وحديث ثوبان مختلف في صحته وإن صح فمحمول على الاستحباب لأنه الأصل في الفعل المجرد وقد قال الإمام ابن عبد البر في الاستذكار على حديث أبي الدرداء . وهذا حديث لا يثبت عند أهل العلم بالحديث ولا في معناه ما يوجب حكماً .. والنظر يوجب أن الوضوء المجتمع عليه لا ينتقض إلا بسنة ثابتة لا مدفع فيها أو إجماع ممن الحجة بهم ولم يأمر الله تعالى بإيجاب الوضوء من القيء ولا ثبت سنة عن رسول الله ولا اتفق الجميع عليه .
السؤال الثالث : فضيلة الشيخ . رجل فاته الركوع الثاني من صلاة الجمعة كيف يقضي الصلاة ؟
الجواب : يصليها ظهراً أربع ركعات في أصح قولي العلماء قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ( إذا أدركت ركعة من الجمعة فأضف إليها أُخرى فإذا فاتك الركوع فصل أربعاً ) . رواه ابن أبي شيبة والبيهقي في السنن من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله وسنده صحيح .
وهذا قول عبد الله بن عمر رواه البيهقي .
وعبدالله بن الزبير رواه ابن أبي شيبة ، ولا يعلم لهم من الصحابة مخالف وقال الترمذي رحمه الله في جامعه ( والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم قالوا : من أدرك ركعة من الجمعة صلى إليها أُخرى ومن أدركهم جلوساً صلى أربعاً وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق .
وقال أبو حنيفة وداود وابن حزم إذا أحرم في الجمعة قبل سلام الإمام صلى ركعتين لقول صلى الله عليه وسلم . إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا )) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة .
قالوا وظاهر هذا الحديث أن من أدرك جزءاً من الصلاة قبل سلام الإمام فهو مأمور بالدخول فيها مع الإمام وبعد ذلك يقضي ما فاته وذلك ركعتان لا أربع .
وفيه نظر والثابت في الأحاديث الصحاح أن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة جاء هذا في الصحيحين وغيرهما ومفهومه أن من لم يدرك ركعة ففد فاتته الصلاة فيصلي الجمعة ظهراً وذلك أربع ركعات لا ركعتان لقول عامة الصحابة .
وقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على أن من لم يدرك من صلاة الجمعة جزءاً قبل السلام فقد لزمه أربع ركعات وإدراك ما دون ركعة حكمه حكم من لم يدرك شيئاً والله أعلم .
السؤال الرابع : ما حكم اللعب بالشطرنج ؟
الجواب : اللعب بالشطرنج على حالتين
الأولى : أن يكون اللعب عن عوض فهذا محرم ولا يجوز بالإتفاق وهو من الميسر المذموم والقمار المتفق على تحريمه سواء كان العوض من أحدهما أو من كليهما أو من طرف ثالث .
الثانية : أن يكون اللعب بغير عوض فهذا فيه خلاف قيل مكروه وليس بمحرم .
وقيل مباح لأن الله تعالى إنما حرم الميسر لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل فإذا خلا اللعب بالشطرنج عن الرهن والعوض لم يكن حراماً .
وقيل اللعب بالشطرنج حرام مطلقاً وهو بالعوض أشد تحريماً وأعظم ذنباً .
وهذا مذهب أكثر أهل العلم ونصره ابن القيم رحمه الله في كتابه الفروسية .
وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من طريق سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه ) والنردشير هو مايسمى في هذا العصر بلعبة الطاولة وهي صندوق وحجارة لها أوجه ستة ولكل وجه من الأوجه الستة نقاط مرتبة من الواحد إلى الستة .
والنردشير غير الشطرنج فإن الشطرنج أعظم مفسدة من النردشير واكثر ضرراً .
وحين زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن النردشير ولو بدون عوض اقتضى النظر والقياس الصحيح إلحاق الشطرنج به والتفريق بينهما في الحكم تفريق بين المتماثلين بدون حق .
والقول بأن التحريم مقصور على وجود العوض فإذا خلا اللعب عن العوض أبيح فهذا غير صحيح فإن التحريم واقع بوجود العوض وواقع بدونه بسبب ما يحصل باللعب من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة وتضييع الأوقات وإيقاع العداوة والبغضاء بين اللاعبين وغير ذلك من المفاسد المعلومة .
السؤال الخامس : فضيلة الشيخ . ما تقولون في حديث ( لا يقطع الصلاة شيء وادرأوا ما استطعتم ... ) .
الجواب : هذا الحديث لا يصح وليس بشيء فقد تفرد به مجالد بن سعيد عن أبي الودّاك عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود في سننه ومجالد بن سعيد تكلم فيه الأئمة .
قال الإمام أحمد : ليس بشيء .
وقال ابن معين : ضعيف واهي الحديث .
وقال ابن حبان : كان رديء الحفظ يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل لا يجوز الاحتجاج به .
وقال الدارقطني : ليس بقوي .
وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله فيما يقطع الصلاة فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا يقطع الصلاة شيء .(/24)
بدليل ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها حين ذُكر عندها ما يقطع الصلاة ، الكلب والحمار والمرأة فقالت : شبهتمونا بالحمر والكلاب !! والله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس فأوذي النبي صلى الله عليه وسلم فأنسل من عند رجليه .
وفي البخاري ومسلم من طريق مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عباس قال أقبلت راكباً على حمار أتان وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي بمنى إلى غير جدار فمررتُ بين يدي بعض الصف وأرسلتُ الأتان ترتع فدخلتُ في الصف فلم يُنكر ذلك عليّ ) .
وروى مالك بلاغاً عن علي بن أبي طالب قال : لا يقطع الصلاة شيء مما يمر بين يدي المصلي . ورواه عبد الرزاق من طريق أبي إسحاق عن الحارث عن علي والحارث ضعيف .
وروى بسند صحيح عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يقول : لا يقطع الصلاة شيء مما يمر بين يدي المصلي .
قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله في جامعه . والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين قالوا : لايقطع الصلاة شيء وبه يقول سفيان والشافعي .
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يقطع الصلاة الحمارُ والمرأة والكلب الأسود .
لقوله صلى الله عليه وسلم . إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود . رواه مسلم في صحيحه من طريق حميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر .
وفي صحيح مسلم من طريق عبيد الله بن الأصم عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقطعُ الصلاة المرأة والحمار والكلب .. ) وهذا قول ابن عباس وأنس بن مالك وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله في رواية اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
وعنه قال ، الذي لا أشك فيه أن الكلب الأسود يقطع الصلاة وفي نفسي من الحمار والمرأة شيء .
وقال إسحاق ، لا يقطعها شيء إلا الكلب الأسود .
والمتوجه في هذه المسألة هو قطع الصلاة بمرور المرأة والحمار والكلب الأسود .
ويجاب عن حديث عائشة المتفق عليه بأنه يفرق بين المار واللابث وقد كانت عائشة قارة ولم تكن مارة وقد أشار إلى هذا الإمام ابن خزيمة رحمه الله في صحيحه .
ويجاب عن حديث ابن عباس بأن الإمام سترة لمن خلفه والقول بأن المقصود بالقطع في حديثي أبي ذر وأبي هريرة هو الخشوع لا حقيقة الصلاة فيه نظر .
وهو من صرف الألفاظ عن حقائقها بدون حجة وقد جاء حديث أبي ذر بلفظ . تعاد الصلاة من ممر الحمار والمرأة والكلب الأسود . رواه ابن خزيمة في صحيحه وهذا صريح في بيان معنى القطع بيد أن في صحته نظراً والمحفوظ بغير هذا اللفظ والعلم عند الله .
الجلسة الرابعة عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مجموعة من الأسئلة أجاب عنها فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله في جلسته اليومية بعد صلاة الظهر وكانت الإجابة مسجلة بصوته فتم تفريغها وعرضها على الشيخ بتاريخ 10 / 5 / 1422 هـ فأذن بنشرها .
السؤال الأول : ما حكم المني إذا انتقل ولم يخرج ؟
الجواب : ذهب الإمام أحمد رحمه الله في إحدى الروايتين إلى إيجاب الغسل على من انتقل منه المني ولم يخرج واختار ذلك القاضي وابن عقيل وجماعة من فقهاء الحنابلة .
...
ورتبوا على ذلك أن المرأة إذا أحست بانتقال الدم من محله فإنها تدع الصوم والصلاة ولو لم يخرج إلا بعد فترة . وفيه نظر . فالأدلة الصحيحة والنظر الصحيح على خلاف هذا وقد ذهب الإمام أحمد في رواية وأكثر أهل العلم من الفقهاء والمحدثين إلى أنه لا يجب الغسل على من انتقل منه المني حتى يخرج وذلك لما روى البخاري ومسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت . جاءَت أم سُليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق . هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نعم إذا رأت الماء ) .
فهذا الخبر صريح في أن الغسل لا يشرع ولا يجب بالانتقال لأن النبي صلى الله الله عليه وسلم لم يوجب ذلك إلا برؤية الماء وهكذا المرأة إذا أحست بانتقال الدم لا تدع الصوم ولا الصلاة حتى يخرج الدم فهو الذي تترتب عليه الأحكام والله أعلم
السؤال الثاني : ما حكم الجمع في الحضر بين الظهر والعصر ؟
الجواب : يشرع الجمع بين الظهرين والعشاءَين في البرد الشديد والرياح الشديدة والمطر ونحو ذلك وهذا من يسر الشريعة وسماحتها ونفي الحرج عن هذه الأمة .
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بين الظهر والعصر رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس .(/25)
ويجوز الجمع في مصالح المسلمين العامة ولو لم يكن في ذلك برد ولا مطر ولا خوف فقد جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن شقيق قال . خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون الصلاة الصلاة . قال فجاءَه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني الصلاة الصلاة فقال ابن عباس . أتعلمني بالسنة لا أم لك ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم . جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء . قال عبد الله بن شقيق فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدّق مقالته .
فهذا ابن عباس رضي الله عنهما جمع بين الصلاتين ولم يكن في سفر وليس هناك خوف ولا مطر ولكنهُ في خطبة يحتاج إليها المسلمون فلعله رضي الله عنه يخشى إن قطع الخطبة أن يتفرق الناس وتفوت المصلحة .
وقد قال بعض العلماء يجوز الجمع بين العشاءَين في أوقات العذر ومنع ذلك بين الظهرين وفيه نظر والصحيح الترخيص في الأمرين والأدلة صحت فيهما جميعاً وصحت الأدلة أيضاً في التخلف عن الجماعة والصلاة في البيوت في البرد الشديد والمطر والريح الشديدة فقد جاء في الصحيحين من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أنه أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح فقال أَلا صلوا في الرحال ثم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول : ألا صلوا في الرحال .
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما لمؤذنه في يوم مطير إذا قلت أشهد أن محمداً رسول الله فلا تقل حيّ على الصلاة قل : صلوا في بيوتكم . فكأن الناس استنكروا قال : فعله من هو خير مني إن الجمعة عزمة ، وإني كرهتُ أن أُحرجكم فتمشون في الطين والدحض . رواه البخاري ومسلم .
السؤال الثالث : ما حكم النية للجمع بين الصلاتين ؟
الجواب : ذهب الجمهور إلى أن الجمع بين الصلاتين لا يفتقر إلى نية وهذا الذي دلت عليه السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر ولم ينقل عنه أنه نوى الجمع أو أمر بذلك أو علم أحداً من أصحابه وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .
وذهب بعض فقهاء الشافعية والحنابلة إلى أن النية شرط لصحة الجمع لأن الجمع عمل فيحتاج إلى نية وقد قال صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات ) متفق عليه من حديث عمر .
والصحيح رأي الجمهور لأن النية لو كانت مشروعة ناهيك عن وجوبها لبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم . والله أعلم .
السؤال الرابع : ما حكم بيع العربان ؟
الجواب : العربان هو أن يشتري السلعة بثمن معلوم ويدفع شيئاً من الثمن على أنه إن أمضى البيع حُسب من الثمن وإلا كان للبائع وليس للمشتري المطالبة به .
وقد اختلف الفقهاء في حكمه
فقال مالك والشافعي ببطلانه لما فيه من الشرط والغرر وأكل أموال الناس بالباطل .
وقد روى مالك في الموطأ عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العُربان .
وهذا الخبر لا يثبت لأن الواسطة بين مالك وعمرو بن شعيب غير معروفة وحينئذٍ لا يصح الاحتجاج به على تحريم بيع العربان .
وهذا البيع ليس فيه محذور واضح فالبائع وكذا المشتري كلاهما قد تحصّلا على نفع وقد ثبت عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إجازته فقد روى ابن أبي شيبة في المصنف والإمام أحمد في مسائل ابنه عبد الله أن نافع بن عبد الحارث اشترى داراً للسجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم فإن رضي عمر فالبيع له و إن لم يرض فأربعمائة لصفوان .
ورواه الإمام البخاري في صحيحه معلقاً بصيغة الجزم .
ورُوي جوازه عن ابن عمر ومحمد بن سيرين وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد ويقويه الحديث المشهور ( المسلمون على شروطهم ) رواه البخاري معلقاً في باب أجر السمسرة ووصله الترمذي من طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم وسنده ضعيف وله طريق أخرى عند أبي داود من حديث أبي هريرة والله أعلم .
السؤال الخامس : من هو المسترسل وهل يثبت له الخيار ؟
الجواب : المسترسل هو الذي لا يماكس ويجهل قيمة المبيع فإذا غبن هذا المشتري غبناً يخرج عن العادة فإنه يثبت له الخيار وهو مخير بين ثلاثة أمور
الأول : أن يمضي البيع ويفوض أمره إلى الله .
الثاني : أن يرد المبيع ويأخذ قيمته .
الثالث : أن يأخذ قدر ما غبن به .
و أما الغبن اليسير الذي لا يخرج عن العادة فإنه يتسامح فيه ويصح معه البيع ولا يفسخ والله أعلم .
الجلسة الخامسة عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مجموعة من الأسئلة وجهت للشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله في إحدى جلساته اليومية بعد صلاة الظهر وكانت الإجابة عليها مسجلة بصوته وبعد ذلك فرغت من الأشرطة وعرضت على الشيخ بتاريخ 20 / 5 / 1422 هـ فأجاز نشرها .
السؤال الأول :ما حكم تولية المرأة للقضاء والوزارة وجعلها أحد أعضاء مجلس الشورى ؟(/26)
الجواب : نحن نعلم من قواعد الفقهاء والأصوليين أن كل أمر انعقد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو عصر الصحابة ولم يفعلوه مع إمكانية فعله فإنه بدعة ولا يجوز عمله ولا إقراره .
ولا أعلم أحداً من الصحابة ولا التابعين رخص للمرأة أن تكون ملكة أو أميرة على الرجال أو وزيرة أو قاضية أو عضواً في مجلس الشورى .
بل الأمر بعكس ذلك كانوا ينهون عن ذلك ولا يرون للمرأة شأناً في مثل هذه المسائل التي هي من خصائص الرجال .
وقد كان في عصر الصحابة مجلس شورى ولم يكن من بينهم امرأة على رجحان عقول كثير منهن ولا سيما أمهات المؤمنين .
وفي صحيح البخاري من طريق عوف عن الحسن عن أبي بكرة قال . لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل بعدما كدتُ أن الحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم قال : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة .
فهذا دليل على منع المرأة من تولي الولايات العامة والقول بأن الحديث خاص بالإمامة العظمى غير صحيح فقد ذكر الأصوليون بأن الحكم الواقع على العام واقع على كل فرد من أفراده .
وهذا الذي فهمه الصحابة حين منعوا المرأة من الولايات العامة .
والمتأمل في طبيعة المرأة ونقص غريزة عقلها والفروق الكثيرة بين الرجال والنساء وخصائص كل منهما عن الآخر لا ينازع في منع المرأة من الولايات العامة وهذا رأي أكثر أهل العلم وذكره جماعة من العلماء اتفاقاً .
ولأبي حنيفة وبعض فقهاء المالكية رأي في تولية المرأة للقضاء فيما تجوز فيه شهادتها .
وذهب ابن حزم إلى جواز ولايتها القضاء مطلقاً وفيه نظر ورأي الجمهور أقوى دليلاً وتعليلاً والله أعلم .
السؤال الثاني : ما الحكم في المساجد المبنية على القبور ؟
الجواب :بناء المساجد على القبور أو اتخاذ القبور على المساجد محرم بالكتاب والسنة واتفاق الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة .
وهذا العمل معدود عند طائفة من الفقهاء من كبائر الذنوب .
فالواجب حينئذٍ هدمُ المساجد المبنية على القبور ونبش الأموات إذا دفنوا في المساجد فلا يجتمع في دين المسلمين مسجد وقبر كما تفعله اليهود والنصارى وفي صحيح البخاري ومسلم من طريق الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن عائشة وابن عباس قالا لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذر ماصنعوا .
وفي صحيح مسلم من طريق زيد بن أبي أُنسية عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث النجراني عن جندب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .إلا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد . ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك . )) .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي الهيّاج الأسدي قال قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه . ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته .
والأدلة على تحريم بناء المساجد على القبور متواترة ولا ينازع في ذلك أحد من أهل العلم .
بيد أنك ترى بعض العامة والأغبياء في كثير من المجتمعات الإسلامية يتسابقون لفعل الصلاة في مسجد فيه قبر رجاء بركة الميت أو غير ذلك .
وهذه الصلاة في مثل هذه المساجد محرمة وفي إجزائها قولان للفقهاء .
الأول : أنها تصح مع الإثم وهذا قول الأكثر .
الثاني : أنها لا تجزي بل يجب إعادتها وهذا مذهب أحمد بن حنبل واختاره أبو محمد بن حزم رحمه الله .
السؤال الثالث :فضيلة الشيخ . إذا كان المسجد بُني على القبر ولم يمكن إزالة المسجد وأمكن إزالة القبر فما الحكم ؟
الجواب :
يجوز على الصحيح نبش القبر وإزالته وإن كان الأسبق إذا تعذر إزالة الطارئ . والضابط في ذلك مراعاة المصلحة وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : أنه إذا كان المسجد بُني بعد القبر فإما أن يزال المسجد وإما تزال صورة القبر .
وذهب بعض أهل العلم إلى وجوب إزالة المتأخر وهذا صحيح مع القدرة وانتفاء المفسدة والله أعلم .
السؤال الرابع : ما هو المعنى الصحيح للعلمانية ؟
الجواب : المعنى الصحيح للعلمانية هو اللادينية وذلك فصل الدين عن الحياة بحيث تقوم الحياة على غير دين الله وعلى غير شرعه .
فيبقى الإسلام معزولاً عن الحياة العملية معزولاً عن سياسة الحكم فلا يتدخل في الشئون الاقتصادية ولا الشئون الإدارية ولا يعالج مشكلات الحياة .
هذا ما يقوله المتشائمون من هذا الدين الجاهلون بأحكامه وتشريعاته فهم يُقصون الدين عن الحياة ويجعلون الحكم للشعب لا لله.
والأمر المحزن هو أن ترى هذا الفكر الساذج قد حضي بهالة إعلامية في بلاد المسلمين ولقي رواجاً وتقبُّلاً من أكثر الحكومات العربية وهذا بلاء عظيم نسأل الله السلامة والعافية .(/27)
السؤال الخامس : ماهي عقيدة السلف في ترك جنس العمل ؟
الجواب :إن تارك جنس العمل أي أعمال الجوارح مطلقاً كافر باتفاق المسلمين ولا ينفعه حينئذٍ قوله ولا اعتقاده فإن ذلك لا يصح بدون عمل .
وترى هذا مبيناً بطولٍ في الشريعة للآجري والإبانة لابن بطة وكتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية وأوائل المجلد الأول من فتح الباري للحافظ ابن رجب .
وليس هذا بلازم لتكفير أصحاب الكبائر كما يقوله أهل الإرجاء فإن السلف متفقون على أن من الأعمال أركاناً للإيمان يكفر تاركها ومنها واجبات لا يكفر تاركها .
وفي فتح الباري لابن رجب قال سفيان بن عيينة : المرجئة سمّوا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم ، وليسا سواء ، لأن ركوب المحارم متعمداً من غير استحلال معصية وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر هو كفر .
وبيان ذلك في أمر آدم وإبليس وعلماء اليهود الذين أقرّوا ببعث النبي صلى الله عليه وسلم بلسانهم ولم يعملوا بشرائعه .
ونقل حرب عن إسحاق قال . غلت المرجئة حتى صار من قولهم إن قوماً يقولون من ترك الصلوات المكتوبات وصوم رمضان والزكاة والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفره ، يُرْجى أمرُه إلى الله بعد ، إذ هو مُقر . فهؤلاء الذين لا شك فيهم يعني أنهم مرجئة ... ) .
ومن دعاوى أهل الإرجاء أنه لا يكفر أحد بالفعل مالم يستحل أو يكذب أو يعاند الحق ويبغضه ويستكبر عنه .
وهذا قول غلاة الجهمية وهو خلاف الكتاب والسنة والإجماع فإن ساب الرسول صلى الله عليه وسلم كافرُ بالاتفاق دون اشتراط البغض أو الاستحلال .
وأجمع العلماء على كفر المستهزئ بالدين دون ربط ذلك بالاعتقاد بل يكفر بمجرد الاستهزاء الصريح ولو كان هازلاً أو مازحاً قال تعالى { قل أبا الله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } فمناط الكفر هو مجرد القول .
وكذلك أجمع العلماء على كفر الحاكم المبدل لشرع الله الذي يضع القوانين الوضعية ويجعلها قائمة مقام حكم الله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد أشار إلى ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتاب البداية والنهاية في ترجمة جنكيز خان ، قال رحمه الله : من ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه من فعل هذا كفر بإجماع المسلمين .
وقول ابن عباس في قوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } كفر دون كفر . لايصح عنه رواه الحاكم في مستدركه من طريق هشام بن حجير عن طاوس عن ابن عباس وهشام بن حجير ضعيف الحديث قاله الأئمة يحي بن معين وأحمد بن حنبل والعقيلي وغيرهم وقال الإمام سفيان بن عيينة . لم نكن نأخذ عن هشام بن حجير مالا نجده عند غيره .
والمحفوظ عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال ( هي كفر ) رواه عبد الرزاق في تفسيره من طريق عبد الله عن طاوس عن أبيه عن ابن عباس وسنده صحيح .
وهذا المنقول عن أكابر الصحابة .ولا أعلم عن أحد منهم خلافاً في ذلك .
فأصحاب القوانين الوضعية والأنظمة الجاهلية والتشريعات المخالفة لحكم الله كفار :
1 _ بترك الحكم بما أنزل الله .
2- وكفار بتبديل شرع الله .
3- وكفار في حكمهم بهذا التشريع الجاهلي ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المجلد الثالث من الفتاوى : والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرّم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء .
والاعتذار عن هؤلاء المشرّعين بأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .... يقال عنه .
* بأن المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار يشهدون هذه الشهادة ويصومون ويصلون وليس هذا بنافع لهم .
* والذين قالوا ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء . يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونزل القرآن بكفرهم ، كانوا يتكلمون بالشهادتين ويصلون ويصومون ويجاهدون .
* والذين يطوفون حول القبور ولها يصلون وينذرون يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
* والرافضة الإثنا عشرية يتكلمون بالشهادتين .
* والسحرة والكهان والمنجمون يلفظون بهما .
* وبنو عبيد القداح كانوا يتكلمون بالشهادتين ويصلون ويبنون المساجد . وقد أجمعت الأمة على كفرهم وردتهم عن الإسلام .
وهذا أمر يعرفه صغار طلبة العلم ناهيك عن كبارهم .
فالاعتذار عن تكفير المبدّلين لشرع الله من أجل التكلم بالشهادتين مجرد تلبيس وتعمية للحقائق ومساهمة في استمرار الشرك في الأرض ونفوذ سلطان البشر مكان شرع الله .
وقد اعتذر عنهم آخرون بأنهم لا يفضلون القانون على الشرع ويعتقدون أنه باطل !! وهذا ليس بشيء ولا أثر له على الحكم فعابد الوثن مشرك ومرتد عن الدين وإن قال أنا أعتقد أن الشرك باطل .
السؤال السادس : فضيلة الشيخ هل يعذرون بالجهل ؟(/28)
الجواب : الذي منشأ ضلاله وكفره الإعراض عن العلم والعلماء والصدود عن الحق والتفريط الواضح في البحث عن سبيل الأنبياء والمرسلين فهذا غير معذور قال تعالى { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } وقال تعالى { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون } .
والذي منشأ ضلاله وتلبسه بالشرك أو الكفر الجهل المعتبّر مثل عدم بلوغ العلم أو التأويل الذي له وجه في العلم ونحو ذلك فإنه لا يُكفَّر حتى تقوم عليه الحجة .
وذلك أنَّ الجهل نوعان :
الأول مقبول : وهذا مانع من ثبوت الأحكام الشرعية فإن الحكم لا يترتب إلا على من توفرت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع .
الثاني غير مقبول : وقد بينت ذلك في غير موضع وفصلت في المسألة وذكرت الأدلة على ذلك ومذاهب أهل العلم والله أعلم .
أجاب عن هذه الأسئلة
فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله
snallwan@hotmail.com(/29)
الجلوس بعد صلاة الفجر
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد..
* فيا أخي المسلم :
أقدم إليك عبر هذه الوريقات نصيحة أخوية حول موضوع مهم جداً رأيت الكثير من أهل الخير في زماننا قد غفلوا عنه مع أهميته وعظم فوائده ، ألا وهو ذكر الله بعد صلاة الصبح في المسجد حتى تطلع الشمس راجياً من الله التوفيق والعون والسداد .
قال تعالى :
{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (النور:36)
رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وأقام الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (النور:37) }(1) .
وقد مدح الله تعالى هؤلاء الرجال بأنهم في بيوته التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه وهي المساجد .
وهذا فيه إشعار بهممهم السامية ونياتهم وعزائمهم العالية التي صاروا بها عماراً للمساجد ، يسبحون له في أول النهار وآخره فيها .
ومن أراد أن يسلك طريق أولئك الرجال فعليه بلزوم المساجد والجلوس فيها لذكر الله وقراءة القرآن .
وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجلس في المسجد مع الصحابة ويتذاكر معهم القرآن ، وقد حدثنا جابر بن سمرة رضي الله عنه فقال : (( كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناً ))(2) .
والرسول -صلى الله عليه وسلم- رغبنا في لزوم المساجد والجلوس فيها فقال : (( من صلى الصبح في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة ))(3) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (( لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أربعة من ولد إسماعيل ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة ))(4)
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : (( لأن أقعد أذكر الله تعالى وأكبره وأحمده وأسبحه وأهلله حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق رقبتين ( أو أكثر ) من ولد إسماعيل ومن بعد العصر حتى تغرب الشمس أحب إلى من أن أعتق أربع ( رقاب ) من ولد إسماعيل ))(5)
وعنه قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (( من صلى صلاة الغداة في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم قام فصلى ركعتين انقلب بأجر حجة وعمرة ))(6) .
وعن سهل بن معاذ عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : (( من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلاّ خيراً غفر له خطاياه وإن كانت أكثر من زبد البحر )) رواه أحمد وأبو داود وأبو يعلى وأظنه قال : (( من صلى صلاة الفجر ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس وجبت له الجنة ))(7) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان رسول الله : -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الفجر لم يقم من مجلسه حتى تمكنه الصلاة وقال : (( من صلى الصبح ثم جلس في مجلسه حتى تمكنه الصلاة كان بمنزله عمرة وحجة متقبلتين ))(8) .
وعن عبدالله بن غابر أن أبا أمامة وعتبة بن عبدالله حدثاه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : (( من صلى صلاة الصبح في جماعة ثم ثبت حتى يسبح لله سبحة الضحى كان له كأجر حاج ومعتمر تاماً له حجة وعمرته ))(9) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثاً ، فأعظموا الغنيمة وأسرعوا الكرة : فقال رجل : يا رسول الله ما رأينا بعثاً قط أسرع كرة أولاً أعظم غنيمة من هذا البعث فقال : (( ألا أخبركم بأسرع كرة منهم وأعظم غنيمة ؟ رجل توضأ فأحسن الوضوء ، ثم عمد إلى المسجد ، فصلى فيه الغداة ثم عقب بصلاة الضحوة ، فقد أرع الكرة وأعظم الغنيمة))(10) .
وفي الكتاب المصنف لابن أبي شيبة قال : حدثنا محمد بن بشر قال : حدثنا إسماعيل قال حدثني قيس بن أبي حازم عن مدرك بن عوف قال : مررت على بلال وهو بالشام جالس غدوة فقلت : ما يحبسك يا أبا عبدالله ؟ قال : أنتظر طلوع الشمس(11) .
وفي الكتاب المصنف لابن أبي شيبة أيضاً قال : وكيع عن بشير بن سلمان عن سيار أبي الحكم عن طارق بن شهاب قال : كان عبدالله إذا صلى الفجر لم يدع أحداً من أهله صغيراً ولا كبيراً يطوف حتى تطلع الشمس (12) .
وكان ابن أبي ليلى إذا صلى الصبح نشر المصحف وقرأ حتى تطلع الشمس (13) .
وقال الوليد بن مسلم رأيت الأوزاعي يقبع في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس ويخيرنا عن السلف أن ذلك كان هديهم فإذا طلعت الشمس قام بعضهم إلى بعض فأفضوا في ذكر الله والتفقه في دينه (14) .(/1)
وسئل الإمام مالك عن النوم بعد صلاة الصبح فقال : غيره أحسن منه وليس بحرام(15) .
قال مالك : كان سعيد بن أبي هند ونافع مولى ابن عمر وموسى بن ميسرة يجلسون بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ثم يتفرقون ولا يكلم بعضهم بعضاً اشتغالاً بذكر الله(16) .
كما ثبت أيضاً أن أغلب دروس الأئمة والعلماء بعد صلاة الفجر .
كما حدث الربيع بن سليمان أنه قال : كان الشافعي رحمه الله يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيئه أهل القرآن فإذا طلت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه ، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر ، فإذا ارتفع الضحى تفرقوا ، وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار ثم ينصرف رحمه الله(17) .
وعن أبي معاذ عن مسعر بن كدام . قال : أتيت أبا حنيفة في مسجده ، فرأيته يصلي الغداة ، ثم يجلس للناس في العلم إلى أن يصلي الظهر ثم يجلس إلى العصر ، فإذا صلى العصر جلس إلى المغرب فإذا صلى المغرب جلس إلى أن يصلي العشاء (18) .
كما حرص السلف الصالح على الالتزام بهذه السنة فها هو شيخ الإسلام ابن تيمية كما ينقل عنه تلميذه ابن القيم يجلس بعد الصلاة يذكر الله وكان يقول إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ، يعني بذلك ما يحصل للعابد من لذة المناجاة التي لا نسبة بينها وبين لذات الدنيا بأسرها وكان يقول رحمه الله كما ينقل عنه تلميذه ابن القيم : هذه غدوتي ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي.
وقد كان إذا صلى الفجر جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار (19) .
أولئك قوم شيد الله فخرهم 0000000 فما فوقه فخر وإن عظم الفخر
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يدلك على تجارة رابحة وخطة ناجحة ، أن تستيقظ مبكراً ثم تصلي الصبح وتستمر في مصلاك حتى مطلع الشمس ، وتتنفل بركعتين ليكتب لك ثواب حجة تامة(20) .
كما أنك إذا عملت بهذه السنة طهرت من الدنس ونقيت صحيفتك من الخطايا وإن كانت مثل رغوات البحر وزبده(21) .
وبسط الله لك رزقك وشعرت بالفرح وذهبت إلى عملك قرير العين مثلوج الفؤاد . باسم الثغر ممتلئاً قوة ونشاطاً وثقة بالله واعتماداً عليه لأنك تحس برضا مولاك ، وإحاطة رحمته بك ، كما قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي مر بنا : (( أولئك أسرع رجعة وأفضل غنيمة ))(22) .
والله لشعور الإنسان بأداء عبادة ربه محور السعادة ومجلب السيادة والسرور ، ومدعاة لرضاء الخالق . وكان الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم يصلون الفجر وينتظرون في مصلاهم يسبحون الله حتى مطلع الشمس ، ونحن في هذا الزمن زاد السهر والسمر ويتأخر الغافل في النوم حتى تطلع الشمس .
ولعلك غرفت يا أخي أفعال الموفقين في الحياة الذين جمعوا بين العمل لطلب الرزق وطاعة الله بأداء االحقوق وتسبيح الله صباحاً ومساءً (23) .
فيا أخي أحبس نفسك مع المطيعين المسبحين الذاكرين وثبتها على العمل الصالح وذكر الله في أول النهار وآخره .
وما الحياة بأنفاس نرددها0000000 إن الحياة حياة العلم والعمل
ووقت ما بعد صلاة الفجر كله خير وبركة دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته فيه بالخير والبركة فقال -صلى الله عليه وسلم- : (( اللهم بارك لأمتي في بكورها ))(24) .
لذا نجد أصحاب الحرف وآلمهن والتجارة يحرصون على اغتنام هذا الوقت الفضيل لما فيه من الخير والبركة .
روى الترمذي عن صخر الغامدي أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال : (( الله بارك لأمتي في بكورها ))(25) .
قال : وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم أول النهار وكان صخر رجلاً تاجراً وكان إذا بعث تجارة بعث أول النهار فأثرى وكثر ماله .
والذين ينامون في هذا الوقت الثمين ويستغرقون في نومهم إلى الضحوة حرموا أنفسهم بركة هذا الوقت .
أما الفوائد الصحية التي يجنيها الإنسان بيقظة الفجر فهي كثيرة منها : تكون نسبة لغاز الأوزون في الجو عند الفجر وتقل تدريجياً حتى تضمحل عند طلوع الشمس ولهذا الغاز تأثير مفيد للجهاز العصبي ومنشط للعمل الفكري والعضلي بحيث يجعل الإنسان عندما يستنشق نسيم الفجر الجميل المسمى بريح الصبا يجد لذة ونشوة لا شبيه لها في أي ساعة من ساعات النهار أول الليل (26) .
ويقول الشيخ عايض القرني جزاه الله خيراً هذه الأبيات في الحث على المكث في المسجد بعد صلاة الفجر :
لا نوم بعد الفجر
أتنام يا خدن العقيدة كيف تغفو يا أخاه 0000000 الفجر جاءك طارقاً يشكو إليك أذى الطغاة
وسرى النسيم مرنماً مثل الحروف على الشفاه0000000 وإذا الصبا مسك هفا والورد يغدو من شذاه
قم رتل القرآن عذباً إنه زاد الدعاة 0000000 أتنام والركب العظيم يسير في درب الحياة
أتريد تنوير العقول ورفع حصن في سماه 0000000وتنام من بعد الصلاة وأين مفهوم الصلاة
الليث يغمض غمضة فيها الحتوف لمن رماه 0000000 أينام ليث المسلمين وفوق هامته الحداه
الفجر كالعمر الجديد إذا ترفل في صباه
* فيا أخي :(/2)
أرأيت هذا الأجر العظيم والثواب الجزيل في تطبيقك لهذه السنة التي غفل عنها كثير من المسلمين ، فجاهد نفسك على المحافظة عليها .
* وختاماً :
لهذه النصيحة أحب أن أورد أهم فوائد الجلوس في المصلى بعد صلاة الصبح والعصر وهي كما يلي:
1- المحافظة على صلاة الفجر جماعة في المسجد .
2- أن الله يبارك لمن جلس في مصلاه في يومه وفي وقته ومصداق ذلك قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- : (( بورك لأمتي في بكورها )) (27) .
3- نيلك أجر حجة وعمرة وعتق أربع رقاب في سبيل الله .
4- قراءة أذكار الصباح بحضور قلب وبخشوع وبدون استعجال .
5- المحافظة على بعض الأذكار التي غفل عنها كثير من المسلمين كالتهليل مائة مرة ، وقول سبحان الله وبحمده مائة مرة والاستغفار ، والصلاة على النبيّ عشر مرات في الصباح وعشر مرات في المساء لقوله : -صلى الله عليه وسلم- : (( من صلى علي حين يصبح عشراً وحين يمسي عشراً أدركته شفاعتي يوم القيامة )) . وغير ذلك مما صح عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- .
6- أن الملائكة تصلي على من جلس في مصلاه وتستغفر له وتدعو له بالرحمة كما قال -صلى الله عليه وسلم- : (( الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث تقول : الله اغفر له الله ارحمه ))(28) .
7- المحافظة على صلاة الضحى التي تكفي عن ثلاثمائة وستين صدقة على الإنسان في كل يوم بعدد مفاصله كما في الحديث الذي رواه مسلم .
8- قراءة القرآن وختمه كل أسبوعين أو كل شهر على الأقل مرة ، وهذا الوقت فرصة للحفظ وللمراجعة لتقبل النفس لذلك .
9- المحافظة على دروس العلماء .
10- تنظيم الوقت والذهاب إلى العمل باكراً ممتلئاً قوة ونشاطاً وثقة بالله واعتماداً عليه .
11- أن الجالس في المسجد بعد الصلاة لا يزال في صلاة وفي عبادة لقوله -صلى الله عليه وسلم- : (( لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه ))(29) .
* فيا أخي العزيز :
جاهد نفسك على المحافظة على هذه السنة ، أسأل الله للجميع القبول كما نسأله الإخلاص في القول والعمل والله الموفق .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
______________________________________________
(1) سورة النور الآيتان 36 - 37 .
(2) رواه مسلم .
(3) رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب وصححه الألباني ، صحيح الجامع : جـ 2 صـ 1086 برقم 6346.
(4) سواه أبو داود وحسنه الألباني ، صحيح الترغيب والترهيب جـ 1 صـ 188.
(5) رواه أحمد بإسناد حسن وحسنه الألباني في المرجع السابق .
(6) رواه الطبراني وحسنه الألباني في المرجع السابق .
(7) قال الحافظ : رواه الثلاثة من طريق زبان بن قائدة عن سهل وقد حسنت وصححها بعضهم .
(8) رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب جـ 1 صـ 189 .
(9) رواه الطبراني وحسنه الألباني في المرجع السابق .
(10) رواه أبو يعلى والبزار وابن حبان في صحيحه وبين البزار في روايته أن الرجل أبو بكر رضي الله عنه وصححه الألباني في المرجع السابق صـ 277.
(11) في سنده مدرك بن عوف ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 8 / 327 ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً .
(12) في المطبوع وكيع بن بشر بن سليمان والتصحيح من كتب التراجم . وسند هذا الأثر صحيح . راجع تهذيب الكمال المطبوع (4/168).
(13) سير أعلام النبلاء ج ـ 4 صـ 265.
(14) سير أعلم النبلاء جـ 7 صـ 117 .
(15) كتاب الجامع لأبي محمد بن عبدالله القيرواني .
(16) المصدر السابق .
(17) ديوان الشافعي لمحمد الزعبي .
(18) تاريخ بغداد 13/356.
(19) الوابل الصيب .
(20) من تعليق الشيخ مصطفى محمد عمارة رحمه الله على كتاب الترغيب والترهيب للمنذري بتصرف يسير .
(21) المرجع السابق .
(22) صححه الألباني . صحيح الترغيب والترهيب جـ 1 صـ 277 .
(23) من تعليق الشيخ مصطفى محمد عمارة رحمه الله على كتاب الترغيب والترهيب للمنذري بتصرف يسير .
(24) رواه الإمام أحمد وابن حبان وابن ماجه والطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع صـ 278 .
(25) رواه الإمام أحمد وابن حبان وابن ماجه والطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع صـ 278 .
(26) من رسالة لأحد طلبة العلم بعنوان جبر الكسر .
(27) صححه الألباني - صحيح الجامع صـ 547 .
(28) رواه البخاري .
(29) متفق عليه .(/3)
الجمال الحقيقي
مفكرة الإسلام: 'لم تنته الرحلة بعد أيها المسافرون، في رحلة نافذة للشباب فقط إلى الجنة'
هذا هو نداؤنا لك أيها المسافر العزيز، ونذكرك بشروطنا من ربط حزام التركيز، والإقلاع عن الغفلة، والتأكد من حسن الرفقة.
أنت الآن على أعتاب دخول قصرك الذي أعده الله عز وجل لك في الجنة بإذن الله .
وقد تسألني: كيف سأعرف بيتي في الجنة ؟
سأقول لك: أقرأ هذا الحديث، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [ والذي نفسي محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان له في الدنيا]. رواه البخاري.
تذهب إلى قصرك أو إلى خيمتك من اللؤلؤة؛ فترى نورًا عظيمًا على باب القصر أو على باب الخيمة، وتشم رائحة جميلة،
نور يغشى بصرك ورائحة تملأ صدرك.
إنها حورية من حورياتك .. أيها الحبيب.
من شدة شوقها إليك خرجت إلى الباب مسرعة لكي تستقبلك، فهي تنتظرك منذ أمد بعيد في لهفة وحب.
وحين يقع بصرك عليها؛ يكاد يغشي عليك مما تراه من الجمال والبهاء، خاصة عندما تنادي عليك باسمك، وتفرد ذراعيها لاستقبالك، ولن أستفيض في وصف جمالها، يكفيك هذا الحديث:
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[ لو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض؛ لملأت ما بينها ريحًا [ أي المشرق والمغرب ]، ولأضاءت ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها ]]، النصيف: أي التاج. رواه البخاري ومسلم.
تأخذك من يديك ثم تدخل معك إلى قصرك؛ لتذهب في جولة سريعة داخله، ويشد انتباهك عند الدخول النظام الشديد والترتيب الخرافي للقصر؛ فترى الوسائد مرصوصة على الجانبين، متلاصقة معدة لاستقبالك، وترى الأرض مفروشة بأروع البسط، وكلها ملمسها مخملي رائع .
ألم تسمع قوله تعالى: { وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ [15] وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ[16] } سورة الغاشية.
والنمارق هي: المساند
والزرابي المبثوثة: هي البسط لها ملمس مخملي، ومفروشة على الأرض، وكأنهم في استقبال ملك من الملوك، وأنت تستحق ذلك وأكثر إذا كنت من أهل الجنة.
ثم تنظر من شرفة القصر؛ فترى الأنهار التي أعدها الله عز وجل لك، والتي تجري من تحت قصرك؛ أنهار من ماء، وأنهار من لبن، وأنهار عسل، وأنهار من خمر لذة الشاربين، مصداقًا لقول الله تعالى: { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } سورة محمد.
فتمد يدك وتأخذ من الأكواب الموضوعة عن يمينك ويسارك، وتشرب من هذه الأنهار، وتتذوق لذة ما تذوقها في حياتك.
أظن أن أول ما ستشربه هو الخمر؛ لأنك لم تشربها في الدنيا بالتأكيد، وإلا كنت حرمت منها في الآخرة، إلا إذا تبت كما قال العلماء.
ولكن طعم خمر الآخرة يختلف تمامًا عن خمر الدنيا؛ ففي خمر الآخرة يكون طعمها لا يوصف، وكذلك اللبن والعسل والماء، كلهم طعمهم مختلف عن الدنيا .
ثم تشتاق لرؤية حوريتك التي تقف بجوارك، فتأخذها معك في رحلة على ضفاف هذه الأنهار، بين أشجارك ونخلك الذي زرعته في الدنيا.
أخي الحبيب.....
أعلم أن لكل مسلم من الحور العين على الأقل حوريتان، كما نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ لكل امرئ منهم زوجتان كل واحدة منهما يرى مخ سوقها من وراء لحمها ]. صححه الألباني في صحيح الجامع.
ولكن هناك من يكون له من الحور العين اثنين وسبعين، أنه الشهيد في سبيل الله.
اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك يا أكرم الأكرمين .
وعلى حسب اجتهادك في الدنيا -أيها الحبيب- يكون عدد الحور العين في الآخرة.
ولنا وقفة أخيرة أخي الحبيب في جولتنا هذه المرة.
أظنك الآن قارنت في نفسك بين نساء الدنيا والحور العين، وعلمت أن مما يصبرك على غض بصرك في هذا الزمن العصيب، الذي كثرت فيه الفتن، وانتشر فيه الفساد والعري؛ هو علمك بما ينتظرك في الآخرة من الحور العين والثواب، فإذا دعتك نفسك إلى رؤية امرأة متبرجة؛ فتذكر الحور العين، واعلم أنها تنتظرك في الجنة، وأنها تغار عليك بشدة؛، فلا تضييعها بلذة فانية؛ فتكون كمن باع الذهب بالتراب، فلا تبيع الجمال بجمال زائف خدَّاع، زينه الشيطان لك في الدنيا.
وإلى اللقاء في جولة أخرى من رحلتنا المباركة.(/1)
الجمعة يوم عبادة ...
الحمد لله الذي جعل في تعاقب الليل والنهار عبره لأولي الأبصار، أحمده وأشكره على نِعمه الغزار، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فلا تزال الشعوب تحتفي بأعيادها وتفرح بتكرارها، وتُسَّر بذكر اسمها.. كيف إذا كان العيد لأمة الإسلام وتتعبد الله - عز وجل - به..
إن عيد الأسبوع لأهل الإسلام هو يوم الجمعة الذي كرم الله به هذه الأمة بعد أن أضل عنه اليهود والنصارى، قال:{ أضلَّ الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يومُ الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم لنا تبعُ يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة المقضي بينهم قبل الخلائق } [رواه مسلم].
ويوم الجمعة هو اليوم الذي قال عنه الرسول { خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة } [رواه مسلم].
وهذا اليوم العظيم جعله البعض من المسلمين يوم نوم طويل، ونزهة ورحلة وخصصت بعض النساء هذا اليوم للأسواق وأعمال المنزل، وغفلت عن حق هذا اليوم.. ولا بد أن نعرف لهذا اليوم قدره ونعلم خصائصه؛ حتى نتفرغ فيه للعبادة والطاعة وكثرة الدعاء والصلاة على النبي.
قال ابن القيم في زاد المعاد: (وكان من هديه تعظيم هذا اليوم وتشريفه وتخصيصه بعبادات يختصُ بها عن غيره، وقد اختلف العلماء هل هو أفضل أم يوم عرفه..) وقد عد ابن القيم أكثر من ثلاثين مزية وفضل لهذا اليوم، ومن تلك الخصائص والفضائل:
1. أنه يوم عيد متكرر: فيحرم صومه منفرداً، مخالفه لليهود والنصارى، وليتقوى العبد على الطاعات الخاصة به من صلاة ودعاء وغيرها.
2. أنه يوم المزيد، يتجلى الله فيه للمؤمنين في الجنة، قال - تعالى -: "وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ" [ق:35] قال أنس - رضي الله عنه -: (يتجلى لهم في كل جمعة).
3. أنه خير الأيام قال:{ خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة } [رواه مسلم].
4. فيه ساعة الإجابة: قال: { فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يُصلي يسأل الله - تعالى - شيئاً إلا أعطاه إياه } وأشار بيده يُقلِّلها. [رواه البخاري ومسلم].
5. فضل الأعمال الصالحة فيه: قال: { خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة: من عاد مريضاً، وشهد جنازة، وصام يوماً، وراح إلى الجمعة، وأعتق رقبة } [صححة الألباني في السلسلة الصحيحة رقم: 1033]، والمراد: أن صيامه وافق يوم الجمعة بدون قصد.
6. أنه يوم تقوم فيه الساعة: لحديث النبي: { ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة } [رواه مسلم].
7. أنه يوم تُكفر فيه السيئات: فعن سلمان قال: قال رسول الله: { لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طُهر، ويَدّهِنُ من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كُتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى } [رواه البخاري].
8. أن للماشي إلى الجمعة أجر عظيم: قال: { من غسَّل يوم الجمعة واغتسل ثم بكّر وابتكر ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يَلْغُ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها } [رواه أبو داود].
9. الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما وزيادة ثلاثة أيام: قال: { من اغتسل ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدِّر له، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه، غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام } [رواه مسلم].
10. أن الوفاة يوم الجمعة أو ليلتها من علامات حسن الخاتمة لقوله: { من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وُقِيَ فتنة القبر } [رواه أحمد].
11. أن الصدقة فيه خير من الصدقة في غيره من الأيام، قال ابن القيم: والصدقة فيه بالنسبة إلى سائر أيام الأسبوع كالصدقة في شهر رمضان بالنسبة إلى سائر الشهور. ثم قال: وشاهدتُ شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، إذا خرج إلى الجمعة يأخذ ما وجد في البيت خبز، أو غيره فيتصدق به في طريقه سراً..
وهناك فضائل ومزايا أخرى لهذا اليوم العظيم، ولو لم يكن فيه إلا مزية واحدة مما ذكرنا لكفى بالمرء حفظاً له وحرصاً عليه، فكيف وقد اجتمعت فيه فضائل عظيمة وخصال كثيرة!
أخي المسلم: لهذا اليوم العظيم آدابٌ وسُننٌ منها:
1. يستحب أن يقرأ الإمام في فجر الجمعة بسورتي السجدة والإنسان كاملتين كما كان النبي يقرؤهما، ولعل ذلك لما اشتملت عليه هاتان السورتان مما كان ويكون من المبدأ والمعاد، وحشر الخلائق، وبعثهم من القبور، لا لأجل السجدة كما يظنه بعض المسلمين.
2. التبكير إلى الصلاة: وهذا الأمر تهاون به كثير من الناس حتى أن البعض لا ينهض من فراشه، أو لا يخرج من بيته إلا بعد دخول الخطيب، وآخرون قبل دخول الخطيب بدقائق وقد ورد في الحث على التبكير والعناية به أحاديث كثيرة منها:(/1)
أن رسول الله قال: { إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا صحفهم وجلسوا يستمعون الذكر، ومثل المُهِّجر (أي المبكر) كمثل الذي يهدي بدنه، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشاً، ثم دجاجة، ثم بيضة } [رواه مسلم]. فجعل التبكير إلى الصلاة مثل التقرب إلى الله بالأموال، فيكون المبكر مثل من يجمع بين عبادتين: بدنية ومالية، كما يحصل يوم الأضحى.
وكان من عادة السلف رضوان الله عليهم التبكير إلى الصلاة كما قال بعض العلماء: (ولو بكر إليها بعد الفجر وقبل طلوع الشمس كان حسناً). و (كان يُرى في القرون الأولى في السحر وبعد الفجر الطرقات مملؤة يمشون في السرج ويزدحمون بها إلى الجامع كأيام العيد، حتى اندرس ذلك) وكان هذا الوقت يُعمر بالطاعة والعبادة وقراءة للقرآن وذكر الله - عز وجل - وصلاة النافلة، روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يصلي قبل الجمعة ثنتي عشرة ركعة. وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - يصلي ثمان ركعات. وأدركت إلى عهد قريب أحد العباد - رحمه الله - فكان يدخل الجامع الكبير بالرياض لصلاة الفجر ولا يخرج إلى بعد انقضاء صلاة الجمعة.
ومما يُعين على التبكير: ترك السهر ليلة الجمعة، و التهيأ لها منذ الصباح الباكر بالتفرغ من الأشغال الدنيوية، وكذلك استشعار عظم الأجر والمثوبة والحرص على جزيل الفضل وكثرة العطايا من الله - عز وجل -.
3. الإكثار من الصلاة على النبي قال عليه - الصلاة والسلام -: { إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خُلِق آدم، وفيه قُبض، وفيه النفَّخة، وفيه الصَّعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء } [رواه أحمد].
4. الاغتسال يوم الجمعة: لحديث الرسول: { إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل } [متفق عليه]، واختلف العلماء في حكمه بين الوجوب والاستحباب والجمهور على الاستحباب فيستحب الاغتسال؛ إدراكًا للفضل.
5. التطيب، والتسوك، ولبس أحسن الثياب، وقد تساهل الناس بهذه السنن العظيمة؛ على عكس إذا كان ذاهبًا لحفل أو مناسبة فتراه متطيباً لابساً أحسن الثياب! قال: { من اغتسل يوم الجمعة، واستاك ومسَّ من طيب إن كان عنده، ولبس أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد، فلم يتخط رقاب الناس حتى ركع ما شاء أن يركع، ثم أنصت إذا خرج الإمام فلم يتلكم حتى يفرغ من صلاته، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها } [رواه أحمد].
وقال: { غُسل يوم الجمعة على كل محتلم، وسواك، ويمسّ من الطيب ما قدر عليه } [رواه مسلم].
6. يستحب قراءة سورة الكهف: لحديث الرسول: { من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين } [رواه الحاكم]. ولا يشترط قرائتها في المسجد بل المبادرة إلى قراءتها ولو كان بالبيت أفضل.
7. وجوب الإنصات للخطبة والحرص على فهمها والاستفادة منها: قال: { إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب، فقد لغوت } [متفق عليه].
8. الحذر من تخطي الرقاب وإيذاء المصلين: فقد قال النبي لرجل تخطى رقاب الناس يوم الجمعة وهو يخطب: { اجلس فقد آذيت وآنيت } [رواه أحمد] وهذا لا يفعله غالباً إلا المتأخرون.
9. إذا انتهت الصلاة فلا يفوتك أن تصلي في المسجد أربع ركعات بعد الأذكار المشروعة، أو اثنتين في منزلك.
أما وقد انصرفت من المسجد وقد أخذت بحظك من الدرجات والخيرات إن شاء الله.. تأمل في قول ابن رجب - رحمه الله - في (لطائف المعارف) وهو يقول: (كان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حر الظهيرة يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار فإن الساعة تقوم في يوم الجمعة ولا ينتصف ذلك النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار قاله ابن مسعود وتلا قوله: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24].
أخي المسلم: تَحَرَّ ساعة الإجابة وأرجح الأقوال فيها: أنها آخر ساعة من يوم الجمعة.. فادع ربك وتضرع إليه واسأله حاجتك، وأرِه من نفسك خيراً، فإنها ساعة قال عنها النبي: { إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً، إلا أعطاه إياه } [متفق عليه].
جعلنا الله وإياكم ممن يعبد الله حق عبادته وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد الملك القاسم(/2)
الجنة ...
تواترت الآيات والأحاديث النبوية في ذكر الجنة وأهلها ، وذكر الأسباب الموجبة لدخولها ، وما ذلك إلا لعظم منزلة الجنة فهي دار الكرامة ، الداخل فيها ينعم لا يبأس ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه ، وفيها أعدَّ الله لعباده الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
فحيَّا على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيّم
وقد اختص الله سبحانه هذه الدار بأوليائه ، ينعمون فيها بأصناف الملذات ، فما يشتهي أحدهم شيئاً إلا جاءه ، قال تعالى : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ( الزخرف:71 ) . ومن أعظم نِعَم تلك الدار ما كتب الله لأهلها من الخلود الأبدي فيها ، فلا يخافون موتاً أو فناءً ، قال تعالى : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } (التوبة:21) ، ومن أعظم ما ينال أهل الجنة من النعيم أن يحلَّ الله عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، فيقول : هل رضيتم ، فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ، قالوا : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ) رواه البخاري و مسلم . وأعظم نعمة في الجنة على الإطلاق هي رؤية وجهه الكريم سبحانه وتعالى ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة ، يقول الله تبارك وتعالى : تريدون شيئا أزيدكم ، فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ؟! ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ؟! .. فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم ) رواه مسلم .
ومن صفات جنة النعيم خلوها من المنغصّات والمكدّرات ، فلا هم يلحق أهلها ، ولا تعب يصيبهم ، قال صلى الله عليه وسلم : ( من دخلها - يعني الجنة - ينعم لا يبأس ، لا تبلى ثيابهم ، ولا يفنى شبابهم ) رواه مسلم .
أما رزق أهل الجنة ، فيأتيهم { فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } (مريم:62 ) وما اشتهى أحدهم شيئا إلا أتاه ، قال تعالى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (الزخرف:71) فما أعظَمَ نعيمهم ، وما ألذَّ سرورهم .
أما نساؤهم فالحور العين ، يبلغ من جمال الواحدة منهن أن لو طلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بين الجنة والأرض ، ولملأت ما بينهما بريحها ، ولخمارها على رأسها خير من الدنيا وما فيها ، قال تعالى : { كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ } ( الدخان:54) .
هذا عن الحور العين ، أما عن نساء أهل الدنيا ، فينعم الله عليهن في الجنة بجمال أشدَّ من جمال الحور العين ، قال تعالى : { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً ، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً ، عُرُباً أَتْرَاباً ، لأَصْحَابِ الْيَمِين ِ } ( الواقعة : 35 - 38 ) .
لهاك النوم عن طلب الأماني وعن تلك الأوانس في الجنان
تعيش مخلدا لا موت فيها وتلهو في الخيام مع الحسان
تيقظ من منامك إن خيراً من النوم التهجد بالقرآن
وأما أنهار الجنة فقد ذكرها سبحانه في كتابه الكريم فقال : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } ( محمد : 15 )
وأما سعة الجنة فلا يعلم ذلك إلا الله ، وقد أخبرنا سبحانه عن عرضها بأنه ما بين السماء والأرض ، قال تعالى : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ( الحديد:21 ) . وقال تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } (آل عمران:133) وذكر العلماء أن الله ذكر عرض الجنة ولم يذكر طولها للدلالة على سعتها العظيمة .(/1)
هذه بعض أوصاف الجنة وأوصاف أهلها ، وهي غيض من فيض ، ونقطة من بحر . ومن أراد أن يتعرف على جنة الله ودار كرامته فعليه بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فليس بعد بيانهما بيان ، فهل بعد هذا من مشمِّرٍ إلى الجنة ، فإن الجنة - ورب الكعبة - نورٌ يتلألأ ، وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر جار ، وفاكهة كثيرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة ، نسأل المولى عز وجل أن يكرمنا بدخولها من غير سابق عذاب ولا حساب إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين .(/2)
الجنس يجتاح العالم الإسلامي
محمد محمود عبد الخالق
</TD
في الوقت الذي يكثر فيه الحديث عن الإصلاح السياسي في العالم العربي من أجل تحقيق الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة نجد هناك غفلة عن الحديث عن ذلك التسعير الجنسي الذي تتعرض له أمتنا الإسلامية والذي يجتاح بيوتنا ويهدد قيمنا ويكاد أن يأكل الأخضر واليابس ويقضي على شبابنا ويحقق مطامع أعدائنا ، فالجنس آفة يجب أن لا نقف مكتوفي الأيدي تجاهها ولعل ما نراه وما نسمعه عن أحوال شبابنا مع تلك الآفة يجعلنا ندق ناقوس الخطر وبقوة شديدة قبل أن تأتي تلك اللحظة التي نندم فيها ندما شديداً ولكن قد يكون بعد فوات الأوان .
إن شبابنا في هذه الأيام الحالكة التي يعيشونها هم أقرب بكثير من أي وقت مضى للإصابة بهذا الداء بل وسريانه في أجسادهم وسيطرته على كافة تحركاتهم وتوجهاتهم فالبطالة وفقدان الثقة في النفس وارتفاع سن الزواج وزيادة تكاليفه وانعدام المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والإحساس بالظلم والاستبداد جعل الشباب يبحثون عن أشياء تنسيهم ذلك الواقع المرير فكان من أهم ما لجئوا إليه ووجدوه متوافرا عندهم مشاهدة الأفلام وخاصة الجنسية وكذلك الأغاني العربية والأجنبية وتصفح المجلات الماجنة بالإضافة إلى الارتباط بالفتيات بشكل غير شرعي ليس لغرض الحب والزواج ولكن لغرض الجنس وتفريغ الطاقة الجنسية الكامنة لديهم والتي لم تجد مسلكا حلالا يمكن أن تفرغ من خلاله ، وقد لجأ البعض إلى الاستمناء كوسيلة لتحقيق ذلك أيضا ولست بذلك أحكم على أن جميع الشباب قد وصلوا إلى تلك المرحلة من الانحطاط الجنسي ولكني أظن أن عددهم ليس بالقليل والواقع يؤيد ذلك ويوضحه .
هذا ولقد حذر الكثير من العلماء من خطورة الجنس وأثره على الحياة الاجتماعية والاقتصادية فهذا أحدهم يقول: " إن خطر الطاقة الجنسية قد يكون في نهاية المطاف أكبر من خطر الطاقة الذرية.... !!" جيمس رستون في ( النيويورك تايمز ) ، وآخر يقول : " والواقع أن مستقبل الأجيال الناشئة محفوف بالمكاره ، ربما يتحول أطفال اليوم إلى وحوش عندما تحيط بهم وسائل الإغراء المتجددة بالليل والنهار ! إن تشويها كبيرا سوف يلحق البشر حيث كانوا ...." جورج بالوشي هورفت في كتابه ( الثورة الجنسية ) ؟، ويلفت المؤرخ أرنولد توينبي " النظر إلى أن سيطرة الغرائز الجنسية على السلوك والتقاليد يمكن أن تؤدي إلى تدهور الحضارات " ، ومع تلك الخطورة على الإنسانية بشكل عام وجدنا مجموعة كبيرة من البشر لا يكلون ولا يملون من الدعوة إلى انتشار الجنس وخاصة بين المسلمين فحال الشرق الإسلامي لن يستقيم تبعا لأهوائهم إلا بانتشار الجنس بين أفراده وسيطرة الشهوة على تحركات هؤلاء المسلمين فهذا أحدهم يقول " لن يستقيم حال الشرق مالم تخرج المرأة سافرة متبرجة " ، وآخر يقول : " كأس وغانية تفعلان بأمة محمد مالا يفعله ألف مدفع " ، وآخر يقول : " يجب أن يتضامن الغرب المسيحي شعوبا وحكومات ويعيدوا الحرب الصليبية في صورة أخرى ملائمة للعصر ( الغزو الثقافي ) ولكن في أسلوب نافذ حاسم " .
إن أعداء الأمة من الداخل والخارج يريدون انتشار الجنس بين المسلمين ولعل الواقع الذي نعيشه يدل على نجاح هؤلاء الأعداء في تحقيق بعض ما يسمون إليه ومن المظاهر التي تدل على ذلك:-
1) ظهور ما يسمى بتلفزيون الواقع الذي يقوم بنقل أفكار بعض البرامج الغربية الساقطة وتهيئتها وتقديمها بالصبغة الشرقية.
2) انتشار الأغاني الإباحية العربية التي أصبح مخرجوها يتفننون في إخراج المرأة في أبهى صورة بإظهار مفاتنها وجعلها شبه عارية بل إنهم يتفننون ويبتكرون في طريقة ذلك العري بهدف الإثارة ومحاولة الوصول إلى أكبر قدر ممكن من تحريك الغريزة لدى المشاهد .
3) انتشار الأفلام وخاصة الجنسية منها بين طائفة كبيرة من المسلمين.
4) انتشار المجلات الماجنة الجنسية الفاضحة بالإضافة إلى إقبال المجلات العادية على نشر الصور العارية وظهور ذلك في أغلفتها وخير دليل على ذلك وقفة بسيطة أما بائع الصحف والمجلات !! .
5) انتشار القصص الغرامية وكثرة تداولها بين شباب الأمة وكأنها الزاد الذي يجب أن يتزود به المسلم أو المسلمة لآخرته.
6) انتشار الكباريهات والنوادي التي تشجع الفاحشة بصورة أو بأخرى.
7) التبرج والسفور الذي نراه في شوارعنا فتلك الفتاة التي تخرج متبرجة وسافرة تكشف عن جسدها أو تكون كاسية عارية تدفع إلى ذلك التسعير الجنسي الذي يبتغيه أعدائنا خاصة إذا أضفنا إلى ذلك الاختلاط غير المشروع بين الرجال والنساء وصدق ابن القيم حين قال الاختلاط أصل كل مفسدة .
8) انتشار العلاقات العاطفية بين المسلمين وأقصد المحرمة والتي وجدت نظاما دوليا ينظمها ووجدت عرفا فاسدا لا يمنعها.
وغير ذلك من المظاهر التي يقف عليها كل من يتابع حياتنا اليومية بنظرة إسلامية لا بنظرة عرفية أو دنيوية فاسدة.(/1)
وهنا ترى هل يستشعر المسلمون بهذا الخطر أم أنهم سيظلون على ما هم عليه ؟ سؤال يطرح نفسه في ظل وضع مأسوي تعيشه الأمة الإسلامية ! ، وعموما فإني في نهاية المطاف أود أن أقدم بعض وسائل العلاج لهذا الداء سائلاً المولى تبارك وتعالى أن يعيننا على الأخذ بتلك الوسائل وتنفيذها :-
1) استشعارنا بوجود هذا الداء في جسد الأمة وبخطره الشديد إذا بقي دون علاج ثم يلي ذلك تشخيص المرض تشخيصا دقيقا والإحاطة بكل جوانبه وتحديدها بدقة وهذه أولى مراحل العلاج .
2) العودة إلى الأيمان الحقيقي بالله سبحانه وتعالى وبث ذلك في نفوس المسلمين ولا سيما الشباب فهم أكثر طوائف الأمة استهدافا من جانب أعدائنا ، ولا شك أن بث المعاني الإيمانية في قلوبنا من الخشية لله سبحانه وتعالى ومراقبته والحياء منه والتوكل عليه واليقين به سيحدث نوعا من المناعة لدينا تجعلنا ننأى بأنفسنا عن تلك القاذورات التي تعرض علينا ونقذف بها من كل جانب .
3) إطفاء الفتنة وإخمادها بتقوى الله سبحانه وتعالى فلقد سأل أحد الصالحين وهو طلق بن حبيب عن الفتنة وكيفية إطفائها فقال لهم : أطفئوها بتقوى الله عزوجل فقالوا له وما التقوى ؟ قال : " أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجوا ثواب الله وأن تبتعد عن معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله " .
4) الابتعاد عن مواطن الفتنة والإثارة وتحريك الغرائز فهناك حقيقة يجب أن يعلمها الجميع وهي أن الشهوة الجنسية هي الشهوة الوحيدة الساكنة التي تحتاج إلى ما يحركها فشهوة الأكل والشرب مثلاً لا يتحكم الإنسان فيها ولا تحتاج إلى ما يحركها ولذلك فإن المسلم عليه أن يبتعد عن مواطن الشهوة والفتنة حتى ينأى بنفسه عن اقتراف الفواحش والمعاصي .
5) محاربة العري وأخذ المجتمع بكافة طوائفه هذا الأمر على عاتقهم وخاصة الشباب ويجب أن تستخدم كل الوسائل الممكنة في سبيل تحقيق ذلك سواء عن طريق إقامة الندوات والمؤتمرات أو تأليف الكتب والكتيبات أو كتابة المقالات ونشرها في الصحف والمجلات أو تجميع التوقيعات الرافضة للعري وإرسالها لكل من يبث العري وينشره بين المسلمين وغير ذلك من الوسائل الممكنة والمتاحة التي تحتاج في تنفيذها إلى الهمة العالية والرغبة الجازمة.
6) تيسير الزواج ومحاولة تخفيض تكاليفه ولا شك أن تأخير الزواج كان من أهم الأسباب التي دعت إلى انتشار الفاحشة بين المسلمين ولذلك علينا أن لا نضع القيود التعجيزية في وجوه شبابنا حتى يستطيعوا أن يتزوجوا وبالتالي يحفظون أنفسهم من الفاحشة ويقبلون على حياتهم وينفعون أمتهم ويعيدون حضارة الإسلام من جديد .
7) تعميق معاني غض البصر وعقوبة إطلاقه على محارم الله في نفوس المسلمين ولا سيما الشباب وكذلك تعميق معاني حرمة الخلوة بالأجنبية ولولى خشية الإطالة لتحدثنا عن ذلك بشيء من التفصيل نظرا للأهمية الشديدة لتلكما الأمرين .
8) منع الاختلاط غير المضبوط بين الشباب بعضهم البعض ويكفيني في هذا المقام أن أذكر لكم تلك المقولة الغاية في الخطورة والتي يقول صاحبها فيها " التبرج والاختلاط كلاهما أمنيتان يتمناهما الغرب من قديم الزمان لغاية في النفس يدركها كل من وقف على مقاصد العالم الغربي من الإسلام والمسلمين " .
وأخيرا فإني أناشد الغيورين على تلك الأمة والتي أظنك أيها القارئ من هؤلاء إن شاء الله إلى أن يتحركوا على كافة الأصعدة والميادين لإنقاذ المسلمين من هذا القصف الجنسي اليومي والذي أخشى أن يدمر حياتنا ويهدم أخلاقنا ويقضي على أملنا في التغيير وعودة الأمة إلى سابق مجدها وعزتها وكرامتها والله أسأل أن يجعلنا هداة مهدين لا ضالين ولا مضلين وأن يرزقنا الهدى والتقى والعفاف والغني وأن يحفظنا بالإسلام قائمين وقاعدين وراقدين وأن ينجينا من كل سوء وفتنة أنه على ذلك قدير وهو حسبنا ونعم الوكيل(/2)
الجهاد بين عقيدة المسلمين وشبه المستشرقين
15-8-2005
بقلم العوض عبد الهادي العطا
"...اهتم المستشرقون بأمر الجهاد الإسلامي وناقشوه كثيراً وأثاروا حوله الافتراضات والشبه، وحاولوا أن يشوهوا روح الجهاد ومغزاه، ورغم أن المسلمين أوضحوا أن غايتهم نشر الإسلام، وأن القتال ليس غاية في حد ذاته ..."
بدأت الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة حين بعث الله رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكانت دعوة دينية خالصة لتوحيد الله ونبذ الشرك وعبادة الأوثان، مستندة إلى قوة الحجة والإقناع والموعظة الحسنة، فاستجاب لهما نفر من قريش، وصدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم وشدوا من أزره وساندوه ونصروه، فنالوا سبق الدخول في الإسلام، وحملوا لواءه وظلوا على ذلك العهد حتى عم الإسلام أرجاء الأرض، ولم يتزحزحوا ولم تؤثر فيهم الأهواء والمغريات حين تأثر بها الناس. والملاحظ أن أول من أسلم كانوا من الشباب ومن لدات الرسول صلى الله عليه وسلم أو ممن لا يكبرونه في السن كثيراً.
أما الشيوخ المسنون فلم يستجيبوا لدعوته، وكان من العار على المسن تغيير ما هو عليه من موروث قبيلته وآبائه وأجداده، فتأثروا بعرفهم وتقليدهم عن رؤية الحق والصواب، ولكن دخل في الإسلام جماعة من المستضعفين من أهل مكة الذين وجدوا الإسلام نصرة لهم، واشتد البلاء وعمت المحن علىِ المسلمين في مكة، ولذلك لم يتمكنوا من إقامة مجتمع إسلامي متكامل، ولكنهم كانوا أفراداً معروفين، آمنوا بالله ورسوله وتكونت فيهم أخلاق الإسلام الصحيحة وملأت نفوسهم قيمه ومثله. وحين أعز الله رسوله بالهجرة والنصرة تميزت صورة المجتمع في المدينة وصار الناس على ثلاثة أقسام، المؤمنين الذين آمنوا بالله ظاهراً وباطناً والكفار وهم الذين أظهروا الكفر، والمنافقين وهم الذين آمنوا ظاهراً لا باطناً[1] وسارت الدعوة إلى الإسلام من خلال ذلك في عدة مراحل، أولها مرحلة النبوة، تقول عائشة رضي الله عنها: "إن أول ما بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم النبوة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به، الرؤيا الصادقة، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح، وحبب الله إليه الخلوة فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده"[2].
والمرحلة الثانية إنذار عشيرته الأقربين، ثم إنذار قومه صلى الله عليه وسلم من قريش، ثم إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة، ثم إنذار جميع من بلغته الدعوة الإسلامية إلى آخر الدهر[3] . وفي المدينة المنورة انتشر الإسلام، وتكونت جماعة مؤمنة متجانسة آخذة في النمو من المهاجرين والأنصار كنواة للأمة الإسلامية، وهو إطار عريض يظهر لأول مرة في الجزيرة العربية على غير نظام القبيلة.
فقد انصهرت جماعة الأوس والخزرج في طائفة الأنصار ثم انصهر المهاجرون والأنصار في جماعة المسلمين، وبذلك تكونت جماعة كانت الأساس التاريخي للأمة الإسلامية ومهدت بذلك لكل من ينضم إليهم، قال ابن إسحاق في حديثه عن كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار وموادعة يهود: "هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم إنهم أمة واحدة من دون الناس"[4] ومن ثم وضع الأساس الذي ينظم العلاقة بين هذه الأمة ومن سكن معهم من أهل الكتاب، ولأول مرة تردَّ أمور هذه الجماعات إلى نظام يحتكم إليه "وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو إشتجار يُخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم"[5].
وسارت الدعوة الإسلامية في مسارها لتوحيد الجزيرة العربية على دين الإسلام فغزا الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه بضع وعشرين غزوة، أولها غزوة بدر وآخرها غزوة تبوك، وكان القتال في تسع غزوات، فأول غزوات القتال بدر وآخرها حنين والطائف، وأنزل الله فيها ملائكته.(/1)
وعندما حاصر الطائف لم يقاتله أهلها زحفاً وصفوفاً كما حدث في بدر وحنين وإنما قاتلوه من وراء جدر[6]. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتولى أمور الجهاد ويضعها في اعتباره ويهتم بها ويقود المسلمين ويخرج بهم فوضع بذلك المثل والقدوة في تطبيق مفهوم الجهاد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} الآية[7] وكان لذلك أكبر الأثر في انتشار الإسلام بصورة واضحة بين القبائل العربية منذ صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، وأخذت الوفود تترى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتىٍ عددَّ ابن سعد في الطبقات عند ذكره لوفود العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً وسبعين وفداً[8] وقد جاءوا إما عن رغبة صادقة أو رهبة وخوف، لأن الإيمان هبة من الله يمنحها الصادقين من عباده، فعندما جاءت بنو أسد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم نقاتلك، فقال رسول الله صلى الله وسلم: "إن فقههم قليل وإن الشيطان ينطلق على ألسنتهم"، ونزلت هذه الآية {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية[9].
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم واصل جواده بعد أن ضرب الإسلام بجرانه في الجزيرة العربية، فأرسل الكتب إلى كبار الملوك آنذاك في العالم الحيَّ يعرض عليهم اعتناق الإسلام، فبعث إلى إمبراطور الروم وإلى نجاشي الحبشة وإلى كسرى ملك الفرس، والمقوقس صاحب الإسكندرية (مصر) وإلى أمراء الغساسنة وغيرهم[10] فأجاب بعضهم إجابة مهذبة وثار آخرون وتوعدوا.
وتأكيداً لتحقيق تلك المرحلة من مراحل الدعوة[11] حدثت بعض الغزوات، وأعد الرسول صلى الله عليه وسلم بعث أسامه بن زيد، وهو البعث الذي أنفذه الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه. ولكن الدعوة الإسلامية واجهت صراعاً متصلاً بين المبادئ الإسلامية الداعية إلى الوحدة والإخاء والمساواة والسلام، وبين الاتجاهات العنصرية الداعية إلى عصبية القبيلة والتفكك والانقسام.
واشتد ذاك الصراع عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، فحدث ارتداد العرب عن الإسلام، والذي مثّل مظهراً من مظهراً التصادم بين العقيدة الإسلامية وبين القبلية الجاهلية، فقد انتعشت روح العصبية لدى بعض الزعامات القبلية التقليدية والتي لم يكن قد وقر الإيمان في قلوب بنيها، تلك العصبية التي حار بها الرسول صلى الله عليه وسلم وقضى عليها.
ولكن الخليفة أبا بكر الصديق رضي الله عنه تصدى لكل ذلك في قوة ورباطة جأش وإيمان صادق وعزم أكيد حتى أعاد للإسلام هيبته وللمسلمين وحدتهم، وصارت العقيدة الإسلامية هي الرابطة الوحيدة بين أبناء الأمة الإسلامية.
وكان بعث أسامة بن زيد بمثابة مواصلة الجهاد الذي أكده القرآن الكريم ومارسه الرسول صلى الله عليه وسلم والتزم به الخليفة أبو بكر الصديق في خطبته المشهورة عند مبايعته في المسجد "لا يدع أحد منكم الجهاد فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل ...."[12] ثم أخذ يحث المسلمين على الجهاد ويدعوهم إليه.
ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي العمل أفضل فقال: "إيمان بالله ورسوله، قيل ثم ماذا قال: جهاد في سبيل الله، قيل ثم ماذا قال: حج مبرور"[13].
وقيل إن الإعراض عن الجهاد من خصال المنافقين، وفي الحديث: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغز ومات على شعبة نفاق"[14] وتتمثل في الجهاد حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، كما يتجسد فيه الإخلاص، وقوة الإيمان تمنح المسلم القدرة في مواجهة العدو مهما كانت قوته وكان عدده. ولم يكن مفهوم الجهاد عند المسلمين يعنى نشر الإسلام عن طريق الحرب والسيف وحسب وإنما بمبادئه السمحة الكريمة ولذلك انتهجوا منهج الإسلام في الدعوة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [15] الآية {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الآية [16] .(/2)
وقد وضح هذا المنهج في سياسة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عندما أعلن للمجاهدين حيِن توديع جيش أسامه بن زيد: "لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاًَ كبيراً ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له وسوف تقدمون على قوم قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فأخفقوهم بالسيف خفقاً، اندفعوا باسم الله" [17].
ولما كانت الدعوة إلى الإسلام هي الغاية المنشودة لذلك كان المسلمون يعرضون على خصومهم خيارات ثلاثة، إما الإسلام وكانوا يشرحونه ويحسنونِه لهم، وإما أن يقبلوا دفع الجزية، وإذا رفضوا هذين الخيارين فإن الحرب واجبة تأكيداًَ لقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} الآية [18] وقد أخذت الجزية على أسس من الحق والعدل والرحمة، وتؤخذ على الرجل القادر البالغ العامل الحر، ولا تجب على الأعمى والمسكين وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار، وهي واجبة على جميع أهل الذمة[19] .
ومن ثم أصبح كثير من اليهود والنصارى على دينهم ودخلوا في ذمة المسلمين، بل إن بعضهم شارك في الأعمال الإدارية مثل أعمال الحسابات ومسك الدفاتر وظهرت روح التسامح في معاملة المسلمين لغيرهم حتى أحس أهل هذه البلاد بالطمأنينة والحرية والعدالة وحسن المعاملة في أموالهم وأعراضهم وأعمالهم. وقد عقد المسلمون مع كثير من أهل البلاد العهود والمواثيق، يدفعون بموجبها الجزية للمسلمين، ونظير ذلك يجدون الحرية والأمن، يقول الماوردي: "وأما الجزية فهي موِضوعة على الرؤوس واسمها مشتق من الجِزاء، إما جزاء على كفرهم لأخذها منهم صغاراًَ، وإما جزاء على أماننا لهم لأخذها منهم رفقاً" ويقول: "فيجب على ولي الأمر أن يضع الجزية على رقاب من دخل في الذمة من أهل الكتاب ليقروا بها في دار السلام ويلتزم لهم ببذلها حقان: أحدهما الكف عنهم والثاني الحماية لهم ليكونوا بالكف آمنين وبالحماية محروسين"[20].
ومع ذلك فالملاحظ أن المسلمين كانوا يقومون بواجب الدعوة وتبليغ أهل تلك البلاد بالإسلام، فعندما بعث الخليفة عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص إلى القادسية، وجد أن الفرس قد أمّروا على الحرب رستم من الفرخزاذ الأرمني، وأمده بالعساكر فكتب سعد إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر بن الخطاب: "لا يكربنك ما يأتيك عنهم ولا ما يأتونك به واستعن بالله وتوكل عليه، وأبعث إليه رجالاً من أهل النظر والرأي والجلد يدعونه فإن الله جاعل دعاءهم توهيناًَ لهم وفلجاً عليهم واكتب إليَّ في كل يوم"[21].
كما تمثلت في أعمال الجهاد عند المسلمين خصال فريدة، فقد وجه الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه خالد بن الوليد أن يتآلف الناس ويدعوهم إلى الله عز وجل، وأمره ألا يكره أحداًَ على المسير معه وألا يستعن بمن ارتد عن الإِسلام، وإن كان عاد إليه[22].
القوة والاستعداد وآلات الحرب من وسائل النصر:
لقد توفرت عند المجاهدين المسلمين قوة العقيدة والإيمان وارتفاع الروح المعنوية بأنهم خير أمة أخرجت للناس لها رسالتها في الدعوة، ولذلك كانوا لا يهابون الموت في سبيل ذلك إذ كان الظفر بالشهادة أمنية المجاهد المسلم مما يؤكد زهده في الدنيا مهما كانت مغرياتها.
وقد كانت العقيدة عند المسلم الصادق هي السلاح الرئيسي الذي يعتمدون عليه في كل المعارك، فهي تأتي عندهم في المقام الأول بين العوامل والدوِاعي التي تجعلهم يصمدون ويثبتون حيث يكون الفرار في حساب المقاييس العسكرية أمراً لا مفر منه بل ولا لوم على فاعله. ومع هذه القوة النفسية التي توفرت للمسلمين فقد تهيئوا من حيث العدة والعتاد أيضاً حتى اجتمعت لهم مقومات متكاملة للقتال {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}[23].
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما تلا هذه الآية وهو على المنبر قال: "ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي"[24].
وقد عرف عن هؤلاء المجاهدين أنهم قد امتازوا بخفة الحركة والمثابرة والصبر وتحمل الشدائد وبذل النفس والثبات في ميدان القتال وإظهار التضامن بينهم، والانضباط، فقد كانوا يقفون صفوفاً متراصة ليس لأحد منهم أن يتقدم من الصف أو يتأخر عنه عملاً بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}[25].(/3)
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في غزواته يراعي هذا الأمر ويحثهم عليه دائماً، لأن الانضباط وحسن النظام من دواعي الجيش الممتاز، ففي يوم بدر قام الرسول صلى الله عليه وسلم يسوي الصفوف وفي يده قدْح، فمر بسواد بن غزية وهو مستنتل من الصف، فطعنه في بطنه بالقدح وقال: "استو يا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، قال: فأقدْني، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: استقد، قال فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد، قال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير"[26].
وقد يسبق القتال التدريب وتعلم الرمي والمهارة فيه، فقد عرف عن المسلمين إجادتهم الرمي، وقد شكل الرماة عند المسلمين أهمية خاصة، ففي يوم أحد وضعهم الرسول صلى الله عليه وسلم على الجبل كغطاء أساسي لظهر المسلمين، وعند عبور المسلمين إلى المدائن عاصمة الفرس كانوا أمام الجيش يخوضون الماء وكانوا من أمهر الرماة، فإذا رموا أصابوا الهدف.
فاهتم المسلمون بالاستعداد التام من كل ناحية لمواجهة العدو، وهو عمل لابد منه ليستحق به المجاهدون نصر الله.
وقد اهتم الخلفاء الراشدون بإعداد الجيش وتنظيمه إقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عمر ابن الخطاب أول من جعل الجند فئة مخصوصة، فأنشأ ديوان الجند للإِشراف عليه وتقييد أسمائهم ومقدار أرزاقهم وإحصاء أعمالهم.
وكان ديوان الجند الذي استخدمه عمر بن الخطاب أكبر مساعد له في تحسين نظام الجند وضبطه في الإسلام، مما ساعد في تحسين استعداد المسلمين الكامل عند خروجهم للجهاد[27].
وفي ضوء ذلك اهتموا بأدوات الحرب والقتال، فاهتموا بالخيل المعدة للجهاد لأن في إعدادها لهذا الغرض فضيلة كبيرة، وتدرب عليها شباب المسلمين ومارسوا الرمي وهم على ظهورها اعتنوا بها عناية فائقة، وفي الحديث "الخيل معقود في نواصيها الخير إلىِ يوم القيامة، الأجر والمغنم"[28] وكان أغلب جيش المسلمين في كثير من الأحيان يتألف أساساً من الفرسان، بل إن جيش سعد بن أبي وقاص يوم المدائن كان كله من الفرسان[29].
وكان المسلمون يتسلحون بالدروع والسيوف والرماح كما استخدموا أسلحة أخرى كانت ذات أهمية في القتال، قال ابن سعد رحمه الله في حديثه عن غزوة أحد: "فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبس لامته وأظهر الدرع وحزم وسطها بمنطقة من أدم من حمائل السيف واعتم وتقلد السيف والترس في ظهره"[30]ويعتبر السيف والدرع والرمح من الأسلحة الخفيفة، وكان للسيف أهمية خاصة عندهم.
كذلك عرفت بعض الأسلحة التي استخدمت في كثير من الحالات مثل:- المجانيق - والدبابات والضبور، ومما يدل على معرفتهم لهذه الأسلحة ما ذكره ابن هشام: "ولم يشهد حنيناً ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيدن بن سلمة كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور"[31] ، قال السهيلي: "والدبابة آلة من آلات الحرب يدخل فيها الرجال فيدبون بها إلى الأسوار لينقبوها " وقيل:" آلات تصنع من خشب وتغشى بجلود ويدخل فيها الرجال ويتصلون بحائط الحصن".
قال ابن إسحاق: "حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف دخل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دبابة ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليحرقوه" [32] وقيل: "أنها من آلات الحرب يدخل المحاربون في جوفها إلى جدار الحصن فينقبونه وهم في داخلها يحميهم سقفها وجوانبها". والمجانيق من آلات الحصار يرمى بها الحجارة الثقيلة، وقد ذكر ابن هشام أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول من رمى بالمنجنيق، رمى أهل الطائف[33]، وهي أنواع منها ما يرمى بالحجارة ومنها ما يرمى بالزيت المغلي ومنها ما يرمى بالنبال.
وقد أقام سعد بن أبي وقاص على بهرسير شهرين يحاصرها ويرميها بالمجانيق ويدب إليها بالدبابات ويقاتلهم بكل عدة، وكان الفرس البادئين بالرمي والعرادات، فاستصنعها سعد، وأقام عليها عشرين منجنيقاً فشغلهم بها[34].
قال السهيلي: "والضبور جلود يغشى بها خشب يتقى بها في الحرب"، وقيل: استخدمت ليتقى بها النبل الموجه من عل، ويتقى بها في الحرب عند الانصراف، وفي اللسان: الضَّبره - جلد يغشى خشب فيها رجال تقرب إلى الحصون لقتال أهلها، ويجمع على ضبور[35].
وإلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرجع الفضل في إقامة الحصون والمعسكرات الدائمة لراحة الجند في أثناء الطريق بعد أن كانوا يقطعون المسافات الطويلة على ظهور الإبل، ولا يرتاحون إلا في مظلات مصنوعة من سعف النخل، ومن ثم بنيت العواصم وأقيمت الحاميات لصد هجمات الأعداء المفاجئة[36].(/4)
وتطور الدفاع عن بلاد المسلمين والجهاد في سبيل الله بإقامة الربط لحماية الثغور، وأصله أن يربط كل واحد من الفريقين خيله ثم صار لزوم النفر رباط، وأصل الرباط ما تربط فيه الخيول وأن كل ثغر يدفع عمن وراءهم، والمدافع المجاهد يدافع عمن وراءه، والمقيم في الرباط على طاعة الله يدفع بدعائه البلاء عن العباد والبلاد[37] وعند ابن تيمية أن المقام في ثغور المسلمين أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة لأن الرباط من جنس الجهاد، والمجاورة غايتها أن تكون من جنس الحج[38] قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [39] وفي الحديث "رباط يوم وليلة (في سبيل الله) خير من صيام شهر وقيامه"[40]. ولم يكن المسلمون في أول عهدهم يرغبون في ركوب البحر، ولم يأذن الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لعماله بذلك، ولكن في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنشأ أول أسطول إسلامي، فقد أذن لمعاوية بن أبي سفيان في غزو الروم بحراًَ، على ألا يحمل الناس على ركوب البحر كرهاً، فبرع المسلمون في ركوب البحر، وخاضوا المعارك فيه ورتب معاوية بن أبي سفيان الشواني والصوائف لغزو الروم.
وبعث عبد الملك بن مروان لما ولي الخلافة إلى عامله على أفريقية حسان بن النعمان يأمره باتخاذ صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية[41] وعلل المقريزي امتناع المسلمين من ركوب البحر للغز وفي أول الأمر لبداوتهم ولم يكونوا مهرة من ثقافته وركوبه، وكان الروم والفرنجة قد تمرسوا عليه لكثرة ركوبهم له.
وعندما استقر أمر المسلمين تقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعتهم، واستخدموا من النواتية في البحرية أمماً وتكررت ممارستهم البحر وثقافته فتاقت أنفسهم إلى الجهاد فيه، وأنشأوا السفن والشواني وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح، واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب إلى هذا البحر على ضفته مثل الشام وأفريقية والمغرب والأندلس[42] وقد كان ميناء جدة ثغراًَ هاماً للمسلمين باعتباره مدخلاً للحرمين الشريفين، وهذا ما حمل المسلمين فيما بعد على تحصينها وإقامة سور قوي حولها لتأمين الأماكن المقدسة في مكة والمدينة من أي غارة وخاصة غارات الصليبين[43] .
وقد برع المسلمون في صناعة السفن حتى صار علمهم في هذا الجانب تقلده أوربا وتنقله عنهم[44].
المستشرقون والدعوة الإسلامية :
وقد اهتم المستشرقون بأمر الجهاد الإسلامي وناقشوه كثيراً وأثاروا حوله الافتراضات والشبه، وحاولوا أن يشوهوا روح الجهاد ومغزاه، ورغم أن المسلمين أوضحوا أن غايتهم نشر الإسلام، وأن القتال ليس غاية في حد ذاته وإنما هو وسيلة لإزالة العقبات عن طريق الدعوة، ولكنهم عن قصد أو سوء فهم لأمر الجهاد أثاروا هذه الشبهة، وركز بعضهم مثل كيتاني وأرنولد على أقوال المسلمين، فعندما فرغ الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه من حروب الردة وجه الجيوش إلى الشام لمواصلة الجهاد ولذلك كتب إلى أهل مكة والطائف واليمن وجميع العرب بنجد يستنفرهم للجهاد ويرغبهم فيه وفي غنائم الروم، فسارع الناس إليه بين محتسب وطامع وأتوا المدينة من كل باب[45] فتذرعوا بهذا القول مدعين أن هناك دافعاً مادياً، ولذلك يقول أرنولد: "إن أملهم (المسلمين) الوطيد في الحصول على غنائم كثيرة في جهادهم في سبيل الدين الجديد ثم أملهم في أن يستبدلوا بصحاريهم الصخرية الجرداء التي لم تنتج لهم إلا حياة تقوم على البؤس، تلك الأقطار ذات الترف والنعيم".
ثم يثير شبهة أخرى في أن هذه الفتوح الهائلة التي وضعت أساس الإمبراطورية العربية (كذا) لم تكن ثمرة حرب دينية قامت في سبيل نشر الإسلام، وإنما تلتها حركة ارتداد واسعة عن الديانة المسيحية حتى لقد ظُن أن هذا الارتداد كان الغرض الذي يهدف إليه العرب.
ويستنتج بأنه من هنا أخذ المؤرخون المسيحيون ينظرون إلى السيف على أنه أداة للدعوة الإسلامية.
وفي ضياء النصر الذي عُزي إليه حجبت مظاهر النشاط الحقيقي للدعوة. ويتفق أرنولد مع أستاذه كيتاني في أنه يعتبر توسع الجنس العربي على أصح تقدير هو هجرة جماعة نشيطة قوية البأس دفعها الجوع والحرمان إلىِ أن تهجر صحاريها المجدبة وتحتاج بلاداً أكثر خصباً كانت ملكاً لجيران أسعد منهم حظاًَ[46] وأنها آخر هجرة من الهجرات السامية.
ويقول أنه لا ينبغي أن نتلمس أسباب الانتشار السريع للعقيدة الإسلامية في أخبار الجيوش الفاتحة بل الأجدر أن نبحث عن ذلك في الظروف التي كانت تحيط بالشعوب المغلوبة على أمرها. والمعروف أن نداء الخليفة الذي أورده البلاذري إنما هو حث للقبائل لتسارع للجهاد ونشر الإسلام، فإن تحقق مكسب بعد ذلك فهو أمر لاحق لأصل.(/5)
ولم يكن القول (بأن جزيرة العرب كانت مجدبة فكان ذلك دافعاً للفتح والحروب)، وذلك لعدة أسباب، من ضمنها أن الجزيرة العربية حينذاك كانت قد تزايدت أموال أهلها بفضل النشاط التجاري الذي انتعش حينذاك، فعير قريش التي انتهت بغزوة بدر قيل أنها كانت مكونة من ألف بعير وأن الدينار ربح ديناراً، وأن ريعها استفادت منه قريش في تعبئة نفسها لغزوة أحد.
وأن سرية زيد بن حارثة إلى ذي قرد حصلت من قافلة قريش على كمية من الفضة وزنها ثلاثون ألف درهم[47] وكان موسم الحج من عوامل الانتعاش الاقتصادي، بالإضافة إلى أن الإسلام نظم الحياة الاجتماعية بين المسلمين، فأسلوب المؤاخاة بين المهاجرين والأنصارٍ الذي طبقه الِرسول صلى الله عليه وسلم حقق التكافل الاجتماعي بين المسلمين[48] فكون بذلك مجتمعاً إسلامياً نموذجياًَ.
ورغم بذخ الدولتين الروم وفارس، ومظاهر الأبهة والعظمة إلا أن ذلك لازمه استبداد وخلافات دينية وصراع حول الملك، على حين ألف الإسلام بين قلوب المسلمين، فمع مظاهر الزهد والتقشف في حياتهم، ظهر عليهم شدة الإيمان والحرص على الاستشهاد في سبيل الله[49] مما حقق لهم أعظم النتائج في المعارك التي خاضوها.
ويقول جودفروا: "يقود الخليفة الجهاد أي الحرب المقدسة ضد الكفار لحملهم على اعتناق الدين الإسلامي أو استرقاقهم أو قتلهِم أو إجبارهم آخر الأمر على دفع الجزية، ومع أن العلماء المسلمين يعتبرون الجهاد فرضاًَ واجباً على جميع المسلمين إلا أنهم غير متفقين على قيمته الدينية، ولا يجعلونه جميعاً ركناً من أركان الدين الخمسة.
وأصول الجهاد توضح هذا التردد، فقد كان الرسول في بداية دعوته في مكة ضعيفاً جداً ولم يزوده القرآن بسلاح سوى الصبر والثقة بالله، ولكن بعد الهجرة إلى المدينة هبط الوحي يحث المسلمينِ على أن يقاوموا بقوة السلاح أولئك الذين طردوهم من ديارهم وأرادوا بهم شراًَ (ق: س 22، 39- 43) وبمناسبة غارة قام بها المسلمون لخرق الهدنة الجاهلية في الأشهر الحرم أمرهم القرآن (س 2: 212) أن يقاتلوا"[50].
هذا رأي المستشرق والملاحظ أنه يمتلئ بالأخطاء سواء عن قصد أو سوء فهم، من ذلك أنه يحور مفهوم الجهاد من أداة للدعوة ونشر الإسلام كما هو مضمونه الواسع المليء بالتسامح والصبر، إلى وسيلة للقتل والاسترقاق والنهب. ثم يتحدث عن سرية عبد الله ابن جحش على أنها غارة.
رهط من المهاجرين في رجب وكتب لهم كتاباًَ، فإذا فيه "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم"[51] فالمطلوب من السرية الحصول على معلومات عن قريش، وليس في هذا أمر غريب بين أعداء احتمال الحرب بينهما وارد، ولكن لم يكن أمراً للسرية بالقتال فقوله إنها غارة فيه إجحاف وتجن.
وخاصة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم عندما رجعوا: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"، وظل الأمر معلقاً حتى أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ}[52] وما قاله هذا المستشرق لم يخرج عما قاله أعداء الإسلام حينذاك عندما قالت قريش قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وغنموا الأموال وأسروا الرجال[53] وعموماً فإن الدراسات التي أعدت عن المستشرقين وتناولت مناهجهم اتفقت على أنهم يعالجون المسائل الإسلامية من وجهة نظرهم ووفق طرقهم ومناهجهم، فإن تخلوا عن الغرض، فقد تأثروا بالمنهج، وأدخلوا عوامل ومبررات في التوسع المبكر للإسلام، مثل عواقب الصراع بين الإمبراطوريات الساسانية والبيزنطية وعدم الاستقرار الداخلي للقوط في أسبانيا، ولكنهم لم يربطوا بين ذلك الانتشار السريع للإسلام وبين العقيدة الإسلامية نفسها، فهل من الممكن أن يحدث ذلك الانتشار والتوسع بهذه الدرجة من غير الدين الإسلامي؟[54].
____________
الهامش:
[1] ابن تيمية، أحمد، مجموع فتاوى شيخ الإسلام، ج 28ص 431 (ط الأولى 13).
[2] ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، ج 1، 2 ص 234 ط 2 (القاهرة 1375هـ). ولفظ البخاري رحمه الله " أول ما بدئ به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ….." أنظر ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج1 ص22، ط السلفية (1380هـ ).
[3] ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، ج ا ص 38 (القاهرة 1373 هـ).
[4] ابن هشام، المصدر السابق، ج 1، 2 ص 501.
[5] نفس المصدر ص 504.
[6] ابن تيمية، المصدر السابق ج 28 ص 429.
[7] سورة الأحزاب الآية 21.
[8] ابن سعد، محمد، الطبقات الكبرى، ج 1 ص 1 29- 359، (بيروت دار صادر).(/6)
[9] سورة الحجرات آية 17 انظر ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ج 4 ص 2.
[10] ابن سيد الناس، عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، ج 2 ص 329 ط 3 (بيروت، 1402 هـ).
[11] أنظر هذا البحث ص 2 (مراتب الدعوة).
[12] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، خ 2 ص 332 (بيروت 1399 هـ).
[13]ابن حجر، المصدر السابق، ج ا ص 77. (أنظر صحيح مسلم ج 1 ص 88 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي).
[14]أحمد بن حنبل، المسند ج 2/ 374.
[15] سورة النحل آية 125.
[16] سورة البقرة آية 256.
[17] ابن الأثير المصدر السابق، ج 1 ص 335.
[18] سورة التوبة، آية 29.
[19] القاضي أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم، كتاب الخراج (ضمن موسوعة الخراج) ص 122، (بيروت 1399 هـ).
[20] الماوردي، أبو الحسن علي بن حبيب، الأحكام السلطانية، ص 143 (بيروت 1402 هـ).
[21] ابن الأثير، المصدر السابق ج 2 ص 456.
[22] ابن كثير، البداية والنهاية، ج 5/ 6 ص 342 ط 2 (بيروت- 1977م/ 1397 هـ).
[23] سورة الأنفال، آية 60.
[24] ابن تيمية، المصدر السابق ج 28 ص 9.
[25] سورة الصف، آية 4.
[26] ابن هشام، المصدر السابق، ج 1، 2 ص 626.
[27] علي إبراهيم حسن، التاريخ الإسلامي العام، ص 535 (النهضة المصرية).
[28] ابن حجر، المصدر السابق، ج 6 ص 56. أنظر الترمذي، صحيح الترمذي، باب الجهاد، شرح الإمام بن العربي المالكي، ج7 ص6.
[29] ابن الأثير، المصدر السابق، ج 2 ص 5.
[30] ابن سعد، المصدر السابق ج 2، ص 38.
[31] ابن هشام، المصدر السابق، ج 3- 4، ص478 أنظر السهيلي، أبو القاسم عبد الرحمن، الروض الأنف، تحقيق طه عبد الرؤوف ج 4 ص162- 163 (دار الفكر).
[32] ابن هشام، المصدر السابق ج 3 ـ4، ص 483.
[33] نفس المصدر.
[34] ابن الأثير.، المصدر السابق، ج 2 ص 509 .
[35] جمال الدين محمد بن منظور لسان العرب،ج4 (فصل الضاد باب الراء) ص480 (بيروت ، دار صادر).
[36] حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، ج1، ص 478 (النهضة المصرية، ط 7، 1964).
[37] المقريزي، تقي الدين أبى العباس، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ج 2 ص 427 (بيروت، دار صادر).
[38] ابن تيمية، المصدر السابق، ج 28 ص 5.
[39] سورة التوبة، آية 19.
[40]أحمد بن حنبل، المسند، ج 5/0 44.
[41] المقريزي، المصدر السابق، ج 2 ص0 19.
[42] نفس المصدر.
[43] عبد القدوس الأنصاري، تاريخ مدينة جدة، ص70.
[44] حسن إبراهيم حسن، المصدر السابق، ج 1ص 484.
[45] البلاذري، أبو الحسن، فتوح البلدان، ص 111 (بيروت 1403 هـ).
[46] أرنولد، سيرتوماس، الدعوة الإسلامية (مترجم) ص 64 (القاهرة0 197 م).
[47] ابن سعد، المصدر السابق، ج 2 ص 36.
[48] عماد الدين خليل، دراسة في السيرة، ص 154 (مؤسسة الرسالة 1398 هـ).
[49] حسن إبراهيم حسن، المصدر السابق، ج 1ص 214.
[50] جودفروا، م. كتاب النظم الإسلامية، (باب الخلافة) مترجم، ص135.
[51] ابن هشام، المصدر السابق، ج ا-2، ص 602.
[52] سورة البقرة، آية 217.
[53] ابن هشام، المصدر السابق، ج ا-2، ص 604.
[54] راجع الدراسة التي أعدتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، مكتب التربية العربي لدول الخليج، تحت عنوان (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية) جزآن (الرياض 1405 هـ/ 1985م) .(/7)
الجهاد حياة(1/3)
د.عبد العزيز القارئ 4/2/1424
06/04/2003
الجهاد في الإسلام جاء بالحياة وليس بالموت. .
لأن الإسلام دين الحياة والسلام، فيه منهجُ الحياةِ الحقيقية، الذي لو التزم الناس به لعاشوا في أمانٍ وسلامٍ، وعدالةٍ ورخاءٍ.
يقول بعض من لا يعرفه: إنه دينٌ دموي!!
كيف وهو يمنع سفك الدماء، ويجعل قتل نفسٍ واحدةٍ بغير حق مثل قَتْلِ الناس جميعاً (..مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً...) [ 32 / المائدة ].
ويجعل الجُنُوح للمسالمة الاختيارَ المفضَّلَ ما دام الطرف الآخر يقبل به: ( . . وَإِنْ جَنَحُوا لَلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللهِ . .) [ 61 / الأنفال ].
ولا يفرض عقيدته وشريعته على أحد، وإنما يخاطبهم بالدعوة، والدعوة قائمة على الحجة والبيان، وأسلوبها قائم على الجدال والمجادلة بالتي هي أحسن: ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن ..) [ 125 / النحل ].
بل كرَّس قاعدةً لازمةً هي أنَّ إكراه الناس على عقيدته مرفوض: ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ . .) [ 256 / البقرة ].
ووجه خطابه بذلك للرسول - صلى الله عليه وسلم-: ( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤمِنِين) [99/ يونس ] هذا استفهام إنكاري؛ فمعنى الآية : لا تُكْرِه الناس على ذلك.
ولكن هل يقبل كل الناس هذا المنطقَ المُسَالِم العقلانيَّ ؟
أكثر الناس ويا للأسف عدوانيون، إن خفضت لهم جناح الذل كسروا جناحكَ وأكلوا لحمكَ ونهشوا عظامكَ !!
ومسالمة من يهجم عليك بسكين ليقتلك أمرٌ غير معقول، لا ينصحك به أحدٌ من العقلاء، ومن الطبيعة السويَّة أن تحميَ نفسَكَ وتدافع عن حرماتك أمامَ المعتدين الصائلين الجائرين..
ومن هنا شُرِع الجهادُ في الإسلام، للدفاع عن الحرمات، لا للعدوان على الناس، حتى لو كانوا مُخَالفِين في الملَّةِ والدين..
لو كان الجهاد في الإسلام هو لكلِّ مُخالفٍ فَلِمَ أَمَرَ بمسالمةِ من يسالمنا من الكفار؟ بل أمر بالإحسانِ إليهم ومعاملتهم بالعدل..
قال تعالى: ( لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) [ 8 / الممتحنة ].
ولِمَ أَمَرَ الحاكمَ المسلمَ بأن يُقِرَّ غير المسلمين من رعيته على دينهم، وسماهم النبي - صلى الله عليه وسلم- " أهلَ الذِّمةِ " وفي هذه التسمية إشارة إلى مسؤولية المسلمين حيالهم أن يعاملوهم بالعدل والإحسان.
وأَمَرَ بإقرار اليهود والنصارى على ملتهم إذا وقعوا في قبضة المسلمين، قال تعالى: ( قَاتِلُوا الَّذينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ولاَ بِاليَومِ الآخِرِ ولاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ ولا َيَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّّّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) [ 29 / التوبة ].
وهنا إيماءة عجيبة في هذه الآية، هي هذه الأوصاف التي وُصِف بها اليهود والنصارى من نفي الإيمان عنهم، ونفْي طاعة الله ورسوله، ونَفْيِ الامتثال للشريعة، وأنهم لا يدينون دين الحق الذي هو الإسلام، فذِكْرُ هذه الأوصاف يتبادر إلى الذهن أنه يُوجِبُ عدمَ إقرارهم على ملتهم هذه، ويُوجِبُ قَسْرَهُم على الإسلام الدين الحق، لكن الآية مع ذلك خُتَِمَتْ بإقرارهم على ملتهم ما داموا خاضعين لسلطان الحكومة الإسلامية.
الجهاد في الإسلام موجَّه فقط ضدَّ من يقاتلنا، ضد من يعتدي علينا ويخرجنا من ديارنا أو يظاهر على إخراجنا والعدوانِ علينا، وحُرَّم علينا نحن المسلمين العدوانُ بمقاتلة من لا يقاتلنا، قال تعالى: ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِين ) [ 190 / البقرة ]
تنبه إلى أنّ قوله ( وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ) جعلت هذه الآية مُحكَمةً غير قابلة للنسخ، فلا يقال إن هذا الحكم كان أول الأمر ثم أُمرنا بمقاتلة جميع الكفار، لأن هذا القول يؤدي إلى معنى قبيح لا يقول به أحدٌ وهو نسخ ( وَلاَ تَعْتَدُوا ) ونسخ ( إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ) والأول حكم لا يقبل النسخ مثل تحريم الظلم، والآخر خبر، والأخبار لا تقبل النسخ. .
فإذن كلُّ النصوص الأخرى التي وردت في الجهاد يجب أن تُفْهَم في ظلال هذه الآية المُحكمة(1)
إن الجهاد في الإسلام حياة؛ لأنه دفاع عن الحرمات وردع للمعتدين، فلو تركت الحرمات نهبةً لكل منتهب، وتُرك المعتدون يفعلون ما يشاءون ما استقامت الحياة. .(/1)
قال تعالى: ( وَلَو لاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعَضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ ) وفي قراءة ( دفاع ) [251/ البقرة ].
والجهاد بهذه المثابة حياة للمسلمين ولغيرهم من المظلومين من أهل الملل الأخرى، قال تعالى ( وَلَولا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَ بِيَعٌ وصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً ) [ 40/ الحج ] فالصوامع معابد النصارى، والبيع معابد اليهود، والصلوات معابد المجوس أو الصابئة، والمساجد معابد المسلمين، وهي التي يذكر اسم الله فيها كثيراً.
وقال سبحانه: ( وَمَالَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ والنِّساءِ وَالوِلْدَانِ الَّّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا واجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً واجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ) [ 75 / النساء ].
الجهاد مع ما فيه من سفك لبعض الدماء هو حياةٌ كالقصاص مع أنه سفك لدم الجاني لكنه حياة للناس، لأنه يردع الجناة؛ فتحفظ بذلك دماءُ الناس من أن تُسْفك..
قال تعالى:( وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [ 179 / البقرة ](2).
المقالة التالية
الجهاد حياة (2/3)(1) يذكر بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بآية السيف في سورة التوبة وهي قوله ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . . الآية ) [5/التوبة] ومن غرائب المفسرين المردودة قولهم إن آية السيف هذه نسخت أكثر من مائة آية من القرآن وجعلوا من المنسوخات جميع الآيات الآمرة بالصبر والآيات الآمرة بالدفع بالتي هي أحسن ، والآمرة بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، بل ذكروا أنها بعد أن نسخت كل هذا القدر من القرآن نسخَ آخرُها أولَهَا وهو قوله ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ).
وقيل أن آية السيف منسوخة بقوله ( فإما منا بعد وإما فداء ) وهذا ولعٌ بالنسخ لا يعجب المحققين ولذلك يصف ابن الجوزي القائلين به بأنهم لا فهم لهم من ناقلي القرآن [ نواسخ القرآن / 360 ].
ينبغي أن تجمع الآيات الواردة في الجهاد وتُدرس مجتمعةً لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً وقد صنع ذلك بعض الباحثين المعاصرين وصنعته أيضاً فتكشفت لي جوانب هامة من شريعة الجهاد ، ومن أهم نتائج هذا المنهج الفهم الكامل للجهاد. .
ومن أهم المبادئ العامة في هذا الباب أن الأمر بالقتال موجه فقط ضد المقاتلين أو ما يسميه الفقهاء " الكافر الحربي " أما الكافر المسالم ذميّاً كان أو معاهداً فلا يجوز قتله ولا قتاله.
(2) القصاص حياة ، لكن لا يفقه ذلك إلا أولو الألباب ، هناك اليوم أناس في الغرب – ويقلدهم ببغاوات عندنا – لم يبصروا إلا دم القاتل فاستبشعوا إراقته وسفكه ، وعميت أبصارهم عن دم المقتول ن فهم يدعون إلى المحافظة على دم المجرم القاتل ، وأهدروا بذلك دم المقتول ، وفي ذلك دعوة إلى القتل وتشجيع على جرائمه ، ولذلك كثرت جرائم القتل في البلاد التي أخذت بهذا النوع من التفكير الأعوج ، هؤلاء لا ألباب لهم
الجهاد حياة(2/3)
د.عبد العزيز القارئ 11/2/1424
13/04/2003
الجهاد للأمة الإسلامية حياة، وفي تركه هلاكها . .
قال تعالى: ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) [ 195/ البقرة ] .
المراد بالتهلكة في هذه الآية: تركُ الجهاد، والخنوع إلى حياة الدعة والرفاهية.
عن أسلم أبي عمران قال: حَمَلَ رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية إنما نزلت فينا: صحِبْنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وشهدنا معه المشاهد ونصرناه فلما فَشَا الإسلام وظَهَرَ اجتمعنا معشر الأنصار تحبُّباً فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم- ونَصرِهِ حتى فشا الإسلام وكثُر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما، فنزلت فينا ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد (1).
لماذا تَرْك الجهاد تهلكةٌ لهذه الأمة ؟
لأنها أمة ذات رسالة يجب أن تبلغها للناس: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المَنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) [ 110/آل عمران ] .
هذه رسالتها: أن تحمل راية الإيمان بالله، وتُصلح أحوال الناس على ضوئه وتنشر العدالة في العالم بإقامة شريعة الله .(/2)
ووسيلتها ( الاستراتيجية ) في ذلك ( الدعوة )، لذا يجب أن تكوِّن بمجموعها أمةً داعية، تحمل لواء الدعوة بالحسنى، وبالحجة والبيان ..
قال تعالى: ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ..) أي من مجموعكم أمة، صفاتها وواجباتها، ( يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ .. ) [ 104/ آل عمران ] فهذه الأمة رحمة للبشرية؛ لأن رسالتها تحمل الخير إليهم، وتنادي بالإصلاح ونشر العدالة، وإزالة الظلم، وهذا معناه مكافحة الفساد، ومحاربة المفسدين في الأرض، الذين يستنزفون البشرية، ويتحكمون في رقاب الناس، وينشرون الفقر والدمار في أرجاء العالم ..
هذه مهمة الأنبياء وأتباع الأنبياء في كل زمان ومكان: ( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ ..) [ 116/هود ].
المفسدون في الأرض أتُرَاهُم سيستقبلون حَمَلَةَ هذه الرسالةِ النبيلة بالورود والأحضان ؟!
بل سينشب الصراع، وهو صراع مرير متوحش، لأنه وإن كان أحد طرفي الصراع رحيماً يحمل راية الرحمة، وحكيماً يحمل راية الحكمة، لكن الطرف الآخر مجرم متوحش ظالم؛ لذلك يجب أن يكون الدين كله لله، والدين هنا بمعنى الطاعة والخضوع، أي يجب أن يكون السلطان لدين الله وشرعه، وتكون السيطرة في ميدان الصراع لهذه الأمة حتى تتمكن من أداء رسالتها...
( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله ) [ 193/البقرة ] .
الناس لو خُلِّي بينهم وبين الدعوة فإنهم سيستجيبون لنداء الحق، ومنطق الدعوة، لأنه سيتجلى واضحاً كالشمس أن في ذلك حياتهم وسعادتهم، لكنَّ المفسدين لن يستجيبوا، بل سيستنفرون كامِل أسلحتهم وإمكاناتهم، ويخوضون معركة حياة أو موت مع هذه الأمة، فلو لم تكن هذه الأمة مستعدة للجهاد فستهلك وتذهب شذر مذر، كهشيم تذروه الرياح، ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّ مِنَ المُجْرِمين ) [ 31/الفرقان ] .
( وكَذَلِكَ جَعَلْنَا في كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها.. ) [ 123/ الأنعام ].
والتاريخ حافل بالدروس: أن هذه الأمة كلما تمسكت بالجهاد واستنفرت قواها من أجله كانت عزيزة قوية، تقوم بواجباتها، وتؤدي رسالتها نحو البشرية بنشر نور الإسلام، ورفع الظلم عن المقهورين ..
ما الذي حمل أولئك الفرسان المسلمين على غزو الشرق والغرب: في عهد الخلافة الراشدة التي تمثل أعظم مراحل تاريخ هذه الأمة بعد عهد النبوة، ثم في عهد الخلافة الأموية وهو عهد الفتوحات الكبرى، ثم في عهد الخلافة العباسية حيث وصل ملك المسلمين إلى أعظم امتداد له على وجه البسيطة، وفي عهد آخر خلافة إسلامية وهي خلافة آل عثمان التركية كاد امتداد الجيوش الإسلامية يشمل أوربا كلها ..
كل هذه الدول الإسلامية الكبرى كانت مجاهدة، أرأيت لو وضعوا راية الجهاد عن كواهلهم، وركنوا إلى حياة الدعة والخنوع أكانوا يظلون دولاً عظمى مرهوبة الجانب ؟
وهذا الاتساع في رقعة الإسلام على وجه البسيطة أكان يتحقق ؟
في فترات الانحطاط والضعف لمّا قَعَدت الأمة عن الجهاد انظر ماذا حصل لها ؟ أصبحت غنيمة للأعداء، وتقاسم المستعمرون أوصالها تكالبوا عليها كما تتكالب الأكلة على القصعة.
يقول من لم يفهم تاريخ الجهاد: إنهم كانوا ينشرون عقيدة الإسلام بالسيف، ويقهرون الناس ويجبرونهم على اعتناق الإسلام !!
لو كانت تلك الشعوب في الشرق والغرب قد تم قهرها على عقيدة الإسلام أكانت تتغير ذلك التغير الباهر؟ لقد كان تغيراً جذرياً، لقد تمكن الإسلام من قلوبهم، وصبغ حياتهم وثقافتهم وأدبهم وشعرهم وكل شيء عندهم بصبغته، واستمر ذلك إلى اليوم..
إذا كان الفاتحون المسلمون قهروا تلك الشعوب وأجبروها على اعتناق الإسلام فما بالهم تركوا اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من أهل الملل على ملتهم، واكتفوا بأخذ الجزية والخراج منهم، وعاش هؤلاء تحت ظل الدولة الإسلامية في رخاء وسلام، في ظلال شريعة إسلامية عادلة..
ولو كانت عقيدة الإسلام لم تنشر إلا بالسيف فما بال شعوب شرق آسيا من أدخلها بالسيف في الإسلام؟ وإنما وصلها الإسلام على أكتاف تجار مسلمين مسالمين، ثم جاءت جحافل الجيوش النصرانية برتغالية وهولندية لتنشر النصرانية بالسيف والدماء، ولذلك لم تنتشر النصرانية في هذه الأصقاع انتشار الإسلام، لأن الناس لا يمكن قهرهم على اعتناق الدين – أي دين – ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين ) [ 256/البقرة ] .
الجهاد لم يُشرع لنشر عقيدة الإسلام، إنما تنشر عقيدة الإسلام بالدعوة، أما الجهاد فلبسط سلطان الإسلام، وهو معنى الآية: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى لاَ تكُونَ فِتْنَةٌ وَيكونَ الدّين لله..)(/3)
[ 193/ البقرة ] أي حتى لا يكون ظلم وفساد في الأرض وتكون الطاعة لله، وإذا فسرت (الفتنة) هنا بالشرك فالمراد العاقبة، والنتائج، إذ من عواقب هيمنة سلطان الإسلام ونتائجها تمكين الدعوة إلى الإسلام من أن تقوم بوظيفتها، وحينئذ وبفعل الدعوة ينحسر الشرك عن القلوب، بهذا التفسير تأتلف النصوص، وإلا فماذا عن النصوص التي دلت على إقرار بعض أهل الشرك على شركهم ؟
الجهاد: حياة لهذه الأمة وحراسة لها من الفناء ووقاية لها من الأعداء. .
قارن بين مكانة الأمة أيام الدول المجاهدة: (الراشدين، الأمويين، العباسيين، العثمانيين ) وببن حالها اليوم في عهد الدويلات القاعِدة ـ من القعود ـ
في عهد الدويلات القاعدة عن الجهاد صارت الأمة نهبة للمنتهبين وفريسة للمفترسين الكل ينتهب من جسمها جزءاً، ما بين رعاة البقر إلى عُبَّاد البقر، تحقق فيهم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم-: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأَكَلَةُ إلى قصعتها) فقال قائل: ومن قلةٍ نحن يومئذٍ ؟ قال: (بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن) فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت)(2).
المسلمون اليوم كثير، يعدون أكثر من ألف مليون، ومع ذلك فهم يُنتهبون ولا يفعلون شيئاً، وإن قاوم بعضهم وقف الباقون يتفرجون، وأحسنهم حالاً الذي نصر إخوانه بالدعاء لأنه لا يملك غيره، هذا العجز الفادح هو من أبرز معالم " الغثائية "..
لماذا هذا العجز الفادح ؟!
إنه نتيجة لعوامل عديدة داخلية وخارجية تاريخية ومعاصرة، تراكمت على صدر هذه الأمة فإذا بها تركن إلى حياة الدعة والخنوع وتلقي بيدها إلى التهلكة التي حذرها منها ربها عز وجل، غلب عليها حب الدنيا وكراهية الموت..
أصبحت أمةً من التجار، الجميع يبني الأسواق، ويلهث خلف الأسواق ومنشغل بالأسواق، وأَلِفَ الناسُ حياة الرفاهية والترف، حتى العلماء الذين لا يليق بهم إلا الزهد والتقشف ألهت كثيراً منهم التجارة وسكنوا القصور منافسين بذلك أهل الدنيا..
إذا أردت أن ترى هذا التشخيص عياناً، فائْت المسجد النبوي وتأمل ما حوله، إنه محاصر بالأسواق والفنادق، لا تجد حوله مدارس ولا مكتبات عامة، ولا أربطةً للمساكين، ولا بيوتاً للعلماء، ولا بيوتاً حتى لأئمة المسجد النبوي، كانت في قبلته المحكمة الشرعية الكبرى وهي رمز ديني مناسب للمسجد، ولكن غلب على أمة التجار هوسُ التجارة فأقاموا في قبلة المسجد النبوي مباشرة سوقاً، إننا نستقبل في صلواتنا سوقاً، تعبيراً بليغاً عن حالتنا، لم يستحوا من الله الذي قال في كتابه:( . . قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللّهْوِ وَمِنَ التّجَارةِ واللهُ خَيْرُ الرّازِقِين) [ 11/الجمعة ]، ولم يستحوا من رسوله - صلى الله عليه وسلم- الذي قال: ( أحبّ البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ) (3) .
من أشد هذه العوامل سوءاً هذه القيادات التي جثمت على صدور الناس قيادات ليست من هذه الأمة وإن كانوا من جلدتها ويتكلمون بألسنتها فبدلاً من أن يربُّوا رعاياهم على حياة الجهاد، وينموا فيهم روح الجهاد ويشتغلوا معهم بالإعداد، غرقوا في حياة الترف والفساد والإفساد، وكان من إفسادهم أنهم عملوا جاهدين على تعويد الأمة على الخنوع وحب الدنيا، بل عملوا على أن يكون سعي كل واحد من الرعية من أجل لقمةٍ يسدّ بها رمقه ورمقَ من يعول، أي بدلاً من أن يؤدي الحاكم وظيفةً من أهم وظائفه، هي السهر على مصالح الناس، وتوفير حقوقهم ومتطلباتهم، ونشر العدالة بينهم، ها هو يفعل العكس، ينهب الأموال، وينشر الظلم والفقر، والفساد الأخلاقي .
ونتيجةً لذلك ها هي بوادر التهلكة التي أنذرنا بها ربنا، وحذرنا منها، ها هي تطل كظُلّة أهل الأيكة، تهددنا جميعاً حكاماً ومحكومين؛ لأن الجميع مشتركون في المسؤولية عما آل إليه الحال، مع تفاوت نصيب كل واحد من تلك المسؤولية، وأشدّنا مسؤولية حكامُنا، إنهم السبب المباشر .
وإذا حلت العقوبة – والعياذ بالله – لم تستثن أحداً، إلا من أعذر إلى ربه، وقام بواجب الإنذار، وأولى منه بالنجاة من قام بواجب الجهاد .
( وإذْ قَالَتْ أُمّةٌ منْهُم لِمَ تَعِظونَ قَوْماً الله مهلِكُهُم أَو مُعذّبُهُم عذاباً شَديِداً قَالوا معذرةً إلى رَبّكم ولعلهُمْ يتّقُون * فَلَمّا نَسُوا ما ذُكّروا به أَنجيْنا الذين يَنْهَونَ عن السّوءِ وأَخَذْنَا الذين ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بئيسٍ بما كَانُوا يَفْسُقُونَ ) [ 165/166/ الأعراف ] .
المقالة التالية
الجهاد حياة(3/3)
(1) تفسير ابن كثير (1/236) .
(2) أبو داود في الملاحم ( انظر مختصره للمنذري 6/ 165 ) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه / في المساجد [ ص/464] .
الجهاد حياة(3/3)
د.عبد العزيز القارئ 18/2/1424
20/04/2003(/4)
القتال في الإسلام حرب رحيمة؛ بينما حروب الآخرين من نصارى ومغول وغيرهم حروب متوحشة لا رحمة فيها..
كان النصارى متعطشين للدماء في حروبهم، هذا فيما بينهم، فكيف بهم مع غيرهم .. لقد كانوا شعوباً متخلفين متوحشين.
لما غزا الصليبيون بلاد الشام، ودخلوا المدينة المقدسة، لجأ الشيوخ والنساء والأطفال إلى المسجد الأقصى ؛ فقتلهم الصليبيون المتوحشون عن بكرة أبيهم، وقتلوا في المدينة المقدسة أكثر من سبعين ألف مسلم حتى سالت دماء المسلمين أنهاراً في باحات المسجد وطرقات المدينة وخاضت خيول الصليبيين في برك من دماء الأبرياء والعُزّل(1).
ولما تحولت الرياح بعد ذلك بزمن، وانتصرت جيوش المسلمين، ودخل القائد المجاهد صلاح الدين الأيوبي المدينة المقدسة فاتحاً لم ينتقم من النصارى، لم يفعل معهم كما فعلت جيوشهم من قبل والتي أتت باسم الصليب، ولو فعل لقيل: قصاص عادل والبادئ أظلم .. لكنه يعلم رحمه الله أن الجهاد في الإسلام حرب رحيمة، وأن المسلمين أصحاب رسالة ودعوة، فلم ينتقم من أحد وحافظ على حياة النصارى وعاملهم برحمة وشفقة، وكان عادلاً فأحبوه، واشتهر بين مؤرخيهم بالملك العادل.
وهو بذلك اقتدى بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم- لما منّ على قريش يوم الفتح وقد أمكنه الله منهم، وكان قد لقي منهم قبل ذلك عنتاً شديداً، حيث أمعنوا في اضطهاده لما كان في مكة، ثم لما هاجر إلى المدينة لم يدخروا وسيلة لحربه ومحاولة القضاء عليه إلا اقترفوها، ومع ذلك لم ينتقم منهم إذ وقفوا جميعاً بين يديه ينتظرون حكمه.. - صلى الله عليه وسلم-.
وهكذا في جميع حروب المسلمين " الجهادية "، امتازت بهذه المزية التي لا توجد عند غيرهم.
ومن مظاهر هذه الرحمة في الجهاد: أن الحرب تحت ظلالها منضبطة بالقوانين الأخلاقية الإسلامية، التي تكرس قاعدة أساسية هي أن الجهاد ليس حرب إبادة، ولا حرب انتقام، ولا حرب عدوان، لكنها حرب للدفاع عن الحرمات، وحرب إنقاذ، إنها حرب ذات رسالة..
ومن يريد إنقاذ الناس لا يبيدهم، ولا يقتلهم قتلاً أعمى، لا يفرق بين مقاتل وغير مقاتل، ولا امرأة أو طفل أو شيخ فانٍ..
والمحارب الذي يحمل رسالة لإصلاح الناس لا يحرق الأخضر واليابس ولا يهدم البيوت، ويدمر المدن أو يحرقها، ولذلك لم يعرف في حروب المسلمين الجهادية أنهم فعلوا ذلك بأعدائهم ، بينما فعل الأعداء ذلك بهم ويفعلون..
من آداب هذا الانضباط الأخلاقي في الجهاد أنه حُرّم على المجاهدين قتل المسالمين الذين لا يقاتلون، أما قتل النساء والأطفال فمحرم باتفاق العلماء، وأما غيرهما فعلى الصحيح من مذهب الجمهور.
وذلك مثل العسيف أي الأجير الذي لا يباشر القتال لكنه يوجد في صفوف العدو مثل الأطباء والممرضين والطباخين إذا لم يكونوا عسكريين مسلحين يسندون المقاتلين . .
في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم- عن قتل النساء والصبيان (2).
وعن رباح بن الربيع رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم-في غزوة فرأى الناس مجتمعين على شيء فبعث رجلاً فقال: ( انظر علامَ اجتمع هؤلاء ؟ فقال: على امرأة قتيل. فقال - صلى الله عليه وسلم-: ما كانت هذه لتقاتل " وعلى المقدمة خالد بن الوليد فقال: (قل لخالد لا تقتل امرأة ولا عسيفاً ) رواه أبو داود (3) .
وفي رواية لابن ماجة: ( انطلق إلى خالد بن الوليد فقل له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يأمرك يقول: لا تقتلن ذرية ولا عسيفاً ) (4) .
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان إذا بعث جيشاً قال:( انطلقوا باسم الله لا تقتلوا شيخاً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة ولا تَغُلّوا وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين )(5).
والعلة في تحريم قتل هؤلاء أنهم لا يقاتلون، وهذا هو مدلول قوله - صلى الله عليه وسلم- في المرأة القتيلة : ( ما كانت هذه لتقاتل ) .
وعليه فكل من لا يقاتل يحرم قتله، وهذا يشمل كل من اصطُلِح اليوم على تسميتهم بـ "المدنيين"..
وهذا هو فهم الصحابة، وعلى رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعن جميع الصحابة، فقد رُوي عنه أنه نهى عن قتل الرهبان المنقطعين للعبادة في صوامعهم..
ففي الموطأ أن أبا بكر رضي الله عنه بعث جيوشاً إلى الشام فخرج يشيعهم، فمشى مع يزيد بن أبي سفيان ثم قال: ( إنك ستجد قوماً حبسوا أنفسهم لله فدعهم وما حبسوا أنفسهم له ) (6).
وأشد الأئمة قولاً في مشروعية قتل أصناف العدو سوى النساء والأطفال الإمام الشافعي رحمه الله ومع ذلك قال: ( ويُترَك قتل الرهبان اتباعاً لأبي بكر رضي الله عنه ) (7).
فإذن لا يجوز قتل النساء والأطفال والرهبان بالاتفاق .
ثم نقول كما قال الجمهور: ويلحق بهؤلاء في تحريم قتلهم: الأعمى، والزّمِن، والمعتوه، والفلاحون، والتجار، والأطباء، والعُسَفاء أي الأجراء ( جمع عسيف )، وأمثال هؤلاء من الموظفين المدنيين . .(/5)
وكل هؤلاء يجمعهم اليوم وصف واحد هو: " المدنيون" وعلة واحدة هي أنهم لا يُقاتلون.
وهذا يبين أن العلة في قتل العدو وقتاله ليس هو المخالفة في الملة، أي الكفر، وإنما هو المحاربة، فالكافر المُسالم لا يحل قتله ولا قتاله، بل الواجب نحوه دعوته ومجادلته بالحسنى، ومن باب أولى الكافر المُعاهِد، والكافر الذمِّي، فهؤلاء وإن كان ينطبق عليهم وصف الكفر لكنهم لا يحل قتلهم ولا قتالهم، ونصوص القرآن والسنة حافلة بذلك(8) .
وما ورد مما يخالف في ظاهره هذا التأصيل فإن المقصود به حالة الاضطرار، أي حيث لا يمكن تلافي ذلك، كالنساء والأطفال الذين قد يُقتلون أو يُصابون أثناء الإغارة على العدو ليلاً، أمّا قتلهم في حالة الاختيار فمحرم... (9).
لذلك نقول بلا تردد إن من قتل أحداً ممن حرّم الشرع قتله في صفوف العدو باختياره فقد عصى الله ورسوله، وخالف منهج السلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، أما عصيانه لله تعالى فلأن الله يقول: ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله الذِينَ يُقَاتِلونَكُمْ وَلاَ تعْتَدوا إنّ الله لا يُحِبّ المُعْتَدين) [190/ البقرة].
فقتال من لا يقاتل من أصناف " المدنيين "، وقتال الكفار المُسَالمين عدوان بنص هذه الآية، ومحرم بنصها أيضاً .
وأما عصيانه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- فلما ثبت من نهيه - صلى الله عليه وسلم- عن قتل هؤلاء في النصوص الحديثية السابقة ...
وأما مخالفته لمنهج السلف وهديهم وفقههم، فلم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم قتلوا أحداً ممن لا يقاتل من العدو، بل هذا الصديق رضي الله عنه يمنع قادته من قتل ( الرهبان )، لأنهم لا يقاتلون ومنقطعون للعبادة مع أنهم رؤساء أهل ملتهم في الكفر .
المقالة التالية
تشريع الجهاد (1) الحرب الصليبية الأولى / للدكتور حسن حبشي [ ص170-179 ] طبعة دار الفكر العربي بمصر 1958م .
(2) اللؤلؤ والمرجان / لمحمد فؤاد عبد الباقي / ص438 .
(3) تهذيب سنن أبي داود للمنذري [ 4/13] .
(4) ابن ماجة [ 2/ص948] .
(5) أبو داود / في باب دعاء المشركين [ الحديث رقم 2614 ] .
(6) الموطأ [ 2/ص447، 448 / طبعة محمد فؤاد عبد الباقي ] .
(7) السنن الكبرى للبيهقي [ 9/89-94 ] .
(8) سيأتي مزيد تفصيل لذلك .
(9) انظر : فتح الباري [6/146-151] .(/6)
الجهاد في سبيل الله فضله ومراتبه وأسباب النصر على الأعداء
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده، أما بعد،،،
فهذه كلمات مختصرة في 'فضل الجهاد في سبيل الله تعالى، وأسباب النصر على الأعداء'، أوجهها إلى كل مجاهد لإعلاء كلمة الله، والله أسال أن ينصر المجاهدين في سبيله في كل مكان، وأن يوفقهم للعمل بعوامل النصر وأسبابه، والإخلاص في القول والعمل، والرغبة فيما عند الله من الثواب العظيم والتجارة الرابحة، والفوز بسعادة الدنيا والآخرة.
أولًا: مفهوم الجهاد لغة وشرعًا:
لغة: بذل واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل.
شرعًا: بذل الجهد من المسلمين في قتال الكفار، والبغاة، والمرتدين ونحوهم.
ثانيًا: حكم الجهاد في سبيل الله تعالى:الجهاد فرض كفاية، إذا قام به من يكفي من المسلمين؛ سقط الإثم عن الباقين [انظر:المغني لابن قدامة]. قال تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[122]}[سورة التوبة].
ويكون الجهاد فرض عين في ثلاث حالات[انظر:المغني لابن قدامة]:
1ـ إذا حضر المسلم القتال والتقى الزحفان وتقابل الصفان، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ[15]وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ[16]}[سورة الأنفال]. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن التولي يوم الزحف من السبع الموبقات [رواه البخاري ومسلم].
2ـ إذا حضر العدو بلدًا من بلدان المسلمين تعين على أهل البلاد قتاله وطرده منها، ويلزم المسلمين أن ينصروا ذلك البلد إذا عجز أهله عن إخراج العدو، ويبدأ الوجوب بالأقرب فالأقرب، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[123]}[سورة التوبة].
3ـ إذا استنفر إمام المسلمين الناس وطلب منهم ذلك.
وجنس الجهاد فرض عين: إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد. فيجب على المسلم أن يجاهد في سبيل الله بنوع من هذه الأنواع حسب الحاجة والقدرة. والأمر بالجهاد بالنفس والمال كثير في القرآن والسنة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ] رواه أبوداود والنسائي وأحمد.
ثالثًا: مراتب الجهاد في سبيل الله:الجهاد له أربع مراتب: جهاد النفس، والشيطان، والكفار، والمنافقين، وأصحاب الظلم والبدع والمنكرات .
رابعًا: الحكمة من مشروعية الجهاد: بيّنه سبحانه فقال:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[39]}[سورة الأنفال]. وقال عز وجل:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ[193]}[سورة البقرة]. فعلى هذا يكون الهدف والحكمة من الجهاد الأمور التالية:
أولاً: إعلاء كلمة الله تعالى: لحديث أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: [مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] رواه البخاري ومسلم.
ثانيًا: نصر المظلومين: قال تعالى:{ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا[75]}[سورة النساء].(/1)
ثالثًا: ردّ العدوان وحفظ الإسلام: قال الله تعالى: { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[194]}[سورة البقرة]. وقال سبحانه:{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]}[سورة الحج].
خامسًا: أنواع جهاد الأعداء:
1ـ جهاد الكفار، والمنافقين، والمرتدين[انظر التفصيل في زاد المعاد 3/100 و6-11 والمغني لابن قدامة 12/264].
2ـ جهاد البغاة .
3ـ الدفاع عن الدين، والنفس، والأهل والمال:عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ]رواه أبوداود والترمذي والنسائي وأحمد.
وعَنْ مُخَارِقٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الرَّجُلُ يَأْتِينِي فَيُرِيدُ مَالِي قَالَ: [ذَكِّرْهُ بِاللَّهِ] قَالَ فَإِنْ لَمْ يَذَّكَّرْ قَالَ: [فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَنْ حَوْلَكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ] قَالَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَوْلِي أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: [فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِالسُّلْطَانِ] قَالَ فَإِنْ نَأَى السُّلْطَانُ عَنِّي قَالَ: [قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ حَتَّى تَكُونَ مِنْ شُهَدَاءِ الْآخِرَةِ أَوْ تَمْنَعَ مَالَكَ]رواه النسائي وأحمد.
سادسًا: فضل الجهاد في سبيل الله تعالى: من ذلك على سبيل المثال:
1ـ الجهاد في سبيل الله تجارة رابحة:
قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[111]}[سورة التوبة].
وقال تعالى في تجارة المجاهدين الرابحة:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[10]تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ[11]يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[12]وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ[13]}[سورة الصف].
وقال سبحانه: { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا[74]}[سورة النساء].
2ـ فضل الرباط في سبيل الله تعالى: الرباط على الثغور التي يمكن أن تكون منافذ ينطلق منها العدو إلى دار الإسلام له فضل عظيم، فعَنْ سَلْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ]رواه مسلم.
3ـ فضل الحراسة في سبيل الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] رواه الترمذي.
4ـ فضل الغدوة أو الروحة في سبيل الله: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا]رواه البخاري، ومسلم-مختصرا-.(/2)
5ـ فضل من اغبرَّت قدماه في سبيل الله: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ] رواه البخاري.
6ـ الجنة تحت ظلال السيوف: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ]رواه البخاري ومسلم.
7ـ الجهاد لا يعدله شيء: عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ قَالَ: [لَا أَجِدُهُ] قَالَ: [هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ] قَالَ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ . رواه البخاري ومسلم .
8 ـ درجات المجاهدين في سبيل الله: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ]رواه البخاري.
9ـ ضيافة الشهداء عند ربهم: عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ يَغْفِرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دُفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ وَيُزَوَّجُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ]رواه ابن ماجة والترمذي وأحمد. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في وصف الحور العين: [...وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا]رواه البخاري.
10ـ دم الشهيد يوم القيامة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ وَرِيحُهُ مِسْكٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلَافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ]رواه البخاري ومسلم-واللفظ له-.
11ـ تمني الشهيد أن يقتل عشر مرات:عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ]رواه البخاري ومسلم.(/3)
12ـ أرواح الشهداء تسرح في الجنة: عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[169]}[سورة آل عمران] قَالَ أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: [أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلَاعَةً فَقَالَ هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا قَالُوا أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا] رواه مسلم .
13ـ ما يجد الشهيد من ألم القتل:عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [الشَّهِيدُ لَا يَجِدُ مَسَّ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ الْقَرْصَةَ يُقْرَصُهَا]رواه النسائي والترمذي وابن ماجة والدارمي وأحمد.
14ـ فضل النفقة في سبيل الله: قال تعالى:{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[261]} [سورة البقرة]. وعَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَتْ لَهُ بِسَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ]رواه النسائي.
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُ مِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ]رواه مسلم.
15ـ الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون: قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[169] فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[170] يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ[171]} [سورة آل عمران].
16ـ الجهاد باب من أبواب الجنة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُنَجِّي اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ مِنْ الْهَمِّ وَالْغَمِّ]رواه أحمد.
17ـ ما يُبلِّغ منازل الشهداء:ويحصل هذا الخير العظيم لمن سأل الله الشهادة بصدق، فعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ] رواه مسلم .
18ـ فضل المجاهدين على القاعدين:قال الله: { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا[95]دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[96]}[سورة النساء].
19ـ الرحمة والمغفرة للشهداء:قال الله تعالى:{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[157]وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ[158]}[سورة آل عمران].
20ـ القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدَّين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ] رواه مسلم.(/4)
21ـ المجاهد بنفسه وماله أفضل الناس:عن أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ] قَالُوا ثُمَّ مَنْ قَالَ: [ مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ]رواه البخاري ومسلم.
22ـ من خرج من بيته مجاهدًا فمات فقد وقع أجره على الله: قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[100]}[سورة آل عمران]. و عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ] رواه البخاري ومسلم.
