنب لها، ولما سألت أم سليم النبي صلى الله عليه وسلم عن احتلام النساء، أثنت عليها عائشة – رضي الله عنها – وقالت: 'نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين...'. ومعنى الكلام أن هناك فرقًا بين الحياء الطبيعي – وهذا شعور محمود مرغوب – و بين الخجل والإحساس بالعيب أو الذنب.
ومن الضروري أن تكون الأم قريبة من ابنتها عند حدوث الحيض لأول مرة, وتذكّرها بما قالته لها نظريًا, فهذا يشعر البنت بالثقة والاطمئنان عندما ترى أن ما سمعته قبل ذلك تراه الآن يظهر ويتحقق أمامها، وفي هذه الأيام الأولى للحيض تفيض الأم على فتاتها كلام الحب والحنان وتمزجه بكلام الإيمان حول حكمة الله تبارك وتعالى في خلقه ورحمته بهم في الإعداد المتدرج للمرأة لتتحمل مسئوليتها وعن قدرة الله في تهيئة الأسباب لحفظ النوع والنسل.
ومن المفيد أيضًا أن تتطرق الأم للكلام عن العلاقة مع الجنس الآخر, وأن فهم هذه العلاقة ليس سرًا أو معيبًا، وتحدثها عن حكمة الله تبارك وتعالى في خلق الإنسان من ذكر وأنثى, فيولد وله أب قوي يلبي حوائجه وأم حنون تحتويه، وليس من الضروري أن تغوص الأم في سرد تفاصيل العلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة في هذه المرحلة, ولكن في نفس الوقت لا تتجاهلها بالكلية، بل تتحدث مع فتاتها بالقدر الذي يفهمها أن هذه العلاقة الطبيعية ليست عيبًا أو شيئًا مستقذرًا أو لا يصح الحديث عنه. إن تجنب الكلام تمامًا عن العلاقة بين الجنسين ربما يوقع الفتاة الصغيرة التي بلغت لتوها في مشكلتين كبيرتين:(/1)
• فربما تنطوي البنت على نفسها وتشعر أن هذه علاقة معيبة, فيتكون لديها موقف مضاد للجنس, ورهبة من هذا المجهول يؤثران فيما بعد على علاقتها بزوجها, وربما تتطور لأزمة زواج حقيقية، والشكاوى كثيرة من هذا الباب.
• أو تغامر بنفسها في البحث عن هذا المجهول الغامض؛ إما عن طريق زميلاتها أو عبر الإنترنت أو بأية وسيلة أخرى, والتي عادة ما تجد فيها المعلومة إما بشكل غير تربوي أو بطريقة تجارية فجة.
و كلا الأمرين يمكن تجنبه ببساطة, وكلام الأم المباشر مع ابنتها أغنى من أي كلام نظري يقدم لها من أية جهة أخرى. تقول الاختصاصية الألمانية 'مارلين ليست': 'إن استعدادنا لتقبل الحديث عن الجنس مع أبنائنا أكثر فائدة من أوضح الكتب المصورة عن الأعضاء الجنسية'.
والأم كذلك تقدم لابنتها الضوابط الشرعية لحياتها الجديدة، فهي الآن فتاة كبيرة جميلة تتأدب بأدب الحوار وآداب المجالس, وتلتزم بالفرائض من صلاة وصيام وحجاب، وتعلمها أحكام الغسل من الحيض وما يمنعه الحيض من مس المصحف والصلاة والصيام وقراءة القرآن.
في الحقيقة نريد من الأم أن تبحث عن ابنتها ولا تدعها تبحث عنها، نريد لها أن تكون جزءًا من حياة ابنتها تشاركها أحلامها الصغيرة وخيالها الواسع، نريد منها ألا تتجسس عليها, بل تحفظ لها خصوصياتها, ولكن في نفس الوقت تشجعها على الحوار و'الفضفضة', ونريدها أن تعبر بالكلام دائمًا عن مشاعر الحب, فتردد على مسامع ابنتها لدى عودتها من المدرسة مثلاً أنها افتقدتها طوال ساعات النهار, وتستخدم معها مهارات الإنصات وحسن الاستماع لها, إضافة إلى متابعة هواياتها واهتماماتها المتنوعة. نريد من الأم أن تكون العين الحانية والحضن الدافئ الذي تلوذ به ابنتها التي انطلقت من عقال الطفولة إلى رحابة وسعة المراهقة.
إن الفتاة المراهقة تملك عواطف متأججة وميلاً فطريًا للجنس الآخر ركّبه الله تبارك وتعالى فيها، وفي مرحلة المراهقة إن لم تجد هذه الإشباع العاطفي وهذا الحنان داخل بيتها فستبحث عنه بنفسها خارج البيت, وستقع فريسة سهلة لأول كلمات حلوة تصب في أذنيها من هنا أو هناك, وسوف لن تسعفها سنها الصغيرة ولا خبرتها القليلة أن تفحص بعقل ما وراء هذه الكلمات المعسولة.
إننا نعوّل كثيرًا على الأم؛ فمن تحت يديها تتخرج أجيال صالحة.
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق
والبديل لهذه الرعاية ولهذه العناية هو خروج فتيات بأزمات نفسية ضخمة تترافق مع الميول الطبيعية للمراهقات للتمرد على المألوف والتقليدي ولإثبات الذات الجديدة التي بدأت تدب في جسدها ونفسها.(/2)
الحرية
شعر الشهيد سيد قطب
تيمت كل فؤاد في iiهواها
مُزجت بالروح في تكوينها
فُتن الطفلُ بها في iiمهده
سبَّح العصفورُ شدواً iiباسمها
هي روحانية في سحرها
صوَّروها وتولوا iiوَصْفَها
إنها في النفس أبهى iiصورةً
هي معنى غير محدود iiفلا
اتركوها تسبح الأرواح iiفيها
ليس في الألفاظ أو بين iiالدمى
هي ماذا؟ هي معنى قد iiسما
هي وحي يلهم النفس iiفتسمو
أرأيت الطير يشدو فرحاً
هو لما ذاق منها كأسها
أم رأيت الطفل إذ تكبحه
هو لا يرجو سواها متعة
هي روح الحسن في iiعليائه
جاهد الأحرار في iiميدانها
لم يضنّوا في هواها iiغالياً
... واستوت من كل نفس في حشاها
فهي لا ترضى بها شيئاً iiسواها
وغرام الشيخ فيها قد iiتناهى
ورآها فتنةً لمَّا iiرآها
مُزجت بالروح فازداد iiسناها
ويْحَكُم يا قوم شوَّهتم iiحلاها
فدعوها حيث شاءت iiتتباهى
تحصروها في حدود iiتتناهى
إنكم لن تدركوا يوماً iiمداها
مفصح عنها كما نحن نراها
هي روح يبعث الموتى iiشذاها
عن خسيسات الأماني iiوخناها
منشداً عذب الأماني iiمنتقاها
أسكرته فتغنى في iiلماها
تظلم الدنيا ويغشاه دجاها
وهو إذ يبكي على شيء iiبكاها
صورة أخرى له أنت تراها
ثم ماتوا بفخار في iiحماها
كل ما عزَّ رخيص في iiهواها(/1)
الحج
أولاً: تعريفه:
1- الحج لغة: قال ابن منظور رحمه الله: « الحج: القصد. حج إلينا فلان أي: قدم، وحجّه يحُجُّه حجاً: قصده. وحججتُ فلاناً واعتمدته أي: قصدته، ورجل محجوج أي: مقصود »[1].
2- الحج شرعا: « قصد بيت الله تعالى بصفة مخصوصة، في وقت مخصوص، بشرائط مخصوصة »[2].
3- أنواع الأنساك: الأنساك ثلاثة: تمتع وإفراد وقرآن.
أ- فالتمتع: أن يحرم بالعمرة وحدها في أشهر الحج، فإذا وصل مكة، طاف وسعى للعمرة، وحلق أو قصر، فإذا كان يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج وحده، وأتى بجميع أفعاله.
ب- والإفراد: أن يحرم بالحج وحده، فإذا وصل مكة، طاف للقدوم، ثم سعى سعي الحج، ولا يحلق ولا يقصّر ولا يحلّ من إحرامه، بل يبقى محرماً حتى يحل بعد رمي جمرة العقبة ليوم العيد، وإن أخّر سعي الحج إلى ما بعد طواف الحج فلا بأس.
ج- والقِران: « أن يحرم بالعمرة والحج جميعاً، أو يحرم بالعمرة أولاً ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها، وعمل القارن كعمل المفرد سواء، إلاّ أن القارن عليه هدي، والمفرد لا هدي عليه » [3].
ثانياً: مشروعيته:
دل الكتاب والسنة والإجماع على وجوب الحج مرة واحدة في العمر.
دليل الكتاب: قال الله تعالى: ? وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ? [آل عمران:97].
قال ابن جرير رحمه الله: « يعني بذلك جل ثناؤه: وفرض واجب لله على من استطاع من أهل التكليف السبيل إلى حج بيته الحرام الحجُ إليه »[4]، وقال في تفسير قوله: ? وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ?: « يعني: ومن جحد ما ألزمه الله من فرض حج بيته، فأنكره وكفر به، فإن الله غني عنه وعن حجه وعمله، وعن سائر خلقه من الجن والإنس »[5].
وقال ابن العربي: « قال علماؤنا: هذا من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب، إذا قال العربي: لفلان علي كذا فقد وكده وأوجبه، قال علماؤنا: فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب، تأكيداً لحقه، وتعظيماً لحرمته، وتقوية لفرضه »[6].
وقال القرطبي رحمه الله: « فذكر الله الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب تأكيداً لحقه وتعظيماً لحرمته، ولا خلاف في فريضته، وهو أحد قواعد الإسلام، وليس يجب إلا مرة في العمر »[7].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: « وحرفُ (على) للإيجاب، لا سيما إذا ذكر المستحق فقيل: لفلان على فلان، وقد أتبعه بقوله: ? وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ? ليبين أن من لم يعتقد وجوبه فهو كافر، وأنه وضع البيت وأوجب حجه ? لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ? [الحج:28]، لا لحاجة إلى الحجاج كما يحتاج المخلوق إلى من يقصده ويعظمه؛ لأن الله غني عن العالمين » [8].
وقال ابن كثير رحمه الله: « هذه آية وجوب الحج »[9].
وقال الشوكاني رحمه الله: « فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه، وتعظيماً لحرمته، وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل » [10].
وقال في تفسير قوله تعالى: ? وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ?: « قيل: إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه، وقيل: المعنى: ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجباً، وقيل: إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر. وفي قوله: ? فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ? من الأدلة على مقت تارك الحج مع الاستطاعة وخذلانه وبعده من الله سبحانه ما يتعاظمه سامعه ويرجف له قلبه، فإن الله سبحانه إنما شرع لعباده هذه الشرائع لنفعهم ومصلحتهم، وهو تعالى شأنه وتقدس سلطانه غني لا تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع » [11].
وقال السعدي رحمه الله: « أوجب الله حجه على المكلفين المستطيعين إليه سبيلاً... ومن كفر فلم يلتزم حج بيته، فهو خارج عن الدين ? وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ? » [12].
وأما دليل السنة: فقد وردت أحاديث كثيرة تدل على ذلك منها:
1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان )[13].
2- وفي حديث جبريل المشهور وفيه: ما الإسلام؟ قال صلى الله عليه وسلم: ( أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ) الحديث[14].
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) فقال رجل: أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت. حتى قالها ثلاثاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم )[15].(/1)
ووأما دليل الإجماع: فقال ابن المنذر رحمه الله: « وأجمعوا أن على المرء في عمره حجة واحدة » [16].
وممن نقله كذلك ابن عبد البر[17]، وابن قدامة[18]، وابن تيمية[19]، وابن كثير[20]، وغيرهم رحمهم الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: « فكل من لم يَر حج البيت واجباً عليه مع الاستطاعة فهو كافر باتفاق المسلمين » [21].
ثالثا: متى فرض الحج؟
اختلف العلماء في ذلك، فقيل: فرض سنة ست، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة ثمان، وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة عشر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: « وسورة آل عمران إنما نزل صدرها متأخراً لما قدم وفد نجران بالنقل المستفيض المتواتر، وفيها فرض الحج، وإنما فرض سنة تسع أو عشر، لم يفرض في أول الهجرة باتفاق ».
قال ابن القيم رحمه الله: « لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة، وهي حجة الوداع، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر. ولما نزل فرض الحج بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخير. فإن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر».
00000000000000
[1] لسان العرب (3/52).
[2] التعريفات للجرجاني (ص 111). وانظر: مغني المحتاج للشربيني (1/459)، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي (1/472).
[3] المنهج لمريد الحج والعمرة للشيخ ابن عثيمين (ص 116)، ضمن المجموع المفيد لكتب الحج.
[4] جامع البيان (7/37).
[5] جامع البيان (7/47).
[6] أحكام القرآن (1/285).
[7] الجامع لأحكام القرآن (4/142).
[8] شرح العمدة (1/76- المناسك).
[9] تفسير القرآن العظيم (2/66).
[10] فتح القدير (1/547).
[11] فتح القدير (1/548).
[12] تيسير الكريم الرحمن (1/259).
[13] أخرجه البخاري في: الإيمان، باب: دعاؤكم إيمانكم (8) واللفظ له، ومسلم في: الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام (16).
[14] أخرجه مسلم في: الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان ... (8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[15] أخرجه مسلم في: الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر (1337).
[16] الإجماع (ص16).
[17] انظر: التمهيد (21/52).
[18] انظر: المغني (5/6).
[19] انظر: شرح العمدة (1/87 – المناسك).
[20] انظر: تفسير القرآن العظيم (2/66).
[21] التفسير الكبير لابن تيمية (3/227).(/2)
الحوار والاختلاف خصائص وضوابط
(1/2)
د. طه عبدالرحمن(*) 26/5/1423
05/08/2002
كم من الحقائق الجليلة في أنفسنا ومن حولنا يمضي علينا زمان غير قصير لا نتعجب منها ولا نندهش لها ، على اعتبار أنها جلية لاخفاء فيها ، وقريبة لا ُبعد معها ، وفجأة نتفطن إليها تفطن الذي ألقي في روعه وكأنها لم توجد إلا ساعة تفطننا ، وأدعوكم قي هذا الدرس الافتتاحي المبارك إلى أن نتأمل جميعا في بعض هذه الحقائق الجلية ، عسى أن نقف على ما خفي علينا منها على قربها وجلائها .
أولا : طرح الإشكال الخاص بالحوار الاختلافي
1- حقيقتان كلاميتان
حسبنا من هذه الحقائق الجلية الخفية حقيقتان جميلتان اثنتان :
1-1 الأصل في الكلام الحوار
فلا نتكلم إلا ونحن اثنان ، بل نتكلم إلا ونحن زوجان؛ لأن الزوجين هما الاثنان المتواجدان ، والكلام لا يكون إلا بين اثنين موجودين هما : " المتكلم " و" المخاطب " فالمتكلم يزدوج بالمخاطب أو يتزاوج معه ، وميزة اللسان العربي لأنه يتضمن لفظا آخر يجري استعماله كمرادف للفظ " الكلام " لفظا يفيد لغة معنى هذا الإزدواج ، ألا وهو " الخطاب " فلا خطاب إلا مع حصول التوجه إلى الغير ، فالمتخاطبان اثنان متوجهان أحدهما إلى الآخر .
وليس لقائل أن يقول إن المرء قد يتكلم مع نفسه – أو يخاطب ذاته - ، فيكون واحدًا لا اثنين ؛ لأن الجواب على اعتراضه يكون من وجهين :
أولهما ، أن " الكلام مع النفس " - أو مخاطبة الذات – ليس حقيقة أصلية ، وإنما هي متفرعة عن حقيقة " الكلام مع الغير " – أو مخاطبة الغير – ذلك أنها تحصل منها بطريق المماثلة أو المشابهة ، حيث إنك تشبه علاقتك بنفسك بعلاقتك بغيرك ، فيعمل خيالك في الاختراع لها ما هو قوام العلاقة بالغير ، وهو صورة الكلام ، فتجعل نفسك متكلمة مع نفسك كما تتكلم مع غيرك ، أو قل -بإيجاز- إنك تقيس كلامك الداخلي على كلامك الخارجي قياسا موجبا .
الوجه الثاني : أن ذات المتكلم وإن كانت في حال الكلام النفسي ، واحدة خلقا ، فإنها اثنان خلقا ، ألست حين تكلم ذاتك تتصرف كما تتصرف الذاتان المتمايزتان فيما بينهما : وقد أقول ، -باصطلاح النظار- ، بأن لها تعددا اعتباريا لا واقعيا أو - باصطلاح البلاغيين-إن لها تعددا مجازيا لا حقيقيا .
وعلى الجملة ، فحيثما وجد اثنان متزاوجان ، بل زوجان ، فثمة حوار ، فإن كان الزوجان متمازيين خلقيا أو واقعيا أو حقيقيا ، كان الحوار حوارا مظهرا أو صريحا ، وإن كانا متمايزين خلقيا أو اعتباريا أو مجازيا ، كان الحوار حوارا مضمرا أو ضمنيا .
1-2 الأصل في الحوار الاختلاف
إننا لا ندخل – أنا وأنت – في الحوار ، إلا ونحن مختلفان ، بل إننا لا نتحاور إلا ونحن ضدان ؛ لأن الضدين هما المختلفان المتقابلان ، والحوار لا يكون إلا بين مختلفين متقابلين هما ،في الاصطلاح "المدَّعي" وهو الذي يقول برأي مخصوص ويعتقده و " المعترض " وهو الذي لا يقول بهذا الرأي ولا يعتقده .
وليس لقائل أن يقول إننا قد نلج باب الحوار ونحن على اتفاق في آرائنا كما نكون عندما نتجاذب أطراف الحديث أو نتذاكر في مسألة مشتركة ؛ لأن الجواب عن هذا الاعتراض يكون من هذين الوجهين :
أولهما ، أن " الحوار مع الاتفاق " – ولنسمه الحوار الاتفاقي – ليس حقيقة كلامية أصلية ، وإنما هي متفرعة عن حقيقة " الحوار مع الاختلاف – ولنسمَّه الحوار الاختلافي – ذلك أن هذا الاتفاق لا يخلو إما أن يكون قد تقدمه اختلاف أو لم يتقدمه ، فإن كان الأول ، فظاهر أن الاتفاق قد تفرع من الاختلاف ، لأنه يكون بمنزلة النتيجة التي أثمرها حوار صادق دخلت فيه أو دخل فيه غيرك وكان مداره على رفع الاختلاف الحاصل ، وإن كان الثاني ، فإن الاتفاق يحصل من الاختلاف بطريق المقابلة ، ومعلوم أن المقابلة نوع راسخ من الاختلاف ، فتكون قد قابلت علاقتك بموافقك بعلاقتك بمخالفك ، نافيا عن الأول ما ثبت بصدد الثانية ومثبتا لها ما انتفى عن هذه أو قل –بإيجاز- إنك تقيس حوارك الاتفاقي على حوارك الاختلافي قياسا منفيا ، فحقيقة قياسك المنفي هذا إذن أنه ممارسة اختلافية صحيحة .(/1)
والوجه الثاني ، أن الواقع الحواري للناس يشهد على غلبة هذا الحوار الاختلافي ، فلا نزاع في أن المخاطبات منتشرة غاية الانتشار في حياة الناس ، ابتداء من الحديث اليومي العام وانتهاء بالحديث العالمي الخاص ، وإذا أنت تأملت في هذا الواقع التخاطبي قليلا ، وجدت أصنافا كثيرة منها غالبا ما يكون الداعي إليها حصول اختلاف من نوع ما أو بقدر ما ، منها الحوارات ذات الفائدة العامة نحو " الاستجوابات الصحافية بمختلف وسائل الإعلام " و " المطارحات المذهبية داخل الأحزاب " و " المداخلات السياسية داخل المجالس " وكذلك " الجلسات القضائية داخل المحاكم " و " المفاوضات التجارية داخل الأسواق " و " المناظرات المهنية داخل المؤسسات " و " المباحثات العلمية داخل المؤتمرات " ومنها الحوارات ذات الفائدة الخاصة نحو " المناقشات بين الأفراد في الأوساط العائلية " و " المجادلات بين الأقران في الأندية " و " الخصومات بين الأزواج في البيوت " .
ولا ريب أن هذه الأنواع من الحوار الاختلافي تفوق بكثير أمثالها من الحوار الاتفاقي نحو " الحوار الاستخباري " الذي يكون الغرض منه الحصول على معلومات معينة ، و " الحوار " الاستشاري الذي يقصد الوصول إلى اتخاذ قرار في مسألة ما و" الحوار التربوي " الذي يكون الغرض منها التكوين والتعليم و" الحوار التدبيري " الذي يستهدف تحديد غرض مخصوص أو وسيلة مخصوصة لتحقيقه ، وحتى هذه الأنواع الاتفاقية لا تخلو من وجود هذا الوجه أو ذاك من وجوه التنازع فيها ، فمثلا الحوار التدبيري يدور أصلا على أهداف أو أعمال مختلفة فيما بينها ، فتقارن بين فوائدها وآثارها المتفاوتة ، حتى تقف على أولاها بالتحقيق ضمن أولوياتك المعتبرة ، بل ليس يمتنع أن ترد هذه الأنواع الاتفاقية على مقتضى الاختلاف في الآراء فمثلا بالنسبة للحوار التدبيري ، يجوز أن نجعل منه جملة من الآراء المتنازعة ، كل رأي منها يقول بهدف مخصوص وعمل مخصوص ، وحينئذ ، لا نستغرب أن يغلب على لفظ " الحوار " في استعمال إفادة معنى " الحوار الاختلافي " .
وعلى الجملة ، فحيثما وجد اثنان مختلفان ، بل ضدان ، فثمة حوار اختلافي فإن كان الضدان متواجهين ، كان الحوار الاختلافي حوارا مباشرا أو قريبا ، وإن كان الضدان أحدهما واسط إلى الآخر ( كالقياس على المقابل ) ، كان الحوار الاختلافي حوارا غير مباشر أو بعيدا .
2-النتيجتان المتعارضتان
بعد أن فرغت من بيان الأصلين اللذين يقوم عليهما الكلام ، وهما : " الأصل في الكلام الحوار " و " الأصل في الحوار الاختلاف " فلننظر معا في بعض النتائج التي تترتب على هاتين الحقيقتين الجميلتين ، إذ جمالهما آت من ازدواج الجلاء بالخفاء فيهما .
يترتب على الأصل الأول أن الكلام يقتضي بالضرورة وجود الجماعة ، لا وجود الواحد ، والجماعة قد تتكون من فردين عاقلين – أي زوجين – فأكثر ، حتى تسع المجتمع القومي كله – أو " الأمة " – كما هو الشأن الحوار بين الأحزاب في الحكومة وبين الأحزاب في المعارضة ، بل إن هذه الجماعة قد تسع المجتمع الإنساني بأسره أو " العالم " ، كما هو شأن ، الحوار بين الغرب والشرق، والحوار بين الشمال والجنوب .
ويترتب على الأصل الثاني أن الحوار يقتضي بالأساس وجود المنازعة ، لا وجود الموافقة ، فقد يتنازع الفردان العاقلان في الرأي ، كما قد تتنازع الطائفتان في المذهب كما هي حال النزاعات المشهورة في تاريخ الإسلام والتي مازال بعضها قائما إلى يومنا هذا مثل النزاع بين أهل السنة وأهل الشيعة أو النزاع بين السلفية والصوفية أو النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة كما قد يتنازع المجتمعان في توجهاتهما كالنزاع بين المجتمع الأمريكي والمجتمع الصيني أو يتسع التنازع إلى مجموع العالم كالنزاع الذي أخذ يشتد بين أهل الفكرية الغربية وأهل الفكرية الإسلامية .
وهاهنا لا إخال إلا أنك تبادر إلى إيراد الاعتراض التالي على هذا الاستنتاج ، وهو : كيف يجوز عقلا أن يجتمع في الحوار مقتضى " الجماعة " ومقتضى " المنازعة " أليس ينظر إلى الجماعة على أنها تقتضي الألفة والتعارف ، في حين أن المنازعة تضادهما ؟ وعلى العكس من ذلك ، أليس ينظر إلى المنازعة على أنها تقتضي المنافرة والمناكرة في حين أن الجماعة تضادهما ؟
ومن تم تكون هذه الشبهة عبارة عن مفارقة ، علما بأن المفارقة هي الجمع بين الضدين أو
النقيضين ، والمشهور أن مثل هذا الجمع يرتفع به مقتضى العقل ؛ لأنه يندرج في باب المحال ، لذلك تراني أجعل من هذه الشبهة التي قد توردها عن استنتاجي الإشكال الفكري الأساسي الذي يدور عليه هذا الدرس ، فكيف إذًا يكون الحوار في ذات الوقت جماعيًا ونزاعيًا ؟
ثانيا : حل الإشكال الخاص بالحوار الاختلافي(/2)
لو كان الأمر يتوقف على الحل الصوري ، لجاز أن أقول إن الوصفين : " الجماعة " و " المنازعة " يتواردان على موضوع " الحوار " باعتبارين مختلفين ، فلا يتعارضان : إذ يتقوم الحوار باعتبار عدد الأفراد الذين ينهضون به ، - وهو اعتبار كمي - ، ويتقوم بالمنازعة باعتبار نوع العلاقة التي تقوم بينهم – وهو اعتبار كيفي - ، وواضح أن الكم والكيف لا يتدافعان ، بحيث يصح أن تقوم الجماعة ويقوم النزاع بين أفرادها .
لكن هذا الحل الصوري -على وجاهته- يفترض التسليم المسبق بمبدأ بطلان الجمع بين المتعارضين ، هذا المبدأ الذي رسخ في العقول منذ زمن بعيد ( أرسطو) كما يفترض ثبوت التعارض بين " المنازعة " و " الجماعة " في الممارسة الحوارية كما يثبت في غيرها ، وهما افتراضان اثنان يجوز للواحد منا أن يعترض عليهما ، فقد يشكك في صحة مبدأ عدم الجمع بين المتعارضين ، وليست بي حاجة هاهنا إلى الاشتغال بهذا التشكيك ، لذلك ، أسلم بصحة هذا المبدأ ، كما قد نشكك في وجود تعارض بين" المنازعة " و " الجماعة " كما هما متحققان في الممارسة الحوارية ولو أنهما يتعارضان في غيره ، وهذا التشكيك الثاني بالذات هو الذي يمكن من رفع الإشكال المطروح ؛ لذا يتعين أن أبين كيف أن اجتماع " المنازعة " و " الجماعة " في الحوار ليس أمرا محالا ولا مردودا ، وإنما هو أمر ممكن ومقبول معا .
ولبيان ذلك ، أتخير نوعا متميزا في أنواع الحوار الاختلافي ، إذ تضرب جذوره بعيدا في تاريخ الفكر الإسلامي خصوصا ، وهو ما يسميه منظرو الحوار المعاصرون ب " الحوار النقدي " او " الحوار العقلي " أو " الحوار الإقناعي " ، وقد أسميه كذلك ب " الحوار الاعتراضي " ، وقد سماه علماء المسلمين من قبل ب " المناظرة " وأضع له التعريف التالي :
" الحوار النقدي " هو الحوار الاختلافي الذي يكون الغرض منه دفع الانتقادات أو الاعتراضات التي يوردها أحد الجانبين المتحاورين على رأي أو دعوى الآخر بأدلة معقولة ومقبولة عندهما معا .
ولنضرب له مثالا من أحداث الساعة .
زيد : أرى أن المغرب على مشارف عهد جديد ؟
عمرو : لا أدري إن كان الأمر كما ترى.
زيد : أليس التناوب السياسي والملكية الجديدة من معالم مغرب جديد
عمرو : بلى .
فواضح أن زيدا هو صاحب الدعوى ، وهي : " المغرب على مشارف عهد جديد " وأن عمرًا هو صاحب الاعتراض ، إذ يشكك في صدقها كما لو أنه قال لزيد : " لا أسلم لك ما تدعيه " ، وحينئذ تقوم بينهما منازعة في الرأي ، فيتعين إذ ذاك على زيد أن يتولى دفع الاعتراض بإقامة الدليل على دعواه ، ودليله هو : " وجود التناوب مع تجدد الملكية " ، الذي قبله المعترض .
وبعد هذا التعريف للحوار النقدي والتمثيل عليه ، أشرع الآن في توضيح كيف أن عنصري " الجماعة " و " المنازعة " في الحوار النقدي يتوافقان ، وأقوم بهذا التوضيح من خلال النظر في مقابلات ثلاث .
1- المقابلة بين الاختلاف النقدي والعنف
قد نميز في العنف الممكن حصوله في نطاق الحوار بين قسمين اثنين : أحدهما ، العنف أشد ، وقد يسمى ب " القمع " ، والمقصود به إنهاء الاختلاف بين المتحاورين بواسطة القوة ، فمعلوم أنه لاشيء يضاد الحجة مثل القوة ، فحيث لا يوجد البرهان لا يمكن أن يوجد إلا السلطان ، وحيث لا يوجد الحوار لا يمكن أن يوجد إلا الحصار ، والعنف الأشد هو نفسه على ضربين اثنين : فهناك العنف المادي الذي تستخدم فيه قوة اليد – أو قل تستخدم فيه المقمعة ( أو المقرعة ) – لإلحاق الأذى الخلقي بالغير ، وهناك أيضا العنف المعنوي الذي تستخدم فيه قوة اللسان لإلحاق الضرر الخلقي بالغير ، والقسم الثاني ، العنف الأخف ، وأسميه ب " الحسم " ، والمقصود به هو فض الاختلاف بواسطة تحكيم جانب ثالث ، حكما كان أو حكما أو وسيطا أو باللجوء إلى الحل الوسط أو بإجراء القرعة ، فلما كانت نهاية الاختلاف لا تأتي على يد المتنازعين نفسيهما بفضل أدلتهما الخاصة ، وإنما على يد طرف ثالث سواهما أو بطريق غير تدليلي ، فإن ذلك يشعرهما بأنهما غير قادرين على تحمل مسؤوليتهما في رفع الاختلاف بينهما ، وفي هذا المعنى من التأديب لهما ما هو أشبه بالتعنيف ، إلا أنه - إن جاز هذا التعبير - عنف فيه لطف .(/3)
أما الاختلاف في الرأي داخل دائرة الحوار النقدي ، فلا يندفع أبدا بواسطة " القمع " بل إن ممارسة القمع قد تزيد في حدة الاختلاف ، حتى لا سبيل إلى الخروج منه ؛ لأن الطريق الموصل إلى هذا الخروج إنما هو طريق الاقتناع ، فكل واحد من المتحاورين يسعى إلى أن يقتنع الآخر برأيه اقتناعا منبعثا من إرادته ، لا محمولا عليه بإرادة غيره ، فالإقناع والإقماع ضدان لا يجتمعان ، كما أن هذا الاختلاف لا يندفع بواسطة الحسم ، لأن أحد المتحاورين على الأقل قد يجد في نفسه حرجا مما حسم به ، فلا يسلم ، وإنما الذي يندفع به هو ، على العكس من ذلك ، ارتفاع الحرج والإقرار بالصواب الذي ظهر على يد محاوره ، وهو بالذات مقتضى " الإذعان " ، وعلى هذا ، فالحسم لا ينفع في تحصيل الإذعان الضروري للخروج من الاختلاف .
ومن هنا ، يتضح أن المنازعة التي تضاد الجماعة وتضعفها إنما هي المنازعة التي تلجأ إلى العنف ، قمعا كان أو حسما ؛ لأن المعنف لابد أن ينتهي به الأمر ، إما إلى أن يهلك أو أن ينشق أو أن يتآمر ، وفي كل واحدة من هذه الأحوال الثلاث يتسبب في خلخلة الجماعة ، زيادة أو نقصانا ، أما المنازعة التي ينبني عليها الحوار ، فإنها توافق الجماعة كل موافقة وتقويها أيما تقوية ، إذ تقضي بأن تقوم علاقات التعامل فيها ، من جهة ، على فعل الإقناع الذي يحمل تمام الاعتبار لذات الغير ، ومن جهة ثانية ، على فعل الإذعان الذي يحمل تمام الاعتبار للصواب ، ولابد لمثل هذه المنازعة أن تكون خادمة للجماعة بما يورثها مزيدا من التماسك في البنية الجامعة والتناصح في المصلحة العامة ، ولولا أني أنفر مما تجتره الألسن تحت ضغط الإعلام ، لقلت : " يكسبها مزيدا من الشفافية " .
2- المقابلة بين الاختلاف النقدي والخلاف
معلوم أن الرأي رأيان : رأي يبنيه صاحبه على دليل أو حجة من عنده ، - أي يكون رأيا مدللا تدليلا ذاتيا – ورأي لا يثنيه صاحبه على دليل من عنده – أي يكون رأيًا تحكميا - ، والرأي التحكمي على ضربين : رأي مبني على التقليد ورأي مبني على التشهي ، أما الرأي المقلد ، فهو الذي يتسول فيه صاحبه بدليل هو لغيره أو يورده بغير هذا الدليل ، مكتفيا بمضمونه مجردا ، ومعولا في ذلك على قدرة من يقلد ( أي إمامه ) في إمداده بهذا الدليل متى شاء ، وأما الرأي المتشهي فهو الذي لا يتوسل فيه صاحبه لا بدليل لغيره ، ولا بالأولى بديل من عنده .
ومقتضى الخلاف أن يكون تنازعا في الآراء التحكمية ، فإن كان في آراء مقلدة ، فهو تنازع لا اجتهاد فيه ؛ لأن مبنى الاجتهاد أساسا على اختراع الدليل ، وإن كان في آراء متشهية ، فإنه تنازع لا تعقل معه ، لأن مبنى التعقل أساسا على الاشتغال بالتدليل ، أما مقتضى الاختلاف أن يكون تنازعا في الآراء المدللة ذاتيا لا تشهي فيه ولا تقليد ، فيثبت له الوصفان معا : التعقل والاجتهاد ، وعلى هذا ، فإذا كان الخلاف يحصل بين الجلاء والمقلدين ، فإن الاختلاف ، على نقيضه ، يحصل بين العقلاء والمجتهدين .
وإذا تقرر هذا ، تبين أن المنازعة التي تضاد الجماعة وتضرها إنما هي تنازع الخلاف ، أما تنازع الاختلاف ، فإنه يوافق الجماعة كل موافقة وينفعها أيما منفعة ، إذ يوجد أن تقوم علاقات التعامل فيها ، من جهة ، على مقتضيات العقل التي تحدد للمتنازعين أدوارهم ، ومن جهة ثانية ، على مقتضيات الاجتهاد التي تضمن لهم مواجهة أطوار حياتهم ، فمثل هذا التنازع – تنازع الاختلاف – لابد أن يكون بانيا للجماعة ، فيتعين لا حفظ وجوده فحسب ، بل أيضا تقوية أسبابه .
3 – المقابلة بين الاختلاف النقدي والفرقة(/4)
ذلك أن الافتراق داخل دائرة الجماعة قد يكون بمعنيين اثنين ، أحدهما ، التفاوت بين الأفراد ، والمراد به هنا تمتع بعض الأشخاص بامتيازات وحظوظ وسلط تؤدي إلى محو المساواة بين عناصر الجماعة ، بما يكون منه انتشار مظاهر التخلخل في بنائها ، والمعنى الثاني ، الانشقاق في الصفوف ، والمراد به – كما هو معروف – تصدع صرح الجماعة ، بحيث يذهب كل عنصر منها إلى وجهة مخصوصة ، معتقدا ما لا يعتقده غيره وقائلا بما لا يقول به ، وقد ينجم هذا الانشقاق عن أسباب أخرى غير عدم المساواة ، مثل الأزمات الاقتصادية والتصارعات على السلطة والفتن الاجتماعية والمفاسد الأخلاقية . أما الاختلاف في الرأي الذي هو مدار الحوار النقدي ، فلا يمكن أن يفضي إلى " التفاوت " لأن قوانين الحوار النقدي تجري على الداخلين فيه ، كائنا ما كانا ، بالسوية ، ولاشيء يستحق أن يتميز في علاقاتهما الحوارية إلا الصواب الذي يكونان قد توصلا إليه ، وحتى إذا ظهر هذا الصواب على يد أحدهما ، فلا يجيز له ذلك أن يدعي الاختصاص به ، لأن الاتفاق جرى مع الحوار في البداية بأن يطلبا معا الوقوف عليه ، فيكون الوصول إليه مشتركا بينهما ، ثم لأن ابتدار المحاور إلى قبول الصواب يجعل علاقته به ، إن قولا أو فعلا ، لا تختلف عن علاقة صاحبه به وعلى هذا ، فإن الحوار لا يفرق أبدا بين المتحاورين ، بل يسوي بينهما على الوجه الأتم .
كما أنه لا يمكن لهذا الاختلاف أن يتولد منه " الانشقاق " ، لأن الغرض الأول الذي اجتمع عليه المتحاورون هو رفع حالة الاختلاف في رأيهما ، وحفظ هذا الغرض أثناء ممارسة لا محالة أنه يِؤدي إلى إحدى الحالات الثلاث : إما الظفر الفعلي بالصواب المطلوب أو تمحيص الطرق التي يتحمل أن، توصل إليه أو زيادة المعرفة برأي الجانب الآخر ، ولا مراء في أن كل واحدة من هذه الحالات تسهم في محو الافتراق الذي بدأ في الآراء وفي جمع العقول على رأي واحد ، بحيث يكون الحوار النقدي أداة تجميع للآراء ، لا أداة تفريق لها كما يتوهم .
وبهذا ، يتبين أن المنازعة التي تضاد الجماعة وتنسفها إنما هي المنازعة التي تنبني على التفرقة الراجعة إلى انتفاء المساواة بين الأفراد أو إلى انتشار أسباب الانشقاق الأخرى في المؤسسات الجماعية ، أما المنازعة الحوارية ، فإنها تلائم الجماعة كل ملاءمة وتخدمها أيما خدمة ، إذ تقضي بأن تقوم علاقات التعامل فيها ، على مقتضى المساواة في الحقوق والواجبات بين أفرادها من جهة، وعلى مقتضى طلب جمعهم على الرأي الصائب من آرائهم منه جهة أخرى، وعليه فلا يمكن أن، تكون الجماعة التي تأخذ بالمنازعة الحوارية إلا جماعة " ديموقراطية " صريحة ، ولا شك أن منازعة كهذه توطد أركان الجماعة بما قد تضاهي فيه ضدها – أي الموافقة – هذا إذا لم تجاوزه في ذلك درجة متى وضعنا في الاعتبار أن الأمر المتنازع فيه يكون موضع اجتهاد ، بينما الأمر المتفق عليه يكون موضع تقليد ، وفضل الاجتهاد على التقليد في تقوية الشعور بالالتزام والمسؤولية يكاد يكون بداهات من بديهات العقل .
ثالثا : ضوابط الحوار الاختلافي
لقد وضح لنا كيف أن الصورة النزاعية للاختلاف في الحوار النقدي لا تتعارض مطلقا مع الصورة الجماعية التي ينطوي عليها هذا الحوار ، وقد تناول هذا التوضيح وجوها تعارضية ثلاثة هي " التعارض بين الاختلاف والعنف " و " التعارض بين الاختلاف والخلاف " و " التعارض بين الاختلاف والتفرق " ، وإذا كان الحوار النقدي يتصف بهذه الميزة الوفاقية المثلى ، فذلك لأنه ينضبط بمبادئ تصرف عن الاختلاف في الرأي – الذي هو مداره – الآفات التي تمثلها أضداده المذكورة ، أي " العنف " و " الخلاف " و " الفرقة " ، ويبقى أن أبين أصول الضوابط الحوارية ، فأقسمها إلى أقسام ثلاثة ، وهي : " الضوابط الصارف للعنف " و " الضوابط الصارف للخلاف " و" الضوابط الصارف للفرقة " .
واعتبارا للمبدأ الذي تبيناه من قبل وهو أن حقيقة الكلام إنما هي حقيقة حوارية ، فإني أورد لهذه الضوابط صيغتين اثنتين ، إحداهما عامة يجري مقتضاها على الكلام بوجه عام ولا أخوض فيها هاهنا ، والثانية خاصة يجري مقتضاها على الحوار بوجه خاص ، وهي التي أبسط القول فيها .
1- الضوابط الصارفة لآفة العنف :(/5)
لقد تقدم أن الاختلاف في الرأي لا تنفع في دفعه أبدا المواجهة بالعنف ، كائنا ما كان شكلها أو حجمها ، وإنما الذي ينفع فيه هو فتح المجال لممارسة الإقناع بالحجة و الإذعان للصواب ، ولا إقناع ولا إذعان إلا إذا توسل المختلفان في الرأي في ذلك بالقدر المشترك بينهما من المعارف والأدلة ، إذ لابد أن تكون هناك - بحكم المجال التداولي الذي يجمعهما - جملة دنيا من الحقائق وجملة دنيا من الاستدلالات لا يختلفان فيهما ، وبناء على هاتين الجملتين ، ينبغي أن يدخل كل منهما في إقناع الآخر ، بحيث إذا تبين أحدهما بوضوح الطريق الذي يوصل من هذه الحقائق والاستدلالات المشتركة إلى الرأي المتنازع فيه ، لزمه الإذعان به ، وعلى أساس هذه الاعتبارات أضع الضوابط التي تمكن من دفع العنف ، وهي الآتية :
1-1 ضابط حرية الرأي وحرية النقد
ومقتضاه في صورته العامة هو :
- " لا يجوز منع أحد المتكلمين من أن يرى رأيا ولا لغيره من أن يوجه إلى الرأي نقدا ".
ومقتضاه في صورته الخاصة هو :
- " لا تمنع المعترض من الاعتراض إن كنت مدعيا ولا تمنع المدعي من الادعاء ولا من إثبات ادعائه إن كنت معترضا " .
فلا يترجح ارتفاع العنف إلا إذا جاز لكل واحد قبل العمل بمبدأ الحوار النقدي أن تكون له وجهة نظر في كل مسألة معروضة حين يشاء ، ومتى كانت له وجهة نظر ، صار مدعيا ، فلزمته إقامة الدليل على دعواه لا يتعداها ، كما جاز له أن يتعرض لأية وجهة نظر معلومة حين يشاء ، ومتى قام بهذا التعرض ، صار معترضا ، فلزمته مطالبة المدعي بالدليل ، لا يتعداها ، وليس في هذه الحرية ما يضر الجماعة في شيء ؛ لأن هذا النوع من الحوار الذي دخل فيه المرء ، وهو الحوار النقدي أو العقلي ، كفيل بأن ينهض بتصحيح رأيه أو دعواه أو تصحيح نقده أو اعتراضه ، فيعود إلى التزام الجماعة كما كان قبل المنازعة إن لم يعد إلى هذا الالتزام بأقوى مما كان .
2-1 ضابط الحقائق المشتركة
ومقتضاه في صورته العامة هو :
-" يثبت الرأي بالبناء على المعارف والأحكام المشتركة "
ومقتضاه في صورته الخاصة هو :
-" اجتهد في إثبات دعواك بالاستناد إلى أقوى المقدمات المشتركة "
لا يترجح ارتفاع العنف إلا إذا عمل كل واحد من جانبه على استخراج آرائه أو دعاويه من الوقائع والقيم التي تعد رصيدا مشتركا ، ويكون التسليم بهذه الآراء على قدر قوة هذه الوقائع والقيم ؛ لأن درجة الاشتراك فيها ليست واحدة ، و إنما درجات متعددة يعلو بعضها ، فمنها ، مثلاً ، ما يعد إنكاره خروجا عن طور العقل ، ومنها ما يعد الشك فيه جهلا بمجرى الطبيعة ، ومنها ما يعد القدح فيه خروجا عن مقتضى العادة ، كما أن نطاق هذا الاشتراك ليس واحدا ، و إنما نطاقات متعددة يزيد اتساع بعضها على بعض ، فمن الوقائع والقيم ، مثلا ، ما يشترك فيه جميع أفراد الجماعة بحيث يكون ملزما لهم على السوية ، ومنها ما تشترك فيه هذه الفئة أو تلك من الفئات المكونة لهذه الجماعة ، ومنها ما يختص به المتحاوران ، بحيث لا يكون ملزما لغيرهما .
وعلى قدر ما تكون الوقائع والقيم المأخوذ بها أعلى رتبة وأوسع نطاقا ، يكون الاقتناع بها أضمن وتكون نهاية الاختلاف أكثر يقيناً ، على ألا يسيء المتحاوران استخدام هذا الرصيد المشترك من الحقائق ، فينكر المعترض ما حقه أن يكون أمرا مشتركا ، ويقر المدعي ما حقه أن يكون غير مشترك .
1-3ضابط قواعد الاستدلال
ومقتضاه في صورته العامة هو :
-" يثبت الرأي بالتسول بقواعد الاستدلال المشتركة "
ومقتضاه في صورته الخاصة ، فهو :
-" اجتهد في إثبات دعواك باستخدام أقوى قواعد الاستدلال المشترك "
لا يترجح ارتفاع العنف إذا عمل كل واحد من جانبه على التوسل في استنتاج آرائه أو دعاويه من أقوى المقدمات المشتركة بواسطة أقوى القواعد الاستدلالية المقررة ، وهذه القواعد هي الأخرى أنواع متفاوتة ، فمنها ما يتولد به اليقين الذي لاشك معه ، ومنها ما لا يتولد به إلا يقين مقيد بمجال مخصوص ، ومنها ما ينتج الظن الذي لا تقل فائدته عن اليقين ، ومنها ما ينتج الظن الذي لا يستغنى عنه ، ثم إن نطاق الاشتراك في هذه القواعد هو أيضا ليس واحدا ، وإنما نطاقات مختلفة ، بحيث نجد فيها ما يعم الجماعة كلها ، ومنها ما يغلب عند هذه الفئة أو تلك من فئاتها بحسب طبيعة المجال الذي تشتغل وتجري فيه حواراتها .
وعلى قدر ما تكون القواعد الاستدلالية المتوسل بها أنسب للمجال أو أوسع دائرة ، يكون الإذعان بها أسرع وتكون نهاية الاختلاف أقرب ، شريطة ألا يسيء المتحاوران استخدام هذه القواعد، كأن يستخرج أحدهما حكما عاما من تصفح جزئيات غير كافية ( ممارسة سيئة لقاعدة التعميم ) ، أو يثبت حكما لشيء ما بقياسه على شيء آخر وهو لا يقاس عليه ( ممارسة سيئة لقاعدة القياس ) أو يستنتج ، بناء على ما لاحظه من التتالي الظاهر بين شيئين ، أن أحدهما سبب في الآخر ، وليس الأمر كذلك ( ممارسة سيئة لقاعدة التعليل ) .(/6)
2-الضوابط الصارفة لآفة الخلاف
لقد تقدم كذلك أن الاختلاف شيء والخلاف شيء آخر ، إذ الخلاف ليس معه أصلا دليل ، فيكون الواقع فيه – أي المخالف – متشهيا ، وإذا وجد معه دليل ، فلا يكون من وضعه أبدا ، وإنما من وضع غيره ، ولما لم يكن المخالف واضع هذا الدليل وكان مقلدا فيه ، لا يأمن ألبتة أن يأتي به على وجه لا يناسب بوجه ما الرأي أو الدعوى المتنازع فيها ، فيزيد الخلاف حدة حيث يحسب أنه يسعى في تخفيفه ، في حين أن الاختلاف لا تشهي معه ، لأنه لا اعتبار فيه إلا للدليل العقلي ، ولا تقليد معه ، لأنه لا اعتبار فيه إلا للاجتهاد الشخصي ، لذلك ترى صاحبه – أي المختلف – يسعى على قدر الطاقة ، لا في أن يضع دليله من عنده فقط ، بل أيضا في أن يكون هذا الوضع على أنسب وجه ، ولا يسعى كذلك في أن يورد نقده أو اعتراضه على دليل غيره فقط ، بل أيضا أن يكون هذا الإيراد على أنسب وجه ، كل ذلك ليقوي من حظوظه في الإسهام في رفع الاختلاف ، وبناء على هذه الاعتبارات ، أذكر الضوابط -التي تمكن من دفع الخلاف- الآتية :
1-2ضابط واجب الإثبات
ومقتضاه في صورته العامة هو :
- " يجب أن تكون الآراء مثبتة "
ومقتضاه في صورته الخاصة هو :
" عليك أن تدفع الاعتراض على دعواك بإثباتها بدليل مقبول " (3)
لا يمكن اجتناب الوقوع في الخلاف إلا إذا نهض المدعي بواجبه في إقامة دليل عقلي على دعواه التي ورد عليها اعتراض المعترض . طبقا للمبدأ المعلوم : " البيَّنة على من ادعى - ومتى أقام المدعي هذا الدليل العقلي ، حقَّ للمعترض أن ينظر فيه ، فإن أرضته معقوليته أمضاه ، وإلا عاود اعتراضه فأورده على مقدمات هذا الدليل ، بعضها أو كلها ، بوصفها دعاوى جديدة ، فيتوجب على المدعي أن يشتغل بإثباتها بدورها ، وهكذا حتى ينتهي إلى مقدمات مشتركة لا اختلاف فيها أو مسلمة عند المعترض تضطره إلى الإذعان ، وإلا اضطر المدعي إلى السكوت ، مقرا بعجزه في إثبات ما ادعاه ، إلا أن يسيء القيام بهذا الواجب ، فيوهم محاوره بفراغ ذمته من هذا الواجب كما إذا عرض دعواه على أنها بينة بنفسها أو أنه هو الضامن لصدقها أو يعمد إلى نقل هذا الواجب إلى ذمة المعترض كما إذا طالبه أن يبرهن على اعتراضه .
2-2 ضابط الإثبات الأنسب
ومقتضاه في صورته العامة هو :
-" يجب أن يكون الإثبات ملائما للرأي المثبت " .
ومقتضاه في صورته الخاصة هو :
-" عليك أن تثبت دعواك بأنسب دليل ممكن " (5)
لا يكفي في اجتناب الخلاف أن يجتهد المدعي في الإتيان بالدليل ، بل عليه كذلك أن يطلبه من الطريق الذي يبدو له أنه أدل على دعواه من غيره ، إذ يجوز أن، تكون هناك طرائق تدليلية متعددة لتعقب المطلوب ، لكن بعضها يكون أعلق بهذه الدعوى من بعض ، فيكون التخير أعلقها بهذا أقوى على منع الخوض في غيرها ، وبالتالي منع انتشار الحوار والخبط فيه ، أما إذا تخير المدعي غير هذا الطريق، فلا يأمن من أن يقع فيما يقع فيه " المخالف " . الذي يأخذ من سواه دليله ، نحو الابتعاد عن الدعوى والاشتغال بالتدليل على غيرها .
2-3 ضابط الاعتراض الأنسب
مقتضاه في صورته العامة هو :
-" يجب أن يكون النقد ملائما للنقد المنقود "
ومقتضاه في صورته الخاصة ،فهي :
-" عليك أن تعترض على دعوى المدعي على أنسب وجه ممكن "
لا يكفي في اجتناب الخلاف أن ينتقد المعترض الدعوى ، بل يتعين عليه أيضا أن يأتي بهذا الانتقاد على الوجه الذي يبدو له أنه أكثر ملاءمة من غيره لهذه الدعوى ، إذ يجوز أن تكون هناك وجوه متعددة للتعرض لها ، لكن بعضها يكون أعلق بها من بعض ، فيكون اختيار أعلقها بها أقوى على حفظ الدعوى الأصلية وجمع المتحاورين عليها ، وعلى قدر ما يكون هذا الحفظ والجمع ، يكون القرب من النتيجة ، ولا يبعد أن يفضي اختيار غيرها إلى تقويل المدعي ما لم يقل ، إن تحريفا لقوله أو حتى افتراء عليه ، صراحة أو ضمنا .
3-الضوابط الصارفة لآفة الفرقة
لقد تقدم أخيرا أن الفرقة هي إما عبارة عن افتراق في الحقوق بين الأفراد داخل الجماعة – أي تفاوت – أو افتراق في بنية الجماعة – أي انشقاق – والحال أن الاختلاف في الرأي ليس فيه شيء من هذا ولا من ذاك ؛ لأنه يقوم على التساوي في الحقوق بين المتحاورين ، ثم لأن الغرض من الدخول في الحوار هو بالذات الخروج من الاختلاف في الرأي إلى الاتفاق فيه فحينئذ ، يبدو أنه لا شيء يمكن أن يحول دون هذا الاتفاق بحيث يفضي إلى الفرقة إلا واحدة من ثلاث آفات : إما أن تكون اللغة التي يستعملها المتحاوران مضطربة ( آفة لغوية ) أو يكون السلوك الخلقي الذي يتخذه أحدهما إزاء الآخر مختلا ( آفة خلقية ) أو يكون موقفهما من النتيجة المنطقية للحوار موقف المعاندة ( آفة منطقية ) ، ومن هنا ، نتبين نوع الضوابط التي نحتاج إلى وضعها والتي من شأنها أن تقي أهل الاختلاف في الرأي شر الفرقة .
2-3 ضابط إحكام العبارة
مقتضاه في صورته العامة هو :(/7)
-" ينبغي اجتناب آفات التعبير والتأويل " .
مقتضاه في صورته الخاصة هو :
-" على كل واحد من المتحاورين أن يطلب الإحكام في صياغة أقواله وتحديد معانيه " .
لا سبيل إلى منع الفرقة إلا باجتهاد المتحاورين في أحكام اللغة التي يستعملانها بالقدر الذي يتيح لهما أن يتواصلا فيما بينهما تواصلا مبينا غير مشوش ، و لا يخفى أن هذا الإحكام يقتضي أن تكون العبارة سليمة وواضحة و دقيقة في غير إيجاز مخل ولا تطويل ممل ، لأن خلوها من هذا الإحكام – بأن تكون ركيكة أو غامضة أو ملتبسة مع إيجاز أو تطويل . قد يتسبب في حالات من سوء الفهم وسوء التفاهم تصل إلى درجة أن المتحاورين قد يحسبان أنهما متفقان في مسائل وليس الأمر كذلك ، فيكون اتفاقهما الكاذب سببا في ترك حوار كانا في حاجة إليه ، أو على العكس من ذلك ، قد يحسبان أنهما مختلفان في مسائل وليس الأمر كذلك ، فيكون اختلافهما الكاذب سببا في الدخول في حوار كانا في غنى عنه .
2-3 ضابط استقامة السلوك
مقتضاه في صورته العامة هو :
-" ينبغي اجتناب آفة السلوك ".
و مقتضاه في صورته الخاصة هو :
-" على كل واحد من المتحاورين أن يطلب الاستقامة الخلقية في أقواله وأفعاله " .
لا سبيل إلى منع الفرقة إلا باجتهاد المتحاورين في تحصيل الاستقامة في سلوكهما بالقدر الذي يتيح لهما أن يتفاعلا فيما بينهما تفاعلا مثمرا غير مجدب ولا يخفى أن هذه الاستقامة توجب أن يجعل الواحد منهما اعتبار الغير فوق اعتبار الذات ، فلا يأتي من الأفعال ما يشوش على هذا الغير في القيام بحجته أو في إيراد اعتراضه كمقاطعته أو تجريحه أو احتقاره لأن فقد المحاور لهذه الاستقامة . بأن يجعل اعتبار ذاته فوق اعتبار غيره لا يبالي إن أساء إليه أو أحسن – قد يتسبب في حالات من سوء العمل وسوء التعامل بينهما إلى حد أن أحدهما يحسب أنه يصلح في أمور وهو في الحقيقة يفسد فيها ، فيكون هذا الإصلاح الكاذب سببا في ترك عمل كان أنفع له ، أو يحسب أن محاوره يفسد في أمور وهو في الحقيقة يصلح فيها ، فيكون هذا الفساد الكاذب سببا في الدخول في عمل هو أضرُّ به .
3-3 ضابط قبول الصواب
مقتضاه في صورته العامة هو :
-" ينبغي اجتناب المعاندة "
و مقتضاه في صورته الخاصة هو :
-" على كل واحد من المتحاورين أن يقبل النتيجة التي توصل إليها حوارهما ، كائنة
ما كانت " .
لا سبيل إلى منع الفرقة إلا إذا سلم كل من المدعي واعترض بنتيجة الحوار تسليمهما بالمقدمات المشتركة التي بنياها عليها وبالقواعد الاستدلالية المشتركة التي توسلا بها في هذا البناء ، وقد تكون هذه النتيجة هي إثبات الدعوى – أو الرأي - ، فيلزم المعترض – أو المنقد – إذ ذاك أن يترك اعتراضه ؛ لأنه عجز عن التعرض للدعوى ، أو تكون هي توجه الاعتراض ، فيلزم المدعي إذ ذاك أن يترك دعواه ؛ لأنه عجز عن إقامة الدليل عليها ، وإثبات الدعوى لا يعني أن الدعوى صادقة بالضرورة ، لأن المدعي قد يثبتها بناء على ما سلم به محاوره من مقدمات ، فيكون صدقها متوقفا على صدق هذه المقدمات المسلمة عنده ، وهو ما لم يثبت بعد كما أن توجه الاعتراض لا يعني أن، نقيض الدعوى صادق بالضرورة ؛ لأن عدم إثبات القول لا يلزم منه كذبه ولا صدق مقابله ، نقيضا كان أو ضدا ، فقد يجوز أن يصدق القول ولو لم نظفر بالبرهان عليه كما يجوز أن يكون هناك قول ثالث فيه توقف عن الحكم ، إيجابا وسلبا .
وإذا نحن تأملنا قليلا هاتين الصفتين لنتيجة الحوار ، أولهما ، " التعلق بالمسلمات " ، والأخرى ، " زيادة الصدق عن شرط الإثبات والاعتراض "، أدركنا كيف أن هذه النتيجة تكون نسبية لا مطلقة ، واحتمالية لا قطعية ، وتقريبية لا تقريرية ، لذلك ، الغالب على الظن أن أنسب الأوصاف لهذه النتيجة ليس هو وصف الحق ، وإنما وصف الصواب ، لأن الحق حكم على الأمر في نفسه ، بينما الصواب هو حكم على الأمر بالنسبة إلينا ، وما صدق بالنسبة إلينا لا يصدق بالضرورة في نفسه ، وما صدق في نفسه ينبغي أن يصدق بالنسبة إلينا ، إن عاجلا أو آجلا ، فكل حق صواب لكن ليس كل صواب حقا .
و إذا كانت نتائج الحوار التي يتعاون فيه اثنان فأكثر ، على صوابها ، محدودة في صلاحيتها ومعرضة للتصحيح على الدوام ، فما الظن بالنتائج التي يتوصل إليها المرء منفردا بنفسه ، فلا يمكن أن تكون إلا أشد محدودية وأكثر عرضة للخطأ .(/8)
والعبرة من هذا كله هو أنه لا مشروعية علمية للتعصب في الرأي الذي يكون ثمرة الحوار العقلي ، ولو كثر عدد المتحاورين المشتركين فيه ، عقلاء ومجتهدين ، ناهيك عن الرأي الذي ليس ثمرة للحوار ، وإنما هو نتاج نظر لفرد واحد ، لا يوجد معه من يمتحن أنه مجتهد ولا حتى من يمتحن أنه عاقل ، إذ وجود الاجتهاد ووجود العقل -عند الفرد- موقفان على شهادة الغير بهما ، ولا يمكن أن يشهد له بهما ، حتى يستبينهما في حوار نقدي على تمام شرائطه المعلومة ، لهذا فلا رأي ، كائنا ما كان ، يستحق أن نحمل عليه بالقوة ولو كان رأي الجماعة الصالحة ، فما بالك بالفرد الواحد الذي لا يمكن أن نمتحن صلاحه مادام لا يحاورنا ولا يحاوره .
وفي ختام هذا الدرس ، استجمع أمهات الفكر التي دار عليها في أربع :
أولاها أن بنية الكلام أصلا بنية حوارية وأن بنية الحوار أصلا بنية اختلافية .
والثانية : أن الاختلاف في الرأي لا يسوى بالعنف ، وإنما بالحوار العقلي ، ولا هو أيضا يساوي الخلاف ، وإنما الوفاق ، ولا هو أخيرا يفضي إلى الفرقة ، وإنما إلى الألفة .
والثالثة: أن الاختلاف في الرأي يتقيد في سياق الحوار بضوابط محددة تصرف عنه المهلكات الثلاث : " العنف " و " الخلاف " و " الفرقة " .
والرابعة: أن وجود الاختلاف في الآراء لا يضر أبدا وجود الجماعة الواحدة ، بل يكون خير مثبت لهذا الوجود لقدرته على تحريك وتقليل أطوارها، وبالتالي تجديد الشعور بالالتزام المشترك عند أفرادها والشعور بالمسؤولية الجماعية عند فئاتها .
والسلام عليكم ورحمة الله ...
(*) – أستاذ الفلسفة والمنطق- جامعة الرباط(/9)
الحفظ..حافظ لكتاب الله في كل زمان ومكان
التقانات الحديثة لم تمنع القس سويجارت من التزوير أمام آلاف الحضور وملايين المستمعين
ا.د. حامد بن محمود آل إبراهيم
تناولت مقالتا د. حافظ الجنيد (م العددان 1554 و1555) بعنوان (بين العلم والحفظ) أمراً خطيراً، يفتح الباب أمام أعداء الأمة لإبعادها عن دينها وقرآنها. ولا نريد اتهام الآخرين بسوء النية، ولكننا نريد أن نوضح الأمر من بداية انطلاقته، إلى نهاية مرماه، ووخيم عاقبته إذا تبنته الأمة، ودعت إليه مجلات المسلمين وجماعاتهم.
ولتوضيح ذلك الأمر نلتزم منهاجاً علمياً يعتمد على حقائق التاريخ، وواقع الشعوب، يعتمد النص الشرعي حتى يتضح الحق.
نبدأ بالنظرة العامة؛ ففي القرن العشرين، وفي قمة بلاد العلم الحديث، حيث توثيق المعلومة بالكتاب والصورة، والحاسب الإلكتروني، وعلى مرأى من آلاف الناس، وفي موضوع النص المقدس "هل هو كلمة الله؟"، وقف القس جيمي سويجارت عام 1986م في مدينة بتن روج الأمريكية، وقف بصوته الجهوري، وكلماته الرنانة، ليحرف نصاً مقدساً على الملأ دون حياء فقال "ابنه الوحيد" بدلاً من "ابنه المولود له" وهو على يقين من أن الملايين من مستمعيه لن يلحظوا تحريفه. لماذا؟ لأنهم لا يحفظون النص، فلا مانع من التزوير والتحريف لأن مناقِشَهُ، ومجادله مسلم، والمسلمون لا يرضون "ابنه المولود له" مولود غير مخلوق "Begotten Not Made".
ولم تمنع وسائل الكتابة، والإمكانات المتعددة، والتقانات الحديثة... ونقله إلى الآخرين مكتوباً ومقروءاً ومسموعاً ومرئياً كأنك تأخذه عن شيخ أمامك، بكل التفاصيل الدقيقة، دون أن تضيع أو تغيب واحدة من هذه التفاصيل (كما يذكر المقال المذكور)، لم تمنع كل هذه الوسائل في المجتمع الأمريكي، وأمام آلاف الحضور وملايين المستمعين القس سويجارت من التزوير والتحريف.
ولنضع الآن من جهة أخرى، صورة أخرى في أصغر قرية، وأقل هجرة في الصحراء، لا يملك الإمام أن يخطئ في حرف واحد، أو أن يرفع مكسوراً، أو يجر منصوباًَ، ولا أن يرقق مفخماً، وما ذلك إلا لأن الكتاب في الصدور، كما في سورة العنكبوت بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون (49).
وبذلك بطلت دعوى التقنية والعلم الحديث، بل إن العلم والتقنية الحديثة تمكن من تزوير، وتصحيف النصوص المقروءة، والمسموعة، والمصورة، ليس فقط بإمكانات هوليود، بل على أصغر حاسب شخصي، وبإمكانات طالب متوسط، وما خبر تلك المقالة التي انتحلتها وزورتها طالبة لخطاب للرئيس الأمريكي عنا ببعيد، وإذا أراد الدكتور تفاصيل ذلك زودناه بأسماء البرامج التي تمكن من تحريف الصوت والصورة.
أما ما أنعم الله به على هذه الأمة من حفظ الكتاب في صدور المؤمنين، وأسلوب الإجازة من العالم إلى الحافظ حتى يتصل السند إلى رسول الله . فهل يريد الدكتور أن نترك تلك السلسلة الذهبية التي لا يتمكن أحد من اختراقها، أو تحريفها، أو تزويرها، وليعبث من شاء بالقرآن كيف شاء، حفاظاً على الطاقة، على حد تعبير صاحب المقال!! أي طاقة؟؟ أهي طاقة الكسالى الذين شق عليهم حفظ القرآن؟.
نظرة كلية أخرى، قبل الرد التفصيلي: لننظر في الأمة، كم منها على مدار القرون تعلم القرآن على النهج الذي فهمه الكاتب، ويطالب الأمة بترك حفظ كتاب الله واستظهاره إلى الآتي، كما ورد في مقاله: جمع واستحضار الموضوعات التي يهتم بها القرآن بحسب أولويتها، أي بحسب عدد الآيات الواردة في الموضوع (وإن كنا نرى أن عدد الآيات الواردة في الموضوع لا يعطيه الأولوية، بل إن العلماء الراسخين في العلم هم الذين يحددون الأولويات تبعاً لفهمهم للنصوص).
ترتيب اهتمامات القرآن بحسب الأولوية أيضاً.
دراسات في الآيات الإعجازية... وكثيرة هذه الدراسات التي تتوسع دون أن تنتهي.
ثم يقول: ولعل هذا أهم من الحفظ.
إن هذه الأبواب يعجز عنها العلماء بله العامة من الناس.
أما الحفظ، فباب مفتوح للجميع.. طبعاً مع الفهم والعمل، فلم يقل أحد بترك الفهم والعمل، كل على حسب قدرته، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وإذا نظرنا إلى الناس على الفهم الظاهر للنص القرآني، والذي لم يرد دليل شرعي واحد، من كتاب ولا سنة، على عدم شموله للحفظ والاستظهار، نجد آلافاً بل ملايين من الأمة يحفظون الكتاب عن ظهر قلب، أطفالاً وشباباً وكباراً.
إن المشكلات التي طرحها في معاناة الحافظين مثل:
1 التوقف عن المتابعة للحفظ.
2 الشعور بالإحباط.
3 الشعور الداخلي بعدم الجدوى من الاستمرار.
4 أصعب ما في الحفظ عملية الربط الذهني.
5 التداخل بين الآيات.
6 استغراق عملية الربط للطاقة.(/1)
إن الذين يتفلت منهم القرآن، يعلمون أن كل حرف يقرؤونه لهم به عشر حسنات، فهم ينعمون بالقرآن ويأخذون الجزاء الوفير. حتى المتعتع منهم له أجران، وهذا الحديث يحدد "الماهر بالقرآن مع السفرة والذي يتعتع وهو عليه شاق له أجران". ففي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ".
ولا يفهم أبداً أن هذا الحديث يتكلم عن القراءة فقط، من غير فقه القرآن، أو تعلم علومه، ولكن لم يوجد قبل الكاتب، من رفض اهتمام عامة المسلمين بحفظ كتاب الله.
والآن نناقش المقال..
من أين جاء الفكر الرافض للحفظ، الداعي للفهم دون الحفظ؟
إنها المدرسة الأمريكية الحديثة، التي نبذت الحفظ تماماً، فأصبح الطلاب تشرح لهم المادة العلمية، ويسألون عنها بعد شرحها، ثم لا يسألون عنها بعد ذلك أبداً، لا في امتحانات شهرية أو سنوية!! فماذا كانت النتيجة؟
تخلفت أمريكا من المرتبة الأولى في الرياضيات والفيزياء إلى المراتب الدنيا، وتفوقت اليابان وغيرها من الدول التي تعتمد الحفظ والفهم.
إن تخطئة الأمة من لدن محمد حتى الآن، واتهامها "حدث لبس وخلط من غير عمد"، تهمة عظيمة، لا تخففها كلمة "من غير عمد" أبداً.
وبادئ ذي بدء نود أن نوضح أن كاتب المقال كأنما افترض أن الذين يحفظون القرآن يحاربون فهمه، ويحاربون العمل به، ويحاربون دراسته، أو هم يهملون فقهه.
نقول: إن صح في أي نص من نصوص العلوم، أن حفظ النص لا علاقة له بعلم محتواه وفهمه، والعمل به، فهذا الفهم لا يصح مع النص القرآني أبداً.
وعدم وضوح هذا الأمر عند كاتب المقال، هو الذي أوقعه في هذا الخطأ الذي اتهم فيه الأمة بالجهل وعدم الفهم حتى قال: "وحرفناه عن معناه الأصلي" وقوله: "حدث لبس وخلط" يعني لمن فهم حديث رسول الله "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" على أنه الحفظ، وأن المعني بالحديث هو الفهم والتعليم، كما اكتشف كاتب المقال، وفهم ما لم تفهمه الأمة حتى الآن.
وسنضرب مثالاً بسيطاً يوضح أن الرجل ينقل عن مصدر لا علاقة له بالقرآن الكريم؛ فمثلاً الآية ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على" حبه ذوي القربى" واليتامى" والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون 177 (البقرة) من قرأها ومن حفظها، من باب أولى، علم أن البر أمر مخالف للتوجه نحو المشرق والمغرب.
ولكن البر هو قول الله:
1 مّنً آمّنّ بٌاللَّهٌ
2 $ّالًيّوًمٌ الآخٌرٌ
3 $ّالًمّلائٌكّةٌ
4 $ّالًكٌتّابٌ
5 $ّالنَّبٌيٌَينّ
6 $ّآتّى الًمّالّ عّلّى" حٍبٌَهٌ ذّوٌي الًقٍرًبّى"
7 $ّالًيّتّامّى"
8 $ّالًمّسّاكٌينّ
9 $ّابًنّ السَّبٌيلٌ
10 $ّالسَّائٌلٌينّ
11 $ّفٌي الرٌَقّّابٌ
12 $ّأّّقّامّ الصَّلاةّ
13 $آتّى الزَّكّاةّ
14 $ّالًمٍوفٍونّ بٌعّهًدٌهٌمً إذّا عّاهّدٍوا
15 $ّالصَّابٌرٌينّ فٌي الًبّّأًسّاءٌ
16 $ّالضَّرَّاءٌ
17 $ّحٌينّ الًبّأًسٌ
18 أٍوًلّئٌكّ الَّذٌينّ صّدّقٍوا
19 $ّأٍوًلّئٌكّ هٍمٍ الًمٍتَّقٍونّ
فمن قرأ كمالة الآية الكريمة، ومن حفظها، علم وفهم، أن البر يشمل 17 أمراً حددتها الآية، وأن هؤلاء صادقون ومتقون.
وهذا كثير جداً، وغالب في القرآن، ومن لم يحفظها لا ينضبط له علم.
أما في العلوم الأخرى فقد لا يجدي الحفظ شيئاً، فكثير من المواد، في الكليات العملية، تتم بعض امتحاناتها مع وجود الكتاب والمرجع مع الطالب، ومع ذلك فمن ليس لديه فهم وعلم يرسب (Open-book-exam) وحفظ بعض النصوص في الكيمياء مثلاً، لا يغني شيئاً، بل الشرح والتعليم والدراسة، حتى يفقه الطالب والمتعلم المطلوب.
3 يد2كب أ4+ 2لو لو2 (كب أ)3 + 3يد2
أو برموز لاتينية
3H2SO4 2 ALAL2 (SO4)3 3 H2
فحفظ هذا النص لا يجدي، إذا لم يعلمه المُعلم ويشرحه، ويقول إن الأحماض مثل حامض الكبريتيك إذا وضع على فلز من الفلزات مثل الألمنيوم ينتج كبريتات الفلز ويتصاعد غاز الهيدروجين. فلا معنى للحفظ بدون التعليم والشرح والفهم، وإن كان حتى في علم الكيمياء يجب حفظ كثير من القواعد العامة، والمعادلات الخاصة.
أما قوله: "لقد حسب الكثيرون أن حفظ النصوص والأقوال والمتون والحواشي هو العلم" فهذا تعريض بالأسلوب العلمي الذي قامت عليه الأمة بمنهاجها الأصيل، حيث يقوم العلماء بشرح المتون والنصوص، إن ما يحدث في المجال العلمي حالياً، ولكن تحت أسماء مختلفة، يبين أن مثل نظرية لودفج برانتل أبوعلم الديناميكا الجوية،
Ludfig Prandtl, 1875-1953 father Aerodynamics Theory(/2)
قد شرحتها مئات الأبحاث ولكنها لم تكتب كحاشية كعادة المسلمين القدماء، ولكن كتبت منفصلة عن النص.
وكذلك المذكرات التفصيلية، وشروح الدساتير، وقرارات مجالس الوزراء، وهذا كثير في حياتنا الآن، فلا داعي للانتقاص من المصطلحات الإسلامية، وأساليب الكتابة والتعليق القديمة.
ثم يستمر: "وإذا تعدّى العلم الحفظ، فإلى الأسلوب المنطقي، الأرسطي والكلامي والسفسطائي حيث كان العلم في الماضي محصوراً في المجال التصوري العقلي، بعيداً كل البعد عن المجال الذي يعمل فيه العلم الحديث".
لقد غفل الكاتب عن الحقيقة الساطعة، بأن المسلمين هم الذي أنقذوا الغرب من دوامة الفلسفة الميتافيزيقية، والأسلوب المنطقي، الأرسطي والكلامي والسفسطائي، وعلّموهم الأسلوب التجريبي، فانفك علماء الغرب من ديدنهم واتبعوا الهدي الإسلامي الجديد.
إن وضع العصور الإسلامية في سلة واحدة، تحت كلمة "الماضي" دون أن يفرق بين عصور التقدم، وعصور الانحطاط، يوشك أن يضع على تصوره علامة استفهام كبيرة.
ثم يعرض الكاتب بحفظة كتاب الله، والحاملين للقرآن، بأبشع صفة، ألا وهي صفة اليهود الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها، ويجعل بذلك صفة الحافظين لكتاب الله مثل هؤلاء الذين شبههم رب العزة بالحمار الذي يحمل أسفاراً لا يستفيد منها، علماً بأن ذمّ القرآن لليهود، كما تقول كتب التفسير، جاء لأن يهود لم يستفيدوا من كتبهم التي فيها صفة رسول الله، يقول تفسير الطبري والجلالين وغيرهما: حُمّلوا العمل بها أي كُلفّوا بها، ولكنهم لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بها، وكذبوا محمداً المذكور فيها، وقد أُمروا بالإيمان به فلم يفعلوا بالرغم من وجود نعته فيها. فمن قال إن حفظة كتاب الله لم ينتفعوا به ولم يعملوا به؟.(/3)
الحق الأول والأكبر للإنسان حماية الفطرة التي فطر الله الناس عليها
...
...
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
... ...
...
تمهيد :
لقد كثر الحديث عن حقوق الانسان وصدرت وثائق وبيانات كثيرة وذكرنا اهم مآخذنا على تلك الوثائق ، وبالنسبة للاسلام فانه هو الذي قدم البيان العالمي الاول لحقوق الانسان مرتبطة بمسؤولياته ، لترتبط الحقوق والمسؤوليات في منهاج متماسك ، ليعلن ذلك الانبياء والمرسلون في رسالة ربانية ختمت برسالة محمد r فاصبح المنهاج الرباني - قرآناً وسنة ولغة عربية - البيان الحق الكامل لحقوق الانسان ومسؤولياته.
واذا ذكرنا صوراً ونماذج لمسؤوليات الانسان وحقوقه ، فلا نعني ان ماذكرناه كان كاملاً ، فانه يتعذر ان نورد هنا جميع حقوق الانسان ومسؤولياته كما فصلها منهاج الله ، وانما ندعوا الناس ليعودوا إلى منهاج الله ليجدوا فيه البيان الحق الكامل ، مما لايجدونه في سواه ابداً.
ولكن الوثائق التي أعلنت والبيانات التي صدرت كانت تدعي انها كاملة توفي الانسان حقوقه ، واذا ذكرنا بعض النقائص والمآخذ على تلك البيانات والوثائق ، فإننا نشير هنا إلى اكبر مآخذنا على تلك الوثائق ، حين أهملت أهم حق للانسان ، الحق الذي تقوم عليه سائر الحقوق والمسؤوليات وتنبع منه ، إنه الحق الأول للانسان والحق الأكبر ، إنه حماية (فطرة الانسان) حماية فطرته التي فطره الله عليها ، حمايتها من أن تلوث أو تشوه أو تنحرف ثم رعايتها.
حين نعود إلى حديث رسول الله عن الفطرة ، ندرك اهمية هذا الحق وخطورته ، وتتأكد لنا هذه الأهمية حين نجد ان الحديث الشريف ، شأنه شأن سائر الاحاديث الشريفة ، نابعة من القرآن الكريم مرتبطة به.
الفطرة ومسؤولية الوالدين والمجتمع والأمة :
فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله (ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه . اقرأوا .. فطرة الله التي فطر الناس عليها … الآية ) .
ولنتدبر الآيات الكريمة التي صدرت عنها هذا الحديث الشريف.
{ فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولاتكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون } الروم:30-32
إن الله فطر الناس جميعهم على فطرة واحدة سليمة تكفل لهم الحياة الطاهرة السعيدة ، لتكون هذه الحياة الدنيا دار إبتلاء وتمحيص ، وممراً إلى الحياة الحقيقية في الدار الآخرة ، وكذلك لتكون هذه الفطرة أساساً يعين الانسان على الوفاء بمسؤولياته في الحياة الدنيا والتمتع بحقوقه ، مع ما هيأ الله لعباده من أسباب اخرى : الآيات المبثوثة في الكون وفي نفس الانسان ، الدالة على الله الذي لا إله إلا هو ، والرسل والأنبياء الذين يبلغون رسالة الله ويُذكّرون ، والسمع والبصر والفؤاد لتكون هذه أجهزة الاستقبال التي يستقبل بها الانسان آيات الله من الكون وهو يتأمل ويتدبر ، وأيات الله التي يبلغها الرسل والانبياء حتى لايكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
وإن قدرة السمع والبصر والفؤاد على الاستقبال والادراك والوعي تعتمد على سلامة الفطرة ، ولذلك جاء الحديث الشريف ليبين مسؤولية الوالدين أولاً في حماية الفطرة ، ومسؤولية الوالدين ليست مسؤولية معزولة عن واقع الحياة ، فواقع المجتمع والأمة كله يؤثر في سلامة الفطرة أو انحرافها ، ولكن أثر المجتمع والعوامل المتوفرة فيه يصب في البيت في الاسرة ، حيث يتحمل الوالدان معاً ، الرجل والمرأة ، الزوج والزوجة ، مسؤولية حماية فطرة أبنائهم ، انها ليست مسؤولية اسرة واحدة ، إنها مسؤولية الآباء والأمهات جميعهم في المجتمع ، انها مسؤولية خطيرة سيحاسبون عليها بين يدي الله سبحانه وتعالى يوم القيامة ، وانها مسؤولية شديدة التأثير في واقع الأمة في الحياة الدنيا ، وبذلك تمتد المسؤولية إلى جميع العاملين في مختلف المستويات:
فعن ابن عمر عن النبي انه قال : ((ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته ، والرجل راع في أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم ، وعبدالرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) [رواه الشيخان والترمذ]
وهكذا تمتد المسؤولية في الأمة من ادنى مستوياتها إلى اعلاها ، وجميع هذه المسؤوليات تصب آثارها في البيت ، في الأسرة ، حيث يتولى الوالدان الرعاية المباشرة هناك ، فذكر الوالدين في الحديث الشريف ومسؤولياتهما لاتنفي سائر المسؤوليات والقوى المؤثرة في الأمة من معاهد التربية ومراكز الاعلام وسائر المؤسسات.
وحين تنحرف هذه القوى تنعكس اثارها على الزوجين ، ثم على الابناء ، لتنحرف بذلك فطرة الأبناء إلى النصرانية أو اليهودية أو المجوسية.(/1)
وتأتي الآية الكريمة لتؤكد أهمية الفطرة الثابتة التي فطر الله الناس عليها ، انها فطرة واحدة لاتتبدل في أسسها : ( لاتبديل لخلق الله ) وكيف تتبدل هذه الفطرة وهي رحمة من الله على عباده ، رحمة واسعة ، ثم تبين لنا الآية الكريمة أهم الوسائل والركائز الضرورية لحماية الفطرة : الإنابة إلى الله ، والتقوى ، وإقامة الصلاة وسائر الشعائر التي فرضها الله ، ان هذه هي أسس الحماية ، فان ضعفت أو تخلخلت أو ذهبت أثر ذلك كله على سلامة الفطرة.
وتبين لنا الآية الكريمة وكذلك الحديث الشريف نتائج انحراف الفطرة في الواقع : الإشراك بالله : ( ولاتكونوا من المشركين ) ، و( أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) وكذلك تفريق الدين حتى ينقسم الناس شيعاً واحزاباً يحارب بعضهم بعضاً ، ويفرح كل حزب بما لديه ، وتشتد الفتنة وتضعف الأمة ويهون أمرها في الحياة الدنيا ، وتنال غضب الله وعقابه في الدنيا والاخرة ، اذا لم تتدارك نفسها بالتوبة والانابة والتقوى وإقامة شعائر الدين وسائر قواعده ، لتكتون امة مسلمة واحدة ، صفاً واحداً كالبنيان المرصوص.
ان انحراف الفطرة خطر كبير على الفرد والامة والمجتمع الانساني ، ومن هذا الانحراف تنطلق المفاسد في الارض ، وتمتد الفتن ، وتثور الاهواء والشهوات والمصالح المتصارعة ، وتنافس الدنيا ، تحت جميع الشعارات المحببة إلى النفوس ، المزخرفة للفتنة ، من سلام ووطنية وقومية ودين.
إن الله سبحانه وتعالى زود الفطرة السليمة بوسائل التحكم والموازنة والتوجيه ، فاذا انحرفت الفطرة تعطلت هذه الوسائل فاختل التحكم واضطربت الموازنة وضاع التوجيه.
لهذا كله كانت حماية الفطرة على سلامتها كما خلقها الله أكبر حق للإنسان ، وأول حق لله ، وهي مسؤوليته ان يطالب بها ولاتنازل عنها ، وان يجاهد في سبيل ذلك ، وهي كذلك مسؤولية جميع مستويات الامة ومؤسساتها ان تخطط لذلك بوسائل التربية ومناهجها ، والقوانين وتوجيهها ، ووسائل الاعلام ، وغير ذلك.
القوى التي تعمل في الفطرة : أولها الايمان والتوحيد :
ولندرك خطورة الامر بصورة اكثر وضوحاً ، فاننا نشبه الفطرة ونعتبرها مستودعاً اودع الله فيها مايشاء من قوى وميول وغرائز ، مما عرفنا سبحانه وتعالى ببعضها وجهلنا بعضها الاخر.
إن اهم ماغرسه الله سبحانه وتعالى في الفطرة هو الايمان والتوحيد ، وشهادة ان لا اله الا الله ، وشهادة أن محمداً رسول الله : اما بالنسبة لشهادة أن لا إله إلا الله ، فهي جلية ثابتة في الآية من سوة الاعراف وفي الحديث الشريف :
(( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدتهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك أباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون * وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون))
الاعراف : 172-174
ويأتي الحديث الشريف ليبين هذه الحقيقة الهامة أيضاً :
فعن أنس عن النبي أنه قال : ( يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة ، أرأيت لو كان لك ما على الارض من شئ أكنت مفتدياً به ؟ فيقول : نعم ! فيقول الله : ( كذبت قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لاتشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك). رواه أحمد والشيخان.
هذا بالنسبة لشهادة : أن لا إله إلا الله ، أما شهادة : أن محمداً رسول الله ، فنجدها في الآية الكريمة من سورة آل عمران عهداً موثقاً أخذه الله من الأنبياء والرسل جميعاً ليكون جزءاً من رسالتهم ودعوتهم :
( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقرتم وأخذتكم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).
آل عمران : 81
وهكذا ثبتت الشهادتان عهداً وميثاقاً بين الله وعباده ، وبين الله ورسله ، أساساً للايمان والتوحيد ، أساساً مغروساً في الفطرة السليمة.
إن الإيمان والتوحيد مغروسان في الفطرة تشهد عليهما الآيات المبثوثة في الكون والأيات التي يأتي بها الرسل وحياً من عند الله ، وتظل الفطرة السليمة قادرة على استقبال هذه الايات بالسمع والبصر والفؤاد ، وفي الفطرة قوى أخرى مغروسة برحمة من الله : كالحب والكره والشجاعة والجبن ، والشهوات والغرائز ، وقوة التفكير وقوة العاطفة ، وما يضع الله في عبد من عباده من مواهب وقدرات ، يتميز بها إنسان عن إنسان ، ويكون الايمان والتوحيد كالنبع الصافي ، يروي جميع مافي فطرة الانسان من ميول وغرائز وقوى رياً عادلاً متوازناً ، وكذلك يكون الايمان والتوحيد في فطرة الانسان كالمصفاة ، تنقي مايدخل إلى الفطرة من تجارب وخبرة من الواقع ، أو علوم أو زاد يكتسبه في هذه الحياة الدنيا.(/2)
وكل عمل يقوم به الانسان ، أو فكرة يفكر بها ، أو امر يعزم عليه ، هو عمل صالح يدخل في ساحة التقوى مادام مرتبطاً بالامان مروياً به ، فاذا انعزل العمل عن الايمان أو انقطع ري الايمان أو ارتوى من غيره ، فانه يدخل ساحة الفتنة والفجور والفساد واستمع إلى آيات الله البينات توضح ذلك:
(ونفس وماسواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها). الشمس : 7-10
ان العمل نفسه قد يكون طاعة لله وتقوى ، وقد يكون فتنة وفجوراً وفساداً ، فاذا زكى الانسان نفسه وصدقت نيته كان عمله في ساحة التقوى ، والا كان فجوراً ، وكيف يكون ذلك؟!
النية ودورها في الفطرة والتقوى المودعة فيها :
انها النية . فالنية هي المفتاح الذي يفتح نبع الايمان ، لتطلق منه الري ، اذا كانت النية صادقة خالصة لله سبحانه وتعالى ، واعية لنهج الايمان والعمل الذي تقبل عليه ، اما اذا فسدت النية فانها لاتستطيع ان تفتح نبع الايمان ، أو انها تغلقه ، أو تفتح رياً فاسداً فاما ان لايرتوي العمل من نبع الايمان ، واما ان يرتوي بغيره.
فحين تصدق النية وتتوجه خالصة لله سبحانه وتعالى ، فان الانسان يزكي نفسه : ( قد افلح من زكاها) ويفلح في مسعاه .
وحين تفسد النية ويرجو بها الانسان غير وجه ربه ، أو يطلب الدنيا ويسعى لها ، فانه يكون قد دس نفسه ، أي اخفاها بالضلال والنية الفاسدة : ( وقد خاب من دساها).
ويأتي حديث رسول الله يرويه عنه عمر رضي الله عنه ليبرر لنا أهمية النية وخطورتها في حياة الانسان وعمله كله ، فبها يرتبط قبول العمل عند الله أو عدم قبوله ، وصدق النية وصلاحها يستدعي ان يكون العمل خاضعاً لاحكام منهاج الله.
فعن عمر رضي الله عنه عن الرسول انه قال : إنما الاعمال بالنية ، وانما لامرئ مانوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو أمرأة ينكحها فهجرته إلى ماهاجر اليه ) رواه الشيخان
فالنية هي مفتاح نبع الايمان ان صدقت وصلحت ، فيروي كل قوى الفطرة وميولها وغرائزها رياً متوازناً عادلاً ، فيفلح الانسان بعمله ، ويصبح عمله براً وتقوى ، فلا تطغى قوة في الفطرة على قوة ، ولا غريزة فيها على غريزة ، ولاشهوة على حساب فضيلة ، وتتوازن بذلك القوى والغرائز والميول ، وتؤدي عندئذ كل قوة مهمتها التي خلقت لها اداءاً اميناً ، فيوفي الانسان بعهده مع الله ، ويوفي بالامانة التي حملها.
اما اذا فسدت النية فان التوازن في الري يضطرب أو يختفي أو يتوقف الري ، وعندئذ تطغى قوى على قوة ، وغريزة على غريزة ، فواحدة تنمو واخرى تضمر فلا تعود القوى كلها أو بعضها قادرة على الوفاء بالمهمة التي خلقت لها ، فينقض الانسان عهده مع الله ، ولايوفي بالامانة التي حملها ، ويصبح عمله فجوراً وفتنة وفساداً ، ويصبح الانسان ظلوماً جهولاً.
فالعمل ذاته قد يكون تقوى وقد يكون فجوراً فالشهوة الجنسية نفسها اذا انضبطت بضوابط الايمان واحكام منهاج الله كان خيراً وتقوى ، وادت المهمة التي خلقت لها ، واما اذا تفلتت من ضوابط الايمان واحكام منهاج الله فانها تصبح فجوراً ، وتفسد في الارض ، ولاتؤدي المهمة التي خلقت لها ولا الامانة التي حملها الانسان ، وقس على ذلك حب الوالدين حين يصبح براً وتقوى اذا ارتبط بالايمان والتوحيد بصدق النية واخلاصها ، أو عصبية جاهلة اذا انفصل عن الايمان والتوحيد.