والأعمال بالنيات، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَخَرَّ عَنْ دَابَّتِهِ فَمَاتَ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لَدَغَتْهُ دَابَّةٌ فَمَاتَ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
23ـ مثل المجاهد في سبيل الله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: [لَا تَسْتَطِيعُونَهُ] قَالَ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: [لَا تَسْتَطِيعُونَهُ] وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: [مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى] رواه البخاري ومسلم.
24ـ ذروة الإسلام الجهاد في سبيل الله:عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: [رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ]رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد.
25ـ سياحة أمة محمد صلى الله عليه وسلم الجهاد في سبيل الله: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى]رواه أبوداود.
26ـ الرمي بسهم في سبيل الله يعدل إعتاق رقبة:عَنْ أَبِي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ لَهُ عَدْلُ مُحَرَّرٍ] رواه الترمذي وصححه. والمحرَّرُ: الرقبة المعتقة، والعدل: المثل. ولفظ ابن ماجة: [مَنْ رَمَى الْعَدُوَّ بِسَهْمٍ فَبَلَغَ سَهْمُهُ الْعَدُوَّ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ فَعَدْلُ رَقَبَةٍ].
27ـ عمل قليلاً وأجر كثيرًا: عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ قَالَ: [أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ] فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا]رواه البخاري ومسلم.
28ـ من جهّز غازيًا فقد غزا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا] رواه البخاري ومسلم. وتجهيز الغازي: تحميله، وإعداد ما يحتاج إليه في غزوه، ومعنى خلف غازيًا في أهله: أي قام مقامه في مراعاة أحوال أهله..
سابعًا: الترهيب من ترك الجهاد:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ]رواه مسلم.(/5)
وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَنْ لَمْ يَغْزُ أَوْ يُجَهِّزْ غَازِيًا أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ أَصَابَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ] رواه أبوداود وابن ماجة والدارمي، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود. وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ]رواه أبوداود وأحمد. وللحث على الاستعداد للجهاد في سبيل الله، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا أَوْ قَدْ عَصَى]رواه مسلم .
ثامنًا:أسباب النصر على الأعداء:
1ـ الإيمان والعمل الصالح: قال تعالى:{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ[51] يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ[52]}[سورة غافر]. وقال سبحانه:{...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[47]}[سورة الروم].
والمؤمنون الموعودون بالنصر هم الموصوفون بقوله تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ[2]الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ[3]أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ[4]}[سورة الأنفال]. وقال تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[55]}[سورة النور].
2ـ نصر دين الله: ومن أعظم أسباب النصر: نصر دين الله والقيام به قولاً، واعتقادًا، وعملاً، ودعوة، قال الله تعالى:{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40] الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[41]}[سورة الحج]. وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[7] وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ[8]}[سورة محمد].
3ـ التوكل على الله مع إعداد القوة من أعظم عوامل النصر: قال سبحانه:{ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[160]}[سورة آل عمران]. ولابد من التوكل من الأخذ بالأسباب؛ لأن التوكل يقوم على ركنين عظيمين:
الأول: الاعتماد على الله، والثقة بوعده ونصره.
الثاني: الأخذ بالأسباب المشروعة؛ ولهذا قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ[60]}[سورة الأنفال].
4ـ المشاورة بين المسؤولين لتعبئة الجيوش الإسلامية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه مع كمال عقله، وسداد رأيه، قال سبحانه:{...وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ...[38]}[سورة الشورى].
5ـ الثبات عند لقاء العدو:عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ]رواه البخاري ومسلم.
6ـ الشجاعة والبطولة والتضحية:والاعتقاد بأن الجهاد لا يقدم الموت ولا يؤخره، قال الله تعالى:{ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ...[78]}[سورة النساء].
قال الشاعر:
من لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والموت واحد
ولهذا كان أهل الإيمان الكامل هم أشجع الناس، وأكملهم شجاعة هو إمامهم محمد عليه الصلاة والسلام، وقد ظهرت شجاعته في المعارك الكبرى التي قاتل فيها.(/6)
7ـ الدعاء وكثرة الذكر: قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[45]}[سورة الأنفال] . وكان صلى الله عليه وسلم يدعو الله في جميع معاركه، ومن ذلك:
مارواه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: [اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اللَّهُمَّ اهْزِمْ الْأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ].
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَزَا قَالَ: [اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ]رواه أبوداود والترمذي. وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:' حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[173]}[سورة آل عمران]'رواه البخاري. وهكذا ينبغي أن يكون المجاهدون في سبيل الله .
8 ـ طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: وهي من أقوى دعائم وعوامل النصر، ولهذا قال تعالى:{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[46]}[سورة الأنفال]. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ]رواه أحمد.
9 ـ الاجتماع وعدم النزاع: يجب على المجاهدين أن يحققوا عوامل النصر ولا سيما الاعتصام بالله، والتكاتف، وعدم النزاع والافتراق، قال تعالى:{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[46]}[سورة الأنفال]. وقال عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا...[103]}[سورة آل عمران].
10 ـ الصبر والمصابرة: قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[200]}[سورة آل عمران]. وجاء في الحديث: [...وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]رواه أحمد. وقال تعالى:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[146]وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[147]}[سورة آل عمران].
11ـ الإخلاص لله تعالى:لا يكون المقاتل مجاهدًا في سبيل الله إلا بالإخلاص، قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[69]}[سورة العنكبوت]. وعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: [مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] رواه البخاري ومسلم. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ...] رواه مسلم.
12ـ الرغبة فيما عند الله: مما يعين على النصر على الأعداء هو الطمع في فضل الله وسعادة الدنيا والآخرة؛ ولهذا نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، ومما يدل على الرغبة فيما عند الله تعالى ما يأتي:(/7)
أولاً: ما فعل عمير بن الحمام في بدر حينما قال عليه الصلاة والسلام: [قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ] فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ قَالَ : [نَعَمْ] قَالَ بَخٍ بَخٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ] قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ: [فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا] فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ قَالَ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.
ثانيًا: ما فعل أنس بن النضر – عمّ أنس بن مالك – يوم أحد، تأخر عن معركة بدر، فشق عليه ذلك وقال: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُيِّبْتُ عَنْهُ وَإِنْ أَرَانِيَ اللَّهُ مَشْهَدًا فِيمَا بَعْدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَرَانِي اللَّهُ مَا أَصْنَعُ قَالَ فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا قَالَ فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ فَاسْتَقْبَلَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ يَا أَبَا عَمْرٍو أَيْنَ فَقَالَ وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ قَالَ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ قَالَ فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ بَيْنِ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ قَالَ فَقَالَتْ أُخْتُهُ عَمَّتِيَ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{...رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[23]}[سورة الأحزاب] قَالَ فَكَانُوا يُرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ .رواه البخاري ومسلم-واللفظ له- .
.والمسلم المجاهد في سبيل الله تعالى إذا رغب فيما عند الله تعالى، فإنه لا يبالي بما أصابه رغبة في الفوز العظيم.
فلست أبالي حين أقتل مسلمًا ... على أي جنب كان في الله مصرعي
13ـ إسناد القيادة لأهل الإيمان.
14ـ التحصن بالدعائم المنجيات من المهالك، والهزائم، ونزول العذاب: ومن ذلك:
أولاً: التوبة والاستغفار من جميع المعاصي والذنوب كبيرها وصغيرها .
ثانيًا: تقوى الله تعالى.
ثالثًا: أداء الفرائض وإتباعها بالنوافل؛ لأن محبة الله لعبده تحصل بذلك، فإذا أحبه نصره، ووفقه، وسدده وأعانه. لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ] رواه البخاري.
رابعًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
خامسًا: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في جميع الاعتقادات، والأقوال والأفعال.
سادسًا: الدعاء والضراعة إلى الله .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
من كتاب:'الجهاد في سبيل الله : فضله، ومراتبه، وأسباب النصر على الأعداء'
للشيخ/ سعيد بن علي بن وهف القحطاني(/8)
الجهاد في سبيل الله فضله ومراتبه ، وأسباب النصر على الأعداء
رئيسي :فكر :
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده، أما بعد،،،
فهذه كلمات مختصرة في 'فضل الجهاد في سبيل الله تعالى، وأسباب النصر على الأعداء'، أوجهها إلى كل مجاهد لإعلاء كلمة الله، والله أسال أن ينصر المجاهدين في سبيله في كل مكان، وأن يوفقهم للعمل بعوامل النصر وأسبابه، والإخلاص في القول والعمل، والرغبة فيما عند الله من الثواب العظيم والتجارة الرابحة، والفوز بسعادة الدنيا والآخرة.
أولًا: مفهوم الجهاد لغة وشرعًا:
لغة: بذل واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل.
شرعًا: بذل الجهد من المسلمين في قتال الكفار، والبغاة، والمرتدين ونحوهم.
ثانيًا: حكم الجهاد في سبيل الله تعالى:الجهاد فرض كفاية، إذا قام به من يكفي من المسلمين؛ سقط الإثم عن الباقين [انظر:المغني لابن قدامة]. قال تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[122]}[سورة التوبة].
ويكون الجهاد فرض عين في ثلاث حالات[انظر:المغني لابن قدامة]:
1ـ إذا حضر المسلم القتال والتقى الزحفان وتقابل الصفان، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ[15]وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ[16]}[سورة الأنفال]. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن التولي يوم الزحف من السبع الموبقات [رواه البخاري ومسلم].
2ـ إذا حضر العدو بلدًا من بلدان المسلمين تعين على أهل البلاد قتاله وطرده منها، ويلزم المسلمين أن ينصروا ذلك البلد إذا عجز أهله عن إخراج العدو، ويبدأ الوجوب بالأقرب فالأقرب، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[123]}[سورة التوبة].
3ـ إذا استنفر إمام المسلمين الناس وطلب منهم ذلك.
وجنس الجهاد فرض عين: إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد. فيجب على المسلم أن يجاهد في سبيل الله بنوع من هذه الأنواع حسب الحاجة والقدرة. والأمر بالجهاد بالنفس والمال كثير في القرآن والسنة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ] رواه أبوداود والنسائي وأحمد.
ثالثًا: مراتب الجهاد في سبيل الله:الجهاد له أربع مراتب: جهاد النفس، والشيطان، والكفار، والمنافقين، وأصحاب الظلم والبدع والمنكرات .
رابعًا: الحكمة من مشروعية الجهاد: بيّنه سبحانه فقال:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[39]}[سورة الأنفال]. وقال عز وجل:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ[193]}[سورة البقرة]. فعلى هذا يكون الهدف والحكمة من الجهاد الأمور التالية:
أولاً: إعلاء كلمة الله تعالى: لحديث أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: [مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] رواه البخاري ومسلم.
ثانيًا: نصر المظلومين: قال تعالى:{ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا[75]}[سورة النساء].(/1)
ثالثًا: ردّ العدوان وحفظ الإسلام: قال الله تعالى: { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[194]}[سورة البقرة]. وقال سبحانه:{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]}[سورة الحج].
خامسًا: أنواع جهاد الأعداء:
1ـ جهاد الكفار، والمنافقين، والمرتدين[انظر التفصيل في زاد المعاد 3/100 و6-11 والمغني لابن قدامة 12/264].
2ـ جهاد البغاة .
3ـ الدفاع عن الدين، والنفس، والأهل والمال:عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ]رواه أبوداود والترمذي والنسائي وأحمد.
وعَنْ مُخَارِقٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الرَّجُلُ يَأْتِينِي فَيُرِيدُ مَالِي قَالَ: [ذَكِّرْهُ بِاللَّهِ] قَالَ فَإِنْ لَمْ يَذَّكَّرْ قَالَ: [فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَنْ حَوْلَكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ] قَالَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَوْلِي أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: [فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِالسُّلْطَانِ] قَالَ فَإِنْ نَأَى السُّلْطَانُ عَنِّي قَالَ: [قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ حَتَّى تَكُونَ مِنْ شُهَدَاءِ الْآخِرَةِ أَوْ تَمْنَعَ مَالَكَ]رواه النسائي وأحمد.
سادسًا: فضل الجهاد في سبيل الله تعالى: من ذلك على سبيل المثال:
1ـ الجهاد في سبيل الله تجارة رابحة:
قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[111]}[سورة التوبة].
وقال تعالى في تجارة المجاهدين الرابحة:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[10]تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ[11]يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[12]وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ[13]}[سورة الصف].
وقال سبحانه: { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا[74]}[سورة النساء].
2ـ فضل الرباط في سبيل الله تعالى: الرباط على الثغور التي يمكن أن تكون منافذ ينطلق منها العدو إلى دار الإسلام له فضل عظيم، فعَنْ سَلْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ]رواه مسلم.
3ـ فضل الحراسة في سبيل الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] رواه الترمذي.
4ـ فضل الغدوة أو الروحة في سبيل الله: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا]رواه البخاري، ومسلم-مختصرا-.(/2)
5ـ فضل من اغبرَّت قدماه في سبيل الله: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ] رواه البخاري.
6ـ الجنة تحت ظلال السيوف: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ]رواه البخاري ومسلم.
7ـ الجهاد لا يعدله شيء: عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ قَالَ: [لَا أَجِدُهُ] قَالَ: [هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ] قَالَ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ . رواه البخاري ومسلم .
8 ـ درجات المجاهدين في سبيل الله: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ]رواه البخاري.
9ـ ضيافة الشهداء عند ربهم: عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ يَغْفِرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دُفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ وَيُزَوَّجُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ]رواه ابن ماجة والترمذي وأحمد. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في وصف الحور العين: [...وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا]رواه البخاري.
10ـ دم الشهيد يوم القيامة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ وَرِيحُهُ مِسْكٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلَافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ]رواه البخاري ومسلم-واللفظ له-.
11ـ تمني الشهيد أن يقتل عشر مرات:عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ]رواه البخاري ومسلم.(/3)
12ـ أرواح الشهداء تسرح في الجنة: عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[169]}[سورة آل عمران] قَالَ أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: [أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلَاعَةً فَقَالَ هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا قَالُوا أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا] رواه مسلم .
13ـ ما يجد الشهيد من ألم القتل:عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [الشَّهِيدُ لَا يَجِدُ مَسَّ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ الْقَرْصَةَ يُقْرَصُهَا]رواه النسائي والترمذي وابن ماجة والدارمي وأحمد.
14ـ فضل النفقة في سبيل الله: قال تعالى:{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[261]} [سورة البقرة]. وعَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَتْ لَهُ بِسَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ]رواه النسائي.
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُ مِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ]رواه مسلم.
15ـ الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون: قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[169] فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[170] يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ[171]} [سورة آل عمران].
16ـ الجهاد باب من أبواب الجنة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُنَجِّي اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ مِنْ الْهَمِّ وَالْغَمِّ]رواه أحمد.
17ـ ما يُبلِّغ منازل الشهداء:ويحصل هذا الخير العظيم لمن سأل الله الشهادة بصدق، فعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ] رواه مسلم .
18ـ فضل المجاهدين على القاعدين:قال الله: { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا[95]دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[96]}[سورة النساء].
19ـ الرحمة والمغفرة للشهداء:قال الله تعالى:{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[157]وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ[158]}[سورة آل عمران].
20ـ القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدَّين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ] رواه مسلم.(/4)
21ـ المجاهد بنفسه وماله أفضل الناس:عن أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ] قَالُوا ثُمَّ مَنْ قَالَ: [ مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ]رواه البخاري ومسلم.
22ـ من خرج من بيته مجاهدًا فمات فقد وقع أجره على الله: قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[100]}[سورة آل عمران]. و عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ] رواه البخاري ومسلم.
والأعمال بالنيات، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَخَرَّ عَنْ دَابَّتِهِ فَمَاتَ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لَدَغَتْهُ دَابَّةٌ فَمَاتَ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
23ـ مثل المجاهد في سبيل الله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: [لَا تَسْتَطِيعُونَهُ] قَالَ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: [لَا تَسْتَطِيعُونَهُ] وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: [مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى] رواه البخاري ومسلم.
24ـ ذروة الإسلام الجهاد في سبيل الله:عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: [رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ]رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد.
25ـ سياحة أمة محمد صلى الله عليه وسلم الجهاد في سبيل الله: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى]رواه أبوداود.
26ـ الرمي بسهم في سبيل الله يعدل إعتاق رقبة:عَنْ أَبِي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ لَهُ عَدْلُ مُحَرَّرٍ] رواه الترمذي وصححه. والمحرَّرُ: الرقبة المعتقة، والعدل: المثل. ولفظ ابن ماجة: [مَنْ رَمَى الْعَدُوَّ بِسَهْمٍ فَبَلَغَ سَهْمُهُ الْعَدُوَّ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ فَعَدْلُ رَقَبَةٍ].
27ـ عمل قليلاً وأجر كثيرًا: عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ قَالَ: [أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ] فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا]رواه البخاري ومسلم.
28ـ من جهّز غازيًا فقد غزا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا] رواه البخاري ومسلم. وتجهيز الغازي: تحميله، وإعداد ما يحتاج إليه في غزوه، ومعنى خلف غازيًا في أهله: أي قام مقامه في مراعاة أحوال أهله..
سابعًا: الترهيب من ترك الجهاد:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ]رواه مسلم.(/5)
وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَنْ لَمْ يَغْزُ أَوْ يُجَهِّزْ غَازِيًا أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ أَصَابَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ] رواه أبوداود وابن ماجة والدارمي، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود. وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ]رواه أبوداود وأحمد. وللحث على الاستعداد للجهاد في سبيل الله، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا أَوْ قَدْ عَصَى]رواه مسلم .
ثامنًا:أسباب النصر على الأعداء:
1ـ الإيمان والعمل الصالح: قال تعالى:{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ[51] يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ[52]}[سورة غافر]. وقال سبحانه:{...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[47]}[سورة الروم].
والمؤمنون الموعودون بالنصر هم الموصوفون بقوله تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ[2]الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ[3]أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ[4]}[سورة الأنفال]. وقال تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[55]}[سورة النور].
2ـ نصر دين الله: ومن أعظم أسباب النصر: نصر دين الله والقيام به قولاً، واعتقادًا، وعملاً، ودعوة، قال الله تعالى:{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40] الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[41]}[سورة الحج]. وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[7] وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ[8]}[سورة محمد].
3ـ التوكل على الله مع إعداد القوة من أعظم عوامل النصر: قال سبحانه:{ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[160]}[سورة آل عمران]. ولابد من التوكل من الأخذ بالأسباب؛ لأن التوكل يقوم على ركنين عظيمين:
الأول: الاعتماد على الله، والثقة بوعده ونصره.
الثاني: الأخذ بالأسباب المشروعة؛ ولهذا قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ[60]}[سورة الأنفال].
4ـ المشاورة بين المسؤولين لتعبئة الجيوش الإسلامية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه مع كمال عقله، وسداد رأيه، قال سبحانه:{...وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ...[38]}[سورة الشورى].
5ـ الثبات عند لقاء العدو:عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ]رواه البخاري ومسلم.
6ـ الشجاعة والبطولة والتضحية:والاعتقاد بأن الجهاد لا يقدم الموت ولا يؤخره، قال الله تعالى:{ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ...[78]}[سورة النساء].
قال الشاعر:
من لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والموت واحد
ولهذا كان أهل الإيمان الكامل هم أشجع الناس، وأكملهم شجاعة هو إمامهم محمد عليه الصلاة والسلام، وقد ظهرت شجاعته في المعارك الكبرى التي قاتل فيها.(/6)
7ـ الدعاء وكثرة الذكر: قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[45]}[سورة الأنفال] . وكان صلى الله عليه وسلم يدعو الله في جميع معاركه، ومن ذلك:
مارواه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: [اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اللَّهُمَّ اهْزِمْ الْأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ].
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَزَا قَالَ: [اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ]رواه أبوداود والترمذي. وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:' حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[173]}[سورة آل عمران]'رواه البخاري. وهكذا ينبغي أن يكون المجاهدون في سبيل الله .
8 ـ طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: وهي من أقوى دعائم وعوامل النصر، ولهذا قال تعالى:{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[46]}[سورة الأنفال]. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ]رواه أحمد.
9 ـ الاجتماع وعدم النزاع: يجب على المجاهدين أن يحققوا عوامل النصر ولا سيما الاعتصام بالله، والتكاتف، وعدم النزاع والافتراق، قال تعالى:{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[46]}[سورة الأنفال]. وقال عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا...[103]}[سورة آل عمران].
10 ـ الصبر والمصابرة: قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[200]}[سورة آل عمران]. وجاء في الحديث: [...وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]رواه أحمد. وقال تعالى:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[146]وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[147]}[سورة آل عمران].
11ـ الإخلاص لله تعالى:لا يكون المقاتل مجاهدًا في سبيل الله إلا بالإخلاص، قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[69]}[سورة العنكبوت]. وعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: [مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] رواه البخاري ومسلم. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ...] رواه مسلم.
12ـ الرغبة فيما عند الله: مما يعين على النصر على الأعداء هو الطمع في فضل الله وسعادة الدنيا والآخرة؛ ولهذا نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، ومما يدل على الرغبة فيما عند الله تعالى ما يأتي:(/7)
أولاً: ما فعل عمير بن الحمام في بدر حينما قال عليه الصلاة والسلام: [قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ] فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ قَالَ : [نَعَمْ] قَالَ بَخٍ بَخٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ] قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ: [فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا] فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ قَالَ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.
ثانيًا: ما فعل أنس بن النضر – عمّ أنس بن مالك – يوم أحد، تأخر عن معركة بدر، فشق عليه ذلك وقال: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُيِّبْتُ عَنْهُ وَإِنْ أَرَانِيَ اللَّهُ مَشْهَدًا فِيمَا بَعْدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَرَانِي اللَّهُ مَا أَصْنَعُ قَالَ فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا قَالَ فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ فَاسْتَقْبَلَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ يَا أَبَا عَمْرٍو أَيْنَ فَقَالَ وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ قَالَ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ قَالَ فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ بَيْنِ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ قَالَ فَقَالَتْ أُخْتُهُ عَمَّتِيَ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{...رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[23]}[سورة الأحزاب] قَالَ فَكَانُوا يُرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ .رواه البخاري ومسلم-واللفظ له- .
.والمسلم المجاهد في سبيل الله تعالى إذا رغب فيما عند الله تعالى، فإنه لا يبالي بما أصابه رغبة في الفوز العظيم.
فلست أبالي حين أقتل مسلمًا ... على أي جنب كان في الله مصرعي
13ـ إسناد القيادة لأهل الإيمان.
14ـ التحصن بالدعائم المنجيات من المهالك، والهزائم، ونزول العذاب: ومن ذلك:
أولاً: التوبة والاستغفار من جميع المعاصي والذنوب كبيرها وصغيرها .
ثانيًا: تقوى الله تعالى.
ثالثًا: أداء الفرائض وإتباعها بالنوافل؛ لأن محبة الله لعبده تحصل بذلك، فإذا أحبه نصره، ووفقه، وسدده وأعانه. لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ] رواه البخاري.
رابعًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
خامسًا: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في جميع الاعتقادات، والأقوال والأفعال.
سادسًا: الدعاء والضراعة إلى الله .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
من كتاب:'الجهاد في سبيل الله : فضله، ومراتبه، وأسباب النصر على الأعداء'
للشيخ/ سعيد بن علي بن وهف القحطاني(/8)
الجهاد في سبيل الله تعالى
إن الجهاد في سبيل الله هو سبيل انتصار المؤمنين في تاريخهم، وما زال إلى اليوم هو الطريق لعزتهم وكرامتهم، وإن أعداء الإسلام اليوم من داخل الصفوف وخارجها يتخطفون الأمة من كل جانب، فلا سبيل إلى النجاة ولا مخرج إلا بالعودة إلى الله، ثم إعداد العدة للجهاد.
فهذا خالد نازل الكفار في أكثر من معركة فما هزم في واحدة منها لأن شعار قتاله (لا إله إلا الله).
أما نحن فقد قست قلوبنا بالشهوات، وأصابتنا العطالة والبطالة والتهور والكسل عن أفرض فرائض الإسلام وأكبر أركان الإسلام، وكذا عن ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله.
الجهاد في سبيل الله طريق للنصر والتمكين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عُمياً، وآذناً صُماً، وقلوباً غُلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله! في زمن الفتن والمحن، إن أردنا أن ندفع عنا غائلة أعدائنا فالشرط قائم .. شرط وحيد واضعه رب العالمين: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد:7]^ خطاب للأمة في مجموعها، لا بد أن يكون نصر الله في ثنايا حياتنا .. في سياستنا، واقتصادنا، وتعليمنا، وإعلامنا .. في معاهدنا، وجامعاتنا، وبيوتنا، ومساجدنا، ومنتدياتنا، وأسواقنا؛ ننصر الله بالاستجابة لأوامر الله .. ننصر الله بالاستجابة لداعي الجهاد على كافة الأصعدة .. جهاد النفس عن نوازع الهوى، وجهاد أعداء الله، وأصحاب الهوى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]^ .
الخفض والرفع بيد الله .. العز والذل بيد الله، والنصر والهزيمة بيد الله، وقد جعل الله لذلك طريقاً .. جعل الله للنصر طريقاً، وجعل الله للخلاص طريقاً، فما هو؟
إنه الجهاد في سبيل الله .. الجهاد طريق إلى الخلاص والحياة بعز.
لا إله إلا الله! كيف صوَّرَه المولى على هيئة مبايعة حقيقتها أن الله اشترى أنفس المؤمنين وأموالهم فلم يعد لهم منها شيء، والثمن هو الجنة، والطريق هو الجهاد، والنهاية هي النصر أو الاستشهاد .. بيعة معقودة بعنق كل مؤمن، وسنة جارية لا تستقيم الحياة بدونها، لا بد للحق أن يكافح، ولا بد لكلمة الله أن تعلو، ولا بد للمقدسات أن تُحفظ وتُصان، مادام في الأرض أعداء للحق وأنصار للشيطان، الجهاد بيعة معقودة بعنق كل مؤمن: {من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق }^ .
أمتي! في زمن الفتنة يجب أن يكون حديث الشباب، والشيوخ، والنساء، والأطفال، عن الجهاد، وعن العدة والاستعداد.
يا أمتي وجب الجهاد فدعي التشدق والصياحْ
ودعي التقاعس ليس ينصر من تقاعس واستراحْ
ما عاد يجدينا البكاء على الأقارب والنواحْ
لغة الكلام تعطلت إلا التكلم بالرماحْ
إنا نتوق لألسن بُكْمٍ على أيدٍ فصاحْ
......
واقع الأمة اليوم بين العزة والذلة
يا عباد الله! يا مسلمون! كثير من الناس اليوم يعيشون حياتهم ولا يعنيهم منها إلا طعام يشبِع، وشراب يروِي، ولباس يُتَزَيَّن به، ورفاهية ينعمون بها، تراهم يسعون في الأرض ويجدُّون، وماء وجوههم في سبيلها يريقون، لا يفكرون فيما وراء ذلك من عزة نفس، أو علو همة، فكأنهم لا يعقلون.
أولئك الصنف من الناس عن كرائم الغايات مُبْعدون، وفي سبل الشهوات يعمهون، إذا ما دعا الداعي للجهاد -ومواقف الجهاد تقتضي أن يتنازل الإنسان على رفاهيته، وأن يتخلى عن كثير من ضرورات حياته- إذا ما دعا الداعي هؤلاء نكص كل منهم على عقبيه، ورضي بأن يكون مع الخوالف، وحق عليه قول الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]^.
ولا إله إلا الله! ما أكثر هذا الصنف بين المسلمين! وهو سبب الذل، والمهانة، والهزيمة، والعار، والهوان.
لكنَّ هناك صنفاً آخر -وإن عزَّ وقلَّ- لا يرضى إلا بالحياة العزيزة الكريمة .. يرفض العيش في ظل الاستعباد .. يرفض انتقاص الكرامة.(/1)
هذا الصنف إذا ما أذن مؤذن الجهاد: يا خيل الله اركبي! جعل الدنيا بما فيها من زينة وبهجة خلف ظهره، وحمل السلاح، وضحى في سبيل الله بكل غالٍ ونفيس، إنه يُضحي بأسرته؛ وأسرة الإنسان أعز ما عنده، ويُضحي بأمواله؛ والمال عند الكثير شقيق الروح، ويُضحي بالمسكن؛ والمسكن على القلوب عزيز، كل ذلك في سبيل من فراغ؟
في سبيل الله جل وعلا.
يحمل الإيمان في قلبه كالجبال، قبل أن يحمل السلاح، أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.......
خالد بن الوليد.. مواقف وبطولات
أيها المسلمون: حيرتنا الأحداث المتلاحقة، ولا ندري عم نتكلم وبم نتكلم، وقد تكلمنا ثم تكلمنا، لكن حسبنا أن نقف قليلاً مع سيرة فارس الإسلام .. مع سيرة ليث المشاهد وسيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، ليكون لنا نموذجاً في المحن والحوادث، وقدوة في زمن الحيرة، وأسوة في زمن رخص دماء المسلمين، في زمن لم يعد فيه لدم المسلم ثمن، بل قيمته شهوة حاكم، أو جرة قلم .. قيمته حلم طاغية بالامبراطوريات .. قيمته رغبة في التسلط وتلذذ بمناظر دماء المسلمين وهي تراق، مأساةٌ أن تذهب الشعوب الإسلامية ضحية أطماع المغامرين.
ما أحرانا أن نرجع إلى سيرة خالد ، فنعم القدوة خالد ، فهو من اقتدى بقائدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
يأيها الشاب من هذه الأمة في هذا الزمن! بمثل خالد فتأسَّ، وبصحبه فاقتدِ، وعلى سيرته فاعكف؛ فإنها النور والسرور في حوالك الظلام وزمن الحيرة وانطفاء النور.
كن كالصحابة في زهد وفي ورع القوم هم ما لهم في الناس أشباهُ
عبَّاد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراهُ
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ
إنه خالد بن الوليد ، مَن أبوه؟
أبوه كافر، صنم من الأصنام، لكن الله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها.
أخرج الله من صلب الوليد المجرم الكافر خالداً الذي طبع على كل جسده بطابع الشهداء، ومات على فراشه، فلا نامت أعين الجبناء!
إنه أبو سليمان ، الذي نازل في أكثر من مائة معركة، فما هزم في واحدة منها، لأن شعار قتاله (لا إله إلا الله).
إنه شارب السم .. إنه المتوكل على الله، يُعرض عليه سم في قارورة كما ذكر ذلك الذهبي في سيره ، يقول له مشرك وثني: إن كنتم أيها المسلمون تزعمون أنكم تتوكلون على الله فيكرمكم، فاشرب هذا السم يا خالد ولا تمت .. أو كما قال، فقال خالد بلسان الواثق من ربه: باسم الله توكلت على الله، ثم شرب القارورة كلها، فلم يصبه إلا العافية، وما زاده ذلك إلا عزة وكرامة.
من هو خالد ؟
إنه من احتبس كل شيء في حياته لله .. دروعه وعتاده وماله في سبيل الله.
فيا من جعل الدنيا أكبر همه، قد جعلها خالد تحت قدميه، فرفع الله ذكره في العالمين.......
ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على خالد ...
يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: {أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقبض زكاة الناس وصدقاتهم، فقبضتها حتى انتهيت إلى خالد ، فمنعني الزكاة، وأتيت العباس فمنعني الزكاة، وأتيت ابن جميل فمنعني الزكاة، قال: فعدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله دفع الناس كلهم زكواتهم إلا عمك العباس ، وخالد بن الوليد ، وابن جميل ، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: أما عمي العباس فهي عليّ ومثلها لسنتين، ألا تدري يا عمر أن عم الرجل صنو أبيه؟! -أي: مثل أبيه، فأنا أدفعها عنه لأنني ابنه وهو في مثابة أبي- وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً ، لقد احتبس أدرعه وعتاده وماله في سبيل الله }^ فكيف يزكي مالاً احتبسه كله في سبيل الله؟!
كيف يزكي دروعاً وسلاحاً وسيوفاً قد جعلها وقفاً في سبيل الله؟!
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال مَن هو باذلُهْ
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائلُهْ
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {وأما ابن جميل فما ينقم على الله إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله جلَّ وعلا }^ .
ها هو خالد ذلك المظلوم الذي ظلمه التاريخ والمؤرخون، سكتوا عن خالد وذكروا نابليون ، وهتلر ، ولينين ، واستالين ، أعداء الإنسانية، وقتلة البشرية، الذين دمروا المدن، وقتلوا الآمنين، وسفكوا دماء النساء والأطفال والرجال والمسلمين.
سكتوا عن خالد وظلموه وهضموا حقه لكن لن يظلمه رب العالمين .. سيوفيه حسابه، ويحفظ أجره ومثوبته: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
يقول خالد أتيت المدينة لأسْلِم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخلت حيياً خجلاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآني قام وحياني، وهش وبش في وجهي وعانقني. عانقه صلى الله عليه وسلم معانقة الأبطال، وحياه محيا الشجعان، لأنه سوف يكون سيفاً في يده صلى الله عليه وسلم.(/2)
ومن تلك اللحظة أعطاه صلى الله عليه وسلم حقه في الإسلام .. احترمه وقدره، وأنزله منزلته؛ لأن الله أخرجه حياً من ظهر ميت كافر عنيد.يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: {أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقبض زكاة الناس وصدقاتهم، فقبضتها حتى انتهيت إلى خالد ، فمنعني الزكاة، وأتيت العباس فمنعني الزكاة، وأتيت ابن جميل فمنعني الزكاة، قال: فعدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله دفع الناس كلهم زكواتهم إلا عمك العباس ، وخالد بن الوليد ، وابن جميل ، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: أما عمي العباس فهي عليّ ومثلها لسنتين، ألا تدري يا عمر أن عم الرجل صنو أبيه؟! -أي: مثل أبيه، فأنا أدفعها عنه لأنني ابنه وهو في مثابة أبي- وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً ، لقد احتبس أدرعه وعتاده وماله في سبيل الله }^ فكيف يزكي مالاً احتبسه كله في سبيل الله؟!
كيف يزكي دروعاً وسلاحاً وسيوفاً قد جعلها وقفاً في سبيل الله؟!
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال مَن هو باذلُهْ
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائلُهْ
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {وأما ابن جميل فما ينقم على الله إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله جلَّ وعلا }^ .
ها هو خالد ذلك المظلوم الذي ظلمه التاريخ والمؤرخون، سكتوا عن خالد وذكروا نابليون ، وهتلر ، ولينين ، واستالين ، أعداء الإنسانية، وقتلة البشرية، الذين دمروا المدن، وقتلوا الآمنين، وسفكوا دماء النساء والأطفال والرجال والمسلمين.
سكتوا عن خالد وظلموه وهضموا حقه لكن لن يظلمه رب العالمين .. سيوفيه حسابه، ويحفظ أجره ومثوبته: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
يقول خالد أتيت المدينة لأسْلِم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخلت حيياً خجلاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآني قام وحياني، وهش وبش في وجهي وعانقني. عانقه صلى الله عليه وسلم معانقة الأبطال، وحياه محيا الشجعان، لأنه سوف يكون سيفاً في يده صلى الله عليه وسلم.
ومن تلك اللحظة أعطاه صلى الله عليه وسلم حقه في الإسلام .. احترمه وقدره، وأنزله منزلته؛ لأن الله أخرجه حياً من ظهر ميت كافر عنيد.
بطولات خالد يوم معركة مؤتة ...
وتأتي معركة مؤتة بين المسلمين والكفار، قريباً من معان في أرض الأردن ، ويحضرها خالد مع جنود الله .. مع الذين يشهدون أن لا إله إلا الله بحق، كانوا ثلاثة آلاف من المسلمين، والروم ما يقارب مائتي ألف .. مائتا ألف كافر يقابلون ثلاثة آلاف، قُتِل قواد رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة؛ زيد ، وجعفر ، وابن رواحة ، فنادى المسلمون بعضُهم بعضاً: أين أبو سليمان ليأخذ الراية؟ فأخذ الراية بيساره، ونزل في أرض المعركة نزول الأبطال، وقال للمسلمين: احموا ظهري وناولوني السيوف؛ ناولوه السيف الأول -كما يقول ابن جرير - فأخذ يضرب به من صباح النهار في صدور أعداء الله وفي نحور الفجرة المعارضين لدين الله حتى تكسر .. ناولوه السيف الثاني، والثالث، والرابع، حتى كسر تسعة أسياف في يديه وهو يضرب أعداء الله، وقتل عدداً كثيراً من الكفار، وما ثبت في يده إلا صفيحة يمانية، كان يضرب بها في صدور الأعداء، وانتهت المعركة بالنصر لعباد الله الموحدين، استقبله صلى الله عليه وسلم وحياه وعانقه، ودعا له بالأجر والمثوبة.وتأتي معركة مؤتة بين المسلمين والكفار، قريباً من معان في أرض الأردن ، ويحضرها خالد مع جنود الله .. مع الذين يشهدون أن لا إله إلا الله بحق، كانوا ثلاثة آلاف من المسلمين، والروم ما يقارب مائتي ألف .. مائتا ألف كافر يقابلون ثلاثة آلاف، قُتِل قواد رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة؛ زيد ، وجعفر ، وابن رواحة ، فنادى المسلمون بعضُهم بعضاً: أين أبو سليمان ليأخذ الراية؟ فأخذ الراية بيساره، ونزل في أرض المعركة نزول الأبطال، وقال للمسلمين: احموا ظهري وناولوني السيوف؛ ناولوه السيف الأول -كما يقول ابن جرير - فأخذ يضرب به من صباح النهار في صدور أعداء الله وفي نحور الفجرة المعارضين لدين الله حتى تكسر .. ناولوه السيف الثاني، والثالث، والرابع، حتى كسر تسعة أسياف في يديه وهو يضرب أعداء الله، وقتل عدداً كثيراً من الكفار، وما ثبت في يده إلا صفيحة يمانية، كان يضرب بها في صدور الأعداء، وانتهت المعركة بالنصر لعباد الله الموحدين، استقبله صلى الله عليه وسلم وحياه وعانقه، ودعا له بالأجر والمثوبة.
موقف خالد يوم فتح مكة ...(/3)
ويأتي فتح مكة ، يوم فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة ، يوم قال الله: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:1-2] دخل صلى الله عليه وسلم ومعه عشرة آلاف مقاتل من الصحابة، وقد أخضع الله له الشرك والمشركين .. تساقطت الأصنام بين يديه، ماذا فعل؟ هل تكبر كما يتكبر المتكبرون؟ هل تجبر كما يتجبر المجرمون يوم يروعون الآمنين، وينتهكون أعراض المسلمين، ويدَّعون أنهم مجاهدون، ويصفق لهم المتآمرون المدعون الإسلام وما أظنهم بمسلمين؟ لم يتكبر بل نكَّس رأسه، ودمعت عيناه صلى الله عليه وسلم حتى أن لحيته تمس رحل ناقته، أما خالد فكان من أبطال هذا الجيش، كان من جهة شرقي مكة ، من الخندمة يقود الكتائب المسلمة -كتائب تموج كموج البحر- فتلقاه عكرمة بن أبي جهل قبل إسلامه بجيش كافر يريد أن يصد هجوم خالد ، فتظاهر خالد بالهزيمة وتراجع إلى الصحراء، فظن الكفار أنه انهزم، وما كان له أن ينهزم والله معه، فلما خرجوا إلى الصحراء، عاد بجيشه يُعْمِل سيفه فيهم حتى أدخلهم بيوتهم، ودخل أحد الكفار بيته وأغلق عليه بابه، وكان معه سيف يشحذه بالسم شهراً، يقول: أقتل به محمداً -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- فلما فر من خالد قالت له امرأته تعيره: أين سيفك؟ ما أغنى عنك شيئاً -تشحذه بالسم شهراً فما أغنى عنك- قال لها مرتجزاً:
إنكِ لو شهدتِ يوم الخندمةْ
إذ فر صفوان وفر عكرمة
والمسلمون خلفنا في غمغمةْ
يلاحقونا بالسيوف المسلمة
لم تنطقي باللوم أدنى كلمةْ
ودخل خالد وشكر الله سعي خالد الذي لم يهزم في معركة.ويأتي فتح مكة ، يوم فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة ، يوم قال الله: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:1-2] دخل صلى الله عليه وسلم ومعه عشرة آلاف مقاتل من الصحابة، وقد أخضع الله له الشرك والمشركين .. تساقطت الأصنام بين يديه، ماذا فعل؟ هل تكبر كما يتكبر المتكبرون؟ هل تجبر كما يتجبر المجرمون يوم يروعون الآمنين، وينتهكون أعراض المسلمين، ويدَّعون أنهم مجاهدون، ويصفق لهم المتآمرون المدعون الإسلام وما أظنهم بمسلمين؟ لم يتكبر بل نكَّس رأسه، ودمعت عيناه صلى الله عليه وسلم حتى أن لحيته تمس رحل ناقته، أما خالد فكان من أبطال هذا الجيش، كان من جهة شرقي مكة ، من الخندمة يقود الكتائب المسلمة -كتائب تموج كموج البحر- فتلقاه عكرمة بن أبي جهل قبل إسلامه بجيش كافر يريد أن يصد هجوم خالد ، فتظاهر خالد بالهزيمة وتراجع إلى الصحراء، فظن الكفار أنه انهزم، وما كان له أن ينهزم والله معه، فلما خرجوا إلى الصحراء، عاد بجيشه يُعْمِل سيفه فيهم حتى أدخلهم بيوتهم، ودخل أحد الكفار بيته وأغلق عليه بابه، وكان معه سيف يشحذه بالسم شهراً، يقول: أقتل به محمداً -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- فلما فر من خالد قالت له امرأته تعيره: أين سيفك؟ ما أغنى عنك شيئاً -تشحذه بالسم شهراً فما أغنى عنك- قال لها مرتجزاً:
إنكِ لو شهدتِ يوم الخندمةْ
إذ فر صفوان وفر عكرمة
والمسلمون خلفنا في غمغمةْ
يلاحقونا بالسيوف المسلمة
لم تنطقي باللوم أدنى كلمةْ
ودخل خالد وشكر الله سعي خالد الذي لم يهزم في معركة.
بطولات خالد في قتال المرتدين ...
ثم تُفْجَع الأمة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولى أبو بكر الصديق ، فيعرف أن خالداً سيفٌ سلَّه اللهُ على المشركين ما كان له أن يُغمده، فأخرج الله وساوس الشيطان من رءوس المرتدين على يدِ خالد ، وأوَّلُهم مسيلمة الكذاب ، خرج في اليمامة يدَّعي النبوة، يدعي أن الله أرسله وأنه يوحِي إليه، نعم. كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112]^.
لما سمع أبو بكر أن مسيلمة ادعى النبوة في اليمامة وقف على المنبر، وأخذ راية لا إله إلا الله، وقال: آدَّعَى مسيلمة النبوة؟! والله لأزلين وساوس الشيطان من رأسه بأبي سليمان خالد بن الوليد ، قم يا خالد خذ الراية وقاتله حتى تقطع دابره من الأرض.
وخرج في جيش من أهل بدر ، وغيرهم من الصحابة، فلما تلاقى الجمعان، كان جيش بني حنيفة كثيفاً جداً، كالجبال يمور موراً، فلما رآهم الصحابة قال بعضهم: فلنلتجئ إلى سلمى وأجا -جبلين في حائل - فدمعت عينا خالد ، وقال: إنما ننتصر عليهم بهذا الدين: [[ لا إلى سلمى وإلى أجا ، ولكن إلى الله الملتجا ]].
لا إله إلا الله! ما أعظم اليقين! ثم تكفن، ولبس جيشه أكفانه، ولسان حالهم يقول: فإما حياة بعز وإلا ممات وشهادةْ.
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لصاغها حلياً وحاز الكنز والدينارا(/4)
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
لما رأى بنو حنيفة خالداً أصابهم الهلع والرعب في قلوبهم، وأنزل الله الهزيمة بهم: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45]^، وقتل الله مسيلمة الكذاب ، وانتهت هذه الأسطورة؛ لأن من كان مع الله كان الله معه، ومن قاتل بالله كان النصر في حوزته: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]^.ثم تُفْجَع الأمة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولى أبو بكر الصديق ، فيعرف أن خالداً سيفٌ سلَّه اللهُ على المشركين ما كان له أن يُغمده، فأخرج الله وساوس الشيطان من رءوس المرتدين على يدِ خالد ، وأوَّلُهم مسيلمة الكذاب ، خرج في اليمامة يدَّعي النبوة، يدعي أن الله أرسله وأنه يوحِي إليه، نعم. كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112]^.
لما سمع أبو بكر أن مسيلمة ادعى النبوة في اليمامة وقف على المنبر، وأخذ راية لا إله إلا الله، وقال: آدَّعَى مسيلمة النبوة؟! والله لأزلين وساوس الشيطان من رأسه بأبي سليمان خالد بن الوليد ، قم يا خالد خذ الراية وقاتله حتى تقطع دابره من الأرض.
وخرج في جيش من أهل بدر ، وغيرهم من الصحابة، فلما تلاقى الجمعان، كان جيش بني حنيفة كثيفاً جداً، كالجبال يمور موراً، فلما رآهم الصحابة قال بعضهم: فلنلتجئ إلى سلمى وأجا -جبلين في حائل - فدمعت عينا خالد ، وقال: إنما ننتصر عليهم بهذا الدين: [[ لا إلى سلمى وإلى أجا ، ولكن إلى الله الملتجا ]].
لا إله إلا الله! ما أعظم اليقين! ثم تكفن، ولبس جيشه أكفانه، ولسان حالهم يقول: فإما حياة بعز وإلا ممات وشهادةْ.
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لصاغها حلياً وحاز الكنز والدينارا
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
لما رأى بنو حنيفة خالداً أصابهم الهلع والرعب في قلوبهم، وأنزل الله الهزيمة بهم: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45]^، وقتل الله مسيلمة الكذاب ، وانتهت هذه الأسطورة؛ لأن من كان مع الله كان الله معه، ومن قاتل بالله كان النصر في حوزته: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]^.
خالد يوم اليرموك ...
وتستمر الأيام، وخالد من نصر إلى نصر، ومن معركة إلى معركة، ويصل إلى اليرموك ، ويقف في جنود الله، في ثلاثين ألفاً يقاتلون مائتين وأربعين ألفاً، قال بعض المسلمين: [[يا خالد ! ما أكثر الروم! قال له: اسكت، بل ما أقل الروم! إنما يكثر القوم بنصر الله، وددتُ أنهم قد أضعفوا لنا العدد وأن الأشقر قد برئ من وجعه ]]^.
الله أكبر! شفاء عقب فرس خالد بربع مليون جندي.
لبس أكفانه، وقال: موعود الله أتى، وخرج وصفَّ جيشه، فخرج له قائد من قادات الروم يقال له جرجة عليه السلاح والرماح، فلما خرج على فرسه لقيه خالد فقال جرجة : يا خالد ! اصدقني في هذا اليوم ولا تكذبني، لماذا خرجتم؟ قال: خرجنا لندعو الناس إلى (لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، قال له جرجة : فمن أطاعكم؟ قال: من كان منا وكان أفضل منا، قال: كيف يكون أفضل منكم؟! قال: لأننا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وآياته فصدقناه، ومن آمن الآن لم يره، فيؤمن بالغيب، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فأخذه خالد إلى خيمته، وأنزله فيها، وقال: اغتسل وتوضأ وصلِّ ركعتين، واخرج معنا، علَّ الله أن يرزقك الشهادة، فتوضأ بعد أن اغتسل وصلى ركعتين وخرج، فقاتل حتى استشهد، فقال خالد : رحمك الله! عَمِلت قليلاً وأجرت كثيراً.
ولما رأى الروم هذا الموقف ذُهلوا! وأخرجوا له ابن قوقل وهو فاجر من الفجار، فلما رآه خالد أراد أن يدعوه كما دعا جرجة إلى الإسلام فعرض عليه الإسلام ولكن الله طبع على قلبه، ولو علم الله فيه خيراً لأسمعه، فلما علم أن لا حل معه، قال ابن قوقل : يا خالد لماذا جئتم؟(/5)
قال: نحن قوم نشرب الدم، وسمعنا أن أحسن الدماء وألذها دماء الروم، فجئنا اليوم نشرب دماءكم، فأوقع الله الرعب في قلوبهم، وبدأت المعركة، وتنتهي بالنصر، وجاءوا بالشهداء، وجلس خالد يستقبل الشهداء، يُحملون على أكتاف الرجال، وجاء صديقه عكرمة ، فوضع وهو مقتول بين يديه في آخر رمق، وفي آخر سكرة، وهو ينظر إلى خالد .. دموعه تسيل على خديه، ودموع خالد تسيل على خديه، ويؤتى بثلاثة من الشهداء في آخر رمق من الحياة، فيصيح خالد عليَّ بالماء؛ ليشربوا فقُدِّم لهم ماء بارد في شدة حرارة الصيف، وقد انتهوا من المعركة، فأعطى خالد الماء لعكرمة ، فرفض أن يشرب وأشار إلى أخيه أن يشرب قبله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]^ أعطى خالد زميل عكرمة الماء، فأشار إلى زميله، وأشار الزميل إلى زميله، فعاد الماء إلى عكرمة ، فإذا هو قد مات، وعاد إلى الثاني، فالثالث، فالرابع، فإذا هم قد ماتوا، فجهش خالد بالبكاء، ورمى بالكوب مليئاً بالماء البارد، وقال: [[ يا رب! اسقهم من جنتك فإنهم تركوا الماء البارد لمرضاتك ]].
وأثناء معركة اليرموك مات أبو بكر رضي الله عنه، وتولى الخلافة بعده عمر رضي الله عنه، فكان أول مرسوم اتخذه عمر في خلافته الجديدة أن يعزل خالد بن الوليد ويولي أبا عبيدة ، ويأتي الأمر أبا عبيدة ، فيُخفي كتاب عمر ، ولا يخبر خالداً ، ولما انتهت المعركة، قام أبو عبيدة وأخبر خالداً ، فقال خالد : [[ولِمَ لا تخبرني؟ والله ما قاتلتُ بالأمس لعمر ، ولن أقاتل اليوم لعمر ، ولكني أقاتل لله رب العالمين ]]^ يقاتل لله وهو قائد، ويقاتل لله بعد أن يعزل وهو جندي، لأن من أراد بعمله وجه الله آجره الله، ورفع الله مثوبته، لا يهمه منصب ولا قيادة، ومن أراد بعمله الدنيا، فما له عند الله من خلاق.
ليت أبا سليمان وأمثال أبي سليمان يعلمون أننا اليوم قست قلوبنا بالشهوات .. أصابتنا العطالة، والبطالة، والتهور، والكسل عن أفرض فرائض الإسلام، وعن أكبر أركان الإسلام، وعن ذروة سنام الإسلام، نسكن الفلل، ونجلس على الفرش الوثيرة، ونركب السيارات .. أقوياء في الدنيا .. شجعان للدرهم والريال .. أذكياء في أعمالنا ووظائفنا، وفيما يجلب لنا العيش في هذا الدنيا؛ لكننا مع الله لم نقم بواجبنا، وصحابة رسول الله في جوع وشدة وعطش ولكنهم في جهاد، يقومون الليل ويصومون النهار، ويتلون كتاب الله، ويجاهدون في سبيل الله.
يا رب فابعث لنا مِن مثلِهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
يا أمة الإسلام هبوا واعملوا فالوقت راحْ
<< الكفر جمع شمله فلم النزاع والانبطاحْ
<< يا ألف مليون وأين هُمُ إذا دعت الجراح
إنهم أسود على بعضهم، نعاج مع أعدائهم.
يا أحفاد خالد ! يا أبناء الكرام! يا أبناء من أنار بالإسلام المعمورة! يا أحفاد من بنى منائر الحق! مَن غير أجدادكم رفع (لا إله إلا الله)؟ مَن غير أجدادكم سجد لله؟ سلوا المحيطات والبراري والقفار والبحار عن أجدادكم:
سلوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحْمَدِيَّا
أنتم كَهُمْ، ومَن يشابه أبَهُ فما ظلم.
فلنعد عودة صادقة لهذا الدين، ولنتحمس لهذا الدين .. كيف لا يكون ذلك وآباؤنا هم الذين رفعوا راية الله، لكن قَدْ يَخْلُفُ النارَ رمادٌ، فنعوذ بالله أن نكون الرماد، ونعوذ بالله من شر خلف بعد خير سلف، ونعوذ بالله أن نضل أو نزل أو نظن أن غيرنا سبقونا إلى المجد والكرامة.
اللهم أصلح لنا ديننا ودنيانا وآخرتنا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.وتستمر الأيام، وخالد من نصر إلى نصر، ومن معركة إلى معركة، ويصل إلى اليرموك ، ويقف في جنود الله، في ثلاثين ألفاً يقاتلون مائتين وأربعين ألفاً، قال بعض المسلمين: [[يا خالد ! ما أكثر الروم! قال له: اسكت، بل ما أقل الروم! إنما يكثر القوم بنصر الله، وددتُ أنهم قد أضعفوا لنا العدد وأن الأشقر قد برئ من وجعه ]]^.
الله أكبر! شفاء عقب فرس خالد بربع مليون جندي.
لبس أكفانه، وقال: موعود الله أتى، وخرج وصفَّ جيشه، فخرج له قائد من قادات الروم يقال له جرجة عليه السلاح والرماح، فلما خرج على فرسه لقيه خالد فقال جرجة : يا خالد ! اصدقني في هذا اليوم ولا تكذبني، لماذا خرجتم؟ قال: خرجنا لندعو الناس إلى (لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، قال له جرجة : فمن أطاعكم؟ قال: من كان منا وكان أفضل منا، قال: كيف يكون أفضل منكم؟! قال: لأننا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وآياته فصدقناه، ومن آمن الآن لم يره، فيؤمن بالغيب، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فأخذه خالد إلى خيمته، وأنزله فيها، وقال: اغتسل وتوضأ وصلِّ ركعتين، واخرج معنا، علَّ الله أن يرزقك الشهادة، فتوضأ بعد أن اغتسل وصلى ركعتين وخرج، فقاتل حتى استشهد، فقال خالد : رحمك الله! عَمِلت قليلاً وأجرت كثيراً.(/6)
ولما رأى الروم هذا الموقف ذُهلوا! وأخرجوا له ابن قوقل وهو فاجر من الفجار، فلما رآه خالد أراد أن يدعوه كما دعا جرجة إلى الإسلام فعرض عليه الإسلام ولكن الله طبع على قلبه، ولو علم الله فيه خيراً لأسمعه، فلما علم أن لا حل معه، قال ابن قوقل : يا خالد لماذا جئتم؟
قال: نحن قوم نشرب الدم، وسمعنا أن أحسن الدماء وألذها دماء الروم، فجئنا اليوم نشرب دماءكم، فأوقع الله الرعب في قلوبهم، وبدأت المعركة، وتنتهي بالنصر، وجاءوا بالشهداء، وجلس خالد يستقبل الشهداء، يُحملون على أكتاف الرجال، وجاء صديقه عكرمة ، فوضع وهو مقتول بين يديه في آخر رمق، وفي آخر سكرة، وهو ينظر إلى خالد .. دموعه تسيل على خديه، ودموع خالد تسيل على خديه، ويؤتى بثلاثة من الشهداء في آخر رمق من الحياة، فيصيح خالد عليَّ بالماء؛ ليشربوا فقُدِّم لهم ماء بارد في شدة حرارة الصيف، وقد انتهوا من المعركة، فأعطى خالد الماء لعكرمة ، فرفض أن يشرب وأشار إلى أخيه أن يشرب قبله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]^ أعطى خالد زميل عكرمة الماء، فأشار إلى زميله، وأشار الزميل إلى زميله، فعاد الماء إلى عكرمة ، فإذا هو قد مات، وعاد إلى الثاني، فالثالث، فالرابع، فإذا هم قد ماتوا، فجهش خالد بالبكاء، ورمى بالكوب مليئاً بالماء البارد، وقال: [[ يا رب! اسقهم من جنتك فإنهم تركوا الماء البارد لمرضاتك ]].
وأثناء معركة اليرموك مات أبو بكر رضي الله عنه، وتولى الخلافة بعده عمر رضي الله عنه، فكان أول مرسوم اتخذه عمر في خلافته الجديدة أن يعزل خالد بن الوليد ويولي أبا عبيدة ، ويأتي الأمر أبا عبيدة ، فيُخفي كتاب عمر ، ولا يخبر خالداً ، ولما انتهت المعركة، قام أبو عبيدة وأخبر خالداً ، فقال خالد : [[ولِمَ لا تخبرني؟ والله ما قاتلتُ بالأمس لعمر ، ولن أقاتل اليوم لعمر ، ولكني أقاتل لله رب العالمين ]]^ يقاتل لله وهو قائد، ويقاتل لله بعد أن يعزل وهو جندي، لأن من أراد بعمله وجه الله آجره الله، ورفع الله مثوبته، لا يهمه منصب ولا قيادة، ومن أراد بعمله الدنيا، فما له عند الله من خلاق.
ليت أبا سليمان وأمثال أبي سليمان يعلمون أننا اليوم قست قلوبنا بالشهوات .. أصابتنا العطالة، والبطالة، والتهور، والكسل عن أفرض فرائض الإسلام، وعن أكبر أركان الإسلام، وعن ذروة سنام الإسلام، نسكن الفلل، ونجلس على الفرش الوثيرة، ونركب السيارات .. أقوياء في الدنيا .. شجعان للدرهم والريال .. أذكياء في أعمالنا ووظائفنا، وفيما يجلب لنا العيش في هذا الدنيا؛ لكننا مع الله لم نقم بواجبنا، وصحابة رسول الله في جوع وشدة وعطش ولكنهم في جهاد، يقومون الليل ويصومون النهار، ويتلون كتاب الله، ويجاهدون في سبيل الله.
يا رب فابعث لنا مِن مثلِهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
يا أمة الإسلام هبوا واعملوا فالوقت راحْ
<< الكفر جمع شمله فلم النزاع والانبطاحْ
<< يا ألف مليون وأين هُمُ إذا دعت الجراح
إنهم أسود على بعضهم، نعاج مع أعدائهم.
يا أحفاد خالد ! يا أبناء الكرام! يا أبناء من أنار بالإسلام المعمورة! يا أحفاد من بنى منائر الحق! مَن غير أجدادكم رفع (لا إله إلا الله)؟ مَن غير أجدادكم سجد لله؟ سلوا المحيطات والبراري والقفار والبحار عن أجدادكم:
سلوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحْمَدِيَّا
أنتم كَهُمْ، ومَن يشابه أبَهُ فما ظلم.
فلنعد عودة صادقة لهذا الدين، ولنتحمس لهذا الدين .. كيف لا يكون ذلك وآباؤنا هم الذين رفعوا راية الله، لكن قَدْ يَخْلُفُ النارَ رمادٌ، فنعوذ بالله أن نكون الرماد، ونعوذ بالله من شر خلف بعد خير سلف، ونعوذ بالله أن نضل أو نزل أو نظن أن غيرنا سبقونا إلى المجد والكرامة.
اللهم أصلح لنا ديننا ودنيانا وآخرتنا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
خالد بن الوليد بعد معركة اليرموك
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: يجاهد خالد لإعلاء كلمة الله، حتى استقرت في غالب أصقاع المعمورة، ويأتي خالد رضي الله عنه بعد أن تنتهي المعارك، بعد أن يسمع (الله أكبر) تدوي في غالب أنحاء المعمورة، يأخذ رضي الله عنه فرسه، ويأتي إلى حمص في أرض الشام ، ليعود إلى أهله بعد رحلة الجهاد الطويل، يقبل الناس بعدها على الغنائم وعلى رفع الدور والقصور، ويقبل خالد على آيات الله وكلام الله وذكره .. كان إذا صلى الفجر أخذ مصحفاً فينشره بين يديه ويقرأ حتى يقترب وقت الظهر.
يقول أهل العلم: كان إذا قرأ يبكي، ويقول: شغلني الجهاد عن القرآن يتحسر على حياته، ووالله ما ضاعت، إنها لحياة محفوظة عند الله، ما شغله عن القرآن إلا الجهاد؟!(/7)
فماذا نقول نحن ونحن في زمن الفتن؟! هل شغلنا الجهاد عن القرآن لنعتذر به عند الله يوم القيامة؟! لا والله، بل شغلتنا شهواتنا، ومعاصينا، ولهونا، ولعبنا .. شغلنا طلب الأماني والسهر على الأغاني، ما شغلنا الجهاد ولا شغلنا القرآن!
أوَّاهُ! في الليلة البهيمة في منتصفها، ما تسمع إلا أصوات الأغاني تفوح -والله- من بيوت المسلمين، لتفري كبد المسلم الغيور.
أوَّاهُ.. أوَّاهُ.. الأولى بنا في هذا الوقت أن نعكف على كلام الله .. نقرؤه ونتدبره.
يا أمة القرآن! اعمروا لياليكم بالقرآن .. اعمروا لياليكم بذكر الله .. اعمروا لياليكم بالقيام .. اتركوا أصوات الشياطين، فالذي لا يحتسب عمره من اليوم، والذي لا يفكر في ثوانيه ودقائقه من الآن فليبكِ على عمره، والله لَيُسْلَبَنَّ عمرُه من بين يديه وهو ينظر، والله لَيَهْلِكَنَّ مالُه وولدُه، فلا يغني ولا يدفع، والله ليُسْأَلَنَّ عن كل شيء يوم القيامة على مرأىً ومسمع.
هاهو خالد ! يقف ليُنْهي حياته بالقرآن، أما ليله فقيام وبكاء، وأما نهاره فتدبر لآيات الله، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وفي مثله فليتنافس المتنافسون.......
خالد أثناء مرض الموت ...
طلب خالد الشهادة في مائة معركة فما وجدها، لكنه وجدها على فراشه: {من تمنى الشهادة صادقاً من قلبه رُزِقَها وإن مات على فراشه }^.
قال عند موته : [[لقد حضرتُ كذا وكذا معركة، وما في جسمي موطن شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء ]]^ وتفيض روحه إلى الله: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30]^.
ويأتي الصحابة يحملون جنازته -يحملون جثمانه على أكتافهم إلى القبر الذي سوف نعرفه إن جهلناه اليوم، وسوف ننزله إن هجرناه اليوم، وسوف نبصره ونراه إن تعامينا عنه اليوم- يحملونه وهم يبكون، تقول أخته وهي تبكي: إنا لله وإنا إليه راجعون!
أنت خير من ألفِ ألفٍ من القو مِ إذا ما كُبَّت وجوهُ الرجالِ
ومُهِين النفس العزيزة للذكْـ ـرِ إذا ما التقت صدورَ العوالي
طلب خالد الشهادة في مائة معركة فما وجدها، لكنه وجدها على فراشه: {من تمنى الشهادة صادقاً من قلبه رُزِقَها وإن مات على فراشه }^.
قال عند موته : [[لقد حضرتُ كذا وكذا معركة، وما في جسمي موطن شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء ]]^ وتفيض روحه إلى الله: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30]^.
ويأتي الصحابة يحملون جنازته -يحملون جثمانه على أكتافهم إلى القبر الذي سوف نعرفه إن جهلناه اليوم، وسوف ننزله إن هجرناه اليوم، وسوف نبصره ونراه إن تعامينا عنه اليوم- يحملونه وهم يبكون، تقول أخته وهي تبكي: إنا لله وإنا إليه راجعون!
أنت خير من ألفِ ألفٍ من القو مِ إذا ما كُبَّت وجوهُ الرجالِ
ومُهِين النفس العزيزة للذكْـ ـرِ إذا ما التقت صدورَ العوالي
حال عمر عند سماعه خبر موت خالد
ويأتي الخبر عمر رضي الله عنه وأرضاه بالمدينة ، وهو الذي يعرف قيمة خالد ، فيظل واقفاً يرتعش ويرتعد، ويقول: [[إنا لله وإنا إليه راجعون! والله يا أبا سليمان ، لقد عشتَ سعيداً، ومتَّ حميداً، وما عند الله خيرٌ، ثم يبكي رضي الله عنه ويقول: مضوا وخلفوني وحدي، مضوا وخلفوني وحدي ]].
فترتج المدينة بالبكاء والنحيب لبكاء عمر ومصابهم بخالد .
ويأتي رجل إلى عمر ، ويقول: يا أمير المؤمنين! إن نساءنا يبكين، ويندبن خالداً ، قال: [[ ثكلتك أمك! على مثل أبي سليمان فلتبكِ البواكي ]] لكن لا صراخ ولا قلقلة.
إي والله! على مثل أبي سليمان فلتبكِ البواكي.
وتأتي وصية خالد لعمر : [[إنك أنت المتصرف في تركتي والقائم على أبنائي ]] فرضي الله عنهم أجمعين.
نَمْ يا أبا سليمان حتى يبعث الله الناس ليوم لا ريب فيه؛ ليوفيك أجرك ومثوبتك وخدمتك لهذا الدين؛ لأنك بذلت كل غال ورخيص، وذهبت عن الفتنة وبقينا لها، جمعنا الله بخالد في عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.(/8)
عباد الله! بمثل خالد وصحبه وبِفَهْمهم الواعي لمعنى الجهاد انطلق المسلمون في شرق الأرض وغربها، ينشرون كلمة التوحيد، ويرفعون راية الله، ليقف قائد من قادتهم أمام رستم -قائد الفرس- ويقول في عزة المؤمن: [[إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ]].ويأتي الخبر عمر رضي الله عنه وأرضاه بالمدينة ، وهو الذي يعرف قيمة خالد ، فيظل واقفاً يرتعش ويرتعد، ويقول: [[إنا لله وإنا إليه راجعون! والله يا أبا سليمان ، لقد عشتَ سعيداً، ومتَّ حميداً، وما عند الله خيرٌ، ثم يبكي رضي الله عنه ويقول: مضوا وخلفوني وحدي، مضوا وخلفوني وحدي ]].
فترتج المدينة بالبكاء والنحيب لبكاء عمر ومصابهم بخالد .
ويأتي رجل إلى عمر ، ويقول: يا أمير المؤمنين! إن نساءنا يبكين، ويندبن خالداً ، قال: [[ ثكلتك أمك! على مثل أبي سليمان فلتبكِ البواكي ]] لكن لا صراخ ولا قلقلة.
إي والله! على مثل أبي سليمان فلتبكِ البواكي.
وتأتي وصية خالد لعمر : [[إنك أنت المتصرف في تركتي والقائم على أبنائي ]] فرضي الله عنهم أجمعين.
نَمْ يا أبا سليمان حتى يبعث الله الناس ليوم لا ريب فيه؛ ليوفيك أجرك ومثوبتك وخدمتك لهذا الدين؛ لأنك بذلت كل غال ورخيص، وذهبت عن الفتنة وبقينا لها، جمعنا الله بخالد في عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
عباد الله! بمثل خالد وصحبه وبِفَهْمهم الواعي لمعنى الجهاد انطلق المسلمون في شرق الأرض وغربها، ينشرون كلمة التوحيد، ويرفعون راية الله، ليقف قائد من قادتهم أمام رستم -قائد الفرس- ويقول في عزة المؤمن: [[إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ]].
الجهاد في سبيل الله ماضٍ إلى قيام الساعة
يمضي المسلمون في تاريخهم الطويل، يؤكدون سنة الله في الأرض، فكان لهم النصر .. عاشوا لعقيدتهم يستعذبون الصعاب في سبيلها، أما إذا تخلوا عن طريق الجهاد فسوف يحيون مستضعفين في الأرض يتخطفهم الناس في كل مكان.
نعم! حين كانوا يخرجون لله يثبت الله أقدامهم وينصرهم على أعدائهم .. كانوا يخرجون وفي أذهانهم قول محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {والذي نفس محمد بيده! ما من كَلِيْمٍ يُكْلَمُ في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كُلِمَ، لونه لون دم، وريحه ريح المسك، والذي نفس محمد بيده! لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، والذي نفس محمد بيده! لوددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل }^.
لا إله إلا الله! الجهاد سبيل انتصار المؤمنين في تاريخهم، وما زال إلى اليوم هو الطريق لعزتهم وكرامتهم، والأمة اليوم يتخطفها الأعداء من كل جانب .. أعداء من خارجها، وأعداء من داخل صفوفها، ولا مخرج ولا سبيل إلى النجاة إلا بالعودة إلى الله، ثم إعداد العدة للجهاد.
إن الأعداء لا يخشون إلا الأقوياء، فعلى المسلمين أن يأخذوا بأسباب القوة، فليكُن بأيدينا مثل السلاح الذي بأيديهم، والسلاح في يد المؤمن يزداد بإيمانه قوة.
لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاحْ
لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفِساحْ
في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاحْ
شعب بغير عقيدة ورقٌ تذر به الرياحْ
أيها الأخيار! اجمعوا صفوفكم، ووحدوا كلمتكم، وثقوا بربكم، وارغبوا فيما عنده، واستعلوا على متعكم، وعيشوا واقعكم بمعرفة لا بغيبوبة، وتدربوا على فنون الرماية، واخدموا دينكم ما استطعتم، فالله سوف ينصر دينه على أيديكم أو على أيدي غيركم.
اغتنموا الفرصة وادخلوا في الركب، وكونوا من أنصار الله، وأعلوا كلمة الله، وسيروا في موكب الله، وأعِدوا أنفسكم للدفاع عن مقدساتكم، وللذوذ عن كراماتكم، يكتب لكم ربكم النصر والتوفيق.
اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة أمثال: خالد ، وسعد ، وزيد ، وجعفر .
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهلُ معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم أرنا في الظَّلَمَة يوماً أسود كيوم فرعون، وهامان ، وقارون .
اللهم أرنا في صدام ومَن شايعه عجائب قدرتك، اللهم أرنا في الظالمين عجائب قدرتك، اللهم زلزل الأرض تحت قدميه، اللهم زلزل الأرض تحت قدميه، اللهم اجعله عبرة للمعتبرين، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، اللهم لا تسلطه على المؤمنين، اللهم لا تسلطه على المؤمنين، اللهم أنزل به بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم لا ترفع له راية، اللهم لا ترفع له راية، واجعله لمن خلفه آية، اللهم لا ترفع له راية، واجعله لمن خلفه آية.
اللهم آمِنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفق علماءنا.
اللهم كن لنا ولا تكن علينا، واختم بالصالحات أعمالنا، واشفِ اللهم مرضانا، وارحم موتانا.(/9)
اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، ولا تخيب اللهم فيك رجاءنا.
اللهم لا تسلط علينا البعثيين والملحدين والكافرين.
ربنا إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين، ولا مفتونين.
رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.......(/10)
الجهاد في سبيل الله ضوابط و واقع
المقدمة
تحتل قضية الجهاد فى سبيل الله أهمية قصوى فى حياة المسلمين ، فقد أعز الله به المسلمين الأوائل وقامت عليه فتوحاتهم الكبرى التى نشر الله بها دينه فى مشارق الأرض ومغاربها كما بشر بذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم وخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، وبقيت دولة الإسلام قاهرة لعدوها غالبة لقوى الشر فى العالم ما تمسكت به وأقامته ، وما أن تركته الأمة إلا تسلط عليها عدوها وأذلها وأخذ بعض ما فى أيديها إلا انه بحمد الله وفضله لم ينقطع ، ولا ينقطع إلى يوم القيامة مصداقاً لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : " لاتزال عصابة المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة". رواه البخارى ومسلم واللفظ له .
وكذلك تحتل قضية الجهاد أهمية كبرى فى فكر الصحوة الإسلامية المعاصرة وعملها ، وتصور الجماعات الإسلامية العاملة على الساحة لهذه القضية وتطبيقها فى الواقع مما يسبب كثيراً من الإختلاف والإفتراق بين مرجح لبعض الصور ومانع لها ، ولاشك أنه يلزم المسلم أن يكون على علم وبينة من أمره فى هذا الباب الخطير حتى لايكون تاركاً لما أوجبه الله عليه ضناً بدنياه وإيثاراً لملذاته على أمر آخرته فيقع فى النفاق وهو لايشعر ، وكذلك حتى لايكون سالكاً سبيل الغواية من حيث أراد الهداية مُقْدِماً على ما يضر نفسه وأمته ودعوته من حيث أراد نفعها . ومن هنا كان تناولنا لموضوع الجهاد فى سبيل الله لبيان موقف الدعوة السلفية لأبنائها وغيرهم ممن قد يكون لم يطَّلع أو يسمع منا وإنما يسمع عنا وما أكثر ما يُسمع فى هذا المجال مما يزيد التنافر والتباغض وسوء الفهم والظن ونسأل الله تعالي أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ، وأن يجعلنامن المجاهدين فى سبيله فهو أعلم بمن يجاهد فى سبيله وهو مولانا نعم المولى ونعم النصير.
فضائل الجهاد والمجاهدين . وفضل الشهادة
قال الله تعالي: { لايستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ، وكلاً وعد الله الحسنى ، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه ومغفرة ورحمة } ]النساء95[ ، وقال الله تعالي: { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد فى سبيل الله ، لايستوون عند الله ، والله لايهدى القوم الظالمين ، الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله ، أولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبداً ، إن الله عنده أجر عظيم } ]التوبة 19-20[ . روى مسلم فى صحيحه عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلي الله عليه وسلم فى نفر من أصحابه ، فقال رجل منهم ما أبالى أن لا أعمل لله عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج ، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام ، وقال الآخر: بل الجهاد فى سبيل الله خير مما قلتم فزجرهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقال: لاترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة،ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله تعالي: { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر } ]التوبة19[ (مسلم بشرح النووى 6/86) ، وقال تعالي: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون } ]التوبة111[ ، وقال: { يا أيها الذين آمنو هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ،ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } ]الصف 9-10[ ،
وقال تعالي : { ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون ، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، ألا خوف عليهم ولاهم يحزنون } ]آل عمران 169-170[.
وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: " سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم أى العمل أفضل ؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قيل : ثم ماذا ؟ قال: الجهاد فى سبيل الله. قيل : ثم ماذا ؟ قال حج مبرور " متفق عليه . وعن أنس قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " لغدوة فى سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها " متفق عليه.
وعن عثمان- رضي الله عنه - قال : " سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: رباط يوم فى سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل " رواه الترمذى وقال حسن صحيح.(/1)
وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " من قاتل فى سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة " رواه الترمذى وحسنه. والفواق ما بين الحلبتين وعنه قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " تضمن الله لمن خرج فى سبيله لايخرجه إلا جهاد فى سبيلى وإيماناً وتصديقاً برسلى فهو ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى منزله الذى خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة، والذى نفس محمد بيده مامن كلم (أى جرح) يُكْلَم فى سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئة يوم كٌلِمَ ،لونه لون الدم وريحه ريح المسك ،والذى نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ماقعدت خلاف سرية تغزوا فى سبيل الله أبداً ، ولكن لا أجد سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عنى ، والذى نفس محمد بيده لوددت أن أغزو فى سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل " رواه مسلم وروى البخارى بعضه.
وعن زيد بن خالد أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال " من جهز غازياً فى سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازياً فى أهله بخير فقد غزا " متفق عليه. وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة " رواه الترمذى وقال حسن صحيح . والأحاديث فى فضل الجهاد والشهادة أكثر من أن تحصى .
قال الفضل بن زياد سمعت أبا عبد الله يعنى أحمد بن حنبل وذكر له أمر العدو فجعل يبكى ويقول ما من أعمال البر أفضل منه، وقال لانعلم شيئاً من أبواب البر أفضل من السبيل .
حب الجهاد فرض وكراهيته نفاق
قال تعالي: { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لاأجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً أن لا يجدوا ما ينفقون } ]التوبة92[ ، وقال تعالي : { قل إن كان أباؤكم وأبنائكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لايهدى القوم الفاسقين } ]التوبة24[ . وقال تعالي : { فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وانفسهم فى سبيل الله وقالوا لاتنفروا فى الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون } ]التوبة81[ .
وعن سهل بن حنيف أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه " رواه مسلم .
وعن أبى أمامه - رضي الله عنه - " من لم يغز أو يجهز غازياً أو يخلف غازياً فى أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة " رواه أبو داود بإسناد صحيح ، وفى الرواية الأخرى " مات على شعبة من النفاق " رواه مسلم .
معنى الجهاد وأنواعه
قال بن حجر فى الفتح (6/1): الجهاد شرعاً بذل الجهد فى قتال الكفار ، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفساق .
وقال الكاسانى فى بدائع الصنائع (7/97): الجهاد فى سبيل الله فعبارة عن بذل الجهد وهو الوسع والطاقة ، أو عن المبالغة فى العمل من الجهد وفى عرف الشرع يستعمل فى بذل الوسع والطاقة بالقتال فى سبيل الله تعالي بالنفس والمال واللسان أو غير ذلك أو المبالغة فى ذلك . روى أبو داود بإسناد صحيح أن النبى صلي الله عليه وسلم قال " جاهدوا المشركين بأموالكم وانفسكم وألسنتكم " .
وروى أحمد وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبى " المجاهد من جاهد نفسه فى طاعة الله ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه " . روى أبو داود والترمذى وحسنه عن النبى صلي الله عليه وسلم: " أفضل الجهاد كلمة عدل عند ذى سلطان جائر " ورواه النسائى بسند صحيح . وقد قال تعالي : { فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً ] } الفرقان52[ أى بالقرآن .
ومن هنا يتضح أن الجهاد عند إطلاقه يراد به قتال الكفار وقد يراد به مقاومة الشر والسعى فى إبطاله والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بصوره المختلفة ، فليس محصوراً فى القتال .
قال ابن القيم رحمه الله فى بيان مراتب الجهاد : فجهاد النفس أربع مراتب:-
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذى لافلاح لها ولاسعادة فى معاشها ومعادها إلا به ومتى فاتها علمه شقيت فى الدارين .
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها .
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لايعلمه وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات ولاينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله .
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق ويتحمل ذلك كله لله .
ثم ذكر جهاد الشيطان على مرتبتين فى دفع الشبهات ودفع الشهوات
ثم جهاد الكفار والمنافقين أربع مراتب بالقلب واللسان والمال والنفس وجهاد المنافقين أخص باللسان ، وجهاد الكفار أخص باليد .
ثم جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات فثلاث مراتب
الأولى : باليد إذا قدر .
الثانية : فإن عجز انتقل إلى اللسان(/2)
الثالثة :إن عجز جاهد بقلبه .
قال فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد ، ومن لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق .أهـ.(زاد المعاد 2/39-40).باختصار.
وتظهر فائدة تعدد أنواع الجهاد ومراتبه وعدم إنحصاره فى القتال وإن كان القتال هو ذروة السنام لهذا الذين وهو المقصود فى إطلاق الآيات والأحاديث فى معرفة أولويات العمل الإسلامى ومعرفة سبيل الأنبياء عموماً والنبىصلي الله عليه وسلم خصوصاً فى التغيير فإن الكثير من الناس ربما يدفعه تصوره القاصر على مفهوم الجهاد إلى أعمال غير منضبطة بضوابط الشرع ليتخلص من ظنه تضييع الجهاد وقد غاب عنه أن واجب الوقت الذى هو فيه نوع آخر من أنواع الجهاد ، والناظر فى سنة الأنبياء الذين أمروا بالقتال يرى بجلاء أن أولويات العمل بدأت أولاً بالدعوة إلى الإيمان بمعانيه الشاملة ثم إيجاد الطائفة المؤمنة القادرة على تحمل مسؤوليات هذا الدين ثم شرع القتال بعد ذلك بل لايمكن أن يقوم الجهاد بمعنى القتال إلا إذا سبقته هذه المقدمات .
قال ابن القيم : " ولما كان جهاد أعداء الله فى الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسه فى ذات الله " كما قال النبى صلي الله عليه وسلم : " المجاهد من جاهد نفسه فى ذات الله والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه " كان جهاد النفس مقدماً على جهاد العدو فى الخارج وأصلاً له فإنه مالم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أمرت به وتترك مانهيت عنه ويحاربها فى الله لم يمكنه جهاد عدوه فى الخارج .أهـ.(زاد المعاد 2/38).
وليس المقصود من هذا تعطيل الجهاد بمعنى القتال إذا تعين بزعم تربية النفس وجهادها أو اشتراط العدالة فى المجاهدين حتى يجاب عنه باتفاق العلماء على وجوب القتال على الفسقة والإستعانة بهم إجماعاً كما يقول البعض ، بل المقصود بيان حقيقة كونية وسنة شرعية لا يمكن أن يقوم الجهاد إلا بها وقد سار عليها الأنبياء وأصحابهم فلابد لنا ونحن نحدد للصحوة أولوياتها وعملها فى واقعنا المعاصر أن نسير على منهجهم ولايغيب عنا أن جيوش الصحابة والتابعين لم يكن أكثرهم حديثى الإسلام أو من الفساق والمنافقين حاشاهم من ذلك ، بل هم بحمد الله أكمل الأمة إيماناً وأكثرهم علماً وأحسنهم عملاً ، وبهذا نصرهم الله .
قال البخارى فى صحيحه : باب عمل صالح قبل القتال .
وقال أبو الدرداء : إنما تقاتلون بأعمالكم .
ولاشك أن حالة الضرورة غير حالة الإختيار ، وحالة إحياء الأمة من رقدتها الطويلة وبعثها من تحت سلطان عدوها غير حالة الدفع عن الأمة القائمة إذا نزل بها عدوها إذ لايستجيب لداعى الجهاد ، بل لكل دواعى طاعة الله فى حالة الرقاد إلا من استجاب للإيمان والإلتزام أصلاً ، ولايقوم الحق ومنه الجهاد إلا بقيام الطائفة المؤمنة أولاً فإذا قلنا للناس الآن أن أولى الأولويات فى الوقت الحاضر هو إعداد العدة العسكرية (ونحن لانشك فى وجوبها مع القدرة) ولكننا نعلم مقدار قوة المؤمنين المتواضعة على ذلك ونعلم كذلك بُعد شباب الأمة ورجالها عن الإلتزام بدينهم أصلاً ونعلم ما يترتب على ذلك من أمور ربما تودى بالدعوة من أصلها مع أن الإعداد المادى ربما لايستغرق إلا أسابيع أو شهور إذا استجاب المرء لداعى الإيمان والإلتزام إذا قلنا هذه هى أولى الفرائض وأوجب الواجبات وأن من لا يقوم به خائن لأمته ودينه كان ذلك خلطاً فى الموازين ، وقلباً لسنن الأنبياء الشرعية ومخالفة لسنن الله الكونية .
وإن كان لابد لنا أن نستحضر من هذا المقام تربية المسلمين على روح البذل والجهاد بصوره ومراتبه المختلفة ، وتعريفهم بحقيقة صراعهم مع الباطل وحب الجهاد فى سبيل الله والشوق إليه فإن ذلك من لوازم الإيمان كما سبق بيانه .
مراحل تشريع الجهاد ووجوبه
قال ابن القيم رحمه الله : فصل فى ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين
من حين بعث إلى حين لقى الله تعالي ، أول ماأوحى إليه ربه - سبحانه وتعالى - أن يقرأ
باسم ربه الذى خلق وذلك أول نبوته فأمره أن يقرأ فى نفسه ولم يأمره إذ
ذاك بتبليغ ، ثم أنزل عليه { ياأيها المدثر قم فأنذر } ]المدثر1-2[ فنبأه قومه ثم أنذر من حولهم من العرب ثم أنذر العرب قاطبة ثم أنذر العالمين(/3)
فأقام بضعة عشر سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولاجزية ويؤمر بالكف والصبر والصفح ثم أذن له فى الهجرة وأذن له فى القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة ، فأمر أن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفى لهم به ما استقاموا على العهد فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد وأمر أن يقاتل من نقض عهده ، ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا فى الإسلام وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم وجعل أهل العهد فى ذلك ثلاثة أقسام
قسماً : أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له فحاربهم وظهر عليهم .
وقسماً : لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم .
وقسماً : لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه أو كان لهم عهد مطلق فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر فإذا انسلخت قاتلهم إلى أن قال فقاتل الناقض لعهده وأجل من لا عهد له أو له عهد مطلق أربعة أشهر وأمره أن يتم للموفى بعهده عهده إلى مدته فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم وضرب على أهل الذمة الجزية فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة ، ثم آل حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة . والمحاربون له خائفون منه فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن ، وخائف محارب .أهـ. (باختصار من الزاد 81/82)
يظهر من هذا التلخيص لمراحل تشريع الجهاد أنه مر بمراحل
أولها: مرحله الكف والإعراض والصفح حيث كان القتال محرماً قال تعالي : { ألم تر إلى الذين قيل كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية } ]النساء77[.
روى ابن جرير والنسائى فى سننه عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبى صلي الله عليه وسلم : " فقالوا : يارسول الله كنا فى عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة ، فقال إنى أمرت بالعفو فلا تقاتلوا " فلما حوله الله إلى المدينة أمر بالقتال فكفوا فأنزل الله تعالي: { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } ]النساء77 [.
وقال ابن القيم رحمه الله عن هذه المرحلة : والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة واشتد الجناح فأذن لهم بالقتال ولم يفرضه عليهم فقال : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير } ]الحج39[ .أهـ .
وهذه هى المرحلة الثانية : مرحلة الإذن بالقتال .
ثم المرحلة الثالثة : وهى الأمر بالقتال لمن قاتلهم دون من يقاتل: وذلك بقوله تعالي: { وقاتلوا فىسبيل الله الذين يقاتلونكم } ]البقرة190[ .
ثم المرحلة الرابعة : فرض عليهم قتال المشركين كافة :بقوله: تعالي { وقاتلوا المشركين كافة } ]التوبة36[ ، وقوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } ]التوبة5[ ، وقوله: { قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولاباليوم الآخر ولايحرمون ماحرم الله ورسوله ولايدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } ]التوبة29[ ، وقوله تعالي : { وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله } ]الأنفال39[.
وعن ابن عباس وأبى العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدى ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم يعنى حتى لايكون شرك .
وقال النبى صلي الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله " متفق عليه . وهذه المرحلة الأخيرة هى التى استقر عليها الأمر فى معاملة المسلمين للكفار من جميع الأجناس ، أهل الكتاب وغيرهم . وقال أكثر السلف بنسخ آيات الموادعة والصفح والعفو ، ولا يختلف العلماء من المذاهب الأربعة وغيرهم على أنه يلزم المسلمين عند القدرة ابتداء الكفار بالقتال ولو لم يقاتلوا المسلمين ، وهذا جهاد الطلب مع لوازم جهاد الدفع بالإجماع.
جهاد الدفع وجهاد الطلب
قال النووى رحمه الله فى المنهاج : كان الجهاد على عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم فرض كفاية وقيل عين ، وأما بعده فللكفار حالان :-(/4)
أحدهما: يكونون ببلادهم ففرض كفاية إذا فعله من فيهم كفاية سقط الحرج عن الباقين ، قال ولا جهاد على صبى ومجنون وامرأة ومريض وذى عرج بيّن وأقطع وأشل وعبد وعادم أهبة قتال وكل عذر يمنع من وجوب الحج منع الجهاد إلا خوف طريق من كفار وكذا من لصوص المسلمين على الصحيح والدَيْنُ الحال يحرم سفر جهاد وغيره إلا بإذن غريمه والمؤجل لا وقيل يمنع سفراً مخوفاً ويحرم جهاد إلابإذن أبويه إن كانا مسلمين لاسفر تعلم فرض عين وكذا كفاية فى الأصح فإن أذن أبواه والغريم ثم رجعوا وجب الرجوع إن لم يحضر الصف فإن شرع فى قتال حرم الإنصراف فى الأظهر .
الثانى : يدخلون بلدة لنا فيلزم أهلها الدفع بالممكن فإن أمكن تأهب لقتال وجب الممكن حتى على فقير وولد ومدين وعبد بلاإذن وقيل إن حصلت مقاومة بأحرار اشترط إذن سيده ، وإلا فمن قصد دفع عن نفسه بالممكن إن علم أنه إن أخذ قتل وإن جوز الأسر فله أن يستسلم ومن هو دون مسافة قصر من البلدة كأهلها ومن على المسافة يلزمهم الموافقة بقدر الكفاية إن لم يكف أهلها ومن يليهم ، قيل وإن كفوا ولو أسروا مسلماً فالأصح وجوب النهوض إليهم لخلاصه إن توقعناه .
قال الشربينى فى الشرح : الحال الثانى من حالى الكفار يدخلون بلدة لنا أو ينزلون على جزائر أو جبل فى دار إسلام ولو بعيداً من البلد فيلزم أهلها الدفع بالممكن منهم ويكن الجهاد حينئذ فرض عين وقيل كفاية واعتمده البلقينى وقال أن نص الشافعى يشهد له فإن أمكن أهلها تأهب استعداد لقتال وجب على كل منهم الممكن أى الدفع للكفار بحسب القدرة حتى على فقير بما يقدر عليه وولد ومدين وعبد ولاإذن من أبوين ورب ودين ومن سيد . وفى معنى دخولهم البلدة ما لو أطلوا عليها والنساء كالعبيد إن كان فيهن دفاع وإلا فلا يحضرن (وإلا) بأن لايمكن أهل البلدة التأهب لقتال بأن هجم الكفار عليهم بغتة فمن قصد من المكلفين ولو عبداً أو امرأة أو مريضاً دفع عن نفسه الكفار بالممكن له إن علم أنه إن أخذ قتل وإن جوز الأسر والقتل فله أن يدفع عن نفسه وله أن يستسلم لقتل الكفار إن كان رجلاً لأن المكافحة حينئذ استعجال للقتل والأسر يحتمل الخلاص هذا إن علم أنه متى امتنع من الإستسلام قتل وإلا امتنع عليه الإستسلام ، وأما المرأة فإن علمت امتداد الأيدى إليها بالفاحشة فعليها الدفع وإن قتلت لأن الفاحشة لاتباح عند خوف القتل وإن لم تمتد إليها الأيدى بالفاحشة الآن ولكن توقعتها بعد السبى احمتل جواز استسلامها ثم تدفع إذا أريد منها(1) قال : والذين هم على مسافة القصر فأكثر يلزمهم فى الأصح إن وجدوا زاداً ومركوباً الموافقة بقدر الكفاية إن لم يكف أهلها ومن يليهم دفعاً عنهم وإنقاذاً لهم .
تنبيه : أشار بقوله بقدر الكفاية إلى أنه لايجب على الجميع الخروج بل إذا صار إليهم قوم فيهم كفاية سقط الخروج عن الباقين .أهـ . (مغنى المحتاج 4/308 :220) .
تنبيه : (1) فرض الكفاية إذا لم يقم به أهله وتركه الجميع أثم كل من لاعذر له من الأعذار السابق بيانها من الصبيان والنساء والمرضى وغيرهم . ذكره النووى فى روضة الطالبين .
(2) دليل أن جهاد الطلب فرض كفاية فعل الخلفاء الراشدين وحكى القاضى عبد الوهاب فيه الإجماع ولو فرض على الأعيان لتعطل المعاش . أفاده الشربينى فى مغنى المحتاج .
قال القرطبى : إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار أو بحلوله بالعقر فإذا وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً ، شباناً وشيوخاً ، كل على قدر طاقته من كان له أب بغير إذنه ومن لاأب له ولايتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب مالزم أهل تلك البلدة حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج إليهم فالمسلمون كلهم يد على من سواهم ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلها لزمهم أيضاً الخروج إليه حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة ويخزى العدو ولاخلاف فى ذلك .
وقسم ثان من واجب الجهاد فرض أيضاً على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو كل سنة مرة يخرج معهم بنفسه حتى يدخلوا فى الإسلام أو يعطو الجزية عن يد ، ومن الجهاد ماهو نافلة وهو إخراج الإمام طائفة بعد طائفة وبعث السرايا فى أوقات الغرة وعند إمكان الفرصة والإرصاد لهم بالرباط فى موضع الخوف وإظهار القوة فإن قيل كيف يصنع الواحد إذا قصر الجميع قيل له يعمد إلى أسير واحد فيفديه فإنه إذا فدى الواحد فقد أدى فى الواحد أكثر مما كان يلزمه فى الجماعة فإن الأغنياء لو اقتسموا فداء الأسرى ما أدى كل واحد منهم إلا أقل من درهم ويغزو بنفسه إن قدر وإلا جهز غازياً(/5)
قال صلي الله عليه وسلم " من جهز غازياً فقد غزا ، ومن خلفه فى أهله بخير فقد غزا " أخرجه الصحيح وذلك لأن مكانه لايغنى وماله لايكفى .أهـ.(تفسير القرطبى 4/2990-2991).
قال الكاسانى فى بدائع الصنائع (10/98) بيان كيفية فرض الجهاد فالأمر فيه لايخلو من أحد وجهين إما إن كان النفير عاماً وإما إن لم يكن فإن لم يكن النفير عاماً فهو فرض كفاية ومعناه أن يفترض على جميع من هو من أهل الجهاد لكن إذا قام به البعض سقط عن الباقين لقوله تعالي:
{ فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى } ]النساء95[ ولو كان الجهاد فرض عين فى الأحوال كلها لما وعد الله القاعدين الحسنى لأن القعود يكون حراماً ، وقوله - سبحانه وتعالى - : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } ]التوبة122[.
ولأن ما فرض له الجهاد وهو الدعوة إلى الإسلام وإعلاء الدين الحق ودفع شر الكفرة وقهرهم يحصل بقيام البعض به وكذا النبى صلي الله عليه وسلم " كان يبعث السرايا " ولو كان فرض عين فى الأحوال كلها لكان لايتوهم منه القعود عنه بحال ولا أذن لغيره بالتخلف عنه بحال قال : ولايباح للعبد أن يخرج بغير إذن مولاه ولا المرأة بغير إذن زوجها ، وكذا الولد لايخرج إلا بإذن والديه أو أحدهما إذا كان الآخر ميتاً لأن بر الوالدين فرض عين فكان مقدماً على فرض الكفاية ، هذا إذا لم يكن النفير عاماً فأما إذا عم النفير بأن هجم العدو على بلدة فهو فرض عين يفترض على كل واحد من آحاد المسلمين ممن هو قادر عليه لقوله - سبحانه وتعالى -: { انفروا خفافاً وثقالاً } ]التوبة41[ ، قيل نزلت فى النفير ، وقوله - سبحانه وتعالى - : { ماكان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله } ]التوبة120[ .
فيخرج العبد بغير إذن مولاه والمرأة بغير إذن زوجها وكذا يباح للولد أن يخرج بغير إذن والديه .أهـ. مختصراً .
قال ابن قدامة فى المغنى (8/346-374): عند قول الخرقى : والجهاد فرض على الكفاية إذا قام به قوم سقط عن الباقين . قال ويتعين الجهاد فى ثلاثة مواضع :-
أحدها : إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان حرم على من حضر الإنصراف وتعين عليه المقام لقوله تعالي: { ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً } ]الأنفال45[ ، وقوله : { واصبروا إن الله مع الصابرين } ]الأنفال46[ ، وقوله تعالي: { ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار } ]الأنفال15[.
الثانى : إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم .
الثالث : إذا استنفر الإمام قوماً لزمهم النفير لقول الله تعالي: { ياأيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل اثقاقلتم إلى الأرض } ]التوبة38[ ، وقال النبى صلي الله عليه وسلم " إذا استنفرتم فانفروا " .
ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط :
الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكروة والسلامة من الضرر ووجود النفقة .أهـ.
تنبيهات وفوائد :-
(1) قال النووى : قال الإمام (يعنى الجوينى) : المختار عندى مسلك الأصوليين فإنهم قالوا الجهاد دعوة قهرية فيجب إقامته بحسب الإمكان حتى لايبقى إلا مسلم أو مسالم ، ولا يختص بمرة فى السنة ، بل ولا يعطل إذا أمكنت الزيادة وما ذكره الفقهاء حملوه على العادة الغالبة (يعنى قولهم يجب فى السنة مرة ، وهو قول الأكثرين) ، الروضة (10/209 ).
(2) وقال أيضاً لو أسروا مسلماً أو مسلمين فهل هو كدخول دار الإسلام (يعنى فى كون الجهاد يصبح فرض عين) وجهان أحدهما لالأن إزعاج الجنود لواحد بعيد ، وأصحهما نعم لأن حرمته أعظم من حرمة الدار فعلى هذا لابد من رعاية النظر فإن كانوا على قرب من دار الإسلام وتوقعنا استخلاص من أسروه لو طرنا إليهم فعلنا وإن توغلوا فى بلاد الكفر ولايمكن التسارع إليهم وقد لايتأتى خرقها بالجنود واضطررنا إلى الإنتظار كما لو دخل ملك عظيم الشوكة طرف بلاد الإسلام لايتسارع إليه آحاد الطوائف .(/6)
(3) من هذا الكلام الأخير تعرف حكم ما لو تسلط الكفار على بلد من بلاد المسلمين واستقر أمرهم على ذلك فصار من بها من المسلمين فى حكم الأسرى فلابد هنا من النظر فى توقع استخلاص البلد وأهله من عدم ذلك وذلك لأن مسارعة الآحاد مع شوكة الكفار لاتغنى فلاينطبق حينئذ كلام الفقهاء على قتال الدفع من خروج المرأة بغير إذن زوجها والعبد بغير إذن سيده ونحوه إذ ذلك حال نزول الكفار لاحال استقرار شوكتهم فمثلاً لايشك عاقل أن استخلاص الأندلس الآن من الكفار لايتأتى بذهاب الآحاد فلا يتصور القول بوجوب الخروج عينياً لذلك ، وهذا حال الضرورة الذى يضطر فيه المسلمون للإنتظار رغم سقوط البلاد والعباد ، ولاحول ولاقوة إلا بالله . وإن كان مع الإنتظار يلزم أخذ أسباب القوة فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (راجع هنا ما ذكرناه أعلاه عن أولويات العمل الإسلامى لإقامة الجهاد وغيره من الواجبات الشرعية ) .
مما سلف من القول يتضح لك جلياً أن الأمر المستقر عند العلماء كافة هو المرحلة الأخيرة من مراحل الجهاد وهو لزوم البدء بالقتال للكفار (حسب الإمكان أو كل سنة مرة) وهنا هو جهاد الطلب وهو فرض كفاية كما يلزم جهاد الدفع عن المسلمين وبلادهم إذا نزل بها العدو وهذا فرض عين على أهل البلد المقصود ومن حوله على مسافة القصر وفرض كفاية على غيرهم حتى تحصل بهم الكفاية فى الدفع ، وأما القول بأن الإسلام لم يعرف إلا الحرب الدفاعية وأن الأصل فى معاملة الكفار هو السلم لاالقتال قول محدث بدعة ضلالة ابتدعها المنهزمون روحياً وعقلياً أمام ضغط الواقع المعاصر وقد خالفوا صريح الأدلة نحو قوله تعالي : { وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله } ]الأنفال39[، وقوله تعالي: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ]التوبة5[ ، وقول النبى صلي الله عليه وسلم " اغزوا فى سبيل الله قاتلوا من كفر بالله " رواه مسلم ، وقوله صلي الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس … " الحديث .
وماأحسن ما كتبه الأستاذ سيد قطب رحمه الله فى مقدمة سورة الأنفال والتوبة من الظلال فى الرد على هؤلاء فراجعه (ظلال القرآن 1431-1443 ومابعدها) .
ولقد ظهرت بدع جديدة من إنكار وجوب قتال أهل الكتاب حتى يعطو الجزية بل وتسمية الجزية ضريبة خدمة عسكرية تسقط إذا شاركونا القتال ، ويسعى هؤلاء الذين يسمون أنفسهم أصحاب الإتجاه الإسلامى المستنير إلى تعميم هذا المفهوم المنحرف لقضية الجهاد فضلاً عن إنكار جهاد الطلب وهذا خرق للإجماع بل لو أن طائفة استقر أمرها على ذلك لصارت طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب قتالها كما سيأتى بيانه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فى فتوى التتار باتفاق أئمة المسلمين .
هل هذه المراحل نسخ أم يُعمل بها عند الحاجة ؟
إذا كان الأمر على ما وصفنا من استقرار الأمر على المرحلة الأخيرة فما حكم المراحل السابقة هل زال حكمها بالكلية أم يعمل بها عند الحاجة. الحق أن أكثر السلف وأهل العلم صرحوا بنسخ آيات الصفح والصبر والكف ونحوها من المسالمة والموادعة ، وأنكر البعض النسخ كالزركشى حيث قال فى البرهان (41:21-24) قسم بعضهم النسخ من وجه آخر إلى ثلاثة أضرب :-
الثالث : ماأمر به لسبب ثم يزول السبب كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر والمغفرة للذين لايرجون لقاء الله تعالي ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد ونحوها ثم نسخه إيجاب ذلك هذا ليس بنسخ فى الحقيقة وإنما هو نسئ كما قال تعالي :
{ أو ننسها } ، فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون .
وفى حالة الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى وبهذا التحقيق تبين ضعف مالهج به كثير من المفسرين فى الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف .أهـ.
وذكر السيوطى هذا الكلام فى الإتقان ولم ينسبه للزركشى (الإتقان :66) والحقيقة أن الخلاف بين الفريقين خلاف لفظى لاحقيقة له إذ مصطلح النسخ عند السلف يشمل التقييد والتخصيص وبيان الإجمال كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فى الإكليل (116) ، فالجميع تفق على أنه لايكلف المستضعف الذى يشبه حاله حال رسول الله صلي الله عليه وسلم والمسلمين بمكة مالاطاقة له به من القتال ، وقد سبق الزركشى غيره من أهل العلم بذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية فى الصارم المسلول (صفحة221) فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو فى وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذى الله ورسوله من الذين أوتو الكتاب والمشركين ، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون فى الذين ، وبآية قتال الذين أوتو الكتاب حتى يعطو الجزية عن يد وهم صاغرون قال ابن كثير فى تفسير قوله تعالي { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } ]الأنفال61[ .(/7)
وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء والخراسانى وعكرمة والحسن وقتادة أن الآية منسوخة بآية السيف فى براءة { قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولاباليوم الآخر } ]التوبة29[ ، وفيه نظر لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك فأما إذا كان العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة وكما فعل النبى صلي الله عليه وسلم يوم الحديبية فلا منافاة ولانسخ ولاتخصيص ، والله أعلم .
قال القرطبى (2879-2880) قال ابن العربى : قد قال الله تعالي
{ فلاتهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون } ]آل عمران139[ .
فإذا كان المسلمون على عزة ومنعة وجماعة عديدة وشدة شديدة فلاصلح ، وإن كان للمسلمين مصلحة فى الصلح لنفع يجتلبونه أو ضرر يدفعونه فلا بأس أن يبتدئ المسلمون إذا احتاجوا إليه وقد صالح رسول الله صلي الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم وقد صالح الضمرى وأكيدر دومة وأهل نجران وقد هادن قريشاً لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التى شرعناها سالكة وبالوجوه التى شرحناها عاملة .
وقال الشافعى - رضي الله عنه - : لاتجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين على ما فعل النبى صلي الله عليه وسلم عام الحديبية فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهى منتقضة لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية .
وقال ابن حبيب من المالكية تجوز مهادنتهم السنة والسنتين والثلاث وإلى غير مدة .أهـ.( والمقصود إلى أن يقوى المسلمون فينبذوا إليهم على سواء قبل قتالهم كما بينه ابن القيم فى الزاد).
قال ابن حجر فى الفتح (7/198):
قال الشافعى:إذا ضعف المسلمون عن قتال المشركين جازت لهم مهادنتهم على غير شئ يعطونهم لأن القتل للمسلمين شهادة ، وإن الإسلام أعز أن يعطى المشركين على أن يكفوا عنهم إلا فى حالة مخالفة اصطلام المسلمين لكثرة العدو لأن ذلك من معانى الضرورات وكذلك لو أسر رجل مسلم فلم يطلق إلا بفدية جاز .
قال ابن قدامة فى المغنى (8/ 459 :461) لاتجوز المهادنة مطلقاً من غير تقدير مدة لأنه يفضى إلى ترك الجهاد بالكلية وقال: وتجوز مهادنتهم على غير مال .
وأما إن صالحهم على مال نبذله لهم فقد أطلق أحمد القول بالمنع منه وهو مذهب الشافعى لأن فيه صغاراً على المسلمين وهذا محمول على غير حالة الضرورة فأما إذا دعت إليه الضرورة وهو أن يخاف على المسلمين الهلاك أو الأسر فيجوز ، ولأن بذل المال إن كان فيه صغار فإنه يجوز تحمله لدفع صغار أعظم منه وهو القتل والأسر وسبى الذرية الذين يفضى سبيلهم إلى كفرهم .
قال الشيبانى فى السير الكبير: وإذا خاف المسلمون المشركين فطلبوا موادعتهم فأبى المشركون أن يودعهم حتى يعطيهم المسلمون على ذلك مالاً فلابأس بذلك عند تحقق الضرورة .أهـ.(92/16).
وبهذه النقول كلها يتضح لك أنه لاخلف بين السلف أن العمل بالمرحل الأخيرة من الجهاد إنما هو حسب الإمكان والقدرة وأما مالا قدرة عليه فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، وإلا عليهم الأخذ بأسباب القدرة حتى يزول عنهم هذا الإضطرار ، وهكذا يتضح لك أخى الكريم أن إنكار المرحلية بالكلية واعتبارها جنباً وإلزام من يقول بها بأنه يدعو إلى ترك سائر الواجبات التى فرضت بعد المرحلة المكية غلو مخالف لكلام أهل العلم من المذاهب الأربعة وغيرهم ، والله أعلم .
هل يقتصر معنى الضرر والعجز فى الجهاد على المعنى الحسى؟
سبق أن نقلنا كلام أهل العلم عن سقوط وجوب الجهاد عن الأعمى والأعرج والصبيان والنساء والمرضى وعادم الأهبة والنفقة ونحوهم (راجع كلام النووى فى المنهاج السابق ذكره)، وذلك لقوله تعالي: { ليس على الأعمى حرج ولاعلى الأعرج حرج ولاعلى المريض حرج } ] النور61[
فهل تقتصر صورة الضرر على ذلك كما حاول البعض قصرها على ذلك أم أنه عند غلبة الظن بحصول الأذى الجسيم على طائفة من المسلمين من هزيمة وقتل وسبى وأسر من غير مصلحة راجحة تدخل فى هذا المعنى كذلك .
لاشك أن هذه الصورة داخلة فى معنى العجز وقد سبق فى المسألة السابقة فى كلام العلماء على حالة الضرورة واحتمال نوع من الصغار فيها لدفع صغار أعظم منه ، وقد دلت آيات سورة الأنفال على جواز ترك القتال إذا كان العدو يزيد على ضعف المسلمين .
قال تعالي : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين } ]الأنفال66[ .
روى ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما نزلت هذه ا لآية ثقلت على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين ومئه ألفاً فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى فقال: { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً } ]الأنفال66[ فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ لهم أن يفروا منهم وإن كانوا دون ذلك لم يجب عليهم أن يقاتلوا وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم .(/8)
قال الكاسانى فى بدائع الصنائع (7/98): الغزاة إذا جاءهم جمع من المشركين مالا طاقة لهم به وخافوهم أن يقتلوهم فلابأس أن ينحازوا إلى بعض أمصار المسلمين أو إلى بعض جيوشهم والحكم فى هذا الباب لغالب الرأى ، وأكبر الظن دون العدد فإن غلب على ظن الغزاة أنهم يقاومونهم يلزمهم الثبات وإن كانوا أقل عدداً منهم وإن كان غالب ظنهم أنهم يغلبون فلابأس أن ينحازوا إلى المسلمين ليستعينوا بهم وإن كانوا أكثر عدداً من الكفرة ، وكذا الواحد من الغزاة ليس معه سلاح مع اثنين منهم معهما سلاح أو مع واحد من الكفرة ومعه سلاح لابأس أن يولى دبره متحيزاً إلى فئة.
قال النووى فى روضة الطالبين:(10/274) قال الجمهور : إذا التقى الصفان فله حالان :-
أحدهما : أن لا يزيد عدد الكفار على ضعف عدد المسلمين بل كانوا مثلى المسلمين أو أقل فتحرم الهزيمة والإنصراف إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة .
هذا الذى ذكرناه من تحريم الهزيمة إلا لمتحرف أومتحيز هو فى حال القدرة أما من عجز بمرض ونحوه أو لم يبق معه سلاح فله الإنصراف بكل حال ويستحب أن يولى متحرفاً أو متحيزاً فإن أمكنه الرمى بالأحجار فهل تقوم مقام السلاح وجهان أصحها تقوم .
ومن مات فرسه وهو لايقدر على القتال راجلاً فله الإنصراف ومن غلب على ظنه أنه إن ثبت قتل هل له الإنصراف وجهان الصحيح المنع .
الحالة الثانية : إذا زاد عدد الكفار على مثلى المسلمين جاز الإنهزام وهل يجوز إنهزام مائة من أبطالنا من مائتين وواحد من ضعفاء الكفار وجهان أصحهما لا لأنهم يقاومونهم لو ثبتوا وإنما يراعى العدد عند تقارب الأوصاف ، والثانى نعم لأن اعتبار الأوصاف يعسر ، ويجرى الوجهان فى عكسه ، وإن غلب على ظنهم أنهم إن ثبتوا ظفروا استحب الثبات ، وإن غلب على ظنهم الهلاك ففى وجوب الفرار وجهان قال الإمام : إن كان فى الثبات الهلاك المحض من غير نكاية وجب الفرار قطعاً وإن كان فيه نكاية فوجهان أصحهما يستحب ولايجب. وذكر ابن جزى الغرناطى المالكى فى القوانى الفقهية نحواً من هذا (128) – ومما يعضد هذا قول موسى للإسرائيلى { إنك لغوى مبين } ]القصص18[ .
قال القرطبى : لأنه يشاد كل يوم من لايقدر عليه . وقال النبى صلي الله عليه وسلم فى حديث نزول عيسى بن مريم عن يأجوج ومأجوج " فأوحى الله إلى نبى الله عيسى إنى قد أخرجت عباداً لى لايدان لأحد بقتالهم فحرز عبادى إلى الطور" .
فالواجب عند العجز عن القتال تحريز عباد الله المؤمنين وحفظهم لامصادمتهم لعدو يصطلمهم ويهلكهم بغير مصلحة فالجهاد لايعود على مقصوده وهو إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وأهله بالنقض بقتل المسلمين وسبى نسائهم من غير مصلحة للمسلمين .
وأما قول من يقول أنه ليس بعد الكفر مفسدة فهو أعظم المفاسد قلنا نعم هو أعظم المفاسد من جهة النوع أما من جهة الكم فالزيادة عليه بالصد عن سبيل الله وأذية المسلمين مع استمرار الكفر وبقائه أعظم مفسدة وضرراً قال الله تعالي: { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون } ]النحل88[ ، فكافر يؤذى المسلمين أشد خطراً من كافر لايؤذيهم .
هل وجود الإمام شرط فى وجوب القتال ؟
قال ابن قدامة فى المغنى: (8/352-353) وأمر الجهاد موكول إلى الإمام ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك ، فإن عدم الإمام لم يؤخر الجهاد لأن مصلحته تفوت بتأخيره وإن حصلت غنيمة قسمها أهلها على موجب الشرع.
قال القاضى : ويؤخر قسمة الإماء حتى يظهر إماماً احتياطاً للفروج.
قال النووى فى المنهاج: يكره غزو بغير إذن الإمام أو نائبه .
قال الشربينى فى الشرح : استثنى البلقينى من الكراهة صوراً
أحدهما: أن يفوت المقصود بذهابه للإستئذان .
ثانيهما: إذا عطل الإمام الغزو وأقبل وجنوده على أمور الدنيا كما يشاهد .
ثالثهما: إذا غلب على ظنه أنه لو استئذن لم يأذن له ، (مغنى المحتاج 4/220) .
فائدة:
قال ابن قدامة:قال أحمد لايعجبنى أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع المسلمين ، وإنما يغزومع من له شفقة وحيطة على المسلمين فإن كان القائد يعرف بشرب الخمر والغلول يغزى معه إنما ذلك فى نفسه .
ويروى عن النبى صلي الله عليه وسلم "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " .أهـ.
قال الجوينى فى غياث الأمم : (عند كلامه على خلو الزمان عن الإمام) أما من يسوغ استقلال الناس فيه بأنفسهم ولكن الأدب يقتضى فيه متابعة أولى الأمر ومراجعة مرموق العصر كعقد الجمع وجر العساكر للجهاد واستيفاد القصاص فى النفس والطرف فيتولاه من الناس عند خلو الدهر عن الإمام طوائف من ذوى الخبرة والبأس .
وقال : فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطان ذى خبرة وكفاية ودراية فالأمور موكولة إلى العلماء فحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم ويصدروا فى جميع قضايا الولايات عن رأيهم.أهـ.(/9)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطاباً مطلقاً كقوله تعالي: { والزانية والزانى فاجلدوا } ]النور2 [، وقوله تعالي { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم } ]النور4[ ، وكذلك قوله: { ولاتقبلوا لهم شهادة أبداً } ]النور4[ .
ولكن قد علم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادراً عليه والعاجزون لايجب عليهم وقد علم أن هذا فرض على الكفاية وهو مثل الجهاد بل هو نوع من الجهاد ، فقوله :تعالي { كتب عليكم القتال } ]البقرة216[.
وقوله تعالي : { وقاتلوا فى سبيل الله } ]البقرة190[ ، قوله تعالي : { إلا تنفروا يعذبكم } ]التوبة39[.
ونحو ذلك هو فرض على الكفاية من القادرين ، والقدرة هى السلطان فلهذا وجب على ذى السلطان ونوابه إقامة الحدود : قال ( والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه فمتى أمكن إقامتها من أمير لم تحتج إلى اينين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت مالم يكن فى إقامتها فساد يزيد على إضاعتها فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر (34/175).
قال ابن حجر فى الفتح فى شرح حديث غزوة مؤتة : قال الطحاوى: هذا الأصل يؤخذ منه أن على المسلمين أن يقدموا رجلاً إذا غاب الإمام يقوم مقامة إلى أن يحضر .
وكذا قال الخطابى وعنه البغوى . ومن هنا تعلم من هذه النقول من أئمة العلماء من المذاهب المختلفة أن وجود الخليفة ليس شرطاً فى وجود الجهاد لأنه خطاب متوجه للمسلمين أصلاً والواجب على المسلمين أن يرجعوا إلى علمائهم فى تقديم رجل منهم يقودهم فى الجهاد بنوعيه الدفع والطلب ويلزمهم أن يجتمعوا ولايفترقوا فإنه لاتحصل مصلحة الجهاد إلا بالإجتماع بل وسائر مصالحهم ولاشك أن من يشترط وجود الخلافة أولاً قبل الجهاد يلزمه أن ماجرى فى أفغانستان وما يجرى فى البوسنة وأريتيريا والفلبين وكشمير وسائر البلاد التى يقاتل فيها المسلمون أعداءهم يلزم أن كل هذا محرم غير مشروع وما أبطل من أن ينسب لأحد من علماء الإسلام.
وقد روى أبو داود فى سننه عن عقبة بن مالك قال: بعث النبى صلي الله عليه وسلم سرية فسلحت رجلاً منهم سيفاً فلما رجع قال: لو رأيت مالامنا رسول الله صلي الله عليه وسلم قال " أعجزتم إذا بعثت رجلاً منكم فلم يمض لأمرى أن تجعلوا مكانه من يمضى لأمرى " حسنه الألبانى .
هل يشترط انفراد المسلمين بأرض ينطلقون منها فى الجهاد ؟
ليس فى كلام العلماء السابقين فيما اطلعنا عليه نصاً على مثل هذا الشرط ومن هنا اختلف المعاصرون فى ذلك فمنهم من قال: لم يقاتل النبى صلي الله عليه وسلم إلا بعد وجود الأرض فى المدينة ومنهم من قال: لادليل على الإشتراط من مجرد الفعل وإنما كان المانع من القتال بمكة عدم القدرة والشوكة كما سبق بيانه، وقد ذكر العلماء شروط وجود الجهاد ولم يذكروا هذا الشرط بل صرحوا فى حالة طروء الكفر على الإمام وردته ووجوب الخروج عليه إذا قدرت على ذلك طائفة أن ذلك يتعين عليها وهذا نوع من الجهاد.
قال القاضى عياض : أجمع العلماء على أن الإمامة لاتنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل ، وقال: وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها. فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه وتنصيب إمام عدل إن أمكنهم ذلك ، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليها القيام بخلع الكافر ولايجب فى المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه فإن تحققوا العجز لم يجب عليهم القيام وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها ويفر بدينه ، صحيح مسلم (12/299) ولاشك أن الخروج إنما يكون من الأرض التى هم فيها وهى مازالت تحت حكم الكافر. وإن كان المتأمل لتاريخ المسلمين قديماً وحديثاً يرى أن حصول القدرة على القتال مرتبط إرتباطاً وثيقاً بوجود أرض تأوى المسلمين كما حدث فى أفغانستان وغيرها ، فلهذا والله أعلم نرى أن اشتراط الأرض إنما هو الأغلب ضمن شرط القدرة وليس شرطاً مستقلاً .
قال النووى فى شروط اعتبار الخارجين على الإمام أهل بغى:
الخصلة الثانية : أن يكون لهم شوكة وعدد وشرط جماعةمن الأصحاب فى الشوكة أن ينفردوا ببلدة أو قرية أو موضع فى الصحراء ، والأصح الذى قاله المحققون أنه لايعتبر ذلك وإنما يعتبر استعصاؤهم وخروجهم عن قبضة الإمام حتى لو تمكنوا من المقاومة وهم محفوفون بجند الإسلام حصلت الشوكة .أهـ.(روضة الطالبين 10/52) .
أصناف من يقاتلون وأحكام قتالهم ؟
أولاً: الكفار وهم أنواع :(/10)
النوع الأول: اليهود والنصارى والمجوس: وهؤلاء يجب قتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون لقوله :تعالي { قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولاباليوم الآخر ولايحرمون ما حرم الله ورسوله ولايدينون دين الحق من الذين أوتو الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } ]التوبة29[ صاغرون أى أذلاء . وقال النبى صلي الله عليه وسلم فى المجوس " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " ، وقد روى البخارى " أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر" .
قال ابن قدامة فى المغنى (8/362) ولانعلم خلافاً بين أهل العلم فى هذين القسمين يعنى أهل الكتاب والمجوس فى قبول الجزية منهم وإقرارهم على دينهم .
النوع الثانى: من غير أهل الكتاب والمجوس مثل عبدة الأوثان ومن عبد من استحسن: فهؤلاء لاتقبل منهم الجزية عند الشافعى وأحمد فى ظاهر الرواية ، بل لايقبل منهم إلا الإسلام أو القتل ، وعند أبى حنيفة تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب وهو رواية عن أحمد ، وعند مالك تقبل من جميع الكفار (راجع المغنى 8/263 –مختصر خليل 117 وشرحه وحاشية الدسوقى – ورضة الطالبين 10/305 –بدائع الصنائع 8/110-111) .
قال ابن القيم رحمه الله فى الزاد (2/80) فلما نزلت آية الجزية أخذها صلي الله عليه وسلم من ثلاث طوائف من المجوس واليهود والنصارى ، ولم يأخذها من عباد الأصنام فقيل لايجوز أخذها من كافر غير هؤلاء ومن دان بدينهم اقتداء بأخذه وتركه وقيل بل تؤخذ من أهل الكتاب وغيرهم من الكفار كعبدة الأصنام من العجم دون العرب
والأول : قول الشافعى رحمه الله وأحمد فى إحدى روايتيه .
والثانى : قول أبى حنيفة رحمه الله وأحمد فى الرواية الأخرى وأصحاب القول الثانى يقولون إنما لم يأخذها من مشركى العرب لأنها إنما نزل فرضها بعد أن أسلمت دار العرب ولم يبق فيها مشرك فإنها نزلت بعد فتح مكة ودخول العرب فى دين الله أفواجاً فلم يبق بأرض العرب مشرك ولهذا غزا بعد الفتح تبوك وكانوا نصارى ، ولو كان بأرض العرب مشركون لكانوا يلونه وكانوا أولى بالغزو من الأبعدين ومن تأمل السير وأيام الإسلام علم أن الأمر كذلك فلم تؤخذ منهم الجزية لعدم من يؤخذ منه لا لأنهم ليسوا من أهلها ، قالوا وقد أخذها من المجوس وليس بأهل كتاب ولايصح أنه كان لهم كتاب ورفع وهو حديث لايثبت مثله ولايصح سنده ولافرق بين عباد النار وعباد الأصنام ، بل عباد الأوثان أقرب حالاً من عباد النار وكان فيهم من التمسك بدين إبراهيم مالم يكن فى عباد النار أعداء إبراهيم الخليل فإذا أخذت منهم الجزية فأخذها من عباد الأصنام أولى وعلى ذلك تدل سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم كما ثبت عنه فى صحيح مسلم أنه قال " إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث فأيهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ثم أمره أن يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو يقاتلهم " .أهـ.
والذى فىصحيح مسلم أنه يدعوهم إلى الإسلام والهجرة أو الإسلام مع البقاء فى بلادهم ويكونون كأعراب المسلمين يجرى عليهم حكم الله ولايكون لهم فى الفئ نصيب إلا أن يقاتلوا مع المسلمين أو الجزية فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم (صحيح مسلم _ شرح النووى) ، فيظهر من هذا أن القول الراجح قبول الجزية من جميع كفار العالم اليوم خاصة أنه لايوجد الآن مشركو عرب بل من كان منهم كافراً فهو مرتد أو أهل الكتاب .
النوع الثالث: المرتدون: وهؤلاء لا يقرون على الجزية بالإجماع بل لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل ، والخلاف فى المرأة المرتدة هل تقتل أم تحبس حتى تسلم أو تسترق ، وقتلها قول الجمهور لقول النبى صلي الله عليه وسلم " من بدل دينه فاقتلوه " متفق عليه . قال ابن حجر فى الفتح(12/72) وقتل أبو بكر فى خلافته امرأة ارتدت والصحابة متوافرون فلم ينكر أحد عليه وقد أخرج ذلك كله ابن المنذر وأخرج الدارقطنى أثر أبى بكر من وجه حسن وأخرج مثله مرفوعاً فى قتل المرتدة لكن سنده ضعيف وقد وقع فى حديث معاذ أن النبى صلي الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له " أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه ، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها " وسنده حسن ، وهو نص فى موطن النزاع فيجب المصير إليه .أهـ.
والقول بالإسترقاق منقول عن على - رضي الله عنه - فإنه استرق من سبى بنى خليفة أم ولده محمد المعروف بابن الخليفة قال الخطابى: ثم لم ينقض عهد الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لايسبى .
أما المرتد فلا خلاف فى وجوب قتله ، والخلاف فى استتابته والراجح عند الجمهور وجوبها وعند البعض استحبابها ، وإليه مال البخارى (راجع فتح البارى 12/267 - روضةالطالبين 10/75 - بدائع الصنائع 4/301 - حاشية الدسوقى على الشرح الكبير 4/301 - المغنى 8/125) .(/11)
فائدة: قتل المرتد للإمام ويعزر من قتله بغير إذن لافتئاته على الإمام ولا ضمان عليه ولا كفارة هذا ما لم يقاتل فإذا قاتل قتله كل من قدر عليه ( أفاده فى مغنى المحتاج 4/140).
هذه الأنواع الثلاثة يلزم قتالهم باتفاق العلماء ، وأما الواحد المقدور عليه من الطوائف الثلاثة فقد بينا حكم المرتد والمرتدة ، وأما الكفار الأصليون فالرجال الأحرار البالغون يخير فيهم الإمام أو أمير الجيش تخيير مصلحة ويفعل الأحظ لأهل الإسلام من قتل أو من فداء بأسرى مسلمين أو مال أو استرقاق فإن خفى الأحظ حبسهم حتى يظهر وقيل لا يسترق وثنى وكذا عربى وهذا مرجوح ولو أسلم أسير عصم دمه وبقى الخيار فى الباقى أفاده النووى فى الروضة . وهذا فى المقاتلين أما الرهبان والأجراء والشيوخ والعميان والزمنى الذين لا يقاتلون ولا رأى لهم فقولان للعلماء : الجمهور على عدم جواز قتلهم وهو قول مالك وأحمد وأصحاب الرأى والشافعى فى أحد قوليه ، وقال فى الآخر يجوز قتلهم (راجع المغنى 8/477- مغنى المحتاج 4/223- بدائع الصنائع 7/103) فأما إذا كان لهم رأى أوقاتلوا جاز قتلهم باتفاق العلماء أما النساء والصبيان فلا يقتلون لحديث ابن عمر - رضي الله عنهم - " أن النبى صلي الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان " متفق عليه .
والعبيد كالنساء والصبيان عن الجمهور . ومن قاتل من هؤلاء جميعاً قتل بلا خلاف (المغنى 8/475-478) ، ويصبح النساء والصبيان والعبيد رقيقاً بمجرد الأسر (المنهاج للنووى بشرح مغنى المحتاج 4/227-المغنى 8/379).
قال النووى: ويجوز حصار الكفار فى البلاد والقلاع وإرسال الماء عليهم ورميهم بنار ومنجنيق وتبييتهم فى غفلة فإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر جاز ذلك على المذهب ول التحم حرب فتترسوا بنساء وصبيان جاز رميهم وإن دفعوا بهم عن أنفسهم ولم تدع ضرورة إلى رميهم فالأظهر تركهم وإن تترسوا بمسلمين فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم تركناهم وإلا جاز رميهم فى الأصح ، وذكر ابن قدامة فى المغنى نحو ذلك (8/448-454).
فإن سأل السارى تخليتهم على إطاء الجزية فقد قال ابن قدامة: لم يجز ذلك فى نسائهم وذراريهم لأنهم صاروا غنيمة كالسبى ، وأما الرجال فيجوز ذلك فيهم ولايزال التخيير الثابت فيهم ، وقال أصحاب الشافعى يحرم قتلهم كما لو أسلموا ولنا أنه بدل لاتلزم الإجابة إليه فلم يحرم قتلهم كبدل عبدة الأوثان (8/375) ورجح فى مغنى المحتاج عدم الوجوب وبقاء التخيير.
تناولنا فى الفصل السابق أصناف من يقاتلون من الكفار وصفة قتالهم ،ونتناول فى هذا الفصل بيان أصناف من يقاتلون من المنتسبين للإسلام ،ولاشك فى خطورة هذه المسألة ، فإن أمر الدماء وحرمتها من أعظم الأمور
كما قال النبى صلي الله عليه وسلم : " لايزال المسلم فى فسحة من دينه مالم يصب دماً حراماً " رواه البخارى .
وغلظ النبى صلي الله عليه وسلم على أسامة قتله الرجل بعد نطق الشهادة فقال صلي الله عليه وسلم : " أقتلته بعد أن قال لاإله إلا الله ، فكيف تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة " متفق عليه .
وفى الصحيح قول النبى صلي الله عليه وسلم : " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة فى الدماء " ، فوجب على المسلمين أن يحترزوا أعظم التحرز قبل أن يقدموا على قتال أو قتل من ثبت له حكم الإسلام إلا ببينة أوضح من شمس النهار ، وفى نفس الوقت يلزما ان يقاتلوا من أمر الشرع بقتاله حفظاً لرأسمال الإسلام حتى قال ابن هبيرة فيما نقله .
ابن حجر فى الفتح (12/301) : (( إن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين والحكمة فيه أن قتالهم حفظ لرأسمال الإسلام ، وفى قتال أهل الشرك طلب الربح وحفظ رأس المال أولى)) ، ومقصوده قتال المشركين قتال الطلب الذى هو فرض كفاية ، أما الدفع فهو حفظ لرأسمال الإسلام أيضاً ، بل هو أعظم بلاشك إذ فى تركه تبديل الملة وفى ترك قتال من لزم قتاله من المسلمين تأويلها إلا أن القتال على التأويل الفاسد المذموم يمنع الإنحراف المهلك الذى سار فى طريقة اليهود والنصارى حتى صاروا إلى الكفر .
أصناف من يقاتلون من المنتسبين إلى الإسلام
وردت أدلة الكتاب والسنة والإجماع بالأمر بقتال عدة طوائف من أهل القبلة ، وهم أهل البغى وقطاع الطرق ومن أبى قبول الفرائض والتزامها وامتنع عن شريعة من شرائع الإسلام ، وإن لم يخرج عن الدين كمانعى الزكاة .
الطائفة الأولى : البغاة :
الأصل فى قتالهم قوله - سبحانه وتعالى - : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله ، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين ، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } ]الحجرات9-10[.
قال ابن قدامة فى المغنى (8/104): وفى هذه الآية خمس فوائد :
أحدها : أنهم لم يخرجوا بالبغى عن الإيمان ، فإنه سماهم مؤمنين .(/12)
الثانية : أنه أوجب قتالهم . الثالثة : انه أسقط قتالهم إذا فاءوا إلى أمر الله .
الرابعة : أنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه فى قتالهم .
الخامسة : أن الآية أفادت جواز قتال كل من منع حقاً عليه .
وقال : الخارجون عن قبضة الإمام أصناف أربعة :
أحدها : قوم امتنعوا وخرجوا عن طاعته وخرجوا عن قبضته بغير تأويل ، فهؤلاء قطاع طرق ساعون فى الأرض بالفساد يأتى حكمهم فى باب منفرد.
الثانى : قوم لهم تأويل إلا أنهم نفر يسير لامنعة لهم كالواحد والإثنين والعشرة ونحوهم ، فهؤلاء قطاع طريق فى قول أكثر أصحابنا وهو مذهب الشافعى ، لأن ابن ملجم لما جرح علياً قال للحسن : إن برئت رأيت رأيى، وإن مت فلا تمثلوا به .
فلم يثبت لفعله حكم البغاة قال : وقال أبو بكر : لافرق بين الكثير والقليل وحكمهم حكم البغاة .
الثالث : الخوارج : الذين يكفرون بالذنب ويكفرون عثمان وعلياً وطلحة والزبير وكثيراً من الصحابة ، ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم فظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة حكمهم حكمهم ، وهذا قول أبى حنيفة والشافعى وجمهور الفقهاء وكثير من أهل الحديث ، ومالك يرى استتابتهم ، فإن تابوا وإلا قتلوا على إفسادهم لاعلى كفرهم ، وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون حكمهم حكم المرتدين وتباح دماؤهم وأموالهم ، فإن تحيزوا فى مكان وكانت لهم منعة وشوكة صاروا أهل حرب كسائر الكفار ، وإن كانوا فى قبضة الإمام استتابهم كاستتابة المرتدين ، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم وكانت أموالهم فيئاً لايرثهم ورثتهم المسلمون .
قال ابن المنذر : لا أعلم أحداً وافق أهل الحديث على تكفيرهم وجعلهم كالمرتدين .
والرابع : قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام ويرومون خلعه لتأويل سائغ ، وفيهم منعة يحتاج فى كفهم إلى جمع الجيوش فهؤلاء البغاة .أهـ. مختصراً .
قال النووى فى روضة الطالبين : (10/50): الذين يخالفون الإمام بالخروج عليه وترك الإنقياد والإمتناع من أداء الحقوق ينقسمون إلى بغاة وغيرهم ، أما البغاة فتعتبر فيهم خصلتان :-
إحداهما: أن يكون لهم تأويل يعتقدون بسببه جواز الخروج على الإمام أو منع الحق المتوجه عليهم فلو خرج قوم عن الطاعة ومنعوا الحق بلا تأويل سواء كان حداً أو قصاصاً أو مالاً لله - سبحانه وتعالى - أو للآدميين عناداً أو مكابرة ولم يتعلقوا بتأويل فليس لهم أحكام البغاة ، وكذا المرتدون ثم التأويل للبغاة إن كان بطلانه مظنوناً فهو معتبر ، وإن كان بطلانه مقطوعاً به فوجهان أوفقهما لإطلاق الأكثرين أنه لايعتبر كتأويل المرتدين . والثانى يعتبر ويكفى تعطيلهم فيه ، وقد يغلط الإنسان فى القطعيات .
الثانية : أن يكون لهم شوكة وعدد بحيث يحتاج الإمام فى ردهم إلى الطاعة إلى كلفة ببذل مال أو إعداد رجال ونصب قتال فإن كانوا أفراداً يسهل ضبطهم فليسوا بغاة ، وشرط جماعة من الأصحاب فى الشوكة أن ينفردوا ببلدة أو قرية أو موضع من الصحراء ، والأصح الذى قاله المحققون أنه لايعتبر ذلك وإنما يعتبر استعصاؤهم وخروجهم عن قبضة الإمام حتى لو تمكنوا من المقاومة وهم محفوفون بجند الإسلام حصلت الشوكة .
قال الإمام : يجب القطع بأن الشوكة لاتحصل إذا لم يكن لهم متبوع مطاع إذ لاقوة لمن لايجمع كلمتهم مطاع .
وهل يشترط أن يكون فيهم إمام منصوب لهم أو منتصب ؟ وجهان ويقال قولان أصحهما عند الأكثرين لايشترط .أهـ. مختصراً .
قال الشيخ خليل ابن اسحاق المالكى فى مختصره : الباغية فرقة خالفت الإمام لمنع حق أو لخلعه فللعدل قتالهم وإن تابوا .
قال أحمد الدردير فى الشرح الكبير لمختصر خليل: البغى لغةً هو التعدى ، وشرعاً: قال ابن عرفة هو الإمتناع من طاعة من ثبتت إمامته فى غير معصية بمغالبة ولو تأولاً .أهـ. وقوله فى غير معصية متعلق بطاعة ، ومقتضاه أن من امتنع عن طاعته فى مكروه يكون باغياً ، وقيل لاتجب طاعته فى المكروه فالممتنع لايكون باغياً وهو الأظهر لأنه من الإحداث فى الدين ماليس منه فهو رد فإذا أمر الناس بصلاة ركعتين بعد أداء فرض الصبح لم يتبع .
قال : (الباغية فرقة) أى طائفة من المسلمين خالفت الإمام الذى ثبتت إمامته باتفاق الناس عليه ، ويزيد بن معاوية : لم تثبت إمامته لأن أهل الحجاز لم يسلموا له الإمامة لظلمه ونائب الإمام مثله (لمنع حق) لله أو لآدمى وجب عليها كزكاة وكأداء ماعليهم مما جبوة لبيت مال المسلمين كخراج الأرض (أو لخلعه) أى وخالفته لإرادتها خلعه أى عزله لحرمة ذلك عليهم وإن جار إذ لايعزل السلطان بالظلم والفسق وتعطيل الحقوق بعد انعقاد إمامته ، وإنما يجب وعظه (فللعدل قتالهم وإن تابوا) الخروج عليه لشبهة قامت عندهم ، ويجب على الناس معاونته عليهم ، وأما غير العدل فلاتجب معاونته .(/13)
قال مالك - رضي الله عنه - : دعه ومايراد منه ينتقم الله من الظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما كما أنه لايجوز له قتالهم لإحتمال أن يكون خروجهم عليه لفسقة وجوره وإن كان لايجوز لهم الخروج عليه .
يتضح مما سبق أن المتفق عليه من صفة أهل البغى أنهم طائفة من أهل الحق لهم منعة وشوكة يخرجون على الإمام لتأويل سائغ أخطأوا فيه ، وهؤلاء كأهل الجمل وصفين الذين خرجوا على على - رضي الله عنه - لظنهم أنه يعلم قتلة عثمان ولايقتص منهم ، فإن كانوا بلاشوكة ولامنعة وخرجوا عن الإمام فحكمهم حكم قطاع الطريق عند الجمهور فى ضمان ماأتلفوه وعدم سقوط تبعة قتالهم ، وإن كانوا خرجوا بلا تأويل ، بل عناداّ وامتناعاً عن الحق فهم محاربون ساعون فى الأرض فساداً ، وكذا إذا كان التأويل غير معتبر على الصحيح فإذا كان الإمام عدلاً جاز له قتالهم ووجبت معاونته ، أما إذا لم يكن عدلاً بل فاسقاً فلا يجوز له قتالهم حتى يتوب ويقاتل بعد ذلك ، ولايعان حال ظلمه كما قال الإمام مالك .
صفة قتالهم وأحكامهم
قال النووى فى المنهاج : ولايقاتل البغاة حتى يبعث إليهم أميناً فطناً ناصحاً يسألهم ما ينقمون ، فإن ذكروا مظلمة أو شبهة أزالها ، فإن أصروا نصحهم ثم آذنهم بالقتال ، فإن استمهلوا اجتهد وفعل ما رآه صواباً ولايقتل مدبرهم ولامثخنهم وأسيرهم ولايطلق وإن كان صبياً أو امرأة حتى تنقضى الحرب ويتفرق جمعهم إلا أن يطيع باختياره ويرد سلاحهم وخيلهم إليهم إذا انقضت الحرب وأمنت غائلتهم ولايستعمل فى قتال إلا لضرورة ولايقاتلون بعظيم كنار ومنجنيق إلا لضرورة كأن قاتلوا به أو أحاطوا بنا ولايستعان عليهم بكافر ولا بمن يرى قتلهم مدبرين . 4/128.
قال ابن قدامة فى المغنى (8/114): أهل البغى إذا تركوا القتال إما بالرجوع إلى الطاعة ، وإما بإلقاء السلاح ، وإما بالهزيمة إلى فئة أو إلى غير
فئة ، وإما بالعجز لجراح أو مرض أو أسر فإنه يحرم قتلهم واتباع مدبرهم ، وبهذا قال الشافعى .
وقال أبو حنيفة : إذا هزموا ولافئة لهم كقولنا (أى لايجوز قتلهم) وإن كانت لهم فئة يلجئون إليها جاز قتل مدبرهم وأسيرهم ، والإجازة على جريحهم ، وإن لم يكن لهم فئة لم يقتلوا لكن يضربون ضرباً وجيعاً ويحبسون حتى يقلعوا عما هم عليه ويحدثوا توبة . ذكروا هذا فى الخوارج .
ويروى عن ابن عباس - رضي الله عنه - نحو هذا واختاره بعض أصحاب الشافعى لأنه متى لم يقتلهم اجتمعوا ثم عادوا للمحاربة ، ولنا ماروى عن على - رضي الله عنه - عنه أنه قال يوم الجمل لايذفف على جريح ، ولايهتك سترولايفتح باب ، ومن أغلق باباً أو بابه فهو آمن ولا يتبع مدبر (1) ، فإن قتل إنسان من مُنِعَ من قتله ضمنه لأنه قتل معصوماً لم يؤمر بقتله ، وفى القصاص وجهان . وأما أسيرهم فإن دخل فى الطاعة خلى سبيله ، وإن أبى ذلك وكان رجلاً جلداً من أهل القتال حبس ما دامت الحرب قائمة ، فإذا انقضت الحرب خلى سبيله وشُرط عليه أن لا يعود إلى القتال ، وإن لم يكن الأسير من أهل القتال كالنساء والصبيان والشيوخ الفانين خلى سبيلهم ولم يحبسوا فى أحد الوجهين . وإن قتل أهل البغى أسارى أهل العدل لم يجز لأهل العدل قتل أسراهم لأنهم لا يقتلون بجناية غيرهم . فأما غنيمة أموالهم وسبى ذريتهم فلا نعلم فى تحريمه بين أهل العلم خلافاً .أهـ. باختصار .
قال الدسوقى فى حاشية الشرح الكبير (4/299): يمتاز قتال البغاة عن قتال الكفار بأحد عشر وجهاً : أن يقصد بالقتال ردعهم لاقتلهم ، وأن يكف عن مدبرهم ولايجهز على جريحهم ولاتقتل أسراهم ولاتغنم أموالهم ولا تسبى ذراريهم ولايستعان عليهم بمشرك ولايوادعهم على مال ولاتنصب عليهم الرعادات ولاتحرق مساكنهم ولايقطع شجرهم .
قال الكاسانى الحنفى فى بدائع الصنائع (4/140): الإمام إذا قاتل أهل البغى فهزمهم وولوا مدبرين فإن كانت لهم فئة ينحازون إليها فينبغى لأهل العدل أن يقتلوا مدبرهم ويجهزوا على جريحهم لئلا يتحيزوا إلى الفئة فيمتنعوا بها فيكروا على أهل العدل ، وأما أسيرهم فإن شاء الإمام قتله استئصالاً لشأفتهم ، وإن شاء حبسه لاندفاع شره بالأسر والحبس وإن لم يكن فئة يتحيزون إليها لم يتبع مدبرهم ولم يجهز على جريحهم ولم يقتل أسيرهم لوقوع الأمن عن شرهم عند انعدام الفئة .أهـ.(/14)
مما سبق يتضح أن أهل البغى يقاتلون لدفع شرهم بعد إزالة شبهتهم ودعوتهم إلى الرجوع إلى الحق لقوله - سبحانه وتعالى - : { فأصلحوا بينهما } ، فلا يبدءون بالقتال قبل الإصلاح ، فإذا قوتلوا لايتبع مدبر ولا يجهز على جريح ولايقتل أسير عند عدم وجود فئة لهم باتفاق عامة العلماء ، وعند وجود فئة لهم كذلك عند الجمهور خلافاً للحنفية . وأما الأموال والنساء والذرارى فتحريمها باق بلا خلاف بين العلماء لأنهم مسلمون ، وأما نفوذ أحكامهم وقبول شهادتهم فالذى عليه الجمهور قبول شهادتهم وأنه ينفذ من أحكامهم ماينفذ من أحكام قاضى أهل العدل وينقضى منها ما ينقضى من حكمه من حدود أقاموها وزكاة جمعوها وغيرها (روضة الطالبين 10/53-المغنى 8/119-حاشية الدسوقى على الشرح الكبير 4/300). خلافاً للحنفية الذين يرون عدم إنفاذ أحكامهم إلا فى بعض الصور (بدائع الصنائع 7/142) ، والجمهور على أنهم لايضمنون نفساً ولامالاً مما أتلفوه حال القتال ولايجب عليهم بعد توبتهم أو هزيمتهم قصاص ولا دية
لقول الزهرى : كانت الفتنة العظمى بين الناس وفيهم البدريون فأجمعوا على أنه لايقام حد على رجل ارتكب فرجاً حراماً بتأويل القرآن ولايغرم مالاً أتلفه بتأويل القرآن . (المغنى 8/113-مغن المحتاج 4/124) ، وذهب البعض لتضمينهم وهو أحد الوجهين عند الشافعية ورجحه الشوكانى فى السيل الجرار (4/559) .
الخوارج ومانعى الزكاة هل هم أهل بغى ؟
أطلق كثير من العلماء من أتباع المذاهب الأربعة وغيرهم أن مانعى الزكاة والخوارج أهل بغى ، قال الخطابى : مما يجب تقديمه فى هذا أن يُعلم أن أهل الردة كانوا صنفين :
الأول :صنف ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر: وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله : وكفر من كفر من العرب .
والصنف الآخر : هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام : وهؤلاء على الحقيقة أهل بغى وإنما لم يدعوا بهذا الإسم فى ذلك الزمان خصوصاً لدخولهم فى غمار أهل الردة فأضيف الإسم فى الجملة إلى الردة إذ كانت أعظم الأمرين وأهمهما وأرخ قتال أهل البغى فى زمن على بن أبى طالب - رضي الله عنه - إذ كانوا منفردين فى زمانه لم يختلطوا بأهل الشرك .إلى أن قال : فإن قيل كيف تأولت أمر الطائفة التى منعت الزكاة على الوجه الذى ذهبت إليه وجعلتهم أهل بغى ؟ وهل إذا أنكرت طائفة من المسلمين فى زماننا فرض الزكاة وامتنعوا عن أدائها يكون حكمهم حكم أهل البغى ، قلنا لا فإن من أنكر فرض الزكاة فى هذه الأزمان كان كافراً بإجماع المسلمين ، والفرق بين هؤلاء وأولئك أنهم عذروا لأسباب وأمور لايحدث مثلها فى هذا الزمان منها قرب العهد بزمان الشريعة الذى كان يقع معه تبديل الأحكام ومنها أن القوم كانوا جهالاً بأمور الدين ، وكان عهدهم بالإسلام قريباً فدخلتهم الشبهة فعذروا ، فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام واستفاض فى المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام واشترك فيها العالم والجاهل فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله فى إنكارها ،وكذا الأمر فى كل من أنكر شيئاً مما أجمعت عليه الأمة من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان والإغتسال من الجنابة وتحريم الزنا والخمر ونكاح ذوات المحارم ونحوها من الأحكام إلا أن يكون رجلاً حديث عهد بالإسلام ولايعرف حدوده ، فإنه إذا أنكر شيئاً منها جهلاً به لم يكفر وكان سبيله أولئك القوم فى بقاء إسم الدين عليه ، فأما ماكان الإجماع فيه معلوماً من طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها ، وأن القاتل عمداً لايرث ، وأن للجدة السدس ، وما أشبه ذلك من الأحكام فإن من أنكرها لايكفر بل يعذر لعدم استفاضة علمها فى العامة .أهـ. من شرح مسلم للنووى (1/173) .
يتضح من هذا الكلام النفيس أن التأويل المقطوع ببطلانه ولكنه لايخالف المعلوم من الدين بالضرورة وانتشر علمه فى العامة يمنع من التكفير لكن لايمنع من القتال ، والذى يختاره الخطابى أن التأويل الباطل يعتبر فى إعطاء حكم البغاة لأصحابه ، وقد سبق كلام النووى (أنظر صفحة 15) ومثله كلام ابن قدامة إذ قال فى المغنى (8/107) والصحيح إن شاء الله أن الخوارج يجوز قتلهم ابتداءاً والإجازة على جريحهم ،والذى يظهر من صنيع الإمام البخارى رحمه الله التفرقة بين أهل البغى وبين مانعى الزكاة والخوارج إذ بوّب قتال مانعى الزكاة والخوارج فى كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم لافى أبواب قتال أهل البغى فقال : باب قتال من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة . وقد سبق بيان معنى الردة فى حقهم وكلام الخطابى وأنها عن بعض الدين لاعن أصل الدين .
وبوب لقتال الخوارج فقال باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم .(/15)
قال ابن حجر رحمه الله فى فتح البارى (12/280): والذين تمسكوا بأصل الإسلام ومنعوا الزكاة بالشبهة التى ذكروها لم يحكم عليهم بالكفر قبل إقامة الحجة وقد اختلف الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم هل تغنم أموالهم وتسبى ذراريهم كالكفار أو كالبغاة ؟ فرأى أبو بكر الأول وعمل به وناظره عمر فى ذلك وذهب إلى الثانى ووافقه غيره فى خلافته على ذلك واستقر الإجماع عليه فى حق من جحد شيئاً من الفرائض بشبهة فيطالب بالرجوع فإن نصب القتال قوتل وأقيمت عليه الحجة فإن رجع وإلا عومل معاملة الكافر حينئذ ويقال أن أصبغ من المالكية استقر على القول الأول فعُد من ندرة المخالف .
قال النووى : الخوارج صنف من المبتدعة يعتقدون أن من فعل كبيرة كفر وخلد فى النار .
قال الشافعى : وجماهير الأصحاب - رضي الله عنهم - لو أظهر قوم رأى الخوارج وتجنبوا الجماعات وكفروا الإمام ومن معه فإن لم يقاتلوا وكانوا فىقبضة الإمام لم يقتلوا ولم يقاتلوا ثم إن صرحوا بسب الإمام أو غيره من أهل العدل عزروا وإن عرضوا ففى تعزيزهم وجهان أصحهما لايعزرون ولو بعث الإمام إليهم والياً فقتلوه فعليهم القصاص وهل يتحتم قتل قاتله كقاطع الطريق لأنه شهر سلاح أم لا لأنه لم يقصد إخافة الطريق وجهان أصحهما لايتحتم .
وأطلق البغوى أنهم إن قاتلوا فهم فسقة وأصحاب بهت فحكمهم حكم قطاع الطريق .
وحكى الإمام فى تكفير الخوارج وجهين .
قال : فإن لم نكفرهم فلهم حكم المرتدين ، وقيل حكم البغاة ، فإن قلنا كالمرتدين لم تنفذ أحكامهم . روضة الطالبين (10/52) . وقال أيضاً فى المنهاج : ولو أظهر قوم رأى الخوارج كترك الجماعات وتكفير ذى الكبيرة ولم يقاتلوا تركوا وإلا فقطاع طريق .
قال الشربينى فى مغنى المحتاج : أى فحكمهم إن لم نكفرهم وهو الأصح كحكم قطاع طريق ، فإن قتلوا أحداً ممن يكافئهم اقتص منهم كغيرهم لاأنهم قطاع طريق فلا يتحتم قتلهم .
قال محمد بن عبد الله بن حسين فى زوائد زاد المستقنع : الخوارج الذين يكفرون بالذنوب ويستحلون دماء المسلمين فظاهر قول المتأخرين من أصحابنا أنهم بغتة حكمهم حكمهم وذهب أحمد فى إحدى الروايتين عنه وطائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون حكمهم حكم المرتدين ، قال فى الترغيب والرعايتين وهى أشهر وذكر ابن حامد أنه لاخلاف فيه ،
وقال الشيخ (يعنى ابن تيمية) أجمعوا أن كل طائفة ممتنعة من شريعة متواترة من شرائع الإسلام يجب قتالها ليكون الدين كله لله كالمحاربين وأولى وقال فى الرافضة شر من الخوارج قال وفى قتل واحد منهما ونحوها وكفره روايتان والصحيح جواز قتله كالداعية ونحوه (2/997) زوائد زاد المستقنع
وقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية أن قتال الخوارج ومانعى الزكاة والطوائف الممتنعة من الشريعة قسم ثالث فقال : إن الأئمة متفقون على دم الخوارج وتضليلهم وإنما تنازعوا فى تكفيرهم على قولين مشهورين فى مذهب مالك وأحمد وفى مذهب الشافعى أيضاً نزاع فى كفرهم ، ولهذا كان فيهم وجهان فى مذهب أحمد وغيره على
الطريقة الأولى : أنهم بغاة .
و الطريقة الثانية : أنهم كفار كالمرتدين ويجوز قتلهم ابتداء وقتل أسيرهم واتباع مدبرهم ومن قدر عليه منهم استتيب كالمرتد فإن تاب وإلا قتل كما أن مذهبه فى مانعى الزكاة إذا قاتلوا الإمام عليها هل يكفرون مع الإقرار بوجوبها على روايتين وهذا كله مما يبين أن قتال الصديق لمانعى الزكاة وقتال على للخوارج ليس مثل القتال يوم الجمل وصفين فكلام على وغيره فى الخوارج يقتضى أنهم ليسوا كفاراً كالمرتدين عن أصل الإسلام وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره ، وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفين، بل هم نوع ثالث وهذا أصح الأقوال فيهم .الفتاوى (28/518). وقال أيضاً (28/551): وهؤلاء إذا كان لهم طائفة ممتنعة فلاريب أنه يجوز قتل أسيرهم واتباع مدبرهم والإجهاز على جريحهم ، وقال (28/589): كل ماأخذ من التتار يخمس ويباح الإنتفاع به .(/16)
وقال (229): فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج كالحرورية والرافضة ونحوهم فهذا فيه قولان للفقهاء هما روايتان عن الإمام أحمد ، والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم كالداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد فإن النبى صلي الله عليه وسلم قال " أينما لقيتموهم فاقتلوهم " وقال صلي الله عليه وسلم " لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد " ، وقال عمر - رضي الله عنه - لصبيغ بن عسل: لو وجدتك محلوقاً لضربت الذى فيه عيناك ، ولأن على بن أبى طالب - رضي الله عنه - طلب أن يقتل عبد الله بن سبأ أول الرافضة حتى هرب منه ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين فى الأرض ، فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلوا ، ولايجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول أو كان فى قتله مفسدة راجحة ، ولهذا ترك النبى صلي الله عليه وسلم قتل ذلك الخارجى ابتداء لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام ، ولهذا ترك على قتلهم أول ماظهروا لأنهم كانوا خلقاً كثيراً وكانوا داخلين فى الطاعة والجماعة ظاهراً لم يحاربوا الجماعة ولم يكن تبين له أنهم هم ، وأما تكفيرهم وتخليدهم فيه أيضاً للعلماء قولان مشهوران وهما روايتان عن أحمد ، والقولان فى الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم ، والصحيح أن هذه الأقوال التى يقولونها التى يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم كفر وكذلك أفعالهم التى هى من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هى كفر أيضاً وقد ذكرت دلائل ذلك فى غير هذا الموضع لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده فى النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه ، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ، ولانحكم للمعين بدخوله فى ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذى لامعارض له .أهـ.
وقد نقل ابن كثير فى البداية والنهاية روايتين عن على - رضي الله عنه - فى أموال الخوارج وأسند أنه لم يخمس أموالهم ولم يقسمها وأمر بتفريق من لم يقتل منهم فى قبائلهم ، وهذا يدل على أنه لم يكن يكفرهم بأعيانهم ولم ينقل عنه قط أنه سبى النساء والذرارى ويمكن حمل الأحاديث التى وردت فى مروقهم من الدين وأنهم كلاب النار وهى متواترة فى ذمهم على من كان منافقاً كافراً فى الباطن كما قال ابن تيمية رحمه الله فى كتاب الإيمان (وكذلك سائر الثنتين وسبعين فرقة من كان منهم منافقاً فهو كافر فى الباطن ومن لم يكن منافقاً بل كان مؤمناً بالله ورسوله فى الباطن وإن أخطأ التأويل كائناً ما كان خطؤه وقد يكون فيه شعبة من النفاق ولايكون فيه النفاق والذى يكون صاحبه فى الدرك الأسفل من النار .أهـ.
مما سبق يتضح أنه :-
1- اختلف العلماء فى تكفير الخوارج ومانعى الزكاة الذين يقاتلون على منعها على قولين الراجح منها وهو قول جماهير العلماء عدم التكفير بالعموم وهو المنقول عن على - رضي الله عنه - فى الخوارج .
2- أجمع العلماء على ذم الخوارج وتبديعهم ومثلهم مانعى الزكاة ومن أبى التزام الفرائض وحق الإسلام وأنهم ليسوا كمن خرج على الإمام بتأويل سائغ معتبر فلا يفسق بذلك عند جماهير العلماء ، وأجمعوا على أن الصحابة كلهم عدول ولايفسق أحد منهم ولو وصفوا بالفئة الباغية .
3- ومع ذلك يرى أكثر العلماء أن قتال الخوارج ومانعى الزكاة من جنس قتال البغاة فلا يغنم مال ولا تسبى لهم ذرية ولايذفف على جريح ولايقتل أسير ولايتبع مدبر والواحد المقدور عليه منهم لايجوز قتله ولايجب ابتداؤهم بالقتال إذا لم ينصبوا حرباً ولم يستعدوا لذلك (فتح البارى 12/298).
4- ويرى بعض العلماء أن قتال الخوارج ومانعى الزكاة قسم ثالث ليس كقتال المرتدين ولا كقتال البغاة فيجوز الإجازة على الجريح وقتل الأسير والواحد المقدور عليه مالم يكن فى قتله مفسدة راجحة وتقسم أموالهم كغنائم ويجب قتالهم ابتداء وهم من الذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون فى الأرض فساداً وهذا ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية . والخلاف فى هذه المسألة خلاف سائغ يجتهد فيه الإمام أومن يقوم مقامه فى الجهاد .
الطائفة الثانية: قتال المحاربين وقطاع الطريق :
الأصل فى ذلك قوله تعالي : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون فى الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } ]المائدة33-34[ .(/17)
روى الجماعة عن أنس أن ناساً من عكل قدموا على النبى صلي الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام فاستوخموا المدينة فأمر النبى صلي الله عليه وسلم بِذَوْدِ وراعِ ، وأمرهم أن يخرجوا فليشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحَرَّة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعى النبى صلي الله عليه وسلم واستاقوا الذود فبلغ ذلك النبى صلي الله عليه وسلم فبعث الطلب فى آثارهم فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وتركوا فى ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم .
قال الشوكانى فى السبيل الجرار (4/368): وكون سبب نزولها فى المشركين الذين أخذوا لقاح النبى صلي الله عليه وسلم لما شكوا إليه وباء المدينة لايدل على اختصاص هذا الحد بهم فإن الإعتبار بعموم اللفظ لابخصوص السبب .
قال القرطبى فى تفسير الآية: قال مالك المحارب عندنا من حمل على الناس فى مصر أو فى برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون ثائرة (هياج) ولاذحل (ثأر) ولاعداوة .
قال ابن المنذر اختلف عن مالك فى هذه المسألة فأثبت المحاربة فى المصر ونفى ذلك مرة ، وقالت طائفة حكم ذلك فى المصر أو فى المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة وهذا قول الشافعى وأبى ثور ، قال ابن المنذر: كذلك هو لأن كلاً يقع عليه اسم المحاربة والكتاب على العموم وليس لأحد أن يخرج من جمله الآية قوماً بغير حجة .أهـ.
قال النووى فى روضة الطالبين (10/154): تعتبر فيهم الشوكة والبعد عن الغوث وأن يكونوا مسلمين مكلفين فالكفار ليس لهم حكم قطاع الطريق .
قال ابن تيمية (الفتاوى 28/302): قطاع الطريق الذين يعترضون الناس بالسلاح فى الطرقات ونحوها ليغصبوهم المال مجاهرة . قال الله تعالي { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ،ويسعون فى الأرض فساداً أن يقتلوا ، أو يصلبوا ،أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ،أو ينفوا من الأرض } ]المائدة33[ وقد روى الشافعى رحمه الله فى مسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهم - فى قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض .
وهذا قول كثير من أهل العلم كالشافعى وأحمد وهو قريب من قول أبى حنيفة رحمه الله ومنهم من قال للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيساً مطاعاً فيهم ، ويقطع من رأى قطعه مصلحة وإن لم يأخذ المال مثل أن يكون ذا جلد وقوة فى أخذ المال ،كما أن منهم من يرى أنهم إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا، والأول قول الأكثر ، فمن كان من المحاربين قتل فإنه يقتله الإمام حداً لايجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء .
ذكره ابن المنذر ، ولايكون أمره إلى ورثة المقتول . وقال: إذا كان المحاربون الحرامية جماعة ، فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردء له فقد قيل يقتل المباشر فقط ، والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مئة ، وأن الردء والمباشر سواء وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين .والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض حتى صاروا ممتنعين فهم مشتركون فى الثواب والعقاب كالمجاهدين .
فأعوان الطائفة الممتنعة وأنصارها منها فيما لهم وعليهم ، وهكذا المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية كقيس ويمن ونحوها وهما ظالمتان كما قال النبى صلي الله عليه وسلم " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال إنه أراد قتل صاحبه " أخرجاه فى الصحيحين وتضمن كل طائفة ماأتلفته للأخرى من نفس ومال وإن لم يعرف عين القاتل ، لأن الطائفة الواحدة الممتنع بعضها كالشخص الواحد ، وفى ذلك قوله - سبحانه وتعالى - : { كتب عليكم القصاص فى القتلى } ]البقرة178[ .أهـ.بإختصار .
قال الشيخ خليل بن اسحق فى مختصره (331): المحارب قاطع الطريق لمنع سلوك أو آخذ مال مسلم أو غيره على وجه يتعذر معه الغوث وإن انفرد بمدينة كمسقى السيكران لذلك ومخادع الصبى أو غيره ليأخذ ما معه والداخل فى ليل أو نهار فى زقاق أو دار قَاتَل ليأخذ المال فيقاتل بعد المناشدة إن أمكن .
قال الدردير فى الشرح الكبير: على قوله (على وجه يتعذر معه الغوث) فإن كان من شأنه عدم تعذره فغير محارب بل غاصب ولو سلطاناً فيشمل مسألة سقى السيكران ومخادعة الصبى أو غيره ليأخذ ما معه وجبابرة أمراء مصر ونحوهم يسلبون أموال المسلمين ويمنعونهم أرزاقهم ويغيرون على بلادهم ولاتتيسر استغاثة منهم بعلماء ولاغيرهم .(/18)
قال الدسوقى فى حاشيته: وفى البدر القرافى أن من أخذ وظيفة أحد لاجنحة فيه بتقرير سلطان فهو محارب لأنه يتعذر معه الغوث منه مادام معه تقرير السلطان ، ثم ذكر تردداً فى كون الذين يأخذون المكوس محاربين بمنزلة قطاع الطرق أو غاصبين (1).وقال فى قوله جبابرة أمراء مصر ، فهم محاربون لا غصَّاب . وقال ايضاً: من خرج لإخافة السبيل قصداً للغلبة على الفروج فهو محارب أقبح ممن خرج إخافة السبيل لأخذ المال .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:فأما إذا طلبهم السلطان أو نوابه لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء حتى يقدر عليهم كلهم ومتى لم ينقادوا إلا بقتال يفضى إلى قتلهم جميعاً قوتلوا ، وإن أفضى إلى ذلك سواء كانوا قد قتلوا أو لم يقتلوا ويقتلون فى القتال كيفما أمكن ويقاتل من قاتل معهم ممن يحميهم ويعينهم فهذا قتال وذاك إقامة حد ، وقتال هؤلاء أوكد من قتال الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام ، فإن هؤلاء تحزبوا لفساد النفوس والأموال وهلاك الحرث والنسل ليس مقصودهم إقامة دين ولاملك لكن قتالهم ليس كقتال الكفار إذا لم يكونوا كفاراً ولاتؤخذ أموالهم إلا أن يكونوا أخذوا أموال الناس بغير حق ، فإن عليهم ضمانها فيؤخذ منهم بقدر ما أخذوا وإن لم نعلم عين الآخذ ، وإذا جرح الرجل منهم جرحاً مثخناً لم يجهز عليه حتى يموت إلا أن يكون وجب عليه القتل ، وإذا هرب وكفانا شره لم نتبعه إلا أن يكون عليه حد أو نخاف عاقبته ، ومن أُسِرَ منهم أقيم عليه الحد الذى يقام على غيره .
ومن الفقهاء من يشدد فيهم حتى يرى غنيمة أموالهم وتخميسها وأكثرهم يأبون ذلك ، فأما إذا تحيزوا إلى مملكة طائفة خارج عن شريعة الإسلام وأعانوهم على المسلمين قوتلوا كقتالهم .أهـ.
***********
****(/19)
الجواب عن الشبهات
د. عبد الحي يوسف*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
فإن طرح الشبهات وإيراد المشكلات دأب أهل الضلالة من قديم، يفعلون ذلك صداً عن سبيل الله واستجابة لداعي الهوى في نفوسهم التي جبلت على الإعجاب بالرأي وإيثار العاجلة على الباقية، وفي القرآن الكريم نماذج لبعض تلك الشبهات التي طرحها المشركون الأولون على الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كقولهم: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون)، وقولهم: (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)، وقولهم: (أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر)، وقولهم: (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، وجماع ذلك قول الله في القرآن: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)، قال أهل التفسير: نزلت الآية فيمن اعترضوا على تحريم الميتة بقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: ما قتله الله حرام وما قتلته بيدك حلال؟ وقوله سبحانه: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون)، وهم في هذا كله يدّعون أنهم أهل استقامة وسداد وأنهم يرومون الخير للناس: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
وهاهنا نعرض لبعض هاتيك الشبهات التي يروِّج لها الداعون إلى علمانية العاصمة القومية:
[1] قولهم: إن في العاصمة ناساً يدينون بغير الإسلام وفي الحكم بالشريعة تضييق عليهم:
والجواب أن وجود غير المسلمين في مجتمع يحكم بالإسلام ليس وليد اليوم، ولا هي مشكلة طارئة تحتاج إلى بحث، بل منذ أن بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وقامت للإسلام دولة في المدينة، وغير المسلمين ـ من اليهود وغيرهم ـ موجودون يعيشون بين ظهراني المسلمين ويمارسون شعائر دينهم؟ فما الجديد إذن؟ ومتى كان وجود الأقلية في أي مكان أو زمان يمنع الأغلبية من أن تطبق دينها؟ وهل عهد في تاريخ الإسلام كله إجبار غير المسلم على الدخول في الإسلام؟
يقول جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: "وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم، ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون ـ الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة ـ أن النظم والديانات ليست مما يفرض قسراً فعاملوا ـ كما رأينا ـ أهل سورية ومصر وإسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين لهم نظمهم وقوانينهم ومعتقداتهم... فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم".
وغير المسلمين ـ تحت حكم الإسلام ـ في حمايةٍ من كل ظلم داخلي أو اعتداء خارجي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه كنت أنا خصمه يوم القيامة))، بل إن الثابت ـ واقعاُ وتاريخاُ ـ أن المسلمين كانوا هم المتضررين من تطبيق غيرهم ما يحسبونه ديناً، حيث عانوا في القديم من محاكم التفتيش في الأندلس ـ وقد اعترف بذلك مفكرو الغرب ومؤرخوه ـ وفي التاريخ الحديث ما أمر البوسنة وكوسوفا عنا ببعيد؟ ونقول أيضاً: إن الالتزام بالتشريع الإسلامي لا يمس حقوق غير المسلمين؛ لأن الإسلام كفل لهم حرية الاعتقاد وتطبيق تشريعهم في الأحوال الشخصية، ومن المعلوم للكافة أن الإنجيل ليس فيه أحكام تشريعية في المسائل المدنية والتجارية، ولهذا يأخذ النصارى في كل دولة بتشريعها في هذا المجال، فضلاً عن ذلك فالقوانين الدولية قد تواترت على إقليمية التشريع في جميع التشريعات إلا في مسائل الأحوال الشخصية، وبمقتضى ذلك يخضع الشخص لقانون الإقليم الذي يعيش فيه.
ثم ماذا يضير النصارى أن تمنع الخمور ويحظر الفجور ويلغى الربا ويحارب البغاء؟ هل يزعم أحدهم أن ديناً نزل من السماء يبيح شيئاً من ذلك؟ اللهم لا. لكن منطق الإستبداد الأرعن الذي تمارسه أمريكا على سائر الأمم هو الذي يحملها ـ ومن وراءها من الأذناب كحركة التمرد ـ على أن يحاولوا منع المسلمين من تطبيق شرائع دينهم تحت ذرائع شتى، والحال كما قال ربنا: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء)، (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق)، لكن العجب العاجب هو أن يرضى بعض من ينتسب إلى الإسلام لنفسه أن يكون مروّجاً لمثل تلك الأباطيل، واضعاً في طريق سيادة الشريعة شتى العراقيل.
[2] قولهم: إن تطبيق الأحكام الشرعية يحرم العاصمة من مجيء السائحين، وترك الأحكام الشرعية يجعلها عاصمة جاذبة:(/1)
والجواب: أن العقلاء وأهل المروءة متفقون على أن الغاية لا تبرر الوسيلة وأن ما عند الله لا يطلب بمعصيته، وقد قال العرب الأوّلون: "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها". ثم من الذي يقول: إن العاصمة لا تكون جاذبة إلا إذا أبيح فيها الحرام؟ لو أنصفوا لقالوا: إن الواجب علينا أن نرعى الأخلاق، ونحفظ حدود الله من أن تضيّع فنحلّ الحلال ونحرّم الحرام؛ حتى يأتي إلينا السائحون الملتزمون وهم آمنون على أموالهم وأعراضهم وأنفسهم، ولو أنصفوا لقالوا: إن الواجب أن تتضافر الجهود لترقية الخدمات وتأمين الماء والكهرباء، وتعبيد الطرق وتوسعة المطارات وتجميل المسارات وإنارة الشوارع حتى تكون الخرطوم عاصمة جاذبة، بدلاً من الدعوة إلى العلمانية المنكرة التي تبيح ما حرم الله فنكون ممن لم يحفظ ديناً ولم يصلح دنيا، (وشر الناس من خسر الدنيا والآخرة)، ونذكّر أنفسنا وهؤلاء بقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء)، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا يحملنكم طلب الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله))، ومن التاريخ القريب يعلم المنصفون أن الخرطوم كانت يوماً ما ـ بوجهها الشائه وخدماتها المتردية ـ عاصمة الموبقات المهلكات فهل جذب ذلك السائحين إليها؟ أو فتح أبواب الرزق عليها؟ اللهم لا هذا ولا ذاك. لكن..
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
ثم ألا يعتبر هؤلاء بحال أمم سارت في ذات الدرب فلم تحصد إلا المرّ والعلقم، فلا أزماتها الاقتصادية حلّت، ولا وحدتها الوطنية حققت، ولا مشاكلها الأمنية زالت، بل زادت، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى).
[3] قولهم: إن الاستمساك بهذا الأمر ـــ أي تطبيق الشريعة في العاصمة ـــ يفوّت فرصة تحقيق السلام الذي بات وشيكاً بزعمهم:
والجواب أن أهل الإسلام مجمعون على أن حفظ الدين مقدّم على حفظ النفوس والأعراض والأموال والعقول؛ وعليه فلو كان السلام في مقابل التنازل عن أحكام الله عز وجل فنقول: لا حيّاه الله ولا سقاه ولا مرحباً به ولا أهلاً، وحسبنا أن نذكّر أنفسنا؛ لتكف عن طاعة المبطلين، بتلك الدماء الزكية التي نزفت على أرض الجنوب والشرق لتكون كلمة الله هي العليا، فهل كان ذلك ليأتي آتٍ بعد زمان قريب ليقول: لابأس بالتنازل عن الشريعة في العاصمة من أجل تحقيق السلام، ولو أن امرءاً رضي لنفسه أن يتنازل عن دينه لينال سلاماً متوهماً؛ فلن يبالي بعد ذلك بالتنازل عن عرضه، ومن تتبع تاريخ المتمردين وزعيمهم في نقض العهود ازداد يقيناً بقول الله في القرآن: (أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون)، وبقوله سبحانه: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة وأولئك هم المعتدون)، ومن أعطى الدنية في دينه فرضي بتغييب الشريعة في العاصمة اليوم فسيرضى بتغييبها في غيرها غداً.
[4] قولهم: إن علمانية العاصمة علاج للأوضاع وحماية لها من التعصب الديني:
والجواب هو أن العلمانية ما كانت في يومٍ من الأيام علاجاً للتعصب الديني أو الطائفي أو العرقي، ومن كان في شك من ذلك فليرجع إلى تاريخ بلاد ارتضت العلمانية مبدأً ومنهجاً من قديم ـ كالهند ولبنان وتركيا ـ هل حالت العلمانية دون قيام مذابح الهندوس ضد المسلمين في الهند؟ أم حالت دون قيام الحرب الأهلية التي استمرت سنين عدداً في لبنان؟ أم حالت دون اضطهاد الأكراد في تركيا؟ والتاريخ شاهد بأن حرب الجنوب قامت قبل أن تطبق الشريعة سواء في ذلك التمرد الأول أو الثاني، بل إننا نقول إن المسلمين هم الخاسرون من تطبيق هذا المبدأ الفاسد حيث عهدنا في أكثر البلاد علمانية ـ كفرنسا مثلاً ـ أن تمنع الفتاة المسلمة من ارتداء حجابها في المدرسة، وفي تركيا تمنع نائبة في البرلمان من الدخول إليه إلا بعد خلع حجابها فأين العلمانية هنا؟ إن علاج التعصب لا يكون إلا بنشر الوعي وبث العلم وتربية الناس على فن الحوار مع الغير واحترام النظام وأدب الكلام، ولا أنفع ولا أطيب ولا أحسن من هدي القرآن في ذلك، (وجادلهم بالتي هي أحسن)، (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، (لا إكراه في الدين)، (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، ولو أنصفوا لقالوا: إن العلاج يكمن في إعطاء كل ذي حق حقه، ورفع الظلم وبسط العدل بتطبيق الشريعة.
[5] قولهم: إن العلمانية هي المبدأ السائد الذي يحكم العالم الإسلامي كله، وما ينبغي أن نكون نشازاً بين الناس:(/2)
والجواب أنه قد أجمع علماء المسلمين من قديم على أن الشريعة حاكمة على جميع أفعال المكلفين، وأنها حجة عليهم لا العكس، وقد قال الله عز وجل في القرآن: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث)، (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)، وقال: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، وقال: (وإن كثيراً من الناس لفاسقون)، (وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم)، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإسلام ستنقض عراه عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة، وأخبرنا أن الكتاب والسلطان سيفترقان وأمرنا ألاّ نفارق الكتاب، ثم أي عقل هذا الذي يحكم على المكلّف بأن يدع تعاليم دينه ويهمل شريعة ربه ويكون إمعة لأن الناس أو أكثرهم فعلوا ذلك؟ وقد علم الناس أجمعون أن العلمانية ما حكمت العالم الإسلامي برضى المسلمين ولا مشورتهم، بل فرضت بقوة الحديد والنار عن طريق الانقلابات العسكرية التي قام بها أذناب المستعمر ومن ثم مارسوا التضييق على الدعوة وأهلها، وعمدوا إلى تغييب الدين عن حياة المسلمين، ومنذ أن طبقت ما عرف المسلمون تقدماً ولا رقياً بل إن أعرق البلاد المسلمة علمانية ـ وهي تركيا ـ صار همُّ ساستها اللهاث خلف أوروبا، والتوسل من أجل أن يمنحوا عضوية في الاتحاد الأوروبي، وفشلوا في ذلك رغم قول قائلهم من قديم: "لا بد أن نأخذ بحضارة الأوروبيين حتى النجاسات التي في أمعائهم والأوبئة التي في أكبادهم".
[6] قولهم: إن الدين لله والوطن للجميع، فلا بد أن يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات:
نقول: بل الدين لله، والوطن لله، والحكم لله، والخلق عباد الله، (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)، وماذا يضير غير المسلمين في أن تحكم الأغلبية بشريعتها وترجع إلى أحكام دينها في الأمر كله؟ ثم ماذا لو حدث العكس وكان المسلمون هم الأقلية هل كان يقبل منهم أن يطلبوا إلى الأكثرية التنازل عن هويتهم ومقدساتهم طلباً لمرضاتهم؟ وهاهم المسلمون يعيشون في البلاد الكافرة ـ في أوروبا وأمريكا ـ ويخضعون لأنظمة وتشريعات تتعارض مع بدهيات دينهم، ولا يجرؤون على المطالبة بتغييرها أو تعديلها، ولو فعلوا لقيل لهم: هذا هو حكم الأغلبية، إنه لا يقبل شرعاً ولا عرفاً بل ولا ديمقراطياً ـ وهم أكثر الناس تشدقاً بالدعوة إليها ـ أن تتخلى الأغلبية عن هويتها ومقدساتها وحضارتها طلباً لمرضاة الأقلية، لا سيما إذا كانت هذه المقدسات لا مساس لها بالحقوق الأساسية المشروعة لهذه الأقليات. ثم لماذا يتخلى القوم عن علمانيتهم القاضية بأن القانون الحاكم يجب أن يكون نابعاً مما ترتضيه الأغلبية؟
[7] قولهم: إننا متدينون نصلي ونصوم ومع ذلك نعتقد أن العلمانية هي العلاج الناجع والدواء الشافي:
نقول: إن العبادات والتشريعات وأحكام المعاملات من عند الله ولا يد فيها للبشر، والإسلام كل لا يتجزأ، فليس مسلماً من قال: أصلي على نظام الإسلام وأتخذ منهجاً سياسياً على نظام ميكافيللي، ونظاماً اقتصادياً ماركسياً، كيف يكون الشخص متديناً وهو يرفض حكم الله وحكم رسوله، وصريح القرآن يقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً)، ويقول: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون)، وهذا الفهم المغلوط للتدين هو الذي حمل بعضهم على أن يحج ويعتمر وينتسب إلى بيوتات دينية، ثم لا يبالي بالجلوس على مائدة يدار فيها الخمر أو يراقص الفتيات؛ لأن التدين في فهمه الكاذب الخاطئ قاصر على جانب الشعائر وحدها ولا علاقة له بمعتقد أو سلوك.
[8] قولهم: إن في تطبيق العلمانية ضماناً لعدم استغلال الدين في أغراض سياسية:
ولغرابة هذه الشبهة فإننا نستعمل معهم الدَّوْر فنقول: علينا ألا نطبق العلمانية لنضمن ألا تستغل في أغراض سياسية، وإن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت. هل يعقل أن يمنع المسلمون من تطبيق أحكام دينهم بدعوى عدم استغلاله، ثم يجبرون على نظام مستورد يخالف دينهم وعقيدتهم بل يخالف رغبتهم واختيارهم؟ ما لكم كيف تحكمون؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ إن لكم فيه لما تخيرون.
إن العلمانية ضد الدين لأنها لا تقبل التعايش معه كما أنزله الله بل تريد إقصاءه عن الحياة وحصره في زاوية ضيقة منها، إنها ضد الدين لأنها تريد أن تأخذ منه ما يوافق هواها وتعرض عما يخالفه، ولأنها تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون)، إنها ضد الدين لأنها تتعالم على الله عز وجل وتقول له: نحن أعلم منك بما يصلح للناس والقوانين الوضعية أهدى سبيلاً من حكمك.(/3)
إن العلمانية ضد إرادة الشعب في السودان كما أنها ضد إرادة المسلمين الذين رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً، والقاعدة العريضة من مثقفي الأمة ـ الذين هم أنضج وعياً وأزكى خلقاً وأقوى إرادة ـ لا يبغون غير الله حكماً ودينه شرعاً.
[9] قولهم: إن الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تستوعب ملايين القضايا والمشاكل الإنسانية المعقدة، أو أن تقدم حلولاً جاهزة لكل ما يستجد على مسرح الحياة:
والجواب: أن هذا التصور قائم على أساس أن الدين ثابت لا يتغير, وأن الحياة في تغير دائم، وأن الحكم بالأسلام من شأنه إلغاء كل اجتهادات البشر وتجاربهم، وإبطال كل عرف واجتهاد لم يرد من القرآن والسنة، وهذا تصور قد حكم الإسلام بفساده، فقد شرع الله تعالى للناس قواعد عامة للأمور التي حرمها الله وأمرنا باجتنابها، وأرشدنا أن ما سكت الله عنه فلم يبينه فهو مباح، لنا أن نجتهد فيه في حدود هذه القواعد العامة أي بما لا يحل حراماً. قال الله تعالى: (وقد فصّل لكم ما حرم عليكم)، وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سكت عن أمور رحمة بنا غير نسيان، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أنتم أعلم بشئون دنياكم)).
فأمور المعاملات في جوانبها المختلفة من مدنية وجنائية ودستورية منها ما هو ثابت محكم، ومنها ما هو متجدد مرن، فالأسس والقواعد الكلية التي تشكل الإطار العام تتسم بالثبات والإحكام، وهي تلك التي جاءت بها الأدلة القطعية ثبوتاً ودلالة، ولا مجال فيها لتعدد الأفهام وتفاوت الاجتهادات، والفروع الجزئية والتفاصيل المتعلقة بالكيفيات والإجراءات ونحوها تتسم في أغلبها بالمرونة والتجدد، ويكفينا قول الله عز وجل: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
إن المشكلة لا تكمن في وفاء الشريعة بحاجات الإنسان ومصالحه الحقيقة، ولكنها تكمن في كبحها لجماح الأهواء، ووقوف أحكامها عقبة في وجه دعاة العربدة والتحلل، إن أهل الفجور يتهمون الشريعة بالجمود لامحالة؛ لأنها لا تساير ما في نفوسهم من الشهوات والأهواء. فلا تبيح لهم الخمر ولا الرقص المختلط، ولا الردة ولا التبعية لكفار الأرض، ولا ترويج بضاعة المستشرقين باسم الفكر الإسلامي ولا تزييف التاريخ باسم حرية البحث، هذه هي المشكلة حقاً(/4)
الجواهر الثمان
...
مواعظ و أذكار الأولى:
نظرت إلى الخلق فرأيت كل واحد يحب محبوبا فإذا ذهب إلى القبر فارقه محبوبه فجعلت الحسنات محبوبي فإذا دخلت القبر دخلت معي.
الثانية:
نظرت إلى قول الله تعالى: " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرت علي طاعة الله
الثالثة:
نظرت إلى هذا الخلق فرايت أن كل من معه شيء له قيمة حفظه حتى لا يضيع فنظرت إلى قول الله تعالى: " ما عندكم ينفذ وما عند الله باق " فكلما وقع في يدي شيء ذو قيمة وجهته لله ليحفظه عنده.
الرابعة:
نظرت إلى الخلق فرأيت كل يتباهى بماله أو حسبه أو نسبه ثم نظرت إلى قول الله تعالى: " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " فعملت في التقوى حتى أكون عند الله كريما.
الخامسة:
نظرت في الخلق وهم يطعن بعضهم في بعض ويلعن بعضهم بعضا وأصل هذا كله الحسد ثم نظرت إلى قول الله عز وجل: " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا " فتركت الحسد واجتنبت الناس وعلمت أن القسمة من عند الله فتركت الحسد عني
السادسة:
نظرت إلى الخلق يعادي بعضهم بعضا ويبغي بعضهم على بعض ويقاتل بعضهم بعضا ونظرت إلى قول الله عز وجل: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا " فتركت عداوة الخلق وتفرغت لعداوة الشيطان وحده.
السابعة:
نظرت إلى الخلق فرأيت كل واحد منهم يكابد نفسه ويذلها في طلب الرزق حتى أنه قد يدخل فيما لا يحل له ونظرت إلى قول الله عز وجل: " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " فعلمت أني واحد من هذه الدواب فاشتغلت بما لله علي وتركت ما لي عنده.
الثامنة:
نظرت إلى الخلق فرأيت كل مخلوق منهم متوكل على مخلوق مثله، هذا على ماله وهذا على ضيعته وهذا على صحته وهذا على مركزه. ونظرت إلى قول الله تعالى: " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " فتركت التوكل على الخلق واجتهدت في التوكل على الله(/1)
________________________________________
الجوهرة المصونة
رئيسي :تزكية :الأربعاء 15 ربيع الأول 1425هـ - 5 مايو2004 م
سلام على الجوهرة المصونة، إليها أهدى هذه الكلمات، إليك يا أختنا الغالية، إلى من جعلت القرآن ربيع قلبها، والحجاب حياتها وعفافها، إلى من جعلت العفة تاجها ولباسها، إليك أيتها الجوهرية المصونة.
أختاه..أوصيك أختاه بالتقوى، فإن بها طعم السعادة، فيا أم الأجيال، ويا حفيدة الأبطال، أختاه فلتقبلي مني هذه الرسالة غالية الثمن، مهرها الآيات البينات، والحكم الواضحات، والأبيات الجميلات برًا منّا لها؛ لأن في طاعتها رضا لرب الأرض والسماوات.
إنها الأم صاحبة القلب الحنون حبيبة البنات والبنون، فلها نقول:
أمنا الغالية يا من شهدت الساعات الطوال، وما نامت الليالي في خدمة الأبناء أنت في أعيننا جميعًا أغلى والله من الجواهر، ولا تقدرين عندنا بثمن، كيف لا وحقك بحق الله مقرون، وبرك أقرب طريق للجنة التي فيها ما لم تره العيون، حسبك أنك أحق الناس بالصحبة على لسان النبي الميمون، ألم تسمعي أن النفوس المؤمنة تشتاق إلى الجهاد في سبيل الله، ومع ذلك تمنع إذا كان ذلك يتعارض مع البر بك، وحاجتك للأبناء ليقوموا بحقك، بل من أراد رضا الله منهم فليحرص على رضاك، وليعلموا أن من أسخطك فبدأ بسخط الله.
أيتها الأم: إن الإسلام قد أعطاك حقوقًا وطلب منك أُخَر، [كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ]رواه البخاري ومسلم. فأنت راعية ومسئولة عمن ولاك الله أمرهم من البنين والبنات، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً...[6]}[سورة التحريم] فكيف تقين هذه الأسرة، وكيف تحمين هذه المملكة الصغيرة.
فأين أنت من فلذة الكبد، البنت.. يوم سلك الكثيرات منهن طريق العار والدمار، فأصبحن وقودًا للنار، أغلت فانحرفت، وإلى ملذات الفتن انجرفت، تسللت إلى مخالب الذئاب حتى افترسها الكلاب.. وأنت أيتها الأم لا تشعرين، وبملذات الحياة تنعمين، فمن كانت هذه حالها مع ابنتها، فلتعلم أنها موجودة ومع ابنتها مفقودة.
أيتها الأم: إليك هذه القصة:
اتصلت بي إحدى الفتيات تبكي وتصيح عبر الهاتف، فإذا ببنت من البنات تبكي بصوت عالٍ وتصيح: أنقذني، قلت: ما الذي أصابك؟ قالت: إنني فتاة من الفتيات تعرفت على شاب عبر الهاتف، ثم جلست أحادثه أيامًا حتى قلت له كلامًا، وقال لي كلامًا يستحي والله أن يقوله الزوج لزوجته، فكان يحاول مرارًا أن يراني وأراه لكن فطرتي وحبي للخير منعتني أن أقابله، فقام مع إلحاح منه وغيبة من والدي ووالدتي، نعم..غيبة من الوالد والوالدة وافقت أن أقابله، فخرجت له، فإذا به ينتابني بسياره، ثم ركبت معه حاول أن أذهب معه إلى منزله، فرفضت، لكنه قال إن جلوسنا في الشارع قد يلفت أنظار الناس لنا، فلنذهب إلى أحد البيوت، فتقول: وافقت فذهبت معه وجلست معه في بيت، ففوجئت أني دخلت في إحدى الغرف، فإذا بها سبعة من الشباب غيره.
قالت: فحاول حتى فعل بي الزنا بعد تهديد مرارًا، ثم ليته اكتفى بذلك ذلك المجرم لكنه مكن الأصدقاء الذين كانوا معه بالبيت بأن يفعلوا بي، فقام بتصويري، ثم ها هو يضعني عند البيت، والله إني أحدثك والحادثة لم يتم عليها أكثر من نصف الساعة، وما ذاك إلا لغياب أمي عني، وابتعاد أبي عن شعوري وعن حالي.
أيتها الأم: ها هي البنت فلذة الكبد تلوح لواح الثكلى، وتأن أنين اليتيم، وتصيح صياح الأرامل، وتناجيك لعلها تجد بين أحضانك دفء الكلمة الصالحة، وعذوبة التلذذ بالهداية، لعلها أن تجد لها نصيحة تظهر لها طريق الحياة، وموعظة تنقذها من جحيم الهلاك.. تنادي بأعلى صوتها: أماه .. أماه هل تسمعينني؟ هل تنصتين إليّ؟ هل تسمعين صراخي؟ آه .. آه إذا كنت لا تسمعيني؟ آه كيف لا تسمعينني وأنا بين يديك؟ آه كيف لا تسمعين وقلبي معلق براحتيك؟ فافتحي صدرك إلى وقربيني إليك لأرتمي بين أحضانك، وأبث شكواي لك، فكفكفي حزني، وامسحي دمعي، وكبليني بقيودك فلا قيد أطيق اليوم سوى قيدك الحنون، خذي .
يا أماه.. استري عليّ أجفانك واحميني من الثعالب الماكرة، والذئاب الغادرة، فصدرك برد وسلام، وحضنك دفء ووئام ونصحك نور أستضيء به مدى الأيام.. لا تدعيني إليهم بين أدراج الحياة أتخبط في جحيم العصاة، وأكون أسيرة بين أيديهم يفعلون بي ما يشاءون، يبيعونني في أي سوق ويشترون، فأنا أصبحت كالسلعة التي بها يسومون، وعلى بضائعها ينادون.
أماه.. أنقذيني..أجيبي أيتها الأم.. أجيبي ابنتك بعد أن بح صوتها، وارحمي دمعتها، قولي لها: أفديك يا شمعة تبكي ذوائبها، أفديك بنتاه بدمي إن كنت لؤلوة فالقلب محار.. قولي لها: مازال دمعك مرسوم بذاكرتي.. وأيم الله ما زال دمع الفتاة التي تبكي عبر الهاتف مرسوم بذاكرتي يوم البكاء.(/1)
أيتها الأم.. كوني لها ولسائر أخوتها المربية الصالحة، والأم النافعة، تقتدي بالسابقات الصالحات من النساء المؤمنات، وإياك أن تقتليها من غير سكين، وتضعيها في درب الردى وأنت لا تشعرين.
أما سمعت بنماذج بعض الصالحات في العالمين:
فخذي مثلا في الخنساء يوم كانت مثلًا صالحًا في تربية الأبناء، حضرت مع أولادها في حرب القادسية، فقالت لهم:' يا بَني أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله إنكم أبناء رجل واحد، وأم واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، وأنت تعلمون ما أعد الله للمؤمنين المجاهدين من الثواب العظيم، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستنصرين بالله على أعدائه، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وأبرمت لظى على سياقها، وجعلت نارًا على رواقها، فتيموا وطيسها'. حتى استشهدوا جميعًا فبلغها الخبر، ويا لأم يبلغها الخبر بوفاة ولد من أولادها، فكيف بأم تفجع وتخبر بمقتلهم جميعًا، فلتقتدي بالصابرة حينما بلغها الخبر قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في جنات النعيم.. تلك والله الأم .
عذرًا أيتها الجوهرة الأم. لم نوفك حقًا، وإنما تلميحات تغني عن التصريحات، وأن من جد وجد، ومن زرع حصد، فمن سار على الدرب وصل .
وإن كنت قد حسرت الستار عن بعض الجواهر، فهناك الكثير، فالجواهر كثر، والدر أكثر، والحديث عنك ذو شجون، فالبنات عندنا جواهر، والأخوات درر، ألا يكفيهن أن القرآن شن على أصحاب العقائد المنحرفة كالذين يبغضون الأنثى ويستنكفون عند ولادتها، يقول الله عنهم: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ[59]يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ[59]}[سورة النحل]. إنه حكم جائر، وتصرف وحشي، فمن يمد يده على تلك الطفلة البريئة يواريها التراب بعد أن اغتيلت عاطفة الأبوة الجياشة، والرحمة الفطرية.
ألست تشعرين أيتها البنت والأخت بل وسائر الأخوات المؤمنات أنكن جوهرة مصونة، ودرة مكنونة، إذًا: فاسمعي يوم رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإحسان إليك، يوم دوت تلك الكلمات في الآذان دويًا، وهو يقول صلى الله عليه وسلم: [ مَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ أَوْ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ أَوْ ابْنَتَانِ أَوْ أُخْتَانِ فَأَحْسَنَ صُحْبَتَهُنَّ وَاتَّقَى اللَّهَ فِيهِنَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ] رواه الترمذي.
أيتها الجوهرة.. ألا تشعرين أن الإسلام قعّد لك حقوقًا لا تحتاج إلى زيادة، وهي بعيدة عن النقصان، إذًا فاحذري دعاة الفساد، وأعداء المرأة الأوغاد، الذين يخططون بخطى عاتية في إفساد المرأة وإخراجها عن وصفها المستقيم، فجعلوها قضية تزعجهم.
ومن هنا يحرص أولئك أن يجدونك قضية تحتاج إلى نقاش، وتستدعي الدفاع عنها؛ ولذلك يكثرون الطنطنة عبر وسائل الإعلام المختلفة على هذا الوطر بأن المرأة في مجتمعنا تعاني، وأنها مظلومة، وأنها شق معطل، وأنها رئة مهملة لا تنال حقوقها كاملة، وإن الرجل قد استأثر دونها بكل شيء، وأن المرأة الغربية فاقتها بكل شيء.. وكذبوا وخابوا وخسروا.
اسمعي أيتها الجوهرة شيئاً من حقائق ومآسي المرأة الغربية التي جعلوها في نظرهم قدوة، فأصبحوا لها ينادون، وعلى طريقتها يدعون:
لست أرضى العيش عيش الهمجية سابقي خيل العنان واركبي أغلى مطية
زادك الإيمان تمضين بقصد وروية لا تبالي بالدعاوي والأباطيل الدعية
اسمعي لمأساة المرأة الغربية، وتأملي معي في بعض صور حياتها الموثقة بالتقارير والأرقام والنِسَب وأكتفي هنا بسرد بعضها باختصار للاعتبار والعظة:
هذه صورة قالها أحد الدعاة: أن امرأة غربية وابنها الصغير رآها في أحد الدول تفترش الرصيف تنام عليه لا مأوى لها، فأين أنتم يا دعاة التحرير؟ أين أنتم عن هذه الغربية التي نامت في الشارع لا مأوى لها؟
وصورة أخرى: لأم تعرض طفلتها للسعات الفئران حتى تموت.
وصورة: تحكي أن أما تضرب ابنها الذي لم يتجاوز العام حتى فارق الحياة.. فسبحان الله ! أين حقوق الإنسان؟!
وصورة نقلتها مجلة المجتمع:أن مائة وخمسين ألف طفل أمريكي يقتلون بالإجهاض.
وصورة أخرى ذكرتها مجلة الأسرة: أن خمس عشرة طفلة يقتلون يوميا في أمريكا.
ومن الصور: أن الأب يعتدي على طفلته جنسيًا في بريطانيا، ويفعل بها الفاحشة، والعياذ بالله .
وهناك حوالي عشرة آلاف امرأة في الولايات المتحدة يلدن سفاحًا.
وصورة أخرى: تنقلها الدراسات في أمريكا توضح أن في كل 6 دقائق تقع حادثة اغتصاب لفتاة، وحالة ايدز في أمريكا في كل 10 دقائق.(/2)
ومن المآسي ما ذكرته الدراسات: أن أكثر من 50% من المراهقات يلدن بدون علاقات زوجية، وأكثر من 5 مليون رجل متزوج له علاقة غير شرعية خارج عش الزوجية..أين دعاة التحرير؟ أين الذين ينادون المرأة الشرقية كما يزعمون.
وهذه عن دراسة ذكرتها مجلة الأسرة قالت: في أمريكا حالات الاغتصاب والضرب بلغت ثلاث آلاف أمريكية يقتلن على يدي شركائهم في العيش أزواجًا كانوا أو عشقاء، وإن 4 مليون أمريكية يضربن كل سنة بمعدل امرأة واحدة كل خمس عشر ثانية تضرب، وفي فرنسا خمسة ملايين امرأة متزوجة على علاقة جنسية بغير زوجها، كما تشير الإحصاءات إلى أن عشرة آلاف أنثى دون الثامنة عشر اغتصبن في العاصمة واشنطن وإحدى عشر ولاية، وأن ثلاثة آلاف وثماني مائة من هؤلاء كن دون الثانية عشر.
ويزداد رعب الأرقام ورعب المأساة عندما نقرأ: أن عشرين في المائة من الفتيات دون الثانية عشر اغتصبهن آباؤهن، 26% اغتصبهن أقارب لهن، وأن 50% اغتصبهن أصدقاء ومعارف لهم.
أعرفت أيتها الجوهرة حال المرأة الغربية وصور مآسيها، وخذي هذه الزيادة: قال أحد الذين كانوا يدرسون اللغة في إحدى الدول الغربية وكان يسكن عند إحدى العائلات، يقول دخلت ذات مرة إلى البيت الذي أسكن فيه، فإذا بنت صاحب المنزل تبكي بكاء حارًا وأبوها يرفع صوته عليها، كان عمرها 15 عامًا يقول: فلما سألتها ما سبب البكاء؟ فقالت: أن أبي يطلب مني إيجار الغرفة أسبوعيًا، ولم أستطع إلا أن أدفع إلا جزء هذا الأسبوع، فرفض الأب إلا أن أدفع له كامل المبلغ، وإلا مآلي إلى الطرد ومصيري إلى الشارع. فلذلك تسعى أغلب الفتيات هناك للتعرف على الرجال لإيجاد مأوى لهن.
فأين المساواة يا من تدعون المساواة، ويا من غررتم المرأة بأنكم تنادون بحريتها؟!
لقد مر على قيام المنظمات والمؤتمرات أكثر من 50 عامًا فأين هم؟ إنها المآسي .
أيتها الجوهرة ومن المآسي: ما ذكره الدكتور محمد عبد الرزاق وهو ما رآه في مدينة لاسكو قائلًا: بينما كنا ننتظر وصول الحافلة والناس مصطنعين وأنا بامرأة وقعت عينها على فتاة فسلمت عليها سلامًا حارًا وسألتها كم مضى عليك هنا؟ قالت: خمس سنوات، فقالت العجوز: ألا تعرفين أنني أعيش وأسكن في هذه المدينة نفسها أجابت الفتاة بلا أعلم.
فقالت العجوز بصوت حزين. لماذا لا تزورينني قالت الفتاة المشاغل كثيرة والوقت ضيق، فنظرت لها العجوز قائلة أنسيت الأيام والسنين كيف لا تزورينني وأنا أمك يا بنتاه؟! أرأيت أيتها الجوهرة.
أما في مدينة في انجلترا فتسكن عجوز في بيت مستقر وقد تركها الزوج والأبناء، فما كان منها إلا أن اهتمت بتربية القطط فاتخذت نحو عشر قطط قامت بتربيتها، وكان باعة الحليب على عادتهم في بريطانيا يجيئون في الصباح لمن اشترك في شراء الحليب، ثم يضعون الحليب في زجاج عند الأبواب، وهكذا في سائر الأيام، فجاء في اليوم الثاني فوجد لبن حليب الأمس عند باب العجوز لم تؤخذ فاتصل هذا البائع بالشرطة، فوجدوا أن العجوز قد ماتت، والقطط أكلت رجلها وأنفها وأذنيها، فحققت الشرطة في هويتها، فوجدت أن ابنًا من أبناء هذه العجوز يسكن في نفس الشارع التي تسكن فيه العجوز على مسير بضع دقائق، فقالوا له: منذ متى لم تشاهد هذه المرأة- وهي أمه-. فقال: منذ خمسة أشهر، وهو يسكن معها في نفس الشارع !
أرأيت أيتها الجوهرية تلك الحياة المضطربة التي نزعت منها كل خصائص الحياة الاجتماعية والأسرية فضلًا عن الحياة الدينية.
وأخيرًا من الصور والمآسي: ما ذكرته مجلة النور في عددها '127' في محاولات الانتحار بين الشباب والشابات الفرنسيين وأنه بمعدل 12 ألف ينتحرون كل عام، حتى وصل الأمر فيهم لدرجة انتشار كتب عن الانتحار بعناوين شتى منها كتاب 'كيف تتخلص من حياتك بسهولة' والغريب أن هذه الكتب تجد رواجًا عجيبًا. فيباع منها الآلاف في وقت قصير.
أرأيت أيتها الجوهرة كيف تعيش المرأة الغربية، أرأيت تلك الصور والمآسي هي من صور أولئك اللاتي تعجب بهن البعض من نساءنا اللاتي تأثرن بالمظهر ودعاة الحرية والاستقلال، وليست والله لا حرية ولا استقلال إنما هي الذلة والنكال.
أما نحن معشر الرجال فلم نرخي الذمام، ولن نطلق قيادنا مهما بلغ بنا الأمر، ولو قدمنا رقابنا دفاعًا عن محارمنا، و عن نساءنا.
ونحن اليوم نشكو من جاهلية هذا القرن إذ وئدت المرأة وأدًا أشد من الجاهلية، فالمؤودة في الجاهلية في الجنة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أما المؤودة في هذا القرن فهي التي وأدت نفسها، وباعت عفتها، وهدرت حيائها، فلا تجد الجنة -وربي- كاسية عارية مائلة مميلة أصغت بأذنها إلى الدعاة على أبواب جهنم، فشقيت وخسرت في دنياها وأخراها.(/3)
فلتحذر المتبرجة يوم تركت حجابها، عجبًا لتلك الشريفة العفيفة كيف تقبل أن تعرض جمالها في السوق، وأن تكون سلعة رخيصة تتداولها الأعين، وكيف يرضى لها حياؤها أن تكون مبعث إثارة وشهوة في نفس رجل يراها، بل وكيف تطيق الشعور بأن يصبو إليها ويتمناها، وأين هي من قول ربها {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ...[59]} [سورة الأحزاب].
أيتها الجوهرة.. إنك تفقدين عفافك عندما تخلعين الحجاب، فتخلعين الحياء والوقار، إن الحجاب شعار التقوى والإسلام، وبرهان الحياء والاحتشام، وأعظم دليل على أدبك وكمالك، فصونيه أيتها الشريفة. صوني جسمك الطاهر من اعتداء الأعين الزانية وحسنيه بالاحتشام تزودي عنه السهام الغازية .
لا خير في حسن الفتاة وعلمها إن كان في غير الصلاح رضاؤها
فجمالها وقف عليها وإنمـ ـا للناس منها دينها وحياؤها.
أيتها الجوهرة : إن أهل الباطل يريدون منك أن تكون فاجرة عاهرة كافرة، يريدون أن تكون بهيمة في مسخ بشر. حاشاك يا ابنة الإسلام، وأنت المقتدية بقول عائشة رضي الله عنها:' أقلوا من الذنوب فإنكم لن تلقوا الله بشيء أفضل من قلة الذنوب'. فإن الذنب أخرج الأبوين من الجنة، وأخرج إبليس من ملكوت السماوات وطرده الله ولعنه. وبالذنب سلطت الريح على قوم عاد، وأرسل على قوم ثمود الصيحة، ورفعت قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، وخسف بقارون داره وماله وأهله، أفأمنت مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ[16]أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ[17]} [سورة الملك].
أيتها الجوهرة: إنهم يتحدثون ويقولون ماتت فلانة وفلانة، فهل تدري متى يقولون متى أنتِ؟ هل تذكرت حالك إذا غُسّلتِ بسدر وحنوط وكفنت بخمسة أثواب؟ يا ترى كيف سيكون حالك عند الموت؟ هل تريدي أن تموتي وأنت تنتقلين من قناة إلى قناة، أو وأنت ممسكة بسماعة الهاتف، أو تفكرين بالزنا، أو تاركة للصلاة؟!
إن آمالنا بك يا أيتها الجوهرة الكبيرة أن تعودي إلى الله قبل فوات الأوان، لأن الدقائق تؤذن بالرحيل، فالوصية للجواهر والدرر أن يرجعن لكتاب الله، وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، التوبة التوبة قوليها واعملي بها؛ لأنها كلمة سهلة على اللسان، ولكن أين الذين يطبقونها، واتقي الله أن يكون أهون الناظرين إليك، وإياكي أن تبغي بالصحة والعافية والمأكل والمشرب، فرب مسرور مغبون بأكل وبشرب ويضحك وقد كتب أنه من وفود النار، احذري جليسة السوء وكل جليسة لا تستفيدين منها خيرًا فاجتنبيها، وتذكري أن الحساب غدًا شديد، والاحصاء دقيق، واحذري الغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية، احذري أن تطلقي العنان للسان، واعلمي أنه لا يجوز كشف الزينة والوجه للرجال الأجانب وأخص منهم الحمو أخو الزوج لأنه الموت كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
احذري الطبيب والسائق والخياط والبائع؛ فإن الحساب عسير، والعقاب شديد وإياك واللباس الفاضح كالبنطال والخفيف والضيق والشفاف واحذري أن تكون قطعة قماش كهذه سبب دخولك إلى النار وعليك بالستر والحشمة.
يا أمة الله.. العباءة ليست رداءً تلبسينه ولباسًا تتزينين به، بل هو طاعة لأمر الله، فأرى الله منك خيرًا بالاحتشام والستر والعفاف، واعلمي أن حجابك هو السور الذي يسترك ويحفظك من لصوص النظر والإغراء والمدينة تبقى أمينة ما دامت الأسوار فيها منيعة بأعمدة متينة.
واحذري من شراء المجلات الهابطة، واحذري أن تفسدي جيبك بالشراء، وعقلك بالشبه وعينك بالنظر إلى ما حرم الله. بل تصدقي بقيمة هذه المجلة تؤجري في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، واحذري الخلوة مع الرجل الأجنبي، وإياك وكثرة الخروج من بيتك من غير حاجة، وخصوصًا إلى شر البقاع الأسواق.
أيتها الجوهرة.. إن المرأة عورة إذا خرجت استشرفها الشيطان أي زينها للرجال والحديث رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم، احذري التطيب عند الخروج والذهاب واستحضري قول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ ثُمَّ مَرَّتْ عَلَى الْقَوْمِ لِيَجِدُوا رِيحَهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ]رواه الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجة وأحمد .
أيتها الجوهرة.. سارعي إلى التزود من الطاعات، فهي طريق الخير والمنافسات، وقربة لله من رب الأرض والسماوات.
اقرئي القرآن، حافظي على السنة والرواتب، كوني حريصة على الوقت والاستفادة منه فالوقت المفقود لا يعود ولا يشتري بالنقود. صلاتك صلاتك حافظي عليها تغنمي. أديها في أوقاتها(/4)
أيتها الجوهرة.. أخيرًا: لا تنسي أنك تعودين إلى نساء خالدات عطرن التاريخ بطيب ذكرهن، وأضفين على صفحاته كرم العطاء ونبل التضحية، وصنعوا لدينهن أجيالًا من الأبطال، فكن مصانع الرجال، وتذكري يوم تبلى السرائر، ويوم تكشف الضمائر، يوم الحاقة، القارعة، يوم الزلزلة، يوم الطامة، يوم الصاخة، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، يوم يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله.. حفظ الله نساء المسلمين وهداهن بالتوفيق والسداد.
من:' الجوهرة المصونة' للشيخ / بدر بن نادر المشاري(/5)
الجوّ الفكري
محمد الدحيم 17/5/1427
13/06/2006
الإنسان يتأثر بما يقرأ وبما يسمع ويشاهد فيتكوّن لديه -بسبب ذلك- جو فكري معين، قد يكون هذا الجو المتكوّن إيجابياً أو سلبياً أو خليطاً منهما، وهذا هو الأغلب. والإنسان لا يستطيع الانفكاك من هذا الجو؛ إذ إنه يتكوّن لا شعورياً، ونحن نتعرف على جوّنا الفكري من خلال أحكامنا وألفاظنا وأفعالنا وردود أفعالنا الصادرة.
ولذا فإن من المهم جداً أن نرقب الجوَّ الفكري لنا ولغيرنا إذا ما أردنا إصدار الأحكام واتخاذ القرارات؛ فالجو الفكري المحدود سينتج أحكاماً قاصرة وقرارات مخفقة، والجو الفكري المأزوم سينتج قرارات مأزومة وهكذا..
ولما كان الجو الفكري يتكوّن لا شعورياً فإن الإنسان الناجح لا بد أن يتعرّف على (اللاشعور)، ويحسن الدخول فيه ليدري أين هو، وأين يتجه، حتى لا يُفاجأ بما لا يفكر فيه أو يتوقعه.
في كثير من الأحيان نلوم أشخاصاً على تدني مستوى تفكيرهم أو حتى على شموخ تفكيرهم ونظرتهم للأمور من دون أن نراعي الجو الفكري لهؤلاء وهؤلاء؛ فأطفالنا –فضلاً عن غيرهم- يعيشون جواً فكرياً معيناً تمتزج فيه براءة الطفولة ودرس المعلم وبرامج الأطفال، وَ... وَ...، وحينما يحاول الأب نقل الطفل لمصافّ الرجال وكبار القوم فإنه يرتقي صعباً، وقُلْ مثل ذلك بل وأعظم منه لتجد جواباً عن أسئلة كثيرة مثل:
لماذا تحدث الخطيب بهذه الصورة؟
ولماذا فهم الكاتب الموضوع على هذا النحو؟
بل لماذا جاءت الفتوى هكذا؟
وكيف صدر هذا القرار؟
إنه الجو الفكري الذي ينشحن فيه الخطيب والكاتب والمفتي والمدير والأب و... و....
قلنا: إن الإنسان لا يستطيع الفكاك من الجو الفكري؛ فهو متأثر به أياً كانت نسبة التأثر، لكن المهارة في أن تتدخل في صنع الجو الفكري الذي تريد العيش فيه ليكون تأثيره فيك تأثيراً إيجابياً، فسلْ نفسك:
ماذا تقرأ؟ ماذا تسمع؟ من تجالس؟ …؟
وبعد أن تجيب عن هذه الأسئلة اسألْ:
وما الذي يجب تحسينه؟ وكيف...؟ وهكذا في تحسين مستمر.
وحتى يتسع فضاؤنا فعلينا أن نعدّد مصادر غذائنا الفكري لننعم بجو لطيف يسمح بالتعدد والالتقاء في آن واحد؛ (وعلّم آدم الأسماء كلها) (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات...) و (...ليتخذ بعضهم بعضاً سُخرِياً).
وكلما اتسع الجو الفكريّ للإنسان كلما التقى هذا الإنسان وانسجم مع الكون والحياة في متعة تعني الحياة، وعلى الأموات السلام…
تمنياتي لك بجوّ فكريّ ساحر…(/1)
الجيل المثالي
للأستاذ: محبّ الدين الخطيب
من أيام أفلاطون (430 – 348ق.م) وكتابه "الجمهورية" ثم من عصر أبي نصر الفارابي (260 – 339هـ) وكتابه "المدينة الفاضلة" إلى زمن السر توماس مور (1478 – 1535م) وكتابه "يوتوبيا".
من تلك العصور والأزمان – إلى يوم الناس هذا - والإنسانية تحلم بالجيل المثالي الذي يود البشر لو يظفرون به فيتخذونه قدوة لهم في السلم والحرب،والمَنْشط والمكره، في مختلف أطوار الحياة، ليكون لهم من كماله الإمكاني المثل المقتدى به في كمالهم الإنساني.
هي أمنية من أماني الشعوب والأمم، من أقدم الأزمان إلى الآن تحدّث عنها الحكماء، وتغنّى بها الشعراء، وترنّم بها رخيم أصوات الهاتفين، وهمس بها صفوة الضارعين والمناجين، من كل صادح أو باغم.
بل إن "الجيل المثالي" هو الذي دعا إلى تكوينه وعمل على تحقيقه الأنبياء من أولي العزم، وهو الذي تمناه الحكماء وأهل العلم، وهو الذي كانت الإنسانية ولا تزال إلى شبحه المرجى في أحلام يقظاتها وفترات غفوتها.
تريث موسى بقومه في آفاق العريش، وبرية سيناء وصحارى النّقب، وحوالي بئر سبع أربعين حولاً يلتحف معهم سحائب السماء ويفترش الغبراء، وهو يحاول أن يربي منهم جيلاً مثالياً يستنّ بسنن الله، ويتخلّق بأخلاق الرفق والحزم والتضحية والاستقامة والاعتدال فيرضى بها عن ربه ويرضى ربه عنه، ثم مات موسى ولما يبلغ من أمته هذه الأمنية.
ونبغ في الصين حكيمها الأعظم كونغ فوتس الذي عرفناه من طريق الإفرنج باسم "كونفوشيوس" (550 – 479ق.م) ولا شك أنه كان من أصدق الدعاة إلى أن يتعامل الناس بالمروءة، لكنه لم يرتفع بدعوته إلى تخليص الصين من عبوديتها لابن السماء "الإمبراطور" ولما في السماء من شمس وقمر وكواكب وسحائب ورعود وصواعق وأمطار، ولا إلى تخليصها من عبادة الأرض، وما في الأرض من جبال وبحار وأنهار، ولا من أرواح الآباء وما تقيمه في سبيلهم من حدود وسدود وقيود.
وقد أخفق كونغ فوتس في كل ما قام به من دعوة في أرجاء الصين، فعاد إلى بلده يؤلف الصحائف في الدعوة إلى المروءة، وقد رأينا تفصيل ذلك في كتابه "الحوار" ثم مات وليس له من المتأثرين بدعوته إلا عدد قليل من تلاميذه، وبقيت الصين هي الصين من ذلك الحين إلى الآن..
وأعلن حكماء اليونان مذاهبهم في الحكمة وتهذيب النفس، فصنفوا في ذلك المصنفات، وألقوا به الخطب.
وقد اشتطوا في كثير مما صنفوا وخطبوا، وكتاب "الجمهورية" لأفلاطون من أبرز الأمثلة على هذا الشطط، ثم انقضى زمن حكماء اليونان وحكمتهم، دون أن تعمل شعوبهم بما دعوها إليه، لأن الدعوة والمدعوين للعمل بها لم يكونا أهلاً لذلك.
وعالج المسيح في فلسطين عقول مواطنيه من العامة والخاصة ممن كانوا يقصدون هيكل أورشليم، أو يتسلقون جبل الزيتون ويترددون على شواطئ بحيرة طبريا وحقول أرض الجليل وحدائقها، فلم يستجب لدعوته إلا عدد ضئيل لا يكاد يسمى جماعة فضلاً عن أن يكون أمة.
إن الإنسانية من أقدم زمانها، وفي مختلف أوطانها، لم تشهد "الجيل المثالي" إلا مرة واحدة حين فوجئت بإقباله من صحارى أرض العرب يدعو إلى الحق والخير بالقوة والرحمة، فكان ذلك مفاجأة عجيبة لكل من شهد هذا الحادث التاريخي الفذ من روم وفرس وآراميين ولاتين وسكسونيين وصقلبيين وغيرهم.
كانت المفاجأة – بمصدرها وكيفيتها، وأطوارها - ثم كانت عجيبة العجائب بنتائجها التي لا تزال من معجزات التاريخ.
أين كان هؤلاء؟ وكيف تكوّنوا على حين غفلة من الأمم؟ وما هذه الرسالة التي يحملونها؟ وكيف نجحت؟ وما هي وسائل نجاحها؟
سلسلة من الأسئلة لا يكاد الناس يتساءلون بأولها حتى يفاجؤوا بما ينسيهم تاليه أوله. إلى أن رأوا من صفات هذه الأمة المثالية ما أيقنوا به أنها تحمل إلى الإنسانية رسالة الحق والخير، وأنها تترجم عن رسالتها بأخلاقها وسيرتها وأعمالها، وأن الذي اعتقدته وتخلقت به ودعت الأمم إليه هو الحق الذي قامت به السموات والأرض.
وكما تساءل الناس عن هذه العجائب في زمن وقوعها، ثم أنساهم بعضها بعضاً، كذلك نحن نتساءل اليوم عن كثير من أسرارها، بالرغم من ضياع العدد الأكبر من المراجع فيما احترق من بيوت الفسطاط ومدارسها وجوامعها مدة أربعة وخمسين يوماً(2)، وفيما غرق بمياه دجلة أيام ابن العلقمي ومستشاره ابن أبي الحديد، وفيما خسرناه بضياع الأندلس وكوارث الحروب الصليبية، وفيما فرطنا به في أزمان الجهل والانحطاط - بالرغم من كل هذا - فإن النفوس استيقظت الآن لدراسة أحوال "الجيل المثالي" الفذ الذي عرفته الدنيا، ولنقد الأصيل والدخيل من أخباره، وتحليل عناصر الخير التي انطوى عليها، ومعرفة الأسباب التي صار بها جيلاً مثالياً لتستفيد الإنسانية من الاقتداء به والتأسي بسننه وأخلاقه وتصرفاته.(/1)
وأول ما نعلمه ونؤمن به من أسباب الكمال في هذا الجيل المثالي أنه تلقى تربيته على يد معلم الناس الخير خاتم رسل الله المبعوث بأكمل رسالات الله صلى الله عليه وسلم إن هذا السبب في طليعة أسباب الكمال لهذا الجيل المثالي، لا يشك في ذلك عاقل فضلاً عن مؤمن، ولكن يحق لنا أن نتساءل: ألم يكن موسى أحد المبعوثين برسالات الله؟ ألم يتح لموسى أن يعاشر قومه في الحل والترحال معاشرة تربية ودعوة أكثر من أربعين؟ ومع ذلك فقد جاء في "سفر العدد" من التوراة الموجودة الآن في أيدي قومه (14: 26 - 27) ما نصه:
"وكلم الربّ موسى وهارون قائلاً: حتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة علي؟".
"في هذا القفر تسقط جثثكم جميعاً، المعدودين منكم حسب عددكم، من ابن عشرين فصاعداً الذين تذمّروا عليّ".
أين -من أصحاب موسى هؤلاء- أصحاب محمد، عليهما صلاة الله وسلامه، يوم سار بهم إلى بدر وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ليناجزوا ثلاثة أضعافهم من أهل الرجولة والحماسة والبأس، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم بهذه القلّة القليلة من أصحابه وادي زفران، أراد أن يختبر إيمانهم، فأخبرهم عن قريش، واستشارهم في الموقف، فقام الصديق الأعظم أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب الذي أعزّ الله به الإسلام فقال وأحسن، ثم قام فارسهم المقداد بن عمرو "الأسود" الكندي فقال:
"يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه".
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أشيروا عليّ أيها الناس".
فقال له سعد بن معاذ سيد الخزرج وأقوى زعيم في الأنصار:
"والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟".
قال: "أجل".
قال سعد:
"فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئنا به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع ، والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلّف منّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى عدونا غداً. إنّا لصبرٌ في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منّا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله".
وقد كان عملهم أبين من قولهم وأصدق.
هكذا كانوا في مواقف البأس وعند الشدائد، ورأيناهم في تحري الحقوق وإذعانهم للإنصاف والعدل في حياتهم السلمية كما تحدثت عنهم أم سلمة رضي الله عنها -فيما رواه عنها الإمام أحمد في "مسنده" وأبو داود في "سننه"- قالت:
"جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث قد درست، ليس بينهما بيّنة، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها أسطاماً في عنقه يوم القيامة".
فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما:
"حقي لأخي!".
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أما إذ قلتما ذلك؛ فاذهبا فاقتسما ثم توخَّيا الحق، ثم استهما- أي اعملا قرعة على القسمين بعد قسمهما-، ثم ليحل كل واحد منكما صاحبه".
وهذان الرجلان المثاليان في الإيمان بالحق لا نزال إلى الآن نجهل اسميهما لأنهما من عامة الصحابة لا من خواصهم الممتازين بالفضائل الإنسانية النادرة المثال كالعشرة المبشرين بالجنة وطبقتهم ممن اختصهم النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه على محبة الحق، واستجابة أصحابه له فيما أحب أن يكونوا عليه، قد أشاعت هذا الخلق في الخاصة والعامة من أبناء ذلك الجيل المثالي. فلما كانت خلافة الصديق الأعظم رضوان الله وسلامه عليه، ناط منصب القضاء برمز العدالة في الإنسانية- وهو عمر بن الخطاب- فكانت تمر على عمر الأشهر ولا يأتيه اثنان يتقاضيان عنده، وأي حاجة بهذه الأمة المثالية إلى القضاء والمحاكم وهي أمة الحق ومن أخلاقها أن تتحرى الحق بنفسها فلا تحتاج إلى تحكيم القضاء فيه. بل إن الطبقة الدنيا في هذا الجيل- وأحوالها وأخلاقها معروفة في كل جيل وقبيل- وهم ممن يستطيع الشيطان في العادة أن يغلبهم على إرادتهم في بعض الأحيان فيقعون في زلة يستوجبون عليها الحد الشرعي، فإن من أعجب ما وقع في تاريخ البشر أن يأتي من يقع في شيء من تلك الزلة من أهل تلك الطبقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعترف بزلته، ويلح بلجاجة وإصرار على طلب إقامة الحد عليه –وفي ذلك حتفه- ليتطهر مما دنسه به الشيطان.
وكان نبي الرحمة إذا رأى هذا الإيمان العجيب في هذه الطبقة من أصحابه الطيبين يحاول جهده أن يدرأ الحد عنهم بكل ما يجيزه الشرع، فيأبون إلا أن يتعجلوا عقوبة الدنيا ليتقوا بها عقوبة الآخرة.(/2)
وهذه الملاحظة عن هذه الطبقة بالذات –قد سبق إلى التنويه والتحدث عنها إمام كبير من أئمة أهل البيت من زيدية اليمن، وهو الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان بن حمزة- المتوفى ببلدة كوكبان باليمن سنة 614 – نقل ذلك عنه عالم الزيدية في القرن التاسع السيد محمد بن إبراهيم بن علي المرتضى الوزير "775-840" في كتابه "الروض الباسم" (1: 55-56) فذكر تلك الطبقة وقال: "إن أكثرهم تساهلاً في أمر الدين ممن يتجاسر على الإقدام على الكبائر لا سيما معصية الزنا.. وذلك دليل خفة الأمانة ونقصان الديانة، بأننا نظرنا في حالهم فوجدناهم فعلوا ما لا يفعله من المتأخرين إلا أهل الورع الشحيح، والخوف العظيم، ومن يضرب بصلاحه المثل ويتقرب بحبه إلى الله عز وجل. وذلك أنهم بذلوا أرواحهم في مرضاة رب العالمين وليس يفعل ذلك إلا من يحق له منصب الإمامة في أهل التقوى والدين" أي أن طبقة الدهماء في ذلك الجيل المثالي- ممن قد يقعون في الكبائر- كان لهم من صدق الإيمان والاستقامة على الحق ما يرفعهم إلى مرتبة من يحق له منصب الإمامة في أمة أهل التقوى والدين، فكيف بخاصة الصحابة الذين نزههم الله عز وجل عن أصغر الهفوات ورفعهم إلى أعلى الدرجات. ولولا أن النبوة ختمت بمربيهم وهاديهم إلى الحق صلى الله عليه وسلم لما كان مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أقل من الأنبياء الذين سلفوا في الأمم الأخرى.
وإن هذا الذي يتكلم عن الزناة من دهماء الصحابة واستحقاقهم لمنصب إمامة إمام من علماء أهل البيت، يعني ما يقول ويعلم معنى أقواله، لكنه رأى هذه الطبقة في ذلك "الجيل المثالي" قد صدر عنها من صدق الإيمان ما لم تر أمة من أمم الأرض مثله فحكم بعلمه وكان منصفاً لنفسه، وللحق، ولدعوة الإسلام وآثارها في أهلها الأولين.
وقد علق على كلام الإمام المنصور بالله علامة الزيدية السيد محمد بن إبراهيم الوزير (1: 55-57) من "الروض الباسم" قائلاً يخاطب قارئ كتابه: "فأخبرني على الإنصاف: من في زماننا –وقبل زماننا- من أهل الديانة سار إلى الموت نشيطاً وأتى إلى ولاة الأمر مقراً بذنبه مشتاقاً إلى لقاء ربه، باذلاً في رضاء الله لروحه، ممكناً للدعوة أو القضاء من الحكم بقتله؟! وهذه الأشياء تنبه الغافل، وتقوي بصيرة العاقل. وإلا ففي قول الله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) كفاية وغنية، مع ما عضدها من شهادة المصطفى عليه السلام بأنهم "خير القرون" وبأن غيرهم "لو أنفق مثل أحد ذهباً ما مبلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" إلى أمثال ذلك من مناقبهم الشريفة ومراتبهم المنيفة" ونعود إلى المقارنة الأولى بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأمة موسى عليه السلام- وكلاهما من الأولياء أولي العزم- وموسى أتيح له من الوقت لتربية أمته ضعف الوقت الذي أتيح لمحمد صلى الله عليه وسلم في تربية أمته، فكيف نالت أمة محمد صلى الله عليه وسلم هذه المكرمة فكانت "الجيل المثالي" الذي خلده الله عزوجل في القرآن بقوله في سورة آل عمران 110 (كنتم خير أمة أخرجت للناس) بينما الجيل الذي كان مع موسى استحق أن يدمغ بما ورد في سفر العدد (14: 26- 27 و29) كما نقلناه آنفاً عن التوراة التي يطبع منها في كل سنة ملايين النسخ بكل اللغات.
أنا فكرت في هذا الأمر كثيراً من خمسين سنة إلى الآن ومن ذلك الحين وأنا أراقب كل ما يقع عليه نظري من تحقيقات العلماء وخطرات أفكارهم لأصل إلى حكمة الله في هذا الامتياز الذي اختص به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلهم "الجيل المثالي" الوحيد الذي عرفه تاريخ الإنسانية.(/3)
فكرت في معادن الأمم ومواهبها، وسجاياها، فراقبتها جميعاً وهي في بداوتها- أي في مادتها الخام- قبل أن تطرأ عليها الحضارات والعلوم المكتسبة والصناعات والأنظمة الاجتماعية التي هي من صنع التشريع البشري، فتبين لي أن الأمة التي منها "الجيل المثالي" في الإسلام، امتازت في بداوتها على كل أمة أخرى في بداوتها بسعة المدارك ونضج العقل، ودقة المشاعر، وجودة الأخلاق، وأنها امتازت في بداوتها بلغة هي أرقى على الإطلاق من كل لغة أخرى للبشر في طورهم البدوي، وكلّ رقي لأي لغة أخرى غير اللغة العربية هو من أثر الحضارة واتساعها الحادث في الصناعات والعمران والفنون والثروة. ولو أن عالماً من علماء اللغات أمسك بيده قلماً بالمداد الأحمر وشطب به كل لفظة في المعجم الألماني أو الإنجليزي أو الفرنسي، يرى أنها من الألفاظ التي حدثت بعد التقدم الصناعي أو العلمي أو الاقتصادي أو الفني، ولم تكن للألمان أو الإنكليز أو الفرنسيين في بداوتهم، لما بقي لهذه الأمم في أكبر معاجمها اللغوية إلا ما يعادل نصف جزء من أجزاء لسان العرب العشرين إن لم يكن أقل من ذلك. والعرب لما استفحل ملكهم وصارت لهم جيوش عظيمة وإصطلاحات عسكرية وإدارية وفلسفية وعلمية وصناعية أبى علماؤهم أن يقحموا على معاجمهم وأصل لغتهم هذه الاصطلاحات الطارئة، فألفوا كتباً مستقلة للاصطلاحات وبقيت معاجم اللغة تمثل أصل اللغة بشواهدها من شعر العرب وحكمتهم وأمثالهم في أيام بداوتهم، فهي برهان حسي قائم أمام الأنظار على ما امتازت به العربية بين جميع اللغات التي نطق بها البشر.
ومما امتازت به الأمة التي ظهر فيها "الجيل المثالي" إنسانيتها العليا في معاملة الغير وإكرامه بالأمن والقرى. وإذا استثنينا ما يكون في حالة الحرب بين القبيلة وغيرها من العرب، فإن جزيرة العرب من أقدم أزمانها إلى هذه الساعة أعظم بلاد الله أمناً على الإطلاق، ينتقل فيها من شاء فيجد لنفسه فندقاً مجانياً عند كل بصيص نور يعشو إليه في الليل، أو أي خباء يلوح له في النهار، وله- حق- الضيافة ثلاثة أيام بلا منٍّ عليه ولا فضل لمضيفيه.
ومن آداب الضيافة عندهم ألا يسألوا ضيفهم حتى عن اسمه. وكان عندهم الأمن المطلق حتى للحمام والظباء وسائر الصيد في داخل أعلام الحرم في جميع أيام السنة، ولو لقي الرجل قاتل أبيه في أرض الحرم، ما كان له أن يروعه أو يزعجه.
أنا مقتنع كما اختار الله محمداً صلى الله عليه وسلم لإكمال رسالاته وآخرها، اختار كذلك العربية لكتابه الحكيم، لأنها أكمل اللغات وأغناها. واختار أيضاً لرسوله أصدق الأمم وأكرمها معدناً وأجمعها للصفات التي تكمل نجاح هذه الدعوة وتقوى بها على حمل هذه الأمانة فكانت بها خير أمة أخرجت للناس. وقد دعت إلى الإسلام بسيرتها وأخلاقها وتصرفاتها، فتعرفت الأمم إلى الرسالة المحمدية بما رأت العيون من سيرة الصحابة، أكثر مما سمعته الآذان من بيانهم. وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استجابوا لهذه الرسالة وتشرفوا بالدخول في الإسلام كانوا متفاوتين في مبلغهم من سجايا أمتهم. فبعضهم كان أسرع إدراكاً من بعض، وإذا امتاز أحدهم على أخيه بناحية من نواحي الخير، كان لأخيه ناحية أخرى من الخير يمتاز بها.
كان أبو بكر أسبق من عمر إلى إدراك الحق في دعوة الإسلام، لكن عمر حتى في أشد عصبيته على الإسلام- يوم بلغه إسلام أخته وابن عمه وجاء ليبطش بهما- طرقت سمعه صيحة من صيحات الحق التي يهتف بها الإسلام، فبردت عصبيته وتغلب نزوعه للحق على نزوعه لنصرة الإلف، فكان- في خلال دقيقتين اثنتين- من أكرم أنصار الحق على الله، ومن أسرع البشر إلى الاستجابة لنداء الحق. وخالد بن الوليد كان شاباً من أبناء الأعيان من رؤساء قريش، سكر بخمرة النصر على المسلمين في أحد، وعاد إلى مكة نشواناً بها، لكن الحق الذي كان الإسلام يهتف به كان يطرق مسامع خالد، فتأمل فيه فوجده حقاً، فترك ثروة أبيه وجاهه ومربط خيله الواسع في مكة، وخرج قاصداً إلى المدينة ليدخل في دين الذين حاربهم وانتصر عليهم، فلقي في طريقه عمرو بن العاص وحامل مفتاح الكعبة، وعلم أنهما مثله قد تبين لهما الحق وخرجا في طلبه والالتحاق بأهله والجهاد في سبيله فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم عند بلوغهم المدينة: "رمتكم مكة بأفلاذ أكبادها".
مثل هذه الأخلاق كثيرة جداً في "الجيل المثالي" الذي صنع منه محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه، ولكننا قلما نجد ذلك شائعاً في الأمم الأخرى. نعم إن الخير موجود في كل الأمم ولكن لا إلى الحد الذي يقوم به الجيل المثالي، ولذلك كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري في "صحيحه" "الكتاب 61- الباب الأول" من حديث أبي زرعة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".(/4)
ومما لاشك فيه أن العرب كانوا على وثنية ولكنْ مَنْ من الأمم لم يكن عند ظهور الإسلام من أهل الوثنية بمختلف معانيها؟ إلا أن العرب كانوا أحدث الأمم في وثنيتهم، لأنها طرأت عليهم قبيل الإسلام بمئات قليلة على يد عمرو ابن لحي الخزاعي في خبر طويل لا يتسع المقام للإفاضة فيه. وكانت العرب قبل ذلك من أهل الحنيفية دين إبراهيم وإسماعيل، وبنو إسماعيل انتشروا من مكة وتوطنوا في جميع البقاع الشمالية من جزيرة العرب إلى أسوار مدينة دمشق. ومن العرب من كانوا على دين شعيب، وقد ترك التاريخ لنا نصوصاً في هذا المعنى. وهذه الوثنية الطارئة على العرب لم يكن لها عندهم من الهياكل والسدنة والتهاويل ما يضارع الذي لها عند غيرهم، فكانوا أقرب أمم الأرض إلى دين الفطرة، وبذلك استحقوا ثناء الله عليهم فيما جاء بسورة البقرة: 143 (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً، وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله، وما كان الله ليضيع إيمانكم، إن الله بالناس لرؤوف رحيم)، وما جاء في سورة الأنفال: 64 (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) وما جاء في سورة التوبة: 100 (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم).
نقل الحافظ ابن حجر في الإصابة (3:2 طبعة السلطان عبد الحميد) عن الزبير بن بكار "أن رجلا قال لعمرو بن العاص: ما أبطأ بك عن الإسلام، وأنت أنت في عقلك؟
قال: إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدم- يعني أباه ومن هم في طبقته- وكانوا ممن توازي حلومهم الجبال، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم فأنكروا عليه، قلدناهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا، فإذا حق بين، فوقع في قلبي الإسلام، فعرفت قريش ذلك مني، من إبطائي عما كنت أسرع فيه من عونهم عليه، فبعثوا إلي فتى منهم فناظرني في ذلك، فقلت:
- أنشدك الله ربك ورب من قبلك ومن بعدك: أنحن أهدى أم فارس والروم؟
قال: نحن أهدى- يعني الصدق والعدالة والأمانة والتعاون المحمود-.
قلت: فنحن أوسع عيشاً أم هم؟
قال: هم.
قلت: فما ينفعنا فضلنا عليهم إن لم يكن لنا فضلٌ إلا في الدنيا، وهم أعظم منا فيها أمراً في كل شيء؟ وقد وقع في نفسي أن الذي يقوله محمد- من أن البعث بعد الموت ليجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته- حق، ولا خير في التمادي في الباطل".
إن المسلمين- بل الإنسانية كلها- أشد ما يكونون اليوم حاجة إلى معرفة فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرم معدنهم وأثر تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، وما كانوا عليه من علو المنزلة التي صاروا بها "الجيل المثالي" الفذ في تاريخ البشر. وشباب الإسلام معذور إذا لم يحسن التأسي بالجيل المثالي في الإسلام، لأن أخبار أولئك الأخيار قد طرأ عليها من التحريف والأغراض والبتر والزيادة وسوء التأويل في قلوب شحنت بالغل على المؤمنين الأولين، فأنكرت عليهم حتى نعمة الإيمان! وقد أصبح من الفرض الديني والقومي والوطني على كل من يستطيع تصحيح تاريخ صدر الإسلام أن يعتبر ذلك من أفضل العبادات، وأن يبادر له ويجتهد فيه ما استطاع، إلى أن يكون أمام شباب المسلمين مثال صالح من سلفهم يقتدون به ويجددون عهده، ويصلحون سيرتهم بصلاح سيرته.
وهذه المعاني تحتاج إلى دراسات علمية عميقة، ليتبين لنا سر الله في تكوين هذا "الجيل المثالي" على يد حامل أكمل رسالات الله. وإن فصلاً كهذا أضيق من أن يلم- ولو بإشارات قصيرة ولمحات سريعة- بمثل هذه المعاني التي تخطر على البال في أثناء المطالعات والتفكير، ونحن نكتفي بتسجيلها ليتخذ منها أذكياء الطلبة والشبان مواضيع للدراسة والتمحيص. والله الموفق..(/5)
الحاجة إلى تفعيل أدائنا
د. بدران بن الحسن 15/12/1426
15/01/2006
إن صناعة التاريخ بقدر ما تحتاج إلى أفكار سليمة، فإنها تحتاج إلى فعالية في إنجازها، والأمم اليوم في زمن العولمة والمادية الطاغية على اهتمامات الناس تُقاس درجة تحضّرها بقدر ما تملك من فعالية في أدائها.
والفعالية إذا أردنا أن نتفهم حقيقتها في واقعنا اليوم، وخاصة في المستوى الاجتماعي، فإنها لا تكاد تحيد عن معنى القدرة على توليد (ديناميكا) اجتماعية، وذلك من خلال تفهم معادلتنا الاجتماعية، وتحديد متغيراتها، والقيام بأداء منهجي متناسق لا يحتوي خليطًا من الأفكار المتناقضة.
ولعل الفعالية الاجتماعية هي أهم ما يميز الحضارة المعاصرة عموماً، والحضارة الغربية بوجه خاص، بحيث استطاعت هذه الأخيرة تربية العقل والفكر الغربيين على مبدأ الفعالية، وعلى المستويين الفردي والاجتماعي، وصارت تصبغ كل أفعاله وإنجازاته في إطار التاريخ. وتترجم هذه الفعالية اجتماعياً في الواقع في صورة ضمانات اجتماعية يقدمها المجتمع للفرد في أطوار حياته المختلفة.
ولهذا فإن ما يفصل المجتمعات في هذا العصر هو مدى فعاليتها؛ إذ يوجد تشابه واختلاف بين المجتمعات، والاختلاف اللافت للنظر يكمن في ما يطبع نشاط أي مجتمع من فعالية تتفاوت درجتها من مجتمع إلى آخر.
والفعالية في حقيقتها ليست شيئاً فطرياً مركباً في فطرة هذا المجتمع أو ذاك أو هذه الحضارة أو تلك، وإنما هي نتاج لتركيب ثقافي معين متحرك في إطار التاريخ، ومرتبط بالوضعية التي يقفها المجتمع من دورة الحضارة.، كما يرى مالك بن نبي عليه رحمة الله.
ولعل العامل الحاسم في تحقيق الفعالية في أداء أي فرد أو مجتمع هو العامل النفسي، الذي يحفز على الأداء الفعّال من خلال توحيد الهم، وتوجيه الاهتمام، وحشد الطاقات، وقد كان القرآن الكريم هو المحفز والمنتج الأكبر للفعالية في المجتمع الإسلامي في زمن النبوة والصحابة والخلافة الراشدة والسلف الصالح. فقد منح القرآن الكريم لهم الدفعة الروحية، ورفع من طموحاتهم، فغيروا واقعهم وتاريخهم، وبنوا حضارة لم يسبق لها مثيل من قبل.
وإذا التفتنا اليوم إلى واقعنا، نجد أن القرآن هو القرآن، ولكن النفس غير النفس، فواقعنا يناقض تماماً ما نؤمن به. ونجد المسلم الذي يأمره القرآن بالقصد والانضباط (... وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً...)[لقمان: من الآية18]، (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ...)[لقمان: من الآية19]، قد فقد فعاليته لأنه فقد توثبه الروحي.
ولعل الكثير من المسلمين، ومن غير المسلمين من عزا ولا يزال يعزو فشلنا وهواننا وسوء أدائنا إلى القرآن الكريم وإلى ديننا الحنيف، مما جعل الكثيرين يشككون في صحة الإسلام، وفي واقعيته وفي قابليته لأن يكون ديناً متحضراً، وأن يكون منبعاً للفعالية وبناء الحضارة.
ولكن الحقيقة أن الأمر لا يتعلق بصحة الإسلام وصلاحه، بل يتعلق الأمر بقانون اجتماعي وسنة من سنن التاريخ، وهي تسجيل الفكرة في النفوس، وخاصة في هذا العصر الذي طغت عليه المادة والفكر الوضعي. ففي منطق هذا العصر لا يكون إثبات صحة الأفكار بالمستوى الفلسفي أو الأخلاقي، بل بالمستوى العملي. فالأفكار صحيحة –في نظر الكثيرين- إذا هي ضمنت النجاح، وحققت المصالح العاجلة.
ولهذا ينبغي علينا تحقيق فعالية الإسلام في الواقع بالرغم من أن التأكيد على أهمية فعالية الإسلام في الواقع لا يستهين بصحة الإسلام في ذاته. غير أن النظر إلى الإسلام في حركة التاريخ، وفي علاقته بالمعطى الاجتماعي، فيه محاولة لإخراج المسلم من المناقشات الجوفاء، والجدل العقيم، والشعارات المفرغة من محتواها، التي تتحدث عن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، في حين أن الإسلام غائب عن قيادة الحياة.
فالنظر إلى الحقيقة الموضوعية، وما يسجله الإسلام في الإطار الاجتماعي من تغيير وصياغة للنفوس، وما يحدثه من أثر في التاريخ أمر مهم في علاج التسيب واللافعالية التي تكتنف حياتنا الفردية والجماعية.
كما أن العمل على حل مشكلاتنا في واقعنا بما يأمر به الإسلام، وربط الحلول الإسلامية بالواقع، أمر مركزي وخطوة مهمة تخرجنا من الجدال الأجوف على أمر بيّن؛ ذلك أن الإسلام لا يمكن مقارنته بالمسيحية أو الهندوسية أو اليهودية على مستوى الأصالة الذاتية من أي وجه من الأوجه، في قيمته أو مصدره أو شموليته. لكن الأمر يتعلق بالمسلم الذي انفصل واقعه الاجتماعي عن تأثير الإسلام وإن لم يفقد إيمانه بالله يومًا من الأيام.
فنحن لا نحتاج إلى أن نبرهن على الصدق النظري للإسلام، وإنما من خلال صياغة الحياة به كما كان يفعل السلف، وإظهار فعاليتها في الواقع.. من خلال العودة إلى روح الإسلام ومنهجه.(/1)
وكما يؤكد مالك بن نبي عليه -رحمه الله- فإن التجربة الإسلامية القدوة التي صاغها النبي -صلى الله عليه و سلم- غيرت المعادلة الاجتماعية للعرب، وأخرجت إنسانًا جديدًا غيَّر مجرى التاريخ وشاد حضارة خلال نصف قرن، وأنتج أشخاصًا أمثال عمار وبلال وربعي رضي الله عنهم أجمعين. فعمار بن ياسر كانت روحه المتناغمة مع نداء الفكرة الإسلامية وحرارتها الإيمانية، كانت هذه الروح تدفعه إلى أن ينقل حجرين بدل حجر واحد عند بناء المسجد النبوي، وبلال الذي ينادي: أَحَدٌ أَحَد، إنما كانت روحه أقوى من تلك الصخرة التي على صدره؛ إذ كانت تتطلع بفعل التوتر الذي أحدثه الإسلام فيها إلى حياة أسمى من ذلك العذاب الذي كان يلاقيه فلا يحس به. وربعي بن عامر كان بما تشكل عليه من قيم الإسلام وروحه أعلى وأقوى من رستم قائد الفرس، بالرغم من أن ربعي كان جندياً بسيطاً في جيش الإسلام، وكان رستم قائد جيش الفرس، ولكن التوتر الروحي بلغ ذروته عند ربعي رضي الله عنه فغيّر مجرى المعادلة.
من هنا يمكن أن نؤكد أن الفعالية من وجهة اجتماعية (سوسيولوجية)، تنتج من خلال التركيب التاريخي للعناصر الأولية للحضارة، والتي هي الإنسان والوقت والتراب، على حسب تعبير الأستاذ مالك بن نبي -رحمه الله- على ضوء هداية منهج مكيف طبقًا للنموذج الذي اختاره المجتمع.
فالفعالية في جوهرها منهج فكري، بمعنى أنها (مسألة أفكار ومناهج وليست مسألة وسائل)، الأمر الذي اعتقده العالم الإسلامي حين اتجه إلى البحث عن الوسائل المادية، بينما الأمر يتعلق بنمط الثقافة، وما تحدّده من مناهج، وما توفره من أفكار وجو فكري، يفعِّل الأداء الاجتماعي للفرد والمجموع.
والحديث عن النموذج والمنهج هو في الحقيقة حديث عن ترجمتهما في صورة مشروع ثقافي، يكتّل الجهود، ويشكّل دستور الحياة، متضمناً عناصر الفكر والأخلاق والجمال والصناعة بالتعبير الخلدوني.(/2)
الحاجة إلى معرفة الحضارة الغربية
د. بدران بن الحسن 18/9/1425
01/11/2004
يتساءل كثير من المثقفين عن كيفية ضبط العلاقة بالغرب المعاصر، ذلك أن هذا الإشعاع العالمي الشامل الذي تتمتع به ثقافة الغرب، هو الذي جعلنا في موقف ينبغي أن نحدد الصلة بالغرب، وخاصة أن ما يفيض علينا وعلى غيرنا من الأمم والشعوب من إنجازاته الحضارية ومن فوضاه الحالية جعل منه مشكلة عالمية، ينبغي أن نحللها وأن نتفهمها في صلاتها بالمشكلة الإنسانية عامة، وبالتالي بالمشكلة الإسلامية.
وهذا لا يجعل العالم الإسلامي تابعًا في حلوله للغرب كما يعتقد كثير من التغريبيين أو غيرهم من دعاة الأصالة الإسلامية، وإنما يتطلب منا أن نعرف التجارب الحضارية المختلفة لنتحقق من مدى نسبيتها ومدى قابليتها للنقل والاستفادة.
فإذا ما أدرك العالم الإسلامي أن الظاهرة الحضارية الغربية مسألة نسبية، فسيكون من السهل عليه أن يعرف أوجه النقص فيها، كما سيعرف عظمتها الحقيقية، وبهذا تصبح الصلات مع العالم الغربي أكثر خصوبة، ويسمح ذلك للنخبة المسلمة أن تمتلك نموذجها الخاص، تنسج عليه فكرها ونشاطها. فالأمر يتعلق بكيفية تنظيم العلاقة وعدم الوقوع في الاضطراب كلما تعلق الأمر بالغرب.
فالعالم الإسلامي منذ بداية الجهود التجديدية الحديثة يضطرب، كلما تعلق الأمر بالغرب، غير أنه لم يعد بذلك البريق الذي كان عليه منذ قرن تقريباً، ولم يعد له ما كان يتمتع به من تأثير ساحر، وجاذبية ظفر بها على عهد أتاتورك مثلاً؛ فالعالم الغربي صار حافلاً بالفوضى، ولم يعد المسلم الباحث عن تنظيم نفسه وإعادة بناء حضارته الإسلامية يجد في الغرب نموذجًا يحتذيه، بقدر ما يجد فيه نتائج تجربة هائلة ذات قيمة لا تقدر، على الرغم مما تحوي من أخطاء.
فالغرب تجربة حضارية تعد درسًا خطيرًا ومهمًّا لفهم مصائر الشعوب والحضارات، فهي تجربة مفيدة لإعادة دراسة حركة البناء الحضاري، وحركة التاريخ، ولبناء الفكر الإسلامي على أسسه الأصيلة، وتحقيق الوعي السنني، الذي ينسجم مع البعد الكوني لحركة التاريخ، ذلك البعد الذي يسبغ على حركة انتقال الحضارة قانونًا أزليًا أشار إليه القرآن في قوله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس )[آل عمران:140].
فالتأمل في هذه التجربة التي صادفت أعظم ما تصادفه عبقرية الإنسان من نجاح، وأخطر ما باءت به من إخفاق، وإدراك الأحداث من الوجهين كليهما، ضرورة ملحة للعالم الإسلامي في وقفته الحالية، إذ هو يحاول أن يفهم مشكلاته فهمًا واقعيًا، وأن يقوّم أسباب نهضته كما يقوّم أسباب فوضاه تقويمًا موضوعيًا.
وحتى تنظم هذه العلاقات، ويستفاد من هذه التجربة البشرية، ويدرك مغزى التاريخ، لا بد من فهم هذا الغرب في عمقه، وتحديد خصائصه، ومعرفة ما يتميز به من إيجابيات وسلبيات، حتى لا تكون معرفتنا به سطحية مبتسرة، وأفكارنا عنه عامة وغير نابعة من إطلاع متأمل، وبالتالي يكون وعينا به مشوهًا أو جزئيًا.
ولقد أضاع المسلمون كثيراً من الوقت منبهرين بما حققه الغرب، دون أن يتأملوا ويدركوا سر حركة التاريخ في الغرب، فنرى كثيراً من الباحثين والمفكرين المسلمين بمختلف انتماءاتهم يجهلون حقيقة الحياة الغربية والحضارة الغربية بالرغم من أنهم يعرفونها نظرياً، كما أنهم ما زالوا يجهلون تاريخ حضارتها. وإنه بدون معرفة حركة تاريخ هذه الحضارة والمنطق الداخلي الذي يحكمها؛ فإننا لم ندرك سر قوتها ولا مكامن ضعفها، ولم نعرف كيف تكونت، وكيف أنها في طريق التحلل والزوال لما اشتملت عليه من ألوان التناقض، وضروب التعارض مع القوانين الإنسانية.
وإذا كانت المائة سنة الأخيرة قد تميزت بتقريب المسافات، واتجاه البشرية نحو التوحد، في مصيرها، وفي علاقاتها؛ فإن المثقف المسلم نفسه ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة، ويرتقي إلى إطار الحضور العالمي، وعيًا وإنجازًا، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي، إذ لا يمكن أن نطرح مشاكلنا في زمن العولمة والكونية، دون أن نأخذ في الاعتبار كل المعطيات السياسية والجغرافية والاستراتيجية.
وتحديد الصلة بالغرب وبغيره من الكيانات الحضارية، يعطينا تحديدين مهمين في إنجاز مشروعنا التجديدي: التحديد الأول؛ هو التحديد السلبي، وذلك من خلال إدراك نسبية الظواهر الغربية، ومعرفة أوجه النقص فيها وأوجه العظمة الحقيقية. أما التحديد الثاني؛ فهو التحديد الإيجابي، من خلال تحديد ما يمكن أن نسهم به في ترشيد الحضارة الإنسانية وهدايتها.
وهذا في حد ذاته ينضج ثقافتنا ويعطيها توجهًا عالميًا؛ فمن المفيد -قطعًا- أن ننظر إلى حركة التاريخ والواقع من زاوية عالمية لنكتسب بذلك وعياً عالمياً؛ فإذا أدركنا مشكلاتنا في هذا المستوى، فإننا سندرك لا محالة حقيقة الدور الذي يناط بنا في حضارة القرن الواحد والعشرين.(/1)
وعلينا أن ندرك وحدة المشكلة الإنسانية التي تنبثق عن المصير المشترك الذي آل إليه وصب فيه القرن العشرون وبدأ به القرن الواحد والعشرون. إن فكرة وحدة التاريخ الإنساني في هذه المرحلة التاريخية تتطلب منا الخروج من العزلة الجغرافية السياسية والعزلة الفكرية الثقافية لنخرج بأفكارنا وثقافتنا إلى إطار عالمي نقدم فيه مساهمتنا الحضارية المتميزة القائمة على رؤية توحيدية إسلامية من أجل صالح البشرية.
كما ينبغي أن ننظر بتوازن للأشياء وللأفكار، والتخلص من الثقافة الحدية التي ترى في الغرب إما طاهر مقدس (كما هو شأن العلمانيين من أبناء المسلمين)، وإما دنس حقير (كما هو شأن الإسلاميين من أبناء المسلمين). ومن بين الأمور التي ينبغي التوازن في النظر إليها هي الحضارة الغربية التي تبسط هيمنتها على العالم؛ فأحكامنا على هذه الحضارة –سلباً أو إيجاباً- إنما هي ناتجة عن مطالعات مبتورة.
فأفكارنا عن الحضارة الغربية تصدر عن ذلك الحكم المبتسر، وعن تلك العلاقة السطحية -الوظيفية أو التجارية- بيننا وبينها. وهذا مرض متجذر في ذاتنا منذ قرون مضت، حينما صار الفكر الإسلامي عاجزًا عن إدراك حقيقة الظواهر، فلم يعد يرى منها سوى قشرتها، وأصبح عاجزًا عن فهم القرآن؛ فاكتفى باستظهاره، حتى إذا انهالت منتجات الحضارة الغربية على بلاده اكتفى بمعرفة فائدتها إجمالاً، دون أن يفكر في نقدها، وتفهمها، وغاب عن وعيه أنه إذا كانت الأشياء قابلة للاستعمال، فإن قيم هذه الأشياء قابلة للمناقشة.
ومن ثم وجدنا أنفسنا لا نكترث بمعرفة كيف تم إبداع الأشياء؛ بل نقنع بمعرفة طرق الحصول عليها، فاستحكم فينا ذهان السهولة، وهكذا كانت المرحلة الأولى من مراحل تجديد العالم الإسلامي، مرحلة تقتني أشكالاً دون أن تلم بروحها، فأدى هذا الوضع إلى تطور في الكم، زاد في كمية الحاجات دون أن يعمل على زيادة وسائل تحقيقها، فانتشر الغرام بكل ما هو مستحدث، وكان الأولى التفريق بين عمق الحضارة ومظاهرها السطحية.(/2)
الحب بين الزوجين أقل خيالية وأكثر عمقًا
هي: خلقت منك ولك.
هو: أنت مني وحبك بدمي.
هي: أحتاج إليك.
هو: إذن فلم الصراع؟
هي: لأنك تجهل مدى هذا الاحتياج.
هو: بلى فأنا أيضًا لا غنى لي عنكِ.
هي: احتياج المرأة مختلف.
هو: إذن وضحي لي فلعلنا نتفق.
هي: حبيبي الإحساس وحده لا يكفي بل لا بد من التعبير والتغيير والتفعيل.
هو: التعبير معلوم، والتغيير مفهوم ولكن أي تفعيل؟
هي: تفعيل الحياة أي الحفاظ على أحاسيسنا الجميلة واستثمارها في جعل الحياة أكثر فاعلية وعطاءً وقيمة.
هو: أحبك.
هي: أحبك .. وهذا هو التعبير فما أجمله.
هو: إذن فلنتناول العشاء اليوم في أحد المطاعم الهادئة في نسمات الليل.
هي: ولنحتسي الشاي على ضوء القمر والنجوم من شرفة حجرتنا ثم نصلي القيام معًا وذلك هو التغيير فما أروعه.
هي: فلنجعل من حبنا نبعًا للسعادة وعطاء ورضا .. فالحب أجمل زهرة في بستان الزوجين فلنراعه ونرويه حتى لا يذبل ويموت، فنظن أنفسنا أحياء ونحن في الحقيقة أموات بدون هذا الحب.
الزواج كالشتلة يحتاج لرعاية مستمرة:
إن الحب الكامل بين رجل وامرأة لا يمكن تصوره إلا بعد الزواج حيث تتاح الفرصة للمنافع المتبادلة وترجمة الإخلاص والوفاء والتفاني في خدمة الغير إلى واقع فعلي.
والزواج السعيد ليس وليد الحظ والصدفة بل هو كالشتلة التي تغرس في الأرض ثم تنمو وتكبر، وهي في كل مراحلها تحتاج إلى رعاية وعناية باستمرار أو قل هو بناء معماري يحتاج إلى تخطيط وتصميم وبناء ثم صيانة، وإن الفشل والنجاح لا يتوقعان على شريك دون الآخر بل لكلٍ تأثيره السلبي أو الإيجابي.
أقل خيالية .. وأكثر عمقًا:
إن حب الزواج أقل خيالية وأكثر عمقًا في واقع الحياة، إن الحب الكبير مع كبر الزوجين ومع مواجهتهما لمشكلات الحياة وتحدياتها، ومع اشتراكهما معًا في التغير والتكيف مع علاقتهما المتغيرة باستمرار.
هناك من الأزواج من قد يعاني من الصعوبات حتى يصلا إلى الاعتقاد أن الحب قد اختفى وزال تمامًا، إلا أنهما لا يدركان أن سبب شعورهما هذا هو المرحلة التي هما فيها.
ونحن لا ننكر أن حرارة الحياة وجديتها ورتابة الحياة الزوجية، وطول الإلف والعشرة تؤثر على العلاقة بين الزوجين والتعبير عن الحب بينهما، ولكن يمكن للأزواج من خلال مواجهة التحديات والاختلافات بوعي ورعاية، ومن خلال تطبيق مهارات الكلام والاستماع أن يبدآ برحلة شيقة وبناء نوع جديد من العلاقة العاطفية.
إنها أيضًا تضحية:
إن العلاقة الزوجية ليست فقط مشاعر الحب والعاطفة ولكنها أيضًا الاستعداد للتضحية أو التصرف لمصلحة الطرف الآخر على حساب المصلحة الشخصية.
وعند ذلك تتحول كلمات الحب بين الزوجين إلى سلوك فعلي وعلاقات دائمة وتضحيات تنعكس على كل أفراد الأسرة بالسعادة والوئام.
وعلينا أن نعرف أنه قد تكون هناك أعمال كثيرة لا أحبها إلا أن علي أن أقوم بها كأن لا يرغب الإنسان أحيانًا في زيارة الآخرين، أو الذهاب إلى العمل، أو إعداد الطعام والطبخ، إلا أن العلاقة الزوجية لا تنجح إذا لم يكن الإنسان مستعدًا للقيام بأعمال قد تتعارض مع مشاعره أو رغباته أحيانًا.
وهنا علينا أن يميز بين أمرين هما:
مشاعر الحب.
وأعمال الحب.
فالمشاعر هامة وأساسية إلا أن أعمال الحب من التضحية والبذل للآخر من شأنها أن تحافظ على العلاقة الزوجية السعيدة والدافئة. وأعمال الحب هي تلك الأعمال الإضافية التطوعية التي تنم عن المحبة الكبيرة والتقدير العظيم للطرف الآخر، وهذا ما فصلناه في مقال كيف تعبران عن حبكما ؟
عزيزي القارئ:
عندما تمتلئ قلوبنا بالحب، وعندما نتقاسم هذا الحب فإننا نصبح أكثر رأفة وملاطفة ومثابرة، وتنمو رؤيتنا ونكتسب مزيدًا من الرضا. وعندما نكتشف أساليب جديدة لنتقاسم هذا الحب يحدث تحول سحري تقريبًا في حياتنا فنصبح أكثر اهتمامًا بالآخرين وخاصة الشريك الآخر وأكثر اجتماعية وحكمة، ويبدو الأمر كقانون طبيعي تقريبًا فكلما اكتشفنا أساليب جديدة للتعبير عن الحب والمشاركة نجد أنفسنا وقد أحاطتنا مشاعر الحب، تعبير عن الحب + مشاركة = مزيدًا من مشاعر الحب
عزيزي القارئ املأ حياتك بمشاعر الحب وفرص التعبير عن الحب مهما كانت ظروفك وأولوياتك.(/1)
الحب في القرآن ... ... ...
نريد أن نعرض قلوبنا على القرآن الكريم ؟ ما هو ذاك الحب الذي يسودها ويمحورها ويستحوذ عليها ؟
إن كل حب يستقطب قلب الإنسان يتخذ إحدى درجتين الدرجة الأولى: أن يشكل هذا الحب محوراً وقاعدة لمشاعر وعواطف وآمال وطموحات هذا الإنسان، قد ينصرف عنه في قضاء حاجة في حدود خاصة ولكن سرعان ما يعود إلى القاعدة لأنها المركز وهى المحور وقد ينشغل بحديث، وقد ينشغل بكلام، وقد ينشغل بعمل، بطعام، بشراب، بعلاقات ثانوية، بصداقات، لكن يبقى ذلك الحب هو المحور.
الدرجة الثانية من هذا الحب: ان يستقطب هذا الحب كل وجدان الإنسان، بحيث لا يشغله شيء عنه على الإطلاق، ومعنى ذلك أنه سوف يرى محبوبه أينما توجه.
وهذا التقسيم الثنائى ينطبق على حب الله وحب الدنيا، الحب الشريف لله عز وجل يتخذ هاتين الدرجتين
الدرجة الأولى: يتخذها في نفوس المؤمنين الصالحين فهؤلاء يجعلون من حب الله محوراً لكل عواطفهم ومشاعرهم وطموحاتهم وآمالهم، قد ينشغلون بمتعة من المتع المباحة، ولكن يبقى هذا المحور هو الذى يرجعون إليه بمجرد أن ينتهى هذا الانشغال الطارئ.
كما قال واصفاً المؤمنين في غزوة أحد حينما تطلعت نفوسهم إلى الغنائم { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ }{آل عمران: من الآية152} وهذا هو شأن المؤمن الصالح يرجع ويتوب ويعود إلى حب الله بعد ما شغلته الدنيا لأن حب الله عنده هو الأساس و المحور.
أما الدرجة الثانية، فهى الدرجة التي يصل إليها الصديقون وأولياء الله وهم الصفوة كأبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلى رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال تعالى { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ }{البقرة: من الآية165}
{ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ }{المائدة: من الآية54}
وفي الحديث (ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولاصيام ولكن بشيء وقر في صدره)
يعني والله تعالى أعلم أن أبا بكر رضي الله عنه كان يحب الله ويحب الإسلام حباً عظيما لا يقدر بشيء وهذا الحب إستقطب كل وجدانه وكل مشاعره بحيث لا يقدم أي شيء على حب الله وحب الإسلام وأكبر دليل يدل على ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه استلم قيادة جزيرة العرب وأغلب أهلها قد إرتدوا عن الإسلام ونكثوا العهود فثبت ولم يهتز لأنه يحب الإسلام ويحب مرضاة الله حباً لا مثيل له ولأجل ذلك ضحى في قتال المرتدين بالنفس والنفيس.
ونفس هذا التقسيم الثنائي يأتى في حب الدنيا.
الدرجة الأولى: أن يكون حب الدنيا محوراً للإنسان في تصرفاته وسلوكه يتحرك حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يتحرك، ويسكن حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يسكن، يتعبد حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يتعبد وهكذا، الدنيا تكون هي القاعدة، ولكن أحيانا يمكن أن يفلت من الدنيا ويشتغل أشغالاً أخرى طاهرة قد يصلى وقد يصوم لله لكن سرعان ما يرجع مرة اخرى إلى ذلك المحور وينشد إليه، فهى فلتات يخرج بها من إطار ذلك الشيطان ثم يرجع إلى الشيطان مرة أخرى، هذه هى الدرجة الأولى من هذا المرض الوبيل {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} {الأعلى:16-17}
الدرجة الثانية هى المهلكة حينما يُعمي حب الدنيا هذا الإنسان، يسد عليه كل منافذ الرؤية بحيث لا يرى شيئاً إلا ويرى الدنيا فيها وقبلها وبعدها.حتى الأعمال الصالحة تتحول عنده إلى دنيا وتتحول إلى متعة إلى مصلحة شخصية حتى الصلاة حتى الصيام، هذه الألوان كلها تتحول إلى دنيا لا يمكنه أن يرى شيئاً إلا من خلال الدنيا، إلا من خلال مقدار ما يمكنه لهذا العمل أن يعطيه من حفنة مال أو من حفنة جاه، وهذا لا يستمر معه إلا بضعة أيام معدودة.
قال تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ }{الأعراف:175/176}
فأعلم يا أخي أن حب الله هو الذى يعطى للإنسان الكمال والعزة والشرف والاستقامة، والقدرة على مغالبة الضعف في كل الحالات.
حب الله سبحانه هو الذى جعل أولئك السحرة يتحولون إلى رواد على الطريق، فقالوا لفرعون:
{ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}{طه: من الآية72}(/1)
حب الله هو الذى جعل ماشطة بنت فرعون تعلن بكل فخر أن ربها هو الله وهو رب فرعون وهو الذى ثبتها أمام عذاب فرعون القاسي الذي أحرق جسدها وجسد أبنائها بالنار حتى الموت فأين نحن اليوم من شبابنا الذين يقولون لا نستطيع الصبر على الشهوات وأين نحن اليوم من أخواتنا اللائى يقلن لا نقدر على إرتداء الحجاب فأين أنتن يا أخواتى من ماشطة بنت فرعون والتي عذبها فرعون بالنار وقتل أبنائها أمام عينيها وهي صابرة محتسبة لأنها أحبت الله وأحبت ما عند الله من الثواب فقدمت حب الله على حب الدنيا وأعلم يا أخى الكريم أن من أعظم الأسباب المعنية على حب الله سبحانه وتعالى.
قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه ومعرفة المراد منه والعمل به ودوام ذكر الله تعالى والصحبة الطيبة والبعد عن رفقاء السوء. ... ...
... ...(/2)
الحب في الله
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
ذكر الله صفات المنافقين والمنافقات وما تنطوي عليه قلوبهم القبيحة من شر وفساد وما يقومون به من الأفعال القبيحة الشنيعة، من الصد عن دين الله والتكذيب لرسل الله، والسخرية بالمؤمنين، يفعلون ذلك ثم يزعمون الإسلام، ويرتكبون عظائم الإجرام في حق الإسلام وأهله، فالمنافقون لا يتفقون على شيء كاتفاقهم على حرب الإسلام، ودعوتهم إلى المنكرات من الأقوال والأعمال، ونهيهم عن فعل المعروف والإحسان وبخلهم عن الإنفاق في سبيل الله.
وبعد أن ذكر الله أحوال المنافقين والمنافقات ذكر صفات المؤمنين والمؤمنات وبين ما أعده سبحانه لهم من النعيم المقيم في دار الخلد والجنان، وذلك ليظهر الفرق بين المؤمنين والمنافقين، ويتميز أهل الهدى من أهل الإذلال ويتباين أصحاب الجنة وأصحاب النار وبضدها تتميز الأشياء، قال الله تعالى: ? وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ?[التوبة:71-72].
إن أول شيء يبرز في حياة المؤمنين والمؤمنات هو الحب والولاء . إن الإيمان الصادق حين يخالط القلوب ويعمرها فإنه يربط قلوب المؤمنين ببعضهم ويكونون جميعاً شيئاً واحداً يغمرهم الحب في الله لا فرق بين غني أو فقير ولا أبيض ولا أسود ولا عربي ولا أعجمي ولا ذكر ولا أنثى كلهم يهدفون لتحقيق العبودية لله رب العالمين، ولقد صور رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين في حبهم وموالاتهم ومناصرتهم تصويراً رائعاً فقال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" () وفي رواية قال: "المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله"().
وهكذا يكون المؤمنون والمؤمنات متضامنون متحدون متوادون متعاطفون متراحمون ، الوحدة بينهم وحدة حقيقية تغوص في الأعماق والمشاعر، وتبدوا على الوجوه والألسنة ، الوحدة بينهم وحدة عضوية.. إذا نزلت كارثة بواحد منهم أو بمجموعة تداعى لذلك سائرهم بالمشاركة في الألم والرعاية والحماسة للحق والعناية. إن إحساس المرء بأن هناك أناساً يشاركونه شعوره يخفف عنه كثيراً من الألم.
ويغرس في نفسه أملاً بالمستقبل يحمله على أن يتجاوز العقبات ولقد مثل الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى بهذا المثل الرائع فقال: "مثلهم كمثل الجسد الواحد"
إن أعضاء البدن كلها وإن لم تكن متساوية في الأهمية لكنها متساوية من حيث تألم الجسد عند حلول أي ضرر عليها وهكذا فليس هناك عضو في المجتمع الإسلامي مهما كان شأنه هيناً لا تتأثر الأمة من أجل ضر أصابه، إنهم لابد أن يتألموا لأنهم جسد واحد. وهذا يدل على أنهم أحياء، أما إن لم يبالوا فمعنى ذلك أنهم مصابون بشلل أو حل بهم الموت.
إن الإنسان ضعيف بنفسه قوي بإخوانه ، إنه عاجز عن أن يحقق كل شيء يريده لنفسه أو لأمته ودينه وغير قادر على مواجهة قوى الشر العاتية التي تتربص له ولدينه وإخوته وغير قادر وحده أن يصنع كثيراً مما يجب أن يتحقق.
ولكنه مع إخوانه المؤمنين قوى يستطيع أن يفعل الكثير وأن يحقق ما يود من مثل الحق والخير والعدل والإحسان فهو كالبنيان يشد بعضه بعضاً كما قال عليه الصلاة والسلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ثم شبك أصابعه"()(/1)
إن الذين يجتمعون تحت مظلة الإسلام والإيمان وتحت راية القرآن يجدون ضالتهم المنشودة في الحب والموالاة، وحين كانت هذه المعاني واضحة بارزة في جيل الصحابة رضوان الله عليهم والقرون المفضلة بعدهم تسابق الناس إلى الإسلام من كل الأجناس والألوان وأحبوا المسلمين أكثر من أنفسهم وأموالهم وأولادهم ، ودخلت شعوب بأكملها في دين الله لما رأوا من العدل والصدق والتعاون والحب والتكافل.
ورحب الناس بالإسلام حين رأوا الإخاء وأن العدل مغزاه
أرواحنا تتلاقى وهي خافقة كالنحل إذ يتلاقى في خلاياه
دستوره الوحي والمختار عاهله والمسلمون وإن شتوا رعاياه
هذا هو منطق الإيمان وذاك هو المجتمع المؤمن المسلم الذي عاش مئات السنين كالجسد الواحد فلا تحل نكبة بطرف من أطراف المسلمين، إلا وفزع المجتمع المسلم ويتجاوب لذلك الحدث ويتألم ويسهر ، ويقدم من نفسه وماله ووقته الشيء الكثير ولا يعرف للراحة طعماً، إلا بزوال النكبة الحاصلة على جزء منه.. وهذا التصرف والموقف، من أشد ما يغيظ الكفار ويرهبهم جميعاً في الماضي والحاضر.
ذلك لأنهم كانوا يجدون أمة قوية متماسكة متناصرة تدافع عن الجزء منها كما تدافع عن الكل، فكانوا يرهبونها ويخافونها، ولكن هذه الأخلاق والصفات التي كان يتمتع بها المسلمون من الحب والنصرة والموالاة ضعفت واختفت في حياة كثير من المسلمين الذين نسوا دينهم وجهلوا أمر ربهم وسنة نبيهم، وتعددت ولاءاتهم فلم يعد الولاء والنصرة والحب لدين الله عز وجل وللمؤمنين ، إنما صار الولاء والحب للأموال وللمناصب وللشهوات وغدت هذه الأمور معقد ولاء وبراء. فكم نرى من الخصومات والعداوات بين ذوي القربى من أجل حطام الدنيا ومتاعها الفاني.
إن مقتضيات الإسلام والإيمان ومستلزماته محبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة ما جاء به الرسول أن يحب المرء المسلم إخوانه المؤمنين وجماعة المسلمين ، فإن هؤلاء تجب محبتهم في الله ومناصرتهم من أجل دين الله والقرآن الكريم مليء بالآيات التي توجب الموالات والحب والنصرة للمؤمنين كما في هذه الآيات الكريمة التي نحن بصددها فقد وصفت المؤمنين والمؤمنات بذلك في قوله سبحانه وتعالى: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ...?[التوبة:71] فذكورهم وإناثهم وشيوخهم وشبابهم كلهم جميعاً على المحبة والموالاة والانتماء والنصرة والتعاطف وقال تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ...?[الأنفال:72].
وقال تعالى:? إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ?[المائدة:55-56].(/2)
تأملوا أيها المؤمنون كيف عقد الله بين المؤمنين في كل زمان ومكان ، عقد موالاة ومحبة ومناصرة، فصار بعضهم أولياء بعض، لكمال إيمانهم وتمام اتصال بعضهم ببعض، وقد تجلت هذه العقيدة وظهرت في أعلى وأوضح معانيها في جيل الصحابة الكرام. يكفي أن أذكر لكم حادثة واحدة فقط للتدليل على ذلك. ما حصل مع عمير بن وهب الجمحي وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعاً، حيث كان عمير قبل إسلامه قد جلس مع صفوان بن أمية بجوار الكعبة بعد غزوة بدر وتحدثا عن الهزيمة المنكرة التي لحقت بهم في بدر وكان ابناً لعمير أسيراً لدى المسلمين، فقال عمير لصفوان لولا دين علي وأولاد صغار ليس لهم عائل ينفق عليهم لذهبت وقتلت محمداً، فقال صفوان: أنا أتحمل ذلك الدين عنك وأتكفل بالإنفاق على أولادك وسأجعلهم كأولادي، وتعاهد الرجلان على ذلك سراً بجوار الكعبة، ثم مضى عمير بن وهب في مهمته حتى قدم المدينة، ونزل على مقربة من المسجد النبوي، وبينما هو متجه إلى المسجد رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان معه عدد من الصحابة فقال عمر: هذا عدو الله عمير بن وهب، والله ما جاء إلا لشر، امضوا إلى رسول الله وكونوا حوله، ثم انطلق عمر إليه وأخذ بمجمع ثوبه من عنقه وطوق عنقه بحمالة سيفه، ثم مضى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم على تلك الحالة قال لعمر: أطلقه يا عمر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ما الذي جاء بك يا عمير، قال جئت أرجو فكاك هذا الأسير الذي في أيديكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بال السيف معك، قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر. قال: اصدقني الذي جئت به؟ قال ما جئت إلا لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم، بل قعدت مع صفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً فتحمل لك صفوان دينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك. فأسقط في يد عمير وقال: والله لقد أيقنت أنه ما أتاك به إلا الله فالحمد لله الذي ساقني إليك سوقاً ليهديني إلى الإسلام ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ففرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لخنزير كان أحب إلي من عمير بن وهب حين قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو اليوم بعد إسلامه أحب إلي من بعض أبنائي".
هكذا هو الإيمان وهذه هي أجواؤه العبقة الفياحة التي تعطر الوجود كله وتعمره بالتوحيد والحب والولاء.
فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أوثق الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله.
الخطبة الثانية:(/3)
لقد كان خلفاء المسلمين وحكامهم في السابق يطبقون عقيدة الولاء للمسلمين أو إذا ما وقع على فرد من المسلمين ضيم فإنه لا يهنأ ولا يستقر لهم قرار حتى ينتصروا له. ومن الأمثلة العملية التي وعتها ذاكرة التاريخ أن أحد خلفاء المسلمين بعث بعثة استطلاعية مكونة من اثنين من جنوده للوصول إلى القسطنطينية وتفقد أحوالها وسافر الاثنان متنكرين حتى وصلا عاصمة الروم واختلطا بأهلها وجمعا ما يريدان من معلومات وكانت خطتهما أن يمشيا متباعدين حتى إذا قبض على أحدهما كان بوسع الآخر العودة والإخبار عنه، ودخل أحدهما قصر الملك في أحد احتفالاتهم وحاول التعرف على القصر ومداخله، وأحوال الملك وجماعته ولكنه اكتشف أمره وقبض عليه ، وكان أخوه في الإسلام يراقب ذلك فلما تأكد من أنه سجن كر راجعاً ليخبر الخليفة بأمره، وقدم الجندي المسلم إلى ملك الروم الذي كان مغروراً بأبهته وحاشيته ، فاتهم الجندي المسلم باللصوصية وقال له: ماذا يريد خليفتكم من الإغارة علينا، أما تكفيكم بلادكم ورد عليه الجندي بعزة وإباء قائلاً: نحن لا طمع لنا في بلادكم ولا أموالكم، وإنما نهدف إلى نشر الإسلام وإقامة موازين العدل التي افتقدها الناس بسبب ضلالهم عن الدين الحق وتحريفهم لكتب الأنبياء السابقين وتأليههم البشر وعبادتهم للملوك والجبابرة .. وغضب عند ذلك البطريك الذي كان جالساً قرب الملك وقام من مجلسه وصفع الجندي على وجهه صفعة مؤلمة وأمر بسجنه ودارت الأيام وجرى تبادل الأسرى بين المسلمين والروم وعاد الجندي المسلم الأسير إلى أهله ، واستدعاه الخليفة وأكرمه وسمع خبره ثم أمر بتوجيه بعثة من الجنود تنكروا على شكل صيادين حتى وصلوا إلى القسطنطينية فدخلوا واحتالوا على البطريك فقبضوا عليه وجاءوا به مكبلاً إلى أن أدخل على مجلس الخليفة الذي زانه الوقار والحكمة والهيبة.. فأوقف أمامه، وكان الجندي الذي أسر بجانب الخليفة، فقال له الخليفة أهذا هو؟ أي الذي صفعك. فقال: نعم يا أمير المؤمنين ، فقال له: دونك عنه يا أمير المؤمنين، فقال الخليفة للبطريك: اذهب إلى ملكك وقل له : إن أمير المؤمنين يقيم العدل ويقتص من الجاني حتى في مملكتك، ورجع البطريك يرجف فؤاده خزياً وهيبة، وقد أذله وقهره عفو الجندي وتوبيخ الأمير وهكذا قرر الخليفة المسلم حتى أعاد للجندي الذي صفع ظلماً حقه من عدوه، وحفظ له كرامته وللدولة هيبتها أمام أعتى دول الأرض حينذاك وأكثرها غنى ورفاهية.
ورحم الله ذلك الخليفة الذي ضرب بتلك الحادثة المثل الكبير للحاكم المسلم الذي يدافع عن حق الفرد وحق الجماعة والدولة على حد سواء. ولكم أن تقارنوا بين حكام المسلمين في السابق وحكام المسلمين في الحاضر لتجدوا الفرق الشاسع والمخزي والمفجع.
أيها المؤمنون لم تذل هذه الأمة وتغزى في عقر دارها وتنتهك أعراضها وتستباح مقدساتها إلا حين ضاع الإيمان واختفى من حياتها وبضعف الإيمان وهجر القرآن تصدع بنيانها في الحب والأخوة والموالاة والنصرة، وتقطعت بالمسلمين الأسباب واتخذ البعض الكافرين له أولياءً وأحباباً وأنصاراً فكانت نتيجة ذلك هو هذا المشهد الذي نعيشه اليوم في فلسطين والعراق وغيرها من البلدان العروبة والإسلام ولن نستطيع الخروج من هذه المآزق إلا بالإيمان الصادق الراسخ وإحياء فريضة الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين حباً ومناصرة وتآلفاً واجتماعاً والوقوف صفاً واحداً أمام التحديات عملاً بقوله عز وجل :? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ? [الصف:4] ? وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ...?[التوبة:71].
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
صحيح مسلم: باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم: الحديث رقم: (2586) عن النعمان ابن بشير رضي الله تعالى عنه .
صحيح مسلم: باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم: الحديث رقم: (2586) عن النعمان ابن بشير رضي الله تعالى عنه .
صحيح البخاري: باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره. الحديث رقم: (476) عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه . وأخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم: (2585) .
معجم الطبراني الكبير: باب الظاء .عمير بن وهب الجمحي . وكنز العمال: الحديث رقم:(37456) عن عروة بن الزبير.(/4)
الحبل المتين
في
بيان منهج أهل السنة و الجماعة
في أصول الدين
تأليف
الدكتور : أحمد بن عبد الكريم نجيب
أستاذ الحديث النبوي و علومه في كلّية الدراسات الإسلاميّة بسراييفو ، و الأكاديميّة الإسلاميّة بزينتسا
و مدرّس العلوم الشرعيّة في معهد قطر الديني سابقاً
منشورات منظمة التوحيد الخيرية
الطبعة الأولى
سراييفو 1422هـ/2001م
( حقوق الطبع للتوزيع الخيري ليست حكراً على أحد )
تقديم
... أهل السنة و الجماعة هم صفوة هذه الأمة ، الملتزمون بكتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ، و هم أصحاب حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روايةً و دراية و سلوكاً واعتقاداً ، و حيث إننا في معرض التعريف بمنهجهم العقدي فمن المناسب أن نستهل البحث بالتعريف بهم من خلال المطالب التالية :
المطلب الأوَّل : العلاقة بين مصطلحَي ( السنة ) و ( عقيدة أهل الحديث ) :
... ذهب كثيرٌ من أهل العلم عند تعريف السنّة إلى أنَّها تُطلق في مُقابل البدعة فيُقال : فلان على سنَّة ، و فلان على بدعة إذا عمل على خلافه (1). و هذا يعني أن لفظ السنة يستعمل للدلالة على عقيدة أهل السنة و الجماعة ، و قد شاع هذا الاستعمال على ألسنة الأئمة الأعلام من السلف و الخلف - رضي الله عنهم - أجمعين .
... قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله : (( إذا قيل عن رجلٍ إنه صاحب سنة ، فالمقصود به أنه على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - و صحابته الكرام رضوان الله عليهم من أمور الدين قولاً ، و عملاً ، و اعتقاداً )) (2) .
... و من الأمثلة لإطلاق لفظ السنة على ما يُقابل البدعة ، ما يلي :
... سُئِل الإمام مالك بن أنس رحمه الله : من أهلُ السنة ؟ فقال :
... (( أهل السنة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرفون به ؛ لا جهميٌ (3) و لا قَدَريٌ (4)
و لا رافضيٌ (5) ))(6).