وكذلك حب الاهل والارحام ، وحب الوطن ، والكراهية والكرم والشجاعة وغير ذلك من القوى والميول والرغبات تكون براً وصلاحاً أو فتنة وفساداً.
ولاينحصر اثر الفطرة وما أودع الله فيها من قوى وغرائز ورغبات ومواهب على اوجه النشاط العادي للانسان ولكنه يمتد إلى الاعمال المتميزة ، اعمال الابداع والعبقرية في مختلف ميادين الحياة من فن وادب وعلوم وصناعة وفكر وغير ذلك ، فهناك فرق كبير بين عطاء الموهبة حين ترتوي من نبع الايمان والتوحيد كما ترتوي سائر القوى ، وبين عطائها حين لاترتوي من نبع الايمان والتوحيد ، ويتبين لنا الفرق حين ندرس كيف ينطلق العطاء المتميز.
ولادة العطاء المتميز ودور الفطرة فيه والقوى العاملة في الانسان :
فهذا العطاء المتميز تطلقه عدة قوى تعمل في داخل الانسان ، في ذاته ، في فطرته التي هي مستودع القوى ، واهم هذه القوى التي تعمل على اطلاقة قوتان في الانسان ، طاقتان في فطرته ، هما قوة الفكر والتحليل والتدبر ولنسمها قوة (الفكر) والاخرى هي قوة الاحساس والشعور والعاطفة ، ولنسمها قوة (العاطفة) وتعمل هاتان القوتان معاً في آن واحد ، مع اختلاف في قوة هذه وقوة تلك مع هذا العطاء أو ذاك ، ولكن لايمكن ان تنعدم أي منهما في اي عطاء مبدع ، وربما كان هنالك قوى اخرى لانعلمها.(/3)
ومع مسيرة الانسان في الحياة ينال تجارب وخبرة وزاداً من مختلف العلوم ، وتمر هذه التجارب وهذا الزاد على مصفاة الايمان والتوحيد مادامت النية تعمل خالصة لله ، ومادام الايمان والتوحيد يعمل في الفطرة السليمة ، حتى اذا صفا هذا الزاد من التجارب والعلوم ، توجه ليترك على كل قوة من القوتين ، الفكر والعاطفة شحنات تغذيهما ، ومع مسيرة الحياة يظل الواقع يمد هاتين القوتين بهذه الشحنات ، فكأن القوتين قطبان كهربائيان تتجمع عليهما الشحنات الكهربائية ، على حكمة لله غالبة ، وسنن لله ماضية ، قد نعلم بعضها ونجهل بعضها الاخر ، حتى تأتي اللحظة المناسبة على قدر غالب من الله ، وحتى تنمو الشحنات نمواً يجعلها قابلة للتفاعل ، فاذا ظلت النية تعمل عملها ، وفتحت نبع الايمان والتوحيد ومصفاتها ، واذا ظل هذا النبع الغني الطاهر يروي الفكر والعاطفة وما عليهما من شحنات ، كما يروي سائر القوى العاملة في الفطرة ، ويروي الزاد والتجارب وينقيهما ، ويروي الموهبة ، ليظل عمل جميع القوى في ساحة التقوى ، اذا حدث هذا كله ، تأتي اللحظة المناسبة على قدر غالب من الله ، فتأتي الموهبة المؤمنة المروية بالايمان ، فتطلق التفاعل بين القطبين وما عليهما من شحنات وينطلق من هذا التفاعل ومضة الابداع ، تحمل العطاء الايماني المتميز ، عطاء غنياً على قدر غنى الفكر والعاطفة ، والايمان والتوحيد ، والزاد وشحناته وعلى قدر غنى الموهبة ايضاً ، ان هذه العوامل كلها تعمل في ذات الانسان ، في داخله ، في فطرته ، ليقدم الانسان عطاءه ، ويكون الانسان مؤمناً وعطاؤه عطاءاً إيمانياً مادامت الفطرة سليمة سوية لم تنحرف.
وقد يحدث ان تنحرف الفطرة أو يضعف الايمان ، فلا يكون الري متوازناً فتنمو بعض القوى والغرائز والميول على حساب غيرها ، فيختل الاداء ويضطرب ، ويدخل بعضه أو كله في ميدان الفجور.
وقد نجد في واقع الحياة عملاً يبدو لنا في ظاهره طيباً مع فساد صاحبه أو انحراف أو كفره وضلاله ، اما عمل الكافر والملحد قد يبين الله ورسوله لنا أمره ، فمهما حمل من زينة وزخرف فهو مرفوض عند الله :
(وقدمنا إلى ماعملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً ) الفرقان : 23
وحين سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله عن عبدالله بن جدعان ، وهل يقبل الله عمله وقد كان يصل الرحم ويقري الضيف 000 ؟ فقال : ( لا إنه لم يقل يوماً قط اللهم اغفر لي يوم الدين )
وقد يحدث ان يصدر عمل طيب في ظاهره من رجل منحرف فيتساءل الناس كيف يصدر هذا العمل من هذا الرجل.
ومن خلال ماعرضناه عن الفطرة نرى انه من الممكن ان يصدر عمل طيب كما يبدو لنا من رجل نظن انه ليس اهلاً لهذا العمل ، فيكون هذا العمل من اثر البقية الباقية من فطرته التي انحرفت أو شوهت ، فيبقى جزء ما يعمل فيها ، فتصدر بعد ذلك بعض الاعمال التي تبدو لنا في ظاهرها طيبة ، والله أعلم بخلقه وحسابهم على الله.
حماية الفطرة ورعايتها وسبيل الاسلام إلى ذلك :
من هذا العرض السريع الموجز لاهمية الفطرة ولخطورة دورها في حياة الانسان ندرك اهمية حمايتها وصونها من ان تتعرض للانحراف أو التشوية ، واهمية رعايتها.
والفطرة ليست (عضلة) في جسم الانسان ، ولا هي مادة ذات شكل وحجم ووزن وموضع في الانسان ، انها أمر من عند الله اعلمنا بها الله سبحانه وتعالى ، انها مجموعة قدرات وطاقات ، وغرائز وميول ورغبات ، أودعها الله في كيان الانسان ، تتفاعل مع اجهزة الجسم ، من قلب ودماغ وجهاز عصبي ، وغير ذلك مما لايعلمه الا الله.
ومن هذا التصور ايضاً ندرك مدى امتداد اهميتها في كيان الانسان ، وهي تتفاعل وتؤثر وتتأثر باجهزة الانسان المختلفة على سنن لله ماضية وحكمة بالغة.
ومهما كان التصور فانه يقودنا في النهاية إلى الاهمية البالغة للفطرة وخطورة دورها، ففيها اودع الله الحقيقة الكبرى في الكون والحياة ، قضية الايمان والتوحيد ، ومنها ينطلق عطاء الانسان مروياً بنبع الايمان غنياً به ، أو جافاً منحرفاً.
من هذا التصور ينطلق الادب الملتزم بالاسلام بتميزه الفكري والايماني والفني على قدر الايمان والموهبة والزاد ، ومن هذا التصور يخرج العطاء المتميز كله من علم وفن وصناعة وغير ذلك.
ولذلك كانت القوى التي اودعها الله فطرة الانسان تقرر مصيره في الدنيا والاخرة ، وهل هنالك اخطر من ذلك ؟!
ولذلك كانت حماية الفطرة هي الحق الاول للانسان في هذه الحياة الدنيا ، فاذا لم يوف هذا الحق تعطلت سائر الحقوق أو انحرفت أو تشوهت ، فدخلها الظلم والفتنة والفساد ، وتعطلت المسؤوليات كذلك.
واذا كانت حماية الفطرة حقاً لكل انسان ، بل هي الحق الاول والاكبر ، فانها في الوقت نفسه مسؤولية الامة بكل مستوياتها ومؤسساتها وقوانينها ، ابتداءاً من الأسرة والبيت والوالدين ، وانتهاء بالدولة ورجالها ، ومروراً بالمعاهد والجامعات وسائر المراكز.(/4)
ستختلف القوانين كثيراً حين يحرص واضعوها على حماية الفطرة ، أو حين لايحرصون على ذلك ، لذلك جاءت الشريعة الاسلامية حريصة كل الحرص على حماية الفطرة من تلوث بالاثام والمعاصي والجرائم ، حرصت على ذلك في بناء الاسرة وروابطها ونظامها ، وحرصت على ذلك في تنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة ، ومنع الاختلاط الذي يفسد الفطرة ويدفع إلى الفجور ، وحرصت على ذلك في تربية الفتاة خلقاً وديناً وعلماً ولباساً حتى تحفظ على الفتاة سلامة فطرتها ، الا ترى الحياء مغروساً في فطرة الفتاة ، في فطرتها السليمة حتى يكاد يكون سلاحاً يحميها من الفتنة ، فاذا فسدت الفطرة فقدت الفتاة حياءها وانزلقت في الرذيلة وجاهرت بها ، وكذلك حرص الاسلام على حماية فطرة الفتى وحماية ماأودع الله فيها من قوى ، لتؤدي كل قوة ماخلقت له.
لقد جاء الاسلام بتشريعات كاملة تهدف إلى تحقيق هذه الحماية والرعاية ، فهو يحرص على الانسان وسلامة فطرته قبل الزواج فسن للزواج تشريعاً كريماً دقيقاً ، فحرم زواج المسلم أو المسلمة من مشرك أو كافر ، وجعل الاسلام اساس علاقة الزوجين ، وأباح زواج الرجل المسلم من الكتابية مادام الرجل المسلم صادقاً في دينه عارفاً بمسؤولياته وحقوقه ، يدرك ان من اهم مسؤولياته الدعوة إلى الله ورسوله ، إلى الايمان والتوحيد ، فان كان الرجل المسلم كذلك فهو اول مايكون داعية في بيته ، ولايختار الكتابية الا عن علم وبينة ليطمئن إلى انه سيوفي بعهده مع الله في أداء واجبات الرسالة الربانية ، وانه لن يترك منفذاًا لانحراف أو فتنة ، واننا هنا نأخذ قبسات ليعود المسلم إلى الكتاب والسنة فيجد التفصيل البين المعجز :
(ولاتنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولاتنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون) البقرة:221
وحرم الاسلام نكاح الامهات والبنات والاخوات والعمات والخالات ، وبنات الاخ وبنات الاخت والامهات اللاتي ارضعن الرجل واخواته من الرضاعة وأمهات الزوجات والربائب اللواتي في الحجور من النساء اللاتي دخل الرجل بهن ، وحلائل الابناء الذين من الاصلاب ، كما حرم الجمع بين الاختين ، وبين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها.
وعن عائشة عن النبي ( يحرم من الرضاعة مايحرم من الولادة ) (رواه الخمسة)
وعن ابي هريرة عن النبي (تنكح المرأة لأربع : لمالها وحسبها ولجمالها ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك) رواه الخمسة.
فالدين هو الابعد أثراً في حماية فطرة المولود ورعايته بعد ولادته.
وكذلك :
عن أبي حاتم المزني عن النبي ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن في الارض فتنة وفساد كبير) قالوا : يارسول الله : وإن كان فيه ؟ قال : ( اذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ) أعادها ثلاث مرات. رواه الترمذي .
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي محمد ( تخيروا لنطفكم ، فأنكحوا الأكفاء وأنكحوهم) رواه ابن ماجه والحاكم والبيهقي في سننه.
والكفاءة هي الدين والخلق.
وعن معقل بن يسار عن النبي (تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم) [ رواه أبو داود والنسائي)
...
...(/5)
الحق المعلوم
إبراهيم الأزرق*
الحمد لله الذي أفاض الأجر لأهل البذل وأجزل، وصلى الله وسلم على خير من صلى وصام وتصدق وأنفق ، ثم أما بعد..
فإن من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات والتي تنادت بها العرب في الجاهلية من قبل الإسلام، السخاء والبذل والجود والإنفاق، بل جعلوا هذه العادات مما يفخر بها أصحابها.
ومن ذلك ما جاء في كلمة حسان –رضي الله عنه-:
يقول فيها:
إلى آخر ما قال.
وقال أيضاً رضي الله عنه يمدح الحارث بن ثعلبة بن جفنة (كعب أبو عامر بن حارثة بن امرئ القيس، وأمه مارية) والد المنذر المعروف بجبلة بن الأيهم، وكان ذلك في زمن الجاهلية:
ومن شعر حاتم الطائي:
وفي كلمة لبيد التي علقت بأستار الكعبة قوله:
وقيل إن هاشماً بن عبد المطلب إنما سمي هاشماً لهشمه الثريد للحجيج، وأخبار العرب قديماً في البذل والإنفاق وأشعارهم كثيرة معروفة.
هكذا كان العرب قبل الإسلام ثم جاء الإسلام فأقر العرب على ما كانوا عليه من أخلاق حميدة وعادات رشيدة فكان من جملة ما أقرهم عليه الجود والكرم والبذل والإنفاق، إلاّ أنه شذب هذه الخلال وهذبها فزاد حسنها أضعافاً.
ومن ذلك ثناؤه جل شأنه على أقوام بقوله: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا. إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً. فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً) وقال سبحانه: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)، (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون)، (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم. الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّاً ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير) (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، (والصدقة برهان) قال نبينا صلى الله عليه وسلم في حديث عقبة بن عامر: (كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة حتى يقضى بين الناس) [رواه الإمام أحمد 4/147، وأبو يعلى 1766، وابن خزيمة 2431، وابن حبان وغيرهم]. قال يزيد: "فكان أبو الخير- وهو مرثد بن عبد الله اليزني الراوي عن عقبة- لا يخطئه يوم لا يتصدق فيه بشيء ولو كعكة ولو بصلة"، قال صلى الله عليه وسلم في الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) [حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه البخاري في الأذان ومسلم في الزكاة]، وقال صلى الله عليه وسلم عن الصدقة: (إنها تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء) [حديث أنس بن مالك رضي الله عنه رواه الترمذي في الزكاة باب ما جاء في فضل الصدقة 664، وابن حبان والبغوي، وحسنه الترمذي وفيه مقال]، وقال صلى الله عليه وسلم: (الصدقة تطفيء الخطيئة كما يطفىء الماء النار) [حديث معاذ رضي الله عنه رواه الإمام أحمد 5/531، والترمذي في الإيمان7/280، وابن ماجة وغيرهم، وحسنه الترمذي]، وقال صلى الله عليه وسلم: (لقد عجب الله من صنيعكما الليلة إلى ضيفكما) للرجل الذي ضاف ضيفه فلمّا حضر عنده أمر زوجه فشغلت الأولاد إلى أن ناموا، ثم قدم الطعام وأطفأ السراج ودعا الضيف وأوهمه أنه يأكل معه [ حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه البخاري 1781، ومسلم 2054، وفي القصة نزل قول الله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)].
وهكذا ضرب الصحابة والتابعون لهم بإحسان أروع الأمثلة في الجود والبذل في المعروف والإنفاق، بل سبقوا من تقدمهم من العرب ممن كان يضرب بهم المثل، فهم ورثوا تلكم الأخلاق الحميدة ومن ثمّ نمّاها الإسلام وقوّمها.
أتى أعرابي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:
فقال عمر رضي الله عنه: وإن لم أفعل يكون ماذا؟ فقال الأعرابي:
فقال عمر رضى الله عنه وإذا ذهبت يكون ماذا؟ فقال الأعرابي:
فبكى عمر رضى الله عنه حتى خضل لحيته، وقال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره، وأنا والله ما أملك غيره.
وليس عمر رضي الله عنه فحسب، بل جلهم كانوا كذلك يجودون بما يجدون، كان سعيد بن العاص رضي الله عنه كثيراً ما يجمع أصحابه في كل جمعة فيطعمهم ويكسوهم الحلل ويرسل إلى بيوتهم بالهدايا والتحف والبر الكثير، وكان يصر الصرر فيضعها بين يدي المصلي من ذوي الحاجات في المسجد. استسقى يوماً في المدينة فأخرج له رجل من دار ماء فشرب، ثم بعد حين رأى ذلك يعرض داره للبيع، فسأل: لم يبع داره؟ فقالوا: عليه دين أربعة آلاف دينار، فبعث إلى غريمه وقال: هي لك علي، وأرسل إلى صاحب الدار فقال: استمتع بدارك.(/1)
وكان رجل من القراء الذين يجالسونه قد أصابته فاقة شديدة، فقالت له امرأته: إن أميرنا هذا يوصف بكرم –تعني سعيد بن العاص- فلو ذكرت له حالك لعله يسمح لك بشيء، فقال لها: ويحك لا تحلقي وجهي! فألحت عليه في ذلك فجاء فجلس إليه حتى إذا انصرف الناس مكث الرجل جالساً في مكانه، فقال له سعيد: أظن جلوسك لحاجة؟ فسكت الرجل، فقال سعيد لغلمانه: انصرفوا، ثم قال له سعيد: لم يبق غيري وغيرك. فسكت الرجل، فأطفأ سعيد المصباح ثم قال للرجل: رحمك الله لست ترى وجهي فاذكر حاجتك. فقال الرجل: أصلح الله الأمير أصابتنا فاقة وحاجة فأحببت ذكرها لك فاستحييت. فقال له سعيد: إذا أصبحت فالق وكيلي فلاناً، فلمّا أصبح لقي الرجل الكيل فقال له الوكيل: إن الأمير قد أمر لك بشيء فأت بمن يحمله معك. فقال: ما عندي من يحمله، ثم انصرف الرجل إلى امرأته فلامها وقال: حملتني على بذل وجهي للأمير فقد أمر لي بشيء يحتاج إلى من يحمله، وما أراه أمر لي إلاّ بدقيق أو طعام، ولو كان مالاً لما احتاج إلى من يحمله ولأعطانيه، فقالت المرأة: مهما أعطاك فإنه يقوتنا فخذه، فرجع الرجل إلى الوكيل فقال له الوكيل: إني أخبرت الأمير أنه ليس لك أحد يحمله وقد أرسل بهؤلاء العبيد الثلاثة يحملونه معك، فذهب الرجل فمّا وصل إلى منزله إذا على رأس كل واحد منهم عشرة آلاف درهم، فقال للغلمان ضعوا ما معكم وانصرفوا، فقالوا: إن الأمير قد أطلقنا لك.
هذا سعيد بن العاص فلا غرو أن قيل فيه:
وأخبار سلفنا وعلمائنا في الجود والبذل كثيرة، فيها غنية عن أخبار حاتم وهاشم. يذكر بعض أهل السير أن ثلاثة نفر اختلفوا عند الكعبة في أكرم أهل زمانهم، فقال أحدهم: عبد الله بن جعفر، وقال الثاني: قيس بن سعد، وقال الآخر: عرابة الأوسي، فتماروا في ذلك حتى ارتفع ضجيجهم عند الكعبة، فقال لهم رجل: فليذهب كل واحد منكم إلى صاحبه الذي يزعم أنه أكرم من غيره، فلينظر ما يعطيه وليُحكم على العيان. فذهب صاحب عبد الله بن جعفر إليه فوجده قد وضع رجله في الغرز ليذهب إلى ضيعة له، فقال له: يا ابن عم رسول الله! ابن سبيل ومنقطع به، قال فأخرج الرجل رجله من الغرز، وقال: ضع رجلك واستو عليها فهي لك بما عليها، وخذ ما في الحقيبة، ولا تحد عن السيف فإنه من سيوف علي. فرجع إلى أصحابه بناقة عظيمة وإذا في الحقيبة أربعة آلاف دينار ومطارف من خز وغير ذلك، وأجلّ ذلك سيف علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ومضى صاحب قيس بن سعد فوجده نائماً، فقالت له الجارية: ما حاجتك إليه، قال: ابن سبيل ومنقطع به، فقالت: حاجتك أيسر من أن أوقظه، هذا كيس فيه سبعمائة دينار ما في دار قيس مال غيره اليوم، واذهب إلى مولانا في معاطن الإبل فخذ ناقة وعبداً واذهب راشداً. فلمّا استيقظ قيس من نومه أخبرته الجارية بما صنعت، فأعتقها شكراً على صنيعها ذلك وقال لها: هلاّ أيقظتني حتى أعطيه ما يكفيه أبداً، فلعل الذي أعطيته لا يقع منه موقع حاجته.
وذهب صاحب عرابة الأوسي إليه فوجده قد خرج من منزله يريد الصلاة وهو يتوكأ على عبدين له - وكان قد كف بصره- فقال له: يا عرابة! فقال: قل، فقال: ابن سبيل ومنقطع به، قال: فخلى العبدين ثم صفق بيده باليمنى على اليسرى، ثم قال: أوه أوه، والله ما أصبحت ولا أمسيت وقد تركت الحقوق من مال عرابة شيئاً، ولكن خذ هذين العبدين، فقال: ما كنت لأفعل، فقال: إن لم تأخذهما فهما حران، فإن شئت فأعتق وإن شئت فخذ. وأقبل يتلمس الحائط بيده، قال: فأخذهما وجاء بهما صاحبيه.
فحكم الناس أن ابن جعفر جاد بمال عظيم، وأن ذلك ليس بمستنكر له إلاّ أن السيف أجلها، وأن قيساً أحد الأجواد الكرماء حكم مملوكته في ماله بغير علمه واستحسن فعلها وأعتقها شكراً لها على ما فعلت، وأجمعوا على أن أسخى الثلاثة عرابة الأوسي لأنه جاد بجميع ما يملكه وذلك جهد من مقل.
وكذلك كان قيس بن عاصم بن سنان المنقري جواداً ممدحاً كريماً وهو الذي يقول فيه الشاعر:
هذه بعض الصور المشرقة، والنماذج الخالدة لأسلافنا، أسوتهم في البذل والإنفاق والجود والكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان أجود الناس.
سبقوا ثم سدوا طريق الاعتذار بأفعالهم العظيمة فلا سبيل لاعتذار غني أو مقل قدر عليه رزقه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صدق ولو بشق تمرة). وأخبرنا كذلك أن الله يربي الصدقة لعبده كما يربي أحدنا فلوه حتى تكون كالجبل [حديث ابن عباس رضي الله عنهما رواه البخاري في كتاب بدء الوحي، ومسلم في الفضائل].(/2)
وقد بين العزيز الحكيم في التنزيل أن من صفات المنافقين استقلال بذل المقل والهزء ببذل من قدر عليه رزقه فقال جل من قائل عليماً: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلاّ جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً)، ولهذا لا يحق لأحد أن يعتذر في ترك هذا الدين والخلق الكريم بضيق ذات اليد إذ (سبق درهم مائة ألف درهم)، وأفضل الصدقة جهد المقل.
وقال الآخر:
ثم إن هذا الخلق الفضيل لكي ينميه الإنسان لابد أن يعود نفسه عليه ومن شب على شيء شاب عليه، وقد قيل:
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه رضي الله عنهم على البذل والإنفاق، فقال لهم يوماً: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟) قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا وماله أحب إليه. قال: (فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخّر) [حديث ابن مسعود رضي الله عنه رواه البخاري] . وقال صلى الله عليه وسلم: (يقول العبد: مالي مالي، وإنما ماله من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأقنى، وما سوى ذلك ذاهب وتاركه للناس) [حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه مسلم].
و مما يعين المرء على التخلق بهذا الخلق أن يوقن بأنه لن يدفع المنون مال ولا بنون، وأنه لا ينفع أهل القبور سوى العمل المبرور، فطوبى لمن سعى ووعى وحقق ما ادعى ونهى النفس عن الهوى، واعلم أن الفائز من ارعوى وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى وأن سعيه سوف يرى...
ولا يخفى على فطنة القارئ الكريم أن البذل والإنفاق عقد معاوضة مع الكريم المنّان، ولأمثال هذه العقودات مواسم وأوقات حري بالمسلم أن يتحراها، وقد كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن.
وبالجملة حق على الميسر أن يحسن كما أحسن الله إليه، وأن لا يبغي الفساد في الأرض بهدم باب من أوسع أبواب التكافل الاجتماعي.
وهنا مسائل ينبغي أن يتفطن إليها، وأمور يجب أن تراعى، ومنها:
[1] أن من كان ظاهر حاله صحة في البدن، فرأيته جلداً قوياً، ومع ذلك يسأل الناس، فمثل هذا ينبغي أن يوعظ أولاً، كأن يقال إن شئت أعطيتك ولا حظ فيها لغني ولا قوي مكتسب كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجلين الذين أتيا إليه يسألانه الصدقة، فرآهما جلدين فقال: (لهما إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) [أخرجه الإمام أحمد 4/224 وغيره، وقال عنه الإمام أحمد: ما أجوده من حديث، هو أحسنها إسناداً]، ومثل ذلك الذين يسألون في المساجد والطرقات إذا علم من حالهم أنهم من التنابلة الكسالى الذين اتخذوا المسألة مهنة يتأكلون بها، فلا يعطون ولا يعانون على هذا الإثم والباطل، أما إذا جُهل حالهم فلا بأس أن يعطوا -ولو كانوا أصحاء أقوياء- بعد وعظهم؛ فربما كان أحدهم غارماً أو ابن سبيل، الدليل على ذلك قصة الرجل الذي تصدق ليلةً من الليالي، فخرج بصدقته فدفعها إلى شخص؛ فأصبح الناس يتحدثون: تُصُدِّق الليلة على غني، فقال: الحمد لله على غني -يرى أنها مصيبة- ثم خرج مرة أخرى فتصدق على بغي؛ فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على بغي، فقال: الحمد لله على غني وبغي، ثم خرج مرة ثالثة فتصدق، فوقعت الصدقة في يد سارق؛ فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على سارق، فقال الحمد لله، غني وبغي وسارق؛ فقيل له: أما صدقتك فقد تقبلت، أما الغني فلعله يتذكر ويتصدق، وأما البغي فلعلها تستعفف، وأمل السارق فلعله يكتفي بما أعطيته عن السرقة. [أخرجه البخاري 1/436، ومسلم 2/709].
[2] أن أول وأولى من يجب الإنفاق عليهم من يعولهم المنفق، ومن الغبن تقديم الفاضل على المفضول، وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول. ومما هو أولى في هذا الباب الصدقة على ذي الرحم لحديث سلمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة)، ولما ورد في حديث أبي طلحة رضي الله عنه لما أراد أن يتصدق بحديقته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها في أقاربه وبني عمه.
والصدقة متأكدة حتى مع ذي العداوة من ذوي القربى، لحديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (افضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح) [رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح].
واعلم أيها المسلم الكريم أن الله تعالى خلق المال لحكمة عظيمة، وهي صلاحه لحاجات الخلق، فيجب إمساكه عن صرفه إلى ما لا يحسن صرفه إليه، ويجب بذله بالصرف إلى ما يحسن، ويجوز التصرف بالعدل، فالإمساك حيث يجب البذل بخل، والبذل حيث يجب الإمساك تبذير، قال الله تبارك وتعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً) وقال تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) [الفرقان: 67].(/3)
وقد أتى ذم البخل والبخلاء في كثير من الأحاديث والآثار،قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم حملهم على أن يسفكوا دماءهم ويستحلوا محارمهم) [أخرجه مسلم 2578 ، والإمام أحمد 3/323 من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.و الإمام أحمد 2/431 والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مع اختلاف في بعض الألفاظ]. وقال صلى الله عليه وسلم: (لايدخل الجنة بخيل ولا خب ولا خائن ولا سيئ الملكة) [رواه الإمام أحمد1/4، و رواه الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه 1963 بلفظ آخر].
فالبخيل من أجاب داع الشح والمؤثر من أجاب داع الجود، وثم إن هذا الجود على عشر مراتب –وقد ذكرها ابن القيم-رحمه الله-:
إحداها: الجود بالنفس، وهو أعلى مراتبه، كما قال الشاعر:
الثانية: الجود بالرياسة، وهو ثاني مراتب الجود، فيحمل الجواد جوده على امتهان رياسته والجود بها والإيثار في قضاء حاجات الملتمس.
الثالثة: الجود براحته ورفاهيته وإجمام نفسه فيجود بها تعباً وكداً في مصلحة غيره، ومن هذا جود الإنسان بنومه ولذته لمسامره، كما قيل:
الرابعة: الجود بالعلم وبذله، وهو من أعلى مراتب الجود والجود به أفضل من الجود بالمال لأن العلم أشرف من المال، والناس في الجود به على مراتب متفاوتة، وقد اقتضت حكمت الله وتقديره النافذ أنه لا ينفع به بخيلاً أبداً، ومن الجود به أن تبذله لمن لم يسألك عنه، بل تطرحه عليه طرحاً، ومن الجود بالعلم أن السائل إذا سألك عن مسألة استقصيت له جوابها جواباً كافياً ولا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة، كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا (نعم) أو (لا) مقتصراً عليها.
قال ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية –قدس الله روحه- أنه كان إذا سئل عن مسألة حكمية ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قدر ومأخذ الخلاف وترجيح القول الراجح وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته، فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم أعظم من فرحه بمسألته، وهذه فتاويه رحمه الله بين الناس ومن أحب الوقوف عليها رأى ذلك.
والخامسة: الجود بالنفع بالجاه، كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه، وتلك زكاة الجاه المطالب بها العبد كما أن التعليم وبذل العلم زكاته:
السادسة: الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه كما قال صلى الله عليه وسلم: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين اثنين صدقة، ويعين الرجل في دابته فيحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل صدقة يمشيها الرجل إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة) [رواه مسلم 720، عن أبي ذر].
السابعة: الجود بالعرض كجود أبي ضمضم من الصحابة رضي الله عنه، كان إذا أصبح قال: "اللهم لا مال لي أتصدق به على الناس، وقد تصدقت عليهم بعرضي، فمن شتمني أو قذفني فهو في حل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم! [ضعيف، رواه أبو داود مرسلاً عن عبد الرحمن بن عجلان]. وفي هذا الجود من راحة الصدر وراحة القلب والتخلص من معاداة الخلق ما فيه.
الثامنة: الجود بالصبر والاحتمال والإغضاء، وهذه مرتبة شريفة من مراتبه وهي أنفع لصاحبها من الجود بالمال وأعز له وأنصر وأملك لنفسه وأشرف لها ولا يقدر عليها إلاّ النفوس الكبار، فمن صعب عليه الجود بالمال فعليه بهذا الجود، فإنه يجتني ثمرة عواقبه الحميدة في الدنيا والآخرة، وهذا جود الفتوة قال تعالى: (والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له) وقال تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين) فذكر المقامات الثلاثة في هذه الآية، مقام العدل وأذن فيه، ومقام الفضل وندب إليه، ومقام الظلم وحرّمه.
التاسعة: الجود بالخُلُق والبشر والبسطة،وهو فوق الجود بالصبر والاحتمال والعفو، وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، وهو أثقل ما يوضع في الميزان قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاًَ ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه) [رواه أبو داود 4084وأحمد 5/63 عن جابر بن سليم]. والعبد لا يمكنه أن يسع الناس بماله ولكن بصبره واحتماله.
العاشرة: الجود بتركه ما في أيدي الناس عليه، فلا يتلفت إليهم ولا يستشرف لهم بقلبه، ولا يتعرض له بحاله ولا لسانه، وهذا البذل الذي قال عنه عبد الله بن المبارك رحمه الله: "إنه أفضل من سخاء النفس بالبذل".
ولكل مرتبة من مراتب الجود مزية وتأثير خاص في القلب والحال، والله سبحانه قد ضمن المزيد للجواد والإتلاف للممسك والله المستعان.(/4)
اللهم وفقنا توفيقاً يقينا عن معاصيك، وأرشدنا إلى السعي فيما يرضيك، وأجرنا يا مولانا من خزيك وعذابك، وهب لنا ما وهبته لأوليائك وأحبائك، اللهم يا من عم البرية جوده وإنعامه، نسألك أن تتفضل علينا بعفوك وغفرانك، اللهم يا فالق الحب والنوى، يا منشئ الأجساد من البلى، يا مؤوي المنقطعين إليك، يا كافي المتوكلين عليك، انقطع الرجاء إلا منك، وخابت الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عليك، نسألك أن تمطر محل قلوبنا من سحائب برك وإحسانك، وأن توفقنا لموجبات رحمتك وعزائم مغفرتك؛ إنك جواد كريم، رؤوف غفور رحيم.(/5)
الحق والباطل
د. طارق محمد الطواري
هناك حقيقتان يجب على المسلم أن يدركهما.
الأولى أن الصراع بين الحق والباطل والتدافع من أجل انتصار احدهما على الآخر مستمر وهي معركة لا تنطفىء نيرانها ولا يخبوأ دارها في يوم من الأيام وأن هذا الصراع قد يشتد احيانا فتظهر صورة بالصدام والاستعمار والتنكيل ، وقد تهدأ إلى الحوار والدعوة فترسل الإرساليات التنصيرية ويرسل الدعاة إلى الله تعالى لإزالة الشبهات وإعادة الناس لدين الله أفواجا.
والحقيقة الثانية : أن سبب الخصومة بين الحق والباطل إنما هو تغاير العقيدة التي تنتج الاختلاف في التصور والنظم والأخلاق ، فالذي يؤمن بالاله الواحد والمعاد والحساب والبعث والنشور والملائكة الكتبة والشهود يتحرك في حياته وفق هذه العقيدة وهو بلا شك يغاير تماما من يعيش لعيش ومن تتعدد عنده الآلهه ومن لا يؤمن بالجزاء ولا الحساب ، ومن أجل ذلك فلا بد من تحرير مساحات شاسعة من عقول غير المسلمين مما استولى عليها من الخرافة والجهل.
ومن أجل ذلك فلا بد من تعبيد الناس لرب العالمين ، وتحريرهم من الواقع المؤلم المزعج المادي الدنيوي إلى الآخرة الباقية ، وإن دعوتك لأي إنسان إلى الاسلام يصب في كفة أهل الحق ويضعف أهل الباطل ، وقد لا تستطيع الوصول والدخول لكل بيت في قطر عبر جغرافية العالم العريضه.
لكن مساهمتك في دعوة غير المسلمين مع لجنة التعريف بالاسلام توصلك إلى هذه الغاية ، فلك أن تتصور إسلام الفليبيني والهندي والتايلندي والياباني والامريكي والأوربي وأنه باسلامهم قد تسلم أسرة بأكملها بالزوجة والأبناء ثم بقية الأهل ، ومن ثم تكون سببا في دخول الاسلام إلى قرية وبلدة ذلك المسلم الجديد.
وقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول : ( لإن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من الدنيا وما فيها ).
وقال تعالى : (( أفمن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها )) .
نعم إن أهل الباطل أموات وأهل الحق أحياء.
وأذكر قصة لأحد الدعاة في مؤتمر إسلامي عقد بجنوب أفريقيا فحضره 16,000 مسلم وكان ممن حضر (4) منصرين فتعجبوا من الحضور ثم قال أحدهم قد قضيت من عمري في جنوب أفريقيا أكثر من عشر سنوات ودفعنا الأموال والأدوية وبنينا المستوصفات وحفرنا الآبار وأنشأنا المدارس ووزعنا الطعام والمواشي والهدايا للناس ولم يتنصر إلا القليل القليل وأنتم في أشهر معدودة دخل في دينكم الآلاف فما هو السر ؟
فأجابه أحد الدعاة إن دينكم المحرف ميت كالجنازة يحتاج إلى أربعة مثلكم ليحملوه ، وأما ديننا فحيٌ عظيم لا يحتاج لأن يحمله أحد بل يمشي ويدخل إلى القلوب كما ترى وتشاهد اليوم.
د. طارق محمد الطواري
امام وخطيب مسجد الرفاعي – السلام ( الكويت)
استاذ بكلية الشريعة – جامعة الكويت(/1)
الحقوق المتماثلة للزوجين والوصايا النبوية الموجهة إليهما
(الشبكة الإسلامية) د.عبد الحليم أبو شقة
تتضح مكانة المرأة في الأسرة من خلال عرضنا للحقوق المتماثلة والمتبادلة بين الزوجين .. إنها مكانة رفيعة يصونه،ا ويحكمها ذلك الميثاق الذي ذكره الله جل وعلا في محكم كتابه حيث قال : ( وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً ) .
تمهيد :
سوف يلحظ القارىء الكريم أن الحقوق المتماثلة للزوجين ، ورد فيها مجموعة من النصوص الكلية ومعها أحياناً نصوص تفصيلية، ونحب أن نبيّن أن العبرة بالنصوص الكلية التي تصون حقوق الرجل والمرأة على السواء ، إذ أن النصوص التفصيلية متضمنة في النصوص الكلية . والنصوص الكلية هي الحاكمة ، فلا ينبغي الغفلة عنها والوقوف عند النصوص التفصيلية ، وكأنها وحدها هي الشريعة ، ونحن إذا تحرينا النصوص الكلية تحرياً دقيقاً وتعمقنا في مضمونها، أرشدتنا إلى حقوق كثيرة لم ترد بها نصوص تفصيلية .
أما النصوص التفصيلية إن كثرت في مجال من المجالات ، فلا بد أن يكون ذلك لسبب يتصل بذلك المجال ، ففي مجال طاعة المرأة زوجها، نرجح أن كثرة النصوص ترجع إلى ظاهرة كانت سائدة في مجتمع المدينة ، وهي شدة وطأة نساء الأنصار التي يقول فيها عمر بن الخطاب : "قوم تغلبهم نساؤهم" ، وما دام الأمر كذلك ، فلا عجب أن يلح الرسول صلى الله عليه وسلم - بكل سبيل - في حض النساء على الطاعة.
حقوق متماثلة:
قال تعالى : ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجةٌ والله عزيز حكيم ) سورة البقرة: 228. إن الآية الكريمة تقرر أن للنساء حقوقاً مثل ما عليهن من واجبات ، وهذا يعني أن كل حق للمرأة يقابله حق للرجل ، فالحقوق إذن متماثلة ، وسيتضح بإذن الله وعونه مدى التماثل عند بحث كل حق من تلك الحقوق .
وقد أورد الطبري في تفسيره عدة روايات في تأويل هذه الآية:
قال بعضهم : ( ولهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن ، مثل الذي عليهن لهم من الطاعة ، فيما أوجب الله تعالى ذكره له عليها ).
فعن الضحّاك : ( إذا أطعن الله وأطعن ازواجهن ، فعليه أن يحسن صحبتها ويكف عنها أذاه ، وينفق عليها من سعته ).
وعن ابن زيد : ( يتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله فيهم ).
وقال آخرون : ( ولهن على أزواجهن من التصنع والمواتاة مثل الذي عليهن لهم من ذلك ).
فعن ابن عباس : إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي ، لأن الله تعالى ذكره يقول : (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف).
والذي اختاره الطبري من تلك الروايات: (أن الذي على كل واحد منهما لصاحبه من ترك مضارته مثل الذي له على صاحبه من ذلك). ، ثم قال : ( وقد يحتمل أن يكون كل ما على كل واحد منهما لصاحبه داخلاً في ذلك .. فلكل واحد منهما على الآخر من أداء حقه إليه مثل الذي عليه له ، فيدخل حينئذ في الآية ، ما قاله الضحّاك وابن عباس وغير ذلك).
وقال الإمام محمد عبده في تفسير هذه الآية : (هذه كلمة جليلة جداً ، جمعت - على إيجازها - ما لا يؤدي بالتفصيل إلا في سفر كبير ، فهي قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق ، إلا أمراً واحداً عبّر عنه بقوله تعالى : (وللرجال عليهن درجة) - وسيأتي بيانه - وقد أحال في معرفة ما لهن وما عليهن من المعروف بين الناس في معاشراتهم ومعاملاتهم في أهليهم، وما يجري عليه عرف الناس هو تابع لشرائعهم وعقائدهم وآدابهم وعاداتهم ، فهذه الجملة تعطي الرجل ميزاناً يزن به معاملته لزوجه في جميع الشئون والأحوال ، فإذا همّ بمطالبتها بأمر من الأمور ، يتذكر أنه يجب عليه مثله بإزائه ، ولهذا قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : " إنني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي ، لهذه الآية ".
وليس المراد بالمثل ، المثل بأعيان الأشياء وأشخاصها ، وإنما المراد أن الحقوق بينهما متبادلة ، وأنهما أكفاء ، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وللرجل عمل يقابله لها ، إن لم يكن مثله في شخصه ، فهو مثل له في جنسه . فهما متماثلان في الحقوق والأعمال ، كما أنهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل ، أي أن كلاً منهما بشر تام له عقل يتفكر في مصالحه ، وقلب يحب ما يلائمه ويسر به ، ويكره ما لا يلائمه وينفر منه . فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين بالآخر ، ويتخذه عبداً يستذله ويستخدمه في مصالحه ، ولا سيما بعد عقد الزوجية والدخول في الحياة المشتركة ، التي لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين للآخر والقيام بحقوقه ).
وأورد الطبري عدة روايات في تأويل قوله تعالى: (وللرجال عليهن درجة) ، قال :(/1)
( قال بعضهم : معنى الدرجة : الفضل الذي فضلّهم الله عليهن في الميراث والجهاد وقال آخرون : تلك الدرجة الإمرة والطاعة ، وقال آخرون : تلك الدرجة التي لها عليها ، إفضاله عليها ، وأداء حقها إليها ، وصفحه عن الواجب له عليها أو عن بعضه .. فعن ابن عباس قال : ما أحب أن استنطف أي آخذ جميع حقي عليها لأن الله تعالى ذكره يقول : (وللرجال عليهن درجة) .
ثم قال الطبري : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس ، وهو أن "الدرجة" التي ذكر الله تعالى ذكره في هذه الموضع ، الصفح من الرجال لامرأته عن بعض الواجب عليها ، وإغضاؤه لها عنه ، وأداء كل الواجب لها عليه .
وذلك أن الله تعالى ذكره قال : (وللرجال عليهن درجة) عقيب قوله : ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) .. ثم ندب الرجال إلى الأخذ عليهن بالفضل ، إذا تركن أداء بعض ما أوجب الله لهم عليهن .. وهذا القول من الله تعالى ذكره ، وإن كان ظاهره ظاهر الخبر ، فمعناه معنى ندب الرجال إلى الأخذ على النساء بالفضل ، ليكون لهم عليهن فضل درجة .
وقال الأستاذ محمود محمد شاكر محقق تفسير الطبري: ولم يكتب أبو جعفر الطبري ما كتب ، على سبيل الموعظة .. بل كتب بالبرهان والحجة الملزمة واستخرج ذلك من سياق الآيات المتتابعة .. ( ففيها بيان ) تعادل حقوق الرجل على المرأة وحقوق المرأة على الرجل ، ثم أتبع ذلك بندب الرجال إلى فضيلة من فضائل الرجولة، لا ينال المرء نبلها إلا بالعزم والتسامي، وهو أن يتغاضى عن بعض حقوقه لامرأته ، فإذا فعل ذلك فقد بلغ من مكارم الأخلاق منزلة تجعل له درجة على امرأته ، ومن أجل هذا الربط الدقيق بين معاني هذا الكتاب البليغ ، جعل أبو جعفر هذه الجملة حثاً وندباً للرجال على السمو إلى الفضل ، لا خبراً عن فضل قد جعله الله مكتوباً له ، أحسنوا فيما أمرهم به أم أساءوا .
وصايا متكافئة:
ثم إن الشارع الحكيم شفع تقرير الحقوق المتماثلة بوصايا متكافئة للزوجين ، كل ذلك لتسود المودة والرحمة بينهما ، وليرعى كل منهما صاحبه أجمل رعاية وأكمل رعاية :
من الوصايا الموجهة للرجال:
قوله تعالى : (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) . [سورة النساء:19] .
- عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :[ واستوصوا بالنساء خيراً ] .- عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله ] . [رواه مسلم].
- عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ إني أُحرج عليكم حق الضعيفين : اليتيم ، والمرأة ] . [رواه الحاكم] .
- عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ] . [رواه ابن ماجه].
- عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :[خياركم خياركم لنسائهم ] . [رواه ابن ماجه] .
وقد روى معنى الحديث الأخير عدد من الصحابة الكرام منهم عائشة ، ومعاوية ، وأبو كبشة .
من الوصايا الموجهة للنساء:
- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش ، أحناه على ولد في صغره ، وأرعاه على زوج في ذات يده ] . [رواه البخاري ومسلم].
- عن أبي أذينة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :[ خير نسائكم الولود الودود المواسية المواتية] . [رواه البيهقي].
- عن عبد الله بن سلام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ خير النساء من تسرك إذا أبصرت ، وتطيعك إذا أمرت ، وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك] [رواه الطبراني] .
- عن حصين بن محصن أن عمَّةً له أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها : أذات زوج أنت ؟ قالت : نعم . قال : فأين أنت منه؟ قالت : ما آلوه إلا ما عجزت عنه قال : فانظري أين أنت منه فإنما هو جنتك ونارك. [رواه أحمد].
- عن عبد الله بن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ لا تؤدّى المرأة حق ربها حتى تؤدّي حق زوجها ] . [رواه ابن ماجه].
- عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إذا صلت المرأة خمسها ، وصامت شهرها ، وحفظت فرجها ، وأطاعت زوجها دخلت الجنة ] . [رواه البّزار].
- عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إثنان لا تجاوز صلاتهما رءوسهما : ...، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع] . [رواه الحاكم]
عن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا ، إلا قالت زوجته من الحور العين : لا تؤذيه قاتلك الله ، فإنما هو عندك دخيل ، يوشك أن يفارقك إلينا ] . [رواه أحمد].
الإطار العام لأداء الحقوق:
قال تعالى : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمةً إنّ في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرون) . [سورة الروم : الآية 21] .(/2)
وهذا يعني أنه ينبغي أداء جميع الحقوق بين الزوجين في إطار من المودة والحب ، فإن ضعفت المودة لأمر ما ، بقيت الحقوق محفوظة ، ولكن في إطار من الرحمة ، أي التعاطف والوفاء للعشرة ، وليتذكر كل من الزوجين قول رسولنا صلى الله عليه وسلم : [ لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ] . رواه البخاري ومسلم . وإذا كان هذا هو حق أخوة الإسلام بصفة عامة ، فحق الزوجين المسلمين أعظم ؛ فقد ضيفت إلى رابطة الإسلام رابطة الزواج ، وهي رابطة متينة قال بشأنها جلّ وعلا : ( وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً ). فعلى الزوجين أن يراقبا الله تعالى في أداء الحقوق ، ولينظر كل منهما هل قدم لصاحبه ما يحب لنفسه؟ إن كان قد فعل فقد أحسن ، وإن لم يفعل فليصدق العزم وليستعن بالله ولا يعجز ، والله مع ال(/3)
الحقيقة النسبيّة...أفيون العقيدة!
سامي بن عبد العزيز الماجد 5/4/1427
03/05/2006
أليست هذه الآية كاشفة عن قدر استعلاء الغرب على الناس وكبرهم في أنفسهم، وأنهم هم أول المدّعين لاحتكار الحقيقة والصواب؟!
هل الحقيقة مطلقة أو نسبيّة؟ قضية أثارها الفلاسفةُ قديماً، ونوقشت كثيراً في كتبهم وملتقياتهم، وظلت قضيةً فلسفية تتداورُها النخبةُ المثقفة، فأصبحت اليوم من القضايا التي يُحارب بها الإرهاب، بله أصول الإسلام، فطرقتْ أسماع الناس مقولة: (الحقيقة المطلقة لا يطالها أحد)، أو (لا أحد يحتكر الحق والصواب)، أو (ليس ثمةَ إلا الحقيقةُ النسبية)، وفحواها: أنه لا أحد يمكنه القطع بأن معتقده هو الحق، وأن معتقدَ غيره خطأٌ قطعاً، وأقصى ما يمكنه الجزم به أن رأيه صوابٌ يحتمل الخطأ، وأن رأي غيره خطأ يحتمل الصواب، وهو ما يُسمى بنسبية الحقيقة.
ويرى المردّدون لهذه المقولة أن القطعية في الأحكام والآراء، وادّعاء الإنسان بأن مذهبه هو الحق، وأن ما عداه فباطل من أهم أسباب التطرف والإرهاب، وأنه لا سبيل لمحاربة الإرهاب والتطرف إلا بمحاربة هذه اليقينية في الاعتقاد، ويستوجب ذلك تحصينَ فكر النشء من القطعية في تصويب معتقد وتخطئة آخر؛ حتى لا تحرضَه هذه القطعيةُ على إقصاء الآخر وتكفيره والاعتداءِ عليه! ويقولون لكل مستمسك برأي: إن اعتقادك بأنك على الحق ليس بأقوى من اعتقاد غيرك بأنه على حق، فإذا كان قولُه يحتمل الصواب، فاجعل من احتمال صوابه ما يمنحه حقاً عليك أن تعترف به ولا تقصيه، ومنتهى هذا أن تصطلحا فلا تتنازعا، وأن تتعايشا فلا تحتربا.
قال ابن تيمية عن هذه المقولة (19/135) : "حُكي عن بعض السفسطائية أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في نفسها يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده المعتقد، وجعل الحقائق تابعة للعقائد. وهذا القول على إطلاقه وعمومه لا يقوله عاقل سليم العقل". قال بعض أهل العلم: "هذا المذهب - أي القول بأن الحق يتعدّد في العقائد والأصول- أوله سفسطة، وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقاً، وبالآخرة يخير المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين، ويختار من المذاهب ما يروق لهواه". ويقول د. أحمد عبد الرحمن: (الفلسفة النسبية هي السند الفكري الأخير والمرجع النهائي، لكل التيارات المناوئة لمبدأ الثبات الإسلامي في العقيدة والشريعة والأخلاق والنظم) أساطير المعاصرين ، ص 169 – 170 ذلك أن هذه المقولة تقرّر بأن الحقيقة تتغير بتغير الزمان والمكان والعقول، وأنه ليس ثمة حق مطلق ثابت
في كل الأزمنة والأمكنة والعقول.
والأخذ بهذه المقولة على إطلاقها يفضي إلى المساواة بين قطعيات الشريعة وظنياتها، ومن ثَمّ تصبح أركان الإيمان مما يسع فيه الخلاف، فتخرج بذلك عن دائرة الثوابت القطعية، كما أن
في العمل بإطلاقها منافاةً لمقتضى الإيمان؛ إذ مقتضاه التصديقُ التامُ واليقينُ المطلق بأركان الإيمان وأصول العقيدة، وآيات القرآن تغذي في أهله الشعورَ بامتلاكهم للحقيقة المطلقة، وأنهم على الحق المبين إلى درجة اليقين، وأن غيرهم مبطلون يتبعون باطلاً؛ كقوله: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ)، (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق) وقوله: (ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)، ولا يجوز لمثل هذه العقيدة المبنية على اليقين المطلق أن تخضع للمساومات والمداهنات؛ فمجرد الشك بأنها هي الحق، أو أن غيرَها من ملل الكفر قد يكون هو الحق، أو هو حق مثلها لهو خطرٌ يزلزل الإيمان من أصوله، (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).
لو لم تكن ثمةَ حقيقةٌ مطلقة يطالها أحد، لكان أمْرُ الله لنا باتباع الحق عبثاً لا معنى له؛ لأنه على تلك المقولة حقٌ لا وجود له إلا في الأذهان؛ لأن الحقيقة المطلقة لا يمكن أن يطالها أحد، وأنها نسبية يصح أن تكون حقاً في عقلٍ، باطلاً في آخر. ولو لم تكن ثمة حقيقة مطلقة لتعذر الامتثال لقوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).فأين هذا الصراط المستقيم الذي أُمِرنا باتباعه إذا كان لا أحد يملك الحقيقة؟! وأين تلك السبل الضّالة التي نُهينا عن اتباعها ما دامت الحقيقة نسبية؟! ولو كان الأمر كذلك لما دعا النبي –صلى الله عليه وسلم- بدعائه المشهور: "اللهم فاطر السموات....أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".(/1)
ومن المفارَقات المضحكة أن نُروِّج لفكرة فلسفية مستوردة، لا يلتزمها - أصلاً- مَن استوردت منه إلا داخل حدوده لتحقيق التعددية فيها، وأما معنا فهو يعاملنا معاملة من يملك الحقيقة المطلقة ويحتكر الحقَ والصواب، فالإسلام دين خرافي متخلّف، ونبيه إرهابي شهواني، وأتباعه إرهابيون غيرُ جديرين بالاحترام ومراعاةِ الحقوق، إلا إذا كفروا ببعض دينهم وآمنوا بفلسفة الحضارة الغربية، بل يجب أن تُفرض عليهم فرضاً ليتخلّصوا من تخلّفهم، وصدق الله:
(وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).
فهل أدرك الناعقون بنعيب الغرب ودعواته أنهم يدعون لشيءٍ لا يلتزمه المروِّج له في
تعامله معهم؟! أليست هذه الآية كاشفة عن قدر استعلاء الغرب على الناس وكبرهم في أنفسهم، وأنهم هم أول المدّعين لاحتكار الحقيقة والصواب؟!
فلتُقيَّد المقولة بما يقصِرها عن مخالفة الشريعة، ولتورَدْ المورد الذي يحتملها وتحتمله؛ فإعمالها إنما يجوز في الظنّيات مما لم يرد فيه نصٌ قاطع صريح. فهي التي يصح أن يُقال فيها: لا أحد يحتكر الحق فيها، وهو ما عناه الإمام الشافعي بقوله: "قولي صوابٌ يحتمل الخطأ، وقولُ غيري خطأٌ يحتمل الصواب".(/2)
الحقيقة...!
رئيسي :المنهج :الثلاثاء 23 ذي القعدة 1425هـ - 4 يناير 2005 م
تخيل وليداً عمرُه شهرٌ واحد، قضى اللهُ أن لا يعيشَ سوى هذا الشهرَ فقبضَهُ ديانُ يومُ الدين، وقبرَ مع المقبورين، وبينما هم في قبورِهم: إذ نفخَ في الصور، وبُعثرَتِ القبور، وخرج المقبور، وكان فيمن خرجَ ذلكم الصبيُ ذو الشهرِ الواحد، حافياً عاريا أبهمَ، نظر فإذا الناسُ حفاةٌ عراةٌ كالفراشِ المبثوث.
الشمسُ كورت ومن رؤوسِ الخلائقِ أدنيت .. الصحفُ نشرت، والموازينُ نصبت، والكتبُ تطايرت، وشهدَ الأعضاءُ والجوارح، وبدت السوءاتُ والفضائح، وابتليت هنالك السرائرُ، وانكشفَ المخفيُ في الضمائر.
هنا.. تخيل ذلك الوليدُ صاحبَ الشهرِ الواحد، ما اقترفَ ذنبًا، وما ارتكبَ جُرمًا، والأهوالُ محدقةٌ به من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، تخيلهُ مذعوراً قلبُه، اشتعل رأسُه شيبًا في الحال لهولِ ما يرى، فيا لله لذلك الموقف.
هذا بلا ذنبُ يخاف مصيره كيف المصرُ على الذنوبِ دهورُ
قال عز وجل:{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا[17]}[سورة المزمل].
ما النجاة وما المخرج؟
في هذه الأهوالِ التي تبيضُ منها مفارقُ الولدانِ، النجاة والمخرج في أمرٍ لا يصلحُ قلبٌ، ولا تستقيمُ نفسٌ ولا تسعدُ إلا به، إنه وصية الله للأولين والآخرين:{...وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ...[131]}[سورة النساء].
تقوى اللهِ وكفى..{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[61]}[سورة الزمر]. ويقول:{ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا[71] ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا[72]}[سورة مريم].
أيُّ تقوىً تُنجي بين يدي الله؟
أهي كلمةٌ تنتقى وتدبج في مقال؟ أم هي شعارٌ يرفعُ بلا رصيدٍ من واقع؟ كلا ما كلُ منتسبٍ للقولِ قوالُ:
ولو أن أسباب العفاف بلا تقى نفعت لقد نفعت إذًا إبليسُ
فهو القائل:{...إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ[16]}[سورة الحشر].
لا ينجي في تلك الأهوالِ إلا حقيقةٌ التقوى.. فما حقيقةُ تلك الكلمة؟
إنها استشعارِ رقابةِ اللهِ على حياتِك حتى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، وتلك أعلى مراتب الإيمان وهي مرتبة الإحسان.. بل هي هيمنةُ الدينِ على الحياة كلها عقيدةً وشريعة، عبادة ومعاملة، خُلقًا ونظاماً، رابطة وأخوة.. هيمنَةً-كما أرادها الله- تجعلُ الحياةَ خاضعة في عقيدة المسلم وتصوره لله، لا يند منها شيء.
هيمنةُ تُسلم النفسَ كلَها لله، حتى تكون أفكارًا ومشاعر وأحاسيسَ وسلوكاً، محكومةً بوحي الله فلا تخضع لغير سلطانه، ولا تحكم بغير قرأنه، ولا تتبعُ غير رسولِه، لا يحركُها إلا دينُ الله، تأتمرُ بأمر الله، وتنتهي عن نهيه، متجردةً من ذاتها، متعلقةً بربها .
فهِم هذا أصحابُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فترجموه في واقعِ سلوكُهم، صِرتَ ترى شرع الله يدبُ على الأرضِ في صورةِ أناسٍ يأكلون الطعام ويمشونَ في الأسواق.
إذا ما دعو للهدى هرولوا وإن تدعهم للهوى قرفصوا
نفوس لا يحركها إلا دينُ الله.. إنهم لم يقفوا عند امتثال أمره واجتناب نهيه، بل تابعوا أفعال المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولاحظوا تصرفاته بكل شوق وحرص على الإقتداء حتى إذا ما فعل شيئًا سارعوا إلى فعله مباشرة؛ لأنهم يعلمون أن سنته سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك.. ثبت عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ قَالَ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ قَالُوا رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا...رواه أبوداود والدارمي وأحمد. توحيد في الإتباع:
فمن قلد الآراء ضل عن الهدى ومن قلد المعصوم في الدين يهتدي
بل كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[ِأنَ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنْ الشَّيْطَانِ ] يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلًا إِلَّا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يُقَالَ لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ.رواه أبوداود وأحمد.(/1)
ومن ذلك يتجلى لنا مظهرُ أفرادِ المجتمعِ المسلم في ظلِ إدراكهمُ الصحيحُ لمفهوم الإسلام، فليستِ المسألةُ عندَهم فرائضَ يفرِضها هذا الدين على الناس بلا موجبٍ إلا رغبةُ التحكمِ في العباد. بل هيَ وضعُ للإنسانِ في وضعه الصحيح كإنسان يستشعر رقابة المولى، وتلك هي حقيقةُ التقوى.
هل هؤلأ استشعروا رقابةَ الله؟
هل استشعرَ رقابةَ الله: من يشهدُ أن لا إله إلا الله، ويصبح مجتهداً في مطعمِ حرام، وملبس حرام، وغذاءِ حرام؟ يصبحُ وقد ضربَ هذا، وشتمَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفك دم هذا، ووقعَ في عرضِ ذاكَ؟!
هل استشعرَ رقابةَ الله: من يجلبُ النار ليحرقَ بيتَه وأهله، من يُخربَ بيتَه بيده بوسائلَ لا تزال تُمطره بوابلٍ من أغانٍ وأفلام ماجنة، وقصص سافلة، وترويض للنفوسِ على الكذبِ والنفاقِ وقلب الحقائق؟ ألم يستشعرَ أنه لو مات على حالته تلك؛ مات خائنًا لأمانته. حاملاً يوم القيامة وزرَه ووزرَ أبنائه وأهله من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا. ولا يعفيك من حساب الله، ولا من لوم الناس، ولا تأنيبَ الضمير أن تقول: أنا ضحية، وما البديل؟!
هل استشعرَ رقابةَ الله: من يتعبدُ بأعمالٍ ليس عليها أمرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وحجته ازديادُ الخيرِ، وحبُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم{...فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[63]}[سورة النور].؟!
هل استشعرَ رقابةَ الله: من ليلُه سهرٌ على ما حرم الله، ويصبحُ مجاهرًا بمعصيةِ؟
حقيقة التقوى:
لجوء إلى الله، وتعرفُ إليه في الشدةِ والرخاء لا على سواه..عرافًا كانَ أو ساحرًا، أو كاهنًا أو مقبورًا.
حقيقة كلمة التقوى..أن تكون كراكب على ظهرِ خشبةٍ في عرضِ البحرِ: تتقاذفُك الأمواجُ وأنت تدعو: يا رب يا ربِ لعل اللهَ أن ينجيك.
حقيقة الكلمة..أن لا تنطقَ بكلمةٍ، ولا تتحرك حركةٍ، ولا تسكنَ سكونًا إلا وقد أعددتَ لهُ جواباً بين يدي الله، فإنك مسؤولٌ فأعدَ للسؤالِ جواباً صوابًا.
حقيقة الكلمة..حذرك أن يأخُذَك الله وأنت على غفلةٍ، أن لا يحضرَ حقٌ لله إلا وأنت متهيأ له، أن لا تكونَ عدواً لإبليسَ في العلانيةِ صديقاً له في السر.
حقيقة الكلمة..استشعار قدرَةِ الله: خصوصاً عند إرادةِ الظلم لعبادِ الله،، يحسبُ المرء أنه يُعجزُ اللهَ فيلهو ويملئ الأرض ظلماً. قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي[اعلم أَبَا مَسْعُودٍ]فَلَمْ أَفْهَمْ الصَّوْتَ مِنْ الْغَضَبِ فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ[عْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ]فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي فَقَالَ[عْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ]فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ فَقَالَ[أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ] رواه مسلم.
حقيقة الكلمة.. نصرة ونجدة المظلومين:وإنصافهم عند القدرة من الظالمين، ومن نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الآخرة، وليس من شأن المسلم المتقي الله حقًا أن يدع أخاه فريسة في يد من يظلمه، أو يذله وهو قادر على أن ينصره..
ثبت عَنْ جَابِرٍ قَالَ لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ قَال [أَلَا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ] قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَتَكَلَّمَتْ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا قَالَ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَتْ صَدَقَتْ كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ]رواه ابن ماجة.{...وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ...[72]}[سورة الأنفال].
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى، فما يهتز إنسان! والعالم اليوم شاهد بهذا، فالمُستذَل الحر، والمُزدرَى عالي الذرى، والأوضع الأشرف.(/2)
كم في المسلمين من ذوي حاجة، وأصحاب هموم وصرعى مظالم وفقراء، وجرحى قلوب في بلاد المسلمين أنّى اتجهت:
كبلوهم قتلوهم مثلوا بذوات الخدر عاثوا باليتامى
ذبحوا الأشياخ والمرضى ولم يرحموا طفلا ولم يبقوا غلاما
هدموا الدور استحلوا كل ما حرم الله ولم يرعوا ذماما
أين من أضلاعنا أفئدة تنصر المظلوم تأبى أن يضاما
نسأل الله الذي يكلأنا نصرة المظلوم شيخًا أو أيامى
انصر الحق والمظلوم حيث كان، ولا تطمع بوسام التقوى حقيقة إلا إن كنت فاعلًا متفاعلًا نصيرًا، بكلمة.. بشفاعة.. بإعانة.. بإشارة خير.. بدعاء.. بعزم ومضاء .
حقيقة الكلمة.. إيثار رضا الله.. على رضا أي أحد- وإن عظمت المحن، وثقلت المؤن، وضعف الطول والبدن-.. تقديم حب الله على حب كل أحد..{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ...[24]}[سورة التوبة].
ومن حقيقة هذه الكلمة: أن لا تنظر إلى صغر الخطيئة..بل تنظر إلى عظم من عصيت، إنه الله الجليل الأكبر، الخالق البارئ والمصور.. كم من ذنب حقير استهان به العبد، فكان هلاك له:{... وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ[15]}[سورة النور].
حقيقة الكلمة.. الحذر من استحلالِ محارمِ الله: بالمكرِ والاحتيال، وليعلم العبدُ أنه لا يخلّصُه من الله ما أظهره مكرًا من الأقوالِ والأفعال؛ فإن لله يوماً تشهدُ فيه الجوارح والأوصال. يومَ تبيضُ وجوهٌ بما في قلوبِ أصحابِها من الصدق والإخلاصِ.. وتسودُ وجوهٌ بما في قلبِ أصحابِها من الخديعةِ والمكرِ والاحتيال. هناك يعلمُ المخادعون أنهم لأنفسَهم يخدعون، وبها يمكرون:{...وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ[123]}[سورة الأنعام].
هذه بعض حقائق الكلمة.. اللهم صلى على محمد وعلى آله، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وانصر عبادك الموحدين. اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين، فرج همهم، ونفس كربهم، وارفع درجتهم، واخلفهم في أهلهم. اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء. والحمد لله رب العالمين.
من محاضرة: 'الحقيقة' للشيخ / علي عبد الخالق القرني(/3)
الحكم بالقسط ولو لعدو وعلى صديق
قال تعالى: ?إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ? [النساء:58].
وقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ? [النساء: 135].
من صفات المؤمنين في التلاحم والتواضع والمحبة والتراحم والمساعدة والمساندة والتعاون على البر
قال تعالى:?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ?[المائدة:2].
وقال تعالى: ?مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ?[الفتح: 29].
وقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ?[ المائدة:54] .
وقال تعالى: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ? [التوبة:71].
وقال تعالى: ?وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ? [لقمان:18].
راجعه: عبد الحميد أحمد مرشد.(/1)
الحكم على المسلم
محمد بن عبد الله السحيم
خلق الله الإنسان ظلوماًَ جهولاً، ونوّر بصيرة من شاء بالعلم والعدل، وقضى عليهم بسنته أن يخالط بعضهم بعضاً؛ تسخيراً لهم، وابتلى بعضهم ببعض، ليمتحن صبرهم {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20]؛ فأضحى ميزان القسط الضابط لعلاقتهم مطلباً ملحّاً؛ ليسلم المرء من ظلمه وجهله.
هذا، وإن من أبرز معالم ذلكم الميزان مَعْلَم الحكم على الآخر، فرداً كان أو جماعة؛ إذ به يُعْطِي المرء ما عليه من الحق، ولا يُمنع مما يستحق. وفي هذا المقال سأتناول ما يخص الحكم على المسلم فرداً أو جماعة، سالكاً درب الاختصار، ومتطفلاً على موائد أهل العلم الأخيار، سائلاً ربي المعونة والإدِّكار. وقد انتظم عقد المقال في ثلاث مسائل وخاتمة، بيانها التالي:
* المسألة الأولى: خطورة الحكم على الآخرين:
تكمن خلف الحكم على الآخر مخاطر عدة، تجعل المرء يستأني في الإقدام عليه، ويتوخى الحذر منه، وذلك لمخالفته الأصول العظيمة المراعاة في الشريعة، وخاصة في أحكام الثلب.
فمن هذه الأصول:
1 - أن الأصل في دم وعرض المسلم العصمة إلا ما استثناه الدليل؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله»(1).
2 - أن الأصل في المسلم السلامة، ولا محيد عن هذا الأصل إلا بدليل.
3 - أن الأصل عدم صدور الأفعال والأقوال ـ مناط الحكم ـ من الأشخاص إلا إن ثبت بالدليل خلافه.
ولا بد في مخالفة هذه الأصول من معارض راجح يسوغ الكلام في المحكوم عليه.
ومما يزيد في خطورة الأمر أنه متعلق بحق آدمي، وحقه مبني على المشاحَّة، ولا يسقط إلا بالاستيفاء أو المسامحة، إضافة إلى ورود نصوص زاجرة محذرة من إيذاء المسلم ورميه بما هو بريء منه. قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58] «ولهذا كان سب آحاد المؤمنين موجباً للتعزير، بحسب حالته وعلو مرتبته؛ فتعزير من سب الصحابة أبلغ، وتعزير من سب العلماء وأهل الدين أعظم من غيرهم»(2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»(3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرمي رجل رجلاً بالفسق أو الكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك»(4)، وقال: «إن أربَى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه»(5). قال ابن دقيق العيد: «أعراض الناس حفرة من حفر النار وقف عليها المحدثون والحكام»(6). ويزداد الأمر خطورة بمآلاته ـ خاصة إن صدر من مُتَّبَع ـ فكم من آصرة قُطعت، ومشاريع عطلت، ودماء سفكت، وخيرات ذهبت، وصفوف تخلخلت، وقيادات هُمشت، ورويبضة سودت، وفتن أوقظت، وأعداء سلطت! إلى غيرها من المصائب الناجمة عن هذه الأحكام العوراء.
فإذا كان الأمر مُكتنَفاً بهذه المخاطر؛ وجب على المرء ألا يُقْدِمَ عليه إلا بمسوِّغ شرعي مضبوط بشروط الحكم وهو ما سنتناوله في المسألة الثانية.
* المسألة الثانية: شروط الحكم على المسلم:
لا بد من معرفة شروط الحكم ليقام على أساس صحيح؛ فإن اختل منها شرط اختل الحكم. والشروط خمسة، بيانها ما يلي:
1 - التجرُّد والإخلاص:
وهو من أبرز أسباب التوفيق، بل هو أساسه، وسبيل تحصيل الثواب؛ فلو أصاب الحكم بلا نية فلا ثواب له(1)؛ وعليه فليكن القصد موافقة الحق من إصابته ابتغاء مرضاة الله؛ وطلب ثوابه؛ لا نفوذ فيه لهوى أو سمعة أو رياء.
فإن قلت: ما السبيل للتجرد؟ وما منهجية تطبيقه؟ فالجواب ـ كما قال ابن القيم ـ: «فإذا أردت الاطلاع على كُنه المعني: هل هو حق أو باطل؛ فجرده من لباس العبارة، وجرد قلبك عن النفرة والميل، ثم أعطِ النظر حقه ناظراً بعين الإنصاف...»(2).هكذا يكون التجرد، ويسلم الأساس الأول؛ فإذا تحقق أتى الشرط الثاني.
2 - وجود المسوّغ:
فإن انعدم المسوغ ـ وهو الأصل إلا إذا عورض براجح ـ كان خوضاً فيما لا يعني. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»(3)، وإن كان الكلام بالقدح؛ صار ولوغاً في الحرام ووقوعاً في الآثام؛ فإن استوى وجود المسوغ وعدمه، فالأصل انتفاء الحاجة؛ والسلامة لا يعدلها شيء. وضابط الحاجة: أن تتعلق العناية بهذا الأمر بحكم الشارع، لا بالهوى وطلب النفس(4).
قال الحسن: «من علامة إعراض الله - تعالى - عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه»(5)، وقال سهل التستري: «من تكلم فيما لا يعنيه؛ حُرِم الصدق»(6)، وقال معروف: «كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله، - عز وجل -؛ ولا أدل على هذا الخذلان من ضياع أوقات وقدرات وفرص ومكاسب من ابتلي بالكلام في الناس بلا حاجة(7). والله المستعان.
3 - العلم: وله شقان(8):
أ - العلم بالواقع:(/1)
والمراد به: العلم بصدور مناط الأحكام، وهي الأفعال والأقوال، ممن يحكم عليه؛ إذ الميزان هي الأفعال والأقوال. ويقوم هذا العلم على أسس لا بد من سلامتها لسلامة النتيجة، وهي ما يلي:
(1) التأني والتثبت:
والعمدة في ذلك قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، قال الحسن: «المؤمن وقَّاف حتى يتبين»؛ فلا تَحِدْ عن هذا الأصل، خاصة في هذا الزمن الذي تعددت فيه قنوات المعلومة، وكثرت فيها الشائعات، وعم الفسق كثيرها، وطمَّت جهالةُ الحال أكثر نقالها؛ فوجب التثبت، حتى تدل الدلائل والقرائن على صدقها، وإلا ردت(9)، فإن ثبتت المعلومة بقي معرفة بساط حالها.
(2) معرفة بساط الحال:
وهي معرفة ظروف وملابسات الفعل والقول: ممن صدر؟ ولماذا؟ وكيف؟ وأين؟ ومتى؟ فلربما أفاد القول أو الفعل بملابساته معنى غير المعنى المجرد عن معرفة الحال. ومن الأمثلة على ذلك كلام الأقران في بعضهم، والتفريق بين حال الإلزام والمناظرة وبين التقرير، والإكراه والاختيار، والعلم والجهل، وهكذا حال تغير الأعراف؛ إلى غير ذلك من العوامل المؤثرة المعتبرة.
(3) الحمل على أحسن المحامل:
قال سعيد بن المسيب: «كتب إليّ بعض إخواني من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أن ضع أخاك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً»(10). هذا هو منهج الشرع الذي أرشد الله إليه بقوله: {لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12]، وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} [الحجرات: 12]، كل هذا ليعيش المسلمون في وئام ونقاء؛ إذ أغلب الأمور ظنون، والشيطان متربص، والنفوس مجبولة على الضعف.
ب - العلم بحكم الشرع المطابق للواقعة:
فلا بد لكل نازلة من حكم في ساح الشرع متوافر الشروط، سالم من الموانع؛ كالتفسيق، والتبديع، والتكفير، والكفارات، والتوبة، والقضاء، والاستيفاء؛ فإن لاح الحكم للناظر، وإلا فلا يحل له أن يحكم، بل يسأل أهل العلم بعد ذكر الواقعة وافية دون وكس أو شطط.
4 - العدل:
وهو ميزان القسط الذي أمر الله - سبحانه - ـ به. قال - تعالى -: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]، وقال: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} [النحل: 90]، وللعدل في الحكم على المسلم علائم يجب ألا تُغفَل، منها:
1 - الموازنة بيد الإيجابيات والسلبيات: كما هو ميزان العدل؛ إذ من الظلم المقيت نسف جهود أشخاص وجماعات بأخطاء ما وزنت بإزائها، ولم يرجح بينها، كما قال محمد بن سيرين: «ظلمٌ لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما رأيت وتكتم خيره»(1)؛ فالعبرة بالكثرة، ولا يعني هذا إقرار الخطأ؛ فالخطأ يصوّب وإن عُذِرَ فاعله، كما صوّب النبي - صلى الله عليه وسلم - خطأ الأعرابي الذي بال في المسجد، مع أنه قد عذره ولم يعاقبه، بل أنكر على من همّ بمعاقبته(2).
2 - ترك المبالغة في الثناء والثلب: بل يُعطَى الحكم حجمه بلا تهويل أو تهوين؛ إذ ربما راج حكم خطل ببريق عبارة، وتحسين إشارة.
3 - جمع النصوص والأحوال: كما هو المنهج المعتمد في أحكام الشرع؛ فرب إطلاق قد قُيّد، أو إجمال قد بُيّن، أو تعميم قد خصص، أو مفهوم قد رده منطوق، أو اعتراه نسخ. وهذا المَعْلَم من أبرز دلائل إنصاف الحاكم.
4 - خطأ الفرد لا ينسب للجماعة: فمن الظلم اطِّراح جهود جماعة وتسفيه رؤاها بخطأ بعض أفرادها؛ إذ الأصل أن الفرد في تصرفه لا يمثل إلا نفسه ما لم يدل الدليل على غيره، «ولأجل هذا لا يصلح أن ننتقد جماعة لخطأ وقع فيه بعض من ينتمي إليها، حتى ولو كان هذا الخطأ صدر عن رئيسها؛ إذ ليست كل أقواله وأفعاله تنسب إلى الجماعة وتتحمل تبعتها، وإن من يعيب جماعة من الجماعات الإسلامية لخطأ بعض أفرادها، فمثله كمثل من يعيب الإسلام جهلاً وظلماً؛ ألسنا نقول للناس: لا تنظروا إلى الأفراد، ولكن انظروا إلى الإسلام بصفته وحياً في القرآن والسُّنة، وعندها ستجدونه شرعاً فريداً»(3).
هذه خلاصة الشروط، وهي ترجع إلى أصل العلم والعدل. قال شيخ الإسلام: «والكلام في الناس لا بد أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع»(4).
* المسألة الثالثة: أمور ينبغي مراعاتها في الحكم:
إن استكمل المناظر شروط الحكم، ولاحت له علاماته، بقي عليه أن يجيل نظره في أمور لا غنى عنها لسلامة حكمه، وهي كما يلي:(/2)
1 - اعتبار المآل: فالأحكام لها متعلقات ومآلات، «والنظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً»(5)، ودور ذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جارٍ على مقاصد الشريعة»(6).
2 - الاستشارة: وهي من الفقه العظيم، ذات الأثر الخيري الجسيم، ولذلك أمر الله نبيه بها، فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]. قال الأحنف: «اضربوا الرأي بعضه ببعض يتولد منه الصواب»(7)، وكان يقال: «بإحالة الفكرة يبتدر الرأي المصيب»(8)، وقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه - ـ: «ما نزلت بي قط عظيمة فأبرمتها حتى أشاور عشرة من قريش مرتين؛ فإن أصبت كان لي الحظ دونهم، وإن أخطأت لم أرجع على نفسي بلائمة»(9)، وحسبك بأعراض المسلمين عظيمة؛ وتزداد التبعة إن عظم المتعلق.
3 - احذر أن تصاب بوهم (الحق معي): لأن الحكم ظني غالياً؛ فالمعلومات يشوبها ما يشوبها، وهكذا النية والنظر؛ فاجعل للرأي الآخر مكاناً عندك، كما قال الأحنف: «اضربوا الرأي بعضه ببعض يتولد منه الصواب، وتجنبوا منه شدة الحزم، واتهموا عقولكم؛ فإن فيها نتائج الخطأ، وذم العاقبة»(10).
4 - عفة اللسان: فـ «من لوازم الورع: أن يكون الناقد عفيف اللسان، يكسو ألفاظه بأحسن الأدب، ويختار أدلها على المقصود بألطف عبارة، ويربأ بنفسه عن الفظاظة والغلظة، ووضيع الكلام؛ فما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً ولا متفحشاً ولا بالبذيء»(11). قال المزني: «سمعني الشافعي يوماً وأنا أقول: فلان كذاب، فقال لي: يا إبراهيم! اكسُ ألفاظك! أحْسِنْها! لا تقل: كذاب، ولكن قل: حديثه ليس بشيء»(12).
هذا؛ وإن لعفة اللسان أثراً في قبول الحق، والرجوع إليه، وإصلاح الزلل، فقديماً قيل: «قبل أن تُغضب أحداً فليسمع منك! »، وخاصة أن المقصود حاصل بالكلام العف. هذا منهج الشرع، وهو الأصل إلا لمعارض راجح، وإن شك فيه؛ فالأصل عدمه، واليقين لا يزول بالشك.
وبعد أيها الحبيب: فالموضع كما رأيت مزلة قدم؛ أنت محفوف فيه بين الغيبة، وحقوق الآدميين، والنفس الظلومة الجهولة، والتجرد عزيز، والعاقبة وخيمة؛ فحذارِ حذارِ أن تريق حسناتك بفلتات لسانك؛ فإن الطالب شحيح، والشهود الأعضاء، والحَكَم العليم الخبير. رزقنا الله - سبحانه - ـ الفقه في دينه، وثبتنا عليه، والله أعلم.
----------------------------------------
الهامش :
(*) قاضي المحكمة العامة بمحافظة شرورة، السعودية.
___________________________
(1) رواه مسلم (2563). (2) تفسير ابن سعدي، ص 671.
(3) رواه البخاري (48)، ومسلم (64).
(4) رواه البخاري (6045).
(5) رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني لغيره، صحيح الترغيب، (2/376).
(6) طبقات الشافعية الكبرى، (2/18)، نقلاً عن منهج أهل السنة، لهشام الصيني، ص 20.
________________________
(1) انظر: منهاج السنة، لشيخ الإسلام (5/239 - 240) نقلاً عن منهج أهل السنة، للصويان، ص 45.
(2) مفتاح دار السعادة (1/141)، نقلاً عن الإنصاف، للعلي، ص 70.
(3) رواه الترمذي (2317)، وابن ماجه (3976)، وحسنه النووي في الأربعين.
(4) انظر: جامع العلوم والحكم (1/288).
(5، 6، 7) جامع العلوم والحكم، (1/294).
(8) انظر: إعلام الموقعين (1/69).
(9) انظر: تفسير ابن سعدي، ص 800.
(10) الدر المنثور (6/99) نقلاً عن الإنصاف، للعلي، ص 79، وانظر: تفسير ابن كثير (4/224).
______________________
(1) البداية والنهاية (9/275) نقلاً عن الإنصاف، للعلي، ص 89.
(2) رواه البخاري، (219)، ومسلم (284).
(3) ضوابط رئيسية في تقويم الجماعات الإسلامية، د. زيد الزيد، نقلاً من الإنصاف، للعلي، ص 93.
(4) منهاج السنة (4/337) نقلاً عن منهج أهل السنة، للصيني، ص 23.
(5) الموافقات، (5/177).
(6) المصدر السابق.
(7) بهجة المجالس، لابن عبد البر، (2/456).
(8) بهجة المجالس، لابن عبد البر (2/452).
(9) بهجة المجالس، لابن عبد البر (2/455).
(10) بهجة المجالس، لابن عبد البر (2/456).
(11) منهج أهل السنة، للصويان، ص 39.
(12) الإعلان بالتوبيخ، ص 68 - 69، نقلاً من كتاب الصويان السابق، ص 40.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:(/3)
الحكم للقيط بالإسلام والحرية
المقدمة :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد:ـ
فإن الفقهاء – رحمهم الله تعالى _ وضعوا أحكاما خاصة للقيط ، وفي هذا البحث المتواضع سأذكر حكم اللقيط بالإسلام والحرية، سائلا المولى _ عز وجل- التوفيق والسداد، والإخلاص في القول والعمل .
أولا: هل يحكم للقيط بالإسلام ؟ :
إذا وجد اللقيط في دار الإسلام فهو محكوم بإسلامه وإن كان فيها أهل الذمة، وذلك للأمور التالية:
· تغليبا للإسلام .
· ولظاهر الدار.
· ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى(1).
فمن أحكام اللقيط: أنه يحكم له بحكم الإسلام إن كان التقاطه في دار المسلمين ويحكم للطفل بالإسلام بحكم أبيه عند مالك ، وعند الشافعي بحكم من أسلم منهما، وبه قال ابن وهب من أصحاب مالك(2).
وقال ابن المنذر : أجمع عوام أهل العلم على أن الطفل إذا وجد في بلاد المسلمين ميتا في أي مكان وجد أنه يجب غسله ودفنه في مقابر المسلمين وقد منعوا أن يدفن أطفال المشركين في مقابر المسلمين قال: وإذا وجد لقيط في قرية ليس فيها إلا مشرك فهو على ظاهر ما حكموا به أنه كافر هذا قول الشافعي وأصحاب الرأي(3).
واختلف الفقهاء في اللقيط في قرية فيها يهود ونصارى ومسلمون:
قال بن القاسم: يجعل على دين أكثرهم عددا، وان وجد عليه زي اليهود فهو يهودي، وان وجد عليه زي النصارى فهو نصراني وإلا فهو مسلم إلا أن يكون أكثر أهل القرية على غير الإسلام.
وقال أشهب: هو مسلم أبدا لأني أجعله مسلما على كل حال كما أجعله حرا على كل حال(4).
وهذا هو الصحيح .
مسألة : دار الإسلام قسمان :
1- ما اختطه المسلمون كبغداد والبصرة فلقيطها محكوم بإسلامه.
2- دار فتحها المسلمون كمدائن الشام فهذه إن كان فيها مسلم حكم بإسلام لقيطها لأنه يحتمل أن يكون لذلك المسلم تغليبا للإسلام، وإن لم يكن فيها مسلم بل كان أهلها أهل ذمة حكم بكفره لأن تغليب حكم الإسلام إنما يكون مع الاحتمال (5).
- وفي المغني: ولا يخلو اللقيط من أن يوجد في دار الإسلام أو في دار الكفر فأما دار الإسلام فضربان أحدهما : دار اختطها المسلمون كبغداد والبصرة والكوفة فلقيط هذه محكوم بإسلامه وإن كان فيها أهل الذمة تغليبا للإسلام ولظاهر الدار ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، الثاني : دار فتحها المسلمون كمدائن الشام فهذه إن كان فيها مسلم واحد حكم بإسلام لقيطها لأنه يحتمل أن يكون لذلك المسلم تغليبا للإسلام وإن لم يكن فيها مسلم بل كل أهلها ذمة حكم بكفره لأن تغليب حكم الإسلام إنما يكون مع الاحتمال(6).
السبب في كونه يحكم له بالإسلام:
ذكر العلماء في كتبهم عدة أسباب أبينها كالتالي :
- الكافي لابن حنبل:ويحكم بإسلامه في دار الإسلام إذا كان فيها مسلم لأنه اجتمع الدار وإسلام من فيه(7).
- الروض المربع: وهو مسلم إذا وجد في دار الإسلام وإن كان فيها أهل ذمة تغليبا للإسلام والدار(8).
- منار السبيل: ويحكم بإسلامه إن وجد بدار الإسلام إذا كان فيها مسلم أو مسلمة لأنه اجتمع الدار وإسلام من فيها تغليبا للإسلام فإنه يعلو ولا يعلى عليه(9).
- العدة شرح العمدة: ويحكم بإسلامه في دار الإسلام إذا كان فيها مسلم لأنه اجتمع الدار وإسلام من فيه(10).
- عمدة القاري : إذا وجد اللقيط في بلاد الإسلام كان حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه ونحوها من أحكام الدين(11).
- المبسوط : فإن كان اللقيط في يد مسلم وادعاه ذمي فالقياس لا يثبت النسب منه وهذا غير القياس الأول في دعوة اللقيط لأنا قد حكمنا بإسلام الولد هنا باعتبار الدار ولا قول للذمي في دعوة نسب الولد المسلم ولكنه استحسن(12).
- بدائع الصنائع : وأما حاله في الإسلام و الكفر، فإن وجده مسلم في مصر من أمصار المسلمين أو في قرية من قراهم يكون مسلما حتى لو مات يغسل و يصلي عليه ويدفن في مقابر المسلمين، وإن وجده ذمي في بيعة أو كنيسة أوفي قرية ليس فيها مسلم يكون ذميا تحكيما للظاهر، وإذا وجده مسلم في بيعه أو كنيسة أو في قرية من قرى أهل الذمة يكون ذميا، ولو وجده ذمي في مصر من أمصار المسلمين أوفي قرية من قراهم يكون مسلما، واللقيط الذي هو في يد المسلم و تصرفه يكون مسلما ظاهرا، والموجود في المكان الذي هو في أيدي أهل الإسلام وتصرفهم في أيديهم، واللقيط الذي هو في يد المسلم و تصرفه يكون مسلما ظاهرا و الموجود في المكان الذي هو في أيدي أهل الذمة وتصرفهم في أيديهم، واللقيط الذي هو في يد الذمي وتصرفه يكون ذميا ظاهرا فكان اعتبار المكان أولى فإن وجده مسلم في مصر من أمصار المسلمين فبلغ كافرا يجبر على الإسلام و لكن لا يقتل لأنه لم يعرف إسلامه حقيقة وإنما حكم به تبعا للدار فلم تتحقق ردته فلا يقتل(13).(/1)
- مغني المحتاج : إذا وجد لقيط بدار الإسلام بأن سكنها المسلمون، وإن كان فيها أهل ذمة أو معاهدون، أو وجد لقيطا بدار فتحها المسلمون وأقروها قبل ملكها بيد كفار صلحا أي على جهته، أو أقرها المسلمون بيد كفار بعد ملكها عنوة بجزية، أو كانوا سيكنونها ثم جلاهم الكفار عنها وفيها مسلم في الصور الأربع يمكن أن يولد للمسلم ذلك اللقيط ولو كان المسلم أسيرا منتشرا أو تاجرا أو مجتازا أو نفاه حكم بإسلام اللقيط في المسائل الأربع تغليبا للإسلام وفي مسند الإمام أحمد و الدار قطني الإسلام يعلو ولا يعلى عليه وقضية كلامه أن يحكم بإسلام اللقيط في دار الإسلام مطلقا وإن لم يكن فيها مسلم وليس مرادا كما يعلم مما قدرته أيضا، وإنما يحكم بإسلامه إذا كان في القرية مسلم أما لو كان جميع من فيها كفارا فهو كافر لأن الكفار بعضهم أولياء بعض (14).
- كفاية الأخيار : واعلم أن الحكم بإسلام اللقيط لا يختص بدار الإسلام بل لو كانت دار كفر وفيها مسلمون بل مسلم أسير أو تاجر أو وجد لقيط هناك فإنا نحكم بإسلامه على الأصح لأن الإسلام يزيد ولا ينقص، واعلم أن من حكمنا بإسلامه بالدار لو جاء ذمي وأقام بينة مقبولة بنسبه لحقه وتبعه في الكفر لأن البينة أقوى من الدار، ولو اقتصر على الدعوى فالمذهب أنه لا يتبعه في الكفر، والله أعلم(15).
مسألة : في الحكم بإسلام اللقيط: وفي الموضع الذي حكمنا بإسلامه إنما يثبت ذلك ظاهرا، فهو كالثابت يقينا، ولأنه يحتمل أن يكون ولد كافر فلو أقام كافر بينة أنه ولده ولد على فراشه حكمنا له به، والسبب في كونه يحكم لغير المسلم إن أقام بينة أن البينة أقوى من الدار.