... و سُئل الإمام أبو بكر بن عيَّاش (7)
__________
(1) ... انظر : الموافقات للشاطبي 4 / 40 .
(2) ... مجموع الفتاوى ، لابن تيمية : 19/ 306 - 307 .
(3) ... الجهمية : فرقة منحرفة ، تنسب إلى الجهم بن صفوان ( ت 128 هـ / 746 م ) الذي قال بالإجبار ، و الاضطرار إلى الأعمال ، و أنكر الاستطاعات كلها ، و زعم أن الإيمان هو مجرَّد المعرفة بالله تعالى ، و أن الكفر هو الجهل به ، و قال بفناء الجنة و النار جميعاً ، و بخلق القرآن ، و نفى الأسماء و الصفات جميعها عن الله تعالى .
انظر : الفرق بين الفرق ، للبغدادي ، ص 199 ، و الملل و النحل ، للشهرستاني 1 / 86 .
(4) ... القدرية : فرقة ضالة ، قسمها ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " 8 / 256-260 إلى أصناف خمسة ، و هي : القدرية الغالية ، ثم المجوسية ، ثم المجبرة ، ثم المشركية ، ثم الإبليسية .
بيد أن هذه الأصناف تعود إلى رأيين في القدر :
الرأي الأول يعود إلى أصلين باطلين : الأول : إنكار علم الله السابق بأفعال العباد . وهو قول جهم بن صفوان. و الثاني : إنكار عموم المشيئة . مذهب القدرية الغالية ، وقد انقرض القائلون به .
و الرأي الثاني يقوم على أصلين ثانيهما باطل : الأول : الإقرار بعلم الله السابق ، و هو حق لا مراء فيه .
و الثاني : إنكار عموم المشيئة و الخلق . حيث جعلوا أفعال العباد الاختيارية بمشيئتهم و قدرهم و حدهم . و هو قول المعتزلة و متأخرو الشيعة ، وهم المسمون بالقدرية المجوسية .
انظر : شرح العقيدة الطحاوية ، ص : 305-306 ، فتح الباري 1 / 118 - 119 ، شفاء العليل لابن القيم ، ص : 109 ، الفرق بين الفرق ، ص : 19 - 20 .
(5) ... الرافضة : هم الذين رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وذلك أنهم أرادوه أن يتبرأ من أبي بكر و عمر رضي الله عنهما ، فلم يفعل ، و يرون السيف على الأمة .
انظر : مقالات الإسلاميين ، ص : 16 ، الفرق بين الفرق ، ص : 17 ، الحجة في بيان المحجة 2 / 478 .
(6) ... أخرجه ابن عبد البر في " الانتقاء في فضائل الأئمة الفقهاء " ، ص : 35 من طريق إبراهيم بن حماد ، قال : نا الحسن بن عبد العزيز الجروي ، قال : نا شيخ لنا ، قال : جاء رجل إلى مالك ..فذكره .
قلت : وهذا إسناد صحيح لولا إبهام شيخ الحسن بن عبد العزيز .
فالحسن بن عبد العزيز الجروي ثقة ثبت عابد فاضل ، كما في " التقريب " ( 1253 ) .
و إبراهيم بن حماد ، هو : أبو إسحاق الأزدي القاضي ، قال الدارقطني : ثقة جبل . كما في " تاريخ بغداد " 6 / 61 .
(7) ... أبو بكر بن عياش ، هو : ابن سالم ، الأسدي مولاهم ، الكوفي ، قيل : اسمه شعبة ، و قيل : محمد ، و قيل غير ذلك ، المحدث الفقيه ، شيخ الإسلام ، و بقية الأعلام ، ولد سنة 95 هـ / 714 م ، قرأ القرآن على عاصم بن أبي النجود ، و تلا عليه جماعة ، حدث عن كبار التابعين ، و حدث عنه : جماعة منهم ابن المبارك ، و أبو داود ، و أحمد ، و في ضبطه مقال ؛ ذكره أحمد بن حنبل ، فقال : ( ثقة ، ربما غلط ، صاحب قرآن و خير ). .توفي سنة 191 هـ / 807 م ، عن ست و تسعين سنة .
انظُر ترجمته في : تهذيب الكمال 33 / 129 ، سير أعلام النبلاء 8 / 495 ، الحلية 7 / 303 ، تذكرة الحفاظ 1/ 265 ، ميزان الاعتدال 4 / 494 ، شذرات الذهب 1/ 334 .(/1)
رحمه الله مَن السُنِّيُّ ؟ فقال : (( الذي إذا ذُكِرت الأهواء لم يتعصَّب لشيءٍ منها )) (1).
... و سئل عبد الرحمن بن مهدي (2) عن الأوزاعي (3) ، و سفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، رحمهم الله جميعاً ، فأجاب : (( سفيان عالمٌ بالحديث ، والأوزاعيُّ عالمٌ
بالسنة ، و مالك عالمٌ بالحديث و السنَّة ))(4) .
... قال ابن الصلاح (5) في قول عبد الرحمن بن مهدي السابق : (( السنة هاهنا ضدَّ البدعة ، و قد يكون الإنسان من أهل الحديث و هو مبتدعٌ ، و مالك ( جمع بين السنتين فكان عالماً بالسنة أي الحديث ، و مُعتقداً للسنة ، أي كان مذهبه مذهب أهل الحقِّ من غير بدعة )) (6)..
... و قد كان أئمة السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين ، يُطلقون اسم السنة على الاعتقاد الصحيح ، الذي يقابل البدعة ، و يُضادُّها ، كما في قول سفيان بن عيينة (7) : (( السنة عشرة ، فمن كُنَّ فيه فقد استكمل السنة ، و من ترك منها شيئاً فقد ترك السنَّة … )) (8) ثمَّ ذكر مسائل من مُعتقد أهل السنة و الجماعة .
__________
(1) ... إسناده حسن :
أخرجه الآجري في " الشريعة " 3 / 581 ( 2112 ) ، و اللالكائي في " شرح أُصول اعتقاد أهل السنة و الجماعة " 1 / 63 ( 53 ) من طريقين ، عن أبي عبيد علي بن الحسين بن حرب القاضي ، قال : حدثنا أبو السكين زكريا بن يحيى ، قال : سمعت أبا بكر بن عياش – فذكره .
و أبو عبيد ، هو : ابن حربويه الإمام الفقيه قاضي مصر .
و أبو السكين زكريا بن يحيى : وثقه ابن حبان و الخطيب البغدادي ، و قال ابن حجر : ( صدوق له أوهام لينه بسببها الدارقطني ) . انظر : التهذيب 3 / 337 ، و التقريب ترجمة ( 2034 ) .
(2) ... ابن مهدي ، هو : عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبدا لرحمن ، أبو سعيد العنبري ، و قيل : الأزدي ، مولاهم البصري ، ولد سنة 135 هـ / 753 م ، أدرك صغار التابعين ، و سمع سفيان ، و شعبة ، و مالك بن أنس ، و أمماً سواهم ، و حدث عنه : ابن المبارك ، و ابن وهب ، و هما من تلاميذه ، و يحي ، و أحمد ، و إسحاق ، و ابن أبي شيبة ، و كثيرون ، و ارتحل في آخر عمره عن البصرة إلى أصبهان ، و حدث فيها ، ثم عاد إلى البصرة و بها كانت و فاته سنة 198 هـ / 814 م .
انظُر ترجمته في : سير أعلام النبلاء ، 9 / 192 ، الطبقات الكبرى 7 / 297 ، الحلية 9 / 3 ، تاريخ بغداد 10 / 240 ، شذرات الذهب 1 / 355 .
(3) ... الأوزاعي ، هو : عبدا لرحمن , و يقال : عبد العزيز بن عمرو بن يَحْمُد الأوزاعي ، أبو عمر ، الدمشقي ، التابعي ، أحد الأعلام ، و الفقهاء المجتهدين أصحاب المذاهب ، كان يسكن بمحلة الأوزاع بظاهر باب الفراديس بدمشق ، ثم تحول إلى بيروت إلى أن مات مرابطاً بها سنة 157 هـ / 774 م .
انظُر ترجمته في : سير أعلام النبلاء ، 7 / 107 ، شذرات الذهب 1 / 241 ، تذكرة الحفاظ 1 / 178 ، حلية الأولياء 6 / 135 ، ديوان الإسلام 1 / 159 .
(4) ... إسناده صحيح :
أخرجه أبو نعيم في " الحلية " 6 / 332 من طريق أبي أحمد القاضي ، يقول : سمعت أبا حاتم الرازي يقول : سمعت أحمد بن سنان الواسطي يقول : سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول – فذكره .
و هذا إسناد صحيح رجاله ثقات .
(5) ... ابن الصلاح ، هو : تقي الدين ، أبو عمرو عثمان بن صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الشهرزوري الشافعي ، ولد بسنة 597 هـ / 1201 م ، و تفقه على والده بشهرزور ، ثم ارتحل إلى البصرة ، فدمشق ، فبيت المقدس ، دَرَّس بالمدرسة الصلاحية ، في بيت المقدس ثم بالرواحية بدمشق ، ثم صار شيخ الدار الأشرفية ، أشهر مؤلفاته كتاب علوم الحديث ، عاش ستاً و ستين سنة ، و توفي بدمشق سنة 643 هـ / 1246 م ، و دفن بمدافن الصوفية .
انظُر ترجمته في : سير أعلام النبلاء ، 23 / 140 , تذكرة الحفاظ 4 / 1430 ، شذرات الذهب 5/ 221 .
(6) ... فتاوى و مسائل ابن الصلاح ، ص : 213 .
(7) ... سفيان بن عيينة ، هو : أبو محمد الهلالي ، الكوفي ، ثم المكي ، الحافظ الكبير، أتقن ، و جوّد ، و جمع و صنف ، و عمر دهراً ، و ازدحم عليه الخلق ، و انتهى إليه علو الإسناد ، و رحل إليه من البلاد . قال عنه الشافعيُّ : ( ما رأيت أحسن تفسيراً للحديث منه ) . و قال أيضا : ( لولا مالك و سفيان بن عيينة لذهب علم الحجاز ) . توفي سنة 198 هـ / 814 م .
انظُر ترجمته في : طبقات ابن سعد 5 / 497 ، الجرح و التعديل 1 / 32 – 54 و 4 / 225 ، حلية الأولياء 7 / 270 ، تاريخ بغداد 9 / 174 ، وفيات الأعيان 2 / 391 ، سير أعلام النبلاء 8 / 454 .
(8) ... أخرجه اللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة و الجماعة " 1/ 155 ( 316 ) .(/2)
... و قال الإمام الشافعي رحمه الله : (( القول في السنة التي أنا عليها ، ورأيتُ أصحابنا عليها ، أهل الحديث الذين رأيتهم ، و أخذتُ عنهم ، مثل سفيان ، ومالك ، و غيرهما : الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله ، و أن محمداً رسول الله ، وأنَّ الله تعالى على عرشه ، في سمائه ، يقرب من خلقه كيف شاء ، و أن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كيف شاء )) (1).
... و قال الإمام أحمد (2) رحمه الله : (( أصول السنة عندنا : التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - … )) ، ثمَّ ذَكر جملة مسائل من معتقد أهل السنة و الجماعة (3) .
... وقال محمد بن يحيى الذهلي(4) : (( السنة عندنا : أن الإيمان قول
و عمل ...)) (5) فذكر جملة من معتقد أهل السنة و الجماعة .
... و قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله : (( … ثم صار في عُرف كثير من العلماء المتأخرين من أهل الحديث و غيرهم ، السنة عبارة عمَّا سلم من الشبهات في الاعتقادات . . . و صنفوا في هذا العلم تصانيف سموها كتب السنة ، و إنما خصوا هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم ، و المخالف فيه على شفا هلكة ، و أما السنة الكاملة فهي الطريقة السالمة من الشبهات و الشهوات )) (6) .
... و كما قال ابن رجب رحمه الله فإن من إطلاق مصطلح السنة ، على العقيدة السويَّة ، السليمة من الشبهات و الشهوات ، في مقابل الأهواء الرديَّة ، تسمية عدد من الأئمة ، مُصنَّفاتهم في أصول الدين باسم ( السنة ) ، و من تلك المصنَّفات :
السنة ، للإمام أحمد بن حنبل ( المتوفى 241 هـ / 856 م ) ، و هو مطبوع.
السنة لأبي بكر أحمد بن محمد بن الأثرم (7)( المتوفى سنة 272 هـ / 886 م ).
السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل (8)( المتوفى سنة 290 هـ / 903 م ) و هو مطبوع .
__________
(1) ... أورده الذهبي في " العلو " ص 120 ، وسبقه بقوله : ( روى شيخ الإسلام أبو الحسن الهكاري ، و الحافظ أبو محمد المقدسي بإسنادهم إلى أبي ثور ، و أبي شعيب كلاهما عن الإمام الشافعي ) .
و أورده ابن القيم أيضا في " اجتماع الجيوش الإسلامية " ص 82 .
(2) ... أحمد بن حنبل ، هو : أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني ، أبو عبد الله المروزي ، ثم البغدادي إمام المذهب ، و صاحب المسند و غيره ، وُلد ببغداد سنة 164 هـ / 681 م ، و اعتنى بالحديث ، و ارتحل في طلبه ، روى عن ابراهيم بن سعد ، و إسماعيل بن علية ، و خلائق غيرهم ، و روى عنه الشيخان و غيرهم ت 241هـ / 856 م .
انظر ترجمته في : طبقات الحنابلة 1 / 4 و ما بعدها ، طبقات الحفاظ ص 186 ، تهذيب التهذيب 1 / 72 الأعلام للزركلي 1/192 ، الفهرست لابن النديم ، ص 32 .
(3) ... كتاب : أصول السنة هذه للإمام أحمد رسالة طبعت مفردة ، برواية عبدوس بن مالك العطار عنه ، بتحقيق الوليد بن محمد بن سيف النصر ، بمكتبة العلم بجدة سنة 1416 هـ / 1996 م ، و رواها اللاكائي في " شرح أصول الاعتقاد " 1 / 156 ( 317 ) ، و أبو يعلى القاضي في " طبقات الحنابلة " 1 / 241 و إسنادها صحيح ، و قال أبو يعلى : ( لو رحل رجل إلى الصين في طلبها لكان قليلا ) .
(4) ... محمد بن يحيى الذهلي ، هو : أبو عبد الله النيسابوري ، الإمام العلامة ، الحافظ البارع ، شيخ الإسلام ، و عالم المشرق ، و إمام أهل الحديث بخراسان ، ولد سنة بضع و سبعين و مئة للهجرة ، و مات سنة 258 هـ / 872 م ، قال الذهبي : ( كان له جلالة عجيبة بنيسابور ، من نوع جلالة الإمام أحمد ببغداد ، و مالك بالمدينة ) .
انظر ترجمته في : الجرح و التعديل 8 / 125 ، تاريخ بغداد 3 / 415 ، طبقات الحنابلة 1 / 327 ، تذكرة الحفاظ 2 / 530 ، سير أعلام النبلاء 12 / 273 .
(5) ... أخرجه البيهقي في " القضاء و القدر " ( 549 ) ، بإسناد صحيح ، رجاله كلهم ثقات .
(6) ... كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة ، لابن رجب الحنبلي ، ص : 11 .
(7) ... أبو بكر بن الأثرم ، هو : أحمد بن محمد بن هانئ الإسكافي الطائي ، خراساني الأصل ، إمام حافظ ثبت ثقة ، تلميذ الإمام أحمد ، كان من أذكياء الأمة ، مصنف السنن و علل الحديث ، مات بمدينة إسكاف .
انظر ترجمته في : تاريخ بغداد 5 / 110 ، طبقات الحنابلة 1 / 66 ، تهذيب الكمال 1 / 476 ، تذكرة الحفاظ 2 / 570 ، سير أعلام النبلاء 12 / 623 .
(8) عبد الله بن أحمد بن حنبل ، هو : الشيباني ، أبو عبد الرحمن المروزي ، الإمام الحافظ الناقد ، محدث بغداد ، كان ثقةً فهْماً ، أروى الناس عن أبيه ، وهو الذي رتب مسند أبيه ، و له عليه زيادات كثيرة ، طلب الحديث في العراق و غيرها ، و كان خبيرا بالحديث و علله .
انظر ترجمته في : الجرح و التعديل 5 / 7 ، تاريخ بغداد 9 / 375 ، طبقات الحنابلة 1 / 180 ، المنتظم 6 / 39 ، سير أعلام النبلاء 13 / 516 .(/3)
السنة لمحمد بن نصر المروزي (1)( المتوفى سنة 294 هـ / 907 م ) و هو مطبوع .
السنة لأحمد بن محمد بن هارون الخلاَّل (2)( المتوفى سنة 311 هـ/ 923 م ) وهو مطبوع .
شرح السنة لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين (3) ( المتوفى سنة 399 هـ / 1009 م ) وهو مطبوع .
السنة لأبي بكر بن أبي عاصم (4)( المتوفى سنة 287 هـ / 900 م ) ، و هو مطبوع .
السنة لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (5)( المتوفى سنة 275 هـ / 889 م ) ، و هو مطبوع .
السنة لأبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني (6)( المتوفى سنة 360 هـ / 971 م ) .
السنة لأبي عمرو أحمد بن محمد الطلمنكي(7)( المتوفى سنة 427 هـ / 1036 م ) .
شرح السنة للحسن بن علي البربهاري(8) ( المتوفى سنة 329 هـ / 941 م ) و هو مطبوع .
__________
(1) محمد بن نصر المروزي ، هو : أبو عبد الله ، الإمام الجليل ، الثقة العدل ، شيخ الإسلام ، أحد أعلام الأمة و عقلائها و عبادها ، ولد ببغداد و نشأ بنيسابور و سكن سمرقند ، و كان أبوه مروزيا ، و تفقه بمصر على أصحاب الشافعي ، و رحل إلى الأمصار ، و كان أعلم أهل زمانه في اختلاف الصحابة و التابعين ، مات بسمرقند ، وله 92 سنة .
انظر ترجمته في : تاريخ بغداد 3 / 315 ، تذكرة الحفاظ 2 / 650 ، سير أعلام النبلاء 14 / 33 ، الطبقات الكبرى للسبكي 2 / 246-255 ، تهذيب التهذيب 9 / 489 .
(2) أحمد بن محمد بن هارون الخلال ، هو : أبو بكر البغدادي ، الإمام الحافظ الفقيه ، شيخ الحنابلة و عالمهم ، رحل إلى فارس و الشام و الجزيرة ؛ يطلب فقه أحمد و فتاويه ، لم يسبقه أحد في جمع علم الإمام أحمد ، و لم يكن قبله للإمام مذهب مستقل .
انظر ترجمته في : تاريخ بغداد 5 / 112 ، طبقات الحنابلة 2 / 12 ، المنتظم 6 / 174 ، تذكرة الحفاظ
3 / 785 ، سير أعلام النبلاء 14 / 297 ، البداية و النهاية 11 / 148 .
(3) ... ابن أبي زمنين ، هو : محمد بن عبد الله بن عيسى , المري الأندلسي القرطبي ، استبحر في العلم ، و ألف في الفقه و الزهد و الرقائق ، كان صاحب علم و سنة .
انظُر ترجمته في : جذوة المقتبس 56 – 57 ، ترتيب المدارك 4 / 672 ، سير أعلام النبلاء ، 17/ 188 - 189.
(4) ... أبو بكر بن أبي عاصم ، هو : أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني ، البصري ، إمام بارع ، حافظ كبير ، ثقة نبيل معمر ، متبع للآثار ، ولي القضاء بأصبهان ثلاث عشرة سنة ، ظاهري المذهب ، له الرحلة الواسعة ، و التصانيف المفيدة .
انظر ترجمته في : الجرح و التعديل 2 / 67 ، ذكر أخبار أصبهان 1 / 135 ، تذكرة الحفاظ 2 / 640 ، سير أعلام النبلاء 13 / 430 .
(5) ... أبو داود السجستاني ، هو : سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو الأزدي ، السجستاني ، الإمام شيخ السنة مقدم الحفاظ ، محدث البصرة ، قال ابن حبان : ( أبو داود أحد ائمة الدنيا فقها و علما و حفظا و نسكا و ورعا و إتقانا ، جمع و صنف و ذب عن السنة ).
انظر ترجمته في : الجرح و التعديل 4 / 101 ، تاريخ بغداد 9 / 55 ، طبقات الحنابلة 1 / 159 ، وفيات الأعيان 2 / 404 ، سير أعلام النبلاء 13 / 203 ، تذكرة الحفاظ 2 / 591 .
(6) ... أبو القاسم الطبراني ، هو : سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي ، أبو القاسم , الإمام الحافظ العلم الثبت ، مسند العصر ، ولد بعكا و اعتنى به أبوه ، و رحل به في حداثة سنه ، طوف البلاد ، ثم سكن أصبهان و استقر فيها ، و بقى فيها محدثا ستين سنة إلى أن توفي .
انظر ترجمته في : أخبار أصبهان 1 / 335 ، وفيات الأعيان 1 / 215 ، تذكرة الحفاظ 3 / 118 ، المنتظم 7 / 54 ، البداية و النهاية 11 / 270 .
(7) ... أبو عمرو الطلمنكي ، هو : أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي عيسى ، أبو عمر المعافري الأندلسي ، عالم أهل قرطبة ، الإمام المقرئ المحقق الحافظ الأثري ، رحل إلى مصر و مكة و المدينة ، كان خبيرا في علوم القرآن و تفسيره و قراءاته و إعرابه و أحكامه و معانيه ، و كان سيفا مجردا على أهل الأهواء و البدع .
انظر ترجمته في : بغية الملتمس ص 162 ، جذوة المقتبس ص 114 ، معجم البلدان 4 / 39 ، تذكرة الحفاظ 3 / 1098 ، سير أعلام النبلاء 17 / 566 . شذرات الذهب 5 / 147 .
(8) ... الحسن بن علي البربهاري ، هو : ابن خلف ، أبو محمد ، شيخ الحنابلة ، القدوة الإمام الفقيه ، كان قوالاً بالحق ، داعيا إلى الأثر ، لا يخاف في الله لومة لائم ، عاش 77 سنة .
انظر ترجمته في : طبقات الحنابلة 2 / 18- 45 ، المنتظم 6 / 323 ، الكامل لابن الأثير 8 / 378 ، سير أعلام النبلاء 15 / 90 ، البداية و النهاية 11 / 201 .(/4)
... و يكثُر - عند الكلام عن أصول الدين - أن يُقال : هذه عقيدة أهل السنة ، أو عقيدة أصحاب الحديث (1) ، و القولان بمعنىً .
... فما هي عقيدة أهل الحديث ؟
... هذا ما سأتناوله في السطور التالية إن شاء الله تعالى -
المطلب الثاني : العلاقة بين مُصطلَحَي ( أهل السنة ) و ( أصحاب الحديث ) :
... هناك علاقة وثيقة بين مُصطلح ( أهل السنَّة ) و مُصطلح ( أهل الحديث ) فهما مُتَعاوران في كلام العلماء ، و لبيان العلاقة بين أهل السنة و أهل الحديث يحسن بنا أن نُعرِّف بكُلٍ منهما أوَّلاً .
... فأهل السنة و الجماعة مصطلح مؤلف من لفظ السنة التي تقدَّم التعريف بها في الباب الأول ، و لفظ الجماعة المشتق من الجَمْعِ و هو : تأليف المفترق (2) .
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (( الجماعة هي الاجتماع ، وضدها الفرقة ، و إن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين )) (3) .
... و اصطلاح أهل السنة و الجماعة ، مُقتبس من مجموع ما ورد في كتاب الله و سنة رسوله ، من الآيات ، و الأخبار الواردة في الحثّ على الاعتصام بالسنة ، و ملازمة الجماعة ، و النهي عن الابتداع و الفُرقة و الاختلاف في الدين .
... فمن ذلك قوله سبحانه و تعالى : { و لا تتبعوا السبل فتفرَّق بكم عن سبيله } [ الأنعام : 153 ] .
... و قوله : { أن أقيموا الدين و لا تتفرَّقوا فيه } ] الشورى : 13 [.
... و روي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - في هاتين الآيتين قوله: (( أمر الله المؤمنين بالجماعة و نهاهم عن الاختلاف و الفرقة ، و أخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء
والخصومات في دين الله )) (4) .
... أما الأخبار الواردة في هذا الباب فكثيرة جداً و منها :
... قوله - صلى الله عليه وسلم - في وصيته لحذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - (5):
... (( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم )) ، قال حذيفة : قُلتُ : فإن لم يكن لهم جماعةٌ و لا إمام ؟ فقال :
... (( فاعتزل تلك الفرق كلَّها ، و لو أن تعضَّ بأصل شجرةٍ حتى يُدركك الموت ، وأنت على ذلك )) (6) .
... و عن حديث ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
... (( ليس أحدٌ يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتةً جاهليَّةً )) (7)
__________
(1) ... ألَّف الإمام عبد الرحمن بن إسماعيل الصابوني رحمه الله ، سفراً نفيساً في معناه ، يسيراً في مبناه ، أسماه عقيدة السلف أصحاب الحديث ، و الكتاب نشرته دار الفتح بالشارقة عام 1414 هـ / 1994 م تحقيق بدر البد.
(2) ... انظر : القاموس المحيط للفيروز آبادي ، ص : 917 ، و لسان العرب 8 / 53 .
(3) ... مجموع الفتاوى ، لابن تيمية 3 / 157.
(4) ... إسناده لا بأس به :
... أخرجه الطبري في " تفسيره " 5 / 397 ( 14171 ) ، و ابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 1134 ) ، و الآجري في " الشريعة " 1 / 116 ( 4 ) ، و ابن بطة في " الإبانة " 1 / 275 ( 105 ) من طرق عن عبد الله بن صالح ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن طلحة ، عن ابن عباس ( به .
علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس منقطع ، لكن قال المزي في " تهذيبه " 20 / 490 : بينهما مجاهد .
قلت : و مجاهد إمام ثقة جليل .
و معاوية بن صالح ، هو الحمصي ، قاضي الأندلس ، و ثّقه جُلّ المحدثين ، قال فيه الترمذي : ( ثقة عند أهل الحديث ، و لا نعلم أحداً تكلم فيه غير يحيى بن سعيد القطان ) .
انظر ترجمته في : تهذيب التهذيب 10 / 209 – 212 .
و عبد الله بن صالح ، هو كاتب الليث بن سعد ، قال الذهبي في " المغني في الضعفاء " ( 4383 ) : ( صالح الحديث له مناكير ) .
(5) ... حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - ، هو : ابن جابر العبسي اليماني ، أبو عبدالله ، صحابي جليل ، من المهاجرين ، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، شهد مع أبيه أحداً ، فاستشهد أبوه فيها ، قتله بعض الصحابة غلطاً ، ولي إمرة المدائن لعمر ، و بقي عليها إلى خلافة عثمان ، و بها كانت وفاته بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه - بأربعين ليلة .
انظُر ترجمته في : أسد الغابة 1 / 468 ، الإصابة 2 / 223 ، سير أعلام النبلاء 2 / 361 ، الحلية 1 / 270 ، شذرات الذهب 1 / 32 .
(6) ... الحديث : أخرجه البخاري في كتابي المناقب ( 3606 ) باب علامات النبوة في الإسلام ، و الفتن ( 7084 ) باب : كيف الأمر إذا لم يكن جماعة ، و مسلمٌ ( 1847 ) في الإمارة ، باب : وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ، و أبو داود ( 4244 ) في الفتن و الملاحم ، باب : ذكر الفتن و دلائلها ، و ابن ماجة ( 3979 ) في الفتن ، باب : العزلة .
(7) ... الحديث : أخرجه البخاري في كتاب الفتن ( 7054 ) ، باب : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - سترون بعدي أمورا تنكرونها ، و الأحكام ( 7143 ) باب : السمع و الطاعة للإمام ما لم تكن معصية ، و هذا لفظه في الأخير منهما ، و مسلم ( 1849) في الإمارة باب : وجوب ملازمة الجماعة عند ظهور الفتن .
و أخرج نحوه من حديث أبي هريرة ( : مسلم ( 1848 ) في الإمارة ، باب : وجوب ملازمة الجماعة عند ظهور الفتن ، و النسائي في تحريم الدم ( 1414 ) ، باب : التغليظ في من قاتل تحت راية عمية ، و ابن ماجة ( 3948 ) في الفتن ، باب : العصبية ، و أحمد في " المسند " 2 / 306 و 488 0(/5)
.
... و في حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعظهم موعظةً قال فيها :
... (( عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، و إياكم و مُحدثات الأمور فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعة ، و كلَّ بدعة ضلالة )) (1) .
... و لأهميَّة لزوم الجماعة ، و عظيم شأنها ، بوَّب الشيخان كلٌّ في صحيحه ، و النسائيُّ (2) و الترمذي ، كلٌّ في سننه ، على لزومها .
... فقال البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب و السنة من صحيحه : باب قوله تعالى : { و كذلك جعلناكم أمَّةً وسَطاً } و ما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزوم الجماعة و هم أهل العلم (3) .
... و قال الإمام مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه : باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ، و في كل حال ، و تحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة (4) .
... و عَنوَن النسائي في سننه : قتلُ من فارق الجماعة ، و ذِكرُ الاختلاف على زياد بن عِلاقة عن عَرْفَجَةَ فيه (5) .
... وعقد الترمذي في سننه باباً سمَّاه : باب ما جاء في لزوم الجماعة (6).
... و الجماعة التي يجب على المسلم لزومها ، و يحرم الخروج عليها ، ويستحق الوعيد من فارقها ، هم أهل الحقِّ في كل عصرٍ و مِصرٍ ، و إن قَلُّوا .
... قال أبو شامة المقدسي رحمه الله (7):
... (( حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة ، فالمراد به لزوم الحق و اتِّباعه ، و إن كان المستمسك به قليلاً ، و المخالف كثيراً )) .
... ثم استدل بقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : (( إن الجماعة ما وافق الحق ، و إن كنت وَحدَك )) (8).
__________
(1) ... صحيح مشهور :
وهو قطعة من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - الذي أخرجه أبو داود ( 4618 ) في السنة ، باب : مجانبة أهل الأهواء و بغضهم ، و الترمذي ( 2676 ) في العلم ، باب : ماجاء في الأخذ بالسنة و اجتناب البدع ، و ابن ماجة ( 42 و 43 و 44 ) في المقدمة ، باب : اتباع سنة الخلفاء الراشدين .
و الحديث صححه الترمذي ، والبزار كما في "جامع بيان العلم " 2 / 924 وابن حبان 1 / 178 (5) ، و الحاكم 1/95 ، و أبو العباس الدغولي نقله عنه الهروي في " ذم الكلام " (4/ 37 ) ، و ابن عبد البر ، و ابن تيمية في
" منهاج السنة " (4 / 164 ) .
وقال أبو نعيم بعد أن رواه في " المستخرج على مسلم " 1 /36 : " هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين... وقد روي هذا الحديث عن العرباض بن سارية ثلاثة من تابعي الشام معروفين مشهورين : عبد الرحمن بن عمرو السلمي ، وحجر بن حجر ، و يحيى بن أبي المطاع " .
وقال الجوزقاني في "الأباطيل" (288) : " هذا حديث صحيح ثابت مشهور " .
وقال أبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام" ( 4 / 31 ) : "هذا من أجود حديث أهل الشام و أحسنه " .
و قال ابن حجر في " تخريج أحاديث المختصر " 1 / 137 : " هذا حديث صحيح رجاله ثقات ، قد جود الوليد بن مسلم إسناده ، فصرح بالتحديث في جميعه ، و لم ينفرد به مع ذلك " .
(2) ... النسائي ، هو : أحمد بن شعيب بن علي بن سنان الخراساني النسائي ، صاحب السنن ، ولد بِنَسَا في سنة 215 هـ / 830 م ، طلب العلم في خراسان ، و ارتحل إلى الحجاز ، و مصر ، و العراق ، و الشام ، ثم
استوطن مصر ، و كان ورعاً متحرياً ، شافعي المذهب ، واسع الحفظ ، قال عنه الدار قطني : ( كان أفقه مشايخ مصر في عصره ، و أعلمهم بالحديث و الرجال ) . توفي سنة 303 هـ / 916 م ، قيل بمكة ، و قيل بالرملة ، و قيل بفلسطين .
انظُر ترجمته في : سير أعلام النبلاء ، 14 / 125 ، تذكرة الحفاظ 2 / 698 ، شذرات الذهب 2 / 239 تهذيب الكمال 1 / 23 .
(3) ... صحيح البخاري 6 / 2675 .
(4) ... صحيح مسلم 3 / 1172 .
(5) ... سنن النسائي الصغرى ، الموسوم بالمجتبى 7 / 92 .
(6) ... سنن الترمذي 4 / 465 .
(7) ... أبو شامة المقدسي ، هو : عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان ، أبو محمد ، الشيخ الإمام العلامة ، المعروف بأبي شامة لشامةٍ كبيرة فوق حاجبه الأيسر ، كان عالماً راسخاً في العلم ، مقرئاً محدثاً نحوياً ، مؤرخاً من كتبه : المقاصد السنية في شرح الشاطبية ، و زهر الروضتين ، و كثيرٌ غيرهما ، ت 665هـ / 1267 م مقتولاً .
انظر : ترجمته في : معجم المؤلفين 5 / 125 ، البداية و النهاية 13/ 250 ، تذكرة الحفاظ 4 / 243 ، شذرات الذهب 5 / 318 .
(8) ... صحيح :
أخرجه اللاكائي في " شرح أصول الاعتقاد " 1 / 108 ( 169 ) ، و ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 13 / 642 – 643 من طريقين عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون عنه به .
و رجاله كلهم ثقات أعلام .
و رواه ابن عساكر أيضا بإسناد آخر حسن ، بلفظ نحوه فيه : ( ويحك إن جمهور الناس فارقوا الجماعة ، إن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل ) .(/6)
... قال نعيم بن حمَّاد (1) : (( أي إذا فسدت الجماعة ، فعليك بما كانت عليه قبل أن تفسد ، و إن كنت وحدك ، فإنَّك الجماعة حينئذٍ )) .(2)
... و قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى في سننه : (( و تفسير الجماعة عند أهل العلم هم أهل الفقه و العلم و الحديث )) (3).
... و روى رحمه الله عن عليِّ بن الحسن(4) ، قوله : ((سألتُ عبد الله بن المبارك مَن الجماعة ؟ فقال : أبو بكر وعُمر . قيل له : قد مات أبو بكرٍ و عُمر ، قال : فلانٌ و فلانٌ ، قيل له : قد مات فلانٌ و فلان . فقال : عبد الله بن المبارك و أبو حمزة السكري (5) و جماعة )) (6).
... و قول الترمذي هذا موافقٌ لما تقدّم معنا قبل قليلٍ قول الإمام البخاريِّ رحمه الله في معنى الجماعة : هم أهل العلم .
... و قال الشاطبي : اختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في الأحاديث على خمسة أقوالٍ :
أحدها : إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام .
و الثاني : جماعة أئمة العلماء المجتهدين (7) .
و الثالث : الصحابة على الخصوص .
و الرابع : جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر .
و الخامس : جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير (8) .
... و ذهب بعض المتأخرين كابن تيمية , و من وافقه إلى استعمال اصطلاح
( السلف الصالح ) كمرادف لاصطلاح ( أهل السنة ) ، و كثر في كلامهم ذكر عقيدة السلف ، و منهجهم ، و مذاهبهم ، و ما إلى ذلك مما يُراد به ما كان عليه أهل السنة و الجماعة رضوان الله عليهم أجمعين .
... وإذا أطلق لفظ السلف الصالح أريد به غالباً من عاش إلى نهاية القرن الثالث الهجري ، و قد كان ابن تيمية رحمه الله يحدُّهم فيجعل آخرهم الإمام ابن جرير الطبري ، وابن المنذر (9) . (10)
__________
(1) ... نعيم بن حماد ، هو : ابن معاوية بن الحارث ، أبو عبد الله الخزاعي المروزي ، الإمام العلامة الحافظ ، سمع بخراسان و الحرمين و العراق و الشام و اليمن و مصر ، سكن مصر حتى امتحن في القرآن ، فأشخص إلى سر من رأى ، فسئل عن القرآان ، فأبى أن يجيبهم إلى القول بخلقه ، فسجن ، فلم يزل في السجن حتى مات ، و أوصى أن يدفن في قيوده ، و قال : ( إني مخاصم ) .قال الذهبي : ( في قوة روايته نزاع ؛ منهم من وثقه ، و الأكثر منهم ضعفه ) . توفي سنة 229 هـ / 844 م .
انظر ترجمته في : التاريخ الكبير للبخاري 8 / 100 ، طبقات ابن سعد 7 / 519 ، المعرفة و التاريخ للفسوي 1 / 448 ، الجرح و التعديل 8 / 462 ، تاريخ بغداد 13 / 306 ، تذكرة الحفاظ 2 / 418 ، سير أعلام النبلاء 10 / 595 .
(2) ... أخرجه البيهقي في " المدخل " ومن طريقه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 13 / 643 .
(3) ... سنن الترمذي 4 / 467 .
(4) ... علي بن الحسن ، هو : ابن شقيق ، أبو عبد الرحمن المروزي العبدي ، ثقة حافظ ، شيخ خراسان ، محدث مرو لزم ابن المبارك دهرا و حمل عنه جميع التصانيف ، كتب الكثير حتى كتب التوراة و الإنجيل ، و جادل اليهود و النصارى ، توفي سنة 215 هـ / 830 م .
انظر ترجمته في : طبقات ابن سعد 7 / 376 ، الجرح و التعديل 6 / 180 ، تاريخ بغداد 11 / 370 ، تذكرة الحفاظ 1 / 370 ، سير أعلام النبلاء 10 / 349 .
(5) ... أبو حمزة السكري ، هو : محمد بن ميمون المروزي ، الإمام الحافظ الحجة ، عالم مرو ، سمي السكري لحلاوة كلامه ، دخل بغداد في حداثته و الكوفة و مكة ، وكان من الثقات العباد ، مستجاب الدعوة ، كريما يقري الضيف و يبالغ في إكرامه ، توفي سنة 167 هـ / 784 م .
انظر ترجمته في : طبقات ابن سعد 7 / 373 ، الجرح و التعديل 8 / 81 ، تاريخ بغداد 3 / 226 ، تذكرة الحفاظ 1 / 230 ، سير أعلام النبلاء 7 / 385 .
(6) ... إسناده صحيح :
أخرجه الترمذي في " سننه "( 2167 ) في الفتن ، باب : ما جاء في لزوم الجماعة ، و الخطيب البغدادي في " تاريخه " 3 / 269 ، من طريقين عن علي بن الحسن بن شقيق به .
(7) ... و هو اختيار الإمام البخاري و الترمذي كما تقدم قبل قليل .
(8) ... باختصار عن الاعتصام للشاطبي : 2/260-265
(9) ... ابن المنذر ، هو : محمد بن إبراهيم بن المنذر ، أبو بكر النيسابوري ، الإمام الحافظ العلامة الفقيه المحدث المفسر شيخ الإسلام ، نزيل مكة ، صاحب التصانيف المفيدة ، قال النووي : ( له من التحقيق في كتبه ما لا يقاربه فيه أحد ، وهو في نهاية من التمكن من معرفة الحديث ، و له اختيار فلا يتقيد في الاختيار بمذهب بعينه ، بل يدور مع ظهور الدليل ) . توفي سنة 318 هـ / 930 م .
انظر ترجمته في : تهذيب الأسماء و اللغات للنووي 2 / 196-197 ، وفيات الأعيان 4 / 207 ، تذكرة الحفاظ 3 / 782 ، الوافي بالوفيات 1 / 336 .
(10) ... انظر : منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة و القدرية ، لابن تيمية : 6 / 52 ، 53 ، 7 / 13، 179 . و انظر نحو هذا في كتاب " فضل علم السلف " لابن رجب بتحقيق علي حسن ، ص : 41 و ما بعدها .(/7)
... و قال البربهاريُّ رحمه الله في تعريف الجماعة المذكورة في الأحاديث : (( هم جماعة الحق و أهله )) (1) .
... و مال إلى هذا الرأي الحافظ ابن كثير في ( النهاية ) (2) ، و هو أولى الأقوال بالقبول فيما يظهر ، لكونه يشملها جميعاً ، و الله أعلم .
... و بعدُ ، فيسعنا الآن - و قد بيَّنا المراد من اصطلاحي السنَّة ، و الجماعة كلٍّ على حدة - القول :
... إنَّ اصطلاح أهل السنة و الجماعة يُطلق على أهل الحق ، في مُقابل أهل الضلال و البدع و الشقاق ، انطلاقاً من القول بأنَّ السنة تعني : (( ما كان عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - و أصحابه اعتقاداً ، و اقتصاداً ، و قولاً ، و عملاً )) (3).
... و أوَّل ظهور لهذه التسمية كان في عهد الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - ، أواخر عهد الخلافة الراشدة .
... قال محمد بن سيرين رحمه الله : (( لم يكونوا - أي الصحابة - يسألون عن الإسناد ، فلما وقعت الفتنة ، قالوا : سمُّوا لنا رجالكم ، فيُنظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم ، و يُنظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم )) (4).
... و قد اشتهر إطلاق هذه التسمية على ما يُقابل الشيعة (5) خاصةً ، حيث يكثر
أن يُقال : انقسمت الأمة إلى سُنة و شيعة ، إضافة إلى المعروف عند أهل العلم من إطلاقه على أهل السنة المحضة .
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
... (( فلفظ السنة يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة ، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلاَّ الرافضة . . . و قد يراد به أهل الحديث و السنة المحضة ، فلا يدخل فيه إلاَّ من أثبت الصفات لله تعالى ، و يقول إنَّ القرآن غير مخلوق )) . وساق جملة من عقائد أهل السنة و الجماعة التي باينوا فيها أهل البدع (6)..
... و الذي يعنينا في هذا المقام هو الإطلاق الثاني ، و عليه يمكن تعريف أهل السنة و الجماعة بأنهم : (( الثابتون على اعتقاد ما نقله إليهم السلف الصالح رحمهم الله ، عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو عن أصحابه - رضي الله عنهم - ، فيما لم يثبت فيه نصٌّ في الكتاب ، و لا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - )) (7).
... و لأهل السنة و الجماعة ألقابٌ أخرى يُعرفون بها فهُم الفرقة الناجية ، و الطائفة المنصورة الثابتة على الحق في زمن الغربة ، لا يضرُّها من خذلها ، حتى تلقى الله و هي كذلك ، و قد ثبت وصفهم بذلك عن نبينا الأمين - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين و غيرهما ، حيث بوَّب الشيخان ، كلٌ في صحيحه على الطائفة المنصورة .
... فقال البخاريُّ في كتاب الاعتصام بالكتاب و السنة : باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق ، و هم أهل العلم (8) .
... و في كتاب الإمارة من صحيح مسلم : باب قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرُّهم من خالفهم (9) .
__________
(1) ... السنة ، للبربهاري : 2 / 36 .
(2) ... انظر : النهاية لابن كثير : 2 / 36 .
(3) ... انظر : مجموع الفتاوى ، لابن تيمية 19/306-307 .
(4) ... الأثر : أخرجه مسلم في مقدمة الصحيح 1 / 15 .
و مما يستدل به على ظهور اصطلاح أهل السنة في مقابل أهل البدع في زمن الصحابة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى : { يوم تبيضُّ وجوه و تسود وجوه } ] آل عمران : 106 [ :
{ أما الذين ابيضت وجوهم } فأهل السنة و الجماعة و أهل العلم { و أما الذين اسودت وجوهم } فأهل البدع و الضلال .اهـ .
و هذا الأثر : في إسناده مجاشع بن عمرو ، قال عنه البخاري : ( منكرٌ مجهول ) ، و قال عن شيخه مُيسَّر بن عبد ربه : ( رُميَ بالكذب .) .
انظر : ميزان الاعتدال ، للذهبي : 4/423 ، و الفوائد المجموعة , للشوكاني ، ص : 317 ، و مجموع فتاوى لشيخ الإسلام ابن تيميّة : 12/341 و 20/292 و 22/251 و 24/171 .
(5) ... الشيعة : فرقة نشأت أيام الفتنة في آخر عهد الخلفاء الراشدين ، و قد سمُّوا شيعةً لمشايعتهم الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، ومن عقائدهم : القول بإمامة عليٍ نصَّاً ، و وصيَّةً ، و أن الإمامة - و هي عندهم من أصول الدين - لا تخرج من ولده إلا بظلمٍ لهم ، أو تقيَّةٍ منهم ، و أن الأئمة معصومون من الكبائر و الصغائر .
انظر : الملل و النحل 1/146 و ما بعدها ، و الفرق بين الفرق ، ص : 53 و ما بعدها .
(6) ... منهاج السنة النبويَّة : 2 / 221 .
(7) ... الرد على من أنكر الحرف ، لأبي نصر السجزي ، ص : 99 .
(8) ... صحيح البخاري 6 / 2667 .
(9) ... صحيح مسلم 3 / 1209 .(/8)
... و في الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان (1) ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
... (( لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ، لا يضرُّهم من خذلهم ، و لا من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله و هم كذلك )) (2).
... و عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
... (( تفترق أمتي على ثلاثٍ و سبعين ملَّة ، كلُّهم في النار إلاَّ ملَّة واحدةٌ )) ، قالوا : و من هي يا رسول الله ؟ قال : (( ما أنا عليه و أصحابي )) (3) .
... قال ابن كثير رحمه الله : (( هم أهل السنة و الجماعة المتمسكون بكتاب الله و سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، و بما كان عليه الصدر الأول من الصحابة و التابعين ، وأئمة المسلمين )) (4).
... و لمَّا كان أهل الحديث خاصةً أثبت الناس على السنة ، و أكثرهم تمسكاً و اعتصاماً بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - و صحابته الكرام ، ذهب غير واحدٍ من أهل العلم و التحقيق إلى الجزم بأن أهل السنة و الجماعة ، و الطائفة المنصورة ، هم أهل الحديث و الأثر .
... قال ابن المبارك رحمه الله : (( هم عندي أصحاب الحديث )) (5)
__________
(1) ... معاوية بن أبي سفيان ،- رضي الله عنه - هو : أبو عبد الرحمن ، القرشي الأموي المكي ، أمير المؤمنين ، ملك الإسلام ، قيل إنه أسلم قبل أبيه وقت عمرة القضاء ، وبقي يخاف من اللحاق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من أبيه ، و لم يظهر إسلامه إلا يوم الفتح ، حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و كتب له مرات يسيرة ، وحدث أيضا عن أخته أم المؤمنين أم حبيبة ، و عن أبي بكر و عمر رضي الله عنهما , مات معاوية في رجب سنة 60 هـ / 680 , عن 77 سنة .
انظر ترجمته في : طبقات ابن سعد 3 / 32 و 7 / 406 ، تاريخ بغداد 1 / 207 ، أسد الغابة 4 / 385 ، سير أعلام النبلاء 3 / 119- 162 .
(2) ... الحديث : أخرجه البخاري ( 3116 ) في فرض الخمس ، باب : قول الله تعالى { فإن لله خمسه } ، و ( 6341 ) في المناقب ، باب رقم ( 28 ) ، و ( 7312 ) في الاعتصام ، باب : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ) ، و ( 7460 ) في التوحيد ، باب : قوله تعالى { إنما قولنا لشيء إذا أردناه } ، و مسلم في الإمارة ( 1037 ) ، باب : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ، و ابن ماجة في المقدمة ( 9 ) ، و أحمد في المسند 4 / 97 و 99 .
و جاء نحوه من حديث ثوبان - رضي الله عنه - :
أخرجه مسلم ( 1920 ) في الإمارة باب : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم .. ، و الترمذي ( 2229 ) في الفتن ، باب : ما جاء في الأئمة المضلين ، و أبو داود ( 4252 ) في الفتن و الملاحم ، باب : ذكر الفتن و دلائلها ، و ابن ماجة ( 10 ) في المقدمة ، و أحمد في " المسند " 5 / 278 و 279 .
و من حديث قرة بن إياس المزني - رضي الله عنه - :
أخرجه الترمذي ( 2192 ) في الفتن ، باب : ما جاء في الشام ، و ابن ماجة ( 6 ) في المقدمة ، و أحمد في " المسند " 3 / 436 و 5 / 34 و 35 ، و ابن حبان في " صحيحه " ( 61 ) .
(3) ... حسن بشواهده ، احتج به جماعة من الأئمة :
أخرجه الترمذي ( 2641 ) في الإيمان ، باب : ما جاء في افتراق هذه الأمة ، و محمد بن نصر في "السنة"
( 59 ) ، و الآجري في " الشريعة " ( 23، 24 ) ، و " الأربعين " ص ـ 54 ، و الطبراني في "الكبير" 13 / 30 ( 62 ) ، و اللاكائي في " السنة " 1 / 99 ( 147 ) من طرق عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي ، عن عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - مرفوعا ، بزيادة في أوله .
و عبد الرحمن الأفريقي : ضعيف يعتبر به .
و له شاهد بنحوه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - :
أخرجه العقيلي 2 / 262 ، و الطبراني في " الأوسط " ( 4886 و 7840 ) و فيه : عبدالله بن سفيان المدني ، قال عنه العقيلي : لا يتابع على حديثه .
و للحديث شواهد بمعناه أحصاها سليم الهلالي في رسالته " درء الارتياب عن حديث ما أنا عليه اليوم
و الأصحاب " ، فلتراجع .
و قد احتج بهذا الحديث اللاكائي 1 / 100 وقال : " حديث ثابت " . و شيخ الإسلام ابن تيمية ، و ابن القيم ، و الشاطبي ، و غيرهم ، راجع الرسالة المذكورة .
... قلت : أما ذكر الافتراق دون قوله : ( ما أنا عليه اليوم و أصحابي ) فصحيح ثابت مشهور عن عدد من الصحابة كأبي هريرة ، و سعد بن مالك ، و معاوية ، و عمرو بن عوف ، و غيرهم- رضي الله عنهم - .
(4) ... تفسير ابن كثير 4/433 .
(5) ... أثر ابن المبارك :
أخرجه الخطيب البغدادي في "شرف أصحاب الحديث " ص : 26 من طريق أبي بكر بن أبي داود ، قال حدثنا أبي ، عن سعيد بن يعقوب الطالقاني أو غيره ، قال : ذكر ابن المبارك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من ناوأهم حتى تقوم الساعة ) فقال ابن المبارك :– فذكره . وهو إسناد صحيح لولا شك أبي داود .(/9)
.
... و قال الإمام أحمد رحمه الله : (( إن لم يكونوا أصحاب الحديث ، فلا أدري من هم )) (1).
... و قال الإمام الترمذي رحمه الله : سمعت محمد بن إسماعيل – يريد البخاري -
يقول : سمعت علي بن المديني (2) يقول ، وذكر هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق )) : هم أهل الحديث .اهـ .(3)
... و ذكر الشيخ عبد القادر الجيلاني (4) رحمه الله ، أن ليس لأهل السنة إلا اسم واحدٌ يُعرفون به ، و هو أصحاب الحديث (5) .
... و قد رُوي مثل هذا عن غير واحدٍ من السلف رحمهم الله ، ورضي عنهم .
... و إنَّما حاز أهل الحديث هذا الشرف العظيم ، لكونهم جمعوا بين الرواية والدراية ، إلى جانب العمل بما جاء في الأثر ، عن خير البشر - صلى الله عليه وسلم - ، و اعتقاد ما أرشد إليه ، و قد تقدم معنا قول أبي عمرو بن الصلاح رحمه الله : (( قد يكون الإنسان من أهل الحديث و هو مبتدع )) (6).
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
... (( و نحن لا نعني بأهل الحديث ، المقتصرين على سماعه ، أو كتابته ، أو روايته ، بل نعني بهم كلَّ من كان أحقَّ بحفظه ، و معرفته ، و فهمه ، ظاهراً ، وباطناً واتباعه باطناً ، و ظاهراً ، و كذلك أهل القرآن ، و أدنى خصلة في هؤلاء محبة القرآن و الحديث ، و البحث عنهما ، و عن معانيهما ، و العمل بما علموه من موجَبهما )) (7).
... و قد سمي أهل السنة ِ أهلَ الحديث ، لأنهم حفظته ، و نقلته ، و حَمَلته . قال اللالكائي (8):
... (( لم نجد في كتاب الله و سنة رسوله ، و آثار صحابته ، إلا الحثَّ على الاتباع ، و ذم التكلف و الاختراع ، فمن اقتصر على هذه الآثار كان من المتبعين و كان أولاهم بهذا الوسم ، و أخصهم بهذا الرسم أصحاب الحديث ، لاختصاصهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - و اتباعهم لقوله ، و طول ملازمتهم له ، و تحملهم علمه )) (9).
__________
(1) ... صحيح :
أخرجه الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " ص25 و ص 27 ، بإسنادين رجالهما ثقات .
(2) ... علي بن المديني ، هو : أبو الحسن علي بن عبد الله جعفر بن نجيح السعدي مولاهم ، البصري ، المعروف بابن المديني ، الشيخ الإمام الحجة ، أمير المؤمنين في الحديث ، إليه المنتهى في معرفة علل الحديث ، مع كمال المعرفة بنقد الرجال ، و سعة الحفظ ، كان أحمد بن حنبل لا يسميه ، و إنما يكنيه تبجيلا له . مات بسامراء سنة 204 هـ / 820 م .
انظر ترجمته في : تاريخ بغداد 11 / 458 –473 ، طبقات الحنابلة 1 / 225 ، تهذيب الأسماء و اللغات
1 / 350 ، تذكرة الحفاظ 2 / 428 ، سير أعلام النبلاء 11 / 41 -60 .
(3) ... صحيح :
أخرجه الترمذي في " سننه " ( 2229 ) في الفتن ، باب : ما جاء في الأئمة المضلين ، و من طريقه الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " ص 27 .
(4) عبد القادر الجيلاني ، هو : الشيخ الإمام العارف القدوة ، شيخ الإسلام ، علم الأولياء ، أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح عبد الله بن جنكي ، الجيلي الحنبلي ، شيخ بغداد ، ولد بجيلان سنة 471 هـ /1079 م ، وقدم بغداد شابا ، كان فقيها صالحا دينا ، كثير الذكر ، دائم الفكر ، سريع الدمعة ، له سمت و صمت ، و كان يعظ إلى أن توفي سنة 561 هـ / 1166 م , عن تسعين سنة .
انظر ترجمته في : الأنساب للسمعاني 3 / 415 ، المنتظم 10 / 219 ، مرآة الزمان 8 / 164 ، سير أعلام النبلاء : 20 / 439 - 451 ، ذيل طبقات الحنابلة 1 / 290 .
(5) ... انظر : الغنية لطالبي طريق الحق لعبد القادر الجيلاني : 1 / 71 .
(6) ... انظر : فتاوى و مسائل ابن الصلاح ، ص : 213 .
(7) ... مجموع الفتاوى ، لابن تيمية 4 / 95 .
(8) ... اللالكائي ، هو : أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور ، الطبري الرازي الشافعي الإمام الحافظ المجود , عالم بغداد و شيخ أهل السنة فيها في وقته ، من مؤلفاته الجليلة : شرح أصول اعتقاد أهل السنة و الجماعة ، و هو مطبوع .
انظُر ترجمته في : تاريخ بغداد 14 / 70 ، المنتظم 8 / 34 , الكامل في التاريخ 9 / 364 , تذكرة الحفاظ
3 / 1083 , سير أعلام النبلاء 17 / 419 , البداية و النهاية 12 / 24 .
(9) ... شرح أصول اعتقاد أهل السنة و الجماعة ، للالكائي : 1 / 22 .(/10)
... و الفرق التي تزعم الانتساب إلى أهل السنة و الجماعة ، و تدعي الاعتصام بخير الهديِ ، هديِ محمد - صلى الله عليه وسلم - في أصول الدين و فروعه ، كثيرة جداً ، (( غير أن الله أبى أن يكون الحق و العقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث و الآثار ، لأنهم أخذوا دينهم و عقائدهم ، خلفاً عن سلف ، و قرناً عن قرن ، إلى أن انتهوا إلى التابعين ، و أخذه التابعون عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و لا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله الناس من الدين القويم ، و الصراط المستقيم ، إلاَّ هذا الطريق الذي سلكه أصحاب الحديث ، أمَّا سائر الفرق ، فطلبوا الحديث لا بطريقه فحادوا عن الحق ، و زاغوا عنه ))(1).
المطلب الثالث : المعالم العامة لعقيدة أهل السنَّة أصحاب الحديث و منهجهم في تقريرها -
... حينما أصبح كل صاحب هوى يزعم أن هواه موافق لما جاء به الكتاب والسنة ، و يجتهد في ليِّ أعناق النصوص لتوافق بدعته ، و ترد على مخالفيه ، وضع أهل السنة و الجماعة ضوابط لم يكن بدٌ من مراعاتها عند تقرير العقائد المستمدة من الوحيين الكتاب و السنة ، و أقاموا على أساسها المعالم العامة لعقيدتهم السوية حتى غدت منهجاًُ ينتهجه كلُّ ملتمس للصواب ، و ساعٍ إلى إدراك الحقيقة .
... و فيما يلي أحدد معالم هذا المنهج بعد بيان حدِّه عند أهل اللسان :
... ( المنهج و المنهاج ) في أصل الوضع اللغوي يعني : الطريق الواضح (2)، ومنه قوله تعالى : { لكلٍ جعلنا منكم شرعةً و منهاجاً } ]المائدة : 48 [ ، أي : سبيلاً و سنَّة .
... قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره : (( أمَّا المنهاج فهو الطريق الواضح السهل )) (3).
... و عليه فإن المقصود بالمنهج العَقَديّ لأهل السنة و الجماعة ، هو طريقهم في تقرير مسائل الاعتقاد ، و إقامة الأدلة عليها مع ما يتفرَّع عن ذلك من مسائل ذات صلة ، كحكم العقل و نحوه ، و هو ما سأتناوله بتوفيق الله تعالى من خلال المقاصد التالية :
المقصد الأول - مصادر أهل السنة أصحاب الحديث في تلقي وتقرير مسائل العقيدة -
ثمة مصادر عدة تستمد منها العقائد ، كالفطرة ، و العقل ، و الوحي ، والكشف ، و غيرها مما تعتمده بعض الفرق ، و ترده أخرى .
و من هذه المصادر ما هو حجة ، و منها ما لا حجة فيه أصلاً ، لذلك لم يأخذ أهل السنة و الجماعة إلاَّ بما تأكَّدت حجيته ، و استبانت دلالته ، كالكتاب والسنة الصحيحة ، و الإجماع المنضبط الوارد بشروطه ، مع الاستئناس أحياناً بدلالة العقل ، لا في تقرير عقيدة لم يثبتها النقل ، و لكن في التأكيد على ما ثبت بالنقل الصحيح .
و في هذا المجال نجد أهل السنة و الجماعة يلتزمون أموراً توضح منهجهم ، و تبين سبيلهم في تلقي العقائد و تقريرها ، و أبرز هذه الأمور :
أولاً : الرد إلى المصادر الثلاثة المتفق عليها ، و هي الكتاب و السنة والإجماع المنضبط ، و تقديمها على ما سواها .
و ما ذلك إلاَّ لأن الوحيين - الكتاب و السنة - قد جمعا الخير كله ، واستوفيا كل ما يحتاجه من حقق الإيمان بهما من سبل الهدى والصلاح ، كما قال تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيءٍ و هدى ورحمة وبشرى للمسلمين } [ النحل : 89 ] .
و في الحديث : (( تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء )) (4).
__________
(1) ... الحجة في بيان المحجة و شرح عقيدة أهل السنة ، لإسماعيل الأصفهاني : 2 / 22 و ما بعدها .
(2) ... انظر : معجم مقاييس اللغة ، لابن فارس : 5 / 361 ، و القاموس المحيط ، للفيروز آبادي ، ص : 266 .
(3) ... تفسير ابن كثير : 2 / 66 ، و قد ذكر الشوكاني نحواً من هذا المعنى ، و عزاه إلى ابن المبرِّد .
انظر : فتح القدير : 2 / 48 .
(4) ... صحيح :
أخرجه أبو داود ( 4607 ) في السنة ، باب مجانبة أهل الأهواء و بغضهم ، و الترمذي ( 2676 ) في العلم ، باب : ما جاء في الأخذ بالسنة و اجتناب البدع ، و ابن ماجة ( 43 – 44 ) في مقدمة سننه ، باب اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و أحمد 4 / 126 – 127 ، و الدارمي في " سننه " 1 / 44 – 45 ، و ابن حبان في " صحيحه " 1 / 178 ( 5 ) ، و الحاكم في " المستدرك " 1 / 95 – 96 ، و ابن أبي عاصم في " السنة " ( 27 ، 31 – 34 ، 48 ، 54 ، 56 ، 57 ) عن عبد الرحمن بن عمرو الأنصاري السلمي ، أنه سمع عرباض بن سارية ( يقول – فذكره مرفوعا .
و بعضهم يقرن بينه و بين حجر الكلاعي ، عن العرباض بن سارية ( .
و قال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
و قال الحاكم : ( صحيح ، ليس له علة ) . و هو كما قال .(/11)
و قد صدّق سلمان الفارسي - رضي الله عنه - يهودياً قال له : (( قد علمكم نبيكم كل شيءٍ حتى الخراءة )) ، أي : آداب قضاء الحاجة ، فقال سلمان : (( أجل ، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول )) (1).
فهل يعقل أن يبين لنا - صلى الله عليه وسلم - هذا ، ويدع عقولنا تطيش فيما لا يدرك إلا بالوحي فيكل علمه إلى عقولنا القاصرة ولا يبينه ؟
كلاَّ و الله ، بل على العكس من ذلك ، فقد قال لنا - صلى الله عليه وسلم - : (( إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدي محمد ، و شر الأمور محدثاتها ، و كل بدعة
ضلالة )) (2).
فمن ترك خيري الحديث والهدى إلى غيرهما ، فقد ضل وزلّ .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
(( إن ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ربه ، فإنه يجب الإيمان به ، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف ؛ لأنه الصادق المصدوق . فما جاء في الكتاب و السنة وجب على كل مؤمن الإيمان به ، و إن لم يفهم معناه )) (3).
فالواجب على كل مسلم الالتزام بالكتاب و السنة و الاحتكام إليهما في كل شأن من شؤون الدين ، و الوقوف عند حكمهما ، وعدم مجاوزتهما إلى ما سواهما و لذلك ذاعت وشاعت وصايا السلف في هذا المجال ، وعُرف عنهم الإكثار من الوصية بلزوم السنة ، بعد أن عرفت الأمة من أعرض عنها واستبدلها بالأقيسة العقلية و الأهواء .
و قد خصَّ السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين لزوم السنة ، والاعتصام بها بالوصيَّة ، لأنه عُرف في الأمة من أعرض عنها و أنكر حجيتها ، بخلاف كتاب الله الذي لم يخالف أحدٌ يُعتد بخلافه في الاحتكام إليه ، و الاحتجاج بما جاء به .
و عليه فإذا صح شيء عن رسول الله ، فلا عذر لمخالفه في مخالفته ، ولذلك اشتد نكير السلف على من قدَّم بين يدي المأثور رأياً ، أو التمس حكماً غير ما حكم به .
فهذا الشافعي رحمه الله يُسأل عن مسألة فيقول : قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا و كذا ، فيقول له رجلٌ : ما تقول أنت ؟ فيقول الشافعي رحمه الله : (( سبحان الله ! تَراني في كنيسة ؟ تراني في بيعة ؟ ترى على وسطي زُنّاراً ؟ أقول : قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا و كذا ، وأنت تقول لي : ما تقول أنت ؟ )) (4) .
وقد ذكر ابن حزم الظاهري رحمه الله أن إسحاق بن راهويه قال : (( من بلغه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر يقر بصحته ، ثم ردّه بغير تقيَّة (5) ، فهو كافر )) (6).
و قال أبو القاسم الأصفهاني (7) : (( ليس لنا مع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا الاتباع والتسليم ، و لا عُذر لأحد يتعمد ترك السنة ويذهب إلى غيرها ، لأنه لا صحة لقول أحد مع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صحّ )) (8).
و إلى جانب الكتاب و السنة يأخذ أهل السنة و الجماعة بالإجماع ، باعتباره ثالث مصادر الشريعة الإسلامية المتفق على حجتها ، و هو في اصطلاح الأصوليين : اتفاق المجتهدين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي .
__________
(1) ... الحديث : رواه مسلم ( 262 ) ( 57 ) في كتاب الطهارة ، باب : الاستطابة ، و أبو داود ( 7 ) في الطهارة باب : كراهة استقبال القبلة عند قضاء الحاجة ، و النسائي 1 / 38 – 39 في الطهارة ، باب : النهي عن الاكتفاء في الاستطابة بأقل من ثلاث أحجار ، و الترمذي ( 16 ) في الطهارة ، باب الاستنجاء بالحجارة ، و قال : ( حسن صحيح ) .
(2) ... قطعة من حديث خطبة الحاجة : أخرجه مسلم ( 867 ) في الجمعة ، باب : تخفيف الصلاة و الخطبة ، و النسائي 3 / 188 في العيدين ، باب : كيف الخطبة للعيد ، و الدارمي ( 212 ) في المقدمة ، باب في كراهية أخذ الرأي ، و غيرهم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري ( .
(3) ... الرسالة التدمرية ، ضمن مجموع الفتاوى : 3 / 41.
(4) ... صحيح عن الشافعي :
أخرجه أبو نعيم في " الحلية " 9 / 106 بإسناد صحيح . و أورده ابن القيم في " مختصر الصواعق المرسلة " 2 / 25 .
(5) ... إذا ورد في كلام أئمتنا ما يوهم القول بالتقية حمل على مقتضى قوله تعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } ] آل عمران : 28 [ أي : الخوف على النفس الملجئ إلى النطق بالكفر ونحوه ؛ كما في قوله تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } ] النحل : 106 [ ، وليس في هذا ما يوافق قول الروافض الذين جعلوا التقية أصلاً من أصول مذهبهم .
(6) ... صحيح عن ابن راهويه رواه عنه تلميذه الإمام الحافظ الثقة الثبت محمد بن نصر المروزي ، كما في " الإحكام " لابن حزم 1 / 97 .
(7) ... أبو القاسم الأصبهاني ، هو : إسماعيل بن محمد بن الفضل ، قوام السنة ، الإمام ، الحافظ ، المفسر ، الأديب . انظر ترجمته في : سير أعلام النبلاء 20/80-88 ، و شذرات الذهب 4/105-106.
(8) ... الحجة في بيان المحجة لأبي القاسم الأصبهاني : 2 / 398 .(/12)
ولابد في الإجماع من وجود مستند شرعي من نص أو قياس حتى يكون حجةً ترتقي بالحكم إلى مرتبة القطع واليقين (1).
وقد دل على حجية الإجماع الكتاب و السنة ، قال تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً } ] النساء : 115 [ .
و في الحديث المشهور يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تجتمع أمتي على ضلالة )) (2)
__________
(1) انظر : د . وهبة الزحيلي : الوجيز في أصول الفقه .
(2) ... حديث صحيح :
رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدد من الصحابة منهم : عبد الله بن عمر ، و أبو مالك الأشعري ، و أبي ذر الغفاري ، و أبو بصرة الغفاري ، وأنس بن مالك ، وعائشة - رضي الله عنهم - ، و الحسن البصري مرسل ؛ بألفاظ متقاربة ، و أسانيد لا تخلو من مقال ، يقوي بعضها بعضاً ، و عن أبي مسعود الأنصاري البدري موقوف صحيح ، نذكر منها :
1– حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - : و لفظه : (( إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة )) ، و في لفظ (( لا يجمع الله أمتي – أو هذه الأمة – على ضلالة أبداً ، و يد الله على الجماعة ، و من شذ شذ في النار )) .
أخرجه الترمذي ( 2255 ) في الفتن ، باب : ما جاء في لزوم الجماعة ، و ابن أبي عاصم في " السنة "
(80) ، و الطبراني في " الأوسط " ( 7249 ) ، و الحاكم في " المستدرك " 1 / 115 – 116 و 507 ، و أبو نعيم في " الحلية " 3 / 37 ، و اللالكائي " في شرح أصول الاعتقاد " ( 154 ) ، و الخطيب في " الفقيه و المتفقه " 1 / 161 ، و البيهقي في " الأسماء و الصفات " ( 701 ) ، و أبو عمرو الداني في " السنن الواردة في الفتن " ( 368 ) ، من طريق المعتمر بن سليمان ، عن سليمان المدني عن عمرو بن دينار ، عن ابن عمر - رضي الله عنه - به مرفوعاً .
و قد اختلف في إسناده على المعتمر بن سليمان على أوجه أوصلها الحاكم إلى سبعة أوجه ، و أرجعها الألباني في " ظلال الجنة " 1 / 40 إلى أربعة .
و وجه آخر لم يذكره الحاكم : أخرجه الطبراني في " الكبير " ( 13623 ) عن المعتمر بن سليمان ، عن مرزوق مولى طلحة ، عن عمرو بن دينار به .
قال الترمذي : ( هذا حديث غريب من هذا الوجه ، و سليمان المدني هو عندي سليمان بن سفيان ) .
و قال الترمذي في " العلل الكبير " 2 / 817 : ( سألت محمداً – يعني البخاري – عن هذا الحديث ، فقال : سليمان المدني هذا منكر الحديث ، و هو عندي سليمان بن سفيان ) .
و قال البيهقي : ( أبو سفيان المديني ، يقال : إنه سليمان بن سفيان ، و اختلف في كنيته ، و ليس بمعروف ، و روي من وجه آخر ) .
و قال ابن كثير في " تحفة الطالب " 1 / 146 : ( في إسناده سليمان بن سفيان ، و قد ضعفه الأكثرون ) .
و قال ابن حجر في " تلخيص الحبير " 3 / 162 : ( فيه سليمان بن سفيان المدني و هو ضعيف ، و أخرج الحاكم له شواهد ) .
... قال الهيثمي في " المجمع " : ( رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما ثقات رجال الصحيح خلا مرزوق مولى طلحة و هو ثقة ) .
2– حديث أبي مالك كعب بن عاصم الأشعري - رضي الله عنه -: و لفظه : (( إن الله أجاركم من خلال ثلاث : ...و ألا تجتمعوا على ضلالة )) .
و له عنه طريقان :
الطريق الأول : أخرجها أبو داود ( 4253 ) ،في الفتن , باب : ذكر الفتن و دلائلها ، و ابن أبي عاصم في " السنة " ( 92 ) ، عن محمد بن عوف الطائي ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، عن أبيه ، عن ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عنه به .
و رجاله ثقات سوى محمد بن إسماعيل ، قال ابن حجر في " التقريب " ( 5735 ) : ( عابوا عليه أنه حدث عن أبيه بغير سماع ) .
قلت : لكن ذكر محمد بن عوف الطائي أنه قرأه في أصل إسماعيل كما في رواية أبي داود .
و قال ابن كثير في " تحفة الطالب " 1 / 146 : ( في إسناد هذا الحديث نظر ) .
و قال ابن حجر في " تلخيص الحبير " 3 / 162 : ( في إسناده انقطاع ) .
قلت : يشير إلى الانقطاع بين شريح ، و أبي مالك ، قال أبو حاتم الرازي : ( شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري مرسل ) . انظر : المراسيل لابنه ص 78 .
الطريق الثاني : أخرجها ابن أبي عاصم في " السنة " ( 91 ) من طريق يزيد بن هارون ، أخبرنا سعيد بن زربي عن الحسن ، عنه .
و فيه سعيد بن زربي : منكر الحديث ، كما في " التقريب " ( 2304 ) .
3– حديث أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - : و لفظه : (( اثنان خير من واحد ، و ثلاثة خير من اثنين ، و أربعة خير من ثلاثة ، فعليكم بالجماعة ، فإن الله عز و جل لم يجمع أمتي إلا على هدى )) .
أخرجه أحمد 5 / 145 من طريق البختري بن عبيد بن سلمان ، عن أبيه ، عن أبي ذر به .
قال الهيثمي في " المجمع " 1 / 177 و 5 / 218 : ( رواه أحمد ، و فيه البختري بن عبيد ، وهو ضعيف ) .
قال المناوي في " فيض القدير " 1 / 150 : ( رمز السيوطي لصحته ، و ليس كما زعم ، فقد أعله الحافظ الهيثمي بأن أبا البختري ضعيف ) .
4– حديث أبي بصرة الغفاري - رضي الله عنه - : و لفظه : (( سألت ربي أربعاً ، فأعطاني ثلاثاً و منعني واحدة ؛ سألته ألا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها ... )) .
أخرجه أحمد 6 / 396 ، و الطبراني في " الكبير " 2 / 280 ( 2171 ) ، و ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " ( 1390 ) ، من طريق الليث بن سعد ، عن أبي هانئ الخولاني ، عن رجل قد سماه ، عنه .
قال الهيثمي في " المجمع " 1 / 177 و 7 / 222 : ( فيه راوٍ لم يُسم ) .
تنبيه : و قع في مسند أحمد ( أبو وهب ) بدل ( أبو هانئ ) فلعله تصحيف !
5– حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - :و لفظه (( إن أمتي لن تجتمع على ضلالة )) .
له عنه طريقان :
... الطريق الأول : أخرجه ابن ماجه (3950 ) ،في الفتن , باب : السواد الأعظم , و عبد بن حميد في " مسنده " ( 1220 ) ، و إسحاق بن راهويه كما في " إتحاف المهرة " 1 / 399 ، و ابن أبي عاصم في " السنة " ( 84 ) ، و الالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " ( 153 ) ، و الخطيب في " الفقيه و المتفقه " 1 / 161 ، من طريق معان بن رفاعة السلامي ، عن أبي خلف الأعمى ، عن أنس - رضي الله عنه - به .
قال ابن كثير في " تحفة الطالب " 1 / 149 : ( هذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف ؛ لأن معان بن رفاعة ضعفه يحيى بن معين ، و قال السعدي و أبو حاتم الرازي : ليس بحجة .. و أبو خلف الأعمى : قال يحيى بن معين كذاب ، كذا حكاه ابن الجوزي ، و قال أبو حاتم منكر الحديث ليس بالقوي .. ) .
قال ابن حجر – كما في " فيض القدير " 2 / 245 – : ( غريب ضعيف ، لكن له شاهد عند الحاكم من حديث ابن عباس ). قلت : و هو الآتي .
قال البوصيري في " مصباح الزجاجة " 4 / 169 : ( هذا إسناد ضعيف ؛ لضعف أبي خلف الأعمى ، و اسمه حازم بن عطاء ) .
الطريق الثاني : أخرجه ابن أبي عاصم في " السنة " ( 83 ) ، و الضياء في " الأحاديث المختارة " 7 / 129
( 2559 ) ، من طريق مصعب بن إبراهيم القيسي ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس - رضي الله عنه - به .
فيه مصعب بن إبراهيم القيسي ، قال فيه العقيلي : ( في حديثه نظر ) . و قال ابن عدي : ( منكر الحديث ) .
انظر ميزان الاعتدال 4 / 118 .
و قال الضياء المقدسي : ( إسناده صحيح ) ! .
6 – حديث ابن عباس - رضي الله عنه - : و لفظه (( لا يجمع الله أمتي على ضلالة أبداً ، و يد الله مع الجماعة )) .
من طريق إبراهيم بن ميمون العدني ، أخبرني عبد الله بن طاوس ، أنه سمع أباه يحدث ، أنه سمع ابن عباس - رضي الله عنه - – فذكره .
أخرجه الترمذي ( 2166 ) مختصراً ، و حسنه ، و الحاكم في " المستدرك " 1 / 116 ، و صححه ، و البيهقي في " الأسماء و الصفات " ( 702 ) ، و اللفظ لهما ، و القضاعي في " مسندالشهاب " ( 239 ) .
قلت : هذا إسناد صحيح ، رجاله كلهم ثقات .
قال الحاكم : ( إبراهيم بن ميمون قد عدله عبد الرزاق ، و أثنى عليه ، و عبد الرزاق إمام أهل اليمن فتعديله حجة ) .
و قال ابن حجر – كما في " فيض القدير " 2 / 245 - : ( رجاله رجال الصحيح إلا إبراهيم بن ميمون ) .
7 – حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - :
أخرجه الحارث بن أبي أسامة في " مسنده " ( بغية الباحث رقم 54 ) ، و الخطيب في " الفقيه و المتفقه " 1 / 162 ، و أبو عمرو الداني في " السنن الواردة في الفتن " ( 367 ) ، من طريق يحيى بن عبيد الله ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - به .
و يحيى بن عبيد الله ، هو : ابن موهب المدني ، متروك ، كما في " التقريب " ( 7599 ) .
8- حديث أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - :موقوف ، و لفظه : (( اصبروا حتى يستريح بر ، أو يستراح من فاجر و عليكم بالجماعة فإن الله ـ تبارك و تعالى ـ لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة )) .
... و له عنه ثلاث طرق :
الطريق الأول : أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " 7 / 517 ( 37615 ) ، و إسحاق بن راهويه في
" مسنده " – كما في " المطالب العالية " ( 3039 ) – و يعقوب الفسوي في " المعرفة " 3 / 244 و 245 و الطبراني في " الكبير " 17 / 239 ( 665 و 666 و 667 ) , و ابن أبي عاصم في " السنة " ( 85 ) ، و اللالكائي في " شرح أصول السنة " ( 162 ) ، و الخطيب في " الموضح " 1 / 391 – 392 ، و البيهقي في " الشعب " 6 / 67 ( 7517 ) من طرقٍ ، عن يسير بن عمرو ، عن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - موقوفاً من قوله.
قال الهيثمي في " المجمع " 5 / 219 : ( رجاله ثقات ) .
قلت : يسير بن عمرو ، أدرك زمان النبي ، و له رؤية ، روى له البخاري و مسلم .
انظر : تهذيب الكمال 32 / 302 – 305 .
و قال ابن حجر في " التلخيص " 3 / 162 : ( إسناده صحيح ، و مثله لا يقال من قبل الرأي ) .
الطريق الثاني : أخرجه الحاكم في " المستدرك " 4 / 506 من طريق واصل بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا أبو مالك الأشجعي ، عن أبي الشعثاء ، عن أبي مسعود - رضي الله عنه - به .
قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه .
الطريق الثالث : أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " 7 / 517 ( 37615 ) عن يزيد بن هارون ، عن التيمي عن نعيم بن أبي هند ، عن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - به .
قلت : هذا إسناد صحيح أيضاً موقوف ، رجاله ثقات على شرط مسلم .و التيمي ، هو : سليمان بن طرخان.
· ... و الحديث : قال فيه ابن حجر في " تلخيص الحبير " 3 / 162 : ( حديث مشهور ، له طرق كثيرة ، لا يخلو واحد منها من مقال ) فذكر بعض طرقه ، ثم قال : ( و يمكن الاستدلال له بحديث :معاوية مرفوعاً : " لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من خذلهم و لا من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله " أخرجه الشيخان .. و وجه الاستدلال منه : أن بوجود هذه الطائفة القائمة بالحق إلى يوم القيامة لا يحصل الاجتماع على الضلالة ) .
قلت : و حديث معاوية ( الذي ذكره ، و شواهده ، سبق تخريجه في هذه الرسالة .
و قال ابن حزم في " الإحكام " 4 / 527 : ( هذا و إن لم يصح لفظه ، و لا سنده ، فمعناه صحيح ، بالخبرين المذكورين آنفاً ) . قلت : يريد حديث معاوية , و ثوبان .
و قال السخاوي في " المقاصد الحسنة "رقم 1288 – بعد أن ذكر طرفاً من شواهده و طرقه - : ( و بالجملة فهو حديث مشهور المتن ، ذو أسانيد كثيرة ، و شواهد متعددة في المرفوع و غيره ) .
و حسنه السيوطي في " الجامع الصغير " 2 / 271 .(/13)
.
وكما أن الإجماع حجة في فروع الشريعة ، فهو حجة في أصول الدين
( العقائد ) ، حيث لا مسوِّغ للاجتهاد أو البحث فيما أجمع عليه السلف الصالح لهذه الأمة في قرونها الثلاثة الأولى المفضلة سواء كان ذلك في باب إثبات الصفات أو غيره.
و بهذا نأتي على نهاية ما نحن بصدده و هو تقرير اعتماد أهل السنة , والجماعة على المصادر الثلاثة المتفق عليها في باب أصول الدين تقريراً و اعتقاداً .
ثانياً : تقديم النقل على العقل عند تعذُّر الجمع بينهما ، مع التأكيد على أن (( المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط ، و ما تنازع فيه الناس فوجدت ما خالف النصوص الصحيحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها ، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع … و ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه السمع ، والذي يقال إنه يخالفه ؛ إما حديثٌ موضوع ، أو دلالة ضعيفة ، فلا يصلح أن يكون دليلاً لو تجرد عن معارضة العقل الصريح فكيف إذا خالفه صريح المعقول )) (1).
... و حينما يعرض أهل السنة و الجماعة عن الاعتداد بالعقل في إقامة العقائد ، فهم بذلك يكرمونه و لا يلغونه ، لأنهم ينزلونه المنزلة التي أنزله الله إياها ، ويكفون عن الزج به فيما لا قبل له بعلمه و إدراك حقيقته .
يقول ابن خلدون (2) في مسألة تحكيم العقل في أمور الاعتقاد :
(( إنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد ، و الآخرة ، و حقيقة النبوة ، وحقائق الصفات الإلهية ، و كل ما وراءه طوره ، فإن ذلك طمع في محال ، و مثال ذلك : مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب ، فطمع أن يزن به الجبال ، وهذا لا يدل على أن الميزان في أحكامه غير صادق ؛ لكن العقل قد يقف عنده ، ولا يتعدى طوره ، حتى يكون له أن يحيط بالله وبصفاته ، فإن ذرَّة من ذرات الوجود الحاصل منه )) (3).
... و مما يدل على أن السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين ، لم يعطلوا العقل و لم يلغوا دوره ما عُرف عنهم من الاعتداد بالقياس ، ولا يقوم قياس سديد بلا عقل رشيد .
... و قد قرر الأئمة الأعلام أن الذي يُعتد به في باب العقائد هو قياس الأولى ، وهو الذي يكون الفرع فيه أولى بالحكم من الأصل ؛ لقوة العلة فيه (4)، ويستدل بهذا النوع من القياس للإثبات والنفي في حق الله تعالى .
و في القرآن الكريم استدلالٌ بهذا النوع من القياس على إثبات صفات الكمال للرب سبحانه ، قال تعالى : { و هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده و هو أهون عليه و له المثل الأعلى في السماوات والأرض و هو العزيز الحكيم } [ الروم : 27 ] .
و قال الله تعالى : { و لله المثل الأعلى } [ النحل :60 ] ، أي : الأكمل والأحسن والأطيب (5).
و مما نُقل عن السلف من الاستدلال بهذا النوع من القياس (6) ، قول الإمام أحمد رحمه الله : (( ومن الاعتبار - أي القياس - لو أن رجلاً كان في يديه قدح من قوارير صافٍ ، و فيه شرابٌ صافٍ ، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح . فالله ، وله المثل الأعلى ، قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه )) (7).
ولا يصح قياسٌ غير هذا في تقرير العقائد ، سواء كان قياس شمول أو تمثيل (8) لقوله تعالى : { فلا تضربوا لله الأمثال } [ النحل : 74 ] .
__________
(1) ... درء تعارض العقل و النقل ، لابن تيمية 1 / 147 .
(2) ... ابن خلدون ، هو : عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن الحضرمي ، الإشبيلي الأصل ، التونسي ثم القاهري ، المالكي ، عالم ، أديب ، مؤرخ ، اجتماعي ، حكيم ، ولد بتونس ، و نشأ بها ، و ولي كتابة السر بمدينة فاس ، و رحل إلى غرناطة و بجاية ، و اعتقل ، و تنقلت به الأحوال إلى أن رجع إلى تونس ، فأكرمه سلطانها ، فسعوا به إلى السلطان ، ففر إلى الشرق ، و ولي قضاء المالكية بالقاهرة مرارا ، و اجتمع بتمر لنك و أعجبه كلامه و بلاغته ، و توفي بالقاهرة فجأة سنة 808 هـ / 1406 م .
انظر ترجمته في : الإحاطة في أخبار غرناطة 3 / 497 – 516 ، الضوء اللامع 4 / 145 ، حسن المحاضرة
1 / 462 ، شذرات الذهب 9 / 114 , الأعلام 3 / 330 ، معجم المؤلفين 5 / 188 – 191 .
(3) ... مقدمة ابن خلدون ، ص : 364 ، 365 .
(4) ... انظر : الوجيز في أصول الفقه ، للدكتور وهبة الزحيلي ، ص : 83 .
(5) ... انظر : تفسير الطبري 8 / 14 ، 125 .
(6) ... انظر : درء تعارض العقل والنقل ، لابن تيمية ، بتحقيق محمد رشاد سالم : 1/30 .
(7) ... الرد على الزنادقة و الجهمية ، للإمام أحمد بن حنبل ، ص 39.
(8) ... يراد بقياس الشمول : ما كان مركباً من مقدمتين فأكثر مستعملاً فيه لفظة ( كل ) الدالة على الشمول .
و قياس التمثيل ، هو : إلحاق فرع بأصل في الحكم بجامع الوصف المشترك بينهما .
انظُر : التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية ، للشيخ فالح بن مهدي آل مهدي ، ص 119 ، 120 .(/14)
و قد اشتد نكير السلف الصالح على من اعتد بعلم الكلام في تقرير العقائد و عدوه من أخبث ما توصلت إليه العقول التائهة بعيداً عن هدي الكتاب و السنة .
فكانوا رضوان الله عليهم أجمعين يحجمون عن الخوض في علم الكلام ، مكتفين بما جاء في النقل الصحيح ، الذي لا يُخالفه عقلٌ صريح قط .
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله :
(( من عرف قدر السلف عرف أن سكوتهم عمّا سكتوا عنه من ضروب الكلام ، و كثرة الجدال والخصام ، و الزيادة في البيان على مقدار الحاجة ، لم يكن عيّا ، ولا جهلاً ، ولا قصوراً ، و إنما كان ورعاً ، و خشيةً لله ، و اشتغالاً عما لا ينفع بما ينفع ، وسواء ذلك كلامهم في أصول الدين وفروعه … فمن سلك سبيلهم فقد اهتدى )) (1).
و قال في موضع آخر :
(( و أما ما كان مخالفاً لكلامهم فأكثره باطل ، أو لا منفعة فيه ، وفي كلامهم في ذلك كفاية وزيادة ، فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق إلا و هو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأقصر عبارة ، ولا يوجد في كلام من بعدهم باطل إلا وفي كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله )) (2).
المقصد الثاني : منهج أهل السنة و الجماعة في فهم نصوص الوحيين والأخذ بها :
... ... كما أسلفت في مطلع هذا المبحث ، ما من أحد ممن انتسب إلى الإسلام ، إلا و هو - بحسب زعمه - ملتزمٌ ما جاء به الكتاب و السنة ، لا يجاوزهما إلى ما عداهما حتى و إن خاض في لجج الشبهات ، و وقع في البدع و الضلالات ، وكان من أهل الزيغ و الأهواء .
... ... و لذلك تعين على أتباع السلف ، السائرين على منهج أهل السنة ، أن يأخذوا مما أخذ منه سلفهم ، و أن يصدروا عمَّا صدروا عنه ، فيكون مرجعهم في التلقي هو الكتاب و السنة ، على منهج سلف الأمة ، و بحسب فهم السلف الصالح للنصوص و تعاملهم معها .
... ... و من تأمَّل كلام السلف في هذا الباب ، وقف على منهج سديد ، و هدي رشيد ، في الاستدلال بالنصوص ، و مما يميز هذا المنهج أمورٌ أهمها :
... ... أوَّلاً : الإيمان المطلق بما جاء عن الله تعالى ، أو عن رسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم - .
... ومفهوم الإيمان المطلق هو : الإمرار بلا كيف ، فنؤمن بما جاء عن الله و عن رسول الله ما عرفنا معناه و ما لم نعرفه ، و سيأتي معنا مزيد بيان لهذا الأمر ، في المطلب التالي إن شاء الله .
ثانياً : إثبات معاني النصوص على وجه الحقيقة لا المجاز ، و إمرارها مفهومة المعاني ، لا مُبهمة ، مع إثبات ما أثبتته ، و نفي ما نفته ، إذ إن العقل لا يحيل نفي التكييف مع إثبات المعنى وفهم المراد .
وقد قال الحسن البصري رحمه الله : (( ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم ما أراد بها )) (3) .
ثالثاً : ترك التأويل الذي يصرف النصوص عن ظاهرها :
ما ذلك إلا لأن الله تعالى خاطبنا بما نفهم ، فلا يجوز أن يُعدل عن الظاهر ، ما دام فهمه ممكناً وموجَبه مما لا تحيله الشرائع و لا العقول ، بل يقتصر من ذلك على ما جاء مبيناً لمراد الله في كتاب الله ، أو على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو صحابته الذين عايشوا التنزيل ، وفهموا مراد ربهم الجليل ، بدون ردٍّ أو تأويل .
رابعاً : الكف عن الخوض في المتشابه ، و تفويض معناه إلى الله ، وهو الذي يدل عليه قول الإمام الشافعي رحمه الله : (( آمنت بما جاء عن الله ، على مراد الله و بما جاء عن رسول الله ، على مراد رسول الله )) (4).
خامساً : الاحتجاج بأخبار الآحاد الصحيحة ، و عدم التفريق بين الأدلة الشرعية الثابتة عن الشارع من حيث الأخذ بها في الاعتقاد ، فأهل السنة يستدلون بأدلة الشرع الأصلية كلها ، القرآن الكريم والحديث الشريف بقسميه المتواتر والآحاد التي تلقتها الأمة بالقبول ، وصحت أسانيدها .
قال الإمام أحمد إمام أهل السنة في أحاديث ( النزول ) ، و هي من قبيل أخبار الآحاد : (( نؤمن بها ، ونصدق بها ، ولا نرد شيئاً منها ، إذا كانت بأسانيد صحاح )) (5).
و قال رحمه الله في أحاديث ( الرؤية ) و هي من الآحاد أيضاً : (( أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر )) (6).
__________
(1) ... فضل علم السلف ، لابن رجب الحنبلي ، ص161 .
(2) ... فضل علم السلف ، ص 147 .
(3) ... أورده ابن تيمية في " درء تعارض العقل و النقل " 1 / 208 ، و ابن القيم في " الصواعق المرسلة "
3 / 925 . و انظر : مقدمة شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ، بقلم عبد القادر الأرناؤوط ، و عبد الله التركي ، ص : 32 .
(4) ... انظر : ذم التأويل ، ص : 11 و 44 ، ونقض المنطق ، ص : 2 ، و لمعة الاعتقاد ص : 10 ، و شرح كتاب التوحيد ص : 515 ، معارج القبول 1 / 204 .
(5) ... صحيح عن الإمام أحمد :
أخرجه الخلال – كما في " ذم التأويل " لابن قدامة المقدسي ص 22 - و اللالكائي ، برقم (777) ، ص : 453 ، من رواية حنبل بن إسحاق عنه .
(6) ... صحيح عن الإمام أحمد :
رواه اللالكائي ، برقم (889) ، ص : 507 ، من رواية حنبل بن إسحاق عنه.(/15)
وأهل السنة إذ يأخذون بأخبار الآحاد ، ولا يردُّون ما صح منها في تقرير عقائدهم ، يقابلون بذلك مذهب المعتزلة الذين قدموا العقل على ما نقل من طريق الآحاد ، حتى وإن كان صحيحاً ثابتاً ، فإن ألجئوا إلى قبول شيء منها تعسفوا في تأويله ، و جردوه من مضمونه .
يقول القاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي (1): (( وأما ما لا يُعلم كونه صدقاً و لا كذباً ، فهو كأخبار الآحاد ، وما هو سبيله يجوز العمل به إذا ورد بشرائطه ، فأما قبوله فيما طريقه الاعتقادات فلا … إلا إذا كان موافقاً لحجج العقول ، واعتقد موجَبه لا لمكانه ، بل للحجة العقلية ، فإن لم يكن موافقاً لها فإن الواجب أن يُردّ ، وأن يُحكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقله ، و إن قاله فإنما قاله عن طريق الحكاية عن غيره )) (2).
وقد حكى الإجماع على الأخذ بأخبار الآحاد والقول بإفادته العلم اليقيني ، بذاته ، أو بما يحفه من القرائن ، جمعٌ من أهل العلم كأبي إسحاق الأسفرائيني (3)، وشيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم ، وغيرهم (4) .
و كثيراً ما زلَّت الأقدام ، و طاشت الأقلام ، بسبب تعسف كثير من المتأخرين ؛ في رد أخبار جيادٍ صحاح في باب الصفات و غيره ، بدعوى أنها من قبيل الآحاد التي لا تفيد عندهم علماً ، و لا تؤخذ منها عقيدة ، و فتح بهذا باب فرقة و انقسام يطول بيانه .
المقصد الثالث : منهج أهل السنة و الجماعة في توحيد الأسماء والصفات :
إذا تأمَّلنا المسائل التي اختلفت الأمة فيها ، و أدت إلى تفرُّقها و ظهور البدع و الفرق فيها ، و جدنا أشهرها ثلاث مسائل طال حولها الجدل ، و هي :
مسألة الخلافة و الإمامة ، و ما تبعها من التفضيل بين الصحابة ، و قد نتج عنها ظهور أهل الرفض و النصب .
مسألة القدر ، و ما يتصل بها من أمور التكليف و الجزاء ، و نتج عنها ظهور فرق كثيرةٍ منها القدرية و المرجئة و المعتزلة و غيرهم .
مسألة الأسماء و الصفات ، و ما يجوز في حق الله تعالى و ما يمتنع ، و قد نتج عنها ظهور المعطلة ، و المجسمة ، و المشبهة ، و غيرهم .
و قد ظهرت مدارس عقديَّة اشتهر الخلاف بينها في المسألة الثالثة من هذه المسائل ، كمدرسة أهل الحديث من جهة ، و مدرسة الأشاعرة و الماتريدية من جهة أخرى .(5)
و الذي يعنينا في هذا المقام هو منهج أهل السنة أصحاب الحديث في فهم النصوص المتعلقة بأسماء الله الحسنى و صفاته العلى ، و اعتقاد ما جاءت به .
__________
(1) ... القاضي عبد الجبار الهمذاني ، هو : ابن أحمد بن عبد الجبار بن أحمد بن خليل ، أبو الحسن ، الهمذاني الأسدآباذي ، المتكلم ، شيخ المعتزلة ، من كبار فقهاء الشافعية ، ولي قضاء القضاة بالري ، وتصانيفه كثيرة ، قال الذهبي : ( تخرج به خلق في الرأي الممقوت ) . توفي سنة 415 هـ / 1025 م ، من أبناء التسعين .
... انظر ترجمته في : تاريخ بغداد 11 / 113-115 ، ميزان الاعتدال 2 / 533 ، سير أعلام النبلاء 17 / 244 ، الطبقات الكبرى للسبكي 5 / 97 ، لسان الميزان 3 / 386 .
(2) ... شرح الأصول الخمسة ، لعبد الجبار الهمذاني ، ص : 768، 769 .
(3) ... أبو إسحاق الإسفرائيني ، هو : إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران ، الفقيه ، الأستاذ ، الإمام ، قال عبد الغفار الفارسي : ( أحد من بلغ حد الاجتهاد ؛ لتبحره في العلوم ، و استجماعه شرائط الإمامة من العربية و الفقه و الكلام و الأصول و معرفة الكتاب و السنة ، و كان ثقة ثبتا في الحديث ) . توفي بنيسابور سنة 418 هـ / 1027 م .
انظر ترجمته في : المنتخب من السياق رقم 269 ، تهذيب الأسماء و اللغات 2 / 169 ، تبيين كذب المفتري ص 243 ، سير أعلام النبلاء 17 / 353 ، طبقات ابن قاضي شهبة 1 / 160 .
(4) ... وقد تتبعث أقوال العلماء في هذه المسألة في رسالتي للماجستير ( أخبار الآحاد : دلالتها وصحتها في الشرائع والأحكام ) المسجلة بجامعة الدراسات الإسلامية بكراتشي سنة 1416هـ / 1996 م ، بين صفحتي 69 ، 109 فليراجع .
(5) ... ليس اختلافهم في هذا الأصل فقط ، و هو التأويل كما هو مشهور ، بل هناك فروق في أصول أخرى ، كالإيمان و القدر و النبوات و غيرها .
و للاستزادة حول هذا الموضوع ، انظر : رسالة " منهج الأشاعرة في العقيدة " للشيخ سفر عبد الرحمن الحوالي.(/16)
إنَّ أهل السنة هم أوسط الناس في كلِّ ما شجر فيه الخلاف ، فهم وسطٌ في باب أفعال الله تعالى بين القدرية و الجبرية ، و هم في باب وعيد الله وسطٌ بين المرجئة و الوعيدية (1)، و هم وسط في باب الإيمان و الدين بين الحرورية و المعتزلة ، و بين المرجئة و الجهميَّة ، و هم في باب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و رضي عنهم أجمعين وسطٌ بين الروافض و الخوارج (2).
أمَّا في باب الصفات فهم أيضاً وسطٌ بين المجسمة و المشبهة من جهة ، والمعطلة و المؤولة من جهة أخرى ، حيث قام مذهبهم على الجمع بين قاعدتي الإثبات و التنزيه فكانوا أوسط الناس .
و بهذا تتقرر قاعدة : (( الإثبات بدون كيف و النفي بدون حيف )) .
غير أن لكلٍ من الإثبات ( الإقرار ) و النفي ( التنزيه ) أصولاً لا بد من مراعاتها ، ولأهمية الإحاطة بها ، أوجز الحديث عنها فيما يلي (3):
أولاً : الأصول التي تقوم عليها قاعدة الإثبات في الإيمان بالأسماء والصفات :
القول في الصفات كالقول في الذات ، فهي صفات كمالٍ وجلال يليقان بالله تعالى لا يشركه و لا يشبهه فيها شيءٌ ، كما أنه متفرِّدٌ بذاته تعالى(4).
القول في بعض الصفا ت كالقول في بعضها الآخر ، فإن أثبت بعض الصفات على وجه الحقيقة لم يجز له أن يجعل ما لم يثبته من قبيل المجاز .
إثبات صفات الكمال بلا تمثيل ولا تكييف ، فلا يسأل عنها ، بكيف هي؟ ولا يقال : هي مثل صفات كذا أو فلان .
إطلاق ما ورد به الشرع ، والاستفصال في العبارات المحدثة .
ثانياً : الأصول التي تقوم عليها قاعدة التنزيه في نفي ما ينفى من الصفات:
لايستلزم التنزيه تعطيل الصفات الثبوتية لله تعالى .
الإجمال في النفي غالباً ، بخلاف الإثبات الذي يسوغ فيه التفصيل .
إثبات كمال ضد ما ينفى عن الله تعالى من صفات .
اتباع الكتاب والسنة في النفي ، و عدم مجاوزة ما ورد فيهما بنفيٍ أو غيره ، أو التردد في نفي ما قرر نفيه .
و بمجموع هذه الأصول التي قام عليها مذهب أهل السنة و الجماعة في مسألة الأسماء و الصفات يكون الجمع بين الإثبات و التنزيه المتعلقين بصفات الرب عز وجل .
و قد جمع الله بينهما في قوله سبحانه : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ] الشورى : 11 [ حيث بدأ بنفي المثيل تنزيهاً ، ثم نسب إليه صفتي السمع و البصر إثباتاً .
و اعتصم بهذه الأصول ا السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين فيما روي عنهم ، وهو كثيرٌ مشهورٌ منه قول الإمام الأوزاعي رحمه الله : (( كنا و التابعون متوافرون نقول : إن الله تعالى فوق عرشه ، و نؤمن بما وردت به السنة من
الصفات )) (5).
__________
(1) ... يراد بالوعيدية المعتزلة و من وافقهم كالخوارج الذين قالوا بإنفاذ الوعيد في حق صاحب الكبيرة حيث حكموا بخلوده في النار إذا لم يتب منها قبل موته .
(2) ... للتوسع حول وسطية أهل السنة و الجماعة انظُر : كتابنا : فصل الخطاب في بيان عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهَّاب ، ص : 56 -56 ، و تعليق الشيخ الدكتور صالح العبود عليه في الموضع المشار إليه .
(3) ... انظر هذه الأصول والكلام عليها في كتاب : منهج أهل السنة والجماعة و منهم الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف محمد نور ، ص : 402 .
و كتاب : منهج الإمام الشوكاني في العقيدة ، للدكتور عبد الله نومسوك ، ص: 359 و ما يليها .
(4) ... قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " العقيدة الحموية " : (( من المعلوم أن صفات كل موصوفٍ تناسب ذاته ، و تلائم حقيقته ، فمن لم يفهم من صفات الرب الذي ليس كمثله شيءٌ ، إلا ما يُناسب المخلوق فقد ضلَّ في عقله و دينه )) .
انظُر : مجموعة الرسائل الكبرى ، لابن تيمية : 1/ 474.
(5) ... حسن :
رواه البيهقي في " الأسماء و الصفات " 2 / 304 ( 865 ) عن أبي عبد الله الحاكم ، قال : أخبرني محمد بن علي الجوهري ببغداد ، ثنا إبراهيم بن الهيثم ، ثنا محمد بن كثير المصيصي ، قال : سمعت الأوزاعي ، يقول – فذكره .
و رجاله ثقات سوى محمد بن كثير المصيصي ، قال فيه الحافظ ابن حجر في " التقريب " ( 6251 ) : ( صدوق كثير الخطأ ) .
وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في " الحموية الكبرى " ( 5 / 39 – ضمن مجموع الفتاوى ) ، و قال : ( إسناده صحيح ) .
وتبعه ابن القيم ، فصحح إسناده في " الجيوش الإسلامية " ص 43 ، و قال في " مختصر الصواعق المرسلة " ( 2 / 211 ) بعد أن ذكره بسنده هذا : ( رواته كلهم أئمة ثقات ) .
و صحح إسناده أيضاً الذهبي في " تذكرة الحفاظ " 1 / 181 – 182 بعد أن رواه من طريق البيهقي .
و ذكره الحافظ ابن حجر في " الفتح " 13 / 406 و عزاه للبيهقي و جوّد إسناده .(/17)
و روى أبو القاسم اللالكائي عنه - أيضاً - أنه قال : (( كان الزهري (1)، و مكحول (2) يقولان : أمرُّوا الأحاديث كما جاءت )) (3)، يريدان أحاديث الصفات .
و مثل هذا قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رضي الله عنه - ، و قد سُئل عن قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] كيف استوى ؟ فقال : ((الكيف غير معقول ، و الاستواء منه غير مجهول ، و الإيمان به واجب ، و السؤال عنه
بدعة )) (4).
و مثل هذا الجواب ثابتٌ عن ربيعة الرأي (5)، شيخ مالك (6).
و قال سفيان بن عيينة (7): (( كلُّ شيءٍ وصف الله به نفسه في القرآن الكريم فقراءته تفسيره ، لا كيف ، و لا مِثل )) (8)
__________
(1) ... الزهري ، هو : محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب , أبو بكر القرشي الزهري , المدني ، الإمام العلم , حافظ زمانه ، تابعي ، فقيه ، محدث ، أول من جمع الحديث في زمن عمر بن عبد العزيز رحمه الله ، توفي سنة 124 هـ / 742 م .
انظر ترجمته في : وفيات الأعيان 3 / 317 ، المعرفة و التاريخ 1 / 620 , الجرح و التعديل 8 / 71 , حلية الأولياء 3 / 360 , سير أعلام النبلاء 5 / 326 .
(2) ... مكحول ، هو : ابن أبي مسلم شهراب بن شاذل , أبو عبد الله , الدمشقي ، تابعي ثقة ، عالم الشام و فقيهها توفي سنة 113 هـ / 732 م ، و قيل في غيرها .
انظر ترجمته في : طبقات ابن سعد 7 / 453 , الجرح و التعديل 8 / 407 , حلية الأولياء 5 / 177 , وفيات الأعيان 5 / 280 ، تهذيب الكمال 28 / 464 , سير أعلام النبلاء 5 / 125 .
(3) ... صحيح :
أخرجه ابن عبد البر في " جامع بيان العلم و فضله " 2 / 943 ( 1801 ) ، و أبو القاسم اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة و الجماعة 3 / 431 ، ومن طريقه ابن قدامة في " ذم التأويل " ، ص:20 من طريقين عن أحمد بن زهير ، قال : ثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ، قال : ثنا بقية ، قال : ثنا الأوزاعي فذكره .
قلت : و رجاله كلهم ثقات ، و بقية ، هو : ابن الوليد مدلس و قد صرح بالتحديث .
و أحمد بن زهير هو : أبو بكر بن أبي خيثمة الحافظ الكبير ابن الحافظ .
و الأثر : عزاه صاحب " التحفة المدنية في العقيدة السلفية " 1 / 76 إلى الخلال في كتاب السنة .
(4) ... صحيح ثابت عن مالك :
أخرجه الدارمي " في الرد على الجهمية " ( 104 ) ، و أبو نعيم في " الحلية " 6 / 325 - 326، و اللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة و الجماعة " 2/398 ، و البيهقي في " الأسماء و الصفات " 2 / 304 – 305 ( 866 و 867 ) و في " الاعتقاد " ، و البغوي في " شرح السنة " 1 / 171 ، و الصابوني في " عقيدة أصحاب الحديث " ( 24 و 25 ) ، و ابن عبد البر في " التمهيد " 7 / 151 ؛ من طرق عن مالك به .
قال الذهبي في " مختصر العلو " ص : 104 : ( و روى يحيى بن يحيى التميمي و جعفر بن عبد الله و طائفة ، قالوا : جاء رجل إلى مالك - فذكره ). ثم قال : ( هذا ثابت عن مالك ، و تقدم نحوه عن ربيعة شيخ مالك وهو قول أهل السنة قاطبة ) .
و قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " 13 / 406 ، 407 : ( و أخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب ، قال : كنا عند مالك ..) فذكره .
(5) ... ربيعة الرأي ، هو : ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ ، الإمام ، مفتي المدينة ، و عالم الوقت ، أبو عثمان ، و يقال : أبو عبد الرحمن ، القرشي التيمي مولاهم ، من صغار التابعين ، كان من أئمة الاجتهاد ، حافظا للفقه و الحديث ، توفي 136 هـ / 754 م .
انظر ترجمته في : تاريخ بغداد 8 / 420 ، وفيات الأعيان 2 / 288 – 290 ، تذكرة الحفاظ 1 / 157 ، سير أعلام النبلاء 6 / 89 – 96 .
(6) ... صحيح عن ربيعة :
أخرجه البيهقي في " الأسماء و الصفات " 2 / 306 ( 868 ) ، و اللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " رقم 665 ، و ابن قدامة في " إثبات صفة العلو " ( 90 ) من طريق : يحيى بن آدم ، عن ابن عيينة ، عن ربيع ... وأخرجه العجلي في " تاريخ الثقات " ص 158 رقم 431 قال : حدثني أبي عبد الله ، قال : قيل لربيعة :- فذكره .
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الحموية " ( 5 / 40 – ضمن مجموع الفتاوى ) : ( وروى الخلال بإسناد رجاله كلهم أئمة ثقات عن سفيان بن عيينة قال : سئل ربيعة .. ) فذكره .
و قال الذهبي في " مختصر العلو " ص 65 : ( هذا القول محفوظ عن جماعة كربيعة الرأي و مالك ) .
(7) ... سفيان بن عيينة ، هو : ابن أبي عمران ، أبو محمد ، الهلالي الكوفي ، الحافظ ، المتقن ، المحدث ، شيخ الإسلام طلب الحديث و هو غلام , و لقي الكبار و حمل عنهم علما جما , و أتقن , و جود , و جمع , و صنف , و عمر دهرا , سكن مكة و مات بها , سنة 198 هـ / 814 م .
انظر ترجمته في : الطبقات لابن سعد 5 / 497 , تاريخ بغداد 9 / 174 الجرح و التعديل 1 / 32 ، تهذيب الكمال 11 / 177 , سير أعلام النبلاء 8 / 454 .
(8) ... صحيح :
أخرجه الدارقطني في كتاب " الصفات " ص 70 ، و اللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة و الجماعة " 3 / 431 ، و البغوي في " شرح السنة " 1 / 171 من طريقين : عن عيسى بن إسحاق بن موسى الأنصاري ، قال : سمعت أبي يقول : سمعت سفيان بن عيينة يقول : – فذكره .
و إسناده صحيح ، رجاله ثقات .
وأخرجه البيهقي في " الأسماء و الصفات " 2 / 307 ( 869 ) ، و في " الاعتقاد " ص : 118 ، و الصابوني في " عقيدة أصحاب الحديث " ( 89 ) من طريق أحمد بن أبي الحواري عنه ، بلفظ : ( كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته و السكوت عنه ) .
وقال الحافظ في " الفتح " 13 / 407 : ( و أسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري ..) فذكره.(/18)
و قد روي نحو هذا عن عددٍ من السلف رضوان الله عليهم أجمعين (1).
و ممَّن لخص منهج أهل السنة و الجماعة في باب الصفات فأجاد ، الإمام ابن خزيمة النيسابوري رحمه الله (2)، حيث قال بعد الكلام عن صفة الوجه : (( نحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز ، و تهامة اليمن ، و العراق ، و الشام ، و مصر ، مذهبنا : إنَّا نثبت لله ما أثبته لنفسه ، نقر بذلك بألسنتنا ، و نصدق ذلك بقلوبنا ، من غير أن نُشبِّه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين ، عزَّ ربنا عن أن يُشبه المخلوقين ، و جلَّ ربنا عن مقالة المعطلين ، و عزَّ أن يكون عدماً ، كما قاله المبطلون ، لأنَّ ما لا صفة له عَدَمٌ ، تعالى الله عمَّا يقول الجهميُّون الذين ينكرون صفات خالقنا الذي وصف بها نفسه في محكم تنزيله ، و على لسان نبيِّه محمد - صلى الله عليه وسلم - )) (3).
و قال العلامة أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني رحمه الله (4) في رسالته التي وجهها إلى شيوخه بعد أن امتن الله عليه بالرجوع إلى مذهب السلف الحق الذي عليه أهل السنة و الجماعة في باب الأسماء و الصفات (5) :
(( فصفاته معلومة من حيث الجملة و الثبوت ، غير معلومة من حيث التكييف و التحديد ، فيكون المؤمن بها مبصرا من وجه أعمى من وجه ؛ مبصرا من حيث الإثبات و الوجود ، أعمى من حيث التكييف و التحديد ، و بهذا يحصل الجمع بين ما و صف الله تعالى نفسه به و بين نفي التحريف و التشبيه و الوقوف ، و ذلك هو مراد الرب تعالى منا في إ براز صفاته لنا ؛ لنعرفه بها و نؤمن بحقائقها وننفي عنها التشبيه ، و لا نعطلها بالتحريف و التأويل ، و لا فرق بين الاستواء والسمع ، ولا بين النزول و البصر ، الكل ورد فيه النص … و من أنصف عرف ما قلناه ، و اعتقده و قبل نصيحتنا و دان لله بإثبات جميع صفاته هذه و تلك و نفى عن جميعها التشبيه و التعطيل و التأويل و الوقوف … لأن هذه الصفات وتلك جاءت في موضع واحد ، و هو الكتاب و السنة فإذا أثبتنا تلك ، و حرفنا هذه وأولنا كنا كمن آمن ببعض الكتاب و كفر ببعض ، و في ذلك بلاغ و كفاية إن شاء الله تعالى )) (6)
فهذا مجمل مذهب أهل السنة و الجماعة في باب صفات الرب عز و جل ، أما تفصيله فيرجع إليه في مظانه من كتب العقائد ، و أصول الدين البسيطة .
المقصد الرابع : موقف أهل السنة و الجماعة من أهل الأهواء و البدع :
عُرف عن أهل السنة أصحاب الحديث رضوان الله عليهم أجمعين التصدي لأهل البدع ، بكشف زيغهم ، و نقض غزلهم ، و التحذير مما أحدثوا ، ومجاهدتهم باللسان و السنان .
و قد اشتد نكير السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين ، على أهل الكلام و حذروا من مجالستهم ، وأمروا بمجالدتهم و مجاهدتهم .
فقد روي عن الحسن البصري ، و محمد بن سيرين ( توفيا في عام و احد سنة 110هـ/ 729 م ) ، أنهما رحمهما الله قالا : (( لا تجالسوا أصحاب الأهواء ، و لا تسمعوا منهم ، و لا تجادلوهم )) (7)
__________
(1) ... انظر : جامع بيان العلم و فضله ، لابن عبد البر 2 / 944 .
(2) ... ابن خزيمة ، هو : محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة , أبو بكر , السلمي النيسابوري ، الشافعي الإمام الحافظ ، الحجة ، الفقيه ، إمام الأئمة , صاحب التصانيف : كصحيح ابن خزيمة ، و كتاب التوحيد و إثبات صفات الرب عز و جل ، توفي سنة 311 هـ / 924 م .
انظُر ترجمته في : الجرح و التعديل 7 / 196 ، تاريخ جرجان ص 413 ، المنتظم 6 / 184 ـ 186 , سير أعلام النبلاء 14 / 365 ، طبقات الشافعية للسبكي 3 / 109 و ما يليها .
(3) ... التوحيد و إثبات صفات الرب عزَّ و جل ، لابن خزيمة 1 / 26 .
(4) ... أبو محمد الجويني ، هو : الشيخ الإمام عبد الله بن يوسف ، والد أبي إسحاق الجويني رحمهما الله ، كان ذا دراية تامة بالفقه و الأصول و النحو و التفسير و الأدب ، و بعد عن التقيد بالمذاهب الفقهية و التعصب لها ، فهو صاحب وجه في المذهب الشافعي ، لقب بركن الإسلام ، و توفي سنة 438 هـ / 1047 م .
انظر ترجمته في : المنتظم 8 / 130 ، سير أعلام النبلاء 17 / 617 ، البداية و النهاية 12 / 55 ، طبقات الشافعية للسبكي 5 / 73 – 93 .
(5) ... هذه الرسالة مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية ، بين صفحتي 174 و 187 من المجلد الأول بعنوان : رسالة في إثبات الاستواء و الفوقية و تنزيه الباري عن الحصر و التمثيل و الكيفية .
(6) ... مجموعة الرسائل المنيرية : 1/ 182، 163 .
(7) ... صحيح :
أخرجه ابن سعد في " الطبقات الكبرى " 7 / 172 ، و الدارمي ( 401 ) في مقدمة سننه ، باب اجتناب أهل الأهواء و البدع و الخصومة ، و ابن بطة في " الإبانة الكبرى " ( 395 – 458 ) ، و البيهقي في " الشعب ( 9467 ) ، و الهروي في " ذم الكلام " 4 / 296 ، من طرق : عن زائدة بن قدامة ، عن هشام بن حسان عنهما به .
و رجاله كلهم ثقات .
و قد جاء عن الحسن وحده ، دون ابن سيرين ، بنفس الإسناد , عند اللالكائي ( 240 ) ، و ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " ( 1803 ) .
وروي عن الحسن بمعناه عند ابن أبي حاتم في " الجرح و التعديل " 2 / 33 ، و ابن بطة أيضا ( 373 ) ، و ابن وضاح في " البدع و الني عنها " ص 54 و 57 .(/19)
.
و قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله ( ت 198هـ / 814 م ) : (( دخلت على مالك ، و عنده رجل يسأله عن القرآن ، فقال له مالك : لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد (1) ؟ لعن الله عَمْراً ، فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام ، ولو كان الكلام علماً لتكلم فيه الصحابة و التابعون ، كما تكلموا في الأحكام والشرائع ولكنه باطلٌ يدل على باطل )) (2).
و قال الإمام الشافعي رحمه الله : (( لأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ، ما عدا الشرك به ، خير من النظر في الكلام )) (3).
أما حكمه فيهم فهو : (( أن يضربوا بالجريد ، وأن يجلسوا على الإبل ، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، و ينادى عليهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، و أقبل على الكلام )) (4).
وقال الإمام أحمد : (( لا تجالسوا أهل الكلام ، و إن ذبُّوا عن السنة )) (5).
وقال : (( لا يفلح صاحب كلام أبداً ، و لا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا و فيه دغل )) (6).
و قال الإمام البربهاري رحمه الله : (( اعلم أنها لم تكن زندقة ، و لا كفر و لا شكوك ، و لا بدعة ، و لا ضلالة ، و لا حيرة في الدين إلا من الكلام و أهل
الكلام )) (7).
إلى غير ذلك من كلام أئمة الهدى الذين رأوا في علم الكلام شراً داهماً يجب التحذير منه ، و التصدي له .
و أفعالهم تشهد على صدق ما تقدم من كلامهم ، فهذا محمد بن عبد الله القحطاني (8) رحمه الله يأمر بما في خزائن المستنصر بالله (9)
__________
(1) ... عمرو بن عبيد ، هو : أبو عثمان البصري ، كان جده من سبي الفرس ، كان رأساً في الاعتزال ، ينتقص من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، على زهده و عبادته ، قال عنه ابن سعد : ( معتزلي ، صاحب رأي ، ليس بشيء في الحديث ) . و قال ابن عدي : ( قد كفانا السلف مؤونته حيث بينوا ضعفه في رواياته وبينوا بدعته و دعائه إليها ، و كان يغر الناس بنسكه و تقشفه ، وهو مذموم ، ضعيف الحديث جدا ، معلن بالبدع ، و قد كفانا ما قال فيه الناس ) . مات سنة 143 هـ / 761 م ، و قيل قبلها .
انظر ترجمته في : الضعفاء للعقيلي 3 / 277 – 286 ، المجروحين لابن حبان 2 / 69 – 71 ، الكامل في الضعفاء لابن عدي 5 / 96 – 111 ، ميزان الاعتدال 3 / 273 – 280 .
(2) ... رواه أبو عبد الرحمن السلمي ، ومن طريقه الهروي في " ذم الكلام " 5 / 72 ( 860 ) عن محمد بن جعفر بن مطر ، سمعت شكّر يقول : سمعت أبا سعيد البصري يقول : سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول : – فذكره .
قلت : أبو سعيد البصري لم أعرفه ، و باقي رجاله ثقات .
و شَكّر ، هو لقبُ : محمد بن المنذر بن سعيد السلمي الهروي الحافظ الإمام العالم . انظر : سير أعلام النبلاء 14 / 221 .
و الأثر : أورده البغوي في " شرح السنة " 1 / 217 ، و ابن تيمية في " بيان تلبيس الجهمية " 1 / 467 ، و السفاريني في " لوامع الأنوار " 1 / 109 .
(3) ... صحيح ثابت عن الشافعي :
رواه ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي و مناقبه " 187 ، وعنه أبو نعيم في " الحلية " 9/111 ، و ابن بطة في " الإبانة " ( 661 ) ، و اللالكائي في " أصول الاعتقاد " 1/ 146 ( 300 ) ، و الهروي في "ذم الكلام " ص 355 ، و ابن عساكر في " تبيين كذب المفتري " ص 337 ، عن يونس بن عبد الأعلى عنه .
ويونس بن عبد الأعلى ، هو : الصدفي المصري ثقة ، كما في " التقريب " ( 7907 ) .
(4) ... صحيح ثابت عن الشافعي :
رواه عنه الحسن بن محمد الزعفراني ، و الربيع بن سليمان ، فيما أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9 / 116 ، و ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " ( 1794 ) ، و الهروي في " ذم الكلام " ص 355 .
وأورده عن الشافعي : البغوي في " شرح السنة " 1 / 218 ، و ابن الجوزي في " تلبيس إبليس " 1 / 102 و ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " 16/472 ، و الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 10 / 20 ، و السيوطي في الأمر بالاتباع ، ص : 20 .
(5) ... رواه ابن الجوزي في " مناقب الإمام أحمد " ، ص : 205.
(6) ... ذكره ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2 / 942 .
(7) ... شرح السنة ، للبربهاري ، ص : 38 .
(8) ... محمد بن عبد الله القحطاني ، هو : أبو عامر محمد بن عبد الله بن أبي عامر ، المعافري ، القرطبي الأندلسي ، القائم بأعباء دولة الخليفة المؤيد هشام بن المستنصر بالله أمير الأندلس ، كان حازماً سائساً ، بطلا شجاعاً ، غزّاءً عالماً ، جوّاداً عادلاً ، جمّ المحاسن ، كثير الفتوحات ، كان الخليفة المؤيد معه صورة بلا معنى ، توفي سنة 393هـ / 1003 م .
انظر ترجمته في : يتيمة الدهر 2 / 62 ، جذوة المقتبس ص 78 ، بغية الملتمس ص 105 ، سير أعلام النبلاء 17 / 15 ، الوافي بالوفيات 3 / 312 ، شذرات الذهب 4 / 499 .
(9) ... المستنصر بالله ، هو : الحكم بن عبد الرحمن الناصر لدين الله ، الأموي ، الملقب : أمير المؤمنين في الأندلس ، كان ذا علم وسيرة حسنة ، جامعاً للكتب ، مكرماً للعلماء ، توفي سنة 366هـ / 977 م .
انظر ترجمته في : جذوة المقتبس ص 13 ، الكامل لابن الأثير 8 / 224 ، نفح الطيب 1 / 382 – 396 ، سير أعلام النبلاء 8 / 269 - 271 .(/20)
الجامعة لكتب من مؤلفات علم المنطق و الفلسفة والنجوم ، فتخرج ثم يأمُر بإحراقها و إفسادها ، فيحرق البعض ويطرح البعض الآخر في آبار القصر ، ثم يُهال عليها التراب ، بمشهد من العلماء ، و كانت كثيرة جدا (1).
وهذا عبد السلام بن عبد الوهاب (2) الذي شغل نفسه ، و أفنى عمره في دراسة المنطق و الفلسفة و علم النجوم ، يحاكَم ثم يُقضي بفسقه ، و يحكم بإحراق كتبه ، فقد ذكر ابن رجب الحنبلي رحمه الله ، و غيره أن العلماء قرأوا كتبه كتاباً كتاباً ، و كانوا كلما قُرئ كتاب منها ، قيل : العنوا من كتبها و من يعتقدها ، فيضج العامة باللعن ، و يرمون بها في النار (3).
هذا هو موقف السلف الصالح من أهل الأهواء و البدع ، إنكار باللسان ، و مجالدة بالسنان ، و تغيير للمنكر بالقلب و اللسان و اليد ، رزقنا الله اتباعهم ، وحفظنا من شبهات من عارضهم و ناوأهم .
و بهذا أنهي ما تسنى لي جمعه و تحريره من معالم منهج أهل السنة و الجماعة في أصول الدين ، و هو منهج أهل السنة و الحديث رضوان الله عليهم أجمعين ، و أدفع به إلى من أرجو أن ينتفع بما فيه و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب .
و صلى الله تعالى على نبينا محمد و آله و صحبه و سلم .
__________
(1) ... انظر : طبقات الأمم ، للقاضي صاعد ، ص 66 ، و سير أعلام النبلاء 8 / 269 .
(2) ... هو عبد السلام بن عبد الوهاب بن الشيخ عبد القادر الجبيلي ، أبو منصور ، قال ابن النجار : ( كان ظريفا ، لطيف الأخلاق ، إلا أنه كان فاسد العقيدة ) . و قال الذهبي : ( الفاسد العقيدة الذي أحرقت كتبه ، و كان خِلّاً لعليّ ابن الجوزي يجمعهما عدم الورع ) . توفي سنة 611هـ / 1215 م .
انظر ترجمته في : مرآة الزمان 8 / 571 ، التكملة لوفيات النقلة للمنذري رقم 1348 ، سير أعلام النبلاء 22 / 55 ، البداية و النهاية 13 / 68 .
(3) ... انظر : ذيل طبقات الحنابلة ، لابن رجب 2 / 71 ، 72 .(/21)
الحث على إغتنام الأوقات بالأعمال الصالحات قبل الندم عليها
ابن رجب الحنبلي
دار ابن خزيمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فهذه الرسالة الصغيرة هي عبارة عن شرح الحديث رقم ألابعين من متن الأربعين النووية للإمام النووي رحمه الله حيث قام الحافظ ابن رجب الحنبلي بشرح الحديث شرحاً وافياً في كتابه المسمى "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم" مستشهداً بالآيات و الأحديث النبوية مكثراً من النقول من أقوال الصحابة والسلف و التابعين فجاء شرحه مليئاً بالمواعظ ومؤثراً في النفس.
وقد رأت دار ابن خزيمة أن تنشر هذه الرسالة ليستفيد منها الناس و يعم نفعها تحت اسم "الحث على إغتنام الأوقات بالأعمال الصالحات قبل الندم عليها". ندعوا الله أن ينفع بها المسلمين ويغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا إنه غفور رحيم.
الحث على الاستعداد للآخرة
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: { كن في الدنيا كأنك عابر سبيل أو عابر سبيل }. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. [رواه البخاري].
هذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر: يهيء جهازه للرحيل، قال تعالى: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39]. وكان النبي يقول: { مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها } [رواه أحمد من حديث ابن مسعود 1/391، والترمذي (2377)، وقال: حسن صحيح].
وكان علي بن أبي طالب يقول: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولاتكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغذاً حساب ولا عمل.
قال بعض الحكماء: عجب ممن الدنيا مولية عنة، والآخرة مقبلة إليه بالمدبرة، ويعرض عن المقبلة.
وقال عمر ابن عبدالعزيز في خطبته: إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فاحسنوا – رحمكم الله – منها الرحلة بأحسن ما بحضراتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [الحلية: 5/292].
حال المؤمن في الدنيا
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن ذار إقامة ولا وطناً، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين: إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير المقيم البتة، بل هو ليله و نهاره، يسير إلى بلد الإقامة، فلهذا وصى النبي ابن عمر أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين.
فأحدهما: أن ينزل المؤمن نفسه كأنه غريب في الدنيا يتخيل الإقامة، لكن في بلد غربة، فهو غير متعلق القلب في بلد الغربة، بل قلبه معلق بوطنه الذي يرجع إليه. قال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن وللناس شأن.
لما خلق آدم أسكن هو وزوجته الجنة، ثم أهبطها منها، ووعدا الرجوع إليها، وصالح ذريتهما، فالمؤمن أبداً يحن إلى وطنه الأول.
كان عطاء السليمي يقول في دعائه: اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وارحم في القبر وحشتي، وارحم موقفي غذاً بين يديك [الحلية 6/217].
وما أحسن قول يحيى بن معاذ الرازي: الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى نادماً مع الخاسرين.
الحال الثاني: أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم البتة، وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى آخره، وهو الموت. ومن كانت هذه حاله في الدنيا، فهمته تحصيل الزاد للسفر، وليس له همة في الاستكثار من الدنيا، ولهذا أوصى النبي جماعة من أصحابه أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب. قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة.
الحث على اغتنام أوقات العمر
وقال الحسن: إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك. وقال ابن آدم إنما أنت بين مطيتين يوضهانك، يوضعك النهار إىل الليل، و الليل إلى النهار، وحتى يسلمانك إلى الآخرة.
قال داود الطائي: إنما الليل و النهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زاداً لما بين يديها، فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك، واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك.
وكتب بعض السلف إلى أخ له: يا أخي يخيل لك أنك مقيم، بل أنت دائب السير، تساق مه ذلك سوقاً حثيثاً، الموت موجه إليك، والدنيا تطوى من ورائك، وما مضى من عمرك، فليس بكار عليك.
سبيلك في الدنيا سبيل مسافر *** ولا بد من زاد لكل مسافر(/1)
ولا بد للإنسان من حمل عدة *** ولا سيما إن خاف صولة قاهر
قال بعض الحكماء: كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته.
و قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى؛ فإنك إن أسأت فيما بقى، أخذت بما مضى وبما بقي.
قال بعض الحكماء: من كانت الليالي و الأيام مطياه، سارت به وإن لم يسر، وفي هذا قال بعضهم:
وما هذه الأيام إلا مراحل *** يحث بها داع إلى الموت قاصد
وأعجب شيء - لو تأملت – أنها *** منزل تطوى والمسافر قاعد
قال الحسن: لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار، وتقريب اللآجال. وكتب الأوزاعي إلى أخ له: أما بعد، فقد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يسلر بك في كل يوم وليية، فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به، والسلام.
نسير إلى الآجال في كل لحظة *** وأيامنا تطوى وهن مراحل
ولم أر مثل الموت حقاً كأنه *** إذا ما تخطه الأماني باطل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا *** فكيف به والشيب للرأس شامل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى *** فعمرك أيام وهن قلائل
ذم طول الأمل والحث على تقصيره
وأما وصية ابن عمر رضي الله عنهما، فهي مأخوذة من هذا الحديث الذي رواه، وهي متضمنة لنهاية قصر الأمل، وأن الإنسان إذا أمسى لم ينتظر الصباح، وإذا أصبح لم ينتظر المساء، بل يظن أن أجله يدركه قبل ذلك، قال المروذي: قلت لأبي عبدالله - يعني أحمد – أي شيء الزهد بالدنيا؟ قال: قصر الأمل، من إذا أصبح، قال: لا أمسي.
وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله: أستودعكم الله، فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم منها، فكان هذا دأبه إذا أراد النوم، وقال بكر المزني: إن استطاع أحدكم أن لا يبيت إلا وعهده عند رأسه مكتوب، فليفعل، فإنه لا يدري لعله أن يبيت في أهل الدنيا، ويصبح في أهل الآخرة.
وقال عون بن عبدالله: ما أنزل الموت كنه منزلته من عدّ غداً من أجله، وقال بكر المزني: إذا أردت أن تنفعك صلاتك فقل: لعلي لا أصلي غيرها، وهذا مأخوذ مما روي عن النبي أنه قال: { صل صلاة مودع } [حديث حسن]، ومما أنشد بعض السلف.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً *** فإنما الربح والخسران بالعمل
الحث على استغلال أيام العمر في الأعمال الصالحة
قوله: "وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك"، يعني: اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أن يحول بينك و بينها السقم، وفي الحياة قبل أن يحول بينك وبينها الموت. وقد روي معني هذه الوصية عن النبي : { نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ }، وعن ابن عباس أن رسول الله قال لرجل وهو يعظه: { اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك }.
وعن أبي هريرة عن النبي : { بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، وخاصة أحدكم، أو العامة }.
وبعض هذه الأمور العامة لا ينفع بعدها عمل، كما قال تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً [الأنعام:158].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي ، قال: { لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس، آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً } [رواه البخاري ومسلم].
وعنه قال: { ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض }.
فالواجب على المؤمنين المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن لا يقدر عليها ويحال بينه وبينها، إما بمرض أو موت، أو بأن يدركه بعض هذه الآيات التي لا يقبل معها عمل.
قال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة و يوشك أن تنفق، فلا يوصل منها إلى قليل ولا كثير. ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرة والأسف عليها، يتمنى الرجوع إلى حالة يتمكن فيها من العمل، فلا تنفعه الأمنية.(/2)
قال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُون، أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:54-58]، وقال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100].
اغتنم في الفراغ فضل ركوع *** فعسى أن يكون موتك بغته
كم صحيح رأيت من غير سقم *** ذهبت نفسه الصحيحة فلته
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/3)
الحث على صلة الرحم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فهذه أحاديث تربوية في مجال صلة الرحم . فمن ذلك ما أخرجه الترمذي رحمه الله تعالى من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه قال قال الله تعالى " أنا خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي, فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته, ومن بتها بتته " ([1]) .
الرحم مشتقة من الرحمة والله جل وعلا هو الرحمن الرحيم , والرحم تشمل جميع الأقارب, وفي هذا الحديث بيان عظيم لمنزلة الرحم وحقوق القرابة .
فالمجتمع مكوُّن من الأفراد , وأول ما يجمع الأفراد قرابة الرحم, فإن أول من تقع عليه عينا الوليد أمُّه وأبوه وأخوته, على مرآهم ينشأ , ومن حنانهم يرضع الحب والرحمة , ومن معاملتهم يكتسب الأخلاق والآداب , ثم تأتي منزلة أقاربه الأقرب فالأقرب , فهم أقرب الناس إليه , وأكثرهم اتصالا به , فإذا هو قطع رحمه فإن عقوقه لمجتمعه يكون أولى وأحرى , فإذا حصلت القطيعة بين ذوي الأرحام , فإن تلك القطيعة تسري إلى المجتمع فيتباعد أفراده , وينشؤون على الحقد والأنانية , فتعم الأثرة ثم يقع التنافس على حطام الدنيا , ويكثر النزاع , فيفسد بذلك عمران الأرض , وإنما يكون صلاحها بمكارم الأخلاق وإيثار المصلحة العامة على المصلحة الخاصة, وذلك يكون أولا بصلة الرحم وحفظ حقوق الأقارب وبذل المعروف لهم , وتمرين النفس على مواصلة ذلك حتى تصبح هذه الصلة خلقا لازما للإنسان , وبالتالي تمتد هذه الصلة من القرابة إلى أفراد المجتمع , فيتكوَّن بذلك المجتمع الصالح .
وإنه لشرف عظيم لواصل الرحم أن يصله الله تعالى ! وهل يطمع الإنسان العاقل بشرف أعلى من هذا الشرف ؟! أم هل يطمح بصره إلى منزلة أعلى من هذه المنزلة ؟!
وبمقابل ذلك فإنه لَضعَةٌ أيُّ ضعة أن يقطع الله تعالى عبده ! وإنه لهول كبير وخسارة فادحة أن يتخلى الله جل وعلا عن عبده , ويبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في حديث آخر بتعبير مؤثر في الضمائر الحية والعقول الرشيدة حيث يقول " الرحم معلقة بالعرش , تقول : من وصلني وصله الله, ومن قطعني قطعه الله " أخرجه الإمام مسلم رحمه الله من حديث عائشة رضي الله عنها ([2]) .
ويبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة صلة الرحم بقوله : " ليس الواصل بالمكافئ , ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها" أخرجه الأئمة البخاري وأبو داود والترمذي رحمهم الله تعالى من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ([3]) .
فالواصل حقا ليس هو الذي يكتفي بأن يبادل الصلة بمثلها , فيصل من وصله ويقطع من قطعه, وإنما الواصل حقا الذي يعرف واجب الرحم حق المعرفة هو الذي يصل أقاربه جميعا حتى من قطع صلته به منهم , لأنه بهذه الصلة لمن قطعه يجعل من نفسه قدوة حسنة لسائر أقاربه , فإن النفوس مجبولة على التأثر بفعل المعروف , فتستيقظ في النفوس دوافع الرغبة في بلوغ الكمال, والتنافس في الاتصاف بأحسن الصفات .
ويبشر النبي صلى الله عليه وسلم واصل رحمه التي قطعته بالظفر بإعانة الله تعالى له في جهاده مع ذوي رحمه , وذلك فيما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه "أن رجلا قال: يارسول الله إني لي قرابة أصلهم ويقطعونني , وأحسن إليهم ويسيئون إلي , وأحلم عنهم ويجهلون علي؟ قال: لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهم المَلّ , ولن يزال معك من الله ظهير عليهم مادمت على ذلك " ([4]) .
وقوله " فكأنما تسفهم الملّ " يعني فكأنما تطعمهم الرمل الحار الذي يكون تحت النار , وفي هذا بلاغة عظيمة في التعبير عن المكابدة التي يعانيها الواصل الملحّ في وصل قرابته مع نفورهم منه وكراهيتهم لجوانب الصلة التي يمنحهم إياها , فصعوبة ذلك تشبه صعوبة إطعام الناس الرمل الشديد الحرارة .
فهذا الذي يصل من قطعه , ويحسن إلى من أساء إليه , ويحلم على من جهل عليه من قرابته إنما يريد أن يعدِّل موازين الحياة من حوله, ويريد أن يرفع من شأن قرابته نحو الرقي والكمال , لأن الحياة القويمة لاتتم إلا بتواصل الرحم, فهو من أجل أن يوجد الحياة السعيدة في مجتمعه الصغير قد غامر في محاولات تكلفه المتاعب وتحمله الأذى .
ولكن هل هو وحده في هذا الميدان ؟!
لا .. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشره بأن الله جل وعلا معه معينا وناصرا , ومن كان الله معه فلن ينقطع له سعي ولن يخيب له رجاء .
وإنها لبشارة عظيمة تدفع بهذا الواصل رحمه إلى مواصلة الجهد , ومضاعفة المحاولات التي توصله إلى تغيير الوضع العائلي الذي يعيش فيه من القطيعة وسوء الخلق إلى الصلة ومكارم الأخلاق .(/1)
وإنه لن ييأس من بذل المحاولات وتكرارها ما دام يشعر بأن الله جل وعلا معه بنصره وإعانته, فإن الله عز وجل سيلين له قلوب أقاربه فيسعد بذلك بنتيجة أعماله الطيبة معهم .ومن أجل صلة الرحم حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعلم الأنساب حيث يقول : " تعلموا من أنسابكم ماتصلون به أرحامكم, فإن صلة الرحم محبة في الأهل , مثراة في المال, منسأة في الأثر" أخرجه الإمام الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ([5]).
فقد يكون للإنسان أقارب لايعرفهم , وذلك مثل الأعمام الأباعد الذين يلتقي معهم في النسب بأحد أجداده , فإذا عرفهم عرف ذرياتهم , وبهذا تتسع دائرة الرحم, وكلما زاد عدد الأقارب فإن الأجر يتضاعف بصلتهم .
ثم يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مايترتب على صلة الرحم من فوائد في الحياة الدنيا , فصلة الرحم محبة في الأهل , لأن صلة الرحم تَقَارُب في الأفكار , وانسجام في العقول , يترتب عليه محبة في القلوب بين الأقارب , وصلة الرحم مثراة في المال , حيث يبارك الله تعالى لواصل الرحم في ماله, وإذا حلت البركة في المال صار قليله كثيرا , وصلة الرحم منسأة في الأثر يعني تأخير في العمر , والمقصود حلول البركة في الوقت والصحة , بحيث ينجز الإنسان أعمالا لاينجزها إلا من هم أطول منه في العمر , فكأن هذه البركة إضافة له في عمره .
وقد أخرج الشيخان هذا الحديث من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ "من أحب أن يُبسط عليه في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه. " ([6]) .
فهذا جزاء عاجل يحصل عليه واصل الرحم في الحياة الدنيا , إلى جانب ما أعده الله تعالى له من الثواب الجزيل في الآخرة .
------------------
([1])سنن الترمذي , رقم 1907 , كتاب البر ( 4/315) .
([2])صحيح مسلم , رقم 2555 , البر ص 1981 .