مسألة : إذا بلغ اللقيط : وإذا بلغ اللقيط حدا يصح فيه إسلامه وردته فوصف الإسلام فهو مسلم سواء كان ممن حكم بإسلامه أو كفره، وإن وصف الكفر وهو ممن حكم بإسلامه فهو مرتد لا يقر على كفره، وبهذا قال أبو حنيفة، وذكر القاضي وجها أنه يقر على كفره ، وهو منصوص الشافعي والسبب في ذلك : أن قوله أقوى من ظاهر الدار ، وعلى القول بأنه لا يقر على كفره - وهو الصحيح - لأن ثبت حكم الإسلام واستقر فلم يجز إزالة حكمه لقوله كما لو كان ابن مسلم وقوله لا دلالة فيه أصلا ، لأنه لا يعرف في الحال من كان أبوه ولا ما كان دينه ، وإنما يقول هذا من تلقاء نفسه فعلى هذا إذا بلغ استتيب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل(16).
مسألة : بلد الكفار ضربان:
1- بلد كان للمسلمين فغلب الكفار عليه كالساحل، فإن كان فيه مسلم حكم بإسلام لقيطه، وإن لم يكن فيه مسلم فهو كافر، وقال القاضي : يحكم بإسلامه أيضا لأنه يحتمل أن يكون فيه مؤمن يكتم إيمانه بخلاف الذي قبله فإنه لا حاجة به إلى كتم إيمانه في دار الإسلام.
2- دار لم تكن للمسلمين أصلا كبلاد الهند والروم، فإن لم يكن فيها مسلم فلقيطها كافر لأن الدار لهم وأهلها منهم، وإن كان فيها مسلمون كالتجار وغيرهم ففيه وجهان : أحدهما : يحكم بإسلامه تغليبا للإسلام- وهو الصواب-، والثاني: يحكم بكفره تغليبا للدار وللأكثر، وهذا التفصيل مذهب الشافعي(17).
الخلاصة: إن وجد اللقيط في بلد فيه كفار ولا مسلم فيه فهو كافر لأن الظاهر أنه ولد كافرين، وإن وجد في بلد الكفار وفيه مسلمون ففيه وجهان :
1- هو كافر لأنه في دارهم.
2- هو مسلم تغليبا لإسلام المسلم الذي فيه – وهو الراجح – والله أعلم .
- الكافي في فقه ابن حنبل : ومن حكمنا بإسلامه لإسلام أحد أبويه أو موته أو إسلام سابيه فحكمه حكم سائر المسلمين في حياته وموته ووجوب القود على قاتله قبل البلوغ أو بعده، وإن كفر بعد بلوغه فهو مرتد يستتاب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل لأنه محكوم بإسلامه يقينا فأشبه غيره من المسلمين،
ومن حكمنا بإسلامه للدار وهو اللقيط فكذلك لأنه محكوم بإسلامه ظاهرا فهو كالثابت يقينا وذكر القاضي وجها آخر : أنه يقر على كفره لأنه لم يثبت إسلامه يقين(18) .
- في الروض المربع : وإن وجد في بلد كفار لا مسلم فيه فكافر تبعا للدار(19).
- في الإقناع : إن وجد في بلد كفار حرب ولا مسلم فيه أو فيه مسلم : كتاجر وأسير فكافر رقيق، فان كثر المسلمون فمسلم، وإن وجد في دار الإسلام في بلد كل أهلها ذمة فكافر، وإن كان فيه مسلم فمسلم إن أمكن كونه منه(20).
- مغني المحتاج : وإن وجد اللقيط بدار كفار وهي دار الحرب فكافر ذلك اللقيط إن لم يسكنها مسلم إذ لا مسلم يحتمل إلحاقه به، ثم إن كان أهل البقعة مللا جعل من أقربهم إلى الإسلام والثاني: كافر تغليبا للدار(21).
- الإنصاف : ويحكم بإسلامه بلا نزاع إلا أن يوجد في بلد الكفار ولا مسلم فيه فيكون كافرا
وهذا المذهب وعليه الأصحاب، وقال القاضي : يحكم بإسلامه أيضا لأنه يحتمل أن يكون فيه مؤمن بكتم إيمانه، وحكى صاحب المحرر وجها بأنه مسلم اعتبارا بفقد أبويه(22).
فائدة : لو كان في دار الإسلام ولد كل أهلها أهل ذمة، ووجد فيها لقيط حكم بكفره، وإن كان فيها مسلم حكم بإسلامه .
ثانيا : الحرية للقيط:(/2)
أولا :ذكر الخلاف في هذه المسألة :
اختلف في اللقيط، فقيل:إنه حر، وقال قوم: إنه عبد، وممن قال إنه حر علي بن أبي طالب- رضي الله تعالى عنه- وعمر بن عبد العزيز وإبراهيم والشعبي والحكم وحماد و مالك و الثوري و الشافعي
و إسحاق وأصحاب الرأي ومن تبعهم (23).
وقال النخعي : إن التقطه للحسبة فهو حر، وإن كان أراد أن يسترقه فذلك له، وهذا قول شذ فيه عن الخلفاء والعلماء، ولا يصح في النظر، لأن الأصل في الآدميين الحرية فإن الله تعالى خلق آدم وذريته أحرارا، وإنما الرق للعارض، فإذا لم يعلم ذلك العارض فله حكم الأصل(24).
وذكر الخلاف صاحب المدونة(25) فقال: اختلف في اللقيط على أقوال، فقيل :
1- إنه حر وولاؤه لمن التقطه .
2- إنه عبد لمن التقطه .
3- إنه حر وولاؤه للمسلمين، وهو مذهب مالك، وهو الذي تشهد له الأصول إلا أن يثبت في ذلك أثر تخصص به الأصول مثل قوله عليه الصلاة والسلام :" ترث المرأة ثلاثة : لقيطها وعتيقها وولدها الذي لا عنت عليه"(26).
ثانيا:الرواية الواردة في ذلك:
روى سعيد عن سفيان عن الزهري أنه سمع سنينا أباجميلة قال :" وجدت ملقوطا فأتيت به عمر بن الخطاب، فقال عريفي : يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، فقال عمر : أكذلك هو ؟ قال : نعم، فقال : اذهب به وهو حر، ولك ولاؤه وعلينا نفقته، وفي لفظ : وعلينا رضاعه " رواه سعيد في سننه(27).
وفي رواية: عن سنين أبي جميلة، قال:" وجدت منبوذا على بابي، فأتيت به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال عمر - رضي الله عنه -:" عسى الغوير أبؤسا هو حر ونفقته علينا" فمعنى قول عمر - رضي الله عنه -: عسى الغوير أبؤسا مثل معروف لما يكون باطنه بخلاف ظاهره، وأول من تكلم به الزباء الملكة حين رأت الصناديق فيها الرجال، وقد أخبرت أن فيها الأموال فلما أحست بذلك أنشأت تقول :
ما للجمال مشيها وئيدا أجندلا تحمل أم حديدا
أم صرفانا باردا شديدا أم الرجال جثما قعودا
ثم قالت: عسى الغوير أبؤسا، فطار كلامها مثلا، وكان عمر - رضي الله عنه - ظن أن هذا الرجل جاء إليه بولده يزعم أنه لقيط ليستوفي منه نفقته، فلهذا ذكر هذا المثل، فيكون اللقيط حرا كما قال عمر - رضي الله عنه - نفقته علينا وهو حر(28).
ثالثا : وجه الدلالة من هذه الرواية:
في هذا الحديث دليل على أن اللقيط حر مسلم، وذلك إما:
· باعتبار الدار لأن الدار حرية وإسلام، فمن كان فيها فهو حر مسلم باعتبار الظاهر .
· أو باعتبار الغلبة لأن الغالب فيمن يسكن دار الإسلام الأحرار المسلمون،ويكون الحكم للغالب.
· أو باعتبار الأصل فالناس أولاد آدم وحواء - عليهما السلام- وكانا حرين، فلهذا كان اللقيط حر(29) .
رابعا : نقل الإجماع :
قال ابن المنذر : أجمع عوام أهل العلم على أن اللقيط حر، ولأن الأصل في الآدميين الحرية فيكون حر(30) .
- في شروح الحديث : وحريته: لأنها الأصل في الآدميين، فإن الله تعالى خلق آدم وذريته أحرارا والرق عارض والأصل عدمه، قال الخطابي: أما اللقيط فإنه في قول عامة الفقهاء حر، فإذا كان حرا فلا ولاء عليه لأحد، والميراث إنما يستحق بنسب أو ولاء وليس بين اللقيط وملتقطه واحد منهما ،وكان إسحاق بن راهويه يقول: ولاء اللقيط لملتقطه ويحتج بحديث واثلة، وهذا الحديث غير ثابت عند أهل النقل فإذا لم يثبت الحديث لم يلزم القول به فكان ما ذهب إليه عامة العلماء أولى(31).
- في كتب المذهب الحنبلي :
اللقيط حر في جميع الأحكام، لأن الحرية هي الأصل والرق عارض، وإن اعترف اللقيط بالرق مع سبق مناف للرق من بيع ونحوه أو عدم سبقه لم يقبل لأنه يبطل حق الله من الحرية المحكوم بها سواء أقر ابتداء لإنسان أو جوابا لدعوى عليه أو قال اللقيط بعد بلوغه : إنه كافر لم يقبل منه لأنه محكوم بإسلامه ويستتاب فإن تاب وإلا قتل(32).
وفي الإنصاف :وهو حر في جميع أحكامه هذا الصحيح من المذهب وعليه جماهير الأصحاب(33).
- اللباب شرح الكتاب : وهو حر مسلم تبعا للدار(34).
الخلاصة : الأصل هي الحرية في بني آدم لأن الناس كلهم أولاد سيدنا آدم - عليه الصلاة و السلام- و حواء، وهما كانا حرين، والمتولد من الحرين يكون حرا، و إنما حدث الرق في البعض شرعا بعارض الاستيلاء بسبب عارض وهو الكفر ، فيجب العمل بالأصل حتى يقوم الدليل على العارض، فترتب عليه أحكام الأحرار.
مسألة : هل يتبع الرق النسب عند الحكم بثبوت النسب من المملوكين:
قول محمد من الحنفية: اللقيط حر باعتبار الدار، وفي الحكم بثبوت النسب من المملوكين فيه توفير المنفعة على الولد، وفي إثبات الرق إضرار بالولد، وليس من ضرورة ثبوت النسب ثبوت الرق، فبقي على ما كان من الحرية فسقط اعتبار قولهما فيما يضر بالولد، كما لو ادعاه ذمي وقد وجد في مصر من أمصار المسلمين يثبت النسب منه بالدعوة ويكون مسلما دفعا للضرر عن الولد وتوفيرا للمنفعة عليه في ثبوت نسبه.(/3)
وعند أبي يوسف : أنه لما حكمنا بثبوت النسب منهما فقد حكمنا بأنه مخلوق من ماء رقيقين، والمخلوق من ماء رقيقين لا يكون حرا لأن الولد من الأصلين فإذا كانا رقيقين وليس هنا سبب يمكن الحكم بحرية الولد بذلك السبب ، ولا وجه لإثبات الحكم بدون السبب يكون الولد رقيقا يقرره أن ولد الأمة مملوك لمولاها لأنه جزء من أجزائها، فحينئذ يبقى صفة الحرية لمائه فكان الولد رقيق(35) .
مسألة : تصرف اللقيط:
يعتبر تصرف اللقيط تصرف الأحرار، إلا إذا ثبت رقه فحكم تصرفه حكم تصرف العبيد لأنه ثبت أنه مملوك، ولكن لا يعتبر في إبطال ما يفعله من التصرفات من الهبة و الكفالة و الإعتاق و النكاح
ونحوها من التصرفات التي لا يمكنها العبد حتى لا تنفسخ و هذا عند الحنفية، وقال الشافعي رحمه الله في أحد قوليه : ينفسخ، وجه قوله : أنه لما أقر بالرق فقد ظهر انه كان رقيقا وقت التصرف فلم يصح تصرفه كما إذا قامت البينة على رقه(36)، والصحيح- والله أعلم- : أن هذا إقرار تضمن إبطال حق الغير، لأنه حريته ثابتة من حيث الظاهر، فلا يصدق في حق ذلك الغير، فإذا تضمن إبطال حقه حق الغير كان دعوى أو شهادة على غيره من ذلك الوجه فيصدق على نفسه لا على غيره .
مسألة:إقرار اللقيط :
إن أقر اللقيط بالرق على نفسه بعد أن كان أقر بالحرية لم يقبل إقراره بالرق، لأنه قد لزمه بالحرية أحكام من العبادات والمعاملات فلم يملك إسقاطها، وإن لم يتقدم منه إقرار بالحرية وكذبه المقر له بطل إقراره لأنه لا يثبت رقه لمن لا يدعيه، فإن أقر بعده لغيره قبل كما لو أقر له بمال، ويحتمل أن لا يقبل لأن في إقراره الأول اعترافا بأنه ليس لغيره فلم يقبل رجوعه عنه كما لا يقبل رجوعه عن الحرية (37).
و إن بلغ فأقر أنه عبد فلان نظر في ذلك، إن كان لم يجر عليه شيء من أحكام الأحرار صح إقراره، لأنه لم تعرف حريته إلا بظاهر الحال، فإذا أقر بالرق فالظاهر أنه لا يقر على نفسه بالرق كاذبا فصح إقراره، فإن كان قد اعترف بالحرية لنفسه قبل ذلك لم يقبل إقراره بالرق بعدها، لأنه اعترف بالحرية وهي حق الله تعالى فلا يقبل رجوعه في إبطاله(38) .
مسألة:ادعاء الغير بالرق للقيط :
إذا ادعى شخص رقه سواء الملتقط وغيره لا يقبل قوله، لأن الظاهر حريته، وفيه إضرار به، فإذا ادعى رقه من هو في يده لم يقبل إلا ببينة في الأصح(39).
وإذا بلغ اللقيط فادعى عليه رجل أنه عبد فأنكره فالقول قوله لأن الأصل الحرية(40).
وعليه فلا يسمع من المدعي إلا ببينة لأن حريته من حيث الظاهر فلا يقدر على إبطال هذا الظاهر إلا بدليل، فإن ادعى أنه ابنه ثبت نسبه منه لأنه ينفعه، وكان حرا فلا تبطل الحرية الظاهرة بالشك، والحر في دعوته اللقيط أولى من العبد، والمسلم أولى من الذمي ترجيحا لما هو الأصلح في حقه(41).
قال الشافعي رحمه الله : ولو أقر اللقيط بأنه عبد لفلان، وقال الفلان ما ملكته قط ثم أقر لغيره بالرق بعد لم أقبل إقراره وكان حرا في جميع أحواله(42).
فإذا ادعى رق اللقيط مدع سمعت دعواه لأنها ممكنة، وإن كانت مخالفة لظاهر الدار فإن لم يكن له بينة فلا شيء له لأنها دعوى تخالف الظاهر وتفارق دعوى النسب من وجهين أحدهما : أن دعوى النسب لا تخالف الظاهر ودعوى الرق تخالفه، والثاني : أن دعوى النسب يثبت بها حقا للقيط ودعوى الرق يثبت بها حقا عليه فلم تقبل بمجرده (43) .
جمع وإعداد / يونس عبد الرب فاضل الطلول
(1)انظر: الشرح الكبير ( جزء 6 - صفحة 405 ).
(2) المدونة الكبرى ( جزء 4 - صفحة 263 ).
(3) الشرح الكبير ( جزء 6 - صفحة 405 )، المغني (6/403 ) .
(4)الاستذكار ( جزء 7 - صفحة 159 ) بتصرف .
(5) الشرح الكبير ( جزء 6 - صفحة 405 ).
(6) المغني (6/403) .
(7) الكافي لابن حنبل (2/203).
(8) الروض المربع ( 1/450).
(9) منار السبيل ( 1/325).
(10) العدة شرح العمدة ( جزء 1 - صفحة 259 ).
(11) انظر:عمدة القاري ( جزء 6 - صفحة 152 ).
(12) انظر: المبسوط ( جزء 6 - صفحة 420 ).
(13) انظر: بدائع الصنائع ( 5/290).
(14) انظر: مغني المحتاج ( جزء 2 - صفحة 422 ).
(15)كفاية الأخيار ( جزء 1 - صفحة 655 ).
(16) انظر: المغني ( جزء 6 - صفحة 405 ).
(17)انظر: الشرح الكبير ( جزء 6 - صفحة 405 )، المغني (6/403 ) .
(18) الكافي لابن حنبل (2/203).
(19) الروض المربع ( 1/450).
(20) انظر:الإقناع ( جزء 2 - صفحة 405 ).
(21) مغني المحتاج ( جزء 2 - صفحة 422 ).
(22) الإنصاف ( جزء 6 - صفحة 434 ) بتصرف .
(23)عمدة القاري ( جزء 13 - صفحة 237 ).
(24) المغني ( جزء 6 - صفحة 403 )، الشرح الكبير ( جزء 6 - صفحة 403 ).
(25) انظر: المدونة الكبرى ( جزء 4 - صفحة 263 ).
(26) أخرجه أبو داود ج2ص139 برقم 2906،وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود ج1ص287 برقم 623 .
(27) منار السبيل ( 1/325) .
(28) انظر:المبسوط ( جزء 6 - صفحة 146 ).
(29) انظر:المبسوط ( جزء 6 - صفحة 146 ).(/4)
(30) العدة شرح العمدة ( 1 /259 ).
(31)عون المعبود ( جزء 8 - صفحة 82 )، تحفة الأحوذي ( جزء 6 - صفحة 249 ).
(32)الروض المربع ( 1/450)، زاد المستقنع ( 1/450 ) ، الإقناع ( 2/405 ، 4 / 423) ، الكافي ابن حنبل (2/203)
(33) الإنصاف ( جزء 6 - صفحة 432 ).
(34) اللباب في شرح الكتاب ( جزء 2 - صفحة 55 ).
(35) انظر:المبسوط ( جزء 6 - صفحة 420 ).
(36) انظر :الكافي ( 2/203)، انظر :بدائع الصنائع ( جزء 5 - صفحة 290 ).
(37) انظر :الكافي ( 2/203)، انظر :بدائع الصنائع ( جزء 5 - صفحة 290 ).
(38) الشرح الكبير ( جزء 6 - صفحة 421 )، الإنصاف ( جزء 6 - صفحة 451 ).
(39) كفاية الأخيار ( جزء 1 - صفحة 431 )، المهذب ( جزء 3 - صفحة 243 ).
(40) المهذب ( جزء 2 - صفحة 312 ).
(41) الهداية ( جزء 1 - صفحة 415 ).
(42) مختصر المزني ( جزء 1 - صفحة 148 ).
(43) الشرح الكبير ( جزء 6 - صفحة 420 ).(/5)
الحكمة ضالة المؤمن.. ولكن..!
علي بن محمد الدهامي
يخطئ بعض الناس حينما تكون ثقته بنفسه كبيرة إلى درجة إقحامها في كل قضية، وفي كل حوار، وإلى درجة الخوض بها في معارك عقدية، وذلك بالجلوس إلى أصحاب التوجهات المنحرفة، أو الجلوس إلى كتبهم بقصد معرفة ما عندهم، وما وصلوا إليه، أو بقصد الاستفادة من الحق الذي معهم، وإن كنا نقول بالحكمة المشهورة: الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.. ولكن لا يعني هذا تجاوز الحق الذي في كتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنه قوله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
وقوله ـ سبحانه ـ: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140].
قال ابن جرير ـ رحمه الله ـ: «وفي هذه الآية، الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع، من المبتدعة والفسقة، عند خوضهم في باطلهم»(1)، وحديث: «مثل الجليس الصالح وجليس السوء» لا يخفى على أحد.
والذي يُقحم نفسه في هذه المجالس وما يكتبه أهلها؛ فلا شك أنه قد غامر بنفسه وعقيدته، والسلامة بعيدة.
ولما كان السلف ـ رحمهم الله ـ على جانب كبير من الفقه لهذه المسألة؛ فقد ورد عنهم التحذير من فتح هذا الباب، وعدم الولوج منه؛ لأن وراءه سرداب مظلم يصعب الخروج منه، ومَنْ خرج منه فلا أقلَّ من الجراح.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «لا تجالس أهل الأهواء: فإن مجالستهم ممرضة للقلب»(2).
وقال أبو الجوزاء: «لأن أجالس الخنازير أحب إليَّ من أن أجالس أحداً من أهل الأهواء»(3).
وقال أبو قلابة: «لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تحادثوهم، فإني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون»(4).
وقال شعيب بن الحبحاب: «قلت لابن سيرين: ما ترى في السماع من أهل الأهواء؟ قال: لا نسمع منهم ولا كرامة»(5).
وقال رجل من أهل الأهواء لأيوب السختياني: يا أبا بكر، أسألك كلمة؟ فولَّى وهو يقول: ولا نصف كلمة. مرتين(6).
وقال يحيى بن أبي كثير: «إذا رأيت المبتدع في طريق؛ فخذ في غيره»(7).
وقال يونس بن عبيد: «ثلاثة احفظوهنَّ عني: لا يدخل أحدكم على سلطان يقرأ عليه القرآن، ولا يَخْلُوَنّ أحدكم مع امرأة يقرأ عليها القرآن، ولا يمكِّن أحدكم سمعه من أصحاب الأهواء»(8).
وقال سفيان الثوري: «مَنْ أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم؛ خرج من عصمة الله، ووُكل إلى نفسه». وعنه: «مَنْ سمع ببدعة فلا يَحْكها لجلسائه، لا يلقها في قلوبهم».
قال الذهبي ـ رحمه الله ـ معلقاً: «أكثر السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة، والشُّبه خطَّافة»(9).
وكان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء، قال: «أما إني على بينة من ديني، وأما أنت فشاك، اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه»(10).
وقال ابن المبارك ـ رحمه الله ـ: «ليكن مجلسك مع المساكين، وإياك أن تجلس مع صاحب بدعة»(11). ودخل رجلان من أصحاب الأهواء على محمد بن سيرين، فقالا: يا أبا بكر، نحدثك بحديث؟ قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية؟ قال: لا، لتقومان عني، أو لأقومنّه! فقاما، فقال بعض القوم: يا أبا بكر! وما عليك أن يقرآ عليك آية؟ قال: خشيت أن يقرآ آية يحرفانها، فيقر ذلك في قلبي(12).
وقال ابن طاوس لابن له يكلمه رجل من أهل البدع: «يا بني! أدخل أصبعيك في أذنيك حتى لا تسمع ما يقول. ثم قال: اشدد اشدد».
وقال عمر بن عبد العزيز: «مَنْ جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل».
وقال إبراهيم النخعي: «إن القوم لم يُدّخر عنهم شيء خبئ لكم لفضل عندكم»(13).
وقد ورد عن السلف ـ رحمهم الله ـ أضعاف ما ذكرت؛ مما يدل على أنهم كانوا يرون غلق هذا الباب من أصله، فكيف القول بمن يتتلمذ على أيدي هؤلاء بطوعه واختياره؛ سواء بالجلوس معهم أو مع آثارهم ومؤلفاتهم، أو عبر مواقعهم على شبكة المعلومات، أو غير ذلك؟
كان ابن الراوندي ـ وهو من أذكياء العالم ـ في أول أمره حسن السيرة ـ كما قال البلخي(14)ـ، وكان يلازم الرافضة والملاحدة، فإذا عُوتب قال: «إنما أريد أن أعرف أقوالهم. ثم إنه كاشَفَ وناظر، وأبرز الشُّبه والشكوك، حتى قال ابن الجوزي عنه: كنت أسمع عنه بالعظائم، حتى رأيت له ما لم يخطر على قلب»(15).
هذا عمران بن حطان ـ وكان من الأذكياء أيضاً ـ تزوج خارجية وقال: سأردها. فصرفته إلى مذهبها(16).(/1)
واعتبر بأبي حامد الغزالي رحمه الله، فإنه دخل فما خرج منها سالماً، كما قال أبو بكر ابن العربي: «شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيأهم فما استطاع»(17)، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وقد أنكر أئمة الدين على «أبي حامد» هذا في كتبه ـ يعني المواد الفاسدة من كلام الفلاسفة ـ وقالوا: مرضه: «الشفاء». يعني شفاء ابن سيناء في الفلاسفة»(18)، ويقول فيه الذهبي ـ رحمه الله ـ: «وحُبّب إليه إدمان النظر في كتاب (رسائل إخوان الصفا)، وهو داء عضال، وجرب مرد، وسم قاتل، ولولا أن أبا حامد من كبار الأذكياء، وخيار المخلصين؛ لتلف».
فالحذار الحذار من هذه الكتب! واهربوا بدينكم من شُبه الأوائل، وإلا وقعتم في الحيرة، فمَنْ رام النجاة والفوز ليلزم العبودية، وليدمن الاستغاثة بالله، والله الموفق، فبحسن قصد العالم يُغفر له وينجو إن شاء الله (19).
فلا تغتر بما عندك، فلست بأذكى من هؤلاء، ولست بأنسك من أيوب، ولا عندك علم ابن سيرين ولا أبي الجوزاء، والنجاة لا عوض لها فكيف تغامر بدينك، وقد علمت أن أناساً كان عندهم أكثر مما عندك من العلم ففتحوا هذا الباب على أنفسهم فضلُّوا؟! ولا يعني هذا ترك دعوتهم ووعظهم، ولكن ليس كلٌّ يصلح لذلك.
فاللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً.
-----------------------------
* مدرس في المعهد العلمي في الرس.
(1) جامع البيان، (4/328). (2) الإبانة الكبرى، لابن بطة، (2/438).
(3) سير أعلام النبلاء، (4/372). (4) المصدر السابق، (4/472).
(5) المصدر السابق، (4/611). (6) المصدر السابق، (6/21).
(7) المصدر السابق، (6/29). (8) المصدر السابق، (6/293).
(9) المصدر السابق، (7/261). (10) المصدر السابق، (8/99).
(11) المصدر السابق، (8/399). (12) المصدر السابق، (11/285).
(13) المصدر السابق، (11/285). (14) المصدر السابق، (14/61).
(15) المصدر السابق، (14/59). (16) المصدر السابق، (4/214).
(17) المصدر السابق، (19/327). (18) مجموع الفتاوى، (10/552).
(19) سير أعلام النبلاء، (19/328).
المصدر / مجلة البيان(/2)
الحكمة في الدعوة إلى الحق بين الإفراط والتفريط
بقلم د. عبد الله الحميري.
الحكمة كما قال العلماء: هي وضع الشيء في موضعه، وهي نعمة من نعم الله سبحانه من رُزقها فقد أوتي خيراً كثيراً كما قال تعالى: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) فلابد للعلماء والدعاة أن يتصفوا بالحكمة ويتعلموها لإيصال العلم والحق والإسلام إلى من يخاطبونه.
ومتى عدمت الحكمة فات المقصود وحصل الخلل وكثر الجدل والمراء، وأعظم الحكمة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى: أن ينزل المدعو المنزلة اللائقة به، لقوله صلى الله عليه وسلم:( أنزلوا الناس منازلهم ) حديث حسن المتن رواه جماعة من الصحابة بأسانيد لا تخلوا من مقال، لكن بجموعها يرتفع الحديث، ومن هنا فإن الداعية إلى الله سبحانه وتعالى والعالم المعلم للناس الخير عليه أن يدرك من خلال قواعد الشرع تقسيم المدعوين إلى ثلاث أقسام يجب معرفتها:
القسم الأول: جاهل بالحكم غير مدرك ولا معاند وهذا القسم هو الذي يحتاج إلى رفق ورحمة وإيضاح للحق معاملة له بالحال التي تناسبه.
القسم الثاني: عالم بالحكم ولكن عنده شيء من التفريط والإهمال والغفلة وهذا القسم نوعان:
1)نوع يأتي بعد ارتكاب المخالفة وقد صحى ضميره وانتبه قلبه وثاب رشده يريد معرفة ما يلزمه ويبحث عن طريق الخلاص من ذنبه فهذا النوع يحتاج لطريقة خاصة للتعامل معه وتشجيعه وهدايته والرفق به وفتح آمال المستقبل أمامه وتثبيته على الاستقامة حتى يشعر بحلاوة السهولة واليسر فيستمر في إحياء قلبه وإزالة أثار الرجس، والمخالفات فلابد من استعمال الحكمة معه بما تقتضيه حاله.
2)النوع الثاني المستمر في تفريطه وإهماله وغفلته ومخالفته وهذا يحتاج لوصفة خاصة لأنه مازال مريضاً، وربما وقع في أمراض أخرى فالحكمة معه معرفة الأمراض التي تلبس بها وإدراك الأغراض التي تنذر بوقوعه في أمراض أخرى واستعمال الحكمة معه لمعالجته بحسب الحال التي هو فيها.
القسم الثالث: العالم الذي يتلبس بشيء من العناد والكبر ويتمتع بجرأة فائقة في رد الحق أو التردد في قبوله وربما تجاوز إلى دفعه ومحاربته وقد يمارس الجدل ويتستر بغطاء حق فيما يظهر للناس لكنه يريد بمزاعمه تلك الباطل، وهذا أنواع كثيرة أيضاً يحتاج العلماء والدعاة لمعرفة الحكمة في إدارة الدعوة معهم وكشف خفاياهم وزيفهم وإيضاح كل ذلك بحكمة وبصيرة.
هذه الأقسام إذا أدركناها عرفنا أنه ليس من الحكمة أن نسوي كل قسم بالآخر بل لابد أن ننزل كل قسم منزلته في خططنا الدعوية والعملية، وقد أصل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المنهجية بقاعدة مهمة تدرك من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه يوم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن حيث قال له: " إنك تأتي قوماً أهل كتاب" وقصة بعثة معاذ إلى اليمن بكاملها منهج متكامل تحتاج لرصدها بكاملها من قبل الدعاة لأن فيها من منهج الحكمة الشيء الكثير.
وعندما نتأمل في الجملة التي قدمناها من قصته نلحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك، ليكون معاذ على خبرة ودراية بحال المدعوين فيضع له منهجاً لإيصال الحق لهم وخطة لإيصال العلم إليهم فبدأ من حيث يحتاجونه لا من الصفر وهذا يعني أن على الدعاة والعلماء أن يدركوا الأرضية التي يقف عليها المدعو وذلك لا يتأتى دون دراسة ما يحيط بالمدعو من أحوال وأوضاع تسهل إيصال الحق إليه وتعمل بالحكمة والموعظة الحسنة لتجلية ما خفى فإن عرف أن المدعو يريد المكابرة والاستكبار والنفور والتعدي على الحق، كان من الحكمة منع الاستكبار والتعدي ومنع الطرق الملتوية التي ينفذ منها هذا القسم بقصد تجميد الحق وتفسيخه أو إزالته بالكلية وإن زعم الاستقامة والامتثال: وفيما يلي نضرب بعض الوقائع من عمل صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم في استعمال الحكمة في الدعوة والبيان في أمثلة تدلنا على حاجة العلماء والدعاة للدراسة والتأصيل في حال وقعنا ومعرفة ما نحتاجه حتى نوصل الحق لمريديه ونحميه من المعتدين عليه وفق منهجية الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعيداً من سلوك تفسخ القائلين والمفتين لما يحدث من حرب للدين وقيمه بما يصدرونه من أحكام مجانبة للحق في قولهم للمعتدين على الحق: ( هذه أمور داخلية تخصكم لا ندخل في قضاياها)(/1)
وحتى نبعد عن النوم العميق الذي يمارسه كثير ممن يعدون في الدعاة ويحسبون على العلم وأهله بما يمارسونه من تفسير للحكمة بطريقة سلبية أدت إلى ظهور تفسخ الباطل وانتشاره بنشوة تحت ظل ممارسة ذلك السكوت الرهيب الذي يمارسه فريق من حماة الحق تحت مسمى الحكمة دون معرفة مواضع وضع الحكمة بل إنهم جعلوا من الحكمة أن لا حكمة وأصبح يمارس البعد عن الحق والاعتداء على الدين تحت سمع وبصر هذا الفريق الذي قعد للمعاندين قاعدة الدين يسر " ويسروا ولا تعسروا " ليأتوا بها على لسان هذا الفريق بعد كل منكر يقترف وبين يدي كل إثم يراد له أن ينتشر ويسمون كل هذا حكمة. كما أننا نريد من ضربنا للأمثلة محاربة ظاهرة سلوك العنف المطلق بحجة الحكمة أيضاً في حماية الحق وإبرازه وفرضه تحت مبررات كثيرة تستعمل جانب القوة وتنسى الجمع بين أدلة العقوبة وأدلة العفو ولا تتأتى الحكمة إلا في الجمع بين الأدلة ومعرفة إنزال النصوص على أحكامها ومتى يكون العفو ومتى تجب العقوبة
فإلى الأمثلة التالية:
المثال للقسم الأول: أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث انس بن مالك رضي الله عنه: أن أعرابياً دخل المسجد ثم جعل يبول فأخذت الصحابة الغيرة، فنهوه وصاحوا به، ولكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أوتي الحكمة في الدعوة قال لهم: " لا تزرموه ", أي دعوه لا تقطعوا عليه بوله.
فلما قضى الأعرابي بوله أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم أن يصب عليه أي على بول الأعرابي ذنوبا من ماء- أي دلواً من ماء – ثم دعا الأعرابي وقال له: إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى وإنما هي للصلاة وقراءة القرآن وذكر الله عز وجل
وزاد الإمام أحمد وغيره في روايتهم أن هذا الأعرابي قال: [اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً]
وصف عام للمشكلة:
رجل جاهل جاء من البادية بعد أن سمع بالإسلام جلس في المسجد لغرض الاستماع والمعرفة تحرك البول في مجراه، فأخذ الأعرابي جانباً من المكان الذي يجلس فيه القوم و فشج ليبول نزولاً على ما تعارف عليه الأعراب في باديتهم من عدم البعد عن الأنظار إذا كان قضاء الحاجة يقتصر على مجرد البول، لخلوه من صدور الأصوات المؤذية وخلوه من ريح العذرة الذي يتأذى منه الناس ،والأعرابي يجهل كثيراً من أعراف الحضر في إراقتهم البول بعيداً عن أعين الناس أو في أكنفة خصصت لذلك، بل تعود على إراقة البول أينما تحرك لأنه ولد وعاش في فضاء واسع تزيل الرياح والشمس والأمطار آثار ما يريقه وتغطيه، ومن هنا عندما تحرك البول انتحى جانباً وشمر إزاره ليريقه وليعود للسماع بل ربما يكون حرصه على سماع ما يدور هو الذي جعله لا يبتعد كثيراً0 وفي الجانب الآخر تحركت جوانب الغيرة التي رأت أن في هذا إضافة إلى تنجس المكان قلة ذوق وسوء أدب لأن المكان مسجد والوضع أنهم جلوس مع صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم وفي ذلك مخالفة أيضاً لأعراف أهل المدن من البعد والتخفي عند كشف العورة وهذه أمور حث عليها الإسلام، هنا كانت المشكلة فلهذا ثاروا عليه ثورة رجل واحد ووثبوا عليه وثبة الأسد.
الخلاصة هنا:
جاهل وفد من البادية ومارس أشياء ينكرها الدين والعرف والذوق، وفي عرفه هو غير منكرة وهو يجهل الدين0لكن ثار عليه العلماء العارفون للحكم الشرعي لمخالفته للشرع، وتجاوزه لما تعارفوا عليه من أدب بين صاحب الرسالة ولما نمى بينهم من ذوق في عدم الظهور عند ممارسة قضاء الحاجة من أهمية البعد والتستر.
وهنا تبرز حكمة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم في معالجة المشكلة، فيأمر فوراً بكف الأذى المتوقع على الأعرابي نتيجة لزجره من قبل العالمين ويدرك حاله وعرف أهل البادية، ثم ينتقل إلى إزالة أثار العمل الممارس والتوجيه للمنكرين، ثم تعليم الأعرابي كيف يتعامل في مستقبل حياته فيما إذا أراد قضاء الحاجة بحكمة عالية، جعلت الأعرابي يتوجه بالدعاء المحصور والمقصور عليه وعلى صاحب الرسالة وهذا يدلك على مدى النفسية التي جعلته ينظر بها إلى معالجة الوضع من قبل الرسول ـ صلى الله غليه وسلم ـ ومن قبل الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
وفي هذه القضية أمور شتى للعلماء والدعاة منها:
أولا:- الغيرة على الدين واجبة على كل أحد وإنكار المنكر لازم على كل من عرفه ولا يجوز إقراره والسكوت عنه لمن فقهه وعرفه بل الواجب المبادرة بالإنكار على فاعل المنكر، لكن بشرط أن لا يؤدي إنكار المنكر إلى منكر أعظم منه أو تكون نتيجة الإنكار أكثر ضرراً، حتى تزول المفسدة الكبرى ولهذا زجر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصحابة عن أن ينهوا الأعرابي ويصيحوا به ولابد من معرفة دوافع وقوع المنكر.(/2)
ثانياً:- أقر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منكراً لأن دافع الفعل كان الجهل من جهة ومن جهة أخرى أقر المنكر لدفع ما هو أشد منه فالمنكر الذي أقره هو استمرار الأعرابي في التبول، و المنكر الذي دفعه بهذا الإقرار، أن الأعرابي مع كونه جاهلاً ديناً وعرفاً لحكم فعله لو قام عن التبول لا يخلوا حدوث شيئين من قيامه.
1-أن يقوم الأعرابي مكشوف العورة هارباً أو يسدل عليه ثيابه فتتلوث بالبول.
2-يتلوث منه المسجد بقدر أكبر إذا استمر نزول البول من مخرجه وهو هارب فإما أن يبدوا الرجل وهو كاشفٌ عورته وإما أن يستر عورته ولكن تتلوث ثيابه بما يصيبها من البول وربما عاد فجلس فيتلوث مكان آخر بالبول في المسجد من أجل هاتين المفسدتين منع صلى الله عليه وسلم الإنكار عليه أول الأمر لأن المفسدة قد حصلت والنهي عنها يؤدي إلى أكبر منها فأمسك الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الإنكار دفعاً لكبرى المفسدتين. قال الله تعالى( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم ) الأنعام الآية 108،
ومن ذا الذي يقول أن سب الآلهة من الأمور المحظورة لكنه يحظر إذا أدى إلى سب الله عز وجل والنفور عن دينه.
ثالثاً:- وجوب المبادرة بإزالة المفاسد وآثار المنكر قبل معاقبة مرتكب المنكر، لأن التأخير له آفات، ولهذا لم يؤخر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تطهير المسجد حتى يحين وقت الصلاة ويحتاج الناس للصلاة في المسجد وهذه نقطة هامة جداً يجب أن يدركها العلماء العاملون، لأن التأخير عن إزالة المفسدة قد يؤدي إلى انتشارها فيعجز عن إزالتها مستقبلا وقد تصير لها حكم النسيان أو العادة مع طول الاستمرار ومن الحكمة رصد المنكر ومفاسده والمبادرة إلى إزالة ذلك وانظر إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث أمر بإحضار الماء وإزالة المفسدة.
رابعاً:- إذا كان فاعل المنكر جاهلاً علم ما يجهله منه بعد إزالة آثار فساده ويبين له ضرر المنكر وما يؤول إليه كما يبين له فوائد ترك المنكر ويعلم ما يؤول إلى ذلك من خير، من هنا يبن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأعرابي قيمة المساجد ودورها وأهمية تعظيمها وما يعمل فيها مما يخالف عمله تماما.
خامساً:- إن إزالة المنكر والقضاء على المفاسد لا تكون بالعنف والشدة والتشهير والمواجهة بل إن الدعوة إلى الخير وإزالة الشر الأصل أن يكون بالحكمة واللطف واللين، وليس من الحكمة واليسر ترك إزالة المنكر وترك مواجهة الفساد، بل يجب مواجهته بالحكمة والرفق لأنه يؤدي إلى القبول والرد الجميل وعدم إرادة المواجهة من الطرف الآخر، ولهذا أدى موقف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الأعرابي إلى تأثره الكبير لموقف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه وإلى ردة فعل مع الصحابة اقرأه في قوله: {اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحداً} تصور معي فقد أراد أن يحرم العالم كله من رحمة الله بسبب ذلك الموقف الشديد من الصحابة رضي الله عنهم، ومعالجة المنكر باليسر والرفق يحصل منه المطلوب بل يحصل ما هو أكبر مما لو أراد معالجته بالعنف وانظر كيف تقبل الرجل توجيه النبي ـ صلى عليه وسلم ـ بالامتنان والدعاء له.
فأنت تجد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استعمل مع هذا الرجل جانب اللين والرفق لأنه جاهل بلا شك، لأنه لا يمكن لمن علم حرمة المسجد ووجوب تعظيمه أن يقوم أمام الناس ليبول في جانب منه.
ولهذا نظائر في السنة وعمل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن ذلك حديث العاطس في صلاته والمسيء صلاته.
وأما أمثلة القسم الثاني:
فالمثال للنوع الأول: الواقع في المنكر مع علمه بالحكم وبحثه عن التوبة.
أخرج البخاري من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله غليه وسلم ـ جاءه رجل فقال يا رسول الله: " هلكت وأهلكت". قال: ما أهلكك قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم. فسأله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: هل تجد رقبة فقال: لا. فسأله هل يستطيع أن يصوم شهرين متتابعين فقال: لا فسأله هل تستطيع إطعام ستين مسكيناً؟ فقال: لا ثم جلس الرجل فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بتمر فقال: (خذ هذا فتصدق به ) يعني كفارة، فقال: أعلى أفقر مني يا رسول الله ما بين لابتيها – يعني المدينة – أهل بيت أفقر مني، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: ( أطعمه أهلك). هكذا ورب الكعبة يكون الدين.
وصف المشكلة:(/3)
كتب الله الصيام على العباد وحرم عليهم بعضاً مما أحله لهم في نهار الصيام ومما حرمه عليهم مقارفة زوجاتهم نهاراً في شهر الصيام وشدد على من أقترف ذلك ووقع أحد المسلمين في مقارفة أهله في نهار رمضان مع علمه بالحرمة، ولما قضى وطره استيقظ بصره وبصيرته وأنب ضميره وسعى لترك ما وقع فيه وعزم على التوبة مما جرى فتوجه فوراً إلى الرباني العظيم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليستجلي منه الأمر إزاء ما اقترفه وجاء إليه وهو مقر بما اقترفه عالماً بعقوبة جرمه تائباً خائفاً مصرحّاً للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما حدث منه من مجامعة أهله في نهار رمضان مبيناً وقوعه في سبب هلاكه وهلاك زوجته لأنه ربما أنه أرغمها على ذلك أو أنهما تراضيا عليه فإن أرغمها فقد تصور أنها هالكة معه وإن كانت قد رضيت فربما أنه مهد لها هو فكان سبب هلاكها معه.
فما الذي حدث: لقد تقبل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمر بهدوء دون تشنج وإنما بين له ما الذي يجب عليه من الكفارة ونقله من الأعلى إلى الأدنى وفي كل ذلك يعتذر الرجل بعدم القدرة ويأمره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم بالجلوس لعله يجد له ما يبرئ به ذمته ويكفر به عن خطيئته وخلال هذا الجلوس جرت الأريحية والأمن في دم الرجل الذي جاء في أول وقته قلقاً خائفاً خائراً يندب حظه ويخاف عقاب ربه ويسأل عما يجب أن يفعله، دب الأمن في قلبه وجرى الهدوء في روعه من حسن الحكمة التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم في تهدئته ولم يمكث كثيراً حتى جاء أحد المسلمين بزنبيل كبير فيه تمر يكفي لستين مسكيناً فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجل وقال له خذ هذا التمر وكفر به عن خطيئتك، لكن الرجل وبعد أن ذهب عنه الروع أحب أن يعود بالتمر لأهله لأن الإسلام دين رحمة وعطاء فجرأه ذلك على أن يضع حاله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبصورة حصرية، بأنه أحوج من بالبلد، ومن هنا ضحك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تعجبا من هذا الذي جاء هارباً خائفاً في أول أمره ثم لما ذهب عنه الروع أراد أن يعود محملاً بالتمر إلى أهله.
والخلاصة: أن الرجل يعلم حرمة الجماع في نهار رمضان للزوجة فوقع فيه، ولما قضى حاجته عن زوجته فزع من خطيئته وعلم كبير جرمه فهرب إلى العالم الرباني محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام ليكشف له عما ستر الله تعالى متسائلاً عن النجاة من هذا الهلاك الذي وقع فيه فرد عليه الرسول بهدوء ورحمة وستر مبينا له ما يلزمه من كفارة، لكن الرجل وقد هدأ روعه الرسول في استقباله اعتذره بالعجز عما يلزمه. فحاول الرسول مساعدته ليطهره من ذنبه، لكن أريحية الرجل اتسعت بعد ذهاب الخوف منه فبعد أن أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم التمر أخبره بواقع حاله وحاجته حتى يظفر بالتمر إن أمكن وقد تحقق له ما صبا إليه بعد أن تعجب الرسول صلى الله عليه وسلم منه بمعاملة ملؤها الحب والرحمة والشفقة حيث أمره بأن يطعم أهله التمر.
ومن المعلوم أنه جرم عظيم أن يتعمد الإنسان جماع زوجته وهو صائم في نهار رمضان ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن كشف له الرجل سره، ماذا عمل، هل تكلم عليه وزجره ووبخه وفضحه على رؤوس الأشهاد، لا، لأن الرجل جاء تائباً نادماً، لا معرضاً ولا مستهتراً ولا غير مبال بما جرى منه ومن هنا على العلماء والدعاة أن يستخلصوا العبر التي منها:-
-أنه لا بد من التفريق بين مرتكب المنكر الذي يثوب إلى رشده ويجيء تائباً نادماً باحثاً عما يلزمه، الرجل الذي يأتي مستنجداً ويطلب تخليص نفسه مما وقع فيه وبين الرجل الذي يستمري فعل المنكر ويظهر وهو معرض عن الحق مستهزئ غير مبال بما حصل ويحصل معاند ينتصر لمنكره.
فالأول: تجب معاملته بالرفق واللين وعدم زجره وتوبيخه كما عامل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الرجل حيث رده إلى أهله ومعه الغنيمة يحملها إلى أهله.
وكثير من الناس اليوم يسبون ويسخرون ويهزؤون ممن يفشي لهم سره ويطلب منهم نصحه وبيان حكم الله في فعله.
وهذا كثير في السنة كالرجل الذي جاء يريد حل الزنا له وقصته معروفة.
والمثال للنوع الثاني:
قصة الرجل الذي لبس خاتماً حيث رأى النبي صلى الله عليه وسلم بيد رجل خاتما من ذهب وأقر بعد سؤاله أنه من ذهب فقال النبي صلى الله عليه وسلم" يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده" ثم نزع الخاتم من يده ورمى به، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم قيل للرجل: خذ خاتمك وانتفع به، فقال: والله لا آخذ خاتماً طرحه النبي صلى الله عليه وسلم.(/4)
وهذا يختلف تماماً في معاملته عن الرجل الذي قبله إذ أن الرجل الذي قبله جاء خائفاً نادماً يلتمس من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدله على تكفير ذنبه جاء هارباً ماقتاً لجرمه أما هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل معه شيئاً من الشدة والزجر وذلك لأنه عالم بالتحريم لكنه متلبس بالمنكر مستهين به محتقر له لكونه غافلاً عنه فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المنهج أن ينبهه فهذا لم ينزع الخاتم منه مباشرة بل قرره بالسؤال عن ماهيته فأجاب بأنه خاتم من ذهب وكان اللائق به أن يخلعه مباشرة بعد أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عنه لكنه لم يفعل إما إنه كان غافلاً ذاهلاً أو أنه كان مستصغراً للمنكر لم يدرك حجمه، ولهذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين كبر المنكر وفحش العمل فبين بهذا التشبيه ما يؤدي إلى زجر المقترف عن فعله وعن حقيقة لبس خاتم الذهب ثم أراد لفت النظر حتى لا ينساه الناس ويعلموا جد التحريم فشد على الخاتم فنزعه وألقاه في الأرض فكانت رسالة قوية لذلك المؤمن هزت مشاعره وعرضت أمامه قبح المنكر وإن كان صغيراً في نظر فاعله ومن هنا أقلع فوراً عن ملامسته وأدب نفسه بعدم أخذه الخاتم حتى ولو للبيع إزاء ما اقترفه من لباس مخالفا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وهذه غاية الحكمة المناسبة لحال الملابس للمنكر فصلوات ربي وسلامه عليه.
أما المثال للقسم الثالث: فإنه ذلك الرجل الذي جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بشماله فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل بيمينك) فقال: لا أستطيع فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (لاستطعت) فشلت يده فما رفعها. وقد جاء في الحديث أنه ما تركها إلا تكبراً.
وتوصيف المشكلة: أن اليمن خير وبركة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء طيب فكان يستعمل يمينه في كل ما فيه طهارة ونقاء كالأكل والشرب واللباس ويستعمل الأخرى للقاذورات كالاستنجاء والاستجمار ونظافة الأنفس ويؤخرها في اللباس ونحوه، وإلى ذلك دعا المسلمين وعلمهم وأدبهم وأخبرهم أن الشيطان يستعمل شماله ونحن مأمورون بمخالفته وعدم إتباعه وهذا الرجل كان يعلم الحكم فأراد مخالفته ومارس ذلك بين يدي المعلم والمشرع صلوات الله وسلامه عليه فتلبس بالمنكر مع العلم به وسابق الإصرار عليه ممارساً الكبر والعناد. ولما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم يأكل بشماله متبعاً للشيطان مخالفاً أمر الرحمن نبهه قائلاً(كل بيمنك) لعله أن يكون في فعله غافلاً أو ناسياً مع كونه في كامل صحته، فرد هذا بجرأة فائقة وسوء أدب منقطع النظير راداً للحق ورافضاً للتوجيه والأمر متجاوزاً صاحب المقام بقوله [ لا أستطيع ] فكان الرد حاسماً والجواب حاضراً والعقاب أليماً جزاء ما اقترفته يده بالدعوة عليه وتوقفت حركة يده -نسأل الله العافية-ومن هنا تظهر الحكمة العالية للرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته ونحن بحاجة ماسة لممارسة هذا المنهاج ورصده في تعاملنا مع المدعوين والمخالفين والمناوئين فإذا أدركنا ذلك بعلم ودراية كثر المستجيبون وقل الأعداء ووضح منهج الإسلام للجميع وما تمر به أمتنا اليوم يحتاج إلى رصد هذه الأحوال وعرضها على ورشة عمل دعوية حتى لا تتداخل الأمور فتكثر الأعداء ونعدم الأصدقاء فنبدأ بمواجهة المنكرين بحزم وعلم ونتلطف بالغافلين ونهدئ من روعة التائبين ونُعَلِم الجاهلين، كل ذلك بحكمة بالغة.
(ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً )(/5)
الحكمة من الجهاد
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ ... 28/5/1424هـ
السؤال
هل الحكمة من وراء جهاد الطلب كان فقط منع الطغاة والحكام من أن يسمع الناس رسالة الإسلام؟ أم أنه يجب أن تحكم كل بلاد الأرض بالشريعة الإسلامية؟ حيث إن الأرض ملك لله –سبحانه-، ويجب أن يساس أهلها بحكمه وشرعه –عز وجل-. أرجو التفصيل بالأدلة.
الجواب
الجهاد في سبيل الله أعم من معنى القتال أو الحرب، فهو يشمل جهاد النفس، والهوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الظلم، ونشر الدعوة إلى الله بكل مجالاتها، ولكن لما كان الجهاد في سبيل الله قد ورد في القرآن بلفظ (القتال) بالنفس والمال في مواضع كثيرة ظن بعض الناس أن الجهاد مقصور على القتال، وإن كان أشمل منه قال –تعالى-: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ"
[العنكبوت: 69]وقوله:" فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً" [الفرقان: 52] وهاتان الآيتان نزلتا بمكة قبل الإذن بالقتال، مما يؤكد الجهاد في سبيل الله بمعناه العام، وعامة الآيات القرآنية في الجهاد تحدد أسباب الحرب (القتال) هي: دفع الظلم، ونصرة المظلوم، ومنع الفتنة في الدين والإخراج من الوطن بغير حق، وكفالة حرية العبادة لأهل الكتاب وغيرهم – في غير جزيرة العرب –، وبهذا فالحرب في الإسلام عالمية المنزع إنسانية الهدف، لتكون كلمة الله هي العليا، ليس فيها منزع لعدوان على أحد، ولا مطمع في التوسع لحدود الدولة أو زيادة ثرواتها على حساب الغير، لقد جاءت مبادئ الإسلام عالمية كونية لتحرير الضمير والفكر من ترسبات الوثنيات بأنواعها وأشكالها، فربط الاعتقاد بالفهم والاقتناع "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ"
[البقرة:256]، وربط الإيمان بالدليل والبرهان عند إرادة الجدال والحوار "وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" [البقرة: 111]، وربط العلم العملي بالتقوى "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ" [البقرة: 282] ولم تكن الغزوات ولا السرايا في عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين إلا تطبيقاً عملياً لمعنى الجهاد الخاص (القتال أو الجهاد) بعد توافر الأسباب الشرعية للحرية المشار إليها أعلاه. فغزوة بدر الكبرى البادئ فيها المشركون، حيث اضطهدوا المسلمين في مكة وصادروا أموالهم واضطروهم إلى الخروج من أوطانهم، فأراد النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يقتص من مشركي مكة باعتراض قافلة لهم قادمة من الشام، فخروج المسلمين لم يكن لغرض القتال وإنما للاستيلاء على عير قريش من باب المقاصة أو المعاملة بالمثل، قد أراد المؤمنون شيئاً وأراد الله شيئاً آخر "كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ" [الأنفال: 5] أي: كارهون للمعركة؛ لأنهم على غير استعداد.(/1)
أما غزوة أحد فكانت هجوماً من مشركي مكة على المدينة انتقاماً لهزيمتهم في بدر، ومع هذا تردد رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في الخروج في أول الأمر مما جعله يستشير أصحابه، ثم أخذ رأي الأكثرية منهم الداعين إلى القتال، أما غزوة المريسيع فإن سببها ما بلغه عن يهود بني المصطلق أنهم يجمعون لحرب المسلمين جموعاً كبيرة من قبائل العرب، أما غزوة الأحزاب وبني قريظة فواضح أمرها إذ إن يهود بني قريظة نقضوا العهد الذي أبرموه مع النبي –صلى الله عليه وسلم– في الوثيقة الشهيرة في التاريخ، فتحالفوا مع المشركين، وفي غزوة الحديبية تجلى حب النبي – صلى الله عليه وسلم – ورغبته في الصلح، وإنما أراد العمرة والطواف بالبيت، لكن مشركي مكة منعوه ونقضوا العهد الذي بينهم وبينه، فخرج إليهم بقرابة عشرة آلاف من المؤمنين، وعسكر قرب مكة فجاءه بعض وجهاء قريش كالعباس بن عبد المطلب، وأبي سفيان بن حرب فأسلموا وعادوا إلى مكة بأمان إلى أهلها، ودخل النبي والمؤمنون مكة بصلح مع وجهاء قريش كما هو مذهب الشافعي ورواية لأحمد، فكان الفتح المبين للإسلام والمسلمين، أما معركة حنين فسببها أن قبيلة هوازن وثقيف وبعض القبائل تجهزوا لحرب المسلمين والهجوم على المصلين في مكة، فخرج إليهم النبي –صلى الله عليه وسلم– ومن معه من المسلمين وحاصروهم حتى استسلموا وقتل من قتل، وأسلم عدد كبير، أما غزوة مؤتة وتبوك فسببها أن زعيم الروم قتل أحد رسل النبي – صلى الله عليه وسلم- الذي قام بتبليغه رسالة الدعوة إلى الإسلام، والعرف الجاري بين الدول والشعوب أن الرسل لا تقتل، وكانت دولة الروم آنذاك تحرض قبائل العرب المجاورة على قتال أهل المدينة، فجمعوا بقيادة (هرقل) أكثر من مئتي ألف مقاتل، فقاتلهم المسلمون فكان ما كان مما قدره الله، ومع هذا كله فإن الإسلام يمنع ويحرم (المباغتة) التي تعتبرها كل دول العالم اليوم مبدأ من مبادئ الحرب، ففرض على المسلمين أن ينذروا عدوهم ويعلنوه بالحرب فلا يؤخذ العدو على غرة قال –تعالى-: "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ"
[الأنفال: 58]يجوز للمسلمين في حالات خاصة أن يبيتوا عدوهم فيعاملوا المشركين عند القتال بمثل معاملتهم للمسلمين "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ" [النحل: 126]. قال ابن القيم في (زاد المعاد) :"لما قدم النبي – صلى الله عليه وسلم – صار الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوا ...، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه فلم يحاربوه ولم يصالحوه، وهؤلاء ثلاثة أقسام منهم من كان يحب ظهور الرسول وانتصاره، وهؤلاء أسلموا بعد ذلك"، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وهزيمة المسلمين – وهؤلاء آلت حالهم بعد ذلك فانضموا مع المحاربين له، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن وهم المنافقون، فعامل – صلى الله عليه وسلم – كل طائفة من هذه الطوائف بما يناسب حالها مما أمره الله به.
والناظر المتأمل في سورة (براءة) وهي من آخر السور نزولاً يجد أن (41) آية من أول السورة تحدثت عن الكفار المفاوضين فأوجبت لهم الوفاء بعهودهم إلى مدتهم، وقتال من نقض عهده منهم، كما بينت وجوب قتال الكفار الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر أو يساعدون غيرهم على قتال المسلمين، ونهت آيات أخرى عن قتال الكفار الذين لم يباشروا قتال المسلمين أو إعانة عليهم قال –تعالى-:"لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [الممتحنة: 8-9] وبقية آيات سورة (براءة) تحدثت عن المنافقين فأوجبت معاملتهم على حسب ما يظهر منهم، فإن حاربوا المسلمين أو ظاهروا عليهم حوربوا، وإن سكتوا وسالموا كف عنهم وعوملوا معاملة المسلمين.
وأرى أن عامة آيات القتال ليس من باب (جهاد الدفع)، أما (جهاد الطلب) فيكون بعرض الدعوة على الكفار باللين والحكمة وعدم الإكراه قال –تعالى-:"وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"(/2)
[يونس: 99]وقال –تعالى-: "يا أيها الرسول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" [المائدة: 67] وقال –تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" [النحل: 125] فإذا رد المدعوون رسالة الله فلم يقبلوها ولم يقبلوا الدخول تحت أمان المسلمين بدفع الجزية، وقاموا بإعداد العدة لمقاتلة المسلمين بالمظاهرة عليهم وجب على المسلمين قتالهم حينئذٍ ولا يسمى هذا قتال طلب؛ لأن الطلب بدأ بالجهاد بالدعوة وانتهى بالقتال، ثم إن الجهاد العسكري في الوقت الحاضر لا يوجد بالمعنى المراد بجهاد الطلب، وإنما هو جهاد الدفع لا غير إذا اعتدي على دولة من دول الإسلام شرع لأهلها أن يجاهدوا المعتدي بالسلاح دفاعاً عن دينهم وأموالهم وأعراضهم، ويتصور بعض المسلمين خطأ يدعو إلى جهاد الكفار بالسلاح قبل دعوتهم وتعريفهم بالإسلام، وهذا خطأ يتعين تصحيحه.(/3)
الحكمة من نزول القرآن مفرقاً ... ... ...
... ...
... ...
28-03-2004
أجمع أهل العلم من أمة الإسلام على أن القرآن الكريم نزل من السماء الدنيا على قلب خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم مفرَّقاً على فترات، استغرقت أكثر من عشرين عاماً.
وكان من وراء نزول القرآن مفرقاً على رسول الله مقاصدُ وحِكَمٌ، ذكر أهل العلم بعضاً منها. وفي مقالنا هذا نحاول أن نقف على بعض تلك المقاصد والحِكَم.
فمن مقاصد نزول القرآن مفرقاً تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم ومواساته، لما ينتابه من مشقة تبليغ الرسالة وما يلاقيه من عنت المشركين وصدهم، فكان القرآن ينزل عليه بين الحين والآخر تثبيتًا له وإمدادًا لمواجهة ما يلاقيه من قومه، قال تعالى مبينًا هذا المقصد: { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [الفرقان:32] فالمشركون بالله والمنكرون لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم قالوا معاندين: هلا نزل عليه القرآن مرة واحدة، كما نزلت التوراة والإنجيل؟! فردَّ الله عليهم قولهم ذلك ببيان أن الإنزال على تلك الصورة إنما كان لحكمة بالغة، وهي تقوية قلب النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته؛ لأنه كالغيث كلما أنزل أحيا موات الأرض وازدهرت به، ونزوله مرة بعد مرة أنفع من نزوله دفعة واحدة.
ثم من مقاصد تنزيل القرآن مفرقاً الرد على شُبه المشركين أولاً بأول، ودحض حجج المبطلين، إحقاقًا للحق وإبطالاً للباطل، قال تعالى: { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [الفرقان:33] ففي الآية بيان لحكمة نزول القرآن مفرقاً، وهو أن المشركين كلما جاءوا بمثل أو عَرْضِ شبهة ينزل القرآن بإبطال دعواهم وتفنيد كذبهم، ودحض شبههم.
ومن المقاصد المهمة لنزول القرآن مفرقاً تيسير حفظه على النبي صلى الله عليه وعلى أصحابه الذين لم يكن لهم عهد بمثل هذا الكتاب المعجز، فهو ليس شعراً يسهل عليهم حفظه، ولا نثراً يشبه كلامهم، وإنما كان قولاً ثقيلاً في معانيه ومراميه، فكان حفظه يحتاج إلى تريُّث وتدبر وتؤدة، قال تعالى: { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً } [الإسراء:106] أي أنزلناه على فترات لحكمة اقتضت ذلك، وهي أن نزوله مفرقاً أدعى إلى فهم السامع،. وفي قوله تعالى: {ورتلناه ترتيلاً} إشارة إلى أن تنزيله شيئاً فشيئاً إنما كان كذلك ليتيسر حفظه وفهمه ومن ثَمَّ العمل به.
ومن المقاصد التي أُنزل القرآن لأجلها مفرَّقاً، التدرج بمن نزل في عصرهم القرآن؛ فليس من السهل على النفس البشرية أن تتخلى عما ورثته من عادات وتقاليد، وكان عرب الجاهلية قد ورثوا كثيراً من العادات التي لا تتفق مع شريعة الإسلام، كوأد البنات، وشرب الخمر، وحرمان المرأة من الميراث، وغير ذلك من العادات التي جاء الإسلام وأبطلها، فاقتضت حكمته تعالى أن يُنزل أحكامه الشرعية شيئاً فشيئاً، تهيئة للنفوس، وتدرجاً بها لترك ما علق بها من تلك العادات. يشير إلى هذا المعنى أن تحريم الخمر لم ينزل دفعة واحدة، بل كان على ثلاث مراحل، كما دلت على ذلك نصوص القرآن الكريم. وفي قوله تعالى: { وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً } إشارة إلى أن نزوله كان شيئاً فشيئاً حسب مصالح العباد، وما تتطلبه تربيتهم الروحية والإنسانية، ليستقيم أمرهم، وليسعدوا به في الدارين.
ومن مقاصد نزول القرآن مفرقًا - إضافة لما سبق - مسايرة الحوادث المستجدة، والنوازل الواقعة، فقد كان القرآن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم لمواكبة الوقائع الجديدة، وبيان أحكامها، قال تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل:89] فكثير من الآيات القرآنية نزلت على سبب أو أكثر، كقصة الثلاثة الذي تخلَّفوا عن غزوة تبوك، وحادثة الإفك، وقصة المجادِلة، وغير ذلك من الآيات التي نزلت بياناً لحكم واقعة طارئة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يتوقف عن البتَّ في حكم مسألة ما حتى ينزل عليه الوحي، من ذلك مثلاً قصة المرأة التي ورد ذكرها في سورة المجادلة، وكان زوجها قد قال لها: أنتِ علي كظهر أمي، فاشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولَ زوجها، فأمرها أن تتمهل ريثما ينزل الله في أمرها حكماً، فنزل فيها قول الله تعالى: { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم } إلى قوله: { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [المجادلة: 2-3] فكان فيما نزل عليه صلى الله عليه وسلم تقريرٌ شافٍ، وحكمٌ عادلٌ، لا يسع أحداً رده أو الإعراض عنه.(/1)
وأخيراً فإن من المقاصد المهمة التي لأجلها نزل القرآن مفرقاً الدلالة على الإعجاز البياني التشريعي للقرآن الكريم، وذلك أن القرآن نزل على فترات متقطعة قد تطول وقد تقصر، ومع ذلك فنحن لم نجد اختلافاً في أسلوب بيانه، ولا خللاً في نسق نظمه، بل هو على وزان واحد من أول آية فيه إلى آخر آية منه، وهذا من أهم الدلائل على أن هذا القرآن لم يكن من عند البشر بل هو تنزيل من رب العالمين، قال تعالى: { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود:1] وقال سبحانه في حق كتابه: { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [42].
ومن المفيد أن نشير في نهاية المطاف إلى أن أغلب أهل العلم - المتقدمين منهم خاصة - يستعملون مصطلح "التنجيم" للدلالة على أن القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مفرقاً، وأنه لم ينزل جملة واحدة.
ولا شك أن لنزول القرآن مفرقاً مقاصد أخرى غير ما ذكرناه، وإنما اقتصرنا على أهمها. نسأله تعالى التوفيق والسداد والقبول في أعمالنا، إنه خير مسؤول، والحمد لله رب العالمين. ... ...(/2)
الحكمة واللطف عند يوسف عليه السلام 28/5/1426
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
ما زالت الوقفات متصلة مع سورة نبي الله يوسف _عليه السلام_، وأقف في هذه المقالة مع قول الله _جل وعلا_: "وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" لما دخلوا على يوسف _عليه السلام_ حصل المطلوب ووفوا بوعدهم له، وقد كان ينتظر هذه اللحظة وهنا تبدأ مرحلة جديدة فأول شيء فعله يوسف _عليه السلام_ أنه آوى إليه أخاه أي أخذه وحده، وقد ذكر المفسرون كيف آوى إليه أخاه أي كيف ضم إليه أخاه بعضها قد يتمشى مع السياق وبعضها تفاصيل لا دليل عليها، فما وافق النص نأخذ به وما عداه فلا، والشاهد هنا أنه قد ضم أخاه إليه وقال له: أنا أخوك، ومن اللفتات التي أقف معها هنا هذه الحكمة والذكاء والسياسة، فلأنه سيسر إليه بأمور حساسة، وكان هذا الوافد الجديد مستحقاً لمزيد من الإكرام، ضمه إليه، وأسر له قوله: أنا أخوك.
فكان هذا أول واحد من أبناء يعقوب يعرف أن يوسف حي وموجود.
ثم ثانياً قال له: "فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"؛ لأن أعمالهم معي وأبي سيكون لها نتائج ستراها في المستقبل فهو يهدئ من روع أخيه حتى لا يفضحه، وهذا دليل على جواز التناجي للمصلحة.
ثانياً: أنه أسر له بسر، وهذا دليل على حفظ بنيامين للسر؛ لأنه لو أفشى السر لانتهى الأمر، وذكر المفسرون أنه أخبره بما سيفعل، تهيئة له إذا اتهم بالسرقة، وأمثال تلك التهم تحتاج إلى استعداد نفسي، ليحسن التعامل معها البريء البعيد عنها.
كل هذه أمور مهمة راعاها يوسف _عليه السلام_ مع أخيه استعداداً للمرحلة القادمة، فضمه أولاً وأخبره أنه أخوه مما يعطيه اطمئناناً وراحة، ثم قال له بالنسبة لتصرفات إخوانه لا تقف عندها، ثم بعد ذلك أخبره أنه سيدس الصواع في رحله من أجل أن يبقيه معه.
وهنا نرى في تصرفات يوسف حسن الأسلوب والحكمة وبعد النظر والتلطف لما يريد ونخلص من هذا إلى أن الأمور العظيمة تحتاج إلى تلطف، وأشار إلى ذلك يوسف _عليه السلام_ "إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ" (يوسف: من الآية100)؛ لأنه يفعل بوحي ويعمل بوحي، الأمور العظيمة تحتاج إلى هدوء فإذا كانت هناك مشكلة كبرى في بيت أو بين أسرتين أو بين عائلتين أو بين بلدين تحتاج إلى لطف في التعامل معها لحساسيتها، العجلة أو التصرفات غير المدروسة تأتي بعكس المراد، فيوسف تلطف بوضع البضاعة في الرحال والتلطف في طلبه لأخيه، والتلطف في تعامله مع إخوانه، والتلطف عندما آوى إليه أخاه، وعندما أخبره وكذلك في وضع الصواع، كل هذه مراحل سلك فيها الحكمة "وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" (البقرة: من الآية269)، فالقادة والمسؤولون سواء في البيوت أو في المؤسسات أو في الدول يحتاجون إلى هذا الأمر ليقودوا من تحت ولاياتهم إلى بر الأمان، وإلا كان البلاء والشقاء، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.(/1)
الحكمة
إلى متى عدم الحكمة؟
تقديم
أهمية الموضوع
معنى الحكمة
الحكمة في القرآن الكريم
الحكمة في السنة
الحكمة كما عرفها بعض العلماء
أقسام الحكمة
أمثلة من الحكمة في القرآن الكريم
أمثلة من الحكمة في السنة النبوية
إلى متى عدم الحكمة؟
عندما ألقيت محاضرة (الحكمة) في الرياض، كان أول سؤال يرد إلي بعد الانتهاء من المحاضرة: (إلى متى الحكمة) ؟ فازدادت قناعتي أن هذه الصحوة تحتاج إلى جهود مضاعفة لتوجيهها إلى المنهج الشرعي، منهج أهل السنة والجماعة، قبل أن تزل العقول والأقدام.
وإذا كانت بذلت جهود مباركة -ولا تزال تبذل- من أجل عودة الناس إلى دينهم وعقيدتهم، وحيث حققت هذه الجهود _بعد توفيق الله، وبتوفيق منه سبحانه وتعالى- تلك الآثار الإيجابية التي نراها من عودة الأمة إلى الله جماعات وآحادا، رجالاً وركباناً، فإن واجب العلماء وطلاب العلم والدعاة أن يوجهوا جل اهتمامهم لتربية هذه الجموع، ويبينوا لهم الطريق الصحيح، لئلا تغرق السفينة بمن فيها، فإن العبرة ليست (بالكم)! ولكن (بالكيف)!!.
ولذا رأيت أن من الحكمة طرح موضوع الحكمة بحكمة، وأسأل الله التوفيق والسداد وحسن القصد والمآل. المؤلف
تقديم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (آل عمران:102).
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً" (النساء:1).
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً" (الأحزاب:70، 71).
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله -جل وعلا-: "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" (البقرة:269).
وقال _سبحانه_:"ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل: من الآية125).
فلما للحكمة من مكانة عظيمة من الكتاب والسنة، ولحاجة الأمة حاضراً ومستقبلاً إليها في كل شؤونها، ولخفاء معنى الحكمة على كثير من المسلمين، فقد قمت ببحث هذا الموضوع في ضوء القرآن الكريم، مسترشداً بآياته، مستشهداً بقصصه، متأملاً لأوامره ونواهيه، مع النهل من معين السنة في فهم معنى الحكمة؛ لأن السنة هي المصدر الثاني من مصادر تفسير القرآن الكريم وفهمه.
كما أفدت من كلام السلف من الصحابة ومن بعدهم، توضيحاً لمعاني الحكمة ومدلولاتها، وقد بذلت جهدي، وحرصت على ضرب بعض الأمثلة من الواقع المعاصر تقريباً للفهم، وتحقيقاً للقصد.
وقد عشت مع هذا الموضوع مدة طويلة متأملاً وباحثاً ومحققاً، ولم أقدم على تدوينه ونشره إلا بعد قناعتي بأنه قد استوى على سوقه، مع حاجة الناس إليه.
أسأل الله أن يحسن لنا المقاصد والنيات، وأن يوفقنا للحكمة في أقوالنا وأفعالنا، ونياتنا، إنه نعم المولى ونعم النصير.
أهمية الموضوع
تظهر أهمية موضوع الحكمة من خلال التأمل في العناصر التالية:
1- أن لفظ "الحكيم" ورد في القرآن الكريم عشرات المرات (1).
2- أن "الحكيم" اسم من أسماء الله _تعالى_.
3- أن الله قد أمر بالحكمة، فقال _سبحانه_: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" (النحل: من الآية125).
4- أن الله أثنى على صاحب الحكمة، فقال: "وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً" (البقرة: من الآية269)، وامتن على لقمان حيث آتاه الحكمة، فقال: "وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ" (لقمان: من الآية12).
__________
(1) - ورد بلفظ "حكيم" (81) مرة، و"حكيما" (16) مرة.(/1)
5- أن الله نسب الحكمة إلى نفسه، وجعل إيتاءها من عنده، فقال: "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ" (البقرة: من الآية269)، وقال: "وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ" (لقمان: من الآية12). وقال: "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً"(يوسف: من الآية22)، وقال: "وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ" (البقرة: من الآية251) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
6- أن الحكمة،هي: الفقه في دين الله، كما فسرها كثير من السلف، والرسول صلى الله عليه و سلم يقول: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " (1).
7- أن الحكمة ضالة المؤمن، متى وجدها فهو أحق بها.
8- أن الرسول صلى الله عليه و سلم دعا لابن عمه، عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- فقال: " اللهم علمه الحكمة " (2).
9- أن مدار نجاح الدعوات على الحكمة.
10- الفهم الخاطئ لمعنى الحكمة من قبل كثير من الناس.
11- مداهنة الظالمين، وضياع الحق، والسكوت على الباطل في كثير من بلاد المسلمين باسم الحكمة.
12- أن الحكمة ظلمت من قبل الخاصة والعامة، فالخاصة وهم بعض صغار طلاب العلم، فمنهم من يدعيها لنفسه، وينسب أعماله إلى الحكمة، وقليل ما هم.
والعامة يصفون كل من أمرهم بخلاف ما هم عليه من هوى أو شهوة، وأنكر بدعهم وضلالاتهم، يسمونه بعدم الحكمة، كالتطرف والعجلة، ونحو ذلك مما يضاد الحكمة.
13- أن الصحوة الإسلامية في يقظتها المعاصرة أحوج ما تكون إلى الحكماء.
14- أن بعض المواقف والأعمال التي قامت بها بعض الجماعات الإسلامية، وبعض الدعاة الغيورين كانت تفتقر إلى الحكمة، كالدخول في معارك عسكرية مع الأنظمة، حتى وإن كانت كافرة (3) وقد جرت مثل هذه الأعمال على أمتنا عموماً، وعلى الدعاة خصوصاً الويلات.
ومثل ذلك أسلوب الاغتيالات، أو إحراق أماكن الفساد في بلد لا يملك فيه المسلمون السلطة.
وكل ذلك بسبب عدم الحكمة الناشئ عن الجهل في فهم النصوص ودلالاتها.
ومن خلال ما سبق تتضح أهمية الحكمة، بل أهمية الحديث عنها في ضوء القرآن الكريم.
معنى الحكمة
ورد للحكمة عدة معان، وهي معان خاصة وعامة، وسأعالج هذه المعاني من خلال القنوات التالية:
1- المعنى اللغوي.
2- الحكمة في القرآن الكريم.
3- الحكمة كما وردت في السنة.
4- الحكمة كما عرفها بعض العلماء.
ثم بعد ذلك أذكر خلاصة تجمع بين هذه المعاني.
1- المعنى اللغوي للحكمة
قال ابن فارس: الحاء والكاف والميم أصل واحد، وهو: المنع، وأول ذلك الحكم، وهو المنع من الظلم، وسميت حكمة الدابة؛ لأنها تمنعها.
والحكمة هذا قياسها؛ لأنها تمنع من الجهل، والمحكم: المجرب المنسوب إلى الحكمة، قال طرفة:
ليت المحكم والموعوظ صوتكما ... تحت التراب إذا ما الباطل انكشفا
أراد بالمحكم الشيخ المنسوب إلى الحكمة (4).
وقال ابن منظور:
قيل: الحكيم:
ذو الحكمة، والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم (5).
وقال الجوهري:
الحكم: الحكمة من العلم.
وصاحب الحكمة: المتقن للأمور.
وقد حكم- بضم الكاف، أي: صار حكيماً، قال النمر بن تولب:
وأبغض بغيضك بغضا رويدا ... إذا أنت حاولت أن تحكما
قال الأصمعي: أي: إذا حاولت أن تكون حكيماً، والمحكم -بفتح الكاف- هو الشيخ المجرب، المنسوب إلى الحكمة (6).
وقال في(تاج العروس):
والحكمة -بالكسر- العدل في القضاء كالحكم، والحكمة العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه، والعمل بمقتضاها، ولهذا انقسمت إلى علمية وعملية، ويقال: هي هيئة القوة العقلية العلمية.
وقيل: الحكمة: إصابة الحق بالعلم والعمل.
فالحكمة من الله: معرفة الأشياء، وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان: معرفته، وفعل الخيرات.
وأحكمه إحكاماً: أتقنه، ومنه قولهم للرجل إذا كان حكيما: قد أحكمته التجارب.
وأحكمه: منعه من الفساد (7).
وفي (المصباح المنير): الحكمة وزان قصبة للدابة، سميت بذلك؛ لأنها تذللها لراكبها حتى تمنعها الجماح ونحوه.
ومنه اشتقاق الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأرذال (8).
هذه أهم المعاني اللغوية التي وردت في الحكمة وأصلها.
وكلها تدور حول المنع؛ لأنها تمنع صاحبها من الوقوع فيما يذم فيه، أو ما قد يندم عليه، وتمنعه من اختيار المفضول دون الفاضل، أو المهم قبل الأهم.
الحكمة في القرآن الكريم
__________
(1) - البخاري (71)، ومسلم (1037) عن معاوية -رضي الله عنه-.
(2) - البخاري (3756).
(3) - وهذا لا يعني إبطال الجهاد، فالجهاد ماض إلى يوم القيامة ولكن الجهاد له شروطه وأسبابه وأحكامه.
(4) - معجم مقايس اللغة لابن فارس مادة (حكم) جـ 2/91.
(5) - لسان العرب مادة (حكم) 15/30.
(6) - الصحاح مادة (حكم) 5/1901.
(7) - تاج العروس مادة (حكم) 8/353.
(8) - المصباح المنير 1/200.(/2)
ورد لفظ الحكمة في القرآن الكريم عشرين مرة، في تسع عشرة آية، في اثنتي عشرة سورة، وقد ورد لعدة معان، وتفصيل ذلك كما يلي: اختلف المفسرون في تفسير الآيات الواردة بلفظ الحكمة، فنجد مقاتل -كما ذكر الرازي- يقول: تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه:
أحدها: مواعظ القرآن، قال -تعالى- في سورة البقرة، الآية: 231: "وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ" (البقرة: من الآية231) ومثلها في آل عمران.
وثانيهما: الحكمة بمعنى: الفهم والعلم، ومنه قوله – تعالى -: "وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً" (مريم: من الآية12)، وفي سورة لقمان (الآية: 12) "وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ" (لقمان: من الآية12) يعني: الفهم والعلم، وفي (الأنعام الآية: 89): "أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ" (الأنعام: من الآية89).
ثالثها: الحكمة بمعنى النبوة، ففي النساء 54: "فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" (النساء: من الآية54)، وفي (ص 20) "وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ" (صّ: من الآية20) وفي البقرة: "وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ" (البقرة: من الآية251).
ورابعها: القرآن بما فيه من عجائب الأسرار، ففي النحل 125"ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ" (النحل: من الآية125)، وفي (البقرة 269) "وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً" (البقرة: من الآية269)(1).
ويقول الفيروزآبادي: وردت -الحكمة- في القرآن على ستة أوجه:
الأول: بمعنى النبوة والرسالة، "وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" (آل عمران: من الآية48). "وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ" (صّ: من الآية20) "وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ" (البقرة: من الآية251). أي: النبوة.
الثاني: بمعنى القرآن والتفسير والتأويل، وإصابة القول فيه: "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً" (البقرة: من الآية269).
الثالث: بمعنى فهم الدقائق والفقه في الدين "وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً" (مريم: من الآية12).
الرابع: بمعنى: الوعظ والتذكير "فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" (النساء: من الآية54). أي: المواعظ الحسنة، "أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ" (الأنعام: من الآية89).
الخامس: آيات القرآن وأوامره ونواهيه "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" (النحل: من الآية125).
السادس: بمعنى حجة العقل على وفق أحكام الشريعة، "وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ" (لقمان: من الآية12) أي: قولاً يوافق العقل والشرع (2).
وقال ابن كثير:
قال علي بن طلحة عن ابن عباس: يعني المعرفة بالقرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله (3).
وقال -أيضاً-: روي عن ابن عباس مرفوعاً: الحكمة القرآن، يعني تفسيره.
وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ" (البقرة: من الآية269). ليست بالنبوة، ولكنه العلم والفقه والقرآن.
وقال إبراهيم النخعي: الحكمة: الفهم.
وقال أبو مالك: الحكمة: السنة.
وقال زيد بن أسلم: الحكمة: العقل.
وقال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هي: الفقه في الله، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله.
قال السدي: الحكمة: النبوة.
وهذه الأقوال ذكرها ابن كثير ثم عقب قائلاً: والصحيح أن الحكمة -كما قال الجمهور- لا تختص بالنبوة، بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة، والرسالة أخص (4) ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع، كما جاء في بعض الأحاديث (5).
وقال عبد الرحمن السعدي مفسرًا الحكمة:
الحكمة، هي: العلوم النافعة والمعارف الصائبة، والعقول المسددة، والألباب الرزينة، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال، ثم قال: وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة، التي هي: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام (6).
وقال القاسمي في تفسير الحكمة:
قال كثيرون: الحكمة: إتقان العلم والعمل، وبعبارة أخرى: معرفة الحق والعمل به (7).
وقال الرازي: والمراد بالحكمة: إما العلم، وإما فعل الصواب (8).
ونواصل الحديث عن (الحكمة) في كتاب الله كما بينها المفسرون.
فقد قال رشيد رضا مفسراً:
__________
(1) - انظر: التفسير الكبير للرازي 7/67 والحكمة في الدعوة إلى الله ص 20.
(2) - بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز 2/490 والحكمة في الدعوة إلى الله ص18.
(3) - تفسير ابن كثير 1/322.
(4) - لأن كل رسول نبي ولا عكس.
(5) - انظر: تفسير ابن كثير 1/322.
(6) - انظر: تفسير ابن سعدي 1/332.
(7) - انظر: تفسير القاسمي 1/245.
(8) - انظر: تفسير الرازي 7/67.(/3)
الحكمة: التمييز بين ما يقع في النفس من الإلهام الإلهي والوسواس الشيطاني (1).
قال الألوسي: وفي (البحر): إن فيها تسعة وعشرين قولاً لأهل العلم، قريب بعضها من بعض، وعد بعضهم الأكثر منها اصطلاحاً واقتصاراً على ما رآه القائل فرداً مهماً من الحكمة، وإلا فهي في الأصل: مصدر من الإحكام، وهو الإتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها (2).
أما ابن عاشور فقد قال:
وفسرت الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة، أي: بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض، ولا يغلط في العلل والأسباب (3).
ونختم أقوال المفسرين في الحكمة بما ذكره سيد قطب -رحمه الله- حيث فسر الحكمة بأنها:
القصد والاعتدال، وإدراك العلل والغايات، والبصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال (4).
هذه خلاصة لأهم أقوال المفسرين في تفسير معنى الحكمة في كتاب الله، ونستطيع أن نقول: إن المفسرين فسروا الحكمة بتفسيرين:
الأول: النبوة.
الثاني: العلم والإتقان، والتوفيق، والبصيرة، والعمل الصائب، ومنع الظلم، ووضع الشيء في موضعه، وكلها معان متقاربة.
الحكمة في السنة
السنة هي المفسرة للقرآن، وهي المصدر الثاني للتشريع، ولذا سأذكر بعض الأحاديث التي وردت في الحكمة مع الاختصار في ذلك:
وقد وردت بعض الأحاديث الصحيحة، وكثير من الأحاديث الضعيفة.
وسأقتصر على أهم الأحاديث الصحيحة في هذا الباب، مع ذكر بعض الأحاديث الضعيفة، وبخاصة المشتهر منها على الألسنة.
أولاً: الأحاديث الصحيحة:
1- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى صدره، وقال: " اللهم علمه الحكمة" (5) رواه البخاري.
قال البخاري: الحكمة: الإصابة في غير النبوة.
قال ابن حجر: واختلف المراد بالحكمة هنا:
فقيل: الإصابة في القول.
وقيل: الفهم عن الله.
وقيل: ما يشهد العقل بصحته.
وقيل: نور يفرق به بين الإلهام والوسواس.
وقيل: سرعة الجواب بالصواب.
ومنهم من فسر الحكمة هنا بالقرآن (6).
2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:"فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري ثم أطبقه " رواه البخاري (7).
3- وعن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :"لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها" (8). رواه البخاري.
والحكمة هنا فسرت بالقرآن، كما وردت في حديث آخر. (9)
4- وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:"إن من الشعر حكمة " (10). حديث صحيح.
قال ابن حجر: إن من الشعر حكمة، أي: قولاً صادقاً مطابقاً للحق.
وقيل: أصل الحكمة: المنع، فالمعنى: إن من الشعر كلاماً نافعاً يمنع من السفه (11).
5- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: "أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً، الإيمان يمان والحكمة يمانية " حديث صحيح (12).
قال ابن الصلاح: إن المراد بالحكمة: العلم المشتمل على المعرفة بالله (13).
ومعاني الحكمة في هذه الأحاديث قريبة من المعاني التي ذكرتها عند بيان الحكمة في كتاب الله.
ولعل مما يجدر ذكره هنا أن هناك بعض الأحاديث المشتهرة على الألسنة في الحكمة مع أن أسانيدها ضعيفة، مع الإشارة إلى جودة معناها، وأنها لا تخرج عن كونها حكماً، إذا ما يثبت صحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ومنها:
1- " إذا رأيتم الرجل قد أعطي زهداً في الدنيا وقلة منطق، فاقتربوا منه، فإنه يلقن الحكمة " رواه أبو هريرة، وروي عن أبي خلاد، وهو ضعيف (14).
2- " الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها " وفي لفظ: "حيث وجدها جذبها"، وهو مروي عن أبي هريرة وعلي، وهو ضعيف جداً (15).
3- "من أخلص لله أربعين يوماً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه ولسانه " روي عن أبي أيوب، وهو ضعيف (16).
__________
(1) - المنار 3/75.
(2) - روح المعاني 2/41.
(3) - التحرير والتنوير 3/61.
(4) - في ظلال القرآن 1/312.
(5) - البخاري (3756).
(6) - انظر: فتح الباري 7/100 والحكمة في الدعوة إلى الله ص 23.
(7) - البخاري (349)، ومسلم (163).
(8) - البخاري (73)، ومسلم (816).
(9) - انظر: فتح الباري 1/167.
(10) - انظر: فتح الباري 10/540، والحكمة في الدعوة إلى الله ص 24.
(11) - البخاري (6145).
(12) - البخاري (4388)، ومسلم (52).
(13) - فتح الباري 6/532، والحكمة في الدعوة إلى الله ص 24.
(14) - انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (508).
(15) - انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (4302).
(16) - انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (5369).(/4)
4- " الطمع يذهب الحكمة من قلوب العلماء" روي عن أنس، وهو موضوع (1).
5- " قلب ليس فيه حكمة كبيت خرب" روي عن ابن عمر، وهو ضعيف (2).
6- " رأس الحكمة مخافة الله" روي عن ابن مسعود، وهو ضعيف (3).
7- " الرفق رأس الحكمة " روي عن جرير، وهو ضعيف (4).
8- " الحكمة عشرة أجزاء، تسعة منها في العزلة، وواحد في الصمت " رواه أبو هريرة، وهو حديث ضعيف جداً (5).
9- " الحكمة تزيد الشريف شرفاً، وترفع العبد المملوك حتى تجلسه مجالس الملوك" روي عن أنس، وهو ضعيف (6).
10- " أنا دار الحكمة وعَلِيٌّ بابها " روي عن علي، وهو موضوع (7).
الحكمة كما عرفها بعض العلماء
هناك عدة تعريفات أخرى للحكمة وهي لا تخرج عن معنى التعريفات السابقة، ولكن ذكرها يزيد الأمر وضوحا، ومن ذلك:
1- قيل: هي وضع الشيء في موضعه (8).
2- وقال ابن القيم: وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك، إنها: معرفة الحق والعمل به، والإصابة في القول والعمل، وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن، والفقه في شرائع الإسلام، وحقائق الإيمان (9).
3- وقال رشيد رضا: الحكمة: العلم الصحيح، الذي يبعث الإرادة إلى العمل النافع الذي هو الخير (10).
4- قال الرازي: حكم الحكمة والعقل، هو الحكم الصادق المبرأ من الزيغ والخلل، وحكم الحسن والشهوة والنفس توقع الإنسان في البلاء والمحنة (11).
وأخيرا: لعل خير خلاصة تجمع أغلب هذه المعاني التي وردت في الحكمة هي أنها: "فعل (12) ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي" (13).
ولنأخذ، مثلا، يوضح ذلك:
الأمر بالصلاة، مما ينبغي، والأمر بشرب الخمر، لا ينبغي. وعلى الوجه الذي ينبغي، فقد يكون -الأمر بالصلاة- تذكيرًا، أو أمرًا، أو ضربا حسب الأحوال (14).