([3])صحيح البخاري, رقم 5951 , الأدب , باب ليس الواصل بالمكافئ ؛ سنن أبي داود , رقم 1697 , في الزكاة , باب صلة الرحم؛ سنن الترمذي رقم 1909 , في البر والصلة , باب صلة الرحم .
([4])صحيح مسلم , رقم 2558 , كتاب البر والصلة , باب صلة الرحم .
([5])سنن الترمذي , رقم 1979 , كتاب البر (4/351) .
([6])صحيح مسلم , رقم 2557 , كتاب البر (ص 1982) ؛صحيح البخاري,رقم 2067(/2)
الحث على صلة الرحم[2]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فقد ذكرنا في الحلقة الماضية بعض الأحاديث في صلة الأرحام , ومما يبين فضيلة صلة الرحم ماجاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " الصدقة على المسكين صدقة , وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة " أخرجه الترمذي من حديث سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه وحسنه([1]).
فهذا الحديث يبين لنا أن الصدقة على القريب لها أجران , وفي هذا حث على الإكثار من الصدقة على الأقارب .
ويبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قطيعة الرحم تمنع من قبول العمل الصالح حيث يقول"إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة , فلا يُقبل عمل قاطع رحم" أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ([2]) .
فهذا وعيد شديد على قاطع الرحم , مما يدل على عظم هذا الذنب .
وأشد من ذلك في الوعيد على قاطع الرحم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة قاطع رحم" أخرجه الإمام مسلم من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه ([3]) .
ومما يبين عظم شأن صلة الرحم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بقي على صلة أقاربه من الكفار من ناحية المعروف والإحسان ومما يدل على ذلك ما أخرجه الشيخان من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول : ألا إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي إنما وليي الله وصالح المؤمنين" زاد البخاري في رواية له "ولكن لهم رحم سأبلها ببلالها" , يعني أصلها بصلتها ([4]) .
وقوله " أبي فلان" قال النووي : هذه الكناية من بعض الرواة خشي أن يصرح بالاسم فيترتب عليه مفسدة إما في حق نفسه أو في حق غيره ([5]) .
وهذا الحديث دليل على وجوب البراءة من الكفار وإن كانوا من الأقارب , فلا تجوز محبتهم ولا نصرتهم, ولكن قد استثنى النبي صلى الله عليه وسلم صلة الرحم , وهذا الاستثناء له أثره الكبير في إبقاء حبل الوصل مع أقاربه , وهذا إضافة إلى أنه من صلة الرحم فإن له فائدة جليلة بالنسبة للدعوة , فإن بقاء هذا الخيط الذي يعرفونه ويقدرونه وهو البر والإحسان قد يكون سببا في إيمانهم بما أنكروه من دعوته .
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أبقى على صلته مع أقاربه وهم كفار فمن باب أولى لعموم المسلمين أن يبقوا على صلتهم بأقاربهم المسلمين وإن أنكروا منهم بعض السلوك , فالمسلم مأمور بإبقاء صلته مع أقاربه وإن كانوا كفارا وذلك بالإحسان إليهم والبر بهم , وقد جاء هذا المعنى واضحا في قول الله تعالى (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة : 8 ) (الممتحنة : 9 )
وقد طبق الصحابة رضي الله عنهم هذا التوجيه في معاملتهم مع أقاربهم من الكفار , ومما جاء في ذلك ما أخرجه الإمام البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : "رأى عمر حلة على رجل تباع فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : ابتع هذه الحلة تلبسْها يوم الجمعة وإذا جاءك الوفد, فقال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة , فأُتَيِ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها بحُلَل فأرسل إلى عمر منها بحلَّة فقال عمر : كيف ألبسها وقد قلتَ فيها ماقلت ؟ قال: إني لم أكسكها لتلبسها , تبيعها أو تكسوها , فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم " ([6]) .
وكذلك ما أخرجه البخاري أيضا من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "قدمَتْ عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصل أمي ؟ قال : نعم صلي أمك " ([7]) .
ويبين النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة قطيعة الرحم وثواب صلتها في حديث واحد حيث يقول :" ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من قطيعة الرحم والخيانة والكذب , وإن أعجل الطاعة ثوابا لَصِلةُ الرحم ,حتى إن أهل البيت ليكونون فجرة فتنموا أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصلوا "أخرجه الطبراني من حديث أبي بكرة رضي الله عنه([8]).
وهذا يعني أن صلة الرحم تدفع العقوبة وتجلب المثوبة , ويمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لثواب صلة الرحم في الدنيا بنمو أموال المتواصلين وتكاثر عددهم وإن كانوا فجرة فكيف إذا كانوا أتقياء ؟!
_____________________________
([1] ) سنن الترمذي , رقم 658 , الزكاة (3/47) .
([2] ) مسند أحمد 2/484 .
([3] ) صحيح مسلم , رقم 2556 , البر (ص1981) .(/1)
([4] ) صحيح البخاري , رقم 5990 , الأدب (10/419) , صحيح مسلم رقم 21 , الإيمان (ص197) .
([5] ) فتح الباري 10/418 .
([6] ) صحيح البخاري, رقم 2619 , الهبة , (5/232) .
([7] ) صحيح البخاري , رقم 2620 , الهبة , (5/233) .
([8] ) صحيح الجامع الصغير رقم 5581 .(/2)
الحج توحيد على التوحيد
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد الله القائل: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ" [الذريات: 56-57]، والصلاة والسلام على إمام الموحدين، وقائد المفردين، نبينا محمد وعلى آله أجمعين، وبعد:
إن مما أمر الله _تعالى_ به نبيه _صلى الله عليه وسلم_ قوله _سبحانه_: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين". ولا شك أن من أول ما يدخل في قول الله _تعالى_: "ونسكي" سائر أعمال الحج، من الإحرام الذي هو نية الدخول في النسك، مروراً بالتلبية، إلى ذبح الهدي إلى طواف الوداع.
ولقد صح عند مسلم وغيره من حديث جابر في الحج: أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ بعد أن صلى في المسجد بذي الحليفة ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء قال جابر: نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فأهل بالتوحيد؛ لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
فَانظُر إلَى تَجرِيدِهِ التَّوحِيدِ مِن ... ...
أسبَابِ كُلِّ الشِّركِ بِالرَّحمَنِ
والله ما أعظمه من مشهد يبين سبيل الوحدة الإسلامية، ويوضح كيف كان على توحيد رب البرية، فانظر إلى جيل التوحيد وتمثل ما قاله الأول:
أناسٌ مِن التّوحيدِ صِيغَتْ نُفوسُهُم ... ...
فأنت ترى التّوحيدَ شَخصاً مُرَكبا
فقد خلفت من بعد أولئك خلوف فتبدل الحال، فبينما يهل النبي _صلى الله عليه وسلم_بالتوحيد ويهل أصحابه به، يهل اليوم من يزعم حبه بنحو إهلال المشركين الأوائل الذين كانوا يقولون: لبيك الله لبيك لبيك لا شريك لك لبيك. وإلى هنا كان إهلالهم بالنسك صحيحا، غير أنهم لا يقفون فيخلطونها بغيرها ويستثنون فيقولون: (إلاّ) وقف عند هذا الاستثناء، وتأمل لتر أن القوم كانوا يعبدون الله يحجون ويعجون ويثجون، يطوفون ويسعون ويقفون، إلاّ أنهم يستثنون؛ (إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك)، فهم يستثنون شِركاً يصرفون له شيئاً من العبادة؛ ولك أن تقول شيئاً من الدعاء أو النذر أوالذبح أوالاستغاثة وكلها عبادة، فيصرفون شيئاً منها له وهي حق الله المحض، لا لأنهم يعتقدون أن للشريك من الملك شيء، بل هم يعتقدون أن هذا المدعو لا يملك شيئاً (تملكه وماملك)، ولكن ليقربهم حبهم له ودعاؤهم وذبحهم (وغيرها من أضرب عبادتهم له) إلى الله زلفى، كما قال الله _تعالى_: "أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ" [الزمر:3]. واليوم يلبي بعض الحجيج ويهلون بالتوحيد ثم يخلطون ما خلطه الأوائل، فبعد أن يقول أحدهم: لبيك الله لبيك لبيك لاشريك لك لبيك إلى أن يبح صوته، تسمعه وفي عرفات الله يقول بعدها ما حاصله: (إلاّ شريكاً هو لك)، فواحد يقول منشداً:
فأغثنا يا من هو الغوث ... ...
والغيث إذا أجهد الورى اللأواء!
وآخر يردد:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... ...
سواك عند حلول الحادث العمم
: ... ...
:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ...
ومن علومك علم اللوح والقلم
: ... ...
:
ما سامني الدهر ضيماً واستجرت به ... ...
إلا ونلت جواراً منه لم يُضَم
: ... ...
:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... ...
لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
: ... ...
:
أقسمت بالقمر المنشق إن له ... ...
من قلبه نسبة مبرورة القسم
فقارن –أخا التوحيد- هذا الذي يقولون، بقول المشركين: (إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك).
وأشد من هذا الشرك ما ينشده بعضهم في علي وفي الحسن والحسين _رضي الله عنهم جميعاً_. وكل ذلك على حساب الدعاء والتهليل والتلبية التي شرعها الله _تعالى_.
فَانظُر إلَى تَبدِيلِهِم تَوحِيدَهُ ... ...
بِالشِّركِ وَالإِيمَانِ بِالكُفرَانِ
***
كَم أَبطَلوا سُنَنَ النَبِيِّ وَعَطَّلوا ... ...
مِن حِليَةِ التَوحيدِ أرض المنحر
إنه لحق على من رأى أمثال هؤلاء وشهد البون بينهم وبين نبيهم صلى الله عليه وسلم وصحبه من بعده أن يسكب دمعة على الوحدة الإسلامية التي مزقت يوم مزق سببها؛ التوحيد.
وحري بكل مصلح أن يسعى لاستنقاذ تلك الوحدة بتعظيم جناب التوحيد في النفوس، والدعوة إلى الاستقامة عليه، فإن استقام الناس عليه فحق لهم أن يجتمعوا بعدها على كلمة سواء.(/1)
وإلاّ فليعلم الدعاة أنه لاجتماع بين من يقول: إن الله _سبحانه وتعالى_ رب واحد، وإله واحد، وبين من يعتقد في بعض البشر -وإن عظموا- بعض أوصاف الربوبية، أو يصرف لهم –وإن جلوا- شيئاً من حقوق الإلهية.
ولا يغرنك أخا الإسلام جهد رجل في الطاعة والعبادة إذا علمت أنه يصرف بعضاً منها ولو نذراً يسيراً لغير الله _سبحانه وتقدس_، فقد قال الله _تعالى_ لنبينا _صلى الله عليه وسلم_: "وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"، [الزمر:65].
فَلَيسَ عِندَهُمُ دينٌ وَلا نُسُكٌ ... ...
فَلا تَغرَّكَ أَيدٍ تَحمِلُ السُبَحا
أسأل الله أن يجمعنا والمسلمين على كلمة التوحيد، وأن يؤلف بين قلوب الموحدين، وأن يرزقنا وإياهم تجاوز الشقاق بتحقيق التوحيد وتكميله، كما أشار ربنا _جل شأنه_ في قوله: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" [الأنبياء:92]، فعقب بذكر التوحيد لما ذكر وحدة الأمة، ونحوه قوله _سبحانه_: "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ"، [المؤمنون:52].
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(/2)
الحج حفل الشوق إلى الله
الكتاب : مقالات يحيى هاشم فرغل
لما كان الإنسان مخلوقا لله زوده ربه بدرجة عالية من الإدراك والوعي كان لا بد أن يتحرك في باطنه شوق طبيعي لا إلى معرفته سبحانه فحسب ، ولكن إلى لقائه كذلك ، وليس له طريق إلى الأمرين إلا أن يكون طريقَ العبادة أو راجعا إليها .
والعبادات إجمالا تسهم في الحصول على مطلوب الإنسان أو تقربه من ربه ، وأظهر العبادات في ذلك الصلاة ، فهي معراج المؤمن ، وهي محاولاته الدائبة المتكررة في هذا السبيل .
وبالرغم من أن الصلاة هي أظهر العبادات في هذا الباب ، وأقرب المسالك إليه ، وأدومها فيه .. إلا أن شريعة الإسلام - وهي شريعة الفطرة - فتحت أمام مشاعر الإنسان بابا فذا آخر في الحج .
فقد وضع الله البيت في الأرض للناس يقول تعالى : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ) 96 آل عمران : الناس وتلك فطرتهم
وضعه ليقصده القاصدون إلى الله..
وإن من قصد البيت جدير باللقاء . ولكنه اللقاء المؤجل إلى دار القرار.
إذن ففيم الزيارة اليوم ؟؟
إنه حفل الشوق – في الحج – تمهيدا لحفل اللقاء في يوم القيامة
هنا يعالج حفل الشوق هذا مشاعر الإنسان بالوعد والإذكاء والتعويد والتحضير ليوم موعود .
وكما يقول الإمام الغزالي عن البيت ( بيت الله عز وجل قد وضع على مثال حضرة الملوك فقاصده قاصد إلى الله تعالى وزائر له .
وإن من قصد البيت في الدنيا جدير بأن لا يضيع صاحب البيت زيارته فيرزقه مقصود الزيارة في ميعاده المضروب له ، وهو النظر إلى وجه الله تعالى في دار القرار .
حيث إن العين الفانية في دار الدنيا لا تتهيأ لقبول نور النظر إلى وجه الله عز وجل ، ولا تطيق احتماله ولا تستعد للاكتحال به لقصورها .
وإنها إن أمدت في الدار الآخرة بالبقاء ونزهت عن أسباب التغير والفناء استعدت للنظر والإبصار ، وهي بقصد البيت والنظر إليه تستحق لقاء رب البيت بحكم الوعد الكريم ) .
ولهذا قلنا إن الحج حفل الشوق
وفي فقرات حفل الشوق يأتي الطواف والسعي والوقوف بعرفة
والمسلمون وهم يمارسون الشوق بالطواف حول البيت الحرام لا يخطر ببالهم قط أن هذا البيت - الذي وضعه الله في الأرض للناس - لا يخطر ببالهم قط أنه بيت الله المسكون ، ولكن يجوز أن يخطر ببالهم أنه بيت الله المقصود ، يقصدونه تحريكا لأشواقهم ، في لقاء لا يتم إلا بشروطه في الآخرة .
ومن أجل هذا كان البيت مجردا تماما من كل ما يعنى السكنى ، وهو لم يكن قط مسكونا في التاريخ ، لكائن من الكائنات ، لا لآدم ، ولا لنوح ، ولا لإبراهيم ، ولا لمحمد ، ولا لنبي ، ولا لملك ، وإنما هو تجريد خالص لقصد اللقاء بالله في يوم موعود.
ومن أجل هذا التجريد كان أول عمل قام به محمد صلى الله عليه وسلم في دخول البيت بعد رجوعه إلى مكة فاتحا ليس هو الحجَّ ، ولا العمرةَ ، وإنما إزالة كل مظاهر الوثنية ، التي أقامها المشركون من حوله .
حتى الحجر الأسود في موضعه من بناء الكعبة لم ينتسب قط إلى شكل من " الأشكال المعينة " ، ولم ينتسب قط إلى رسم من الرسوم المعبودة ، ولم يذكر له تاريخ في تحقيق مكرمة أو خارق ، إنما هو مجرد حجر ، أو حجر مجرد ، يعلن المسلمون وهم يستلمونه أنه ( لا يضر ولا ينفع ) ويتحقق باستلامهم إياه قمة معاني الحج ، ألا وهي تحقيق العبودية لله بالانقياد للأمر ، فيتحقق بذلك العبودية التامة في أجلى معانيها .
وفي السعي بين الصفا والمروة يطرق المسلم باب اللقاء بالله ، فهو يتردد بين الصفا والمروة كأنه يتردد بفناء دار الملِك ، جائيا ذاهبا ، ورائحا وغاديا ، مرة بعد أخرى ، إظهارا للخدمة وإعلانا للإخلاص ، واستمرارا للملاحظة والرعاية ، والتماسا للرضا وتوثيق المحبة
وهو لا يدري ما الذي قضى الملك به في حقه من قبول أو رد ، فلا يزال يتردد على فنائه يرجو أن يرحم في الثانية ، إن لم يرحم في الأولى ، ويتذكر العبد عند تردده بينهما تردده في عرصات يوم القيامة .. ناظرا إلى الرجحان والنقصان ، ( فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية ) 6-7 القارعة
وفي يوم عرفة يقول صلى الله عليه وسلم فيما جاء بسنن الترمذي بسنده وصححه الحاكم في مستدركه : " الحج عرفة " إذ فيه تشرق أسرار الحج ، في تضرعات الواقفين ، وانهمار دموعهم ، وفيض بكائهم ، وروعة تناجيهم ، وصدق تبذلهم ، ومدى انكسارهم ، :
في ذلك كله تتمثل صورة مصغرة لروعة اليوم العظيم ، الذي يقف فيه الخلائق يرجون رحمة ربهم ، وينتظرون ما يقضي به مولاهم عليهم في عرصات يوم القيامة ، يوم يتذكر الإنسان ما سعى ، يوم تتوسل الأمم إلى ربهم بأنبيائهم ، متطلعة لرسلهم ، متشفعة بهم عند ربهم ، في حيرة ساكنة ، وسكرة صامتة، وشدة شاملة ، ورهبة عظيمة ، وحالة مهيبة ، ( إن زلزلة الساعة شيء عظيم ، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد . ) أول سورة الحج.(/1)
وإذا تذكر المرء ذلك لزم قلبه الضراعة والابتهال ، فالموقف شريف والرحمة إنما تصل من حضرة الجلال إلى كافة الخلق .
فإذا اجتمعت همم الأمم ، وتجردت قلوبهم للضراعة والابتهال ، وارتفعت إلى الله أيديهم ، وامتدت إليه أعناقهم ، وشخصت نحو السماء أبصارهم ، مجتمعين بهمة واحدة على طلب الرحمة لم يعبث بقلب المسلم ظن بأن الله يخيب رجاءهم ويضيع سعيهم
ولذلك كان من أدبيات الحج في الإسلام أن من أشباه الذنوب أن يحضر المرء عرفات وهو يظن أن الله لا يغفر له .
وكان من أدبياته أيضا أن قمة معاني الحج تحقيق العبودية بالانقياد للأمر ، ( لبيك حجة حقا ، تعبدا ورقا ) فتتحقق بذلك العبودية التامة في هذا الحفل – حفل الشوق – استعدادا لذاك الحفل : حفل اللقاء .
إنه في الحج يكون حفل الشوق تمهيدا لحفل اللقاء .
وفي توضيح ذلك ما جاء في المعجم الأوسط للطبراني : بسنده عن عبادة بن الصامت قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخطى إليه رجلان ، رجل من الأنصار ورجل من ثقيف
سبق الأنصاري الثقيفي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للثقفي إن الأنصاري قد سبقك بالمسألة ، فقال الأنصاري : لعله يا رسول الله أن يكون أعجل مني فهو في حل ، قال فسأله الثقفي عن الصلاة فأخبره ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري : إن شئت خبرتك بما جئت تسأل عنه ، وإن شئت سألتني فأخبر بذلك ، فقال يا رسول الله : تخبرني .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جئت تسألني مالك من الأجر إذا أممت البيت العتيق ، وما لك من الأجر في وقوفك في عرفة ، وما لك من الأجر في رميك الجمار ، وما لك من الأجر في حلق رأسك ، وما لك من الأجر إذا ودعت البيت .
فقال الأنصاري : والذي بعثك بالحق ما جئت أسألك عن غيره
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فإن لك من الأجر إذا أممت البيت العتيق ألا ترفع قدما أو تضعها أنت ودابتك إلا كتبت لك حسنة، ورفعت لك درجة .
وأما وقوفك بعرفة : فإن الله عز وجل يقول لملائكته : يا ملائكتي ما جاء بعبادي ؟ قالوا : جاءوا يلتمسون رضوانك والجنة ، فيقول الله عز وجل : فإني أشهد نفسي وخلقي أني قد غفرت لهم ؛ عدد أيام الدهر ؛ وعدد القطر ؛ وعدد رمل عالج .
وأما رميك الجمار : فإن الله عز وجل يقول " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون "
وأما حلقك رأسك : فإنه ليس من شعرك شعرة تقع في الأرض إلا كانت لك نورا يوم القيامة .
وأما البيت : إذا ودعت فإنك تخرج من ذنوبك كيوم ولدتك أمك
قال الطبراني : لا يروى هذا الحديث عن عبادة إلا بهذا الإسناد تفرد به يحيى بن أبي الحجاج
وفي رواية أخرى بتفصيلات أخرى جاء في الترغيب والترهيب للمنذري : وروى ابن عمر رضي الله عنهما قال : كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد منى ، فأتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف ، فسلما ، ثم قالا : يا رسول الله جئنا نسألك . فقال : إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه فعلت ، وإن شئتما أن أمسك وتسألاني فعلت ، فقالا : أخبرنا يا رسول الله ، فقال الثقفي للأنصاري : سل ، فقال: أخبرني يا رسول الله .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جئتني تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام ، وما لك فيه ، وعن ركعتيك بعد الطواف وما لك فيهما ، وعن طوافك بين الصفا والمروة وما لك فيه ، وعن وقوفك عشية عرفة وما لك فيه ، وعن رميك الجمار وما لك فيه ، وعن نحرك وما لك فيه مع الإفاضة .
فقال – أي الأنصاري - والذي بعثك بالحق لعن هذا جئت أسألك .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام لا تضع ناقتك خفا ولا ترفعه إلا كتب الله لك به حسنة ، ومحا عنك خطيئة .
وأما ركعتاك بعد الطواف كعتق رقبة من بني إسماعيل عليه السلام وأما طوافك بالصفا والمروة كعتق سبعين رقبة .
وأما وقوفك عشية عرفة : فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة ، يقول : عبادي جاؤوني شعثا من كل فج عميق ، يرجون جنتي ، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل ، أو كقطر المطر ، أو كزبد البحر لغفرتها . أفيضوا عبادي مغفورا لكم ولمن شفعتم له .
وأما رميك الجمار : فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات.
وأما نحرك : فمذخور لك عند ربك .
وأما حلاقك : رأسك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة ، ويمحى عنك بها خطيئة .
وأما طوافك بالبيت بعد ذلك : فإنك تطوف ولا ذنب لك ، يأتي ملك حتى يضع يديه بين كتفيك ؛ فيقول : اعمل فيما تستقبل فقد غفر لك ما مضى ) .
رواه الطبراني في الكبير ، والبزار واللفظ له ، وقال : وقد روي هذا الحديث من وجوه ، ولا نعلم له أحسن من هذا الطريق .
قال المملي رضي الله عنه : وهي طريق لا بأس بها ، رواتها كلهم موثقون ، ورواه ابن حبان في صحيحه .(/2)
وهو يرجع من حفل الشوق ( الحج ) إلى مواجهة الحياة لتظهر عليه آثاره إذ لم يكن حجه قاصرا على مجرد القيام بأعماله الظاهرة من الإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة والمبيت بالمزدلفة ، ومنى ورمي الجمار وسوق الهدي ونحره ، والتقصير والتحلل .. وإنما كان شاملا لكل ما يراد من الحج : أن يرتبط - كغيره من العبادات - بباطن المسلم ..
يرجع من حفل الشوق :
مصرا على ترك ما كان عليه من المعاصي
مستمرا في أن تكون نفقته في حياته حلالا
مستمرا في كثرة البذل والنفقة في سبيل الله
مستمرا في ترك الرفث والفسوق والجدال
مقبلا على التقرب بإراقة الدم وإن لم يكن واجبا عليه .
يرجع من حفل الشوق :
متخلقا بطيب النفس بما ينفقه أو يصيبه من خسران في مال أو أذى في بدن ، أو جهاد
متخلقا بما أملاه عليه الحج من شعور المساواة والأخوة مع جميع المسلمين من جميع أنحاء العالم مهما اختلفت ألوانهم وجنسياتهم وطرق معيشتهم ، وآراؤهم وهمومهم .
مقبلا على مشاركة قومه الرأي والنصح والمشورة والعون والتعاطف والتراحم والشكوى والفرح والأمل .
متحققا بشعور التوحد مع المسلمين مهما تباعدت ديارهم كجسد واحد ، ونفس واحدة ، وإرادة واحدة ، ومصير واحد .
راجعا من حفل الشوق في يده : في جدول أعماله : في قلبِه بالأحرى - خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في عرفة في خطبة الوداع .
ففي سيرة ابن هشام قال ابن اسحاق : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجة ، فأرى الناس مناسكهم وأعلمهم سنن حجهم ، وخطب الناس خطبته التي بين فيها ما بين ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
( أيها الناس اسمعوا قولي ، فإني لا أدرى لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا ، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا ، وكحرمة شهركم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلَّغت .
فمن كانت عنده أمانة فليؤدها الى من ائتمنه عليها .
وإن كل ربا موضوع ، ولكن لكم رءوس أموالكم ، لا تظلمون ولا تظلمون ، قضى الله أنه لا ربا ، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله .
وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع ، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وكان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل ، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية .
أما بعد أيها الناس : فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم
أيها الناس : إن النسيء زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ، ليواطئوا عدة ما حرم الله ، فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متوالية ، ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان.
أما بعد أيها الناس : فإن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا ، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع ، وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمات الله ، فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلَّغت .
وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا : أمرا بينا كتاب الله وسنة نبيه .
أيها الناس : اسمعوا قولي واعقلوه ، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين إخوة ، فلا يحل لامرىء من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه ، فلا تظلمُن أنفسكم ، اللهم هل بلغت ).
فذكر لي – والقول للراوي - أن الناس قالوا : اللهم نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم اشهد
وفي حفل الشوق ( الحج ) يستعد المرء لمواجهة الموت
إنه لمن المكابرة أن يشيح بعض الناس بوجوههم عن ذكر الموت .
إن الموت هو أشد حقائق المستقبل وضوحا في حياة الإنسان ، وكما يقول بعض المفكرين : إن كل إنسان يتحرك وهو يحمل في طياته حكما بالإعدام ، خبئ عنه موضع التاريخ فيه .
وليس هناك مغالطة أخطر من مغالطة الإنسان وهو يؤجل التفكير في : كيف يمكنه أن يواجه هذه اللحظة : لحظة الموت ؟!
ويكاد يوازي هذه الحقيقة وضوحا حقيقة أخرى هي : أن العبادة الصحيحة هي التدريب الوحيد الصحيح لهذا اللقاء المحتوم : لقاء الموت .
ومن هنا كان فضل الإسلام على الإنسان في لحظة الموت كما في لحظة الحياة
إنه تدريب منظم ، يتغلغل إلى أعماق الروح ، ويعدها للحظة الموعودة .
ذاك تدريب أشبه بالتدريب الجسدي الذي يستغرق من الإنسان شهورا وسنوات .. لكي يبرز أثره فيما بعد في موقف قد لا يستغرق أكثر من دقائق أو ثوان ..(/3)
هنا يحدث ما يسمى بلغة العصر " برمجة " برمجة الجهاز العصبي ، بحيث يقوم بالدور المطلوب منه تلقائيا وبالسرعة التي يتطلبها الموقف.
فمن فرط في هذا التدريب ثم تورط في الموقف فشل تماما في مواجهته
وكذلك حال الإنسان بالنسبة للموت .
وهذا مثال تقريبي لمواجهة الموت مع الفارق الهائل بين الموقفين .
وإذا كان هذا الحال مصحوبا بشدة فإن الإنسان عندئذ يكون محتاجا بالضرورة لأن يكون قد استعد لها استعدادا طويلا .
وهذا الاستعداد الطويل والبرمجة الروحية المطلوبة إنما يتم بدوام العبادة ، والذكر لله سبحانه وتعالى .
ومن هنا كانت العبادة فضلا مردودا على العابد ، وإعدادا له للتوفيق في مواجهة الموت وما بعده .
وإنه ليتعرض الإنسان أثناء حضور الموت لأمور أربعة شداد يرجو الله فيها التخفيف :
1- حالة النزع وهذه للجميع ، وفيهم أولياء الله وأحباؤه
ففي مسند الإمام أحمد بسنده، عن عائشة قالت: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت وعنده قَدَحٌ فيه ماء ، فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ، ثم يقول: «اللهمّ أعِنّي على سَكَراتِ الموتِ».
وجاء في صحيح البخاري بسنده عن عمرَ بن سعيدٍ قال: أخبرَني ابنُ أبي مُليكةَ أن أبا عمرو ذَكوانَ مولى عائشةَ أخبرَهُ «أن عائشةَ كانت تقول: إن من نِعم الله عليّ أن رسولَ صلى الله عليه وسلم تُوفّي في بيتي وفي يومي وبينَ سَحْري ونحري ، وأن اللّهَ جمعَ بينَ رِيقي وريقهِ عند مَوته. دخلَ عليّ عبد الرحمن وبيده السّواك ، وأنا مسنِدةٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته يَنظُرُ إليه، وعرفتُ أنه يحبّ السواكَ ، فقلت: آخذهُ لك ؟ فأشار برأسِهِ أنْ : نعم ، فَتناولتهُ فاشتدّ عليه ، وقلتُ أُليّنهُ لك ؟ فأشار برأسهِ أنْ نعم ، فليَّنته، وبينَ يَدَيه رَكوة ـ أو علبة يشكّ عمرُ ـ فيها ماءٌ ، فجعلَ يُدخِل يديهِ في الماء فيمسحَ بهما وجههَ يقول: لا إله إلا الله ، إن للموت سكراتٍ. ثم نصبَ يدَه فجعلَ يقول: في الرفيق الأعلى، حتى قَبِضَ ومالت يده ».
2- مشاهدة ملك الموت وهذه حال يفترق فيها حال المؤمن من حال الكافر والعاصي :
يقول تعالى عن حال المؤمن : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا ، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) 30 فصلت
ويقول تعالى عن الكفار والعصاة : ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ، ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم ، والله عليم بالظالمين ) 95 البقرة .
( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ) 50 الأنفال
( فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ، ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله ، وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ) 27-28 محمد
3- مشاهدة موضعه من الجنة أو موضعه من النار
ففي مسند الإمام أحمد بسنده عن نافع ، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يُعرض على ابن آدم مقعدهُ من الجنة والنار غُدْوَةً وعشِيّةً في قبره».
وفيه بسنده عن المقدام بن معدي كرب الكندي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للشهيد عند الله عزّ وجلّ : أن يغفر له في أوّل دفعة من دمه ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى حلة الإيمان ، ويزوّج من الحوار العين ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه ».
وفي سنن النسائي الكبرى بسنده عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُعْرَضُ عَلَى أَحَدِكُمْ إذَا مَاتَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ ، فَإنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النّارِ قِيلَ : هَذَا مَقْعَدُكَ حَتّى يَبْعَثَكَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».
وفي صحيح البخاري بسنده عن أبي هريرةَ قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يدخلُ أحدٌ الجنةَ إِلا أُريِ مَقعَدَهُ من النار لو أساءَ، ليزدادَ شكراً، ولا يدخلُ النارَ أحد إلاّ أُرِيَ مَقعَدهُ من الجنةِ لو أَحسنَ، ليكونَ عليه حسرة».
إن المؤمن إذا حضرته الوفاة عرضت عليه الجنة ، فإذا نظر إليها عرف أنه كان في السجن ففي صحيح مسلم بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: ( الدّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنّةُ الْكَافِرِ ).
فما بالك بإنسان هو في مواجهة الموت لكنه يشعر شعور الانعتاق من السجن ؟
والكافر إذا حضرته الوفاة عرضت عليه النار ، فإذا نظر إليها عرف أنه كان في الجنة " الدنيا جنة الكافر" ، فما بالك بإنسان هو في مواجهة الموت يشعر شعور المقتلع من جنة ليحرم منها إلى النارأبدا ؟
4 - إنه في موقف التحسب للقاء الله وما أشده جلالا
يقول تعالى ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) 6 الانشقاق .(/4)
وكما يقول العلماء فالناس في ذكر الموت بين أربعة :
منهمك في الدنيا : لا يذكر الموت ، وإن ذكره فيذكره للتأسف على دنياه ، ويشتغل بمذمته ، وهذا يزيده ذكرُ الموت بعدا عن الله .
وتائب مبتدئ : يكثر من ذكر الموت ويخشاه ، ليتمكن من تمام الاستعداد للقاء مولاه ، وهو كمن يتأخر عن لقاء الحبيب مشتغلا بالاستعداد له على خير وجه يلقاه ، وهذا لا ينطبق عليه أنه يكره لقاء الله .
وعارف واصل : فإنه يذكر الموت ويستبطئه لأنه موعد لقاء حبيبه ، وقد ورد عن أبي الدرداء قوله ( أحب الموت اشتياقاإلى ربي )
ومفوِّض : صار لا يختار لنفسه موتا ولا حياة ، بل يكون أحب الأشياء إليه أحبها إلى مولاه .
وهنا فإن العبادات جميعا وفي قمتها الحج هي خير ما علمنا الله تعالى استعدادا للقائه
إنها تعدنا :
لأخطر اللحظات ، ، وأخطر المواجهات ، وأخطر المعاناة.
ومن بعدها دخول الجنة
في صحيح البخاري بسنده عن أبي هريرة أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «كلّ أمتي يَدخلونَ الجنة إلا من أبى. قالوا: يا رسولَ اللّه ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخلَ الجنة، ومن عصاني فقد أبى ».
ومن بعدها رضا الله
في صحيح البخاري بسنده عن أبي سعيدٍ الخُدرِيّ رضي اللّه عنه قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إن اللّهَ يقولُ لأهل الجنةِ: يا أهلَ الجنةِ، فيقولون: لبيْك ربنا وسعدَيك، والخير في يَدَيْك، فيقول: هل رضيتُم؟ فيقولون: وما لنا لا نَرضَى يا رب وقد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحداً من خلقِك فيقول ألا أُعطيكُم أفضَلَ من ذلك؟ فيقولون: يا ربّ وأيّ شيء أفضلُ من ذلك؟ فيقول: أُحِلّ عليكم رِضواني فلا أسخَطُ عليكم بعدَهُ أبداً ».
فيا للرضا رضا لله
ومن بعدها لقاء الله
وفي صحيح البخاري بسنده عن عبادةَ بن الصامت عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحبّ لِقاءَ الله أحبّ الله لقاءَه، ومن كَرِهَ لقاءَ الله كرِهَ الله لِقاءَه. قالت عائشة ـ أو بعضُ أَزواجهِ ـ : "إنا لنَكرَهُ الموتَ " قال: " ليس ذلك ، ولكنّ المؤمنَ إذا حضرَهُ الموتُ بُشّرَ برضوانِ الله وكرامَته، فليس شيءٌ أحبّ إليه مما أمامه، فأحبّ لقاءَ الله وأحبّ اللهُ لقاءَه.
وإنّ الكافرَ إذا حُضرَ بُشرَ بعذابِ الله وعُقوبتهِ ، فليس شيءٌ أكرَهَ إليه مما أمامَهُ ، فكَرِهَ لقاءَ الله وكرهَ اللهُ لقاءه ».
ديمومة ليس من بعدها بعد
تحريرا في \ \ 2004
أ د: يحيى هاشم حسن فرغل
yehia_hashem@ hotmail .com(/5)
الحج دروس وآداب
الشيخ/ محمد بن إبراهيم الحمد 26/12/1426
26/01/2006
الدعاء في الحج
الذكر في الحج
مشهد الاستغفار في الحج
مشهد الاضطرار والتذلل وانتظار الفرج في الحج
مشهد التوبة في الحج
مشهد الشكر في الحج
مشهد الصبر في الحج
أثر الحج في اكتساب العزة
مشهد المراقبة في الحج
مراغمة الشيطان في الحج
من منافع الحج ودروسه
الدعاء في الحج
محمد بن إبراهيم الحمد
الدعاء نعمة كبرى، ومنحة جلَّى، جاد بها ربُنا - جل وعلا - حيث أمرنا بالدعاء، ووعدنا بالإجابة والإثابة، فشأن الدعاء عظيم، ومنزلته عالية في الدين، فما اسْتُجْلِبت النعم بمثله، ولا استُدفعت النقم بمثله، ذلك أنه يتضمن توحيد الله، وإفراده بالعبادة دون من سواه.
وهذا هو رأس الأمر، وأصل الدين.
والدعاء عبادة لله، وتوكل عليه، والدعاء - أيضاً - محبوب لله، وأكرم شيء عليه - عز وجل -.
والدعاء سبب عظيم لانشراح الصدر، وتفريج الهم، ودفع غضب الله.
والدعاء مفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، وأمان الخائفين.
والدعاء سبب لدفع البلاء قبل نزوله، ورفعه بعد نزوله. ثم إن ثمرة الدعاء مضمونةٌ؛ إذا أتى الداعي بشرائط الدعاء وآدابه، فإما أن تعجَّل له الدعوة، وإما أن يُدفع عنه من السوء مثلها، وإما أن تُدخر له في الآخرة.
فما أشد حاجةَ العباد إلى الدعاء، بل ما أعظمَ ضرورتهم إليه.
"مظان إجابة الدعاء في الحج":
هذا وإن الحج فرصة عظيمة؛ للإكثار من الدعاء والإلحاح على الله فيه، ذلك أن مظانَّ إجابة الدعاء في الحج كثيرة متوافرة؛ فالأوقات، والأماكن، والأحوال، والأوضاع التي يستجاب فيها الدعاء - تتوافر في الحج أكثر مما تتوافر في غيره، فمن تلك المظانِّ التي ترجى فيها إجابة الدعاء في الحج ما يلي:
1- أن الحاج مسافر: والمسافر مستجاب الدعاء، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر ودعوة الوالد لولده) رواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، وصححه الألباني.
2- أن الحاج مستجاب الدعوة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الغازي في سبيل الله، والحاج، والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعاطاهم) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
3- في الحج يشتد الإخلاص: وذلك من أعظم أسباب الإجابة كما في قصة أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة، كما في صحيح البخاري، فكان إخلاصهم لله أعظم سبب لنجاحهم.
4- في الحج مواضع عديدة يشرع فيها الدعاء، وترجي الإجابة: فمن ذلك ما يلي:
أ- الدعاء عند الصفا: لما جاء في صحيح مسلم من الحديث الطويل في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه جابر، وفيه: (فبدأ بالصفا، فَرقىَ حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله، وكبَّره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله الله وحده، أنجز وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات).
ب- الدعاء عند المروة للحديث السابق، وفيه (ثم نزل المروة، حتى إذا انصبَّت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صَعِدتا مشى، حتى إذا أتى المروة ففعل على المروة كما فعل في الصفا).
ج- الدعاء يوم عرفة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له) رواه مالك، والترمذي، وحسنه الألباني.
د- الدعاء عند المشعر الحرام: كما جاء في حديث جابر الطويل، وفيه: (ثم ركب القصواء حتى إذا أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً).
هـ- الدعاء بعد رمي الجمرة الصغرى: لما جاء في صحيح البخاري أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -" كان إذا رمى الجمرة التي تلي مسجد منى يرميها بسبع حصيات، ثم يكبر كلما رمى بحصاة، ثم تقدم أمامها فوقف مستقبل القبلة، رافعاً يديه يدعو، وكان يطيل الوقوف).
و- الدعاء بعد رمي الجمرة الوسطى: للحديث السابق، وفيه: (ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات يكبر كلما رمى بحصاة، ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي، فيقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو، ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاة ثم ينصرف، ولا يقف عندها).
ز- الدعاء عن شرب ماء زمزم قال - صلى الله عليه وسلم -: (ماء زمزم لما شرب له) أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني.
"مظان أخرى لإجابة الدعاء":
هذا وإن هناك مواضع وأحوالاً يشرع فيها الدعاء، وترجى الإجابة غير ما ذُكر، ويشترك فيها الحاج وغيره. ومن ذلك على سبيل الإجمال: الدعاء في جوف الليل ووقت السحر، ودبر الصلوات المكتوبات، وبين الأذان والإقامة، وعند نزول الغيث، وفي السجود، وعقب الوضوء وبعد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير.(/1)
ومن ذلك: الدعاء عند رقة القلب، ودعاء المضطر، ودعاء المظلوم، ودعاء الوالد لولده، وعلى ولده، ودعاء الولد الصالح لوالده.
ومن ذلك عند الدعاء بـ" لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ".
وفي حالة المصيبة عند الدعاء بـ" إِنَّا لله وإنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللهم آجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها".
"شروط الدعاء":
أيها الحاج الكريم! ومما يجب حال الدعاء ما يلي:
1- أن تكون عالماً بأن الله وحده هو القادر على إجابة الدعاء.
2- ألا تدعو مع الله أحداً غيره، لأن دعاء غير الله شرك بالله - عز وجل -.
3- أن تتوسل إلى الله بالتوسلات المشروعة كأن تسأل الله - عز وجل - بأسمائه الحسنى، أو أن تدعو بصالح عملك أو غير ذلك من التوسلات المشروعة.
4- أن تتجنب التوسلات الشركية كدعاء غير الله، وأن تتجنب التوسلات البدعية، كالتوسل بجاه النبي -صلى الله عليه وسلم -.
5- أن تتجنب الاستعجال.
6- وأن تكون حسن الظن بالله.
7- وأن تكون حاضر القلب.
8- مطيباً لمطعمك.
9- متجنباً الاعتداء في الدعاء.
"آداب الدعاء":
ومما يحسن بك أيها الحاج أن تأتي بآداب الدعاء، كي يكون دعاؤك كاملاً، فمن تلك الآداب ما يلي:
1- الثناء على الله قبل الدعاء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
2- الإقرار بالذنب.
3- إظهار الفاقة والفقر.
4- التضرع والخشوع.
5- الرغبة والرهبة.
6- الإلحاح بالدعاء.
7- تجنب الدعاء على الأهل والمال والنفس.
8- استقبال القبلة.
9- الدعاء ثلاثاً.
10- رفع الأيدي.
11- اختيار الجوامع من الدعاء.
12- خفض الصوت، والإسرار بالدعاء إلا أن يكون خلف الداعي أناس يؤمنون.
13- ألا تحجر رحمة الله.
14- أن تدعو لإخوانك المسلمين.
15- أن تسأل الله كل صغيرة وكبيرة
"نماذج لأدعية من الكتاب والسنة":
ومما يحسن بك أيها الحاج حال الدعاء: أن تدعو بالأدعية المشروعة من الكتاب والسنة؛ لما فيها من الخير، والاتباع، والبركة، والسلامة من الخطأ، والاعتداء.
"أدعية قرآنية":
1- رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
2- رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ".
3- رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات.
4- رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ.
5- رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ.
6- لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.
7- قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي.
8- رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
9- رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
10- رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
11- رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ.
12- رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.
13- رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.
14- رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً.
15- رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ".
"أدعية نبوية":
1- اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف والغنى.
2- يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
3- رب اغفر لي ذنبي كله دِقَّه وجِلَّه، أوله وآخره، سره وعلانيته.
4- اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفُجَاءة نقمتك وجميع سخطك.
5- اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والهرم، والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات.
6- اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.
أيها الحاج الكريم! إذا كانت هذه هي حالك مع الدعاء فحريٌّ أن يستجاب لك " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" [غافر: من الآية60].
ولقد أحسن من قال:
وَإِنِّي لأَدْعُو الله وَالأَمْرُ ضَيِّقٌ ... ...
عَلَيَّ فَمَا يَنْفكّ ُأَنْ يَتَفَرَّجَا
ورُبَّ فَتَى ضَاقَتْ عليه وُجُوهُه ... ...
أَصَاب لَه في دعوَة اللهِ مَخْرَجا(/2)
وأخيراً أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يتقبل من المسلمين حجهم، وصالح أعمالهم، وأن يجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الذكر في الحج
محمد بن إبراهيم الحمد
الذكر في الحج عظيم، ومنزلته عالية في الدين، فما تقرب المتقربون بمثله، ولا شرعت العبادات إلا لأجله.
قال الله – تعالى -:"فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ" [البقرة: 152] وقال:" فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي" [طه: 14].
فما أجلَّ فوائد الذكر، وما أعظم عوائده، وما أشد حاجة العباد إليه.
وهذه العبادة العظيمة تظهر غاية الظهور في الحج؛ ذلك أن الذكر هو المقصود الأعظم للحج، فما شرع الطواف بالبيت العتيق، ولا السعي بين الصفا والمروة، ولا رمي الجمار وإراقة الدماء إلا لإقامة ذكر الله – عز وجل -.
قال – تبارك وتعالى -:" لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً (200) [ البقرة ].
وقال - عز وجل -:" وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ" [البقرة: 203].
وقال: "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ" [الحج: 27-28].
وقال: " لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ" [الحج: 37].
وهكذا يتجلى شأن الذكر في الحج، ويستبين عظم منزلته ورفيع مكانته.
ثم إن الله – عز وجل - أثنى على الذاكرين له، وأمر بالإكثار من ذكره، لشدة الحاجة إلى الذكر، وعدم استغناء العبد عنه طرفة عين، فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله كانت عليه لا له، وكانت خسارته أعظم مما ربح في غفلته عن الله.
قال – عز وجل -:" وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ" [الأحزاب: 35].
وقال:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكرَةً وَأَصِيلاً (42) [الأحزاب]
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جُمْدان فقال:" سيروا هذا جمدان، سبق المفرودن" قيل: وما المفردون؟ قال:" الذاكرون الله كثيراً والذاكرات" .
فحري بالحاج أن يعمر وقته بذكر الله – عز وجل - وأن يكثر منه في سائر أحواله، سواء كان في طريقه إلى الحج، أو كان في حال إحرامه، أو كان في الطواف، أو السعي، أو كان في عرفة، أو المزدلفة، أو في رمي الجمار، أو كان يسير في شعاب مكة، أو كان في فراشه، أو كان جالساً، أو راكباً، أو خالياً، أو يسير في زحام؛ ليحقق العبودية بإقامة ذكر الله، وليستعين بالذكر على أداء النسك، فإن الذكر من أعظم ما يعين على القوة وبعث النشا.
من فضائل الذكر:
ومما يعين على الإكثار من ذكر الله أن يستحضر الإنسان فضائل الذكر، وثمراته العديدة، وفوائده المتنوعة، وقد مضى شيء من ذلك، وفيما يلي نبذة من تلك الفضائل والثمرات والفوائد المترتبة على الذكر على سبيل الإجمال:
1- الذكر يطرد الشيطان
2- يرضي الرحمن.
3- يزيل الهم والغم.
4- يجلب البسط والسرور.
5- ينور الوجه.
6- يجلب الرزق.
7- يورث محبه الله للعبد.
8- يورث محبة العبد لله وربه.
9- يحط السيئات.
10- ينفع صاحبه عند الشدائد.
11- سبب لتنزّل السكينة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة.
12- أن فيه شغلاً عن القيل والقال, والغيبة والنميمة، والفحش من القول.
13- يؤمن من الحسرة يوم القيامة.
14- أنه مع البكاء من خشية الله في الخلوة سبب لإظلال الله للعبد يوم القيامة تحت ظل عرشه – عز وجل -.
15- الذكر أمان من النفاق.
16- أمان من نسيان الله.
17- أنه أيسر العبادات.
18- أنه أقلها كلفة.
19- يعدل عتق الرقاب.
20- يُرتَّبُ عليه من الجزاء ما لا يرتب على غيره.
21- أنه غراس الجنة.
22- أنه يغني القلب ويسد حاجته وفاقته.
23- يجمع على القلب ما تفرق من إراداته وعزومه.
24- يفرق عليه ما اجتمع من الهموم، والغموم، والأحزان، والأنكاد، والحسرات، وما اجتمع على حربه من جند الشيطان.
25- يقرب من الآخرة.
26- يباعد من الدنيا.
27- يذيب قسوة القلب.(/3)
28- يوجب صلاة الله وملائكته.
29- الذكر رأس الشكر، فما شكر الله من لم يذكره.
30- أكرم الخلق على الله من لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله.
31- أن الله يباهي بالذاكر ملائكته.
32- الذكر يسهل الصعاب.
33- يخفف المشاق.
34- ييسر الأمور.
35- يجلب بركة الوقت.
36- للذكر تأثير عجيب في حصول الأمن، فليس للخائف الذي اشتد خوفه أنفع من الذكر.
37- الذكر سبب للنصر على الأعداء.
38- سبب لقوة القلب.
39- الجبال والقفار تباهي وتبشر بمن يذكر الله عليها.
40- أن دوام الذكر في الطريق والبيت، والحضر، والسفر، والبقاع تكثير لشهود العبد يوم القيامة.
41- للذكر من بين الأعمال لذةٌ لا تعد لها لذة.
أفضل الذكر:
أفضل الذكر: لا إله إلا الله، والحمد لله، وسبحان الله، والله أكبر.
فهذه الكلمات أفضل الكلام بعد القرآن، وهي من القرآن.
ومن الأذكار العظيمة: الاستغفار، والصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومنها: سبحان الله وبحمده، فمن قالها في اليوم مائة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر.
ومن الأذكار العظيمة: سبحان وبحمده، وسبحان الله العظيم، فهما كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان للرحمن.
ومن الأذكار العظيمة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فمن قالها في اليوم عشر مرات؛ فكأنما أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل، ومن قالها مائة مرة فكأنما أعتق عشرة أنفس، وكتبت له مائة حسنة، وحطت عنه مائة خطيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك.
وأما أعظم الأذكار في الحج فهو التلبية؛ فهي عنوان الحج، وشعار الحاج كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:" الحجُّ: العجُّ والثجُّ" رواه الترمذي وابن ماجه.
فالعج التكبير والتلبية، والثج الذبح.
ومن الأذكار العظيمة: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فهي كنز من كنوز الجنة، ولها تأثير عجيب في حمل الأثقال، ومكابدة الأهوال، ونيل رفيع الأحوال.
وخلاصة القول: فإن الذكر مقصود العبادة الأعظم، وإن بركاته وفوائده تحصل بالمداومة عليه، والإكثار منه، واستحضار ما يقال فيه، وبالمحافظة على أذكار طرفي النهار، والأذكار المطلقة، والمقيدة، وبالحذر من الابتداع فيه، ومخالفة المشروع.
أعاننا الله على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.
مشهد الاستغفار في الحج
الشيخ/ محمد بن إبراهيم الحمد 7/12/1426
07/01/2006
الحديث ههنا سيكون حول مشهد التقصير في أعمال الحج، ورؤية النقص فيها، والسعي في تلافي الخلل والتفريط.
قال ربنا - جلا وعلا -: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم).
قال الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "أي ثم أفيضوا من مزدلفة من حيث أفاض الناس من لدن إبراهيم - عليه السلام - إلى الآن.
والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفاً عندهم، وهو رمي الجمار، وذبح الهدايا، والطواف، والسعي، والمبيت بمنى ليالي التشريق، وتكميل باقي المناسك.
ولما كانت هذه الإفاضة يقصد بها ما ذكر، والمذكوراتُ آخرُ المناسك أمر الله - تعالى - عند الفراغ منها باستغفاره، والإكثار من ذكره؛ فالاستغفار للخلل الواقع من العبد في أداء عبادته، وتقصيره فيها، وذكرُ اللهِ شكرُ الله على إنعامه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة، والمنة الجسيمة.
وهكذا ينبغي للعبد كلما فرغ من عبادة أن يستغفر عن التقصير، وأن يشكر على التوفيق، لا كمن يرى أنه أكمل العبادة، ومنَّ بها على ربه، وجعلت له محلاً ومنزلةً رفيعة؛ فهذا حقيق بالمقت، ورد الفعل، كما أن الأول حقيقٌ بالقبول والتوفيق لأعمال أخر"ا-هـ.
الاستغفار طلب المغفرة، وهي ستر الذنوب، والعفو عنها، ووقاية شرها.
والاستغفار من أجلِّ القربات، وأنفعِ الطاعات، وأعظمِ موانع إنفاذ الوعيد.
والاستغفار ختام الأعمال الصالحة، فيختم به الصلاة، وقيام الليل، ويختم به الحج كما مر، وتختم به المجالس؛ فإن كانت ذكراً كان كالطابع عليها، وإن كانت لغواً كان كفارةً لها.
ولما وفى نبينا -صلى الله عليه وسلم- تبليغ الرسالة، والجهاد في سبيل الله، وأقر الله عينه بعز الإسلام وظهور المسلمين، ودخول الناس في دين الله أفواجاً - أمره الله بالاستغفار؛ فكان التبليغُ والجهادُ عبادةً قد أكملها وأداها؛ فشرع له الاستغفار عقيبها.
وبالجملة فهذه حال العبد مع ربه في جميع أحواله، فهو يعلم أنه لا يوفي هذا المقام حقه، فهو أبداً يستغفر عقب كل عمل صالح؛ فكل أحد محتاج إلى مغفرة الله ورحمته، ولا سبيل إلى النجاة بدون ذلك.
ولذلك ينبغي أن يختم الحج بالاستغفار، فهو يكمل الحج، ويرقع ما تخرق منه بالجدال ونحوه.
إن من الناس من لا يعرف من موجبات سخط الله، وأسباب عقوبته إلا المعاصي التي شددت الشريعة في النهي عنها؛ فإذا تابوا من عمل سيئ فإنما يتوبون منها؛ فهذه حالة عامة المؤمنين.(/4)
أما خاصة المؤمنين فحالهم أكمل وأتم، فهم يعرفون أن لكل عمل سيئ لوثةً في النفس تبعدها عن الكمال، ويرون أن لكل عمل صالح أثراً في النفس يقربها من الله - عز وجل - والتقصير في الصالحات يعد عند هؤلاء من الذنوب التي تهبط بالنفس، وتبعدها عن الله، فالنفس إذا قصرت فيها تتوب، وإذا استمرت لم تعمل من النقائص والعيوب.
ويختلف اتهام هؤلاء لأنفسهم باختلاف علمهم بصفات النفس، وما يعرض لها من الآفات في سيرها، وعلمهم بكمال الله، ومعنى القرب منه، واستحقاق رضوانه.
ولهذا ترى هؤلاء الكمَّل يسارعون في الخيرات، ويبادرون إلى التوبة والاستغفار؛ لشعورهم بالنقص في العمل، والتقصير في حق رب الأرض والسموات.
هذا وإن للاستغفار فضائلَ جمةً,وأسراراً بديعةً، وبركات متنوعةً فمن ذلك أنه طاعة لله، وأنه سبب لمغفرة الذنوب، ورفعة الدرجات، ونزول الأمطار ، والإمداد بالأموال والبنين ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً).
والاستغفار سبب في زيادة القوة، والمتاع الحسن، ودفع البلاء، وحصول الرحمة، قال ربنا - تبارك وتعالى -: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله).
وقال على لسان هود - عليه السلام -: (ويقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم ).
وقال - عز وجل - ( لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون).
قال لقمان - عليه السلام - لابنه: "يا بني عود لسانك الاستغفار؛ فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائلاً".
وقالت عائشة - رضي الله عنها -: "طوبى لمن وجد في صحفيته استغفاراً كثيراً".
وقال أبو المنهال: "ما جاور عبد في قبره من جار أحب إليه من استغفار كثير".
وقال الحسن -رحمه الله-: "أكثروا من الاستغفار في أسواقكم، وعلى موائدكم، وفي طرقاتكم؛ فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة".
وقال قتادة -رحمه الله-: "إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار".
وقال بعضهم: "فمن أهمته ذنوبه أكثر لها من الاستغفار".
ومما يدل على عظم شأن الاستغفار أن الله - عز وجل - جمع بينه وبين التوحيد في قوله - تبارك وتعالى -: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ).
وفي بعض الآثار أن إبليس قال: "أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بـ: لا إله إلا الله، والاستغفار".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "شهادة التوحيد تفتح باب الخير ، والاستغفار يغلق باب الشر".
وللاستغفار صيغٌ عديدةٌ أفضلها أن يبدأ العبد بالثناء على ربه، ثم يثني بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة، كما في حديث شداد بن أوس في صحيح البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
ومن صيغ الاستغفار: أستغفر الله الحي القيوم وأتوب إليه.
قال - عليه الصلاة والسلام - "من قاله غُفِر له وإن كان فر من الزحف".رواه أبو داود والترمذي، وجود إسناده المنذري في الترغيب والترهيب.
وفي كتاب عمل اليوم والليلة للنسائي عن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله: كيف نستغفر قال: "قل "اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا؛ إنك أنت التواب الرحيم".
وفيه - أيضاً - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ما رأيت أحداً أكثر أن يقول "أستغفر الله وأتوب إليه من رسول الله-صلى الله عليه وسلم-".
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: إن كنا لنعد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المجلس الواحد مائة مرة يقول: "ربي اغفر لي وتب علي؛ إنك أنت التواب الرحيم" رواه أحمد، وأبو داود، والبخاري في الأدب المفرد، والترمذي، وابن ماجة، وصححه ابن حبان.
ومن أخصر الصيغ، وأشهرها: أستغفر الله، ورب اغفر لي.
هذا هو الاستغفار، وهذا فضله، وتلك صيغه؛ فما أحرانا في نهاية حجنا أن تلهج ألسنتنا بالاستغفار، وما أجمل أن يكون الاستغفار لنا خير دثار فيما نستقبله من أيام.
اللهم تقبل منا، ومن المؤمنين، وتجاوز عن تفريطنا، وتقصيرنا.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد
مشهد الاضطرار والتذلل وانتظار الفرج في الحج
الشيخ/ محمد بن إبراهيم الحمد 7/12/1426
07/01/2006
فإن الحديث في الأسطر التالية سيدور حول مشاهدَ عظيمةٍ في الحج قريب بعضها من بعض، ألا وهي مشاهد الاضطرار والافتقار إلى الله، والتذلل والانكسار بين يديه، ومشهد انتظار الفرج منه - تبارك وتعالى -.
فالحاج وهو متلبس بتلك الشعيرة العظيمة يشعر بأنه مضطر إلى الله مفتقر إليه، خائف منه، راجٍ ما عنده، منكسرٌ بين يديه.(/5)
وهذا هو لب العبادة، ومقصودها الأعظم؛ فالافتقار إلى الله دون من سواه هو عينُ الغنى، والتذلل، والانطراح بين يديه هو العزُّ الذي لا يدانيه عز؛ فالله - تبارك وتعالى - يحب المنكسرة قلوبهم فيدنيهم، ويقرب منهم، بل هو - عز وجل - عند المنكسرة قلوبهم من أجله.
أخرج الإمام أحمد في الزهد عن عمرانَ بنِ موسى القصيرِ قال: قال موسى - عليه السلام -: "يا ربي أين أبغيك؟
قال: ابغني عند المنكسرة قلوبُهم من أجلي؛ فإني أدنوا منهم كل يوم باعاً، ولولا ذلك لا نهدموا".
ثم إن حاجة الإنسان، بل ضرورته إلى ربه لا تدانيها حاجة أو ضرورة؛ فإن في القلب جوعةً، وفقراً ذاتياً، وفاقةً وحاجةً لا يسدها إلا الإقبال على الله - عز وجل -.
وكلما اشتدت حاجة الإنسان إلى ربه، وعظمت ضرورته إليه، واشتد تحريه لإجابة دعائه - جاءه الفرج، وأقبل عليه اليسر؛ فانتظار الفرج من أجل العبوديات وأعظمها.
ما ضاق بالمرء أمر فاستعد له *** عبادةَ الله إلا جاءه الفرجُ
ولا أناخ بباب الله ذو ألمٍ *** إلا تزحزح عنه الهم والحرجُ
قال ابن القيم -رحمه الله-: "انتظار روح الفرج يعني راحته، ونسيمه، ولذته؛ فإن انتظاره، ومطالعته، وترقبه يخفف حمل المشقة لا سيما عند قوة الرجاء، أو القطع بالفرج؛ فإنه يجد في حشو البلاء من رَوْح الفرج، ونسيمه، وراحته ما هو من خفي الألطاف، وما هو فرج معجل".
وهذه المعاني العظيمة تُدرك بالحج، وينالها الحاج في كثير من المواطن والمناسك؛ فالحاج - على سبيل المثال - إذا رأي جموع الحجيج المزدحمة عند الطواف، والسعي، وفي رمي الجمار، أو في الطرقات ظن أن تلك الجموع لن تتفرق، وأنه لن يصل إلى مبتغاه من إكمال نسكه، وربما أدركه الضجر، وبلغت منه السآمة مبلغها، وربما أضمر في نفسه أنه لن يحج بعد عامه هذا، وما هي إلا مدة يسيرة ثم تنزاح تلك الجموع، ويتيسر أداء المناسك.
وفي هذا درس عظيم، وسر بديع يتعلم منه الحاج عبودية انتظار الفرج؛ فلا ييأسُ بعد ذلك من روح الله، وقرب فرجه مهما احلولكت الظلمة، ومهما استبد الألم سواء في حاله أو حال أمته.
بل يكون محسناً ظنه بربه، منتظراً فرجه، ولطفه، وقرب غِيَره.
ولا بعد في خير الله وفي الله مطمع ولا يأس من روح وفي القلب إيمان
ولئن كانت تلك المعاني - أعني الافتقار، والتذلل، وانتظار الفرج - لئن كانت ظاهرةً مستفادةً من كثير من مناسك الحج - فلهي أشد ظهوراً في نسك السعي بين الصفا والمروة؛ حيث يتجلى هذا الأمر؛ إذ هو الحكمة الخاصة للسعي؛ فالحكمة العامة من السعي إقامة ذكر الله.
أما الخاصة فهو حصول هذا المعنى العظيمِ، والسرِّ البديعِ - كما أشار إلى ذلك العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -.
قال - عليه رحمة الله - في تفسيره: "أما حكمة السعي فقد جاء النص الصحيح ببيانها، وذلك هو ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قصة ترك إبراهيم هاجر وإسماعيل في مكة، وأنه وضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاءاً فيه ماء.
وفي الحديث الصحيح المذكور: "وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوَّا - أو قال يتلبط - فانطلقت؛ كراهية أن تنظر إليه؛ فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً؛ فلم تَرَ أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فذلك سعي الناس بينهما" الحديث.
وهذا الطرف الذي ذكرنا من هذا الحديث سقناه بلفظ البخاري -رحمه الله- في صحيحه.
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الصحيح: "فذلك سعي الناس بينهما" فيه الإشارة الكافية إلى حكمة السعي بين الصفا والمروة؛ لأن هاجر سعت بينهما السعي المذكور، وهي في أشد حاجة، وأعظم فاقة إلى ربها؛ لأن ثمرة كبدها وهو ولدها إسماعيل تنظره يتلوّى من العطش في بلد لا ماء فيه ولا أنيس، وهي - أيضاً - في جوع وعطش في غاية الاضطرار إلى خالقها - جل وعلا - وهي من شدة الكرب تصعد على هذا الجبل؛ فإذا لم تر شيئاً جرت إلى الثاني فصعدت عليه لترى أحداً؛ فأُمر الناسُ بالسعي بين الصفا والمروة؛ ليشعروا بأن حاجتهم، وفقرهم إلى خالقهم ورازقهم كحاجة وفقر تلك المرأة في ذلك الوقت الضيِّق، والكرب العظيم إلى خالقها ورازقها، وليتذكروا أن من كان يطيع الله كإبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - لا يضيعه ولا يخيب دعاؤه.
وهذه حكمة بالغة ظاهرة دل عليه حديث صحيح" انتهى كلام العلامة الشنقيطي -رحمه الله-.(/6)
فيا أيها الحاج: استحضر هذا الدرسَ العظيم، والحكمة البالغة؛ فما دمت مطيعاً لله، مفتقراً إليه، ملازماً دعائه فلا تيأسن من لطفه؛ فإذا أَلَمَّت بك مصيبة، أو نزل بك بلاء، أو ركبك دين، أو لازمك مرض سواء في نفس أو ولدك أو من تحب - فانتظر فرج ربك - جل وعلا -.
وإذا رأيت أمتك تسام الخسف، ويتطاول عليها الأعداء، ورأيت إخوانك المسلمين وهم يعانون الأمرَّين - فلا تركن إلى خاطر اليأس، ولا تظننَّ أن الليل ليس له آخر.
بل كن متفائلاً حسن الظن؛ فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين.
وهكذا يفيد الحاج الدرس العظيم من الحج، ألا وهو الافتقار إلى الله - تبارك وتعالى - والتذلل والانكسار بين يديه، وانتظار فرجه - عز وجل -.
اللهم آمن روعاتنا، واستر عوراتنا، واختم بالسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.
مشهد التوبة في الحج
الشيخ/ محمد بن إبراهيم الحمد 7/12/1426
07/01/2006
فإن التوبة وظيفة العمر، وبداية العبد ونهايته، وأول منازل العبودية، وأوسطها، وآخرها.
والحديث ههنا سيكون حول مشهد التوبة في الحج؛ فالحديث عن التوبة جميل في كل وقت؛ فكيف إذا كان الحديث عنها في مثل هذه الأيام المباركة التي يتوب فيها الغاوون، ويُقْصِرُ المتمادون، ويكثر التائبون العائدون؟.
فما أجمل بالحاج بعد أن قام بأعمال الحج، وختمها بالذكر والاستغفار أن يطبع عليها بطابع التوبة النصوح.
أيها الحاج الكريم: لقد فتح الله بمنه وكرمه باب التوبة؛ حيث أمر بها، ووعد بقبولها مهما عظمت الذنوب، قال الله - تبارك وتعالى -: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ).
وقال - عز وجل -: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ).
وقال في حق أصحاب الأخدود الذين حفروا الحفر لتعذيب المؤمنين، وتحريقهم بالنار: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ).
قال الحسن -رحمه الله-: "انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة".
بل إنه - عز وجل - حذر من القنوط من رحمته، فقال: (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله – عز وجل-".
أما فضائل التوبة، وأسرارها، وبركاتها فمتعددة متنوعة متشعبة؛ فالتوبة سبب الفلاح، وطريق السعادة، وبالتوبة تكفر السيئات، وإذا حسنت بدَّل الله سيئاتِ صاحبها حسنات.
وعبودية التوبة من أحب العبوديات إلى اللهِ, واللهُ - تبارك وتعالى - يفرح بتوبة التائبين, قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري ومسلم: "لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومةً، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله.
قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومةً، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده".
ولم يجئ هذا الفرح في شيء من الطاعات سوى التوبة، ومعلوم أن لهذا الفرح تأثيراً عظيماً في حال التائب وقلبه، ومزيدُ هذا الفرح لا يُعبر عنه.
ومن فضائل التوبة: أنها توجب للتائب آثاراً عجيبة من مقامات العبودية التي لا تحصل بدون التوبة؛ فتوجب للتائب رقةً ومحبةً ولطفاً، وتوجب له شكر الله، وحمده، والرضا عنه؛ فَرُتِّب له على ذلك أنواع من النعم لا يهتدي العبد إلى تفاصيلها، بل لا يزال يتقلب في بركاتها وآثارها مالم ينقضها أو يفسدها.
من المسائل في باب التوبة: مسألة التخلص من الحقوق , والتحلل من المظالم؛ فالتوبة تكون من حق الله، وحقِّ العباد، فحقُّ الله- تعالى - يكفي في التوبة منه أن يترك ما كان يفعله من النواهي، وأن يفعل ما كان يتركه من الأوامر.
ومن حقوق الله ما يجب فيه مع التوبةِ القضاءُ والكفارةُ كما هو مفصّلٌ في مواضعه.
وأما حق غير الله فَيَحْتَاجُ إلى التحلل من المظالم فيه، وإلى أداء الحقوق إلى مستحقيها، وإلا لم يحصلِ الخلاصُ من ضرر ذلك الذنب.
قال النبي: -صلى الله عليه وسلم-: "من كان لأخيه عنده مظلمة من مال، أو عرض؛ فليتحلَّلْهُ اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات" أخرجه البخاري.
ولكن من لم يَقْدِرْ على الإيصال بعد بذله الوُسعَ في ذلك؛ فعفو الله مأمول، فإنه يضمن التبعاتِ، ويبدل السيئاتِ حسناتٍ.(/7)
ومن لطائف التوبة أن التوبةَ واجبةٌ ومستحبةٌ؛ فالتوبةُ الواجبةُ تكون من فعلِ المحرماتِ وترك الواجباتِ، والتوبةُ المستحبةُ تكون من فعل المكروهات وتركِ المستحبات؛ فمن اقتصر على التوبة الأولى كان من المقتصدين الأبرار، ومن تاب التوبتين كان من السابقين المقربين، ومن لم يأتِ بالأولى الواجبة؛ كان من الظالمين.
ومن المسائل في باب التوبة مسألة التوبةُ النصوحِ، وهي الخالصةُ، الصادقةُ، الناصحةُ الخاليةُ من الشوائب و العلل؛ وهي التي تكون من جميع الذنوب؛ فلا تَدَعُ ذنباً إلا تناولتْه، وهي التي يَجْمَعُ صاحبُها العزمَ والصدقَ بكُلِّيته؛ فلا يبقى عنده تردُّدٌ ولا تَلوُّم، ولا انتظار، وهي التي تقعُ لمحض خوف الله، وخشيته، والرغبة مما لديه، والرهبة مما عنده؛ فمن كانت هذه حالَهُ غُفِرَتْ ذنوبُه كلُّها، وإذا حَسُنَتْ توبتُه بَدّلَ اللهُ سيئاتِه حسنات.
ومن اللطائف في هذا الباب مسألةُ التوبةِ الخاصة، وهي التي تكون من بعض الذنوب؛ فالواجب على العبد أن يتوب من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها.
لكن إذا تاب من بعضها مع إصراره على بعضها الآخر - قُبِلَتْ توبتُه مما تاب منه ما لم يُصِرَّ على ذنبٍ آخرَ من نوعه.
مثال ذلك: أن يتوب من الرّبا وهو مصر على شرب الخمر، فتقبل توبته من الربا وهكذا.
وقد يُتَصَوَّر أن يتوب الإنسانُ من الكثير من الذنوب دون القليل منها؛ لأن لكثرة الذنوب تأثيراً في كثرة العقوبة، وصعوبة التوبة.
وبالجملة فكلُّ ذنبٍ له توبةٌ خاصةٌ، وهي فرضٌ منه لا تتعلق بالتوبة من غيره؛ فهذه هي التوبةُ الخاصةُ، وحكمها: أنها تَصِحُّ فيما تاب منه؛ شريطةَ أن يكون التائب باقياً على أصل الإيمان.
وسر المسألة: أن التوبة تَتَبَعَّضُ كالمعصية؛ فيكون تائباً من وجه دون وجه.
ومن اللطائف في باب التوبة مسألةُ رجوعِ الحسناتِ إلى التائب بعد التوبة؛ فإذا كان للعبد حسناتٌ، ثم عمل بعدها سيئاتٍ استغرقت حسناتِه القديمةَ وأَبْطَلَتْها، ثم تاب بعد ذلك توبة نصوحاً - عادت إليه حسناتهُ القديمةُ، ولم يكن حكمُه حكمَ المستأنف لها بل يقال: تُبْتَ على ما أسلفتَ من خير؛ فالحسنات التي فَعَلْتَها في الإسلام أعظمُ من الحسنات التي يفعلها الكافر في كفره، من عتاقة، وصِدْقِة، وصِلَةٍ، وبر.
قال حكيم بن حزام -رضي الله عنه- "قلت يا رسول الله، أرأيتَ أشياءَ كنت أتحنَّث بها - يعنى أتعبدُّ بها - في الجاهلية من صَدقة، أو عتاقة، أو صلة رحم؛ فهل فيها من أجر؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير" رواه البخاري ومسلم.
قال ابن حجر -رحمه الله- في شرح الحديث: "لا مانع من أن يضيف الله إلى حسناته في الإسلام ثوابَ ما كان صدر منه في الكفر؛ تفضّلاً وإحساناً" ا-هـ.
وقال ابن القيم -رحمه الله- مبيّناً العلة في ذلك: "وذلك لأن الإساءةَ المُتَخَلِّلَة بين الطاعتين قد ارتفعت بالتوبة، وصارت كأنها لم تكن؛ فتلاقت الطاعتان، واجتمعتا، والله أعلم" ا-هـ.
ومن اللطائف في باب التوبة: مسألةُ رجوعِ التائبِ إلى حاله ومقامه قبل المعصية؛ فقد يكون للعبد حالٌ، أو مقامٌ مع الله، ثم ينزل عنه بسبب ذنبٍ ارتكبه، ثم بعد ذلك يتوب من ذلك الذنب، فهل يعود بعد التوبة إلى مثل ما كان، أو لا يعود، أو يعود إلى أنقص من رتبته، أو يعود خيراً مما كان؟.
والجواب: أن من التائبين من يعود إلى مثل حاله الأول، ومنهم من يعود إلى أكملَ من حاله، ومنهم من يعود إلى أنقصَ مما كان؛ فإن كان بعد التوبة خيراً مما كان قبل الخطيئة، وأشدَّ حذراً، وأعظم تشميراً، وأعظم ذلاً وخشية وإنابة - عادَ إلى أرفعَ مما كان.
وإن كان قبل الخطيئةِ أكملَ في هذه الأمور، ولم يعد بعد التوبة إليها عاد أنقص مما كان عليه.
وإن كان بعد التوبةِ مثلَ ما كان قبل الخطيئة - رجع إلى منزلته.
وهذا ما رجّحه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في هذه المسألة.
وعلى هذا؛ فإنه ينبغي التفطُّنُ لهذه المسألة، خصوصاً من كان له حالٌ مع الله، وكان ذا خشيةٍ، وعلمٍ، وتألُّهٍ، ومسارعة إلى الخيرات، وحرص على الدعوة ونحو ذلك، ثم طاف به طائف من الشيطان، فأزلَّه، وأغواه، وطوَّح به عن قصد السبيل، فنزل عن رتبته السابقة، وفقد أُنْسَه بالله، ودبَّ إلى الضّعف والفتور وترك ما كان يقوم به من خير ومسارعة.
فهذه مسألة تعتري كثيراً من الناس، فيستسلمون لها، ويركنون إلى خاطر اليأس، ويرضون بالدّون، فيظنون أنهم لا يمكن أن يرجعوا إلى حالتهم السابقة من الخير، والقرب من الله!.
فعلى من وقعت له تلك الحال ألا يستسلم للشيطان، وألا ييأس من رجوعه إلى ما كان عليه من منزلة؛ بل عليه أن يجتهد بالتوبة النّصوح، وأن يشمّر عن ساعد الجدِّ؛ لتدارك ما فات بالأعمال الصالحات؛ فلربما عاد إلى مقامه وحاله السابق، بل ربما عاد أكمل مما كان عليه، وليس ذلك ببعيد على من كان ذا نفس شريفة، وهمة عالية.(/8)
ولا بُعدَ في خيرٍ وفي الله مطمعٌ ولا يأسَ من رَوْحٍ وفي القلب إيمانُ
أيها الحجاج الكرام: مسائل التوبة كثيرة، ولطائفها متنوعة، وأسرارها بديعة عديدة لا يتّسع لها هذا الوقت اليسير.
اللهم إننا نسألك التوبة النصوح التي ترضيك عنا.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
مشهد الشكر في الحج
الشيخ/ محمد بن إبراهيم الحمد 7/12/1426
07/01/2006
قال الله - عز وجل -: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ).
وقال - تبارك وتعالى -: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
ففي الآيتين السابقتين إشارة إلى واجب الشكر لله - تبارك وتعالى - قال العلامة عبدالرحمن السعدي -رحمه الله- في قوله - تعالى -:(وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ) "أي اذكروا الله - تعالى - كما منّ عليكم بالهداية بعد الضلال، وكما علمكم مالم تكونوا تعلمون؛ فهذه من أكبر النعم التي يجب شكرها، ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان".
وقال في تفسير الآية الثانية عند قوله - تعالى -: (كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) قال: "لعلكم تشكرون الله على تسخيرها فإنه لولا تسخيرها لم يكن لكم بها طاقة، ولكنه ذللها لكم، وسخرها؛ رحمة بكم وإحساناً إليكم فاحمدوه" ا-هـ.
هذا وإن كثيراً من النصوص جاءت مبينة منزلة الشكر، حاثةً على ملازمته؛ فالشكر من أجل العبوديات، وأعلى المنازل؛ إذ هو نصف الإيمان، فالإيمان صبر وشكر.
وقد أمر الله بالشكر، ونهى عن ضده، وأثنى على أهل الشكر، ووصف به خاصة خلقه، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سبباً للمزيد من فضله، وحارساً وحافظا لنعمته، وأخبر- عز وجل- أن أهل الشكر هم المنتفعون بآياته.
والشكرُ قيدُ النعم الموجودةِ، وصيدُ النعمِ المفقودة.
وحقيقة الشكر هوَ ظهورُ أثرِ نعمةِ اللهِ على لسان عبده ثناءاً واعترافاً، وعلى قلبه شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه انقياداً وطاعة.
والمؤمن حقاً هو مَنْ يلازم الشكرَ في شتى أحواله؛ فإذا نزل به ما يحب شكر الله عليه؛ إذْ هو المنعمُ المتفضل، وإذا نزل به ما يكره شكر الله على ما قدره عليه؛ كظماً للغيظ، وستراً للشكوى، ورعاية للأدب، وسلوكاً لمسلك العلم؛ فإن العلم بالله والأدب معه يأمران بشكر الله على المحاب والمكارة، وإن كان الشكر على المكارة أشقَّ وأصعب.
هذا وإن من أعظم الدروس المستفادة من الحج انبعاثَ عبودية الشكر لله - عز وجل - فالحاج على سبيل المثال يرى المرضى، والمعاقين، والعميان، ومقطعي الأطراف وهو يتقلب في أثواب الصحة والعافية؛ فينبعث بذلك إلى شكر الله - عز وجل - على نعمة العافية.
ويرى ازدحام الحجيج، وافتراشهم الأرض، وربما لا يستطيع الحاج أن يجد مكاناً يجلس فيه؛ فيتذكر نعمة المساكن الفسيحة التي يسكن فيها؛ فينبعث إلى شكر الله على ذلك.
ويرى الفقراء والمعوزين؛ فينبعث إلى شكر الله على نعمة المال والغنى، ويرى نعمة ربه عليه أن يسر له الحج الذي تتشوق إليه نفوس الكثيرين من المسلمين، ولكنهم لا يستطيعون إليه سبيلاً؛ فيشكر الله - عز وجل - أن يسر له الحج، وأعانه على أداء مناسكه، بل ويرى نعمة ربه عليه أن جعله من المسلمين؛ فينبعث إلى شكر نعمة الإسلام، ويعض عليها بالنواجذ، ويثني عليها بالخناصر؛ لأن نعمة الإسلام لا تَعْدِلها نعمةٌ البتة, وهكذا تكون عبودية الشكر في الحج؛ فيكون الحاج من الشاكرين وإذا كان كذلك درت نعمه وقرت.
وإليكم هذه القصة العجيبة في الشكر: جاء في كتاب الثقات لابن حبان -رحمه الله- في ترجمة التابعي الجليل أبي قلابة ما نصه: "أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي من عباد أهل البصرة وزهادهم، يروي عن أنس بن مالك، ومالك بن الحويرث، وروى عنه أيوب وخالد مات بالشام سنة 104هـ في ولاية يزيد بن عبد الملك.
حدثني بقصة موته محمد بن المنذر بن سعيد، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق بن الجراح، قال: حدثنا الفضل بن عيسى عن بقيه بن الوليد، قال: حدثنا الأوزاعي عن عبد الله بن محمد، قال: خرجت إلى ساحل البحر مرابطاً، وكان رابطُنا يومئذ عريشَ مصر, قال: فلما انتهيت إلى الساحل, فإذا أنا ببطيحة، وفي البطيحة خيمة فيها رجل قد ذهبت يداه ورجلاه، وثقل سمعه وبصره، ومالَهُ من جارحة تنفعه إلا لسانُه وهو يقول: اللهم أوزعني أن أحمدك حمداً أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت عليَّ بها، وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا.(/9)
قال الأوزاعي: قال عبد الله قلت: والله لآتين هذا الرجل ولأسألنه أنى له هذا الكلام: فَهْمٌ أم علم؟ أم إلهام ألهم؟.
فأتيت الرجل فسلمت عليه فقلت: سمعتك وأنت تقول: اللهم أوزعني أن أحمدك حمداً أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها علي، وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلاً, فأي نعمة من نعم الله عليك تحمده عليها؟ وأي فضيلة تفضَّل بها عليك تشكره عليها؟.
قال: وما ترى ما صنع بي ربي؟ والله لو أرسل السماء علي ناراً فأحرقتني, وأمر الجبال فدمرتني, وأمر البحار فأغرقتني, وأمر الأرض فبلعتني, ما ازددت لربي إلا شكراً؛ لما أنعم علي من لساني هذا, ولكن ياعبد الله إذ أتيتني لي إليك حاجة, قد تراني على أي حالة أنا، أنا لست أقدر لنفسي على ضر ولا نفع, ولقد كان معي بُنَيٌّ لي يتعاهدني في وقت صلاتي, فيوضيِّني, وإذا جعت أطعمني, وإذا عطشت سقاني, ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام فتحسسه لي رحمك الله.
فقلت: والله ما مشى خلق في حاجة خلق كان أعظم عند الله أجراً ممن يمشي في حاجة مثلك, فمضيت في طلب الغلام, فما مضيت غير بعيد حتى صرت بين كثبان من الرمل, فإذا أنا بالغلام قد افترسه سبُعٌ وأكل لحمه, فاسترجعت وقلت: أنى لي وجهٌ رقيقٌ آتي به الرجل, فبينما أنا مقبل نحوه إذ خطر على قلبي ذكرُ أيوب النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما أتيته سلمت عليه, فرد عليَّ السلام, فقال: ألست بصاحبي؟ قلت: بلى! قال: ما فعلت في حاجتي؟ فقلت: أنت أكرم على الله أم أيوب النبي؟ قال: بل أيوب النبي, قلت: هل علمت ما صنع الله به, أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده؟ قال: بلى! قلت:فكيف وجده؟ قال: وجده صابراً شاكراً حامداً, قلت:لم يرض منه ذلك حتى أوحش من أقربائه وأحبابه قال: نعم, قلت فكيف وجده ربه؟ قال: وجده صابراً شاكراً حامداً, قلت: فلم يرض منه بذلك حتى صيَّره عرضاً لمارِّ الطريق هل علمت؟ قال: نعم, قلت فكيف وجده ربه؟ قال: صابراً شاكراً حامداً, أوجز رحمك الله! قلت له: إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كثبان الرمل وقد افترسه سبع, فأكل لحمه؛ فأعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر.
فقال المبتلى: الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خلقاً يعصيه؛ فيعذبه بالنار, ثم استرجع, وشهق شهقة فمات, فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون, عظمت مصيبتي, رجل مثل هذا إن تركته أكلته السباع, وإن قعدت لم أقدر له على ضر ولا نفع, فسجَّيته بشمله كانت عليه, وقعدت عند رأسه باكياً, فبينما أنا قاعد إذ تهجَّم عليَّ أربعة رجال فقالوا: ياعبدالله! ما حالك وما قصتك؟ فقصصت عليهم قصتي وقصته, فقالوا لي: اكشف لنا عن وجهه فعسى أن نعرفه, فكشفت عن وجهه؛ فانكب القوم عليه يقبلون عينيه مرة, ويديه أخرى ويقولون: بأبي عين طال ما غضت عن محارم الله, وبأبي وجسمه طال ما كنتَ ساجداً والناس نيام, فقلت: من هذا يرحمكم الله؟ فقالوا: هذا أبو قلابة الجرمي صاحب ابن عباس, لقد كان شديد الحب لله وللنبي -صلى الله عليه وسلم- فغسلناه وكفناه بأثواب كانت معنا, وصلينا عليه ودفناه, فانصرف القوم وانصرفت إلى رباطي, فلما أن جنَّ الليل وضعت رأسي, فرأيته فيما يرى النائم في روضة من رياض الجنة, وعليه حلتان من حلل الجنة وهو يتلو الوحي: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) فقلت: ألست بصاحبي قال بلى قلت: أنى لك هذا؟ قال: إن لله درجات لا تنال إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء مع خشية الله عزوجل بالسر والعلانية".
اللهم اجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر, وإذا أذنب استغفر.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.
مشهد الصبر في الحج
الشيخ/ محمد بن إبراهيم الحمد 7/12/1426
07/01/2006
الحديث ههنا سيكون حول مشهد عظيم من مشاهد الحج ، ودرس نافع من دروسه المفيدة، ذلكم هو الصبر؛ فالحج مدرسة للصبر، وميدان فسيح للتدرب على هذا الخلق الكريم؛ فالحاج يتدرب عملياً على الصبر بجميع أنواعه الثلاثة وهي: الصبر على طاعة الله، والصبر عن محارم الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة .(/10)
فالحاج يصبر على بذل المال، وبذل الجهد البدني، ويصبر على ما يلاقيه من فراق الأهل والأولاد والبلاد والأملاك، ويصبر على ما يواجهه من إرهاق وتعب ونصب وزحام في سبيل الوصول إلى البيت العتيق، وأداء النسك، ويصبر عن ملاذه التي تحرم عليه حال الإحرام من نساء وطيب ونحو ذلك، ويصبر على ضبط نفسه عن الغضب؛ خوفاً من فساد حجه أو نقصان أجره، ويصبر على قلة النوم، وكثرة التنقل ونحو ذلك مما يصبر عليه وهكذا يتبين لنا عظم الارتباط بين الحج والصبر، ويتضح لنا أن الحج سبيل إلى اكتساب ذلك الخلق العظيم الذي أمر الله به وأعلى مناره، وأكثر من ذكره في كتابه، وأثنى على أهله القائمين به؛ ووعدهم بالأجر الجزيل عنده، قال الله - تبارك وتعالى -: (واصبر وما صبرك إلا بالله) وقال ـ عز وجل ـ (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)، وقال -عز وجل -:(يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفحلون) وقال - عز وجل-:(وبشر الصابرين).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه :"ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءاً أعظم ولا أوسع من الصبر" وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "وجدنا خير عيشنا الصبر " وقال: "أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريماً" وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "الصبر مطية لا تكبو" وقال الحسن -رحمه الله-: "الصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبدٍ كريم عنده".
معاشر المؤمنين: الحاج المحتسب إذا أوذي أو شتم لا يغضب، ولا يقابل الإساءة بمثلها، ولا تضطرب نفسه، ولا يثور لأتفه الأسباب؛ كحال من لم يتسلح بالصبر؛ فترى الواحد من هؤلاء يخرج عن طوره وتثور نفسه وتضطرب أعصابه.
أما الحاج المحتسب فتراه هادئ النفس، ساكن الجوارح، رضي القلب.
والحاج المحتسب يطرد روح الملل؛ لأن حجه لله وصبره بالله، وجزاء ه على الله.
والأمة التي تدرك من الحج أفضل المعاني تتعلم الانضباط، والصبر على النظام، والتحرر من أسر العادات.
وهكذا يتبين لنا أثر الحج في اكتساب خلق الصبر؛ فإذا تحلى الإنسان به كان جديراً بأن يفلح في حياته، وأن يقدم الخير العميم لأمته، ويترك فيها الأثر الكبير، وإن عَطُل من الصبر فما أسرع خوره، وما أقل أثره.
ثم إن الإنسان أي إنسان لابد له من الصبر إما اختياراً، وإما اضطرارً؛ ذلك أنه عرضه لكثير من البلاء في نفسه بالمرض، وفي ماله بالضياع، وفي أولاده وأحبته بالموت، وفي حياته العامة بالحروب وتوابعها من فقدان كثير من حاجاته التي تعوَّدها في حياته؛ فإذا لم يتعوَّدِ الصبر على المشاق، وعلى ترك ما يألف وقع صريع تلك الأحداث.
وكذلك حال الإنسان مع الشهوات؛ فهي تتزين له وتغريه، وتتمثل له بكل سبيل؛ فإذا لم يكن معه رادع من الصبر ووازع من الإيمان أوشك أن يتردى في الحضيض.
ومن كان متصدياً للدعوة إلى الإصلاح منبرياً للدفاع عن الحق فما أشد حاجته إلى الصبر، وتوطين نفسه على المكاره؛ فإن في تلك السبيل عقبةً كؤوداً لا يقتحمها إلا ذو الهمم الكبيرة؛ فإن في طوائف المبطلين أو المفسدين نفوساً طاغية، وأحلاماً طائشة، وألسنةً مقذعة، وربما كانت فيهم أيدٍ باطشة، وأرجلٌ إلى غير الحق ساعية.
وإنما تعظم همة الداعي إلى الحق والإصلاح بقدر صبره،وبقدر ما يتوقعه من فقد محبوب أو لقاء مكروه؛ فلابد لأهل الحق من الصبر على دعوة الناس، ولابد لهم من الصبر في انتظار النتائج؛ لأن استعجال الثمرة قد يؤدي إلى نتائج معاكسة تضر أكثر مما تنفع؛ فالصبر إذا اقترن بالأمر كان عصمةً للداعية من الانقطاع، وتفجرت بسببه ينابيع العزم والثبات.
إنه الصبر المترع بأنواع الأمل العريض، والثقة بمن بيده ملكوت كل شيء ليس صبر اليائس الذي لم يجد بداً من الصبر فصبر، ولا صبر الخانع الذليل لغير ربه - جل وعلا-.
وبالجملة فإن الصبر من أعظم الأخلاق وأجل العبادات، وإن أعظمَ الصبر وأحمدَه عاقبة الصبرُ على امتثال أمر الله، والانتهاء عما نهى عنه؛ لأن به تخلُص الطاعة، ويصِحُّ الدين، ويستَحَقُّ الثواب؛ فليس لمن قل صبره على الطاعة حظٌ من بر، ولا نصيب من صلاح.
ومن الصبر المحمود: الصبر على ما فات إدراكه من رغبة مرجوة، وأعوز نيله من مسرة مأمولة ؛ فإن الصبر عنها يعقب السلو منها، والأسف بعد اليأس خُرْقُ.
ومن جميل الصبر: الصبر فيما يخشى حدوثه من رهبة يخافها ؛ أو يحذر حلوله من نكبة يخشاها؛ فلا يتعجل هم ما لم يأت فإن أكثر الهموم كاذبة، وإن الأغلب من الخوف مدفوع.
ومن جميل الصبر: الصبر على ما نزل من مكروه، أو حل من أمر مخوف؛ ففي الصبر في هذا تنفتح وجوهُ الآراء، وتُسْتَدْفَعُ مكائدُ الأعداء ؛ فإن من قل صبره عَزُبَ رأيه، واشتد جزعه؛ فصار صريع همومه، وفريسة غمومه.(/11)
وكما أن الأفراد بأمس الحاجة إلى الصبر فكذلك الأمة؛ فأمة الإسلام كغيرها من الأمم لا تخرج عن سنن الله الكونية؛ فهي عرضة للكوارث والمحن، وهي في الوقت نفسه مكلفة بمقتضى حكم الله الشرعي بحمل الرسالة الخالدة، ونشر الدعوة المباركة، وتحمُّل جميع ما تلاقيه في سبيلها برحابة صدر، وقوة ثبات، ويقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين.
وهي كذلك مطالبة بالجهاد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله، ونشر دين الله، وإزاحة ما يقف في وجه الدعوة من عقبات؛ فلابد لها من الجهاد الداخلي الذي لا يتحقق إلا بمجاهدة النفس والهوى، وهذا الجهاد لا يتحقق إلا بخلق الصبر، ومغالبة النفس والشيطان والشهوات؛ فذلك هو الجهاد الداخلي الذي يؤهل للجهاد الخارجي؛ لأن الناس إذا تركوا طباعهم وما أودع فيها من حب للراحة وإيثار للدعة، ولم يشد أزرهم بإرشاد إلهي تطمئن إليه نفوسهم، ويثقون بحسن نتائجه - عجزت كواهلهم عن حمل أعباء الحياة، وخارت قواهم أمام مغرياتها، وذاب احتمالهم أمام ملذاتها وشهواتها؛ فيفقدون كل استعداد لتحصيل السمو والعزة، والمنزلة اللائقة؛ فلهذا اختار الله لهم من شرائع دينه ما يصقل أرواحهم، ويزكي نفوسهم، ويمحص قلوبهم، ويربي ملكات الخير فيهم.
ومن أعظم الشرائع التي يتحقق بها ذلك المقصود شريعة الحج.
ومن هنا كان الحج من أعظم أنواع الجهاد؛ كما جاء ذلك في الحديث الصحيح.
فيا أيها المسلمون: هذا هو الحج يعلمنا الصبر، ويربينا على خلق الصبر؛ فليكن لنا منه أوفر الحظ والنصيب، وليكن زاداً فيما نستقبله من أعمارنا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أثر الحج في اكتساب العزة
الشيخ/ محمد بن إبراهيم الحمد 7/12/1426
07/01/2006
العزة خصلة شريفة، وخلة حميدة، وخلق رفيع، وأدبٌ سامٍ تعشقها قلوب الكرام، وتهفو إلى اكتسابها النفوس الكبار.
وإن الإسلام لدين العزة والكرامة، ودين السمو والارتفاع ، ودين الجد والاجتهاد ؛ فليس دين ذلة ومسكنة ، ولا دين كسل وخمول ودعة.
هذا وإن موسمَ الحجِّ لميدانٌ فسيح لاكتساب العزة والتحلي بها، وذلك من وجوه عديدة متنوعة؛ فالحاج على سبيل المثال ينال هذا الخلقَ من جرَّاء حجِّه، وتركه لبعض شهواتِه المباحةِ فضلاً عن المحرمة؛ فتراه يدع النساء، والطيب، والزينة إلى غير ذلك من محظورات الإحرام.
وهذا يبعثه إلى الترفع عن الدنايا ومحقرات الأمور، ويطلقه من أسر العادات وأهواء النفوس.
وينال العزة كذلك من جراء بعده عن الجدال، والمراء، والجهل، والرفث، والصخب، والإساءة إلى الناس؛ امتثالاً لقوله - تعالى -: (الحج أشهرٌ معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).
وإذا كان الحاج كذلك حفظ على نفسه عزتها وكرامتها، ورفعها عن مجاراة الطائفة التي تلذ المهاترة والإقذاع.
وينال المؤمنُ العزةَ في هذا الموسم العظيم من جراء حجه، وكثرة أعماله الصالحة، وانقطاعه عما سوى الله - تبارك وتعالى - وهذا هو سر العزة الأعظم؛ إذ ينال بسبب ذلك عزةَ نفسٍ، وزيادةَ إيمانٍ، واتصالاً وقرباً من الرحمن (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين).
وينال المسلمون عموماً العزة في الحج؛ بسبب تحقيق الأخوة الإسلامية فيه؛ فالرب واحد، والقبلة واحدة، والمشاعر واحدة، واللباس واحد، والمناسك واحدة، والزمان واحد.
فهذه الأمور وغيرها تجتمع في الحج، وهي مدعاة للإحساس بوَحْدَة الشعور، وموجِبَةٌ للتآخي والتعاون على مصالح الدين والدنيا، وهذا بدوره يضفي على المسلمين عزة، وجلالاً، وهيبة ً، ووقاراً.
وينال المسلم العزة من جراء تَذَكُّره الآخرة؛ فإذا رأى الحاج ازدحام الناس، ورأى بعضهم يموج في بعض وهم في صعيد واحد، وبلباس واحد، وقد حسروا عن رؤوسهم، وتجردوا عن ثيابهم، ولبسوا الأردية والأزر، وتجردوا من ملذات الدنيا ومتعتها - تَذَكَّر يوم حشره على ربه؛ فيبعثه ذلك إلى الاستعداد للآخرة، ويقوده إلى استصغارِه لمتاع الدنيا، ويرفعه عن الاستغراق فيها، ويُكْبِرُ بهمته عن جعلها قبلةً يولي وجهه شطرها حيث ما كان.
وهكذا يستفيد الحاج من هذه الحكمة العظمى درساً يقوده إلى الكرامة، وينأى به عن الذلة والمهانة.
وينال المؤمنون العزة في هذا الموسم كذلك بسبب كثرة إنفاقهم وإحسانهم إلى الفقراء والمعوزين؛ وذلك إما بذلاً مباشراً،أو من خلال الهدايا والقرابين، قال الله - عز وجل-: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر).
فالقانع: هو الفقير الذي لا يسأل؛ تقنُّعاً وتعففاً، والمعتر: هو الفقير الذي يسأل؛ فكل منهما له حق فيها.
وفي ذلك صيانة للوجوه من السؤال، وإنقاذ لكثير من الناس من عوز الفقر، وذلة الحاجة اللذين قد ينجرفان بهم إلى فساد الأخلاق وضيعة الآداب.
وهكذا يتبين لنا أثر الحج في اكتساب العزة سواء للأفراد أو للأمة.(/12)
وما أحوجنا، وما أحوج أمتنا إلى هذا الخلق العظيم الذي أرشدنا إليه ديننا، وحثنا على التحلي به، ووجهنا إلى اكتسابه، وبين لنا جميع السبل الموصلة إليه.
ومن مظاهر تربية الإسلام للمسلمين على هذا الخلق - أن وجههم إلى إفراد الله بالمسألة دقت أو جلت، كثرت أو قلت.
ومن ذلك توجيه المسلمين إلى الكسب المباح عن طريق الكدح والعمل، والمشي في مناكب الأرض؛ حتى يعف الإنسان نفسه، ويستغني عن غيره.
كما وجههم في المقابل إلى أن يترفعوا عن مسألة الناس، ونفرَّهم من ذلك الخلق الذميم إلا من كان مضطراً أو متحملاً حمالة ، أو من أصابته جائحة، أو فاقة، أو نحو ذلك.
كما أرشدهم إلى أن اليد العليا خير من اليد السفلى؛ فمنع القادر على الكسب من بسط كفه للاستجداء إذا كان في استجدائه إراقة لماء وجهه.
بل إن من أحكام الشريعة إباحة التيمم للمكلف وعدم إلزامه بقبول هبة ثمن الماء؛ لما في ذلك من المنة التي تنقص حظاً وافراً من أطراف الهمة الشامخة.
بل ومنها عدم إلزام الإنسان باستهابة ثوب يستر به عورته في الصلاة؛ صيانة لضياء وجهه من الانكساف بسواد المطالب.
ومن الأحكام القائمة على رعاية هذا الخلق أن التبرعاتِِ لا تقرر إلا بقبول المتبرع له؛ إذ قد يربأ به خلق العزة عن قبولها؛ كراهة احتمال منتها.
والمنة تصدع قناة العزة؛ فلا يحتملها ذو مروءة إلا في حال الضرورة، ولا سيما منةً تجيء من غير ذي طبع كريم، أو قدر رفيع.
ثم إن الشريعة أرشدت المسلم إذا أخذ المال أن يأخذه بسخاوة نفس؛ ليبارك الله له فيه، ولا يأخذه بإسراف، وهلع، وتعرض، وذلة، وإشراف.
وإذا اتصف المرء بعزة النفس وفُرت كرامتُه، وارتفع رأسه، وسلم من ألم الهوان، وتحرر من رق الأهواء، وذل الطمع، ولم يسر إلا على وَفْقِ ما يمليه عليه إيمانه، والحق الذي يحمله؛ ولهذا تجد أن أشدَّ الناس عزماً ومضاءاً هو أنزههم نفساً، وأبعدهم عن الطمع وجهه.
ثم إن عزة النفس تضفي على صاحبها وقاراً وجلالاً ومكانةً في القلوب؛ وذلك مما تنشرح له صدور العظماء، وإنما يعاب الرجل إذا جعل هذه المكانة غايته المنشودة دون أن يكون الحامل عليها رضا الله، ومن ثمَّ نفع الآخرين.
وكما أن للعزة أثراً في الأفراد فكذلك لها آثارٌ صالحة في الأمة؛ فالأمة التي تُشْرَبُ في نفوسها العزة يشتد حرصها على أن تكون مستقلة بشؤونها، غنية عن أمم غيرها، وتبالغ في الحذر من الوقوع في يد مَنْ يطعن في كرامتها، أو يهتضم حقاً من حقوقها.
هذا شيء من معالم العزة، وأثر الحج في اكتسابها.
وإليكم نبذة من النصوص الشرعية الواردة في شأن العزة .
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لا بن عباس - رضي الله عنهما -: "إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله"رواه أحمد والترمذي،وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يأخذَ أحدُكم أَحْبُلاً، فيأخذَ حُزْمةً من حطب؛ فيكفَّ الله به وجْهَهُ ـ خيرٌ من أن يسألَ الناسَ أعطي أو منع" رواه البخاري ومسلم.
وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "من يستغنِ يغنِهِ الله، ومن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ الله، ومن يتصبرْ يصبرْهُ الله، وما أعطي أحدٌ عطاءاً أو خيراً أوسع من الصبر" رواه البخاري ومسلم .
وفيهما ـ أيضاً ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما يزال الرجلُ يسأل الناسَ حتى يأتيَ يومَ القيامة، وليس في وجههُ مُزْعةُ لحمٍ ".
وفي صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سأل الناس، تكثراً فإنما يسأل جمراً؛ فَلْيَسْتَقِلَّ أو ليستكثر".
بل لقد أوصى-عليه الصلاة والسلام- نفراً من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً؛ ففي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي -رضي الله عنه- أن لما بايع النبي-صلى الله عليه وسلم-مع طائفة من أصحابه قالوا: فعلام نبايعك؟
قال: "على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا..." وأسر كلمةً خفيةً: "ولا تسألوا الناس شيئاً".
قال عوف: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوطُ أحدِهم؛ فما يسأل أحداً يناوله إياه.
وعن قَببيصةَ بنِ مخارق الهلالي -رضي الله عنه- قال: "تحملت حَمَالةً، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسأله فيها فقال: "أقم حتى تأتينَا الصدقةُ؛ فنأمرَ لك بها".
قال: ثم قال: "يا قبيصةُ! إن المسألة لا تَحِلُّ إلا لأحد ثلاثةٍ: رجلٍ تحمَّل حمالةً، فحلَّت له المسألةُ؛ حتى يصيبَها ثم يُمْسِك،ورجلٍ أصابتْه جائحةٌ اجتاحت ماله؛فحلَّت له المسألةُ،حتى يصيب قواماً من عيش-أوقال: أو سِداداً من عيش - ورجلٍ أصابته فاقةٌ حتى يقومَ ثلاثةٌ من ذوي الحِجا من قومه: لقد أصاب فلاناً فاقةٌ، فحلَّت له المسألةُ حتى يصيبَ قواماً من عيش -أو سداداً من عيش-.
فما سواهن يا قبيصةُ سحتاً يأكلها سحتاً" رواه مسلم.
وكما تظافرت نصوصُ الشرع في الثناء على خلق العزة، والحثِّ عليه، فكذلك تتابعت وصايا العلماء والحكماء.(/13)
قال وهب بن منبه -رحمه الله- لرجل يأتي الملوك: "ويحك تأتي من يغلق عنك بابَه، ويظهر لك فقرَه، ويواري عنك غناه، وتدعُ من يفتح لك بابَه بالليل والنهار ويظهر لك غناه، ويقول: "ادعني استجب لك"!.
وقال طاووسٌ لعطاءٍ - رحمهما الله -: "إياك أن تطلبَ حوائجك إلى من أغلق دونك بابه، ويجعل دونها حُجَّابَه، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أن تدعوَه، ووعدك بأن يجيبك".
وقيل لأبي حازم -رحمه الله-: "ما مالُك؟ قال: ثقتي بالله، وإياسي من الناس".
وكتب أمير المؤمنين إلى أبي حازم: ارفع إليّ حاجتك.
قال أبو حازم: "هيهات! رفعت حاجتي إلى من لا يَخْتَزِنُ الحوائجَ؛ فما أعطاني قنعت، وما أمسك عني منها رضيت".
وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام -رحمه الله- إذا قرأ عليه الطالبُ وانتهى يقول: "اقرأ من الباب الذي يليه ولو سطراً؛ فإني لا أحب الوقوف على الأبواب".
وأنشد الإمام أحمد بن يحيى ثعلب -رحمه الله-:
من عف خف على الصديق لقاؤه *** وأخو الحوائج وجهه مبذول
وأخوك مَنْ وفَّرْتَ ما في كيسه *** فإذا استعنت به فأنت ثقيل
ولله در الشيخِ المَكُّوديّ إذ يقول:
إذا عرضت لي في زمانيَ حاجةٌ *** وقد أشكلت فيها عليَّ المقاصدُ
وقفت بباب الله وقفةَ ضارعٍ *** وقلت: إلهي إنني لك قاصدُ
ولست تراني واقفاً عند باب مَنْ *** يقول فتاهُ: سيديْ اليومَ راقد
معاشر المسلمين: هذه هي العزة،وها نحن في موسم الخير والعزة؛ أفلا نستشعر هذا المعنى من جراء حجنا، وأيامه المباركة، وندرك أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فنلتمس العزة من مظانها،ونسعى لإدراكها، والاتصاف بها؛ فيكون لنا عزٌّ وسرورٌ، وذكر جميل في العاجل، وأجر وذخرٌ وعطاءٌ غير مجذوذ في الآجل؟.
اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
مشهد المراقبة في الحج
الشيخ/ محمد بن إبراهيم الحمد 7/12/1426
07/01/2006
الحديث ههنا سيدور حول درس عظيم, ومنفعةٍ مشهودة تنال من الحج, وتكتسب من خلال أيامه المباركة, تلكم هي عبودية المراقبة لله - عز وجل - فالمواطن والمواضع والمناسك التي تنال منها تلك الفضيلة كثيرة جداً؛ فالحاج - على سبيل المثال - يعظِّم شعائر الله, والله - تبارك وتعالى - يقول:(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ومعنى تعظيمِها:إجلالُها، والقيامُ بها، وتكميلُها على أكمل ما يقدر عليه العبد.
ولا ريب أن ذلك الإجلال والتعظيم, إنما يكون في القلب, لا يطلع عليه إلا الله - عز وجل -.
وكذلك ترى الحاجَّ يخلص في هداياه وقرابينه, وهو بذلك يراقب ربه، ويستحضر شهوده واطلاعه عليه، وأنه (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ )الحج37.
وكذلك ترى الحاجَّ يطوف في البيت العتيق سبعاً، ويسعى بين الصفا والمروة سبعاً, ويقف في عرفة في وقت محدد، وينصرف منها في وقت محدد,وهكذا مبيته في مزدلفة, ثم لا تراه يزيد في الجمار أو ينقص, ولا تراه يعمل عملاً من أعمال الحج في غير وقته, ولا يأتي محظوراً من محظورات الإحرام عالماً عامداً, وتجده إذا شك في أمرٍ ما, طفق يسأل أهل العلم هل عليه من إثم؟ وهل له من جبرٍ إذا أخطأ؟.
لماذا؟.
لأنه يرغب في قبول حجه, ويرهب من فساده أو رده, وما الذي يقوده إلى ذلك؟ إنه استحضار إطلاع ربه عليه.
ولا ريب أن هذا درسٌ عظيم, يبعث المسلم إلى مراقبة ربه في شتى أحواله, وسائر شؤونه، وأعماله، وأيامه؛ فالمطلع على أعمال الحج مطلعٌ على غيرها.
وبذلك يصل الحاج إلى أعلى مقام من مقامات العبادة, وأعلى مرتبه من مراتب الدين, ألا وهي مرتبة الإحسان؛ فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك - كما جاء في حديث جبريل المشهور في صحيح مسلم -.
فإذا استشعر الحاج هذا المعنى العظيم, انبعث إلى مراقبة ربه - عز وجل - في شتى شؤونه, فالذي يطلع عليه في حجه مطلع على جميع أحواله - كما مر -.
وهذا سرٌّ بديعٌ، ودرسٌ عظيمٌ تُفِيد منه الأمةُ بعامة، ويفيد منه الأفرادُ بخاصة؛ فواجب على المصلحين وقادةِ الأمم أن يتنبهوا لهذا المعنى، وأن يحرصوا على إشاعته في الناس؛ ذلكم أن وازعَ الدين والمراقبة لرب العالمين يفعل في النفوس ما لا يفعله وازعُ القوةِ والسلطان؛ فإذا أَلِفَ المرءُ أن يراقب ربه، ويستحضر شهوده واطلاعه عليه - فإن المجتمعَ يأمنُ بوائقه، ويستريحُ من كثير من شروره.
أما إذا كان الاعتماد على وازعِ القوة، وحارسِ القانون - فإن القوةَ قد تضعف، وإن الحارسَ قد يغفُل، وإن القانون قد يُؤَوَّل، وقد يُتَحايلُ للتخلص من سلطانه.(/14)
لذلك تكثر الجرائم والمفاسد إذا قلّت التربية الإسلامية في مجتمع ما، فإذا أشعنا هذا المعنى في الناس وعَمدْنا إلى تربيتهم بأسلوب الدين والفضيلة أرحنا واسترحنا، ووفَّرنا جهوداً كبيرة، وقد تكون ضائعة في غير ما فائدة؛ فالمراقبة حارسٌ قويٌّ يمنع الإنسانَ من التفكير في الجرائم والشرور.
وإذا راقب الإنسان ربَّه، واحترمه في خلواته أظهر الله فضله، ورفع ذكره؛ فالجزاء من جنس العمل، ومن يعمل سوءاً يجز به.
قال أبو حازم -رحمه الله-: "لا يُحْسِن عبدٌ فيما بينه وبين الله - عز وجل - إلا أحسن الله فيما بينه وبين الناس، ولا يعِّور - أي يفسد - فيما بينه وبين الله - عز وجل - إلا عوَّر الله فيما بينه وبين العباد، ولَمُصَانعةُ وجهٍ واحدٍ أيسرُ من مصانعة الوجوه كلها؛ إنك إذا صانعت اللهَ مالت الوجوهُ كلُّها إليك، وإذا أفسدت ما بينك وبين الله شنأتك الوجوهُ كلُّها".
وقال المعتمر بنُ سليمان -رحمه الله-: "إن الرجلَ يصيب الذنبَ في السر ّ، فيصبح وعليه مذلّتُه".
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: "نظرتُ في الأدلة على الحق - سبحانه وتعالى - فوجدتُها أكثرَ من الرمل،ورأيتُ من أعجبها؛ أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله -عز وجل- فيظهره الله - سبحانه وتعالى - عليه ولو بعد حين، وينطق الألسنة به، وإن لم يشاهده الناس، وربما أوقع صاحبَه في آفة يفضحه بها بين الخلق؛ فيكون جواباً لكل ما أخفى من الذنوب، وذلك لِيَعْلَمَ الناسُ أن هنالك مَنْ يجازي على الزلل، ولا ينفع من قدرِه وقدرتِهِ حجابٌ ولا استتارٌ، ولا يضاع لديه عمل.
وكذلك يخفي الإنسان الطاعة، فتظهر عليه، ويتحدث الناس بها، وبأكثر منها، حتى إِنهم لا يعرفون له ذنباً، ولا يذكرونه إلا بالمحاسن، لِيُعْلَمَ أن هنالك ربَّاً لا يُضيع عَمَلَ عامل.
وإن قلوب الناس لَتَعْرِفُ حالَ الشخص، وتحبه أو تأباه، وتذمه أو تمدحه وَفْقَ ما يتحقق بينه وبين الله - سبحانه وتعالى- فإنه يكفيه كلَّ هم، ويدفع عنه كلَّ شر.
وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق، دون أن ينظر إلى الحق إلا انعكس مقصودُه، وعاد حامدُه ذامّاً".
وقال -رحمه الله-: "إن للخلوة تأثيراتٍ تَبِيْنُ في الجلوة؛ كم من مؤمن بالله-عز وجل- يحترمه عند الخلوات، فيترك ما يشتهي؛ حذراً من عقابه،أو رجاءًا لثوابه، أو إجلالاً له، فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هندياً على مجمر، فيفوح طيبه، فيستنشقه الخلائق، ولا يدرون أين هو.
وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبتُه، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطِّيب، ويتفاوت تفاوتَ العود؛ فترى عيونَ الخلقِ تُعظِّم هذا الشخص، وألسنتُهم تمدحُه، ولا يعرفون لِمَ، ولا يقدرون على وصفه.
وقد تمتد تلك الأراييحُ -أي الروائح الطيبة- بعد الموتِ على قَدْرِها، فمنهم من يُذْكَرُ بالخير مدةً مديدةً، ثم ينسى، ومنهم من يذكر مائةَ سنةٍ ثم يخفى ذكره، ومنهم من يبقى ذكرهم أبداً.
وعلى عكس هذا مَنْ هاب الخلق، ولم يحترم خلوتَه بالحق؛ فإنه على قدر مبارزته بالذنوب، وعلى مقادير تلك الذنوب يفوح منه ريحُ الكراهة، فتمقته القلوب".
إلى أن قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: إن العبدَ ليخلو بمعصية الله-تعالى-فيلقي الله بُغْضَه في قلوب المؤمنين من حيثُ لا يشعر".
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: "إنه بقدر إجلالكم لله-عز وجل-يجلكم، وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يعظمُ أقدارَكم وحرمتكم" إلى آخر ما قال -رحمه الله-في ذلك السياق في كتابه "صيد الخاطر".
وهكذا نستفيد من الحج ومن أيامه المباركة, عبوديةَ المراقبة، فهذا شيء من ثمرات الحج، وذلك شيء من ثمرات تلك العبودية الجليلة - أعني عبودية المراقبة - فنسأل الله-جل وعلا-أن يرزقنا خشيته في الغيب والشهادة، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
مراغمة الشيطان في الحج
الشيخ/ محمد بن إبراهيم الحمد 7/12/1426
07/01/2006
الحديث ههنا سيدور حول مشهد عظيم من مشاهد الحج ألا وهو مشهد المراغمة للشيطان الرجيم؛ فالشيطان عدو للإنسان مبين والله – عز وجل - حذرنا من الشيطان، وأمرنا أن نتخذه عدواً، ونهانا عن اتباع خطواته، قال - عز وجل -: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً) وقال - تبارك وتعالى -: (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
فمراغمة الشيطان باتخاذه عدواً، وبترك الاتباع لخطواته من أعظم القربات إلى رب الأرض والسموات.(/15)
وهذا الأمر يتجلى غاية التجلي في الحج؛ فيتجلى في مراغمة الشيطان إذا وقف في طريق الحاج يثبِّطه عن الحج، ويتجلى بمجاهدة النفس على إيقاع الحج على أحسن الوجوه وأتهمها، ويتجلى في يوم عرفة خصوصاً في عشيتها حين يجتهد الحاج في الدعاء والضراعة؛ فما رئي الشيطان في يوم أدحر، ولا أصغر، ولا أحقر منه في ذلك اليوم؛ وما ذلك إلا لما يرى من نزول الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام - كما جاء ذلك في موطأ الإمام مالك -رحمه الله- .
وأعظم ما يتجلى ذلك المعنى في رمي الجمار؛ حيث تظهر المراغمة والعداوة للشيطان في تلك المواضع غاية الظهور, بل هي الحكمة الخاصة لذلك النسك؛ إذ الحكمة العامة منها إقامة ذكر الله، قال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في تفسيره المبارك (أضواء البيان) عند تفسير لسورة الحج قال: "الفرع الحادي عشر في حكمة الرمي: اعلم أنه لاشك في أن حكمة الرمي في الجملة هي طاعة الله فيما أمر به، وذكره بامتثال أمره على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - قال أبو داود في سننه: حدثنا مسدد، قال: حدثنا عيسى بن يونس، قال: حدثنا عبيد الله بن زياد عن القاسم عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله".
وقال النووي في شرح المهذب في حديث أبي داود هذا: "وهذا الإسناد كله صحيح إلا عبيد الله فضعفه أكثرهم ضعفاً يسيراً، ولم يضعف أبو داود هذا الحديث فهو حسن عنده - كما سبق -".
وروى الترمذي هذا الحديث من رواية عبيد الله هذا، وقال: هو حديث حسن, وفي بعض النسخ: حسن صحيح؛ فلعله اعتضد برواية أخرى، انتهى محل الغرض منه.
قال مقيده - عفى الله عنه، وغفر له -: عبيد الله بن أبي زياد المذكور هو القداح أبو الحصين المكي، وقد وثقه جماعة، وضعفه آخرون، وحديثه هذا معناه صحيح بلا شك، ويشهد لصحة معناه قوله -تعالى-: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) لأنه يدخل في الذكر المأمور به رمي الجمار؛ بدليل قوله بعده: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)الآية.
وذلك يدل على أن الرمي شُرِع لإقامة ذكر الله كما هو واضح، ولكن هذه الحكمة إجمالية، وقد روى البيهقي - رحمه الله - في سننه عن ابن عباس مرفوعاً قال: "لما أتى إبراهيم خليل الله - عليه السلام - المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض, ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض, ثم عرض له في الجمرة الثالثة, فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض" قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: "الشيطانَ ترجمون وملةَ أبيكم تتبعون" انتهى بلفظه من السنن الكبرى للبيهقي.
ولقد روى هذا الحديثَ الحاكمُ في المستدرك مرفوعاً ثم قال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
وعلى هذا الذي ذكره البيهقي فَذِكْرُ اللهِ الذي شرع الرمي لإقامته هو الاقتداء بإبراهيم في عداوة الشيطان، ورميه، وعدم الانقياد إليه، والله يقول: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ) الآية.
فكأن الرمي رمز وإشارة إلى عداوة الشيطان التي أمرنا الله بها في قوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً) وقوله منكراً على من والاه: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ)الآية.
ومعلوم أن الرمي بالحجارة من أكبر مظاهر العداوة". انتهى كلام الشنقيطي – رحمه الله -.
وهكذا يفيد الحجاج من ذلك المشهد العظيم ألا وهو رمي الجمار درساً عظيماً ألا وهو مراغمة الشيطان وعداوته؛ فالشيطان عدوٌ للإنسان، والحجاج لا يرمون الشيطان، وليس الشيطان بواقف لهم يرجمونه، وإنما يرجمون المواقف التي وقف بها الشيطان لأبيهم إبراهيم؛ فرجمه الخليل - عليه السلام - فهم يرجمونه لا لمجرد التكرار وإنما للاقتداء والانتفاع والاعتبار.
فعليهم أن يتأملوا كيف عرف أبوهم إبراهيم أن الذي وقف له ليصده عن امتثال أمر ربه أنه شيطان؛ حيث تَمثَّل له ثلاث مرات، فرجمه إبراهيم ثلاث مرات كل مرة بسبع حصيات وقال له: ليس لك عندي إلا الرجم، فخنس وخسأ، وخاب ظنه، ونكص على عقبيه.
فأولوا الألباب يعتبرون بهذا الرجم، ويأخذون منه دروساً وعبراً؛ إذ يعاملون كل شيطانٍ من شياطين الجن والإنس ممن يريدون صرفهم عن طاعة ربهم بالرجم المعنوي الذي هو بغض من صد عن سبيل الله، وعصيانه، ومراغمته، والابتعاد عنه والاستعاذة بالله منه؛ فيعرفون أن كل من حاول صدَّهم عن طاعة ربهم، أو فتنتَهم في دينهم - أنه شيطان مهما لبس من لبوس، ومهما أظهر من مودة وتصنع.
أيها الحاج الكريم: ما أكثر دروس الحج، وما أعظم بركاته؛ فليكن لك من ذلك أوفر الحظ والنصيب؛ لتفوز بسعادة الدارين، ولتكون من حزب الله المفلحين، ومن أولياءه المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.(/16)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من منافع الحج ودروسه
الشيخ/ محمد بن إبراهيم الحمد 7/12/1426
07/01/2006
قال الله - تبارك وتعالى - في محكم التنزيل: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ).
والحديث ههنا سيكون حول بعض المنافع التي تشهد في الحج، والتي وردت مجملة في قوله - تعالى -: (ليشهدوا منافع لهم).
قال الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي -رحمه الله- في الآية السابقة: "أي لينالوا ببيت الله منافع دينية من العبادات الفاضلة، والعبادات التي لا تكون إلا فيه، ومنافع دنيوية من التكسب، وحصول الأرباح الدنيوية، وهذا أمر مشاهد كلٌّ يعرفه" ا-هـ.
وإليكم طرفاً من تلك المنافع التي تنال بالحج:
أولاً: تحقيق العبودية والتوحيد لله - تبارك وتعالى - فكمال المخلوق في تحقيق العبودية لربه، وكل ما ازداد العبد تحقيقاً لها ازداد كماله وعلت درجته، وفي الحج يتجلى هذا المعنى غاية التجلي؛ ففي الحج تذلل لله، وخضوع وانكسار بين يديه؛ فالحاج يخرج من ملاذ الدنيا مهاجراً إلى ربه، تاركاً ماله وأهله ووطنه، متجرداً من ثيابه، لابساً إحرامه، حاسراً عن رأسه، متواضعاً لربه، تاركاً الطيب والنساء، متنقلاً بين المشاعر بقلب خاشع، وعين دامعة، ولسان ذاكر يرجو رحمة ربه، ويخشى عذابه.
ثم إن شعار الحاج منذ إحرامه إلى حين رمي جمرة العقبة والحلق - لبيك الله لبيك، لبيك لا شريك لك.
ومعنى ذلك: أنني خاضعٌ لك، منقادٌ لأمرك، مستعد لما حملتني من الأمانات؛ طاعة لك، واستسلاماً دونما إكراه، أو تردد.
وهذه التلبية ترهف شعور الحاج، وتوحي إليه بأنه- منذ فارق أهله- مقبلٌ على ربه، متجردٌ عن عاداته ونعيمه، منسلخ من مفاخره ومزاياه.
ولهذا التواضع والتذلل أعظم المنزلة عند الله - عز وجل - إذ هو كمال العبد، وجماله، وهو مقصود العبودية الأعظم، وبسببه تمحى عن العبد آثارُ الذنوب، وظلمتها؛ فيدخل في حياة جديدة ملؤها الخير، وحشوها السعادة.
وإذا غلبت هذه الحال على الحجاج فملأت عبودية الله قلوبهم، وكانت هي المحرك لهم فيما يأتون، وما يذرون - صنعوا للإنسانية الأعاجيب، وحرروها من الظلم، والشقاء، والبهيمية.
ثانياً: التعود على اغتنام الأوقات؛ فالوقت رأس مال الإنسان، والوقت من أَجَلِّ ما ينبغي أن يصان عن الإضاعة والإهمال.
وفي الحج يقوم الحاج بأعمال عظيمة، وفي أماكن مختلفة متباعدة مزدحمة، وفي أيام محددة، قد لا تتجاوز أربعة أيام.
وفي هذا دليل على أن في الإنسان طاقةً هائلةً مخزونة لو استثارها لآتت أكلها ضعفين أو أكثر، وهذا درس عظيم يبعث المسلم إلى أن يعتاد اغتنام الأوقات، وأن يحرص على أن لا يضيع منها شيئاً في غير فائدة.
ثالثاً: ارتباط المسلمين بقبلتهم التي يولون وجوههم شطرها في صلواتهم المفروضة خمس مرات في اليوم؛ وفي هذا الارتباط سر بديع يصرف وجوههم عن التوجه إلى غربٍ كافر، أو شرقٍ ملحد؛ فتبقى لهم عزتهم، وكرامتهم.
رابعاً: أن الحج فرصة عظيمة للإقبال على الله بشتى القربات: حيث يجتمع في الحج من العبادات ما لا يجتمع في غيره؛ فيشارك الحج غيره من الأوقات بالصلوات وغيرها من العبادات التي تفعل بالحج وغير الحج، وينفرد بالوقوف بعرفة، والمبيت بالمزدلفة، ورمي الجمار، وإراقة الدماء، وغير ذلك من أعمال الحج.
خامساً: الحج وسيلة عظمى لحط السيئات ورفعة الدرجات؛ فالحج يهدم ما كان قبله.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن العاص -رضي الله عنه-: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله" رواه مسلم.
والحج أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- أي الأعمال أفضل؟.
قال: "إيمان بالله ورسوله".
قيل: ثم ماذا؟.
قال: "جهاد في سبيل الله".
قيل: ثم ماذا؟.
قال: "حج مبرور" رواه البخاري.
والحج أفضل الجهاد؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "قلت يا رسول الله: نرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟".
قال: "لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور" رواه البخاري.
والحج المبرور جزاؤه الجنة، قال - عليه الصلاة والسلام -: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" رواه مسلم.
والحاج يعود من ذنوبه كيوم ولدته أمه إذا كان حجه مبروراً، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من حج هذا البيت فلم يرفث، ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" رواه البخاري ومسلم.(/17)
سادساً: هياج الذكريات الجميلة، ففي الحج تهيج الذكريات الجميلة: وهذا سر بديع من أسرار الحج؛ العزيزة على كل قلب مسلم، وما أكثر تلك الذكريات، وما أجمل ترددها على الذهن؛ فالحاج على سبيل المثال يتذكر أبانا إبراهيم الخليل - عليه السلام - فيتذكر توحيده لربه، ومُهاجرَه في سبيله، وكمال عبوديته، وتقديمه محابَّ ربِّه على محابِّ نفسه، ويتذكر ما جرى له من الابتلاءات العظيمة، وما حصل له من الكرامات، والمقامات العالية، ويتذكر أذانه في الحج، ودعاءه لمكة المكرمة، وبركات تلك الدعوات التي ترى آثارها إلى يومنا الحاضر.
ويتذكر الحاج ما كان من أمنا هاجر - عليها السلام - فيتذكر سعيها بين الصفا والمروة؛ بحثاً عن ماء تشربه؛ لتدر باللبن على وليدها أبينا إسماعيل ذلك السعي الذي أصبح سنة ماضية، وركناً من أركان الحج.
ويتذكر أبانا إسماعيل - عليه السلام - فيمر بخاطره مشاركة إسماعيل لأبيه إبراهيم في بناء الكعبة، ويتذكر ما كان من بر إسماعيل بأبيه؛ حيث أطاعه لما أخبره بأن الله يأمره بذبحه، فما كان من إسماعيل إلا أن قال: (افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين).
ويتذكر الحاج أن مكة هي موطن النبي -صلى الله عليه وسلم- ففيها ولد وشب عن الطوق، وفيها تنزل عليه الوحي، ومنها شعَّ نور الإسلام الذي بدد دياجير الظلمات.
ويتذكر من سار على تلك البطاح المباركة من أنبياء الله ورسله، وعباده الصالحين؛ فيشعر بأنه امتداد لتلك السلسلة المباركة، وذلك الركب الميمون.
ويتذكر الصحابة - رضي الله عنهم - وما لاقوه من البلاء في سبيل نشر هذا الدين.
ويتذكر أن هذا البيت أول بيت وضع للناس وأنه مبارك وهدى للعالمين.
بلدة عظمى وفي آثارها *** أنفعُ الذكرى لقوم يعقلونْ
شبَّ في بطحائها خيرُ الورى *** وشبا في أُفِقْها أسمحُ دينْ
فهذه الذكريات الجميلة تربط المؤمن بأكرم رباط، وتبعث في نفسه حبَّ أسلافه الكرام، والحرصَ على اتباع آثارهم، والسير على منوالهم.
ثم إن الحاج إذا عاد من رحلة حجه حمل معه أغلى الذكريات، وأعز َّها على نفسه؛ فتظل نفسُه متلهفةً للعودة إلى تلك البقاع المباركة، وما أجمل قول من قال في ذكرى الحج ومنافعه:
أيا عذبات البان من أيمن الحمى *** رعى الله عيشاً في رباك قطعناه
سرقناه من شرخ الشباب وروقه *** فلما سرقنا الصفوَ منه سُرِقْنَاه
وعادت جيوشُ البين يقدمها القضا *** فبدد شملاً في الحجاز نضمناه
ونحن لجيران المُحصَّب جيرةٌ *** نُوفِّ لهم عهد الوداد ونرعاه
فهاتيك أيام الحياة وغيرُها *** ممات فيا ليت النوى وما شهدناه
فيا ليت عنا أغمض البين طرفه *** ويا ليت وقتاً للفراق فقدناه
وترجع أيام المحصب من منى *** ويبدو ثراه للعيون وحصباه
وتسرح فيه العِيْسُ بين ثُمامه *** وتستنشق الأرواح نشر خُزاماه
نحِنُّ إلى تلك الربوع تشوقاً *** ففيها لنا عهد وعقد عقدناه
وربِّ برانا ما نسينا عهودكم *** وما كان من ربع سواكم سلوناه
ففي ربعهم لله بيت مباركٌ *** إليه قلوب الخلق تَهْوِي وتهواه
يطوف به الجاني فيُغفرُ ذنبه *** ويسقط عنه جرمه وخطاياه
فكم لذةٍ كم فرحةِ لطوافه *** فلله ما أحلا الطوافَ وأهناه
نطوف كأنا في الجنان نطوفها *** ولا همَّ لا غمٌ فذاك نفيناه
فيا شوقنا نحو الطواف وطِيبه *** فذلك شوقٌ لا يحاط بمعناه
فمن لم يذقه لم يذق قط لذةً *** فَذُقْهُ تذق يا صاحِ ما قد أُذِقْنَاه
أيها الحاج الكريم أسأل الله أن يجعل حجك مبروراً، وسعيك مشكوراً، وذنبك مغفوراً، وأن يعيد علينا وعليك وعلى أمة الإسلام من بركات الحج.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(/18)
الحج وآثاره السلوكية
عمر بن عبد الله المقبل 7/12/1426
07/01/2006
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خيرته من خلقه، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين:
أما بعد: فهذا موضوع تربوي، يتصل بركن من أركان الإسلام العظام، ألا وهو الحج ، وهو يركز على الجانب السلوكي، والأثر الذي ينبغي أن تحدثه هذه العبادة في قلوب مؤديها.
ولا ريب أن الحديث عن موضوع كهذا طويلٌ ،لكنها ورقةٌ تضاف إلى مجلدات كتب في هذا الموضوع، لعلها تسهم في التنبيه إلى شيءٌ من مقاصد الشرع العظيم في مشروعية هذه العبادات .
أسأل الله تعالى أن يرزقنا القيام بعبادته على الوجه الذي يرضيه عنا ،وأن يعفو عن ما زلت به الجوارح ،إنه أكرم مسؤول .
وسأتناول هذا الموضوع في ثلاثة محاور :
المحور الأول : لماذا الحديث عن الآثار السلوكية ؟
المحور الثاني : كيف تؤثر العبادات في سلوكياتنا ؟ولماذا لا يجد الكثير آثارها في حياتهم؟.
المحور الثالث : من آثار الحج السلوكية.
المحور الأول: لماذا الحديث عن الآثار السلوكية ؟
وأرى أنه يحسن ـ قبل الولوج إلى الموضوع ـ أن أوضح مفردات عنوان هذه الورقة (آثار الحج السلوكية) :
أولاً : كلمة (الآثار) جمع أثر ، هو في اللغة يطلق على معان منها : بقية الشيء ، ويقال : أثّر فيه تأثيراً ، أي ترك فيه أثراً وهذا الذي يعنينا هنا ، فنحن نتحدث عما تتركه عبادة الحج العظيمة من آثار في الحجاج(1).
ثانياً : كلمة ( السلوكية ) السلوك أصله من سلك طريقا ، أو مكاناً يسلكه أي دخل فيه ، ومن ذلك قوله تعالى ( أسلك يدك في جيبك ) أي أدخلها في جيبك،ومنه أيضاً ( كذلك سلكناه في قلوب المجرمين ) أي أدخلنا الكفر والتكذيب،ونظمناه في قلوب أهل الإجرام كما يدخل السلك في الإبرة ، فتشرّبته وصار وصفاً لها (2).
وهكذا الإنسان إذا تحققت فيه آثار العبادات وتحلى بالآداب الشرعية ، وأصبحت أخلاقه انعكاساً لما يعلمه ويعمل به من دين الله عز وجل ،صح أن يقال له : إن فلاناً سلوكه حسنٌ ،لأنه تشرّب الأخلاق الطيبة ،وانتظمت في تصرفاته حتى أصبحت وصفاً له .
إذاً فالحديث عن بقية الآثار التي تتركها عبادة الحج ، وتؤثر في حياته ... في عباداته ومعاملاته ...في أخلاقه .
أما لماذا الحديث عن الآثار السلوكية ؟ وهو عنوان هذه الحلقة ،فيمكن إجمال الأسباب فما يلي :
أولاً : الحديث عن الآثار السلوكية في الحقيقة حديث عن الأخلاق ـ بمعناها الواسع ـ لأن العرب تقول عن السجية والطبع الملازم للمرء :خلُق (3) ،وهذا معنى كونه سلوكا أي صار سجية ووصفا له ، وليست هذه الورقة حديثاً عن الأخلاق ـ رغم أهميتها ـ إنما المقصود الإشارة إلى أن الأخلاق والسلوك الحسن له أهمية عظيمة وشأن كبير في حياة المسلم ،بل الأخلاق لها شأنها ـ عند جميع الأمم ـ مسلِمها وكافرها،وحسبك أن تعلم أن من أعظم الطرق التي ملك بها النبي – صلى الله عليه وسلم - قلوب الناس في دعوته : سلوكه الحسن ، وتعامله الفذ ، وخلقه العظيم الذي امتدحه الله سبحانه وتعالى به في قوله : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) .
وما أجمل قول الشاعر الذي نبه إلى عظمة شأن الأخلاق حيث يقول :
أيها الطالب فخراً بالنسب *** إنما الناسُ لأم ولأبْ!
هل تراهم خُلقوا من فضة ؟ ***أو حديد أو نحاس أو ذهبْ ؟
أو تَرى فضلهموا في خلْقهم ***هل سوى لحمٍ وعظمٍ وعصبْ ؟
إنما الفضلُ بعقل راجحٍ *** وبأخلاق كرام وأدبْ!
ذاك من فاخرَ في الناس به *** فاق من فاخرَ منهم وغلبْ!
فتبين مما سبق أن الحديث عن الحج وآثاره السلوكية حديث مهم ، لارتباطه بأمر عظيم ألا وهو حسن الخلق ، وسلامة السلوك .
ثانياً : أنه ما من عبادة وإلا وقد رتب الشرع المطهر عليها آثاراً على العبد في حياته.
وهذه الآثار تختلف بحسب مكانة هذه العبادة ومنزلتها من الدين ،كما أنها تختلف باعتبار آخر ألا وهو العابد نفسه،إذ لا ريب أن الناس ليسوا على درجة واحد من العلم والخشية ،وبالتالي ليسوا على درجة واحدة في تعظيم هذه الشعائر ،ولا في درجة الإخلاص والصدق الذي يكون في قلوبهم حين الدخول في العبادة .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ "إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحاً فاتهمه،فإن الرب تعالى شكور،يعني لابد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا،من حلاوة يجدها في قلبه،وقوة وانشراح وقرة عين،فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول"(4)ا هـ .
ولقد برّ في كلامه وصدق رحمه الله ،فقد ثبت في السنة أحاديث كثيرة تؤيد ما قاله منها : ما ثبت في صحيح مسلم عن العباس بن عبدالمطلب –رضي الله عنه- أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال : " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد – صلى الله عليه وسلم- رسولا ".(/1)
ومنها : ما ثبت في الصحيحين عن أنس – رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال:"ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار " .
قال بعض أهل العلم : "إنما عبّر بالحلاوة ؛لأن الله شبه الإيمان بالشجرة في قوله تعالى: " مثلا كلمة طيبة " فالكلمة هي كلمة الإخلاص،والشجرة أصل الإيمان،وأغصانها اتباع الأمر واجتناب النهي، وورقها ما يهتم به المؤمن من الخير، وثمرها عمل الطاعات، وحلاوة الثمر جنى الثمرة، وغاية كماله تناهي نضج الثمرة ،وبه تظهر حلاوتها "(5).
ثالثاً : نتحدث عن الآثار السلوكية لما يلاحظ من وجود الهوة الكبيرة بين العلم والعمل ،وبين ما يتلقاه الناس ـ إما في حقول التعليم أو عن طريق خطب الجمعة أو المحاضرات أو غيرها من مجالات التلقي ـ وبين التطبيق ، وتبعاً لذلك فإنه يُلاحظ ضعف أو تلاشي آثار العبادات على كثير من المؤدين لها، حتى أصبحت العبادات جسداً بلا روح عند كثير من الناس ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
هاهي الصلاة ـ أيها القارئ الكريم ـ عماد الدين ،أعظم الأركان الخمسة بعد الشهادتين ،والتي لها من المنزلة في الدين ما ليس لغيرها من العبادات ..
الصلاة التي قال الله تعالى عنها ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) ..
تأمل في أثرها في أكثر المصلين !!
أليس في المصلين من يخرج للتو من صلاة الجمعة ،وهو مع ذلك يقارف كبيرة أو يصر على صغيرة ،فهو يكذب في الحديث والمعاملة ! ويطلق بصره في الحرام ـ وربما وهو في طريق عودته لمنزله من الصلاة ! أو يستمع إلى ما حرم الله !!
وقل مثل ذلك عن رمضان الذي انصرم قبل شهرين تقريباً !!
فأين التالون لكتاب الله تعالى ؟ وأين المحافظون على الصلاة جماعة ؟ وأين من يغضون أبصارهم ويحفظون جوارحهم عن المحرمات مخافة أن يؤثر ذلك في تمام أجرهم ؟!
وهكذا الحج فكم له من الآثار العظيمة والثمرات الهضيمة ـ والتي هي موضوع حديثنا ـ ومع ذلك ، ورغم كثرة الحجاج ، بل ورغم كثرة حجِّ بعض الناس إلى بيت الله الحرام ، إلا أن المستفيد من الحج ، ومن آثاره قليل ، والله المستعان .
رابعاً : من أسباب طرق هذا الموضوع ، أنك ترى كثيراً منا يحرص أن يكون أكله وشربه ، وأوقات راحته على ما اعتاده ودرج عليه ،فإذا وقع تغيير بسبب غيره تراه يغضب ،ويحرص على أن يحترم الآخرون عاداته وأوقاته ؛ لماذا ؟!
لأن أكله ونومه حسب عادته مما يشرح نفسه ويريح بدنه ،وهو مع ذلك لا يبذل ولا قليلا من الجهد لتفقد عباداته حتى تحدث أثرا عظيما في شرح نفسه ،وراحة قلبه وبدنه ، وتحقيق مراد الله تعالى منه في تلك العبادة .
إذا علم هذا ، فإن سؤالاً ملحاً ينبغي أن يطرح ،وهو : كيف تؤثر العبادات في سلوكياتنا ؟ولماذا لا يجد الكثير من الناس آثارها في حياتهم؟ هذا ما ستجيب عنه الحلقة الثانية بإذن الله .
المحور الثاني: كيف تؤثر العبادات في سلوكياتنا؟ ولماذا لا يجد الكثير آثارها في حياتهم؟
كان هذا السؤال المطروح في الحلقة الماضية، وللجواب عنه يقال:
أما السبل المعينة على تفعيل أثر العبادات في النفوس، فيمكن إيضاحها فيما يلي:
أولاً : قراءة النصوص من الكتاب والسنة الصحيحة، التي وردت في شأن تلك العبادة التي نفعلها.
ثانياً : بعد جمع النصوص يستعين المسلم في فهمها بكتب التفاسير فيما يتعلق بالآيات،وعلى كتب شروح الأحاديث ـ إن أمكن ذلك ـ وإلا فبسؤال أهل العلم لفهم ما قد يشكل منها.