وفي الوقت الذي ينبغي، وذلك بمراعاة الزمان والمكان، وهذا له عدة صور وأحوال تجب مراعاتها.
أقسام الحكمة
قال ابن القيم: والحكمة، حكمتان: علمية، وعملية. فالعلمية: الاطلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها، خلقا وأمرا، قدرا وشرعا. والعملية، كما قال صاحب المنازل: وضع الشيء في موضعه.
قال: وهي على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: أن تعطي كل شيء حقه، ولا تعديه حده، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخره عنه.
الدرجة الثانية: أن تشهد نظر الله في وعده، وتعرف عدله في حكمه، وتلحظ بره في منعه. ومن معاني هذه الدرجة قول أهل الإثبات والسنة: إنها -أي الحكمة- الغايات المحمودة المطلوبة له -سبحانه- بخلقه وأمره، التي أمر لأجلها، وقدر وخلق لأجلها.
الدرجة الثالثة: أن تبلغ في استدلالك البصيرة، وفي إرشادك الحقيقة، وفي إشاراتك الغاية. قال ابن القيم: يريد أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم، وهي البصيرة التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه هي الخصيصة التي اختص بها الصحابة على سائر الأمة، وهي أعلى درجات العلماء (15).
أمثلة من الحكمة في القرآن الكريم
القرآن كله حكمة، (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) (يونس: من الآية1). (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) (هود: من الآية1). ولم لا يكون كذلك، وهو (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42).
ولأن موضوعنا مستمد من كتاب الله، ومعالجتي له في ضوء القرآن الكريم، فسأذكر بعض الأمثلة التي تبين منهج الحكمة كما يعرضها القرآن من خلال بعض الوقائع والأحداث.
أولا: قصة أصحاب الكهف
إن قصة أصحاب الكهف -كما ذكرها الله- قصة عجيبة، ولن نقف عند تفصيل القصة، ولكن أشير إلى موضع الحكمة في تصرف هؤلاء الفتية، وقدرتهم على تجاوز المحنة التي مروا بها.
__________
(1) - انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (3659).
(2) - انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (4107).
(3) - انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (3066).
(4) - انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (3159).
(5) - انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث 2787.
(6) - انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (2786).
(7) - انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (1313).
(8) - معجم لغة الفقهاء ص 184، والحكمة في الدعوة إلى الله ص 29.
(9) - التفسير القيم ص 226.
(10) - المنار 3/77.
(11) - تفسير الرازي 7/67.
(12) - والقول فعل.
(13) - مدارج السالكين 2/479.
(14) - فأمر ابن سبع ليس كأمر ابن عشر، ولا كأمر ابن عشرين، وأمر الابن ليس كأمر الجار أو غيره، فلكل مقام مقال.
(15) - انظر: مدارج السالكين، منزلة الحكمة 2/478.(/5)
فقد ذكر ابن كثير (1) نقلا عن غير واحد من السلف والخلف أن هؤلاء الفتية كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وقد فارقوا قومهم لما رأوا ما هم عليه من عبادة غير الله، حيث كانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ويذبحون لها، ولهم ملك جبار عنيد، فاتفقت كلمة هؤلاء الفتية على اعتزال قومهم، واتخاذ مكان يعبدون الله فيه، فعرف بهم قومهم، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم، فاستحضرهم بين يديه، فسألهم عن أمرهم، وما هم عليه، فأجابوه بالحق، ودعوه إلى الله - عز وجل - وهذا معنى قوله -تعالى- (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً) (الكهف:14). ولكن ملكهم أبى دعوتهم وتهددهم وتوعدهم إن لم يرجعوا إلى دين قومهم، وأعطاهم مهلة لينظروا في أمرهم، وبعد ذلك اجتمعوا وقرروا الفرار بدينهم مرة أخرى إلى مكان آخر، وهو الكهف الذي لجأوا إليه، وذكر الله لنا تفاصيل قصتهم في الكهف.
وتظهر الحكمة في قصتهم بما يلي:
1- أن هدايتهم إلى دين الله، وعدم تقليد قومهم على ما هم عليه هو عين الحكمة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
2- اعتزالهم لقومهم، بعد أن أدركوا أنه لا ينفع معهم نصح ولا دعوة، وهذه هي العزلة المشروعة، وبخاصة عند وقوع الفتن أو الخشية منها، وهذا مصداق الحديث الصحيح: " يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن " .
3- صمودهم على الحق عند مواجهتهم للباطل.
4- العزلة الثانية، وهي عزلة سرية، لأن العزلة الأولى كانت عزلة دون تخف، حيث علم بهم قومهم، وعلموا ما هم عليه.
أما هذه العزلة، فكانت عزلة سرية، لا يعلم مكانهم، لما قد يترتب على ذلك من مفاسد. (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) (الكهف:20).
وكأنهم يشيرون إلى العزلة الأولى، ثم الفرصة التي أعطيت لهم، حيث علموا أن الفرصة لن تتكرر.
5- حكمتهم في قضاء حوائجهم، (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) (الكهف: من الآية19).
إن هذه القصة، قصة عجيبة، فيها الحكمة، والعبرة، وبيان منهج الدعوة، وحسن استخدام الوسائل، وتقدير المصالح والمفاسد، ومعرفة ما آلت إليه الأمور، إلى غير ذلك من الدروس والعبر.
ثانيا: قصة سليمان وملكة سبأ
وهي قصة طويلة ذكرها الله في سورة النمل، وقد فصل المفسرون فيها، وذكروا فيها عددا من الروايات، ولم تخل من الإسرائيليات (2) وسأقتصر على النص القرآني للوقوف عند بعض هذه المواقف التي نلتمس فيها الحكمة في التصرف واتخاذ القرار.
1- وأول موقف نراه هو عناية سليمان برعيته، وتفقده لأحوالهم. (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) (النمل:20).
2- وسليمان -عليه السلام- لا يتعجل بالحكم على غياب الهدهد، حيث وضع الاحتمال الأول بالسؤال عن سبب عدم رؤيته، (مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) (النمل: من الآية20). فقد يكون موجودا، ولكن سليمان لم يره لسبب من الأسباب، أم أنه كان من الغائبين!!.
إنه منهج للتثبت وعدم العجلة، قبل اتخاذ القرار.
3- وعندما تأكد لسليمان - عليه السلام- أنه كان غائبا أصدر القرار العادل:
العذاب الشديد، أو: الذبح، أو: البراءة، وهي التي تنجيه من إحدى هاتين العقوبتين -إن جاء بسلطان مبين- فسليمان -عليه السلام- لم يغتر بملكه وقوته وقدرته ليتسلط على هذا المخلوق الضعيف، لأنه يعلم قدرة الله عليه.
وقد كان احتياط سليمان -عليه السلام- سليما، ووضعه للاحتمالات كان صائبا، فقد ثبتت براءة الهدهد، فقد جاء بسلطان مبين، (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ) (النمل: من الآية22).
إنه منهج للعدل، يرسمه سليمان -عليه السلام- وأسلوب في القيادة يندر له المثيل.
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير 3/74.
(2) - انظر: تفسير سورة النمل في تفسير الطبري، والبغوي، وابن كثير وغيرها.(/6)
4- يسمع سليمان -عليه السلام- خبر سبأ كما حكاه الهدهد، والخبر في غاية الأهمية، بل إنه خبر يزلزل الجبال، ملك قوي، وعرش عظيم، ويعبدون غير الله، كل هذا وهم في جوار سليمان، فقد يهددون ملكه ذات يوم (1) ومع هذا فلا يتعجل -عليه السلام- ويلتزم منهج التثبت، مع أنه يعلم أن الهدهد أقل من أن يكذب عليه (2) وبخاصة أن الهدهد بحاجة إلى براءة ساحته بعد تخلفه وغيابه، فمن المستبعد أن يضيف إلى ذلك جريمة لا تغتفر، فإذا كانت عقوبة الغياب بدون إذن هو العذاب أو القتل، فماذا ستكون عقوبة الكذب؟! والهدهد يعلم أن سليمان لا يخفى عليه الكذب، ومع أن كل الدلائل تشير إلى صدق الهدهد، وبعده عن الكذب فإن سليمان -عليه السلام- لا تاخذه العاطفة، ويظل ملتزما بمنهج التثبت، (قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (النمل:27). وهذا عين الحكمة وأساسها.
5- ويكتب سليمان -عليه السلام- الرسالة، وأي رسالة، وبأي أسلوب، حتى مع أعدائه، وهم مشركون -أيضا-، إنه أسلوب رائع حكيم، يقتحم شغاف القلوب ويسيطر عليها، مع الإيجاز والقوة والبيان (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (النمل:31).
6- وعندما يسمع المرء خبر الهدهد، وأن هؤلاء القوم قد ولوا امرأة يتملكه العجب! أليس فيهم رجال؟!! ولكن عندما يرى كيف كانت هذه المرأة تقود قومها؟! وحنكتها، وسياستها، وحكمتها، لا يستغرب ذلك، ويدرك سر هذا الاختيار (3) ولننظر إلى شيء من حكمتها في قيادة قومها.
(أ) فهي أولا تلتزم بالشورى منهجا وسلوكا، ولا تقطع أمرا دون عقلاء قومها، وهم ملؤها.
(ب) عندما فوضها قومها باتخاذ القرار المناسب، كانت حكيمة وعاقلة فلم تستخف بقوة سليمان، ولم يدخلها الغرور بقول قومها: (نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) (النمل: من الآية33). بل كان رأيها الصائب وموقفها الحكيم، (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل: من الآية34). ولهذا كان لا بد من اتخاذ خطوة عملية تكشف حقيقة عدوها قبل الدخول في معركة قد تكون خاسرة، (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (النمل:35).
ولهذا فقد وصف الحسن -رحمه الله- هذه المرأة، قائلا: كانت هي أحزم رأيا منهم، وأعلم بأمر سليمان، وأنه لا قبل لها بجيوشه وجنوده (4).
7- ونستمر مع هذه التصرفات الحكيمة، والقرارات الصائبة، حيث جاء جواب سليمان على رسالتها -الهدية- (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) (النمل:36، 37).
قارنوا بين الرسالة الأولى في رقتها ولينها وقوتها، وبين هذه الرسالة في صرامتها وحزمها وبلاغة أسلوبها، وهذه هي الحكمة، "وضع الشيء في موضعه" فالبداية كانت تقتضي مثل تلك الرسالة، والنهاية تقتضي هذه الرسالة، ولقد فعل سليمان -عليه السلام- ما ينبغي، كما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، ولا غرو فقد آتاه الله الملك والحكمة، كما آتى أباه -عليهما السلام-.
8- وأخيرا تتخذ هذه المرأة القرار الحاسم، الحكيم، الذي يعجز عن اتخاذه كثير من الرجال بسبب الهوى، والتعصب، والتقليد، إنه قرار الاستجابة لسليمان -عليه السلام- ودعوته، طائعة مختارة.
9- أما غاية الحكمة وذروتها، فهو موقف سليمان -عليه السلام- مما حدث، فهل داخله العجب والغرور، أو نسب الفضل لنفسه ؟ حاشاه من ذلك، بل قال: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل: من الآية40).
ما أحوجنا إلى تأمل هذه القصة! والإفادة مما فيها، بجميع أطرافها: سليمان -عليه السلام-، ملكة سبأ، الهدهد.
إن إبراز مواطن الحكمة في هذه القصة تبرز من خلال ما يلي:
1- العدل.
2- التثبت.
3- بُعدُ الرؤية، وسعة الأفق.
4- إتقان قاعدة المصالح والمفاسد.
5- القوة بدون عنف، واللين بدون ضعف.
6- أداء المسئولية على وجهها.
7- الشورى.
8- نسبة الفضل لأهله.
9- التنبه والحذر من الاستدراج.
10- القوة في اتخاذ القرار في الوقت المناسب.
__________
(1) - وأصل المشكلة في عبادتهم لغير الله، وتأثير ذلك على غيرهم.
(2) - ولا يعني هذا أن الهدهد يكذب على غيره، ولكن يعد كذبه على سليمان أشد.
(3) - وتولية المرأة الإمامة العظمى غير جائز عند جماهير العلماء وهو الراجح، ولكن هؤلاء القوم كفار، وليس بعد الكفر ذنب.
(4) - انظر: تفسير ابن كثير 3/362.(/7)
ثالثا: قصة لقمان وابنه
شهد الله بحكمة لقمان -عليه السلام- مع أن القول الراجح أنه ليس نبيا (1).
وقد ورد في حكمة لقمان، آثار كثيرة، ذكرها المفسرون، ومنها ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف، ولكنني سأقف مع ما نلمسه من حكمة في القصة التي ذكرها القرآن حين وصى لقمان ابنه:
1- وأول ما يشدنا في هذه القصة حسن الأسلوب الذي يستخدمه لقمان أثناء دعوته لابنه، حتى إنه يخاطبه بأحب الألقاب إليه، وأقربها إلى نفسه "يا بني" وبهذا يتمكن من السيطرة على قلبه وعقله، وذلك أدعى لقبول النصح والوعظ، وأن مبعثه الحب والشفقة والقربى.
2- أن لقمان جمع في وعظه لابنه بين الأصول والفروع، والأقوال، والأفعال، والاعتقاد، والأمر، والنهي. فها هو ينهاه عن الشرك، ثم يأمره بالصلاة، ويذكره بعدل الله، وشمول علمه وإحاطته، ثم نجده يأمره بأن يقوم بشعيرة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وينهاه عن الكبر، والخيلاء، والعجب، والغرور. حتى مشيته يبين له كيف تكون، وصوته له ضوابط وموازين.
3- أن وصايا لقمان لابنه بلغت عشرا بين أمر، ونهي، وإخبار، في معنى الأمر أو النهي، كل هذا في كلمات قصيرة جميلة بعيدة عن التكلف، وهذا من الحكمة، ولهذا جاءت الحكم والأمثال من كلمات قصيرة المبنى كبيرة المعنى، وهذا ما نلمسه في وصية لقمان لابنه.
4- أن الداعية يخرج من قصة لقمان بعدة دروس أهمها:
(أ) حسن الأسلوب، واختيار أفضل الكلمات للوصول إلى قلوب المدعوين.
(ب) التركيز على الأصول من التوحيد وغيره، مع عدم الإخلال بالفروع.
(جـ) الإيجاز مع التركيز والشمول.
(د) أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ليس بالأمر الهين واليسير، ولذا يخشى على صاحبه من المزالق، ويستطيع الداعية أن يتخلص من ذلك بالصبر، والتواضع، والتزام منهج الوسطية في أموره كلها.
وبعد:
فهذه وقفة سريعة مع هذه القصة العظيمة التي تنبض حكمة وعلما وفقها (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (البقرة: من الآية269).
أمثلة من الحكمة في السنة النبوية
تجري الحكمة على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم كالماء الزلال، وأفعاله صلى الله عليه و سلم كلها عين الحكمة، فهو المعصوم من الزلل والخطأ.
وسأختار بعض الأمثلة، لبيان الحكمة في السنة، مكتفيا من القلادة بما أحاط بالعنق:
1- فنجد حكمته صلى الله عليه و سلم في حسن تعامله مع أصحابه ومراعاته لأحوالهم، وهذا أكثر من أن يحصى، وأشهر من أن يؤتى له بمثال.
2- إجابة الرسول صلى الله عليه و سلم للسائلين، حيث قد يبدو الخلاف والتعارض -أحيانا- بينها، بينما هي من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، وذلك لحكمة عظيمة، وهي مراعاة حال السائلين، ولنأخذ هذا المثال:
(أ) " سأل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم قائلا: يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة على ميقاتها"، قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، فسكت عن رسول الله، ولو استزدته لزادني " رواه البخاري (2).
(ب) وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: " يا رسول الله! نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد ؟ قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور " رواه البخاري (3).
(جـ) وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه " أن رجلا قال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: "لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله" " رواه أحمد والترمذي (4).
إلى غير ذلك من الأحاديث التي سأل أصحابها عن أفضل العمل، فاختلفت إجابة رسول الله صلى الله عليه و سلم مراعاة لحال السائلين، وإدراكا منه صلى الله عليه و سلم أن ما يستطيعه هذا قد لا يستطيعه ذاك، إلى غير ذلك من الأسباب التي يراعى فيها حال الفرد وحاجة الأمة وقواعد الشرع.
ولو أن الدعاة استطاعوا أن يكلفوا كل إنسان بما يحسنه (5) ويبتعد عما لا يستطيع، لحققت الأمة اكتفاء ذاتيا في أغلب مجالاتها.
ولكن واقع أغلب الناس، كما قال الشاعر:
ومكلف الأشياء ضدّ طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار
3- وانظر إلى هذا الأسلوب الحكيم من لدنه صلى الله عليه و سلم لمعالجة قضية مهمة تحتاج إلى الحكمة، وبعد النظر.
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير 3/443، وتفسير القاسمي 3/4796.
(2) - رواه البخاري (2782).
(3) - رواه البخاري (2784).
(4) - أحمد (4/194)، صحيح الترمذي للألباني (3/139) وانظر: الحكمة في الدعوة إلى الله ص 47.
(5) - عدا الواجبات وفروض العين.(/8)
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: " إن فتى شابا أتى إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال: " يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: ادنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك ؟ قال: لا والله!! -جعلني الله فداك- قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك ؟ قال: لا والله!! يا رسول الله -جعلني الله فداك- قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله!! -جعلني الله فداك- قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله!! -جعلني الله فداك- قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله!! -جعلني الله فداك-، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء " رواه أحمد (1).
أرأيتم مثل هذا الأسلوب، كيف جاء هذا الشاب وقد هاجت شهوته، ورغب في الحرام، وعاد عفيفا محصنا بعيدا عن الشهوة والشبهة.
4- ولعل من أهم الأمثلة في هذا المجال، قصة الحديبية، وما وقع فيها من أحداث كانت تقتضي الحكمة في أسمى معانيها، وإلا لحدثت أمور لا تحمد عقباها.
ويصعب التفصيل في ذلك، حيث لا يتسع المجال له -حسب المنهج الذي رسمته- ولكن سأقتصر على قضية واحدة لتكون لنا عبرة ونبراسا، وتلك القضية هي كتابة الصلح، ولنقرأ كما في صحيح البخاري، وفيه:
" فدعا النبي صلى الله عليه و سلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه و سلم اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: اكتب: باسمك اللهم. ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله... الحديث (2) " .
إن التأمل في هذه الحادثة العظيمة، يبين لنا مقدار حكمة رسول الله صلى الله عليه و سلم وعدم استجابته للاستفزاز، أو الوقوف عند أمر فيه سعة مع أنه يحقق، للمسلمين مكاسب باهرة، وهذا من باب النظر في المصلحتين والسعي لتحصيل أعلاهما، ولذلك جاءت النتيجة بتسمية الله لهذا الصلح فتحا، (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (الفتح:1).
وقادة الدعوة بحاجة إلى وعي هذه الدروس، وعدم الاستجابة لضغط القاعدة إذا كان خلاف الحق، أو أن هناك ما هو أولى مما يريده هؤلاء. (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (البقرة: من الآية269).
ولئلا يتوهم متوهم أن الحكمة تقتضي التنازل دائما إذا كان الأمر في مصلحة الإسلام والمسلمين، كما هو واقع بعض العاملين للإسلام، والمتحمسين للدعوة، ممن ينقصهم العلم الشرعي، وهذا خلل في المنهج، وخطأ في التصرف، وبخاصة أن هؤلاء يحتجون دائما بقصة الحديبية، عند كل تنازل يقدمونه.
من أجل هذا أبين أن هناك قضايا لا تقبل التنازل أبدا، وهذه هي الحكمة، وهذا كثير جدا في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم وفعل الخلفاء الراشدين، ومن ذلك سبب نزول سورة (الكافرون) (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) (الكافرون:1، 2).
وكذلك قصة قريش مع رسول الله، عندما طلبوا أن يخصص لهم مجلسا دون الضعفة من المسلمين، فنزل قوله -تعالى-: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الأنعام: من الآية52). وقوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف:28).
وكذلك عندما جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ودعاهم إلى الإسلام، اشترطوا أن يدع لهم اللات ثلاث سنين -لا يهدمها- فأبى رسول الله -صلى اله عليه وسلم- ذلك، حتى إنهم تنازلوا شيئا فشيئا إلى أن طلبوا إمهال هدمها شهرا واحدا، فأبى رسول الله صلى الله عليه و سلم .
ولكنهم عندما طلبوا ألا يكسروا أوثانهم بأيديهم، وافقهم على ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم للفرق بين الطلبين، وهنا يتميز الحكيم عن غيره، وهو الذي يتنازل عن الكل أو يرفض الكل مع الفرق بينهما (3).
__________
(1) - مسند الإمام أحمد 5/256، وقد صححه الألباني.
(2) - صحيح البخاري 3/100.
(3) - انظر: سيرة ابن هشام 4/197 وتخريج العلماء للأثر في كتاب الحكمة في الدعوة إلى الله ص 74 وقد ضعفه الألباني في فقه السيرة وحسنه غيره.(/9)
أما أبو بكر وقصته في حرب الردة، وعدم تنازله عن شعيرة من شعائر الإسلام، وقوله كلمته الخالدة: " والله لو منعوني عناقا -أو عقالا- كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم عليها".
وحيث يبين أنه سيسوي بين من ترك الصلاة، ومنع الزكاة، ولن يقبل التفريق بينهما، والقصة مفصلة في كتب الحديث والسيرة (1).
وهذه هي الحكمة كما عرفناها، هذا ما شهد به عمر -الفاروق- حيث كان مخالفا لأبي بكر في أول الأمر، ثم عرف أنه الحق لما شرح الله صدر أبي بكر وثبت عليه.
5- أما أعظم أمر رأيت الحكمة متمثلة فيه من خلال منهج القرآن الكريم، وسنة الرسول صلى الله عليه و سلم فهو معالجة قضية المنافقين، وهو العلاج الذي استمر منذ هجرته صلى الله عليه و سلم إلى المدينة وحتى غزوة تبوك، بل إلى وفاته صلى الله عليه و سلم .
وكما شغل حيزا كبيرا من وقته صلى الله عليه و سلم في المدينة، فقد نزلت فيها آيات كثيرة جدا في كتاب الله، حتى نزلت سورة كاملة في هذا الموضوع.
وقد اتسم علاج هذه المشكلة بعدة سمات، من أبرزها:
1- طول المدة، وهي ما بين هجرته إلى قبيل وفاته صلى الله عليه و سلم وهذا يدل على الصبر العظيم، الذي تحلى به رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يعالج هذه المشكلة العويصة بتؤدة وروية.
2- الآيات الكثيرة التي نزلت في القضية، حيث لا يقاربها قضية أخرى إلا قضية الشرك والمشركين، وقضية أهل الكتاب. والله -سبحانه- قادر على حسمها في آية واحدة، ولكن القرآن جاء ليرسم منهجا للبشر فيه صفة الشمول والديمومة، لأنه دين عالمي.
3- الحرص على وحدة الصف، مع عدم السكوت عن الباطل، وإقراره، أو هذه مسألة يغفل عنها كثير من الدعاة، وقد تحقق الأمران، فبقي الصف المسلم موحدا، وتم القضاء على فتنة المنافقين بأساليب عدة.
4- أخذ الناس بظواهرهم، وترك سرائرهم إلى الله، وهو منهج فريد تميز به الإسلام عن سائر النظم والأديان، ومع أن المنافقين أشد كفرا من المشركين فلم يؤاخذوا إلا بما ظهر منهم، مع علم الرسول صلى الله عليه و سلم بما هم عليه من النفاق والكفر.
ولكن القضية قضية منهج، وليست قضية أفراد يتم القضاء عليهم، ثم ينتهي الأمر، لأن المسألة أعمق من ذلك وأبعد، فجاء العلاج متوازيا مع حجم المشكلة وأبعادها وآثارها.
5- المحافظة على هيبة المجتمع المسلم في نظر الأعداء والخصوم، "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" (2) وبخاصة مع كثرة الأعداء، واستغلالهم لكل فرصة تسنح لهم داخل الصف.
6- تركيز القرآن على الصفات وعدم ذكر الأفراد، حيث لم يرد في القرآن اسم منافق واحد.
وهذا المنهج حقق آثارا إيجابية ضخمة، وكان كفيلا بالقضاء على هذه الحركة مع تجاوز السلبيات المتوقعة، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه و سلم في نهاية المطاف ردا على عمر -الفاروق- الذي طالما طالب بقتل المنافقين حمية لدين الله: "أين عمر؟ لو قتلنا هؤلاء يوم طلب عمر لأرعدت لهم أنوف تريد اليوم قتلهم" (3). وهذا المنهج هو الذي أدى إلى قتلهم معنويا، دون الحاجة إلى قتل أي فرد منهم حسيا.
وهذه -والله- هي الحكمة في أسمى معانيها.
إننا اليوم بأمس الحاجة إلى دراسة منهج مواجهة حركة النفاق في الصدر الأول، ومن ذلك دراسة الآيات التي نزلت في هذه القضية، وبخاصة في سور (البقرة -التوبة -الأحزاب -المنافقون).
وبهذا نستطيع أن نحقق ما يلي:
1- معرفة الوسائل الموصلة إلى الكشف عن هوية المنافقين في مجتمعنا، ومدى تأثيرهم في المجتمع.
2- رسم منهج شرعي لمواجهة هذه الحركة، وأسلوب التعامل معها.
3- شل فاعليتها، ثم القضاء عليها دون إحداث فتن داخل الصف المسلم.
ولن يتحقق هذا الأمر إلا بالالتزام بالحكمة التي رأينا بعض مظاهرها، وسماتها في منهج القرآن، والسنة، عند معالجة هذه القضية الكبرى.
خوارم الحكمة وموانعها
من المهم ونحن نعالج موضوع الحكمة أن نذكر أهم الأسباب التي تمنع من تحقق الحكمة، وتحول دون وجودها.
ولم أجد من دون هذه الموانع (4) مجتمعة -حسب اطلاعي- ولكنني بالاستقراء والتتبع حاولت أن أقف على هذه الخوارم، وقد وفقني الله إلى شيء من ذلك، فله الحمد والمنة.
1- الهوى وعدم التجرد:
__________
(1) - انظر: فتح الباري 3/362 كتاب الزكاة.
(2) - رواه البخاري 4/160.
(3) - انظر: تفسير الطبري 28/76، وسيرة ابن هشام 3/327.
(4) - انظر: مدارج السالكين لابن القيم في منزلة الحكمة 2/480 فقد ذكر بعضها، كالجهل والطيش.(/10)
يقول -سبحانه-: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (صّ: من الآية26). ويقول: (أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ) (القصص: من الآية50). وقال: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) (المؤمنون: من الآية71). والآيات في ذم الهوى كثيرة جدا، وكلها تدل على استحالة اجتماع الحكمة والهوى، وتأمل في هاتين الآيتين ليتضح ما أقول: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (المائدة: من الآية49). والحكم بما أنزل الله هو مقتضى الحكمة(1).
وفي آية أخرى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) (محمد:14).
وفي حديث الرسول صلى الله عليه و سلم في بيان وقت العزلة: " فإذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك... " الحديث (2).
وهذا دليل على فقدان الحكمة وذهابها. والحكمة منبعها العقل، بل إن معناهما واشتقاقهما متقارب، فكلاهما يدلان على المنع مما لا ينبغي، ومن هنا جاء الشاعر يبين تأثير الهوى على الحكمة:
وآفة العقل الهوى فمن علا ... على هواه عقله فقد نجا
والهوى يعمي، ويصم، كما قال شيخ الإسلام، فمن كانت هذه حاله فأنى له الحكمة.
2- الجهل:
والجهل ضد العلم، وما وجد الجهل في شيء إلا شانه، وما نزع من شيء إلا زانه، والتأمل في هذه الآيات يبين تأثير الجهل، وأنه والحكمة لا يجتمعان، حيث ذكر الله -سبحانه- في أكثر من آية أن سبب عدم توفيقهم للحق والحكمة هو الجهل:
(قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) (الزمر:64). (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (البقرة: من الآية67). (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50). (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود: من الآية46). ومن خلال هذه الآيات وأمثالها يتضح لنا تأثير الجهل على الحكمة، وأنه من خوارمها، ولذا قال الشاعر:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... وأجسادهم دون القبور قبور
فهل ننتظر الحكمة من الأموات؟
3- الأخذ بظواهر النصوص، وعدم الجمع بين الأدلة.
وذلك كمنهج الظاهرية في الأخذ بظواهر النصوص، ولذا لم يوفقوا للصواب في كثير من المسائل، وهل الحكمة إلا الإصابة في القول والعمل -كما سبق-؟
أما عدم الجمع بين الأدلة فهو مزلق آخر من المزالق التي يقع فيها بعض طلاب العلم، فيعتمدون على دليل دون آخر، وهذا يؤدي إلى اتخاذ بعض المواقف بعيدا عن الحكمة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ففطن لشيء، ولكن غابت عنه أشياء.
ومن ذلك الاستدلال بقوله -تعالى-: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (النجم:38، 39). ويغفل عن الأحاديث التي تبين أن الإنسان قد يكون آثما إذا رأى منكرا عمله غيره فلم يغيره، إما بيده أو بلسانه أو بقلبه، حسب استطاعته.
وكذلك يغفل عن الأحاديث التي تبين مشاركة المسلم لغيره في الأجر، كما ورد في أحاديث كثيرة. ومنها: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " الحديث (3).
ومثل ذلك الاستدلال بقوله -تعالى-: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأعراف:204). على وجوب الإنصات مطلقا، ويغفل الأحاديث الواجبة في قراءة الفاتحة في الصلاة حتى مع قراءة الإمام (4).
4- الاستدلال بالأدلة في غير مواضعها:
وهذا يختلف عن السابق، لأنه استخدام للدليل في غير موضعه، والأمثلة توضح ذلك:
(أ) فكم سمعنا من الناس من إذا طلب منه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. قال: مالي وللناس، فلم أكلف بهم، والله يقول: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ( (المائدة: من الآية105).
وقد روى الإمام أحمد أن أبا بكر الصديق قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (المائدة: من الآية105). وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: " إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله - عز وجل - أن يعمهم بعقابه " .
__________
(1) - لأن تعريف الحكمة والعدل متقارب، بل العدل حكمة، والحكمة عدل لأن كلا منهما وضع الشيء في موضعه.
(2) - ابن ماجة (4014).
(3) - مسلم (1631)، انظر: تفصيل ذلك في تفسير ابن كثير 4/257.
(4) - والمسألة خلافية، ومحل ذلك كتب الفقه، وإنما المراد التمثيل على استخدام دليل دون آخر.(/11)
قال ابن كثير: وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة، وابن حبان في صحيحه، وغيرهم من طرق كثيرة، عن جماعة كثيرة، عن إسماعيل بن أبي خالد به متصلا مرفوعا، ومنهم من رواه عنه به موقوفا على الصديق وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره (1).
(ب) ومن الاستدلال بالأدلة في غير مواضعها، استدلال كثير من الناس بقوله -تعالى-: ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: من الآية195). وبخاصة عند تبرير عدم المشاركة في الجهاد في سبيل الله، ولم يعلموا أن هذا الدليل حجة عليهم لا لهم، ولننظر في هذا الحديث.
روى الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران، قال: " حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار تحببا،فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه و سلم ونصره حتى فشا الإسلام، وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهم فنزل قوله -تعالى-: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: من الآية195). فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال، وترك الجهاد" (2).
والأمثلة في هذا كثيرة جدا، والاستدلال بها على هذا الوجه يخالف الحكمة وينافيها.
5- عدم فهم الدليل:
وذلك بأن يكون الدليل صحيحا، والاستشهاد به في موضعه، ولكنه لا يفهم الدليل على وجهه الصحيح -وذلك فرع عن الجهل- وهنا يخالف الحكمة في تصرفه، وأسلوب تطبيقه. ومثال ذلك:
أن الرسول صلى الله عليه و سلم قال: " مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر " (3) الحديث.
فيأتي فيضرب ابنه ضربا مبرحا وغليظا، وهذا غير مراد من الحديث، وهو يخالف الحكمة، لأن المراد هو الضرب غير المبرح الموجع، لأن الطفل لم يكلف بعد، فمن كان في سن العاشرة أو الحادية عشرة فلم يبلغ سن التكليف، فكيف نعاقبه عقابا شديدا، والمراد هو التربية والتعويد، لا العقاب والتعزير.
وكذلك قوله -تعالى-: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) (النساء: من الآية34).
فيأتي الزوج، ولا يفهم معنى هذه الآية، ويقول: إن الواو لا تقتضي ترتيبا، ولا تعقيبا، فيبدأ بالضرب قبل الوعظ والهجر، ويأتي آخر ويضرب زوجته ضربا شديدا مؤلما، وكل هذا خلاف الحكمة وناشئ من قصور الفهم.
6- قلة التجربة والفردية:
ولذا نجد أن بعض تصرفات الشباب تخالف الحممة لقلة تجربتهم ومحدوديتها وضعفها.
7- أما الفردية:
وهي من خوارم الحكمة الظاهرة، لذا قال الرسول صلى الله عليه و سلم " إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية " (4).
وقال الشاعر:
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به ... رغم الخلاف، ورأي الفرد يشقيها
وسيأتي مزيد بيان لذلك في الحديث عن أركان الحكمة وأسسها.
ثلاث خوارم متقاربة
8- عدم تحديد الأهداف.
9- النظرة السطحية.
10- آنية التفكير وموسمية العمل والارتجال.
إن هذه العوائق الثلاثة متقاربة في معناها، وحقيقتها، وإن كان كل واحد منها يحمل معنى خاصا، ونستطيع أن نقول: إن بينها عموما وخصوصا.
فعدم تحديد الأهداف ورسمها بدقة يؤدي إلى آنية التفكير وموسمية العمل، وهذا هو الارتجال بعينه، وهذا الأمر لا ينشأ عادة إلا من النظرة السطحية للأمور، والوقوف عند ظواهر الأحداث، دون النظر في أسبابها، ومآلاتها وآثارها، والنتيجة الطبيعية لاتخاذ القرار، والموقف من الحدث، هو عدم تطابق ما يتخذ من قرار مع ما يستوجبه الحدث، وبالتالي يجانب الحكمة، لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه.
وهذا مثل: طبيب جاءه مريض، وقد بدت بعض البثور على وجهه، فقام الطبيب بوصف بعض المراهم التي تزيل البثور، دون البحث في تحليل أسباب هذا المرض، والنتيجة هي عودة البثور بين فترة وأخرى، لعدم القضاء على أسبابها.
__________
(1) - الترمذي (3059). أبو داود (4338)، ابن ماجة (4005). قال عنه ابن حجر جيد الإسناد انظر: تهذيب التهذيب.
(2) - قال ابن كثير 1/228: رواه أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد في تفسيره وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه كلهم من حديث يزيد بن حبيب، وقال الترمذي حسن صحيح غريب، وقال الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(3) - أبو داود (496،4113)، وأحمد: 2/187. قال الأرناؤوط في شرح السنة: 9/22 إسناده حسن.
(4) - رواه أبو داود (547)، النسائي 2/106 وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5701).(/12)
ومثل ذلك: من في أسنانه تسوس، ويشكو من آلامها، فكلما جاء إلى الطبيب أعطاه ما يسكن الألم، ويستمر الألم يعاوده، والطبيب مستمر في وصف المسكنات، دون اتخاذ العلاج الحاسم بإزالة التسوس، حتى لو أدى إلى إزالة السن ذاته، لأن بقاء التسوس سيجعله يقضي على بقية السن، أو قد ينتقل المرض إلى العصب وبقية الأسنان إذا أهملت الأسباب، وتم تجاهل حقيقة المرض.
ومثل ذلك نقول في الأحداث، وما نواجهه من أمور تحتاج إلى علاج حاسم ذي أهداف محددة.
11- تقديم الجزئيات على الكليات
وهذا ناشئ من قصور العلم، وقصر النظر، وهذا الأمر ابتلينا به كثيرا في عصرنا الحاضر، وفي بعض دول العالم الإسلامي.
وأدرك أعداء الإسلام هذه الثغرة، فأقاموا بعض شعائر الإسلام الجزئية، وهدموا أصوله وأركانه.
يعاقبون المفطر في رمضان، ولكنهم لا يزيلون مظاهر الشرك، ولا يأمرون بالصلاة، فضلا عن أن يعاقبوا تاركها.
يقرأون القرآن في الإذاعة، وينقلون خطبة الجمعة في التلفزيون، ولكنهم يتحاكمون إلى شريعة الطاغوت.
ورأينا عددا من الناس يغضبون إذا رأوا شارب الدخان، وهو منكر -ولا شك-، ولكنهم لا يحركون ساكنا عندما يرون الربا، وقد ضرب في الأرض أطنابه، وينفعلون إذا خرجت امرأة سافرة عن وجهها -وهذا محرم بالكتاب والسنة- ولكنهم يتجاهلون دخول اليهود والنصارى والوثنيين إلى بلاد المسلمين، وإقامتهم بين ظهرانيهم.
ولتتضح الصورة أكثر أضرب هذا المثال:
مريض أصيب بالزائدة، فذهب إلى المستشفى مسرعا فأصابته شوكة في أصبعه، فلما وصل انشغل الطبيب بالأصبع وشوكته عن الزائدة، التي قد تنفجر بين لحظة وأخرى، فتودي بصاحبها.
أين الحكمة في هذا التصرف؟
12- العجلة وعدم ضبط النفس
العجلة من الشيطان، وإذا ابتلي إنسان بهذه الخصلة الذميمة، ستقوده إلى المهالك، ومن آثار العجلة ومظاهرها عدم ضبط النفس في المواقف التي تحتاج إلى تأن، وتؤدة وروية.
وأكثر أسباب الندم ناتج عن العجلة والانفعال غير المنضبط، وهنا تكون النتيجة غير محمودة.
من غرس الحنظل لا يرتجي ... أن يجتني السكر من غرسته
13- الخلط في المفاهيم
الحكيم لا بد أن ينطلق من مفاهيم صحيحة، وقواعد ثابتة، مستمدة من الكتاب والسنة، وإذا اختلطت المفاهيم لدى المرء وتشابهت الأمور، لن يصل إلى مبتغاه، وسيتخبط في سيره، ومن الملحوظ في عصرنا الحاضر اختلاط كثير من المفاهيم على كثير من طلاب العلم والدعاة ومن ذلك:
(أ) الخلط في مفهوم خوف الفتنة، حتى أصبح سيفا مصلتا على رؤوس الداعين إلى الله، الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، فكلما أمر آمر بمعروف، أو نهى ناه عن منكر، قيل له: إنك تثير الفتنة، ولم يعلم أولئك أنهم في الفتنة سقطوا، وكان من نتيجة هذا الأمر، أن استمرت الأمة تقدم التنازلات الواحد تلو الآخر، وبعض الدعاة ساكتون أو مسكتون خوف الفتنة، حتى ضرب الكفر أوتاده في بلاد المسلمين، وهذه هي الفتنة الحقيقية (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة: من الآية193).
(ب) ومن الخلط في المفاهيم، الخلط بين الحزبية والانتماء، حتى سوى الكثير بينهما، مع الفارق الكبير.
فالحزبية مذمومة، وهو تحزب المسلمين بعضهم ضد بعض، فالمسلمون لا يكونون إلا حزبا واحدا، ضد الكفر وأهله. (أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة: من الآية22).
أما الانتماء لأهل السنة والجماعة ولجماعة المسلمين ومنهجهم فهو مشروع: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: من الآية103). (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) (آل عمران: من الآية110). (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) (آل عمران: من الآية104).
والمذموم هو الانتماء لأهل الباطل وللأحزاب البدعية، وهذا ليس من الانتماء المشروع في شيء.
ونتيجة للخلط في هذا المفهوم جانبت الحكمة بعض المنتسبين إلى الدعوة، فبدلا من أن يدعو إلى الوحدة والائتلاف، دعوا إلى الفردية والتفرق، وهم لا يريدون ذلك -ولا شك-، ولكن من يزرع الشوك لا يقطف العنبا.
(جـ) ومن الأمثلة -أيضا- في خلط المفاهيم الخلط بين الوسائل والغايات، وكذلك الخلط بين الثوابت والمتغيرات.
وكذلك عدم إدراك الفرق بين حب السلف، وفهم منهج السلف، والالتزام بمنهج السلف، فليس حب السلف وحده كافيا لأن يكون صاحبه ممثلا لمنهج السلف، فلا بد من:
1- حب السلف والذود عنهم، وعن منهجهم.
2- فهم المنهج، أي منهج أهل السنة والجماعة.
3- الالتزام بمنهج السلف، خلقا ودعوة، وسلوكا، قولا، وفعلا.
وأي إخلال بواحد من هذه الأسس يعتبر إخلالا بانتساب الفرد إلى السلف.
14- عدم إتقان قاعدة المصالح والمفاسد:
وهذا يؤدي إلى تقديم جلب المصلحة على دفع المفسدة، ودفع المفسدة الصغرى بالكبرى، وجلب المصلحة الدنيا، وترك العليا.
وليس الحكيم هو من يعرف الخير والشر، وإنما الحكيم من يعرف خير الخيرين، وشر الشرين.(/13)
وهذه القاعدة من أعظم قواعد الشريعة، والجهل بها يجر على المسلمين الشرور والويلات.
15- الغفلة عن مكائد الأعداء
نحن في عصر اشتد فيه الصراع بين الحق والباطل، وقد تطورت أساليب الأعداء في حرب الإسلام والمسلمين، وبخاصة عندما أثبت لهم التاريخ أن أي معركة مباشرة مع المسلمين لن تكون في صالح الكفر إن عاجلا أو آجلا.
وهنا لجأوا إلى أساليب المكر والخديعة والتلبيس، وقد انطلت هذه الأساليب على كثير من المسلمين، وانخدعوا بالشعارات التي يرفعها أعداء الله، ومن هنا كانت كثير من المواقف التي وقفها العلماء والدعاة في بعض بلاد المسلمين غير متكافئة مع خطط الأعداء ومؤامراتهم.
وهذه نتيجة الجهل بفقه الواقع، وها نحن ندفع ثمن هذا الأمر ربا فضل ونسيئة.
إن الحكمة هي فعل ما ينبغي، كما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي.
فكيف نفعل ما ينبغي كما ينبغي إذا كنا لا ندرك ماذا ينبغي؟ لأن الحكم فرع عن التصور، وتصورنا لعدونا يشوبه النقص والتقصير.
16- وأخيرا فإن من خوارم الحكمة: الغلظة والعنف والطيش
وما وجدت الفظاظة في شيء إلا شانته، وما نزعت من شيء إلا زانته، ويكفي لبيان ذلك أن نتأمل قوله -تعالى-: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: من الآية159). وسرعة الغضب والانفعال من خوارم وقوادح الحكمة.
وبعد: فهذه أهم خوارم الحكمة، وموانعها، وحري بالدعاة إلى الله أن يتأملوها ليجتنبوها، وعلى طلاب العلم أن يحذروا أمتهم منها، ليكونوا مسددين في أقوالهم، وأفعالهم، ونياتهم.
أركان الحكمة وأسبابها
ذكرت في المبحث السابق خوارم الحكمة وموانعها، وقدمت ذكرها على أركان الحكمة وأسبابها، لتكون واضحة جلية ونحن نتحدث عن الأسس والأركان، وذلك من قولهم: التخلية قبل التحلية، أي لا بد من التخلي عن الموانع والخورام، قبل التلبس بالأركان، والبحث في الأسباب.
وقد جمعت بين الأركان والأسباب لأن بينهما عموما وخصوصا، فكل ركن سبب، لا العكس.
1- التجرد والإخلاص والتقوى
هذا هو الأساس لكل عمل، والمنطلق لكل هدف وغاية، فالله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) (البقرة: من الآية282). ويقول: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162، 163). ويقول -سبحانه-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (البينة: من الآية5).
والرسول صلى الله عليه و سلم يقول: " إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم " (1).
إننا لا نتصور حكمة بدون تجرد وإخلاص، ولذلك ذكرت أن من موانع الحكمة، الهوى، فإذا كان الهوى من موانع الحكمة فإن الإخلاص والتقوى أساسها. (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق: من الآيتين 2، 3). (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) (الطلاق: من الآية4). ونلمس هذا المعنى في قوله -تعالى-: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان: من الآية74). فإنه لن يكون إماما إلا إذا كان حكيما، وإذا كان إماما للمتقين، فالتقوى صفة للإمام قبل المأمومين.
2- التوفيق والإلهام
إن الحكمة مطلب عزيز، وغاية سامية، ورتبة رفيعة، ينال صاحبها سمة من سمات الأنبياء والرسل، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- ولذا فليست متاحة لكل فرد، بل هي مع بذل الأسباب وتوافر الأركان فضل من الله ونعمة، ولذا قال -سبحانه-: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (البقرة: من الآية269). وبين أنه أعطى لقمان الحكمة (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) (لقمان: من الآية12).
وسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم ربه أن يلهم ابن عباس الحكمة، ويعلمه إياها. " اللهم علمه الحكمة " (2). رواه البخاري. وعندما نفقه هذه الحقيقة، فإنه يتعين علينا أن نتعامل معها بما يجب أن نعمله من أسباب، ليمن الله علينا بها، (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (البقرة: من الآية269).
3- العلم الشرعي
والعلم من أهم قواعد الحكمة ودعائمها، فكما أن الجهل مانع من موانعها، فإن العلم سبب من أسبابها، وركن من أركانها.
ولهذا قال -سبحانه-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر: من الآية28). وخشية الله من الحكمة، وقال تعالى-: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر: من الآية9). لا يستوون في أشياء كثيرة، ومنها إدراك الحكمة.
__________
(1) - مسلم (2564).
(2) - سبق تخريجه. ص8.(/14)
وقرن الله بين الحكم -وهي الحكمة- والعلم في عدة آيات من كتاب الله، فيقول -سبحانه- عن لوط: (وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً) (الأنبياء: من الآية74). ويقول عن يوسف: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:22). ويقول عن داود وسليمان: (وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) (الأنبياء: من الآية79). وقال عن موسى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً) (القصص: من الآية14).
وهذه الآيات من أقوى الأدلة على اقتران الحكمة بالعلم، ولذلك يقول -سبحانه-: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: من الآية83). وعلم الأمر المختلف فيه أو ما يشكل على العامة هو الحكمة، وأولو الأمر هنا هم العلماء، وكذلك نفهم ارتباط العلم بالحكمة والحكمة بالعلم، من قول الرسول صلى الله عليه و سلم " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " والله -سبحانه- يقول: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (البقرة: من الآية269).
ومن خلال هذه الأدلة يتضح لنا هذا الأمر، بل إن بعض العلماء فسروا الحكمة بالعلم، وممن أطال في ذلك وفصل فيه رشيد رضا (1) وكذلك الرازي (2) وهذه حقيقة، فالزمها تؤت الحكمة.
4- التجربة والخبرة
وهما من أهم أسباب التوفيق للحكمة، وقد ورد عند البخاري في الأدب المفرد:
"لا حكيم إلا ذو تجربة"، والمثل المعروف يقول: "اسأل مجرب ولا تسأل طبيب"، إن التجربة في الحياة رصيد ضخم تعادل أعلى الشهادات، فإذا أضيفت إلى العلم أصبحت أهم من الشهادة، وهل الشهادة إلا علم وتجربة، مع أنها في الغالب تكون تجربة قاصرة.
ولقد وقفت طويلا عند آية وردت في القرآن، وهي قوله -تعالى-: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ) (الأحقاف: من الآية15). فإنني ألحظ أن ارتباط بلوغ الأشد والاستواء بسن الأربعين له عدة دلالات، ومنها أن المرء يكون قد حصل على رصيد مناسب من التجربة، بل إنني ألمس في حياة الناس أن ما قبل الأربعين رصيد التجربة فيه أقوى من رصيد العطاء، وما بعد الأربعين سمة العطاء فيه أقوى من التجربة ألا وهي الخبرة، حيث إن الأربعين مرحلة وسطية في عمر الإنسان، حيث إن ما قبلها من العمل يعادل ما بعدها في الأعم الأغلب.
ومما يجري في سياق الآية، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث على الأربعين، والله -سبحانه- يقول عن يوسف، عليه السلام،: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً) (القصص: من الآية14). قال الحسن: "بلغ أربعين سنة" (3).
وخلاصة الكلام:
أن التجربة عامل مهم في حصول الحكمة وتحققها.
5- الاستشارة
ذكرت أن الفردية من خوارم الحكمة، ومن وسائل تجنب الفردية الاستشارة.
والشورى لها مكانتها في الإسلام، وللدلالة على أهميتها وعظم منزلتها، أن الله -سبحانه- أمر نبيه صلى الله عليه و سلم وهو المعصوم الذي يوحى إليه، أن يستشير صحابته فقال -سبحانه-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: من الآية159). بل إن هذه الآية جاءت في سياق يفيد أن هذا هو مقتضى الحكمة، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159).
وقال -سبحانه- واصفا المؤمنين ومثنيا عليهم: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: من الآية38). بل إنني وجدت آية أخرى نصا في المسألة، وهي قضية فطام الولد فقد قال -سبحانه-: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) (البقرة: من الآية233). وفصل الولد وفطامه يحتاج إلى حكمة حتى لا يضار وهو صغير لا حول له ولا قوة، وقد يكون ضحية خلاف بين الوالدين، فجعل التشاور شرطا للفطام، وليس مجرد التشاور كافيا، بل لا بد أن يكون تشاورا حقيقيا، تكون نتيجته التراضي والاتفاق، وإلا فلا، ولذلك قال ابن كثير:
أي: فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما، فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد في ذلك من غير مشاورة الآخر، قاله الثوري وغيره (4).
__________
(1) - انظر تفسير المنار 3/75.
(2) - انظر: تفسير الرازي 7/67.
(3) - انظر: تفسير ابن كثير 2/473 مع اختلاف المفسرين في ذلك.
(4) - انظر: تفسير ابن كثير 1/284.(/15)
ومن خلال ما سبق تتضح أهمية الشورى، وأثرها في مواجهة الأحداث، ولو استغنى أحد عنها لاستغنى رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي كان يشاور صحابته عند الملمات، بل إنه كان يأخذ برأيهم، ولو خالف رأيه -أحيانا- كما حدث في أُحُد.
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به ... رغم الخلاف، ورأي الفرد يشقيها
ولذا يقول الشاعر:
ومن الرجال إذا استوت أخلاقهم
حتى يحل بكل واد قلبه ... من يستشار إذا استشير فيطرق
فيرى ويعرف ما يقول فينطق
ويقول الآخر:
إذا كنت في حاجة مرسلا
وإن باب أمر عليك التوى ... فأرسل حكيما ولا توصه
فشاور لبيبا ولا تعصه
وقد قيل: الناس ثلاثة:
رجل كامل -أي الكمال النسبي- وهو الذي له عقل ويستشير، ونصف رجل: وهو الذي له عقل (1) ولا يستشير، والثالث: لا شيء، وهو الذي لا عقل له ولا يستشير (2).
6- بعد النظر وسمو الأهداف
إن الذي يعيش لقضية مصيرية يختلف عن إنسان يعيش على هامش الحياة، فعند وقوع حدث من الأحداث، أو مواجهة قضية من القضايا سنجد الفرق بين التفكيرين، لأن الأول سيربط القضية بالأهداف التي يسعى إليها، ويعالجها من خلال منظور معين، وهذا الذي يرمي إليه الشاعر، بقوله:
ومن الرجال إذا استوت أخلاقهم
حتى يحل بكل واد قلبه ... من يستشار إذا استشير فيطرق
فيرى ويعرف ما يقول فينطق
والشاهد هنا: (حتى يحل بكل واد قلبه).
أما الثاني فإنه يعطي الرأي، ويتخذ الموقف بناء على الظروف المحيطة به، بعيدا عن النظر في الأسباب والنتائج والآثار فهو بادي الرأي.
ولذا فإن علو الهمة، وبعد النظر، سبب من أسباب التوفيق في الرأي، والسداد فيه، وصدق الشاعر:
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام
7- فقه السنن
وهي عامل مهم في نضوج الرأي وسلامة التفكير، لأن التفكر في السنن الكونية والشرعية مما حث القرآن على العناية به: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (الروم: من الآية9). (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (يوسف: من الآية109). حيث وردت عدة مرات، فنجد في سورة الحج 46: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) (الحج: من الآية46) فقرن السير في الأرض -وهو إما حسي أو معنوي- بالعقل، وهو موطن الحكمة، بل إن الآيات جاءت أمرا بالسير في الأرض، ولم تقتصر على الاستفهام فقال -سبحانه- في عدة آيات:
(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (آل عمران: من الآية137). (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (الأنعام: من الآية11).
إن قراءة التاريخ والاطلاع على أحوال الأمم الماضية يضيف إلى رصيد التجربة رصيدا علميا من تجارب الآخرين، ولذا قال الشاعر:
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر ... ضل قوم ليس يدرون الخبر
وكلما تعمق الإنسان في رؤية الماضي من خلال السنن الكونية والشرعية، كان أكثر قدرة على وضوح الرؤية في المستقبل، ضمن الضوابط الشرعية والعقلية.
8- رجاحة العقل
إن العقل مكان الحكمة وبيتها، وبين العقل والحكمة اشتراك لفظي ومعنوي، وقد يطلق العاقل على الحكيم، والحكيم على العاقل، فإذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
حيث إن الحكمة أعم من العقل وأشمل.
ومما يدل على علاقة العقل بالحكمة أن الله لما ذكر الحكمة فقال: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (البقرة: من الآية269). ختمها بقوله: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة: من الآية269). أي: أولو العقول، قال ابن عاشور: وقوله: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة: من الآية269). تذييل للتنبيه على أن من شاء الله إيتاء الحكمة هو ذو اللب، وأن تذكر الحكمة واستصحاب إرشادها بمقدار استحضار اللب وقوته، واللب في الأصل: خلاصة الشيء وقلبه، وأطلق هنا على عقل الإنسان؛ لأنه أنفع شيء فيه (3).
ولأثر العقل في تصرفات المرء وسلوكه، ذكره الله في القرآن كثيرا، تنويها بمكانته، وأثره في الحياة.
9- العدل
أمر الله بالعدل في كتابه في عدة مواضع، ولا يمكن أن تجتمع الحكمة مع الظلم، والحيف والجور.
__________
(1) - وأرى أنه لو كان له عقل لاستشار.
(2) - انظر: حتى لا تغرق السفينة ص 68.
(3) - انظر: التحرير والتنوير 3/64.(/16)
يقول -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) (النحل: من الآية90). ويقول -تعالى-: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: من الآية8). وفي سورة الأنعام 152: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام: من الآية152) وفي سورة الشورى 15: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) (الشورى: من الآية15) وعند التأمل في هذه الآية، تتضح علاقة الحكمة بالعدل، بل مكانة العدل من الحكمة (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل:76).
والحكم والحكمة اشتقاقهما واحد، ومعناهما متقارب، وعند النظر في دلالات الحكمة، نجد أنها في مآلاتها بمعنى الحكم، لأن الحكم هو الحكم بين المتخاصمين أو بين الخصوم، والحكمة هي النظر في أمرين أو عدة أمور، واختيار الصائب أو الأصوب منها، والله -سبحانه- قد جعل العدل أساس الحكم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء: من الآية58). فكما أن العدل من لوازم الحكم، فهو من لوازم الحكمة، بل ركن من أركانها، وأساس من أسسها، والعدل والحكمة معناهما: "وضع الشيء في موضعه"، وإن كانت الحكمة أعم من العدل -كما سبق بيانه-.
10- التثبت
من الوسائل التي تؤدي إلى الحكمة: التثبت، والتثبت: منهج شرعي دعا إليه القرآن، حيث قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات: من الآية6).
وبما أن العجلة والاستخفاف من خوارم الحكمة، فإن التأني والتثبت من دعائمها.
والعجلة من الشيطان، ولذلك قال الله -تعالى- لرسوله صلى الله عليه و سلم (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم: من الآية60). وهذه الآية أعم من التثبت، بل هي أمر بالصبر، والتثبت يحتاج إلى الصبر.
وفي آية الحجرات بعد أن أمر الله بالتبين، قال في الآية التي بعدها: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) (الحجرات: من الآية7). أي: لو أن الرسول صلى الله عليه و سلم استجاب لما يريدون دون تثبت ولا روية لأصابهم العنت والمشقة، الحسية والمعنوية، وهذا مما يخالف الحكمة ومقاصدها.
والذي يمعن النظر في كثير من الأحداث المعاصرة، يدرك أن من أبرز أسباب آثارها السلبية: العجلة وعدم التثبت.
ولقد أدرك الأعداء هذه الثغرة، فكثروا من الإشاعات والأراجيف، وتلقاها كثير من المسلمين بدون روية ولا تبصر، ولم يلتزموا المنهج الرباني، بالتثبت ورد الأمر إلى أهله، كما أمر الله -تعالى-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: من الآية83). ولهذا فقدنا الحكمة في كثير من الأحداث التي مرت بالمسلمين، فجاءت النتائج كما نرى.
11- المجاهدة
قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: من الآية69). أي: لنوفقنهم لإصابة الطرق المستقيمة، كما فسرها الإمام الطبري (1) والحكمة هي التوفيق لإصابة الحق.
ولهذا فإن من أعظم الأسباب للتوفيق للحكمة، هي المجاهدة وهي مفاعلة من الجهاد، فهو جهاد بعد جهاد، وحمل للنفس على تحقيق مراد الله مرة بعد أخرى.
وهذه الآية وعد من الله بأن من جاهد نفسه طالبا للحكمة باحثا عنها أن يوفقه الله إليها، ولو بعد حين، وهذا وعد الله، ومن أصدق من الله قيلا؟.
12- الدعاء والاستخارة
قال الله -سبحانه-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة:186). قال ابن عاشور: الرشد: إصابة الحق وفعله (2).
وقد تقدم أن من معاني الحكمة: الإصابة في القول والعمل. والدعاء له منزلة عظيمة، وآثاره مشاهدة، ملموسة، وتكرر في القرآن وروده، قال -سبحانه-: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ) (النمل: من الآية62). وقال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: من الآية60).
وقال: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) (الأعراف: من الآية55).
والاستخارة قرينة الدعاء، بل هي نوع من الدعاء المشروع، عندما يعرض للمرء طريقان فأكثر، ولا يدري أيها يسلك، فإنه بالاستخارة يوفق للصواب والحكمة.
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري 21/15.
(2) - انظر التحرير والتنوير 2/180.(/17)
13- الصبر
الصبر مفتاح الفرج، ولقد وردت آيتان في كتاب الله، وقفت عندهما متأملا، وخرجت بعد ذلك مستنتجا، أن الصبر دعامة من دعائم الحكمة، بل سبب من أسبابها، وذلك في قوله -تعالى-: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) (الأنبياء: من الآية73). وفي السجدة: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).
إن الصبر من أعظم أسباب توفيقهم للإمامة، ولا يمكن أن يكون إماما للمتقين إلا إذا كان حكيما، قال الإمام الطبري:
وأريد بذلك في هذا الموضع أنه جعل منهم قادة في الخير، يؤتم بهم، ويهتدى بهديهم (1).
ولمنزلة الصبر وأثره في الحياة، وردت آيات كثيرة تحث عليه وتأمر به، ومن الآيات التي وردت تبين أثر الصبر في الحصول على الحكمة والتوفيق لها.
منها قوله -تعالى-: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:34، 35).
فإن الإنسان إذا سلك منهجا يجعل من عدوه حميما وصديقا، فإن ذلك دليل على الحكمة وحسن التصرف.
والقرآن يبين أنه لن يصل إلى هذه المنزلة إلا من كان صابرا موفقا، وهناك آيات كثيرة عند التدبر لها، يدرك المسلم منزلة الصبر من الحكمة، وأثره في التوفيق لها.
ومنها: قوله -تعالى-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (البقرة: من الآية45). وقوله -سبحانه-: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان: من الآية17). وقوله: (قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (الكهف:67). وقوله: (قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً) (الكهف: من الآية69). وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200).
ومن خلال ما سبق يتضح أن الصبر من صفات الحكماء، ولذلك أوصى الله به رسله، وأنبياءه، وعباده المؤمنين.
14- الرفق ولين الجانب
وخير ما أختم به هذا المبحث من الأركان والأسباب التي تؤدي إلى الحكمة هو: الرفق واللين، فإن الله رفيق يحب الرفق، والرسول صلى الله عليه و سلم يقول: " إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه " (2).
وكان صلى الله عليه و سلم وهو الرفيق بأمته يوصي صحابته بالرفق والسكينة دائما، وقد مدح الله -جل وعلا- رسوله صلى الله عليه و سلم فقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) (آل عمران: من الآية159). فالرفق واللين من سمات الحكماء.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن هناك فهما خاطئا لمفهوم اللين؛ حيث يتصور الكثير أن الرفق واللين مرادف للضعف. وهذا فهم خاطئ، فإن الرفق واللين لا يضاد القوة، ولا يستلزم الضعف، وإنما يضاد العنف والفظاظة والغلظة، ومن الأدلة على ذلك:
1- أن الله -تعالى- وصف رسوله صلى الله عليه و سلم باللين، ومدحه بذلك، ونفى عنه الفظاظة والغلظة، ولا يمدح إلا بالممدوح.
2- أن الرسول صلى الله عليه و سلم من أقوى الرجال بل هو أقواهم، مع اللين والرحمة، والرفق وخفض الجانب.
3- أن الرسول صلى الله عليه و سلم أوصى الذي يريد أن يذبح ذبيحته باللين والرفق، والذبح من مظاهر القوة لا الضعف " وليحد شفرته وليرح ذبيحته " (3). وفي هذا الحديث دليل على أن القوة باللين والرفق، فحد الشفرة، دليل على القوة بلين ورفق.
4- أن الجهاد مظهر من مظاهر القوة، بل هو القوة بعينها، ومع ذلك ينهى فيه عما يؤدي إلى العنف والغلظة، فنهى عن المثلة ونحوها.
وبهذا يتضح أنه لا منافاة بين اللين، والرفق وبين القوة، وكلها من صفات الحكماء.
وبعد:
فهذه أهم وأبرز أركان الحكمة وأسبابها، حسب ما ظهر لي بالتتبع والاستقراء لكتاب الله - عز وجل -.
وقد تجتمع هذه الأركان في شخص واحد، وهو نادر وقليل، وقد تتوافر في مجموعة من الأفراد، فبمجموعهم تتوافر فيهم أركان الحكمة وسماتها.
وكما ذكر العلماء، أن المجدد قد يكون فردًا واحدًا، وقد يكونون مجموعة من العلماء، والدعاة يجددون لهذه الأمة أمر دينها (4).
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري 21/112.
(2) - مسلم (2593)، (2594).
(3) - رواه مسلم (1955).
(4) - انظر: كتاب التجديد والمجددون.(/18)
ولهذا فإن الحكمة قد تكون كاملة وقد تكون نسبية، وهو الأكثر (1) وهذا المفهوم يساعدنا في البحث عن الحكمة والحكماء عند مواجهة الأحداث والأزمات.
أمور تندر فيها مراعاة الحكمة
هناك أمور وقضايا كثيرة يتساهل كثير من الناس في مراعاة الحكمة فيها، مع أنها أولى من غيرها، لأهميتها ولما يترتب على ترك الحكمة فيها من آثار سلبية.
ولست في مقام حصر هذه الأشياء وتعدادها، ولكن سأذكر بعضا منها على سبيل الإيضاح والبيان. 1- الوالدان، والأولاد والزوجة، والأهل والأرحام.
فموضوع بر الوالدين وتربية الأولاد، ومصاحبة الزوجة ومعاشرتها، وصلة الأهل والأرحام والأقارب موضوع وقع الناس فيه بين إفراط وتفريط، وقليل منهم من يوفق إلى الأسلوب الأمثل ويؤدي حق الله في هذا الجانب.
فمثلا: الزوجة، هناك من أساء فهم حق القوامة التي منحه الله إياها، (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) (النساء: من الآية34). فتسلط على زوجته واعتبرها مملوكة له، يعاملها كما يعامل السيد مملوكه، وتجاهل حقوقها، والمنهج الشرعي في معاشرتها، (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: من الآية19). وهذا استعباد لم يأذن به الله، وآخرون خضعوا لسلطان الشهوة. (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ) (آل عمران: من الآية14). فاستعبدتهم النساء، وأصبحت المرأة هي السيدة في البيت، فلا يقضى أمر دونها، ولا يعتذر عن مطلب من مطالبها، فضاعت القوامة، ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة.
والقليل من وفق إلى العمل بهذه الأدلة: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) (النساء: من الآية34). (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة: من الآية228) (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: من الآية19). وقول الرسول، صلى الله عليه و سلم " لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها خلقا آخر " (2). وقوله: " إنما هن عوان عندكم " (3). أي: أسيرات، وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تبين حق الزوجة والزوج.
2- التعامل مع المجتمع:
فلا يخلو مجتمع من المجتمعات من التناقضات، والمجتمع يحتاج إلى أسلوب حكيم في التعامل معه، جلبا وتنمية للإيجابيات، ودرءًا للسلبيات، فلا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا جفاء.
3- أهل البدع:
وهذا موضوع مهم للغاية، وقد بين العلماء المنهج الشرعي في التعامل مع أهل البدع، وفرقوا بين البدع صغيرها وكبيرها، والظاهر منها والمستتر، كما فرقوا بين الداعي إلى بدعته، والقاصرها على نفسه.
وليس هذا مكان بيان ذلك، ولكن أردت أن أشير إلى الخلل الواقع في ذلك من قبل بعض الدعاة وطلبة العلم، مما يجانب الحكمة ويضادها.
4- إنكار المنكر:
لماذا إنكار المنكر؟ وهل الأمر بالمعروف لا يحتاج إلى حكمة؟ ليس الأمر كذلك، ولست في بيان الأمور التي تحتاج إلى الحكمة، وإنما المراد هو الإشارة إلى ما يفتقر إلى الحكمة من حيث الواقع، والمشاهد أن الإخلال بالحكمة في النهي عن المنكر أعظم من الإخلال بها عند الأمر بالمعروف.
وكذلك فإن ضوابط إنكار المنكر قد تخفى على الكثيرين، أكثر من خفاء ضوابط الأمر بالمعروف.
وخلاصة القول: إننا بحاجة إلى الحكمة عند الأمر بالمعروف، ولكننا أشد حاجة إليها عند إنكار المنكر.
لأنه لا بد من مراعاة قاعدة المصالح والمفاسد، وقاعدة سد الذرائع، وغيرهما من القواعد الشرعية. والإخلال بالحكمة له آثاره التي لا تخفى، (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)(البقرة: من الآية269).
5- إشاعة بعض الأخبار والمفاهيم:
يقول الله -سبحانه- وتعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:83).
من القضايا التي تقل فيها مراعاة الحكمة:
__________
(1) - قال ابن القيم في مدارج السالكين 4/479: والله -تعالى- أورث الحكمة آدم وبنيه، فالرجل الكامل من له إرث كامل من أبيه، ونصف الرجل كالمرأة له نصف ميراث، والتفاوت في ذلك لا يحصيه إلا الله تعالى. وأكمل الخلق في هذا: الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم، وأكملهم أولو العزم، وأكملهم محمد، صلى الله عليه وسلم، ولهذا امتن الله -سبحانه وتعالى- عليه، وعلى أمته بما آتاهم من الحكمة، كما قال -تعالى-: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم. وقال: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون).
(2) - مسلم (63،1470).
(3) - أخرجه الترمذي (1163) وقال: وهذا حديث حسن صحيح، وابن ماجة (1851).(/19)
إشاعة الأخبار، مما ظاهره المسرة أو الخوف، وقد يكون وراء هذه الأخبار أهداف تخفى على الكثيرين، وبخاصة وقت الأزمات والحروب.
ولأن الحكمة ليست متاحة لكل أحد أمر الله برد هذه الأخبار إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في حياته، وإلى سنته وعلماء الأمة بعد وفاته صلى الله عليه و سلم لأن أولئك هم الذين يدركون الحكمة، ويعلمون ما وراء هذه الأخبار، ومن ثم يقررون ما يناسب الحال.
وهم الذين يفقهون قول الرسول صلى الله عليه و سلم " كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع " (1). لأن كثيرا من الإشاعات والأخبار ليست على ظاهرها، بل قد تكون مكذوبة من أصلها.
6- النقد وبيان الأخطاء:
هذه مسألة ضل فيها كثير من الناس، فطائفة أطلقوا ألسنتهم دون حسيب أو رقيب، وديدنهم النقد والتجريح وإحصاء الأخطاء والمثالب، لا يسمعون بمنقصة إلا أشاعوها، ولا بمذمة إلا أذاعوها، وطائفة أخرى اعتبروا النصيحة فضيحة، والتنبيه على الأخطاء تجريحا، وجعلوا لبعض الأفراد والهيئات والجماعات قداسة لا تمس، ومنحوهم حصانة لا ترفع، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
ومن هنا فإن موضوع النقد وبيان الأخطاء موضوع حساس، له ضوابط يجب أن تراعى، وحدود لا يجوز تعديها وتجاوزها.
ومراعاة هذا الأمر هو الحكمة التي نعنيها، والضالة التي ننشدها.
هذه نماذج من أمور كثيرة يجب أن تراعى الحكمة فيها، ونلحظ تساهل كثير من الناس في ذلك، مما ترك كثيرا من الآثار السلبية في واقع المسلمين ومجتمعاتهم.
مسائل متعارضة سوى الناس بينها
هناك مسائل وقضايا اختلط الأمر فيها على بعض المسلمين، فسووا بينها مع أنها متضادة ومتعارضة، وبينها خيط رفيع لا يدركه إلا الحكماء، ممن وهبهم الله البصر والبصيرة.
فمثلا نجد الخلط بين الإسراف وبين الكرم، والخلط بين البخل وبين التوفير أو الاقتصاد. والأول مذموم، والثاني ممدوح، ومطلوب.
ولذا فبعض الناس يصف الكريم بالإسراف، وآخرون يصفون المسرف بالكرم، وهكذا.
وسأذكر بعضا من هذه القضايا والمسائل، تنبيها إلى خطورة عدم التفريق بينها، وتصور أنها من المتماثلات، لنكون على بينة من أمرنا تجنبا لإطلاق الكلام على عواهنه، دون تبصر لحقيقته وآثاره.
فمن ذلك الخلط بين:
1- القوة وبين العنف والغلظة.
2- الرفق واللين وبين الضعف.
3- المداراة وبين المداهنة.
4- المصلحة وبين المفسدة.
5- النصيحة وبين التشهير.
6- الإسرار وبين السكوت عن الحق.
7- الغيرة وبين الاندفاع غير المنضبط.
8- العزة وبين التكبر.
9- التواضع وبين الذل.
10- التأني وبين البرود والخمول والكسل.
11- الشجاعة وبين التهور.
12- خوف الفتنة وبين الجبن والخوف.
وكثير من الناس يصعب عليه التفريق بينها، فتجد من يصف الشجاع بالتهور، وتجد من يُثني على المتهور ويصفه بالشجاعة.
ونرى من يسم الناصح بالتشهير، وآخرون يبررون عمل الذي يشهر بالناس بأنه ناصح، وهكذا.
والمنهج الصحيح هو تسمية الحقائق بأسمائها، ولا يتسنى ذلك إلا لمن رزق علما وفهما وقدرة على وضع الشيء في موضعه، وهذه هي الحكمة التي نتحدث عنها.
الخاتمة
وبعد:
فهذه هي الحكمة كما فهمناها من كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم حيث اتضح لنا الأثر الإيجابي الذي يتركه من التزم بالحكمة ووفق لها.
أما من لم يوفق للحكمة -وهم كثر، لا كثرهم الله- فقد جنوا على الأمة المصائب والويلات لتصرفاتهم التي سببت للمسلمين البلاء والمزيد، من تسلط الأعداء.
إنه حري بالعلماء وطلاب العلم والدعاة أن يلموا بالحكمة، ويلتمسوا سبلها، في وقت عز فيه الحكماء، وبخاصة أمام هذه الهجمة الصليبية المتقنة.
لأننا، وإن كنا بأمس الحاجة إلى القوة الاقتصادية والعسكرية، فإن حاجتنا إلى الرأي السديد والنظر البعيد أشد وأولى، وصدق الشاعر، إذ يقول:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني
والآخر يقول:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
وإذا كان يعز توافر الحكمة في فرد واحد، فإن توافرها في مجموعة أفراد أحرى وأجدى وأقرب للمنال، ولهذا قال الشاعر:
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به ... رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها
إن الأمة أحوج ما تكون إلى العلماء والدعاة العاملين المخلصين، الملتزمين بمنهج الرسول صلى الله عليه و سلم في وقت أصبح الحليم حيران.
إن العلاج بين أيدينا في كتاب ربنا، وسنة نبينا، حيث يقول المصطفى صلى الله عليه و سلم " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي " وقال: " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " (2).
__________
(1) - مسلم (5).
(2) - رواه الحاكم في المستدرك وصححه الألباني في صحيح الجامع (2937).(/20)
وصدق الله العظيم حيث يقول: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام: من الآية153). ولكن لن يفقه ذلك إلا من آتاه الله الحكمة، (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة: من الآية269).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.(/21)
الحلال بَيِّنٌ والحرامُ بَيِّنٌ د. محمد عمر دولة*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبِه أجمعين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، فقد وَرَدَت أحاديثُ عِدةٌ من هديِ النبي صلى الله عليه وسلم في الأمرِ بِتَركِ الشُّبهاتِ والتزامِ الوَرعِ والاستبراءِ لِلدِّينِ، وهي تَشتَملُ على فُنونٍ من العِلمِ الصافي الذي لم يُكَدَّرْ والمعرفة الأصيلة التي حَفِظها الله لهذه الأمةِ وللإنسانيةِ؛ فلم تُبدَّلْ ولم تُغَيَّرْ.
ومِن أعظمِ هذه الأحاديثِ وأنفَعِها لأهلِ زمانِنا ـ وكلُّ حديثِه صلى الله عليه وسلم نافِعٌ مُبارَكٌ ـ: حديثُ (الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بَيِّنٌ)، وقد اعتنَى به العلماءُ، وعَدَّه بعضُهم مُتضَمِّناً ثُلثَ العِلم. قال ابنُ رجب رحمه الله: "عن الإمام أحمد رضي الله عنه قال: أصُولُ الإسلامِ على ثلاثة أحاديث: حديث عمر: (إنَّما الأعمالُ بالنيات)، وحديث عائشة: (مَن أحْدثَ في أمرِنا هذا ما ليس منه؛ فهو رَدٌّ)، وحديث النعمان بن بشير: (الحلالُ بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ)".[1] وقال ابنُ حجر رحمه الله في كلامِه عن حديثِ (الأعمال بالنيات): "كلامُ الإمام أحمد يَدلُّ على أنه أرادَ بِكَوْنِه ثُلثَ العِلمِ أنه أحدُ القواعدِ الثلاث التي تُرَدُّ إليها الأحكامُ عِندَه، وهي: هذا الحديث، و(مَن عَمِلَ عَملاً ليس عليه أمْرُنا فهو رَدٌّ)، و(الحلالُ بيِّنٌ، والحرامُ بَيِّنٌ)".[2]
وكذلك عدَّ ابنُ راهويه هذا الحديثَ من (أصُولِ الدين)، واعتبرَه أبو داود (رُبعَ العِلم) وأحدَ الأحاديث التي (تكفي المرء لدينِه).[3] ولا يخفى أنَّ هذه الأحاديثَ تدورُ على شَرْطَي قَبولِ الأعمال، وهما: الإخلاصُ والمتابَعة. بالإضافة إلى الوَرَعِ وهو مَنهجُ الاستقامة الذي يحمي الإنسانَ من الوُقوعِ في مَعاصِي الله عزَّ وجلَّ.
فقد روى البخاري في كتاب (الإيمان) باب (فضل مَن استبرأ لدينِه) والدارمي في (البيوع)[4] باب (الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما[5] قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلالُ بَيِّنٌ، والحرامُ بَيِّنٌ، وبينهما مُشَبَّهاتٌ لا يعلمها كثيرٌ من الناس؛ فمن اتقى الشبهات؛[6] استبرأ لِدِينِه وعِرْضِه، ومَن وَقعَ في الشُّبهات كراعٍ يرعَى حولَ الحمَى يُوشِكُ أن يُواقِعَه؛ ألا وإنَّ لكلِّ مَلكٍ حمى؛ ألا إنَّ حِمَى الله في أرضِه مَحارِمُه؛ ألا وإنَّ في الجسدِ مُضغةً إذا صلحَت صلحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدَت فسدَ الجسدُ كلُّه؛ ألا وهي القَلب".[7]
ورواه البخاري كذلك في (البيوع) باب (الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ، وبينهما مشبهات) بلفظ: (الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ، وبينَهما أمورٌ مُشتبهة، فمَن ترك ما شُبِّهَ عليه من الإثم؛ كان لما استَبانَ أترك، ومَن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم؛ أوَشَك أن يُواقِعَ ما استَبان، والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه).[8]
فهذا الحديثُ قاعدةٌ مُهِمةٌ من القواعِِدِ الإيمانيةِ والتربوية والأخلاقية والسلوكية؛ فإنَّ المؤمنَ لا يجترىء على ما يشك فيه من الإثم! بل يُوقفه إيمانُه ويحول بينَه وبين الحرامِ؛ وتلك ثمرةُ التقوى والوَرع؛ ولذلك أخرجَه البخاري رحمه الله في كتاب (الإيمان) باب (فضل مَن استبرأ لدينِه)!
ويشتمل حديث (الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ) على حقيقةٍ نفسيةٍ؛ وهي صِدقُ الفِطرةِ السليمةِ وأثرها في معرفةِ المعروفِ وإنكارِ المنكَر؛ فلا يكاد القلبُ يُخطىء تمييزَ الحلالِ من الحرام! ويُوضح ذلك ما وردَ في أحاديثِ عَرْضِ الفِتنِ على القلوبِ؛ حيث تنحرف بعضُ القلوبِ؛ فتفقد قُدرتَها الإيمانية على معرفةِ المعروف وإنكارِ المنكر!
وفي هذا الحديثِ إشارةٌ نفسِيةٌ بَدِيعةٌ إلى خُطورةِ الضعفِ النفسي، وأثَرِه في الوُقوعِ في الحرام؛ فمَن تساهلَ وتهاونَ وحامَ حول الشبهاتِ ما يلبثُ أن يقع في الحرامِ؛ وإن ادَّعَى حُسنَ النيةِ وسلامةَ الطوية؛ فلا بُد أن تكشفَ الأيامُ حقيقةَ الأمر، كما قيل:
ومَهما يَكُنْ عندَ امرىءٍ مِن خَلِيقةٍ ** وإنْ خالَها تَخفَى على الناسِ تُعلَمِ!
وأما العبدُ الصالح التقيُّ؛ فإنه يتورعُ عن مواطنِ الفسادِ ومواردِ الشُّبهة؛ استبراءً لدينِه وحفاظاً على عرضِه، كما يفيدُه قولُه صلى الله عليه وسلم : (فمَن ترك ما شُبِّهَ عليه من الإثم؛ كان لِما استَبانَ أتْرَكَ، ومَن اجتَرأ على ما يشك فيه من الإثم؛ أوَشَك أن يُواقِعَ ما استَبان)! وهذا مشاهدٌ في الواقعِ؛ فما زال الأتقياءُ يَفِرُّون بدينِهم مِن الفتن، وأما الغافلون الجاهِلُون فيتهافتون على مَواردِ الهلكةِ؛ والعياذ بالله!(/1)
ومن الناحية الفكرية يُبَيِّنُ هذا الحديثُ الجليلُ أهمية العلمِ في النجاةِ من الفتن والشبهات؛ فقد جاء في الحديث (وبينهما مُشَبَّهاتٌ لا يعلمها كثيرٌ من الناس)، ومفهومُه أنَّ بعضَ الناسِ لا يشتبه عليهم الحلال بالحرام؛ فهُم على بيِّنةٍ من أمرِهم، وعلى مَعرفةٍ بدينِهم ترفع عنهم ظلمات الجهل وتنير لهم دروبَ العلم والفقه في الدين. قال ابن رجب رحمه الله: "قسمَ الناسَ في الأمورِ المشتبهة إلى قِسمين. وهذا إنما هو بالنسبة إلى مَن هي مُشتبهةٌ عليه, وهو مَن لا يعلمها. فأما مَن كان عالماً بها واتبع ما دلَّه علمُه عليها. فذلك قسمٌ ثالثٌ لم يذكره؛ لظهور حُكمِه. فإنَّ هذا القسمَ أفضلُ الأقسام الثلاثة؛ علم حُكم الله في هذه الأمور المشتبهة واتبع علمه في ذلك".[9]
فالمؤمنُ يَحذرُ الوُقوعَ في الشُّبهاتِ؛ ويحرص على أنْ لا يقربَ الحرامَ، بل يجعل بينَه وبين الحرامِ حاجزاً، وذلك دليلُ تقوى الله عزَّ وجلَّ، فإنْ شكَّ في بعضِ الأمورِ، وعَسُرَ عليه التفرقةُ بين الحلالِ والحرامِ توقَّفَ، وعَلِمَ أنَّ هذا من الأُمُورِ المشتبهة التي ينبغي فيها الإحْجامُ لا الإقدام، كما قال القرطبي رحمه الله: "فمَنَعَ من الإقدامِ على الشُّبهاتِ مَخافةَ الوُقوعِ في المحرماتِ؛ وذلك سَداًّ للذريعةِ، وقال صلى الله عليه وسلم : (لا يبلغُ العبدُ أن يكون من المتقين؛ حتى يَدَعَ ما لا بأسَ به حَذراً مما به البأس)، وقال صلى الله عليه وسلم : (إنَّ مِن الكبائرِ شَتْمَ الرجلِ والِدَيْه! قالوا: يا رسولَ الله وهل يَشتُم الرجلُ والِدَيه؟ قال: نعم؛ يَسُبُّ أبا الرجلِ؛ فيسُبُّ أباه ويَسُبُّ أمَّه؛ فيَسُب أمَّه)؛ فجَعلَ التعرُّضَ لِسَبِّ الآباء كَسَبِّ الآباء".[10]
ومن الناحية الفقهية والأصولية يُعتبرُ حديثُ (الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ) أصلاً في سَدِّ الذرائع، وهو أصْلٌ عظيمٌ من أصُولِ مالكٍ رحمه الله، قال ابنُ رجب في شرحِ حديث النعمان رضي الله عنه : "يُستَدلُّ بهذا الحديثِ مَن يذهب إلى سدِّ الذرائع إلى المحرمات وتحريم الوسائل إليها؛ ويدلُّ على ذلك أيضا قواعد الشريعة تحريم قليل ما يُسكر كثيره، وتحريم الخلوة بالأجنبية، وتحريم الصلاة بعد الصبح وبعد العصر؛ سَدّاً لذريعةِ الصلاةِ عند طلوعِ الشمسِ وعند غروبها, ومنع الصائم من المباشرة إذا كانت تحرك شهوته, ومَنعَ كثيرٌ من العلماءِ مُباشَرةَ الحائضِ فيما بين سُرتها ورُكبتها إلا من وراء حائل كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر امرأته إذا كانت حائضا أن تتزر فيباشرها من فوق الإزار".[11]
ورَحِمَ الله أبا إسحاق الشاطبي؛ فقد بَيَّنَ الحكمةَ من تشريعِ المباح والمكروه، وأكَّدَ ضرورةَ اعتبارِ المكروهِ حاجزاً دون الحرام؛ لأنّ "في إبطال الأخفِّ جُرأةً على ما هو آكدُ منه, ومدخلاً للإخلال به؛ فصار الأخفُّ كأنه حِمىً للآكَد, والراتع حول الحمى يُوشِك أن يقعَ فيه... فالمجترئ على الأخفِّ بالإبطال مُعرَّضٌ للتجرؤ على من سواه".[12]
- - - - - - - - - - -
[1] جامع العلوم والحكم ص 9.
[2] فتح الباري 1/11.
[3] جامع العلوم والحكم ص 9-10.
[4] سنن الدارمي 2/319، حديث2531.
[5] النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري: صاحب رسول الله رضي الله عنه وابن صاحبه. وأمه عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة. وُلد على رأس أربعة عشر شهرا من الهجرة وهو أوّل مولود وُلد في الأنصار بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. وقد ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من الصحابة وقال أبو حاتم: كان أميرا على الكوفة تسعة أشهر، وذلك في عهد معاوية رضي الله عنه . وكان النعمان رضي الله عنه خطيباً بليغاً، قال سماك بن حرب :"كان والله مِن أخطب مَن سمعتُ من أهل الدنيا يتكلّم". وقد روى المزي في تهذيبه زيارة أعشى همدان له وقوله :"جئت لتصلني وتحفظ قرابتي وتقضي ديني" فاستأذن النعمان رضي الله عنه أهل حمص، واستشارهم في أن يتصدّقوا عليه من عطائهم بدينار عن كل رجلٍ. فأذِنُوا له فأعطاه أربعين ألف دينار. فقبضها الأعشى ثم أنشد يقول:
فلم أر للحاجات عند انكماشها ** كنعمان أعني ذا النَّدَى بن بشير
إذا قال أوْفَى بالمقالِ ولم يكنْ ** كَمُدْلٍ إلى الأقوامِ حَبلَ غُرورِ
متى أكفر النعمانََ لم أكُ شاكرا ** وما خير من لا يقتدي بشكور
وقد مات رضي الله عنه في آخر إمرته على حمص مقتولا في فتنة ابن الزبير سنة أربع وستين وقيل خمس وستين أو ست وستين رحمه الله تعالى.
[6] وردت رواية بلفظ: (المشبَّهات)، وثانية بلفظ (الشُّبُهات)، وثالثة بلفظ (المتشابِهات).
[7] صحيح البخاري 1/28.حديث 52.
[8] صحيح البخاري 2/723. حديث 1946.
[9] جامع العلوم والحكم ص 95.
[10] الجامع لأحكام القرآن 2/58-59.
[11] جامع العلوم والحكم ص 98.
[12] الموافقات في أصول الشريعة 2/ 21 – 22 ونظرية المقاصد للإمام الشاطبي لأحمد الريسوني ص 128.(/2)
الحلبي الكريم
ومن أخبار البحتري أنه كان بحلب شخص يقال له طاهر بن محمد الهاشمي، مات أبوه وخلّف له مقدار مائة ألف دينار، فأنفقها على الشعراء والزوار في سبيل الله، فقصده البُحتري من العراق فلما وصل إلى حلب قيل له إنه قد قَعَدَ لديون ركبته، فاغتمّ البحتري لذلك غمّاً شديداً، فبعث المِدحة إليه مع بعض مواليه، فلما وصلته ووقف عليها بكى، ودعا بغلام له وقال له: بع داري.
فقال له: أتبيع دارك وتبقى على رؤوس الناس؟
فقال: لابدّ من بيعها.
فباعها بثلاث مئة دينار، فأخذ صرّة وربط فيها مئة دينار وأنفذها إلى البحتري، وكتب إليه معها رقعة فيها هذه الأبيات:
لو يكون الحِياءُ حسبَ الذي أنْ تَ لدينا به محلُّ وأهلُ
لَحَبَوْتُ اللُّجينَ والدُّرَّ واليا قوتَ حشواً وكان ذاك يقلُّ
والأديب الأريب يسمح بالعذ رِ إذا قصّر الصديق المقلُّ
فلما وصلت الرقعة إلى البحتري ردَّ الدنانير وكتب إليه:
بأبي أنت وأنت للبرّ أهلُ والمساعي بعدُ وسعيَكَ قبلُ
والنَّوالُ القليلُ يكثُرُ إن شا ءَ مُرجّيكَ والكثيرُ يقلُّ
غيرَ أنّي رددتُ برّكَ إذ كان ن رباً منك ، والربا لا يحلُّ
وإذا ما جَزَيْتَ شِعراً بشعرٍ قُضيَ الحقُّ ، والدنانيرُ فضلُ
فلما عادت الدنانير إليه حلَّ الصرّة، وضمَّ إليها خمسين ديناراً أخرى وحلفَ أنه لا يردّها عليه، وسيّرها، فلما وصلت إلى البحتري أنشأ يقول:
شكرتُكَ إنّ الشُّكرَ للعبد نعمةٌ ومن يشكر المعروفَ فاللهُ زائدُه
لكلِّ زمان واحدٌ يقتدى به وهذا زمانٌ أنتَ لا شكَّ واحدهْ(/1)
الحلقة 1 من سورة المسد
الحلقة (29) الجمعة 4 شعبان 1396هـ-30 تموز 1976م
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون فاليوم موعدنا مع سورة المسد ثالثة السور التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفاقاً لترتيب نزول السور على أرجح الآراء؛ وكنا سلخنا ما مضى، ونحن نعيش مع المعاني الكبيرة التي قررتها وأفرزتها سورة الفاتحة، ولقد يحسن التنبه والتنبيه إلى ضرورة ملاحظة هذا الشمول في المعارك التي كان الإسلام يخوضها من أجل طرد الجاهلية من ساحة الدنيا، وإعادة الناس إلى حظيرة الله يستروحون نسائم العزة والكرامة، ويتحسسون معاني الآدمية الصحيحة المستقيمة. والشيء الذي يدهشك وأنت تتعرف على ساح المعركة أن الإسلام لا يغفل الداخل وهو يخوض معركته في الخارج ولا يسقط حساب الخارج وهو يخوض معركته في الداخل فكل أولئك الساحات يكمل بعضها بعضاً ويؤثر بعضها ببعض، وما فائدة الساحة الخارجية إن هي نقيت من الزلل وطهرت من الأدناس وأعيدت إلى القواعد السليمة. ثم وضعت بين أيدي أناس مازكت نفوسهم ولا صغت قلوبهم ولا استقامت أخلاقهم ولا استناروا بنور الإيمان. إنهم بهذه المثابة خليقون أن يفسدوا كل شيء.