ثالثاً : من الوسائل التي تجعل العبادات مؤثرة في سلوك الشخص: استشعار أهمية العبادة ومعناها، والحكمة منها.
وأن يعلم أن الغاية العظمى من العبادات هو إصلاح القلوب، ولا يتم لها ذلك إلا بأن تذل وتخضع وتستكين لخالقها، وتنيب وتعود لربها، وترهب وترغب لمولاها، فبذلك يتم صلاح القلب، ويسعد العبد في دنياه وأخراه، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يقول: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية(6).
رابعاً : مطالعة سير وأحوال السلف الصالح -رحمهم الله تعالى- في تلك العبادة وهذا له أثر عظيم ومشاهد، إذ مع استشعار أن القدوة المطلقة هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وفي سيرته خير وكفاية، إلا أن المسلم أيضاً سيزداد خيراً حينما يقرأ في هذا الباب.
يقول ابن الجوزي ـ رحمه الله تعالى ـ "وقد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه لا لاقتباس علمه،وذلك ثمرة علمه: هديه وسمته، فافهم هذا، وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة سير السلف والزهاد في الدنيا ليكون سبباً لرقة قلبك"(7) ا هـ .(/2)
والمقصود أن القارىء في سير السلف الصالح سيمر بمواقف وأخبار تدمع لها العين،ويرق لها القلب، سيتذكرها القارىء لها حينما يمر بنفس المواقف التي مروا بها -كما سأذكر بعضاً منها في ثنايا هذه الورقة إن شاء الله تعالى - .
فمثلاً: في الحج، وغيره من مواسم العبادات الأخرى على مدار العام، يمكن أن يقرأ الإنسان في كتاب " لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف " للحافظ ابن رجب ـ رحمه الله تعالى ـ فإنه جمع في كتابه بين الأحكام والمواعظ بأسلوب متميز .
ويمكن الاستفادة ـ أيضاً ـ من بعض الكتب التي خرجت في هذا الوقت، اعتنت بالفهرسة الموضوعية لبعض الكتب، ككتاب " نزهة الفضلاء في تهذيب سير أعلام النبلاء " فالمؤلف وفقه الله جعل في آخر المجلد الثالث فهرساً لما تضمنه المختصر من قصص وأخبار جاءت عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم رحمهم الله تعالى ممن ورد ذكرهم في أصل الكتاب " سير أعلام النبلاء " للذهبي -رحمه الله تعالى- .
خامساً : وهو مهم أيضاً، وقد أشار إليه ابن الجوزي في كلمته السابقة، وهو أن يصحب الإنسان رفقة صالحة، فيها طلاب علم أو علماء -إن تيسر ذلك- ليستفيد منهم في تصحيح عبادته، وليستفيد مما يلقى من الدروس والمواعظ في رحلة الحج، ولهذا قال جابر – رضي الله عنه - في صفة حج النبي – صلى الله عليه وسلم -: فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله – صلى الله عليه وسلم - ويعمل مثل عمله .
وما سبق في (ثالثا ورابعا) يقودنا إلى نقطة هامة في هذا الموضوع ألا وهي أنه ينبغي للإنسان ألا يغفل عن قراءة كتب فيها مواعظ في أيامه كلها، وخاصة في مواسم العبادات كرمضان والحج، لأن القلب إذا قسا ـ والعياذ بالله ـ لم يتلذذ بالعبادة، ولم ينتفع بالمواعظ إلا ما شاء الله .
ومما ينبه إليه هنا أن بعض من منَّ الله عليهم بسلوك طريق الهداية أو حتى طريق طلب العلم الشرعي يغفلون عن هذا الجانب، إما لانهماكهم في الطلب، أو ظناً منهم أن هذا من شأن العوام، وهذا خطأ يجب أن يصحح.
وسبحان الله ! مَن الناسُ بعد محمد – صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم ؟
هذا ابن مسعود – رضي الله عنه - يحكي حالهم ـ كما في الصحيحين ـ "كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا " والشاهد أنه – صلى الله عليه وسلم - كان يتعاهد أصحابه – رضي الله عنهم - بالوعظ والتذكير بين الحين والآخر .
وهذه لفتة من عالم مجرب، من أئمة العلم والوعظ في نفس الوقت،وهو ابن الجوزي ـ رحمه الله تعالى ـ حيث يقول:
" رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن يمزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين ؛ لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن مقصود الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها، والمراد بها، وما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة وذوق ... "(8)ا هـ.
إذاً .. لماذا لا يجد الكثير آثار العبادات في حياتهم ؟ وهو الجزء المتمم لهذه الحلقة، فأقول:
أشرت قبل قليل إلى بعض الأسباب عند الحديث عن بعض الطرق التي يمكن أن نعملها لكي نجد للعبادة آثاراً على سلوكنا،وأن للعلم أثراً في زيادة تعظيم العبد لشعائر الله التي قال الله فيها (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).
وفرق كبير ـ أخي القارئ ـ بين مَن يتلقى تعظيم الشعائر من الاعتياد والنظر لمن حوله من أمه وأبيه، أومن المجتمع الذي يحيط به فقط، وبين من يتلقى تعظيمها غضةً طريةً من نصوص الوحي، وسير السلف الصالح ؛لأن تعظيمه حينئذ يكون مبنياً على علم وخشية وإجلال لمستحق التعظيم والإجلال، ولهذا قال سبحانه ( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء )، وهذا مما يستدل به على فضيلة العلم لأنه يدعو إلى خشية الله تعالى، ولهذا قال بعض السلف " مَن كان بالله أعرف كان منه أخوف".
فإذا تيقن الإنسان أن هذه الشعيرة من شعائر الله أحدث ذلك له تعظيما لها، ولهذا نجد بعض العامة يعظمون الشعائر - تعظيم الموقن بأن هذا الشرع صادر عن علم وحكمة لأنه من عند الله - وهو يقين مجمل.
إلا أن أهل العلم ـ وهم على درجات أيضاً ـ يتميزون بالعلم المفصل بكثير من الجزيئات التي تجعل إيمانهم أعظم، ويقينهم بإحكام هذه الشريعة أكثر، وأنها صادرة عن علم تام،وحكمة بالغة، وأن الأمر كما قالجل جلاله ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً). ولهذا قال الله عز وجل في أواخر سورة الإسراء مخاطباً كل من كذب بالقرآن ومبينا فضيلة أهل العلم (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا - أي فليس لله حاجة فيكم، فإن لله عباداً غيركم، وهم الذين آتاهم الله العلم النافع - إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً).
فهذا هو السبب الأول في فقد بعض الناس لآثار العبادات، وهو قلة العلم بالنصوص الشرعية الواردة في تلك العبادة.(/3)
وأرجو ألا يفهم - القارئ الكريم - أني أحجر تعظيم الحرمات على أهل العلم فحسب فيصاب البعض بالإحباط، فقد أشرت إلى أن من العامة مَن عنده تعظيم ويقين، لكنه ليس بمنزلة تعظيم ويقين الذين أوتوا العلم، وما ذكرته إنما هو إشادة بالعلم وأهله، وحث على طلب العلم حسب القدرة والطاقة.
ثانياً : من أسباب حرمان آثار العبادات وعدم التلذذ بها :
ضعف الإخلاص لله تعالى والمتابعة للنبي – صلى الله عليه وسلم -في تلك العبادة، وهذان الأمران كما أنهما شرطان في قبول العمل،فهما أيضاً مؤثران تأثيراً عظيما في الشعور بلذة العبادة وأثرها، ولهذا ليست العبرة بكثرة العمل،وإنما بحسنه، كما قال سبحانه ( هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ) ولم يقل أكثركم عملاً،والمراد بحسن العمل هو أن يكون خالصاً لله صواباً على سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -،كما فسره بذلك طائفة من السلف كالفضيل وغيره .
وبقدر ما يكون الإخلاص يعظم الأثر ويزداد النفع، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى :
" والأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والمحبة والتعظيم والإجلال وقصد وجه المعبود وحده دون شيء من الحظوظ سواه، حتى تكون صورة العملين واحدة، وبينهما في الفضل ما لا يحصيه إلا الله، وتتفاضل أيضاً بتجريد المتابعة، فبين العملين من الفضل، بحسب ما يتفاضلان به في المتابعة، فتتفاضل الأعمال بحسب تجريد الإخلاص والمتابعة تفاضلاً لا يحصيه إلا الله تعالى "(9) ا هـ.
والشاهد من كلامه ـ رحمه الله ـ أن الأعمال إذا كان يقع بينها هذا التفاضل بسبب ما بينها من التجريد والمتابعة، فلا بد أن تكون آثارها كذلك ؛ لأن الآثار ـ في الحقيقة ـ فرع عن سلامة الأعمال من محبطاتها أو منقصات أجرها .
ثالثاً : من أسباب حرمان آثار العبادات وعدم التلذذ بها :
اقتراف الذنوب والمعاصي !
ولله ! كم لهذا السبب من أثر عميق في محق البركات السماوية والأرضية !
ومن أعظم البركات التي تمحقها الذنوب محق بركة العبادة وفقد آثارها، وحرمان لذتها ؟!
يقول الله عز وجل:"ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض،ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ".
وقد تواترت الأحاديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم - التي تدل على أن ما أصاب ويصيب الأمم الغابرة واللاحقة من نقص الدين والدنيا إنما هو بسبب الذنوب،ولست بصدد الحديث عن آثار الذنوب والمعاصي، ولكنها إشارات عابرة، وأحيل القارئ الكريم في هذا إلى الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ "ومن أحيل على مليء فليحتل" في كتابه ((الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)) فقد شفى وكفى.
سئل وهيب بن الورد ـ رحمه الله ـ:أيجد لذة الطاعة من يعصي ؟ قال : ولا من همّ ! ـ أي من همّ بالمعصية ـ !
فإذا كان هذا أثر الهم بالمعصية فما الظن باقترافها، والولوغ فيها والإصرار عليها ؟! .
وإليك ـ أيها القارئ الفاضل ـ نفثة ربانية من كلام من نوّر الله بصائرهم بهذه الأمور، فعرفوا خطورة الذنب الواحد، فضلاً عن ذنوب كثيرة، يقول ابن الجوزي -رحمه الله-:
"وربما كان العقاب العاجل معنوياً، كما قال بعض أحبار بني إسرائيل:يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني ؟ فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري!أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي ؟...إلى أن قال:فرب شخص أطلق بصره فحرم اعتبار بصيرته، أو لسانه فحرم صفاء قلبه، أو آثر شبهة في مطعمه فأظلم سره، وحرم قيام الليل وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك...وهذا أمر يعرفه أهل محاسبة النفس(10) "ا هـ .
ويقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ عندما تحدث عن عقوبات الذنوب والمعاصي :
"ومن عقوبات الذنوب أنها تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله، وتضعف وقاره في قلب العبد ولا بد، شاء أم أبى، ولو تمكن وقار الله وعظمته من قلب العبد لما تجرأ على معاصيه ... إلى أن قال:فإن عظمة الله تعالى وجلاله في قلب العبد تقتضي تعظيمَ حرماته، وتعظيمُ حرماته تحول بينه وبين الذنوب (11) "ا هـ .
والمقصود هنا بيان أثر الذنوب في حرمان لذة العبادة،وآثارها على سلوك الفرد .
وبعد هذا، فلنلج إلى لب هذه الورقة، للحديث عن شيء من الآثار السلوكية للحج، في المحور الآتي بحول الله.
المحور الثالث: آثار الحج السلوكية
وقبل أن أذكر هذه الآثار، يقال : لا يخفى أن الحج عبادة من أعظم العبادات، رتب الشرع عليه ثوابا عظيما لمن كان حجه مبرورا، كما قال عليه الصلاة و السلام ـ فيما رواه الشيخان ـ " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة "، وعندهما أيضاً أنه – صلى الله عليه وسلم - قال " من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه " .
وهذه الفضيلة العظيمة إحدى بل هي من أجل المنافع التي أشار إليها تبارك وتعالى بقوله : (ليشهدوا منافع لهم)، وتأمل ـ أيها القارئ الكريم ـ قوله: (منافع) فهي عامة في المنافع الدينية والدنيوية .(/4)
والمتأمل في الحج يجد أن أعظم مقاصده هو تحقيق العبودية لله عز وجل ، وتوحيدُه بإفراده وحده ـ سبحانه بالعبادة ـ ولهذا لما ذكر الله عز وجل جملة من آيات الحج قال: (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فإلهكم إله واحد فله أسلموا، وبشر المخبتين ) [الحج :34].
قال بعض أهل العلم (12)في تفسيره لهذه الآية : " إن أجناس الشرائع وإن اختلفت في بعض التفاصيل فهي متفقة على هذا الأصل وهو ألوهية الله، وإفراده بالعبودية، وترك الشرك به، ولهذا قال ( فله أسلموا )أي: انقادوا واستسلموا له لا لغيره، فإن الإسلامَ له، هو الطريق الموصل إلى دار السلام وهي الجنة " ا هـ .
إن مظاهر التسليم والانقياد في هذه العبادة واضحةٌ جداً، ولهذه المظاهر أثر عظيم على زيادة الإيمان، واستقامة السلوك .
إذا عُلِمَ هذا، فليس من المستغرب أن تكون جميع المظاهر التي يراها المسلم إنما هي نابعة من شجرة التوحيد المباركة، ولا يمكن أن تنفصل عنه، حتى ما قد يظنه البعض من أنه مظهر اجتماعي أو نحو ذلك، فإنه عند التأمل فرع من فروع تلك الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، فاجتماع المسلمين، وتآلفهم، وتعارفهم على بعض هو من ثمار الموالاة لأهل (لا إله إلا الله).
والمقصود أن مظاهر التوحيد في الحج كثيرة، تبرز للمسلم في كل موقف من المواقف التي تتصل بنسكه، ولعلي أبدأ بأول هذه المواقف مع الإشارة إلى بعض آثارها السلوكية:
الموقف الأول:
عندما يسافر الإنسان إلى البيت الحرام لأداء شعيرة الحج، ألا يستشعر مِنّة الله عليه وفضلَه، أن هداه لهذا السفر المبارك في الوقت الذي يسافر فيه البعض من المسلمين يمنة ويسرة لإمضاء إجازة العيد للترويح، أو لتحصيل شهوة قد تكون محرمة، أو يسافر إلى بلاد الكفر من غير حاجة أو ضرورة ! وهل يتذكر - المسلم - نعمة الله عليه أن يسر له السفر والوصول إلى تلك البقاع المقدسة، في الوقت الذي يتمنى ويشتاق كثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الوصول إلى البيت فلا يستطيعون إما لقلة ذات أيديهم أو لغير ذلك من الموانع ؟! ولهذا لما رأى بعض الصالحين الحجاج وقت خروجهم من بلدهم إلى مكة يريدون الحج وقف يبكي ويقول: واضعفاه .. ثم تنفس وقال : هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت، فكيف تكون حسرة من انقطع عن الوصول إلى رب البيت .
ولعل البعض قرأ قصة ذلك المسلم الذي قدم من الجمهوريات الإسلامية -بعد سقوط الشيوعية - فلما وصل إلى المسجد الحرام ورأى الكعبة بكى بحرقة، وأخذ يتذكر ويقول: هذا بيت الله الذي كان يحدثنا عنه والدي، والذي كان يتحرق شوقاً إلى رؤيته لكنه منع من قبل طواغيت الكفر، فمات قبل أن يراه .
الموقف الثاني :
في لباس الإحرام يتجرد المسلم من اللباس الذي اعتاده، إلى لباس يستوي فيه الجميع :الغني والفقير، والأمير والحقير، وهو تأكيد لأصل عظيم في هذا الدين، ألا وهو أن الناس سواء لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى :
أرى الناس أصنافا ومن كل بقعة * * *إليك انتهوا من غربة وشتات
تساووا فلا أنساب فيها تفاوت* * *لديك ولا الأقدار مختلفات
وقول الله أبلغ :( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير ) .
هذا المشهد العظيم يبعث في النفس آثاراً عظيمة، منها : أن توحيد اللباس فيه إشارة إلى توحيد الكلمة، والمقصد، (فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين ) .
ومنها : أن الناس في ميزان العبودية سواء، الله ربهم وهم عبيده، فأكرمهم عنده أتقاهم، وأرفعهم منزلة من زاد ذله لمولاه، وعَظُمَ انكساره بين يدي ربه، وكًثُرَ طرقه لباب سيده، أما مناصب الدنيا فلا وزن لها هنا.
الموقف الثالث :
التلبية، وما أدراك ما لتلبية ؟ التي تستمر مع الحاج منذ تلبسه بالحج إلى أن يرمي جمرة العقبة يوم العيد، هذا النداء الخالد الذي يعلن فيه العبد استجابته لنداء الله الذي أعلنه إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما في قوله سبحانه : ( وأذن في الناس بالحج ) هذه التلبية التي قال عنها جابر ـ رضي الله عنه ـ في وصفه لحجة المصطفى – صلى الله عليه وسلم - :" فأهل رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد "، وتأمل قوله " بالتوحيد "، وذاك لأمرين :
أحدهما : أن أهل الجاهلية كانوا إذا لبوا قالوا " لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك " فكانوا يشركون في التلبية .
الثاني : أن هذه الجملة العظيمة اشتملت على أنواع التوحيد الثلاثة :الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فقوله ( الملك لك ) إشارة إلى توحيد الربوبية، وقوله ( لبيك لا شريك لك ) إشارة إلى الألوهية، وقوله ( إن الحمد والنعمة لك ) إشارة إلى توحيد الأسماء والصفات .(/5)
إذن هي ألفاظ ومعان عظيمة، فيها ثناء على الله تعالى، واعتراف باستحقاقه للعبادة وحده سبحانه، واعتراف بأن النعم كلها من عنده، وأنه سبحانه هو المستحق للحمد كله، لهذا ينبغي أن يكون لها آثار على سلوك الحاج، ومن ذلك :
1 ـ أن يحمد الله عز وجل على هدايته للتوحيد في الوقت الذي يقع فيه بعض المنتسبين للإسلام في صور من الشرك عظيمة إما لجهلهم، أو لاعتقادهم أن عملهم هو الدين الحق فزُين ذلك لهم حتى صار دينا لا يتحولون عنه والعياذ بالله، فليحمد العبد ربه وليعلم أن هدايته محض فضل الله عز وجل عليه .
2 ـ ومن الآثار أيضا : أن يحمد المسلم ربه أن جعل قلبه مستيقناً يقيناً لا شك فيه بأن الله تعالى هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، لكمال ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأن ما سوى الله من المعبودات لا يستحق ذلك، يستحضر العبد ذلك وهو يرى بعض صور الشرك التي يقع فيها بعض الحجاج الجهلة !
ويستحضر المسلم ذلك وهو يتذكر الأمم الكثيرة ـ الغابرة والحاضرة ـ التي وقعت في لوثة الشرك فرأته دينا صوابا ـ عياذا بالله ـ يتذكر وحمد ربه أن عصمه من ذلك، وهذا يدعوه إلى سؤال الله تعالى الثبات على التوحيد حتى الممات، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء .
3 ـ ومن الآثار أيضاً : أن يكون العبد على وجل وخوف إذا لبى من عدم إجابة تلبيته وقبول حجه، وهذا الخوف ينبغي أن يدفعه لمزيد الإحسان في العمل، وفي الوقت نفسه ينبغي أن يحذر من القنوط، بل يجمع بينهما .
فهذه إشارة عابرة إلى التلبية وما فيها من معان عظيمة، والتي ينبغي أن نتذكرها حينما نلبي، وألا نكون كحال بعض الناس الذي يرددها وكأنه يردد قصيدة ملحنة !! .
ولعل تذكر هذه المعاني ـ أخي القارئ ـ لعل هذا هو السبب فيما نقل عن بعض السلف أنه كان إذا لبى غلبه تذكره فأغمي عليه، كما روى ذلك الإمام مالك عن علي بن الحسين ( زين العابدين ) ـ رحمهما الله تعالى ـ أنه أحرم، فلما أراد أن يلبي قالها، فأغمي عليه ، وسقط من ناقته فهشم رحمه الله، فقيل له في ذلك ؟ فقال : أخشى أن أجاب بلا لبيك !.
وقد رأيت بنفسي رجلا ـ صحبته في الحج ـ لما أحرم بدأ بالتلبية فغلبه البكاء، وذلك أنه تذكر موقفاً وقع لأحد أئمة التابعين وهو محمد بن المنكدر، وذلك أنه روي عنه أنه لما بدأ في التلبية سكت في منتصفها وقال :أخشى أن أُجاب بغير ما أريد، يعني أنه خشي أن يقال له : لا لبيك ولا سعديك، فغلبه البكاء حتى سقط عن راحلته ـ رحمه الله تعالى ـ .
الموقف الرابع :
الحاج يفعل في حجه أموراً كثيرة، قد لا يدرك لها حكمة سوى تحقيق العبودية والاستسلام لله عز وجل ، والمتابعة للنبي – صلى الله عليه وسلم -، وهذا كله يثمر التقوى ومن ذلك مثلاً :
تقبيل الحجر الأسود، أمر لا يعلم له المسلم تفسيرا سوى المتابعة المحضة للنبي – صلى الله عليه وسلم - ولهذا كان عمر – رضي الله عنه - يقول ـ كما في الصحيحين ـ :" والله إني لأقبلك، وإني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك "ولله در عمر، فإنه أراد أن يعلم ويربي من تبلغه هذه المقولة أن الأمر محض استسلام ومتابعة :
فما البيت ؟ والأركان ؟ والحجر ؟ والصفا ؟ *** وما زمزم؟ أنت الذي قصدناه
وأنت منانا، أنت غاية سؤلنا *** وأنت الذي دنيا وأخرى أردناه
وهكذا الشأن ـ أيها الأحبة ـ في جميع المناسك، يسأل الحاج أحيانا :
لماذا الطواف بالبيت ؟ ولماذا لم يكن خمسة أشواط بدل سبعة ؟ وما الحكمة من السعي ؟ ورمي الجمار ؟ والبيات بمنى ؟ والنحر، و....و.... أسئلة كثيرة ..لا نعلم لها جوابا ألا أن الأمر محض استسلام وتعبد، وتعظيم لشعائر الله عز وجل، وإقامة ذكره سبحانه وبحمده، وأن الهدف من ذلك هو حصول تقوى الله سبحانه، ولهذا قال الله عز وجل: ( لن ينال الله لحومها و لا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم، كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم، وبشر المحسنين )والشاهد قوله : ( لتكبروا الله على ما هداكم ) أي لتعظموه وتجلوه جزاء هدايته إياكم فإنه يستحق أكمل الحمد، وأجل الثناء، وأعلى التعظيم(13)، ويقول عز وجل: ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب )، ويقول سبحانه : ( الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب ) .
ومع هذه التساؤلات التي أشرت إليها آنفا، فالمسلم لا يعتريه شك في أن هذه الأعمال هي من صلب أعمال المناسك، وأنه لو لم يفعلها لم يصح حجه أو نقص أجر حجه، ولكن ابحث عن أثر هذا الاستسلام في حياة بعض الحجاج خاصة والمسلمين عامة !!
وابحث عن هذا الإقدام على الامتثال للأوامر، فسترى عجباً .(/6)
إن من الناس من يبلغه الأمر عن الله وعن رسوله – صلى الله عليه وسلم - في بعض الأمور، فيبدأ في التساؤلات، وإبداء الإشكالات التي لا تنبئ عن بحث عن الحق أو التماس للحِكَم، ولكنها تنبئ عن نوع من التردد أو التباطؤ في فعل هذا الأمر أو اجتناب ذاك النهي !!
فلماذا هذا النظر إلى الأوامر والنواهي ؟! والله تبارك وتعالى يقول في محكم كتابه : (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ).
الموقف الخامس :
يجد المسلم في الحج والعمرة أيضاً أن الإحرام له محظورات يمتنع المسلم منها حال إحرامه ـ رغم أنها من أطيب الطيبات ـ كالطيب ولبس الثياب التي تفصل على الجسم، وغيرها من المحظورات، ويلحظ المسلم أيضاً أن الحرم له أحكامه التي تخصه، فلا ينفر صيده، ولا يعضد شوكه، ولا تحل لقطة الحرم إلا لمنشد، إلى غير ذلك من الأحكام التي جاءت بها النصوص، وبسط أهل العلم الكلام عليها، وأيضاً شُرع للمسلم أن يأتي البيت على أحسن هيئة، ولباس معظم ـ وهو الإحرام ـ ولا يجوز للحاج أن يخرج من مكة بعد حجه إلا بعد طواف الوداع ما لم يكن معذورا شرعا، ويلاحظ المسلم أيضاً أن الحج مضبوط بأوقات وأماكن محددة، لا يجوز أن يتجاوزها المسلم، فلماذا كل هذا ؟
لا شك أن هذا كله من تعظيم شعائر الله عز وجل ، لأن تعظيمها تعظيم لأمر الله، وهذا يورث في النفس من الاستكانة، والخضوع، والاستسلام، والذل لله، وانشراح الصدر ما لا يستطيع وصفه أعظم الناس بلاغة وفصاحة، وهذا ـ والله ـ هو مقصود العبودية الأعظم، وبه تعلو درجة العبد عند ربه وتمحى عنه آثار الذنوب والمعاصي .
ومن ذلك أيضاً أثر سلوكي آخر ألا وهو : قيام عبودية المراقبة لله عز وجل، فالحاج يطوف ويسعى ويرمي الجمار ويبيت بمنى ويقف بعرفة وينصرف منها كل ذلك حسب العدد والزمان والمكان الذي حدده الشرع، ولا يخطر بباله أن يجعل الطواف ثمانية أشواط مثلا، والسعي ـ لأنه طويل ـ سيختصره إلى خمسة، أو أنه يفكر في أن يزيد في عدد حصى الجمار، كلا، كل ذلك ليس في باله، ولم يحم طائر تفكيره حوله، فلماذا ؟ لأنه يعلم أن الله تعالى مطلع عليه، و لأنه يخشى فساد أو نقص حجه ؟
وهذا أثر عظيم، ودرس كبير، يبعث المسلم إلى مراقبة ربه جل وعلا في سائر أعماله وشتى أحواله، فالمطلع على أحوال الحج مطلع على غيره من الأعمال .
ومن الآثار السلوكية أيضاً : الاعتياد على اغتنام الأوقات ـ رأس مال الإنسان ـ والعلم بأن لكل وقت من أوقات المسلم له وظيفته التي جعلها الله لها .
فهذا الحاج لو فاته الوقوف بعرفة، أو رمى في غير وقت الرمي، أو بات خارج منى ـ بلا عذر ـ أو غيرها من الأعمال، إما أن يفسد حجه أو ينقص حسب رتبة العمل .
والمقصود من ذلك أن يعود المسلم نفسه على ترتيب وقته ومحاولة اغتنامه، وعدم تضييعه، فإن العمر قصير والواجبات كثيرة .
الموقف السادس :
في الحج، لا تكاد تخطئ عين الحاج مريضاً، أو محتاجاً، أو معاقاً، أو مفترشاً الأرض إلى آخر تلك الصور المتكررة، والتي تبعث في نفسه شعوراً بأمور، ينبغي أن تظهر آثارها على سلوكه، ومن ذلك :
أن يشكر الله تعالى بلسانه وجوارحه، على أن عافاه مما ابتلى به هؤلاء الناس .
قد تبصر عيناك ـ في عرصات المشاعر المقدسة ـ مريضاً، فليكن ذلك دافعاً على اللهج بحمد الله على نعمة الصحة .
وقد تقع عينك على محتاج ! فاحمد الله أن أغناك من فضله فلم تحتج،وتمد يدك إلى مخلوق.
وإن التفت فرأيت معاقاً، فاحمد الله على إطلاق جوارحك .
وإن رمقت بمقلتك أعمى فاحمد الله على نعمة البصر، وهكذا في أنواع من النعم تراها اجتمعت فيك، وفقدها ـ أو فقد بعضها ـ غيرك .
ومن الآثار : أن يتذكر المسلم برؤيته لهذه المناظر تفاوت الناس يوم القيامة !
فهاهم في الدنيا منهم الصحيح القوي،ومنهم المريض الضعيف،ومنهم من هو بين ذلك،وهم يوم القيامة سيتفاوتون على قدر أعمالهم،فمنهم منه في أعلى الدرجات،ومنهم منه في أدناها .
وثمة أثر سلوكي آخر يدفعك إليه نظرك إلى هذه المناظر، ألا وهو :
البذلُ والإنفاقُ، وسخاوةُ النفس لهؤلاء المحتاجين وأمثالهم، فتعطف على الفقراء، وتحسن إلى المساكين، وتبذل للمنقطعين .
ومن الحجاج من يبلغ مرتبة أعلى في الإنفاق، فيبذل ماله حتى على إخوانه الأغنياء الذين يستطيعون الحج بأنفسهم ؛رغبة في الثواب والأجر، ومن أشهر من عرف عنه ذلك :
الإمام عبدالله بن المبارك ـ رحمه الله تعالى ـ الذي كان إذا أراد الحج من بلده (مروْ ) جمع أصحابه وقال :من يريد منكم الحج ؟ فيأخذ نفقاتهم، فيضعها عنده في صندوق ويقفل عليه، ثم يحملهم وينفق عليهم أوسع النفقة، ويطعمهم أطيب الطعام، ثم يشتري لهم من مكة ما يريدون من الهدايا والتحف، ثم يرجع إلى بلده، فإذا وصلوا صنع لهم طعاما، ثم جمعهم عليه،ودعا بالصندوق الذي فيه نفقاتهم، فرد إلى كل واحد منهم نفقته (14).فرحمه الله رحمة واسعة .(/7)
وذُكِر أن الحسن بن عيسى الماسرجسي ـ وهو أحد المحدثين الثقات ـ أنفق في حجته التي مات فيها : (300000) ثلاثمائة ألف درهم (15).
ومن العجيب أن هذا المحدث كان نصرانيا فأسلم وحسن إسلامه وطلب العلم حتى صار له فيه شأن، ولقد عُدّت المحابر في مجلسه اثنا عشر ألف محبرة، وسبحان الله ما أعظمه من دين !!من أخذ به عزّ ومن أعرض عنه ذلّ !!
فأين التجار المسلمون الذين ولدوا وعاشوا بين المسلمين ؟! نعم في الناس بقية ـ ولله الحمد ـ لكن من المؤكد أن حاجة الحجيج إلى أنواع من البذل والإحسان، دون أعداد التجار الذين يعرفون .
ولهذا يقال لإخواننا الذين وسّع الله عليهم : لا ينبغي أن يكون التنافس مقتصرا على أمر الدنيا، فما أحسن أن تجمعوا مع أمر الدنيا أمر الآخرة !
وقد أشار الله – عز وجل- إلى ذلك في كتابه، حيث قدم التزود بالتقوى على تجارة الدنيا فقال : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واتقون يا أولي الألباب، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) .
الموقف السابع :
يلمس المتتبع لحجة النبي – صلى الله عليه وسلم - مخالفته للمشركين في شعائرهم التي كانوا عليها في الجاهلية، ومن هذه الشعائر التي خالف النبي – صلى الله عليه وسلم - فيها أهل الجاهلية :
أ/ مخالفته لهم في التلبية كما سبق أن أشرت إليه .
ب/ مخالفته لهم في الاعتمار في أشهر الحج، في الوقت الذي كان أهل الجاهلية يعتقدون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما - .
ج/ كانت قريش لا تقف بعرفة كما يقف سائر الناس،بحجة أنهم أهل الحرم !! فخالفهم النبي – صلى الله عليه وسلم - فوقف بعرفة حتى غربت الشمس ثم دفع، كما في الصحيحين من حديث عائشة، وجبير بن مطعم رضي الله عنهما .
د/ كان أهل الجاهلية يتأخرون في الدفع من مزدلفة حتى تشرق الشمس ويقولون أشرق ثبير(16) كيما نغير، وثبير جبل معروف على يسار الذاهب إلى منى وهو أعظم جبال مكة(17).
والمعنى : لتطلع عليك الشمس يا جبل حتى ننفر، فخالفهم النبي – صلى الله عليه وسلم - فكان يفيض من مزدلفة قبل شروق الشمس .
هـ/ ومما يلحق بهذا الموضوع أيضا، أن النبي – صلى الله عليه وسلم - بعد فراغه من حجه ـ نزل في خيف بني كنانة، وهو موطن تعاقدت فيه قريش وتعاهدت على مقاطعة النبي – صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين، وفرضوا عليهم حصارا اقتصاديا، بل وفرضوا عليهم حصارا اجتماعيا تمثل في امتناعهم من تزويج كل من آمن بالنبي – صلى الله عليه وسلم -، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يظهر منة الله تعالى عليه بظهور التوحيد وأهله، وانقماع الشرك وأهله، فقال ـ كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - قال لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ونحن بمنى : " نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر، وذلك أن قريشا وبني كنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، يعني بذلك المحصّب " .
يقول ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ معلقا على هذا الحديث : " وكانت عادته صلوات الله وسلامه عليه أن يقيم شعار التوحيد في مواضع شعائر الكفر والشرك، فيظهر شعائر الإسلام في المكان الذي أظهروه، فيه شعائر الكفر(18)".
والآثار السلوكية التي نستفيدها من هذه المخالفات الصريحة من النبي – صلى الله عليه وسلم - لأهل الإشراك كثيرة من أهمها :
1 ـ حرص الإسلام على تميز أتباعه في كل شيء في عباداتهم وأعيادهم ولباسهم وكلامهم، وغير ذلك، وخاصة في باب العبادات،بل إنه سد كل باب يفضي إلى التشبه بهم وحرم على المسلمين ذلك، كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود وأحمد عن ابن عمر – رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال :" من تشبه بقوم فهو منهم " .قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ :إسناده جيد .(/8)
2 ـ تأكيد الأمر العظيم، والأصل الأصيل، الذي هو أحد الأصول التي قام عليها هذا الدين، ألا وهو البراءة من المشركين في شعائرهم وأعيادهم وأخلاقهم ولباسهم وغير ذلك مما تميزوا به، وهذه البراءة تقتضي بغضهم وعداوتهم، وبغض ما هم عليه من كفر وشرك والحذر من التشبه بهم في أي شيء من خصائصهم، وليس هذا أمرا غريبا بل هو ملة إبراهيم – صلى الله عليه وسلم - الذي أعلنه صراحة في وجوه الكفار، كما قال الله – عز وجل – (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ) فهو يعلن عليه الصلاة والسلام أن العداوة والبغضاء لا أمد لها سوى الإيمان بالله وحده -عز وجل - وأن يكونوا حنفاء لله غير مشركين به، وقد سار على هذه الطريق ابنه الخليل الثاني نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم - فبعث أبا بكر – رضي الله عنه - عام تسعة من الهجرة ليعلن البراءة من المشركين، وألا يحج بعد هذا العام مشرك ـ كما في الصحيحين ـ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
ومع وضوح مكانة هذا الأصل، وكونه من المسلمات في الشرع، حتى قال عنه بعض أهل العلم : " ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده " (19).
أقول : مع وضوح مكانته من الدين إلا أننا –وللأسف- لازال بعض المسلمين أو ممن ينتسب إلى الإسلام من يخرق هذا الأصل العظيم : فمنم من يهون من شأن عداوة الكفار عموما أو من عداوة اليهود والنصارى على وجه الخصوص، حتى ظن بعضهم أنه يمكن أن نتقارب مع أهل الكتب السماوية المنسوخة بدين الإسلام، أو أنه يمكن أن نلتقي تحت مظلة الإنسانية .ومنهم من يظن أن المخرج لهذا التخلف الذي تعيشه أمة الإسلام هو السير في ركاب الغرب والشرق وأخذ جميع ما عندهم، من غير تمييز بين النافع والضار .
ومن مظاهر خرق هذا الأصل ما يراه كل مسلم من التشبه بالكفار في لباسهم أو سلوكهم، ومن أوضح الصور ما نراه من القصات الغريبة،ولبس القبعات،والتي زاد سعارها مع هذا البث الفضائي المحموم، إلى غير ذلك من المظاهر التي تدل على وجوب تكثيف الحديث عن هذا الأصل العظيم، خاصة في هذا الزمان الذي أصبح الحديث عن المسلمات من الواجبات والله المستعان.
3 ـ وفي قصة النزول بالمحصب، فوائد وعبر ومنها : أن العبد ينبغي له أن يتذكر دائما منة الله عليه بالهداية والتوفيق، وأن يسعى لإظهار الدين وخاصة في الأماكن التي كانت مجمعا للشر، أو كان الشخص نفسه ممن عاش فيها فترة من الزمن أيام غفلته،وكل هذا مع مراعاة تحقيق المصالح، ودرء المفاسد .
الموقف الثامن :
النحر في دين الله له شأن عظيم، قرنه الله عز وجل في كتابه بالصلاة، كما في قوله سبحانه : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) على أحد القولين في الآية وفي قوله تعالى : ( فصل لربك وانحر ) ، وفي صحيح مسلم عن علي – رضي الله عنه - قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " لعن الله من ذبح لغير الله " .
وللنحر في الحج منزلة عظيمة، فالمسلم ينحر ذبيحته تقربا إلى الله – عز وجل - إما هديا، أو جبرانا لما وقع في نسكه من الخلل أو يذبح تطوعا، وأهل الأمصار يشاركون الحجاج في عبادة النحر بذبح الأضاحي إحياء لسنة خليل الرحمن: إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذي ابتلي بذلك البلاء العظيم الذي لا يصبر عليه كل أحد، أمر بذبح ابنه، ومتى ؟! عندما كبر في السن، ويئس من الولد، وبعدما صار الولد قطعة من القلب !
أَمَا ـ والله ـ إنه لو وكّل غيره بذبح ابنه لما كان الأمر هيناً، فكيف به وهو يؤمر أن يباشر الذبح بنفسه ؟!
ويبلغ التسليم منه المبلغ العظيم حينما عرض على ابنه إسماعيل أن يشاركه في الابتلاء، فقال له : (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ؟ قال : يا أبت افعل ما تؤمر ) فلما حصل التسليم منهما لم يكن للذبح وإراقة الدم حاجة، لأن إبراهيم نجح في هذا الابتلاء ليعطي كل حنيف مسلمٍ درسا عظيما في صدق الامتثال، وسرعة المبادرة وإن كان ذلك بخلاف ما تهواه النفس .
إذا تبين هذا، فإن لهذه العبادة آثار عظيمة يجدر ألا تغيب عن بال المسلم حين يباشرها أو ينظر إليها، ومن ذلك :
1 ـ أن يحمد الله عز وجل أن جعله لا يذبح إلا له، في الوقت الذي يرى فيه أو يعلم عن أناس ممن ينتسبون إلى المسلمين يذبحون وينذرون الدماء لطوائف من المخلوقين :إما أولياء ـ وقد لا يكونون كذلك أصلا ـ أو جن أو غيرهم المخلوقين الذين صرف العبادة لهم شرك أكبر مخرج من الملة .
2 ـ وقفة تأمل مع عدد الإبل التي ذبحها النبي – صلى الله عليه وسلم - في حجته، وهي مائة ناقة !! ذبح منها ثلاثاً وستين بيده الشريفة، وأكمل الباقي علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - .
ونحن نعلم أنه كان يكفيه لنسكه سبع بدنه أو شاة واحدة، فلماذا كل هذا ؟(/9)
ما هو ـ والله ـ إلا التعظيم لشعائر الله، وما هو إلا الجود والسخاء الذي عرف به – صلى الله عليه وسلم - وما هو ـ والله ـ إلا الانشراح والراحة التي يجدها بأبي هو وأمي – صلى الله عليه وسلم - في التقرب إلى الله بهذه العبادة العظيمة : عبادةِ النحر، ووالله،لو كان يرضي ربه نحر نفسه لفعل،وهذا الشعور يجده الحجاج أيضا كلٌ بحسب ما يقوم بقلبه من اليقين، والتعظيم،والحب،وليس هذا فحسب :
فلو كان يرضي الله بذل نفوسهم *** لدانوا به طوعا وللأمر سلموا
كما بذلوا عند الجهاد نحورهم *** لأعدائه حتى جرى منهم الدمُ
ولكنهم دانوا بوضع رؤوسهم *** وذلك ذل للعبيد وميسم ُ(20)
3 ـ أن في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام عبرة في قوة الانقياد والتسليم لأمر الله تعالى، وهذا أمر ملاحظ في الحج أيضا، فترى مواقع المفتين تمتلئ بالسائلين عن دقيق الأمور وجليلها، وهم في نفس الوقت على أتم الاستعداد لفعل ما يُفْتون به ولو كلفهم ذلك بذل شيء من المال، بل لو كلفهم ذلك إعادة الحج مرة أخرى !
وهذا الشعور شعورٌ حسن، ولكن أين هؤلاء عن السؤال عن أمور دينهم قبل الحج وبعده ؟
ثم أين استعدادهم لامتثال أوامر الله عز وجل ولو كانت تخالف أهواءهم ؟
وأين أثر قصة إبراهيم في نفوسهم ؟
سبحان الله ! ما أعظم الفرق بين الصحابة وبين غيرهم ! الصحابة الذين ضربوا أروع الأمثلة في الانقياد والتسليم، وإن كان الأمر في أول وهلة على غير ما تهواه نفوسهم،وإليكم مثالا واحدا يجلي هذا المعنى :
ففي الصحيحين أن ظهير بن رافع – رضي الله عنه - لما بلغه أن النبي – صلى الله عليه وسلم - نهى عن صورة معينة من صور المزارعة، قال لقد نهانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - عن أمر كان لنا رافقا ـ يعني فيه رفق بنا ـ قال – رضي الله عنه - : وطواعية الله ورسوله خير لنا (21).
الموقف التاسع :
في يوم عرفة مواقف عظيمة، لها أثرها على السلوك وتزكية النفس، ومن ذلك :
أ/ تذكر عظمة الله – جل وعلا - في اختلاف الألسنة والألوان والأحجام، فكم لغة يُتكَلَّم بها في هذا الموقف؟
وكم الدعوات التي ترتفع إلى السماء تسأل الله الرحمة والمغفرة ؟.
وكم في القلوب من النوايا والرغبات ؟.
فسبحان من لا تختلف عليه اللغات ! ولا تشتبه عليه الأصوات !
وإذا كان هذا محل للتأمل فما الظن بلغات أهل الأرض كلهم ؟
وما الظن بحاجات الخلق كلهم ؟ أنسِهم وجنِهم ؟ المكلف وغير المكلف ؟!.
ب/موقف عرفة موقف عظيم، يجعل نفس المؤمن تتأرجح بين منزلتي الخوف والرجاء !
فالعبد يخاف حينما يتذكر ذنوبا بينه وبين ربه اقتحمها عن عمد وإصرار !
ويخاف المؤمن حينما يتذكر أن الله شديد العقاب،ويغار على حرماته أن تنتهك، ويخاف أن تزل قدمه بعد ثبوتها أن يختم له بخاتمة سيئة !
ويخاف المؤمن وهو يتذكر تلك الأحوال التي وقعت لجماعات من السلف الصالح الذين كانوا أئمة في العلم والعمل، وأنهم ـ مع صلاحهم وتقواهم ـ يخافون الرد وعدم القبول ! ومن ذلك :
الموقف الذي وقع بين بكر بن عبدالله المزني، وعبدالله بن الشخير ـ وهما من سادات التابعين ـ حيث وقفا بعرفة، فقال أحدهما : اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي، وقال الآخر :ما أشرفه من موقف وأرجاه لولا أني فيهم !
قال الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ معلقا : كذلك ينبغي للعبد أن يزري على نفسه ويهضمها(22) .
ووقف الفضيل بن عياض بعرفة والناس يدعون، وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة قد حال البكاء بينه وبين الدعاء، فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء وقال : واخجلتاه منك وإن عفوت .
ومراده ـ رحمه الله ـ أني على خجل وحياء منك بسبب ذنوبي وإن عفوت عنها، وهذا ـ والله ـ مقام من الخوف رفيع (23).
يقول ابن الجوزي ـ رحمه الله تعالى ـ معلقا على هذا الموقف : " ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه وإن تاب منها وبكى عليها،وإني رأيت أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة، وكأنهم قد قطعوا على ذلك، وهذا أمر غائب، ثم لو غفرت بقي الخجل من فعلها، ويؤيد الخوف بعد التوبة، أنه في الصحاح : أن الناس يأتون إلى آدم فيقولون اشفع لنا، فيقول :ذنبي ...إلى أن قال:فهؤلاء إذا اعتبرت ذنوبهم لم يكن أكثرها ذنوبا حقيقة،وثم إن كانت فقد تابوا منها واعتذروا،وهم بعد على خوف منها ...إلخ كلامه النفيس " (24) .
ووقف بعض الخائفين بعرفة إلى أن قرب غروب الشمس،فنادى :الأمان..الأمان قد دنا الانصراف،فليت شعري ما فعلت بحاجة المسكين !!
الأمان الأمان وزري ثقيل *** وذنوبي إذا عددن تطول
أوبقتني أوثقتني ذنوبي *** فتُرى إلى الخلاص سبيل ؟ (25)(/10)
وكما أن العبد يخاف في ذلك الموقف، فهو أيضا يرجو ربه حينما يتذكر سعة رحمة الله عز وجل وعظيم مغفرته، نعم يرجو ربه الذي قال في كتابه : (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم)، والذي قال أيضا: (ورحمتي وسعت كل شيء) نعم .. يرجو رحمة أرحم الراحمين حينما يتذكر قول النبي – صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم عن عائشة – رضي الله عنها - " ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة،وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد هؤلاء ؟"
فأي فخر وأي شرف لك ـ يا عبدالله ـ أعظم من أن يباهي بك رب العالمين ؟!
وبمن يباهي بك ؟! يباهي بك ملائكته الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون !
فيا من يحب أن يباهي به ربه ملائكته، اعمل على تحقيق هذه المباهاة بالتزام أمر ربك، وترك نواهيه !
ارحم نفسك وارحم عباد الله تنل رحمة ربك، فقد قال نبيك – صلى الله عليه وسلم - : "الراحمون يرحمهم الرحمن، إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ".
و العبد يرجو مغفرة الله ورضوانه وخاصة في مثل هذا المقام العظيم، حينما يتذكر بعض الأحوال التي وقعت للسلف الصالح – رضي الله عنهم - ، ومن ذلك :
(1) أن ابن المبارك جاء إلى الإمام سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تهملان، فقال ابن المبارك :من أسوأ هذا الجمع حالاً ؟ قال سفيان : الذي يظن أنه لا يغفر لهم .
وإني لأدعو الله أسأل عفوه *** وأعلم أن الله يعفو ويغفر
لئن أعظم الناسُ الذنوب فإنها *** وإن عظمت في رحمة الله تصغر
(2) وروي عن الفضيل أنه نظر إلى نشيج الناس وبكائهم عشية عرفة، فقال : أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقا ( يساوي سدس درهم ) أكان يردهم ؟ قالوا : لا .قال : والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق !!.
والمقصود أن يجمع العبد بين هاتين العبادتين:الخوف والرجاء وليغلب إحداهما على الأخرى حسب الشعور الذي ينتابه في تلك اللحظات المهيبة .
(3) ومن المعاني العظيمة التي تتجلى في موقف عرفة :ذلك المشهد العظيم الذي يذكر بالموقف الأكبر يوم القيامة، يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيقفون خمسين ألف سنة، وهم في العرق على قدر أعمالهم ـ كما ثبت في الصحيح ـ !
نعم !! إنه موقف مؤثر والله،ويزداد تأثيره في النفس حينما يرى الإنسان انصراف الناس من موقف عرفة، ويتذكر بذلك انصراف الناس من الموقف الأكبر : فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير !
ويتذكر ذلك ـ أيضاً ـ حينما ينصرف الناس من حجهم إلى بلدانهم :
أناسٌ مقبولون قد غفرت ذنوبهم، وآخرون يعودون إلى أوطانهم وليس لهم من حجهم إلا التعب والنصب ـ نسأل الله العافية والسلامة ـ !! فيالها من حسرة عظيمة إن لم يقبل من العبد عملُه.
وفي "السير" للذهبي : أن عمر بن ذر خرج إلى مكة، فكان إذا لبى لم يلب أحد أحسن من صوته، فلما أتى الحرم قال ـ مناجيا ربه ـ : ما زلنا نهبط حفرة ونصعد أكمة، ونعلو شرفا، ويبدو لنا عَلَمٌ (جبل)، حتى أتيناك بها، فليس أعظم المؤنة علينا تعب أبداننا،ولا لإنفاق أموالنا، ولكن أعظم المؤنة أن نرجع بالخسران !! يا خير من نزل النازلون بفنائه !.
وفي الختام أعترف بأن الموضوع يستحق أكثر مما ذكر، وهناك جوانب تستحق الوقوف معها، لكن هذا ما تيسر عرضه في هذه الورقة .
أسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا وسمعنا، وأن يتقبل من الجميع صالح أعمالهم، وأن ييسر للحجاج حجهم، وأن يتمم سعينا وسعيهم بالغفران ولقبول، وأن يجعل ما علمناه حجة لنا لا علينا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين .
________________________________________
(1) القاموس المحيط (435،436) مادة أثر .
(2) ينظر : معجم مقاييس اللغة 3/97 ،ولسان العرب 10/442 مادة سلَكَ،وتفسير ابن كثير والسعدي للآية رقم (200) من سورة الشعراء .
(3) القاموس المحيط (1137) مادة خلق .
(4) نقله عنه ابن القيم في " المدارج " في منزلة المراقبة ، ينظر "تهذيبها " للعزي 1/ 498 ، ط. الرسالة ، وينظر كلام ابن القيم في 1/360 فهو مهم في هذا الموضوع .
(5) فتح الباري 1/77-78 ح(16) .
(6) نقله ابن القيم عنه في مدارج السالكين، ينظر :"تهذيبها" 1/368 في آخر كلامه على منزلة التوبة .
(7) صيد الخاطر ص (292) .
(8) صيد الخاطر ص (292) .
(9) ينظر تهذيب مدارج السالكين 1/300 .
(10) صيد الخاطر (80) وفي نفس الصفحة تجد كلمة وهيب بن الورد السابقة .
(11) الجواب الكافي ص/ 67، ط. دار البيان .
(12) تفسير ابن سعدي للآية 34 من سورة الحج .
(13) ينظر تفسير السعدي للآية (37) من سورة الحج .
(14) تهذيب الكمال 16/21 .
(15) السير 12/29 .
(16) هذا اللفظ في البخاري مع الفتح (3/621) ح(1684)، والزيادة (كيما نغير) عند ابن ماجه وغيره .(/11)
(17) فتح الباري 3/621 .
(18) زاد المعاد 2/294 .
(19) سبيل النجاة والفكاك للشيخ حمد ابن عتيق /31 .
(20) ميمية ابن القيم المطبوعة مع النونية /254 .
(21) وهذا بناء على فهم الصحابي أنه – صلى الله عليه وسلم - نهى عن تلك الصورة، وإلا فالحقيقة أن النبي – صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن صورة فيها غرر ـ كما يتبين من مراجعة بقية روايات هذا الحديث ـ.
والشاهد من هذا : أن هذا الصحابي عزم على ترك ما فهمه، مع اعتقاده أن تلك الصورة من المزارعة فيها نفع لهم، كل ذلك من تمام التسليم والانقياد.
(22) السير 4/534، اللطائف (496) .
(23) اللطائف (496 ) .
(24) صيد الخاطر (502) .
(25) اللطائف (496) .(/12)
الحج والتربية الروحية
خالد أحمد الشنتوت
*
abothaer_s@hotmail.com
التربية الروحية :
هي تنمية الروح التي نفخها الله في الإنسان ، قال تعالى [ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ] ص 72
وأخرج الشيخان يرحمهما الله تعالى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق [ إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ....الحديث ] صحيح البخاري رقم 3036 ، ومسلم 2643
والإنسان جسد وروح ، يغلب جسده روحه إذا ضعفت هذه الروح ، ويقترب الإنسان عندئذ من الحيوان ، فيصير عبداً وأسيراً لشهوات الطعام والشراب والجنس والنوم وغيرها من الشهوات الحسية . وتذبل الروح وتذوي وتضمر ويغلبها الطين الذي تجذبه الأرض إليها فيهبط الإنسان ، ويسلك في حياته ما يشبع جسده من عناصر الطين ، ويحبس نظره وآماله في هذه الأرض ، وهذه الحياة الدنيا ، كما هو عند ( الغافلين ) الذين لايبصرون إلا بعيونهم الحسية ، بعد أن ران على قلوبهم ماكانوا يكسبون .
أما إذا قويت الروح فتغلب الجسد ، وتقوده لما فيه خير الإنسان في الدنيا والآخرة ، وتحافظ عليه من الإفراط أو التفريط ، وعندما تسيطر الروح فإنها لاتكبت الجسد ، ولاتظلمه ، بل تسوسه بما يصلحه ، وينقاد الإنسان عندئذ لربه عزوجل الذي نفخ فيه الروح ، ويصير الإنسان عندئذ ( إنساناً ) يبتعد عن صفات الحيوان ، ليقترب من مهمة الخلافة التي خلقه الله من أجلها .
( والطاقة الروحية في الإنسان هي أكبر طاقاته ، وأعظمها ، وأشدها اتصالاً بحقائق الوجود ، وطاقة الجسم محدودة بما تدركه الحواس ، وطاقة العقل أكثر طلاقة ؛ لكنها محدودة أيضاً بالزمان والمكان ، أما طاقة الروح فلاتعرف الحدود والقيود ، وهي وحدها تملك الاتصال بالله ) محمد قطب ، منهج التربية الإسلامية (1/44)
ويعنى الإسلام عناية خاصة بالروح ، وهي نقطة الأساس للإنسان ، لأنها صلة الإنسان بالله ، وطريقة الإسلام في تربية الروح هي أن يعقد صلة دائمة بينها وين الله عزوجل ، في كل لحظة ، وكل عمل وكل فكرة وكل شعور .
والعبادة هي الوسيلة الفعالة لتربية الروح، لأننا في العبادة نكون على صلة بالله عزوجل ، ولأن العبادة تعقد الصلة بالله عزوجل ، والشعائر التعبدية كالصلاة والصوم والحج والزكاة ، من حكمها الأساسية ربط العبد بربه ، وتمتين الصلة بين العبد وربه عزوجل ، ومن نعم الله على الإنسان أن العبادة يومية كالصلاة ، ولها مواسم سنوية كالصيام ، وموسم في العمر كالحج ، والشعائر التعبدية مواسم لتمتين الصلة بالله سبحانه وتعالى ، ومنها الحج . فالحج دورة في العمر يصقل الروح ويقوي صلتها بالله عزوجل ، ويشحنها بمراقبة الله عزوجل .
دور الحج في التربية الروحية :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل ؟ قال : " إيمان بالله ورسوله " قيل ثم ماذا ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " قيل ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور " [ متفق عليه ] .
ويقترن الجهاد بالحج بأنهما من الأعمال المقربة إلى الله عزوجل ، وهما من أفضل الأعمال بعد الإيمان .
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : يارسول الله ، نرى الجهاد أفضل العمل ، أفلا نجاهد ؟ فقال : لكن أفضل الجهاد حج مبرور [ رواه البخاري ] ، وفي رواية : قلت : يارسول الله هل على النساء جهاد ؟ قال عليهن جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة " [ رواه ابن خزيمة ] .
الحج تجرد مؤقت من الدنيا :
- يبدأ الحج بالإحرام والتجرد من الثياب المخيطة ويتجنب استعمال العطور طيلة مدة الإحرام ، ويلبس الحجاج لباساً موحداً وهو الإزار والرداء من اللون الأبيض وفي الإحرام تجرد من الدنيا وزينتها وزخرفها ، والاكتفاء منها بما يستر العورة على الجسد ، والأقبال على الله عزوجل .
التلبية حث على التوجه إلى الله عزوجل :
ويلبي الحاج بعد دخوله في الميقات فيعلن [ لبيك اللهم لبيك ، لاشريك لك لبيك ...] ، وكأنه يقول : تركت الدنيا ومافيها ، وعجلت إليك ربي لترضى ، وها أنا عبداً لك وحدك ، لا أهتم بغيرك ياربي ، بعد أن تجرد من ثيابه وزخرف الدنيا ، ويعلن توجهه إلى ربه عزوجل .
الحج هجر مؤقت للدنيا ومتعها الحسية :
وفي الحج يترك المسلم ما تعوده من طعام وشراب ، ويأكل ويشرب ما تيسر له دون كلفة أو مشقة ، ويتحرر من سيطرة العادات في المأكل والمشرب والنوم ففي المأكل اعتاد كثير من المسلمين على تعدد الأصناف وترتيبها على طاولة الطعام من مقبلات وفواكه وغيرها ، كما اعتادوا على وقت محدد للغداء وآخر للعشاء ، كما اعتاد كثير من المسلمين على تعدد أصناف الشراب من المرطبات والماء المثلج مما يصعب توفيره في رحلة الحج .(/1)
وفي ترك هذه العادات محاولة لإخراج الإنسان من أسوار الدنيا وملذاتها الحسية ، ومحاولة أيضاً لإضعاف الجسد ، كي تسيطر الروح عليه ، وتقوده نحوه خيره في الدنيا والآخرة .
كذلك اعتاد كثير من المسلمين على النوم في أوقات محددة وعلى فرش وثيرة ووسادة بعينها فإن تغيرت تلك الوسادة أرق وطار منه النوم ....! أين هذا من الحجيج !؟ الذين يتوسدون الحجارة أو أحذيتهم عندما يتاح لهم أن يخلعوا أحذيتهم من أرجلهم ، ويرقدون دقائق ولا يتح لهم أن يناموا في فراش واحد أكثر من ساعات قليلة حيث يرتحلون إلى مكان آخر .
فالحج يعود على التحرر من سيطرة عادات الطعام والشراب والنوم المتحكمة في كثير من المسلمين ، عندما يتغير أسلوب الطعام ونوعيته على الحاج وكذلك الشراب والنوم .
الروح في مناسك الحج :
وتتصل الروح بربها عزوجل ، وتطول مدة الاتصال ، ففي الطواف حول الكعبة يشغل الحاج نفسه بذكر الله عزوجل ، وطلب العفو والمغفرة منه ، وطلب الجنة والنجاة من النار ، وتتألق الروح عندما تحس بصاحبها وهو يتوجه إلى الله عزوجل بقلب خاشع ، وعين دامعة ، يسأله العفو والمغفرة ، وتفرح الروح لما ترى صاحبها مهتماً بربه ومتعلقاً به .
وكذلك عندما يصلي ركعتي الطواف ويتجه بالدعاء إلى ربه عزوجل ، أمام مقام إبراهيم عليه السلام ، والدعاء مخ العبادة ، وفي الدعاء تتحقق عبودية الإنسان لله عزوجل ، وبنفس الوقت تتحقق حرية الإنسان الحقيقية ، فعبد الله ليس عبداً لأحد غيره وهذا عين الحرية ولاحرية بعد ذلك .
وعند السعي بين الصفا والمروة ، يلهج لسان العبد بالذكر والدعاء ، ويتذكر هاجر أم اسماعيل عليه السلام ، كيف كان تعلقها بالله عزوجل ، وقد صرحت بذلك وقالت لإبراهيم عليه السلام وهي تستفهم منه لماذا يتركهما في هذا القفر : آلله أمرك بذلك ؟ قال : نعم . قالت : إذن لايضيعنا .
وفي يوم عرفة عندما تجمع العصر مع الظهر ليتفرغ الحاج للدعاء ومناجاة ربه عزوجل ، وإلحاحه في الدعاء كي يغفر الله له ذنوبه ، ومن يغفر الذنوب إلا الله !؟ وكلما رأت الروح صاحبها متعلقاً بربه عزوجل نمت وكبرت وقويت ، وهذا ما يغذي الروح أثناء الحج .
وفي ازدحام الحجيج عند النفرة من عرفة وفي مزدلفة وعند رمي الجمرات يتذكر الحاج يوم الحشر وأهواله ، ويزداد تعلقاً بربه عزوجل ، ليعينه في ذلك اليوم ، ويهون عليه أهواله ومشقاته . ويتذكر قدر نفسه ، فهو عبد لله ، مثل هؤلاء العبيد الكثيرين حوله ، ويحرر من مكانته المؤقتة في الدنيا .
ويوم النحر يحلق الحاج شعره ، ليؤكد التجرد من الدنيا وزينتها ، وهذا سر تفضيل الحلق على التقصير ، ففي الحلق سمو على الدنيا ومظاهرها الفانية ، واستعداد وتجرد للإقبال على الله عزوجل ، الله الذي ينظر إلى قلوبنا ولاينظر إلى شعورنا وملابسنا .
وكل مناسك الحج تؤكد هذا المعنى : تجرد من الدنيا وإقبال على الله عزوجل ، وهذا ماينفع الروح ، وينميها ، ويساعدها على قيادة الجسد والسيطرة عليه .
أسأل الله عزوجل أن يجعل قلوبنا متعلقة به ليل نهار ، وان لايجعلنا من الغافلين ، وأن لايجعل الدنيا أكبر همنا ومبلغ علمنا ، إنه سميع بصير ، والحمد لله رب العالمين .
* باحث في التربية الإسلام(/2)
الحج والوحدة المنشودة مالك إبراهيم بابكر*
قال تعالى: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير * ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق).
تعيش الأمة الإسلامية نفحات أيام تلك الفريضة الربانية (الحج) التي فرضها الله لعباده في أشهر معلومات، وزمن معلوم، ومكان محدود هو (عرفات) والمناسك الأخرى.. تلك المناسك المباركة والبقعة الطاهرة التي تهوي إليها النفوس، وتتهافت إليها القلوب، وتسير إليها الركبان فرادى وجماعات يأتون من كل فج عميق؛ استجابة لنداء الملك العلام (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق)؛، ليتنعموا بلحظات التجلي العظيم لله على عباده، ويعيشوا أياماً مباركات؛ قياماً وسجوداً، تهليلاً وتكبيراً، ذكراً وتلبيةً: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)؛ رافعين بذلك شعار العبودية الخالصة لله تعالى، مجسدين معاني الوحدة والأخوة الإيمانية بينهم، التي لم تكن تكاد توجد في أي تجمع من تجمعات الكتل البشرية في هذه الأرض.. لا رفث يسمع منهم، ولا فسوق عندهم، ولا جدال يقع بينهم؛ الكل هناك سواسي كأسنان المشط؛ لا رئيس ولا مرؤوس، ولا مالك ولا مملوكم، لا غني ولا فقير؛ كلهم عباد الله إخواناً، تجمعهم لغة التوحيد، يعملون عمل رجل واحد، في وقت واحد، وكأنك عندما تتحسس مشاعرهم وتقرأ في وجوههم معاني الإيمان الحقيقي تقسم أنهم في دنيا أخرى غير دنيانا الفانية.
أجل؛ إنه الحج ونفحاته الإيمانية التي تنقل الإنسان من الإنسانية التي لا معنى لها إلى معنى الربانية الحقة بكل جوارحه وقلبه وكيانه، والذي يدهشك أكثر - عندما تراهم وتنقلك أفعالهم إلى عالم عباد الله الذين أسلموا وجوههم لله حقاً - هو ذلك الخضوع التام، والاستسلام الكامل في فعل كافة شعائر الحج ومناسككه، الكل منهم - والله حسيبهم - يؤديها بيقين وإيمان، ويسعى لها طائعاً مطمئناً؛ ليس إلا لأنها منسك من مناسك الحج الذي أمر به الله، وهداهم إليه نبي الأمة عليه الصلاة والسلام قائلاً: (خذوا عني مناسككم).. وهنا يشدني ويحضرني ذلك الاستسلام التام من فاروق هذه الأمة (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه؛ حيث قال عن الحجر الأسود: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).
إن فريضة الحج، وتلك الدروس والعبر المستوحاة منها تنبئك بحكمة عظيمة - والله أعلم - تظهر لعباد الله من فرض هذه الفريضة في زمن معلوم، ووقت محدود، ومكان واحد؛ ليكون أكبر تجمع يمثل الوحدة الإسلامية؛ على مختلف شعوبها، واختلاف لغاتهم، وليكون المؤتمر السنوي للأمة الإسلامية؛ تلتقي فيه الأفئدة والقلوب، وتذوب فيه كافة أشكال النعرات العنصرية بين آحاد الأمة الإسلامية، ويتساوى فيه الناس جميعاً؛ فيذكرهم بيوم الحشر والنشر بين يدي الله سبحانه وتعالى؛ فيجددّون فيه العهد مع الله؛ تراهم هناك كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
فالوحدة بين أفراد الأمة نرى معناها في الحج جليّاً كوضوح الشمس؛ وحدة في المشاعر، ووحدة في الشعائر، ووحدة في الهدف، ووحدة في القول والعمل؛ لا إقليمية، ولا عنصرية، ولا عصبية للون، أو جنس، أو طبقة بعينها؛ كما هو مرفوض في الإسلام: (إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد؛ فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى).
تلك هي المعاني والقيم، والدروس والحكم المستقاة من تلك الفريضة؛ فالحج هو التجمع العالمي الوحيد؛ الذي يجسد معنى الوحدة والمساواة بين الناس؛ تجمع لا مثيل له.. ويمثلها واقعاً يعيشونه بينهم؛ لا نظير له في كافة التجمعات البشرية والمؤتمرات العالمية بمختلف أشكالها وأنواعها وأهدافها.
كيف لا يكون ذلك وهو التجمع الوحيد الذي هدفه الأول عبادة الله حقاً، وأداء المناسك والشعائر التي تعبر عن تقوى المؤمن لله تعالى، وشهود المنفعة الدنيوية للأمة.
وفيه يوم عرفة.. ذلك اليوم المشهود؛ الذي تلتقي فيه نفحات السماء بالأرض، وتتساوى فيه الرؤوس، وتنبذ فيه كل أنواع الشرك والكبرياء؛ فلا تقديس ولا تعظيم ولا تبجيل إلا لله الواحد الأحد سبحانه وتعالى.. إنه اليوم الذي أكمل الله فيه لهذه الأمة أمرها؛ ورضي لها الإسلام ديناً؛ فلا تبديل، ولا تحريف لكلمات الله؛ قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً).(/1)
إنه يوم أبان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة مناسكها، وحرم فيه الدماء والأموال إلا بالحق، وبين فيه مضامين صون الحقوق والأعراض، وأعلن فيه المساواة بين البشرية (كلكم لآدم وآدم من تراب)، وأقر فيه حقوق الإنسان وكرامته قبل أن يعرفها الغرب المفتري وأعوانه الذين يجهلون التاريخ عنوة وتكبراً، ويكيدون العداء للإسلام حسداً وتحسراً.
ولكن تأتي فريضة الحج والآيات المنزلة فيه لتقطع عليهم الطريق؛ فلا ينالون من هذا الدين الإسلامي طالما أن الأمة تتمسك بمنهجه القويم؛ وتقيم شعائره بإخلاص وإيمان؛ فيعلنها الرسول صلى الله عليه وسلم مدوية بحق عبر الوحي القرآني (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون).. يقول أحد النصارى عن مدى جدوى التنصير في البلاد الإسلامية: (سيظل الإسلام صخرة عاتية تتحطم عليها سفن التنصير النصرانية ما دام للإسلام هذه الدعائم: القرءان، واجتماع الجمعة الأسبوعي، ومؤتمر الحج السنوي).
نعم.. إنها شهادة الأعداء بعد أن يئسوا من ذلك الدين، وسيظل الإسلام هكذا؛ صخرة عاتية؛ تتحطم عليها كل سفن الكفر والإلحاد، وما تحمله من مؤامرات ودسائس لهذا الدين الحنيف؛ رغم أنف الأعداء؛ بفضل منهجه القويم، وشرائعه الربانية التي أكملها الله لعباده يوم الحج الأكبر؛ يوم عرفة؛ الذي يجب على الأمة الإسلامية أن تتذكر فيه تلك النعم، والعناية الربانية لها؛ بأن أنعم الله عليها بالإسلام، وارتضاه لها ربنا، وحفظه من التبديل والتحريف؛ فيعملوا جاهدين على توحيد الأمة الإسلامية، وجعله واقعاً معاشاً بينهم في كافة نواحي الحياة.
فوحدة الأمة منهج رباني، وهدي نبوي؛ جاء به الإسلام، وأرساه قيماً، وسلوكاً، وعملاً، وعبادة في كافة نواحي الحياة؛ فما من عبادة، أو خلق إسلامي، أو أمر دنيوي إلا وتجد فيه الدعوة إلى الوحدة، والتوحيد، وتجسيد روح الترابط، والمساواة بين الأمة.
فهلاّ استقرأنا تلك المعاني والحكم من هذه الفريضة (الحج)، واستوعبنا تلك المواعظ والعبر، واستجبنا لنداء الملك العلام القائل: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).(/2)
الحج والوحدة المنشودة
مالك إبراهيم بابكر*
قال تعالى: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير * ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق).
تعيش الأمة الإسلامية نفحات أيام تلك الفريضة الربانية (الحج) التي فرضها الله لعباده في أشهر معلومات، وزمن معلوم، ومكان محدود هو (عرفات) والمناسك الأخرى.. تلك المناسك المباركة والبقعة الطاهرة التي تهوي إليها النفوس، وتتهافت إليها القلوب، وتسير إليها الركبان فرادى وجماعات يأتون من كل فج عميق؛ استجابة لنداء الملك العلام (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق)؛، ليتنعموا بلحظات التجلي العظيم لله على عباده، ويعيشوا أياماً مباركات؛ قياماً وسجوداً، تهليلاً وتكبيراً، ذكراً وتلبيةً: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)؛ رافعين بذلك شعار العبودية الخالصة لله تعالى، مجسدين معاني الوحدة والأخوة الإيمانية بينهم، التي لم تكن تكاد توجد في أي تجمع من تجمعات الكتل البشرية في هذه الأرض.. لا رفث يسمع منهم، ولا فسوق عندهم، ولا جدال يقع بينهم؛ الكل هناك سواسي كأسنان المشط؛ لا رئيس ولا مرؤوس، ولا مالك ولا مملوكم، لا غني ولا فقير؛ كلهم عباد الله إخواناً، تجمعهم لغة التوحيد، يعملون عمل رجل واحد، في وقت واحد، وكأنك عندما تتحسس مشاعرهم وتقرأ في وجوههم معاني الإيمان الحقيقي تقسم أنهم في دنيا أخرى غير دنيانا الفانية.
أجل؛ إنه الحج ونفحاته الإيمانية التي تنقل الإنسان من الإنسانية التي لا معنى لها إلى معنى الربانية الحقة بكل جوارحه وقلبه وكيانه، والذي يدهشك أكثر - عندما تراهم وتنقلك أفعالهم إلى عالم عباد الله الذين أسلموا وجوههم لله حقاً - هو ذلك الخضوع التام، والاستسلام الكامل في فعل كافة شعائر الحج ومناسككه، الكل منهم - والله حسيبهم - يؤديها بيقين وإيمان، ويسعى لها طائعاً مطمئناً؛ ليس إلا لأنها منسك من مناسك الحج الذي أمر به الله، وهداهم إليه نبي الأمة عليه الصلاة والسلام قائلاً: (خذوا عني مناسككم).. وهنا يشدني ويحضرني ذلك الاستسلام التام من فاروق هذه الأمة (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه؛ حيث قال عن الحجر الأسود: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).
إن فريضة الحج، وتلك الدروس والعبر المستوحاة منها تنبئك بحكمة عظيمة - والله أعلم - تظهر لعباد الله من فرض هذه الفريضة في زمن معلوم، ووقت محدود، ومكان واحد؛ ليكون أكبر تجمع يمثل الوحدة الإسلامية؛ على مختلف شعوبها، واختلاف لغاتهم، وليكون المؤتمر السنوي للأمة الإسلامية؛ تلتقي فيه الأفئدة والقلوب، وتذوب فيه كافة أشكال النعرات العنصرية بين آحاد الأمة الإسلامية، ويتساوى فيه الناس جميعاً؛ فيذكرهم بيوم الحشر والنشر بين يدي الله سبحانه وتعالى؛ فيجددّون فيه العهد مع الله؛ تراهم هناك كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
فالوحدة بين أفراد الأمة نرى معناها في الحج جليّاً كوضوح الشمس؛ وحدة في المشاعر، ووحدة في الشعائر، ووحدة في الهدف، ووحدة في القول والعمل؛ لا إقليمية، ولا عنصرية، ولا عصبية للون، أو جنس، أو طبقة بعينها؛ كما هو مرفوض في الإسلام: (إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد؛ فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى).
تلك هي المعاني والقيم، والدروس والحكم المستقاة من تلك الفريضة؛ فالحج هو التجمع العالمي الوحيد؛ الذي يجسد معنى الوحدة والمساواة بين الناس؛ تجمع لا مثيل له.. ويمثلها واقعاً يعيشونه بينهم؛ لا نظير له في كافة التجمعات البشرية والمؤتمرات العالمية بمختلف أشكالها وأنواعها وأهدافها.
كيف لا يكون ذلك وهو التجمع الوحيد الذي هدفه الأول عبادة الله حقاً، وأداء المناسك والشعائر التي تعبر عن تقوى المؤمن لله تعالى، وشهود المنفعة الدنيوية للأمة.
وفيه يوم عرفة.. ذلك اليوم المشهود؛ الذي تلتقي فيه نفحات السماء بالأرض، وتتساوى فيه الرؤوس، وتنبذ فيه كل أنواع الشرك والكبرياء؛ فلا تقديس ولا تعظيم ولا تبجيل إلا لله الواحد الأحد سبحانه وتعالى.. إنه اليوم الذي أكمل الله فيه لهذه الأمة أمرها؛ ورضي لها الإسلام ديناً؛ فلا تبديل، ولا تحريف لكلمات الله؛ قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً).(/1)
إنه يوم أبان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة مناسكها، وحرم فيه الدماء والأموال إلا بالحق، وبين فيه مضامين صون الحقوق والأعراض، وأعلن فيه المساواة بين البشرية (كلكم لآدم وآدم من تراب)، وأقر فيه حقوق الإنسان وكرامته قبل أن يعرفها الغرب المفتري وأعوانه الذين يجهلون التاريخ عنوة وتكبراً، ويكيدون العداء للإسلام حسداً وتحسراً.
ولكن تأتي فريضة الحج والآيات المنزلة فيه لتقطع عليهم الطريق؛ فلا ينالون من هذا الدين الإسلامي طالما أن الأمة تتمسك بمنهجه القويم؛ وتقيم شعائره بإخلاص وإيمان؛ فيعلنها الرسول صلى الله عليه وسلم مدوية بحق عبر الوحي القرآني (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون).. يقول أحد النصارى عن مدى جدوى التنصير في البلاد الإسلامية: (سيظل الإسلام صخرة عاتية تتحطم عليها سفن التنصير النصرانية ما دام للإسلام هذه الدعائم: القرءان، واجتماع الجمعة الأسبوعي، ومؤتمر الحج السنوي).
نعم.. إنها شهادة الأعداء بعد أن يئسوا من ذلك الدين، وسيظل الإسلام هكذا؛ صخرة عاتية؛ تتحطم عليها كل سفن الكفر والإلحاد، وما تحمله من مؤامرات ودسائس لهذا الدين الحنيف؛ رغم أنف الأعداء؛ بفضل منهجه القويم، وشرائعه الربانية التي أكملها الله لعباده يوم الحج الأكبر؛ يوم عرفة؛ الذي يجب على الأمة الإسلامية أن تتذكر فيه تلك النعم، والعناية الربانية لها؛ بأن أنعم الله عليها بالإسلام، وارتضاه لها ربنا، وحفظه من التبديل والتحريف؛ فيعملوا جاهدين على توحيد الأمة الإسلامية، وجعله واقعاً معاشاً بينهم في كافة نواحي الحياة.
فوحدة الأمة منهج رباني، وهدي نبوي؛ جاء به الإسلام، وأرساه قيماً، وسلوكاً، وعملاً، وعبادة في كافة نواحي الحياة؛ فما من عبادة، أو خلق إسلامي، أو أمر دنيوي إلا وتجد فيه الدعوة إلى الوحدة، والتوحيد، وتجسيد روح الترابط، والمساواة بين الأمة.
فهلاّ استقرأنا تلك المعاني والحكم من هذه الفريضة (الحج)، واستوعبنا تلك المواعظ والعبر، واستجبنا لنداء الملك العلام القائل: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).(/2)
الحج ووحدة الصف والهدف ...
يأتي شهر ذي الحجة فيفد المسلمون من أنحاء الأرض إلى الأراضي المقدسة ليؤدوا فريضة الحج وليشهدوا منافع لهم، ومن المعاني التي يبعثها الحج في نفوسهم وحدة الصف والهدف والتعاون والتكامل والتكافل، وكلها من الضرورات الحيوية لأمن الأمة وسلامتها في حاضرها ومستقبلها.
وإذا كان علماء النفس والاجتماع يتفقون على أن من أهم أسباب "تماسك الجماعة" هو "أن تكون الاتجاهات الفكرية لأفرادها موحدة، وتتركز في مبادئ وعقائد عامة يعتنقونها جميعًا" فإن الإسلام يتجاوز هذه الأفكار إلى مبادئ تتميز "بالعمق والأصالة والإحكام":
عقيدة التوحيد
إن التوحيد هو مبدأ الإسلام وجوهره الذي يتغلغل في كيان المؤمن، ويعمر به قلبه ونفسه ووجدانه، وهو ـ في الوقت نفسه ـ "الأساس الأصيل" لوحدة الجماعة الإسلامية، وتماسكها حيث يقول الله تعالى: "قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ" (الأنبياء: آية 108)، "وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً" (النساء: آية 125).
وقد فسر الله سبحانه وتعالى معنى التوحيد وإسلام الوجه لله حينما جعل ذروته في شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا يقول: "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" (الأنعام: 162-163).
والحج توحيد خالص، فهو تلبية من أول لحظاته، تلبية هي استجابة لله وحده، استجابة كاملة للأمر ونفي الشريك: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
وقد حرص الإسلام على بث روح المساواة بين الناس وجعل المقياس الذي يتفاضلون به أمرًا آخر وراء اختلاف الألوان والألسنة والمواطن ألا وهو "التقوى" كما يقول الله تعالى: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات: آية 13)، وكما يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ "ليس لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود فضل إلا بالتقوى" وهذه المساواة ليست شعارًا فارغ المضمون، ولكنها "مساواة عملية" فقد آخى الإسلام بين عمر بن الخطاب وبلال الحبشي، وصنع من الموالي أمراء وقادة أمثال زيد بن حارثة، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، ولقد فطن المفكرون الغربيون إلى عقيدة التوحيد السامية فقال الفيلسوف برتراند راسل في كتابه "الثقافة والنظام الاجتماعي": "إن الإسلام دين موجه للجماعة، يتوغل في حياة الفرد والمجموع توغلا كاملا"، وقال أرنولد توينبي: "إن عقيدة التوحيد التي جاء بها الإسلام هي أروع الأمثلة على فكرة توحيد العالم وإن في بقاء الإسلام أمل العالم كله".
التضامن والتعاون
وقد بين الله تبارك وتعالى أننا خلقنا للمودة والتعارف فقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات: آية 13).
وبذلك جعل الفرد إذا وقف بين يدي الله ناجاه وناداه "باسم الجميع": ".إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" الفاتحة: آية 5، وإذا طلب منه الهداية طلبها للجميع "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" (الفاتحة: آية 6).
ومن أجل هذا الموقف الجماعي في صورة الفرد العابد يحذرنا الخالق جلت قدرته من التفرق فيقول: "وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (آل عمران: آية 105).
وعلى ذلك فإن ائتلاف القلوب والمشاعر واتحاد الغايات والوسائل من أوضح توجيهات الإسلام، وإن كانت كلمة التوحيد باب الإسلام، فإن توحيد الكلمة والتعاون من أجلها سر البقاء والنجاح، تلبية لأمر الله: "تَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" (سورة المائدة: آية 2)، ومنهج هذا التعاون هو الاتصال بحبل الله عن طريق الاعتصام، به حيث قال جل شأنه "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا" (آل عمران: آية 103)، ثم تتمثل الوحدة والتضامن والتعاون في أرفع صورها في قول الله تعالى: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ" (الصف: آية 4)، وأصل لفظ مرصوص التماسك بعضه ببعض بالرصاص، والمراد متقن كأنه قطعة واحدة، وقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا". متفق عليه عن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ.
وحدة الصف والهدف قوة ردع(/1)
ولقد شاءت إرادة الله عز وجل أن تكون الأمة الإسلامية أمة قوية مرهوبة الجانب، فأَمَرها بإعداد القوة والمرابطة على النحو الذي "يوقع الرهبة" في قلوب الأعداء ويخيفهم من عاقبة عدوانهم فقال جل شأنه: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ" (الأنفال: آية 60).
وقد جاء لفظ قوة "مطلقًا بغير تحديد" لكي يرشد إلى أن القوة التي يريدها الإسلام هي "القوة الشاملة" التي تضم كل مصادر القوة كالقوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعنوية إلى جانب القوة العسكرية.
هذه المصادر المتعددة للقوة لا يكون لها أثرها وفعاليتها "إلا إذا جمعتها الوحدة" في الأهداف والخطط لتحقيق غاية واحدة، وذلك أول دعائم القوة، ثم يمتد مفهوم القوة تحت ظل الوحدة ليشمل جوانب عديدة من كيان الأمة الإسلامية: فوحدة الأمة الإسلامية كلها قوة، والوحدة والتعاون بين دول الإسلام قوة، والوحدة والتلاحم، بين أبناء الشعب الواحد في كل دولة قوة، والجيوش في ميدان القتال تستمد إرادتها القتالية وروحها المعنوية من وحدة شعوبها ووقوفها صفًا واحدًا وراءها.
والحق أن وحدة الصف والهدف هي في تقدير الإسلام "قوة ردع" تؤدي دورها في ردع الأعداء مع غيرها من مصادر القوة الأخرى، ذلك أن العدو إذا وجد أنه إذا اعتدي على المسلمين فسوف يواجه قوة عسكرية وراءها أمة متحدة متضامنة، وقادرة على مسندتها بكل الوسائل المادية والمعنوية، وعلى تحمل أعباء المعركة مهما طال أمد الصراع، ومهما كانت التضحيات، فإنه سوف يتخلى عن فكرة العدوان أصلا، أو عن الاستمرار في القتال.
شهادة التاريخ
وقد أكد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على فضل الوحدة في الصف والهدف ومكانتها الكبرى في تقدير الإسلام حين جعل الوحدة بين أبناء مجتمع المدينة عقب الهجرة "أساسًا" لبناء ذلك المجتمع وبناء الدولة الإسلامية، فوحد صف الأنصار من أوس وخزرج في ظل الإسلام، وربط المهاجرين بالأنصار برباط الإخاء، وربط بين المسلمين وبين المشركين واليهود من أهل المدينة بمعاهدة نظمت لهم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، وجعلتهم جميعًا ـ على اختلاف دينهم ـ "يدًا واحدة" على أعدائهم.
وقد سجل التاريخ أن المدينة كانت "قاعدة وطيدة للإسلام" وجبهة صلبة استطاعت مواجهة أقوى التحديات من عدوان مباشر ومؤامرات وغدر، وقهرت المدينة كل ذلك، وحاربت أكثر من عدو في أكثر من جبهة، فواجهت المشركين واليهود والروم، وحارب المسلمون أغلب معاركهم عدوا أكثر منهم عددًا وعدة، وحاربوا أحيانًا وهم جرحى ومرضى.
وفي غزوة بدر "أول معركة حاسمة" بين المسلمين والمشركين كانت وحدة الصف والهدف من أهم ما عوض النقص في موازين القوى: بينهم وبين المشركين، انظر إلى قول المقداد بن عمرو عن المهاجرين: "يا رسول الله، امضِ لما أمرك الله فنحن معك.." وقول سعد بن معاذ عن الأنصار: "امش لما أردت فنحن معك".
وفي هذه الغزوة خرج المسلمون "وبعدوا عن المدينة" أكثر من 150 كيلو مترًا دون أن يخشوا أن تأتيهم "ضربة من خلف"؛ إذ كانوا مطمئنين إلى أن وراءهم جبهة صلبة وقاعدة وطيدة وأمينة.
فإذا ما نظرنا إلى الجانب الآخر وجدنا أن المشركين دخلوا تلك المعركة يحملون عوامل هزيمتهم، فقد غابت عنهم وحدة الصف والهدف من قبل المعركة، وحل محلها التردد وتضارب الآراء وطغيان الأنانية الفردية على المصلحة العامة، فمنهم من رجع إلى مكة ومنهم من أراد القتال لأهداف جاهلية عبر عنها قول أبي جهل: "والله لا نرجع حتى نرد بدرًا فنقيم عليه ثلاثة ننحر الجذور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف لنا القيان وتسمع بنا العرب بمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها".
وتحت أعلام الوحدة سجل المسلمون أعظم انتصاراتهم على مدى التاريخ ضد الصليبيين وضد المغول الذين كانت هزيمتهم على يد قوم عرفوا قدر الوحدة وفضلها.
_____________________
* المصدر: إسلام أون لاين.نت(/2)
الحجاب ... إيمان .. طهارة .. تقوى .. حياء .. عفة
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد:-
فقد لقيت المرأة المسلمة من التشريع الإسلامي عناية فائقة كفيلة بأن تصون عفتها ، وتجعلها عزيزة الجانب ، سامية المكان ، وإن الشروط التي فرضت عليه في ملبسها وزينتها لم تكن إلا لسد ذريعة الفساد الذي ينتج عن التبرج بالزينة ، وهذا ليس تقييداً لحريتها بل هو وقاية لها أن تسقط في درك المهانة ، ووحل الابتذال ، أو تكون مسرحاً لأعين الناظرين .
فضائل الحجاب
الحجاب طاعة لله عز وجل وطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم :
أوجب الله طاعته وطاعة رسول صلى الله عليه وسلم فقال :{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا } [الأحزاب : 36]
وقد أمر الله سبحانه النساء بالحجاب فقال تعالى :{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } [النور : 31]
وقال سبحانه : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } [الأحزاب :33] وقال تعالى :{ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } [ الأحزاب : 53] وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } [الأحزاب : 59].
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :" المرأة عورة" يعني يجب سترها .
الحجاب عفة
فقد جعل الله تعالى التزام الحجاب عنوان العفة ، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } [الأحزاب : 59]
لتسترهن بأنهن عفائف مصونات { فَلَا يُؤْذَيْنَ } فلا يتعرض لهن الفساق بالأذى، وفي قوله سبحانه { فَلَا يُؤْذَيْنَ } إشارة إلى أن معرفة محاسن المرأة إيذاء لها ولذويها بالفتنة والشر .
الحجاب طهارة
قال سبحانه وتعالى :{ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } [الأحزاب : 53].
فوصف الحجاب بأنه طهارة لقلوب المؤمنين والمؤمنات لأن العين إذا لم تر لم يشته القلب ، ومن هنا كان القلب عند عدم الرؤية أطهر ، وعدم الفتنة حينئذ أظهر لأن الحجاب يقطع أطماع مرضى القلوب :{ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [الأحزاب : 32].
الحجاب ستر
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن الله حيي ستير ، يحب الحياء والستر " وقال صلى الله عليه وسلم :" أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها خرق الله عز وجل عنها ستره "، والجزاء من جنس العمل .
الحجاب تقوى
قال تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ } [ الأعراف : 26]
الحجاب إيمان
والله سبحانه وتعالى لم يخاطب بالحجاب إلا المؤمنات فقد قال سبحانه وتعالى :{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ } وقال الله عز وجل { وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ}
ولما دخل نسوة من بني تميم على أم المؤمنين – عائشة رضي الله عنها – عليهن ثياب رقاق قالت :"إن كنتن مؤمنات فليس هذا بلباس المؤمنات ، وإن كنتين غير مؤمنات فتمتعن به ".
الحجاب حياء
قال صلى الله عليه وسلم :" إن لكل دين خلقاً ، وإن خلق الإسلام الحياء" وقال صلى الله عليه وسلم :" الحياء من الإيمان ، والإيمان في الجنة " وقال عليه الصلاة السلام : " الحياء والإيمان قرنا جميعاً ، فإن رفع أحدهما رفع الآخر ".
الحجاب غيرة
يتناسب الحجاب أيضاً مع الغيرة التي جُبل عليها الرجل السوي الذي يأنف أن تمتد النظرات الخائنة إلى زوجته وبناته ، وكم من حرب نشبت في الجاهلية والإسلام غيرة على النساء وحمية لحرمتهن ، قال علي رضي الله عنه :" بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج –أي الرجال الكفار من العجم – في الأسواق ألا تغارون ؟ إنه لا خير فيمن لا يغار ".
قبائح التبرج
التبرج معصية لله ورسول صلى الله عليه وسلم
ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ، ولن يضر الله شيئاً ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى "، قالوا : يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال :" من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى ".
التبرج يجلب اللعن والطرد من رحمة الله(/1)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات ، على رؤوسهن كأسنمة البخت ، العنوهن فإنهن ملعونات ".
التبرج من صفات أهل النار
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات .. " الحديث .
التبرج سواد وظلمة يوم القيامة
رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مثل الرافلة في الزينة في غير أهلها ، كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها "، يريد أن المتمايلة في مشيتها وهي تجر ثيابها تأتي يوم القيامة سوداء مظلمة كأنها متسجدة في ظلمة والحديث – وإن كان ضعيفاً – لكن معناه صحيح وذلك لأن اللذة في المعصية عذاب ، والطيب نتن ، والنور ظلمة ، بعكس الطاعات فإن خلوف فم الصائم ودم الشهيد أطيب عند الله من ريح المسك .
التبرج نفاق
قال النبي صلى الله عليه وسلم :" خير نسائكم الودود الولود ، المواسية المواتية ، إذا اتقين الله ، وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات وهن المنافقات لا يدخلن الجنة إلا مثل الغراب الأعصم "، الغراب الأعصم : هو أحمر المنقار والرجلين ، وهو كناية عن قلة من يدخل الجنة من النساء لأن هذا الوصف في الغربان قليل .
التبرج تهتك وفضيحة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها ، فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله عز وجل ".
التبرج فاحشة
فإن المرأة عورة وكشف العورة فاحشة ومقت قال تعالى :{ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء} [الأعراف:28]
والشيطان هو الذي يأمر بهذه الفاحشة { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء}[البقرة:268]
التبرج سنة إبليسية
إن قصة آدم مع إبليس تكشف لنا مدى حرص عدو الله إبليس كشف السوءات ، وهتك الأستار ، وأن التبرج هدف أساسي له ، قال تعالى :{ يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف:27]
فإذن إبليس هو صاحب دعوة التبرج والتكشف ، وهو زعيم زعماء ما يسمي بتحرير المرأة .
التبرج طريقة يهودية
لليهود باع كبير في مجال تحطيم الأمم عن طريق فتنة المرأة وهم أصحاب خبرة قديمة في هذا المجال ، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم :" فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ".
التبرج جاهلية منتنة
قال تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } [الأحزاب :33]
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم دعوى الجاهلية بأنها منتنة أي خبيثة فدعوى الجاهلية شقيقة تبرج الجاهلية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي "، سواء في ذلك تبرج الجاهلية ، ودعوى الجاهلية ، وحمية الجاهلية .
التبرج تخلف وانحطاط
إن التكشف والتعري فطرة حيوانية بهيمية ، لا يميل إليه الإنسان إلا وهو ينحدر ويرتكس إلى مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان الذي كرمه الله ، ومن هنا كان التبرج علامة على فساد الفطرة وانعدام الغيرة وتبلد الإحساس و موت الشعور :
لحد الركبتين تشمرينا *** بربك أي نهر تعبرين
كأن الثوب ظلٌ في صباح *** يزيد تقلصاً حيناً فحينا
تظنين الرجال بلا شعور *** لأنكِ ربما لا تشعرينا
التبرج باب شر مستطير
وذلك لأن من يتأمل نصوص الشرع وعبَر التاريخ يتيقن مفاسد التبرج وأضراره على الدين والدنيا ، لا سيما إذا انضم إليه الاختلاط المستهتر .
فمن هذه العواقب الوخيمة :
* تسابق المتبرجات في مجال الزينة المحرمة ، لأجل لفت الأنظار إليهن .. مما يتلف الأخلاق والأموال ويجعل المرأة كالسلعة المهينة .
ومنها : فساد أخلاق الرجال خاصة الشباب ودفعهم إلى الفواحش المحرمة . ومنها : المتاجرة بالمرأة كوسيلة للدعاية أو الترفيه في مجالات التجارة وغيرها .
ومنها : الإساءة إلى المرأة نفسها باعتبار التبرج قرينة تشير إلى سوء نيتها وخبيث طويتها مما يعرضها لأذية الأشرار والسفهاء .
ومنها : انتشار الأمراض لقوله صلى الله عليه وسلم :" لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا ".
ومنها : تسهيل معصية الزنا بالعين : قال عليه الصلاة والسلام : " العينان زناهما النظر " وتعسير طاعة غض البصر التي هي قطعاً أخطر من القنابل الذرية والهزات الأرضية .قال تعالى :{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}[الإسراء:16]، وجاء في الحديث : "أن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعذاب ".(/2)
فيا أختي المسلمة :
هلا تدبرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم :" نَحِ الأذى عن طريق المسلمين " فإذا كانت إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان فأيهما أشد شوكة ... حجر في الطريق ، أم فتنة تفسد القلوب وتعصف بالعقول ، وتشيع الفاحشة في الذين آمنوا ؟
إنه ما من شاب مسلم يُبتلى منك اليوم بفتنة تصرفه عن ذكر الله وتصده عن صراطه المستقيم – كان بوسعك أن تجعليه في مأمن منها – إلا أعقبك منها غداً نكال من الله عظيم .
بادري إلى طاعة الله ، ودعي عنك انتقاد الناس ، ولومهم فحساب الله غداً أشد وأعظم .
الشروط الواجب توفّرها مجتمعه حتى يكون الحجاب شرعياً .
الأول: ستر جميع بدن المرأة على الراجح .
الثاني: أن لا يكون الحجاب في نفسه زينة .
الثالث: أن يكون صفيقاً ثخيناً لا يشف .
الرابع: أن يكون فضفاضاً واسعاً غير ضيق .
الخامس: أن لا يكون مبخراً مطيباً .
السادس : أن لا يشبه ملابس الكافرات .
السابع : أن لا يشبه ملابس الرجال .
الثامن : أن لا يقصد به الشهرة بين الناس .
احذ ري التبرج المقنع
إذا تدبرت الشروط السابقة تبين لك أن كثيراً من الفتيات المسميات بالمحجبات اليوم لسن من الحجاب في شيء وهن اللائي يسمين المعاصي بغير اسمها فيسمين التبرج حجاباً ، والمعصية طاعة .
لقد جهد أعداء الصحوة الإسلامية لو أدها في مهدها بالبطش والتنكيل ، فأحبط الله كيدهم ، وثبت المؤمنين و المؤمنات على طاعة ربهم عز وجل . فرأوا أن يتعاملوا معها بطريقة خبيثة ترمي إلى الانحراف عن مسيرتها الربانية فراحوا يروجون صوراً مبتدعة من الحجاب على أن أنها "حل وسط " ترضي المحجبة به ربها –زعموا- وفي ذات الوقت تساير مجتمعها وتحافظ على " أناقتها "!
سمعنا وأطعنا
إن المسلم الصادق يتلقى أمر ربه عز وجل ويبادر إلى ترجمته إلى واقع عملي ، حباً وكرامة للإسلام واعتزازا ً بشريعة الرحمن ، وسمعاً وطاعة لسنة خير الأنام صلى الله عليه وسلم غير مبال بما عليه تلك الكتل الضالة التائهة ، الذاهلة عن حقيقة واقعها والغافلة عن المصير الذي ينتظرها .
وقد نفى الله عز وجل الإيمان عمن تولى عن طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ } [النور:47،48] إلى قوله { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {51} وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور : 51،52 ]
وعن صفية بنت شيبة قالت : بينها نحن عند عائشة –رضي الله عنها – قالت : فذكرت نساء قريش وفضلهن ، فقالت عائشة –رضي الله عنها -:" إن لنساء قريش لفضلاً ، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب الله ، ولا إيماناً بالتنزيل ، لقد أنزلت سورة النور { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } [النور : 31] فانقلب رجالهن إليهن يتلون ما أنزل الله إليهن فيها ، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته ، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل ( أي الذي نقش فيه صور الرحال وهي المساكن ) فاعتجرت به ( أي سترت به رأسها ووجهها ) تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله في كتابه ، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان " وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .
إعداد دار القاسم(/3)
الحجاب إذن ورمز :
بقلم الأستاذ عبد السلام ياسين
(المرشد العام لجماعة العدل والإحسان)
تعبر بحجابها وزيها عن أشواق إسلامية وروح المسجد لما تتمكن في طواياها. فرت من الهوس والاختلاط، لكن لم تمر بمجالس الإيمان لترُوحَ روْح الإيمان. وأخرى سترت شعرها وأطراف بدنها حياء فطريا وتقليدا. وأخرى أعجبها زي المتحجبات يُنَوِّعْنَهُ فيكون زينة من الزينة. وأخرى وجدت راحة ضميرها، وحسبت أن صلحها مع الله يتلخص في ستر أجزاء من جسمها.
فاللباس الإسلامي المحتشم رمز في نفس اللابسة لما يعتلج في ضميرها وما يختصم، وهو في عين المراقب السياسي مقياس لقوة المد الإسلامي.
أما في أصل الشرع فالحجاب إذن صريح للمرأة المسلمة بالخروج من بيتها لحوائجها وصلاتها وكسبها ومشاركتها العامة في الحياة إذ لولا ضرورة الخروج، ومشروعية الخروج، لما كانت هناك حاجة لتوصية المرأة المسلمة بستر زينتها وصون جسدها. إنما الصون وواجب الستر اتقاءٌ للأنظار الأجنبية خارج بيتها أساسا.
إن كان الستر واجبا تعصي المسلمة ربها بكشف ما لا ينبغي كشفه وكان رمزا للتوبة والشجاعة في مقاومة السلطة التي تلاحق المتحجبات، ورمزا للصمود أمام مقاومة الأسرة وضغوط المجتمع التقليدي في مرحلة ما قبل ظهور الصحوة وانتصارها، فإن التركيز على الحجاب، واعتباره هو الدين، ورمي المسلمات اللاتي لما يتح لهن الستر بأنهن فاسقات، لمن مثبطات الدعوة، ومُضلات الفهم.
قد يكون الحجاب و الزي أحبولة منافقة تروج بها الفتاة البائرة الحائرة لنفسها، ظاهرة بمظهر الطهر. أي خفاء وراء ذلك الظهور؟ من أية جذور باطنية يتغدى المظهر؟
حجاب أحبولة وحجاب سجن. من الوعاظ من يأخذ بأشد ما في مذاهب الفقه من شدائد، فالحجاب عنده نقاب وقفاز ولون أسود وقطنة في الفم قبل أن تتكلم المرأة فتؤذي العالم بصوتها العورة. ويود الواعظ لو تلبس المرأة جلدا سميكا أو تتخذ لباسا من الصفيح والقصدير إمعانا في الشدة وتحريجا بغير دليل شرعي في دين ما جعل الله فيه من حرج.
في هذه الوهلة العَجْلَى نعرض أحكام الستر. وعلى المومنات أن يرجعن لدراسة أبي شقة العلمية، فقد خصص جزءا كاملا من نيف وثلاثمائة صفحة للمسألة. و المؤمنة حق الإيمان من تتورع لكيلا تقلد واعظا شاذا سمعت شريط من أشرطته الملتهبة حماسا وصدقا. ما نقصه الإخلاص في دين الله، لكن نقصه الفقه في دين الله. و المؤمنة إن كشفت ما أمرها الشرع بستره توشك أن تصنف مع أهل النار الكاسيات العاريات. وهي إن ساهمت في ترويج الفقه الشاذ عارضت سنة رسول الله، وساعدت على جعل الحرج في الدين، فكذبت كلمات ربها وكتابه.
مجتهد القرن الثامن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أخذ بأشد آراء الإمام أحمد. أخذ برأي مروي عن شيخ المحدثين العظيم لا يبيح فيه للمرأة أن تكشف من جسمها للأجنبي ولو الظفر. وهو رأي شاذ مخالف لما عليه جمهور علماء الأمة.
لا ننقص من قيمة المجتهد الإمام أحمد، ولا من علم شيخ الإسلام. نعوذ بالله أن نطعن في أئمة المسلمين. لكن الأئمة العظام رضي الله عنهم تلامذة صغار متواضعون أمام سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: " إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط ! " وقال عن سلفه الإمام الأعظم أبي حنيفة: الناس عالة في الفقه على أبي حنيفة. أبو حنيفة مقدم الفقهاء الأئمة استفتاه رجل فأفتاه. فسأله الرجل: أهذا الذي قلته هو الحق الذي لا باطل معه؟ فيجيبه أبو حنيفة رضي الله عنه في تواضع العلماء: وما يدريك! لعله الباطل الذي لاحق معه ! لعله الباطل الذي لا حق معه ! وبكي الإمام رحمه الله في مرض موته لما بلغه أن الناس تستشهد بآرائه و أقواله، مع أنها اجتهاد قد يرجع عنه.
المجتهد مع الدليل لا مع هواه. فهو ينظر في الأدلة التي صحت عنده ليستنبط أحكاما تصلح حال الأمة. فاجتهاده توفيق بين الدليل ومقاصد الشريعة. يختلف رأي مجتهد عن رأي مجتهد، ويخالف المجتهد قوله الأول إن ظهر له أجود منه. ويجتهد الفقهاء داخل المذهب فيكون الرأي الراجح والمرجوح، والضعيف في المذهب، وقول المتقدمين، وقول المتأخرين، والصحيح في المذهب، والمشهور، والمنصور، والمعمول به. الخ.
لهذا فمن يعتبر رأي فقيه هو الرأي الواحد الصواب جاهل بما هو الفقه. والمتشددون في عصرنا يعتمدون على أقوال و آراء الإمام أحمد رضي الله عنه. فإذا أكدها واختار منها مجتهد القرن الثامن شيخ الإسلام أصبحت الكلمة النهائية في الدين. والعجيب أن آراء الإمام أحمد لم تدون في حياته لأنه يكره ذلك. وروى عنه الناس من بعده آراء متضاربة تعكس سير اجتهاده وتحوله من رأي إلى رأي في فترات حياته وتقدمه في فهم روح الشريعة. كان يريد رحمه الله أن يرجع الناس إلى الأصول لذلك ترك للأمة " المسند" هذا الكتاب الجامع العظيم.(/1)
وترك وصيته ودلالته على النهج القويم في قوله: " إنما كانوا (يعني من أدركهم من العلماء) يحفظون ويكتبون السنن. فأما هذه المسائل تدون وتكتب في الدفاتر فلست أعرف فيها شيئا. و إنما هو رأي لعله قد يدعه غدا، ينتقل عنه إلى غيره".
هذه كلمات عن تاريخ انحباس الفقه وانغلاقه وتشدده.
نسمع الآن إلى مجتهد القرن الخامس ابن حزم الظاهري رحمه الله يضع أصبعنا على الدليل، ويعرض فهمه للدليل. قال رحمه الله في "المحلى": "وأما المرأة فإن الله تعالى يقول: " ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها. وليضربن بخُمُرِهِن على جيوبهن. و لا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن" إلى قوله: " ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن". فأمرهن الله تعالى بالضرب بالخمار على الجيوب. وهذا نص على ستر العورة والعنق و الصدر. وفيه نص على إباحة كشف الوجه. لا يمكن غير ذلك"
ويأتي ابن حزم بحديث البخاري عن ابن عباس: " أنه شهد العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه عليه السلام خطب بعد أن صلى. ثم أتى النساء ومعه بلال. فوعظهن وذكرهن وأمرهن أن يتصدقن. فرأيتهن (يقول ابن عباس) يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال". قال ابن حزم: " فهذا ابن عباس بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أيديهن. فصح أن اليد من المرأة والوجه ليسا عورة. وما عداهما ففرض عليها سَتْرُه"
ويأتي ابن حزم بدليل ثان هو قصة الفضل بن عباس الذي أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فأتته امرأة من قبيلة خثعم تستفتيه. قال ابن عباس راوي الحديث: " فأخذ الفضل يلتفت إليها، و كانت تستفتيه. قال ابن عباس راوي الحديث:" فأخذ الفضل يلتفت إليها، وكانت امرأة حسناء، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحول وجه الفضل إلى الشق الآخر". قال ابن حزم: " فلو كان الوجه عورة يلزم ستره لما أقرها عليه السلام على كشفه بحضرة الناس، ولأمرها أن تُسْبِلَ عليه من فوق. ولو كان وجهها مغطى ما عرف ابن عباس( يعني الفضل أخا عبد الله بن عباس راوي الحديث) أحسناء هي أم شوهاء. فصح كل ما قلناه يقينا. والحمد لله كثيرا".
ونتخطى من القرن الخامس إلى الثاني عشر، متجاوزين اجتهاد المتشددين، لنرى كيف يلتقي المجتهد الشوكاني رحمه الله مع ابن حزم. يقول في "نيل الأوطار": "النبي إنما فعل ذلك ( أي عندما أخذ يحول وجه الفضل عن النظر إلى الخثعمية) لمخافة الفتنة، لما أخرجه الترمذي وصححه من حديث علي، وفيه:" فقال العباس ( والد الفضل عم النبي صلى الله عليه وسلم): لويت عنق ابن عمك!" فقال ( النبي صلى الله عليه وسلم): رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الفتنة".
قال الإمام الشوكاني رحمه الله:" وقد استنبط منه ( من الحديث السابق) ابن القطان جواز النظر عند أمن الفتنة حيث لم يأمرها بتغطية وجهها. فلو لم يفهم العباس أن النظر جائز ما سأل. ولو لم يكن ما فهمه جائزا ما أقره ( النبي ) عليه. وهذا الحديث أيضا يصلح للاستدلال به على اختصاص آية الحجاب السابقة ( قوله تعالى عن نساء النبي : فاسألوهن من وراء حجاب) بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم. لأن قصة الفضل في حجة الوداع (في السنة العاشرة) وآية الحجاب في نكاح زينب في السنة الخامسة من الهجرة.
ويروي الشوكاني عن القاضي عياض الإمام المحدث المالكي قوله حكاية لأقوال العلماء : " إنه لا يلزمها ستر وجهها في طريقها. وعلى الرجال غض البصر".
ويلخص الشوكاني مسألة حجاب المرأة المسلمة فيقول: " و الحاصل أن المرأة تبدي من مواضع الزينة ما تدعو الحاجة إليه عند مزاولة الأشياء والبيع والشراء و الشهادة".
ونجد حتى في قرن سد الذرائع قرن ابن تيمية، وعند أقرب الناس إليه تلميذه وصاحبه الحافظ ابن كثير الشافعي المذهب، ما يخالف اختيار ابن تيمية مخالفة تامة. قال في تفسيره قوله تعالى " ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها" سورة النور الآية : 31 ما يلي : " ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير "ما ظهر منها" بالوجه والكفين. وهذا هو المشهور عند الجمهور".
ويأتي ابن كثير بالحديث الذي رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن أختها أسماء دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال: " يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا" وأشار إلى وجهه وكفيه. حديث يستأنس به لأن بعض المحدثين يطعنون فيه بأنه مرسل، لم يسمع خالد بن دُريك عن عائشة. على أن للحديث ما يقويه.
ونجد الفهم المشهور عند الجمهور عند المالكي أبي بكر بن العربي. قال في " أحكام القرآن “: " والصحيح أنها من كل وجه ( أي الزينة المباح إظهارها) هي التي في الوجه والكفين. وإنها هي التي تظهر في الصلاة وفي الإحرام عبادة، وهي التي تظهر عادة".(/2)
ويخالف الجمهورَ الحنابلةُ المتأخرون فيقولون إن عورة الصلاة غير عورة النظر. ولا دليل يقوم بذلك. كما يخالف الجمهوَر الدعاةُ إلى النقاب والقفاز اعتمادا على حديث نهى فيه النبي صلى الله عليه وسلم النساء عن لبس النقاب والقفاز أثناء الإحرام. وليس مفهوم هذا النهي إقرار لبسهما في غير الحج. ويعتمدون على حديث ابن ماجة الذي تقول فيه أمنا عائشة: " لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهو عروس بصفيةَ بنتِ حُيَي، جئن نساء الأنصار فأخبرن عنها. قالت: فتنكرتُ وتنقبتُ فذهبت. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيني فعرفني. قالت : فالتفت فأسرعت المشي فأدركني".
غارت أم المؤمنين من ضرتها الجديدة، وتنكرت بالنقاب. كيف أصبح لباس بعض نساء العرب يتنكرن فيه ويتجملن به وينهى عن لبسه المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحج سنة ثابتة؟
نختم بكلمة الإمام النووي المحدث الفقيه الشافعي المذهب قال:" المشهور من مذهبنا أن عورة الحرة جميع بدنها إلا الوجه والكفين. وبهذا كله قال مالك وطائفة. وهي رواية عن أحمد ...وممن قال عورة الحرة جميع بدنها إلا وجهها وكفيها الأوزاعي وأبو ثور. وقال أبو حنيفة والثوري والمزني : قدماها أيضا ليسا بعورة. وقال أحمد: جميع بدنها إلا وجهها فقط ".
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.(/3)
الحجاب إيمان طهارة تقوى حياء عفة
دار القاسم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد لقيت المرأة المسلمة من التشريع الإسلامي عناية فائقة كفيلة بأن تصون عفتها، وتجعلها عزيزة الجانب، سامية المكان، وإن الشروط التي فرضت عليه في ملبسها وزينتها لم تكن إلا لسد ذريعة الفساد الذي ينتج عن التبرج بالزينة، وهذا ليس تقييداً لحريتها بل هو وقاية لها أن تسقط في درك المهانة، ووحل الابتذال، أو تكون مسرحاً لأعين الناظرين.
فضائل الحجاب
الحجاب طاعة لله عز وجل وطاعة للرسول :
أوجب الله طاعته وطاعة رسول فقال: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا [الأحزاب:36].
وقد أمر الله سبحانه النساء بالحجاب فقال تعالى: وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31].
وقال سبحانه: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33]، وقال تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59].
وقال الرسول : { المرأة عورة } يعني يجب سترها.
الحجاب عفة
فقد جعل الله تعالى التزام الحجاب عنوان العفة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]، لتسترهن بأنهن عفائف مصونات فلا يتعرض لهن الفساق بالأذى، وفي قوله سبحانه فَلَا يُؤْذَيْنَ إشارة إلى أن معرفة محاسن المرأة إيذاء لها ولذويها بالفتنة والشر.
الحجاب طهارة
قال سبحانه وتعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53].
فوصف الحجاب بأنه طهارة لقلوب المؤمنين والمؤمنات لأن العين إذا لم تر لم يشته القلب، ومن هنا كان القلب عند عدم الرؤية أطهر، وعدم الفتنة حينئذ أظهر لأن الحجاب يقطع أطماع مرضى القلوب: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32].
الحجاب ستر
قال رسول الله : { إن الله حيي ستير، يحب الحياء والستر }، وقال : { أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها خرق الله عز وجل عنها ستره }، والجزاء من جنس العمل.
الحجاب تقوى
قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].
الحجاب إيمان
والله سبحانه وتعالى لم يخاطب بالحجاب إلا المؤمنات فقد قال سبحانه وتعالى: وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ وقال الله عز وجل: وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ .
ولما دخل نسوة من بني تميم على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عليهن ثياب رقاق قالت: { إن كنتن مؤمنات فليس هذا بلباس المؤمنات، وإن كنتين غير مؤمنات فتمتعن به }.
الحجاب حياء
قال : { إن لكل دين خلقاً، وإن خلق الإسلام الحياء }، وقال : { الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة }، وقال عليه الصلاة السلام: { الحياء والإيمان قرنا جميعاً، فإن رفع أحدهما رفع الآخر }.
الحجاب غيرة
يتناسب الحجاب أيضاً مع الغيرة التي جُبل عليها الرجل السوي الذي يأنف أن تمتد النظرات الخائنة إلى زوجته وبناته، وكم من حرب نشبت في الجاهلية والإسلام غيرة على النساء وحمية لحرمتهن، قال علي رضي الله عنه: "بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج –أي الرجال الكفار من العجم – في الأسواق ألا تغارون؟ إنه لا خير فيمن لا يغار ".
قبائح التبرج
التبرج معصية لله ورسول
ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئاً، قال رسول الله : { كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى }.
التبرج يجلب اللعن والطرد من رحمة الله
قال رسول الله : { سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات }.
التبرج من صفات أهل النار
قال رسول الله : { صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات.. } الحديث.
التبرج سواد وظلمة يوم القيامة(/1)
رُوي عن النبي أنه قال: { مثل الرافلة في الزينة في غير أهلها، كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها }، يريد أن المتمايلة في مشيتها وهي تجر ثيابها تأتي يوم القيامة سوداء مظلمة كأنها متسجدة في ظلمة والحديث – وإن كان ضعيفاً – لكن معناه صحيح وذلك لأن اللذة في المعصية عذاب، والطيب نتن، والنور ظلمة، بعكس الطاعات فإن خلوف فم الصائم ودم الشهيد أطيب عند الله من ريح المسك.
التبرج نفاق
قال النبي : { خير نسائكم الودود الولود، المواسية المواتية، إذا اتقين الله، وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات وهن المنافقات لا يدخلن الجنة إلا مثل الغراب الأعصم }، الغراب الأعصم: هو أحمر المنقار والرجلين، وهو كناية عن قلة من يدخل الجنة من النساء لأن هذا الوصف في الغربان قليل.
التبرج تهتك وفضيحة
قال رسول الله : { أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها، فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله عز وجل }.
التبرج فاحشة
فإن المرأة عورة وكشف العورة فاحشة ومقت قال تعالى: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء [الأعراف:28]، والشيطان هو الذي يأمر بهذه الفاحشة الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء [البقرة:268].
التبرج سنة إبليسية
إن قصة آدم مع إبليس تكشف لنا مدى حرص عدو الله إبليس كشف السوءات، وهتك الأستار، وأن التبرج هدف أساسي له، قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا [الأعراف:27].
فإذن إبليس هو صاحب دعوة التبرج والتكشف، وهو زعيم زعماء ما يسمي بتحرير المرأة.
التبرج طريقة يهودية
لليهود باع كبير في مجال تحطيم الأمم عن طريق فتنة المرأة وهم أصحاب خبرة قديمة في هذا المجال، حيث قال النبي : { فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء }.
التبرج جاهلية منتنة
قال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33].
وقد وصف النبي دعوى الجاهلية بأنها منتنة أي خبيثة فدعوى الجاهلية شقيقة تبرج الجاهلية، وقد قال النبي : { كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي }، سواء في ذلك تبرج الجاهلية، ودعوى الجاهلية، وحمية الجاهلية.
التبرج تخلف وانحطاط
إن التكشف والتعري فطرة حيوانية بهيمية، لا يميل إليه الإنسان إلا وهو ينحدر ويرتكس إلى مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان الذي كرمه الله، ومن هنا كان التبرج علامة على فساد الفطرة وانعدام الغيرة وتبلد الإحساس و موت الشعور:
لحد الركبتين تشمرينا *** بربك أي نهر تعبرين
كأن الثوب ظلٌ في صباح *** يزيد تقلصاً حيناً فحينا
تظنين الرجال بلا شعور *** لأنكِ ربما لا تشعرينا
التبرج باب شر مستطير
وذلك لأن من يتأمل نصوص الشرع وعبَر التاريخ يتيقن مفاسد التبرج وأضراره على الدين والدنيا، لا سيما إذا انضم إليه الاختلاط المستهتر.
فمن هذه العواقب الوخيمة:
تسابق المتبرجات في مجال الزينة المحرمة، لأجل لفت الأنظار إليهن.. مما يتلف الأخلاق والأموال ويجعل المرأة كالسلعة المهينة.
ومنها: فساد أخلاق الرجال خاصة الشباب ودفعهم إلى الفواحش المحرمة.
ومنها: المتاجرة بالمرأة كوسيلة للدعاية أو الترفيه في مجالات التجارة وغيرها.
ومنها: الإساءة إلى المرأة نفسها باعتبار التبرج قرينة تشير إلى سوء نيتها وخبيث طويتها مما يعرضها لأذية الأشرار والسفهاء.
ومنها: انتشار الأمراض لقوله : { لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا }.
ومنها: تسهيل معصية الزنا بالعين: قال عليه الصلاة والسلام: { العينان زناهما النظر } وتعسير طاعة غض البصر التي هي قطعاً أخطر من القنابل الذرية والهزات الأرضية.قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، وجاء في الحديث: { أن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعذاب }.
فيا أختي المسلمة:
هلا تدبرت قول الرسول : { نَحِ الأذى عن طريق المسلمين } فإذا كانت إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان فأيهما أشد شوكة... حجر في الطريق، أم فتنة تفسد القلوب وتعصف بالعقول، وتشيع الفاحشة في الذين آمنوا؟
إنه ما من شاب مسلم يُبتلى منك اليوم بفتنة تصرفه عن ذكر الله وتصده عن صراطه المستقيم – كان بوسعك أن تجعليه في مأمن منها – إلا أعقبك منها غداً نكال من الله عظيم.
بادري إلى طاعة الله، ودعي عنك انتقاد الناس، ولومهم فحساب الله غداً أشد وأعظم.
الشروط الواجب توفّرها مجتمعه حتى يكون الحجاب شرعياً.(/2)
الأول: ستر جميع بدن المرأة على الراجح.
الثاني: أن لا يكون الحجاب في نفسه زينة.
الثالث: أن يكون صفيقاً ثخيناً لا يشف.
الرابع: أن يكون فضفاضاً واسعاً غير ضيق.
الخامس: أن لا يكون مبخراً مطيباً.
السادس: أن لا يشبه ملابس الكافرات.
السابع: أن لا يشبه ملابس الرجال.
الثامن: أن لا يقصد به الشهرة بين الناس.
احذري التبرج المقنع
إذا تدبرت الشروط السابقة تبين لك أن كثيراً من الفتيات المسميات بالمحجبات اليوم لسن من الحجاب في شيء وهن اللائي يسمين المعاصي بغير اسمها فيسمين التبرج حجاباً، والمعصية طاعة.
لقد جهد أعداء الصحوة الإسلامية لو أدها في مهدها بالبطش والتنكيل، فأحبط الله كيدهم، وثبت المؤمنين و المؤمنات على طاعة ربهم عز وجل. فرأوا أن يتعاملوا معها بطريقة خبيثة ترمي إلى الانحراف عن مسيرتها الربانية فراحوا يروجون صوراً مبتدعة من الحجاب على أن أنها "حل وسط " ترضي المحجبة به ربها –زعموا- وفي ذات الوقت تساير مجتمعها وتحافظ على " أناقتها "!
سمعنا وأطعنا
إن المسلم الصادق يتلقى أمر ربه عز وجل ويبادر إلى ترجمته إلى واقع عملي، حباً وكرامة للإسلام واعتزازا ً بشريعة الرحمن، وسمعاً وطاعة لسنة خير الأنام غير مبال بما عليه تلك الكتل الضالة التائهة، الذاهلة عن حقيقة واقعها والغافلة عن المصير الذي ينتظرها.
وقد نفى الله عز وجل الإيمان عمن تولى عن طاعته وطاعة رسوله فقال: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ [النور:47،48]، إلى قوله إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:51،52].
وعن صفية بنت شيبة قالت: بينها نحن عند عائشة رضي الله عنها قالت: فذكرت نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة رضي الله عنها: { إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31] فانقلب رجالهن إليهن يتلون ما أنزل الله إليهن فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل (أي الذي نقش فيه صور الرحال وهي المساكن) فاعتجرت به (أي سترت به رأسها ووجهها) تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله في كتابه، فأصبحن وراء رسول الله معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان }.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.(/3)
الحجاب الإسلامي بين المد والجزر
أحمد فهمي :
كانت عودة الحجاب ملمحاً أساساً من ملامح الصحوة الإسلامية في مرحلتها المعاصرة التي تبدأ من سبعينيات القرن العشرين، وأصبح الحجاب رمزاً من رموز الصحوة وشعاراً من شعاراتها.
والآن ـ وبعد ما يقرب من ثلاثين عاماً، تنوعت وتعددت فيها أشكال المواجهة وميادينها بين الصحوة وأعدائها ـ لا تزال راية الحجاب ترفرف في ساحة المعركة، ولكن على نحوٍ يختلف كثيراً عما كانت عليه في السبعينيات في أكثر المجتمعات الإسلامية؛ وهذا الاختلاف في مسألة الحجاب هو ما نحن بصدد توصيفه وتقويمه في هذه الصفحات.
ولأن الواقع لا يعطي معانيه ولا يكشف أسراره إلا بإضافته إلى ما قبله من الزمن، فلا بد من إضافة بُعدٍ تاريخي يسير بقدر ما يكشف لنا الدورة الكاملة لنشوء الحجاب وتراجعه.
الأبعاد التاريخية لمعركة الحجاب والسفور في المجتمعات الإسلامية:
يروق للمحللين والعلمانيين المحليين كلما طرحت قضية الحجاب أن يُغرِقوا في التساؤل عن الدوافع والأسباب وراء انتشار هذه الفريضة المتزايدة منذ السبعينيات، وهذا تساؤل معكوس حقيقة، لا بد معه من إضافة البعد التاريخي حتى نرى الأشياء في سياقها الحقيقي، فيصبح التساؤل الصحيح عن الدوافع والأسباب الكامنة وراء تخلي المرأة المسلمة عن حجابها؛ فانحرافٌ فرعيٌّ في التاريخ لا يتجاوز سبعين أو ثمانين عاماً (متوسط عمر رجل واحد)، لا يمكن بحال أن يقضي على أصلٍ متجذِّر منذ ما يزيد على ثلاثة عشر قرناً من الزمان كشجرة ضخمة فرعها ثابت، وأصلها في السماء.
ومن الشواهد العجيبة على هذا الانتقال التعسفي التاريخي من الحجاب إلى السفور أن بعض رواده الكبار (الأصاغر) يشعر المتأمل في سيرة أحدهم كأنه يقرأ عن شخصين، الأول: يرفع راية الحجاب ويدافع عنه، والثاني: يعادي الحجاب ويرفع راية السفور، ونذكر مثالين على ذلك: الأول من مصر، والثاني من تونس.
ففي مصر: كان أول كُتُبِ قاسمِ أمين: "المصريون" دفاعاً حماسياً عن فضائل الإسلام على المرأة المصرية، ورفعاً من شأن الحجاب، ثم لما تمت إعادة برمجته على أيدي رواد صالون نازلي، أصدر كتابيه: "تحرير المرأة"، "المرأة الجديدة"، وجعل من نفسه الداعي الأول لفتنة التبرج بين المسلمين.
وفي تونس: سنة 1929م وقف شاب عمره يومذاك 26 سنة ـ في إحدى الندوات ـ يرد على امرأة سافرة تدعو إلى تحرير المرأة، فقال: "الحجاب يصنع شخصيتنا، وبالنسبة لخلعه: جوابي هو الرفض، وارتفع الضجيج في القاعة، وانتقل الجدال إلى الصحف، وتابع الشاب الدفاع عن الحجاب بنشر مقالات في صحيفة تونسية فرنسية، ولم يكن هذا الشاب سوى المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة نفسه الذي قام في اليوم التالي للاستقلال بسحب غطاء الرأس عن النساء التونسيات"(1).
وسار كثيرون في أنحاء العالم الإسلامي على نهج قاسم أمين فأصدروا كتبهم المسمومة، مثل كتاب: "امرأتان في الشريعة والمجتمع" للطاهر الحداد في تونس سنة 0391م، و"السفور والحجاب" لنظيرة زين الدين في سوريا في العشرينيات.
واستمرت جهود المثقفين والمفكرين ـ المتبنين للمنهج التغريبي ـ طيلة الحقبة الاستعمارية في الترويج للتبرج حتى أصبح واقعاً مفروضاً إلى جوار الحجاب، ولما أن أتى عهد الاستقلال وتولى القوميون زمام الأمور عملوا ما عجز عنه الاستعمار، وعمدوا إلى القضاء على البقية الباقية من الحجاب في بلادهم.
يقول صحفي ألماني واصفاً فترة إقامته في مصر من 1956 ـ 1961م: "ويكفي أن تعلم أنه منذ عشرين عاماً فقط كانت كل النساء تقريباً يرتدين الحجاب، أما اليوم فإنه حتى في أكثر المناطق شعبية لم نعد نرى الحجاب"(2).
وفي سوريا مزق رجال "البعث" الحجاب في شوارع دمشق، ومنعوا المحجبات من دخول المدارس بحجابهن(3).
وفي الجزائر دعا "بن بيلا" الجزائريات إلى خلع حجابهن، وقال: إنني أطالب المرأة الجزائرية بخلع الحجاب من أجل الجزائر!(4)، فخرجت العذارى المحاربات من بيوتهن، ونزعن الحجاب لأول مرة منذ أن اعتنقت بلادهن الإسلام(5).
وحقق العهد الاستقلالي في المغرب ما لم يستطعه الاستعمار في عشرات السنين(6).
أما المجاهد بورقيبة فبزَّ أقرانه في حرب الحجاب، وأصدر مرسومه الشهير (108) بمنع الحجاب في المؤسسات الرسمية للدولة، ودعا التونسيات ألا يُشْعِرْنَ السياح الأجانب بالغربة في بلادهن(7)، ولا يزال الحجاب محارباً بشدة حتى الآن في تونس، ولكن ما أن بدأ تهافت الفكر القومي مع هزيمة يونيو 1967م، حتى عاد الحجاب يتربع على عرشه المسلوب من جديد، وما أصدق القائل: "إن الحجاب لم يكن ثمرة النكسة بقدر ما كانت النكسة ثمرة التخلي عن الحجاب كمظهر من مظاهر التخلي عن الإسلام"(8).(/1)
ولو شئنا دراسة تطورات الحجاب منذ بدء عودته في السبعينيات وحتى الآن، فلا بد من انتقاء بلد يصبح نموذجاً معبراً عن أحداث هذه الفترة، ولا نجد أفضل من النموذج المصري في التعبير عنها؛ فهو نموذج ثري بتطوراته وأحداثه ومتغيراته، كما أنه نموذج رائد يراد تسويقه للدول التي لم تبلغ مرحلته بعد.
ولكي تكتمل الرؤية بأن تحتوي على الأبعاد الزمنية الثلاثة: الماضي، الحاضر، احتمالات المستقبل، نتناول قضية الحجاب في تركيا، باعتبارها تحتل المرتبة الأولى في التطرف العلماني الرافض للإسلام، ومن ثَمَّ فهي هدف تُدفع معظم الدول الإسلامية دفعاً ـ مع اعتبار تفاوت مواقعها الحالية ـ لبلوغه في السنوات القادمة؛ فدراستها وإن كانت تعتبر واقعية بالنسبة لتركيا، إلا أنها مستقبلية بالنسبة لغيرها من الدول الإسلامية(/2)
الحجاب بين عداء الغرب وعلمانية الأزهر
بقلم فاضل بشناق / فلسطين
مدير مركز المرشد للدراسات والأبحاث / جنين
لم نفاجأ بقرار فرنسا الحاقدة منع الحجاب الإسلامي بل المفاجأة الصاعقة جاءت على لسان مفتي الأزهر عندما أكد في كلمته أن لفرنسا الحق في اصدار قرار بمنع الحجاب في المؤسسات والمدارس والجامعات الفرنسية ضارباً عرض الحائط بكل الأحكام الشرعية والمشاعر والقيم والمبادئ الإسلامية السامية ومدمراً للقيمة الفقهية لمعهد الأزهر الشريف ومحجماً لدوره الدعوي الشامل ومجنداً منبره لترويج الفتاوى المخالفة لروح الدين الإسلامي ومناصراً لكل نهج مدمر ومعاد للإسلام وقد توجه بموقفه الداعم لفرنسا وحربها المعلنة على الإسلام والمسلمين وكأنه يؤكد أن الأزهر الشريف مدرسة علمانية تتخذ من الشعار الديني وسيلة لبث افكارها وطرح مفاهيمها ويجب أن يغير الغرب انطباعاته عن الأزهر كمنبر لنشر الدعوة الإسلامية .
ان موقف المفتي كان وسيظل وصمة عار في جبينه لأنه بذلك اعطى لفرنسا ولكل أعداء الأمة مسوغات ومبررات لمحاربة الإسلام بكل تفاصيله ومفرداته وقيمه ومظاهرة وشعاراته ولكن حجم ردود الأفعال الرافضة والمستنكرة لهذا الموقف حتى من الأزهر نفسه لم تكن بالحجم المطلوب الأمر الذي يؤكد أن الأمة بعلمائها وشعوبها مصابة بمرض اللامبالاة القاتل اذ لم نسمع أن الجماهير العربية وخاصة في مصر قد خرجت تنكر على المفتي مواقفه بل مثل هذه الإحتجاجات رأيناها في عدد من الدول الغربية ومن المؤسسات والجمعيات الحقوقية غير العربية ولا الإسلامية واننا سوف نجد في بحثنا المتواضع هذا أشياء كثيرة تشكل مفارقات ومفاصل وتثير تساؤلات وتزرع انطباعات كثيرة لها دلالات خطيرة ومؤشرات أخطر تؤدي في النتيجة الى تدمير المجتمعات التي تنتشر فيها هذه السلوكيات وخاصة ما تعلق منها بالفطرة وما يخالفها ويسير عكس تيارها وبنظرة بسيطة الى أقوال الغربيين أنفسهم عن النتائج السلبية التيي خلفتها نظرتهم الخاطئة لمعايير الحضارة الإنسانية وتجريدها من القيم اللازمة لصيانة المجتمع من المنغصات والأمراض والفيروسات الإخلاقية والسلوكيات البهيمية تتأكد لنا حقيقة وجريمة وخطورة موقف مفتي الأزهر على المجتمع العربي والإسلامي وعلى الإنسانية جمعاء واننا نسوق بعضاً من هذه الأقوال لعلها تجد الى هذا المفتي المفتن سبيلاً فتعيده الى رشده .
تقول الصحفية الأمريكية " هيليان ستانبري " مخاطبةً مجتمعها المدمر أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم ، امنعوا الاختلاط ، وقيدوا حرية الفتاة ، بل ارجعوا لعصر الحجاب ، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق ، ومجون أوربا وأمريكا ، امنعوا الاختلاط ، فقد عانينا منه في أمريكا الكثير ، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعًا مليئًا بكل صور الإباحية والخلاعة ، إن ضحايا الاختلاط يملأون السجون ، إن الاختلاط في المجتمع الأمريكي والأوروبي ، قد هدد الأسرة وزلزل القيم والأخلاق ."
وتقول الكاتبة " أنارود " إنه لعار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال .
وفي بريطانيا حذرت الكاتبة الإنجليزية " الليدي كوك " من أخطار وأضرار اختلاط النساء بالرجال ، حيث كتبت محذرة : على قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنى وقالت علموهنَّ الابتعاد عن الرجال .
أما الأرقام والإحصائيات عن أضرار اختلاط النساء بالرجال فتوضح أن 70% إلى 90% من الموظفات العاملات بمختلف القطاعات ارتكبت معهنَّ فاحشة الزنى .
ونصف من أجري معهنَّ استفتاء ممن يعملون في مجال الأمن تعرضنَّ لارتكاب فاحشة الزنى معهنَّ من قبل رؤسائهنَّ في العمل .
حتى الجامعات وأماكن التربية والتعليم لم تسلم من هذه الموبقات فأستاذ الجامعة يرتكب الفاحشة مع طالبته ، والطلاب يفعلون ذلك مع الطالبات والمعلمات بالرضا أو الإكراه .
إن الاختلاط بين الرجال والنساء لم يزد الناس إلا شهوانية حيوانية ، وسعارًا بهيميًا فارتكاب الفواحش ، وهتك الأعراض في ازدياد وارتفاع ، وهذا الواقع يرد على من يقول إن الاختلاط يكسر الشهوة ، ويهذب الغريزة ، حيث زاد الاختلاط من توقد الشهوة وزاد من الفساد ومثله مثل الظمآن يشرب من ماء البحر فلا يزيده شربه إلا عطشًا على عطش يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ : " ولقد شاع في وقت من الأوقات أن الاختلاط تنفيس وترويح وإطلاق للرغبات الحبيسة ، ووقاية من الكبت ، ومن العقد النفسية (!!) ، ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية رأيت بعيني في أشد البلاد إباحة وتفلتا من جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية ما يكذبها وينقضها من الأساس .(/1)
إن بين 50ـ 70% من الرجال الأمريكان يخونون زوجاتهم على فراش الزوجية و32% من الزوجات يخن أزواجهن و90% من النساء متزوجات بدون عذرية وفي بريطانيا فقد وصلت نسبة العذرية عند الفتيات صفر% كما توجد ظاهرة تبادل الزوجات وأن أكثر من مليونين ونصف المليون من الأزواج الأمريكيين مارسوا تبادل الزوجات بانتظام ونسبة 50% من الصبيان والبنات قد تم بينهم لقاء جنسي قبل الخامسة عشرة .
وقد كتبت (( دول ستريت جورتال )) أن واحداً من كل أمريكيين طلق زوجته وفي مدينة (سان ماتيه) الأمريكية في كل (100) يتزوجون أول العام (80) منهم يطلقون في آخره.
وفي مؤتمر النساء عام (2000) في باريستبين أن 70% من الشابات الفرنسيات يعشن وحيدات وأن أعداد المتزوجات زواجا شرعيا تناقص بمقدار (68000) ألف امرأة وأن 20% من الولادة عن طريق الزنا.
وفي أمريكا وحدها يقتل مليون ونصف المليون جنين سنويا بسبب عملية الاجهاض (أين حقوق الإنسان؟!)
ويقول (اندروشاييرو)أن أكثر من عشرة آلاف فتاة أمريكية تضع مولودا غير شرعي سنويا وهي لم تبلغ بعد الرابعة عشرة من عمرها .
هذه هي مقدمة بسيطة يمكن من خلالها بيان مدى الخطورة التي تنطوي على قرار فرنسا بمنع الحجاب على اعتبار أنه يمثل أحد العلاجات لما حل في المجتمع الغربي من رذائل وبالتالي يجب أن تحارب هذه القيمة وجر قدم الفتاة المسلمة الى هاوية السقوط .
إن الحرب على الحجاب ليست حديثة بل بدأت منذ عقود كثيرة وقد قادت هذه الحرب عناوين وهيئات دعمت بشكل كبير ومباشر من أجهزة التدمير الغربية وان من أكثر هذه الهيئات فتكاً في المجتمع العربي وتخريباً فيه ما تعورف عليها بحركة تحرير المرأة العربية والتي نشأت في مصر وحتى نتبين حقيقة هذه الحركة لا بد من التعرف عليها وعلى نشاطاتها ورموزها في الوطن العربي .
التعريف بحركة تحرير المرأة :
إن حركة تحرير المرأة حركة علمانية دخيلة ولدت من رحم الغرب الحاقد والإستعمار الطامع ، نشأت في مصر في بادئ الأمر، ثم انتشرت في أرجاء البلاد الإسلامية. تدعو إلى تحرير المرأة من الآداب الإسلامية والأحكام الشرعية الخاصة بها مثل الحجاب، وتقييد الطلاق، ومنع تعدد الزوجات والمساواة في الميراث وتقليد المرأة الغربية في كل أمر … ونشرت دعوتها من خلال الجمعيات والاتحادات النسائية في العالم العربي وقد تزامن وجودها بوجود وحملات الإستعمار كأحد معاوله الرئيسة وإن المتتبع لطبيعة انتشار هذه الحركة يخلص الى انها مرتبطة وبشكل مباشر مع أعداء الأمة ومخططاتهم التدميرية واننا في فلسطين مثلاً فقد انتشرت هذه الحركات والهيئات خلال السنوات الأولى لمسيرة ما يسمى بالسلام لتكون رافداً رئيساً وداعماً اساساً لسياسة الهيمنة والترويض ضد شعبنا حتى يبقى مهزوزاً حتى ولو تم التوصل الى حل سياسي .
التأسيس وأبرز الشخصيات:
قبل أن تتبلور الحركة بشكل دعوة منظمة لتحرير المرأة ضمن جمعية تسمى الاتحاد النسائي .. كان هناك تأسيس نظري فكري لها .. ظهر من خلال كتب ثلاثة ومجلة صدرت في مصروهي :
1- كتاب: المرأة في الشرق، تأليف المحامي مرقص فهمي ا، نصراني الديانة، دعا فيه إلى القضاء على الحجاب وإباحة الاختلاط وتقييد الطلاق، ومنع الزواج بأكثر من واحدة، وإباحة الزواج بين النساء المسلمات والنصارى.
2- كتاب: تحرير المرأة، تأليف قاسم أمين، نشره عام 1899م، بدعم من الشيخ محمد عبده وسعد زغلول، وأحمد لطفي السيد. زعم فيه أن حجاب المرأة السائد ليس من الإسلام، وقال إن الدعوة إلى السفور ليست خروجاً على الدين .
3- كتاب: المرأة الجديدة، تأليف قاسم أمين أيضاً - نشره عام 1900م يتضمن نفس أفكار الكتاب الأول ويستدل على أقواله وادعاءاته بآراء الغربيين.
4- مجلة السفور: صدرت أثناء الحرب العالمية الأولى، من قبل أنصار سفور المرأة، وتركز على السفور و الاختلاط.
وقد سبق سفور المرأة المصرية، اشتراك النساء بقيادة هدى شعراوي ( زوجة علي شعراوي ) في ثورة سنة 1919م فقد دخلن غمار الثورة بأنفسهن، وبدأت حركتهن السياسية بالمظاهرة التي قمن بها في صباح يوم 20 مارس سنة 1919م.
وأول مرحلة للسفور كانت عندما دعا سعد زغلول النساء اللواتي تحضرن خطبته أن يزحن النقاب عن وجوههن. وهو الذي نزع الحجاب عن وجه نور الهدى محمد سلطان التي اشتهرت باسم: هدى شعراوي مكونة الاتحاد النسائي المصري وذلك عند استقباله في الإسكندرية بعد عودته من المنفى. واتبعتها النساء فنزعن الحجاب بعد ذلك.
لقد تأسس الاتحاد النسائي في نيسان 1924م بعد عودة مؤسسته هدى شعراوي من مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي الذي عقد في روما عام 1922م .. ونادى بجميع المبادئ التي نادي بها من قبل مرقص فهمي المحامي وقاسم أمين.(/2)
بعد عشرين عاماً عقد مؤتمر الاتحاد النسائي العربي عام 1944م وقد حضرته مندوبات عن البلاد العربية. وقد رحبت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية بانعقاد المؤتمر حتى أن حرم الرئيس الأمريكي روزفلت أبرقت مؤيدة للمؤتمر.