وما فائدة إقامة الحياة الداخلية الذاتية للإنسان على قواعد التقوى وعلى أسس الإيمان، إذا كان كل ما هو خارج الذات يضغط ضغطه الهائل المخيف، فيترك آثاره على النفس تزلزلاً وانحرافاً وشكاً في الله تبارك وتعالى. وسر الإعجاز في هذا الدين والحمد لله أنه وهو يخوض معركته الفاصلة ضد الجاهليات عموماً يخوضها بكل الطاقة الإنسانية لا يعطل منها شيئاً ويخوضها على كل الساحة البشرية لا يخلي ساحة من الساحة.
ولقد كانت الفاتحة معركة عظيمة ولكنها تخاض في داخل الذات؛ تقويماً للتصور وتصحيحاً للاتجاه ووضعاً لحقيقة الألوهية في مكانها الصحيح، وإعادة لهذا الإنسان إلى قاعدته التي لا ينبغي له، وما لكونه له أن يتزحزح عنها، وهي قاعدة العبودية ونحن الآن، ونحن نواجه سورة المسد سوف نواجه لوناً آخر أو ساحة أخرى؛ ساحة خارجية كانت بمثابة رد الفعل على هذا الذي نادى به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. ولنبدأ من البداية:
فكما علمتم فإن رسول الله صلى الله عليه وآله نُبّئ بهذا الإسلام، وتنزَّلَ عليه أوائل الوحي وليس مهماً الآن أن نحدد بداية الخطى؛ فقد سبق أن تكلمنا على جوانب منها، والمهم أن نقول إن الله تبارك وتعالى وبعد أن أنزلت عليه عدة سور ودخل من دخل في دين الله، أمره الله تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين فقال جل من قائل:
(وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك للمؤمنين).
فقام رسول الله عليه السلام بتنفيذ أمر الله جل وعلا.
عندنا بصورة رئيسية روايتان أساسيتان في هذا الصدد؛ رواية تقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن عمه وربيبه علي كرم الله وجهه في الجنة إن الله أمرني بأن أنذر عشيرتي الأقربين فاصنع لنا طعاماً، وادعهم إليه يقول علي؛ فصنعت لهم طعاماً، ودعوتهم فجاؤوا، ولا حاجة بكم إلى ذكر التفاصيل فالمهم أن الرواية تقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حينما همَّ بأن يفاتح قومه، عشيرته بالدعوة، وأن يدعوهم إلى الإيمان به، وإلى اتباعه هاب قومه؛ فأمسك عن الكلام قال: فجاءه جبريل عليه السلام فقال له:
يا محمد؛ إن الله يأمرك بأن تنذر عشيرتك الأقربين فإذا لم تفعل فإن الله سوف يعذبك.
قال علي: فأمرني في اليوم الثاني أن أصنع لهم طعاماً وأن أدعوهم قال فصنعت الطعام ودعوتهم فجاؤوا، فوقف بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن فرغوا من طعامهم وأبلغهم ما طلب الله إليه أن يبلغهم إياه.
وفي الرواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: أيكم يوافقني على هذا الأمر فيكون خليفتي ووصيي فيكم؟ قال فلم ينهد له أحد، فقمت وأنا ابن عشر سنين أو إحدى عشرة سنة، فقلت: أنا يا رسول الله؛ قال فأخذ برقبتي وقال: إن هذا خليفتي عليكم ووصيي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا.
قال فخرج القوم يتضاحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.
وفي الرواية أن أبا لهب قال له: ألهذا جمعتنا؟ تبت يداك، فأنزل الله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب) إلى آخر السورة.
هذه رواية لي عليها تحفظ يمنعني من الأخذ بها؛ فكأني أشم عليها روائح تشيع، وروائح وضع مبكر واختلاق. على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما وأن الدعوة في ذلك الوقت ليست في المرحلة التي تسمح بتعيين الأوصياء وتعيين الخلفاء والبحث في هذه الأشياء - التي تبحث عادة في النهايات ولا يفكر بها أحد في البدايات - فمن أجل هذا أجدني في حل من رفض هذه الرواية؛ والتعويل على الرواية الأخرى لأنها الأولى على صيغة العرب في التعامل بمثل هذه المواقف تقول الرواية:(/1)
إن رسول الله صلى الله عليه وآله حينما أمره الله بأن ينذر عشيرته الأقربين؛ صعد على (الصفا) وهو جبل بظاهر مكة، فنادى: يا آل فلان يا آل فلان؛ وتلك عادة العرب حينما تريد أن تبلغ شيئاً إبلاغاً عاماً، قال فاجتمع إليه هؤلاء النفر الذين ناداهم وكانوا - قومه وفي رواية أنهم قريش لأن قومه هم قريش عامة - فقريش قبيلة واحدة قال؛ فلما تكاملوا وتتامّ عددهم خاطبهم عليه الصلاة والسلام فقال لهم:
"يا معشر قريش أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تريد أن تغير عليكم من وراء هذا الوادي أكنتم مصدقيّ؟"
قالوا: نعم فما جربنا عليك كذباً.
قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. ودعاهم إلى الإسلام فنهد أبو لهب وقال له: تبت يداك؛ ألهذا دعوتنا؟ أو: ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله تبارك وتعالى:
(تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد).
تلك هي الروايات الواردة ثمة روايات أخرى لا يعول عليها كثيراً؛ والمهم أن هذا هو سبب نزول السورة بشيء يكاد يكون إجماعاً بين المفسرين وعلماء القرآن ومؤرخي السيرة النبوية؛ هذا الموقف من أبي لهب موقف خطير ولولا أنه موقف خطير ما سجله الله تعالى في القرآن آياتٍ تتلى ويُتَعَبًّدُ بها الناس ويقرؤونها في كل حين.
ولكي نتفهم خطورة الموقف فإن علينا أن نرجع القهقرى، أن نرجع إلى وراء، إلى تلك الأيام البعيدة التي لم يعاصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها عاشت في ذاكرة قريش وعاشت في ذاكرة رجالات ونساء بني عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، في تلك الأيام البعيدة؛ يشعر عبد المطلب أنه قليل الحول ضعيف بسبب أنَّ له ولداً قليلاً والمعيشة في بيئات كتلك البيئات تعتمد مبدأ العصبية ومبدأ القبلية، فإنما يتعزز الناس بالذكور من الأولاد. - ويأخذ الألم من عبد المطلب ما يأخذ. وينذر لله نذراً كبيراً: لئن رزقه الله عشرة من الولد يمنعونه ويقومون دونه لينحرنّ لله أحدهم عند الكعبة.
وتمضي الأيام والشهور والسنون ويشاء ربك أن يرزق عبد المطلب أولاداً يتكاملون عشرة، ويأتي أوان الوفاء بالنذر، وبعد فصول وشؤون وشجو؛ يستقر النذر على عبد الله أصغر أولاد عبد المطلب وأحبهم إليه بإطلاق، والفتى الذي يُعَدُّ زَيْنَ فتيانِ قريش، ويقوم الناس فيمنعون عبد المطلب من الوفاء بنذره كي لا تكون هذه سنة في العرب، كلما حزب أحداً منهم أمر قام فنذر أن يذبح أحد ولده فما بقاء الناس بعد ذلك، ويشب عبد الله فتى تخلص من الذبح - بأعجوبة بخارقة بمعجزة - تحفُّ به قلوب قريش شيباً وشباناً ورجالاً ونساءً، ويزُوَّجُ عبد الله ثم يمضي إلى ما تصورت قريش أن تقوم به من غدو ورواح بالتجارة؛ فيأتيه أجله المقدور في سفره ويموت عبد الله مخلفاً في القلوب حسرة ممضة وألماً مستعراً.
ويمضي الزمان ويولد لعبد الله ولد لم يقدر له الله أن تكتحل عيناه برؤيته والولد هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ تجيء ثويبة جارية أبي لهب مهرولة إلى أبي لهب وتقول له: أشعرت أن آمنة ولدت لأخيك ولداً ذكراً؛ فيقول لها اذهبي فأنت حرة، يُبَشَّرُ أبو لهب بأن أخاه الذي اخترمته يد المنون، وهو غض الإهاب طريّ العود، قد رزق الولد ولا شك أن أبا لهب في تلك البيئة التي ترى الولد الذكر كل شيء، والتي تذهب في تقدير الذكورة مذهباً أفقدها القدرة على تحسس وتلمس معنى الإنسانية؛ فإذا بها تشمئز وتغضب وتكفهر حينما يولد لها الإناث؛ وتفرح وتحتفل وتُسَرُّ غاية السرور حينما يولد لها الذكور بل يذهب السفه ببعض قبائل من قبائل العرب؛ إلى الحد الذي يئدون فيه البنات، وهن على قيد الحياة؛ حتى يأتي الإسلام فيزيل هذه العادة الوخيمة، وحتى يأتي الإسلام ويعيد إلى هذه الأنثى التي لا ذنب لها - كرامتها وقيمتها الإنسانية؛ يحدثنا القرآن الكريم أن قبائل من قبائل العرب كانت تكره أن تبشر بالأنثى يقول الله جل وعلا:
(وإذا بُشِّرَ أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّرَ به أيمسكه على هون أم يدسُّه في التراب ألا ساء ما يحكمون).
كذلك كانت قبائل من قبائل العرب، تفعل ولقد شاع على ألسنتهم إلى الحد الذي سرى وجرى مجرى الأمثال: وأدُ البنات من المكرمات فالأمة التي تعيش على هذه المعاني والقيم، والتي فرضت عليها بيئتها القاسية هذه المفاهيم، والتي فرضتها بعامل من الطبيعة بحكم انقطاع الأمة العربية عن العالم الخارجي انقطاعاً يشبه أن يكون تاماً؛ وبحكم حالة البداوة وشح الأمطار وندرة المياه وقلة الخيرات والزروع، كل ذلك فرض على الأمة العربية أن تكون أمة طابعها الرحلة والنقلة، لا تكاد تستقر في مكان إلا ما كان من البلدين مكة والمدينة فقط فهاتان المدينتان كانتا تعرفان الاستقرار، وأما بقية قبائل العرب فهي يوماً هنا ويوماً هناك وطوراً في هذا النَجْع وطوراً في ذاك تلتمس مساقط المطر ومسايل المياه ومنتجع الخيرات.(/2)
وتصوروا أن بيئة كتلك البيئة شحيحة الخير، قليلة المياه نادرة الأمطار، ينزل في بقعة منها شيء من المطر ينبت قليلاً من الكلأ... ألا تتدافع نحوها القبائل؟ بلى يتدافعون تدافعاً يؤدي إلى الاقتتال، وكم من وقائع جرت، وكم من مذابح كانت من أجل أن ناقة ضُرِبَتْ وَحُلِّئت عن الماء؛ ومن أجل أن رجلاً سابق أخاه على الماء فسالت الدماء أنهاراً. في تلك البيئة التي لا يعرف فيها حكم إلا السلاح، ولا يعرف فيها تهدئة وتسكين للاضطرابات إلا الدم؛ يكون الذكر ذا قيمة عالية لأنه هو الذي يدفع، ولأنه هو الذي يمنع، ولأنه هو الذي يقاتل، وكما قال شاعرهم:
كُتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جَرُّ الذيول
في تلك البيئة تنطبع المشاعر على محبة الذكر؛ فحين تجيء البُشْرَى إلى أبي لهب عَمِّ النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان أبو لهب أخا عبد الله من غير أمه؛ فعبد الله أخو أبي طالب من أمه، وليس أخا أبي لهب من أمه، مع ذلك فأبو لهبٍ ابن عبد المطلب، ومن المهم في عرفه وفي نظره وفي طباعه الجاهلية، أنه يفرح ويُسَرُّ حينما يبشر بأنَّ أَخاه الذي مات قد استمر عَقِبُهُ ولم ينقطع ذِكْرُه، فرزقه الله تعالى مولوداً ذكراً. وأيضاً فأبو لهب ككل رجالات الجاهلية، وكل أبناء تلك الصحراء، حينما يبشر بأن أخاه رزق مولوداً ذكراً فوراً يخطر على باله حسبة رياضية. إن رجال القبلية زادوا واحداً، وهذا يعني زيادة سيف، وزيادة رمح، وزيادة فارس، يعني بالتالي زِيادةً لقوة القبيلة التي يرى أبو لهب ويرى غير أبي لهب أنَّ حياته مرتبطة وجوداً ومصيراً بهذه القبيلة، وأنه لا يمكن أن يتصور لنفسه أية حياة خارج نطاق هذه القبيلة، فسروره دفعه إلى أن يعتق الجارية، حين بشرته بولادة محمد صلى الله عليه وسلم إذاً هو سُرَّ بأن الله تعالى قد رزق أخاه مولوداً، وكان يرى في قسميات الوليد والطفل الذي بدأ يدرج، قسيمات أخيه الذي مات مخلفاً وراءه الحسرة الكبيرة، الأخ الذي اهتصرته يد المنون وهو شاب لم ير من الحياة شيئاً.
وتمضي الأيام، تمضي ويشب محمد صلى الله عليه وسلم، ويتزوج ويرزق الأولاد والعلائق بين بيت أبي لهب وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحسن ما يكون، وعلى أوثق ما يكون، ويخطب أبو لهب كريمتي محمد صلى الله عليه وسلم لولديه عتبة وعتيبة، يخطب رقية وأم كلثوم لكي تكونا كنتين لكي تكونا زوجتين لولديه عتبة وعتيبة فهذا يدل على أن العلائق جيدة للغاية بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين عمه أبي لهب؛ وهذا يدفعنا إلى أن نعرج لنفند تعليلاً يتعلل به كثير من الذين يكتبون في السيرة، ويتعرضون لتاريخ الإسلام فالذين يدرسون هذه المرحلة وهذه الواقعة؛ يقولون إن سر عداوة أبي لهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بسبب زوجته أم جميل- التي هي من بني أمية وبين بني أمية وبين بني المطلب عداء كان في الجاهلية؛ ولعمري إن تعليلاً من هذا النوع ليسقط من تلقاء نفسه حينما نتساءل: وأين كانت أم جميل حينما أراد زَوْجُها أنْ يخطب ابنتي محمد صلى الله عليه وسلم؟ وأين كان العداء الأموي من نفس أُمّ حينما أقدم ولداها على التزوج ببنتي محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهل لا تنفجر هذه العداوات والخصومات التي يفترض هؤلاء الدارسون أنها حية لم تمت إلا بعد أن ينبأ رسول الله، وإلا بعد أن تأتيه الرسالة، وإلا بعد أن يبادئ قومه بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى. إن تعليلاً من هذا النوع لا يكاد يقف على قدميه على الإطلاق فيجب أن نلتمس التعليل من جهات أخرى، وما نحن الآن بصدد التماس التعليل، وإنما نحن بصدد تتبع مواقف أبي لهب بعد الحادثة التي رويناها لكم أول مرة والتي رويناها بمناسبة بيان سبب نزول الآيات وقول أبي لهب لرسول الله تبت يداك ألهذا دعوتنا؟(/3)
ذهب أبو لهب غاضباً إلى بيته، فاستدعى إليه ولديه وقال لهما: رأسي من رأسكما حرام، إذا أنتما لم تطلقا بنتي محمد. فقاماً فطلقا بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.. تلك هي بداية الخصومة، وتلك هي الشرارة التي أشعلت كل هذا الضرام الذي سوف يأتي في البحث.. تمر الأيام وقبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وبعد المرحلة التي نتحدث عنها بزمان يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ينادي في الناس: أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله وأن ما هم عليه من عبادة الأوثان فباطل لا يجوز لهم أن يتورطوا فيه، ويطوف بين القبائل بذلك.. كان يتحرى مجيء القبائل العربية أثناء المواسم؛ مواسم الحج والزيارة التي كانت تدوم أربعة أشهر من كل عام، فيذهب إلى هذه القبائل يدور عليهم في منازلهم تصوروا المنظر.. النبي عليه الصلاة والسلام لا طيارة تحمله ولا سيارة يركبها ولا جند ولا أحراس ولا مواكب ولا هتافات ولا ما أشبه ذلك، وإنما إنسان يمشي على قدميه يحمل مصير الدنيا كلها على كتفيه، ويطوف في القبائل وحيداً فريداً، ومن حوله تتنزى عداوات وتتفجر خصومات والقلوب تنام على دخن ويود كل امرئ لولا التوازن القبلي أن يفتك بهذا المصمم على أَنْ يخرب عليهم حياتهم كما يتصورونها يطوف بين القبائل فيقول لهم: يا بني فلان إن الله قد بعثني إليكم رسولاً. فماذا أيضاً؟ ماذا تضيفون إلى الصورة؟ تصوروا. يقول رواة السيرة: إن النبي عليه الصلاة والسلام حين كان يفعل هذا كنت ترى من ورائه رجلاً وضيء الوجه، أحول العين، إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه إلى الناس؛ يقول لهم: لا تصدقوه فإنه كذاب. من هذا؟ عمُّه أبو لهب.. العم الذي هو أولى الناس بأن يشد من أزر ابن أخيه يتبعه كظله، لا يترك قبيلة يطرقها رسول الله إلا كان معه؛ فإذا فرغ من كلامه خذِّلَ عنه ونفَّرَ الناس منه ورماه بالكذب افتراء وهو الذي سألهم من أول لقاء: لو أخبرتكم أن خيلاً وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: نعم ما جرّبنا عليك كذباً.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يختلف خصومه ولا الموالون له في أنه الصادق الذي لم يكذب ولا يكذب أبداً والله جل وعلا قال له:
(فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون).
ولولا هذا الجحود الذي يتجاوز نطاق المعقول، ويظلم نفس الإنسان ظلماً مبيناً ما كان أبو لهب يجرؤ على أن يقول لا تصدقوه فإنه كذاب؛ وهو يعلم أن لو زالت الدنيا كلها ما كذب محمد صلى الله عليه وسلم.
ونترك أبا لهب في هذا الموطن ونمضي مع الأيام نمضي لنتتبع مراحل هذه العداوة وآثار هذه العداوة كانت في الأول فصلاً لعلاقة حميمة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بيت أبي لهب؛ متمثلة في الإصهار إليه ففصلها أبو لهب، ثم تمثلت في دعاوة نشطه ومجرمة تتحرى الأماكن التي يغشاها رسول الله، فتقول للناس لا تصدقوه فإنه كذاب، وصوروا لأنفسكم أو تصوروا: لو أنك جئت فسمعت إنساناً لا تعرفه ولا يعرفك يدعو إلى شيء فجاءك أبوه أو أخوه أو عمه من الناس القريبين منه فقال لك: إنه كذاب؛ ماذا يقع في ذهنك؟ إن أقارب الإنسان أعرف الناس به فمن هنا تدركون خطر السلاح الذي رفعه أبو لهب في وجه ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم. إن قبائل من قبائل العرب حينما كانت تسمع هذا من أبي لهب ومن غير أبي لهب كانوا يصارحون رسول الله فيقولون له: قومك أعرف بك ولولا أنك كما يقولون ما افتروا عليك. فهو سلاح خطر وسلاح رهيب وسلاح فعال ومع ذلك تعالوا نمضي..
يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أذن الله له بذلك، ويستقر في المدينة من حوله الأنصار والمهاجرون وتستقر الأوضاع هناك ويتعرض بعض المسلمين لعير من أعيرة قريش فيأخذون ما فيها - وهي المعروفة في التاريخ الإسلامي بعير ابن الحضرمي- ثم تمضي الأيام ويقدم أبو سفيان من الشام يقود عيراً كبيرة لقريش، ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه يزيدون قليلاً على ثلاثمائة؛ يتعرضون لعير قريش ويذهب صارخ قريش فإذا أوفى مكة؛ نادى بأعلى صوته يا معشر قريش اللطيمة. اللطيمة. اللطيمة. هي العير التي تحمل البضاعة.. أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد مع أصحابه؛ ما أرى أن تدركوها فالغوث الغوث.(/4)
وتثور مكة يثورون لأن هذه العير تحمل معظم أموال قريش؛ ومن عادة قريش في تجارتها الهامة أن تخرج القافلة - يشبه أن تكون عملاً تعاونياً - يتعاون جميع أهل مكة حتى الأيتام حتى الأرامل مساهمة في تجهيز القافلة وتأمين رأس المال، ثم تأتي القافلة تباع وتوزع الأرباح وفقاً للحصص والسهام؛ فنفرت قريش في ذلك الوقت؛ تتحدث الروايات الوثيقة أن أشراف قريش خرجوا جميعاً لملاقاة محمد صلى الله عليه وسلم إلا ما كان ممن لا يستطيع الخروج؛ فمن كان لا يستطيع أن يخرج بنفسه، أخرج في مكانه رجلاً يقوم بأداء هذا الواجب عنه كما يتصور، وكان لأبي لهب دين على العاصي بن هشام ابن المغيرة قريب أبي جهل لاط له بأربعة آلاف درهم) أي أربى عليه أبو لهب بأربعة آلاف درهم فأفلس بها العاصي فاستأجره أبو لهب بها على أن يخرج في مكانه ويجزئ عنه في البعد؛ يعني أن يقاتل قتالاً حقيقياً في وجه محمد صلى الله عليه وسلم، لاحظوا الرواية وما تدل عليه لكي تتعلموا كيف تستخرجون من الروايات دروسها وكي لا تضيعوا بين شعاب الروايات الكثيرة، ومضلات الفكر والإفهام، إن الرواية تقول إن أبا لهب كان له دين وإن هذا الدين دين رباء، دين ربا فماذا يستنج؟ يستنج أن أبا لهب كان ذا مال، وأنه كان على عادة معظم القرشيين يعطي ماله بالربا وأن ربا الجاهلية معروف؛ فقد كان يتضاعف عاماً بعد عام وأن هذا الربا منبث بين الناس، وأن هذا المال يمكن أن يكون واحدةً من الذرائع التي جعلت أبا لهب يتخوف من هذه الدعوة الجديدة الوليدة التي آذنت من أول خطواتها ومن أول توجيهاتها بتغيير جوهري في قيم المجتمع وفي نظام المجتمع عموماً فأبو لهب إذاً ما اكتفى بقطع العلائق بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم، ولا اكتفى بأن كان يدعو ضد محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كان يكذبه مواجهة بين القبائل استأجر رجلاً ليخرج مكانه في المعركة، كي يقاتل محمداً صلى الله عليه وسلم ولو استطاع الخروج لخرج بنفسه ولكنه لم يستطع.
وتدور المعركة، وتدور الدائرة على قريش ونستمع إلى رواية طيبة يحدثنا ابن إسحق راوي السيرة من طريق عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما جاء الصَرِيْخُ إلى قريش أن محمداً عرض للقافلة؛ كان القريشيون بين خارج أو باعث مكانه رجلاً، وتخلف أبو لهب وبعث في مكانه العاصي بن المغيرة لكي يجزئ عنه، يقول أبو رافع: وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت فأسلمت أم الفضل زوجة العباس وأسلمت وأسلم العباس وكان العباس رضي الله عنه رجلاً يهابُ قومه - يخاف منهم - وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، ومع ذلك خرج في الجيش الذي ذهب ليقاتل محمداً صلى الله عليه وسلم وتخلف أبو لهب؛ قال وجاء الخبر بهزيمة قريش فسررنا بذلك وازددنا قوة وعزاً؛ وجاء الفاسق أبو لهب يجر رجليه بشر - قال وكنت امرأ ضعيفاً – يتكلم أبو رافع عن نفسه- وكنت أنحت القداح في حجرة زمزم، فجاء أبو لهب يخط برجليه حتى..... ما فعل القوم قال لا شيء لا والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاءوا، والله مع ذلك ما لمت الناس؛ لقد لقينا رجالاً بيضاً على خيل بُلْقٍ لا تُليق شيئاً ولا يقوم بها شيء قال فاتلفت ورفعت قلب الحجرة وقلت تلك الملائكة.(/5)
قال فالتفت إليَّ أبو لهب وضربني في وجهي ضرباً شديداً فثاورته فأخذني وكنت ضعيفاً فاحتملني وضرب بي الأرض؛ ثم برك عليّ يضربني؛ فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته وضربته به فشجت رأسه شجة منكرة فقالت له: أتضربه أن غاب عنه سيده؛ فولى ذليلاً منكسراً قال أبو رافع: فو الله ما عاش إلا سبع ليال بعد ذلك حتى رماه الله عز وجل بالعدسة، والعدسة مرض يشبه الطاعون - قروح تصيب الإنسان وهو مرض معد - فلقد مات فما جرؤ أبناؤه على أن يدفنوه، وظل في بيته ليلتين أو ثلاثاً حتى أنتن؛ فجاء رجل من قريش إلى ابنيه فقال: ويحكما أما تستحيان أن أباكما أَنْتَنً ولم تغيباه. قالا: لا إننا نخشى من هذه القرحة. قال فأنا معكما، فاحتملاه فلم يقدرا على أن يُغًسِّلاه إلا قذفاً بالماء من بعيد، ثم احتملاه فوضعاه في ظاهر مكة عند جدار وقذفا عليه الحجارة، حتى وارياه بالحجارة، وفي رواية أنهما احتفرا له حفيرة ثم دفعاه بالعصي دفعاً ثم واروه بالحجارة لم يقربوه. تلك كانت عاقبة أبي لهب التي استحقها من خصومته للنبي صلى الله عليه وسلم، فما فعلت أم جميل؟ أم جميل زوجة أبي لهب وأمّ صهر النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يمكن أن يكون؛ كانت تنقل الشوك على ظهرها فتلقيه في الطريق الذي يسير فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا دخل إلى بيته، احتملت حزماً من هذا الشوك المؤذي فطرحته على الباب؛ إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما نزلت السورة ولكي تعرفوا ما أم جميل؟ فأم جميل ليست من النساء العاديات وإنما هي من النساء المسترجلات؛ لما أنزلت السورة وقرئت عليها وفيها ذكرها وَوَصْفُ لها بأنها حمالة الحطب، وبأن في جيدها حبلاً من مسد؛ جاءت وفي يدها فهر من حجارة –حجارة كبيرة- إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر جالساً فقال له أبو بكر يا رسول الله هذه أم جميل أخشى أن تنالك بسوء قال له لا عليك، فلما جاءت قد استهلتها الحمية واحتملها الغضب الشديد؛ ما استطاعت أن ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت يا أبا بكر: أين صاحبك فقد بلغني أنه هجاني؛ قال لها لا والله ما هجاك وبالفعل رسول الله لم يهجُها.. الذي هجاها هو الله وليس رسول الله صلى الله عليه، قال فانصرفت وهي تقول: مذمماً أبينا ودينه قلينا - لم تقل محمد وإنما قالت مذمم - فالتفت النبي عليه الصلاة والسلام إلى أصحابه وقال: أترون إلى ما يصرف الله عني من شتمها هي تشتم مذمماً، وأنا محمد فهذه أم جميل امرأة سليطة اللسان قوية الجنان تغشى مجالس الرجال، ويكون لها دور فعال في الخصومة التي أثيرت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك هي القصة بحذافيرها.
خط بياني لو أخذته لوجدته؛ يبدأ بالألفة والسرور بالوليد، وبمحاولة التقرب من الرجل الذي أصبح شاباً وتزوج وولد له ثم قَطْعٌ للعلائق، ثم دعاوى وتشويه ضد النبي صلى الله عليه وسلم ثم إِعانةٌ على حربه بالمال ثم نهاية ينتهي إليها كل طاغية لا يؤمن بيوم الحساب؛ ولكن نهاية أبي لهب تستحق التفكير. الناس يموتون لا ريب في ذلك ولكن ميتة كهذه ميتة لا يجرؤ فيها ابنه على أن يدفنه؛ ميتة يمكن أن تكون موعظة للمتقين، يمكن أن تكون موعظة لذوي الألباب، فالدخول في خصومة مع الله تبارك وتعالى، مع أوليائه من المؤمنين المتقين ومحاولة قطع الطريق على الدعوة والتشويش عليها ومحاربة أولياء الله الذين لا ذنب لهم إلا أن يقولوا ربنا لله، فمن أجل ذلك يقتلون ويصلبون ويطاردون تحت كل كوكب؛ هذه الأمور لا يمكن أن تمر بسلام، ولا يمكن أن تمر بغير ثمن، إن كل الذين نصبوا الحرب لله ورسله ولأوليائه والذين يأمرون بالقسط من المؤمنين ذاقوا وبال أمرهم وكان عاقبة أمرهم خسراً وقد يمتعهم الله بالمال، وقد يمتعهم بالبنين، ولكنه يأخذهم على تخوف فإذا أخذهم، أخذهم أخذ عزيز مقتدر وإذا بطش بهم بطش بهم البطشة الكبرى التي تكون عبرة لأولي الألباب والتي عرض الله تبارك وتعالى نماذج ثرة منها في القرآن وعرضت علينا وقائع السيرة النبوية نماذج أخرى لها سوف ترونها بإذن الله ويعرض التاريخ الإنسان في كل يوم نماذج من لونها ومن طرازها لكي يتذكر من تذكر، ولكي يتدبر من تدبر، ولكي يوقن من أراد له الله السعادة بأن آخر هذا الشوط دمار وخسار، وبأنه حق تماماً أن يتحقق ما قال الله:
(إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).(/6)
كنت أفضل لو لم يأخذ منا سرد الوقائع كل هذا الوقت أن أمضي معكم في تحليل الموقف وفي محاولة التعرف على أسبابه وبواعثه وفي محاولة استخراج عبره ودروسه ولكنني لا أستطيع ذلك؛ فذلك حديث قد يطول؛ موعدنا معكم إن أحيانا الله في الجمعة القادمة إن شاء الله آمل أن نقف وقفة مفيدة عند هذه السورة القصيرة لتدركوا كم تحوي آيات الله من معان، وكم تحوي آيات الله من عبر، وكم يتوجب علينا أن نعطي آيات الله من قوة التفكير وقوة التدبر حتى نستخلص منها القواعد المنتجة المفيدة التي انطلق منها رسول الله فاستطاع أن يحقق النصر بإذن الله تبارك وتعالى آملين من الله أن يوفقنا إلى ذلك كما وفق نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يقيمنا على ذلك كما أقام أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يمتعنا والمسلمين برؤية ثمار النصر إنه على ما يشاء قدير وربك لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.(/7)
الحلقة 2 من سورة المسد
الحلقة (30) الجمعة 11 شعبان 1496 هـ-6 آب 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
بسم الله الرحمن الرحيم
(إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون.
ففي الجمعة الماضية وعلى سبيل التمهيد لفهم السورة الكريمة التي نحن بصددها سورة المسد عرضنا لكم صورة حياة أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، والذي شذ عن قومه جميعاً بالعداوة والبغضاء والحرب لابن أخيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكان لا بد من هذا العرض لكي يستقيم فهمنا لمدلولات السورة الكريمة، ورأيتم كيف كانت البداية، ثم كيف كانت النهاية على غرار ما اقتص الله جل وعلا من عواقب المكذبين والضالين والمحادّين والمحاربين لأنبياء الله وللذين يأمرون بالقسط من المؤمنين.
ونريد اليوم أن نواجه السورة وأن نحاول ما أمكن التعرف على الدوافع التي حملت عَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقف منه هذا الموقف النابي، هذا الموقف الشرس، كما نريد أن نتعرف على مدلولات السورة ومغازيها بصورة عامة، وأما التفاصيل؛ ففي ظني أن الوقت لا يأذن بالتوسع في بحث هذه التفاصيل ويحسن قبل كل شيء قبل أن نعرف دوافع موقف أبي لهب؛ وقبل أن نتعرف على مدلولات السورة أن ننظر في السورة باعتبارها صِيَاغَةً وشيئاً يتلوه الناس، ونريد أن نتعرف على هذا؛ لكي يقرأها القارئ حين يقرأها وهو على بَيِّنَةٍ مما ترمي إليه فالله جل وعلا يقول:
(تبت يدا أبي لهب وتب).(/1)
وأبو لهب كنية عَمِّ النبي صلى الله عليه وسلم، -واسمه عبد العزى بن عبد المطلب- ومع أن معظم الروايات تقول إنه أخذ هذا اللقب –أبا لهب- في الجاهلية قبل الإسلام، لأنه كان أشقر فكان يستحق هذا اللقب من تقارب لون بشرته مع لون النار؛ إلا أننا نرجح أن هذا اللقب لزمه في الإسلام ولم يكن معروفاً بذلك في الجاهلية؛ ففي كل تسميات الجاهليين، وفي كل كناهم لا نعرف اسماً ولا كنية لأحد الناس بهذا المعنى؛ فما يدعو إلى الغرابة أن يكنى أبو لهب بهذه الكنية في الجاهلية لا لشيء إلا لأنه كان يميل إلى الشقرة؛ فجزيرة العرب قديماً وحديثاً عرفت أنَاسيّ كثيرين بهذا اللون فما دعا ذلك إلى أن يطلق عليهم لقب أبي لهب وأبي جهل وما أشبه ذلك.. وكما لزمت كنية أبي جهل لزمت كنية أبي لهب. وآية ذلك أن السورة هي التي سمته أبا لهب ونبزته بهذا اللقب وكل من نبز بلقب كهذا في الإسلام لزمه إلى آخر الزمان، فأبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم تقول عنه السورة تبت يدا أبي لهب وتبّ. ما معنى التباب؟ التباب يقول عنه المفسرون إنه البوار والخسار والهلاك وأصابوا في ذلك من حيث هم نظروا إلى المآل -لا إلى جذر اللغة ولا إلى حقيقة الوضع- فالحقيقة أن كلمة تب في كتب اللغة العربية معناها القطع؛ فالخسار يلحق، والبوار والهلاك يلحق من دُعِيَ بهذا الكلام، من حيث أن الإنسان؛ إذا قطعت له يد واحدة فقد تكون اليد الأخرى صَنَاعَةً ولا يلزم من ذلك أن يكون خاسراً، لأنه قد يستعين على حوائجه وعلى مهماته باليد الباقية. وأما إذا تَبّتْ يداه جميعاً فقد خسر وبار عنده كل شيء؛ لأن الإنسان إذا قطعت يداه الاثنتان، فلا يمكن له أن يجلب لنفسه خيراً، ولا أن يدفع عن نفسه ضراً، ومن هنا قلنا إن المفسرين -رحمهم الله- حينما قالوا إن التباب هو الهلاك وهو البوار وهو الخسران فذلك باعتبار المآل؛ وإلا فمعنى التباب هو القطع؛ والصياغة تقول: تبت يدا أبي لهب. فتبت الأولى؛ هي صيغة دعاء؛ أي أن الله جل وعلا يدعو عليه بأن يكون من الهالكين الخاسرين؛ وتبت الثانية تقرير لحصول ما هو مدعو به؛ يعني أن الله جل وعلا يخبر أن الهلاك لاحق وحاصل لأبي لهب لا ريب في ذلك - ويأتي كما ينبغي أن لا يغيب عن بالكم- يأتي الفعل – تبَّ - سواء في الأول وهو على بابه في الأولى، أي أنه دعاء؛ والدعاء يكون بهذه الصيغة. ولكنه في الصيغة الثانية.. تبّ الثانية؛ يأتي بصيغة الماضي. الله يحكم عليه بأنه خاسر، متى؟ في الوقت الذي كان أبو لهب رجلاً حياً بين الناس، يسعى كما يسعون ويضطرب كما يضطربون ويكتسب كما يكتسبون ويعادي ويوالي ويصادق ويبغض؛ فهو قائم بين الناس، والكلام بهذا الشكل؛ إخبار بالماضي فمعنى ذلك حين يؤخذ الأمر على الحقيقة - أنه يجب أن يكون قد خسر بمجرد نزول الآية - لكن العرب في كلامها وقواعد بيانها ومنطقها؛ حين تريد أن تشير إلى شيء له صفة التحقق والوقوع - كشيء لا ريب فيه- تأتي به بصيغة الماضي، مع أن الهلاك الذي قرره الله جل وعلا لأبي لهب ليس في هذه الدنيا، والذي كان في الدنيا لم يقع بعد؛ فإن الله جل وعلا جاء به بصيغة الماضي على اعتباره شيئاً مفروغاً منه - لا بد أن يتحقق - هنا دقيقة لا بد من أن تستحضروها في أذهانكم.. لو كان الكلام كلام آدميين؛ لقلنا بلا تردد إن كلاماً من هذا النوع يحمل هذه الصيغة القاطعة في الإخبار يُعَدُّ من المجازفات؛ فمن ذا الذي يجرؤ على الإخبار عن المستقبل؛ أنت ترى الإنسان كافراً بالله العظيم، لكن هل تملك أن تقول إن هذا الإنسان الكافر سيكون كافراً أبداً؟ هل تملك أن تقول: إن هذا الإنسان الكافر سيدخل النار لا ريب؟ من يدريك؟ قد تُدْرِكُ هذا الإنسانَ رحمةُ الله التي وسعت كل شيء؛ فيدخل الإسلام ثم يدخل الجنة فلا يستطيع الإنسان أن يجازف باخبارات من هذا النوع؛ لكننا أمام كلام العلي القدير؛ أمام كلام الذي أنزل القرآن - نحن الآن كمسلمين نقرأ القرآن بعد مضي الحادثة وبعد أن تبين لنا أن أبا لهب خسر بالفعل- مات أشنع ميتة ومات كافراً واستحق النار بحربه لله وبتكذيبه لرسول الله وبإعانته قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فهو خاسر عندنا - لكن ضعوا أنفسكم في تلك الأجواء البعيدة، حينما كان القرآن يتنزل، وحينما كان يواجه قوماً يُكَذِبُونَ محمداً صلى الله عليه وسلم، كان يخاطبهم بهذه اللهجة القاطعة بكلام الواقع قال لهم إن أبا لهب قد خسر - فمعنى ذلك أنه قد خسر - لكنها ريبة تبقى في قلوب الذين لا يؤمنون بالله ولا يؤمنون باليوم الآخر ولا يصدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فحين تمضي الأيام وفي نفوس المشركين هذه الريبة ولا يكاد يمضي كبير زمن حتى تكون الهجرة العامة، وحتى يأذن الله بأن - يلتقي على عينه - معسكر الشرك ومعسكر الإيمان وتنجلي المعركة عن الفوز المبين في صف المسلمين، وعن الخسران الكبير في صف المشركين؛ ويأخذ الهمُّ من أبي لهب مأخذه الذي لا مأخذ بعده؛(/2)
فيموت على كفره وعلى جحوده وفي صفحته السوداء مع الله ومع رسوله ومع المؤمنين؛ يتحقق هذا الإخبار على نحو يلفت نظر الذين ارتابوا والذين حين سمعوا هذا الكلام قالوا: ما يدري محمداً أن يموت أبو لهب كهذه الميتة. نحن الآن لا نرى غرابة طبعاً عرفنا الحادثة ومضى وتحقق ما وقع كما أخبر الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، إلا أنها آية بينة على صدق النبي عليه الصلاة والسلام، وآية بينة على مصدر هذا القرآن. أنه أُنْزِلَ من عند الله وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله تبارك وتعالى؛ فإذا مشيتم مع السورة فالله يقول: (ما أغنى عنه ماله وما كسب) دعونا من المال ومما كسب فسننظر في الاثنين حينما ننظر في أسباب الموقف الذي وقفه أبو لهب؛ لكن هل أغنى عن أبي لهب مَالُهُ الذي جمعه فأربى به في الجاهلية؟ هل أغنى عنه أولاده...؟ أما ماله فقد استأجر بجانب منه رجلاً يجزئ عنه - في حرب نبي الله - فما أفلح، ومات أبو لهب قبل أن ينقلب إليه الأجير؛ فلا الأجير أجزى ولا المال عاد، وذهب وكذلك الولد ابنا أبي لهب اللذان كان يمكن أن يتشرفا بمصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم لولا شقاوة الأب وشقاوة الأم وما كتب الله لهما في الأزل حينما مات أبوهما لم يدفناه كما يدفن سائر الناس ولم يحتفلا بموته كما يحتفل بموت سائر الناس ألقي في حفرته دفعاً بالعصي وتُرك في بيته ليلتين أو ثلاثاً حتى أنتن؛ ويقال إنه حُمل فألقي إلى جدار ثم قُذفتْ عليه الحجارة قذفاً من بعيد حتى غطته؛ فأية نهاية وأي غنائم كان لأبي لهب من المال الذي جمعه، ومن الأولاد الذين كان يعتز بهم ويستطيل بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أَنْ لَمْ يَكُنْ له من ولده ذكر يتعزز به كما يتعزز أبناء الجاهلية، ثم يقول (سيصلى ناراً ذات لهب) ما كان في الأول - في الآيتين الأوليين - فقد رآه الناس عياناً كيف خسر أبو لهب، وكيف كانت العاقبة المهينة الأليمة، وكيف بطل فعل المال، وكيف بطلت معونة الولد؛ رآه الناس عياناً؛ لكن الذي لم يروه: المآل الذي يخبر الله عنه أنه أعدَّ له ولكل المكذبين الضالين من طبقته ومن أمثاله، ناراً يصلاها ذات لهب تتسعر وتتلظى، وامرأته، ليس فقط هو - وإنما أيضاً امرأته - شريكة له في هذه النار كما كانت شريكة له في نار العداوة والبغضاء التي أوقداها في الدنيا. وقوله تعالى: حَمَّالةَ الحطب فلا أدري أيفيدكم شيئاً أن أقول لكم إن إفراد هذه الكلمة، بالنصب (حمالةَ الحطب) جاءت على المعهود من طرائق العرب في البيان حينما تهتم بإبراز أمر وتريد أن تُبِيْنَه عن كل ما حوله؛ تعطيه النصب فالله جل وعلا حينما يقول وامرأتُه بالرفع، ثم يقول حمالةَ الحطب بالنصب؛ يريد أن يشير إلى معنى يعنى الله جل وعلا بإبرازه في أذهان الناس؛ هذه المرأة الكريمة في قومها أخت أبي سفيان - سيد البطحاء بلا منازع وبلا مدافع - ماذا كانت تفعل كانت تحمل الحطب؛ وسواء لدنيا إن كان المراد ظاهر اللفظ أو كان المراد هو المجاز؛ إن كان المراد أن أمَّ جميل زوجة أبي لهب كانت تحمل الشوك والحسك فعلاً وحقيقة، فتنثره في الطريق الذي يمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصد الإيذاء، أو كان المراد أنَّ حَماَّلةَ الحطب كناية عن السعي بالدسائس والفتن وتأريث العداوات والأحقاد فذلك غير مهم المهم أن الله جل وعلا أبرزها بهذا الشكل، ليبرز شناعة الأمر الذي قامت به، في ظني أننا غير محتاجين إلى المجاز وأننا يمكن بل الأدعى إلى الاطمئنان أن نصير إلى الحقيقة، وأن نقرر أن أمَّ جميل كانت تحمل الحطب فعلاً، وكان تلقيه شوكاً وحسكاً في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس في الجاهلية ما عندهم هذه الأحذية التي تحول بين أقدام الناس وبين الشك؛ فَجُلُّ الناس كانوا يمشون حفاة، وعليٌّ رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين في الكوفة كان يحضر صلاة العيدين حافياً، يخوض في الطين. والذي يحملنا على أن نرجح جانب الحقيقة هو ما لهذا الأمر من الإيذاء؛ ولكي تكتمل الصورة عندكم فينبغي أن تعلموا أن بيت أبي لهب، كان مجاوراً لبيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ وتصوروا الإيذاء الذي يتعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم من قارص القول وبذيء الكلام؛ يسمعه من وراء الجدران، من هذا الجار النبيل والعم الكريم، وتصوروا أن هذا النبي الكريم يخرج من بيته فإذا زوجة عمه قد هيأت له حسكاً يدوسه، فلا يكاد يستقار على الأرض، تصوروا هذه الجيرة لقد أذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في استعاذته: "اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة فإن جار البادية يتحول". في البادية -لا قصور ولا غرف ولا أبنية ولا طوابق- خيمة تقوم على عدد من الأعمدة، حينما لا يعجبك جارك تحمل خيمتك على راحلتك وترحل إلى حيث تأمن بوائق هذا الجار؛ ولكن ماذا تفعل إذا كانت الجيرة مبناها على الاستقرار فأنت مضطر إلى أن تسمع الأذى، وإلى أن تشهد النكر في الصباح وفي المساء وفيما(/3)
بين ذلك، تصوروا هذه العيشة وتصوروا هذا الألم الذي كان يلحقه هذا العم الفاسق بابن أخيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصوروا هذا الأذى الذي كانت تلحقه هذه الفاجرة امرأة عمه برسول الله صلى الله عليه وسلم شوك - في الآذان على هيئة كلام لا يليق، وشوك في الأرجل يُنْثَرُ له في الطريق - إن هذا لعذاب لا يكاد يطيقه إلا أولو العزم من الناس؛ فالله جل وعلا أبرزها بهذا الشكل ليبرز سوء الملكة التي عليها حمالة الحطب، وليبرز سوء الجيرة التي كانت مفروضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ويقيناً لو ملك النبي صلى الله عليه وسلم ما يرحل به لرحل ولكن أنى له ذلك وهو لا يملك أن يبني له داراً غير الدار التي خلفها له أبوه الذي مات منذ زمن بعيد، وصُبَابة المال التي كانت بين يديه عليه السلام مما ورثه عن أبيه ومما حصل عليه في التجارة ومما جاءه من طريق زوجه أمَّ المؤمنين خديجة رضي الله عنها وأرضاها، أنفقه عليه الصلاة والسلام على مصالح الدعوة وفي سبيل الله تبارك وتعالى، فهذه هي السورة بإيحاءاتها وبإشعاعاتها - عَلَمٌ من أعلام النبوة - ثم هي تكشف عن الحالة الأليمة التي كان يتعرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا العم العجيب.
نرجع الآن لنتساءل لماذا وقف أبو لهب من رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا النحو؟ ألم يكن أبو لهب جديراً بأن يكون ساعد رسول الله الأيمن؟ ألم يكن حقيقاً بأن يكون معيناً له على أمر الله تبارك وتعالى؟ هل كان هناك ما يبرر مثل هذا الموقف؟ إن الناس اضطربت آراؤهم في هذا المجال. ولعل أعجب ما قيل أن أبا لهب كان متأثراً بزوجته أمّ جميل، وأمُّ جميل من بني أمية، وبين هاشم وأمية عداء معروف في الجاهلية كانت بينهما منافرة على عادة الجاهليين، أدت إلى أن يخسر أمية الرهان وأن يرحل فيسكن الشام عشر سنين؛ ولكنّا لا نستطيع أن نقبل تفسيرات ساذجة سطحية فجة من هذا القبيل - لعدة أسباب – أولاً: فإننا نعرف من تتبع خلائق بني هاشم أنهم قوم يغلبون نساءهم ولا تغلبهم نساؤهم، هذه خليقة معروفة، وحينما ترى رجلاً يذل لزوجه فاحكم سلفاً أنه لا يمت إلى بني هاشم بصلة. هذا عبد نساء وليس عبداً لله فبنو هاشم لا في جاهلية ولا في إسلام كانوا مطايا لزوجاتهم منفذين لرغبات هؤلاء الزوجات، هذا من جهة من جهة أخرى فإن من أكبر الأخطاء حينما ندرس واقعة تاريخية أن نحاول تفسيرها إلى عامل وحيد، هذا خطأ، الواقعة التاريخية نسيجٌ متشابك من عدد لا يكاد يتناهى من العوامل فحين نحاول أن نفسر الواقعة التاريخية بجانب واحد بسبب واحد؛ فنحن نسقط في سذاجة لا يبررها شيء من قواعد منهج البحث التاريخي بحال من الأحوال. هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن العداء جاء من ناس كثيرين من قريش؛ وقريش كانت تحملها على الموقف هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عوامل متعددة فليس معقولاً أن نصرف النظر عن العوامل التي حركت بالعداء معظم قريش فلا نحاول أن نسحبها على موقف أبي لهب، ولا داعي لأن نذهب بعيداً أبداً، لو أننا فتحنا القرآن واستشرناه في هذه الدوافع والمحرّكات، التي حركت القرشيين، فوقفتهم موقف العداء من هذه الدعوى ومن نبيها الكريم عليه الصلاة والسلام لوجدنا عدداً كبيراً من الأسباب.. في رأس هذه الأسباب، أن العرب بمفاهيمهم الجاهلية لم يكونوا يستوعبون أن تكون الزعامة للأحداث وللشباب. فمن المعروف وحتى الآن عند القبائل البادية توجد هذه الخصلة حتى الآن، فمن المعروف أن شيخ القبيلة أن زعيم القبيلة يجب أن يكون ذا سن، أما الأحداث وأما الشباب فهم تبع، فمسألة طاعة الكبير للصغير في العرف الجاهلي مسألة مرفوضة؛ فحين قام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو قام وهو على رأس الأربعين من عمره، صحيح الأربعون ليست شيئاً هيناً ولكنه بالنسبة للشيوخ من قريش ما يزال يُعَّدُ حدثاً لأن قريشاً فيها من قارب المئة، وهم بحكم المفاهيم الجاهلية، هم أهل الرياسة وهم أهل الزعامة، وهؤلاء الشباب من أمثال محمد عليه السلام؛ عليهم أن يفيئوا إلى حكمة الشيوخ وأن ينصاعوا إلى رأي الشيوخ هذه واحدة. والثانية أن عوامل أخرى كثيرة كانت تحرك الأمر فالقرآن يقص علينا أن التحاسد عمل عمله في إبراز هذه المواقف، التحاسد جعل كثيراً من الناس لا يقبل الدعوة ولا ينصاع لها - وهذا داء في الإنسانية قديم مع الأسف الشديد- فما زلنا نرى ونسمع أناساً كثيرين يرفضون السير في طريق الهدى وعلى الصراط المستقيم، لا لحجة ناهضة ولا لقضية صحيحة من قضايا العقل أبداً، ولكن لأن فلاناً من الناس هو الذي يدعو إلى هذه الطريقة؛ فمن أجل أن فلاناً هو الذي يدعو فأنا أكفر بالطريقة وأكفر برب الطريقة أيضاً - هذا مع الأسف داء في الإنسانية قديم - وهذا هو الذي ينتج الحسد ونحن نقرأ في القرآن الكريم إشارات عديدة جداً تشير إلى هذا، فالمشركون يتساءلون كما يقص الله عنهم في سورة(/4)
"ص" فيقولون: (أأنزل الذكر عليه من بيننا) ترك الله كل الناس ولم يختر إلا محمداً صلى الله علي وسلم (أأنزل الذكر عليه من بيننا بل هم في شك من ذكري) إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، (أأنزل الذكر عليه من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب) هذا الكلام أو هذا التفكير لا يمكن أن ينتجه عقل يؤمن الله واليوم الآخر، لو أن قائل هذا القول يؤمن بالله لعرف، أن الله لا مستكره له ولا قيد على إرادته، وأنه يهب الخير لمن يشاء ويمنعه ممن يشاء وكذلك قص الله علينا كما جاء في سورة الأحقاف:
(وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم).
وكذلك قالوا:
(لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم).
كانوا يتصورون حين تكون الأمور أمور اختصاص وأمور تشريف وتكريم وأمور قيادة يجب أن ينزل على شيخ من الشيوخ في مكة أو شيخ من الشيوخ في الطائف، فنحن لا نستطيع حينما ننظر في قضية العداء بين أبي لهب وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعزل هذه الظاهرة عن أسبابها الواضحة في المجتمع الجاهلي، هنالك أناس وقفوا من الدعوة في مراحلها الأولى وحتى في مراحلها الأخيرة، لا بدافع الحسد، ولا بدافع استعظام أن يختص الله شاباً من شباب قريش للدعوة، ولكن بدافع آخر هو الخوف على المركز والخوف على المال والخوف على المنصب والله جل وعلا في هذه السورة وكما جاء في الروايات التي عرضناها في الجمعة الماضية جاءت الإشارات إلى هذه الناحية قال لله تعالى: (ما أغنى عنه ماله وما كسب) ففي الحقيقة فإن كثيرين من الجاهليين ما كان يصدّهم عن الدعوة شكُّهم برسول الله، فهم يعرفون صدقه، ولا كان يصدهم عن الدعوة عدم اقتناعهم بصحة ما دعا إليه رسول الله فهم مقتنعون بذلك، ولكنهم تصوروا أنهم لو آمنوا ودخلوا فيما دخل فيه الناس فأين سوف تذهب المكاسب والمغانم والرفاهية التي هم عليها؛ حتى في المراحل الأخيرة من الدعوة نسمع هذه الشنشنة (وقالوا إن نتبع الهدى معك نُتَخَطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبي إليه ثمرات كل شيء) فالناس - في العادة لا يقدمون إلا من عصم ربك - على اقتحام العقبة وعلى تحمل نتائج المغامرة خوفاً على ما هم فيه خوفاً على المال أن يتبدد، خوفاً على الأولاد أن يتعرضوا إلى للمهالك، خوفاً على جملة المكاسب، والمطامع المتحققة لهم، فأبو لهب إنسان من الناس الذين عاشوا تلك الفترة وخضعوا لكل العوامل التي كانت، وقد أزيد كما ذكرت ذلك منذ زمن حينما كنت أتحدث إليكم حول هجرة الحبشة منذ عدة أشهر قد أزيد أن أبا لهب خاضع لدافع لا يمكن أن نحذفه ونحن نعلل لهذا الموقف، دافع العصبية - ولا غرابة - فأبو لهب حين دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى ما دعا إليه من الحق والنور والهدى؛ تصور كَلَبَ قريش وصور لنفسه ماذا سيكون عليه الحال حينما تجتمع قريش كلها على عداوة بني هاشم حينئذ. فالعشيرة سوف تغدو بدداً ومزقاً، ولا يمكن أن تقوم لها قائمة، فهو بدافع العصبية والحرص على العشيرة وقف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا نجد الروايات تنص أن أبا لهب حينما خاطب قومه بالدعوة قال يا معشر بني هاشم؛ خذوا على يديه قبل أن ترميكم العرب عن قوس واحدة، فهو كان يدافع عن مصالح العشيرة وبهذا بقي ثابتاً على هذا الموقف حتى النهاية، حتى في أشد المواقف حراجة وضيقاً، حينما تعاقدت قريش وتعاهدت على أن تقاطع بني هاشم المقاطعة العامة وحصرتهم في شِعْب أبي طالب سنتين ونصفاً أو ثلاث سنوات كلُّ بني هاشم دخلوا الشِعْب مع رسول الله ومع المسلمين مسلمهم وكافرهم، إلا ما كان من أبي لهب فإنه بقي في عَقْد قريش وعهد قريش؛ حريصاً على أن يظل هناك - كي يمكن له في المستقبل إذا أُطْبِقَ على العشيرة- أن يدافع عنها بعض الشيء فعامل العصبية ليس بعيداً. نحن كما قلنا لا يمكن أن نأخذ سبباً واحداً من الأسباب لنفسر به الواقعة التاريخية؛ لأن الواقع التاريخي بكل بساطة مجموعة متشابكة لجملة من الأسباب لا تكاد تتناهى - هذه هي الأسباب - فما مغازي السورة.(/5)
أول ما يخطر على البال هذه الحملة القاسية، استعرضوا القرآن من أوله إلى آخره واستعرضوا الأسماء التي وقفت من رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف العداء والبغضاء والشراسة والحرب والقتال لم يُذْكَرْ أحدٌ منهم باسمه إلا أبو لهب، كلهم ذكروا بالجملة وبأوصافهم، لكن أبا لهب ذكر بالاسم، هل كانت عداوة أبي لهب أشد من عداوة الآخرين؟ لا، الآخرون كان منهم من هو أكثر عداء وأشد شراسة من أبي لهب بكثير، لكن المسألة لها جانبها الذي يجب أن لا يخفى على أحد؛ حينما ينظر في هذه الأمور متحرياً أن يعرف قواعد هذه الدعوة وخطوطها في العمل والحركة، فهذه الدعوة كما فهمتها العرب منذ البداية منذ أن قال الله (لا إله إلا أنا فاعبدون) ومنذ أن قال لهم رسول الله "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" منذ ذلك التاريخ ومنذ اللحظات الأولى أدركت العرب بحسها السليم وبسليقتها اللغوية المستقيمة، أن معنى لا إله إلا الله: تساوي العباد، فإذا كان الله واحداً وهو خالق الكل فالكل تحت لوائه، سواء لا يمكن أن يمتاز واحد على واحد ولا يمكن أن يفترق زيد من عمرو، من حيث القيمة البشرية ومن حيث الاعتبار الإنساني، هذه القضية البسيطة ككل القضايا الهامة والحاسمة في التاريخ البشري بسيطة جداً لا تحتاج إلى تعقيد، ولكنها تثير ردود فعل عنيفة للغاية، حين يقال هذا الكلام في مجتمع جاهلي يفكر على النمط الذي تعرفون، من ضمن منطلقات القبلية، من ضمن منطلقات العشائرية، من هذا التمايز في كثرة الأولاد وكثرة الأموال وتوارث المناصب والقيم الجاهلية في مجتمع كهذا حينما تنطلق الدعوة إلى الأخوّة العامة في الله تبارك وتعالى، وإلى إسقاط الامتيازات وإلى إسقاط المزايا التي لا يسندها أي مبرر من القيمة الذاتية للإنسان؛ فلا بد لكل إنسان ذي ميزة في المجتمع القديم أن يثور، ومن هنا فقد رأينا أن المشركين ثاروا على النبي صلى الله عليه وسلم منذ بداية الطريق. ولكنهم حينما قام بينهم شعراء وحكماء وحنفاء يعيبون عليهم عبادة الأصنام، دون أن يقدموا المنظور الصحيح لقضية الألوهية وللقضية الاجتماعية ما أبهوا بهم ولا اكترثوا لهم؛ تركوهم ماتوا كما ماتت آلاف الناس وملايين الناس لم يأبه بهم أحد؛ أما حينما طُرحت عليهم هذه القضية بهذا الشكل، فإن الأمر اختلف، إننا نقول هذا الكلام بين أمة تعتقد أن قريشاً بمكانها من البيت لها الميزة على العرب عامة، وبين أمة تعتقد أنها كأمة عربية لا يمكن أن تساميها أمة من الأمم على الإطلاق، وحرب ذي قار التي وقعت في أواخر العصر الجاهلي كان سببها أن كسرى أراد أن يُصْهِرَ - أن يتزوج - بعض النساء العربيات، ومع أن الأمة العربية كانت ضمن سيطرة الفرس وتحت قهرهم، فإن العرب بما أنهم عرب وباحتقارهم لغيرهم من الناس رفضوا أن يزوجوا كسرى ملك الفرس، وثاني رجلين هما اللذان كانا يسودان العالم القديم؛ فقامت الحرب بينهما.. بين العرب وبين الفرس لهذا السبب.. أمة ترى أنها هي خير الأمم يقال لها أنتم وسائر الناس سواء وقبيلة ترى أنها خير القبائل يقال لهم أنتم وسائر الناس سواء، أكثر من ذلك أمة هذا شأنها تنظر إلى ساحة الدعوة، فترى التطبيق العملي أمام عينيها ترى أن الدعوة تضم محمد بن عبد الله في الذؤابة من بني هاشم، ترى أن الدعوة تضم أبا بكر سيد بني تيم، ترى أن الدعوة تضم عمر سيد بن عدي، ترى فلاناً وفلاناً من الأسياد إلى جانبهم.. مَنْ؟ بلال، عمار، صهيب، سلمان، زنّيرة هؤلاء الأعبد الذين ينتمون إلى الأمم الأخرى عرقياً، وينتمون إلى الفئات الدنيا اجتماعياً، هل يمكن لهؤلاء الناس أن يستوعبوا شيئاً كهذا؟ لا. ولهذا فالله جل وعلا حين يختار من كل المعادين للنبي وكل المجترئين على الدعوة إبراز اسم أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، الذي هو في الذؤابة من بني هاشم، وبنو هاشم في الذؤابة من قريش، وقريش ذؤابة العرب. يعني تختار الخيار من الخيار من الخيار لتجعله بلا قيمة ولتجعله سُبّة إلى آخر الدهر؛ طالما بقي في هذه الدنيا ناس، فهم يقرؤون مذمة أبي لهب عم محمد صلى الله عليه وسلم فإن هذا العمل لا يكون بلا معنى ولا يكون بلا فائدة ولكنه يكون لإقرار هذه الحقيقة الضخمة، وهي أن هذا الدين دين الله، وأن الله رب العالمين، وأن الناس كلهم إخوة وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني شهيد أن العباد كلهم إخوة" فهذه المزية التي يمتاز بها الدين، هي التي عبّرت عنها هذه السورة الكريمة وما من شك في أنها أعجوبة.. أعجوبة في زمانها، وأعجوبة حتى الآن ولعمري إن هذا الدين الذي أكرمنا الله بالانتماء إليه ونرجو أن يكرمنا بالدعوة إليه، ونرجو أن يكتب لنا الشهادة في سبيله إن شاء الله.. لعمري إن هذا الدين فيه خصيصة من النظام الكوني العام، ولئن ذهبتَ إلى القرآن تتقرّاه لتجدن الله تعالى يقول لك في سورة المؤمنون:(/6)
(فإذا نُفِخَ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين).
فماذا تفهمون من هذا الكلام؟ إذاً بطل كل ما يشقشق به الناس وانقلب الناس إلى ربهم حين يعمل قانون الكون ومطلق العدالة الإلهية، فأين التمايز بالأنساب والأحساب والألقاب، هنالك ميزان ثقيل راجح، وميزان طائش، فالذي يُثْقِلُ الميزان هو العمل الصالح، لا الانتماء للعرب ولا الانتماء لبني هاشم ولا الانتماء إلى محمد بالذات والذي يجعل الميزان يطيش ويخف ويلقي بصاحبه إلى نار جهنم العمل الباطل العملُ السيئ الذي يوبق الإنسان، هذا الدين فيه خصيصه من هذا النظام الكوني الذي لا يتخلف أرأيت الناس أمام الله جل وعلا كيف يقفون لا يقدم ولا يؤخر إلا العمل فكذلك في ساحة هذا الدين حينما يأتيه الناس يهطعون للدخول فيه، فإنما يقدم المتقدم عَمَلُهُ ويؤخر المُتَأَخرَ عَمَلُه هذا الإسلام من حيث هو كذلك كان جميع الضالين والمضلين وجميع الفاسدين والمفسدين وجميع أعداء الحياة وجميع أعداء الإنسانية يحاربونه في القديم وفي الحديث.
يا إخوة ارجوا إلى صغائر الأمور حينما نقول عن فلان إنه إنسان لا يفكر إلا بنفسه لا يفكر بأولاده ولا يفكر بأسرته فهذا إنسان سيء بلا ريب.. الإنسان الذي يفكر بأسرته وأولاده خير منه حينما نقول هذا الإنسان يفكر بأسرته فقط ولكنه لا يلتفت إلى جيرانه ولا إلى حيه فلا شك أن الذي يهتم بجيرانه أفضل وأطيب وأكرم عنصراً وأكثر فائدة للإنسانية من الذي يَقْصرُ اهتمامه على أهل بيته حينما يهتم الرجل بجيرانه ولا يكترث بأهل مدينته فهو إنسان قاصر الهمة حينما يكترث بمدينته ولا يكترث بقضايا أمته فلا شك أن الذي يكترث ويهتم بقضايا الأمة خير من الذي لا يكترث بهذه القضايا ويكتفي بدائرة أضيق.. إلى هنا تقف الإنسانية في القديم وتقف اليوم تقف عند حدود الأمة لا أدري لماذا ينكسر المنطق عند هذه النقطة لماذا لا نقول إن الإنسان الذي تتراحب تصوراته وتتسع مداركه وتتراحب أيضاً اهتمامه حتى تشمل الإنسانية جمعياً. أفضل بما لا يقاس من الإنسان الذي يقف باهتماماته عند حدود أمته.
إن المسألة قريبة وهي بعد فطرية وواقعية فلا شك أن الأمر أمر منطق صارم للغاية ولكن الأغراض والأطماع والشهوات والمصالح القريبة تعمي الناس عن الحقيقة التي يجب أن يكون عليها الإنسان هذا الإسلام لم يأت لأمة من الأمم بعينها بذاتها وإنما جاء للناس عامة والنبي صلى الله عليه وسلم قال كما قال له ربك:
(يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض).
ولم يقل كما قال عيسى عليه السلام: "إنما بعث إلى خراف بني إسرائيل الضالة". لا؛ محمد عليه الصلاة والسلام رسول الله إلى الإنسانية جميعاً وهذه حقيقة لا تنتطح فيها عنزان ولا يختلف فيها اثنان ومع ذلك فإن الضالين والمضلين من أبنائنا يريدون منا أن يقتصروا بالإسلام على هذه الأمة وأن يجعلوه خادماً لمصالح الأمة فقط وأعداء الإسلام من الضالين والمضلين أيضاً من مشتركين ومستعمرين ويهود وما أشبه ذلك أعدلهم قولاً وأعدلهم طريقة هو الذي يقول إن الإسلام حق ولكنه دين إلى العرب خاصة لا يتجاوزه إلى غيرهم. نقول:
لئن كان الكلام الذي عُرض، ولئن كانت الحقيقية التي طرحها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرناً حقيقة لازمة في ذلك الزمان لهي اليوم أشدُّ لزوماً وأكثر حساسية بالنسبة للعالم انظروا إلى الساحة الإنسانية فالناس كلهم الآن على ظهر هذا الكوكب المنكوب بهذا الإنسان الكنود، الجحود يتصارعون على أي شيء على قيم ومبادئ وأخلاق؟ لا؛ انه لا أحد يقول لك إن السياسة فيها أخلاق، هذا كلام لا يجرؤ عليه الناس، لكنهم يتصارعون على مصالح، طيب نحن معهم إن المصالح يجب أن ترعى، لكن أية مصالح - نحن عرباً - نقول إننا لا نعتبر المصلحة مصلحة حتى تتساوق مع ما نحتاج إليه لا بأس، لكن غيرنا من الأمم تقول الشيء نفسه تقول ذات الكلام ما نتائج هذا التفكير المفسد، هذا التفكير المفزع هذا التفكير المدمر، ما نتائجه؟ نتائجه أن تصطدم الأمم بعضها ببعض وهذا هو الذي حصل.. كل الحروب الني نشأت في الإنسانية سببها الأول والأخير المباشر وغير المباشر، اصطدام المصالح القومية من هنا نجد أن الإسلام حل المشكلة بتجاوز الإطار القومي الضيق واعتبار الدعوة دعوة إنسانية واعتبر استقامة الناس على هذا المنهج هو المنقذ وهو الضمانة الوحيدة التي تضمن للإنسانية سلامة المآل.
لعلكم تعجبون سأعرض عليكم لوحة، ارجعوا مثلاً إلى سورة النحل تجدون الله جل وعلا يقول لكم هذا لآية التي تسمعونها مع كل خطيب في كل جمعة:(/7)
(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون).
ماذا بعد ذلك يقول:
(ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم –لا بأس- سأفسر لكم الكلام- تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة).
ليست مشكلة على الحقيقة مشكلة العجمة التي لفت الأمة مع الأسف وإلا فهذا الكلام حينما كان يقع على قلب العربي وسمعه كان يحركه من أعمق الأعماق ولكنا اليوم نعيش في عُجْمَة لسان وعُجْمَة تفكير وعُجْمَة تصرفات - والله المستعان- ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون.
هنا ينقطع الكلام على الشريط المسجل – بكل أسف - ونضطر إلى إكمال المعنى الذي أراده الشيخ – رحمه الله تعالى – وذلك من ظلال الشهيد المرحوم سيد قطب عليه من الله الرضوان، حيث يذكر حول الآية ما يلي: فَمَثَلُ من ينقض العهد، مثل امرأة حمقاء ملتاثة، ضعيفة العزم والرأي، تفتل غزلها ثم تنقضه؛ وتتركه مرة أخرى قطعاً منكوثة ومحلولة..! وكل جزيئة من جزيئات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل والتعجيب، وتشويه الأمر في النفوس، وتقبحه في القلوب، وهو المقصود، وما يرضى إنسان كريم لنفسه أن يكون مثله كمثل هذه المرأة الضعيفة الإرادة، الملتاثة العقل، التي تقضي حياتها فيما لا غناء فيه..
وكان بعضهم يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول صلى الله عليه وسلم بأن محمداً ومن معه قلة ضعيفة، بينما قريش كثرة قوية، فنبههم إلى أن هذا ليس مبرراً لأن يتخذوا أقسامهم، غشاً وخديعة، فيتخلوا عنها: (تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة). أي بسبب كون أمة أكثر عدداً من أمة، وطلباً للمصلحة مع الأمة الأربى.
ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهد تحقيقاً لما يسمى "مصلحة الدولة" فتعقد دولة معاهدة مع دولة أخرى أو مجموعة دول، ثم تنقضها بسبب أن هناك دولة أربى، أو مجموعة دول أربى في الصف الآخر، تحقيقاً "لمصلحة الدولة".. الإسلام لا يقر مثل هذا المبرر، ويجزم بالوفاء بالعهد، وعدم اتخاذ الاَيْمان ذريعة للغش والدخل.. ذلك في مقابل أنه لا يُقِرُ تعاهداً ولا تعاوناً على غير البر والتقوى... إلى أن يقول السيد الشهيد رحمه الله:
والنص هنا يحذر من مثل هذا المبرر، وينبه إلى أن قيام مثل هذه الحالة (أن تكون أمة هي أربى من أمة) هو ابتلاء لهم ليمتحن إرادتهم ووفاءهم وكرامتهم على أنفسهم، وتحرجهم في نقض العهد الذي أشهدوا الله عليه (إنما يبلوكم به الله)، ثم يكل أمر الخلافات التي تنشب بين الجماعات والأقوام إلى الله في يوم القيامة للفصل فيه: (وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون).
يمهد بهذا لترضية النفوس بالوفاء بالعهد حتى لمخالفيهم في الرأي والعقيدة (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء، ولتسألن عما كنتم تعملون)...
ولو شاء الله لخلق الناس باستعداد واحد، ولكنه خلقهم باستعدادات متفاوتة، نسخاً غير مكررة ولا معادة... فلا يكون الاختلاف في العقيدة سبباً في نقض العهود، فالاختلاف له أسبابه المتعلقة بمشيئة الله، والعهد مكفول مهما اختلفت المعتقدات.. وهذه قمة في نظافة التعامل والسماحة الدينية، لم يحققها في واقع الحياة إلا الإسلام في كل هذا القرآن..
ويخلص السيد الشهيد إلى خلاصة جامعة بقوله: "لقد جاء هذا الكتاب لينشئ أمة، وينظم مجتمعاً، ثم لينشئ عالماً ويقيم نظاماً؛ جاء دعوة عالمية إنسانية، لا تعصب فيها لقبيلة أو أمة أو جنس، إنما العقيدة فيها وحدها الآصرة والرابطة والقومية والعصبية".
انتهى كلام السيد –بَرَدَّ الله مضجعه ورضي عنه-ولعل هذا المعنى الذي فصله في ظلاله، هو الذي أراده الشيخ المفتي في "اللوحة" التي ترسمها الآية الكريمة التي ختم بها الخطبة جزاه الله خيراً وغفر له.. وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/8)
الحلقة الأولى من تفسير سورة الأعلى
الحلقة (35) الجمعة 1 / 10 / 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
فبفضل الله تعالى وتوفيقه فرغنا من السورة السابعة في ترتيب نزول المصحف وهي سورة التكوير ، وإن شئت أن أستدرك فنحن قد فرغنا ولما نكد ، ولقد بقيت في السورة الشيء الكثير مما يستحق الوقوف والعناية والدرس ، ولكنا نؤثر أن نقفل باب الحديث في السورة الكريمة ، اعتماداً منا على أن كل القضايا التي أثارتها السورة الكريمة سترد مفصلة ومستوفاة في مواضع متعددة من القرآن المكي ومن المرحلة المكية التي اخترنا الحديث عنها بشكل أساسي ، ونواجه اليوم السورة الثامنة حسب الترتيب الذي يذهب إليه معظم علماء القرآن وهي سورة الأعلى .
وأحسب أن الكثيرين جداً من المسلمين يحفظون هذه السورة عن ظهر قلب ، فموسيقاها ومقاطعها وتناسقها يجعلها ميسرة للحفظ ، يقول الله تعالى مفتتحاً السورة الكريمة بخطابه إلى نبيه صلوات الله عليه وآله ( سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ، والذي قدّر فهدى ، والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاءً أحوى ) ولكي لا يطول الشوط للتكرار الذي لا ضرورة لها فنحن نسير مع السورة مقطعاً مقطعاً من أجل توضيح المعنى العام ثم نعود بعد إلى شيء من التفصيل الذي يقتضيه المقام ويوجبه مكان السورة من سياق الدعوة النبوية .
فالتسبيح في اللغة التي نزل بها القرآن هو التنزيه ، تنزيه الله تعالى عما لا يليق بجلاله وبكماله ، وتنزيهه جل وعلا عن مشابهة المخلوقين ومجانسة ما عدا الله جل وعلا ، وستتضح إن شاء الله تعالى لكم حكمة الأمر بهذا إذا عرفتم أن الأمر بالتسبيح والتنزيه تكرر في القرآن وفي مناسبات كثيرة حتى ليخال قارئ القرآن وليس ذلك خطأ أن القرآن كله دعوة إلى هذا التنزيه والتقديس والتسبيح.
الأمر يتضح بغير التباس إذا نحن أقررنا بأذهاننا صورة الواقع الجاهلي باتجاهاته المختلفة ، فلا شك أن قطب الرحى في الدعوات الدينية وعلى ألسنة الأنبياء جميعاً هو التوحيد والتنزيه ، والله جل وعلا نبّه في القرآن الكريم إلى أنه ما أرسل من رسول إلا بهذا النداء ( لا إله إلا أنا فاعبدون ) وحين تنزّلت دعوة الإسلام على محمد عليه الصلاة والسلام كان الواقع الديني على أشنع ما يكون من الفوضى والاضطراب وضياع المفاهيم الصحيحة ، بعد أن عدت عليها عوادي الزمن ، مما تتطاول على الناس من الأمد ، فقست من أجل ذلك القلوب ، وتفلتت تبعاً لذلك من الأخذ بأوامر الله تبارك وتعالى . وبسبب مما سولت لكبراء الناس والقيّمين على الديانات ، الذين يُفترض فيهم حفظ معالم الرسالة والسهر على عدم ضياع شيء منها ، والحرص على أن لا يدخلها تحريف ولا تأويل ولا إبطال ولا أي شيء من هذا القبيل ، مما يؤثر تأثيراً بيّناً على مسار الدعوة الدينية ، أقول تورّطُ هؤلاء من رؤساء الدنيا وكهان الدين في تحريف كلام الله جل وعلا أضاع على الناس معالم الرسالات وحقائق الدين .
ويوم تنزّل هذا القرآن في مكة على محمد صلى الله عليه وسلم كان معقولاً إن شاء الله تعالى أن تكون البداية في التحرك الإسلامي آخذةً من نقطة العقيدة ، وما لم تصحح عقائد الناس ، وما لم تقوّم نظرتهم إلى الرب جل وعلا ، وبعد ذلك نظرتهم إلى مقام الإنسان في هذا الوجود وحجم هذا الإنسان وإمكانيات هذا الإنسان ، فإنه من الصعب بل من المستحيل قطعاً أن يكون التحرك سليماً ، لأن مبناه سيكون دون ريب على تصورات البشر وتخيلاتهم واجتهاداتهم ، وأنت واجد بعد ذلك إن احتجتَ إلى دليل في صفحات التاريخ الإنساني ، وما تعاقب على الدنيا من أفانين النظم وألوان الاجتهادات ما يغنيك عن تصيد الأسباب الداعية للقناعة ، لأن البشر أفشل مخلوقات الله تعالى في القوامة على شوؤن الدنيا .
حين نزلت هذه الرسالة على رسول الله صلوات الله عليه كان الواقع الديني على النحو الذي سبق أن شرحته لكم قبل عدد من الأسابيع ، دين إبرهيم عليه السلام وهو الحنيفية السمحة ضاع ، وعدت عليه العوادي ، ودين موسى ضاع وضاع توراته ، وما جاء به عيسى ضاع كذلك ، وضاعت حقائق الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على عيسى عليه السلام ، نوراً وهدى للعالمين . وبقيت بقايا ، بقايا وخلائف تسمي نفسها يهوداً ، وتسمي نفسها نصارى ، زوراً وبهتاناً . ويقيناً لو أن الله تعالى ابتعث موسى لأنكر اليهودية الموجودة ، ولو أنه جلّ وعلا ابتعث عيسى لتبرأ مما عليه المسيحيون اليوم . ولقد أذكر ولعل بعض الإخوة من المثقفين يذكرون قصة من روائع قصص الروسي ديوستوفستي يتحدث فيها عن محاكم التفتيش التي أرهقت المسلمين من قبل ، ثم التفتت إلى المسيحين تذيقهم ألواناً من المتاعب والمصاعب وأفانين من القهر والقمع ، لمجرد أية مخالفة يبديها أحد الناس ، أو تأخذ بها جماعة من الجماعات ، تخالف ما استقر عليه رأي البابا أو المجامع الكنيسية .(/1)
وفي التصوير الجيد الذي عرضه الكاتب يبين أن عيسى عليه السلام بُعث حياً ، وأنه حضر هذه المحاكمة ، وأنه رأى فأنكر ما رأى ، واحتج ، وكانت النتيجة أن جُرجر ليقدم إلى محاكم التفتيش ، إله المسيحيين ، حامل الإنجيل . فما نراه اليوم نسخة مهذبة عن اليهودية التي كانت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما نراه اليوم من النصرانية فنسخة مهذبة أيضاً عن خرافات نصرانية وأباطيلها التي كانت حين تنزلت هذه الآيات . وأي معنى لرسالة إلهية تسوي بين الله ومخلوقاته ؟ وأي معنى لرسالة إلهية تمنح بشراً من الناس بلا سند وبلا الحجة ولا منطق وبلا دعم من الواقع الحق في أن يكون للناس إلهاً يأمر فيطاع ، ويشرع فينتهى إلى شرعه . والله جلّ وعلا أبان بواضح القول في القرآن الكريم أن الأنبياء لا يأمرون الناس أن يتخذوهم أرباباً من دون الله ، وكيف ؟ أيأمرونكم بالكفر بعد أن أصبحوا مسلمين ؟ كذلك ففي الرقعة ما كان عند العرب مما يؤذي النفس ويؤذي المشاعر ويهين العقل الإنساني ، من هذه الصمنية الغليظة الكثيفة التي كان العرب عندها لاطئين لا يتزكون . في وجه هذا لا بد أن تكون البداية وعلى نحو مكرور وموصول في مناسبات لا تنقطع أن ي،ضرب على وتر التوحيد ، فالناس قبل أن يصححوا مكانهم عبيد لله جلّ وعلا لا ينازعونه الخلق والأمر ، ولا يجاذبونه أطراف التشريع والحكم بين الناس ، وقبل أن يصححوا معتقدهم بالله ، رباً واحداً أحداً لا شريك له ، ولا نديد ، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ، وليس به عجز يدعوه إلى أن يستظهر على أمر الكون بالشركاء وبالأنداد ، الناس قبل أن يصححوا هذا المفهوم الجوهري حريون بأن يضربوا في تيه له بداية ولكن ليست له نهاية بحال من الأحوال .
من أجل ذلك نسمع هنا وفي مواطن متفرقات من كتاب الله تعالى ، منه الذي مر علينا من قبل فقرأناه واستمعنا له ، وأخذنا منه ما يسر الله أن نأخذ من عبرة ، ومنه ما سيأتي بعد ، نركز على هذه القضية ، قضية التوحيد ، قضية التنزيه ، لو رجعنا مرة أخرى ولا يمكن أن نملّ الرجوع لذلك الواقع الأليم المهين ، الذي كان في الجاهلية ، لأن القرآن برمته ، ولأن الإسلام كله ، ردّ على ذلك الواقع على اعتباره يصور خلاصة ما تحلّب عبر القرون من مفاسد الجنس البشري ، بحيث أصبحت الجاهلية الأولى تعكس أبشع أن ما يصل إليه الإنسان في كدحه غير المبارك نحو المفاسد والسوآت ، وجاء القرآن رداً على كل هذا يجتث من الجذور كل ما يمكن أن يطرأ على المسار الإنساني في مقبلات الزمان ، مما يؤثر على استقامة السير واعتدال السلوك .
لو رجعنا هناك وتساءلنا : فيما هذا الإصرار الغريب ؟ الإصرار المتكرر على قضية التوحيد ؟ لجاءنا الجواب بفضل تأمل : العرب في جاهليتها ـ وهذا من صنع الله طبعاً ـ كانت قبائلها تتصل بالروم وتتصل بالحبشة وتتصل بفارس في إيلافها وتجارتها ، وقبائل من قبائل العرب وأفراد من أفراد العرب تأثروا على مرّ الأزمان بما رأوا وبما سمعوا ، ولكنك حري بأن تنتبه إلى قضية جوهرية ، إن تأثر القبائل العربية البادية ، أي التي ترحل وتنزل ، بما شهدت من مآثر الروم ومآثر فارس ، وبما عرفت من عقائد اليهودية والنصرانية والمجوسية وما أشبه ذلك ، تأثراً عامي ، وأؤكد أنه عامي وساذج ، ساذج للغاية ، كيف تتصور لو أن بدوياً من أعماق الصحراء ذهب الآن إلى إحدى عواصم الدنيا المتقدمة ، فرأى منها ما رأى ، وعاش فيها يوماً أو أياماً ، أية صورة يمكن أن تنعكس لهذه العاصمة ولسكان هذه العاصمة في عقل هذا العربي أو البدوي الذي لم يكن قبلُ يعرف شيئاً عن المدنية ؟ لا شك أنها صورة باهتة وخارجية وسطحية تماماً ، ثم هي صورة مضللة ، قد يرى بعض الظواهر التي تطفو على السطح ، لكنه لا يحسن ولا يطيق أن يسبر غور الأعماق التي تقوم عليها حياة الناس في العاصمة التي يزورها . فهو خليق إذا حدثك عنها أن يعطيك صورة مضللة للغاية ، وأن يعطيك عنها أفكاراً منحرفة جداً ، فكذلك إن العرب لم ينزل بينهم دين عيسى ، ولم ينزل عليهم دين موسى ، ولكنهم رأوا وسمعوا عن هذه الدينين في تجاراتهم وانتجاعاتهم ورحلاتهم ، فلما رأوا استقر في أذهانهم ما استقر ، وبالفعل اعتنق ناس منهم اليهودية ، واعتنق ناس منهم النصرانية ، وتأثر بعض منهم بعقائد الفرس ، ولكن كما قال عمر رضوان الله تعالى عليه : إن العرب لم يعرفوا من النصرانية إلا شرب الخمور وأكل لحم الخنزير ، أما ما وراء العقائد من ثقافات وما هنالك من تيارات عملت على تكوين هذه العقائد ، بالشكل الذي تكونت عليه ، فهذا شيء لم يعرفه العرب ، هذا واحد .(/2)
والشيء الأهم من هذا بأن الذين تأثروا بالنصرانية واليهودية والمجوسية هم القبائل التي كانت تسكن على أطراف الجزيرة العربية ، والجزيرة العربية ليست جغرافيتها في السابق كما هي عليها اليوم ، الجزيرة العربية تمتد حتى تصل أبواب دمشق ، وتنفرج حتى تصل قريباً من بغداد أو ما هو بعد بغداد ، وجزيرة العرب في الماضي واسعة لأنها مجمل الصحراء التي تفصل بين الرومان وبين الحبشة وبين الفرس .
النصرانية واليهودية والمجوسية كانت في الأطراف ، وحين نزل القرآن لم يكن يتوجه بالخطاب أساساً إلى هؤلاء ، لكنه كان يتوجه إلى الجمهور الذي يصابحه ويماسيه ، إلى الناس الذين تنطبع حياتهم الدينية بطابع الوثنية ، إلى أناس آخرين وُجدوا كما يوجدون في كل أنحاء الدنيا ، في زمان وفي مكان ، هؤلاء الذين يصابون بآفة العقلية شبيهة في كثير من الوجوه بآفات الجسمية التي تصيب الإنسان ، هؤلاء الذين يقال عنهم الدهريون ، الذين يُنكرون أن وراء الحس شيئاً ، وأن وراء الدنيا آخرة ، وأن وراء الوجود موجداً وخالقاً ، مكابرين بذلك شهادة الحس ودليل العقل وهداية الفطرة .
هؤلاء أيضاً كانوا موجودين ، كانوا يقولون ( ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ) أرأيت هذا النبات تنصب قطرات المطر عليه وهو جنين في بطن الأرض ، فتتمخّض البذور عن نبتة تبسق شيئاً فشيئاً ، حتى إذا آتت أُكلها وقذفت للناس ثمارها المطلوبة منها والمرجوة منها صوّحتها حرارة الصيف واقتلعتها أعاصير الخريف . كذلك الإنسان ينبت كما ينبت النبات ويذهب كما يذهب النبات ، إزاء هذا نتساءل : أبلغت العرب وهم أصحاب الفصاحة واللسن ، وفيهم الأذكياء وفيهم المفكرون وفيهم أصحاب الأناة الطويلة اذين يصبرون على المعاناة ويصبرون على النظر ، فيهم أولئك الذين استطاعوا في السنين المتطاولة أن يرصدوا السماء وأن يرصدوا الأرض ويعرفوا إذا طلع النجم الفلاني أن النوء سيكون كذا ، ويعرفوا حتى إذا شمّوا شيئاً من تراب الأرض أنهم في المكان الفلاني ، قوم هذا مبلغهم في النباهة والذكاء ودقة الملاحظة يبلغ بهم الهوان على أنفسهم وانحطاط العقل إلى الدرجة التي يتصورون معها أن هذا الصنم الذي ينحتونه من الحجر ثم يطوفون به رجالاً ونساء عرايا وكاسين ، هو هذا الإله الذي خلق ، وهو الإله الذي يرزق ، وهو الإله الذي يميت ، كيف نستطيع أن نتصور أن رجلاً مثل عمر بن الخطاب ، ما تزال الدنيا تتعجب أن تنتج جزيرة العرب مثل هذه العبقرية الباذخة ؟ كيف يمكن لنا أن نتصور عمر هذا بعقليته المستنيرة يجيز لنفسه أيها الإخوة أن يصنع لنفسه ذات يوم صنماً من التمر ، يلصق بعضه على بعض حتى يسويه على صورة البشر أو على أية صورة شاء ، ويسجد لهذا الصنم ، عمر يفعل هذا ، ولكن غرائز الحياة أقوى من عمر وأقوى من كل الناس . ذات يوم يجوع عمر في ذلك المكان الذي يتعرض الناس فيه للجوع ، في كل آناة السنة ، يجوع عمر فلا يجد إلا صنمه هذا فيعدو عليه ويأكله .
هل نستطيع أن نتصور أن السخف وقلة العقل وقصور الإدراك يبلغ من شخص كعمر بن الخطاب أن يعمل صنماً من طعام ثم يأكل الإله الذي يعبده ؟ ذلك مستحيل . وكيف نتصور أن رجلاً على أريحية عمر بن الجموح رضي الله عنه ، حينما يدخل الإسلام بيوت الأنصار ، وكما سبق أن قلت لكم من قبل فإن العرب درجت على أن يكون لكل قبيلة صنم ، واستكثرت من الأصنام ، فأصبح لكل بيت صنم ، ثم استكثرت فأصبح لكل راكب يسافر من مكان إلى مكان يأخذ معه حجارة من حجارة الحرم إن أمكن ، وإلا فمن أي البقاع شاء ليجعلها له إلهاً يستخيره ويستشيره ويسجد له ويطوف من حوله كطوافه حول بيت الله المعظم . عمرو بن الجموح سيد من سادات الأنصار ، رجل يتمتع بالإدراك الكامل ، له صنم نحته من الخشب في بيته ، يتقرب إليه في الصباح وفي المساء وفيما بين ذلك . حينما دخل الإسلام بيوت الأنصار عدا فتية من الأنصار على بيت عمرو بن الجموح ، فأخذوا الصنم وألقوه في مكان تتجمع فيه القاذورات ، فلما أصبح وافتقد صنمه فلم يجده ، فذهب يفتش عنه ، فوجده في هذا المكان الذي لا يليق بالناس ، ولا يليق بالحيوانات الحية ، فكيف يليق بالآلهة ؟ فأخذه وغسله وطيّبه وأعاده إلى مكانه . وما زال يفعل هذا والفتية المسلمون يفعلون ما فعلوه من قبل ، حتى انتهوا إلى أن ألقوه بين القاذورات بعد أن ربطوا به كلباً ميتاً ، حين ذلك تفكّر الرجل أن هذا الصنم لو كان إلهاً لدفع عن نفسه ، ولكن عدم قدرته في أن يدفع عن نفسه عدوان العادين يدل على أنه ليس صنماً .
فالأمة العربية كما يجب أن يستقرّ في أذهاننا ونحن نواجه دراسة علمية لوقائع السيرة وحقائق التاريخ العربي في ذلك الزمان الغابر ، يجب أن لا نتصورها بهذه الدرجة من السذاجة والانحطاط العقلي .(/3)
لكن هناك قضية ، ما زلنا حتى الآن نلمس آثارها ونعرف خطرها بالتمام والكمال ، إن الإنسان بما هو إنسان محدود الطاقات والمجالات ، وسائل المعرفة لها حدود تنتهي عندها ، ثم تقف من بعد ذلك مستحسرة عاجزة ، هذا الإنسان ما لم يكن نقي القلب ، صاحي الوجدان ، لا يمكن أن يصيخ إلى سماع صوت الفطرة الذي ينادي أن هذا الكائن الإنساني مخلوق ، وهذا الإنسان على الجملة ما لم تتداركه من الله عناية فلا يمكن أن يعرف أن لهذا الخلق خالقاً ولهذا الوجود موجداً ، وحتى لو هدته نوازع الفطرة وموحياتها إلى أن هذا الكون موجود عن موجد ، ومستحيل في قضية العقل أن يوجد من غير موجد ، فإن الصفات التي تنبغي لهذا الموجد لا يمكن أن يدرها العقل ، مستقلة , وإنما ينبغي لهذا الموجد من التعظيم والإجلال لا يمكن أن يصل العقل مستقلاً إلى إدراكه ، فلا بد من الرسالات التي تخبّر عن الله جل وعلا عن ذاته الكريمة وما يريده للناس وما يريده من الناس ، ومن هنا كانت الرسلات الإلهية مجلى ومظهر رحمة الله بهذا الإنسان الضعيف العاجز الذي لا يستطيع أن يستقلّ بشئونه بنفسه .
الإنسان وهو ينظر مجرداً من رسالات الله ، وأحب لكل الإخوة أن يصيخوا بعقل ، ويصيخوا بأمانة ، وأن يسمعوا بإنصاف ، وأن يفكروا بحريو ، مفصولين عن كل الضغوط التي توجدها الشهوات ، وتوجدها ضغوط المجتمع من خارج . الإنسان يستحيل إن لم يتعرف من واقع الرسالات ومن الوحي على ما يصلحه ، يستحيل عليه أن يصلح حاله . وهذه الإنسانية منذ أن بدأت أن تدوّن آثارها على قطع الطين قبل عشرات الألوف من السنين وإلى اليوم ، تاريخها صفحة منشورة أمام الناس لمن يريد أن يقرأ وأن يعرف ولمن يريد أن ينصف . لو شئنا أن نلخص تارخ الدنيا منذ أو وجدت إلى الآن لقلنا إنه الصراع ، الصراع على الضرورات وعلى التفاهات وعلى الشهوات . أما الهدف الإنساني الكريم ، أما الغاية الإنسانية النبيلة ، أما المستقبل المضيء الباسم الذي ينبغي أن يهطع الإنسان إليه فذلك غير موجود إلا في فترات لامعة مضيئة هي فترات النبوات إبان ازدهارها وإبان نمائها .
هذا الإنسان حينما يرى نفسه وحيداً في الكون ، ويرى نفسه صغيراً غاية الصغر ، لنفترض أنه آمن باستحالة أن يوجد من غير موجد ، وقرر أن الله أوجده ، او أن أية قوة من القوى أوجدته ، فالإنسان عنده انطباع ، انطباع ناتج عن العجز الجبلي والفطري في الإنسان بأن القوة العليا لا يمكن أن تتقبل مباشرة الشيء الدنيء ، وأن القوي القوي لا يصلح أن يقابل الضعيف الضعيف ، من هذا المنطلق الإنساني البسيط انطلقت أفهام العرب وغير العرب في اتخاذ الأصنام .
هم قالوا إن الله في عليائه وفي سماواته وفي كمالاته وفي جلاله أعلى أجل وأمنع وأعز وأرفع من أن نخاطبه نحن المخلوقين مباشرة ، ولو شئنا تحليلاً مجتمعياً لوجدنا أن الناس قاسوا المسألة على ما يشهدون في الدنيا . فالإنسان إذا ذهب ليخاطب رئيس الدولة ، فبينه وبين رئيس الدولة عدد من الحجاب وعدد من الأبواب ، لا بد له لكي يوصل حاجته من أن يوسط هؤلاء الحجاب ، ومن أن يطرق هذه الأبواب . كذلك قالوا إن الله أجلّ من أن نرفع حوائجنا إليه مباشرة ، فلا بد من أن نتخذ الأصنام والأوثان لكي تقربنا إلى الله ، ولكي تكون واسطتنا ووسيلتنا إلى الله تعالى . ولا تعجبوا ، فما من أحد منكم لم يسمع بأفلاطون ، وجرى مجرى المثل حينما يراد أن يُمتدح إنسان بالذكاء والقدرة العقلية يقال : فلان أفلاطون زمانه . حتى هذا العقل الكبير الذي ما تزال الإنسانية تحني رأسها إجلالاً للمواهب التي كان يتكتع به ، وللقدرات الخاقة التي كانت تتمثل به ، كان يرى أن الله صدر عنه الكون أيضاً ، وبعد أن صدر عنه لم ينظر إليه ولم يكترث به ، لأنه أعلى وأجل من أن يكترث بهذه المخلوقات الصغيرة .(/4)
فالعرب إذاً حينما عكفت على الأصنام تعبدها وتقرب لها القرابين وتريق عندها دماء الأضاحي ، فعلت ذلك لا إنكاراً لله جل وعلا ، ولكن ذهاباً للتنزيه من طريق مغلوط . مرة أخرى ، العرب ما أنكرت الله ، ولكنها أرادت أن تنزه الله تعالى فسلكت الطريق الخطأ ، أرادت أن تنزه الله فتصورت أن الله بعيد عن الإنسان ، والله أقرب للإنسان من حبل الوريد . وأرادت أن تنزه الله فرفعته عن أن يقبل مقام الجلال والكمال أن يخاطبه المخلوق مباشرة ، والله تعالى قال ( ادعوني أستجب لكم ) فهذا الانحراف الذي واجهه محمد صلى الله عليه وسلم في تصور الإلوهية هو الذي انصبت عليه الآيات التي نتلوها الآن ( سبح بسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ، والذي قدّر فهدى ، والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاءً أحوى ) أرادت هذه الآيات وما شاكلها أن يعمل رسول الله صلى الله عليه وتعمل المجموعة التي آمنت معه بحقائق هذا الدين وبآيات الله جل وعلا على أن تقتلع كل هذه الجذور والأشواك والنباتات الضارة التي وُجدت حول مسألة التوحيد ، إن الله جل وعلا قريب من عباده ويسمع دعاءهم ويستجيب لشكاتهم ويرحمهم ، وإن الله تعالى لا يحتاج إلى وسائط ، ، والوسائط خطأ ، وإن من تسبيح الله تعالى أن تمكّن الصلة بين الإنسان وبين الله جل وعلا ، وما سبّح الله وما نزّه الله من أشرك معه آلهة أخرى على أي نحو من الإشراك ، ولهذا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الوطأة على الذين يشرّكون ولو من طرف خفي ، جاءه رجل ذات يوم : ما شاء الله وما شئت . فقال النبي صلى الله عليه وسلك مستنكراً غاضباً : ويحك أجعلتنب لله نداً . وما مشيئة الإنسان إلى جانب مشيئة الله تعالى ، إن مشيئة الله طليقة لا يحدها حد ولا يقف في وجهها سد والله تعالى يفعل ما يشاء ويختار . والنبي صلى الله عليه وسلم حين أخذه الكرب ودخل في النزع في مرض وفاته كان يسمح عن وجهه برحاء النزع ويقول : اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، اللهم لا تجعل قبري من بعدي وثناً يُعبد . وهؤلاء الناس يترامون على القبور يتمسحون بها ، ويترامون على دعاء الأموات والأحياء يظنون فيهم نفحة من قدرة الله .
وأن هؤلاء الذين تدعونهم كشركاء وكشفعاء يبتغون إلى ربهم الوسيلة كما تبتغون أنتم الوسيلة ، ما عبد الله حق عبادته وما نزّهه حق تنزيهه مَن رأى لمخلوق في هذا الكون قدرة لها أي تأثير في مسار هذا الكون . كذلك ما عبد الله وما نزّه الله أبداً وما سبحه مَن جعل لحياته وحياة الناس نمطاً لا يستمدّ أصوله وقواعده وتشريعاته وقيمه وتصوراته من حقائق هذا الوحي الكريم ، فالناس الذين خاطبهم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بهذا القرآن قبل أربعة عشر قرناً كانوا يضعون لأنفسهم قُطُر الحياة التي يريدونها ، ويضعون لأنفسهم الأنموذجات التي يريدون أن يحيوا عليها فجاءهم القرآن ينبههم إلى أن تقاليد القبيلة وأحكام العشيرة وتصورات البشر لا توصل إلا إلى الدمار ، وأن الخلاص في إسلام الوجه لله تبارك وتعالى ، ما لم تسلم وجهك لله حق الإسلام فأنت ضائع وهالك ، وإن البشرية التي تسير ولا تسير على هدى من هذا الكتاب المنير قد تنعم بالرخاء والبحبوحة سنوات قصاراً ، ولكنها تدمر نفسها ، أفأنتم محتاجون إلى دليل وقد عاصرتم الدليل الذي لا يُنقض والشهادة التي لا تخفى . في عام 1914 بلغ التكالب البشري وبلغ العداء البشري أوجه ، فانفجرت الحرب العالمية الأولى ، وقيل بعد عصبة الأمم إن الدنيا أقبلت على عهد رخاء وعلى عهد إخوة وسلام ، وجاءت مبادئ ويلسون الأربعة عشر ، فإذا هي هراء ، وإذ الكلام الذي يُكتب على الورق غير حقائق الحياة التي تتحرك بها نوازع الناس ورغبات البشر .
وجاء عام 1939 فانفجرت الكارثة أعنف من الأولى وأشد فتكاً وأعظم هولاً ، وأخذت من جملة البشرية ما لا يقلّ عن ستين مليوناً من الناس قضوا بلا جريرة وبلا ذنب إلا أنهم ذهبوا ضحايا المطامع وضحايا الشهوات وضحايا الاصطراع بين الأغنياء والكبراء وزعماء العالم ، وها نحن نعيش في عام 1976 على حافة رعب يعيش معنا في ليلنا وفي نهارنا ، لئن كان الناس في الحرب العالمية الأولى يخرجون ليتفرجوا على الحروب كيف تكون وعلى القتال كيف يحدث ، إن حروب اليوم المنتظرة لا تبقي ولا تذر ، إنها تصلك وأنت في عقر دارك ، قد لا تكون قنبلة تلقى عليك ، قد تكون نسمة طائرة في الهواء تستنشقها فتموت ، وإذا لم تمت فتستنشقها فإذا أنت مستودع للتشوه العقلي والبدني يتسلسل منك إلى الأبناء والأحفاد ، إن هذا دليل ـ لا يمكن لأحد أن يدفعه ـ على فشل الإنسان في تفكيره وفي تقريره وفي تدبيره ، فلا بد للإنسانية كي تسبح الله وكي تنزه الله وكي توحد الله من أن تستمد منه فقط تصوراتها وقيمها وأخلاقها وتشريعاتها .(/5)
وفي ذلك الوقت كان الناس يتحركون على أرضية بشرية صرفة ، ولكن سُحقوا سحقاً ، والبشرية اليوم محتاجة إلى أن تعرف معنى ( سبح اسم ربك الأعلى ) . أترون هذه الدنيا التي تنادي بالأباطيل التي لا تريد أن تنتهي إلى التسبيح لله ؟ أترون هذه الدول التي تعمر شرق الأرض وغربها وشمال الأرض وجنوبها تجلس في مؤتمراتها ومنتدياتها تفكر وتخطط وتضع الخطط وتصدر من بعد البيانات تمجد هذا النتاج العقلي المتقدم جداً جداً جداً ، فإذا هي بعد سنة أو أقلّ تذهب لتقول : إن هذا النتاج بالذات دسيسة استعمارية بغيضة ، ثم يُعلق الذين قرروه على المشانق ، ذلك تسبيح ؟ ذلك تنزيه ؟ لا ، إنكم تريدون الخبال للدنيا ، وتريدون الدمار للعالم ، والله تعالى يريد لكم أن تحيوا إخوة ، يريد لكم أن تحيوا بشراً كاملين مكملين ، بشراً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم . غايتكم أن ترضوا الله جل وعلا في جعل أنفسكم عبيداً مستسلمين لإرادة الله ، إرادة الله تجلت في هذا القرآن ، تمثلت في هذا الإسلام ، فلتكونوا أنتم روّاد هذا الإسلام ودعاة هذا الإسلام . وسيمر معنا في الأسابيع القادمة إن شاء الله تعال مزيد من الأضواء التي تلقى على هذه القضية الأساسية الجوهرية التي صرف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم جانباً من زهرة شبابه ومن أحلى أيام عمره كي يُقرّ هذه الحقيقة في الأرض ، لكي تتحرك من بعد نماذج ، نماذج ما تزال الدنيا تسير نحوها لكي تحتذيها ولكن برجل عرجاء ، ما تزال الدنيا عقيمة عن أن تلد مثل أبي بكر ومثل عمر ومثل عثمان ومثل علي وأن تلد خالداً وغيرهم من الصفوة المختارة الذين حكموا فعدلوا ، وملكوا فرضخوا ، وسووا بين الناس ، وعاملوا الناس بالحسنى ، فكانوا لفاقد الأب أباً ، ولفاقد الأخ أخاً ، ولفاقد العائل عائلاً ، وللناس جميعاً أمثلة على العدالة التي لا تحيد ولا تجنح مع قرابة ولا مع مودة ولا مع هوى .
هذه النماذج وهذه الأيدي النظيفة هي التي تحتاجها البشري اليوم ، لا أيدي الاخرين ولا أسمي ، فلقد أصبحت الأمور كلها مكشوفة ، والإنسانسة اليوم تعيش فضيحة ما بعدها فضيحة ، لا أسمي ، الأيدي التي تنقذ البشر وتنتشلهم من هاوية الدمار التي يركضون نحوها ركضاً هي الأيدي التي يصنعها القرآن ، وهي الأيدي التي يصوغها الإسلام ، فاعملوا على أن تكونوا كذلك ، أنتم أمل البشرية ، أمة محمد ورجال الإسلام ، غيركم لا يمكن أن يزيد الإنسانية إلا خبالاً ، ولا يمكن أن يزيد النار إلا اشتعالاً ، ولا يمكن أن يزيد المرض إلا بلاءً . فاعملوا واعزموا عزمتم المستمدة من الله كي تنقذوا أنفسكم وتنقذوا هذا العالم الحائر المتخبط .
والله تعالى يتولى هدانا وهداكم ويوفقنا إلى طريق الحق والصواب ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .(/6)
الحلقة الأولى من سورة التكوير
الحلقة (32) الجمعة 25 شعبان 1396هـ-20 آب (أغسطس) 1976م
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون:
فنحن اليوم مع سورة التكوير يقول الله جل وعلا بسم الله الرحمن الرحيم:
(إذا الشمسُ كورت. وإذا النجوم انكدرت. وإذا البحار سجرت. وإذا الجبال سيرت. وإذا العشار عطلت. وإذا الوحوش حشرت. وإذا البحار سجرت وإذا النفوس زوجت وإذا الموؤودة سئلت. بأي ذنب قتلت. وإذا الصحف نشرت. وإذا السماء كشطت. وإذا الجحيم سعرت. وإذا الجنة أزلفت. علمت نفس ما أحضرت)
ولو كنا إنما نفسر القرآن، وننظر في آياته من أجل التفسير وحسب، لكان المنطق قاضياً أن نلج الموضوع مباشرة، وأن نعمد إلى هؤلاء الآيات، وإلى ما يتلوها من آيات السورة؛ فنشرحها وفقاً لدلالات اللغة، ثُمَّ نؤولها تبعاً للمعاني والأغراض التي سيقت لأجلها. ولكنا ننظر في بعض سور القرآن بهدف حددناه من قبل، ومن منظور خاص هو منظور السيرة النبوية، ووفاقاً لقواعد خاصة هي قواعد الحركة الإسلامية وقوانينها فمن أجل ذلك لا بد لنا أن نتعرف على الحوار الذي سيقت له هذه الآيات والسورة.
ولقد سمعتم الآن فواتح السورة الكريمة، وعلمتم من أجل أي شيء سيقت هؤلاء الآيات، وعلى أي غرض انصبَّ هذا الكلام الإلهي؛ فالمسألة كما رأيتم، تجسيم لهول يوم الفزع الأكبر، تصوير لجانب من جوانب اليوم الآخر يوم تُبَدَّلُ الأرض غير الأرض والسموات، ويوم يجثو الكل بين يدي الجبار المتكبر - لا إله إلا هو - ولعلكم لكثرة ما ألفتم سماع تذكير المذكرين، وتخويف المخوفين، لعلكم لذلك لا تحسون ما ينبغي أن يحس به المسلم وهو يسمع هذه الآيات وأشباهها، ولكنكم خليقون أن تغيروا تفسيركم هذا إذا علمتم أنه لا يوحد في الإسلام شيء مقطوع الصلة ببقية الأشياء فالإسلام مخطط حياة ومنهج عمل، وصراط للسلوك، ومنظومة للعقيدة؛ وكل أولئك يتبادل التأثير بعضه مع بعض ثم كل أولئك يجتمع ليؤدي الغاية التي أنزل من أجلها هذا القرآن وابتعث فيها رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لكي نزيد المسألة وضوحاً أكثر فلا بد من أن نؤكد أن مسألة اليوم الآخر وما يتبعها وما يكون فيها شغلت حيزاً كبيراً من القرآن الكريم لعله أن يبلغ ثلاثة أرباع ما أنزل من هذا الكتاب، وخليق بالإنسان المسلم حينما يعرف هذه الحقيقة الصغيرة الأولية أن يتساءل: هل الأمر على كل هذه الدرجة من الأهمية؟
ثم إذا كان على كل هذه الدرجة من الأهمية، فما عرض الله جل وعلا في القرآن وما نطق به رسول الله صلوات الله عليه في أحاديثه الشريفة مما يتعلق باليوم الآخر، أيقصد به أن تنخلع القلوب، وأن ترتجف الأفئدة، وأن يأخذ الناس رعب يلفهم من أقطارهم جميعاً؟ أم المسالة لها جوانب أخرى لا بد لدارس القرآن، إن كان دارساً، من أن يتبينها، ولا بد لصاحب الدعوة، إن كان يمهد للدعوة إلى الله، من أن يتعرف عليها، ولا بد للأمة حينما ترسم مناهجها وتحدد أهدافها، من أن تعرف هذا كله؟
لا بد لنا الآن من أن نمهد للأمر، وأن نضع هذه القضية في حاق موضوعها من سياق هذا الإسلام كي لا تضيع الحدود ولا تنبهم الغايات. إن هذا الإسلام كما عرفتم وكما رددنا على مسامعكم عشرات المرات جاء لغاية.. الله ليس بحاجة إلى سلوى يتسلى بها وليس بحاجة إلى وسائل للهو والعبث جل الله، وتعالى الله عن ذلك يقول الله: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ولو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين) فالكون الذي صدر عن الله تبارك وتعالى ذو غرض ذو غاية ذو هدف وهذا الغرض لا يتعدى نطاق البشرية التي أنزل لها هذا الإسلام وواجب البشرية أن تتعرف على هذه الغاية بكلمة جامعة هذا الإسلام كله بما فيه من وصايا وتعاليم ينساق نحو غاية أولية هي أن يعاد تكوين الإنسان بما يتلاءم مع الناموس الكوني العام الذي يحكم الوجود كله والذي تدفعه صفة العبودية لله جل جلاله.(/1)
فالإنسان الذي مرت عليه الأحقاب وغبرت عليه الدهور وهو مؤمن بنفسه غير آبه لما هو فيه لما يستحق من أهبة واستعداد والإنسان الذي رضي من الحياة بهامش صغير يضطرب فيه، همه منه ما يشغل البهيمة من مطعم ومشرب ومنكح.. هذا الإنسان، مع تراخي الأزمان، ومع توالي القرون، تخرب كيانه تماماً لقد تركت عليه تأثيرات البيئة بصماتها الواضحة، وترك عليه الاسترسال غير المسؤول هذا التسيب الذي ترونه ضارباً أطنابه في كل، مكان ودفعت الغاية العليا للوجود الإنساني وللقافلة البشرية بعيداً إلى الخلف، وقدمت بين يدي الإنسان شهوات وقدمت بين يدي الإنسان رغبات وأشياء صغيرة أَوْلاهَا كُلَّ همّه، وأعطاها كل قيادته، فمزقته وقطّعت أوصاله، فالإنسان يعيش قطعة هنا وقطعة هناك وما لم تتجمع قوى النفس، وما لم تنسق الدوافع والمحركات، بلا أمل بتاتاً في أن يتحرك الإنسان في هذه الدنيا حركة صحيحة متناسقة - ما زل الجو بعيداً عن الآيات لا بأس - الإسلام إذاً جاء ليعيد التوازن إلى هذا الوجود.
أنت حينما تكون بين يديك آلة جهاز تكون فيه بعض الفواصل أو بعض الصمامات غير شغالة فأداء هذا الجهاز ناقص، حينما تكون لديك مجموعة من الأجهزة بينها ناظم ينتظمها لينسق أداءها جميعاً كي تؤدي غرضاً معيناً؛ فيكون بعضها شامخاً ويكون بعضهاً ناقص الأداء، فذلك يعني بالطبع أن الحصيلة التي كنت ترجوها من العمل كمّاً وكيفاً لن تكون على المستوى المطلوب، ولا بالكمية المطلوبة هذا شيء يعرفه كل الناس كذلك أنت وكذلك المجتمع البشري الذي تعيشه الآن والذي عاشته الأمم من قبل وتعيشه الناس ما دام على ظهر هذا الكوكب ناس. فالإنسان جهاز ذو قوى ذو إمكانات ذو غرائز ذو طاقات حينما يتحرك بكامل قواه يؤدي أداء عالياً، بشرط أن تكون الحركة متناغمة ومتناسقة، أن لا تصطدم في النفس قوة مع قوة، حينما يكون المجتمع ككل على هذا الغرار ففاعلية المجتمع تكون على مستوى عال.
هذا هو ما أراده الإسلام أراد للذات الفردية الإنسانية أن لا تعطل شيئاً من طاقاتها وأن تنسق وتنظم هذه الطاقات بحيث أنها تكون أثناء العمل غير مصطدمة ببعضها وأراد للمجتمع في نظامه العملي أن يكون تحركه كذلك على هذا الطراز. الكون كله متوازن منذ خلق الله الخلق وإلى اليوم وإلى قيام الساعة، تستيقظ في الصباح فترى الشمس تطلع من المشرق فإذا أمسى المساء غربت في المغرب فإذا جن الليل تبدت أمامك الكواكب تزين السماء الدنيا، بهذا النظام البديع هذا المشهد شهدته أنت وشهده أبوك وشهده جدك وشهده آدم عليه السلام وسيشهدْ الناس ما دامت الدنيا دنيا وما دامت الساعة لم تقم.
الكون كله لولا هذا التناسق وتوزيع القوى على نحو يمنع الصدام والخصام، لولا هذا لتخرب منذ زمن بعيد الكون كله في هذا التناسق العجيب المعجز. وهذا الإنسان العاتي وحده يخرج على النظام ويسيء إلى التناسق ويخرب التوازن المطلوب. وظيفة الإسلام أن يجعل حركة الإنسان داخلاً وخارجاً وحركة المجتمع متفقة مع هذا القانون الكوني العام كي يكون الأداء الإنساني من حيث النتيجة كاملاً ومؤدياً للغرض المطلوب.
هذه حقيقة أعتقد أننا فرغنا من تقريرها منذ أمد بعيد، وإن كان تقريرها على غير هذا النحو، لكن انظروا الأمر من زوايا أخرى، كي يتضح هذا الأمر تماماً. إن التناسق في عرفنا والتوازن متمثل في رعاية أوامر الله تبارك وتعالى، ما طلبه الله منك فافعله ما نهاك عنه فدعك منه لا خير لك فيه، جملة التعليمات التي أصدرها محمد صلى الله عليه وسلم ينبغي أن توضع موضع التطبيق، لا يشذ عن التطبيق منها أي شيء، التوازن يحصل بالكيفية التي رسمت بالوحي، وشرحت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لتؤدي غرضاً إنسانياً محسوساً.
إلى هنا لا أظن أن ثمة مجالاً للخلاف لكن بعض الناس يتساءل أو يجبك بالسؤال جبهنا مراراً عديدة أثناء التحدث ويقول: إن التناسق والتوازن في الحياة الإنسانية مطلوب لا ريب في ذلك لكن لماذا لا يمكن أن يتحصل هذا إلا بالإسلام، وألا يمكن أن تقوم المبادئ الأرضية وأن تقوم نتائج عقول الفلاسفة والحكماء والمشرعين والسياسيين والاقتصاديين، وهم أرباب المعرفة وأصحاب الاختصاص والذين يقررون الحقائق مفروغاً منها، تكاد تكون كلها حقائق علمية تلمس باليد وتشاهد بالعين وتسمع بالأذن؛ ألا يمكن أن يتحقق هذا التوازن عن طريق وضع المبادئ الأرضية موضع التطبيق؟ ويأخذون في كلام طويل من هذا القبيل.
أنا لا أريد أن أدخل مع هؤلاء بنقاش ولكن أسمح لنفسي معكم أن نتشكك وأن نتساءل.(/2)
لا شك أن أي منصف - وإذا أراد بعض الناس أن لا ينصف فيكفينا شهادة أرباب الاختصاص - فإن الساسة والاقتصاديين والشرعيين يشكون مُرّ الشكوى من عدم التطبيق الناتج عن عدم الالتزام، أنا أطبق الأمر حين ألتزمه وألتزمه، حين أشعر أنه يؤدي لي غرضاً حقيقياً يحقق لي منفعة حقيقية.. يحقق للمجتمع سعادة غير منكورة، الالتزام مؤسس على هذا، فالناس أرباب الاختصاص من قضاة إلى مشترعين إلى ساسة إلى اقتصاديين إلى.. إلى يشكون مُرَّ الشكوى كما قلت لكم، من محاولات الناس للتفلت؛ نحن إذا كنا مثلاً نعيش في ظل نظام اشتراكي، ومعلوم أن النظام الاشتراكي من الزاوية الاقتصادية يعتمد على مبدأ المؤسسات، فالمؤسسة لها مدير ولها موظفون ولها خبراء وثمة دراسات وما أشبه ذلك، ففي البلدان الاشتراكية وفي البلدان الرأسمالية وحيثما وُجِدَت المؤسسة ووجد المشروع، فالسرقات مستمرة والسلب والنهب يجري بلا وازع، ونتيجة ذلك تنعكس على المشروع وتنعكس على المؤسسة.
نحن إذا كنا نقيم نظاماً قضائياً، المقصود بالنظام القضائي أن يفصل في المنازعات بين الناس وفاقاً لقوانين العدالة ومبادئ الحق ومع ذلك فنحن والقضاة والمحامون وأطراف الدعاوى، نعرف تماماً أن الإنسان يتحايل على القوانين ويستأجر المحامين - لكي يزيدوا تحايله فاعلية - فتكون النتيجة تعطيل الروح التي وجد القانون من أجلها، وقس على ذلك سائر الأمور؛ فالمسألة ليست مسألة مبدأ يوضع وحسب.
هذه خطوة احفظوها عندكم ليست مسألة مبدأ يوضع فحسب؛ ولكنها مسالة الالتزام أنا حينما أشعر أن قانون البلد الذي أعيش فيه ويظلني قانون يتجاوب مع الغاية التي أكون لنفسي فكرة عنها فأنا سوف أحترم هذا القانون وسواء وجد القاضي أم لم يوجد فأنا أقف عند حد القانون لا أحاول مطلقاً أن أتخطاه لأنني في اللحظة التي أتخطاه فيها سوف أسيء إلى مصلحتي بالذات هنا تتضح معنا معالم الخطوة الثانية في طريق هذه التساؤلات، الخطوة التي تشير إلى المصدر.
نحن نقول لا بد في أية حياة اجتماعية من نظام يحفظ على المجتمع سلوكه غير المتصادم بل حتى المجتمعات الحيوانية لا بد لها من عصا تفرق بين الظالم والمظلوم، نحن جميعاً متفقون على هذا؛ ولكن مسألة المصدر ماذا عنها؟
نحن نقول: إن الذهن الإنساني بكل حصائل التجربة التي عاشتها الإنسانية من قبل، وبكل ما سوف يتاح لها من بحث أن تضيفه إلى هذه الحصائل سوف يظلّ عاجزاً عن إدراك الصالح المطلق لبني البشر؛ لا نقول هذا مجازفة ولا نقوله تبجُّحاً بل بكل تواضع نقول هذا الكلام:
إن المصدر الكامل الذي لا يمكن أن يضاف إليه هو هذا القرآن منذ أن ختمت آياته وإلى الآن تقرؤونه على النحو الذي كان عليه يوم أنزل فيه.
(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).
لكنك خذ إليك القوانين خذ إليك مبادئ السياسة خذ إليك مناهج الاقتصاد؛ تجد اللاحق يستدرك على السابق، هذا على صعيد الفكر وفي مستوى الذهن البشري، ولكنك في الحياة الإنسانية في الحياة الاجتماعية تصطدم بخاصية التصلب التي تأخذها المؤسسات والأنماط الاجتماعية والأطر الاجتماعية فهنا مسالة التناقض تأخذ شيئاً غير الاستدراك الفكري تأخذ شكل الصدامات وشكل العداوات، كي ينكسر الإطار القديم ليقوم من بعد الإطار الاجتماعي الجديد هذا الاستدارك المستمر لما كان في السابق والتطلع المستمر لما نستشرفه من أجل المستقبل يعطينا هذه الحقيقة البسيطة وهي أن مجهود البشر لا يمكن أن يفي بحاجات البشر.
ننظر الآن من المنظور الديني بعد أن نظرنا إليه من المنظور الواقعي فنجد أن الفرق بين نظام نازل من عند الله، ونظام مصنوع بأيدي البشر كالفرق بين الكمال الإلهي والنقص الإنساني كالفرق بين العلم المطلق الشامل المحيط الموصوف به ربنا جل وعلا وبين الجهل المزعج الذي يتخبط فيه الإنسان فمسالة المصدر لها قيمتها الحاسمة في هذا الموضوع لا يمكن أن ألتزم نظاماً ما لم أعلم أن هذا النظام صدر عن إنسان أو مؤسسة أو كائن يتمتع بكامل ثقتي، حينما تخدش هذه الثقة أي خدش؛ فإن الالتزام يتخلخل لأن هذا الخدش يعكس آثاره على مسألة الالتزام.
هذه خطوة ثانية.. من هذا الباب نقول: إن الإسلام بما جاء به في القرآن وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يستحق أن يلتزم وأن ينفذ على نحو مطلق بدون تردد لأنه صادر عن الجهة العالمة بكل شيء المحيطة بكل شيء التي خلقت الإنسان والتي هي وحدها تعرف ما يصلح الإنسان وما يصلح عليه الإنسان عند هذه النقطة تعترضنا ظاهرة وكثيراً ما قيلت لنا ولا بد من أن نشرحها بعض الشيء.
إن الظواهر يا إخوة تخدع، والإنسان إذا كان وفياً لعقله فعليه أن يكون صبوراً عليها أن يصبر على تحليل الظواهر كي لا ينخدع وكي لا يخدع الناس.(/3)
بعض الناس يقول لك لا ليس شرطاً أن يكون النظام صادراً عن جهة ربانية كي يكون واجب الالتزام، نحن نرى كثيراً من الأمم فيها ناس يلتزمون التزاماً لا حد له ونقول نعم بادي الرأي وفي ظاهر الأمر، نحن نعرف مثلاً أنه كان في زمن الحشاشين، وهم فرقة من فرق الشيعة في فارس، كان شيطان مارد اسمه الحسن بن الصباح يتزعمهم وهو الذي يسمى شيخ الجبل، وكان يعتصم في قلعة (ألموت) في فارس، وكان يتخذ من الأضاليل والحيل الشيطانية ما يوهم به أتباعه بعد تخديرهم بواسطة الحشيش، وإيقاظهم مرة أخرى أنه قادر على أن يدخلهم الجنة وقادر على أن يدخلهم النار؛ والناس فيهم عجائب في الدنيا بسطاء ومغفلون وسخفاء الدنيا مليئة بهذا الطراز من الناس، ولذلك تجد دائماً الدعوات الضالة والمنحرفة تتصيد زبائنها من هذا المستنقع الوسخ، فهذا الرجل اصطفى من ضعاف العقول ناساً أوهمهم هذا الإيهام، وكان إذا جاءهم تهديد من الدولة في ذلك الوقت، يأمر بعض أتباعه - وهو كما قلنا يسكن قلعة شاهقة ضاربة في السماء - فيأمرهم بأن يرموا بأنفسهم من فوق القلعة إلى الخندق ليموتوا، فيأمر خمسة أو عشرة أو أكثر أو أقل ويقول للرسول: بَلِّغْ سيدك ما رأيت، هؤلاء فعلاً ينفذون الأمر على الموت أقول هذا صحيح وأعرف أيضاً في اليابان ما يعرف عندهم بعادة "الهاري تاري" وهي أن الإنسان إذا ارتكب عملاً مخلاً بالشرف، طعن نفسه بخنجر ذي حدين وأنه إذا أمره الميكادو بأن ينتحر فسوف ينتحر وأعرف من حوادث كثيرة أن أناساً من أجل غاية معينة ينتحرون؛ هذا كله صحيح ولكني كما قلت لكم: أكرر.. أن واجب الإنسان العاقل أن يصبر على تحليل الظاهرة.
تعالوا.. نحن نعرف أن في الدنيا زعماء وقادة مطاعون، إذا قالوا سُمِعَ قولُهم وإذا أمروا نُفِّذَ أمرُهم هذا كله واقع مشهود ومع ذك فنحن أيضاً نعرف إلى جانب هذا أن التاريخ القديم وأن التاريخ الحديث ومنذ قال قيصر قولته الشهيرة - حتى أنت يا بروتس - وقبل ذلك وبعد ذلك نعرف أن القادة والزعماء والملوك جرت تصفيتهم على يد أقرب الناس إليهم، الزعماء في العادة لا يقتلون إلا بأيدي الأتباع المقربين الذين نظن كل الظن أنهم لا يمكن أن يرفعوا أيديهم إليهم بسوء ومع هذا فهذا واقع لماذا؟ صبراً أيضاً؛ لأن الإنسان قد يسمع منك الأمر فينفذ وثان وثالث ورابع وعاشر وألف وينفذ الكل، ولكنك لو أتيح لك أن تنصت إلى أحاديث قلبه بوسيلة ما، لرأيته يتساءل باستمرار: ما الذي يميز هذا الإنسان عني؟ لماذا هو يأمر وأنا أطيع؟ لماذا لا تنقلب الآية؟ لماذا لا ينعكس الوضع؟ فأكون أنا الأمر وهو المطيع؟ لماذا الإنسان لا يتحمل أبداً وبغير انتهاء أمر إنسان مثله؟ فالإنسان يسمع أمر إنسان أو أمر كائن أعلى منه وأقوى منه ولا حيلة له في التفلت من سلطانه وقهره، أما أن يأمره إنسان مثله فذلك شيء غير مقبول من حيث النتيجة تتساؤل على تساؤل شجب وراء شجب استنكار، وراء استنكار ستجد في النهاية الإنسان الذي كان بين يديك كالخاتم تديره في إصبعك يسمع ويطيع وينفذ بلا مناقشة ولا كلام تجد هذا الإنسان، ينقلب عليك في لحظة واحدة، فإذا هو يغتالك ويصفيك.
إذاً ففي مسألة المصدر ثمة جانب آخر، الإنسانية باستعداداتها بغرائزها بدوافعها بقيمها المستقرة في الفطرة لا يمكن أن تسلم لقوة مماثلة لها من كل وجه، لا بد من قوة أعلى هذه القوة الأعلى هي قوة الوحي النازل من عند الله تبارك وتعالى، ومن هنا كان الإسلام قادراً على تحقيق التوازن على غير النحو الذي تستطيعه أنظمة الدنيا وشرائع الناس ومبادئ الأرض.
هنا نأتي إلى الخطوة الأخيرة وهي صميم الموضوع: هل يكفي أن نضع النظام وينتهي كل شيء، أم لا؟
في الواقع لا بد في النظام من مواصفات، وهذه المواصفات يجب أن تبنى، وأن تؤسس على معطيات الذات الإنسانية، على معطيات الوجود البشري، الوجود غير المحدود، فنحن في الواقع نعرف أن كثيراً من الناس يعيشون في دائرة الحس، لا ينظرون أبعد من أنوفهم ولا تتجاوز هممهم مواطئ أقدامهم، ولا يفكرون إلا في ما تعطيه لهم هذه الحواس الظاهرة، ولكن الإنسان بما هو إنسان ذو فطرة مستقيمة، يعرف أن الموت ليس نهاية الرحلة أبداً، ليست نهاية الرحلة لمبررات عملية ولمبررات أخلاقية سوف نستعرضها في مقبلات الأيام إن شاء الله تعالى.
فالإنسان يتطلع من داخل نفسه إلى يوم يقوم فيه الناس لربّ العالمين فيحاسب الإنسان على ما جنت يداه، على ما قدم في الدنيا، هل يمكن لكم أن تتصوروا أيها الإخوة بكل إنصاف بكل صدق مع النفس ومع الواقع، هل يمكن لكم أن تتصوروا إنساناً يعتقد بأن الموت نهاية كل شيء. وأن لا شيء بعد الموت، وأننا بعد أن ندخل الحفرة لن نقوم منها أبداً، هل يمكن لكم أن تتصوروا إنساناً من هذا النوع قادراً على أن يعانق القيم العالية؟ لا أتصور ذلك.(/4)
إن الإنسان الذي يقول لك: لا شيء بعد الموت، ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، كهذه النبتة التي نبتت على ماء الربيع ثم طوحتها عواصف وأعاصير الرمال في الصيف لا شيء بعدها أبداً، هذا الإنسان يكون دافعه الأول ودافعه الأخير، أن ينهب من اللذات ما أمكن أن يعب منها حتى يرتوي ويخرج الري من أظفاره، هو إنسان أقرب إلى طبائع الوحوش، أقرب إلى سكان الغابة من أن يكون الإنسان المهذب، لكن الإنسان الذي يجد نفسه مشدود البصر والفؤاد إلى يوم تشخص فيه الأبصار إلى يوم توضع فيه الموازين القسط ليوم القيامة ولا تظلم نفس شيئاً، هذا الإنسان يرى حينما يقف أمام حدود الله، وحينما يقف أمام محارم الله، يتهيب وتأخذه قشعريره يخشى من فضوح الآخرة، يخشى من اليوم الذي يقال فيه له: ألم يأتك رسولي فأنبأك بالحلال والحرام فلا يملك إلا أن يقول نعم، ألم أمنعك من هذا فإذا حاول الفرار من الاعتراف بجرمه شهد عليه سمعه وبصره ونطق جلده والمكان الذي ارتكب فيه الجريمة؛ فهو يهتز فرقاً وخشية من أن يقارف ما يقارف إن أي نظام لا يضع في حسابه اليوم الآخروما يكون فيه من محاسبة ومناقشة سوف يفشل لأنه يأخذ جانباً واحداً – وأصغر الجوانب على الإطلاق – من الحياة الإنسانية فيعنى بها ويعنى بها على نحو مغلوط ويهمل الجانب الأكبر الذي هو جانب الروح وجانب العقيدة في الله وفي اليوم الآخر والعصام الذي يربط كل حركة الإنسان، فلا يضل ولا يخل بشيء مما طلب منه النظام الأرضي، بما أنه يهمل هذا يفشل والنظام السماوي بما أنه يضع هذا في اعتباره ينجح، ولو أننا جئنا نستنطق الحوادث ونستنطق القرآن لوجدنا مصداق ذلك على نحو يخجل الأفاكين ويخجل المغرضين ويفقأ عيون المتهجمين على هذا الإسلام كنظام شامل ومتوازن، وبذلك تكون آثاره دائماً آثاراً طيبة في المجتمع.
نحن نرى أن الإنسان يُساءُ إليه من قبل زيد فإذا ملك القوة نَكَّلَ بخصمه.
ونسمع أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يوماً في مجلس الخلافة ما تتصورون مجلس الخلافة؟ بلاط لا حرس. لا. فناء المسجد ساحة المسجد؛ فدخل عليه رجل عرفه، عرف فيه قاتل أخيه ضرار بن الخطاب رضي الله عنه - قتل في اليمامة في حروب الردة - وعمر شديد الحنو على أخيه شديد الحب له رضي الله عنه، كان في الجيش عبد الله بن عمر فقتل أخو عمر وجاء عبد الله سالماً، لما جاء على أبيه نظر إليه نظرة استغراب قال له: ألا متّ كما مات عمك لماذا جئتني، إلى هذه الدرجة كان رضي الله عنه يحب أخاه، وجاء قاتل الأخ الحبيب ودخل وسلم على أمير المؤمنين، وقال له ألم تقتل ضراراً؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، قال له: والله لا أحبك؛ شنف الرجل أذنيه. قال: ذلك ينقصني شيئاً من حقي عندك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: لا آسى عليه إنما يأسى على الحب النساء.
مسألة الحب والكره لا قيمه لها عند الرجال، المهم أن يطبق قانون العدل هل بغضك لي سيدفعك وأنت الحاكم أن تسخّر قواك من أجل أن تنكل بي وتمنعني حقي؟ قال: لا. قال: إذاً لا بأس. إنما يأسى على الحب النساء.
كذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. انظروا إلى أين يبلغ التوازن في النفس المسلمة في النفس الإنسانية.
هناك امرأة يقال لها الغامدية، الغامدية هذه أضلها الشيطان فزنت، لما زنت أخذها ما يأخذ الإنسان المعذب إزاء جريمة ارتكبها، فوجدت أن شيئاً في نفسها قد اختل نظامه، وذهب توازنه حياتها أصبحت جحيماً لا يطاق أصبح الموت أحب إليها من الحياة، جاءت عامدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه من المسجديين أصحابه قالت: يا رسول الله، إني زنيت فطهرني.
قال: ويحك لعلك لم تفعلي.
قالت: يا رسول الله والله إني لحبلى من الزنى.
وجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذهب فأرسل إلى بعض أهلها، وقال له لتكن عندك حتى تضع وليدها، فلما وضعت الوليد جاءت تحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله ها أنا قد وضعت ما في بطني فطهرني.
قال: انصرفي حتى تفطمي وليدك.
فلما فطمته جاءت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم تحمله في حضنها.
أمّ، أمّ يا اخوة. الولد في يده قطع خبز يأكلها قالت: يا نبي الله ها هو قد فطمته وقد أكل الطعام.
فأمر بالطفل فدفع إلى بعض المسلمين وأمر بها فرجمت.
تصوروا هذا الأمر ليست المسألة بسيطة مر عليها زمن الزنى، ثم الحمل من الزنى تسعة أشهر، ثم بعد ذلك فطام الوليد ثلاثون شهراً، مرت خلال هذه المدة كلها لم يخطر في بال هذه المرأة أن تتراجع عما اعترفت به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تهتم بسمعتها ولم تهتم بما سيقوله الناس عن قومها.. وحسُّ الشرف تعرفونه عند القبائل، ولم تهتم بهذه الحياة التي سوف تفقدها.. تعرف جزاء الزانية تعرف تماماً ولم تهتم بالوليد ثمرة فؤادها، ثمرة أحشائها، قطعة منها، لم تهتم بذلك كله فعرَّضتْ نفسها للموت.(/5)
حينما رُجِمَت كان ممن رجمها خالد بن الوليد رضي الله عنه وحين بدأت عملية الرجم طار شيء من دمها على خالد فشتمها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا خالد. والله لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم.
هذه واقعة في التاريخ الإسلامي لها مثيل هي واقعة ماعز بن مالك الذي زنى وحاول النبي صلى الله عليه وسلم أن يرده عن اعترافه فأصرَّ عليه وسأل قومه عن عقله، فقالوا هو كامل العقل ورجم أيضاً ومات.
حوادث تنظرون إليها ربما يقرؤها القارئ فلا يزيد على أن يقلب كفيه عجباً تقع الحادثة من نفسه موقعاً لكنك في التحليل الدقيق، تجد أن الإنسان لا يخترق كل هذه الأسوار، أسوار الحياة أسوار فَقْدِ الأصدقاء، أسوار المنافع، أسوار الشرف، أسوار السمعة لا يمكن أن يخترق كل هذه الأسوار من أجل لا شيء أبداً. لا بد أن الحياة الإنسانية أصبحت غير صالحة وغير قابلة للاستمرار، فالإنسان الذي يقدم نفسه للموت يشعر فعلاً أن الحياة فقدت عنده كل معناها لا يمكن للحياة أن تفقد معناها حقاً إلا إذا اختل توازنها وأصبحت بلا جدوى التوازن الذي حققه الإسلام بأي شيء يجعل النظام شاملاً لجناحي الحياة الإنسانية جناح الحياة الدنيا وجناح الحياة الآخرة التوازن أثمر الأمة المحمدية التي شهد الله لها بالخيرية:
(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات مغفرة وأجراً عظيماً).
هذه الأمة لم تصل إلى هذه المرحلة الباسقة التي استحقت بها ومن أجلها شهادة جبار السموات والأرض لا بالمنى ولا بالكلام الفارغ ولا بالتصفيق للزعماء ولا بالجري خلف المبادئ الوافدة الهزيلة؛ وإنما بالمعاناة بالجهد بالعمل المستمر بالوقوف وأَطْرِ النفس على أن تقف أبداً مع الله تبارك وتعالى حتى استقامت لها حركتها تجد الإنسان المسلم تتمثل فيه أعلى قيم الحياة الإنسان تجد الإنسان المسلم تتمثل فيه أعلى خطرات الملائكة تجد الشعب المسلم تتمثل فيه كل القيم العالية في الدنيا بلا تكلف بلا تعمد بلا افتعال لماذا؟ لأن هذا الإنسان درب نفسه بحيث شذب نوازعه وأقام نفسه - أرادت أم لم ترد - على ميزان الله وعلى صراط الله تبارك وتعالى، فالإنسان لا بد له في عرف الإسلام، من أن يبذل مجهوداً خارقاً من أجل أن يقيم نفسه أقول هذا وأنا أعلم وكلكم يعلم، وهذه الدنيا مستشفى كبير تعيش فيه زمرة من المجانين أعلم أن حركات قامت وتقوم في هذه الدنيا لا تكلف أتباعها أكثر من التصفيق ولا تكلف أتباعها أكثر من ترديد الشعارات واسرقْ واشربْ وازنِ ودمّرْ ولا عليك أنت من السلالة المختارة أنت من الرواد لا عليك افعل ما شئت، هذا الإنسان المتفلت من كل القيود لن يعمر دنيا - يا إخوة - هذا الإنسان المتفلت من كل قيمه لن يضيف إلى هذه الدنيا أي خير.(/6)
الإسلام لا يدغدغ العواطف ولا يستثير الرغبات ولا يداعب الشهوات الإسلام يقول لك: أنت تسير على الشوك، أنت في صراع منذ أن تعقل وإلى أن تموت بل أنت كلما وقفت مع الله بالصدق تكالب عليك الشيطان وسخر كل قواه من أجل أن ينحرف بك عن مرضاة الله تبارك وتعالى؛ فلا بد لهذا الإنسان المسلم من تدريب نفسه على رعاية أوامر الله تبارك وتعالى لا بد له من أن يعرف أنه منقلب إلى يوم يوقف فيه بين يدي الديان العدل الله جل وعلا ليسأل عما قدمت يداه، وهذا اليوم ليس أكذوبة من الأكاذيب ولكنه حقيقة ضخمة من حقائق هذا الوجود بل هي أضخم الحقائق على الإطلاق إن هذه الدنيا لا شيء والله تعالى يقول: (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) الحياة الحقة ليست هنا مجرد اختبار وهنا مجرد ابتلاء والحياة الحقة في الدار الآخرة إما نعيم أبداً وإما شقاء أبداً، من هنا كانت عناية الإسلام بالغة جداً بتجسيم اليوم الآخر، وما يقتضيه اليوم الآخر لكي يربي في نفوس المسلمين هذا الوازع الذي يزعهم للوقوف عند حدود الحقيقة الإلهية ولكي يربي في المسلمين هذا السائق الذي يسوقهم إلى رضوان الله تبارك وتعالى، ولكي يشد أبصارهم وبصائرهم إلى الله جل وعلا فإذا نطق فالله جل وعلا حاضر في قلبه وإذا سكت فالله جل وعلا حاضر في قلبه وإذا فعل وإذا ترك فالله جل وعلا حاضر - غير غائب - ذلك مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" هذا التمهيد أيها الأحباب لا بد منه لكي نقع على مبررات العناية الفائقة باليوم الآخر أما أساليب الإقناع بهذا اليوم، أما المبررات التي قدمها الإسلام أخلاقية أو عملية أو تشريعية فكل ذلك سيأتي في حينه إن شاء الله تبارك وتعالى وأرجو أن نبدأ من الجمعة القادمة في النظر في السورة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.(/7)
الحلقة الثالثة من سورة التكوير
الحلقة (34)ب الجمعة 16 رمضان 1396 / 10 أيلول 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
ونحن نتعرف على فاتحة سورة التكوير ، ولو كنا نبحث السورة وأشباهها على نحوٍ مما يفعل المفسرون ودارسو القرآن الكريم لكان حقاً أن يطول الشوط أكثر مما طال . فالقرآن الكريم لا تنقضي عجائبه ، ولا يخلَق على كثرة الردّ ، ولا تشبع منه العلماء ، ولكنا ندرس هذه السورة وأضرابها مما نزل في بواكير الدعوة لنتعرّف على المهمات التي كُلّف المسلمون بالنهوض بها ، وعلى الأساليب التي أدّوها عليها ، وعلى الوقائع الاجتماعية التي هدفت الدعوة إلى تغييرها ، وعلى ردود الأفعال التي قابل بها المشركون هذه الدعوة .
لقد كانت نفسي تنازعني إلى أن أختصر الكلام اختصاراً لأنفذ من هذه السورة إلى سواها مما ينتظرنا في هذا المجال ، ولكني لا أظن أنني قضيت نحبي من الكلام عن فاتحة سورة التكوير ، وسيكون ظلماً للمرحلة التي تجتازها البشرية الآن أن نسرع الخطى إزاء أوضاع من هذا النوع قد يجب أن تأخذ من اهتمامنا ومن تفكيرنا الشيء الكثير . لأول مرة ونحن نرود سبع سور مما نزل في بواكير الدعوة نواجه وصفاً وتمثيلاً وتخييلاً وتجسيماً وتقريباً لموضوع اليوم الآخر بالكثافة وعلى النحو الذي تحدثت عنه فاتحة سورة التكوير .
وبالرجوع إلى سائر السور التي استعرضناها فنحن نلحظ أن الله جلّ وعلا ومنذ أول سورة لم يُخْلِ سورة من هذه السور من حديث عن اليوم الآخر في موضع أو في أكثر . ثم يأتي الحديث في فاتحة هذه السورة على هذه الدرجة من الكثافة والتنسيق والتركيز ليوقع في روعنا وليقرّ في أذهاننا نحن الذين نحاول بعد مئات السنين أن نتعرّف على تلك الجواء التي تنفست فيها الدعوة الكريمة ، وتحرك فيها قائدها المظفر النبيل محمد صلى الله عليه وسلم ، لنعرف من خلال ذلك أنما نحسبه اليوم يقع موقع البداهة قد كانت اللجاجة من قبل تمزقه تمزيقاً ، وأنما نحسبه اليوم موضوعاً هيناً كان يحتل من اهتمام الدعوة حيزاً هائلاً .
فليس معقولاً ـ والله أعلم ـ أن يأتي القرآن الكريم بهذه الأحاديث المتلاحقة عن اليوم الآخر واليوم الآخر في اعتباره هين ، أو اليوم الآخر في اعتبار المشركين لا شأن له . وسريع أقول إنه ليس مشروطاً أن يكون المجتمع المكي يظهر قدراً قليلاً من الاهتمام بقضية من القضايا حتى يمرّ عليها القرآن مرّ الكرام ، فقد لا يكون للقضية في المجتمع الجاهلي ذلك الضجيج ، ولكن القرآن بحكمته البالغة يركّز على هذه القضية ، أولاً : لما يعلّق عليها من أهمية من وجهة نظر الإسلام ، وثانياً : لما لهذه القضية من تشعبات في صميم الحياة الجاهلية توشك الحياة العامة أن تغطي عليها وتطمرها .
وموضوع اليوم الآخر من هذه القضايا ، ليس صحيحاً أن الإنسان الجاهلي لم يكن يكترث باليوم الآخر ، ولكني أحسب ـ والله أعلم ـ أن الإنسان الجاهلي بعد معاناة هذه القضية الصعبة ألقاها عن كاهله وحاول أن يتناساها ، لأنها في اعتباره كانت عصية على الحل . ولكن الواحد منا يحاول حيال كثير من القضايا أن يتجاهلها وأن يحذفها من دائرة اهتمامه ، فما تكون النتيجة ؟ هل يستطيع الإنسان أن يغسل حياته من قضية من هذا النوع ؟ أبداً ، إنها سوف تبقى تعكر عليه صفوه وتربكه في كل حين ، وكذلك الجاهليون في الوقت الذي حاولوا أن يصفوا حسابهم مع قضية اليوم الآخر بنوع من التفلسف الصبياني ، وبأفانين من الهزء والسخرية ، كانت هذه القضية تعمل عملها المخرب في سلوكهم وفي معتقداتهم .. وفي الأسبوع الماضي أو في الذي قبله ذكرت لكم أن هذه العقائد عكست نفسها على الحياة الاجتماعية فتركت لديهم تصورات وأوهاماً لولا هذه المعتقدات ما كان ينبغي لها أن تكون .
قلت إني ما قضيت نحبي من الكلام عن اليوم الآخر ، بقي علي أن أقول شيئاً قليلاً وأن أحتفظ للمستقبل بالشيء الكثير انتظاراً لما تعرضه علينا آي الكتاب الحكيم من هذا القبيل .
لقد كان الإسلام يقود المسلمين في معركتهم مع الجاهلية ، ولقد كان القرآن يترجم عن الوقائع وعن احتاجات الحركة ، ولو شئنا لقلنا باختصار إن القرآن هو الجواب الكامل عن الجاهلية برمتها ، بما فيها ما مسالك وأخلاقيات ، بما فيها من أعراف ونظم ، بما فيها من عقائد وتصورات .
والعرب الذين ابتُعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم قوم على إرث من إرث إبراهيم عليه السلام ، فهم ـ نسباً ـ يتحدرون من تلك السلالة الطيبة الطاهرة ، إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن . ومن الطبيعي أن تتسرب إليهم عقائد من عقائد الحنيفية التي جاءت بها إبراهيم ، ولكن طبيعياً أيضاً أن تعبث بها الأوهام والخرافات والأساطير .(/1)
ولقد كان للعرب تصورٌ حيال اليوم الآخر ، ولست أظن أن أمة من الأمم يمكن أن تكون من غير تصور على نحوٍ ما من اليوم الآخر . حتى اليهود الذين تخلو كتبهم المقدسة من الحديث عن اليوم الآخر يتصورون أن جنة بني إسرائيل على الأرض وليست في السماء ، فإنهم لا يفعلون شيئاً حيال صورة اليوم الآخر أكثر من أن يحولوا مكانها لا غير . والشيوعيون كذلك ، فقد قالوا كما قال السفهاء الأقدمون ( إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ) اليوم الآخر في أذهانهم ليس بعد هذه الحياة ، ليس خارج هذه الحياة ، جنتهم في هذه الأرض وليست في السماء كما قال أساتذتهم ومعلموهم اليهود حذو النعل بالنعل .
فالأمة التي واجهها بالخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لو شئنا أن نضرب صفحاً عن المماحكات والمجادلات الصبيانية الصغيرة التي عرض القرآن لأنماط منها لوجدنا الأمر عندهم يستقر على النحو الذي عبّر عنه حكيمهم وشاعرهم قس بن ساعدة الإيادي الذي أدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم راكباً جمله الأحمر في سوق عكاظ وهو يخطب العرب الجاهليين متحدثاً عن المأساة التي مزقت الإنسان العربي لأنه لم يستطع لها حلاً في الجاهلية ، كان يطوف على الناس في سوق عكاظ وهو ينشد بعد خطبة طويلة مسجوعة ومحفوظة لدى الرواة يقول : في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر ، لمّا رأيت موارداً للقوم ليس لها مصادر ، ورأيت قومي نحوها يسعى الأصاغر والأكابر ، أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر .
تلمسون من هذا الكلام الذي قاله حكيم من حكماء العرب في الجاهلية ، فرّ من المعاناة التي استعصت على الحل ، إنه يقرر ما هو واقع ومشهود ، الشيء المشهود أننا نرى الإنسان أنه يموت ، هذا أمر مقرر ومقطوع به ولا مجال إلى المماراة فيه أبداً ، ولكن ما بعد هذا ؟ أهي النومة الأبدية التي لا قيامة بعدها ؟ أم هي نومة موقوتة بعدها قيامة ومن بعد القيامة حساب ثم نعيم أو عذاب ؟ لا يستطيع الذهن الإنساني بما أوتي من طاقات وبما أوتي من قدرات أن يقضي في هذا الأمر على نحوٍ عقلاني تستقرّ عنده العقول والقلوب . ولهذا فنحن إذا عبرنا القرون ووقفنا في القرن الرابع عند حكيم من أعظم حكماء العرب وشاعر من أبلغ شعرائهم وكاتب من أمتن كتابهم هو أبو العلاء المعري رحمه الله تعالى نجد أنه يردد ذات الخلجات التي كانت تتخالج في نفس الإنسان الجاهلي :
أما اليقين فلا يقين وإنما أقصى اجتهادي أن أظن وأحبسا
هل هناك يقين بقيامة بعد هذا الموت ؟ اليقين أننا نموت ، ولكن لو نحينا الشرائع جانباً ، ولو نحينا أحاديث الأنبياء وتقريرهم أن قيامة الأموات حق وأن الآخرة حق ، فوسائل العقل لا تسمح لنا بأن نقطع بذلك قطعاً يقينياً .
وكما كان العرب الجاهليون يجبهون محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه طالبين برهاناً على اليوم الآخر حسياً يتمثل في إحياء الآباء والأجداد ليخبروا عما شهدوا وعاينوا ، كانوا يقولون ( فاءتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ) فكذلك كان أبو العلاء يعبّر عن ذات النزوع ليس زيغاً في العقيدة ولكن تحدثاً من إطار عقلي خاص يريد بذلك أن يقرر عجز العقل عن الاستقلال بإدراك هذه القضايا العالية الرفيعة ، كان يتحدث عن ذات النوازع :
فهل هبّ من جدث ميت فيخبر عن مسمع أو مرا
ولو هبّ صدقّه معشر وقال أناس طغى وافترى(/2)
الإنسان بما هو إنسان مفطور على أن يعرف ما يرى وما يحس وما يلمس ، أما ما تهديه إليه بديهة الحياة ، ما تهديه إليه قضية العقل ، ما تهديه إليه المقايسات الصحيحة ، فما أشد ما يماري الإنسان فيها ويجادل ويأخذ في اللجاجة . القرآن الكريم عرض لهذه القضية ، وجميل جداً وممتع جداً أن نتعرّف على الطرائق التي عرض بها القرآن لهذه القضية ، ولكن ذلك موضوع يأتي متسلسلاً في الآن بعد الآن تبعاً لبروز الآيات التي تتحدث عن هذا الموضوع أمامنا ، إلا أننا ونحن نواجه هذه الفاتحة على هذا النحو نحب أن نقول كلمتين في هذا الموضوع ، استعينوا الفاتحة من أولها ( بسم الله الرحمن الرحيم ، إذا الشمس كورت ، وإذا النجوم انكدرت ، وإذا الجبال سيرت ، وإذا العشار عطلت ، وإذا الوحوش حشرت ، وإذا البحار سجرت ، وإذا الموءودة سئلت ، بأي ذنب قتلت ، وإذا النفوس زوجت ، وإذا الصحف نشرت ، وإذا السماء كشطت ، وإذا الجحيم سعرت ، وإذا الجنة أزلفت ، علمت نفس ما أحضرت ) تصور هذه اللوحة المعروضة عليك في اثني عشر مشهداً ، تصورها ، تجد أن الكون كله يختلج بالنُذُر التي ستؤدي إلى انقلاب شامل في وضعية الكون ، الشمس ليست الشمس ، والنجوم ليست النجوم ، والجبال ليست الجبال ، وما كان في هذه الدنيا من حركة واضطراب قد أصيب بشلل ، ونسيت الوحوش غرائز الشر والعدوان والافتراس ، وألقت كل ذات بطن ما فيها وتخلّت ، ثم تصوّر دقائق الحساب ، يسأل الله تعالى عما كان في الدنيا ، ثم تصور هذه السماء مكشوطة أي أن مكانها خالٍ تماماً من كل ما يزينها الآن ، ثم هذه الجحيم المتسعرة قد سُعّرت بانتظار أن تلتهم العصاة والمذنبين ، ثم هذه هي الجنة قد أزلفت وقُرّبت ليدخلها المتقون والطائعون .
تصوّر هذا المشهد أمامك ، ستجد أن القرآن الكريم كان من الممكن أن يخبر عنه بتفاصيله كلها على غير هذا النحو وبغير هذه الصورة ، ولكن القرآن عُني بإخراج المشهد على هذا النحو الأدبي البليغ الرائع الذي يُحرك المشاعر ، وعلى نحو جسّم لك موضوع اليوم الآخر كأنك تشهده رأي عين وكأنك تلمسه لمس يد . تلك طريقة من طرائق القرآن يجب أن نرد فيها الحق إلى أربابه ، وألا نعتدي فندّعي لأنفسنا ما ليس لنا ، فنقول إن علماءنا الأقدمين رحمهم الله تعالى من الذين نظروا في كتاب الله وفسروا آيات الله تعالى كانت لهم حياله محاولات ، لا ندري هل نقول أنها نجحت نجاحاً تاماً ، وأظن أننا لو قلناها لجنينا على الحقيقة وظلمنا الواقع ، ولكنا نستطيع أن نقول باطمئنان : إن العلماء الأوائل كانت لهم في هذا الميدان محاولات ، ولكن المحاولة التي يشبه أن تكون محاولة علمية كاملة ، والتي لم يسبق إليها سابق ولم يلحق بها لاحق ، هي محاولة أستاذنا شهيد الإسلام الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى ، فلقد كان أول من اهتدى إلى أن التخييل والتصوير والتجسيم والتمثيل واستحياء المشاهد وعرضها على هذا النحو الحي المتوثب وسيلة من وسائل القرآن في التعبير وفي الإقناع كذلك .
لأول مرة يتمكن باحث في القرآن الكريم من أن يضع يده على قضية من أضخم قضايا القرآن ، ولقد كتب رحمه الله تعالى في ذلك كتابين رائدين هما ( التصوير الفني ) و ( مشاهد القيامة في القرآن ) ثم توّجهما بما أعجله الظالمون والسفاكون عن تمامه بـ ( الظلال ) . فرحم الله الأستاذ سيداً وأسكنه فسيح جنانه وجزاه عن الإسلام والمسلمين جزاء العاملين الجادين فيما يعملون .
تأسيساً على القواعد التي وضعها أستاذنا الكريم رحمه الله تعالى نستطيع أن ننفذ إلى ناحية هامة . من النواحي التي نريد تقريرها ونستخلصها قطعاً من مراجعتنا لمختلف أطوار النقاش والحجاج ووسائل الإقناع التي استخدمها القرآن الكريم لإقرار موضوع اليوم الآخر في أذهان الناس ، قلت قبل قليل وأنا أروي شيئاً لكم مما قاله أبو العلائل معري رحمه الله تعالى من أنه كان ينطلق من موقف عقلي جاف ، ولعمري إن هذه القضية قضية ينبغي أن يُنظر إليها بما تستحقه من اهتمام ، فنحن ما زلنا نشنّع على بعض الناس الذين يتخيلون ويتصورون ويستشفّون بأنهم أناس خياليون عاطفون غير عقلانين ، ينبغي علينا أن نفهم ماذا نعني بكلمة عقل وبكلمة عقلي وبأسلوب عقلي وبأسلوب عاطفي وما أشبه ذلك ، كي لا نتيه ، كي لا نضل .(/3)
المتبادر أن العقل عند القائلين به هو هذه الأقيسة المنطقية ، هو هذا البناء المحكم من المحاكمات الذي يشبه قوانين الرياضيات ، وهذا لا شك عقل ، ولو رجعنا إلى مدلولات اللغة لوجدنا أن العقل مشتق من العقال ، والعقال هو الحبل الذي تُشد به ركبة البعير حين يناخ في الأرض كي لا ينفلت هارباً . فالعقل في اعتبار الناطقين في لغة العرب الوسيلة التي تمنع الإنسان من الشرود بلا ضابط في تصوراته وفي تخيلاته وأوهامه . وطبيعي أن خضوع الأمور لمقاييس دقيقة أو لمشاهدات حسية عقل وعقال ، شيء يمنع الإنسان من أن يتجاوز الحقيقة الراهنة ليضرب في التيه الذي لا يوصل إلى شيء ، ولكن ونحن نقرر هذه البدهية علينا أن نمد أبصارنا إلى أمام ، هل صحيح أننا لا نقتنع إلا بهذا الذي تهدينا إليه محاكماتنا العقلية وأقيستنا المنطقية وتجاريبنا الحسية ؟ نقول : لا ، فنحن بمنطق وبعقل نعتقد الإسلام ديناً صائباً ، ويصلي أحدنا ويصوم ويحج ويزكي ويتبتل إلى االله تبارك وتعالى وهو في غاية الحماس المؤسس على قناعة راسخة ، ذات الشيء الذي نفعله يفعله الآخرون . النصارى الذين يقولون إن المسيح ابن الله أو أن المسيح هو الله ، كذلك يا إخوة منهم من يترك الدنيا ويخلف وراءه مباهجها ويفر إلى الصحراء ، أو بالشيء المؤسس على الأقيسة المنطقية فقط ، فقد يقتنع معك بهذا ، ولكنه يقتنع بأساليب أخرى ، باستجاشة العاطفة ، باستثارة الأحاسيس ، بتصوير الأشياء على نحو مهوّل ، برسمها أمام ناظريه كأنها مشهد يتحرك وكأنه هو عنصر من العناصر التي يتحرك بها المشهد ، بأفانين طويلة ، باختزانٍ للتجارب وجزئيات القناعات يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وسنة بعد سنة حتى تراه فجأة يؤمن بشيء معين .
منافذ الاقتناع ليست واحدة ، ومن الجناية على الإنسان أن نتصور هذا الإنسان لا يفهم إلا لغة منطق أرسطو ، هذا خطأ ، فلغة أرسطو في منطقه لغةٌ قد يفهمها الخاصة الذين تعمقوا العلم ومحّصوا قضايا المنطق ، ولكن عوام الناس وأوساط الناس بل حتى المثقفين الكبار منهم ، هؤلاء الذين يملكون من شفافية النفس ونقاء الضمير وطهر القلب قدراً هائلاً ، لا يحتاجون إلى هذه الأقيسة الجافة وإلى هذه المحاكمات المقيتة الثقيلة الغليظة على الإنسان . هم يكفيهم أن يُلفت نظرهم مرة واحدة أو مرتين إلى شيء مشهود أو إلى شيء متخيل ، ثم دعهم ، ثم دعهم بعد ذلك ، دعهم لأنفسهم فسوف يصلون إلى هذه القناعات . لو رجعنا إلى ساحة الحوار التي ملأها القرآن الكريم مع المشركين لوجدنا في رأس هذه الساحة استثارة المشاكل كالذي كان من فاتحة سورة التكوير ، تقرأها فتشعر كأنك في المشهد ، ضمن المشهد ، ضمن هذه الحركة التي تتمخض عنها الساعات الآخيرة للدنيا ، والتي تتحرك بها الساعات الأولى للآخرة . ضمن المنظر الكوني الهائل الذي كان بالأمس على أحكم ما يمكن من النظام ، فإذا هو الآن يتخرب ، الشمس الي كانت تمد الحياة بأشعة الضوء والحياة انطفأت ، النجوم التي كانت تزين السماء فهي لها بمثابة المصابيح انكدرت ، البحار والأنهار التي كانت رياً وسلسبيلاً وماءً عذباً رواءً نميراً أصبحت بحراً واحداً مسجوراً مكتظاً ممتلئاً بالهزة الهائلة التي ترشح لليوم الآخر .(/4)
ثم ينقلك المشهد إلى الموقف العظيم الهائل ، موقف السؤال وموقف الحساب بعد أن بطلت الدنيا وبطلت أشياء الدنيا ( يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) حينما كان القرآن يُقرأ على العرب على هذا النحو ، كانوا يتحركون به ويتأثرون به ويعيشون هذه المشاعر ، قد لا يؤمنون بهذه القيامة على النحو الذي عرضه القرآن ، ولكنهم بما هم أهل اللسان وأرباب اللغة كانوا يحسون ويدركون جيداً إيحاءات هذه اللغة وإشعاعات هذه اللغة . وهنا لا بد أن نشير إشارة عابرة إلى أن من أكبر الجنايات على هذه الأمة ، ومن أضخم المؤامرات التي تدبّر لاغتيال حاضر ومستقبل هذه الأمة المؤامرت الخبيثة على لغتها الفصحى ، فالمبشرون والمستشرقون وأبالسة اليهود وغلمانهم الذين يعيشون بين المسلمين ممن تتلمذوا على أيديهم وحملوا مبادئهم وأفكارهم وأهدافهم من بقايا الصليبية الغابرة ونبت الصليبية الجديدة التي تتحرك اليوم في ديار المسلمين ، صليبية واضحة مكشوفة في لبنان ، وصليبية تتردى رداءً اليهودية في فلسطبين ، وصليبية أخرى هي أشد وأنكى تلبس ثياب الماركسية تتزيا بزي التقدمية .. كل هؤلاء يشكلون تياراً واحداً جارفاً له غرض واحد ، أن يقضى على هذه اللغة الفصيحة الشريفة التي نزل بها القرآن ، وأن تحل محلها اللغات واللهجات العامية ، كي يبتعد الناس عن القرآن ، ولعمري إن أعظم خدمة يقدمها الإنسان المسلم اليوم لأمته ولدينه ولمستقبله هي أن يعض بالنواجز على هذه اللغة الفصيحة الشريفة ، وأن لا يقرأ إلا بها ، وألا يتحدث إلا بها ، وواجبه الأول والأخير أن يقرأ باستمرار كتابها الأول وكتابها الأمثل كتاب الله تبارك وتعالى .
كان الإنسان العربي يا إخوة يسمع الآية والآيتين من كتاب الله جلّ وعلا ، فإما أن ينقاد ويزعن ويسلم ، وإما أن يتفلّت ويتأبى وينصرف كما يفعل الكافر المعاند . كم من المسلمين آمنوا إعجاباً بشخصية محمد صلى الله عليه وسلم ؟ هم قلائل ، هم فقط الذين اتصلوا به وعرفوه وأسَرَتْهم شخصيته الكريمة ، وأما الآخرون فإنما أسلموا انبهاراً بهذه الآيات التي تتلى من كتاب الله تعالى . تسأل لماذا ؟ هل لهذا القرآن كل هذا السحر ؟ هل هو قادر على أن يمارس أسْراً كهذا على النفوس ؟ نقول : نعم . ولكن الجناية جناية الزمان ، بيننا وبين اللسان في فصاحته ونقاوته أربعة عشر قرناً ، في ذلك التاريخ كان العربي يتكلم الفصحى كما تتكلم أنت العامية ، كانت لغته ، وحين نقول إنها كانت لغته فإنما نعني أنها كانت حياته بكل معنى هذه الكلمة ، لغة الإنسان ، كلام الإنسان ، عنوان حياته ، ترجمة أحاسيسه ، تعبير عن جمّاع وجوده كله ، ولهذا فالكلمة التي يسمعها الإنسان بلغته الأصلية وهو سليم السليقة مستوي الفطرة تحرك منه أعمق أعماق الوجدان . ولكننا نحن اتخذنا العامية عن الفصيحة بدلاً فبعدت الشقة بيننا وبين التأثر بهذا الكلام ، سمع الوليد بن المغيرة وهو من سادات قريش بعضاً من القرآن يتلوه محمد صلوات الله عليه فتأثر له ، وما له لا يتأثر ولا يرق وهو ابن اللسان ؟ فلما رأيت قريش منه ذلك قالوا : صبأ والله الوليد ، والله لئن صبأ لتصبأن قريش كلها . فذهب إليه أبو جهل يسعى ، قال له : إن قومك لا يرضون منك إلا أن تقول في القرآن قولاً يرضونه ، يعني أن تذم القرآن وأن تهجو القرآن ، قال : ماذا أقول فيه ؟ والله ما منكم أحد أعلم مني بأفانين القول ولا بالشعر ، هزجه ورجزه ، والله لقد سمعنا سجع الكهان وشعر الشعراء ، والله ما يشبه كلام محمد شيئاً من هذا ، والله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو وما يعلى عليه . شهادة إنسان يتذوق الكلام ويتأثر بالكلام ويعرف مقدار مضاء سلاح الكلام ، ولكنه إنسان كافر . قال له أبو جهل : إن قومك لا يرضون بهذا . قال : فدعني أفكر ، فلما انتهى من تفكيره قال : إنه سحر يؤثر ألا ترونه يفرق بين المرء وزوجه وولده ومواليه ؟ ونزل القرآن بهذا على نحو مما مرّ معنا في سورة المدثر .
هذه الواقعة تشهد أن سلاح اللغة إذا استخدم على النحو الصحيح سلاح ذو فعالية ، ولكنه سلاح يفقد كل معناه حينما نسخره لغايات بعيدة عن نطاق الحق ، لا يمكن مثلاً أن يكون سلاح اللغة فعالاً في مجال الباطل ، ولكنه يكون فعالاً في مجال الحق ، لسبب بسيط ، وهو أن اللغة تعبير عن الفطرة ، تعبير عن الحياة وعن الوجود الإنساني ، ترجمة لهذا الوجود ، والوجود له احتياجات ، كيف ترون الكون كله قائم على الحق وبالحق ؟ فكذلك الوجود الإنساني في صفائه وفي نقائه وفي فطرته الأساسية لا يتلاءم إلا مع الحق ومع أساليب الحق .(/5)
ولقد كان القرآن حكيماً جداً في استخدام هذا السلاح ، مضى يستخدم سلاح اللغة فيعرض لليوم الآخر ، ويعرض لأفانين أخرى مما جاء به هذا الإسلام هداية للناس وإرشاداً وإنقاذاً مستخدماً هذا السلاح الفعّال ، ولكنه سلاح واحد . سلاح ينقل إليك الحقيقة ، وسلاح يثير أمامك وبين جنبيك هذا الانفعالات التي تمهّد ساحة النفس لقبول القناعات الجديدة .
هل اكتفى القرآن بهذا في موضوع اليوم الآخر ؟ لا ، القرآن أيضاً سلك من أجل تقرير هذه الحقيقة لما يعطيها من أهمية شرحناها من قبل مسالك أخرى ، سلك مسلك النقاش والحجاج فأبان لهذا الإنسان العاتي المتجبر ، أبان له أنك أيها الإنسان إذا كنتَ تستكثر أن تُبعث بعد الموت فما أنت ؟ ما أنت في هذا الكون الهائل الكبير ؟ أنت هباءة تائهة تافهة لا تشكل شيئاً ولا تُعجز القدرة لا في قليل ولا في كثير ، الذي خلق السماوات والأرض والذي رتّب هذا الكون عاجز عن خلقك ؟ والذي خلقك عاجز عن إعادتك ؟ كان يقول لهم : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس . وكان يقول لهم ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) وإلى آخر هذه المناهج الحجاجية التي كان القرآن يقودها معهم . ومع ذلك فالقرآن أيضاً عرض ، وأبادر فأقول إن هذه الأمور نافعة بالنسبة إلى الذين يعاينونها ويرونها وتحصل أمامهم ، وبالنسبة للمؤمنين ، عرض القرآن وقائع تقرأونها في القرآن كدلائل حسية وواقعية على إمكان قيامة الأموات ، اقرأوا مثلاً في سورة البقرة ( ألم ترَ الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال الله لهم موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضلٍ على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) قبائل من الناس وضع الطاعون أو المرض في بلادها ففرّت من هذا البلد خوفاً من الموت ، فلما كانوا في الطريق قال لهم الله موتوا ، ثم أحياهم ، لكي يوقنوا بأن الله قادر على الإماتة في كل مكان وفي كل زمان ، ثم هو قادر على الإحياء .
وفي نفس السورة عرض الله تعالى قصة الذي مرّ على قرية قال ( أو كالذي مرّ قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه ) أحياه ( قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) طعامك وشرابك بقي على حالهما بعد مائة عام ، لم يتطرّق إليهما الفساد ولم تتغيّر لهما رائحة ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً ) تبيّنوا قدرة الله وتصوروا ، إنسان يركب حماراً ويمشي في الطريق ، يمر ّ على قرية خاوية ، لا ناس فيها ، مهدمة البيوت ، خاوية من الأحياء ، ويتساءل من خلال خاطرة مرّت على باله ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) بعد هذا الخراب والدمار الشامل ، هل من المعقول أن تقوم الأجساد مرة أخرى ؟ فيأتيه قدر الله ويميته ميتة واحدة مائة عام ثم يبعثه ، يركب الحمار ، الحمار يبلى ، يذهب اللحم ويتقطع العصب ويتفسّخ اللحم عن العظام ويكون رمة من الرمم ، بقية من بقايا حيوان ، معه طعام وشراب ، كذلك الطعام والشراب في مكانهما لا يصيبهما تغيّر ، ولا يدركهما فساد أبداً ، ثم يبعثه الله ويسأله ( كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم ) كأنما يتصورها نومة ضحوة أو نومة عصر ، يقول الله له ( بل لبثت مائة عام ) انظر .. هذا طعامك وشرابك على حالهما لم يتغيرا ، ولكن انظر إلى حمارك ، اليد في مكان والرجل في مكان والرأس في مكان ، اللحم لا لحم والجدل لا جلد ، وإنما هي كومة من عظام ، ثم يأمرها الله بأن تحيا ، فترى العظام تقفز وترى اللحم يأتيها فيكسوها ، ثم يتكامل الحمار عضواً فعضواً حتى يستقل كائناً حياً ، فلما يكون ذلك يقول هذا الذي تساءل ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) يقول ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .
ويقصّ الله تعالى أيضاً قصة إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء وشيخ الأنبياء جميعاً ، الإنسان الموقن عظيم الإيمان بالله تعالى ، ومع ذلك يقول الله تعالى عنه ( وإذ قال إبراهيم ربي أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ) إبراهيم يسأل ، لا يسأل الله : هل تستطيع أن تحيي الموتى ولكن يريد أن يعرف الصورة كيف تحيي الموتى ؟ يسأله الله ( أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهنّ إليك ثم اجعل على كل جبل منهم جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم ) ويذهب إبراهيم فيأخذ أربعة من الطير يذبحهن ويوزع أشلاءهن على أربعة جبال ، ثم يقول لهن : تعالين ، فيأتينه سعياً يتفجّرن حياةً .(/6)
وكذلك يضرب الله قصة المسيح عليه السلام إذ يخلق من الطين كهيئة الطير ، وكذلك يقصّ الله تعالى قصة أهل الكهف الذين ضرب على آذانهم سنين عدداً ، وكذلك يقصّ في سورة البقرة قصة القتيل الذي ادّارأ فيه أهله فيأمرهم الله تعالى بأن يذبحوا بقرة وأن يأخوا شلواً من أشلائها ويضربوا بها القتيل فإذا ضُرب القتيل بهذا الشلو قام حياً بعد الموت فأخبر عن قاتله .
هذه الوقائع نثرها القرآن الكريم بين يدي عمليات الإقناع باليوم الآخر ، ولكنها مفيدة بالنسبة لصنفين من الناس ، الصنف الأول هو الذي عاين الحادثة ، شاهدها ، يُفترض فيه أن يؤمن ، مع الاحتفاظ بأن بعض الناس تبلغ بهم اللجاجة الحد الذي ينكرون فيه ما يرونه رأي العين ، وكما كان يقول المعري رحمه الله :
ولو هبّ صدّقه معشر وقال أناس طغى وافترى
الإنسان قادر على أن يُكذب الشيء المشهود المرئي المحسوس ، هذا صنف .
والصنف الثاني هم الذين يؤمنون بإخبارات الكتب الإلهية ، فنحن نؤمن بهذا استناداً إلى صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أخبرنا أن هذا الكتاب جاءه من عند الله تبارك وتعالى ، وهذا الكتاب يتضمن هذه الإخبارات ، فنحن بهذه المثابة نؤمن بهذه الإخبارات .
فالقرآن كما ترون سلك في إقناع الناس باليوم الآخر مسالك متعددة لا مسلكاً واحداً ، إدراكاً منه بأن منافذ التعقل ومنافذ الاقتناع عند الإنسان ليس واحدة ، وإنما هي متعددة ، وأن الدعوة الناجحة هي التي تضرب على جميع الأوتار وتسلك إلى النفس الإنسانية جميع السبل وجميع النافذ لا تغادر منها شيئاً . وكل ذلك مؤسس على الأهمية البالغة التي يضفيها الإسلام على ضرورة الاقتناع والاعتقاد باليوم الآخر ، لأن الاعتقاد باليوم الاخر اعتقاد بكشف الحساب أمام الله تعالى ، وبأن الإنسان حين يعمل ويتصرف في هذه الدنيا فهو مسؤول ، وما لم يشعر الإنسان بالمسؤولية الحقيقية والمسؤولية الحقيقية هي المسؤولية أمام الله ، ليست النقد ولا النقد الذاتي وليست المسؤولية أمام القاضي وليست المسؤولية أمام أية هيئة حكومية . فكل هذه الجهات نستطيع أن نتلاعب بها ، ونستطيع أن نمرر عليها تزييفنا وتمويهنا للأمور ، ولكن هناك حينما يقف الإنسان أمام الله تبارك وتعالى لا تزييف ولا تغطية ، وإنما هو انكشاف كامل ، يُحصّل ما في الصدور ، ولا يستطيع الإنسان أن يخفي شيئاً ، وإذا حاول الإخفاء شهد عليه سمعه وبصره وجلده ( وقالوا لجلودهم لمَ شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ) .
فلا يمكن أن تستقيم حياة الإنسان على الجادة الصحيحة ، لا سيما الجادة ذات التكاليف والتي هي جادة الإسلام لمجرد أن يوكل الإنسان إلى ضميره ، ولمجرد أن يُترك لوجدانه ، ولمجرد أن يُترك لرقابة المحاكم ولسطوة القانون وسلطان الدولة ، لا يمكن أن تستقيم الحياة على هذا ، وإنما لا بد من أن يستقر في وعي المسلم وفي ضمير المسلم أن الحساب الكامل سوف يؤدى أمام الله تعالى ، وأن ذلك سوف يكون يوم القيامة . ومن هنا يأخذ اليوم الاخر أهميته الكاملة في نظر الإسلام .
أرجو أن يكون الكلام الذي قلته لكم الآن آخر ما أتحدث به عن اليوم الآخر في هذه السورة ، وأرجو أن يكون هذا الكلام حافزاً لنا جميعاً لكي نزداد رسوخاً ويقيناً بإحاطة علم الله تعالى فينا ، وبأنه تبارك وتعالى سوف يقفنا في يوم لا مردّ له من الله ، وسوف يسألنا ، فلينظر امرؤ كيف تكون حجته يوم تبلى السرائر وينكشف المخبوء ويكون باطن الإنسان كظاهره ؟ اللهم غفراً واللهم ستراً ، اللهم لا تهتكنا على روؤس الأشهاد ، وكما سترتَ في الدنيا فاستر علينا في الآخرة وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين(/7)
الحلقة الثانية من سورة التكوير
الحلقة (33) الجمعة 9 رمضان 1396هـ - 3 أيلول 1976م
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون فنعود اليوم إلى وصل ما انقطع من سياق الحديث عن سورة التكوير؛ بهدف التعرف على الأغراض التي أثارتها السورةُ الكريمة، وعلى الأوضاع المجتمعية التي واجهتها بهدف التغيير والتبديل.
نعود اليوم لذلك بعد انقطاع أسبوع كان حقاً علينا أن نقف خلاله عند بعض معاني الصيام مستقبلين بذلك شهر الصوم الكريم؛ ونحن إذ نشير إلى هذه الوقفة التي قطعت علينا ما كنا بسبيله، ينبغي أن نعلن اغتباطنا وحمدنا لله جل وعلا على أن تخوُّفنا الذي أبديناه في الأسبوع الماضي لم يكن كله في محله فقد يبدو أن قياس الحاضر على الماضي، وقياس المستقبل على الحاضر في مجال الإنسان والإنسانيات، لا يمكن أن يكون صادقاً الصدق العلمي المعروف، ففي ما يتعلق بالصوم لو قسنا هذه السنة على الماضية والماضية على التي قبلها، وقسنا السنة القادمة أو توقعناها؛ بناء على معطيات هذا العام لجاءت النتائج مختلفة عمّا هي عليه في الواقع، ولقد كنا نتخوف أن تكون الاندفاعة التي شهدها الناس نحو التحلل من قيود الدين وفرائض الله جل وعلا، تشكل ظاهرة مزعجة هذا العام ولكن الشيء الذي لا ينقضي حَمْدُ الله جل وعلا عليه، أن ظاهرة الصوم والصلاة في رمضان من هذا العام خير منها في العام الماضي؛ أذلك نتيجة تدبير وتخطيط وتصميم قام عليه الناس؟ ما أتصور فالجهود التي يبذلها الغيورون على الإسلام في هذه المنطقة لا تكفي حقاً لإيقاظ نائم، ولا يكفي صدقاً لتنبيه غافل، ولعلها أن تكون من باب رفع العتب والشيء الذي يُطمأن عليه إن شاء الله تعالى، أن هذه الأمة بعين الله، وأنها يوم اختيرت فلأمر ما قد اختيرت ولغايةٍ اللهُ حددها، وسوءٌ أخلص الناس أم فسدت دخائلهم؛ فإن ذلك لا يؤثر على الغاية النهائية، لأنها صناعة ربانية وليست صناعة بشرية.
أقول هذا وأنا أمقت الحديث في الغيبيات التي تفتقر إلى المنطق، ولكني في كل مراحل تاريخ هذه الأمة أرى إصبع القدرة متجلياً عند كل منعطف خطير من تاريخ هذه الأمة والأمر بعد واضح، فليس مشروطاً لتصحيح الاتجاه، وتعديل السير أن يتولى ذلك جمع من الناس لهم هيل وهيلمان، وان يتولى ذلك جمع من الناس لهم عجيج وضجيج، كلا فلعل أعمق التطورات التي تحصل هي تلك التي يشارك في صنعها آلاف ومئات الألوف من الرجال والنساء والشباب بل والصبية الذين لا يتصل بعضهم ببعض، والذين لا يعلنون عن غايتهم وأهدافهم؛ بل الذين قد لا يتبينون تماماً ما الذي يريدون، ربما يجد الإنسان نفسه ملهماً، بأن يساق نحو غرض معين.. ونحو طريق معين أرأيت الحجر تلقيها على صفحة ماء راكد، تتولد منها دوائر ما تزال تنداح ثم تنداح حتى تطبق النهر من حافته إلى حافته، كذلك أي عمل يعمله الإنسان في ساحة المجتمع في الحياة الدنيا، قد لا يكون له ضجيج، قد يكون خافت الصوت ضعيف النأمة؛ ولكنه ليس ضائعاً ككل شيء في هذا الوجود لا يضيع أية موجة تنطلق من صوتك أو أية حركة يحتفظ بها هذا الوجود، قد لا تطيق أن تحصل عليها ولكنها في الفضاء موجودة لم تغب ولم تضع، هذا العمل الصغير الذي قد لا يأبه له، يُولّد مع الزمن أنماطاً من القدوة، ويثير مع الزمن ألواناً من الحوافز، ويدفع مع الزمن كثيراً من الهمم، وهكذا تجد نفسك أمام ما يشبه الطفرة وما هي بالطفرة وإنما هي التسلل والتجرد المنطقي الذي لو صَبَّرَ كُلٌ منا نفسه على التعرف عليه، وفحصه وقياس نتائجه وآثاره؛ لوجد ذلك حقاً لا ريب فيه، فقد لا يكون التقدم باتجاه الناس، والتطور باتجاه الإسلام؛ صنع إنسان أو صنع مجموعة، قد لا يكون، - وأنا أقطع بأنه حتى لو كان كذلك - فصنعُ الإنسان أو صنع المجموعة؛ لا يبلغ أن يؤدي إلى شيء من هذا النوع.