ومن أبرز شخصيات حركة تحرير المرأة:
1- الشيخ محمد عبده، فقد نبتت أفكار كتاب تحرير المرأة في حديقة أفكار الشيخ محمد عبده. وتطابقت مع كثير من أفكار الشيخ التي عبر فيها عن حقوق المرأة وحديثه عنها في مقالات الوقائع المصرية وفي تفسيره لآيات أحكام النساء.
2- سعد زغلول، زعيم حزب الوفد المصري، الذي أعان قاسم أمين على إظهار كتبه وتشجيعه في هذا المجال.
3- لطفي السيد، الذي أطلق عليه أستاذ الجيل وظل يروج لحركة تحرير المرأة على صفحات الجريدة لسان حال حزب الأمة المصري في عهده.
4- صفية زغلول، زوجة سعد زغلول وابنة مصطفى فهمي باشا رئيس الوزراء في تلك الأيام وأشهر صديق للإنكليز عرفته مصر.
5- هدى شعراوي، ابنة محمد سلطان باشا الذي كان يرافق الاحتلال الإنكليزي في زحفه على العاصمة وزوجة علي شعراوي باشا أحد أعضاء حزب الأمة ( حالياً الوفد ) ومن أنصار السفور .
6- سيزا نبراوي ( واسمها الأصلي زينب محمد مراد )، وهي صديقة هدى شعراوي في المؤتمرات الدولية والداخلية. وهما أول من نزع الحجاب في مصر بعد عودتهما من الغرب إثر حضور مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي الذي عقد في روما 1923م.
7- درية شفيق، من تلميذات لطفي السيد، رحلت وحدها إلى فرنسا لتحصل على الدكتوراه، ثم إلى إنكلترا، وصورتها وسائل الإعلام الغربية بأنها المرأة التي تدعو إلى التحرر من أغلال الإسلام وتقاليده مثل: الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات ولما عادت إلى مصر شكلت حزب ( بنت النيل ) في عام 1949م بدعم من السفارة الإنكليزية والسفارة الأمريكية كما حصل في فلسطين عندما قامت سفارة كندا بدعم احدى الجمعيات الفلسطينيات لنفس الهدف والشعار .. وهذا ما ثبت عندما استقالت إحدى عضوات الحزب وكان هذا الدعم سبب استقالتها. وقد قادت درية شفيق المظاهرات، وأشهرها مظاهرة في عام 19 فبراير 1951م و 12 مارس 1954م بالتنسيق مع أجهزة عبد الناصر فقد أضربت النساء في نقابة الصحافيين عن الطعام حتى الموت إذا لم تستجب مطالبهن. وأجيبت مطالبهن ودخلت درية شفيق الانتخابات ولم تنجح. وانتهى دورها. وحضرت المؤتمرات الدولية النسائية للمطالبة بحقوق المرأة - على حد قولها.
9- سهير القلماوي، تربت في الجامعة الأمريكية في مصر، وتخرجت من معهد الأمريكان، وتنقلت بين الجامعات الأمريكية والأوروبية، ثم عادت للتدريس في الجامعة المصرية.
10- أمينة السعيد، وهي من تلميذات طه حسين، الأديب المصري الذي دعا إلى تغريب مصر .. ترأست مجلة حواء. وقد هاجمت حجاب المرأة بجرأة - ومن أقوالها في عهد عبد الناصر: " كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق ؟ ". تقصد ميثاق عبد الناصر الذي يدعو فيه إلى الاشتراكية - وسخرت مجلة حواء للهجوم على الآداب الإسلامية .. وهي لا تزال تقوم بهذا الدور ..
11- د . نوال السعداوي، زعيمة الاتحاد المصري حالياً.
12- ونستطيع اضافة العضو الجديد الى القائمة والذي أثبت صدقه واخلاصه وهو مفتي الأزهر ( محمد سيد طنطاوي )
الأفكار والمعتقدات:
نجمل أفكار ومعتقدات أنصار حركة تحرير المرأة فيما يلي:
تحرير المرأة من كل الآداب والشرائع الإسلامية وذلك عن طريق:
- 1- الدعوة إلى السفور والقضاء على الحجاب الإسلامي.
2- الدعوة إلى اختلاط الرجال مع النساء في المجالات في المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية، والأسواق.
3- تقييد الطلاق، والاكتفاء بزوجة واحدة.
4- المساواة في الميراث مع الرجل.
5- الدعوة العلمانية الغربية أو اللادينية بحيث لا يتحكم الدين في مجال الحياة الاجتماعية خاصة.
6- المطالبة بالحقوق الاجتماعية والسياسية للمرأة .
7- أوروبا والغرب عامة هم القدوة في كل الأمور التي تتعلق بالحياة الاجتماعية للمرأة: كالعمل، والحرية الجنسية، ومجالات الأنشطة الرياضية والثقافية.
الجذور الفكرية والعقدية:
بعد تبلور حركة تحرير المرأة على شكل الاتحادات النسائية في بلادنا خاصه والدول عامة، أصبحت اللادينية أو ما يسمونه ( العلمانية ) الغربية هي الأساس الفكري والعقدي لحركة تحرير المرأة. وهي موجهة وبشكل خاص في البلاد الإسلامية إلى المرأة المسلمة؛ لإخراجها من دينها أولاً. ثم إفسادها خلقياً واجتماعياًوصولاً الى فساد المجتمع الإسلامي والسيطرة عليه .
ومن الأدلة على أن جذور حركة تحرير المرأة تمتد نحو العلمانية الغربية مايلي:
- في عام 1894م ظهر كتاب للكاتب الفرنسي الكونت داركور ، حمل فيه على نساء مصر وهاجم الحجاب الإسلامي، وهاجم المثقفين على سكوتهم.
- في عام 1899م ألف أمين كتابه تحرير المرأة أبدا فيه آراء داركور.(/3)
- وفي نفس العام هاجم الزعيم الوطني المصري مصطفى كامل ( زعيم الحزب الوطني ) كتاب تحرير المرأة وربط أفكاره بالاستعمار الإنكليزي.
- ألف الاقتصادي المصري الشهير محمد طلعت حرب كتاب تربية المرأة والحجاب في الرد على قاسم أمين ومما قاله: " إن رفع الحجاب والاختلاط كلاهما أمنية تتمناها أوروبا ".
- ترجم الإنكليز - أثناء وجودهم في مصر - كتاب تحرير المرأة إلى الإنكليزية ونشروه في الهند والمستعمرات الإسلامية.
- الدكتورة ( ريد ) رئيسة الاتحاد النسائي الدولي التي حضرت بنفسها إلى مصر لتدرس عن كثب تطور الحركة النسائية
- اغتباط الدوائر الغربية بحركة تحرير المرأة العربية وبنشاط الاتحاد النسائي في الشرق وتمثلت ببرقية حرم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية للمؤتمر النسائي العربي عام 1944م.
- صلة حزب ( بنت النيل ) بالسفارة الإنكليزية والدعم المالي الذي يتلقاه منهما - كما رأينا عند حديثنا عن درية شفيق.
- ترحيب الصحف البريطانية بدرية شفيق زعيمة حزب ( بنت النيل ) وتصويرها بصورة الداعية الكبرى إلى تحرير المرأة المصرية من أغلال الإسلام وتقاليده.
- برقية جمعية ( سان جيمس ) الإنكليزية إلى زعيمة حزب بنت النيل تهنئها على اتجاهها الجديد في القيام بمظاهرات للمطالبة بحقوق المرأة.
- مشاركة الزعيمة نفسها في مؤتمر نسائي دولي في أثينا عام 1951م ظهر من قرارته التي وافقت عليها أنها تخدم الاستعمار أكثر من خدمتها لبلادها.
- إعلان ( كاميلا يفي ) الهندية أن الاتحاد النسائي الدولي واقع تحت زيادة الدول الغربية ولاستعمارية واستقالتها منه.
- إعلان الدكتورة نوال السعداوي رئيسة الاتحاد النسائي المصري عام 1987م أثناء المؤتمر أن الدول الغربية هي التي هيأت المال اللازم لعقد مؤتمر الاتحاد النسائي والدول الإسلامية لم تساهم في ذلك.
وعودة الى ما قد بدأنا به حول الحرب المستعرة بقيادة فرنسا على الحجاب فانه لا بد من وقفة جادة وقوية لمواجهة هذه الحرب الهادفة الى العبث بقيمنا ومبادئنا تمهيداً لتخريب شامل لحياتنا والمرأة هي البداية وعلينا أن نبدأ من المرأة بتكثيف التوعية وزرع مفاهيم الإسلام فيها حتى تكون درعاً منيعاً وسلاحاً فتاكاً يصعب كسره وهذا يأتي من خلال بيان مفهوم الحجاب ومعناه ودوره في تهذيب النفس الإنسانية وحماية المجتمع من اتلوقوع في مستنقعات الرذيلة التي غرق فيها الغرب ويريد أن يغرقنا فيها معه .
مفهوم الحجاب
في اللغة: الحجاب في اللغة هو المنع من الوصول، ومنه قيل للستر الذي يحول بين الشيئين: حجاب؛ لأنه يمنع الرؤية بينهما. وسمي حجاب المرأة حجاباً لأنه يمنع المشاهدة .
ولقد وردت مادة (حجب) في القرآن الكريم في ثمانية مواضع تدور كلها بين الستر والمنع.
فمن ذلك: قال تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (32) سورة ص أي: احتجبت وغابت عن البصر لما توارت بالجبل أو الأفق.
وقال تعالى:{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } (46) سورة الأعراف
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } (51) سورة الشورى ، أي من حيث لا يراه.
وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (15) سورة المطففين ، أي مستورون فلا يرونه.
وقال تعالى: {فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا} (17) سورة مريم ، أي ستارا.
وقال تعا لى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} (53) سورة الأحزاب ، أي من وراء ساتر مانع للرؤية.
ومن هنا نعلم أن مفهوم الحجاب في الاصطلاح اللغوي هو الستر، وهو وإن دل على المنع فإن الستر داخل في مفهوم المنع بالتضمن. فالمنع يتضمن الستر.
في الشرع: الحجاب يتحقق فيه مقصد الشرع في حجب المرأة المسلمة من غير القواعد من النساء عن أنظار الرجال غير المحارم لها .والهدف هو صيانة المرأة المسلمة والحفاظ على عفافها وطهارتها، ومن أجل تحقيق هذه الغاية فقد جعل الإسلام للحجاب شروطاً واضحة تميزه وتحدد مواصفاته الشرعية، فإذا تخلف شرط واحد متفق على وجوبه لم يعد الحجاب شرعياً بل هو تبرج وسفور أياً كان شكله ووصفه. ومن هنا كان واجباً على كل امرأة مسلمة أن تكون عالمة بشروط الحجاب وأوصافه حتى تعبد الله على بصيرة وعلم.
شروط الحجاب الشرعي
- وأما شروط الحجاب الشرعي فهي كالتالي:(/4)
1- أن يكون ساتراً لجميع البدن: بما في ذلك الوجه منعاً للفتنة والمفسدة وسداً للذرائع إذ ان كشف الوجه فتح لباب لدعاة السفور والاختلاط، والإنسان العاقل البصير يجب عليه أن يقيس الأمور بآثارها ومقتضياتها ويحكم عليها من هذه الناحية، والشرع والحمد لله واسع، فيه قواعد عامة تضبط الشر وتردعه وتمنعه . ومن أدلة استيعاب الحجاب لجميع بدن المرأة: قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (59) سورة الأحزاب.
قال القرطبي رحمه الله: لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكر فيهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن .
وقال رحمه الله في تفسير الجلباب في قوله تعالى: {مِن جَلَابِيبِهِنَّ }: والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن .
ومن السنة، ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين " (رواه البخاري في صحيحه).
قال أبو بكر بن العربي- رحمه الله-: "قوله في حديث ابن عمر "لا تنتقب المرأة" وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج. فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتعرض عن الرجال، ويعرضون عنها".
فعليك أختي المسلمة: بالحرص على أن يكون حجابك ساتراً لجميع بدنك لما في ذلك من البعد عن الشبهات وقطع الطريق عن الفساق الذين يتربصون ببنات المسلمين في هذه الأزمان لاسيما وأن مقتضى الورع والحشمة هو الستر والاحتجاب الكامل عن أنظار الرجال الأجانب وبالله التوفيق.
- 2- أن لا يكون الحجاب ذاته زينة: لأن الغاية من الحجاب هو تحصيل الستر والعفاف، فإذا كان الحجاب زينة مثيرة، فقد تعطلت بذلك الغاية منه. ولذلك نهى الله جل وعلا عن ذلك فقال: { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا }(النور:31) فإبداء زينة الحجاب من التبرج المنهي عنه شرعاً، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (الأحزاب: 33)
قال الذهبي رحمه الله: ومن الأفعال التي تلعن عليها المرأة إظهار الزينة والذهب واللؤلؤ تحت النقاب، وتطيبها بالمسك والعنبر والطيب إذا خرجت، ولبسها الصباغات والأزر الحريرية والأفنية القصار، مع تطويل الثوب وتوسعة الأكمام وتطويلها، وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه ويمقت الله فاعله في الدنيا والآخرة، ولهذه الأفعال التي قد غلبت على أكثر النساء،قال عنهن النبي صلى الله عليه وسلم: ((اطلعت على النار، فرأيت أكثر أهلها النساء)).
أختي المسلمة: وتذكري أن كثيراً من المسلمات اليوم قد أخللن بهذا الشرط بقصد أو بغير قصد، فقد كثرت في الآونة الأخيرة أنواع من الحجب المزينة بأنواع من الزينة، وكم تهافتت عليها الغافلات إعجاباً بها.. وسوف نتطرق بإذن الله إلى بيان هذه الألبسة الدخيلة على الحجاب بالتفصيل في هذا الكتاب ، ونبين مدى مخالفتها للجلباب الشرعي وأقوال العلماء في ذلك.
3- أن يكون واسعاً غير ضيق: لأن اللباس الضيق يناقض الستر المقصود من الحجاب، لذلك إذا لم يكن لباس المرأة المسلمة فضفاضاً فهو من التبرج المنهي عنه، إذ إن عورة المرأة تبدو موصوفة بارزة، ويظهر حجم الأفخاذ والعجيزة ظهوراً كاملاً كما تظهر مفاصل المرأة مفصلاً مفصلاً وهذا كله يوجب تعلق النفوس الخبيثة والقلوب المريضة. فعن أسامة بن زيد قال: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة كانت مما أهداها دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، ففال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مالك لم تلبس القبطية؟ " قلت: يا رسول الله، كسوتها امرأتي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مرها فلتجعل تحتها غلالة إني أخاف أن تصف حجم عظامها".
وعن أم جعفر بنت مقعد بن جعفر أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت:(( يا أسماء إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء أن يطرح على المرأة الثوب فيصفها)) فقالت أسماء: يا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أريك شيئاً رأيته بالحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة، فحنتها ثم طرحت عليها ثوباً، فقالت فاطمة: "ما أحسن هذا وأجمله تعرف به المرأة من الرجل فإن مت أنا فاغسليني أنت وعلي، ولا يدخل علي أحد" فلما توفيت غسلها علي وأسماء رضي الله عنهما)).(/5)
قال الألباني- رحمه الله- تعليقاً على الحديث: فانظر إلى فاطمة بضعة النبي صلى الله عليه وسلم كيف استقبحت أن يصف الثوب المرأة وهي ميتة، فلا شك أن وصفه إياها وهي حية أقبح وأقبح، فليتأمل في هذا مسلمات هذا العصر اللاتي يلبسن من هذه الثياب الضيقة ثم يستغفرن الله تعالى، وليتبن إليه وليذكرن قوله صلى الله عليه وسلم: "الحياء والإيمان قرنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر ".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" [رواه مسلم]. فهن كاسيات بالاسم، عاريات في الحقيقة" .
ظاهرات. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
- 5- أن لا يكون مبخراً ولا مطيباً: وقد وردت أحاديث كثيرة في تحريم خروج المرأة متعطرة، فمن ذلك ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية" .
وعن زينب الثقفية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيباً)) [رواه مسلم والنسائي].
ومن الواضح أن المرأة إذا خرجت مستعطرة فإنها تحرك داعية الشهوة عند الرجال، لذلك ورد التحريم في ذلك قطعاً لدابر الفتنة وحفاظاً على طهارة المجتمع.
ومن تأمل حديث زينب وجد أن التحريم متعلق بالخروج إلى المسجد، وهو مكان طهارة وعبادة فما بال مريدة السوق والشوارع وغيرها.
6- أن لا يشبه لباس الرجال: لقوله صلى الله عليه وسلم:
"ليس منا من تشبه بالرجال من النساء ولا من تشبه بالنساء من الرجال "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل " .
وهذه الأحاديث نص في تحريم التشبه مطلقاً بالرجال سواء في اللباس أو في غيره، ومن هنا كان على المرأة المسلمة أن تحرص عن الابتعاد عن التشبه بالرجال في لباسها سواء كانت في البيت أو في خارج البيت لا سيما في عصرنا هذا، حيث اختلطت الأمور ولم يعد المسلم يميز في كثير من بلاد المسلمين بين الرجل والمرأة، لشدة التشبه بينهما في اللباس، وقد اكتسحت هذه الموجة جموعاً من المحجبات، فصرن يلبسن من ثياب الرجال تحت عباءاتهن مما يسقطهن في هذا المحظور والله المستعان.
- 7- أن لا يشبه لباس الكافرات: وذلك بأن تفصل المرأة المسلمة لباسها تفصيلاً يتنافى مع حكم الشرع وقواعده في موضوع اللباس، ويدل على تفاهة في العقل وفقدان للحياء مما ظهر في هذا العصر وانتشر باسم الموديلات التي تتغير من سيئ إلى أسوأ، وكيف ترضى امرأة شرفها الله بالإسلام ورفع قدرها، أن تكون تابعة لمن يملي عليها صفة لباسها، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( من تشبه بقوم فهو منهم)). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها".
8- أن لا يكون لباس شهرة: ولباس الشهرة هو الذي تلبسه المرأة لإلفات وجوه الناس إليها، سواء كان هذا الثوب رفيعا أو وضيعا، لأن علة التحريم هي تحقق الشهرة في الثياب، فقد روي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من لبس ثوب شهرة في الدنيا، ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم ألهب فيه نارا
الحجاب هوية شخصية
إن حجاب المسلمة -بالإضافة لكونه فريضة ربانية - فهو أبلغ رسالة دعوية وخير وسيلة للتعريف وبيان الهوية الإسلامية، تماما كما يحمل أحدنا بطاقة شخصية للتعريف به، أو جواز سفر لتحديد تبعيته لبلده فكذلك الحجاب.
التقى أحد الأساتذة الأمريكان بطالبتين مسلمتين، إحداهن سافرة والثانية محجبة، فصافح الأولى وقال للثانية أعلم أنك مسلمة من ارتدائك الحجاب، وأنا احترم دينك ولن أصافحك!! فأصيبت الأولى بالصدمة.
إن حجاب المسلمة في أمريكا والغرب تعبير عن الهوية الإسلامية في زمن تلوثت وتشوهت فيه الهوية لدى بعض المسلمين والمسلمات.
كلمات لا بد منها(/6)
أولا : الى الذين يتشدقون بحقوق الإنسان و الحريات والمساواة نقول هل هذه الحقوق لكم وحدكم أم هي للبشر كافة ومنهم المسلمين والمسلمات؟ فإذا كانت الحرية والعدالة وحقوق الإنسان كل لا يتجزأ , فان من حق نساء المسلمين ارتداء ما يشأن من ثياب الحشمة والوقار كما ترتدى نساؤكم ألبسة العرى والعار!! واذا كان الثوب الساتر يقلقكم ويخالف مفاهيمكم فلماذا هذه الحملة الواسعة والشرسة ضد زى المراة المسلمة وحدها ؟ فيما لم نجد أحدا منكم يتجرأ على التعرض لزى الراهبات المسيحيات مثلا أو زى نساء الهنود- السارى - الطويل أو زي الفتيات اليابانيات اللواتي يرتدين من الألبسة ما يشبه الزي الإسلامي في الحشمة والستر ، أليس هذا دليلاً على أنكم تستهدفون الإسلام وقيمه .
ثانيا : ان الدراسات والأبحاث العلمية الحديثة التي أجراها علماء من أوروبا وأمريكا- من غير المسلمين- أثبتت ان كشف المرأة لأجزاء من جسدها يعرض تلك الأجزاء للإصابة بسرطان الجلد بنسب أعلى بكثير من الأجزاء المستورة من جسدها وهذا ما يفسر ارتفاع سرطانات الجلد لدى نساء الغرب وانخفاضه لدى النساء المسلمات .
ثالثاً: شاب سودانى مسلم في احد المطارات سألته احدى النساء الغربيات أثناء فترة انتظار إحدى الرحلات الجوية بأوروبا لماذا ترتدى المسلمات الحجاب ؟؟ فأجاب على تساؤلها بسؤال أيضا: سيدتى عندما تذهبين إلى شراء الفاكهة , هل تشترين من الثمار المغلفة أم تشترين من الثمار المكشوفة المعرضة للذباب والأتربة وعبث الأيدي غير النظيفة ؟؟ أجابت السيدة المسيحية: اشترى من الفاكهة المغطاة طبعا.. فضحكت المرأة إعجابا بالمنطق الإسلامي السديد في صون جمال المرأة وعفافها وطهارتها بالحجاب..
رابعاً : قيمة الشيء بندرته فلا تظن المراة البعيدة عن أدب الإسلام وحجابه انها تستأثر باهتمام الرجل و تستحوذ على حواسه بسفورها وتبرجها لأن طبيعة الرجل يمل بسرعة من الجمال المبتذل الرخيص ويثيره الكنز المخبوء .
خامساً: الحجاب ليس غطاءً للعقل كما يقول احد الكتاب النصارى في وصفه للخمار الإسلامي بل انه عامل رئيس من عوامل التفوق وان أكثر الأوائل هن من العفيفات الملتزمات بالخمار الإسلامي!!
سادسا: ان الحجاب يحمي المرأة من الإعتداءات والتحرشات الجنسية وقد لوحظ ان الأغلبية الساحقة من ضحايا جرائم الاغتصاب وهتك العرض فى مختلف دول العالم هن من المتبرجات السافرات, اما المحتشمات فلا يجرؤ احد من المجرمين على التعرض لهنوفي هذا يصدق قوله تعالى — ذلك أدنى ان يعرفن فلا يؤذين- ..
سابعاً: ان الله تعالى لم يخلق كل النساء على شاكلة واحدة , لحكمة ربانية , فمنهن الجميلة ومنهن من هي ذات حظ قليل من الملاحة.. لهذا فان من رحمة الله تعالى بالنساء ان تخفى كل منهن جمالها عن أعين زوج غيرها, فلا يفتتن الرجل بغير امراته , ولا يسخط على قدر الله في زواجه من امراة اقل جمالا من غيرها.. كذلك يرحم الله الرجل غير القادر على مئونة الزواج- مثل الشباب العاطل عن العمل في أيامنا هذه- فبالحجاب لا يرى هذا المسكين من أجساد النساء ما يفتنه ,فاما ان ينحرف إلى الزنا , واما ان يكبت شهوته ومشاعره فيصاب بأمراض نفسية وعضوية لا حصر لها.. لهذا يرحمه ربه بتحجب النساء فلا تثار شهوته إلى ان يرزقه الله بزوجة تعفه ويعفها بالحلال.. حتى المراة الجميلة يرحمها الله –كما قال الشيخ الشعراوى رحمه الله- بان تختمر في شبابها فلا تفتن زوج اخرى , فيجزيها ربها في شيخوختها –عندما يزول جمالها – بالا يفتتن زوجها بأخرى اصغر منها وأجمل..
ثامناً : ان من دعا الى التبرج وسفور المرأة انطلق من هوى نفسه الأمارة بالسوء وما زال الوضع يتجدد اذ ان المتزعمين لهذه الحملة بغالبيتهم من الرجال لكي يجعلوا المرأة متعة للناظرين ليس لها قدسية ولا كرامة ولا عفة وقد اثبتت الدراسات والأبحاث والإحصائيات أن الغالبية الساحقة ممن يدعمون هذا التوجه فشلوا في تكوين حياة زوجية مستقرة وتأليف أسرة دافئة فكانت ردة فعلهم الدعوة الى تعميم هذا الفشل وأخراجه من دائرته الضيقة ليصبح ظاهرة عامة ,
تاسعًا:انه لا يمكن الفصل بين هذه الحملة وبين البعد السياسي لها اذ بات من المؤكد أن رجالات السياسة في دول الكفر والإلحاد والإستعمار قد أدركوا أن المجتمع المسلم ما زال يتمتع ببناء ونسيج اجتماعي قوي ومتين وان السنوات الأخيرة شهدت تجذراً وعودة قوية لأصول ومبادئ العقيدة الإسلامية لدى الجيل الجديد وهذا بحد ذاته مؤشر على أن المستقبل القريب ينذر بخطر داهم على مشروعهم الإستعماري الذي مضى على وجوده عقود كثيرة وحمته الأنظمة العربية التي باتت هي الأخرى مهددة بوجودها بفعل هذه الصحوة ولهذا لا بد من تخريب المجتمع من خلال المرأة المسلمة التي اصبحت على قدر من الوعي الكفيل بانشاء جيل صالح وهذا لا نريده والحجاب هو المدخل والبداية في التخريب .
الحجاب عبادة(/7)
الحجاب عبادة من أعظم العبادات وفريضة من أهم الفرائض؛ لأن الله تعالى أمر به في كتابه، ونهى عن ضده وهو التبرج، وأمر به النبي صلى الله عليه و سلم في سنته ونهى عن ضده، وأجمع العلماء قديماً وحديثاً على وجوبه لم يشذّ عن ذلك منهم أحد.
أدلة الحجاب من الكتاب والسنة
أولاً : أدلة الحجاب من القرآن :
الدليل الأول : قوله تعالى : { وَقُل للمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِن وَيَحفَظنَ فُرُوجَهُن وَلاَ يُبدِينَ زِينَتَهُن إِلا مَا ظَهَرَ مِنهَا وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِن عَلَى جُيُوبِهِن وَلاَ يُبدِينَ زِينَتَهُن } إلى قوله: { وَلاَ يَضرِبنَ بِأَرجُلِهِن لِيُعلَمَ مَا يُخفِينَ مِن زِينَتِهِن وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيهَا المُؤمِنُونَ لَعَلكُم تُفلِحُونَ} [ النور:30 ] .
قالت عائشة رضي الله عنها : "يرحم الله نساء المهاجرات الأُول؛ لما أنزل الله : } وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِن عَلَى جُيُوبِهِن{ شققن مروطهن فاختمرن بها" [ رواه البخاري ] .
الدليل الثاني : قوله تعالى : { وَالقَوَاعِدُ مِنَ النسَاء اللاتي لاَ يَرجُونَ نِكَاحاً فَلَيسَ عَلَيهِن جُنَاحٌ أَن يَضَعنَ ثِيَابَهُن غَيرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَستَعفِفنَ خَيرٌ لهُن وَاللهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ } [ النور : 60 ] .
الدليل الثالث : قوله تعالى :{ يأَيهَا النبِي قُل لأزواجِكَ وَبَناَتِكَ وَنِسَاء المُؤمِنِينَ يُدنِينَ عَلَيهِن مِن جَلابِيبِهِن ذلِكَ أَدنَى أَن يُعرَفنَ فَلاَ يُؤذَينَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رحِيماً } [ الأحزاب : 59 ] .
الدليل الرابع : قوله تعالى :{ وقَرنَ فِي بُيُوتِكُن وَلاَ تَبَرَّجنَ تَبَرجَ الجاَهِلِيةِ الأولَى } [ الأحزاب : 33 ] .
الدليل الخامس : قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلتُمُوهُن مَتَاعاً فاسأَلُوهُن مِن وَرَاء حِجَابٍ ذلِكُم أَطهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهِن} [ الأحزاب : 53 ] .
ثانياً : أدلة الحجاب من السنة :
الدليل الأول : في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله، احجب نساءك . قالت عائشة : فأنزل الله آية الحجاب . وفيهما أيضاً : قال عمر : يا رسول الله، لو أمرتَ أمهات المؤمنين بالحجاب . فأنزل الله آية الحجاب .
الدليل الثاني : عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : "المرأة عورة" [ الترمذي وصححه الألباني ] .
الدليل الثالث : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "من جرَّ ثوبه خُيَلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقالت أم سلمة رضي الله عنها : فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال : "يرخين شبراً" فقالت : إذن تنكشف أقدامهن . قال : "فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه" [ رواه أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح ] .
أدلة سَتر الوجه من الكتاب والسنة
أولاً : قوله تعالى : { وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِن عَلَى جُيُوبِهِن} [ النور : 30 ] .
قال العلامة ابن عثيمين : "فإن الخمار ما تخمِّر به المرأة رأسها وتغطيه به كالغدقة، فإذا كانت مأمورة بأن تضرب بالخمار على جيبها كانت مأمورة بستر وجهها" .
ثانياً : قوله تعالى : { يأَيهَا النبِي قُل لأزواجِكَ وَبَناَتِكَ…} [ الأحزاب : 59 ] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلاليب" . قال الشيخ ابن عثيمين : "وتفسير الصحابي حجة، بل قال بعض العلماء إنه في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم ".
ثالثاً : عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : "لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين" [ رواه البخاري ] .
قال القاضي أبو بكر بن العربي : "قوله في حديث ابن عمر: "لا تنتقب المرأة المحرمة" وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتعرض عن الرجال ويعرضون عنها" .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : "وهذا مما يدلّ على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن" .
رابعاً : في قوله صلى الله عليه و سلم : "المرأة عورة" دليل على مشروعية ستر الوجه . قال الشيخ حمود التويجري : "وهذا الحديث دالّ على أن جميع أجزاء المرأة عورة في حق الرجال الأجانب، وسواءٌ في ذلك وجهها وغيره من أعضائها" .
الحجاب والمدنية
يرى دعاة المدنية أن الحجاب مظهر من مظاهر التخلف، وأنه يمنع المرأة من الإبداع والرقي، وهو عندهم من أكبر العقبات التي تحول بين المرأة وبين المشاركة في مسيرة الحضارة والمدنية، وفي عملية البناء التي تخوضها الدول النامية للوصول إلى ما وصلت إليه الدول المتقدمة من رقي وتمدن !!
ونقول لهؤلاء : ما علاقة الحجاب بالتقدم الحضاري والتكنولوجي؟ !
هل من شروط الحضارة والمدنية أن تخلع المرأة ملابسها وتتعرَّى أمام الرجال؟ !(/8)
هل من شروط الحضارة والمدنية أن تشارك المرأة الرجل متعته البهيمية وشهواته الحيوانية؟ !
هل من شروط الحضارة والمدنية أن تكون المرأة جسداً بلا روح ولا حياء ولا ضمير ؟ !
هل الحجاب هو السبب في عجزنا عن صناعة السيارات والطائرات والدبابات والمصانع والأجهزة الكهربائية بشتى أنواعها؟!
لقد تخلت المرأة المسلمة في معظم الدول العربية والإسلامية عن حجابها، وألقته وراء ظهرها، وداست عليه بأقدامها، وخرجت لتعمل مع الرجل، وشاركته معظم ميادين عمله !!.
فهل تقدمت هذه الدول بسبب تخلِّي نسائها عن الحجاب؟!
وهل لحقت بركب الحضارة والمدنية بسبب اختلاط الرجال بالنساء؟!
وهل وصلت إلى ما وصلت إليه الدولُ المتقدمة من قوة ورقيّ؟!
وهل أصبحت من الدول العظمى التي لها حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ؟!
وهل تخلصت من مشاكلها الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية والأخلاقية؟!
الجواب واضح لا يحتاج إلى تفصيل . فلماذا إذن تدعون إلى التبرج والسفور والاختلاط يا دعاة المدنية والحضارة؟!!
إن هؤلاء لا يريدون حضارة ولا مدنية ولا تقدماً ولا رقياً .. إنهم يريدون أن تكون المرأة قريبة منهم .. يريدونها كلأً مباحاً لشهواتهم .. يريدونها سلعةً مكشوفةً لنزواتهم … يريدون العبث بها كلما أرادوا .. والمتاجرة بها في أسواق الرذيلة .. إنهم يريدون امرأة بغير حياء ولا عفاف .. يريدون امرأة غربية الفكر والتصور والهدف والغاية .. يريدون امرأة تجيد فنون الرقص .. وتتقن ألوان الغناء والتمثيل .. يريدون امرأة متحررة من عقيدتها وإيمانها وطهرها وأخلاقها
الإحصائيات لها وقع
1- أظهرت إحدى الإحصائيات أن 19 مليوناً من النساء في الولايات المتحدة كُنَّ ضحايا لعمليات الاغتصاب !! [ كتاب : يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة ] .
2- أجرى الاتحاد الإيطالي للطب النفسي استطلاعاً للرأي اعترف فيه 70% من الإيطاليين الرجال بأنهم خانوا زوجاتهم [ تأملات مسلم ] .
3-في أمريكا مليون طفل كل عام من الزنا ومليون حالة إجهاض [ عمل المرأة في الميزان ] .
4-في استفتاء قامت به جامعة كورنل تبين أن 70% من العاملات في الخدمة المدنية قد اعتُدي عليهن جنسيًّا وأن 56% منهن اعتدي عليهن اعتداءات جسمانية خطيرة [ المرأة ماذا بعد السقوط ؟ ] .
5-في ألمانيا وحدها تُغتصب 35000 امرأة في السنة، وهذا العدد يمثل الحوادث المسجلة لدى الشرطة فقط أما حوادث الاغتصاب غير المسجلة فتصل حسب تقدير البوليس الجنائي إلى خمسة أضعاف هذا الرقم [ رسالة إلى حواء ]
-
الحجاب طاعة لله عز وجل وطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم :
أوجب الله طاعته وطاعة رسول صلى الله عليه وسلم فقال :{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا } [الأحزاب : 36]
وقد أمر الله سبحانه النساء بالحجاب فقال تعالى :{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } [النور : 31]
وقال سبحانه : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } [الأحزاب :33] وقال تعالى :{ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } [ الأحزاب : 53] وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } [الأحزاب : 59].
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :" المرأة عورة" يعني يجب سترها .
الحجاب عفة
فقد جعل الله تعالى التزام الحجاب عنوان العفة ، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } [الأحزاب : 59]
لتسترهن بأنهن عفائف مصونات { فَلَا يُؤْذَيْنَ } فلا يتعرض لهن الفساق بالأذى، وفي قوله سبحانه { فَلَا يُؤْذَيْنَ } إشارة إلى أن معرفة محاسن المرأة إيذاء لها ولذويها بالفتنة والشر .
الحجاب طهارة
قال سبحانه وتعالى :{ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } [الأحزاب : 53].
فوصف الحجاب بأنه طهارة لقلوب المؤمنين والمؤمنات لأن العين إذا لم تر لم يشته القلب ، ومن هنا كان القلب عند عدم الرؤية أطهر ، وعدم الفتنة حينئذ أظهر لأن الحجاب يقطع أطماع مرضى القلوب :{ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [الأحزاب : 32]
الحجاب ستر(/9)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن الله حيي ستير ، يحب الحياء والستر " وقال صلى الله عليه وسلم :" أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها خرق الله عز وجل عنها ستره "، والجزاء من جنس العمل .
الحجاب تقوى
قال تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ } [ الأعراف : 26]
الحجاب إيمان
والله سبحانه وتعالى لم يخاطب بالحجاب إلا المؤمنات فقد قال سبحانه وتعالى :{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ } وقال الله عز وجل { وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ}
ولما دخل نسوة من بني تميم على أم المؤمنين – عائشة رضي الله عنها – عليهن ثياب رقاق قالت :"إن كنتن مؤمنات فليس هذا بلباس المؤمنات ، وإن كنتين غير مؤمنات فتمتعن به ".
الحجاب حياء
قال صلى الله عليه وسلم :" إن لكل دين خلقاً ، وإن خلق الإسلام الحياء" وقال صلى الله عليه وسلم :" الحياء من الإيمان ، والإيمان في الجنة " وقال عليه الصلاة السلام : " الحياء والإيمان قرنا جميعاً ، فإن رفع أحدهما رفع الآخر ".
الحجاب غيرة
يتناسب الحجاب أيضاً مع الغيرة التي جُبل عليها الرجل السوي الذي يأنف أن تمتد النظرات الخائنة إلى زوجته وبناته ، وكم من حرب نشبت في الجاهلية والإسلام غيرة على النساء وحمية لحرمتهن ، قال علي رضي الله عنه :" بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج –أي الرجال الكفار من العجم – في الأسواق ألا تغارون ؟ إنه لا خير فيمن لا يغار ".
التبرج معصية لله ورسول صلى الله عليه وسلم
ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ، ولن يضر الله شيئاً ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى "، قالوا : يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال :" من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى ".
التبرج يجلب اللعن والطرد من رحمة الله
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات ، على رؤوسهن كأسنمة البخت ، العنوهن فإنهن ملعونات ".
التبرج من صفات أهل النار
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات .. " الحديث .
التبرج سواد وظلمة يوم القيامة
رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مثل الرافلة في الزينة في غير أهلها ، كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها "، يريد أن المتمايلة في مشيتها وهي تجر ثيابها تأتي يوم القيامة سوداء مظلمة كأنها متسجدة في ظلمة والحديث – وإن كان ضعيفاً – لكن معناه صحيح وذلك لأن اللذة في المعصية عذاب ، والطيب نتن ، والنور ظلمة ، بعكس الطاعات فإن خلوف فم الصائم ودم الشهيد أطيب عند الله من ريح المسك .
التبرج نفاق
قال النبي صلى الله عليه وسلم :" خير نسائكم الودود الولود ، المواسية المواتية ، إذا اتقين الله ، وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات وهن المنافقات لا يدخلن الجنة إلا مثل الغراب الأعصم "، الغراب الأعصم : هو أحمر المنقار والرجلين ، وهو كناية عن قلة من يدخل الجنة من النساء لأن هذا الوصف في الغربان قليل .
التبرج تهتك وفضيحة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها ، فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله عز وجل ".
التبرج فاحشة
فإن المرأة عورة وكشف العورة فاحشة ومقت قال تعالى :{ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء} [الأعراف:28]
والشيطان هو الذي يأمر بهذه الفاحشة { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء}[البقرة:268]
التبرج سنة إبليسية
إن قصة آدم مع إبليس تكشف لنا مدى حرص عدو الله إبليس كشف السوءات ، وهتك الأستار ، وأن التبرج هدف أساسي له ، قال تعالى :{ يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف:27]
فإذن إبليس هو صاحب دعوة التبرج والتكشف ، وهو زعيم زعماء ما يسمي بتحرير المرأة .
التبرج طريقة يهودية
لليهود باع كبير في مجال تحطيم الأمم عن طريق فتنة المرأة وهم أصحاب خبرة قديمة في هذا المجال ، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم :" فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ".
التبرج جاهلية منتنة
قال تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } [الأحزاب :33]
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم دعوى الجاهلية بأنها منتنة أي خبيثة فدعوى الجاهلية شقيقة تبرج الجاهلية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي "، سواء في ذلك تبرج الجاهلية ، ودعوى الجاهلية ، وحمية الجاهلية .(/10)
التبرج تخلف وانحطاط
إن التكشف والتعري فطرة حيوانية بهيمية ، لا يميل إليه الإنسان إلا وهو ينحدر ويرتكس إلى مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان الذي كرمه الله ، ومن هنا كان التبرج علامة على فساد الفطرة وانعدام الغيرة وتبلد الإحساس و موت الشعور :
لحد الركبتين تشمرينا *** بربك أي نهر تعبرين
كأن الثوب ظلٌ في صباح *** يزيد تقلصاً حيناً فحينا
تظنين الرجال بلا شعور *** لأنكِ ربما لا تشعرينا
التبرج باب شر مستطير
وذلك لأن من يتأمل نصوص الشرع وعبَر التاريخ يتيقن مفاسد التبرج وأضراره على الدين والدنيا ، لا سيما إذا انضم إليه الاختلاط المستهتر .
الحجاب في منظور التيارات النسائية
ان قضية الحجاب شكلت على مدى عقود كثيرة حقلاً ومحوراً رئيساً من محاور المنابر النسائية المختلفة وتباينت حولها الأراء خاصةً بعد بروز تيار نسائي اسلامي مدافع عن المرأة انسانةً وعقيدة وفكراً في ظل الهجمة المستعرة والمنظمة من قبل العديد من الجمعيات والمؤسسات النسائية العلمانية المنتشرة في ارجاء عالمنا العربي الإسلامي والهادفة الى تدمير النسيج الإجتماعي والقيمي والعقدي والأخلاقي في المجتمع من خلال ادخال وترويج مفاهيم خاطئة اساساً ومدمرة نتيجةً فيما يتعلق بالمرأة والنظرة اليها والى دورها في المجتمع الذي تعيش فيه وتصوير القيم العقدية سبباً من اسباب التخلف الفكري وهضم الحقوق وسلبها وبالتالي تحييد دورها الفاعل والمؤثر في بناء مجتمع حضاري وهذا ما هيأ الأجواء لبروز فلسفات حول الشكل العام للمرأة المسلمة ممثلاً بالحجاب حيث نجد أن التيار الإسلامي النسائي له فلسقته والتيار النسوي العلماني له فلسفته وبين الفلسفتين تكمن الحاجة الى بيان الحق والحقيقة وفيما يلي استعراض لهذه الفلسفات .
الحجاب عنوان المساواة
النقطة الأولي: ينظر التيار النسائي الإسلامي إلى أن فلسفة قيام الحجاب ترتكز بالأساس على انتفاء صفة الجنس كمعيار للتميز ، أو اعتبار المرأة أداة أو دافعا جنسيا داخل محيطها، والحجاب ضرورة لتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة الإنسان في المجتمع وفي مجالات العمل المختلفة؛ حيث ينظر إلى الحجاب على أنه وسيلة يمكن أن تتخذها المرأة لإطلاق العنان لتحقيق ذاتها من خلال عملها الذي تختاره هي حسب مؤهلاتها، وكذلك تثبت واجب مشاركتها في بناء وإصلاح المجتمع ويكون الحجاب بذلك رمزاً للتميز الإيجابي ومظهر من مظاهر التأكيد على الجنس البشري وما تقنضيه الفطرة الإنسانية ولهذا رد على من يعقد بأن المساواة بين المرأة والرجل في كل شيء يعني مساوتها به في اللباس وهذا ما وقع به انصار التبرج والسفور .
وتتكرر نفس الرؤيا بقوالب مختلفة في الفكر النسوي العلماني؛ حيث يؤكد الراديكاليون من النسويين على ضرورة تقريب الشكل الخارجي للمرأة من شكل الرجل؛ حيث تقصير الشعر وارتداء "البنطال" وانتفاء المكياج، بالإضافة إلى مناهضة أغلب تيارات النسوية استخدام المرأة في الدعارة والدعايات وبقية وسائل الإعلام، منطلقة من نفس الفلسفة؛ أي لإقصاء جنس المرأة أو اعتبارها أداة متعة؛ لتتساوى في ذلك بالرجل الإنسان.
ولكن المفارقة تكمن في إنكار النسوية الراديكالية.. هذا في قضية الحجاب مع تماثل الموقف والعلة؛ حيث إن الرجل هو المعني بالنظرة الجنسية للمرأة في الحالتين، والرجل الذي يجلس أمام فاتنة أبرزت جمالها.. من الطبيعي أن ينصرف ذهنه إلى الغريزة والأنوثة، في الوقت الذي تستطيع المرأة بستر تلك المفاتن أن تفرض على الرجل أن ينظر إليها كإنسان مكافئ لها، لا كمغرية تتبارى في منافسة الأخريات، وتُبرز كل يوم مع كل موضة قدرا ونوعا من المفاتن.
ومع أن الحركات النسوية الراديكالية تنكر وجود أي فروق حقيقية بين الجنسين فكيف تناهض تغطية الفروقات الظاهرية التي تذكر دوما بتلك الفروق وتكرسها، وتوحي بأن المرأة شيء والرجل شيء آخر؟ حيث إن المرأة هي نفسها بحاجة إلى فرض نفسها كإنسان على الآخر وعلى المجتمع معا لتنطلق وتحقق ما تريد.
الحجاب حماية المرأة
والنقطة الثانية: التي يراها التيار النسائي الإسلامي أن الحجاب تم فرضه على المرأة من أجل حمايتها من الإيذاء والاعتداء، بعد أن تمكنت هي من فرض شخصيتها كإنسانة؛ وذلك لترسيخ هذه الحماية في إطار ثقافي ثم اجتماعي؛ وهو ما يؤدي إلى تفادي المجتمع من الاستغراق في حماية المرأة بقوة القانون والبوليس ومحاكم الدولة وسجونها، وهذا ظاهر وجلي للمتابع لما يجري في المجتمعات الغربية التي تقوم بحل قضايا، مثل: التحرش الجنسي، والاغتصاب ، وهما ظاهرتان ناتجتان عن الانحلال الأخلاقي الذي يسود المجتمع، ويعد عدم حجاب المرأة من العوامل الأساسية التي أدت إلى تفاقم معاناة المرأة من التحرش الجنسي والاغتصاب حتى وصلت الإحصائيات إلى مستوى مخيف.(/11)
وليس معنى هذا أنه بقيام الحجاب سوف يتم القضاء على التحرش الجنسي والاغتصاب، ولكن لا يمكننا إغفال أثر هذا العامل الرئيسي عند تحليلنا للإحصائيات التي لا تبشر بخير لا للمرأة ولا للمجتمع الإنساني، ولا يمكن لباحث علمي أن ينكر العلاقة بين حجاب المرأة وتقليل عوامل الإثارة، وانخفاض نسبة هذه الجرائم .
الحجاب حرية شخصية فلماذا تحارب
والنقطة الثالثة: هي أن ما تم تطبيقه حتى الآن في أكثر من دولة وفي إطار النظم السياسية العلمانية التي تحتضن التيار النسوي الراديكالي من منع للحجاب وحرمان للمرأة المسلمة بسبب حجابها من حقوقها الأساسية في التعليم والمشاركة المدنية والسياسية في مؤسسات الدولة وحتى العلاج أحيانا، ولا فرق بين هذه النظم من حيث إنها تحكم شعوبا إسلامية، مثل تركيا وتونس أو شعوبا غير مسلمة كفرنسا التي منعت الحجاب حاليا.
وهنا يظهر جليا غلبة التيار النسوي الراديكالي بكل مسمياته على حساب بقية التيارات النسوية، وإخفاقه في تحقيق مناخ تتمتع فيه المرأة ولو بحريتها الشخصية، وحقها في الاختيار حين يكون حصولها على مساندة النظم السياسية أمرا واقعا، بل بدل ذلك أطلقت لنفسها عنان التمثيل نيابة عن كل النساء في قضايا تمس المرأة، هذا إن تعاملنا مع قضية الحجاب منطلقين من مبدأ الحرية الشخصية التي تناضل النسوية من أجلها ولكن بمعيار مزدوج؛ إذ منع الحجاب وحرمان المرأة المسلمة بسبب حجابها من دخول المدارس والجامعات والبرلمان وبقية مؤسسات الدولة لا تعد انتهاكا صارخا لحقوقها كإنسان!! حيث أصبحت العلمانية والنسوية الراديكالية في جبهة واحدة لخلق نوع جديد من التمييز القانوني ضد أغلب شرائح النساء في مجتمعاتهم فيما يخص قضية الحجاب، وأصبحت النسوية الراديكالية التي كانت بالأمس تنتقد وصاية الدين والرجل على المرأة تفرض وصايتها ووصاية الدولة بالقانون على المرأة، وقس على ذلك وصاية التيار النسوي الراديكالي من خلال مؤسسات الأمم المتحدة والمواثيق والاتفاقيات الدولية على نساء العالم، بعيدا عن أي اعتبار لتعدد الثقافات والأديان بين الأمم والشعوب.
الحجاب بين الشكل والجوهر
والنقطة الرابعة: هي انغماس الراديكاليين في شأن الحجاب؛ لدرجة أن كل من ترتدي الحجاب لا تعتبر من وجهة نظر أغلبية هذا التيار مدافعة عن حقوق المرأة، ويختلق هذا التيار علاقة عكسية بين قضية الحجاب وقضية الدفاع عن المرأة، ويعتبر الحجاب وعدمه معيارا لتحديد من يوصف بالمدافع عن قضية المرأة، وكأن الحجاب يعطل فكر المرأة من أن تناضل من أجل الحصول على حقوقها وحقوق من تمثلها، وهذا التعامل السطحي مع الحجاب خلق حاجزا نفسيا بين الناشطات في مجال قضايا المرأة داخل المجتمعات الإسلامية، نلاحظها من خلال المناشط اليومية والمؤتمرات، وأعتبره شخصيا عاملا مؤثرا وأساسيا في ضعف التواصل بين مختلف المؤسسات والجمعيات والمراكز الناشطة في مجال المرأة والاتفاق على أرضية مشتركة للعمل عليها من أجل المرأة نفسها، حين كانت مجتمعاتنا عامة والمرأة فيها خاصة في غنى عن هذه الحالة.
وهذا التعامل ليس مقصورا على الراديكاليين من النسوية؛ بل إن هناك من المتشددين الإسلاميين من يرون نفس الرأي تجاه سفور المرأة. فبالرغم من أهمية الحجاب وكونه فريضة دينية فإنه ليس أهم من الإيمان والواجبات الخمسة المتعلقة بالإسلام، وليس الشكل أهم من الجوهر، وفي كلتا الحالتين تتضرر المرأة لوحدها، وتنغمس مختلف تيارات نسائية/نسوية في إشكاليات لا تقدم للمرأة شيئا، بل تعرقل النضال من أجل حصول المرأة على حقوقها وكذلك تمكينها.
الحجاب هوية دينية وثقافية
والنقطة الخامسة: هي نظرة التيار النسائي للحجاب على أنه جزء من هويتها الدينية والثقافية، وأن تمسكها بالحجاب من القضايا التي لا يمكن التهاون فيها، وأنها من مقتضيات الحفاظ على نظامها الثقافي في زمن تغزوه العولمة، وأن هذا التمسك يعكس واقع مجتمعاتها الإسلامية، ويعبر عنها.
بينما تضع النسوية الراديكالية الحجاب في إطار الإسلام كدين، وحيث إن رفض الدين وإقصاءه من حياة المرأة يعتبر من أهم المرتكزات التي نشأ عليها التيار الراديكالي من الحركة النسوية، وبالتالي رفْض الحجاب بل ومناهضته يدخل في صلب إستراتيجية النسوية الراديكالية البعيدة كل البعد عن شعاراتها الأساسية فيما يخص الحرية الشخصية وتولي المرأة لزمام أمور حياتها، حينما يتعلق الأمر بالجنس والصحة الإنجابية؛ مما صعد الخطاب النسائي الآخر ضدهم لحد وصفهم بمنفذين لأجنده خارجية لا تتلاءم مع الواقع الثقافي والاجتماعي للمجتمعات الإسلامية.
دشنت 70 شخصية نسائية ألمانية بارزة من مختلف شرائح المجتمع الألماني -من غير المسلمين- حملة مناهضة لقوانين مقترحة جديدة لحظر ارتداء الحجاب في دوائر العمل العامة والمدارس الرسمية في عدد من الولايات الألمانية.
حملات مناهضة لقرار منع الحجاب(/12)
نقلت مجلة "دير شبيجيل" الألمانية على موقعها الإلكتروني في 3-12-2003 عن ماري لويز بيك مفوضة الأجانب والاندماج في الحكومة الألمانية انتقادها الشديد لعزم عدد من الولايات الألمانية إصدار قوانين جديدة لحظر الحجاب في الوظائف العامة بها.
واعتبرت "ماري لويز" أن هذه القوانين استخفاف بالوصايا الدستورية المتعلقة بمعاملة جميع الأديان الموجودة داخل المجتمع الألماني على قدم المساواة.
وأكدت أن تقنين حظر عمل المسلمات في المدارس الرسمية والوظائف العامة في ألمانيا سيؤدي إلى ممارسة تمييز ديني غير مسبوق عليهن وجرح مشاعرهن وصدمتهن من الظلم الواقع عليهن.
من جهتها، قالت "بربارا جون" مفوضة الأجانب والاندماج في برلمان ولاية برلين المحلي: إن هدف واضعي القوانين الجديدة والمؤيدين والمتبنين لها هو إثارة فزع هائل بين المواطنين الألمان من الإسلام، وتعزيز صورته النمطية السلبية عندهم كعدو شيطاني رهيب.
وأضافت بربارا أن مثل هذه القوانين في حال صدورها من شأنها أن تسم المجتمع الألماني بالانغلاق والتطرف بصورة مطلقة، وأن تؤدي إلى إضافة أعضاء جدد لمعسكر من أسمتهم "المتشددين المسلمين" داخل المجتمع الألماني.
وأطلقت "اللجنة الإسلامية لحقوق الإنسان" -ومقرها العاصمة البريطانية لندن- حملة دولية للضغط على الحكومة الفرنسية وحملها على العدول عن سن قانون يمنع المسلمات من ارتداء الحجاب في المدارس.
واقترحت اللجنة -التي تناهض العداء ضد الإسلام والمسلمين في أوربا- على جميع المسلمين في مختلف أنحاء العالم توجيه رسائل احتجاج للمسئولين الأوربيين تندد بالنوايا الفرنسية وتحضهم على اتخاذ مواقف قوية وواضحة ترغم الحكومة الفرنسية على العدول عن نواياها بسن قانون يمنع ارتداء الحجاب في المدارس.
ودعت اللجنة المسلمين بصورة خاصة إلى توجيه رسائل إلى الرئيس الفرنسي "جاك شيراك" ووزير داخليته، بالإضافة إلى وزير الخارجية البريطاني "جاك سترو" وجميع وزراء الخارجية في أنحاء العالم، والسفراء الفرنسيين المعتمدين في جميع عواصم العالم.
وأوضحت اللجنة أنها أعدت نماذج للرسائل المراد إرسالها للتنديد بموقف الحكومة الفرنسية من الحجاب، كما أعدت صيغة لكل رسالة حسب الشخص أو الجهة المتجهة إليها، فالذين يقيمون في دول الاتحاد الأوربي عدا الفرنسيين عليهم الكتابة إلى وزير خارجية البلد الذي يقيمون فيه.
وقال "مونل زيدان" الناشط الإسلامي، مسئول مؤسسة زيدان للاستشارات الإعلامية المعنية بالترويج للحملة: إن القائمين على الحملة يستهدفون "حث المسلمين في مختلف أنحاء العالم على الوقوف في وجه حملة العداء التي تروج في أوربا ضد الإسلام والمسلمين، والتي تأتي المواقف الفرنسية من الحجاب خير برهان عليها".
وأضاف زيدان أن "حملة الرسائل بداية لخطوات أكثر جدية لإرغام الحكومة الفرنسية على احترام رموز الدين الإسلامي وحرية الاعتقاد وممارسة الشعائر، شأنهم شأن غيرهم من معتنقي الأديان الأخرى".
وأشار إلى أن "اللجنة تنوي حال إصرار الحكومة الفرنسية على المضي قدمًا في اتجاه سن هذا القانون أن تقيم ضدها دعوى قضائية أمام محكمة حقوق الإنسان الأوربية" باعتبار أن قانون منع الحجاب "صورة صارخة للتمييز على أساس ديني بما يتعارض مع الأعراف ومواثيق حقوق الإنسان التي يدعمها الاتحاد الأوربي".
ورأى مونل زيدان أن "المسلمين يعتبرون الحلقة الأضعف وسط كافة العرقيات والجاليات التي تعيش في أوربا، ونتيجة لأنهم غير فاعلين ولا يقفون مواقف إيجابية عند انتهاك حقوقهم، يتعرضون كل يوم للمزيد من الغبن والنيل من معتقداتهم ومقدساتهم، ومن هنا تسعى اللجنة الإسلامية لحقوق الإنسان -بالتعاون مع مؤسسات أهلية أخرى في أوربا- لتوحيد كلمة المسلمين وحشد رأيهم حيال القضايا التي تنال من حقوقهم في البلدان التي يعيشون فيها".
وأشار "زيدان" إلى أن سن فرنسا لقانون يمنع ارتداء الحجاب في المدارس كفيل بـ"توفير مظلة شرعية وقانونية لحملة العداء التي تروج لها دوائر عنصرية ضد المسلمين". ورأى أنه من الضروري ألا تقتصر الاستجابة للحملة على المسلمين المقيمين في أوربا وحدهم، بل من الضروري أن يشارك فيها المسلمون في العالمين العربي والإسلامي، لا سيما أن القانون الفرنسي حال إقراره لن يحد من حرية المسلمات المقيمات في فرنسا وحدهن، بل سينال من حرية الزائرات لفرنسا من العرب والمسلمين سواء للسياحة أو العلاج أو غيره.
وفي تونس العلمانية التي لا تقل خطراً على الحجاب من فرنسا طلب عدد من المحامين والشخصيات السياسية التونسية من رئيس الدولة زين العابدين بن علي التدخل العاجل لإيقاف الانتهاكات المتواصلة ضد النساء التونسيات المرتديات للحجاب.(/13)
وجاء في عريضة وقعها أكثر من 100 محام وناشط حقوقي أن "النساء التونسيات المرتديات للحجاب يتم حرمانهن منذ بداية السنة من العمل ودخول المعاهد والجامعات، كما يعمد رجال الأمن دون موجب قانوني إلى تعنيفهن، ونزع الحجاب بالقوة مع الشتم والوصف بشتى النعوت، ولو أمام أزواجهن أو إخوانهن، وإجبارهن على إمضاء التزام بعدم ارتداء الحجاب مستقبلاً".
وطالبت العريضة التي أثارت جدلاً واسعًا عقب توزيعها على وسائل الإعلام الإثنين 10-11-2003 "بإيقاف هذه الانتهاكات الخطيرة والمنافية للحرية الشخصية وحرية المعتقد وكل المواثيق الدولية".
كما ندّد الموقعون على العريضة "بالاعتداءات على الحرمة الجسدية للمواطنات من طرف سلطة يفترض فيها أنها تسهر على احترام القوانين وحماية المواطنين، لا على ترويعهم والتدخل في خياراتهم الشخصية".
وكانت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان قد عبرت عن انشغالها العميق بالانتهاكات والاعتداءات التي تتعرض لها النساء المحجبات من طرف رجال الأمن أو المسئولين في الإدارات العمومية.
ووصفت الرابطة في بيان حديث أن المنشور الصادر عن وزارة التربية والتدريب، الذي يدعو إدارات المعاهد والمدارس إلى "العمل بكل حزم وصرامة على تطبيق التدابير التي تمنع ارتداء الأزياء ذات الإيحاءات والدلالات الطائفية"، في إشارة إلى الحجاب، بأنه "منشور غير قانوني، وينتهك الحق في حرية اللباس والحق في التعليم".
ويُذكر أن وزير الصحة حبيب مبارك لا بارك الله فيه قد أصدر منشورا جديدا في بداية شهر رمضان يدعو فيه المستشفيات وإدارات الصحة إلى منع الأطباء والممرضين والمرضى من الدخول في حالة وجود الحجاب أو اللحية.
من جهة أخرى قال المجلس الوطني للحريات: إنه سجل منذ بداية السنة الدراسية الحالية حملة منظمة لانتهاك الحريات الفردية للمواطنات المحجبات. وقال المجلس إن الحملة شملت المحجبات في الطريق العام ووسائل النقل العمومية ومؤسسات التعليم العالي والمحاكم والمستشفيات".
وقال المحامي نجيب حسني الناطق الرسمي باسم مجلس الحريات": يجب إيقاف هذه الحملة اللامنطقية التي تحرم نساء تونس من حقوقهن في التعليم والعمل، وأضاف: "المجتمع المدني وقواه الصادقة لا يمكنهم السكوت على هذه الانتهاكات، وعلى تسخير أجهزة الدولة لمحاربة نساء محجبات بدون أي ذنب، سوى ممارسة قناعات شخصية مضمونة في الدستور والمواثيق الدولية".
نماذج لاضطهاد المحجبات في تونس العروبة
قالت أحلام الداني من تونس الخضراء ، 45 سنة، إنها تعرضت للاختطاف من قبل رجال أمن بالزي المدني، حيث أجبرت على الالتزام بنزع الحجاب داخل منطقة الأمن بباب سويقة وسط العاصمة التونسية، وعبرت عن استيائها الشديد من تدهور حقوق النساء بدون أي موجب ولا قانون.
أما الطالبة بسمة الغزي -23 سنة- فقالت إنها أحيلت إلى مجلس التأديب بكلية العلوم، وإنها اضطرت لنزع حجابها مؤقتًا حتى لا تضحي بدراستها.
وأضافت الغزي: "أعتقد أن المنشورات الصادرة عن وزير التعليم العالي ضد المحجبات فيها ظلم كبير لم يحصل حتى في الدول الغربية، وهي ناتجة عن تحريض واضح وصريح من أطراف أصابها الفشل ولم يجدوا إلا المحجبات لمحاربتهن".
من المعروف أن القانون رقم 108 التونسي الذي يتضمن حظر ارتداء الحجاب صدر في عهد الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة عام 1981.
وقال القرضاوي في خطبة الجمعة 19-12-2003 التي ألقاها بمسجد عمر بن الخطاب بالعاصمة القطرية الدوحة ان ما قامت به فرنسا يخالف مبدأين أساسيين من مبادئ الحرية المدنية وهما: الحرية الشخصية والحرية الدينية"، وأكد القرضاوي أنه لا يجوز للمرأة المسلمة أن تترك الحجاب؛ لأن الله أمر به وهو ليس رمزاً لأن الرمز الديني هو ما ليس له وظيفة سوى الإعلان عن الانتماء لدين معين كالصليب للنصارى والقلنسوة لليهود. أما الحجاب فلا؛ ذلك لأن له وظيفة أساسية وهي الستر؛ فهو يستر للمسلمة شعرها وبدنها وعنقها ونحرها".(/14)
وفي ختام لحثنا هذا نرى أن قضية الحجاب واثارتها عالمياً وعلى مستوى سياسي ودستوري له دلالات مهمة يجب الإشارة اليها ومن أهمها أن الغرب بات يدرك تماماً أن المستقبل للإسلام وأن الفكر الإسلامي هو الفكر الذي يناسب كل الثقافات وكل الشعوب وبالتالي فانه المرشح الوحيد والأصلح لقيادة العالم بشكل سليم وهذ1ا الإدراك طبعاً يتعارض مع اهدافهم الخبيثة ومع مخططاتهم المسمومة ولهذا يجب محاربة الإسلام من خلال القضاء على مظاهره الدالة عليه وليس هناك من مظهر اسطع من الحجاب لدجى المرأة المسلمة وأيضاً فهم هذا ادراك آخر لأهمية الحجاب في تهذيب النفس وهم طبعاً يريدون تخريب هذه النفس وافسادها والتي بها يفسد كل شيء في المجتمع ولما كان وما زال العالم الإسلامي والفكر الإسلامي والعقيدة الإسلامية والمرأة المسلمة المتزنة والمحتشمة تشكل عقبة أمام طموحهم رسموا خططهم لإفساد المرأة مربية الأجيال حتى يستقيم الحال بينها وبين نسائهم في الخفة والفساد .
وهذا كله يقودنا الى أن الحرب هذه يجب أن تواجه بحملة مضادة ومنظمة وواسعة ومدروسة ترتكز على قواعد واصول العمل الدعوي الواعي والمؤصل شرعاً ومن هنا يبرز دور العلماء من فقهاء وعلماء اجتماع وسياسة لكي تتخذ المسألة نهجاً علمياً سليماً وهذا طبعاً يجب أن يدعمه خطوات جماهيرية ومنظماتية شعبية ضاغطة ودافعة باتجاه العمل على تصويب الأوضاع في مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي تعاني هي الأخرى من ظواهر ومسلكيات خطيرة تقودها وتعمل على تشجيعها الأنظمة الحاكمة بالحديد والنار والظلم والإستبداد وما أكثر هذه النماذج في وططنا العربي والإسلامي الكبير وباعتقادي بغير هذا لن يوكن لصوت الإصلاح ودعوة الحق وكلمة الإيمان صدى وتأثير على الحكومات الغربية المعادية لنا أصلاً وعلانية ولكن كما يقول المثل لا يفل الحديد الا الحديد فالقوة هي السبيل الى تحقيق الأهداف ومن انواع القوة وحدة الصف والحرف والصوت والسوط واراية والغاية والشعار والقرار والغرب ما زال يرى فينا كل اشكال الفرقة والتمزق والتشتت فكيف يخافنا أو يحسب لنا أي حساب وكيف لا يتجرأ على المس بقيمنا ومبادئنا وعقيدتنا وهو يرى منا من هم اكثر منه عداءاً لنا .(/15)
الحجاب حكم وأسرار
تعبد الله نساء المؤمنين بفرض الحجاب عليهن، الساتر لجميع أبدانهن، وزينتهن أمام الرجال الأجانب عنهن، تعبداً يثاب على فعله ويعاقب على تركه؛ ولهذا كان هتكه من الكبائر الموبقات، ويجر إلى الوقوع في كبائر أخرى، مثل: تعمد إبداء شيء من البدن، وتعمد إبداء شيء من الزينة المكتسبة، والاختلاط وفتنة الآخرين، إلى غير ذلك من آفات هتك الحجاب. فعلى نساء المؤمنين الاستجابة إلى الالتزام بما افترضه الله عليهن من الحجاب والستر والعفة والحياء طاعة لله تعالى، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم قال الله عز شأنه: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا " (الأحزاب 36) كيف ومن وراء افتراضه حكم وأسرار عظيمة، وفضائل محمودة، وغايات ومصالح كبيرة، منها:
أولاً: حفظ العرض: الحجاب حراسة شرعية لحفظ الأعراض، ودفع أسباب الريبة والفتنة والفساد.
ثانياً: طهارة القلوب: الحجاب داعية إلى طهارة قلوب المؤمنين والمؤمنات، وعمارتها بالتقوى، وتعظيم الحرمات. وصدق الله سبحانه "ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن".
ثالثاً: مكارم الأخلاق: الحجاب داعية إلى توفير مكارم الأخلاق من العفة والاحتشام والحياء والغيرة، والحجب لمساويها من التلوث بالشائنات كالتبذل والتهتك والسفالة والفساد.
رابعاً: علامة على العفيفات: الحجاب علامة شرعية على الحرائر العفيفات في عفتهن وشرفهن، وبعدهن عن دنس الريبة والشك: "ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين"، وصلاح الظاهر دليل على صلاح الباطن، وإن العفاف تاج المرأة، وما رفرفت العفة على دار إلا أكسبتها الهناء. ومما يستطرف ذكره هنا، أن النميري لما أنشد عند الحجاج قوله:
يخمرن أطراف البنان من التقى **** ويخرجن جنح الليل معتجرات
قال الحجاج: وهكذا المرأة الحرة المسلمة.
خامساً: قطع الأطماع والخواطر الشيطانية: الحجاب وقاية اجتماعية من الأذى، وأمراض قلوب الرجال والنساء، فيقطع الأطماع الفاجرة، ويكف الأعين الخائنة، ويدفع أذى الرجل في عرضه، وأذى المرأة في عرضها ومحارمها، ووقاية من رمي المحصنات بالفواحش، وإبعاد قالة السوء، ودنس الريبة والشك، وغيرها من الخطرات الشيطانية.
ولبعضهم:
حور حرائر ما هممن بريبة ****كظباء مكة صيدهن حرام.
سادساً: حفظ الحياء: وهو مأخوذ من الحياة، فلا حياة بدونه، وهو خلق يودعه الله في النفوس التي أراد - سبحانه - تكريمها، فيبعث على الفضائل، ويدفع في وجوه الرذائل، وهو من خصائص الإنسان، وخصال الفطرة، وخلق الإسلام، والحياء شعبة من شعب الإيمان، وهو من محمود خصال العرب التي أقرها الإٍسلام ودعا إليها، قال عنترة العبسي:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي **** حتى يواري جارتي مأواها
فآل مفعول الحياء إلى التحلي بالفضائل، وإلى سياج رادع، يصد النفس ويزجرها عن تطورها في الرذائل، وما الحجاب إلا وسيلة فعالة لحفظ الحياء، وخلع الحجاب خلع للحياء.
سابعاً: الحجاب يمنع نفوذ التبرج والسفور والاختلاط إلى مجتمعات أهل الإسلام.
ثامناً: الحجاب حصانة ضد الزنا والإباحية، فلا تكون المرأة إناءً لكل والغ.
تاسعاً: المرأة عورة، والحجاب ساتر لها، وهذا من التقوى، قال الله تعالى: "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير" (الأعراف / 26). قال عبدالرحمن بن أسلم (رحمه الله تعالى) في تفسير هذه الآية: يتقي الله فيواري عورته فذاك لباس التقوى. وفي الدعاء المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي ) رواه أبو داود وغيره. فاللهم استر عوارتنا وعورات نساء المؤمنين، آمين.
عاشراً: حفظ الغيرة: فالحجاب باعث عظيم على تنمية الغيرة على المحارم أن تنتهك، أو ينال منها، وباعث على توارث هذا الخلق الرفيع في الأسر والذراري، غيرة النساء على أعراضهن وشرفهن، وغيرة أوليائهن عليهن، وغيرة المؤمنين على محارم المؤمنين من أن تنال الحرمات، أو تخدش بما يجرح كرامتها وعفتها وطهارتها ولو بنظرة أجنبي إليها
كاتب المقال: الشيخ / بكر أبو زيد
المصدر: موقع الحجاب(/1)
الحجاب عبادة
دار الوطن
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، أما بعد:
أختي المسلمة!
لقد دأبت بعضُ الأقلام بين فينةٍ وأخرى على النيلِ من حجابك والهجوم عليه، واصفةً إياه بالتخلف والرجعية وعدم مواكبة التطور الذي نشهده، والقرن الذي نحن على مشارفه، حيث إننا نعيش عصر الفضائيات والاتصالات والعولمة وتلاقح الأفكار وغير ذلك من مظاهر التقدم العلمي والتكنولوجي.
وقد انقسم هؤلاء المبهورون بمدنية الغرب إلى أقسام عدة:
فمنهم من أنكر فرضية الحجاب بالكلية، وزعم أنه من خصوصيات العصور الإسلامية الأولى!!
ومنهم من أنكر غطاء الوجه وراح يدعو إلى السفور والاختلاط، زاعماً أن ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ما يدل على تغطية وجه المرأة، وأن ذلك من قبيل العادات الموروثة التي فرضها المتشددون!
ومنهم من تخبَّط فقال: إن الحجاب سجن يجب على المرأة أن تتحرر منه حتى تستثمر طاقاتها في مواكبة العصر، ومشاركة الرجل مسيرته التقدمية نحو آفاق المدنية الحديثة!
ومنهم من طبق المثل القائل: "رمتني بدائها وانسلَّت" فزعم أن الذين يدعون إلى الحجاب ونبذ التبرج والسفور ينظرون إلى المرأة نظرة جسدية،ولو أنهم تركوا المرأة تلبس ما تشاء لتخلَّص المجتمع من هذه النظرة الجسدية المحدودة!!
وهؤلاء جميعاً قد اشتركوا في الجهل والدعوة إلى الضلال، شاءوا أم أبوْا.
والأمر في ذلك كما قال الشاعر:
فإن كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ *** وإن كنت تدري فالمصيبةُ أعظمُ
أما حقيقة هؤلاء فلا تخفى على ذي عينين!
وأما كلامهم فباطل باطل، يبطل أولُه آخرَه، وآخرُه أولَه، قال تعالى: وَلَتَعرِفَنهُم فِي لَحنِ القَولِ وَاللهُ يَعلَمُ أَعمالَكُم [محمد:30].
وأما دعوتهم فمؤامرة مكشوفة على المرأة المسلمة، وعلى الأسرة والمجتمع والأمة بأسرها.
ومع ذلك فقد نجح هؤلاء في السيطرة على عقول بعض نسائنا، فأغروهن بكلامهم المعسول وعباراتهم البراقة التي تحمل في طيَّاتها الهلاك والدمار، فظننَّ أن هؤلاء هم المدافعون عن قضايا المرأة وحقوقها، وجهلن أن الإسلام قد صان المرأة أتمَّ صيانة، ورفع مكانتها في جميع مراحل حياتها، طفلةً وبنتاً وزوجة وأُمًّا وجدة.
ولما كان الأمر كما قال الشاعر:
لكلِّ ساقطةٍ في الحيِّ لاقطةٌ........... وكلُّ كاسدةٍ يوماً لها سوقُ
فقد تعيَّن الردُّ على هؤلاء ودحض شبهاتهم، وتفنيد كلامهم، وكشف عوار أحاديثهم وزيف أطروحاتهم، لعلهم يعودوا لرشدهم ويتخلوا عن باطلهم.
الحجاب عبادة
الحجاب عبادة من أعظم العبادات وفريضة من أهم الفرائض؛ لأن الله تعالى أمر به في كتابه، ونهى عن ضده وهو التبرج، وأمر به النبي في سنته ونهى عن ضده، وأجمع العلماء قديماً وحديثاً على وجوبه لم يشذّ عن ذلك منهم أحد، فتخصيص هذه العبادة – عبادة الحجاب – بعصر دون عصر يحتاج إلى دليل، ولا دليل للقائلين بذلك ألبتة. ولذلك فإننا نقول ونكرر القول: "لا جديد في الحجاب".
ولو لم يكن الحجاب مأموراً به في الكتاب والسنة، ولو لم يرد في محاسنه أيُّ دليل شرعي، لكان من المكارم والفضائل التي تُمدح المرأة بالتزامها والمحافظة عليها، فكيف وقد ثبتتْ فرضيَّتُه بالكتاب والسنة والإجماع؟!
أدلة الحجاب من الكتاب والسنة
وفي هذه الأدلة برهان ساطع على وجوب الحجاب، وإفحامٌ واضح لمن زعم أنه عادة موروثة أو أنه خاصٌّ بعصور الإسلام الأولى.
أولاً: أدلة الحجاب من القرآن:
الدليل الأول: قوله تعالى: وَقُل للمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِن وَيَحفَظنَ فُرُوجَهُن وَلاَ يُبدِينَ زِينَتَهُن إِلا مَا ظَهَرَ مِنهَا وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِن عَلَى جُيُوبِهِن وَلاَ يُبدِينَ زِينَتَهُن إلى قوله: وَلاَ يَضرِبنَ بِأَرجُلِهِن لِيُعلَمَ مَا يُخفِينَ مِن زِينَتِهِن وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيهَا المُؤمِنُونَ لَعَلكُم تُفلِحُونَ [النور:30].
قالت عائشة رضي الله عنها: { يرحم الله نساء المهاجرات الأُول؛ لما أنزل الله: وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِن عَلَى جُيُوبِهِن شققن مروطهن فاختمرن بها } [رواه البخاري].
الدليل الثاني: قوله تعالى: وَالقَوَاعِدُ مِنَ النسَاء اللاتي لاَ يَرجُونَ نِكَاحاً فَلَيسَ عَلَيهِن جُنَاحٌ أَن يَضَعنَ ثِيَابَهُن غَيرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَستَعفِفنَ خَيرٌ لهُن وَاللهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ [النور:60].
الدليل الثالث: قوله تعالى: يأَيهَا النبِي قُل لأزواجِكَ وَبَناَتِكَ وَنِسَاء المُؤمِنِينَ يُدنِينَ عَلَيهِن مِن جَلابِيبِهِن ذلِكَ أَدنَى أَن يُعرَفنَ فَلاَ يُؤذَينَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رحِيماً [الأحزاب:59].
الدليل الرابع: قوله تعالى: وقَرنَ فِي بُيُوتِكُن وَلاَ تَبَرَّجنَ تَبَرجَ الجاَهِلِيةِ الأولَى [الأحزاب:33].
الدليل الخامس: قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلتُمُوهُن مَتَاعاً فاسأَلُوهُن مِن وَرَاء حِجَابٍ ذلِكُم أَطهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهِن [الأحزاب:53].(/1)
ثانياً: أدلة الحجاب من السنة:
الدليل الأول: في الصحيحين أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله، احجب نساءك. قالت عائشة: فأنزل الله آية الحجاب. وفيهما أيضاً: قال عمر: يا رسول الله، لو أمرتَ أمهات المؤمنين بالحجاب. فأنزل الله آية الحجاب.
الدليل الثاني: عن ابن مسعود عن النبي قال: { المرأة عورة } [الترمذي وصححه الألباني].
الدليل الثالث: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : { من جرَّ ثوبه خُيَلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقالت أم سلمة رضي الله عنها: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: "يرخين شبراً" فقالت: إذن تنكشف أقدامهن. قال: "فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه } [رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح].
أدلة سَتر الوجه من الكتاب والسنة
أولاً: قوله تعالى: وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِن عَلَى جُيُوبِهِن [النور:30].
قال العلامة ابن عثيمين: "فإن الخمار ما تخمِّر به المرأة رأسها وتغطيه به كالغدقة، فإذا كانت مأمورة بأن تضرب بالخمار على جيبها كانت مأمورة بستر وجهها".
ثانياً: قوله تعالى: يأَيهَا النبِي قُل لأزواجِكَ وَبَناَتِكَ… [الأحزاب:59].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلاليب". قال الشيخ ابن عثيمين: "وتفسير الصحابي حجة، بل قال بعض العلماء إنه في حكم المرفوع إلى النبي ".
ثالثاً: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: { لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين } [رواه البخاري].
قال القاضي أبو بكر بن العربي: "قوله في حديث ابن عمر: "لا تنتقب المرأة المحرمة" وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتعرض عن الرجال ويعرضون عنها".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا مما يدلّ على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن".
رابعاً: في قوله : { المرأة عورة } دليل على مشروعية ستر الوجه. قال الشيخ حمود التويجري: "وهذا الحديث دالّ على أن جميع أجزاء المرأة عورة في حق الرجال الأجانب، وسواءٌ في ذلك وجهها وغيره من أعضائها".
جهل أم عناد؟!
إليكم يا من تزعمون أن حجاب المسلمة لا يناسب هذا العصر!!
إليكم يا من تدّعون أن تغطية الوجه من العادات العثمانية!!
إليكم يا من تريدون إخراج المرأة من بيتها واختلاطها بالرجال في كل مكان.
هذه آيات القرآن أمامكم فاقرءوها.. وهذه أحاديث النبي محمد بين أيديكم فادرسوها... وهذا فهم أئمة الإسلام من السلف والخلف يدل على وجوب الحجاب وستر الوجه فاعقلوه. فإن كنتم جهلتم هذه الآيات والأحاديث في الماضي فها هي أمامكم، ونحن ننتظر منكم الرجوع إلى الحق وعدم التمادي في الباطل؛ فإن الرجوع إلى الحق فضيلة، والإصرار على الباطل شر ورذيلة.
أما إذا كنتم من الصنف الذي وصفه الله تعالى بقوله: وَجَحَدُوا بِهَا وَاستَيقَنَتهَا أَنفُسُهُم ظُلماً وَعُلُواً [النمل:14]، فإنكم لن تنقادوا للحق، ولن ترجعوا إلى الصواب، وإن سردنا لكم عشراتٍ بل مئاتِ الآيات والأحاديث، لأنكم – بكل بساطة – لا تؤمنون بكون الإسلام منهج حياة، وبكون القرآن صالحاً لكلّ زمان ومكان. قال تعالى: أَفَحُكمَ الجَاهِلِيةِ يَبغُونَ وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللهِ حُكماً لقَومٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
الحجاب والمدنية
يرى دعاة المدنية أن الحجاب مظهر من مظاهر التخلف، وأنه يمنع المرأة من الإبداع والرقي، وهو عندهم من أكبر العقبات التي تحول بين المرأة وبين المشاركة في مسيرة الحضارة والمدنية، وفي عملية البناء التي تخوضها الدول النامية للوصول إلى ما وصلت إليه الدول المتقدمة من رقي وتمدن!!
ونقول لهؤلاء: ما علاقة الحجاب بالتقدم الحضاري والتكنولوجي؟!
هل من شروط الحضارة والمدنية أن تخلع المرأة ملابسها وتتعرَّى أمام الرجال؟!
هل من شروط الحضارة والمدنية أن تشارك المرأة الرجل متعته البهيمية وشهواته الحيوانية؟!
هل من شروط الحضارة والمدنية أن تكون المرأة جسداً بلا روح ولا حياء ولا ضمير؟!
هل الحجاب هو السبب في عجزنا عن صناعة السيارات والطائرات والدبابات والمصانع والأجهزة الكهربائية بشتى أنواعها؟!
لقد تخلت المرأة المسلمة في معظم الدول العربية والإسلامية عن حجابها، وألقته وراء ظهرها، وداست عليه بأقدامها، وخرجت لتعمل مع الرجل، وشاركته معظم ميادين عمله!!
فهل تقدمت هذه الدول بسبب تخلِّي نسائها عن الحجاب؟!
وهل لحقت بركب الحضارة والمدنية بسبب اختلاط الرجال بالنساء؟!
وهل وصلت إلى ما وصلت إليه الدولُ المتقدمة من قوة ورقيّ؟!
وهل أصبحت من الدول العظمى التي لها حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن؟!
وهل تخلصت من مشاكلها الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية والأخلاقية؟!(/2)
الجواب واضح لا يحتاج إلى تفصيل. فلماذا إذن تدعون إلى التبرج والسفور والاختلاط يا دعاة المدنية والحضارة؟!
نعم للتعليم.. لا للتبرج
إن المرأة في هذه البلاد – ولله الحمد – وصلت إلى أرقى مراتب التعليم، وحصلت على أعلى الشهادات التعليمية، وهي تعمل في كثير من المجالات التي تناسبها، فهناك الطبيبة، والمعلمة، والمديرة، وأستاذة الجامعة، والمشرفة والباحثة الاجتماعية، وكلّ هؤلاء وغيرهن يؤدين دورهن في نهضة الأمة وبناء أجيالها، لم يمنعهن من ذلك حجابهن وسترهن وحياؤهن وعفتهن.
لقد أثبتت المرأة المسلمة – في هذه البلاد – أنها تستطيع خدمة نفسها ومجتمعها وأمتها دون أن تتعرض لما تعرضت له المرأة في كثير من البلدان من تبذُّلٍ وامتهان، ودون أن تكون سافرة أو متبرجة أو مختلطة بالرجال الأجانب.
إن هذه التجربة التي خاضتها المرأة في بلادنا تثبت خطأ مقولة دعاة التبرج والاختلاط: "إن النساء في بلادنا طاقات معطَّلة لا يمكن أن تُستَثمر إلا إذا خلعت حجابها وزاحمت الرجال في مكاتبهم وأعمالهم". كَبُرَت كَلِمَةً تَخرُجُ مِن أَفوَاهِهِم إِن يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا [الكهف:5].
ماذا يريدون؟!
إن هؤلاء لا يريدون حضارة ولا مدنية ولا تقدماً ولا رقياً.. إنهم يريدون أن تكون المرأة قريبة منهم.. يريدونها كلأً مباحاً لشهواتهم.. يريدونها سلعةً مكشوفةً لنزواتهم … يريدون العبث بها كلما أرادوا.. والمتاجرة بها في أسواق الرذيلة.. إنهم يريدون امرأة بغير حياء ولا عفاف.. يريدون امرأة غربية الفكر والتصور والهدف والغاية.. يريدون امرأة تجيد فنون الرقص.. وتتقن ألوان الغناء والتمثيل.. يريدون امرأة متحررة من عقيدتها وإيمانها وطهرها وأخلاقها وعفافها.
الرد على من اتهم الدعاة إلى الحجاب
أما هؤلاء، فحدّث عنهم ولا حرج.. إنهم يكذبون.. ويعلمون أنهم يكذبون.. يقولون: إن الدعاة إلى الفضيلة ينظرون إلى المرأة نظرة جسدية، أما إذا تُركت المرأة تلبس ما تشاء فسوف تختفي تلك النظرة وسوف يكون التعامل بين الرجل والمرأة على أساس من الاحترام المتبادل.
والحقيقة التي لا مراء فيها تكذِّب هذه الدعوى وتفضح تلك المقولة.
والدليل على ما أقول هو ما يحدث الآن في المجتمعات التي تلبس فيها المرأة ما تشاء، وتصاحب من تشاء.. هل خَفَّ في هذه المجتمعات سعار الشهوة؟ وهل كان التعامل فيها بين الرجل والمرأة على أساس من الاحترام المتبادل؟
يجيب على ذلك تلك الإحصائيات:
1- أظهرت إحدى الإحصائيات أن 19 مليوناً من النساء في الولايات المتحدة كُنَّ ضحايا لعمليات الاغتصاب!! [كتاب: يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة].
2- أجرى الاتحاد الإيطالي للطب النفسي استطلاعاً للرأي اعترف فيه 70% من الإيطاليين الرجال بأنهم خانوا زوجاتهم [تأملات مسلم].
3-في أمريكا مليون طفل كل عام من الزنا ومليون حالة إجهاض [عمل المرأة في الميزان].
4-في استفتاء قامت به جامعة كورنل تبين أن 70% من العاملات في الخدمة المدنية قد اعتُدي عليهن جنسيًّا وأن 56% منهن اعتدي عليهن اعتداءات جسمانية خطيرة [المرأة ماذا بعد السقوط ؟].
5-في ألمانيا وحدها تُغتصب 35000 امرأة في السنة، وهذا العدد يمثل الحوادث المسجلة لدى الشرطة فقط أما حوادث الاغتصاب غير المسجلة فتصل حسب تقدير البوليس الجنائي إلى خمسة أضعاف هذا الرقم [رسالة إلى حواء].
ألا تدل هذه الأرقام والإحصائيات على خطأ دعوى هؤلاء ومقولتهم؟ أم أن هذه الأرقام والإحصائيات هي جزء من الاحترام المتبادل بين الرجل والمرأة الذي يريده هؤلاء؟!
فاعتبروا يا أولي الأبصار
يا فتاة الإسلام:
إن الحجاب أعظم معين للمرأة للمحافظة على عفَّتها وحيائها، وهو يصونها عن أعين السوء ونظرات الفحشاء، وقد أقرَّ بذلك الذين ذاقوا مرارة التبرج والانحلال واكتووا بنار الفجور والاختلاط، والحقُّ ما شهدت به الأعداء!! تقول الصحفية الأمريكية (هيلسيان ستاسنبري) بعد أن أمضت في إحدى العواصم العربية عدة أسابيع ثم عادت إلى بلادها: "إن المجتمع العربي كامل وسليم، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تقيّد الفتاة والشاب في حدود المعقول. وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الأوربي والأمريكي، فعندكم أخلاق موروثة تحتِّم تقييدَ المرأة، وتحتم احترام الأب والأم، وتحتم أكثر من ذلك عدم الإباحية الغربية، التي تهدم اليوم المجتمع والأسرة في أوربا وأمريكا.. امنعوا الاختلاط، وقيّدوا حرية الفتاة، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق ومجون أوربا وأمريكا" [من: رسالة المرأة وكيد الأعداء].
فيا فتاة الإسلام:
هذه امرأة أمريكية تدعو إلى الحجاب بعد أن رأت التمزق الأسري والانحلال الخلقي يعصف بمجتمعها.
أمريكية توصينا بالتمسك بأخلاقنا الإسلامية الجميلة، وعاداتنا الحسنة.
أمريكية تحذرنا من مغبَّة الاختلاط والإباحية التي أدت إلى فساد المجتمعات في أوربا وأمريكا.(/3)
فأبشري يا فتاة الإسلام.. وقَرّي بحجابك عيناً.. واعلمي أن المستقبل لهذا الدين.. وأن العاقبة للمتقين ولو كره الكارهون.(/4)
الحجاب وأصول الإعتقاد
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه . أما بعد :
فلم يعد خافياً على أحد ما تشهده مجتمعات المسلمين اليوم من حملة محمومة من الذين يتبعون الشهوات على حجاب المرأة وحيائها وقرارها في بيتها؛ حيث ضاق عطنهم وأخرجوا مكنونهم ونفذوا كثيراً من مخططاتهم في كثير من مجتمعات المسلمين ؛ وذلك في غفلة وقلة إنكار من أهل العلم والصالحين ، فأصبح الكثير من هذه المجتمعات تعج بالسفور والاختلاط والفساد المستطير مما أفسد الأعراض والأخلاق ، وبقيت بقية من بلدان المسلمين لا زال فيها والحمد لله يقظة من أهل العلم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر حالت بين دعاة السفور وبين كثير مما يرومون إليه .
وهذه سنة الله عز وجل في الصراع بين الحق والباطل والمدافعة بين المصلحين والمفسدين .
ومن كيد المفسدين في مثل المجتمعات المحافظة مع وجود أهل العلم والغيرة أن أولئك المفسدين لا يجاهرون بنواياهم الفاسدة ؛ ولكنهم يتسترون وراء الدين ويُلبِسون باطلهم بالحق واتباع ما تشابه منه ، وهذا شأن أهل الزيغ كما وصفهم الله عز وجل في قوله : ((فّأّمَّا بَّذٌينّ فٌي قٍلٍوبٌهٌمً زّيًغِ فّيّتَّبٌعٍونّ مّا تّشّابّهّ مٌنًهٍ بًتٌغّاءّ بًفٌتًنّةٌ ابًتٌغّاءّ تّأّوٌيلٌهٌ)) [آل عمران : 7] .
وهم أول من يعلم أن فساد أي مجتمع إنما يبدأ بإفساد المرأة واختلاطها بالرجال ، ولو تأملنا في التاريخ لوجدنا أن أول ما دخل الفساد على أية أمة فإنما هو من باب الفتنة بالنساء ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : ((ما تركت فتنة هي أضر على الرجال من النساء )) [1]
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((واتقوا النساء ؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ))[2].
وهذه حقيقة لا يماري فيها أحد ، وملل الكفر أول من يعرف هذه الحقيقة ؛ حيث إنهم من باب الفتنة بالنساء دخلوا على كثير من مجتمعات المسلمين وأفسدوها وحققوا أهدافهم البعيدة، وتبعهم في ذلك المهزومون من بني جلدتنا ممن رضعوا من ألبان الغرب وأفكاره، ولكن لأنهم يعيشون في بيئة مسلمة ولا زال لأهل العلم والغيرة حضورهم؛ فإنهم كما سبق بيان ذلك لا يتجرؤون على طرح مطالبهم التغريبية بشكل صريح لعلمهم بطبيعة تديُّن الناس ورفضهم لطروحاتهم وخوفهم من الافتضاح بين الناس ، ولذلك دأبوا على اتباع المتشابهات من الشرع ، وإخراج مطالبتهم في قوالب إسلامية وما فتئوا يلبسون الحق بالباطل .
ومن هذه الطروحات التي أجلبوا عليها في الآونة الأخيرة مطالبتهم في مجتمعات محافظة بكشف المرأة عن وجهها وإخراجها من بيتها معتمدين بزعمهم على أدلة شرعية وأقوالٍ لبعض العلماء في ذلك . ولنا في مناقشة هؤلاء القوم المطالبين بكشف وجه المرأة المسلمة أمام الأجانب واختلاطها بهم في مجتمع محافظ لا يعرف نساؤه إلا الحجاب الكامل والبعد عن الأجانب لنا في ذلك عدة وقفات :
الوقفة الأولى :
إن هناك فرقاً في تناول قضية الحجاب وهل يدخل في ذلك الوجه أم لا ؟ بين أن يقع اختلاف بين العلماء المخلصين في طلب الحق، المجتهدين في تحري الأدلة، الدائرين في حالتي الصواب والخطأ بين مضاعفة الأجر مع الشكر ، وبين الأجر الواحد مع العذر هناك فرق بين أولئك وبين من يتبع الزلات، ويحكم بالتشهي ، ويرجِّح بالهوى ؛ لأن وراء الأكمة ما وراءها ؛ فيؤول حاله إلى الفسق وَرِقَّة الدين ونقص العبودية وضعف الاستسلام لشرع الله عز وجل .
وهناك فرق بين تلك الفتاوى المحلولة العقال المبنية على التجرِّي لا على التحري التي يصدرها قوم لا خلاق لهم من الصحافيين ومن أسموهم المفكرين تعج منهم الحقوق إلى الله عجيجاً ، وتضج منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجاً ، ينفرون من تغطية الوجه لا لأن البحث العلمتي المجرد أدَّاهم إلى أنه مكروه أو جائز أو بدعة كما يُرجفون ، ولكن لأنه يشمئز منه متبوعهم من كفار الشرق والغرب .
فاللهم باعد بين نسائنا وبناتنا وأخواتنا وبينهم كما باعدت بين المشرق والمغرب ) [3].
ولك أن تقدر شدة مكر القوم الذين يريدون من جانبهم أن يتَّبعوا التمدن الغربي، ثم يسوِّغون فعلهم هذا بقواعد النظام الإسلامي الاجتماعي .
ولقد أوتيت المرأة من الرخص في النظام الإسلامي أن تبدي وجهها وكفيها إذا دعت الحاجة في بعض الأحوال ، وأن تخرج من بيتها لحاجتها ، ولكن هؤلاء يجعلون هذا نقطة البدء وبداية المسير ، ويتمادون إلى أن يخلعوا عن أنفسهم ثوب الحياء والاحتشام، فلا يقف الأمر بإناثهم عند إبداء الوجه والكفين ، يل يجاوزه إلى تعرية الشعر والذراع والنحر إلى آخر هذه الهيئة القبيحة المعروفة، وهي الهيئة التي لا تخص بها المرأة الأزواج والأخوات والمحارم فقط، بل يخرجن بكل تبرج من بيوتهن، ويمشين في الأسواق، ويخالطن الرجال في الجامعات ، ويأتين الفنادق والمسارح ، ويتبسطن مع الرجال الأجانب .(/1)
ثم يأتي القوم فيحملون رخصة الإسلام للمرأة في الخروج من البيت للحاجة وهي الرخصة المشروطة بالتستر والتعفف؛ على أنه يحل لها أن تغدو وتروح في الطرقات ، وتتردد إلى المتنزهات والملاعب والسينما في أبهى زينة ، وأفتنها للناظرين ، ثم يتخذ إذن الإسلام لها في ممارسة أمور غير الشؤون المنزلية ذلك الإذن المقيد المشروط بأحوال خاصة يُتَّخذ حجة ودليلاً على أن تودِّع المرأة المسلمة جميع تبعات الحياة المنزلية ، وتدخل في النشاط السياسي والاقتصادي والعمراني تماماً وحذو القُذَّة بالقذة كما فعلت الإفرنجية .
وهاهو ذا الشيخ المودودي رحمه الله يصرخ في وجوه هؤلاء الأحرار في سياستهم ، العبيد في عقليتهم قائلاً : (ولا ندري أيُّ القرآن أو الحديث يُستخرَج منه جواز هذا النمط المبتذل من الحياة ؟ وإنكم يا إخوان التجدد إن شاء أحدكم أن يتبع غير سبيل الإسلام فهلاَّ يجترئ ويصرح بأنه يريد أن يبغي على الإسلام، ويتفلَّت من شرائعه ؟ وهلاَّ يربأ بنفسه عن هذا النفاق الذميم والخيانة الوقحة التي تزيِّن له أن يتَّبع علناً ذلك النظام الاجتماعي وذلك النمط من الحياة الذي يحرمه الإسلام شكلاً وموضوعاً ، ثم يخطو الخطوة الأولى في هذا السبيل باسم اتِّباع القرآن كي ينخدع به الناس فيحسبوا أن خطواته التالية موافقة للقرآن ؟) [4].
الوقفة الثانية :
وهي نتيجة للوقفة الأولى ، وذلك بأن ينظر إلى قضية الحجاب اليوم وما يدور بينها وبين السفور من معارك إلى أنها لم تعد قضية فرعية ومسألة خلافية فيها الراجح والمرجوح بين أهل العلم ، ولكنها باتت قضية عقدية مصيرية ترتبط بالإذعان والاستسلام لشرع الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة وعدم فصله عن شؤون الحياة كلها ؛ لأن ذلك هو مقتضى الرضى بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد
صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً .
إن التشنيع على تغطية المرأة وجهها والتهالك على خروجها من بيتها واختلاطها بالرجال ليست اليوم مسألة فقهية فرعية ولكنها مسألة خطيرة لها ما بعدها؛ لأنها تقوم عند المنادين بذلك على فصل الدين عن حياة الناس وعلى تغريب المجتمع وكونها الخطوة الأولى أو كما يحلو لهم أن يعبروا عنه بالطلقة الأولى .
وإن لنا في جعل قضية الحجاب اليوم قضية أصولية كلية مع أن محلها كتب الفروع إن لنا في ذلك أسوة في سلف الأمة ؛ حيث صنفوا بعض المسائل الفرعية مع أصول الاعتقاد لَمَّا رأوا أن أهل البدع يشنِّعون على أهل السنة فيها ويفاصلون عليها،
من ذلك ما ذكره الإمام الطحاوي في العقيدة الطحاوية في قوله عن أهل السنة والجماعة : ( ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في الأثر ) وعلق شارح الطحاوية على ذلك بقوله : ( وتواترت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين وبغسل الرجلين ، والرافضة ، تخالف هذه السنة المتواترة ) [5].
ومعلوم أن المسح على الخفين من المسائل الفقهية ؛ ولكن لأن أهل البدع أنكروه وشنعوا على مخالفيهم فيه نص العلماء عليه في عقائدهم .
إذن فلا لوم على من يجعل قضية الحجاب اليوم قضية أصولية مصيرية ، وذلك لتشنيع مبتدعة زماننا ومنافقيهم عليه ولحملتهم المحمومة لنزعه وجر المرأة بعد ذلك لما هو أفسد وأشنع من ذلك ، وأنها لم تعد مسألة فقهية يتناقش فيها أهل العلم المتجردون لمعرفة الراجح وجوانب الحاجة والضرورة فيه .
وقد صرَّح بعضُ العلماء بتكفير من قال بالسفور ورفْع الحجاب وإطلاق حرية المرأة ؛ إذا قال ذلك معتقداً جوازه .
قال الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه : ( المسائل الكافية؛ في بيان وجوب صدق خبر رب البرية ) [6]:
(المسألة السابعة والثلاثون) : من يقول بالسفور ورفع الحجاب وإطلاق حرية المرأة ففيه تفصيل :
فإن كان يقول ذلك ويُحسِّنُه للغير مع اعتقاده عَدَم جوازه ، فهو مؤمن فاسق يجب عليه الرجوعُ عن قوله ، وإظهارُ ذلك لدى العموم .
وإن قال ذلك معتقداً جوازه ، ويراه من إنصاف المرأة المهضومة الحق على دعواه ! فهذا يكفر لثلاثة أوجه :
الأول : لمخالفته القرآن : ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وبَنَاتِكَ ونِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ )) (الأحزاب : 59) .
الثاني : لمحبته إظهار الفاحشة في المؤمنين . ونتيجة رفع الحجاب ، وإطلاق حرية المرأة واختلاط الرجال بالنساء : هو ظهور الفاحشة ، وهو بيِّنٌ لا يحتاج إلى دليل .
الثالث : نسبةُ الحيف على المرأة ، وظلمها إلى الله تعالى الله عما يقول المارقون ؛ لأنه هو الذي أمر نبيه بذلك ، وهو بيِّنٌ أيضاً .
قلتُ : وظهور الفاحشة نتيجة لرفع الحجاب ، وإطلاق حرية المرأة ، واختلاط النساء بالرجال يَشهد به الواقعُ من حال الإفرنج والمتفرنجين الذين ينتسبون إلى الإسلام ، وهم في غاية البعد منه .(/2)
وصرح الشيخ محمد بن يوسف الكافي أيضاً بتكفير من أظهرت زينتها الخلقية أو المكتسبة ، معتقدة جواز ذلك ، فقال في كتابه المشار إليه ما نصُّه : (المسألة السادسة والثلاثون) : من أظهرت من النساء زينتها الخِلقية أو المكتسبة ؛ فالخلقية : الوجه والعنق والمعصم ونحو ذلك ، والمكتسبة ما تتحلى وتتزين به الخلقة كالكحل في العين، والعقد في العنق، والخاتم في الإصبع، والأساور في المعصم، والخلخال في الرِّجل، والثياب الملونة على البدن ، ففي حكم ما فعلتْ تفصيل :
فإن أظهرت شيئاً مما ذُكِرَ معتقدة عدم جواز ذلك ، فهي مؤمنة فاسقة تجب عليها التوبة من ذلك ، وإن فعلته معتقدة جواز ذلك فهي كافرة لمخالفتها القرآن ؛ لأن القرآن نهاها عن إظهار شيء من زينتها لأحد إلا لمن استثناه القرآن ، قال الله تعالى : ((ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ )) (النور : 31) .
قال هشام بن عمار : سمعت مالكاً يقول من سَبَّ أبا بكر وعمر أُدِّب ، ومن
سَبَّ عائشة قُتِل ؛ لأن الله يقول : (( يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) (النور : 71).
فمن سَبَّ عائشة فقد خالف القرآن ، ومن خالف القرآن قُتِل أي لأنه استباح ما حرَّم الله تعالى انتهى .
الوقفة الثالثة :
ليس المقصود في هذه الوقفات حشداً للأدلة الموجبة لستر وجه المرأة وكفيها عن الرجال الأجانب ووجوب الابتعاد عنهم ؛ فهي كثيرة وصحيحة وصريحة والحمد لله ويمكن الرجوع إليها في فتاوى أهل العلم الراسخين ورسائلهم كرسالة الحجاب للشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
ومن الكتب التي توسعت في هذا الموضوع وردَّت على شبهات المخالفين كتاب : (عودة الحجاب/ القسم الثالث) للدكتور محمد بن إسماعيل المقدم حفظه الله وإنما المقصود في هذه المقالة ما ذكر سابقاً من فضح نوايا المنادين بكشف الوجه والاختلاط بالرجال ، وأن وراء ذلك خطوات وخطوات من الفساد والإفساد ؛ ومع ذلك يحسن بنا في هذه الوقفة أن نشير إلى أن علماء الأمة في القديم والحديث من أجاز منهم كشف الوجه ومن لم يجزه كلهم متفقون ومجمعون على وجوب ستر وجه المرأة وكفيها إذا وُجِدَت الفتنة وقامت أسبابها ؛ فبربكم أي فتنة هي أشد من فتنة النساء في هذا الزمان ؛ حيث بلغت وسائل الفتنة والإغراء بهن مبلغاً لم يشهده تاريخ البشرية من قبل ، وحيث تفنن شياطين الإنس في عرض المرأة بصورها المثيرة في كل شيء في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية ، وأخرجوها من بيتها بوسائل الدعاية والمكر والخداع ؛ فمن قال بعد ذلك : إن كشف المرأة عن وجهها أو شيء من جسدها لا يثير الفتنة فهو والله مغالط مكابر لا يوافقه في ذلك من له مُسْكَة من دين أو عقل أو مروءة .
وبعد التأكيد على أن أهل العلم قاطبة متفقون على وجوب تغطية الوجه إذا وجدت الفتنة يتبين لنا أن خلافهم في ذلك كان محصوراً فيما إذا أُمِنَتِ الفتنةُ ، ومع ذلك فتجدر الإشارة أيضاً إلى أن هذا القدر من الخلاف بقي خلافاً نظرياً إلى حد بعيد ؛ حيث ظل احتجاب النساء هو الأصل في الهيئة الاجتماعية خلال مراحل التاريخ الإسلامي.
وفيما يلي نُقُول عن بعض الأئمة تؤكد أن التزام الحجاب كان أحد معالم (سبيل المؤمنين ) في شتى العصور : قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى : ( كانت سُنَّة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحرة تحتجب ، والأَمَةُ تبرز ) [7].
وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى : ( لم يزل الرجال على مر الزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن متنقبات) [8].
وقال الحافظ ابن حجر : (لم تزل عادة النساء قديماً وحديثاً أن يسترن وجوههن عن الأجانب )[9].
وقد يتعلق دعاة السفور أيضاً ببعض الحالات التي أذن الشارع للمرأة فيها بكشف وجهها لغير محارمها كرؤية الخاطب لمخطوبته ، وعند التداوي إذا عدمت الطبيبة بشرط عدم الخلوة وعند الشهادة أمام القاضي ونحوها، وهذا كله من يُسْر الشريعة وسماحة الإسلام ؛ حيث رُخِّص للمرأة إذا اقتضت المصلحة الراجحة والحاجة الماسة أن تكشف عن وجهها في مثل هذه الأحكام ؛ وليس في هذا أدنى
مُتَعَلَّق لدعاة السفور؛ لأن الأصل هو الحجاب الكامل وهذه رخص تزول إذا زالت الحاجة إليه .
الوقفة الرابعة :
ومن منطلق النصح والشفقة وإقامة الحجة أتوجه بالكلمات الآتية إلى أولئك القوم الذين ظلموا أنفسهم وأساؤوا إلى مجتمعهم وأمتهم وخانوا أماناتهم وحملوا بذلك أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون فأرجو أن تجد هذه الكلمات آذاناً صاغية وقلوباً واعية قبل مباغتة الأجل وهجوم الموت ؛ حيث لا تقبل التوبة ولا ينفع الندم .
* أذكِّركم بموعظة الله تعالى ؛ إذ يقول : (( قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)) (سبأ : 46) .(/3)
فماذا عليكم لو قام كل فرد منكم مع نفسه أو مع صاحبه ، ثم فكرتم فيما أنتم عليه من إفساد وصد عن سبيل الله عز وجل ، هل أنتم مقتنعون بما تفعلون وبما تجرُّونه على أمتكم من الفتن ؟ وهل هذا يرضي الله تعالى ، ويجلب النعيم لكم في الآخرة ؟ إنكم إن قمتم لله عز وجل متجردين مثنى أو فرادى ، وفكرتم في ذلك فإن الجواب البدهي هو أن الفساد والإفساد لا يحبه الله عز وجل ، بل يمقته ، ويمقت أهله ، وسيأتي اليوم الذي يمقت فيه أهل الفساد أنفسهم، ويتحسرون على ما فرطوا وضيعوا وأفسدوا ، وذلك في يوم الحسرة ؛ حيث لا ينفع التحسر ولا التندم ، فعليكم بالتوبة قبل أن يحال بينكم وبينها .
* أذكِّركم بيوم الحسرة والندامة يوم يتبرأ منكم الأتباع وتتبرؤون من الأتباع ، ولكن حين لا ينفع الاستعتاب ولا التنصل ولا التبرؤ ، بل كما قال تعالى : ((وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (سبأ : 33) .
* أذكِّركم بالأثقال العظيمة التي ستحملونها يوم القيامة من أوزاركم وأوزار الذين تضلونهم بغير علم إن لم تتوبوا ، قال تعالى : ((ولَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ولَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) (العنكبوت : 13).
وقال عز وجل : (( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ ومِنْ أَوْزَارِ الَذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ )) (النحل : 25) .
وإن الظالمين جميعهم رئيسهم ومرؤوسهم، تابعهم ومتبوعهم لهم يوم مشهود ويوم عصيب ، يوم يكفر بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضاً، ويحيل التبعة بعضهم على بعض؛ ولكن حين لا يجدي لهم ذلك إلا الخزي والبوار .
* إن لم يُجْدِ واعظُ الله سبحانه والدار الآخرة فيكم فلا أقل من أن يوجد عندكم بقية مروءة وحياء تمنعكم من إفساد المرأة وإفساد المجتمع بأسره .
إن المتأمل لحال المتبعين للشهوات اليوم ليأخذه العجب والحيرة من أمرهم ! فما لهم وللمرأة المسلمة التي تقر في منزلها توفر السكن لزوجها وترعى أولادها ؟
ماذا عليهم لو تركوها في هذا الحصن الحصين تؤدي دورها الذي يناسب أنوثتها وطبيعتها ؟
ماذا يريدون من عملهم هذا ؟ !
ثم ماذا عليهم لو تركوا أولاد المسلمين يتربون على الخير والدين والخصال الكريمة ؟
ماذا يريدون من إفسادهم وتسليط برامج الإفساد المختلفة عليهم ؟ هل يريدون جيلاً منحلاًّ يكون وبالاً على مجتمعه ذليلاً لأعدائه عبداً لشهواته ؟ إن هذه هي النتيجة؛ وإن من يسعى لهذه النتيجة الوخيمة التي تتجه إليها الأسر المسلمة اليوم لهو من أشد الناس خيانة لمجتمعه وأمته وتاريخه .
إن من عنده أدنى مروءة ونخوة فضلاً عن الدين والإيمان لا يسمح لنفسه أن يكون من هؤلاء الظالمين، وما ذُكِرَ من إفساد الأسرة إنما هو على سبيل المثال لا الحصر؛ فيا من وصلوا إلى هذا المستوى من الهبوط والجناية ! توبوا إلى ربكم، وفكِّروا في غايتكم ومصيركم، واعلموا أن وراءكم أنباءاً عظيمة وأهوالاً جسيمة تشيب لها الولدان، وتشخص فيها الأبصار؛ فإن كنتم تؤمنون بهذا فاستيقظوا من غفلتكم وراجعوا أنفسكم ، والله جل وعلا يغفر الذنوب جميعاً، وإن كنتم لا تؤمنون بذلك فراجعوا دينكم ، وادخلوا في السلم كافة قبل أن يحال بينكم وبين ما تشتهون .
* يا قومنا ! أعدوا للسؤال جواباً وذلك حين يسألكم عالم الغيب والشهادة عن مقاصدكم في حملتكم وإجلابكم على المرأة وحجابها وقرارها في بيتها ، فماذا أنتم قائلون لربكم سبحانه ؟ إنكم تستطيعون أن تفروا من المخلوق فتدلِّسون وتلبِّسون ، وقد يظهر ذلك للناس في لحن القول وقد لا يظهر ؛ لكن كيف الفرار ممن يعلم ما تخفون وما تعلنون ؟ ((يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)) [الحاقة : 81] .
فتوبوا إلى علاَّم الغيوب ما دمتم في زمن التوبة ، وصحِّحوا بواطنكم قبل أن يُبعثَر ما في القبور ويُحَصَّل ما في الصدور .
وختاماً :(/4)
أوصي نفسي وإخواني المسلمين الحريصين على دينهم وأعراضهم وسلامة مجتمعاتهم من الفساد بأن يكونوا يقظين لما يطرحه الظالمون لأنفسهم وأمتهم من كتابات وحوارات مؤداها دعوة إلى سفور المرأة واختلاطها بالرجال الأجانب ، فما دامت المدافعة بين المصلحين والمفسدين فإن الله عز وجل يقذف بالحق على الباطل فإذا هو زاهق . وينبغي أن لا ننسى في خضم الردود على ما يكتبه المفسدون من الشبهات والشهوات ؛ ذلكم السيل الهادر الذي يتدفق من وسائل الإعلام المسموعة والمرئية في بلاد المسلمين ؛ وذلك بما تبثه الإذاعات والتلفاز والقنوات الفضائية من دعوة للمرأة إلى السفور ومزاحمة الرجال في الأعمال والطرقات ، والتمرد على الرجل سواء كان أباً أو زوجاً أو أخاً ؛ ولقد ضربت هذه الوسائل بأطنابها في بلاد المسلمين فكان لزاماً على المصلحين محاربتها وإبعادها عن بيوت المسلمين قدر الاستطاعة ، فإن لم يكن إلى ذلك سبيل فلا أقل من تكثيف الدعاية ضدها والتحذير
من شرها ووقاية المسلمين من خطرها ؛ وذلك بإصدار الفتاوى المتتابعة والخطب المكثفة حول أضرارها وأثرها المدمر للدين والأخلاق ؛ فإنها والله لا تقل خطراً عما تكتبه الأقلام الآثمة عن المرأة إن لم تزد عليه ، والمقصود أن لا يكتفي المصلحون بمحاربة ما يكتبه المفسدون في الصحف والمجلات عن المرأة فإن هم سكتوا سكت المصلحون وظنوا أن الخطر قد انتهى . كلا ! إن الخطر لم ينته وإن المعركة مستمرة ؛ لأن الخطر الأكبر لا يزال قائماً ما دامت الوسائل المسموعة والمرئية لا
تكفُّ عن المرأة والاستهزاء بحجابها وقرارها في بيتها وقوامة الرجل عليها، وإثارة الشبهات في ذلك .
أسأل الله عز وجل أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وأن يعز دينه ويعلي كلمته ، وأن يرد كيد المفسدين في نحورهم . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
________________________________________
[1] رواه البخاري ، ح/ 6074 .
[2] رواه مسلم ، ح/ 5294 .
[3] انظر عودة الحجاب ، 3/ 734 .
[4] انظر مقدمة عودة الحجاب للدكتور محمد إسماعيل المقدم ، ص 22 ، 32 باختصار وتصرف يسير .
[5] شرح الطحاوية ، ص 683 .
[6] عن كتاب الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور ، للشيخ حمد التويجري رحمه الله
[7] تفسير سورة النور ، ص 56 .
[8] إحياء علوم الدين ، 4 / 927 .
[9] فتح الباري ، 9/423 .(/5)
الحجاب وفرنسا... والأزهر!
جمال سلطان 27/11/1424
19/01/2004
حتى لا تضيع الحقائق في واقعة المخطط الفرنسي لفرض حظر على حجاب المسلمات في المدارس بقوة القانون المزمع عرضه على البرلمان لإقراره ابتداءً من العام الدراسي المقبل، هناك نقاط أساسية ينبغي أن نتوقف عندها، خاصة وقد كثر الجدل والضجيج، وأوشكت بعض الحقائق أن تضيع، مما استدعى إثباتها هنا، للحقيقة والتاريخ.
النقطة الأولى: وتتعلق بالمفارقة الحضارية بين العالم الإسلامي وهو في طور الانحطاط، وبين العالم الغربي وهو في بقية من حضارة لها قيم تحاول أن تحافظ عليها؛ فإننا رغم إدانتنا الكاملة للموقف الفرنسي ومشروع القانون واعتقادنا الجازم بأنه عدوان على ديانة المسلم هناك، وحرمانه من حقوقه الدينية المشروعة تحت هواجس لا أساس لها ولا مبرر، إلا أننا لا يمكننا أن نتجاهل " حضارية " السلوك الفرنسي قبل إصدار القانون، فهناك اجتماعات متوالية مع الجالية المسلمة في فرنسا وممثليها، وهناك حوار إعلامي وصحافي واسع النطاق يمهد لغربلة الأفكار، وهناك حرص فرنسي ظاهر على التشاور مع المؤسسات والمرجعيات الإسلامية المهمة كما حدث مع الأزهر مؤخرًا، وهناك تشاور سياسي مع بعض الدول والنظم الحاكمة في العالم العربي والإسلامي، وذلك كله يحدث قبل أن يصدر القانون، وحتى قبل أن يعرض على البرلمان، بينما في العالم الإسلامي فوجئنا بشيخ الأزهر، وهو يرأس مؤسسة علمية ضخمة، لها هيئاتها الشرعية ومؤسساتها، ناهيك عن هيبتها في العالم الإسلامي -والتي باتت مهددة الآن- فوجئنا به يدعو الصحفيين لكي يعلن أمامهم دعمه للقانون الفرنسي وأن على المسلمات هناك طاعته ولا إثم عليهن لأنهن مضطرات، لم يستشر الرجل أحدًا، ولم يعبأ برأي عام، ولم يحزن لغضب المسلمين في فرنسا، ولم يكلف خاطره أن يستمع للرأي الآخر كما استمع للرأي الرسمي الفرنسي، بحيث يدعو ممثلين عن المسلمين الفرنسيين للتشاور والاستماع لوجهات نظرهم، لم يراع الرجل أي شيء، وإنما ألقى ببيانه الذي وصفته صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية بأنه " شيك على بياض" من شيخ الأزهر للحكومة الفرنسية، بكل بساطة وباستبداد واستهتار بكل شيء وبكل من حوله وكل أطراف المسألة، هذه مفارقة مدهشة، بين عقلية تربت في أجواء القمع والاستبداد، وبين عقلية تربت في أجواء الحرية والتعددية والشورى "مع الأسف" التي نحن بها أولى.
ولعل هذه المفارقة تدعونا جميعًا إلى الانتباه إلى أهمية التأسيس في مشروعنا الإسلامي المستقبلي لثقافة الحرية والتعددية والحوار، فإنها -رغم كل سلبية يمكن أن تتمخض عنها- ستكون جسرنا إلى الحقيقة والكرامة واستقلال الإرادة الدينية والوطنية معًا.
النقطة الثانية: وهي ذلك التحالف المدهش والمفاجئ بين النخب الليبرالية واليسارية العربية وبين الحكومة الفرنسية في واحد من أسوأ مواقفها المدان حتى أوربيا بأنه ضد حقوق الإنسان، فبينما كانت النخب اليسارية في فرنسا ذاتها -ناهيك عن غيرها- تهاجم مشروع القانون وتتهمه بأنه انتهاك لحقوق الإنسان واعتداء على المواطنين المسلمين الفرنسيين؛ وجدنا اليساريين العرب عن بكرة أبيهم، يؤيدون القانون ويدافعون عنه وعن حكومة فرنسا " اليمينية" ويهاجمون المسلمين الفرنسيين ومعهم المسلمين في أنحاء العالم الذين حزنوا لما حدث أو احتجوا، مفارقة عجيبة، أيضًا على صعيد الليبراليين العرب والعلمانيين أصحاب دعاوى حقوق الإنسان، وقفوا جميعًا مؤيدين للقانون الفرنسي ومدافعين عنه، وقد سمعت بنفسي أحد شيوخ الليبراليين العرب في حديث تليفزيوني يؤيد الموقف الفرنسي، باعتباره انتصارًا للعلمانية والليبرالية، فلما واجهه المذيع بالموقف البريطاني والأمريكي وغيره الرافض لهذا القانون والذي يعتبره صراحة عدوانًا على حقوق الإنسان، قال بكل برود: إن العلمانية الفرنسية لها خصوصيتها مع احترامنا لوجهة نظر البريطانيين وغيرهم، أي أنه يتكلم كمندوب فرنسي أو دبلوماسي فرنسي، وليس كمفكر صاحب موقف " ليبرالي" داع إلى الحرية واحترام حقوق الإنسان، بالمقابل كان هناك هجوم واسع النطاق في أكثر من عاصمة أوربية من نخب ليبرالية ضد القانون الفرنسي؛ بل إن محكمة مجلس الدولة الفرنسي نفسها كانت أصدرت حكمًا فيما سبق ينفي بوضوح أن يكون ارتداء الحجاب فيه خروج على علمانية الدولة.(/1)
مفارقة أخرى هي أفدح مما سبق بكل تأكيد، وهي أن الكنائس الفرنسية والبريطانية -تحديدًا- كان لها موقف صارم ضد القانون الجديد، واتهام صريح له بأنه معاد للحريات الشخصية واعتداء على حرية العبادة عند المسلمين تحديدًا، في حين أن شيخ الأزهر وهو المؤسسة الدينية الأكبر في العالم الإسلامي، يعطي مباركته للقانون ويمنح فرنسا كل الحق في فعل ما تشاء كيفما تشاء ولا دخل له ولا للمسلمين في ذلك، والرجل لم يكلف نفسه حتى مجرد دعوة الفرنسيين للمراجعة واحترام الحقوق، إنه لم يتعود على نقد الحكومة أي حكومة، اللهم إلا حكومة طالبان، فهي الحكومة الوحيدة التي جرؤ عليها في المشرق والمغرب، ولم يعتبر أن إدانته لها تدخل في حقوق الدول الأخرى، والحقيقة أن ادعاء الشيخ بأنه لا يتدخل في شؤون فرنسا هو مجرد محاولة هروب بالفضيحة، وإلا فإن الرجل لم يتدخل أصلاً حتى في بلده نفسه (مصر) عندما انتهكت قرارات حكومية رسمية حرية لباس الحجاب للفتيات في المدارس، فلم يصدر عن الرجل أي شيء، كذلك عندما قامت مدرسة فرنسية -في مصر- بطرد فتيات بسبب ارتدائهن الحجاب، وجأر أهلوهن بالشكوى للجميع، لم ينطق شيخ الأزهر بكلمة واحدة.. فحكاية التدخل في الشأن الفرنسي هو محض هروب، وإلا فمتى تدخل حتى في مصر ذاتها؟!
النقطة الثالثة: وهي تتعلق بالادعاءات بأن القرار الفرنسي لم يقصد به الحجاب، وإنما كافة الرموز الدينية، بما في ذلك الصليب والقلنسوة اليهودية، وهذا أيضا مجرد هروب من الفضيحة على المستوى الفرنسي، كما أنه دجل عندما يقول به كتاب عرب "متنورون". وذلك أن القرار استثني الصليب " غير الكبير " وهي مسألة نسبية، كما أن الإجماع منعقد على أن الحجاب ليس مجرد رمز ديني، مثل الصليب أو القلنسوة أو حتى بعض الرموز الدينية الإسلامية التي يتحلى بها النساء مثل المصحف المذهب وما يسمى " كف فاطمة " أو الـ" ماشاء الله " كما يسميها أهل المشرق، وإنما الحجاب فريضة دينية، أي جزء من الدين، بحيث يكون الاعتداء عليه هو اعتداء على صميم الدين وليس على مجرد شعار أو رمز، ثم إن الملاحظة المهمة في هذا السياق أن الصلبان والقلنسوات كانت موجودة ومنتشرة من قبل ولم يتحدث أحد عنهم بشيء ولم يتعرض لهم أحد بانتقاد، فلماذا تذكرها القرار الجديد؟ اللهم إلا كمحاولة للتمويه على المقصد الأساس وهو مصادرة حجاب المرأة المسلمة، فضموا ما سبق للادعاء بأن الحجاب لم يكن هو المقصود وحده في الموضوع، أبدا، الحجاب هو المقصود؛ فالمعارك كلها كانت حوله، والقضية المثارة من أولها لآخرها حوله، والجدل والصخب كله كان عنه، فلا داعي للهروب بادعاء الحديث أيضًا عن منع "الصلبان الكبيرة".
النقطة الرابعة: وتتعلق بحماية الفتوى الشرعية من العبث والتهريج، وضرورة البحث عن آليات لحفظ " الدين" من العبث، ليس على مستوى الأفراد، وإنما أيضًا على مستوى المؤسسات، إن الاتهامات الآن صارخة وصريحة بأن الفتاوى من المؤسسات الرسمية أصبحت تخرج وفق توجيهات سياسية، والفتاوى يتم تفصيلها حسب المقاس المطلوب، وهذه كارثة، وتعريض دين الناس للضياع، كما أنه يؤسس لفتن لا يعلم مداها إلا الله؛ لأن الثقة إذا فقدت في مؤسساتنا الدينية الكبيرة وذات الاحترام والهيبة في وجدان المسلمين وضميرهم؛ فسوف يحدث فراغ علمي كبير، لا يؤمن أن يملأه آخرون بما تشتهي الأنفس، من أول تخريب العقائد وحتى الترويج للتطرف والإرهاب الذي يفرون منه الآن.
ولقد قرأت - في نفس النازلة- مقالاً لكاتب عربي نشره في صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية قال فيه: إن على الفتيات الفرنسيات إطاعة القانون الجديد عملاً بالآية الكريمة (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، وأضاف الكاتب الجهبذ أن " جاك شيراك " هو ولي الأمر الحالي بالنسبة لهن!، وأظن أن الوقت لن يمر طويلاً حتى نقرأ في صحف عربية لمن يرى أن " جورج بوش " وإدارته هم أولو الأمر بالنسبة لنا أيضًا!
إن الأمانة تقتضي منا الآن أن نبادر إلى حملة واسعة للدعوة إلى إعادة الهيبة والكرامة لمؤسساتنا الدينية، وذلك يكون -أول ما يكون- بحماية استقلالها العلمي والإداري والمالي والتنظيمي، بحيث نضمن عدم خضوعها لمؤثرات السلطات السياسية هنا أو هناك، وبحيث نعزز مصداقية ما يصدر عنها من فتاوى وتوجيهات.
والجانب الآخر هو ضرورة إعادة النظر في قضية فتاوى الشأن العام، التي تتعرض لأمور تمس الأمة كلها أو الجموع الغفيرة فيها، وقد تتحدد فيها مصائر، فمثل هذه الفتاوى لا بد من قيد صدورها على مجامع علمية محترمة ومستقلة، تتناول القضايا بالنظر والتشاور والحيادية، وتخرج الفتوى وفق إجماع أهل العلم أو جمهورهم.(/2)
ولا بد من الوضوح والصرامة في تأسيس هذه المجامع الفقهية، فعضويتها مقصورة على المشهود لهم بالعلم والورع والمروءة، وأما الخبراء في الشؤون المعاونة: اقتصادية، أو علمية، أو إدارية، أو سياسية، فهم جهات معاونة واستشارية وليست لها عضوية في المجامع الفقهية؛ لأن الحاصل الآن في بعض المجامع الإسلامية أن العضوية يدخل فيها كل من هب ودب، من أساتذة الزراعة إلى خبراء البترول إلى الأطباء وغيرهم، ثم عندما تصدر الفتوى تخرج بغالبية الأصوات، ولما كان أهل العلم في المجامع المذكورة لا يتجاوزون أصابع اليدين، بين أكثر من مئة عضو، كان طبيعيًّا أن تصدر الفتاوى التي تبيح الربا والتي تشرع لبيع الخمور في بلاد المسلمين لدعم السياحة، ممهورة بتوقيع المجامع العلمية الإسلامية(/3)
الحجاب... الحجاب يا فتاة الإسلام
دار الوطن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد:
فهذه رسالة قصيرة موجهة إلى الأخت المسلمة تتعلق بمسألة الحجاب والسفور، ولا يخفى على عاقل ما عمت به البلوى في كثير من بلاد المسلمين من تبرج كثير من النساء وعدم التزامهن بالحجاب، ولا شك أن هذا منكر عظيم، وسبب لنزول العقوبات والنقمات. وفي هذا الرسالة بيان لفرضية الحجاب وفضائله وشروطه، وتحذير من التبرج وعواقبه، نسأل الله أن ينفع بها أخواتنا المؤمنات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الحجاب عبادة وليس عادة
أختي المسلمة: إن دعاة الضلالة وأهل الفساد يحاولون دائما تشويه الحجاب، ويزعمون أنه هو سبب تخلف المرأة، وأنه كبت لها وتقييد لحريتها، ويشجعونها على التبرج والسفور وعدم التقيد بالحجاب، بدعوى أن ذلك دليل على التحرر والتحضر، وهم لا يريدون بذلك مصلحة المرأة كما قد تعتقده بعض الساذجات، وإنما يريدون بذلك تدمير المرأة والقضاء على حياتها وعفافها، فاحذري أختي المسلمة أن تنخدعي بمثل هذا الكلام، وكوني معتزة بدينك متمسكة بحجابك، وتأكدي أن الحجاب أسمى من ذلك بكثير، وأنه أولا وقبل كل شيء عبادة لله وطاعة لرسوله ، وليس مجرد عادة يحق للمرأة تركها متى شاءت، وأنه عفة وطهارة وحياء.
أختي المسلمة، إن الله تعالى عندما أمرك بالحجاب إنما أراد لك أن تكونٍ طاهرة نقية بحفظ بدنك وجميع جوارحك من أن يؤذيك أحد بأعمال دنيئة أو أقوال مهينة، وأراد لك به أيضا العلو والرفعة. فالحجاب تشريف وتكريم لك وليس تضييقا عليك، وهو حلة جمال وصفة كمال لك، وهو أعظم دليل على إيمانك وأدبك وسمو أخلاقك، وهو تمييز لك عن الساقطات المتهتكات.
فإياك إياك أن تتساهلي به أو تتنكري له، فإنه - والله - ما تساهلت امرأة بحجابها أو تنكرت له إلا تعرضت لسخط الله وعقابه، وما حافظت امرأة على حجابها إلا ازدادت رضا وقربا من الله، واحتراما وتقديرا من الله.
شروط الحجاب الشرعي
إن الحجاب الشرعي للمرأة المسلمة يجب أن يكون سميكا غير شفاف، وألا يكون زينة في نفسه كأن يكون ذا ألوان جذابة يلفت الأنظار، ولا ضيقا، ولا لباس شهرة، ولا معطرا؛ لأن النبي حرّم على المرأة أن تتعطر وتخرج إلى مكان فيه رجال أجانب، فقال: { أيما امرأة استعطرت فمرت بالقوم ليجدوا ريحها فهي زانية }، وألا يشبه لباس الرجل، ويجب أن يكون الحجاب أيضا ساترا لجميع البدن بما في ذلك الوجه الذي تساهلت بكشفه بعض النساء بحجة أنه ليس بعورة. وياللعجب كيف لا يكون الوجه عورة وهو أعظم فتنة في المرأة، وهو مكان جمالها ومجمع محاسنها، وإذا لم يفتتن الرجل بوجه المرأة فبماذا سيفتتن إذا؟!!
ولقد وردت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تدل على وجوب تغطية المرأة لجميع بدنها؛ لأن المرأة كلها عورة لا يصح أن يرى الرجال الذين ليسوا من محارمها شيئا منها، ومن هذه الأدلة قوله تعالى: وليضربن بخمرهن على جيوبهن [النور: 31]، قالت عائشة رضي الله عنها: { لما نزلت هذه الآية أخذن نساء الأنصار أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها } أي: غطين وجوههن. وأيضا ما جاء في الحديث المتفق على صحته في قصة عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك لما نامت في مكانها ثم أتى صفوان ابن المعطل إليها قالت: فخمرت، وفي رواية: (فسترت وجهي عنه بجلبابي) الحديث كل ذلك مما يدل على وجوب تغطية الوجه.
لذا يجب على كل امرأة مسلمة أن تتقي الله في نفسها، وأن تلتزم بحجابها التزاما كاملا، ولا تتساهل بأي شيء منه، كأن تكشف مثلا كفيها أو ذراعيها، أو تلبس نقابا أو لثاما مثيرا للفتنة، تظهر من خلاله جزءا كبيرا من وجهها، أو تغطي وجهها بغطاء شفاف يشف ما تحته، ثم تعتقد بعد ذلك أنها قد تحجبت حجابا كاملا، وأن ما كشفته من جسمها يعتبر أمرا بسيطا لا يثير الفتنة، أو لا يعتبر من التبرج، المذموم، وأنه يجب عليها أن تحرص على أن تتجنب كل ما قد يؤثر على حجابها أو يخدش حيائها، لئلا يطمع فيها الفسقة كما هي عادتهم مع المرأة التي لا تظهر بمظهر الاحتشام الكامل، ولكي لا تعرض نفسها لسخط الله وعقابه، كما ورد ذلك عن رسول الله في قوله: { صنفان من أهل النار لم أرهما …} وذكر {… ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا } [رواه مسلم].
قال أهل العلم: معنى كاسيات عاريات أنهن يلبسن ملابس لكنها قد تكون ضيقة أو شفافة أو غير ساترة لجميع الجسم.
وسئل فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين –حفظه الله تعالى- عن صفة الحجاب الشرعي، فأجاب حفظه الله بقوله: القول الراجح أن الحجاب الشرعي أن تحجب المرأة كل ما يفتن الرجال بنظرهم إليه، وأعظم شيء في ذلك هو الوجه، فيجب عليها أن تستر وجهها عن كل إنسان أجنبي منها، أما من كان من محارمها فلها أن تكشف وجهها له.(/1)
وأما من قال إن الحجاب الشرعي هو أن تحجب شعرها وتبدي وجهها… فهذا من عجائب الأقوال !! فأيما أشد فتنة: شعر المرأة أو وجهها؟! وأيما أشد رغبة لطالب المرأة أن يسأل عن وجهها أو أن يسأل عن شعرها؟
كلا السؤالين لا يمكن الجواب عنهما إلا بأن يقال: إن ذلك في الوجه. وهذا أمر لا ريب فيه، والإنسان يرغب في المرأة إذا كان وجهها جميلا ولو كان شعرها دون ذلك، ولا يرغب فيها إذا كان وجهها ذميماً ولو كان شعرها أحسن الشعر، ففي الحقيقة أن الحجاب الشرعي هو ما تحتجب به المرأة حتى لا يحصل منها فتنة أو بها، ولا ريب أن متعلق ذلك هو الوجه.
التبرج والسفور دعوة إلى الفاحشة والفساد
إن المرأة إذا تبرجت وتكشفت للرجال - غاض ماء وجهها، وقل حياؤها، وسقطت من أعين الناس، وعملها هذا دليل على جهلها وضعف إيمانها ونقص في شخصيتها، وهو بداية الضياع والسقوط لها، وهي بتبرجها وتكشفها تنحدر بنفسها إلى مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان الذي كرمه الله وأنعم عليه بفطرة حب الستر والصيانة، ثم إن التبرج والسفور أيضا ليس دليلا على التحضر والتحرر كما يزعم أعداء الإسلام ودعاة الضلالة، وإنما هو في الحقيقة انحطاط وفساد اجتماعي ونفسي، ودعوة إلى الفاحشة والفساد، وهو عمل يتنافى مع الأخلاق والآداب الإسلامية، وتأباه الفطر السليمة. ولا يمكن أن تعمل هذا العمل إلا امرأة جاهلة قد فقدت حياءها وأخلاقها؛ لأنه لا يتصور أبدا أن امرأة عاقلة عفيفة يمكن أن تعرض نفسها ومفاتنها هذا العرض المخجل والمخزي للرجال في الأسواق وغيرها دون حياء أو خجل.
وريما تعتقد بعض النساء أنها إذا خرجت متبرجة كاشفة وجهها ومفاتنها للناس أنها بذلك ستكسب إعجاب الناس واحترامهم لها، وهذا اعتقاد خاطئ؛ لأن الناس لا يمكن أبدا أن يحترموا من تعمل مثل هذه الأمور، بل إنهم يمقتونها وينظرون إليها نظرة ازدراء واحتقار، وهي في نظرهم امرأة ساقطة معدومة الكرامة والأخلاق، فكيف ترضى امرأة عاقلة لنفسها بكل ذلك؟! وما الذي يدعوها إلى أن تهين نفسها وتنزل بها إلى هذا المستوى؟! أين ذهب عقلها وحياؤها؟!
فيا من أغراها الشيطان بالتبرج والسفور: اتقي الله وتوبي إليه من هذا العمل القبيح، واعرفي مالك وتذكري مصيرك، وتذكري سكناك وحيدة فريدة في القبر الموحش المظلم، وتذكري وقوفك بين يدي الله عز وجل، وتذكري أهوال يوم القيامة، وتذكري الحساب والميزان، وتذكري جهنم وما أعد الله فيها من العذاب الأليم لمن عصاه وخالف أموره.. تذكري كل ذلك قبل أن تقدمي على مثل هذا العمل، واعلمي أنك والله أضعف من أن تتحملي شيئا من عذاب الله، أو أن تطيقي شيئا من هذه الأهوال العظيمة التي أمامك، فارحمي نفسك ولا تعرضيها لمثل ذلك، وبادري بالتوبة النصوح قبل أن يغلق في وجهك الباب، ويعلوك التراب، فتندمي ولات ساعة مندم.
كلمة إلى بعض الرجال
إنها لم تفسد أكثر النساء ولم تصل إلى هذا الحد من التبرج والسفور والتهاون بدينها وحجابها إلا بسبب تهاون بعض الرجال مع نسائهم واستهتارهم بدينهم وفقدهم لنخوة الرجال وغيرتهم وعدم نهيهن عن مثل هذه الأعمال.
فيا حسرتاه … ترى كم فقد بعض الرجال من رجولتهم حتى أصبحوا أشباه رجال لا رجالاً، فويل ثم ويل لأولئك الذين لا يعرفون كرامتهم، ولا يحفظون رعيتهم، ولا يحسنون القيام على ما استرعاهم الله من النساء، ولقد توعد رسول الله من فرّط في حق رعيته فقال: { ما من راع يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة }.
فيا أيها الرجال إن أعراضكم كأرواحكم وقد فرطتم بها كثيرا، فأهملتم الرعاية، وضيعتم الأمانة، وركبتم الخطر، وإن تهلكون إلا أنفسكم وما تشعرون أفلا تعقلون وتتوبون إلى ربكم وتحفظون نسائكم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وسلم.(/2)
الحجاج بين الحقيقة والافتراء
ان الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا من
يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وبعد
الحجاج بن ويوسف الثقفي له مثل كل البشر سيئات وهناك كبائر فعلها وقد استغل هذه الاشاء اللكتاب فكتبوا كلاما عنه وافتراءات مثل مسرحية دماء علي ستار الكعبة حيث صوروه بمصاصي الدماء كلهذا وهم لم يقرأوا سيرته بتيتا ونحن في زمن يجب ان نلتحم ولا نقول عن اي احد ةهذا كافر وهذا فاسق فقد افضوا الي ما اقدموا ولكن هناك شيئ يكفر عنه كل تلك السئات تنقيط المصحف لذا فنحن كلما قرأنا القرآن اعطينهاه حسنات ولا يجب ان نقول عنه ذا وكذا فقد افضي الي ما اقدم والحمدل لله رب العالمين
------------
الحجاج مظلوم حقيقة
فان له من الحسنات ما يفوق ما يذكره المسيئون اليه
فقد ارسل قتيبة بن مسلم الى الهند ليحرر النساء المسلمات اللواتي خطفهن ملك هندي حين صرخت احداهن " واحجاجاه " فحررهن قتيبة وفتح الهند
وضع تنقيط وتشكيل القران الكريم
هذا بعض ما يحضرني الان
-----------
الحجاج بن يوسف الثقفي....
تحضرني قصتين طريفتين في الواقع دوما اثاراتا حيرتي حول هذا الرجل..الفهم الصارم الحازم الذي لايلين للاسلام ولقواعد الحكم(ربما يطلقون علي هذا ديكتاتورية ..لست ادري)
احضر ابو الاسود الدؤلي (كان وقتئذ قاض البصرة علي مااعتقد) وقال له صليت الفجر اليوم وراء قوم في البصرة فوجدتهم يقرأون سورة من القران ماسمعتها قط.. فسألتهم ماهذه السورة فقالو سورة كذا..فقلت والله ماهي سورة كذا..قالو بل هي..واحتدم الخلاف
كان الخلل يكمن ان القران الكريم لم يكن منقوطا ..فكانت كلمة مثل احد يمكن ان تلفظ اجد
فأعطي ابو الاسود الدؤلي مهله يومين لحل هذه المعضلة باعتباره نحويا لتوحيد السنه المسلمين علي قراؤة واحدة للقران والا قطع رأسه..(وهو قادر بالفعل علي تنفيذ هذا التهديد..كان قطع الرؤوس بالنسبة له عادة يتفاءل بها تقريبا )
وهكذا اكتشف ابو الاسود الدؤلي التنقيط وظهرت النقط علي الحروف وصارت مثلا فمن يضع النقط علي الحروف هو الذي يستطيع حسم الخلافات دوما .
الثانية قصيرة للغاية..