نحن في هذا العام، نعالج الصيام ضمن حر شديد، وأيام مرهقات، ولقد كان معقولاً أن تكثر ساحة المفطرين، ولكن الأمر جاء على خلاف ذلك - بفضل الله - تَمُرُّ في السوق وفي الطريق، فلا تكاد عينك تتأذى بمنظر إنسان مفطر. كنا في العام الماضي نرى من هذه المناظر المشنوءة الشيء الكثير، فما أظن أن إنساناً يستطيع أن يقول: أنا صنعت هذا وما أظن أن جماعة تملك أن تقول: نحن صنعنا هذا، وضروري أن يعرف الفرد وأن تعرف الجماعة ما لها من هذا، كي تحمي نفسها من بوادر الغرور، وترد الأمر كله إلى الله الذي تتقلب القلوب جميعاً بين إصبعين من أصابعه جل وعلا إن شاء أن يقيمها أقامها، وإن شاء أن يزيغها أزاغها فالحمد لله كثيراً وإن كان لي ما أختم به كل شيء يتعلق برمضان وبفريضة الصوم في هذا العام فهو أن أرجو رجاءً مخلصاً وحاراً وأرجو الإخوة الذين تعرفوا على ظلال العبادة، وتفيؤوها في هذا الشهر الكريم صياماً وصلاة وقياماً وتلاوة مصحف؛ أرجو أن لا يكونوا أوكس الناس حظاً ونصيباً من حصائد هذا الشهر.(/1)
الدنيا يا إخوة كلها تدريب ومران، والعبادات أثر التدريب فيها واضح، وحين كان النبي عليه الصلاة والسلام يخاطب الناس قائلاً فيما يختص بالصبيان من أجل الصلاة: مروهم بها لسبع يعني إذا بلغ الطفل سبع سنين فأمروهم بالصلاة واضربوهم عليها لعشر، حينما يبلغون العاشرة ولا يصلون فاضربوهم من أجل أنهم يتركون الصلاة. علماً بأن الصلاة لا تجب على الطفل وهو في العاشرة، لا يخاطب بها قبل البلوغ، ككل الفرائض لأن مناط التكليف ومتعلق الخطاب، هو البلوغ، فقبل البلوغ لا يحاسب الإنسان، ومع ذلك فأمرُ النبيّ صلى الله عليه وسلم واقع على مقتضى الحكمة. لو تركنا الإنسان يتصرف وفقاً لاندفاعاته العارضة، وفقاً للهمة المنبعثة في اللحظة المناسبة، لتأدى ذلك إلى ضياع الفرائض، بل لتأدى ذلك إلى خلخلة هائلة في البنى الاجتماعية البشرية. لا بد في الحياة من تدرب ولا بد في الحياة من تمرين؛ فإذا رأينا فرائض الإسلام تأتي في أوقات وفي أحوال تتقارب أو تتباعد، لكن يلحظ فيها دورانها على أزمنة معروفة، فإنما يراد للإنسان المسلم أن يشد إلى هذه الحقيقة الثابتة ما يكاد يفرغ من صلاة الصبح حتى يجد نفسه متهيئ لصلاة الظهر وهكذا فإذا صام رمضان فهو مترقب لرمضان أيضاً، فإذا أدى زكاة ماله فهو على شرف أن يؤدي زكاة العام القادم وهكذا قل في سائر الفرائض وسائر التكليفات، يراد من ذلك أن يبقى الإنسان ضمن التجربة تمرنه ويتمرس عليها ويستفيد من جوائها وأقلمتها له؛ حتى يكون قادراً على أداء الفرائض دون تململ ودون ثقل يشعر به، ودون أذى يحس به في نفسه، فالتكرار ودوران الفرائض في أوقات معينة يراد لها أن تذلل النفس على الطاعة، فالاخوة الذين يصومون ويقومون ويصلون ويقرؤون القرآن ثلاثين يوماً خلال شهر رمضان؛ ألا يكفي هذا أن يكون هذا الجو العطر المفعم بالطاعة وبالعبادة وبالجو النفسي الذي يسوده السلام والطمأنينة ألا تكفيه ثلاثون يوماً من أجل أن يتعرف على هذا الطهر وهذا السلام الذي توفره العبادة؟ أعتقد أنه يكفي للإنسان - تحت شرط واحد - وأظن أن كل عاقل عليه أن يؤديه تماماً.
إن العبادة كأداء كل عمل، إذا كان يُؤدَّى بغير اهتمام، وبغير محاولة للحصول على أي تأثير من فضى المعدة فلا يمكن أن يكون إلا شيئاً ضاراً، لأنك ستؤديه ضمن علاج مع نفسك وفي جو لا يوفر لك القناعة الكافية، بجدوى هذا الشيء الذي تؤديه فأنت إذاً سوف تكون في نهاية الحساب خاسراً. ولكنك إذا أديت الفرائض وقمت بالتكليفات الشرعية، وفي ذهنك أنك تريد فعلاً أن تتعرف على حقيقة هذه الفريضة، وأن تتوفر لنفسك فرصة الحصول على ما يمكن أن تعطيك إياه هذه الفريضة، فأنت في الواقع رابح..
أيام رمضان أيام شهر واحد من أحد عشر شهراً ستنقضي، وها نحن اليوم قد حذفنا ثلثها الأول ولن يأتي طويل زمن إلا ويكون الشهر الكريم في ذمة التاريخ، وككل أيام الإنسان وككل آناء حياته، فإنما هي ختام مرحلة وبداية مرحلة، ويوم يعرض الحساب ويوضع الميزان، فأنا أرجو الله أن لا تطيش موازيننا، وأن يكتب الله لنا فيما عملنا وفيما قلنا وفيما انتوينا في هذا الشهر أجراً عظيماً وأَنْ يثبتنا على أن نكون بعد رمضان خيراً مما كنا في رمضان، فلا خير في مسلم لا يكون يومه خيراً من أمسه، ولا يكون غده خيراً من يومه، لأن المسلم يفترض أنه دائماً وأبداً على زيادة إلى خير فالله جل وعلا نسأل أن لا يحرمنا وإياكم من ذلك.
نعود الآن إلى فواتح سورة التكوير، وهي السورة التي ودعناها قبل أسبوعين وأحسب أنني تكلمت لكم في الجمعة قبل الماضية عن المبررات الكافية التي تجعل التأكيد على موضوع اليوم الآخر، أمراً ضرورياً وحيوياً.
تذكرون أني قلت لكم إن الآيات التي تحدثت عن اليوم الآخر وما يتفرع عنه تبلغ ثلاثة أرباع ما نزل من القرآن، وأن هذه الظاهرة تعطي أهمية ملحوظة لموضوع اليوم الآخر؛ فمن أجل ذلك فإننا لا نستغرب أن نواجه عناية القرآن بموضوع اليوم الآخر.
من بدايات التنزيل منذ السورة الأولى (اقرأ باسم ربك الذي خلق) جاءت الإشارات واضحة إلى اليوم الآخر، وهكذا فما من سورة من كل السور التي استعرضناها كما لا يخفى عليكم، خلت من حديث يقصر أو يطول عن اليوم الآخر. في العلق في القلم في المزمل في المدثر في الفاتحة في المسد في التكوير ولكن الشيء الذي يلفت النظر فيما يتعلق بسورة التكوير، ترتيب هذا الحديث عن اليوم الآخر.(/2)
سأعيد عليكم فاتحة السورة لأنها هي التي تحدثت أساساً عن اليوم الآخر يقول الله جل اسمه بسم الله الرحمن الرحيم (إذا الشمس كورت) عدوا معي الآيات التي تتحدث (إذا الشمس كورت) هذه آية وكل آية تتناول ظاهرة من ظواهر اليوم الآخر (وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت) العشار هي النوق التي تحمل وتكون في شهرها العاشر أي هي على شرف الوضع شرف الولادة وهي بالنسبة للذين يعتنون بالإبل أثمن مالهم واعزّه عليهم، وتعطيل العشار هو إلقاؤها ذات بطنها أي أنها تلقي ما تحمل أو أن يكون تعطيلها صرف النظر عن مراقبتها والاهتمام بشأنها انشغالاً بهول اليوم الآخر (وإذا العشار عطلت، وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت وإذا النفوس زوجت) وتزويج النفوس ليس عقد قران وأمر نكاح؛ وإنما تزوج النفوس برد الأرواح إلى الأجساد فنحن نقول هاتان الحبتان زوج أو زوجان كما هو الأصح من حيث أن كل حبة منهما تشكل زوجاً للأخرى، فالنفس والجسد اللذان هما قوام الحياة البشرية لا اتصال بينهما بغير انفصال، فالنفس أو الروح من عنصر والجسد من عنصر آخر، الروح نفخة من روح الله والجسد جثة من تراب فالعنصران متغايران فهما إذاً قابلان للانفصال فحين يحصل الموت كل الذي يحصل أن النفس أو الروح تفارق الجسد وأن الجسد يترك لمصيره من التحلل، وإذا كان يوم القيامة، فهذه الأفراد التي هي الروح من جهة والجسد من جهة؛ تزوج أي تعاد إلى ما كانت عليه زوجاً يُكوّنُ وَحْدَةً؛ فهذا هو المقصود من تزويج النفوس فقول الله جل وعلا (وإذا النفوس زوجت) أي أعيدت الأرواح إلى أجسادها التي كانت عليها في الدنيا (وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت وإذا الصحف نشرت وإذا السماء كشطت وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت) للمرة الأول نواجه شيئاً من هذا التوازن في الحديث عن اليوم الآخر.
دعونا من النظر في الفواصل القرآنية ومن الدراسة البلاغية والفنية لآيات الكتاب عن اليوم الآخر.. اثنتا عشرة آية.. هذه الآيات الاثنتا عشرة مقسومة إلى نصفين نصف يتحدث عن بداية اليوم الآخر ونصف يتحدث عما يكون في اليوم الآخر، أي أن نصف الآيات تتحدث عما يعتري الكون من فساد نظام، وما يصيب الناس من هول وفزع وسائر الكائنات في ست آيات؛ فإذا جاءت الست آيات الأخرى تحدثت عما يكون بعد النفخ في الصور بعد حصول القيامة فالآيات الأولى (إذا الشمس كورت) ومتى يكون هذا؟ قبل النفخ في الصور (وإذا النجوم انكدرت) يعني انطفأت وذهب ضياؤها وذلك قبل القيامة (وإذا الجبال سيرت) وكذلك قبل القيامة، يعني قبل أن يقوم الناس لرب العالمين وأن يقفوا للحساب (وإذا العشار عطلت) فهذا كذلك قبل وقوف الناس لرب العالمين (وإذا الوحوش حشرت) أثناء الهول وأثناء الفزع حينما تنسى الوحوش غرائزها ورغبتها في العدوان ورغبتها بالافتراس من هول الموقف تسقط هذه الغرائز وتتعطل ونرى الوحوش مع بني آدم والأعداء بعضهم مع بعض كلهم يحشرون على صعيد واحد، قد نسوا لما هم فيه من فزع عظيم، هذه الغرائز التي كانت تحركهم يوم كانت الأمور في الدنيا أمناً وطمأنينة - فإذا تركت هذا - ثم أيضاً (وإذا البحار سجرت) هذه البحار ترونها في إطلاقات القرآن؛ فحينما يقول الله أو يتحدث الله عن البحار فإنما يريد كل مستقرات المياه والبحار والأنهار والبحيرات جميعاً كلها بحار وتسجير البحار مقصود به واحد من أمرين إما أن يكون من السجر الذي هو الملء نقول البحر المسجور أي الممتلئ ماء؛ فيكون من هذا الارتجاج الذي يحصل عند بدء يوم القيامة اتصال واختلاط بين منابع جميع المياه حتى تجد البحار القليلة المياه قد سجرت أي امتلأت؛ وقد يكون بمعنى آخر وهو السجر أو التسجير بمعنى الإحراق والحرارة الزائدة ولا ندري فقد لا يكون هذا المعنى الثاني مراداً لأن قيامة القيامة علامة أو نتيجة لفقدان الطاقة في هذا الكون فالكون ما يزال عاملاً ومتحركاً طالما أن الطاقة فيه حية فإذا انطفأت الطاقة - وكل الآيات في هذا المعنى تشير إلى هذا - فإن حظوة الحياة أيضاً سوف تنتهي على ظهر هذه الأرض، وفي الكون كله وانطفاء الطاقة يكون حينما تصل إلى حد الصغر المطلق في كل أجزاء الكون وحالة من هذا القبيل لا تسمح بتاتاً بأن تكون البحار مسجرة أي هي مشتعلة من شدة الحرارة، ولعل تأويل الامتلاء هو أشبه التأويلات بهذا إن شاء الله تعالى.(/3)
إلى هنا ينتهي عرض المشهد الذي يكون قبل وقوف الناس لرب العالمين، ولكن - وهنا يجب علينا أن ننتبه إلى حكمة القرآن وكيف يسوق أغراضه - يقول الله (وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت) تصور نفسك أمام هذه اللوحة أمام هذا المشهد في الدنيا وما كان من شؤون الناس وكل المآسي التي حصلت على ظهر هذا الكوكب فإذا أنت بالنداء الإلهي يقرع سمعك قرعاً شديداً (وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت) وتتعجب هل الأمر على هذه الدرجة من الأهمية؟ وترجع إلى الساحة التي كان يتحرك عليها محمد صلوات الله وسلامه عليه وتتقرَّى ما كان فيها، فما أنت واجد؟ أليس محمد عليه السلام هو الذي نشأ في مكة؟ أليست مكة البلد الذي تهوي إليه أفئدة العرب في الجاهلية؟ أليس العرب قوم محمد صلى الله عليه وسلم؟ أليس هذا الدين إشاعة لذكرهم وتنويهاً بفخرهم ونشراً لشرفهم؟ بلى؛ والله جلَّ اسمه يقول لمحمد عليه الصلاة والسلام وإنه أي هذا الدين أو هذا القرآن لذكر لك ولقومك أي شرف وسمعة عطرة لك ولقومك وسوف تسألون، أليس حقاً بعد هذا أن يكون حرص الإسلام بالغاً الغاية من أجل تخليص العرب الذين رشحهم الله جل وعلا لحمل رسالة الإسلام من كل ما يؤذي الإنسان؟ بلى. وفي أية زاوية، لا في الزوايا الأخلاقية ولا في الزوايا التشريعية ولا في الزوايا التي تمس النهايات البعيدة للتحرك والسياسة العامة ولكن فيما يتعلق بصميم الوجود البشري. إننا نتحرك ورأسمالنا الذي نتحرك به ورصيدنا الذي ننفق منه ماذا؟ هو هذا الإنسان؟ الإنسان أثمن شيء والله جل وعلا حين خلق هذا الإنسان أمر الملائكة أن تسجد لهذا الإنسان فسجدت تكريماً لما خلق الله من مخلوق ذي مزايا ليست موجودة في الملائكة، ولا في سائر مخلوقات الله تبارك وتعالى، وإذا ذهبنا نتعرف على الروح العامة التي تحرك الإسلام لوجدنا أن الإسلام ينطلق من الإنسان ليعود إلى الإنسان في إعزاز وفي حفاوة بالغة لو ذهبت تتعرف على آيات الله تبارك وتعالى في هذا المجال لكان حسبك قراءتك بضع آيات من سورة المائدة.
اسمع.. يقول الله جل وعلا:
)واتل عليهم نبأ ابني آدم إذ قرّبا قرباناً فتُقُبِّلَ من أحدهما ولم يُتَقَبَّلْ من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين).
تلك هي اللوحة التي عرضت لأول جريمة اعتداء على الحياة في تاريخ الجنس البشري جريمة بين ابني آدم عليه السلام بماذا يعقب الله عليها؟ يقول الله جل وعل:
(من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل - وكذلك هو مكتوب علينا - أنه من قتل نفساًُ بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً).
أرأيتم كيف أن هذا الإسلام يسد المنافذ والسبل التي تؤدي إلى إهدار قيمة الحياة البشرية؟ لأن الإسلام أعطى لحياة الإنسان اعتباراً عالياً جداً لم يجز أي عدوان على هذا الإنسان، لا فقط بالنسبة لحياته فذلك مفروغ منه من اعتدى على حياة أخيه وأزهقها بغير حق وبغير فساد أفسده هذا الإنسان، أزهقنا حياته عملاً بقانون التماثل المعمول به في الإسلام وفي سائر الشرائع والذي هو نداء الفطرة الإنسانية، ولكن الأمر في إعزاز الحياة الإنسانية يذهب إلى أبعد من هذا يذهب إلى توفير الأجواء والمناخات التي تجعل هذه الحياة الإنسانية ذات قيمة ذات معنى، مليئة فَعَّالة منتجة، من أجل ذلك فإن الإسلام حريص أبلغ الحرص على أن لا يساء إلى الشخصية الإنسانية بحيث تكون هذه الإساءة عاملاً في إنقاص فعاليتها حتى الشعور.
جاء رجل فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أُخِذَ بجلال النبوة ورهبة الرسالة فارتعد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: خفِّضْ عليك يا أخا العرب، فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة.. اللحم المجفف على الصخور، لكي يذهب بهذا الروع عن نفس هذا الإنسان الذي توهم أن منصب النبوة منصب يولد الرعب، ويذيب الشخصية الإنسانية.(/4)
وفي كل موقف نجد الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يوفر هذا الامتلاء للشخصية الإنسانية كان ينهى عن إذلال الإنسان لنفسه. ويقول ما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه وكان ينهى عن إذلال المؤمنين ويقول: ظَهْرُ المؤمن حمى، لا يجيز أبداً أن يذل الإنسان المؤمن بالشتم أو بالضرب لأن هذا سيكون انقاصاً للفاعلية المطلوبة من هذا الإنسان ويقول عليه الصلاة والسلام: صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما - ربما يلتبس النص على بعضكم الرسول عليه الصلاة والسلام - حدث في عدة مرات فقال أُرِيْتُ النار وقال أريت الجنة، أراه الله سبحانه وتعالى - إما حقيقة إما تمثيلاً - النار والجنة جميعاً، ورأى عليه الصلاة والسلام ما رأى من أحوال أهلها وأوصافهم من جملة ما رأى.. رأى النار وحدثنا في رؤياه عن مصير الزناة، وعن مصير شربة الخمر، وعن مصير المرابين، وعن أشياء كثيرة تحدث بها الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي موجودة في كتب الحديث لكن النبي عليه الصلاة والسلام حين انكشف له أهل النار ورأى الأصناف الذين يتخبطون فيها يقول:
صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما.. يعني أنهم في عصره عليه الصلاة والسلام ما كانوا موجودين. من هما؟ قال رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها ظهور الناس هذا صنف، صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله كيف لو رأيت اليوم من أهل النار نماذج خلفت السياط للتسلية. فقد استعملت الكهرباء وما في معنى الكهرباء لتعذيب عباد الله.. صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله.
والصنف الثاني الذي لم يره عليه الصلاة والسلام من أهل النار قال ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت.
هؤلاء النساء اللواتي يصففن شعورهن في المحلات المختصة بهذا، وهن كاسيات عاريات ترى الواحدة منهن فتحير أهي تلبس على جلدها شيئاً أم هي عارية تماماً، لأن الثوب مفصل لكي يلتصق بكل جزء من أجزاء الجسد، ويحكي كل مفصل، وكل عضلة في هذا الجسد، ومائلات مميلات يتخطرن كالغصن الذي تعبث به النسائم يميناً وشمالاً إذا مشين، مشين بتخلع ومشين بمجانة.
فهذا الصنفان من الناس من أهل النار لم يرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
على أي حال؛ فالشيء الذي يجب أن يؤخذ هو أن الإسلام بحرصه على الحياة لم يسد المنافذ على فوت الحياة وحسب، وإنما سد المنافذ على تفريغ الحياة من معناها كذلك ففي جو كهذا ينظر إلى العوائد وعوائد سيئة قد تكون نابعة عن الوسط وعن البيئة وقد تكون متخلفة عن عوامل اقتصادية وعوامل اجتماعية وقيم نشأت في هذا المجتمع القبلي الذي يعيش بين أعاصير الرمال المهم كان بين العرب ما يعرف بعادة الوأد, الوأد: هو دفن البنات وهن على قيد الحياة كراهة لهن من جهة ومن جهة أخرى كراهة أن يأكلن مع الآباء ومع الأهل كي لا يؤثرن على المستوى المعيشي للأسرة.
كان الرجل إذا جاءته بنت إما أن يدفنها حية مباشرة، وإما أن يتركها حتى تترعرع ثم يدفنها بعد ذلك، كان الوأد يجري كالآتي تهيئ الأم حفرة فإذا وضعت الوليد نظرت فإن كان ذكراً أخذته فاستحيته، وإن كان أنثى أهالت عليه التراب، وهو في الحفرة.
لكي نتصور إمكان أن تقوم الأم بدفن ولدها وهو حي؛ فيجب أن نعرف أن هذه العوائد بلغت من الرسوخ في المجتمع العربي المبلغ الذي يقضي على كل عواطف الأمومة - وهي أقوى العواطف وأشرف العواطف بإطلاق - وربما تترك البنت حتى تتغذى باللبن وتفطم، فإذا بلغت أن تمشي وتذهب وتجيء جاءها أبوها بجبّة من شعر فألبسها إياها - كما يفعلون بالرعيان - ثم أخرجها لترعى له إبله أو شياهه، فإذا أراد أن يقضي عليها ذهب فاحتفر لها بئراً في الصحراء، ثم جاء إلى أمها فقال لها جهزي ابنتك إلى أحمائها الإحماء من القبور، من هنا جاء ما يعرف بين الناس بما يقولون؛ نعيم الصهر القبر، من هنا جاءت؛ فإذا جهزتها أخذها أبوها حتى أوقفها على البئر الذي حفره في الصحراء وقال لها انظري فإذا نظرت كبها في البئر، وأهال التراب فوقها.(/5)
أسباب هذه العادة.. نتائج هذه العادة.. تحدثت إليكم به قبل اليوم أظن من ثالث جمعة ما أنا براغب أن أعود إلى هذا الحديث لكن أريد أن ألفت النظر إلى تأثير العادات الاجتماعية في العقائد، العرب تكره البنات والله جل وعلا أنبأنا في القرآن الكريم عن ظاهرة الكره هذه فقال جل اسمه (وإذا بُشِّرَ أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى) ربما من لا يعرف عوائد العرب يقف عند هذه الآية ما دخل هذه الآية بالتي قبلها (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم) فنلفت أنظارهم إلى أن العرب كانت عندها أصنام من جملتها اللات والعزى ومناة هذه الأصنام تسمى بتسميات الإناث، والعرب كانت تقول: إن هذه الكواكب هي إناث، وإنها بنات الله، والعرب كانت تقول: إن الملائكة إناث وهنّ بنات الله وهكذا، فهم ينسبون إلى الله ما يكرهون وينسبون إلى أنفسهم ما يشتهون، يكرهون الأنثى فينسبونها إلى الله تبارك وتعالى، ولهذا قال الله أيضاً (وإذا بُشِّرَ أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً - يعني نسب الأنثى إلى الله - ظلّ وجهه مسوداً وهو كظيم). فكراهيته الأنثى انعكست على العقائد فأصبحت الأصنام تشكل على هيئات الإناث، وأصبحت تطلق عليها ألقاب الإناث ومع أن الله جل وعلا، خاض مع العرب حجاجاً طويلاً سوف نصل إليه وسوف نقف معه فنحن نريد أن نؤكد على هذه الظاهرة إن العادة الاجتماعية لا يمكن أن تكون منفصلة تماماً عن العقيدة بل نحن إذا أردنا الحقيقة نستطيع أن نعكس فنقول العقائد هي التي تشكل العوائد الاجتماعية أو هكذا ينبغي أن يكون؛ فالعرب بشدة كراهيتهم للبنات كانوا يئدونهن.. حين جاء الإسلام جاء بهذه الروح التي تستهدف استحياء هذه الأنفس، إنقاذها من الهلاك (وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت) لماذا؟ أذنبها أنها جاءت أنثى ولم تأت ذكراً؟ أذنبها أنها لا تحمل السلاح لتدفع عن القبيلة والذكر يحمل السلاح ويدفع عن القبيلة لا لأن المنطق يقضي أن يؤاخذ الإنسان بما يصنع، بما يكون ضمن طاقته، أما أن يكون الإنسان طويلاً أو قصيراً ذكراً أو أنثى أبيض أو أسود فكل هذا لا يرتب عليه مسئولية، لأن هذه الأشياء أشياء تخرج عن إرادة الإنسان ولكي ترتب مسئولية في أية ناحية، لابد من أن تدخل الإرادة الإنسانية لتحدد هذه المسئولية.
جاء الإسلام فكان فتحاً مبيناً للنساء اللواتي يتندرن اليوم هن وإخوانخنّ من المتحللين والفاجرين ومن المتحللات الفاجرات ومن الكاسيات العاريات ومن أحلاس الشهوات، ممن يزعمون أن الإسلام أذلَّ الأنثى مع أن الإسلام هو الذي أنقذ الأنثى - في التاريخ الإنساني كله - وهو الذي أعطى الأنثى كرامتها الحقة، وإذا كان ذنباً على الإسلام يُحْسَبُ أن تُنقذَ المرآةُ من بين يدي العابثين، وتجار الأعراض، ولصوص الأعراض، فالإسلام يعتز بهذه التهمة.
إن الإسلام في الوقت الذي يرفع فيه من قيمة الأنثى لا يرضى أبداً أن تكون الأنثى رقيقاً يباع ويُشترى في سوق النخاسة ولا يرضى أبداً أن تكون عفة الأنثى موضوعاً يتلعب به طلاب الشهوات وأحلاس الفجور والانحلال، الإسلام لا يرضى هذا من شاء فليرض بذلك ومن لم يرض فليكسر رأسه بالحائط رأي الإسلام في ذلك صريح، يحيي الأنثى وحياة الأنثى تقتضي المحافظة على شرفها والمحافظة على عفتها والمحافظة على كرامتها كي لا تكون سلعة رخيصة في أيدي التجار الذين يقلبونها اليوم وينبذونها غداً نبد النواة، فالإسلام إذاً حينما تحدث في فاتحة سورة التكوير كان يواجه حالة شاذة عالية الشذوذ، حالة إزهاق العنصر الأنثوي في الحياة الإنسانية فلا بد من أن يحشر هذا.. أين؟ في أهم الأحداث، حينما يتحدث القرآن عن أهوال يوم القيامة في الوقت الذي يصور لنا على أنه تذهل كل مرضعة عما أرضعت حينما ينسى الوحش غرائز العدوان، حينما يتعطل كل شيء يأتي النداء الإلهي متسائلاً: (وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت) هذا تساؤل ستكون له نتائج عملية ككل قضايا الإسلام؛ نحن نقرأ بعد في العصر المدني ومن سورة الممتحنة أن الله جل وعلا يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم قائلاً:
(يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن -قتل الأولاد الذي هو الوأد- ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن إن الله غفور رحيم).
فالإسلام ليس فقط دين توجيهات وإنما هو دين نظام وتطبيق وعمل وقد كشفت لنا هذه الفاتحة عن محاولة الإسلام لتغيير الواقع البشري في ذلك الزمان وفي تلك الرقعة المحصورة ولكنه مؤطر وموضوع في سياق يدعو إلى التأمل الشديد(/6)
ربما في الجمعة القادمة وقفنا وقفة أشمل عند هذه المعاني وربما وجدنا أنفسنا غير مضطرين إلى هذه الوقفة، المهم أن نتواصى إن القرآن كتاب الله، وأثمن شيء بين أيديكم جميعاً وإن عليكم وأنتم في ظلال رمضان أن لا تدعوا قراءة القرآن وأن تعايشوه وتتعرفوا على المعاني العظيمة التي نشرها الله في ثنايا هذا الكتاب تلتمع في آياته التماع الدر في العقد الكريم، فإياكم أن يتفلت من بين أيديكم رمضان - وحظكم من الكتاب لا شيء - إن هذا القرآن أعلى طبقة في البلاغة وأحفل كتاب بالمعاني السامية العظيمة وخير دليل يدل الناس ويرشدهم إلى طريق الهدى ومراشد الحق والصواب، فاعملوا أن لا يكون نصيبكم منه هيناً في هذا الشهر وفي سائر الشهور استوصوا بالكتاب خيراً، عدّتكم طريقكم سبيلكم.
أسأل الله تعالى أن لا يخلي أيامنا وليالينا ولا أيامكم ولا لياليكم من آية تتلى، وكلام يكون موضوع تأمل وتدبر، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
والحمد لله رب العالمين.(/7)
الحلقة الرابعة من سورة التكوير
الحلقة (34) ج الجمعة 23 رمضان 1396 / 17 أيلول 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
إن شأن الناس مع القرآن شأن عجيب ، نزل إليهم من الله ليتلوه وليتدبّروا آياته ، فكانت الغفلة غالباً نصيب هذا الذكر الحكيم ، وأظن أن الأمة لو أعطت من ذات نفسها لكتاب الله تعالى بعض ما تعطي لصغائر الأمور وسفاسف الحياة لاعتدلت حالها وصلح بالها . فقد أودع الله في هذا الكتاب ما هو عبرة لأولي الألباب ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) ونحن محتاجون بين الآن والآن إلى أن نقول كلاماً كهذا ، استنهاضاً للهمم وابتعاثاً للرغبة في معاودة النظر في كتاب الله تعالى ، وإنما يحفزنا إلى ذلك الآن أننا في آخر أسبوع من أسابيع رمضان لهذا العام ، ورمضان كما لا يخفى شهر القرآن ( شهر رمضان الذي أُنزل في القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) .. فمن كان قصّر في كتاب الله وتدبّر آياته فيما مضى فقد بقي أسبوع ، يحسن بالإنسان المسلم أن ينظر في كتاب ربه ، وأن يحاول الفهم عن الله فيما أنزله إلى الناس ، فربّ ساعة صفاء يكون القلب فيها موصولاً بالله تعالى ، والعقل خلالها خالياً من شواغر الدنيا وجواذب العيش تنقدح للإنسان فيه أفكار وتصورات تزيده قرباً من الله والتصاقاً بهذا الدين .
وإنما هي كما قلت ذكرى ، الهدف منها أن لا يضيع الواجب في زحمة العيش ، وأن تظل الحاجات العليا لهذه الأمة على ذكر منها لا تغيب عن بالها ، ولسنا ذاهبين بعيداً فمن التذكير بالقرآن إلى القرآن بالذات .
سلخنا أيها الإخوة فيما مضى بعضاً من الوقت ونحن نتملى سورة التكوير ، وبغير مبالغة أقول لكم : لو شئت أن أتحدث لكم عن هذه السورة إلى مثلها من العام القابل ما فرغت ، وهي سورة من قصار السور ، ومن أوائل ما نزل ، ولعل معظم القارئين للقرآن يمرون عليها في تلاوتهم دون أن تترك في نفوسهم شيئاً ذات بال .
قضينا ما مضى ونحن في النصف الأول من السورة ، وها نحن نحاول بنظرات سريعة أن نلمّ بالذي تحدثت عنه السورة في نصفها الثاني ، ويحسن أن نعود ، لأن السورة في الحقيقة مقسومة إلى شطرين ، ومن الخير للإنسان المسلم وهو يقرأ الشطرين أن يعرف جواءهما ، وأن يدرك هذا التناسق الذي يحكم كل شطر من الشطرين ، تناسقٌ في اللفظ وتناسق في المعاني التي يتأدى بعضها عن بعض ويتنزل كل معنى منها في جوه الخاص الذي رشّحت له مجموعة الأمور التي أحاطت به . في النصف الأول من السورة سمعتم الله تبارك وتعالى يقتص على العالمين مشهد الهول الهائل الذي يكون قبيل اليوم الآخر وففي فواتح هذا اليوم ، كيف يتمخض الكون كله عن اضطرابٍ يتبعه خرابٌ هائلُ وشامل ، ثم يقدم الناس في اليوم الآخر على السؤال والحساب ، فيقول عزّ من قائل ( إذا الشمس كورت ، وإذا النجوم انكدرت ، وإذا الجبال سيرت ، وإذا العشار عطلت ، وإذا الوحوش حشرت ، وإذا النفوس زوجت ) أي أعيدت أرواحها إلى أبدانها فكانت زوجاً ( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ، وإذا الصحف نشرت ، وإذا السماء كشطت ، وإذا الجحيم سعرت ، وإذا الجنة أزلفت ) ما هذا الجو ؟ جو قيام العالمين بل الكون كله لله رب العالمين ، لماذا ؟ لكي يقدم كل أحد الحساب عما قدم في دار الامتحان والبلوى .
في هذا الجو الذي توحي كل نأمة من نأماته ويوحي التعبير عنه بكل حرف من حروفه بهذه الرهبة وبهذا الموقف تأتي الخلاصة الجامعة المركزة فيقول الله تعالى
( علمت نفس ما أحضرت ) لو رجعتم إلى معطيات الإسلام وإلى قضاياه الأساسية لوجدتم الإسلام يعلق أهمية عظيمة وحاسمة على حيوية هذا الشعور واليقين في نفس الإنسان المسلم بأنه قادم على الله ، وأنه محاسب على ما قدمت يداه . وإذ تحاول الآيات في نصف السورة الأول أن تطبع وتثبت القناعة بحتمية اليوم الآخر ، ففي ذات الوقت تتركز الخلاصة الجامعة الشاملة بشيء يتعلق في اليوم الآخر وهو الحساب الذي لا محيص منه ولا محيد عنه ، فكل ما في النصف الأول سواء نظرت إلى دلالات أو نظرت إلى تساوق السور وتوالي المعاني فأنت تتهدى وتتأدى إلى الوصول إلى هذه النتيجة التي رُكّزت ثم أُعطيت لك في كلمات ثلاثة ( علمت نفس ما أحضرت ) .
والإسلام يعوّل أبلغ التعويل على استقرار هذا المعنى في نفوس الناس ، فالإنسان بغير يقين كامل بحتمية الأوبة للخالق الجبار وتقديم الحساب الكامل لن يكون أفضل مما بثّ الله على ظهر هذا الأرض من حيوانات شرسة مفترسة . وإنما تؤتي وسائل التربية أوكلها وتنتج ثمارها حينما تستخدم هذه الوسيلة الفعالة بإحياء الشعور بحتمية الرجوع إلى الله تعالى ، وحتمية الحساب بين يديه .
إذا تركنا هذا النصف الذي قضينا معه أوقات ممتعة جميلة وذهبنا إلى التعرف على النصف الثاني فنحن أمام حشد من المعاني يتوجب علينا أن نكون متحلين بالأناة والصبر ونحن واجهها .(/1)
يقول الله تعالى
( فلا أقسم بالخنس ) والخنس هي الكواكب التي تخنس أي تختفي ، ويقال في كلام العرب خنس على معنيين ، الاختفاء الكامل والتضاؤل ، الاختفاء الكامل معروف ، وأما التضاؤل فمحاولة الشخص أن يصغّر من جرمه وشخصه ، ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه حينما لقي الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض طرقات المدينة وكان أبو هريرة جنباً ، فكره أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على تلك الحالة ، قال : فذهبت أنخنس منه . هما في الطريق يتقابلان ، ولكن أبا هريرة حاول أن يضائل شخصه ويصغّر جرمه كي يضيع بين المارة فلا تقتحمه عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأياً كان فإن المتبادر من الانخناس هنا هو المعنيان جميعاً ، فالكواكب في حالة اللمعان والإشعاع تراها تارة عند شدة الوهج يكبر جرمها ويمتد شخصها ، وتارة عند القبض تضؤل حتى تكون نقطة من ضياء ، فهذا انخناس . والكواكب كذلك في دورة الفلك ما كان منها طالعاً يغيب ، وهذه الغيبوبة هي انخناس أيضاً .
( فلا أقسم بالخنس ، الجوار الكنس ) والجوار أيضاً هي الكواكب ، والكنس هي التي تدخل كنسها ، والكنس جمع كناس ، والكناس مأوى الظباء والغزلان في لغة العرب . وذلك معناه قسم بالكواكب التي تختفي اختفاء الظباء في كنسها وذلك حين يكون النهار وتغيب النجوم عن أعين الرائين . ( فلا أقسم بالخنس ، الجوار الكنس ) ما زلنا ضمن المشهد الكوني العام ، ما زلنا لم تغب عنا مشاهد القدرة ، لكن مشاهد القدرة هنا كما يجب عليكم أن تحاولوا معرفتها وتتأملوها جيداً ، تختلف عما كانت عليه في نصف السورة الأول ، هناك في النصف الأول عوالم تصطدم ، نجوم تنكدر وشموس تنطفئ وجبال تسيّر وما إلى ذلك من مظاهر التخرب العام الذي يعتري هذا البناء الكوني قبيل يوم الآخر . وهنا الأمر يختلف .. هناك مشهد يُرسم على النحو الذي رُسم عليه ليؤدي إلى خاتمته المنطقية وهي وقوف الناس للحساب ومعرفة كل أحد ما قدم في الدنيا .
( والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس ) والصبح إذا تنفس يعطيك من جهة معنى الحركة التي هي ملازمة للنهار ، ولكنه يعطيك من جهة أخرى هذا المعنى الرقيق الشفاف الذي تلمسه عند أول مظهر من مظاهر الحياة ، كما تلمسه عند أول شعاع ينشق عند الفجر .. ما هي المناسبة التي نجد المشهد الكوني فيها هنا في النصف الثاني من السورة ؟ يمشي من الموات إلى الحياة ، بينما كان المشهد الكوني في القسم الأول من السورة يمشي من الحياة إلى الموات عكس المشهد الثاني . هناك استخدم السياق كما قلنا ليؤدي إلى خاتمته المنطقية ونتيجته التي لا بد منها حينما ينتهي هذا البناء الكوني لينقلب الناس إلى دار أخرى ضمن عالم آخر يقدمون الحساب عن أعمالهم . وهنا يأتي هذا الكلام توطئة وتمهيداً وترشيحاً للحديث عن النبوة ( فلا أقسم بالخنس ، الجوار الكنس ، والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس ، إنه لقول رسول كريم ) هنا يتساوق هذا الجزء وهذا المقطع من هذا المشهد مع كل الأجزاء التي مضت ، كيف تكون هناك ظلمة والنجوم مشتبكة وأطباق الظلام متراكبة ثم يأتي الفجر يتنفس تنفسه الهادئ الوديع ، ثم ينشر أشعته البيضاء فيبدد غياهب الظلمات ، ويحيل الظلام إلى نور ، ويبدل الهمود بالحركة ، كذلك تفعل هذه الرسالة الخاتمة الهادية ، وكذلك هو وضعها .
فما كان في الجاهلية فـ
( ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ) وما كان في الجاهلية فاشتباك في شئون هذه الحياة غير قابل للحل ، وما كان بعد ذلك فهذا الشفق وهذا الفجر فهذه الأنسام فهذه الأنفاس التي تمنح الناس أملاً متراحباً في الحياة الجديدة ، كذلك رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
ولو أنك أعطيت الريشة أمهر الفنانين وأعظم المصورين ليصور لك الأمر على نحو مغاير لعجز ، لا يمكن للمشهد أن يخرج مستجمعاً كل أسباب الروعة وكل مقومات الجمال إلا أن يكون مرسوماً على هذا النحو . تلك ظاهرة أنا مضطر إلى أن أشرحها مع علمي بعجز الكثيرين عن استيعابها ، ولكني أشرحها وأطرحها بين يدي كلام سبق أن قلته في الجمعة الماضية ، إن طرائق الأداء وأساليب التعبير عامل أساسي في معركة الحجاج والنقاش التي كانت تدور بين المسلمين وخصومهم ، وإن طرائق الأداء وأساليب التعبير عامل مهم في تكوين القناعات وتثبيتها ، وإذا كنا نحن بما بعد علينا العهد بإحساسنا باللغة ففقدنا بذلك سلائقها وإشعاعاتها وقدرتها على التأثير ، إذا كنا نحن كذلك لا نملك أم نحس بهذه الجواء الإحساس الذي أحسه العربي قبل أربعة عشر قرناً فانفعل به وتأثر وتكونت لذلك قناعاته ، وتحددت لذلك أنماط سلوكه وتحددت تبعاً لذلك غاياته التي يسعى من أجلها ويهدف إليها ، فإن ذلك لا يقلل بتاتاً من الأهمية البالغة التي تأخذها طرائق الأداء في سياق الدعوة إلى الله تبارك وتعالى .(/2)
وإن من الظلم البيّن لهذا القرآن الكريم ولهذه اللغة الشريفة أن يُحمل عليهما جهل الأخلاف لتحركات اللغة حينما تتحرك داخل الأفئدة والقلوب . يقيناً إن الإنسان العربي الذي خوطب بهذا الكلام قبل أربعة عشر قرناً كان يحس من غير تأمل ومن غير حاجة إلى الشروح بكل هذه الجواء التي شرحناها ، بل بما هو أكثر منها . ولأقرب لكم الأمر ، فأنتم تتكلمون اللغة العامية ولو أراد الله بكم خيراً لأجرى على ألسنتكم الفصحى ، تتكلمون اللغة العامية ولكم في العامية تعبيرات ، ولكم في العامية مصطلحات ، حينما تسمعون تعبيراً من التعابير العامية الجميلة فأنتم تتصورون عالماً كاملاً من المعاني يتداعى إلى أذهانكم ، لماذا ؟ لأن هذا اللسان وهذه اللغة مرتبطة بأصل الوجود بذات الكيان الإنساني ، فالإنسان حين يتكلم ليس معقولاً بل ليس صواباً أنه يلقي كلمة من طرف لسانه في الهواء ، أبداً ، وإنما هو حينما يتكلم يقتطع ويحتز بَضعةً من كيانه ليلقيها إلى الناس . من هنا تأخذ اللغة أهميتها ، وتأخذ أهميتها بصورة خاصة من حيث كونها سلاحاً في المعركة لا يبارى ولا يجارى .
ندخل الآن إلى ما نحن بسبيله .. فالله تعالى بعد أن قال
( فلا أقسم بالخنس ، الجوار الكنس ، والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس ) قال ( إنه لقول رسول كريم ) ولتوضيح شيء من مدلول القسم ، الله جلّ وعلا ينفي القسم ، وهذا على غير السياق المعهود ...(/3)
الحلم الكبير :
نطمح دائماً إلى أن تتحقق في أرضنا العربية الدولة المتحررة الواحدة ، والمجتمع الذي لا ظالم فيه ولا مظلوم .. ونوجه أنظارنا واهتماماتنا وجهودنا باستمرار صوب أهداف خارجية ، نرجو عن طريق مغاضبة بعضها والتزام بعضها الآخر تحقيق حلمنا الكبير .. ويبلغ من نزعنا الخارجي هذا أن تتجه فئة منا إلى تحميل بعض الدول الكبرى المتقدمة كل أسباب تمزقنا وتبعثرنا وتأخرنا ، وتتجه فئة أخرى إلى الالتصاق ببعض الدول الكبرى المتقدمة علها تقضي على أسباب هذا التمزق والتبعثر والتأخر ، وتقودنا إلى حلمنا الكبير !!
ولم يلتفت أحد منا – إلا القلة القليلة – إلى حقيقة أن أي حلم كبير ، أو هدف مصيري حاسم لن يتحقق إلا بأن ننظر في (الداخل) أولاً ، في أعماق نفوسنا ، ونسيج عواطفنا ، وخطوط تفكيرنا ، وخلايا اهتماماتنا ، وأسس أخلاقيتنا ، ونسيج عواطفنا ، وخطوط تفكيرنا ، وخلايا اهتماماتنا ، وأسس أخلاقيتنا ، لكي نعيد تنظيم وصياغة هذه النفوس على كل مستويات الفكر والعاطفة والمطامح والأخلاق ، بما يمكننا من تحقيق الشروط الأساسية اللازمة للتحرك صوب أهدافنا والاقتراب يوماً بعد يوم من حلمنا الكبير !!
وما كان لأمة تسعى إلى مصيرها أن تغفل عن هذه الحقيقة الأساسية في التعامل مع سنة التاريخ ... ولكن يبدو أن هناك من استؤجر في قلب بلادنا لكي يصرفنا دائماً عن تلمس الطريق الصحيح في الأعماق ، ويوجهنا إلى أهداف خارجية بعيدة المنال نصب عليها جام غضبنا مستنزفين طاقاتنا في هذا الهجوم غير المجدي ، أو نتعبدها ونتقرب إليها ونتكئ عليها ظانين أنها ستحملنا على جناحيها السحريين إلى حلمنا الكبير.
يبدو أن هنالك من يخوننا من بين ظهرانينا ، وإن الزعامات السياسية والفكرية والأخلاقية التي اختبرت لتنفذ هذه الخيانة ، قد نجحت لحد الآن في أداء الدور الذي طلب منها أن تؤديه ، بل إنها تزداد نجاحاً يوماً بعد يوم لأنها في - أعقاب كل هزيمة – تقدر – بإشارة بسيطة – أن تحرك عشرات الآلاف من المؤمنين لكي يرقصوا في الشوارع والساحات ، ويشقوا حناجرهم هتافاً ضد الامبريالية ، أو أكفهم تصفيقاً للمعسكر الحليف.
إن هذا التأرجح المحزن بين غضب ضد عدو ما كان له أن يهزمنا لو أن عرفنا كيف ننتصر في (الداخل) ، في جبهة النفس ، وفق ما علمنا الرسول عليه السلام إياه ، فسماه لخطورته بالجهاد الأكبر ، وبين ارتماء في أحضان صديق لا تهمه مصالحنا وأهدافنا بقدر ما يسعى إلى استغلال هذه (السذاجة) فيربت على أكتافنا ظاهراً ، ويمتصنا باطناً ، بما لا يدعنا ، في مستقبل قريب أو بعيد ، نملك قطرة من دماء !!
لقد طرحها القرآن الكريم قاعدة عريضة (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). وبدون هذا التغيير النفسي الذي هو مفتاح المصير ، فسنظل ندور في الحلقة المفرغة ، حتى ولو ضربنا رؤوسنا بألف جدار غاضبين أو مستعطفين .. بدون هذا التغيير الذاتي ستظل أمتنا تعاني (الخيانة) الخطيرة من أبنائها أنفسهم ، وتحمل في دمها وخلاياها جراثيم الدماء الوبيل الذي يفتك بها ويصدها عن المضي إلى أهدافها بصحة وحيوية وعافية .. وترين على أعينها وأفئدتها طبقة من الغبار الكثيف يحجب عنها الرؤية الحقيقية لخرائط الصراع في عالمنا ، ومواقعه الأساسية ، فتتخبط في الدرب ، وتتلقى رؤوس أبنائها ضربات المتصارعين وهم لا يرون أيهم العدو وأيهم الصديق.
وكيف نرجو لأمة تحمل في مسيرتها حشداً من الخونة ، وفي دمها كثيراً من الجراثيم ، وترين على أعينها طبقة من الغبار ، أن تصل إلى أهدافها وتحقق حلمها الكبير ؟ ! وصدق الله العظيم إذ يقول : ( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أني هذا ؟ قل هو من عند أنفسكم)!!
لقد منحنا القرآن الكريم بآياته الحاسمة (الطريق) ، وسلمنا (المفتاح) فلنجرب مرة واحدة أن نفتح الباب الموصود بمفتاحه الحقيقي ، لكي نمضي – من ثم – على الطريق إلى حلمنا الكبير !!(/1)
الحمد لله الذي أحيانا
أنس إبراهيم الدّغيم
رُويَ في صحيح البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما ، و عن أبي ذرّ رضي الله عنه قالا : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أوى إلى فراشه قال : (( باسمك اللهم أحيا و أموت )) ؛وإذا استيقظ قال:(( الحمدلله الذي أحيانا بعدما أماتنا و إليه النّشور )).
الحمد لله الذي أحيانا : إنها أولُ كلمةٍ يهتفُ بها قلبُ المؤمن من يومه .
فحينما يلفُّ المؤمنَ سوادُ اللّيل فيخلدُ إلى الفراش ليستريح من تعب التّردّد في حاجات يومه الطّويل ، يظلُّ قلبُهُ منزلاً للأنوار الهابطة إليه من المحلِّ الرّفيع ، و يظلُّ مستعداً لأن يأخذ من ومضات النور الهابطة ما يأخذ به في مسالك النّورانيّة الرّفيعة .
و حينما يسدلُ اللّيلُ ستورَه على الوجود ، تفرح قلوبُ الذين حادّوا اللهَ و رسوله و المؤمنين بأنّ الورودَ الثّائرةَ قد خلدتْ إلى أكمامها بعد نفح الشّذا و الطّيب .
و تطمئنُّ قلوبهم إلى أنّ رجالَ الأرض قد ناموا نومتهم الهادئة ، فيقومون في هدأة اللّيل ليشعلوا نيرانَ حروبهم و أحقادهم في سكون العالم ....... هؤلاء أعداؤنا يا سادة !!!!!
و لكن إذا ما انقضى من اللّيلِ ثلثُه أو أكثرُ من ذلك بقليل قام المؤمن الحقُّ يمزّقُ أستارَ اللّيلِ بوثبةٍ من روحهِ عليّةٍ ، و يضيء أكنافَ اللّيل بأورادِ اليقين ، مكتنفاً قلبَهُ الثائرَ بين جنبيه ، يمخرُ عبابَ الصّمت بقوله : (( الحمد لله الذي أحيانا )) .
إنها الكلمةُ الأولى من يومٍ جديدٍ ..... و جميل .
إنها جذوةُ الإيمان الأولى التي تنبعث في سجاف اللّيل ليحتمل منها المؤمن قبساً مشرقاً يصوغ منه منطلقَه المؤمنَ القويّ .
إنها الكلمة الأولى التي تقول للصّمت : ( أحلى من الصّمتِ .... قولُ الذين يدعون إلى الله و يعملون الصّالحات ) .
إنها الحركةُ الأولى التي تقول للسّكون : ( أحلى من السّكونِ ... الانطلاقةُ إلى الله ) .
إنها الوثبةُ الأولى التي تقولُ للهدوء : ( أحلى من الهدوء ...... الثّورةُ على مضامين الجاهليّة ) .
إنّ لهذه الكلمة شعاعاً نورانيّاً يذكي قلبَ المؤمن بنور التّوحيد ، و يقدح فيه زنادَ التّوجّه السّديد و السّلوك الرّشيد .
إنها الهروبُ من الدَّعةِ و الضّعف ثمّ إثباتُ القدم في أرض الإيمان .
إنها الإعلانُ للدّنيا بأسرها بأنهُ إذا نامتْ عينا مؤمنٍ فإنَّ قلبه لا ينام .
إنها الفرارُ إلى الله بقلبٍ راغبٍ يحدوهُ الشّوقُ إلى حضرةِ أنسه ، واللّهفةُ للوصول إليه سبحانه ، ثمّ النّزولُ في محاريب قدسِه .
(( ففرّوا إلى اللهِ إنّي لكم منه نذيرٌ مبين ))
إنّ لهذه الكلمةِ سراً يجعلُ من البدءِ شيئاً آخر يصبغ سيرة المؤمن من يومه الجديد بلون الإيمان و عطراً يعبق في وقت المسلم من شذاه ما يعطّرهُ و يطيّبه .
مازال إبليسُ و جنودُه في كلّ عصرٍ يزيّنون لنا الشّهوات و يبرزون الملذّاتِ أمامَ أعيننا في أجمل حللها .
فإذا ما قال المؤذّنُ ( الصّلاةُ خيرٌ من النّوم ) ، نفث إبليسُ في رَوع المؤمن أنّ النّومَ خيرٌ من ركعاتٍ قد تطول ، وإذا ما قال المؤذّنُ : ( حيَّ على الصّلاة ) ، وسوسَ إبليسُ للنّفس المؤمنة بأنّ الرّاحةَ خيرٌ من القيام في محاريب الإيمان و الذّكر الحكيم .
و ما زال حلفاءُ الشّيطانِ في كلّ عصرٍ يعلّمونَ الشّبابَ المسلم بأنّ يوم المسلم إنما يبدأ من بعد طلوع الشّمس ، و بهذا انخدع الكثيرُ من المسلمين ، فإذا قاموا من صبحهم إلى أعمالهم قاموا كسالى . و ما علموا أنّ يومَ المسلم إنّما يبدأ من صيحةِ المآذن : ( الله أكبر ) .
ألا و إنّ المؤمنَ الذي لا يعيش لحظاتِ الفجر الجديد هو عدوٌّ للوقت ، و لن يعطيَه الوقتُ ما يريد ، فلا بركةَ بعد ذلك في عمره و لا انفساحَ في أيّامه و وقته .
و إنّ المؤمن الذي لا يستيقظ على صوت دقّات الصّبح على باب كلّ يوم ، فلن يستشعر في قلبه بعد ذلك حلاوةَ المشي في مناكب الأرضِ و الأكل من رزقها .
وإنّ المؤمن الذي لا يعيش تلك اللّحظات الجميلة الّتي تشرقُ فيها شمسُ الطبيعة فتملأ بشعاعات النور مسالكَ الحياة ، لن تشرقَ شمسُ الحقيقة في قلبه من يومه ، فقلبُه بعد ذلك قعرُ بئرٍ مظلمة .
فإذا ما هجر المؤمنُ فراشَه و أوى إلى محرابِ التّوحيد ثم تلا فيه من آيات الكتاب البيّنات أحسَّ بالنّشوة تسري في أوصاله و تعمرُ كيانَه .
ألا إنّه ندى الإيمان المتساقط من المحلِّ الرّفيع الأعلى على القلب الفقير ، و النّورُ النّازلُ من قبّةِ الكأسِ الأوفى إلى القلب الطّهور ، و لن يطهرَ قلبٌ و يصفو إلا بذينكَ الوافدين .(/1)
فإذا ما قام المؤمنُ فدخلَ مسجدَ التّوحيد و المناجاة وصفَّ قدميهِ في محراب العبوديّة ، تحسّستْ منه الجوارحُ و الأعضاءُ بردَ اليقين ، ثم استباحتْ خلاياه _بعد ذلك _ وارداتُ الهدى ، حينها تهتفُ كلُّ حجيرةٍ فيه : ( لا إله إلا الله ) و كلُّ خليّةٍ فيه ( محمدٌ رسولُ الله ) ، ثم تستقرُّ خلجاتُ نفسه على صدى ( ألا بذكرِ الله تطمئنُّ القلوب ).
الحمد لله الذي أحيانا : لنسعى في ركابِ الحياةِ حاملينَ لواءَ التّوحيد .
الحمد لله الذي أحيانا : لنعطّرَ مسالكَ الوجودِ بعَرفٍ من شذا الهدى و الإيمان .
الحمد لله الذي أحيانا : ليكونَ كلُّ واحدٍ منّا حراءً جديداً تنطلقُ منه صيحاتُ الهدى فتعمر الأرضَ بالهتافِ الخالد : لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ الله
الحمد لله الذي أحيانا : حتى إذا جاءنا الموتُ بعد ذلك كان حبيباً جاء على شوق .
الحمد لله الذي أحيانا : ليكون كلُّ واحدٍ منّا هجرةً إلى الله و رسوله ، و غارَ ثورٍ جديداً يسوقُ الخيرَ إلى العالمينَ سوقاً ، و يقودُ الحيارى في ركاب النّور، و يهدي التّائهينَ إلى منازلِ الرّحمن ، حاملاً في قلبه آيَ الكتابِ و في يديه ورودَ الإسلام .
حينها ستهتفُ له كلُّ ذرّةٍ في الأرض و حبّةٍ في السّماء : ( طلعَ البدرُ علينا ) .
كتبها الغنيُّ بمولاه : أنس إبراهيم الدّغيم
جرجناز / معرّة النعمان / سوريا
14 جمادى الأولى 1425 هـ(/2)
الحمد والشكر لغة واصطلاحاً
د. محمد عمر دولة*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فإنَّ المسلم يُردِّدُ في اليوم عباراتِ الحمدِ والشكرِ مراتٍ عديدة.
ففي كلِّ ركعةٍ من الصلاةِ.. يذكر العبدُ الحمدَ حين يقرأ سورةَ الفاتحة، وحين يرفعُ من الركوع.. يقول: (سمع الله لمن حمده؛ ربَّنا ولك الحمد). وإذا أصْبَحَ العبدُ شَكَرَ ربَّه على كلِّ نِعمةٍ أنعمَ بها عليه، كما روى ابنُ عباسt أنَّ رسولَ اللهr قال: مَن قال حين يُصبِح: اللهم ما أصْبَحَ بِي مِن نِعمةٍ أو بأحدٍ مِن خَلقِك؛ فمنك وَحْدَك لا شريكَ لك؛ فلك الحمدُ ولك الشُّكرُ؛ فقد أدَّى شُكْرَ ذلك اليوم).[1]
وقُلْ مِثلَ ذلك.. في سُجُودِ الشُّكر؛ فإنَّ العبدَ إذا رأى نِعمةَ الله عليه؛ سَجدَ شُكراً لله عزَّ وجَلَّ، وإذا تذكَّرَ العبدُ نِعمةً مِن نِعَمِ الله عليه؛ لَهَجَ بالثناءِ على الله: (ربَّنا.. لك الحمد!) (ربَّنا.. لك الشكر)! فما الحمدُ والشُّكر؟
قال القرطبي رحمه الله: "الحمدُ في كلامِ العربِ معناه الثناءُ الكامل، والألف واللام لاستغراق الجنس مِن المحامِد؛ فهو سبحانه يستحقُّ الحمدَ بأجْمَعِه؛ إذْ له الأسماءُ الحسنى والصِّفاتُ العُلا... فالحمدُ: نَقِيضُ الذَّم، تقول: حَمدتُ الرجلَ، أحمده حمداً فهو حميد ومحمودٌ، والتحميد أبلغُ من الحمدِ، والحمدُ أعَمُّ مِن الشُّكر. والْمُحَمَّد الذي كثرت خِصالُه المحمودة، قال الشاعر:
وبذلك سُمِّيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال الشاعر:
والمحمَدةُ خِلافُ المذمة، وأحمد الرجل: صار أمرُه إلى الحمد، وأحْمَدته وَجدتُه محموداً، تقول: أتيت موضعَ كذا؛ فأحْمَدْته: أي صادَفْتُه محموداً مُوافِقاً؛ وذلك إذا رَضِيتَ سُكناه أو مَرْعاه".[2]
وقد اختلفَ العلماءُ في لَفظَي (الحمد) و(الشُّكر): هل إنَّ مَعناهما واحِدٌ؟ أم إنَّ لِكلٍّ مِن اللَّفظَيْن معنًى يختلفُ عن الآخَر؟
فقد قال البغوي رحمه الله: "الحمدُ يكون بمعنَى الشُّكرِ على النِّعمة، ويكون بمعنى الثناءِ عليه بما فيه مِن الخصالِ الحميدة. يقال: حَمدتُ فُلاناً على ما أسْدَى إلَيَّ مِن النِّعمةِ، وحَمَدْتُه على عِلْمِه وشَجاعتِه، والشُّكْرُ لا يكونُ إلا على النِّعْمةِ؛ فالحمدُ أعَمُّ مِن الشُّكر إذ لا يُقال: شَكَرْتُ فُلاناً على عِلْمِه؛ فكلُّ حامِدٍ شاكرٌ، وليس كل شاكِرٍ حامِداً. وقيل: الحمدُ باللسان قولاً، والشُّكرُ بالأرْكان فِعلاً قال الله تعالى: (وقُلِ الحمدُ لله الذي لم يَتَّخِذْ وَلَداً)[3] ، وقال: (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً)[4]".[5]
وقد مالَ بعضُ عُلماء التفسيرِ إلى أنَّ الحمدَ أعَمُّ مِن الشُّكرِ، فقد قرَّرَه النسفي والراغبُ الأصفهاني في (مُفرَداته) وابنُ الجوزي في (زاد المسير). وهو كلامُ المحقِّقين مِن أهلِ اللغة، كما أفادَه العلامة ابنُ فارس[6] والجوهري بأنَّ (الحمد) "خلاف الذَّم"،[7] و(الشُّكْر): "الثناءُ على الإنسانِ بِمَعرُوفٍ يُولِيكَه".[8]
ولم يُفَرِّقْ بعضُ أهلِ التفسيرِ: كالطبري وبعضُ أهلِ اللغةِ كالمبرِّد بين الحمدِ والشُّكرِ، قال القرطبي رحمه الله: "ذهبَ أبو جعفر الطبري وأبو العباس المبرد إلى أنَّ (الحمدَ) و(الشُّكْر) بِمَعنًى واحِدٍ سواء؛ وليس بِمَرْضِي، وحكاه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب الحقائق له عن جعفر الصادق وابن عطاء، قال ابن عطاء: معناه: الشُّكر لله؛ إذْ كان منه الامتِنانُ على تعليمِنا إياه؛ حتى حَمدناه. واستدلَّ الطبري على أنهما بمعنى؛ بِصِحةِ قولِك: (الحمد لله شُكرا)، قال ابنُ عطية: وهو في الحقيقةِ دلِيلٌ على خلافِ ما ذهبَ إليه؛ لأنَّ قولَك (شُكراً) إنما خَصَصتَ به الحمدَ؛ لأنه على نِعمةٍ من النعم، وقال بعضُ العلماء: إنَّ الشُّكرَ أعَمُّ مِن الحمد؛ لأنه باللسانِ وبالجوارحِ والقلب، والحمد إنما يكون باللسانِ فقط. وقيل: الحمد أعَمُّ؛ لأنَّ فيه معنَى الشُّكرِ ومعنَى المدح، وهو أعَمُّ مِن الشُّكر؛ لأنَّ الحمدَ يُوضَع مَوضعَ الشُّكرِ، ولا يُوضَعُ الشُّكرُ مَوضِعَ الحمد".[9]
وقال ابن كثير رحمه الله: "هذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر؛ لأنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخِّرين: أنَّ الحمدَ هو الثناءُ بالقولِ على المحمودِ بصفاته اللازمة والمتعدية، والشكر لا يكون إلا على المتعدية، ويكون بالجنانِ واللسانِ والأركانِ كما قال الشاعر(/1)
ولكنهم اختلفوا: أيُّهما أعَمُّ: الحمدُ أو الشُّكرُ؟ على قولين. والتحقيق أنَّ بينهما عموماً وخصوصاً، فالحمد أعَمُّ من الشكرِ من حيث ما يقعان عليه؛ لأنه يكون على الصفاتِ اللازمة والمتعدية، تقول: حمدته لفروسيته، وحمدته لكرمه، وهو أخص؛ لأنه لا يكون إلا بالقولِ. والشُّكرُ أعَمُّ مِن حيث ما يقعان عليه؛ لأنه يكون بالقولِ والفعلِ والنيةِ كما تقدم، وهو أخَصُّ لأنه لا يكون إلا على الصِّفاتِ المتعدِّية، لا يُقال: شَكَرْتُه لِفُرُوسِيتِه، وتقول: شكرتُه على كَرَمِه وإحْسانِه إلَيَّ".[10]
وشَواهِدُ مَجيءِ (الشُّكرِ) في مُقابلةِ المعروفِ كثيرةٌ، منها: قولُهُ تعالى: (وإذْ تأذَّنَ ربُّكم لئنْ شَكَرْتُم لأزِيدنَّكم)،[11] وقولُ سليمان صلى الله عليه وسلم: (هذا مِن فَضلِ ربِّي لِيَبلُوَني أأشْكُرُ أم أكْفُر).[12] وأما شاهِدُ مَجيءِ (الحمدِ) على معنى الجزاء، فقولُه تعالى: (ويُحِبُّون أنْ يُحْمَدُوا بِما لم يَفعَلُوا).[13]
والراجحُ أنَّ الحمدَ أعَمُّ من الشكر؛ فالحمدُ والشُّكرُ يَشتَرِكان في مَعنَى الثناءِ على الله؛ وإنْ كان الحمدُ يَشمَلُ الشُّكرَ على النِّعَمِ والثناءَ الحسنَ على الله بما هو أهلُه.
وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهم أنَّ عبداً مِن عِبادِ الله قال: (يا ربِّ لك الحمدُ كما ينبغي لِجلالِ وَجهِك وعظيمِ سُلطانِك؛ فعَضَلَت بالملكين؛[14] فلم يدريا كيف يكتبانها؟ فصعدا إلى يا ربنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها؟ قال الله عز وجل وهو أعلم بما قال عبده: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا رب إنه قد قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وَجهِك وعظيمِ سُلطانِك! فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي؛ حتى يلقاني فأجزيه بها).[15]
وروى وائلُ بن حجر رضي الله عنه قال: (صَلَّيْتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجلٌ: الحمدُ لله حَمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه، فلما صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَن ذا الذي قال هذا؟ قال الرجل: أنا وما أردت إلا الخير فقال: لقد فُتِحَتْ لها أبواب السماء فما نَهْنَهَها شيءٌ دون العرش).[16]
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسولِ الله، وعلى آلِه وصَحبِه ومَن والاه.
----------
[1] صحيح ابن حبان 3/143، حديث 861.
[2] الجامع لأحكام القرآن 1/133.
[3] الإسراء 11.
[4] سبأ 123.
[5] معالم التنزيل للبغوي 1/52.
[6] المرجع السابق 3/207.
[7] معجم مقاييس اللغة 2/100.
[8] تفسير القرآن 1/24.
[9] الجامع لأحكام القرآن 1/133-134.
[10] تفسير القرآن 1/24.
[11] إبراهيم 7.
[12] النمل 40.
[13] آل عمران 188.
[14] قال القرطبي: "قال أهل اللغة: أعْضَلَ الأمرُ: اشتدَّ واستغلق، والمعضلات بتشديد الضاد الشدائد، وعضلت المرأة والشاة إذا نشب ولدها فلم يسهل مخرجه بتشديد الضاد أيضا فعلى هذا يكون أعضلت الملكين أو عضلت الملكين بغير باء والله أعلم". الجامع لأحكام القرآن 1/132.
[15] سنن ابن ماجه 2/1249، حديث 3801.
[16] سنن ابن ماجه 2/1249، حديث 3802.(/2)
الحملات الصليبية
جاك ريسلر
ليس في الإمكان الكلام على الحضارة العربية دون الحملات الصليبية وأثرها في المرحلة التي وقعت فيها.
أسبابها منذ أكثر من 400 سنة, كانت المسيحية تتراجع أمام الإسلام الذي كان يتقدم بقوة في آسيا وإفريقيا، في صقلية وإسبانيا.
ومن النّافل القول إنَّ المشروع الهائل للحملات الصليبية كان في المقام الأول ردَّ أوروبا المسيحية على آسيا الإسلامية، حيث كان ضريح المسيح.
ومنذ عدة قرون، كان الحج إلى الأماكن المقدسة يمثّل في نظر نصارى العصر الوسيط قيمةً رفيعة.
كان ميشليه يختصر تلك القيمة بقوله: "طوبى لمن يعود! والأكثر طوباوية هو الذي كان يمكنه القول، وفق عبارةٍ جريئة لشخصٍ معاصر: "أيها الربّ لقد متّ لأجلي، وأنا أموت لأجلك".
زدّ على ذلك أن الحجاج كانوا يذهبون إلى الحج جماعاتٍ، جماعات.
إن تدمير خليفة فاطمي، سنة 1009, لكنيسة الضريح الأقدس، يبدو السبب الحاسم للحملات الصليبية.
في الواقع, من المفيد التذكير بأن النصارى, حتى في المرحلة التي كان العرب يستقبلون فيها الحجيج احسن استقبال ـ وهذه كانت قاعدتهم بوجهٍ عام ـ إنما كانوا يستاؤون لمجرَّد كون الأماكن المقدسة في أيدي الكافرين.
بيد أنَّ فكرة الحملات الصليبية ربما لم تفرض نفسها بشكلٍ حاسم، لو لم يكن هناك أسابٌ أعمق، سياسية ودينية، وحتى دنيوية بالذات.
ومهما يكن الأمر, فإن الإسلام الذي لم يعد يشكّل أي خطر منذ تفككه, عاد إلى الواجهة مجدداً وصار فجأة يمثّل خطراً على البلاد المسيحية, اعتباراً من القرن الحادي عشر, بعدما قام الأتراك بتجميع المسلمين حول الإسلام.
وكان يبدو أن الجهاد قد استؤنف في كل مكان تقريباً.
ففي المشرق، استولى السلجوقيون على بيت المقدس سنة 1078, وعلى انطاكية سنة 1085.
وفي أسبانيا، أحرز المرابطون سنة 1086 انتصار الزلاَّقة على الجيش المسيحي.
كما أن الأمبراطور اليوناني ألكسيس عندما رأى من القسطنطينية سنة 1093 خيام جند سليمان المعسكرين على شاطئ البوسفور المقابل, بادر إلى إرسال وفود إلى مجمع بليزانس (Plaisance), للمطالبة بدعم المسيحيين الغربيين لمواجهة الأتراك.
ورأت البلاد المسيحية أن الوقت قد آن للتخلص من ذلك الوضع.
ولربّما رأى البابا في ذلك الأمر فرصةً سانحةً لإعادة توحيد الكنيستين اليونانية (الرومية الأرثوذكسية) والرومانية، المنفصلتين منذ 40 سنة.
ومن الممكن أن يكون قد رأى في الحملات الصليبية وسيلةً لوقف حروب العصابات المتواصلة التي كانت تقسم الأمراء الإقطاعيين.
وذلك من خلال توجيه حماسهم الحربي نحو عمل ديني؟ كان أوربان الثاني يقول: "لا تكاد الأرض التي تسكنونها توفر الغذاء الكافي لأولئك الذين يزرعونها، ولهذا فإنكم تتذابحون.
اسلكوا طريق الضريح الأقدس... وستكون ممالك آسيا من نصيبكم".
من الواضح تماماً أن فرسان العصر الوسيط الأجلاف لم يكونوا مدفوعين فقط بدوافع روحية.
فالانتصارات التي كان النورمانديون قد أحرزوها سنة1091 على العرب في صقلية، كانت قد حضَّت المسيحيين على العمل.
وكان هناك دوافع اخرى لا تقلُّ أهمية عن ذلك.
فإذا كان بعض الأمراء الإقطاعيين لا يزالون يبحثون عن مغامرة مجيدة ومُفيدة، فإن الناس المساكين رأوا فيها دواءً لبؤسهم أكثر مما رأوها تضحية.
ومع ذلك لا يستطيع أحدٌ الإنكار أنَّ الدافع الأكبر للحملات الصليبية كان بوجهٍ عام التقوى الصادقة, وأنَّ الحافز الأساسي كان "تحرير قبر المسيح".
توالت تسع حملات صليبية على فتراتٍ متقطعة ما بين 1096 و1291.
وإنّ تجمّع ذلك العدد الغفير من الصليبيين ـ الذين قُدّر عددهم بحوالي 700000 ـ والدلالة التي يرتديها العدد الضئيل نسبياً للمسلمين الذين ساهموا فيها, والدروب التي سلكتها الأرهاط والجماعات المتداخلة، وما كانوا يعانون من آلامِ وتعاسات على تلك الدروب, لا مجال لإعادة رسمها هنا.
فالصراع يتضّمن في خطوطه العريضة مرحلة غزوات الصليبين التي دامت 50 سنة أيضاً.
والمرحلة الثالثة التي تشمل القرن الثالث عشر, تكوَّنت من تعاقبات النصر والهزيمة لكل من الفريقين المتحاربين, وانتهت أخيراً بطرد الصليبين الذين اضطروا للجلاء نهائياً عن الأرض المقدسة.
ـــــــــــــــــــ
المصدر : الحضارة العربية(/1)
(الحملة الصليبية الأولى)
إن الحقد النصراني على الإسلام والمسلمين والذي امتد عدة قرون بسبب الانتصارات على النصرانية وانتزاع أجزاء واسعة من أملاك النصرانية في بلاد الشام وشمالي إفريقية، وقد كان هذا الحقد مع كل انتصار جديد يحققه الإسلام. ولما كانت النصرانية وأبناؤها عاجزة عن القيام بردّ فعل لذا فقد انتظرت حتى تمر موجة الفتوة الإسلامية ولكن زاد انتظارها وطالت مدة هذا المد الإسلامي فعندما بدأ الضعف يظهر على المسلمين أرادت النصرانية أن تقوم برد الفعل السريع وشجعها على ذلك الخوف من عودة القوة المسلمين بعد الانتصارات التي أحرزها السلاجقة عام 463 هـ في معركة ملاذكرت بقيادة ألب أرسلان، والانتصار في معركة الزلاقة في الأندلس عام 479 هـ بقيادة يوسف بن تاشفين، والانتصارات التي تلتها، فخافت النصرانية من عودة الروح من جديد لتدب في العالم الإسلامي الذي توسع باستمرار وتدخل الإسلام مجموعات محاربة جديدة مثل السلاجقة والمرابطين، وخاصة بعد تدفق السلاجقة في آسيا الصغرى.
وشجعها دخول عناصر بربرية محاربة في النصرانية وهي القبائل التي كانت تنتقل في أوروبا وهذا ما أدى إلى ظهور روح حربية جديدة تدعم النصرانية، ومن هذه المجموعات، المجموعةالجرمانية والمجرية، وإن دخول المجر في النصرانية قد جعل الشعوب النصرانية على اتصال بعضها مع بعض من الغرب إلى الشرق في آسيا الصغرى.
وشجعها بعض الانتصارات التي حصلت عليها الإمارات الإيطالية إذ تغلبت علىأمراء البحر المسلمين الذين كانوا يعيقون عمل السفن الإيطالية في البحر الأبيض المتوسط إن لم تستجب لمطالبهم، فكانت هذه الإمارات الإيطالية ترغب في نشر تجارتها في البحر المتوسط، وبانتصارها على البحارة المسلمين زاد في رغبتها بل في محاولة إظهار قوتها ومد نفوذها إذ غدت لها قوة في البحر المتوسط تستطيع أن تستفيد منها في نقل جنودها وتحرك سفنها في هذا البحر، ومن الانتصارات التي شجعتها أيضاً احتلال النورمانديين لجنوب إيطالية وجزيرة صقلية وطرد المسلمين منها عام 484 هـ.
وشجعها الضعف الذي حصل على دولة السلاجقة عقب موت السلطان ملكشاه عام 485 هـ فأحبت النصرانية أن تهتبل هذه الفرصة قبل العودة إلى القوة ثانية، وخاصة أن العبيديين الذي هزِموا أمام السلاجقة وتخلوا عن بيت المقدس عام 471 هـ، ورأوا زيادة قوة السلاجقة خصومهم في العقيدة أيضاً لذا قد استنجدوا ببعض أمراء أوروبا لدعهم ضد السلاجقة.
ولعل أهم الجوانب النصرانية التي دفعت بالموضوع هي النفوذ الذي حصل عليه البابا إيربان الثاني الذي اختير بابا لروما عام 481 هـ إذ أصبح السيد المطاع بين الشعوب النصرانية بل وبين الأمراء وهذا ما يجعله أهلاً لأن يستغل نفوذه لدى النصارى ويدعوهم للحرب الصليبية فدعا إلى اجتماع لرجال الدين عام 489 هـ في كليرمونت بفرنسا ودعا إلى الحرب الصليبية ونادى الأمراء بترك الخلافات القائمة بينهم، وقدّم لهم الصليب، وجعل مبرراً لهذه الحرب ما يقوم به السلاجقة من مضايقة للحجاج النصارى الذين يريدون بيت المقدس، وطلب أن يحتل النصارى بيت المقدس، وساهم بهذه الدعوة بطرس الناسك، وسار بجموع المتطوعين وسبق جيوش الأمراء النصارى النظامية، ولما كان هؤلاء المتطوعون يسيرون بلا نظام فقد سببوا الفوضى والدمار لكل المناطق التي مروا عليها حتى النصرانية منها وحتى شكا منهم إمبراطور القسطنطينية، وعندما وصلوا إلى بلاد المسلمين صبّوا جام غضبهم فأهلكوا الزرع والضرع، وأحرقوا الأخضر واليابس، وعاثوا في الأرض الفساد، وقتلوا ومثّلوا وانتهكوا من الحرمات ما شاء لهم هواهم أن يفعلوا ذلك، وتصدى لهم السلاجقة فالتقوا في نيقية فأفنوهم عن بكرة أبيهم عام 489. وكان إمبراطور القسطنطينية قد أراد أن يتقي شرهم فساعدهم إلى السير إلى آسيا الصغرى والتقدم إلى نيقية.
في هذه الأثناء كانت جيوش الأمراء النظامية تتحرك نحو القسطنطينية وقد أمر البابا أن تجتمع خارج أسوار القسطنطينية، ولم تكن هذه الجيوش أقل حقداً من الأولى وأقل فساداً ودماراً، كما لم يكن لها قائد واحد ينظمها ويصدر أوامره لها جميعاً، وإن كان لهاعدد من القواد أغلبهم من فرنسا، ولم يكن لهؤلاء القادة خطة واحدة، ولم يشترك ملوك أوروبا في هذه الحملة لأن ملوك نصارى الأندلس كانوا مشغولين بقتال المسلمين، ولأن ملك فرنسا فيليب الأول وملك ألمانيا هنري الرابع كانا مطرودين من رحمة الكنيسة. بلغ عدد المشتركين النصارى في هذه الحملة التي عرفت باسم الحملة الصليبية الأولى أكثر من مليون، غير أن عدد المقاتلين لم يزد على ثلاثمائة ألف والباقي إنما هم من المرافقين من الرجال والنساء.(/1)
وصلت هذه الحملة الصليبية إلى أبواب القسطنطينية وخاف إمبراطورها منهم فاتفق مع بعض القادة على أن يمدهم بالمؤن والذخيرة على أن لا يدخلوا المدينة وأن يردّوا عليه ما يستولون عليه من أملاكه، فاجتازوا البوسفور، ووصلوا إلى نيقية فحاصروها، ونقل أميرها قليج أرسلان مقره إلى قونية، واتفق مع الإمبراطور أن يدخل جنده نيقية دون القادمين من أوروبا وبهذا غضب الصليبيون لأن الإمبراطور بهذا التصرف لم يسمح لهم بنهب المدينة وبهذا يكون الإمبراطور البيزنطي قد دعم الصليبيين بكل قوته وسار معهم نحو نيقية، وحصل خلاف بين الصليبييين القادمين من أوروبا والبيزنطيين إذ وجد الإمبراطور أنه لا يستطيع التفاهم مع هؤلاء القادمين فانصرف لاسترداد آسيا الصغرى من السلاجقة فاتجه نحو الغرب ودخل إزمير وأفسوس وأخذهما من أمراء السلاجقة فيهما لانقطاعهم عن دولة السلاجقة، ولم يعد يدعم الصليبيين بل حرص أن يضم له ما أخذوه هم، فكان دعمه بقتال المسلمين بجهات ثانية ثم بعد مدة عادة لتقديم الدعم.
اختلف القادة الصليبيون بعضهم مع بعض، فاتجه بعضهم إلى الرها تلبية لدعوة أميرها فدخلها وأسس بها إمارة نصرانية لاتينية وكان يطمع بتأسيس دولة صليبية في أرمينيا وقد دعمه في الأمر الأرمن. وسار باقي القادة إلى أنطاكية فألقوا الحصار عليها ودخلوها عنوة عام 491 هـ بعد حصار دام سبعة أشهر وقتلوا من أهلها أكثر من عشرة آلاف، ومثلوا بالقتلى وبالناس، وفعلوا أبشع الجرائم، وولوا عليها أحدهم وقد استقبل النصارى من أهلها والأرمن الصليبيين بكل ترحاب، ثم اتجهوا بعدها نحو بيت المقدس، فسار لقتالهم "كربوقا" صاحب الموصل، وصاحب دمشق "دقاق"، وصاحب حمص "جناح الدولة" غير أن الصليبيين قد انتصروا عليهم ودخلوا معرة النعمان، ووصلوا إلى بيت المقدس ودخلوها عام 492 هـ فقتلوا من أهلها أكثر من سبعين ألفاً وخاضت خيولهم ببحر من الدماء، وانتخب غودفري ملكاً على بيت المقدس، وأخذ لقب حامي قبر المسيح. وكان العبيديون قد استغلوا تقدم الصليبيين من الشمال فتقدموا هم من الجنوب ودخلوا القدس وطردوا السلاجقة منها (قبل وصول الصليبيين إليها) وجرت مفاوضات بين الأفضل بن بدر الجالي الوزير العبيدي وبين الصليبيين على أن يكون شمال بلاد الشام للصليبيين وجنوبيها للعبيديين ثم نقض الصليبيون العهد عندما شعروا بالنصر.
لقد فقدت هذه الحملة أكثر مقاتليها، فقد جاءت بثلاثمائة ألف مقاتل، ودخلت إلى القدس بأربعين ألف مقاتل فقط، ومهما بالغنا بعدد المقاتلين الصليبيين الذين ساروا إلى الرها فإن عددهم لا يزيد على أربعين ألفاً، وبذا يكون عدد من بقي من الصليبيين الذين جاءوا في الحملة الأولى ما يقرب من ثمانين ألفاً، ويكون قد فقدوا مائتين وعشرين ألفاً، قتِلوا في المعارك، وقتِلوا على أيدي الناس الذين كانوا يثورون على تصرف هؤلاء القادمين، يثورون على كره، ورغم خوفهم الشديد، ورغم معرفتهم بمصيرهم، يثورون لأن تصرّف الصليبيين كان على درجة من السوء والوقاحة والقباحة ما يثير أية نفس مهما بلغ بها الذل والخوف.
وبسيطرة الصليبيين على بيت المقدس ارتفعت معنويات سكان الإمارات الإيطالية فبدأت سفنهم تجوب أطراف البحر المتوسط وتقدم المساعدات والدعم للصليبيين، فاستطاعوا أن يأخذوا حيفا وقيسارية عام 494 هـ، وأخذوا عكا عام 497 هـ، وأخذوا طرابلس عام 503 بعد حصار سنتين، كما أخذوا جبلة في العام نفسه، ثم أخذوا صيدا عام 504. وطلب المسلمون هدنة فرفض ذلك الصليبيون ثم وافقوا مقابل مبالغ كبيرة يدفعها لهم المسلمون، وبعد أن استلموا الأموال غدروا بالمسلمين وذلك عام 504 هـ. وحاصر الصليبيون مدينة صور عام 505، وكانت بيد العبيديين فأمدهم بالمؤن والمساعدات طغتكين صاحب دمشق فامتنعت صور عن الصليبيين.
أما من جهة الداخل فقد جاء الصليبيون من جهة الجنوب فالتقى بهم صاحب دمشق "أمين الدولة" وهزمهم ولاحق فلولهم الذين وصل بعضهم إلى ملاطية وقد استطاع أن يدخلها وأن يتملكها وذلك عام 493.
وهاجم الصليبيون دمشق من جهة الشمال عام 497 ولكنهم هزِموا وأسِر أمير الرها الصليبي، غير أنهم استطاعوا في العام نفسه أن يدخلوا حصن أفاميا.
لقد دعم العبيديون الصليبيين في أول أمر، ووجدوا فيهم حلفاء طبيعيين ضد السلاجقة خصومهم، وقد ذكرنا أنهم اتفقوا معهم على أن يحكم الصليبيون شمالي بلاد الشام ويحكم العبيديون جنوبيها، وقد دخلوا بيت المقدس، غير أن الصليبيين عندما أحسوا بشيء من النصر تابعوا تقدمهم واصطدموا بالعبيديين وبدأت الخلافات بينهم، فالعبيديون قد قاتلوا الصليبيين دفاعاً عن مناطقهم وخوفاً على أنفسهم ولم يقاتلوا دفاعاً عن الإسلام وحماية لأبنائه، ولو استمر الصليبيون في اتفاقهم مع العبيديين لكان من الممكن أن يتقاسموا وإياهم ديار الإسلام.(/2)
لقد استقبل سكان البلاد من النصارى والأرمن الصليبيين استقبالاً حاراً ورحبوا بهم ترحيباً كبيراً، وقد ظهر هذا في أثناء دخولهم أنطاكية وبيت المقدس، كما قد دعموهم في أثناء وجودهم أيام وجودهم في البلاد وقدّموا لهم كل المساعدات، وقاتلوا المسلمين، وكانوا عيوناً عليهم للصليبيين.
وتشكلت أربع إمارات صليبية في بلاد الشام وهي:
إمارة في الرها – إمارة في طرابلس – إمارة بيت المقدس – إمارة أنطاكية.
لم يجد الصليبيون الأمن والاستقرار في بلاد الشام في المناطق التي سيطروا عليها وشكلوا فيها إمارات رغم انتصارهم، إذ كان السكان المسلمون ينالون منهم كلما سنحت لهم الفرصة، كما يغير عليهم الحكام المسلمون في سبيل إخراجهم من البلاد، ودفاعاً عن عقائدهم ومقدساتهم التي كان الصليبيون ينتهكونها.
________________________________________
المصدر: التاريخ الإسلام، محمود شاكر، جزء 6، ص 252-257(/3)
الحنين إلى الأقصى *
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
حَنينٌ إِلى الأَقْصَى ، إلى كُلِّ رَبْوَةٍ ... ... عَليْها مِنَ الإِسْلام آيٌ وخَاتَمُ
حَنينٌ إِلى أرْضِ النُبوَّاتِ أشرَقَتْ ... ... بأَحْمَدَ سَاحَاتٌ لَهَا وَ مَعَالِمُ
تُجَلِّلُهَا الأَنْوَار في كُلِّ رَبْوَةٍ ... ... ويَغْمُرُهَا خَيْرٌ مِنَ الله دائمُ
جَلالٌ مِنَ الوَحْي الكريم وعزَّةٌ ... ... من الحَقِّ تُجلى مِنْ سَنَاهُ المكارِمُ
وَنَشْرٌ مِن الإِيمان في كلِّ رَوضَةٍ ... ... تَهُبُّ بِهِ رِيحٌ وتغْفُو نسَائِمُ
كَأَنَّ الفُتُوح الحَالياتِ لآلئٌ ... ... تَزَيَّنَ مِنْها جِيدُها و المَعَاصِمُ
يَصُوغُ لَهَا الإِيِمان حِيناً قلائداً ... ... ويُلقي عَلَيْها مِنْهُ مَا هُو ناظِمُ
ويَنْثُرُ حِيناً عَبْقريَّ جواهِرٍ ... ... فتزهو رَوابٍ عِنْدها وَمَحَارِمُ
* ... * ... *
حَنَيَنٌ أَصُبُّ الدَّمْعَ منَه وَقَدْ بَدَتْ ... ... فَواجِعٌ دَوَّتْ بَيْنَها والهزَائمُ
بَكَيْتُ لأَنِّي قد رَأيْتُ ذَوي الحجَا ... ... يكادُ الهَوَى يهوي بِهِم وَيُدَاهِمُ
أَضَرَّ بِهمْ حُبُّ الحَياةِ و أَفسَدَتْ ... ... مَنَاهجَهُمْ أهواؤهم والتخاصُمُ
بَكَيْتُ لأَنِّي قَدْ رَأيْتُ وَلاَءنا ... ... تَداوَلهُ أَعْدَاؤُنا و السَّوَائِمُ
فهذا مَعَ " الشَّرْقِ " الذي هُو كَافِرٌ ... ... وهذا مَعَ " الغَرْبِ " الذي هو ظَالمُ
وَهَذا مَعَ الأهْوَاءِ في كُلِّ محْفلٍ ... ... يُدَاري " زَعِيماً " أو يُدَارِيِه حَاكِمُ
ولا يَصْدُقُ النُّصْحَ الكريمَ مُنافقٌ ... ... ذِئابٌ تُعوِّي أَو تَفُحُّ الأَراقِمُ (1)
فهذا يُمَارِي في جلاء قضيَّةٍ ... ... وهذا عَلى حَقِّ الإِلهِ يُسَاوِمُ
بَكَيتُ ! وَيَا هَوْلَ البَلاءِ ! أمَامَنا ... ... إِذا مَا غَفَوْنا أسْوَدُ اللَّيْلِ فَاحِمُ
فَحَقَّ لِمِثْلي أَن يَصُبَّ دُمُوعَهُ ... ... وحَقَّ لأَهل الخافِقَين التَّلاوُمُ
حنَانَكِ يا أَرْضَ الحجَارةِ إِنَّه ... ... حنيْنُ اللَّيَالي لمْ تَرُعْها الهَزَائِمُ
* ... * ... *
ويا شَجَرَ الزَّيتُونِ أَينَ اخضراره ؟ ! ... ... ويا غَرْسَةَ اللَّيْمُون أَين البَراعِمُ ؟ !
وَيَا نَفَحَاتِ البُرتُقالِ ! إِذا سَرَتْ ... ... تحَدَّثَ تَارِيخٌ ودَارَتْ مَلاحَمُ
وَيَا زَهْرَةَ اللّوزِ التي كان عِندَها ... ... صباي فكمْ حَنَّتْ إِلَيْكِ الحَمَائِمُ ؟ !
ويَا شَجَرَ العنَّاب ! مِلءُ عُروقِه ... ... دَمٌ سَكَبْتهُ في البطاح اللَّهاذِمُ (2)
وَنَادَيْتُ أَيْنَ الرَّوضُ والورْدُ والشَّذَا ... ... فَهبَّ مِنَ الأنجاد لاحٍ ولائِمُ
تلفَّت زيتونٌ ومالَتْ غَرائسٌ ... ... وأقْبَلَ من كُلِّ البِطاحِ سَواهِمُ
وقالوا ترَكْنا كُلَّ عطْر وخُضْرةٍ ... ... وجفّتْ يَنَابيعٌ وجَفَّتْ بَرَاعِمُ
تَرَكْناهُ حتى يَسْتعيد رواءَه ... ... شهيدٌ وتُروى مِنْ دِمَاهُ الرَّمَائِمُ (3)
وتنزلَ للمَيْدانِ أُمّةُ أَحْمَدٍ ... ... لهَا في الوَغَى عَهْدٌ مَعَ الله لازِمُ
* ... * ... *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جزء من كتاب " ملحمة فلسطين " للمؤلف .
(1) الأَرَقِم : جمع أرقم وهي نوع من الحيات وهي أخبثها .
(2) اللهاذم : جمع لهذم وهو القاطع من الألسنة .
(3) الرمائم : جمع رميمة وهي البالية من العظام . وهي إشارة إلى أنه تكثر الدماء حتى ترتوي العظام البالية في القبور .(/1)
الحوادث المروريه
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما . أما بعد ،،، فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار . معاشر المسلمين : النفس والمال هما ركيزتا حفظ الدين ، ودعامتا نشره والدعوة إليه ، والدفاع عنه ، تكاتفت نصوص الكتاب والسنة على ذلك ، ونصت عليه ، في مواضع كثيرة ، كما جاءت النصوص دوما تحث ، وتثني على المؤمنين الذين تاجروا بأموالهم وأنفسهم مع الله تعالى . وذاكرة عظم الثواب فيه ، كما في قوله جل وعلا : يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ، تؤمنون بالله ورسوله ، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . وقولِه جل وعلا : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن . وقولِه عز وجل : الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون . وآيات أخر ، يطول ذكرها ، ويصعب حصرها . ومن الأحاديث ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بناقة مخطومة فقال : يا رسول الله ، هذه في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لك بها يوم القيامة سبعمئة ناقة كلها مخطومة . وأحاديث أخر يطول مقام التنويه بها ، أو الإشارة إليها . والمقصود بيان أهميةِ النفس المسلمة ، وكذلك أهميةِ المال في الذود عن حياض الدين ، ونشره وتعليمه ، والدعوة إليه ، ولهذا جاءت الشرائع السماوية كلها تحفظ دين المرء ونفسَه ، ومالَه ، حتى إن نبينا صلى الله عليه وسلم قال : من قتل دون ماله فهو شهيد ، أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما . فجعل الشهادة ثوابا للقتل دفاعا عن المال ، وفي خطبته الشهيرة قال عليه الصلاة والسلام : إن دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ، عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ، ألا هل بلغت ، اللهم فاشهد . أيها الأحبة : إذا ثبت للعاقل المتدين أهمية نفسه ، وماله ، وأنه مطالب شرعا بالحفاظ عليهما ، بل لو مات دون ماله كتبت له الشهادة ، كما ثبت أن إحياء النفس البشرية الواحدة يعدل إحياء جميع بني آدم ، وقتلَها بغير وجه حق يعدل قتل كل الخلق من البشر ، كما في قوله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا . إذا ثبت هذا فانظر يا رعاك الله كيف يستهتر المسلم بنفسه ، وبأنفس يحرم إزهاقها ، وكيف يتلف ماله ، ومال غيره مما يحرم عليه إتلافه ، يهلك نفسه ، ويتلف ماله لا يقيم لذلك وزنا ، ولا يرى أنه قد ارتكب إثما ، أو فعل جرما ! نعم ، يقتل نفسه بنعمة الله ، ويتلف ماله الذي كان من المفترض أن ينفقه في سبيل الله ، أو يسعى به على أهله وولده ، أو في أي طريق يرضي الله . أيها المسلمون : إننا إذ نتحدث عن قتل الأنفس الحرام ، وإتلاف المال بغير حق ، فإنا نعني فئة تقتل الناس في الصبح وفي المساء دون مبالاة ، وباستهتار بالغ ، حتى إن معظم قتلاهم في وضح النهار ، أمام أعين الناس وسمعهم ، ففي سنة واحدة كان مجموع قتلاهم قد تجاوز أربعة آلاف قتيل . وأصيب أكثر من ثلاثين ألف شخص ، بين رجل وامرأة وطفل . وتعظم المصيبة حين تعلم أخي المسلم أن معظم القتلى والجرحى هم من الشباب ، ممن تقل أعمارهم عن الثلاثين عاما . سلاحهم نعمة من نعم الله تعالى ، لكن أساء استخدامها نفر غير قليل من الناس فصارت أداة تقتل ، وتعيق ، وتتلف ، فكم رملت من امرأة ، وكم يتمت من طفل ؟ بل كم أخذت في أحيان كثيرة أسرا بأكملها ، فلم تبق منهم من يمكن أن يرثهم أو يستغفر لهم أو يذكرهم . أيها المسلمون : السيارات ، ذلك المصنوع العجيب ، صنع ليسهل للناس معاشهم ، وتنقلاتهم ، ويقصر المسافات بينهم ، ويحمل أثقالهم ، ولكن سوء استخدامها عند كثيرين ممن لا يقيمون لحياة الناس وزنا ، ولا لأموالهم قيمة جعلتها شبحا مخيفا ، طالما حملت أخبار حوادثه التعاسة لأناس آمنين . سلوا(/1)
المستشفيات عن المعاقين فيها ، وسلوا المصابين ممن فقدوا أطرافهم أو بعضها ، وممن شلت حركتهم أو بعضها ، ممن فقدوا أبناءهم ، أو آباءهم ، أو إخوانهم ، وفي أحيان كثيرة أسرهم . في لحظة تهور ، أو تحد أو استهتار ، أزهقت فيها نفوس ، وأتلفت فيها أموال ، ولا تذهبوا بعيدا فدونكم آثارها فانظروا إليها ، فما كان بينها وبين الهلاك إلا ثوان ، فاعتبروا يا أولي الأبصار . ففي العام قبل الماضي كانت حوادث المرور قريبا من مئتين واثنين وستين ألف حادث ، نسبة الوفاة فيها ست عشرة وفاة لكل ألف حادث !!! أي إن إنسانا يقتل كل ساعتين بسبب الحوادث . فحوادث السيارات أكثر أسباب الوفيات في بلادنا الحبيبة . ولا يشمل ذلك من يتوفى في المستشفيات بعد نقلهم إليها . ففاقت نسبة قتلى الحوادث كل سبب آخر ، كالسرطان وأمراض القلب . أيها المسلمون : قتل النفس بغير حق جريمة عظمى ، ويزداد عظمها إذا أضيف إليها أن هذه النفس ربما كانت عائلا وحيدا لأسرتها ، وربما كانت ثمرة فؤاد لأهلها ، وربما كانت أما حانية ترفرف بظلال الحب على بيتها ، أو أبا يرفرف بعطفه على أنجاله ، ويحمل لهم الرزق والأمان . وربما كانت داعية للهدى تنشر الخير وتعين عليه ، وربما كانت عالما من علماء المسلمين ، أو أحد الأئمة المتقين ، تزهق روحه ، أو يبتر عضو من أعضائه ، أو تشل حركته ، فيبقى طريح الفراش سنين عددا ، لا حي فيرجى ، ولا ميت فينعى . أضف إلى هذا ما يواكب تلك الحوادث من خسائر مادية ، تنوء بحملها كواهل الأسر والدولة ، وشركات التأمين ، في صور تعويضات ، وديات تدفع ، وأموال تنفق على الجرحى والمصابين ، ولكم أن تتصوروا حجم الخسارة ماديا إذا علمتم أن الدولة تخسر واحدا وعشرين مليار ريال سنويا ! بمعدل ستين مليون ريال يوميا ، ولك أن تقول ثلاثة ملايين ونصف المليون في كل ساعة . أيها المسلمون : إن الحفاظ على ثروة الأمة من أبنائها واجب شرعي ، جاءت كل شرائع السماء لتقرره ، وتدعو إليه . ولا يقل عنه أهمية الحفاظ على ثرواتها المادية التي تهدر في حوادث كان من الممكن تلافيها ، أو التقليل منها . وعلى هذا فإن من الواجب أن تنظر المسألة بعين الشريعة ، حيث إن الكثير من الناس ينظر إليها بعين النظام ، ومن هنا يستهين به ، ولا يأبه له ، فتراه مخالفا لأنظمته ، غير مراع لقوانينه ، ظنا منه أنه إنما يخالف نظاما لا ثواب فيه ولا عقاب عليه عند رب العالمين ، وهذا من الجهل بشريعة الإسلام ، ومن مناقضة ما يدين الله به كل مسلم ، في أن الإسلام دين ودولة ، فهو لم يترك دنيا الناس بلا تنظيم أو تشريع ، فجعل لها ما يسمى بالمصالح المرسلة ، وبما يدخل ضمن قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . ولما كان ذلك من هذا القبيل صارت مخالفته مخالفة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم . كما إن من القواعد الشرعية المرعية : أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . ولا يمكن الحفاظ على أرواح الناس ، وأموالهم إلا بنظام يسيرون عليه ، يؤمن الحياة ، ويحفظ الأموال . ولهذا فإن التقيد بأنظمة المرور شرع ، يدان به لله تعالى . وليس مجرد نظام من أمن عين الرقيب فيه ساغ له مخالفته ، فيقطع الإشارة فيصطدم بأسرة كان الطريق لها سالكا ، ومن أقل ما يمكن أن ينتج من مخالفته تلك ترويع المسلم ، إن لم يتجاوز ذلك إلى إتلاف سيارته ، وتعطيل مصالحه ، وربما موته أو أحد مرافقيه أو جميعهم . وربما كانت نتيجة ذلك إعاقة دائمة ، كشلل رباعي أو فقد بصر أو سمع أو طرف من الأطراف . وليس من الشرع أن يقود المرء سيارته قريبا من الطيران ، متجاوزا حدود المقرر نظاما ، ومتجاوزا أرتالا من السيارات ، منعطفا يمينا وشمالا ، كأن لا عقل له . ويوحي لمن رآه أنه استعجل لأمر ما ، وما هو بذلك . والغريب العجيب أن أكثر الناس لا يشعر بقيمة الوقت إلا حين يقود سيارته ، فيستطول ثواني أمام إشارة ، ودقائق في طريقه ، فينطلق كالصاروخ مسرعا ليصل ، وكم من مسرع ليصل ، ولكنه أبدا لم يصل ، بل سرعان ما نقل إلى مقبرة أو مستشفى ، ولات حين مناص . وقد قيل في المثل : أن تصل متأخرا خير من أن لا تصل أبدا . عباد الله : لقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نعطي الطريق حقها ، وأخبر أن إماطة الأذى عن الطريق إحدى شعب الإيمان ، فالله الله في الطريق ، فأعطوها حقها ، واتبعوا نظامها ، وسيروا حسب قوانينها طاعة لله ، في طاعة ولاة الأمر ، وطاعة لله في حفظ نفسك ونفوس إخوانك ، وطاعة لله في حفظ مالك وأموال إخوانك ، وطاعة لله في حفظ كنوز المسلمين البشرية والمالية لمواجهة العدو ، ونصرة دين الله ونشره والدعوة إليه . فخسارة الأنفس التي عليها قوام الأمم ، وبخلافة الأرض وعمارتها من أعظم المصائب ، حتى نعت في القرآن بالمصيبة ، كما قال جل وعلا : فأصابتكم مصيبة الموت . وإتلاف الأموال في حوادث المرور حجب لها من أن تنفق في أوجه الخير الأخرى ،(/2)
كعلاج المرضى ، وكفالة الأيتام ، وقضاء حاجة المعوزين . ولك أن تتخيل لو أنفقنا ثلاثة ملايين ونصف المليون ريال كل ساعة على المحتاجين ، كم سيبقى عندنا من محتاج ؟ لا أخال الأمر يحتاج إلى آلة حاسبة . فاتقوا الله عباد الله ، وحافظوا على أرواحكم ، وأرواح أبنائكم ، واحفظوا أموالكم ، وتوخوا الحذر فإن تقرير رجل المرور ، وشركة التأمين لن يغنيا عنك من الله شيئا إن كنت قتلته باستهتارك ، أو أعقته بعدم مبالاتك ، أو حرمته أحد أحبابه بسرعتك ، وليس في اعتبار القتل بالسيارة من قبيل القتل الخطأ تأثير في الواقع إذا كان غير ذلك ، فقد يرقى إلى قتل العمد إذا كان مخالفا صريحا للنظام ، كما جاء في فتوى هيئة كبار العلماء . فلا يحل للمسلم أن يعرض نفسه أو غيره للخطر ، أو يعرض ماله للتلف والهلاك ، فإن هذا خلاف لما جاءت الشريعة الغراء بالمحافظة عليه ، ويترتب على فعله من المصائب ما سمعتم جزءا يسيرا منها ، نسأل الله أن يسبغ علينا نعمته ، ويديم علينا عافيته . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ، ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما .(/3)
الحوار الوطني والرؤى الإسلامية
د . علي بن عمر بادحدح
مفكر إسلامي وأكاديمي بجامعة الملك عبد العزيز بجدة
والمشرف العام على موقع إسلاميات
الحديث عن الحوار الوطني في المملكة العربية السعودية أصبح قضية إعلامية تتناولها الصحافة والإذاعة ومحطات التلفزيون، بل صار قضية اجتماعية تتداولها الديوانيات واللقاءات الاجتماعية، ويدور حولها الجدل في ساحات المواقع الإلكترونية، وهذا كله لم يكن - قبل مدة يسيرة - شيئاً مذكوراً، وهذه مشاركة تتناول القضية في منطلقاتها الأولية، وممارساتها العملية، وآفاقها المستقبلية، والأكثر أهمية تتناول إلى ذلك رؤية ومواقف التيار إسلامي من الحوار الوطني .
أولاً: بداية انطلاق مسيرة الحوار
لم يكن في المملكة تداول نظري ولا واقع عملي للحوار، ومع التغيرات العالمية والإقليمية بعد أحداث سبتمبر طرأت على الساحة السياسية والإعلامية قضايا ومفردات لم تكن متداولة، حيث طرحت قضايا المجتمع المدني ومؤسساته، والإصلاح السياسي وأطروحاته، والانفتاح الإعلامي وتداعياته، ومحاربة الإرهاب ومتطلباته، وكانت قضية الحوار إحدى آثار تلك المستجدات .
بدأت قضية الحوار بعد الإعلان عنه في شهر ربيع الثاني 1424هـ بعد أن رفعت مطالب عديدة إلى المسؤولين، ونشرت في شبكة الانترنت، وفي بعض وسائل الإعلام، وكانت أولها الورقة التي تقدم بها مجموعة من الإسلاميين والعلمانيين وتضمنت بعض المطالب الإصلاحية ، فلما نشرت عبر الانترنت حدد لهم موعدا للقاء بصاحب السمو الملكي ولي العهد ،وحصل ذلك بالفعل، ووعدهم بالاهتمام والمتابعة، وكان هذا في شعبان 1423هـ ثم أعقبتها بعد عدة أشهر ورقة تقدم بها جملة من الليبراليين المعروفين في البلد، وهي متضمنة لعدد من المطالب الإصلاحية ، ووقّع عليها عدد منهم، وجاءت بعد ذلك ورقة المطالب الشيعية التي وقع عليها قرابة 400 منهم يطالبون فيها بمطالب قوية وجزئية خاصة بهم ، كل هذا مع غيره أسهم في أن يتبلور تفاعل الدولة في تشكيل هيئة لرئاسة الحوار وتتبنى إقامته، وكانت الشخصيات المختارة ذات سمعة طيبة، ومكانة مرموقة وذات صبغة إسلامية معروفة، وهي التي كانت الداعي و الراعي الرسمي للحوار، وكان اللقاء الأول مقتصراً على مجموعة من الطيف الإسلامي، ومعهم من يصنفون على التيار الإسلامي الحكومي وثلاثة من الشيعة واثنان من الإسماعيلية، واثنان من أهل الحجاز، والأسماء المختارة والموضوعات كانت من قبل اللجنة ومن وراءها ولم يكن للمتحاورين علم مسبق بها، وتميز اللقاء الأول بمجموعة نقاط :
1- الصراحة والحرية في طرح الآراء .
2- سعة دائرة القضايا و الموضوعات المطروحة ؛ حيث اشتملت على قضايا سياسية واجتماعية ودينية .
3- قوة طرح التيار الإسلامي المعتدل وغلبة أطروحاته .
ثم عقد اللقاء الثاني بمكة المكرمة، وفيه مجموعة أكبر من الأولى منهم عشر نسوة . وقد تميز هذا اللقاء بدعوة كل ألوان الطيف الفكري والمذهبي، في تداخل واختلاط عجيب، وكانت الموضوعات في هذه المرة محددة سلفاً أيضاً ولكنه أُعلن عنها ،واستكتب فيها عدد من الباحثين، حيث كان للقاء عنوان رئيس ومحور أساسي هو [ الغلو و التطرف ] وكان قد صدر بين اللقاءين قرار بتسمية مركز للحوار الوطني وتعيين أمين عام له،ولم يكن اللقاء الثاني بمستوى الأول؛ لأن الأول لم يدع إليه أحد من العلمانيين، أما الثاني فقد دعي إليه جملة من رموزهم، وكان أداء المشاركين جميعا بمن فيهم الشيعة في هذا اللقاء أٌقل بالقياس إلى الأداء في اللقاء الأول؛ بسبب تنوع توجهات المشاركين وكثرتهم، ومن الجدير بالذكر أن حضور الإسلاميين المشاركين في جملته كان قوياً ،ومشاركتهم وتصديهم للأطروحات المختلفة كان واضحاً، ودورهم في التوصيات بارزاً، وإن كان الإعلام قد عمل على مساندة التوجهات الأخرى والعلمانية بالذات، وأظهر الصورة على غير حقيقتها ،هذا وقد خرج اللقاء بجملة من التوصيات ، ومنها عقد لقاء عن المرآة ،وهو ما تبناه اللقاء الثالث المزمع عقده في المدينة.
ومن الجدير بالذكر أن هناك وجهات نظر متباينة لدى المسئولين في السلطة العليا حول القبول بمبدأ الحوار ومخرجاته وآليته في صورة اللقاءات الموسعة المتميزة بصراحة النقاش وقوته غير المعهودة، والمتمثلة أيضاً في التوصيات الصادرة عنه، فهناك من يبدي اعتراضه وتشدده، ويحاول أن يروج لقناعته بين بعض الشخصيات والاتجاهات الإسلامية والمشايخ الرسميين، وهناك في المقابل الاتجاه الداعم للحوار والذي هيأ له الأسباب وأصبغ عليه السمات الرسمية.
ثانياً : الإسلاميون والحوار
الحوار والمشاركة فيه لا يمثل اكتشافاً جديداً، ولا يضيف لعلوم المسلمين ما ليس لهم به عهد فإن هذا الأمر ثابت مقرر في أدلة الشرع، وقضاياه المتنوعة، بل هو المبدأ الذي قامت عليه دعوات الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه ومن سار على نهجهم، ومن أمثلة ذلك :(/1)
1- الحوار بين الله وملائكته في شأن خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له .
2- الحوار بين الأنبياء وأقوامهم،كحوار نوح وهود وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وهو حوار دقيق هادف يتضح منه الحرص على بيان الحق لهم؛ ليهتدوا إلى الصراط المستقيم.
3- قوله تعالى :{ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل:125 ] ، وقوله : {ولا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ العنكبوت: 46].
4- محاورة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود ولنصارى نجران وغير ذلك .
5- وقد عقد العلماء والأئمة عبر مسيرة التاريخ محاورات ومناظرات عديدة مع أهل الكتاب والملاحدة والمبتدعة؛ لإقامة الحجة عليهم وهو أمر مشهور.
الإسلاميون في جملتهم يدعمون قضية الحوار من حيث المبدأ، باعتبار أنها تمثل مطلبًا طالما سعوا إليه وحرصوا عليه، وهذه فرصة أتيحت لهم فيجب أن يستثمروها ، ولكن هناك رأي مخالف لبعض شيوخ الصحوة وبعض العلماء الرسميين، الذين قاطعوا الحوار ولم يشاركوا فيه رغم توجيه الدعوات إلى بعضهم، ويمكن عرض وجهة النظر المعارضة للمشاركة في الحوار في النقاط التالية :
1- أن هذا الحوار سيستعمل لتمرير الخطط والمطالب الأمريكية المخالفة للصيغة الإسلامية للبلد،وستكون له الصبغة الإسلامية ظاهرا باستغلال أسماء الإسلاميين المشاركين فيه .
2- ترسيم المخالفات الشرعية والفساد الخلقي تحت مظلة الانفتاح والقبول بالرأي الآخر باسم الحوار.
3- إعطاء الشيعة والصوفية والعلمانيين مساحة أكبر، ووزناً أكبر، واعترافًا أشمل لا يمثل واقعهم من جهة، ولا يتناسب مع متطلبات الحفاظ على الصبغة السنية السلفية .
4- استخدام الحوار لإضعاف التدين والتقليل من شأنه
5- التقليل من مكانة أهل العلم و الدعوة ومرجعيتهم في الموضوعات و القضايا الشرعية، وفتح الباب لتناول مسائل وقضايا ذات صبغة تخصصية شرعية من قبل غير المتخصصين.
6- التمثيل للاتجاهات سبب لبروز الطائفية و المذهبية واعتبارها أساساً للمجتمع وتكريس هذه الطائفية بما يزيد الشقة و الخلاف.
ولا شك أن مبدأ الحوار ليس موضع رفض من هؤلاء وإنما المشاركة فيه بهذه الصيغة الموجودة هي موضع الاعتراض .
وأما وجهة نظر المؤيدين للمشاركة فتتلخص في :
1- الدفاع عن المكتسبات الإسلامية والسمات الدينية للبلد.
2- مزاحمة العلمانيين والطائفيين وعدم ترك ساحة الحوار لهم وحدهم .
3- بيان زيف الأطروحات والمشروعات المنحرفة والوقوف في وجهها .
4- إبراز رموز سياسة وإعلامية إسلامية من خلال المشاركة في الحوار.
5- إبراز عناية الدعاة بمصلحة العباد والبلاد من خلال المشاركة في الحوار.
6- كسب الدربة في مجال العمل السياسي والصراع الفكري الميداني ومجال العلاقات العامة .
7- استثمار النقاط المشتركة مع الآخرين للإفادة منها وتجسير الفجوة مع الاتجاهات الأخرى .
8- معرفة خطط وتوجهات غير الإسلاميين وصلاتهم الفكرية و العملية الخارجية لمواجهتها بما يناسب.
9- تفعيل المشاركة من قبل مختلف الفئات والقوى الفاعلة من خلال قناة توصل آراءهم ومعاناتهم للدولة.
10- الحوار عن متطلبات المرحلة وعن أصداء العولمة وهو صدى لبعض الضغوط الخارجية على المملكة ومن هنا يلزم التفاعل معه كمقتضى من مقتضيات الواقع ومستجداته.
وبالنظر إلى أدلة الفريقين، وما سلف ذكره قبل ذلك، يتضح رجحان المشاركة في الحوار، آخذين بعين الاعتبار أنه لا توجد مصلحة محضة في مثل هذه الأعمال، فلا بد من التسليم من وجود بعض الخسائر ولكن المعتبر في النظر المصلحة الأغلب المتوقع حصولها بإذن الله .
ثالثاً :ضوابط المشاركة في ملتقيات الحوار
ويمكن القول أن الاتجاه المؤيد للمشاركة لا ينظر للمشاركة في الحوار على أنها مسألة مرادة لذاتها بل لما يرجى منها من تحقيق المصالح ودفع المفاسد، ومن جهة أخرى فإن تأييد المشاركة لا يعني مطلق الإقرار و الموافقة على الترشيحات والآليات و التمثيل وغير ذلك من الواقع الذي عليه الحوار، ومن هنا فإن تيار التأييد لديه تحفظات على واقع الحوار وعنده تطلعات نحو صورته المطلوبة؛ ومن ثم فإن هناك ضوابط ومعالم للمشاركة في الحوار يمكن تلخيصها فيما يأتي :
1- الالتزام بالثوابت والقطعيات الشرعية وعدم التنازل عنها تحت مظلة الحوار وقبول الرأي الآخر.
2- الالتزام بأدب الحوار والحرص على التميز في الخطاب و القوة في الأداء و الجزالة في الطرح.
3- الإقرار بمبدأ الأخذ بالرخص والتيسير بضوابطه الشرعية، فيما يحقق المصلحة العامة ويدفع المفاسد الكبرى.
4- الاهتمام بالشأن العام وتغليب المصلحة العامة ،وربط الحوار بذلك بعيداً عن الفئوية والجزئية.
5- إن الحوار تجربة جديدة في البلد وهي مازالت تحت التقويم والمراجعة وهي إحدى وسائل المشاركة والتأثير وليست الخيار الوحيد.
رابعاً: آليات المشاركة الفعالة(/2)
الإسلاميون والدعاة يشعرون بأهمية أن تكون مشاركتهم أكثر جدوى وأعظم أثراً ولذا فإن هناك آليات وأفكار متداولة لتحقيق الأفضل والأمثل من الحوار، ومنها:
1- دراسة موضوع الحوار بشكل واسع وتحديد أهداف ومطالب واضحة للمشاركين فيه.
2- العمل على إشراك الإسلاميين الأقوياء فكرًا وشخصية وتجربة وشعبية.
3- التشاور مع الإسلاميين المرشحين للمشاركة الفاعلة وتقوية الطرح الإسلامي من خلال التعاون و التكافل.
4- العمل على معرفة المرشحين المشاركين من غير الإسلاميين،وخلفياتهم وتعريف الإسلاميين بذلك للاستفادة من ذلك في الحوار .
5- توثيق العلاقة مع المسؤولين عن الحوار، والعمل على التأثير عليهم في ترشيح المشاركين واختيار الموضوعات.
6- الاستعداد و التنسيق الإعلامي المبكر قبل وأثناء وبعد الحوار، بما يكفل إبراز الوجهة الإسلامية ومحاسنها،ويدافع عنها.
7- التعريف بالأطروحات العلمانية وما في حكمها وما تشتمل عليه مما قد يتعارض مع الإسلام ومنهجه، وذلك بما لا يخرج عن حدود اللياقة والأدب الإسلامي.
8- إظهار سماحة الإسلام ووسطيته، والدعوة إلى تبني هذا المنهج والإشادة بمن ينتمي إليه.
9- الاستفادة من العلاقة مع المشاركين في دائرة المصلحة العامة ما أمكن في حدود المباح.
خامساً: الحوار و الدولة
يكاد المراقب أن يجد وحدة واتفاقاً بين الإسلاميين مؤيدين ومتحفظين حول عدد من الإشكاليات حول موقف الدولة وتعاملها في قضية الحوار الوطني ومن أبرز هذه الإشكاليات:
1- الدولة لم تفصح عن حقيقة أهدافها من الحوار بشكل محدد وواضح، ومن هنا ثمة من يقول إن الحوار جاء لإسكات الخارج، وآخرون يقولون إنما هو لتنفيس احتقان الداخل ، وغير هؤلاء وهؤلاء يقولون إنه في إطار توازن القوى المؤثرة، وفئة تراه لانشغال المجتمع بالحوار عن قضايا أولى وأكثر أهمية.
2- ليس هناك - حتى الآن - أي وضوح حول توصيات الحوار الوطني من حيث العمل بها وآليته، ومدى إلزاميته، بل وحتى مرجعية هذه التوصيات في هيكلية الدولة، فلا هي راجعة إلى وزارة متكفلة بها، ولا إلى مجلس الوزراء.
3- الضبابية بل الجهالة التامة بأسس الترشيح للمشاركين واعتبارات الأعداد و النسب، واختيار الموضوعات ونحو ذلك من أساسيات الحوار إذ لاشيء من ذلك محدد ومعلن.
4- في ضوء ما سبق ليس هناك وضوح لمستقبل الحوار الوطني وصور استمراريتة، وحقيقة مستقبله.
وفي الختام فإن الاختلاف في الرؤى و المواقف تجاه الحوار لا يفسد للود قضية، و الجميع يدعو إلى تقدير وجهات النظر المختلفة والإقرار بحق الاختلاف بالاجتهادات المذكورة، بل و الدعوة قائمة بأن لا يثرب طرف على آخر فيما يذهب إليه بل الطرح تجاوز ذلك إلى استثمار هذا الاختلاف استثماراً إيجابياً.(/3)
الحوار بين الأديان حقيقته وأنواعه
إعداد الشيخ :أبو زيد بن محمد مكي المحاضر بجامعة أم القرى 10/3/1424
11/05/2003
المقدمة
الحمد لله , والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فإن الغرب إذا شعر بظلمه للمسلمين , وبخوفه من انتقامهم , أو ارتبطت بهم بعض مصالحه فخاف عليها , رفع مباشرة شعار التعايش السلمي , والتسامح ونسيان الماضي , والتقارب , والتحاور , ونحو ذلك من الشعارات , ليأمن على نفسه ومصالحه بذلك , وينشر دينه وثقافته كذلك .
ومما يؤسف له أن تجد بعض من ينتسب للفقه الشرعي- فضلاً عن غيرهم من العصرانيين – يسارع في الإجابة , ويتهم غيره بالتقوقع والانغلاق وضيق الأفق , ثم قد تنكشف لبعضهم الحقيقة , فيعود محذراً , وكثيراً منهم يستمر في عماه , بل ويؤول النصوص الشرعية لتوافق مراد الغرب الكافر , والله المستعان .
ولهذا أحببت أن أكتب في موضوع " الحوار بين الأديان : حقيقته وأنواعه " , وفق الخطة التالية : قسمت البحث إلى مبحثين , لكل مبحث مطالبه كما يلي :
المبحث الأول : حقيقة الحوار بين الأديان , وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : معنى الحوار لغة و اصطلاحاً .
المطلب الثاني : معنى الحوار بين الأديان .
المطلب الثالث : حقيقة الحوار بين الأديان في المنظور الغربي .
المبحث الثاني : أنواع الحوار بين الأديان , وفيه ستة مطالب :
المطلب الأول : حوار التعايش والتسامح .
المطلب الثاني : حوار الدعوة والبلاغ .
المطلب الثالث : حوار التقريب .
المطلب الرابع : حوار الوحدة .
المطلب الخامس : حوار الاتحاد .
ثم اختتمت البحث بخاتمة , ذكرت فيها أهم النتائج ,أسأل الله تعالى بمنه وكرمه الإعانة والتوفيق والإخلاص
المبحث الأول : حقيقة الحوار بين الأديان .
وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : معنى الحوار لغة و اصطلاحاً .
أولاً معنى الحوار لغة :
الحِوَار في اللغة : مشتق من الحَوْر , وهو الرجوع . قال تعالى : ( إنه ظن أن لن يحور . بلى )(1)فالحوار هو : مراجعة الكلام (2) .
والمحاورة : المجاوبة (3) .
وأحار الرجل الجواب أي ردَّه .
وما أحاره أي : ما ردَّه (4) .
ثانياً : معنى الحوار اصطلاحاً .
الحوار اصطلاحاً : هو لفظ عام يشمل صوراً عديدة منها المناظرة والمجادلة (5) ويراد به : مراجعة الكلام والحديث بين طرفين , دون أن يكون بينهما ما يدل بالضرورة على الخصومة (6) .
وقد يكون مرادفاً للجدل , كقوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة:1) وقد يفترقان حين يتحول الحوار إلى لدد في الخصومة , فهو حينئذ يسمى جدالاً لا حواراً (7)وقد يكون الحوار مرادفاً للمناظرة , لأن المتناظرين يتراجعان الكلام في قضية ما , بعد النظر فيها بعين البصيرة , إلا أن المناظرة أدلُّ في النظر والتفكر , كما أن الحوار أدل في الكلام ومراجعته(8).
المطلب الثاني : معنى الحوار بين الأديان
الحوار بين الأديان من المصطلحات الحادثة المجملة , وهو يتنوع بحسب أهدافه وأغراضه إلى عدة أنواع , منها ما هو حق , إذا كان الهدف شرعياً , ومنها ما هو باطل , إذا كان الهدف مذموماً شرعاً .
ولذلك فإن هذا المصطلح لا يرد مطلقاً لأننا بذلك نرد الحق الذي فيه , ولا نقبله مطلقاً لأننا بذلك نقبل الباطل الذي فيه .
ومما تقدم , يمكننا أن نقول أن للحوار بين الأديان عدة معاني بحسب أهدافه وأغراضه منها:
1-حوار الدعوة أو التنصير .
2-حوار التعايش أو التسامح .
3-حوار التقريب .
4-حوار الوحدة .
5-حوار الاتحاد(9).
وسيأتي بمشيئة الله تعالى , بيان معنى كل نوع من هذه الأنواع في العالم الإسلامي وفي العالم الغربي , وأبرز المؤسسات أو الشخصيات الداعية له .
المطلب الثالث :حقيقة الحوار بين الأديان في المنظور الغربي :
الحوار بين الأديان في المنظور الغربي بكل أنواعه وسيلة تنصيرية , واستعمارية , ومناورة سياسية لوقف القتال بعد تحقيقهم لبعض المكاسب .
ذكر دانيال آر بروستر , في محاضرة له بعنوان " الحوار بين النصارى والمسلمين " عدة حقائق توضح حقيقة الحوار عند النصارى منها :
1-في عام 1960 م , رفع مجلس الكنائس العالمي الحوار مع المسلمين , وكان يعتبر هذا الحوار وسيلة مفيدة للتنصير , فإن الحوار الذي هو وسيلة لكشف معتقدات وحاجيات شخص آخر هي نقطة بداية شرعية للتنصير .
2-وفي عام 1968 م , نقل الحوار خارج محيط التنصير ,واكتفى بالإقرار بصحة الديانة النصرانية , وفتح أبواب الصداقات , والمشاركة في الحياة على وفق ما يراه النصراني .
3-إن الهدف من الحوار هو إقناع الآخرين باتخاذ قرارات معينة , فإن بدر منهم ذلك فدعهم يسمونه ما يشاءون (10).(/1)
وذكر هيوكيتسكل – زعيم حزب العمال البريطاني – في كتابه " التعايش السلمي والخطر الذي ينتابه " تعريف التعايش بأنه : " مناورة خالصة , وهي ظاهرة مؤقتة , قد تقتضي تحوير السياسة بوقف القتال , وتخفيف الضغط "(11).
ومما جاء في الكتاب الصادر عن الفاتيكان عام 1969 م :
1-هناك موقفان لا بد منهما أثناء الحوار : أن نكون صرحاء , وأن نؤكد مسيحيتنا وفقاً لمطلب الكنيسة .
2-سيفقد الحوار كل معناه إذا قام المسيحي بإخفاء أو بتقليل قيمة معتقداته التي تختلف مع القرآن.
3-لا يكفي أن نتقرب من المسلمين , بل يجب أن نصل إلى درجة احترام الإسلام على أنه يمثل قيمة إنسانية عالية وتقدماً في التطور الديني بالنسبة للوثنية .
4-إن الحوار بالنسبة للكنيسة هو عبارة عن أداة ,وبالتحديد:عبارة عن طريقه للقيام بعملها في عالم اليوم(12).
ولذلك صرح أهل العلم ممَّن درس مفهوم الحوار عند الغرب , سواء بمسمى الزمالة أو الصداقة أو التقارب أو نحو ذلك من المسميات بأن هذه الدعوى جوهرها وهدفها في الحقيقة هو أن يكسب اليهود والنصارى اعترافاً من المسلمين بصحة دينهم , وهذا له دور كبير في صد النصارى واليهود عن الدخول في الإسلام(13).
المبحث الثاني : أنواع الحوار بين الأديان
المطلب الأول : حوار التعايش والتسامح
المسألة الأولى : المراد بالتعايش والتسامح في الدين الإسلامي :
لم ترد لفظة التعايش والتسامح في القرآن أو السنة , ولكن ورد لفظ البر والإحسان والقسط (14).
فالحوار المتعلق بالعلاقة المعيشية البحتة بين معتنقي الأديان , ويهدف إلى تحسين العلاقة بين شعوب أو طوائف , وربما تكون أقليات دينية(15), فإن الإسلام يرحب به , ويدعو إليه من خلال الإحسان والبر والقسط , ولا يتنافى مع نصوص الشرع الناهية عن موالاة الكفار(16).
قال تعالى : (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (الممتحنة:8)
فمفهوم التسامح والتعايش في الإسلام هو : التعامل مع غير المسلم وفق الحكمة واللين والمعروف سواء في ذلك التعامل في الخطاب , أو في مطلق التصرف , وفق الضوابط الشرعية(17). فإذا حارب أو اعتدى فعلى المسلمين أن يحاربوه ويردعوه(18).
فأهم ضوابطه ثلاثة (19):
1-مراعاة جانب الولاء و البراء .
2-إقامة العدل .
3-الحكمة في الدعوة أو المعاملة .
المسألة الثانية : المراد بالتعايش والتسامح في العالم الغربي .
لقد رفع الغرب شعار التعايش والتسامح مع العرب والمسلمين في اليوم السادس من نوفمبر 1973 م بعد الأحداث التالية(20) :
1-نشوب الحرب يوم العاشر من رمضان – السادس من أكتوبر – وقيام القوات العربية بعمليات حربية لتحرير الأراضي العربية المحتلة , ونجاحها في إنزال ضربات قوية بالمحتل الإسرائيلي .
2-قرار وزراء النفط العرب يوم السابع عشر من أكتوبر في الكويت : فرض الحصار النفطي على الولايات المتحدة الأمريكية , وتخفيض مستوى الضخ حتى يتحقق الجلاء عن الأراضي العربية المحتلة , وتؤمن الحقوق الوطنية لشعب فلسطين .
3-فرض الدول العربية الحظر النفطي على هولندا يوم العشرين من أكتوبر لموقفها العدائي من العرب .
فهذا الشعار عبارة عن مناورة خالصة , وظاهرة مؤقتة , من أجل وقف القتال , أو تخفيف الضغط(21).ثم تطور هذا الشعار حتى أصبح دعوى فكرية تخفي وراءها أهدافاً عديدة : عقدية وثقافية , واجتماعية , وسياسية , واقتصادية (22), ومن أمثلة ذلك :
1-اتخاذه وسيلة للتنصير وتشويه حكم الردة في الإسلام .
2-اتخاذه وسيلة لمحاربة مفهوم الجهاد في الإسلام , وإضعاف عقيدة الولاء و البراء .
3-المحافظة على المكاسب المتحصلة , وامتصاص غضب العرب والمسلمين من الظلم الحاصل عليهم .
4-المطالبة بالحصول على المناصب الهامة داخل الدولة المسلمة(23).
وفي عام 1415هـ ( 1995 م ) أعلنت هيئة الأمم المتحدة أن هذا العام هو عام التسامح, وأصدرت نشرة خاصة عن ذلك , وكان أبرز ما فيها الدعوة إلى التسامح بين الأديان , ويريدون به الدعوة إلى زمالة الأديان , وجعل القاسم المشترك بينها البيان العالمي لحقوق الإنسان , والتأكيد على الحرية الدينية , واعتبار حكم الردة في الإسلام منافياً لهذه الحرية(24).
وقد قام بعد ذلك بالدور على أتمه و أكمله المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم و الثقافة ( إيسسكو ) فأصدرت كتاباً باسم " مفهوم التعايش في الإسلام "(25)
أثبت فيه أن الإسلام يقر بالديانات السماوية , وأنه مهيمن عليها لا بمعنى ناسخ لها , وإنما بمعنى مراقب , فهو يرصد ما تتعرض له تلك الديانات من تحريف عن أصلها الحق(26), ثم يقول :(/2)
" لا انفتاح ولا حوار , وبالتالي لا تعايش بدون كيان شخصي وهوية خاصة , أي بدون المحافظة عليها , مما يقتضي عدم التنازل عنهما , وفي طليعتهما : الدين , وإلاَّ فلا يكون انفتاح ولا يكون حوار , ولا يكون تعايش , وإنما تكون الهيمنة والتسلط ...
والإلحاح على مثل هذا الحوار راجع إلى أمرين :
الأول : لتحقيق المزيد من التفاهم المفضي إلى التعايش .
الثاني : لتقوية الإيمان بالله في النفوس , خاصة بعد أن طغت المادية , وتفشت قيمها المسيطرة على الشباب في جميع أنحاء العالم "(27).
ثم أصدرت اليونسكو بياناً بمعنى التسامح وأنه : " احترام الآخرين وحرياتهم , والاعتراف بالاختلافات بين الأفراد , والقبول بها ...
والتسامح هو تقدير التنوع الثقافي , وهو الانفتاح على الأفكار والفلسفات الأخرى بدافع الاطلاع , وعدم رفض ما هو غير معروف "(28).
ثم قامت كتابات عربية أخرى تؤكد على هذا المعنى من التسامح , وتقصد به حرية الردة عن الإسلام , وحرية السلوك والأخلاق .
فهذا محمد الطالبي يقول بأنه : لا يرى سنداً في الإسلام لما يعرف بحكم الردة(29).
وهذا عبد الفتاح عمر يتسائل : هل الظاهرة الدينية ستقوم على ترسيخ قيم الاحترام والتسامح , أم أنها ستنبني على التطرف والعنف والتكفير والتدخل فيما للغير من معتقدات وماله من سلوكيات ؟
هل الظاهرة الدينية ستساعد على ترسيخ الحرية الدينية , أم هل أنها ستعصف بها في آخر الأمر(30) .
المسألة الثالثة : أمثلة على حوار التعايش في الواقع المعاصر .
-1- الحوار بين الشمال والجنوب .
والمقصود به الحوار بين البلدان المتطورة الغربية , ويرمز لها بالشمال , وبين بلدان العالم الثالث ويرمز لها بالجنوب , وذلك عندما فرض الشمال على الجنوب تعديل أسعار النفط , دون أن يدخل على النظام الاقتصادي أي تعديلات , وبعد مناورات دامت العامين , قبل الشمال إجراء الحوار مع الجنوب في هذا الموضوع , واضطر أن يضع نظاماً جديداً بعد ذلك(31).
-2- الحوار العربي الأوروبي .
كما تقدم , عندما شعرت أوروبا وأمريكا بانتصار المسلمين في حرب العاشر من رمضان 1973 , وممارسة العرب بعض الضغوط النفطية على أمريكا وهولندا , لجأت لإجراء الحوار امتصاصاً لغضب العرب , ومحافظة على مكاسبهم(32).
المطلب الثاني : حوار الدعوة والبلاغ .
المسألة الأولى : المراد به في الدين الإسلامي :
الحوار مع أصحاب الديانات الأخرى من أجل دعوتهم للدين الإسلامي الخاتم والناسخ لجميع الأديان السابقة , وإيضاح محاسن الإسلام لهم , وبيان ما هم عليه من باطل , واستنقاذهم من ظلمات الشرك والجهل , هذا الهدف من أعظم ما يدعو إليه الإسلام , وبالتالي فهذا النوع من الحوار , مطلوب شرعاً وعقلاً(33).
قال تعالى : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:64).
المسألة الثانية : المراد به في العالم الغربي :
يراد بهذا النوع من الحوار عند الكنيسة الكاثوليكية , وعند مجلس الكنائس العالمي , وعند المستشرقين من النصارى عدة أمور :
الأمر الأول : اتخاذه وسيلة للتنصير , وهذه كانت غايتهم الأولى , من إعلان الحوار مع المسلمين .
الأمر الثاني : اتخاذه وسيلة لتشكيك المسلمين في دينهم , وفي نبيهم , صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثالث : اتخاذه وسيلة لأخذ الشهادة والإقرار بصحة دينهم , وجواز التعبد به لله تبارك وتعالى(34).
ولهذا فقد وضع النصارى مقياساً يقاس به نجاح هذا النوع من الحوار مكوَّن من عشرة أمور كالتالي(35):
(-7) – لا إدراك بالنصرانية .
(-6) – إدراك بوجود النصرانية .
(-5) – بعض المعرفة بالكتاب المقدس .
(-4) – فهم مبادئ الكتاب المقدس الأساسية .
(-3) – إدراك التضمينات الشخصية .
(-2) – إدراك الحاجة الشخصية .
(-1) – التحدي والقرار بقبول المسيح .
(+1) – التحول .
(+2) – تقييم القرار .
(+3) – الاندماج في الزمالة النصرانية .
المسألة الثالثة : أبرز المؤسسات الداعية له في العالم الغربي :
1-الكنيسة الكاثوليكية :
وهي الكنيسة التي اعتقدت قرارات مجمع نيقية المنعقد عام (325م) , ومقر قيادتها الفاتيكان , وهو مقام البابوات في روما , وقد أعلن مجمع الفاتيكان الثاني عام 1962م الدعوة إلى الحوار بين الأديان , وأصدر النشرات والكتب الموضحة لذلك , ووضع خطة لإعداد وتدريب المحاورين النصارى , ومن تلك الكتب :
أ – نحو حوار مع الإسلام .
ب – توجيهات في سبيل الحوار بين المسيحيين والمسلمين .
وقد أولى البابا يوحنا بولس الثاني , والذي تزعم رئاسة هرم هذه الكنيسة من عام 1978, الحوار بين الأديان عناية فائقة , واعتبره في إطار المهمة الأساسية للكنيسة , وهي التبشير(36).(/3)
2-مجلس الكنائس العالمي :
يمثل هذا المجلس بقية الطوائف النصرانية غير الكاثوليكية من بروتستانت , و أرثوذكس , وقد ولد هذا المجلس نتيجة لقاءات عالمية لتلك الكنائس من أجل توحيدها , ويعتبر لهذا المجلس قوة ونفوذ تضاهي قوة الفاتيكان على الكنيسة الكاثوليكية .
وقد قام أيضاً هذا المجلس بإقامة دورات تدريبية للمنصرين للقيام بمهمة لحوار , ولكنَّه لما لم ير جدوى من ذلك مال بالحوار إلى دعوى التقارب والزمالة بين الأديان , وأدرجه ضمن إطار العلاقات الدولية للمجلس (37).
المطلب الثالث : حوار التقريب بين الأديان
المسألة الأولى : المراد به عند العصرانيين :
من أفضل من شرح فكرة التقريب من العصرانيين على حسب اطلاعي : د. عباس الجراري في كتابه " الحوار من منظور إسلامي " والذي نشرته " المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة " (ايسيسكو ) وقدَّم له المدير العام للمنظمة شاكراً له حسن عرضه لوجهة النظر الإسلامية في هذا الموضوع , ويليه د. يوسف الحسن , في كتابه الحوار الإسلامي المسيحي ( الفرص والتحديات), والذي نشره المجمع الثقافي بالإمارات , وأبرز ما في فكرتهم ما يلي :
1- شروط نجاح الحوار : الانطلاق من اعتراف كل طرف بالآخر , ويبدأ بالاستعداد النفسي للانفتاح عليه بتسامح , أي : بقبوله كما هو . ثم البحث أثناء الحوار عن مواطن الاتفاق,والبعد عن مواطن الاختلاف(38).
2- قاعدة الحوار تتمثل في المعادلة التالية :
أ – ما تريد أن يعرفه عنك الآخر , فأعرفه أنت عنه .
ب- ما تريد أن يفعله معك الآخر , فافعله أنت معه .
والمقصود بالآخر هو من يؤمن بعقيدة غير عقيدتك . ويقصدون بذلك السماحة ونيسان الماضي(39).
3 – تأويل " الكلمة السواء " في قوله تعالى : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)(آل عمران: من الآية64)بأنها فعل الصالحات والنافعات للبشرية,ومواجهة الطغيان , وتحقيق معرفة ك طرف بالآخر, وإزالة سوء الفهم, دون المحاولة إلى إلغاء الخصوصيات(40).
4- البعد عن جعل الحوار دعوة مبطنة سوء للإسلام أو للنصرانية ,والبعد عن التلفيق الديني, والبعد عن نوازع التشكيك , ومقاصد التجريح , بل لا بد من إشاعة المودة وروح المسالمة والتفاهم والوئام , والتعاون فيما يقع التوافق فيه من أعمال النفع العام للبشرية(41).
وكما نلاحظ أن هذا النوع قريب من حوار التعايش , إلاَّ أنه يزيد عليه المطالبة بإشاعة روح المودة والمحبة , وإزالة البغضاء والكراهية من النفوس , وأن تتقبل صاحب الديانة الأخرى كما هو, ولكنه يختلف عن الوحدة أنه لا يشترط فيه الإقرار بصحة الديانة الأخرى .
المسألة الثانية : المراد به في العالم الغربي وأشهر الدعاة إليه(42):
العالم الغربي بعد نجاحه في إدارة الحوار العربي الأوربي ,واستطاع عن طريقه أن يمتص غضب العرب , وأن يقنعهم بفكره الذي يريد , وجد أمامه عقبة الدين , وخصة الدين الإسلامي الذي يأمر أتباعه بالبراءة من الكفار , ومجاهدتهم , والغلظة عليهم , فصار يطالب بالحوار بين الأديان , على أساس أن يقبل أتباع كل دين المخالف لهم كما هو , ويكون التعاون من أجل السلام العالمي , والتعايش العالمي , وترك المعاداة , ونحو ذلك.
وأبرز المؤسسات الداعية إليه : مجلس الكنائس العالمي عن طريق " لجنة الحوار مع أصحاب العقائد والمثل الحية " .
المطلب الرابع : حوار الوحدة بين الأديان .
المسألة الأولى : المراد به :
المراد به : الحوار من أجل الوصول إلى القول بصحة جميع المعتقدات والديانات , وأنها ينبغي أن تكون جنباً إلى جنب , تتزامل في الإيمان , دون أن يتخلى كل دين عن عقائده وشرائعه الخاصة به (43).
المسألة الثانية : أقسامه .
وهذا النوع على قسمين :
القسم الأول : الوحدة الصغرى : وهذا خاص بالأديان التي تعلن انتمائها إلى إبراهيم عليه السلام , وهي الإسلام واليهودية والنصرانية , ولذلك يطلق أصحاب هذا القسم على هذه الأديان : الأديان الإبراهيمية(44).
وتفرع عن هذا القسم من الحوار الدعوة إلى بناء : مسجد وكنيسة ومعبد في محيط واحد , في رحاب الجامعات والمطارات والساحات العامة , والدعوة إلى طباعة القرآن الكريم والتوراة والإنجيل في غلاف واحد(45).
والقسم الثاني : الوحدة الكبرى , وهذا شامل لجميع الأديان والملل الوثنية, بل والملحدين, بجامع أن تلكم الوثنيات آثار نبوات سابقة ,وأن الملحدين يؤمنون بالإنسان ,وأن للحياة معنى(46).
المسألة الثالثة : أهدافه :
ويهدف هذا النوع من الحوار إلى عدة أمور أهمها :
1-إلغاء تقسيم الناس إلى مسلم وكافر , فلا ولاء ولا براء , والقول بصحة جميع الأديان , وأنها طرق لتحقيق غاية واحدة .
2-تحقيق المصالح المشتركة كمحاربة الشيوعية , وتضييق مجال عملها (47).
3-الدعوة إلى انفتاح الإسلام الشامل على كافة الديانات , وإقراره بصحتها(48).
المسألة الرابعة : أبرز دعاته :(/4)
إن الدعوة إلى وحدة الأديان دعوة قديمة , فقد دعا إليها زنادقة الصوفية كابن عربي , والفرق الباطنية كإخوان الصفا(49).
وأمَّا عند النصارى , فيعتبر الراهب " رامون لول " المتوفى عام 1315هـ أول من دعا إلى تصويب جميع صور العبادات والأديان .
وأمَّا الدعوة إلى التقارب في الإبراهيمية , فيعتبر المستشرق الفرنسي " لويس ماسينيون " أول من دعا إليها بحماس , عن طريق كتاباته عن الحلاج , وعن طريق تدريسه في جامعة القاهرة, وإدارته لمجلة العالم الإسلامي عام 1919م .
وأخيراً , تأتي محاولة روجيه جارودي للتحاور بين الأديان على أساس إقامة وحدة فيدرالية للطوائف الدينية , ورأى أن الرابط بين الأديان هو الإيمان بمعناه الأرحب والأوسع , والذي يمكن أن يوجد حتى عند الملحدين , فهم لديهم إيمان بالإنسان , ورأى أن أفضل دين فيه سعة ورحابة يمكن أن يتقبل فكرته هذه هو الإسلام , ولكن ليس بمدلوله الخاص , وإنما بمدلوله العام والذي يعني الاستسلام لله .
يقول جارودي : " إن الفكرة الأولى لعلاقات المسلمين مع بقية الطوائف الدينية في فكر ورأي النبي صلى الله عليه وسلم كانت إقامة ما نسميه اليوم (وحدة فيدرالية) للطوائف الدينية , لكن حصل أن هذا الأمر لم يتحقق أبداً في التاريخ , لا في المسيحية ولا في اليهودية أو في الإسلام, لكن أعتقد أن هذه المعادلة قابلة للعيش والاستمرار , أي : أن تصل بنا إلى روابط الجماعة , وروابط الأرض , وروابط السوق المشترك , وحتى روابط الماضي والثقافة , وإقامة كل شيء على أساس المستقبل , أي : على الإيمان المشترك بمعناه الأرحب والأوسع , وحتى الملحدين ممكن أن يكون لديهم إيمان بالإنسان , وبإمكانهم إقامة طائفة دينية بالمعنى الذي قلناه فيما سبق لتعميق هذا الاحترام الأساسي للإنسان .
هكذا أعتقد ما هو ممكن , لكنني أعترف أن هذا أحد الأسباب التي جذبتني للإسلام , ذلك أن الإسلام هو أكثر الديانات جمعاً وتوحيداً للإنسان , وهو بمثابة عصارة و زبدة الأديان "(50).
وقد شرح جارودي في مناسبات عدة دينه الذي هو عليه الآن , ومشروعه الذي وقف حياته عليه .
فأما دينه فهو الإسلام الإبراهيمي كما يسميه , وأما مشروعه فهو الدعوة إلى الوحدة الصغرى في الإبراهيمية , أو الكبرى مع جميع الأديان حتى مع الملاحدة المؤمنين بالإنسان .
يقول جارودي عندما سئل عن دينه : " على دين إبراهيم , ولمَّا لم يكن إبراهيم يهودياً ولا مسيحياً , ولا بوذياً ولا مسلماً بالمعنى التاريخي للكلمة , فأنا كذلك : مسلم بالمعنى العام وليس الخاص لهذه الكلمة , وكوني أصبحت مسلماً , فهذا لا يعني أني تخليت عن اعتقاداتي الدينية والفلسفية السابقة , والإسلام بهذا المعنى يجمع بين أتباع كل الرسل منذ عهد إبراهيم , أي الذين نادوا لدين التوحيد , لذلك فأنا عندما أنشأت متحف قرطبة للحضارة الإسلامية قبل ست سنوات في أسبانيا , قمت في هذه المناسبة بعقد مؤتمر ( ديني إبراهيمي ) , أسندت رئاسته بالتساوي إلى ثلاث شخصيات إسلامية ومسيحية ويهودية ... "(51).
ولذلك فقد أفتى الشيخ ابن باز – رحمه الله – بأن جارودي ليس مرتداً , لأنه لم يدخل الإسلام أصلاً (52).
وقد وجد جارودي دعماً كبيراً لفكرته من بعض المؤسسات والمنظمات الحكومية , والتي كان من نتاجها العملي ما يلي :
1-المعهد الدولي للحوار بين الحضارات في جنيف .
2-الملتقى الإبراهيمي في قرطبة .
3-المركز الثقافي في القلعة الحرة في قرطبة(53).
المطلب الخامس : حوار الاتحاد بين الأديان .
المسألة الأولى : المراد به(54):
هو الحوار الذي يتم فيه التقاط أو انتقاء عناصر من كل دين , ثم دمجها سوياً , وتتخذ ديناً, وتترك تلك الأديان .
وهو على نوعين :
الأول : حوار التقاطي : يتم فيه الدمج دون تنسيق منهجي بين العناصر الملتقطة .
وهذا مثاله الديانة المونية .
والثاني : حوار تلفيقي : وهذا يتم فيه الدمج بتنسيق منهج بين العناصر الملتقطة .
وهذا مثاله ديانة كريسلام , والديانة البهائية .
المسألة الثانية : أبرز دعاته في العالم الإسلامي(55):
تعتبر فرقة البهائية هي أبرز من يدعو إلى توحيد الأديان , وتسمي الدين الملفق بالديانة العالمية , والذي تبشر به البهائية وتدعو إليه , وتعتقد أنه الدين الناسخ لجميع الأديان السابقة , والذي يمكن أن يوحد العالم , ويعطي له السعادة والراحة والاطمئنان .
فمما ينادي به البهاء : " أن يتحد العالم على دين واحد , ويصبح جميع الناس إخواناً , وتتوثق عرى المحبة والاتحاد بينهم , وتزول الاختلافات الدينية " .
المسألة الثالثة : أبرز دعاته في العالم الغربي .
أولاً : أصحاب الديانة المونية :
وهؤلاء أتباع " صن مون " الكوري الشمالي الثري , والذي لفق لهم ديناً من النصرانية واليهودية والإسلام والبوذية , وكذلك من النظريات العلمية , وادعى النبوة , وأنه جاء بدين يوحِّد العالم , ويكسبه السعادة والسرور(56).
ثانياً : أصحاب ديانة كريسلام :(/5)
هذا الاسم الجزء الأول منه يدل على النصرانية , والثاني : الإسلام , فهي مزيج منهما , قام بذلك الأب الأسباني " إيميلو غاليندور آغيلار " , ودعا الناس إلى التوحد على هذا المبادئ الملفقة من هاتين الديانتين,وتطالب بالتخلص من وصاية المؤسسات الدينية التي أثبتت–بدلاً من أن تكون عوامل مساعدة–أنها عقبات في طريق التوحيد(57).
(1)- سورة الانشقاق : 14
(2)- انظر: مقاييس اللغة لابن فارس ( 2 / 117 ) .
(3)- انظر : القاموس المحيط للفيروز آبادي ( 2/ 23 - 24 ).
(4) -- انظر: مختار الصحاح , للرازي ( 161 ).
(5)-انظر:لسان العرب,لابن منظور( 3 / 383 -385 ), والمصباح المنير للفيومي ( 156 ).
(6) - انظر : الحوار : أصوله المنهجية , وآدابه السلوكية , لأحمد الصويان (17) .
(7) - انظر : أصول الحوار , الندوة العالمية للشباب الإسلامي , (9) .
(8) - انظر : كيف تحاور , لطارق الحبيب ( 8 - 10 ) .
(9) - انظر : الحوار مع أهل الكتاب : أسسه ومناهجه , لخالد القاسم ( 108 ) .
(10) - انظر : الحوار مع أهل الكتاب , لخالد القاسم ( 112 - 143 ) , ودعوة التقريب بين الأديان , لأحمد القاضي ( 347 - 350 ) .
(11) - انظر : التنصير , خطة لغزو العالم الإسلامي , الترجمة الكاملة لأعمال المؤتمر التبشيري الذي عقد في مدينة جلين آيري بالولايات الأمريكية عام 1978( 767 - 783 ).
(12) - التعايش السلمي (3) .
(13) - انظر : كتاب الفاتيكان : توجيهات من أجل حوار بين المسيحيين والمسلمين , نقلاً عن كتاب " التنصير " لعبد الرحمن الصالح ( 62 - 66 ) .
(14) - انظر : أهمية الجهاد للعلياني ( 449 ) , والإبطال , لبكر أبو زيد ( 35 - 46 ) , والتبشير والاستعمار لمصطفى الخالدي وعمر فروخ(257, والاتجاهات العقلانية الحديثة,ناصر العقل( 407 ), والولاء و البراء لمحمد سعيد القحطاني ( 346 - 351 ) .
(15) - انظر : تسامح الغرب , لعبد اللطيف الحسين ( 27 ) .
(16) - انظر : دعوة التقريب ( 1 / 349 ) .
(17) - انظر : تسامح الغرب ( 26 ) .
(18) - انظر : التساهل مع غير المسلمين : مظاهره وآثاره . عبد الله الطريقي ( 7 , 8 ) , وتسامح الغرب ( 27 ) .
(19) - انظر : حقيقة العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين , سعد الصيني ( 25 - 26 ) .
(20) - انظر : تسامح الغرب ( 38 - 53 ) .
(21) - انظر : الحوار العربي الأوروبي , أحمد صدقي الدجاني ( 10 ) .
(22) - انظر : التعايش السلمي , هيوكتسكل ( 3 ) .
(23) - انظر : تسامح الغرب ( 17 ) .
(24) - انظر : التساهل مع غير المسلمين : مظاهره وآثاره , وتسامح الغرب , والمسلمون والأوروبيون , نحو أسلوب أفضل للتعايش , سامي الخزندار .
(25) - انظر : النشرة في آخر كتاب " دراسات في التسامح " من إعداد المعهد العربي لحقوق الإنسان بتونس ( 399 - 416 ) .
(26) - تأليف : د. عباس الجراري .
(27) - انظر : مفهوم التعايش في الإسلام ( 47 - 48 ) .
(28) - مفهوم التعايش ( 52 - 53 ) .
(29) - نقلاً عن تسامح الغرب ( 30 ) .
(30) - انظر : مقالته بعنوان " الحرية الدينية حق من حقوق الإنسان أم قدر الإنسان " , ضمن كتاب دراسات في التسامح ( 30 ) .
(31) - انظر : مقالته بعنوان : " الحرية الدينية " , ضمن كتاب دراسات في التسامح ( 57 ) .
(32) - انظر : حوار الشمال والجنوب : أسسه ونتائجه , إشراف د0 جورج قرم ( 7 ) فما بعدها .
(33) - انظر : الحوار العربي الأوروبي , هيفاء أحمد السامرائي ( 5 - 9 ) .
(34) - انظر : الحوار مع أهل الكتاب , لخالد القاسم ( 112 - 117) , ومقالة د0 محمد بن عبد الله السحيم " دعوة أهل الكتاب " في مجلة التوعية الإسلامية عدد ( 152 ) ص ( 139 ) .
(35) - انظر : التنصير , د. عبد الرحمن الصالح ( 62 - 72 ) .
(36) - انظر : التنصير ( خطة لغزو العالم الإسلامي ) ( 775 ) .
(37) - انظر : دعوة التقريب ( 1 / 406 - 461 ) .
(38) - انظر : دعوة التقريب ( 2 / 463 - 499 ) .
(39) - انظر : الحوار من منظور إسلامي ( 11 , 12 , 21- 23 ) .
(40) -انظر : المصدر السابق ( 24 ) .
(41) - انظر : الحوار الإسلامي المسيحي (43 - 44) .
(42) -انظر : الحوار الإسلامي المسيحي (13) .
(43) - انظر : المصدر السابق (33) .
(44) -انظر : دعوة التقريب ( 3 / 1140 - 1173 ) .
(45)-انظر : الولاء و البراء , لمحمد سعيد القحطاني ( 346 - 351 ) , ودعوى " وحدة الأديان : أهدافها , حكمها , خطرها " , جمع وإعداد : أبو أنس علي أبو لوز , وحمود المطر ( 15 - 23 ) , والإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان , لبكر أبو زيد ( 22 - 25 ) .
(46) -انظر : دعوة التقريب لأحمد القاضي ( 1/ 341 ) .
(47) - انظر : فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برقم 19402 , وتاريخ 25 / 1 / 1418هـ .
(48) - انظر : دعوة التقريب ( 1 / 342 ) .
(49) - انظر : الحوار مع أهل الكتاب لخالد القاسم ( 127 , 128 ) .(/6)
(50) - انظر : الاتجاهات العقلانية الحديثة , د. ناصر العقل (412) , والسلفية وقضايا العصر , د0 عبد الرحمن الزنيدي (609) .
(51) -فيدرالية .
(52)- مقابلة في مجلة الموقف عام 1984 ( 181 - 182) نقلاً عن دعوة التقريب (858) .
(53)-مجلة المجلة,عدد (839),من شهر شوال 1416هـ,نقلاً عن دعوى وحدة الأديان (64) .
(54) - انظر فتواه في كتاب دعوى وحدة الأديان (72) .
(55) -انظر : دعوة التقريب ( 2 / 907 - 937 ) .
(56)- انظر:أهمية الجهاد للعلياني(507, 508), والإبطال (99 , 100 ), ودعوة التقريب (1 / 396 ) .
(57) ( انظر : الموسوعة الميسرة في الأديان ( 2 / 669 - 674 ) , ودعوة التقريب 1/344) .
المراجع
1-معجم مقاييس اللغة , لابن فارس , دار الجيل – بيروت ط (1) , 1411 هـ .
2- مختار الصحاح , للرازي , مكتبة النوري , دمشق .
3- لسان العرب , لابن منظور , دار إحياء التراث العربي – بيروت , ط (2) , 1413هـ .
4- المصباح المنير , للفيومي , دار الفكر – بيروت .
5- القاموس المحيط , للفيروز أبادي , دار إحياء التراث لعربي – بيروت , ط (1) 1412هـ .
6- الحوار مع أهل الكتاب : أسسه ومناهجه في الكتاب والسنة , خالد بن عبدا لله القاسم , دار المسلم , الرياض , ط (1) , 1414هـ .
7- الحوار : أصوله المنهجية وآدابه السلوكية , أحمد عبد الرحمن الصويان , دار الوطن للنشر , الرياض , ط (1) , 1413هـ .
8- كيف تحاور (دليل عملي للحوار) , طارق بن علي الحبيب , مؤسسة طيبة للنشر , الاسكندرية , ط (1) , 2001م .
9- أصول الحوار, الندوة العالمية للشباب الإسلامي , الناشر : الندوة , الرياض , ط(2)1408هـ.
10- قواعد ومنطلقات في أصول الحوار ورد الشبهات , د0 عبد الله بن ضيف الله الرحيلي , دار المسلم , الرياض , ط (1) 1414هـ .
11- دعوة التقريب بين الأديان , أحمد القاضي , دار ابن الجوزي , الدمام , ط (1) , 1422هـ .
12- أمريكا ... والإسلام (تعايش أم تصادم) , د0 عبدالقادر طاش , الشركة السعودية للأبحاث والنشر (جدة) , ط (1) , 1414هـ .
13- غير المسلمين في المجتمع الإسلامي , د0 يوسف القرضاوي , الناشر : مكتبة وهبة , مصر.
14- التعايش السلمي , هيوكتسكل , نقله إلى العربية : المحامي جليل قسطو , دار النشر للجامعيين , بيروت .
15- حقيقة العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين , د0 سعد صيني , دار الرسالة , بيروت , ط (1) , 1420هـ .
16- التنصير , خطة لغزو العالم الإسلامي .
17- التبشير , والاستعمار في البلاد العربية . د0 مصطفى الخالدي و د0 عمر فروخ , منشورات المكتبة العصرية , بيروت , 1989 .
18- دراسات في التسامح , ناجي البكري , محمد الطالبي , عبد الفتاح عمر , المعهد العربي لحقوق الإنسان , تونس , 1995 .
19- تسامح الغرب مع المسلمين في العصر الحاضر , عبد اللطيف الحسين , دار ابن الجوزي , الدمام , ط (1) , 1419هـ .
20- مفهوم التعايش في الإسلام , عباس الجراري , منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) , 1417هـ .
21- التنصير , د0 عبد الرحمن الصالح , دار الكتاب والسنة , برمنجهام , ط (1) 1420هـ.
22- المسلمون والأوروبيون (نحو أسلوب أفضل للتعايش) , سامي الخزندار , مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية , ط (1) 1997 .
23- الحوار العربي الأوروبي , هيفاء أحمد السامرائي , دار الرشيد , العراق , ط 1982 .
24- حوار الشمال والجنوب : أسسه ونتائجه , اشراف : د0 جورج قرم , معهد الإنماء العربي , بيروت , ط (1) 1977 .
25- حوار حول مشكلات حضارية , البوطي , الشركة المتحدة للتوزيع , مطبعة المصباح , سوريا , ط (1) 1405هـ .
26- الأديان والسلام العالمي , أحمد محمد حجازي , مطابع الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية .
27- الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان , بكر أبو زيد , دار العاصمة للنشر والتوزيع , الرياض , ط (1) 1417هـ .
28- أهمية الجهاد , العلياني , دار طيبة , الرياض و ط (1) 1405هـ .
29- دعوى وحدة الأديان , جمع وإعداد أبو أنس علي أبو لوز , وأبو عبد الله محمود المطر , دار المسلم , الرياض , ط (1) 1420هـ .
30- الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة , دار الندوة العالمية للشباب الإسلامي , الرياض , ط (3) 1418هـ .
31- الولاء والبراء , محمد سعيد القحطاني , دار طيبة , الرياض , ط (2) 1404هـ .
32- فتاوى وبيانات مهمة , اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية , دار عالم الفوائد , ط (1) 1421هـ.(/7)
الحوار بين الحضارات
د. خالد بن عبد الله القاسم 25/7/1427
19/08/2006
أولاً: الإسلام دين الحوار:
ثانيًا: أهم أهداف الحوار في الإسلام:
ثالثاً: آداب الحوار:
وقبل الدخول في حوار الحضارات نمهد بتعريف الحوار والحضارات.
أما الحوار في اللغة من الحور وهو الرجوع ويتحاورون أي يتراجعون الكلام(1).
وقد ورد في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم كلها تظهر الاختلاف بين المتحاورين ومحاولة إقناع بعضهم بعضاً، الأول ورد في قصة أصحاب الجنة "فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً" [الكهف:34]، والثاني فيها أيضاً "قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً" [الكهف:37]. والثالث في أول سورة المجادلة "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا" [المجادلة:1]. ونفهم من هذه المواضع الثلاثة أن الحوار مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين مختلفين.
ويتفق الحوار مع الجدل والمناظرة والمحاجة في كونه مراجعة الكلام وتداوله بين عدة أطراف إلا أن الجدل يأخذ طابع القوة والغلبة والخصومة وهو مأخوذ من معناه اللغوي حيث يسمى شدة القتل جدل، والجدال من الإبل الذي قوي ومشى مع أمه(2).
ولفظة الجدل مذمومة في غالب آيات القرآن الكريم، حيث وردت في تسعة وعشرين موضعاً(3)، مثل قوله سبحانه: "مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً" [الزخرف:58]، ولم يمدح الجدل إلا إذا قيد بالحسنى وجاء ذلك في موضعين، في قوله سبحانه: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [العنكبوت:46]، وقوله سبحانه وتعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].
وأما الحضارة فهي في اللغة من الحضر وهي الإقامة في المدن والقرى وهي ضد البداوة، قال القطامي:
فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا(4)
وفي العصر الحديث أطلق البعض هذا المصطلح على كل نتاج مادي لأمة من الأمم من عمران ومخترعات وابتكارات وتنظيمات. وتوسع النطاق ليشمل بالإضافة على النتائج المادية القيم الدينية والثقافية(5).
وعليه فكل أمة تشترك في هذه المعاني لها حضارة تخصها، فهناك الحضارة الإسلامية، والحضارة الأوروبية الغربية المسيحية، والحضارة الأوروبية الشرقية المسيحية، والحضارة الهندية، وحضارة الشرق الأقصى(6) وغير ذلك.
أولاً: الإسلام دين الحوار:
الحوار منهج قرآني, فقد كلم الله ملائكته واستمع منهم "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" [البقرة:30] وكذلك رسله "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ" [المائدة:116]، وحتى مع الكافرين "قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى" [طه:125-126]. وحتى مع إبليس "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ" [الأعراف:12]. والقرآن مليء بمحاورات الرسل مع أقوامهم "قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" [إبراهيم:10] .
وتأمل حوار إبراهيم عليه السلام مع مدعي الربوبية "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [البقرة: 258].
وحوار موسى مع فرعون مدعي الألوهية والربوبية في سور عديدة في القرآن وكذلك بقية الرسل عليهم صلوات الله وسلامه حيث يحاورون أقوامهم بالحكمة لدعوتهم إلى الله وبيان الحق لهم والرد على شبهاتهم.
وهذا القرآن يحكي حوار النبي –صلى الله عليه وسلم - مع امرأة "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" [المجادلة: 1].
وحضارتنا الإسلامية على مدى التاريخ هي حضارة الحوار فقد حاور علماء المسلمين كافة أهل الملل والنحل بالمنهج القرآني والدعوة إلى الخير(7).
ثانيًا: أهم أهداف الحوار في الإسلام:(/1)
1 – الدعوة إلى الإسلام, وعبادة الله وحده لا شريك له وهذا أسمى هدف "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [فصلت: 33] ومعرفة الله هي أعظم حقيقة وعبادته هي الحكمة من خلق البشر "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: 56], ويترتب عليها سعادة البشرية في الدنيا والآخرة " فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" [طه: 123, 124].
ويدخل في ذلك إبراز محاسن الإسلام والرد على شبهات أعدائه وإيضاح الحقيقة العظيمة في الحكمة من خلق البشر وما يُراد منهم وما يراد بهم وما مصيرهم.
فالحوار مطلب إسلامي لكي نقوم بواجبنا تجاه الأمم الأخرى ليس لافادة أنفسنا فحسب بل لفائدة الأمم الأخرى أيضًا لنوصل إليها الخير الذي أمرنا به.
فالأمة الإسلامية هي صاحبة الرسالة الأخيرة, وعليها واجب البلاغ، قال تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [آل عمران: 110].
2- تحقيق وظيفة الإنسان في الأرض وهي الخلافة وعمارة الأرض "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" [البقرة: 30] (8).
3- تبادل العلوم النافعة، وحل الإشكالات القائمة والتعاون على الخير "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" [المائدة: 2].
وليس من أهداف الحوار موالاة الكفار ومودتهم من دون المؤمنين، فقد جاءت النصوص القطعية في النهي عن ذلك، قال الله تبارك وتعالى: "لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ" [آل عمران: 28].
كما أن الحوار لا يهدف إلى التنازل عن شيء من ثوابتنا العقدية أو الشرعية، أو المشاركة في الدعوات المغرضة لوحدة الأديان التي تساوي الإسلام بغيره وخلط الحق بالباطل، أو مشاركة الكفار في باطلهم، وقد نهى الله نبيه عن ذلك فقال سبحانه: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 1-6]، وقال أيضاً: "وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ" [القلم: 9] وقال سبحانه: "وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً" [الإسراء: 74] كما يجب التفريق بين الكفار المحاربين الذي يجب معهم الجهاد في سبيل الله "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ" [الممتحنة: 1]، وقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" [التوبة: 73]، والمسالمين الذين قال الله فيهم: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الممتحنة: 8].
ثالثاً: آداب الحوار:
من أهم آداب الحوار:
1- حسن القصد من الحوار: وذلك بالإخلاص لله والرغبة في طلب الحق، قال تعالى: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ " [البينة: 5].
2- العلم: فلا حوار بلا علم، والمحاور الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، وقد ذم الله سبحانه وتعالى المجادل بغير علم "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ" [الحج: 8]، وذم أهل الكتاب لمحاجتهم بغير علم كما في قوله تعالى: "هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [آل عمران: 65-66].
العلم عام في كافة مواضع الحوار، فيشمل العلم بالإسلام وعقيدته وحضارته والعلم بالمحاورين وخلفياتهم وكافة ما يحتاج إليه في الحوار.(/2)
فالمحاور المسلم داع إلى الله يجب أن تكون دعوته بعلم وبصيرة كما قال سبحانه "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي" [يوسف: 108].
فالعلم بالإسلام وحضارته وشبهات المخالفين في غاية الأهمية في حوار غير المسلمين لإقناعهم ورد شبهاتهم فضلاً عن عدم الانخداع والتأثر بها.
3- التزام القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام، حيث أن أهم ما يتوجه إليه المحاور التزام الحسنى في القول والمجادلة، ففي محكم التنزيل: "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [سورة الإسراء: 53] "وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ" [سورة النحل: 125] (9).
وعلينا أن ننأى بأنفسنا عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز.
4- التواضع واللين والرفق من المحاور وحسن الاستماع وعدم المقاطعة والعناية بما يقوله المحاور، فهو أدعى للوصول إلى الحقيقة واستمرار الحوار، وهذا ما علمناه القرآن، فقد أمر الله نبيه موسى وأخاه هارون عليهما السلام عند مخاطبة فرعون الذي طغى وتجبر وادعى الألوهية والربوبية، فقال سبحانه : "فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" [طه: 44].
5- الحلم والصبر، فالمحاور يجب أن يكون حليماً صبوراً، فلا يغضب لأتفه سبب، فإن ذلك يؤدي إلى النفرة منه والابتعاد عنه، والغضب لا يوصل إلى إقناع الخصم وهدايته، وإنما يكون ذلك بالحلم والصبر، والحلم من صفات المؤمنين قال تعالى: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" [أل عمران: 134]. وعندما قال رجل للنبي – صلى الله عليه وسلم - أوصني، قال: (لا تغضب) (10) وكررها مراراً.
ومن أعلى مراتب الصبر والحلم مقابلة الإساءة بالإحسان، فإن ذلك له أثره العظيم على المحاور، وكثير من الذين اهتدوا لم يهتدوا لعلم المحاور واستخدامه أساليب الجدل، وإنما لأدبه وحسن خلقه واحتماله للأذى ومقابلته بالإحسان، وقد نبه الله عز وجل الداعين إليه إلى ذلك الخلق الرفيع وأثره وفضل أصحابه، فقال تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" [فصلت: 33-35].
6- العدل والإنصاف؛ يجب على المحاور أن يكون منصفاً فلا يرد حقاً، بل عليه أن يبدي إعجابه بالأفكار الصحيحة والأدلة الجيدة والمعلومات الجديدة التي يوردها محاوره وهذا الإنصاف له أثره العظيم لقبول الحق، كما تضفي على المحاور روح الموضوعية.
والتعصب وعدم قبول الحق من الصفات الذميمة في كتاب الله فإن الله أمرنا بالإنصاف حتى مع الأعداء فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [المائدة: 8]، ومن تدبر القرآن الكريم وذكره لأهل الكتاب وصفاتهم الذميمة يجد أن المولى عز وجل لم يبخسهم حقهم، بل أنصفهم غاية الإنصاف، ومن ذلك قوله تعالى: "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً" [آل عمران: 75]، وقوله تعالى: "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" [آل عمران:113]. يقول ابن القيم:
وتعر من ثوبين من يلبسهما *** يلقى الردى بمذمة وهوان
ثوب من الجهل المركب فوقه *** ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحل بالإنصاف أفخر حلة *** زينت بها الأعطاف والكتفان(11)
ويأمر الله بمحاورة أهل الكتاب بلغة الإنصاف والعدل: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً" [آل عمران: 64].(/3)
والإسلام ينطلق في الحوار من التكافؤ بين البشر لا تفاضل لعرق كما حكى الله عن اليهود قولهم: "نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ" [سورة المائدة: 18] أو لون كما يدعى العنصريون البيض في أوروبا، أو طبقية كما هي عند الهندوس، وإنما بصلاحهم، ولنتأمل آية قرآنية مفتتحة بالمبدأ ومقررة وجود الاختلاف ومبينة أهمية التعارف وخاتمة بميزان التفضيل "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [الحجرات: 13].
وهذا الاختلاف من آياته سبحانه "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ" [الروم: 22].
فالإسلام يقرر أن الاختلاف حقيقة إنسانية طبيعية ويتعامل معها على هذا الأساس "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" [المائدة: 48].
فوجود الاختلاف أمر واقع وله حكم إلاهية ويجب التعايش وفق ما أمر الله من الدعوة والنصيحة(12).
وأخيراً هذه نظرتنا للحوار والاختلاف، ولكن عندما ننظر إلى الواقع ودعوات الحوار الصادرة من الغرب لنا أن نتساءل: كيف يؤتي الحوار ثماره في العالم اليوم بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب وهو يصاحب الهيمنة والاستعلاء، والظلم والجور، والاحتلال ولغة السلاح.
إن التكافؤ بين المتحاورين مهم جدًّا ليحقق الحوار أهدافه(13).
أن الحوار لا يحقق أهدافه مع المجازر المستمرة في فلسطين والاحتلال في العراق وأفغانستان؛ بل كيف تتفق لغة الحوار ع الجدار العنصري في الأرض المحتلة على الرغم من إدانة العالم في الأمم المتحدة (باستثناء بعض دول الغرب المنحازة للصهيونية).
أي حوار ينادي به الغرب مع هذا العدوان والظلم ولغة الاستعلاء، وفرض المصطلحات واستغلال التفوق الإعلامي لتشويه الآخرين.
كيف نثق بهذا الحوار الذي يهدف إلى نمط جديد من الدبلوماسية لتكريس الظلم ومصالح تتعلق بالاقتصاد والسياسة ومواصلة الحرب والصراع والاحتلال(14).
إن الغرب مطلوب منه قبل أن يتحدث عن الحوار ونشر الديموقراطية (والشرق الأوسط الكبير) إن كان يريد خيرًا بالآخرين يجب تقليص الهوة السحيقة بين البلدان الغنية والفقيرة, وعليه مساعدة البلدان على التنمية لا توريطها في الديون والفقر، وفرض الإملاءات عليها، ومساعدة البلدان التي خربتها الحروب كالصومال وأفغانستان وغيرها على إنهاء ذلك الوضع, بل أن تكف يدها عن إشعال الفتن في تلك البلدان.
بعد ذلك يُقال أننا نرفض الحوار والتسامح؛ ومن يتهمنا بذلك؟ إنه المستعلي الظالم المحتل لأرضنا والساعي لتشويه ديننا وثقافتنا، ومع ذلك فلا نزال نقول إننا مع دفاعنا عن ديننا وثقافتنا وأرضنا وأنفسنا فإننا نرى أن الحوار هو خيار مهم لتحقيق أهدافنا العليا القائمة لمصلحة البشرية.
________________________________________
(1) لسان العرب، ابن منظور (4/217-218).
(2) لسان العرب، ابن منظور (11/103).
(3) انظر: أصول الحوار، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1408هـ - 1987م، ص: 9. وانظر: الحوار مع أهل الكتاب، د. خالد بن عبدالله القاسم، دار المسلم، الطبعة الأولى، 1414هـ، ص: 104.
(4) لسان العرب، (4/196).
(5) انظر: الحضارة والعالم الآخر، د. عبدالله الطريقي، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، 1415هـ، ص: 16-17.
(6) انظر: الحضارة، حسين موسى، عالم المعرفة، 1998م، ص: 220.
(7) انظر: موقف الإسلام من الحضارات الأخرى، د. محمد نورد شان، بحث مقدم إلى ندوة الإسلام وحوار الحضارات، غير منشور، مكتبة الملك عبد العزيز، الرياض – السعودية، محرم 1423هـ، ص: 6.
(8) انظر: مدخل إسلامي لحوار الحضارات، لمحمد السعيد عبد المؤمن ص(11-12)، بحث مقدم لندوة الإسلام وحوار الحضارات، مكتبة الملك عبد العزيز، 1423هـ غير مطبوع.
(9) أصول الحوار وآدابه في الإسلام، صالح بن عبدالله بن حميد، ص: 13.
(10) أخرجه البخاري، ك الأدب، باب الحذر من الغضب، رقم (5765).
(11) الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، ابن القيم، دار المعرفة، بيروت، 1345هـ، ص: 19.
(12) انظر: مجلة العرفة، العدد 101 شعبان 1424هـ، موضوع قيم الإسلام، الحوار الانفتاح على العالم، ص: (18 – 26).
(13) انظر: من أجل حوار بين الحضارات (9) روجيه جارودي دار النفائس، الطبعة الأولى 1411هـ.
(14) انظر: حوار الحضارات، محمد خاتمي (50) ضمن كلمة الرئيس الإيراني في اليونسكو (بتصرف) في فرنسا 30/10/91 دار الفكر دمشق الطبعة الأولى 1423هـ.(/4)
الحوارُ الحضاريّ بعد أزمة الرسوم
د.مسفر بن علي القحطاني 6/3/1427
04/04/2006
بعد مرور أكثر من ستة أشهر على أزمة الرسوم المسيئة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وبعدما انجلى الغبار عن هذه المحنة التي مسّت أعز مقدساتنا الإسلامية، وبعدما شهدت ساحتنا الفكرية والشعبية ردود فعل غاضبة على ما حدث من اعتداء .. أعتقد أنه آن الأوان لدراسة هذه الحالة التي أيقظت الأمة، وأحيت ضميرها المغيّب، وأشعلت جذوة الغيرة في الأنفس بعد صدمات الذلة والانكسار. ولابد عند تأمل هذه الظاهرة أن نفكر بعيداً عن العواطف والانفعالات التي شهدتها مجتمعاتنا الإسلامية إبّان الأزمة.. وأحب أن أساهم في رصد هذه الحالة من خلال تأملات خاصة، هي رجع الصدى لأفكار منثورة على صفحة هذا المقال:
أولاً: عمق المشاركة الشعبية لنصرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من كافة الفئات ومختلف الشرائح؛ إذ ضربت أروع الأمثلة في الحب والتضحية, مصداق ذلك ما شاهدناه من تحرك وعمل فاق في حجمه وأثره الدور المرتجى من النخب المثقفة في مجتمعاتنا الإسلامية؛ وهي التي تمتلك ناصية الخروج على الفضائيات أو صفحات الجرائد والمجلات. وأظن أن تلك النخب مرت باختبار حقيقي كشف عن حجمها أو أثرها في أزمات الأمة وقضايا المجتمع الساخنة. فلا ننكر أن هناك من تماشى مع ردود الفعل الغاضبة، ونصّب نفسه إماماً للمسلمين أو قاضياً لمعاقبة المعتدين، وقد وُظِّفت تلك التصرفات عكس ما هدفت إليه نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم-, وهناك من كتم رأيه في حمّى الغضب الجماهيري مع قناعته بأن تلك التصرفات الغاضبة مِن قتل وإحراق وظلم في المقاطعة لغير المعنيين تصرفات خاطئة وغير مسؤولة، لكن خوفه من غضب الجمهور و معاكسة إرادة الحشود جعله يكتم النصح الحقيقي والنظرة المعتدلة والفقه اللازم في مثل هذه الظروف, كما برز أصحاب التثاقل والتوهين لمشاعر المسلمين والمتغيظين من هبّة الغيورين؛ وصدق الله العظيم في وصفه لحالة أولئك :(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)[التوبة: من الآية47].
إن النخب المثقفة وأصحاب الرأي في الأمة لا يجوز لهم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وترك الشعوب تمور من الغضب اللاواعي؛ مما أفقدنا كثيراً من مكتسبات تلك الأزمة، وتوظيفها في مصالح الأمة.
ثانياً: هذا التأزّم حرّك المجتمع العالمي إلى فريق النصرة والغضب دفاعاً عن مقدسات ومعتقدات أكثر من مليار مسلم, وإلى فريق المدافعة عن حرية الرأي وحق التعبير من غير شرط أو قيد. وأثار لدى الكثير من المراقبين والمحللين إمكانية العودة لنظرية الصدام الحضاري التي بشّر بها في الغرب هنغتون وفوكوياما. وتأجّجت مشاعر المسلمين في تحميل الغرب والشرق عداوتهم الأبدية للإسلام، وكانت معطيات الصراع الديني والحضاري متوفرة في ثنايا تلك الأزمة من خلال بعض التصريحات الغربية ومحاولة إعادة نشر الرسوم المسيئة. وأظن أن صيحات بعض الخطباء والمنادين بحرب الغرب قد طغت عن تفكيك الحالة الغربية وموقفها من احترام المقدسات الإسلامية. بل أغفلت أن هناك في أوروبا وحدها أكثر من خمسين مليون مسلم أكثرهم مواطنون في تلك الدول. ونسيت الهدف الأساس من وراء تأجيج هذه النزعة الصدامية, ولا أدري: هل كان المراد منها شن الحرب على أوروبا كما شنتها القاعدة على أمريكا التي مازلنا نتحمل تبعات تلك التشنجات المتطرفة؟! ثم أتساءل: هل الغرب كله يحمل هذا العداء السافر حتى نحمّل مئات الملايين من الشعوب، ومئات المؤسسات المعتدلة تبعات ما قامت به بعض الصحف أو القنوات الإعلامية المعادية أو سفاهة بعض المسؤولين و المثقفين الغربيّين؟! وهل من العدل أن نحاكم أمة كاملة بتصرفات سفهائها، ونحن نطالبهم بنظرة العدل والإنصاف، في حين لا ننظر إليهم بها كذلك؟! ثم هل نقدر فعلاً أننا نمارس عداوة أو قطيعة كاملة مع تلك الدول في عصر لا يمكن أن نتعايش إلا بالتبادل التجاري والتقني والتحالف السياسي والعسكري، وغيرها من المشتركات الحاجية بين الشعوب في ظل انفتاح الأسواق وتهاوي الحدود بين المجتمعات؟! ثم لماذا نحسن في إلقاء اللوم على المتآمرين ضدنا، وننسى أننا صنعنا صورتنا المشوّهة في أذهانهم من خلال تصرفات بعض أبنائنا هناك أو زوّارنا إليهم؟! هذه الأسئلة وغيرها لا يمكن أن نسارع في الإجابة عنها من خلال موقف عارض، أو واقع نجهل تفاصيله، أو غفلة عن إدراك المنطلقات الدافعة لهذه التصرفات والمآلات المترتبة عليها؟! والهروب من الإجابة عنها قد يكلفنا جهداً يضيع أو يحملنا عبء تكرار الأخطاء.(/1)