حانت لحظة الوفاة..الحجاج بن يوسف الثقفي..الوالي العتيد والحاكم الجبار يحتضر..ماذا كانت اخر كلماته كما رواها من حضرو وفاته؟
رفع رأسه للسماء وقال :(اللهم اغفر لي فانهم يزعمون انك لن تغفر لي)
رحم الله الحجاج بن يوسف ورحم كل من ماتو ظلما ضحية اجتهاد الحجاج ابن يوسف..فقد كان مخلصا لاسلامة الي حد التعصب والله اعلم ..
-------------
الحجاج له ما له وعليه ما عليه ..
هذا الرجل له ايادٍ بيضاء في تاريخ أمتنا ..
من فتوح ونشر للدين وتقوية للدولة الأموية ..
ولكن هذا الرجل يداه ملطختان بدم أمير المؤمنين عبدالله بن الزبير -رضي الله عنهما- وأصحابه وبدماء الناس وختم أعماله بقتل الإمام الفقيه سعيد بن جبير -رحمه الله-..
ولكن المشكلة أن الناس عندما يدافعون عن الحجاج فإنهم ينتقصون أمير المؤمنين عبدالله بن الزبير, ويعتبرونه صاحب فتنة وشاقاً لعصا الطاعة ..
هذا الرجل لا يجوز تكفيره ولأنه مسلم .. ولكنه مسلم لم يتورع عن دماء المسلمين ولا عن دم صاحب رسول الله وابن حواريه وابن ذات النطاقين وحفيد الصديق وحفيد صفية وابن أخت أم المؤمنين الصديقة..
قتله عند الكعبة المشرفة وصلبه ولم يرع فيه إلاً ولا ذمة .. إلى أن جاءت السيدة أسماء وأمرت الحجاج بإنزاله وقالت بأن معلمها -صلى الله عليه وسلم- قال: "يخرج من ثقيف كذاب ومبير" روى ذلك ابن كثير في البداية ج8 ص322
وقال عنه ابن عباس -رضي الله عنهما-: " .... فلا يجهل حقه إلا من أعماه الله"
وهل تصدقون مسرحية تقول بان الحجاج متهم بقتل الإمام الفقيه سعيد بن جبير -رحمه الله-
لا اعرف لماذا يحلو للبعض تقليد الافاكين في ذم افضل رجال الاسلام , فتراهم يذمون بالباطل :
الخليفة هارون الرشيد الذي كان يحج عاما ويغزو عاما
الخليفة السلطان عبد الحميد الثاني الذي رفض التفريط بفلسطين والذي حاول اعادة الوحدة الاسلامية فطيره اعداء الدولة والدين من حزب الاتحاد التركي العميل للانجليز واليهود
القاضي العادل قراقوش , الذي كان يحارب الصليبيين ويحث على الجهاد ضدهم في عهد الناصر صلاح الدين قصار اعداء الدين والامة ينسبون اليه كذبا احكاما طائشة
وطبيعي ان يكون للحجاج نصيب من هذا الهجوم ..
كيف لا وهو الذي فتح الهند لاطلاق سراح 19 مسلمة حجزهم ملك الهند الهندوسي بعد ان صاحت احداهن :واحجاجاه , ووصلت صرختها للحجاج ولبى دعوتها وانقذها ومن معها ..
كيف لا وهو الذي امر بوضع التنقيط والتشكيل لحروف القران خوفا من اللحن في قراءتها ..
كيف لا وهو الذي قمع الفتنة الداخلية التي كانت ستضعف الدولة الاسلامية لو استمرت ..
الكلام على الحجاج كثير جدا ..(/1)
وقد يستدعي ذلك المزيد من البحث حسب المنهج العلمي فقط .. لا المنهج التقليدي واتباع غثاء القول وفاسده وباطله بدون تمحيص او ترجيح .
أخي الحبيب Alloush22
فعلاً نحن لا ننكر أن للحجاج أيادٍ بيضاء على هذه الأمة ومنها نشر الإسلام وفتح البلدان وتنقيط الأحرف ..
ولكن من ناحية قتله للإمام سعيد بن جبير (رضي الله عنه)
فقد أورد قتله ابن كثير في البداية والنهاية الجزء9
وغيره من الأئمة -رحمهم الله-..
ولكن كما قلت سابقاً ..
المشكلة أن الناس إذا كرهوا شخصاً كرهوه حتى فجروا
وإذا أبغضوا شخصاً أبغضوه حتى غلوا
والناس ليس لديهم الميزان الذي يزنون في الشخصيات ..
نعم إن للرجل حسنات كثر لا تعد ولا تحصى ..
ولكن من ناحية أخرى قتله لأمير المؤمين عبدالله بن حواري رسول الله وابن ذات النطاقين وحفيد الصديق وحفيد صفية وابن اخ أم المؤمين خديجة وابن أخت أم المؤمين عائشة -رضي الله عنهم أجمعين- ..
وقتله خلقاً كثيرييييييييين ..
أنا لا أتكلم بكلام من عند نفسي ولكن أنقل ما قاله العلماء ..
وكان أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز والإمام الحسن البصري وغيرهم من الصالحين -رضي الله عنهم- كانوا يبغضونه ولكن في نفس الوقت يمسكون عن سبه وشتمه ..
وعلى فكرة لا يوجد أي صلة شبه بين أمير الؤمنين هارون الرشيد والسطان عبدالجميد -رحمهم الله رحمة واسعة- وبين أبي محمد الحجاج -عفا الله عنه- ..
وذلك من حيث اطلاعي على التاريخ ..
((وفوق كل ذي علم عليم))
في الفترة التي قضاها الحجاج في ولايته على العراق قام بجهود إصلاحية عظيمة، ولم تشغله الفترة الأولى من ولايته عن القيام بها، وشملت هذه الإصلاحات النواحي الاجتماعية والصحية والإدارية وغيرها؛ فأمر بعدم النوح على الموتى في البيوت، وبقتل الكلاب الضالة، ومنع التبول أو التغوط في الأماكن العامة، ومنع بيع الخمور، وأمر بإهراق ما يوجد منها، وعندما قدم إلى العراق لم يكن لأنهاره جسور فأمر ببنائها، وأنشأ عدة صهاريج بالقرب من البصرة لتخزين مياه الأمطار وتجميعها لتوفير مياه الشرب لأهل المواسم والقوافل، وكان يأمر بحفر الآبار في المناطق المقطوعة لتوفير مياه الشرب للمسافرين.
ومن أعماله الكبيرة بناء مدينة واسط بين الكوفة والبصرة، واختار لها مكانا مناسبا، وشرع في بنائها سنة (83هـ = 702م)، واستغرق بناؤها ثلاث سنوات، واتخذها مقرا لحكمه.. وقد أسفرت سياسته الحازمة عن إقرار الأمن الداخلي والضرب على أيدي اللصوص وقطاع الطرق.. ويذكر التاريخ للحجاج أنه ساعد في تعريب الدواوين، وفي الإصلاح النقدي للعملة، وضبط معيارها، وإصلاح حال الزراعة في العراق بحفر الأنهار والقنوات، وإحياء الأرض الزراعية، واهتم بالفلاحين، وأقرضهم، ووفر لهم الحيوانات التي تقوم بمهمة الحرث؛ وذلك ليعينهم على الاستمرار في الزراعة.
إن من أكثر الشخصيات التي لم تنل حقها في البحث والدراسة شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي .. لقد كان لهذه الشخصية المكان والمرتع الخصب لأصحاب الشهوات و أهل الأهواء للطعن في العصر الأموي بوصفه عصر سفك للدماء و تسلط للأمراء ..
و لقد كان لشخص الحجاج النصيب الأوفر من هذه التهم .. فالحجاج كان ضحية المؤرخين الذين افتروا عليه شتى المفتريات تمشياً مع روح العصر الذي يكتبون فيه ؛ ونرى أننا كلما بعدنا عن عصر الحجاج كثرت المفتريات والأباطيل .. و من الإنصاف أن يسجل المؤرخ لمن يؤرخ له ما أصاب فيه بمثل ما يسجل عليه ما أخطأ فيه .. واضعاً قول الله تعالى { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى } نصب عينيه .. فإن الحجاج قد شوهت صورته و نسجت حولها الخرافات بشكل يجعلها أقرب إلى الأسطورة من الحقيقة ..
نعم كان الحجاج كما قال عنه الحسن البصري : إن الحجاج عذاب الله ، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم ، و لكن عليكم بالاستكانة والتضرع ، فإنه تعالى يقول { ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون }[المؤمنون /76] . الطبقات لابن سعد (7/164) بإسناد صحيح .
فالحجاج كان من الولاة الذين اشتهروا بالظلم والقسوة في المعاملة ، و هي شدة كان للظروف التي تولى فيها هي السبب الرئيسي في أن يكون بهذه الصفة ..(/2)
فثورات الخوارج المتتالية والتي أنهكت الدولة الأموية .. و الفتن الداخلية .. كان للحجاج الفضل بعد الله في القضاء عليها ، و هذه لا ينكرها أحد حتى الأعداء .. و لا ننسى ثورة ابن الأشعث التي كادت أن تلغي و تقضي على الخلافة الإسلامية .. و مع هذا نقول : ليس كل ما يشاع عن شخص قد ثبت فعلاً .. و ليس كل ما هو مشهور معروف .. فكم سمعنا و قرأنا أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت تنصح الخارجين بالثورة على عثمان و قتله !! فهل نصدق هذا ، و كم سمعنا أن عثمان رضي الله عنه قد استحدث أموراً خرج بسببها من الإسلام !! فهل نصدق هذه أيضاً .. و كذلك ما اشتهر من أن عمر رضي الله عنه أمر بقتل الستة الذين اختارهم ليكون أحدهم خليفة من بعده إن تخلف أحدهم تضرب عنقه !! و هكذا ..
فليس كل ما هو مشهور صحيح ..
و الله تعالى يقول { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } !! و المؤمن خير من ملئ الأرض من الكافر .. وعلى فرض ثبوت صحة ما أشيع حول الحجاج - ولا ننكر بعضها - فهل يعني هذا أنه قد خرج بموجبها من دائرة الإيمان ؟؟!!
لقد ثبتت للحجاج سيئات كثيرة جعلته في نظر الناس من الذين لا يمكن أن يغفر الله لهم .. سبحان الله !! هل جعلنا الله موكلين بتصنيف الناس هذا مغفور له و هذا مغضوب عليه ؟!
هل نسينا أن فتح بلاد السند و ما وراء النهر قد تم بعد فضل الله تعالى على يد أبطال قد أرسلهم الحجاج من أجل نشر الإسلام في تلك المناطق .. و ما يدريك لعل الله أراد أن يجعل له باباً آخر للأجر و تكون أعمال أولئك القوم الذين دخلوا في الإسلام في ميزان حسنات الحجاج .. إن الله على كل شيء قدير فلا نحجر واسعاً ..
واسمع إلى ما ورد عن الحجاج حول موته .. وكما يستدلون بالصورة السيئة حول شخصه .. فإنه قد ثبتت كذلك صورة حسنة أيضاً .. أن الحجاج عندما اشتدت عليه العلة عمل على تدبير شؤون العراق من بعده بما يحفظه من الاضطراب والفتن ، و يبقيه جزءً من الدولة الأموية ، حتى إذا اطمأن إلى ذلك كتب وصيته ليبرئ فيها نفسه و ذمته تجاه خالقه وخليفته المسؤول أمامه في الدنيا حتى آخر لحظة من حياته ، فكتب يقول :
بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف : أوصى بأنه يشهد أن لا إليه إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده و رسوله ، وأنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك ، عليها يحيا و عليها يموت و عليها يبعث .. الخ . تهذيب تاريخ دمشق (4/68 ) .
و يروى أنه قيل له قبل وفاته : ألا تتوب ؟ فقال : إن كنت مسيئاً فليست هذه ساعة التوبة ، وإن كنت محسناً فليست ساعة الفزع . محاضرات الأدباء (4/495 ) .
و قد ورد أيضاً أنه دعا فقال : اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل . تاريخ دمشق (4/82) . والبداية والنهاية (9/138) .
ونقول للذين يطعنون في نيات الناس اسمعوا إلى قول الحسن رحمه الله حينما سمع أحد جلاسه يسب الحجاج بعد وفاته ، فأقبل مغضباً و قال : يا ابن أخي فقد مضى الحجاج إلى ربه ، و إنك حين تقدم على الله ستجد إن أحقر ذنبٍ ارتكبته في الدنيا أشد على نفسك من أعظم ذنبٍ اجترحه الحجاج ، و لكل منكما يومئذٍ شأن يغنيه ، و اعلم يا ابن أخي أن الله عز وجل سوف يقتص من الحجاج لمن ظلمهم ، كما سيقتص للحجاج ممن ظلموه فلا تشغلن نفسك بعد اليوم بسب أحد . ذكره أبو نعيم في الحلية (2/271) .
والله أعلم ..
ايها الاخ الكريم أسير زمان
حياك الله وبارك الله فيك على الحقائق التي ذكرتها في مداخلتيك
بقيت نقطة واحدة لم توضحها وهي اتهام الحجاج بانه كان يكثر من قطع الاعناق , - كما قال " ابن العرب " بل انه بالغ في قوله حتى قال انه كان يقتل بغير وجه حق ويقتلهم على اتفه الاسباب .
تعالوا معنا ايها الاخوة الاحباء لنقرا بعض اخبار الحجاج , ومنها نحكم على هذه النقطة المفترية عليه .
دفاعاً عن الحجاج \ سعد الحامدي
نشرت قبل عشر سنين مقالاً عن الحجاج في مجلة الحرس الوطني الغراء، ولا بأس من اعادة نشر فكرة المقال مختصراً ومضيفاً رأيي في تلك المسلسلة التي تبث عن الحجاج، والقنوات العربية قد اعادت تلك الحقبة الى الاذهان من خلال مسلسل الحجاج. والذي لم يتناول سيرة الحجاج، بقدر ما تناول تلك الفترة الزمنية التي شهدت الفتن والقلاقل والحروب.(/3)
لقد كتب المؤرخون ما كتبوا عن الحجاج وهم ما بين ساخط وناقم، مما جعل سيرته سيئة للغاية، ولم يسلم من الاذى حتى أبناء جلدته الذين لا ناقة لهم ولا جمل في أمر الحجاج، (أتذكر كيف عيرني أستاذي بالحجاج ولما دافعت عنه طردني شر طردة، لكن كنت مصمماً على رأيي في الحجاج).الحجاج حكايتي معه حكاية ، فإنني ما تعلمت سيرته و لا عرفت خطبه و أشعاره و أخباره حتى كدت أحفظها إلا لما تعرضت له بسببه في المدرسة و الجامعة ، فإن معلمي قال لنا لعنة الله على الحجاج فالعنوه فلعنه الكل ما عداي فسألني : فيم سكوتك يا كليب ؟ فقلت له : لا ألعن رجلاً مسلما ً فما كان منه إلا أن غضب و اشتط و صرخ علي ، فلما ذكرته بأفعال الحجاج الطيبة طردني شر طردة
فالحجاج قد ذهب للقاء ربه، فلندعه وشأنه لرب العالمين، فهو الاعرف بحاله، ومن خاض في الحجاج او في شأن قبيلته، فهو انما يحمل عنهم شيئاً من ذنوبهم، ولقد رأيت في ذلك المسلسل كيف تكلموا في أمر قبيلة ثقيف متناسين دورها الريادي في نصرة المسلمين وفي تجييش الجيوش، وأنا هنا انطلق من مبدأ من شق عصا الطاعة فاقتلوه ومن هنا كان لا يأبه بالمعارضة ونشأ في زمن الخوارج وكثرة الفتن، وحكم اقليم العراق الذي عرف بتمرده على الخلافة الاموية، ، وكان لابد من اخضاعه، فوجد فيه بنو امية ضالتهم وكان سهمهم النافذ فما رموا به أحداً إلا أصابه في مقتل.
غير ان الذي لا يعرفه متابعو ذلك المسلسل هو مناقب الحجاج، نعم، فله مناقب شتى تعدل كل ما قيل في حقه وما صور عنه من مظالم، والمنصفون من المؤرخين - من غير كما اسلفت - قالوا عن الحجاج ما يجعلنا نجعله من البانين والمؤسسين لكثير من انظمة الادارة التي نراها اليوم، فهو باني مدينة واسط العظيمة، وأول من سك نقوداً بأمر من الخليفة، ونصر امرأة استغاثت به، وسير الجيوش بقيادة محمد بن القاسم الثقفي لفتح السند والهند، فأدخل في حوزة الدولة الاسلامية مساحة شاسعة من شبه القارة الهندية وما يعرف بباكستان اليوم وكذلك السند، وهو البليغ الفصيح الذي لا يخطئ قط في اللغة، وكان فوق هذا لا يأخذ أحداً بجريرة ابداً، ولكن بعد ان يستوثق منه فإن خان العهد والميثاق حكم فيه بشريعة الله. ولقد تنبه الى طريقة الكتابة بالتنقيط التي يقال ان اباً الاسود الدؤلي قد فعلها بأمر من الحجاج. وحين هدم الكعبة يوم حارب ابن الزبير اعاد بناءها عن ملة ابينا ابراهيم فجعلها بباب واحد، وقد كانت ببابين. وهو شاعر مقل، فقد جمع الدكتور عيضة السواط من كلية المعلمين في مكة المكرمة شعر الحجاج في رسالة جامعية. وقلما يوجد كتاب في النحو او في البلاغة ولا يستشهد بخطب الحجاج الذي بز معاصريه فصاحة وبياناً.
وبعد: كنت اعتقد ان تلك المسلسلة البائسة التي نشاهدها عن الحجاج ستنصف الحجاج، وستقول الصدق وسيبحث كاتبها عن الحقيقة، لكنه لجأ الى المؤلفين المناوئين، وظهرت كتابات كاتب نهج البلاغة واضحة وجلية في تصورات ذلك الكاتب البائس الذي اورد بعض المقاطع في السيناريو لم اجدها في كتاب، ووضح تأثره بالفكر المعارض فيما كتب، واستغرب كيف لا تناقش المادة التاريخية قبل النشر من قبل متخصصين، حتى لا نفاجأ بتفاصيل سيشاهدها ملايين الناس عارية من الحقيقة، وقبل هذا، ما هي الفائدة من بعث تلك الفترة الزمنية السوداء من عمر الدولة الاسلامية في هذا الوقت بالذات والموضوع متعلق بالعراق، العراق المغلوب على امره من قبل المحتلين، الذين اخذوه بكل شدة وعنف، فهل يريد هؤلاء ان يذكرونا بواقع العراق وبأنه لا يستقر إلا تحت اسنة الرماح!! نصور للمشاهدين من خلال مسلسل بائس بأن حال العراق والامة العربية والاسلامية هو ما نراه في ذلك المسلسل وان كانت الحقائق قد لويت اعناقها لأغراض الله وحده يعلم من تخدم، ولم قامت في هذا الوقت بالذات.
-------------
الحق لله الحجاج خدم الأمة الاسلامية ووطد أركانها ,,,
وليس ادل على ذلك ويكفيه انه اختار القائدين البطلين محمد بن القاسم الذي فتح باكستان و قتيبة بن مسلم فاتح بلاد ماوراء النهرين والذي وصل الى حدود الصين وضرب الجزية عليها ,,,,
ولا ننكر أن له فضل في تدعيم الدوله الإسلاميه وجمع كلمة المسلمين على إمامٍ واحد وأنه قد سن سنن حسنه مثل الدينار الإسلامي و جعل الصلاة حول الكعبه بشكلٍ دائري وطلاء السفن بالقار حتى لا تتسرب اليها المياه
-------------(/4)
لماذا نهوى تسطيح الأمور وجعل الشخصيات التاريخية إما خيرا مطلقا أو شرا مطلقا. يا جماعة الخير الحجاج هوجميع ماذكر أعلاه. أماكونه سياسيا بارعا وقائدا داهية فيكفي للدلالة على ذلك شهادة الخليفة المأمون الذي عرف عنه اعتداده العظيم بقوله ورأيه ونفسه حين قال في معرض الفخر بنفسه\"معاوية بعمره وعبد الملك بحجاجه وانا بنفسي\". الخليفة المأمون هو الذي أجمعت جمهرة المؤرخين على أنه كان \"أفضل رجال بني العباس حزما وعزما وحلما وعلماورأيا ودهاء وهيبة وشجاعةوسؤددا وسماحة\".أو كما قال أحد المؤرخين عنه\"كان والله أحد ملوك الأرض وكان يجب له هذا الاسم على الحقيقة\".
-----------
أخلص لعبد الملك حتى أن عبد الملك سمى ولده الحجاج ، ثم أخلص للوليد حتى قال الوليد : كان أبي يقول أن الحجاج جلدة ما بين عينيه و أما أنا فأقول أن الحجاج جلدة وجهي كله 000
لن أتكلم عن انجازات الحجاج و أعماله و فصاحته و بلاغته فكلها أمور معروفة أنكرت عليه ، و للحق أقول أنه كان عدوانياً ، لكنه عدواني بحجة و منطق سليمين لا لبس فيهما
--
لو لم يكن الحجاج لضاعت دولة أمية و لما وصلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز الذي تستشهدون بشهادته في الحجاج ، و لو كان الحجاج حياً في خلافة سليمان و عمر لأقراه و لزاداه ، فالملك هو الملك ، و السلطان هو السلطان 00
سأل سليمان بن عبد الملك عندما استخلف يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج عن الحجاج هل استقر في النار أم مازال يهوي فيها؟ ، فقال مسلم بن أبي يزيد : إن الحجاج يبعث بين أبيك و أخيك فانظر موضعهما ، فأمر بحبسه ، فحبس طوال مدة سليمان ثم جاء عمر فأطلق جيع المساجين ما عداه ، فظل حبيساً طوال خلافة عمر أيضاً 000
--
إنني لا أدافع عن الحجاج بل أقول فيه كلمة حق تصفه ، فهو و إن كان سيئاً ظالماً جباراً فإنه كان مخطط دولة فذ من طراز فريد ، و أديباً عالي المقام جانح الخيال و من خياله و إبداعه جاء ظلمه و جاءت قسوته ، ففي رأسه مخطط لدولة ، إن لم يسايره الناس فيه داوى عنادهم بالسيف ، و كان له في أهل العراق منطق سليم فقد قال فيهم حين أوصاه ابن جبير وغيره باللين في المعاملة و التحبب إلى أهل العراق : قد قتلوا ذاك الذي كانوا يعبدونه - يقصد علياً - فكيف أنا ، و الله ما لهم غير السيف فإنهم أهل شقاق و نفاق 00
و لم يقتل الحجاج إحداً دون سبب فقد كان له في كل من قتلهم حجة سواء وافقنا عليها أم لم نوافق فإننا لا نستطيع إلا أن نقر بسلامة منطقه من وجهة النظر السياسية 00
--
أذكر لكم أن الحجاج كان الخليفة التنفيذي للدولة الإسلامية ، و كان هو و عبد الملك كأنهما رأسان على جسد واحد ، و اصلاحاته المدنية و تنظيمه للبريد و غيرها من الأعمال يطول القول فيها ، غير أني أقول عفوا لسانكم عن لعن الرجل ، فقد كانت له عليكم مكرمة تظل إلى أبد الدهر ، تنقيط المصحف ، فقد أعز الله به الإسلام ، و هو بين يديه الآن و ليس لنا منه الآن غير وقفة على ما مضى نقول فيها في الناس حقاً و نتذكر و نعتبر 00
و طغيان الحجاج كان سياسياً فقط فلم يرو عنه أنه كان طاغية في أهله أو طاغية على الناس في معاملته اليومية لهم ، و قد أشترى أرض واسط من دهقان فارسي فلو كان طاغية كما تصورونه في الأمور غير السياسية لاستولى على الأرض دون عوض 00
كان ولاء الحجاج للأمويين دينياً ، و ان شديد التدين ، و كان حبيباً إلى أهل الشام \"حتى لقد وقف رجل منهم على قبره و قال : اللهم لا تحرمنا شفاعة الحجاج\" ، و كان بغيضاً على أهل العراق حتى لقد كفروه و أخرجوه عن الملة 000
---------
الغريب عن الحجاج ليس دفاعا بقدر ماهو محاولة الصاق التهم بالقادة والخلفاء حتى لم يسلم من أذاك أباحفص(الخليفةالراشد الخامس عمر بن عبدالعزيز) كونه نفىآل عقيل وأوصىعامله عليهم0
---
في كتاب البداية والنهاية .. الجزء 6 , يقول ابن كثير :
قال ابن جرير : وفي سنة اربع وتسعين للهجرة قتل الحجاج بن يوسف الثقفي سعيد ابن جبير , والقصة هي كالتالي وقالوا ان فيها جرح .
--------
الحَجَّاجُ بنُ يُوْسُفَ الثَّقَفِيُّ فِي مِيزانِ أهلِ السنةِ والجماعةِ
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةً في " الفتاوي " (3/278) : وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَتَّبِعُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَيَتَّبِعُونَ الْحَقَّ وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ .ا.هـ.
الحمدُ للهِ وبعدُ ؛
الحَجَّاجُ بنُ يُوْسُفَ الثَّقَفِيُّ اسمٌ معروفٌ في تاريخِ الأمةِ الإسلاميةِ ، اسمٌ اقترنَ بسفكِ الدمِ والبطشِ والجبروتِ ، اسمٌ لا يكادُ كتابٌ من كتبِ التاريخِ إلا ولهُ فيه ذكرٌ ، ولكن هل للرجلِ حسناتٌ تذكرُ في بحرِ ذنوبهِ ؟(/5)
يجيبُ الإمامُ الذهبي في " السير " (4/344) فيقولُ في ترجمتهِ : وَكَانَ ظَلُوْماً ، جَبَّاراً ، نَاصِبِيّاً ، خَبِيْثاً ، سَفَّاكاً لِلدِّمَاءِ ، وَكَانَ ذَا شَجَاعَةٍ ، وَإِقْدَامٍ ، وَمَكْرٍ ، وَدَهَاءٍ ، وَفَصَاحَةٍ ، وَبَلاَغَةٍ ، وَتعَظِيْمٍ لِلْقُرَآنِ ... وَلَهُ حَسَنَاتٌ مَغْمُوْرَةٌ فِي بَحْرِ ذُنُوْبِهِ ، وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ، وَلَهُ تَوْحِيْدٌ فِي الجُمْلَةِ ، وَنُظَرَاءُ مِنْ ظَلَمَةِ الجَبَابِرَةِ وَالأُمَرَاءِ .ا.هـ.
فانظروا كيف ينصفُ أهلُ السنةِ أمثالَ الحجاجِ ؟ ويكلون أمرهُ إلى اللهِ ؟
للهِ درك أيها الإمامُ الذهبي .
وقد كثرُ الكلامُ في هذهِ الأيامِ المباركةِ من شهرِ رمضان عن الحجاجِ ، فمن مسلسلٍ يبثُ في بعضِ القنواتِ الفضائيةِ عن سيرتهِ ، ويقومُ بالتمثيلِ للمسلسلِ سقطُ المتاعِ من أهلِ الفسقِ والمجونِ ، ويقومون بتشويهٍ لصورةِ التاريخِ الإسلامي لدولةِ بني أميةَ من خلالِ سيرةِ الحجاجِ بن يوسف ، إلى جانبِ تمثيلِ الصحابةِ مثل عبد الله بن الزبير وأسماء بنت أبي بكر ، وهذا - واللهِ - منتهى السخف ، وكما يعلمُ الجميعُ أن العلماءَ قد منعوا من تمثيلِ أدوار الصحابةِ في هذه المسلسلات التي يقومُ بها الفسقةُ والماجنين ، وحتى لو قام بهذه ألأدوار أهلُ الصلاحِ والاستقامةِ فإنه لا يقبلُ منهم لأمور عدةٍ لا مجال لذكرها هنا .
وتقومُ أيضاً " قناةُ المستقلةِ " بإلقاءِ الضوءِ على سيرةِ الحجاجِ من خلالِ استضافةِ الرافضي والعلماني والبعثي والزيدي ، وهذه مهزلةٌ لم يسبق لها نظيرٌ ، فكيف يعرفُ تاريخُ الحجاجِ من هؤلاءِ الزنادقةِ ؟!
ولماذا يركزُ على الحجاجِ ؟
فقد وجد في تاريخِ الأممِ من هو أشدُ من الحجاجِ .
أين أنتم من هولاكو ؟ أين أنتم من ستالين ؟ أين أنتم من هتلر ؟ وأين أنتم ... ؟ وأين أنتم .... ؟ وسلسلة لا تنتهي .
وفي مقالي هذا أريدُ أن ألقي الضوءَ على سيرةِ الحجاجِ بنِ يوسف من خلالِ منظارِ أهل السنةِ والجماعةِ ، لا من خلالِ التاريخِ الذي دخل فيه التشيعُ ، ولا من خلالِ النظرةِ الحاقدةِ على تاريخِ بني أميةَ من قبل الرافضةِ والزيديةِ .
وأسألُ اللهَ ان يجعلَ في مقالي هذا النفعَ والفائدةَ ، ومن كان لهُ تعقيبٌ أو إضافةٌ فلا يبخل بها علينا هنا ، وله مني الشكرُ ، ومن اللهِ الأجرُ .
من هو " المُبِيرٌُ " الذي ورد ذكرهُ في الحديثِ ؟
سؤالٌ يطرحُ :
هل كلُ ما قيل عن الحجاجِ صحيحٌ ؟ أم أن فيهِ بعضُ التحاملِ على الرجلِ مما بالغت فيه بعضُ الطوائفِ والفرقِ ؟
يجيبُ الإمامُ ابنُ كثيرٍ - وهو من هو في التاريخِ ؟؟ ويكفيك كتاب " البدايةِ والنهايةِ " لتعلمَ مدى معرفة الرجلِ بالتاريخِ - فيقول : الحجاج بن يوسف هذا ، قد يخشى أنها رويت عنه حكايات بنوع من زيادة عليه ، فإن الشيعة كانوا يبغضونه جداً لوجوه ، وربما حرفوا عليه بعض الكلم ، وزادوا فيما يحكونه عنه بشاعات وشناعات .
وقد روينا عنه أنه كان يتدين بترك المسكر ، وكان يكثر تلاوة القرآن ، ويتجنب المحارم ولم يشتهر عنه شيء من التلطخ بالفروج ، وإن كان متسرعاً في سفك الدماء ، فالله تعالى أعلم بالصواب وحقائق الأمور وساترها ، وخفيات الصدور وضمائرها .
قلت : الحجاج أعظم ما نقم عليه وصح من أفعاله سفك الدماء ، وكفى به عقوبة عند الله عز وجل ، وقد كان حريصاً على الجهاد وفتح البلاد ، وكان فيه سماحة بإعطاء المال لأهل القرآن ، فكان يعطي على القرآن كثيراً ، ولما مات لم يترك فيما قيل إلا ثلثمائة درهم ، والله أعلم .ا.هـ.
وأترككم مع كلامٍ كتبهُ الأخ الفاضلُ أبو عبد الله الذهبي عن الحجاجِ بنِ يوسف في جوابٍ عن الحجاجِ :
إن من أكثر الشخصيات التي لم تنل حقها في البحث والدراسة شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي .. لقد كان لهذه الشخصية المكان والمرتع الخصب لأصحاب الشهوات و أهل الأهواء للطعن في العصر الأموي بوصفه عصر سفك للدماء و تسلط للأمراء ..
و لقد كان لشخص الحجاج النصيب الأوفر من هذه التهم ..
فالحجاج كان ضحية المؤرخين الذين افتروا عليه شتى المفتريات تمشياً مع روح العصر الذي يكتبون فيه ؛ ونرى أننا كلما بعدنا عن عصر الحجاج كثرت المفتريات والأباطيل ..
و من الإنصاف أن يسجل المؤرخ لمن يؤرخ له ما أصاب فيه بمثل ما يسجل عليه ما أخطأ فيه .. واضعاً قول الله تعالى { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى } نصب عينيه .
فإن الحجاج قد شوهت صورته و نسجت حولها الخرافات بشكل يجعلها أقرب إلى الأسطورة من الحقيقة ..
نعم كان الحجاج كما قال عنه الحسن البصري : إن الحجاج عذاب الله ، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم ، و لكن عليكم بالاستكانة والتضرع ، فإنه تعالى يقول { ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون }[المؤمنون /76] . الطبقات لابن سعد (7/164) بإسناد صحيح .(/6)
فالحجاج كان من الولاة الذين اشتهروا بالظلم والقسوة في المعاملة ، و هي شدة كان للظروف التي تولى فيها هي السبب الرئيسي في أن يكون بهذه الصفة ..
فثورات الخوارج المتتالية والتي أنهكت الدولة الأموية .. و الفتن الداخلية .. كان للحجاج الفضل بعد الله في القضاء عليها ، و هذه لا ينكرها أحد حتى الأعداء .. و لا ننسى ثورة ابن الأشعث التي كادت أن تلغي و تقضي على الخلافة الإسلامية ..
و مع هذا نقول : ليس كل ما يشاع عن شخص قد ثبت فعلاً .. و ليس كل ما هو مشهور معروف .. و هكذا .. فليس كل ما هو مشهور صحيح ..
و إني لأقول :
هل ثبت كفر الحجاج حتى نقارن بينه و بين الخبثاء من الأمم السابقة ؟!
و الله تعالى يقول { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } !! و المؤمن خير من ملئ الأرض من الكافر فكيف تكون هناك مقارنة .. وعلى فرض ثبوت صحة ما أشيع حول الحجاج - ولا ننكر بعضها - فهل يعني هذا أنه قد خرج بموجبها من دائرة الإيمان ؟؟!!
فهل نسي هذا الطالب أن فتح بلاد السند و ما وراء النهر قد تم بعد فضل الله تعالى على يد أبطال قد أرسلهم الحجاج من أجل نشر الإسلام في تلك المناطق .. وأما عن الدراسات التي كتبت عن الحجاج فقد قدمت عدد من الرسائل الجامعية في دراسة شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي و منجزاته الحضارية و أعماله .. و ذلك من أجل إظهار الصورة الأخرى التي كادت أن تنمحي من الوجود بسبب ما اشتهر عنه من أباطيل ..
فمن الدراسات كتاب بعنوان : ( الحجاج بن يوسف الثقفي المفترى عليه ) للدكتور : محمود زيادة .
و كذلك كتاب آخر بنفس العنوان تقريباً للدكتور إحسان صدقي العمد ..
و هما من أفضل ما كتب عن الحجاج ..
و أيضاً هناك رسائل أخرى صغيرة تتحدث كذلك عن بعض ما أشيع حول الحجاج ..
أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..
قصةٌ منكرةٌ :
عُرف الحجاجُ كما ذكرنا سابقاً بأنهُ سفاكٌ للدماءِ ، ومن أشهرِ من قُتل بين يديهِ العالمُ النحريرُ سعيدُ بنُ حبير ، وقد وردت قصةٌ منكرةٌ في طريقةِ قتلِ الحجاجِ لسعيدِ بنِ جبير ، تذكرُ في ترجمةِ الحجاجِ ، كما ذكرها الحافظُ الذهبي في " السير " (4/329 - 332) : وقال : قال الإمامُ الذهبي بعد ذكر الروايةِ : هَذِهِ حِكَايَةٌ مُنْكَرَةٌ ، غَيْرُ صَحِيْحَةٍ .ا.هـ.
والقصةُ في سندها حَفْصُ بنُ سليم أَبُو مُقَاتِلٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ .
قال الذهبي في " الميزان " (1/557) : وهاه قتيبة شديداً ، وكذبهُ ابنُ مهدي لكونهِ روى عن عبيدِ الله عن نافع عن ابنِ عمر مرفوعاً : من زار قبرَ أمهِ كان كعمرةٍ . وسئل عنه إبراهيمُ بنُ طهمان فقال : خذوا عنهُ عبادتهِ وحسبكم . وذكر بعضاً من رواياتهِ .ا.هـ.
وقال الحافظُ ابنُ حجر في " اللسان " (2/393) : قلتُ : ووهاهُ الدارقطني أيضاً . وقال الخليلي : مشهورٌ بالصدقِ ، غيرُ مخرجٌ في الصحيحِ ، وكان يفتي ، ولهُ في الفقهِ محلٌ ، وتعنى بجمع حديثهُ .
ولهُ ذكرٌ في العللِ التي في آخرِ الترمذي ، وأغفلهُ المزي .
قال الترمذي : حدثنا موسى بنُ حزام ، سمعتُ صالحَ بنُ عبدِ اللهِ قال : كنا عند أبي مقاتل السمرقندي ، فجعل يروي عن عونِ بنِ شداد الأحاديثَ الطوال التي كانت تروى في وصيةِ لقمان ، وقتلِ سعيدِ بنِ جبير ، وما أشبه ذلك ، فقال له ابنُ أخيه : يا عمُ لا تقل حدثنا عون ، فإنك لم تسمع هذه الأشياء ، فقال : بلى ؛ هو كلامٌ حسنٌ .ا.هـ.
وقال الإمامُ ابنُ كثيرِ في " البداية والنهاية " (9/117) : وقال أبو نعيم في كتابه الحلية ، ثنا أبو حامد بن جبلة ، ثنا محمد بن إسحاق ، ثنا محمد بن أحمد ابن أبي خلف ، ثنا شعبان ، عن سالم بن أبي حفصة ، قال : لما أتى بسعيد بن جبير إلى الحجاج قال له : أنت الشقي بن كسير؟ قال : لا ! إنما أنا سعيد بن جبير ، قال: لأقتلنك ، قال : أنا إذا كما سمتني أمي سعيداً ! قال : شقيت وشقيت أمك ، قال : الأمر ليس إليك ، ثم قال : اضربوا عنقه ، فقال : دعوني أصلي ركعتين ، قال : وجهوه إلى قبلة النصارى ، قال: " فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ " [ البقرة : 115 ] قال : إني أستعيذ منك بما استعاذت به مريم ، قال : وما عاذت به ؟ قال : قالت : " إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً " [ مريم : 17 ] قال سفيان : لم يقتل بعده إلا واحداً .
وقد ذكرنا صفة مقتله إياه ، وقد رويت آثار غريبة في صفة مقتله ، أكثرها لا يصح .ا.هـ.
والنكارةُ في القصةِ واضحةٌ جداً ، ومن أوجهِ النكارةِ فيها :
1 - قولِ عَوْنِ بنِ أَبِي شَدَّادٍ : بَلَغَنِي . فمن الذي أبلغهُ ؟ فالواسطةُ مجهولةٌ .
2 - قصةٌ اللَّبْوَةِ وَالأَسَدِ ، فأين الأخذُ بالأسبابِ ؟
وقد جاء في ترجمةِ سعيدِ بنِ جبير أنهُ تنقل بين البلادِ فراراً من بطشِ الحجاجِ حتى قال : وَاللهِ لَقَدْ فَرَرْتُ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنَ اللهِ .(/7)
قال الإمامُ الذهبي في " السير " (4/338) معلقاً على كلامِ سعيدِ بنِ جبير : " قُلْتُ : طَالَ اخْتِفَاؤُهُ ، فَإِنَّ قِيَامَ القُرَّاءِ عَلَى الحَجَّاجِ كَانَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِيْنَ ، وَمَا ظَفِرُوا بِسَعِيْدٍ إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِيْنَ ؛ السَّنَةِ الَّتِي قَلَعَ اللهُ فِيْهَا الحَجَّاجَ .ا.هـ.
فهل يُعقلُ أن يفرَ سعيدُ بنُ جبير ثلاثَ سنواتٍ من الحجاجِ ويأخذُ بالأسبابِ ثم يأتي على أمرٍ ذكر في القصةِ ولا يفعلهُ ؟ هذا أمرٌ مستبعدٌ جداً .
3 - سؤالُ الحجاجِ لسعيدِ بن جبير عن الخليفةِ الرابعِ على بنِ أبي طالب رضي اللهُ عنه عندما قال له : فَمَا قَوْلُكَ فِي عَلِيٍّ ، فِي الجَنَّةِ هُوَ أَمْ فِي النَّارِ ؟ قَالَ : لَوْ دَخَلْتُهَا ، فَرَأَيْتُ أَهْلَهَا ، عَرَفْتُ .
يلتمسُ منهُ إثباتُ تهمةِ الحجاجِ بأنهُ ناصبي ، وهذا أمرٌ قد يكونُ من فعلِ الرافضةِ ، وقد رد الإمامُ ابنُ كثيرٍ هذه الفريةِ عن الحجاجِ في " البداية والنهاية " كما تقدم في عنوان : " الحجاجُ عذابُ اللهِ " . فليرجع إليهِ .
4 - تقديمُ العودِ والناي بين يدي سعيدِ بنِ جبير .
وأكتفي بهذه الأوجه .
هل يُلعنُ الحجاج بن يوسف :
قد يقومُ بعضُ الناسِ بلعنِ الحجاجِ بنِ يوسف كلما ورد اسمهُ عليه ، فهل هذا الفعلُ من الشرعِ في شيءٍ ؟
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ : كَانَ أَهْل الْعِلْمِ يَقُولُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : " أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ " فَيَلْعَنُونَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَامًّا . كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيهَا وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَآكِلَ ثَمَنِهَا " وَلَا يَلْعَنُونَ الْمُعَيَّنَ .
كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ : " أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُدْعَى حِمَارًا وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِدُهُ . فَأُتِيَ بِهِ مَرَّةً . فَلَعَنَهُ رَجُلٌ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ . فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " .
وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّعْنَةَ مِنْ بَابِ الْوَعِيدِ وَالْوَعِيدُ الْعَامُّ لَا يُقْطَعُ بِهِ لِلشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ لِأَحَدِ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ : مِنْ تَوْبَةٍ أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ .ا.هـ.
فتاوى أهلِ العلمِ في الحجاجِ بنِ يوسف :
السؤال
بعض الناس عندما يتعرض لسيرة الحجاج يسبة ويلعنه، فهل ذلك يصح، علما بأنه كانت له بعض فتوحات إسلامية لأراضٍ غير إسلامية، وهل هو يعتبر من الفئة الباغية؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد :
فأما لعن الحجاج بن يوسف فينبغي تركه بناء على أن الفاسق المعين لا يلعن بخصوصه إما تحريماً أو تنزيها، وإذا قال قائل ألم يك ظالماً ؟ ألم يقتل الصحابة فلماذا لا نلعنه ؟ نجيبه بما قال شيخ الإسلام ابن تيمية قال : نحن إذا ذكر الظالمون كالحجاج بن يوسف وأمثاله نقول كما قال الله في القرآن "ألا لعنة الله على الظالمين" ولا نحب أن نلعن أحداً بعينه وقد لعنه-أي يزيد بن معاوية - قوم من العلماء، وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد، لكن ذلك القول أحب إلينا وأحسن... انتهى .
وأما ذكر مثالبه وظلمه وفجوره، فلا مانع من ذكر ذلك وإن كانت له حسنات وفتوحات، وقد ترجم له الذهبي فقال: الحجاج أهلكه الله في رمضان سنة 95 كهلاً، كان ظلوماً جباراً ناصبياً خبيثاً سفاكاً للدماء.... فنسبُّه ولا نحبه بل نبغضه في الله، فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان، وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه وأمره إلى الله.... انتهى.
والحجاج لم يك من الفئة الباغية، بل كان حاكماً على العراق والمشرق كله من قبل أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان.
والله أعلم.
المفتي : مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
http://www.islamweb.net/web/fatwa.sh...اج%20بن%20يوسف
الحجاج فلم يباشر بنفسه كتابة المصحف ، بل أمره بعض الحاذقين بذلك ، وإليك القصة كاملة :
قال الزرقاني :(/8)
والمعروف أن المصحف العثماني لم يكن منقوطاً … وسواء أكان هذا أم ذاك فإن إعجام – أي : تنقيط - المصاحف لم يحدث على المشهور إلا في عهد عبد الملك بن مروان ، إذ رأى أن رقعة الإسلام قد اتسعت واختلط العرب بالعجم وكادت العجمة تمس سلامة اللغة وبدأ اللبس والإشكال في قراءة المصاحف يلح بالناس حتى ليشق على السواد منهم أن يهتدوا إلى التمييز بين حروف المصحف وكلماته وهي غير معجمة ، هنالك رأى بثاقب نظره أن يتقدم للإنقاذ فأمر الحجاج أن يُعنى بهذا الأمر الجلل ، وندب " الحجاج " طاعة لأمير المؤمنين رجلين يعالجان هذا المشكل هما : نصر بن عاصم الليثي ، ويحيى بن يعمر العدواني ، وكلاهما كفء قدير على ما ندب له ، إذ جمعا بين العلم والعمل والصلاح والورع والخبرة بأصول اللغة ووجوه قراءة القرآن ، وقد اشتركا أيضاً في التلمذة والأخذ عن أبي الأسود الدؤلي ، ويرحم الله هذين الشيخين فقد نجحا في هذه المحاولة وأعجما المصحف الشريف لأول مرة ونقطا جميع حروفه المتشابهة ، والتزما ألا تزيد النقط في أي حرف على ثلاث ، وشاع ذلك في الناس بعدُ فكان له أثره العظيم في إزالة الإشكال واللبس عن المصحف الشريف .
وقيل : إن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي ، وإن ابن سيرين كان له مصحف منقوط نقطه يحيى بن يعمر ، ويمكن التوفيق بين هذه الأقوال بأن أبا الأسود أول من نقط المصحف ولكن بصفة فردية ، ثم تبعه ابن سيرين ، وأن عبد الملك أول من نقط المصحف ، ولكن بصفة رسميَّة عامَّة ذاعت وشاعت بين الناس دفعاً للبس ، والإشكال عنهم في قراءة القرآن .
" مناهل العرفان " ( 1 / 280 ، 281 ) .
أسألُ اللهَ أن يكونَ في هذا البيانِ كفايةٌ في موضوعِ الحجاجِ بنِ يوسف الثقفي .
كتبهُ
عبدُ الله زُقَيْل
تخاصم الحجاج مع غلام , وفي نهاية الجلسة ساله الغلام : من أين أخرج يا حجاج ؟
فأجابه الحجاج : أخرج من ذاك الباب فهو باب السلام.
فقال الجلساء للحجاج : هذا جلف من أجلاف العرب أتى إليك وسبك وأخذ مالك فتدله على باب السلام ولم تدله على باب النقمة والعذاب ؟
فقال الحجاج : إنه استشارني والمستشار مؤتمن.
--------
واما عن حقيقة قصة هذا الغلام فقد قالوا عنها :
كل ما ذكر وكتب هو كلام لكاتب بليغ وفصيح كتب قصة من خياله واراد ان يهتم الناس بما كتب فألبسه لباس الواقعية ونسبه الى الحجاج بن يوسف ..ومع من ..مع طفل صغير 10 سنوات فقط
ولو زاد في عمره قليل مثلاً 17 سنه لكان شبه مقبول قوله وتأليفه .
ولكن ليعطي القصة الإثارة والمتابعة والإعجاب لمن يقرأها .
وهناك ايضاً من ارادا ان يؤلف قصة أو حكاية عن البخل نسبها الى جحا أو أشعب .
ومن ألف قصة عن البطش والظلم نسبها الى قراقوش .
والكثير يكتب القصص عن الحجاج وظلمه والروايات كثيرة ..والله أعلم أنه كله كذب وإفتراء.
أنا لا أدافع عن الحجاج فإن كان فاسقاً فعليه وزره وسؤ العاقبة .
وكاتب ومؤلف هذه القصة أظنه من أهل الشيعة حيث أجد تمجيده الواضح لعلي بن أبي طالب .
ولا ادري من كان موجود وقت وقوع هذه القصة العظيمة وحفظ كل ما قيل هل كان معه كاسيت (مسجل ريكورد) وكيف تقبل الحجاج كل هذه الإهانه والذل أمام هذا الحشد ليفقد هيبته ونفوذه .
وأظن أيضاً أن مؤلف هذه الخرفات يحمل طابع عنصري ويحقد ضد مصر واليمن والشام ويعطي لنفسه الحق أن يصف هذه البلاد وأهلها بهذه الاوصاف البذيئه . ونحن نعلم أن العين لا تكره إلا من كان أحسن وأفضل منها.
أنها عقده دائمه وحقد من أرض الكنانه . . فنجد كل من هب ودب يحاول تشويه صورتها وأهلها .
فيكتب بيده على لسان الحجاج أو غيره بما ينفس عن صدره الغيظ والحقد .ويرتاح عقله المريض.
أرجوا من الأخوة ان لا ينجروا وينساقوا على كل ما قيل وقال وكتبت وألفت من قصص هي من نسج وخيال من ألفها ويغلفها بثوب مزيف ليعطي لها القبول.
وهذه مصيبة كبرى فلا يوجد من يحاول متابعة ما يكتب عن الحجاج أو غيره ومحاولة أثبات صدق كل هذه الروايات . فهي ليست قرإن أو أحاديث للرسول عليه الصلاة السلام .
إن تزييف الحقائق وتشويه التاريخ بقصد أو بدون قصد هي جريمة العصر ولكن ما نحن عليه من مصائب أخرى أجل وأعظم (إسرائيل وأمريكا والحرب على الإرهاب أأقصد الإسلام )) جعلنا لا نهتم بكل هذه التخاريف
ولا يهم ما يقال عن الحجاج أو غيره ...
ولطالما هناك عقول تكتب وتؤلف وتزيف لعلمهم انه توجد عقول ساذجة تصدق كل ما يقال ويكتب .
وعلى الله قصد السبيل
تصحيح مفاهيم .. قصص مختلقة
وهذه رسالة مهمة وهي مجرد نموذج يقاس عليه .. فانتبه ..
وجزى الله خيراً مرسلها وكاتبها ..
- -
نود أن نشير هنا إلى برامج ومسلسلات تاريخية
تأخذ جانب الطرافة أكثر منها واقعاً تاريخياً ،
ولكن بعرضها في التلفاز ترسخ هذا العرض الخاطئ
في عقول الناس وأذهانهم وهي بالتأكيد بعيدة عن الحقيقة كل البعد
ويبدو أن المرجع لهذه القصص والحكايات كتب الأدب مثل :
العقد الفريد ، ومؤلفات الجاحظ ، وكتاب الأغاني(/9)
وهذا الأخير هو أسوأها مع أنه اشهرها ..
ولذا رأينا المستشرقين يهتمون به اشد الاهتمام
مع أن الصحيح من قصصه قليل جداً .. !!
وعموماً فكتب الأدب والروايات على كثرة ما فيها من قصص
إلا أنها في الغالب لا تعد واقعاً تاريخياً يُعتمد عليه ..
ومن أشهر القصص التي يتداولها الناس ، وهي لا أساس لها تاريخياً
قصة الحجاج مع هند .. وقد عرضها التلفاز أكثر من مرة !!!!
الحلقة كما عرضت للناس تتحدث عن :
امرأة تدعى هند بنت النعمان ، وكانت أحسن أهل زمانها
فوصف للحجاج بن يوسف حسنها ، فبعث إليها يخطبها
وبذل لها مالاً جزيلاً ،
واشترطت عليه أن يكون مؤخر صداقها مأئتي ألف درهم
ودخل بها ، وكانت هند فصيحة أديبة ،
وأقام معها في المعرة _ بلد أبيها _ مدة طويلة ،
ثم أن الحجاج رحل بها إلى العراق ، فأقامت معه هناك لبعض الوقت
وفي أحد الأيام دخل عليها الحجاج دون أن تشعر به ،
فإذا هي تنظر في المرآة وتقول :
ما هندُ إلا مهرة عربيةً ** سليلة أفراس تزوجها بغلُ
فإن ولدت فحلاً فلله درها ** وإن ولدت بغلاً فقد جاء به بغلُ !!
فانصرف الحجاج راجعاً ، ثم أرسل إليها رئيس شرطته
ومعه مائتي ألف درهم ..!!
وأمره أن يخبرها بأنه طلقها ، وتقول الرواية أنها قالت :
كنا والله معه فما حمدنا ، وبنا منه فما ندمنا !
وهذه المائتين ألف التي جئت بها بشارة لك لخلاصي من كلب ثقيف ..!
تقول الراوية :
وبلغ الخليفة عبد الملك خبرها مع الحجاج فأرسل إليها يخطبها
فكتبت إليه تقول :
يا أمير المؤمنين إن الإناء ولغ فيه الكلب ..!
فرد عليها الخليفة ضاحكاً :
إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب ،
فاغسلي الإناء يحل الاستعمال ..!
فوافقت بشرط أن يقود الحجاج محملها من المعرة إلى دمشق
وهو ماشٍ في كامل حليته ، فأمر عبد الملك الحجاج بذلك وهي في هودجها
تتضاحك على الحجاج ، ولما قاربت من دمشق رمت بدينار
ونادت : يا جمّال قد سقط منا درهم فارفعه إلينا ..
فلما رآه الحجاج قال لها :
إنما هو دينار.. فقالت : الحمد لله الذي أبدلنا بالدرهم ديناراً !!
فخجل الحجاج ولم يرد عليها ، فقد علم ما أرادت ..!
ثم دخل بها الخليفة وحظيت عنده ..!
**
هذه القصة مختلقة من أساسها ولا تصح تاريخياً
ولا تمت بصلة إلى الحقيقة ، وتكمن أخطاؤها فيما يلي :
_ اشتهرت في التاريخ امرأة تدعى هند بنت النعمان
المتوفاة عام 74هـ بعد عمر مديد ، عاشت حياتها في العراق
ولما كبرت ترهبت في الدير المعروف باسمها بين الكوفة والحيرة
ولما فتح المسلمون العراق زارها خالد بن الوليد
وعرض عليها الإسلام فرفضت ، وقد عميت في آخر عمرها .
2_ الحجاج لم يسكن المعرة أبداً ...
3_ لم يثبت أن الحجاج كان يملك من المال ما يصل إلى المائتين ألف ،
وهذا أثبتته المصادر التي تحدثت عن ثروته ..
4_ لم يثبت تاريخياً أن الحجاج تزوج امرأة تدعى هند بنت النعمان .
5_ كذلك لم يثبت ابداً أن الخليفة عبد الملك تزوج امرأة تدعى هند بنت النعمان
مع أنه قد تزوج عشر نساء ليس بينهن هذه ..
6_ ومن يدرس شخصية الحجاج لا يمكن أن يصدق
أن يقوم بهذا الدور السخيف
ولا أن يرضى له الخليفة ذلك .. وهو سيف من سيوفه ..
***
هذا تعليق على حلقة من الحلقات التاريخية التي يعرضها التلفاز
على أنها من طرائف العرب ، ويرها الجمهور ويصدق ما فيها
ويقتنع بما يراه على الرغم مما تحتويه من مغالطات وأكاذيب
تعارض الواقع التاريخي لشخصية من شخصيات التاريخ الإسلامي
**
كتبه الدكتور : حمد بن صراي
- -
ونتساءل نحن بدورنا :
ماذا يُراد من مثل هذه الأعمال المختلقة ؟
سؤال مفتوح فكر فيه كثيرا وطويلا .. لعلك تصل إلى إجابة شافية
أول من كتب لا إله إلا الله محمد رسول الله على العملة هو الحجاج بن يوسف الثقفي .
والحجاج هو أول من فرض التجنيد الإجباري ,
ويقال انه اول من فرض نظام منع التجول , ولست متاكدا من ذلك , ولكن هذا مما قيل لي في صغري !!
حكايات عن الحجاج
يحكى أن الحجاج خرج يوماً متنزهاً فلما فرغ من تنزهه صرف عنه أصحابه وانفرد بنفسه وإذا هو بشيخ كبير من بني عجل فقال له يا شيخ ما تقول في الحجاج. قال ما ولي العراق أشر منه قبحه الله وقبح من استعمله. قال: أتعرف من أنا ويحك أنا الحجاج. فقال له: أتعرف من أنا قال: لا قال: أنا مجنون بني عجل أصرع كل يوم مرتين. فضحك وأمر له بصلة!
أرسل الحجاج إلى الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك رسالة جاء فيها: «إني أيقظت رأيي وأنمت هواي، فأدنيت السيد المطاع في قومه ووليت الحرب الحازم في أمره، وقلدت الخراج الموفر لأمانته، وقسمت لكل خصم من نفسي قسماً أعطيه حظاً من تكليف عيني ونظري، وصرفت السيف إلى النطف المسيء، والثواب إلى المحسن البريء، فخاف المريب صولة العقاب وتمسك المحسن بحظه من الثواب».(/10)
روى أن ليلى الأخيلية مدحت الحجاج بن يوسف الثقفى، وبعد أن فرغت من شعرها قال الحجاج: يا غلام اقطع لسانها.. فأخرج الغلام سكيناً ليقطع لسان ليلى فصرخت فيه قائلة: ويحك يا جاهل... إن الأمير لم يأمر بقطع لسانى بالسكين.. بل إنه أمر بقطع لسانى بالجائزة والصلة!!
روي عن الحجاج بن يوسف الثقفي حين امر الا يؤم بالكوفة الا عربي , فلم يمتثل يحيى بن وثاب للامر وبقي يؤم قومه بني اسد وهو مولى لهم , فلما طلبوا منه الاعتزال اجابهم : ليس عن مثلي نهي , انا لاحق بالعرب ثم قصد الحجاج وقرا امامه فاقره معترفا بفصاحته
وروي في طرائف الحكم:
«انَّ الحجاج بن يوسف كتب الى الحسن البصري، والى عمرو بن عبيد، والى واصل بن عطاء، والى عامر الشعبي أن يذكروا ما عندهم وما وصل اليهم في القضاء والقدر.
فكتب إليه الحسن البصري:
- انَّ أحسن ما انتهى إليَّ ما سمعتُ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام انه قال: «أتظنُّ أنِّ الذي نهاكَ دهاكَ؟ وانما دهاك أسفلكَ وأعلاك، واللّه بريء من ذلك».
وكتب إليه عمرو بن عبيد:
- أحسن ما سمعتُ في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
«لو كان الزور في الأصل محتوماً، لكان المزوِّر في القصاص مظلوماً».
وكتب إليه واصل بن عطاء:
- أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
«أيدلُّكَ على الطريق، ويأخذ عليكَ المضيق»؟.
وكتبَ اليه الشعبي:
- أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
«كلّما استغفرت اللّهَ منه فهو منكَ، وكلّما حمدتَ اللّه عليه فهو منه».
فلما وصلت كتبهم الى الحجاج، ووقف عليها قال:
- لقد أخذوها من عين صافية».(/11)
الحد الأدنى للحياة السليمة
أ. ياسر بن علي الشهري 11/4/1427
09/05/2006
الدوائر الغربية المخطّطة للعولمة مفزوعة من نسب الإنجاب العالية في البلدان الإسلامية -الحالية والمتوقعة- حتى عام 2020م، وتؤكد أن المجتمعات الإسلامية مجتمعات شابة، بشبكات وعلاقات أسرية ودينية قوية، وهي بذلك مجتمعات تتجه نحو امتلاك القوة البشرية (الطاقة الأهم للحياة)، وفي الوقت الذي تشير فيه تقديراتهم إلى الانعكاسات الكامنة في النمو السكاني والروابط الأسرية على نهضة المجتمعات الإسلامية، تؤكد على الآثار المهددة للمجتمعات الغربية في هذا الجانب.
إن المنطلق الاجتماعي الإسلامي يقوم على الموقع المحوري للأسرة في سد الثغرات الاجتماعية التي تحدث نتيجة إهمال مؤسسات المجتمع الأخرى لأدوارها أو تقصيرها في القيام بها، وتتركز مهمتها في إحياء الروابط الاجتماعية، عندما تحيط الأخطار بالمجتمع وتتغلغل في حياته اليومية.
من هنا انطلق أحفاد فرويد إلى توظيف الأقلام الصحفية والحملات الإعلامية لإعلان الحرب على الأسرة (ضمن إستراتيجية إشاعة الفوضى في العالم الإسلامي)، واعتبارها من إرث "العصر الحجري"، وأنها أكبر العقبات في طريق السعادة الفردية، وهي مقولات تمثل اتجاهات ثقافية وفكرية جعلت من الأسرة "ساحة حرب" بين أفرادها مهمتها "توريث البؤس" من خلال الإنجاب!
كنا نسمع قبل سنوات معدودة أن على الأجيال الشابة أن تنصاع لقيم المجتمع والأجيال التي تكبرها، وكان من يتلمس الأعذار للشباب فريداً من نوعه ومن حيث موضوعه. فما الذي تغير الآن؟
في السنوات القريبة الماضية تحوّل الأمر، وتسارع المطالبون بالسير خلف الشباب، وانتشر الحديث عن هذا الموضوع، وما يتصل به انتشاراً واسعاً. فقد أصبحت الأسرة في نظرهم تابعة للشباب، وعمدوا إلى تشويه العلاقة بين الأجيال، وإلى قلب الهرم الإداري في داخل الأسر.
إن الأطروحات والحلول المرافقة لمشروع تغريب الشباب المسلم، والدخول بهم إلى أسوار منظومة المفاهيم والتصورات المضطربة التي مزجها لهم الإعلام الفضائي خلال العقد والنصف الماضي؛ تنطلق من مناقشة مواضيع الشباب من خلال منظور اقتصادي مادي محض، مع طرح الحلول في صيغ مادية يتم العمل على تسويقها لتكون مألوفة في الثقافة المرئية، من خلال تبني النماذج الفاقدة للقيم الأصيلة، أو من خلال صور تغري على الانجراف دون خشية من العقوبة.
إن هذا العمل الإعلامي المتواصل له جذوره الاجتماعية والفكرية، فالمحور الأول والأخير الذي يستهدفونه هو تدمير الأسرة، وتغيير مكانتها والنظرة إليها، وما يتفرع عن ذلك من قيم ومعايير وتصرفات سلوكية اجتماعية يتم إخضاعها للعوامل المادية، بدلاً من أن تكون حافزاً للتقدم المادي أو ضابطاً له.
وعلى صعيد الآثار فقد تغير مستوى متوسط الأعمار بالنسبة للمتزوجين وأصبحت حالة فريدة أن يتزوج الشاب المقتدر وهو في العشرين، بينما باتت غالبية الزيجات متأخرة من حيث متوسط الأعمار، وبتكاليف باهظة و"بروتوكولات" تشير إلى انهزامية الأسرة الجديدة على العتبة الأولى لتحديات الحياة.
وتزايد العزوف عن الإنجاب، تعبيراً عن حالة الإنسان العصري كفرد أناني يعمل لتحقيق مصلحته على حساب الآخرين بأي ثمن، وعن حالة مجتمع يفقد قيمه العظيمة بشكل تدريجي ويتجه نحو الفردية، حتى سمعنا عمّن لا يريد إنجاب أطفال يعلل ذلك بأسباب مادية، أو الرغبة في الاستمتاع بالحياة، أو الاستقلالية.
الأطروحات "الفوضويّة" الراهنة تخطط لثورة جنسية تقوم على أنقاض الأسرة التي تؤدي دور المحتضن للمشاعر والمنظم لعملية إنفاقها، كما يؤكد ذلك احتواء الرسول -صلى الله عليه وسلم- للشاب "الثائر جنسياً" الذي جاء يستأذن في الزنا، وتمت السيطرة عليه من خلال إحياء المعاني الأسرية والجماعية في تفكيره.
يجب على العلماء والدعاة والإعلاميين والمعلمين أن يبرهنوا للأجيال الناشئة أن العلاقة بينهم وبين أسرهم ليست علاقة صراع وتصادم، وأن يربطوا مصالحهم بمصالح أسرهم، وأن يشوّهوا صور الحياة الفردية، ويستدعوا النماذج والقصص والأحداث التي تكشف ذلك.
يجب أن يُوجّه النصح، ويُسلّط النقد على دعاة الحياة "على انفراد" وضحاياها من النماذج "المنفردة" التي تعيش وفق شعار "البقاء للأقوى"، وأن يُفضح أعداء (مشاعر الحياة الأسرية): التضامن والمحبة والإيثار وتكامل الأدوار.
كما يجب كشف محاولاتهم التنظيرية التي تستهدف وضع المجتمع على طرفي معادلة النجاح أو الأسرة، أي إما النجاح في الكسب المادي أو التفرغ لتحمل أعباء الأسرة ونفقاتها، والمطالبة بإقصاء هذه الأقلام والأصوات عن ساحات التفكير والحل والعقد لأمور المجتمع.(/1)
وكما يؤكد الألماني (فرانك شرماخر) مؤلف كتاب (الحد الأدنى) أن قدرة الألمان على الخروج من مخلفات الدمار الشامل نتيجة الحرب العالمية الثانية، وإنقاذ أنفسهم مجتمعاً وأفراداً في وقت واحد لم يكن سببه ما يُوصف بالمعجزة الاقتصادية، وإنما هي في الواقع معجزة اجتماعية، ومن خلال مفهوم الأسرة الذي ساد حتى السبعينيات من القرن الماضي.
ويقول: "وضْعنا الراهن يستدعي تحوّلاً اندماجياً اجتماعياً كالذي كان عام 1945، فعلى ألمانيا اليوم أيضاً إعادة بناء نفسها، ولكن نقطة الانهيار الآن هي الأسرة، المؤسسة التي وجدت آنذاك القوة الأساسية لإعادة إنشاء البلد. ألا يمكن أن يتحقق الآن مثل الذي تحقق بالأمس؟".
وليسمح لي القاري الكريم أن أستمر في النقل من (شرماخر) الذي يقول ما لم يقل به كثير من أبناء المسلمين العاقين لدينهم وقيمهم، حيث يقول: "كان من أبرز ما أظهرت دراسة العلاقات الاجتماعية عن الثورة الجنسية التي أباحت المحرمات السابقة؛ أن علاقة "الحب" أصبحت مفقودة، ففُقد أساس الحرص على الأسرة والإنجاب، واستبدل المجتمع بالمتعة الجنسية وحدها التي تدمر كل شيء، وقد أسهم في ذلك: عروض التلفزة والمسرح وغيرها من العروض الثقافية والفنية التي لم تعد تقدم الأسرة أنموذجاً يؤثر إيجابياً على المشاهدين، بل أصبح النموذج الأول فيها هو الفرد دون "أسرة" فنحن جميعاً، لا سيما أطفالنا، نشهد كل يوم، كل مساء، نماذج لا نهاية لها عن صداقات وهمية، وأزمات وهمية، وزيجات وهمية.. والمثير للقلق هو الازدياد الملحوظ في عدد من يحاولون تقليد هذه الصور الوهمية".
إن بداية الانهيار دائما تنطلق من انقلاب فكري عند جيل يغفل إنجازات الجيل السابق بإمكاناته وقدراته، ويتحرك بمنطلقات فردية أنانية تؤدي إلى انخفاض مستوى العلاقة بين الأجيال. فهل ننتظر العواقب حتى نغير من حالنا؟ وهل نستسلم لتهمة التقليدية فنتخلى عن الحد الأدنى للحياة السليمة؟
إن العناية ببقاء المرأة قدر الإمكان في بيتها ينطلق من كونها أساس "الكيان الأساسي" للتنظيم الاجتماعي؛ فهي راعية ومديرة المؤسسة الأهم في النظام الاجتماعي(الأسرة)، الحد الأدنى للحياة الاجتماعية السليمة، وهي –المرأة- الأقدر على تحقيق التوازن الاجتماعي والعاطفي، من خلال دورها ومكانها ومكانتها، على صعيد كيان الأسرة، وعلى صعيد إعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية.
يُعوّل على المسلمة في عالمنا المعاصر أن تبادر للردّ بقوة -وبصوت مسموع- على كل من يهدّد مملكتها، وأن تتخذ قرارها بحماية عقول وأفئدة الناشئة في أسرتها من الحملات الإعلامية المدمرة للحياة الأسرية، والمسوقة لقيم الفردية والمادية؛ فقد عجز كثير من الذكور عن ذلك! وعملوا على تعميم عجزهم!(/2)
الحداثة العربية !
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
" … لا يجب أن نسمح لأحد بأن يسلبنا المبادرة … علينا نحن أن نعمل على تحقيق التقدم والمساواة وحقوق الإنسان، ورفض الإجابات الجاهزة، لغة الماضي التي تسحقنا …"
بهذه الكلمات افتتح مؤتمر المؤسسة العربية للتحديث الفكري والتي تمَّ ولادتها رسمياً في بلاد المسلمين بعد أن كانت حيناً من الزمن في سويسرا.
إنَّ ما يثير العجب والدهشة أن تتلاقى جهود " الحداثيين " في نهج واضح لهم، تتلاقى في مؤسسات وأفراد وإعلام، في الوقت الذي نرى فيه تمزّق جهود المسلمين الذين يعلن كلّ منهم أنَّه يريد حماية الإسلام ودين الله ونصرته.
" المؤسسة العربية للتحديث الفكري " تنهض لِتُعْلِنَ ولادتها من بيروت، وتقيم مؤتمراً ضخماً تحت عنوان : " الحداثة والحداثة العربية "!(1) يشهده العاملون للحداثة من مصر وسوريا ولبنان وليبيا والأردن وتونس والمغرب وغيرها، يمثل هذه البلاد رجال عرفوا باتجاههم الحداثي الذي يسمونه تنويراً. وفي الكلمات التي أُلقيت في المؤتمر أجمع الرأي على أن الجسم مريض كلّه، وأن هدف المؤسسة : " إحياء المشروع التنويري على المستوى الفكري ". وقالوا: " إنَّ الذي نحن فيه ليس إغماءة ولكنّه موت عيادي …"(2) وهل عملية التنوير التي يريدونها تحيي الموتى من الموت العيادي؟! أم توقظ الغفاة الغافلين؟! وهل هم واثقون من أنَّ المرض لم يمسَّهم وإنَّما مسَّ غيرهم، وأنهم هم معافَون ؟!
ويقولون : " إن أهداف المؤسسة العربية للتحديث الفكري " هو الإسهام في تطوير فكر وثقافة عربيين تقدميين وإنسانيين وتنشيط الإبداع الثقافي من خلال الانفتاح على منجزات الحداثة في العالم ".
هو إعلان صريح عن أنَّ القضيّة قضيّة عربيّة فقط، قضيّة يراد أخذها من الغرب، من منجزات الحداثة في العالم، ليصبح عندنا ثقافة تقدّمية إنسانيّة ! وأعجب أن يصدر هذا عن رجل لم تصبه إغماءة ولا مات موتاً عيادياً. أعجب كيف يرجو التقدّم والإنسانية من منجزات الحداثة في العالم. وهل هذه المنجزات غير ما نراه في فلسطين والعراق وأفغانستان وأفريقيا وهيروشيما وناجازاكي ودول أمريكا اللاتينية، بل في ديارهم هم في أمريكا والغرب، حيث لم يظهر في التاريخ البشري قادة يكذبون ويفترون، ويظلمون ويعتدون ويفسدون، كما نراه من قادة أمريكا ومنجزاتها الحضارية والتقدمية والإنسانية التي سحقت حقوق الإنسان وكرامته، وسحقت الأمومة وأيامها، والطفولة وأعيادها، والمرأة وكرامتها، وحولت ذلك كله إلى شعارات ترفرف فوق المجازر والدماء والأشلاء والجماجم.
يتحدّثون عن الإنسانية ويريدون أن يأخذوها من منجزات الحداثة الغربيّة. وهل عرفت البشريّةُ الإنسانيّةَ خارج الإسلام ؟! هذا هو التاريخ البشري كلّه قديمه وحديثه، سحقوا الأمومة في الأسرة والبيت، ثمَّ جعلوا لها عيداً، عيد الأم، الأمومة الحقيقية هي في البيت الذي لم يتمزّق، في الأسرة التي اشتدت روابطها. والطفولة لا تنبت إلا في أحضان الأمومة الحانية، تفرغ من صدرها صافي الغذاء لأطفالها، وصادق الجهد من بذلها، وصادق العاطفة من قلبها وحنانها، عندما تعطي ذلك كله الوقت الحقَّ لتربية الأجيال، وتنشط في المجتمع بعد أن تكون رعت البيت والأسرة، وتدخل ميادينها الكريمة في البذل والعطاء، طاهرة عفيفة.
أين هو التنوير وأين هي الإنسانية ؟! لقد أدخلت منجزات الحداثة في العالم الإنسانَ في ظلام دامس، وأسقطته في وحول، ورمته في تيه من الضياع :
( أفمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في النَّاس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زيّن للكافرين ما كانوا يعملون )
[ الأنعام : 143]
من كان جاداً في إصلاح حال الأمة فمن الخطأ أن يلجأ إلى منجزات الحداثة التي أهلكت الناس. من كان جاداً في ذلك فليلجأ إلى الإسلام، إلى دين الله، إلى النور المتدفق والخير الحقّ، والأسلوب الجادّ في كلِّ إصلاح.
لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن " الحداثة العربية " و" الحداثة " بصفة عامة في المجتمعات الإسلامية وطال مداه زمناً غير قليل، والمسلمون في جدال بين رافض وقابل وراغب على استحياء وبين مَنْ يحاول استحداث "حداثة راشدة " لتقاوم " الحداثة الهجينة " الزاحفة.
ولفظة " الحداثة " نفسها تحتاج إلى وقفة لنرى مدى ضرورة استخدامها، وقد طلع بها " الحداثيون " أولاً وجعلوا منها مصطلحاً لفكر محدد عندهم، حتى اشتهروا به والتصقوا به والتصق بهم.
وعند العودة إلى الكتاب والسنة نجد أن هذا المصطلح لم يَعدْ يناسب النهج الإسلامي بعد أن بُعث محمد صلى الله عليه وسلم، واستقرَّ الإسلام ديناً للأمة كلّها.(/1)
فكلمة حَدَثَ وأحدثَ وحديث وحداثة لها معانٍ متعددة في المعاجم. ولكن من الناحية الفكرية، وحسب ما أتت به الآيات والأحاديث، غلب عليها معنى ضد القديم الثابت عليه الناس. فإن كان هذا القديم باطلاً فكلمة محدَث تدلّ على الحق الذي جاء يلغي الباطل السائد والممتدّ، كما في قوله سبحانه وتعالى :
( وما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدَث إلا كانوا عنه معرضين )
[الشعراء : 5]
وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدَث إلا استمعوه وهم يلعبون )
[ الأنبياء : 2]
ذلك أن الذكر الذي جاءهم محدثٌ ضد القديم الذي هم عليه. والقديم الذي هم عليه باطل، والذكر المحدَثُ هو من عند الله، وهو الحق.
أما عندما استقرَّ الإسلام وأصبح دين الأمة، فقد تغير استعمال هذه اللفظة مع بقاء مدلولها أنها ضد القديم الثابت في الأمة.
وفي الحديث الذي يرويه أبو داود والترمذي وابن ماجه يرد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( … إيَّاكم ومحدَثات الأمور فكل محدَثة بدعة وكلُّ بدعة ضلالة ) (2)
وفي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم عندما دخل المدينة، يأتي قوله :
( … وأنه لا يحلُّ لمؤمن أقرَّ بما جاء في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر مُحْدِثاً أو يؤويه وأنَّ من نصره أو آواه، فإنَّ عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة. ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل ).(3)
ولذلك أصبحت كلمة " أحدث " و" محدث " تدل على أمر مرفوض شرعاً، غير مقبول، ولا مجال لتزيينه وزخرفته، لأنها منذ أول استعمالها هي ضد القديم. والقديم الثابت الممتد بعد أن استقرَّ الإسلام هو الإسلام. فمن أحدث فقد أتى بما يخالف الإسلام، والمحدَث : الأمر المنكر الذي يرفضه الإسلام.
وفي لسان العرب :
? الحديث : نقيض القديم.
? محدَثات الأمور : ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء التي كان السلف الصالح على غيرها.
? المحدثة : ما لم يكن معروفاً في كتاب ولا سنة ولا إجماع.
يتضح من ذلك أن لفظة الحداثة اليوم، كما أتى بها أهل الحداثة العلمانيون، تعني ما خالف الكتاب والسنة. وما أتى به أهل الأهواء، وما لم يكن عليه السلف الصالح من الأمة.
وأما موضوع " الحداثة العربيّة "، فهل القضية قضيّة قوميّةٌ وهل الميزان ميزان قومي ؟! وهل الحداثة التي يطرحها أهلها يطرحونها على أساس قومي أم على أساس عام للناس كافة ؟! وحتى نجابه هذه " الحداثة الهجينة "المزخرفة بزخرف " العروبة " والموجّهة للناس كافة فعلينا أن نجعل منطلقنا وميزاننا عالميّاً لكل إنسان وشعب وأرض، ولا يوجد غير الإسلام يؤمِّن لنا هذا التوجّه الإنساني العام، ليكون هو المصطلح والمفهوم والميزان. لقد منَّ الله على العرب بالإسلام ليكون هو شعار المبادئ ومصطلحها ودينها ورسالتها ونهجها. وما عرف تاريخ الإسلام في الفكر والأدب والشعر إلا الإسلام عقيدةً وديناً وشعاراً، مهما وقع من تفلّت في بعض المبادئ. لقد ظلّ الشعراء كأبي تمام والمتنبي وغيرهما يجعلون من الإسلام تدفق عاطفتهم ومصطلحهم في أشعارهم.
لقد نهجت هذه القوى " الحداثية العلمانيّة " خطة مكر أصابت نجاحاً، حيث استفادت من ضعف المسلمين وجهلهم بحقيقة إسلامهم، وكثرة تنازلاتهم، وميلهم إلى المهادنة، أو الاستسلام. فسارت على خطّة شيطانيّة حذَّرنا القرآن الكريم منها بقوله سبحانه وتعالى :
( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خُطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحدٍ أبداً ولكنَّ ا لله يُزكّي من يشاء والله سميع عليم )
[ النور : 21 ]
حتى جعلوا " الحداثة حداثة عربية " وأنشأوا لها تلك المؤسسة السابق ذكرها.
جاءت "الحداثة " ومرت بنفس مراحل خطوات الشيطان، حتى أصبح من بين المسلمين دعاةٌ صريحون يدعون إلى حداثة الغرب وإلى ما يسمّونه " الحداثة العربية " أو" الحداثة الراشدة ". في مواقف كثيرة رأينا كيف أن بعض المسلمين استُدْرِجوا خطوةً خطوةً حتى أصبحوا دعاة للاشتراكية والديمقراطية والعلمانية والحداثة. ولقد بلغ الأمر أحياناً إلى عدم استحسان نقد الحداثيين أو فكرهم أو مصطلحهم، وإلى أن أصبح بين أيدي الحداثيين والعلمانيين إعلام واسع. ولم تكن " الحداثة " وحدها تصارع، وإنما كان معها العلمانية الزاحفة علينا بوسائل الإعلام، ومعها الأدب العلماني والفكر العلماني، ومعها المؤسسات الدولية الداعمة لها، والجيوش الزاحفة كذلك، قوى كثيرة تتساند في هذا الصراع بين أمواج الدماء وتطاير الأشلاء والجماجم في ديار المسلمين المختلفة.
لفظة الحداثة، لم تعد تعني التطور والنمو، ولا الرشاد والوعي، ولا التجديد. ونحن لسنا بحاجة لها وقد أغنانا الله عنها ومنَّ علينا بخير منها.(/2)
اختلطت مصطلحات : الحداثة، والقومية، والإنسانية، والأصالة، والنمو، والتطور، والتجديد، وغيرها اختلاطاً عائماً لم يعد لأيٍّ منها مفهومٌ محدّدٌ قابلٌ للتطبيق، ولا منهجٌ جليٌّ يُحْكَم له أو عليه. إنها كلها شعارات يتيه الإنسان بينها.
الإسلام، والكتاب والسنة، كلُّ ذلك ليس مجرّد تراث نحتاج إلى أن نعيد النظر فيه كما يدَّعي بعضهم. الإسلام هو الماضي والحاضر والمستقبل، هو القديم والجديد وهو منهج حياة كاملة لكل زمان وكل مكان.
إنَّ المرض والوهن ليس في العرب وحدهم، إنه في أمّة الإسلام اليوم. وإنَّ أول خطوة في التيه تحدث حين ننعزل عن حقيقة أهلنا وأمتنا، الأمة الإسلاميّة التي صهرت القوميّات كلّها والعصبيات كلّها في أخوّة الإيمان الصادق والتوحيد الصافي، والتي اختارها الله لتكون خير أمة أخرجت للناس تؤمن بالله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
فإذا كنَّا لا نلمس عظمة الإسلام في واقعنا اليوم، فليس ذلك إلا لخلل في المسلمين أنفسهم وضعفهم ومرضهم. ولا شفاء لهم ولجميع قومياتهم إلا بالعودة الصادقة للإسلام ورابطته الربانيَّة ومنهجه الربَّاني. إن الخلل موجود والمرض موجود وتنافس الدنيا قائم، ونسيان الآخرة ويوم الحساب ظاهر، وهجرنا كتاب الله وسنّة رسوله، وأثرنا كلّ أسباب الفرقة والتمزّق، ولهيب الأهواء وشهوات الدنيا في زخرف كاذب مغرٍ، ولافتات مستعارة باطلة.
ندعو الحداثيين والعلمانيين دعوة صريحة واضحة إلى أن يعكفوا على كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت نفسه ندعو أنفسنا نحن المسلمين إلى ذلك أيضاً، فقد هجر الملايين من المسلمين الكتاب والسنّة واللغة العربية، حتى جهلوا هم أنفسهم حقيقة الإسلام وعظمة الشنار الذي فيه.
نحن المسلمين اليوم متخلفون ليس عن الحضارة المادية فحسب، ولكننا متخلفون عمَّا يأمرنا به الله. ندعو الجميع إلى حقيقة الإيمان والتوحيد الذي يدفع المؤمن إلى منهاج الله، ومنهاج الله الذي يغذي الإيمان وينميه ليظلّ التأثير بينهما متبادلاً.
نحن المسلمين متخلفون في ميدان العلوم التطبيقية وميدان الصناعة، في الميادين التي يأمرنا أن نجول فيها، لو وعينا حقيقة الإيمان وصدق تدبّر منهاج الله. نحن متخلفون في ذلك، فلنأخذ عن الغرب العلم والصناعة، ولنعطهم خير الدنيا والآخرة : جوهر الإيمان الذي يأمر به الله، ولنعطهم حقيقة الدين كما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم !
إنَّ هذه الدعوة التي تحمل رسالة الله إلى النَّاس كافَّة كما أُنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم، فرض علينا فرضه الله ورسوله. فلننهض إلى هذا الفرض، الذي شُغلنا عنه بأمور كثيرة، فلننهض إلى هذا الفرض الذي سنحاسَب عليه بين يدي الله، ولنبلّغ رسالة الله إلى الحداثيين وإلى الناس كافة، كما أُنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان من الحقِّ أن نبادر بتبليغهم رسالة الله، ولكنَّهم بادروا هم ليُبلِّغُونا الحداثة ويقيموا لها المؤسسات في زخرف الشعارات والبيانات !
إنَّنا نحن محاسَبون بين يدي الله، وإنهم محاسَبون :
( نَحْنُ أعْلمُ بما يقولون وما أنتَ عليهم بِجبَّار فذكّر بالقرآن مَنْ يخافُ وعيد )
[ ق : 45 ]
نعم ! " … فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد " أيها المسلمون انهضوا وذكّروا بالقرآن وبمنهاج الله واجمعوا الناس عليه !
(1) صحيفة الحياة ـ العدد (15009) السبت 12/3/1425هـ / 1/5/2004م.
(2) أبو داود : 34/6/4607 ـ الترمذي : 24/16/2676 ـ ابن ماجه : المقدمة : 35.
(3) د. محمد حميد الله : مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ، ـ دار الإرشاد ـ بيروت ، ط3 ، ص : (44 بند 22 ).(/3)
الحداثة وأثرها في موضوعات الأدب الإسلامي ومصطلحاته
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
لقد طرح مؤتمر الهيئة العامة السادس المنعقد في القاهرة (6-9/6/1423هـ الموافق 15-18/8/2002م) لرابطة الأدب الإسلامي العالميّة موضوعات ومصطلحات متعددة. لو طُرِحت هذه الموضوعات والقضايا والمصطلحات قبل نصف قرن أو أكثر في ميدان " الأدب العربي " آنذاك، لوجدت استهجاناً وغرابة من كثير من الأدباء ورجال العربية وعلمائها وشيوخها، إلا أولئك الذين كانوا وما يزالون يعملون في شبه خفاء، أو متردّدين بين الخفاء والإعلان، لأجل الحداثة ومذاهبها، بإصرار وعزيمة وتحدٍّ، لم يفطن له الكثيرون من الحريصين على اللغة العربيّة وعلى دين الله الحق ـ دين الإسلام.
وامتدت السنون حتى أخذت تلك الموضوعات ـ موضوعات الحداثة ومصطلحاتها ـ تبرز شيئاً فشيئاً، كأنها ماضية على نهج مدروس وخطة واعية، دون ارتجال ولا عفويّة. وقد ارتبط هذا البروز ببروز شيء آخر أوسع وأشدّ خطراً، ألا وهي العلمانية بزخرفها الكاذب وزينتها الخادعة وحليِّها المزيّفة، تدفعها إلى العالم الإسلامي دول قويّة، وأجهزة فعّالة متخصصة، ورجال أعطوا جهدهم للباطل ونصرته، ولمحاربة الإِسلام ولغته وأهله. يتم ذلك والمسلمون في غفلة وسبات!
أخذت تنتشر تلك الموضوعات والمصطلحات، فقابلها بعضهم بنفور ارتجالي، ورفض عاطفي، وضجيج آنيّ. ومع إصرار أهل الحداثة والعلمانيّة، ومع وهن المسلمين وتهاونهم، بدؤوا، أو بدأ بعضهم يألف تلك الموضوعات والمصطلحات، ومع إصرار أصحابها تحّولت الألفة إلى قناعة، ثم تحولت القناعة إلى ممارسة واتباع، ثمّ إِلى تَبَنٍّ ودفاع، ثم إِلى دعوة وصراع!
وكان هذا كله أول الأمر محصوراً برجال نفضوا أيديهم من الإسلام، ومن الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، فعُرفوا بالكفر والإلحاد الصريح، وسبّ الله ورسوله في صحفهم ومجلاتهم، في نثرهم وشعرهم. وانتقلوا إلى المجابهة الصريحة تدعمهم القوى الأجنبيّة تجود عليهم بالتكريم والجوائز و الأوسمة وأمثال ذلك، في دعمٍ علنيّ جريء، خلاف الدعم الخفيّ ! وتجود عليهم بالخطة والتوجيه والإعلام.
ومع إصرار أهل العلمانية والحداثة ممن هم من أبنائنا وأهلينا، مع إصرار هؤلاء وامتداد الدعم لهم، وضعف المسلمين وغفلتهم، أصبح بعض من ينتمي إِلى الإسلام ينادون بتلك الموضوعات ومصطلحاتها، وأفكارها نثراً وشعراً، وانتقل الفكر والمصطلح إلى قلب المسلمين، إلى قلب مجتمعاتهم، وإلى قلب الحركة الإسلامية!
وأصبحت ترى بعض تلك الأفكار والمصطلحات في الصحف الإسلامية ومجلاتها، وفي بعض الكتب الصادرة عن بعض أبناء الإسلام ودعاته، وأصبحت الفتاوى تنطلق بجرأة وعلانية لم تكن قبل ذلك ميسَّرة لأحد.
وأصبح هؤلاء هم الذين ينالون الحظوة والرعاية، وتُفْتح لهم الأبواب المغلقة، وتمتد الحفاوة، ويُسْكت عن آثامهم. ولا يتردّدون في أن يحتموا بكل ما يمدهم بالعون، رجالاً وأفكاراً، ومذاهب شتى. يحتمون بكل ألوان العصبية الجاهلية، حيناً بالقبليّة وحيناً بالوطنية، وحيناً بالإقليمية، وحيناً بالقومية، وحيناً بالعائلية، ينفذون من خلال ذلك إِلى أَوساط المسلمين فيعملون فيها فتنةً وفساداً، وهم يجدون لهم أَعواناً وأَنصَاراً.
لم تنحصر فتنتهم بالشعر أو النثر أو الأدب كله، بل امتدّت إلى الفكر والتصور والعمل. امتدت إلى القيم والمبادئ والعلاقات والروابط. وهم يُلحّون بمبادئهم من علمانيّة وحداثة في جميع الأوساط بإصرار.
أصبحت ترى من بين المسلمين أنفسهم من يدعو إلى " العلمانيّة " بوضوح وجرأة، ويقول إنها مساوية للإسلام بمقصودها. وأصبحت تجد من تفرَّغ للدعوة إلى الديمقراطية وهو داعية مسلم، ترك الدعوة إلى الإسلام وملأ الدنيا بدعوته إلى الديمقراطية. تغيّر مفهوم الحرّية إلى التفلّت من القيم، إلا تلك القيم التي تحمي المجرمين الظالمين. وأصبحت تجد من المسلمين من يدعو إلى مساواة المرأة بالرجل، أو الرجل بالمرأة، استرجلت بعض النساء، وتشبّه بعض الرجال بالنساء ! وأصبحت تجد ممن ينتمون إلى التفكير الإسلامي من يدعو إلى تطوير الفقه تطويراً يحلَّ ما حرّم الله. وتوالت نماذج شتى من الانحرافات لا تكاد تقع تحت حصر أو تُحَدّ بحدود، وكأنما الزمام أفلت!
لقد كان من أهم ما لجأ إليه أهل الحداثة والعلمانية الشعر، لمعرفتهم أنه الأوفر حظاً في اللغة العربية في الانتشار. فاستغلوه أسوأ استغلال وأقبحه، وأصابوا نجاحاً غير قليل. استغلوا النغمة في الشعر ليشيعوا الفكر الذين يدعون إليه والفتنة والفساد، ثم استغلوها ليحوروها إلى نغمات مضطربة لا تقبلها أذن المسلم أولاً، لكنها تُرَدَّدُ وتُعاد حتى يُحْسَبَ النشازُ نغماً حلواً، والتفلّت شعراً منضبطاً، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق. وكان هذا ابتلاءً من الله سبحانه وتعالى ليمحّص النفوس ويكشف الوهَن الخبيء والمراءاة المطويّة، وربما كشفت الوثنيّة والشرك والكفر!(/1)
إنها سنّة الله سبحانه وتعالى أن جعل الحياة الدنيا دار تمحيص وابتلاء للناس كافة، حتى تقوم الحجَّة يوم القيامة عليهم أو تقوم لهم، على موازين قسط لا تظلم أحداً. كم من الناس لم تُعرَف حقيقتهم في الدنيا إلا من خلال ما سنّه الله من سنة الابتلاء والتمحيص، ومن خلال أحداث أو فواجع تكشف الموقف وما خبّأته الصدور.
لقد حملت إلينا العلمانية والحداثة الفكر اليوناني والروماني، وما حمل من أساطير وخرافات ووثنيّة وشرك. لقد أنزلت أوربا ذلك الفكر منزلة التقديس، ونُقِل إلينا بهذا التصوير والتهويل في واقعنا المعاصر، دون أن نكون بحاجة إليه، ودون أن يحمل لنا خيراً يرضي الله سبحانه وتعالى.
لقد اتصل المسلمون بالشعوب كافة خلال تاريخ طويل. واتصلوا بفكرهم وأدبهم، اتصلوا بالفرس والهند والرومان واليونان، وقامت حركة ترجمة واسعة حين كان الإسلام هو القوي، وحين كان المسلمون هم الذين يحكمون. وكانوا يردّون كل ما يصل إليهم إلى ميزان حق في أغلب الأحيان، دون أن يمنع ذلك حدوث سقطات يدور حولها خلاف.
لقد رفض المسلمون كلَّ فنٍّ نابع من الوثنية مرتبط بها. رفضوا التماثيل والنحت والتصوير المنهيّ عنه، وأبدعوا في فنّ الزخرفة والبناء. وحافظوا على خصائص لغة الإسلام وخصائص الشعر وموسيقاه وفنّه دون أن يحرّفوه، ولكن طرقوا به أبواب الحياة وميادينها، وأبدعوا في فنون تلائم اللغة العربية، كالمقامات والرسائل وغيرها، وجعلوا من الشعر بأوزانه وقوافيه ميداناً ممتداً كالبحر، يطرق أبواب الحياة وآفاق الكون، دون أن يكون الوزن والقافية حاجزاً أو معيقاً. وإنما أخرجوا لنا فوائد وجواهر يعجز الشعر غير العربي عن بلوغها. عرف المسلمون ما يمكن أخذه والاستفادة منه، وأعادوا صياغته ليكون فنّاً إسلامياً صافياً. وأخذوا من العلوم التطبيقية، ثم أبدعوا فيها وأنشأوا علم الجبر واللوغاريثمات، وأبدعوا في الطب والفيزياء وعلوم أخرى.
أراد المسلمون أن يأخذوا ما يعينهم ليكونوا أمة قويّة عزيزة تحمل رسالة الله إلى الناس. أخذوا ما يزيدهم قوة ويعينهم على الدعوة والبلاغ والنفاذ إلى الشعوب كلها ليُقَدِّموا لها الخيرَ العظيم الذي يحملونه. لم يكن المسلمون أَتباعاً ولكنهم كانوا مبدعين يبنون حضارة إيمانيّة تحمل طهارة الإسلام ووجدان الإيمان والتوحيد، ويدركون حقيقة مسؤوليتهم في هذه الحياة ودورهم في الوفاء بالعهد والأمانة والعبادة والخلافة والعمارة. لذلك رفضوا أن يأخذوا ما يُفْسِد إشراقة الطهارة ونقاوة الإيمان وعظمة الإحساس بذلك كله، الإحساس بعظمة رسالتهم التي جعلتهم خير أمة أُخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
هذا الشعور والإحساس، وصدق العاطفة والوجدان، لا تجده عند أولئك الذين حملوا العلمانية والحداثة إلينا، ثم انقلبوا علينا يعيبون علينا ما نعتزّ به، ويهاجمون ما نتمسِّك به لقد خرج من بيننا اليوم من يدعو بدعواتهم كما ذكرنا، ولكنهم قاموا بدور آخر ألا وهو مهاجمة الحق الذي لدينا. يدعون إلى الباطل ويحاربون الحق!
عابوا علينا الطهر الذي نعيشه، ورفضنا للرجس الذي غرقوا فيه. عابوا علينا التمسُّك بعبقرية لغتنا وجمال شعرنا وتميّزه من النثر، عابوا علينا عبقرية النغمة في شعرنا، يصوغها إِبداع الوزن وحلاوة القافية، وشرف ذلك كله.
وما كان لذلك من سبب إلا ما أصابنا من تفلّت عام وإقبال على الدنيا وشهواتها ولهوها ومتاعها، مما فتح للغرب ثغراتٍ كثيرة ينفذون منها إلى قلب العالم الإسلامي وأطرافه ونواحيه عدواناً وظلماً واحتلالاً، بجيوش زاحفة وآلات مدمّرة، ونحن في سكرات اللهو. فتتابعت الهزائم والفواجع، ومواقف الإذلال والهوان، وتتابع مسلسل التنازلات في جميع الميادين : الفكرية والأدبية والثقافية والسياسية والاقتصادية. ذلك بما كسبت أيدينا وبما ظلمنا به أنفسنا، فكان قضاء الله وقدره حقّاً لا ظلم معه أبداً.
ولم يقتصر الغزو على الغزو العسكري، وإنما رافقه أو سبقه أو لحق به غزو ثقافيٌّ وفكريٌّ واقتصاديٌّ، غزو شامل تعمل من أجله أجهزة ومؤسسات ودوائر وطاقات متفرغة لذلك.
أهم سبب لذلك هو توقف الدعوة الإسلامية بمفهومها المحدّد في منهاج الله، توقّف الدعوة والبلاغ، وتبليغ رسالة الله ودينه إلى الناس كافّة كما أُنزِلت على محمد صلى الله عليه وسلم دون تحريف ولا تبديل. ولو نظرنا إلى التاريخ الإسلامي كله لوجدنا أنه كلما صدق المسلمون بحمل رسالة الله أعزّهم الله ونصرهم وحقق وعده لهم. وكلما تخلوا عن الدعوة وأمانتها أمةً واحدة، حقّق الله فيهم وعيده وأنزل فيهم عقابه.(/2)
لم يكن العدوان الغربي بجميع جيوشه وشعوبه على دار الإسلام هو السبب الأول لهواننا، ولكنّ السبب الأول كان هوانَ أنفسنا وإقبالنا على الدنيا و إدبارنا عن الآخرة، وغلبة الجهل على الملايين من المسلمين، الجهل بكتاب الله وسنة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، ثم الجهل باللغة العربية، ثم غلبة الأهواء التي تسلّل من خلالها شياطين الإنس والجن. ثم استبدلت شعوب منتسبة إلى الإسلام لغات أخرى باللغة العربية، وضعفت اللغة العربية في الشعوب العربية نفسها وبين المثقَّفين، وحتى بين بعض الذين تخصصوا بدراسة اللغة العربية :
مَاليْ أَلومُ عَدوّي كلَّما نزلت
... ...
بيَ المصائب أو أرميه بالتُّهَمِ
وأدّعي أبداً أني البريء وما
...
...
حملتُ في النفس إلا سقطة اللمم
أنا الملوم ! فعهد الله أحمله
...
...
و ليس يحمله غيري من الأُمم
نعم ! نحن الملومون ! نحن المنتسبين إلى الإسلام ملومون، لأن الهوان ابتدأ فينا، في أنفسنا، وبما كسبته أيدينا!
وتوالت بعد ذلك هجمات الدول الغربية واشتد زحفها وزحف جيوشها وأجهزتها ومؤسساتها، وثقافتها وفكرها ولغاتها، حتى أصبحت تنال الفسحة الواسعة من إِعلامهم ومن إعلامنا، وضيّقت الفسحة على كلمة الإسلام ورجال الإسلام وأدب الإسلام.
وبرزت غربة المسلم بروزاً قويّاً، حتى بين إخوانه المؤمنين وبين أهله وقومه. وبرزت غربة الأديب المسلم والشاعر المسلم تتقاذفه أعاصير الحزبية، وتُغرقه أمواج الفتن، وتصارع الأهواء. وبرزت غربة الكلمة المؤمنة الصادقة وهي تبحث لها عن منفذ، وبرزت غربة المصطلح الإيماني، المصطلح الإسلامي الذي حملته آلاف السنين!
وتحوّلت بعض المفاهيم، ولبست بعض المصطلحات ثوباً جديداً لا يلائمها ولا يناسب جمالها ! الكلمة، والمصطلح، والموضوع، وكذلك الإنسان، هذا كله أصبح غريباً. أصبحت الهزيمة ليست في ميدان القتال ولا ميدان السياسة وأمثالهما فحسب، وإنما أصبحت الهزيمة في داخل النفس، وفي الإحساس والفكر والآمال.
و " الأدب العربي " لم يعد عربيّاً في جوهره. فلم تعد لغته اللغة العربية الصافية، بل غلبت العامية واللهجات المحليّة ودوّى بها الإعلام. ولم تعد صياغته هي الصياغة الأصلية ولكنها تفلّتت وتناثرت تحت مطارق شتى ! وكلما حاولت الكلمة الأصلية الطيبة المرتبطة بجذورها الغنيّة النفاذ، وجدت نفسها في زحام شديد تتدافع فيه النماذج المتهالكة المتفلِّتة حتى لا تترك منفذاً لغيرها.
وجاءت فكرة الأدب الإسلامي متأخرة كثيراً. جاءت لتزاحم أفكاراً وموضوعات ومصطلحات غربية تفرض نفسها بقوّة وعنف، أو تسلل في العروق والدم، فتختل الموازنة أحياناً، وتظهر الحيرة، ويبرز التناقض بين حملة الأدب الإسلامي نفسه.
يبدو أن أهل الحداثة تماسكوا في ما بينهم، وجمعوا صفوفهم، على كلمة واحدة، وعلى نهج وخطة مدروسة. وأمامهم المسلمون متفرّقين ممزّقين لا يحملون النهج الأصيل الحق الواعي، ولا الخطة الأمينة المدروسة. وأصبح تأثير أولئك أشدّ وأبعد، وتأثير المسلمين أضعف وأَوهى، والفرقة تتسع ولا تضيق. وأصبح الكثيرون ينظرون إلى الغرب نظرة العاجز إلى القوي، والمسود إلى السيّد، والجاهل إلى العالم. وأصبح عطاء هؤلاء هو التقليد الذي لا تجديد فيه، وهو التبعيّة العمياء التي لا عزّة فيها ولا وعي، وهو الانقياد إلى شعارات مدوّيّة تصكّ الأذان. انقطعوا عن جذورهم، وانفصلوا عن غِناهم، واعتزلوا أَمجادهم، وأخذوا يحطمونها تحطيماً.
أصبح أدبنا المنشور الممتدّ أدباً مستوراً في أحرف عربيّة وزخارف أجنبيّة، ومعانٍ تائهة، وفكر متهالك، ونماذج ساقطة ضائعة. ولكنها تمتدُّ وتتسع، وتضع بصمتها وآثارها، حتى في أجواء المسلمين. صار الانتماء إلى عصبيات جاهليّة زادت الفرقة والتمزّق، وزادت الغربة، غربة الفكر والكلمة والموضوع والمصطلح :
إذا نهضت وفاء الصدق مِن ذِممي
...
...
أنا الغريب ! وأرض الله واسعة
شعابُه كُتَلاً مقطوعةَ اللجُم
...
...
تغصُّ بالغُرباء الدرب فاختنقتْ
أهلي وصحبي ومن أفديهِمُ بدمي
...
...
أنّى تلفَتُّ أصبحتُ الغريب على
إلا عُرا الدين حبلاً غير منفصم
...
...
ما كنتُ أطلب وصلاً لا أُبدّله
إلا المودّة في قربى وفي رحم
...
...
ولا رجوت وداداً في مروءته
أزكى وأطيب ما يُرجى من اللُّحَم
...
...
من كان يطلب أنساباً دفعت لهم
زهواً على شرف ! مجداً على هِمَمِ
...
...
مضمخاً بدمٍ ! طيباً على عَبَق
عزّاً ويمضي مع الأيام في كَرَمِ
...
...
تراه يضرب في التاريخ أفرُعَه
بِظِلّها ونديٍّ وافر النعم
...
...
وشيجة الحق والإيمان وارفة
**
...
*
...
**
ولا الذي قطعته الأرض عن رحم
...
...
ليس الغريبُ فتىً أَلقته صحبتُه
وملء جنبيه عزمٌ غيرُ منهزم
...
...
ولا الذي غادر الأوطان مرتحلاً
مستمسك بالهدى بالله مُعْتصم
...
...
طوبى لكل غريبٍ صابرٍ شرفاً
من الكتابِ وآيات من الحِكَمِ
...
...
أنا الغريب إذا فارقت حانية
وصُحْبَةً من صفيِّ العهد والذّمم
...
...(/3)
وسنّةً من رسول الله مشرقَةً
ورحْت أضربُ في وهمٍ وفي رُجُم
...
...
أنا الغريب إذا جاوزتُ مَعْتقَدي
وعربَدَتْ شَهَوات العمرِ ملءَ دمي
...
...
أنا الغريبُ إذا استسلمتُ عبد هوى
نفسٌ إلى صنمٍ يهوي إلى صَنَم
...
...
وغربَةُ النفس تُشقي كلما نَزَعَت
زخارف كذبت في الساح والأكم(1)
...
...
وقسوةُ الذلِّ أن يرقى الشعار على
**
...
*
...
**
ومن هذا الظلام خرج شعراء أعادوا الشعر إلى إشراقة أصالته، وجمال عبقريته، وضربوا بشعرهم موضوعات متجدِّدة في حلية بهية. وإن كان بعضهم لم يلتزم بالصفاء الإيماني والغناء الفكري. فتنقّل بعضهم بين التزام وتفلُّت ليمثلوا مرحلة الحيرة والتردّد. وربما استفاد بعضهم من الغرب الزاحف، فاستطاع أن يطرق ميادين جديدة أَثرت الأدب.
ولكن ذلك لم يرقَ إلى صفاء الأدب الملتزم بالإسلام في موضوعاته وبعض مصطلحاته، فقد ظهر في مرحلة امتدّ فيها الغزو الذي عرضناه قبل قليل واشتد أثره. فنجا من كثير منه ذلك الرعيل الذي أعاد للشعر غناه وأصالته.
ولكن بعض النقَّاد الذين شدتهم زخارف الأدب الغربي ومصطلحاته، أرادوا أن يُخضِعوا الأدب العربيّ إلى تقسيمات الأدب الغربي من أدب كلاسيكي إلى رومانسي إلى واقعي إلى غيره من المصطلحات والتقسيمات خاضعين لتصوّرات لا يجدون لهم عليها برهاناً. وأخذت هذه المصطلحات تمتدّ وتنتشر على قدر عزيمة القوى التي تدفعها.
لم يكن لدى النُقاد ميزان واحد ثابت يحتكمون إليه. فظهرت مدارس متعددة تفاوتت في مقدار أصالتها أو تجديدها المتفلّت. مدرسة الديوان احتفظت بالقدر الجيد من الاعتصام بالأصالة، ومدرسة أبولو وأتباعها أسرفوا في التقليد والتبعية في المصطلح والفكر. والذين جاءوا بعد ذلك غالوا في التقليد الأعمى والتبعية الذليلة والتحلّل والتبرُّؤ من جذور أدب الأمة وعقيدتها.
بلغ الانحراف ذروته حين تحول ولاء نفرٍ منتسبين إلى أمتنا، من ولاء لأمتهم وموالاة لها إلى ولاء للسيّد الغريب الزاحف. فالشيوعي أصبح ولاؤه المعلن لموسكو، وتابِع الغرب أصبح ولاؤه لباريس أو لندن أو نيويورك وواشنطن، ولاء فكر وعاطفة، كلٌّ يمجِّد أسياده في شعره ونثره، في انحرافه الممتد.
دعوات كثيرة متصارعة نقلت ميدان صراعها إلى العالم الإسلامي، وتفجّرت مع كلّ دعوة موضوعات ومصطلحات تتدفّق كأنها الطوفان : الماركسية، اللينينية، الشيوعية، الاشتراكية، الكلاسيكية، الرومانسية، الواقعية بأنواعها، الرمزية، الوجودية، الحداثية بمذاهبها، البنيوية، التفكيكية، الأسلوبيّة، إلى غير ذلك من الخليط العجيب الذي غزا أو زحف أو تسلل إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي.
وتكرّرت ألفاظ ومصطلحات عربيّة في موضوعات منحرفة فاسدة : الخمرة، الخطيئة، الإله، الشيطان، ومصطلحات نصرانية : الصليب، الأيقونة، القدّيسين، وغير ذلك.
وجاءت اشتقاقات غربية : اللاحقيقة واللاواقع، الممرئيّة، التموضع الزمكاني، الرؤيوية، الخ...!
وألفاظ ومصطلحات عائمة لا تحمل معنى محدّداً ولكن تجرّ الإنسان جرّاً إلى متاهة وضياع : العمل المغلق، اعتباطيّة الإشارة، الفحص الاستبدالي...!
وفقدت بعض الكلمات العربيّة معناها وانحرفت مع المذاهب الجديدة إلى متاهاتها وضلالها، وإلى غموض وإبهام مقصودين.
ودخل في الشعر أسماء رموز مستقاة من الوثنية بمختلف مذاهبها وأشكالها في التاريخ البشري : أبو لو، افرودايت، زيوس، سيزيف، أدونيس، بعل، جلجامش، عشتار، وغير ذلك مما يطول عرضه.
ولقد كان من شدّة تأثير هذه التيارات والمصطلحات أن دخلت في نصوص بعض الشعراء المسلمين، ليس في مجال نقدها وانتقادها، ولكنها في مجال انسياب مُرضي، وتسلُّلٍ خفي، ينفذ من ثغراتِ خللٍ في التصور الإيماني وصفاء التوحيد، وشدَّة التأثر بالغرب ومذاهبه. نظرة سريعة لتاريخ أوروبا الممتد حتى الحرب العالميّة الأولى والثانية وحتى اليوم، نجد الصراع بين الوثنيّة المستقرّة والنصرانية الوافدة، ثم الصراع بين مذاهب النصرانية التي انحرفت عن رسالة عيسى عليه السلام، ثم الصراع بين الكنيسة وبين الملوك والأباطرة والعلماء، هذا كله أثر أبعد التأثير في الفكر الأوربي وولّد فيه المذاهب المتعدّدة التي ذكرنا بعضها، المذاهب التي تدل بوضوح على الحيرة والتردّد والرغبة في التخلّص من الواقع المؤلم في أوروبا، حتى أصدر مارينيتي سنة 1915م كتاباً أسماه : " الحرب هي العلاج الوحيد للعالم ". وكانت الحرب العالمية الأولى التي حطمت نفسية الإنسان الأوربي تحطيماً كبيراً، فانفلت في متاهات واسعة، وجاءت الحرب العالميّة الثانية لتتابع مهمّة تحطيم النفسية والفكر. فجاءت المذاهب الأدبية المتصارعة المتفلتة ثمرة هذا الصراع الطويل والحروب المدمرة، لتُعبّر عن فقد الإنسان الغربي الأوربي أمله وثقته بالماضي والحاضر والمستقبل، بالدين، بالقيم، بالوطن، بالأخلاق ! بكل شيء!.(/4)
هذا اليأس والإحباط ولّد أدبه في موضوعاته ومصطلحاته، أدب الضياع ! هذا الأدب الضائع هو الذي اتبعه بعضنا في موضوعاته ومصطلحاته، أَو في أكثرها. وكان الاتباع تقليداً أعمى لا إبداع فيه، تقليداً ترك الجوهر الثمين الذي هو لديه، وأخذ الزخرف الكاذب من هناك. ثم افترى أصحابه فرية كبيرة حين قالوا : هذا هو التجديد. وانساقت بعض الألسنة والصحف والمجلات وغيرها تردّد شعارات هذا التجديد وتدعو له، في مرحلة غفل فيها المسلمون غفلة واسعة.
ولقد تمادى أتباع الغرب كثيراً، حين أرادوا أن يطبّقوا موضوعات الغرب ومصطلحاته على اللغة العربية وأدبها. يريدون أن يوجدوا في تاريخ أدبنا مرحلة الأدب الكلاسيكي ثم مرحلة الأدب الرومانسي، والأدب الكلاسيكي هو في أساسه تقليد لأدب اليونان وفكره الذي هو بدوره تقليد الطبيعة في صورة وثنيّة. فأين ذلك من تاريخنا وتاريخ أدبنا؟
ويريدون أن يطبقوا قواعد النقد على أدب الإسلام ولغته العربية، وأنَّى يصحّ هذا ؟! الأدب من منابعه الفكر والعقيدة واللغة ! فلا جلال الإسلام ولا عظمة اللغة العربية يدانيهما الفكر العلماني ولغاته المتعدّدة. اللغة العربيّة متميّزة من جميع لغات العالم، والإسلام متميّز من جميع المبادئ والأفكار.
وانطلقت العلمانية تحمل ذاك الأدب الضائع لتنشره في الأرض كلها، مع مفاسد العلمانية وفجورها وفتنتها. فما عاد يصلح قياس ولا مطابقة ولا اتباع لمن أراد أن يصون دينه ولغته، إيمانه وصدقه ووفاءه.
الإسلام جاء ديناً من عند الله وحياً على محمد صلى الله عليه وسلم في رسالته الخاتمة، وحياً من عند الله باللغة العربية. فارتبطت اللغة العربية بالإسلام إِيماناً وتصديقاً، وأصبح فرضاً على كلِّ مسلم أن يعرف العربية ويتقنها حتى يتدبر منهاج الله. فإن لم يفعل فذلك إثم ارتكبه، وما أطاع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فللإسلام في ميزان الله ورسوله لغة واحدة هي اللغة العربية، وللأدب الإسلامي لغة واحدة هي اللغة العربية، فإنما نقبله تحت ضغط الواقع والضعف الذي يطغى والهوان الذي غلبنا. ولكننا نظلّ نذكر كل مسلم بوجوب دراسة اللغة العربية وإتقانها، فهي لغة الوحي والنبوة والكتاب والسنة، ولغة الشعائر و الطاعات والدعاء.
أما باقي المبادئ والأفكار في العالم، فلم يفرض أربابها لغة واحدة يعبدهم بها أتباعهم. فكانت الاشتراكية والماركسية والديمقراطية والعلمانيّة والمذاهب الأدبية المختلفة تمضي بلغات مختلفة، كلُّ طائفة من الأتباع لهم لغتهم. فجاء أدب هذه المبادئ بلغات مختلفة. ولكنّ هذا الحال لا يقاس عليه حال الأدب الإسلامي، حين جعل الله للإسلام لغة واحدة نزل بها القرآن الكريم.
إِن مهمّة الأدب الإسلامي اليوم أن تعيد للأدب أصالته وللشعر أصالته، ليُنَقَّى من لوثات الموضوعات التي فُرِضَتْ علينا اليوم، والمصطلحات التي انتشرت بيننا، وما أثارته تلك المصطلحات والموضوعات من بلبلة وحَيْرَة واضطراب في تصوّرنا لأدبنا ولغتنا وشعرنا ومنزلة ذلك كله.
التفعيلة والنثر في الشعر مصطلحات دخيلة، أثارت موضوعات من الغموض والإبهام. مفهوم الشعر ذاته اضطرب اضطراباً كبيراً على أثر تصورات الحداثة والبنيوية، وسوء مسالك الأسلوب والأسلوبية ومذاهبها المتناقضة وما طرحه ياكبسون من "نظرية الاتصال"! وما طرحه أدونيس من غيبوبة وسكرة وخمرة ومتاهة في "اللامحدود واللانهائي واللاواقعي".
مهمة الأدب الإسلامي مهمة كبيرة ومسؤوليّة عظيمة سيحاسب عليها الأدباء المسلمون في الدنيا والآخرة. إنها أمانة ورسالة، وإنها عهد مع الله وميثاق. إنها من أمانة الإسلام ورسالته، لا تنفصل عنه أبداً.
لا بد من نفي الغموض والإِبهام والحَيرة والتيه من أدب الإسلام، حتى يساهم الأدب في حمل الرسالة الربانية التي تزيد الجلاء في بلاغها، والبيان في لغتها، والوصول إلى الناس كافة!
لقد أصبح من المسلمين وممن ينتسبون إلى الأدب الإسلامي من يدعو إلى نفي " الموعظة " من الأدب الإسلامي، ساخرين بالموعظة على إطلاقها، جاهلين أو متجاهلين أن القرآن كله قد سمّاه الله موعظة، لتكون الموعظة شفاءً لما في الصدور، وهدى ورحمةً للمؤمنين. فالذين يدعون إلى ترك الموعظة على إطلاقها إنما يدعون إلى ترك الشفاء والهدى والرحمة :
( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين )
[ يونس : 57 ](/5)
لقد أصبح من المسلمين ومن شعرائهم من يدعو إلى إمكانيّة التنازل عن القافية والوزن في الشعر الإسلامي، وإلى ما يسمُّونه بقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، يتنازلون عن الوزن والقافية في الشعر الإٍسلامي، وإلى التزام ما يسمُّونه بقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، يتنازلون عن الوزن والقافية وهما أساس الشعر في اللغة العربية كما تلقّيناه، وكما عرّفته المعاجم، وكما التزمه الشعراء العرب والمسلمون قروناً ممتدّة حتى يومنا هذا، وكما عرّفه الأدباء والفقهاء والعلماء خلال هذه القرون الطويلة، يتنازلون عنها، وفي الوقت نفسه لا يتنازلون عن التصوّر الوثني للملحمة، ويرفضون التصوّر الإيماني النابع من الكتاب والسنّة واللغة العربية وحاجة واقعنا اليوم، مع الحجّة والبيان والبيّنة، ثاروا وغضبوا وأبوا أن تُمَسَّ " قدسيّة " التصور الوثني بطوله وحجمه وفنّه، قدسيّته التي تبنَّتْها أوروبا باختلاف مذاهبها الفكريّة والأدبية، حتى الحداثيّة التي تنكر القديم كله إلا أساطير اليونان!
تناقض عجيب ! لا يمكن تفسيره إلا بأن سلطان الحداثة وسلطان القوى الدولية التي تدعمها أصبحت أقوى من سلطان الدين الإسلامي وسلطان اللغة العربية في بعض النفوس!
(1) ملحمة الغرباء للمؤلف : أبيات مختارة من صفحات : 145 ـ 150.(/6)
الحداثة والميلاد الميت
أ.د/
جابر قميحة
komeha@menanet.net
(1)
لبيت دعوة الأخ الدكتور الأديب الشاعر عبد الولي الشميري للاشتراك في ندوة الملتقى الثقافي الذي عقده على ظهر الباخرة "السرايا" الراقدة على صفحة النيل بالجزيرة، وكان موضوع الندوة ـ أو المناظرة ـ "الأصالة والحداثة" وأمام جمهور كبير من المثقفين وأساتذة الجامعة، والشعراء، والأدباء، ورجال الصحافة، وكذلك من المتشاعرين والمتأدبين، وعلى مدى ثلاث ساعات ساخنة اشتد بيننا النقاش والجدل، وكنت واحدًا من ثلاثة يناصرون الأصالة في مواجهة ثلاثة يناصرون الحداثة، ويمثلونها بل يعيشونها، وأنا في هذا المقال لا أعرض وصفًا وتحليلاً لهذا الملتقى، فهي مهمة الإخوة الصحفيين، ولكني أعرض ـ بإيجاز شديد ـ رؤيتي التي طرحتها في هذا الملتقى، واعتمدت في عرض رؤيتي على الارتجال ـ غير المكتوب ـ انطلاقًا مما ألقاه المشاركون الآخرون، وتعليقًا عليه، موافقة وتأكيدًا، أو رفضًا ونقضًا، أو إنشاء وإبداعًا، وما أقدمه في هذا المقال لا يعتبر تكرارًا لما طرحته في المناظرة؛ لأنه لا يمثل نقلاً حرفيًا، ولكن خطوطًا عريضة لما قيل؛ ولأن عدد الذين حضروا اللقاء، وإن أربوا على خمسمائة، لا يمثلون أكثر من واحد بالمائة ممن يقرءون ما كتبته في الصحف عن الحداثة، أي أن الغالبية العظمى تتلقاه لأول مرة.
الحداثة المقبولة
إننا نرتكب خطأ فادحًا لو رفضنا الحداثة بإطلاق، وكذلك لو قبلنا الحداثة بإطلاق، والصحيح أن نقبل الحداثة إذا قصد بها: التجديد المتزن الذي يعتمد على ركيزتين:
الأولى: مراعاة معطيات التراث، ورصيدنا الديني والقيمي عقيدة، وفكرًا، وتاريخًا.
والثانية: الاستعانة بالأساليب الجديدة، والآليات الفنية والأدبية الحديثة التي تُكسب الإبداع مزيدًا من القدرة والثبات والتأثير والانتشار.
فهي إذن عملية "توفيق" عاقلة، تتفادى التحجر والجمود من ناحية، وتتفادى الطيش والاندفاع والإسراف والتطرف من ناحية أخرى، والحداثة بهذا المفهوم تعني "التجديد العاقل المنتج الذي يسعى إليه من يملك ـ بحق ـ آليات الإبداع، ومتطلبات الفن الصحيح السديد".
الحداثة المرفوضة..
أما الحداثة المرفوضة فهي تلك القائمة المقيمة على الساحة المصرية والعربية، ويتولى كِبْرها ـ بالنصيب الأكبر ـ من يطلق عليهم شعراء السبعينيات، ونحن نستخلص أبعاد هذه الحداثة وسماتها من مصدرين أساسيين:
الأول: أدبيات هؤلاء الحداثيين وإبداعاتهم، وخصوصًا الشعر.
والثاني: التنظيرات والتقييمات التي قدمها، ويقدمها الكتاب والنقاد الحداثيون، والذين يقفون في صف الحداثة، ويباركونها في دراسات ومقالات وكتب لعل أهمها وأضخمها كتاب: إدوارد الخراط "شعر الحداثة في مصر" ويقع في قرابة سبعمائة صفحة، وأصدرته الهيئة العامة لقصور الثقافة في ديسمبر 1999م.
ويدخل في هذا النطاق ـ كذلك ـ ما يبوح به الشعراء الحداثيون في ندوات، ولقاءات، ومقالات يشرحون فيها وجهتهم، وأبعاد مذهبهم، ومنهجهم الفني. ولعل الغموض الشديد الكثيف الذي يستعصي على أي عقل أهم سمات "القصيدة الحداثية" وأفدح عيوبها، وأذكر ـ بهذه المناسبة ـ أن أحد "الشعراء الحداثيين" قرأ عليّ القصيدة التي يعتز بها، فلما أبديت له عجزي عن فهمها، ظهرت على وجهه أمارات السعادة، وقال: شهادتك هذه تدل على أنني ـ وُفقت إلى أقصى حد ـ في نظم هذه القصيدة؛ لأن الهدف ليس "الإفهام" ولكن الغاية التي نجحتُ في تحقيقها هي أن قصيدتي "خلعتك" من جو "الصحو المكشوف" إلى جو "العبير الغامض" (!!).
كما أذكر أنني وزعت على طلاب السنة النهائية بالجامعة قصيدة "مشهورة" لحداثي، وطلبت منهم أن يكتبوا مضمونها في إيجاز شديد، أو ـ على الأقل ـ الفكرة الرئيسية فيها, فعجزوا جميعًا.
ويذكر من حضروا الملتقى الأخير "بالسرايا" أنني عرضت عدة أسطر من قصيدة حداثية على "شاعر حداثي" مشهور، وطلبت أن يكتب لي فكرتها الرئيسية في سطرين أو أكثر، فأتاني ـ بعد انتهاء اللقاء ـ مبديًا أسفه وعجزه عن فهم المكتوب.
وكل أولئك كان ردًا عمليًا عما ينقض اتهام زملينا "الناقد الحداثي الجامعي الكبير" لنا بأن "انغلاق" القصيدة الحداثية لا يرجع إلى غموضها، ولكن يرجع إلى "عجزنا" عن الفهم، أو لقراءتنا لها "قراءة رديئة".
الغموض الخلاق ؟؟!!!
ولكن الأستاذ إدوارد الخراط ـ ومعه حداثيون آخرون ـ يعترفون بهذا الغموض، غير أنهم يصفونه "بالغموض الخلاق" فالشاعر الحداثي ـ على حد قولهم ـ "يحاول أن يحقق صورة عن العالم مكتنزة الدلالة، وممتلئة بمعان لا تستنفدها الأزمان، وهو حين يدخل عتامة الغموض والتركيب، فإنما يفعل ذلك وعيًا بضرورة أن تكون قصيدته علامة تدل على العالم وتفعل فيه".
ومعذرة ـ أيها القارئ ـ هل فهمت شيئًا؟ أنا شخصيًا لم أفهم شيئًا!! إنه التمادي في التمادي، والغموض المركب بالغموض، فكيف يكون هذا الغموض، "خلاقًا" يا عالم؟!!
غموض.. غموض.. غموض(/1)
فالغموض الكثيف المعتم ليس في القصيدة الحداثية فحسب، ولكنه ـ أيضًا ـ يثقل مقولاتهم التنظيرية والنقدية، ومن هذه المقولات، وما أكثرها!!
ـ اللغة ليست إخبارية، ولكنها تكاد تكون مكتفية بذاتها.
ـ القصيدة لا تصور الواقع، ولكنها هي الواقع نفسه.
ـ المتلقى مشارك مبدع، مثل الشاعر نفسه.
ـ الشكل مضمون أيضًا، إنه أيضًا يقول..
ـ ويقول "إدوارد الخراط": "الحداثة عندي هي القيمة التي تتوفر في كتابات الصوفية القدامى من النفَّرى والجنيد، وابن الفارض، وابن العربي".
وهي كلمات يرتكز عليها الحداثيون، وكثيرًا ما يسوقونها في مقام الدفاع عن غموضهم، كأنهم يريدون أن يقولوا: إن هؤلاء دخلوا التاريخ، واشتهروا على الرغم من غموضهم، فلماذا تخصوننا بالملام والهجوم لغموضنا؟!
وأنا أقول: إن التشبيه هنا مع الفارق الكبير جدًّا، فقد قرأنا ما كتبه هؤلاء جميعًا، وفهمناه، بما فيه من إشارات وإلماعات، وخفايا، بل إني كنت ـ وما زلت ـ أحفظ قطعًا من "المواقف والمخاطبات" لمحمد بن عبد الجبار النفري، ولكني أقرأ "أشياء" الحداثيين فلا أفهم، وآمل ألا يعتقد القارئ أنني أدعو ـ صراحة أو ضمنًا ـ إلى أن يكون الشعر مسطحًا مبسوطًا، سهل المأخذ، مباشر الأسلوب، فهذه سمة النثر، ورحم الله "أبا إسحاق الصابي" الذي قال: "إن طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه؛ لأن الترسل هو ما وضح معناه، وأعطاك سماعُه من أول وهلة ما تضمنته ألفاظه، وأفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه".
وهذا الغموض الذي أشار إليه "الصابيّ" هو الغموض الخلاق حقًا.
1 ـ لأنه يحمي القصيدة من التسطيح والتبذل والمباشرية.
2 ـ ولأنه لا يحول بين المتلقي والفهم، بل يدفعه إلى كد ذهنه، وإعمال فكره حتى يفهم القصيدة ويتفاعل معها، فهو يعني العمق، وتجنب التسطيح والابتذال.
فهذا إذن هو "الغموض الحميد" أما غموض الحداثة "فغموض خبيث" يهرب إليه الحداثي بسبب الإفلاس الفكري، أو عدم وضوح الفكرة في ذهنه، أو لضعفه في اللغة والأداء التعبيري.
غموض يحكم على القصيدة ابتداء بالإعدام، أو يحكم بأنها ولدت ميتة؛ لأنها لا تجد طريقها إلى عقول الأحياء.
ولم يكن "الغموض المعتم" هو "المسمار" الوحيد في نعش القصيدة الحداثية، ومنطق الحداثيين تنظيرًا ونقدًا، بل هناك "مسامير" و "مسامير" نتناولها بالحديث – إن شاء الله - في حدود ما طرحته في لقاء "السرايا" , لا اتخطاه .
(2)
أعتقد أنني لم أبالغ, ولم أسرف حينما وصفت قيام الحداثة بأنه ميلاد ميت, وهو وصف وراءه حيثيتان قويتان واضحتان: الأولي: أنها كيان غريب وافد غير أصيل أصرّ قوم - لأسباب لا يتسع المقام لذكرها - علي أن يعيش في أرض يرفضه فيها ترابها الطيب, ومناخها المعتدل, وهوائها النقي.
والثانية: أنها تحمل في كيانها بذور فنائها, كالوليد الذي ولد ممسوخ المظهر والمخبر, مختل الأجهزة, فقير الدم, مشوه الأعضاء.
الغموض المظلم!!
وقد ذكرت - فيما سبق - أنني في مناقشة هذه الحداثة أعتمد علي مصدرين أساسيين:
الأول: أدبيات الحداثيين وخصوصا الشعر.
والثاني: مقولات النقاد الذين يناصرون الحداثة, وكذلك مقولات شعراء الحداثة في عرض وجهة نظرهم, والدفاع عن مسلكهم الفني.
وما أقدمه ليس دراسة أكاديمية عن الحداثة, ولكنه وجهة نظر طرحتها في " الملتقي الثقافي " الذي عقده الدكتور عبدالولي الشميري علي ظهر السفينة «السرايا». وقد ذكرت أن الغموض المظلم الذي هيمن علي القصيدة الحداثية كان مسمارا حادا بشعا دق في نعش الحداثة, حتي إن المتخصصين في الأدب والنقد من أمثالنا عجزوا عن فهمها.
وقد رفضنا - في الملتقي - مقولة الدكتور صلاح فضل بأن ذلك لا يرجع إلي طبيعة القصيدة الحداثية, ولكن إلي تواضع «إمكانات الفهم» عند المتلقي, مما يقوده إلي «القراءة الرديئة». كما رفضنا بشدة وصف إدوار الخراط هذا الغموض بأنه «غموض» خلاق.
الوضوح الداعر..
ولكني - حتي أكون منصفا - أقر وأعترف أن هناك عددا كبيرا من القصائد الحداثية الواضحة التي لا يستعصي فهمها علي القارئ العادي, ولكنها للأسف تمثل عدوانا صارخا علي الأخلاقيات والحياء والذوق السليم. وأعتقد أن أي إنسان رزقه الله الحد الأدني من الذوق والرجولة والتعفف سيصاب بالدوار والغثيان, وهو يقرأ «لشاعر حداثي» مشهور في قصيدة له مشهورة أصوات ا لجنس الداعر المكونة من «الهمزة والحاء الساكنة» و«الهمزة والحاء المشددة المضمومة والواو والهاء» . واندمج هذا «الحداثي جدا», فأخذ يكرر «أصواته» هذه في استطابة, وتلذذ حقير.
ولن يملك القارئ السويّ نفسه من «القيء» وهو يقرأ لواحد آخر من الحداثيين جدا عندما يتحدث إلي حبيبته طالبا منها أن تذيب الفجور في كأسها, وتغرف العهر, وتسقي رحمها خمرا, لكي تنجب وليدا اسمه «سكر» بضم السين وتسكين الكاف:
ذوبي الفُجْر بكأسي واشربي
واغرفي العُهر, وها كأسي اسكبي
وارصدي الشهوة من حيث أتتْ
أنت رحم الخمرِ(/2)
فالسُّكْرَ انجبي!
ويقول:
يا سيدتي - يا حبي الآخر والأول
أصبحت من الكافر أكفَرْ
حبك علمني الإلحاد
ويقول عنها:
وماذا لو أضيعها
كمن قد ضيع اللهَ!!
وبأسلوب دعاري واضح جدا, يحكي واحد منهم في إحدي قصائده عن تجربة «لُواطية» كان هو ضحيتها. وإلي هنا أمسك عن عرض مزيد من شواهد هذا المستنقع الحداثي, مع أن تحت يدي - وأنا أكتب هذا المقال - «ركامات» أشد سقوطا وسفولا مما قدمت . كما أني لن أعرض نصوصا حداثية تتفجر بالكفر البواح, والعدوان علي الله والنبوات, والكتب المنزلة, كما أني حرصت علي إيراد الشواهد السابقة بدون نسبتها إلي «مبدعيها» (!!) حتي لا أتهم بالإثارة وتحريض الجماهير عليهم, كما يحلو للحداثيين أن يدعوا.
اعتراضات مرفوضة..
ويعترض الثلاثي المدافعون عن الحداثة, - وخصوصا الدكتور صلاح فضل - علي ما سقناه من شواهد لا أخلاقية من شعر الحداثة باعتراضين:
الأول: أن ما قدم من نصوص تدين شعر الحداثة إنما اقتطعت, وفصلت عن سياقها, و من ثم يسقط الاستدلال بها, لأنها لا تمثل رؤية كاملة.
والثاني: أن الأدب شئ, والأخلاق شئ آخر, فلكل منهما مجاله ونطاقة, ومن ثم كان للمبدع الحق في أن يقول ويكتب ما يشاء دون حجر علي حريته. ولو أخذنا «بالمعيار الخلقي» للحكم علي الإبداع لأسقطنا تسعين في المائة من تراثنا الشعري.
والأخذ بهذا المعيار سيصيب أدبنا بالضيق والضعف والتأزم والتقزم. والدليل التاريخي علي صحة هذا الحكم أن الشعر أصيب «بالضعف واللين» بظهور الإسلام, والتزام الشعراء بقواعده ومبادئه قولا وسلوكا.
إنها حجج ساقطة
وعن الاعتراض الأول أقول: هل يطلب منا - نحن «الأصاليين» - أن نقرأ علي الحاضرين دواوين حداثية كاملة حتي نثبت حكمنا? علي أن زميلي «الأصالي» الدكتور كمال نشأت قرأ من «النماذج» ما يكفي وزيادة. و معروف أنه يكفي - منهجيا - للتدليل علي ظاهرة أو حكم - انتقاء بعض النصوص بشرط أن تكون قاطعة الدلالة بلا تعسف وافتعال. وهي قاعدة يعرفها المبتدئون في دراسة مناهج البحث.
أما الاعتراض الثاني: فهو الأخطر, لأنه غاص بالمغالطات والأحكام العارية من الصحة, بعضها صريح, وبعضها ضمني..
1- فليس صحيحا أن أغلب شعرنا التراثي - حتي الجاهلي منه - يتعارض مع القيم الدينية والأخلاقية.. وأقول - علي مسئوليتي - إن الشعر الجاهلي - وهو الذي عاش في عصر وثني - لو عرضناه علي ميزان الإسلام لاكتشفنا أن ما يتعارض منه, مع القيم الخلقية لا يزيد علي خمسة في المائة, كما أن ذكر الشرك والأوثان فيه نادر جدا. ومن الشعراء الجاهليين من أرصد شعره كله للحكم والقيم الإنسانية العليا كأمية ابن أبي الصلت.
2- وقد يرفع بعضهم في وجهنا ورقة شاعر كأبي نواس, وأقول: حتي هذه الورقة لاتصلح دليلا في صف اعتراض الدكتور صلاح فضل, لأن شعر أبي نواس في الخمريات والغلاميات لا يمثل كل شعره, وللأسف شغل أغلب النقاد القدامي والمحدثين بهذه «الفاكهة المحرمة», فغضوا النظر عن طردياته و«وصفياته» وقصائده التوبية وهي عشرات من قصائده تتدفق بالإيمان والتوبة والزهد وذكر الله.
كما أن مؤرخي الأدب ونقاده اهتموا بشعراء القصور والعواصم كبغداد ودمشق, وأغفلوا عشرات من شعراء القري والصحراء والكفور لم تفسدهم مغريات الدنيا ومفاسدها, مثل يحيي بن المبارك اليزيدي, وكلثوم بن عمرو العتابي, وابن الخبازة, وسلمة بن عياش ... وغيرهم.
وإذا كان في تاريخنا الأدبي شاعر كأبي نواس له نوعان من الشعر: نوع متهتك يمثل الشذوذ والسقوط اللاأخلاقي. ونوع أبدعه استجابة لصوت الفطرة الإنسانية السوية السليمة, فلماذا يصر الحداثيون علي ستر النوع الثاني, بل محوه بالنوع الأول? أليس من الواجب - ونحن نبني شبابنا علي أسس سليمة قويمة, ونربي فيه حاسة التذوق الجمالي النقي - أن نعوده, وندربه علي معايشة «الأدب النظيف» بعيدا عن إبداع الدعارة والمستنقعات?
وليس معني ذلك أن نحرق هذا «التراث الأدبي اللاأخلاقي» وننسفه نسفا, بل علينا أن نحافظ عليه كمادة للدارسين والباحثين المتخصصين, دون أن نروج له في مدارسنا وصحفنا.
والدعوة إلي أخلاقية الأدب لا تعني التضحية بالجماليات الفنية تصويرا وتعبيرا في سبيل المضمون, بل هي دعوة إلي التكامل السديد السوي في المضمون والشكل بكل جمالياته.
3- والادعاء بأن الشعر ضعف ولان بظهور الإسلام وأخذ الشعراء أنفسهم به قولا وفعلا أكذوبة راجت طويلا ومازال لها سوق.(/3)
وإنما هي أكذوبة تعتمد علي خطأ منهجي وهو الحكم علي الشعر الإسلامي - لا بذاته ولذاته - ولكن قياسا علي الشعر الجاهلي, وأغفل من أصدروا هذا الحكم حقيقة بدهية وهي أن لكل عصر حساباته, ومعاييره ومواصفاته, والمطلوب من الشعر أن يكون تمثيلا صادقا لطبيعة العصر الذي يعيشه بكل أبعاده وامتداداته. وقد استطاع الإسلام أن يحول الطاقة الشعرية عند الشعراء إلي الطريق السوي: طريق النور والخير والتقوي والتسامح, وهو ما يسميه علماء النفس في عصرنا الحاضر باعلاء الغريزة والسمو بها, (SUBLIMATION) : فالفخر لم يعد بالأنساب والأحساب ولكن بالدين والتقوي والقيم, وشعر العدوان والإغارة والقتال تحول إلي الجهاد في سبيل الله, واختفي الغزل الفاحش والهجاء السافل, وظهر شعر الدعوة والدفاع عن العقيدة. وأمد الإسلام الشعراء بصور وأساليب جديدة من القرآن والسنة , مما يطول شرحه. فأين الضعف واللين يا دكتور صلاح??!!
مسامير ... مسامير
كان الغموض المظلم هو المسمار الأول في نعش الحداثة والقصيدة الحداثية. وكان «السقوط الجنسي الداعر» هو المسمار الثاني, ومازال هناك مسامير ومسامير أشرنا إليها في الدفاع عن «الأصالة» في ملتقي السرايا. وقد آن لنا أن نعرضها في السطور الآتية , متوخين الإيجاز .
(3)
هناك حقيقة يدركها حتي العوام من الناس, وهي أن الإنسان - بل الحيوان - يستريح, ويميل, ويستجيب بفطرته لكل ما هو منغوم منتظم: فالأم ترقًّص رضيعها وتدلّله بكلمات منغومة, وهو يفرح ويسعد بذلك. وفي الأدب العربي شعر كثير من «أدب ترقيص الأطفال». ونري الأطفال في بيوتنا -حتي الرضَّع منهم- يتمايلون ويهتزون للموسيقي التي تصل إلي آذانهم.
وقد أدرك البدوي من قديم بفطرته أن الإبل تنسي متاعبها - وهي تقطع آلاف الأميال في الصحراء - بموسيقي «الحُداء», وهو الشعر الذي يتغني به, ويتابعه فيه رفاق القافلة علي وقع خطوات الإبل.
وأثبت عالم هندي - بتجربة أجراها علي قطعة أرض مزروعة قمحًا - أن المزروعات يزيد إنتاجها, ويسرع نموها بعزف الموسيقي!! هذه الحقيقة أغفلها «شعراء الحداثة», فكان من حسناتهم - كما يقول إدوار الخراط - الثورة علي " أوزان الخليل, وتدمير التفعلية الوثنية المقدسة " أي الانسلاخ التام من البحور الشعرية ومن «تفعيلة» الشعر الحر». وهذا يعني - في إيجاز - الانسلاخ الكامل من «الموسيقي» مع أنها الفيصل الأساسي بين الشعر والنثر.
ولكن «الحداثيين» يزعمون أنهم - بعد أن نسفوا «الموسيقي السلفية الوثنية المقدسة» المتمثلة في البحور والتفعيلة - أتوا ببديل «شاف كاف» من وجهة نظرهم, وهو الجناس الناقص» وتكرار حرف معين في بنية عدد من الكلمات كتكرار حرف السين في «قصيدة» (!?) أحد كبارهم:
أرمي لكم قافية طرية سهلة الهضم
وأستل سينية سما وسيفًا وسهمًا
أوسوس لكم. وأسوسكم بسخطي..».
وهو عبث لغوي لا يعجز عن مثله الأطفال والعوام, وهو يذكرني بصاحب مطعم سمك في بلدنا «المنزلة» بمحافظة الدقهلية بمصر , كنت أضحك وأنا أراه - وكنت طفلاً - يطرد قطة شقية تضايقه «بخطف» سمكة, صارخًا فيها «بسْ بسّك داء السل, دا السمك غالي».وكان ذا لثغة , فكان ينطق الجملة هكذا " بث بثك داء الثل دا الثمك غالي " . ولم يدر الحداثيون أنهم بهذا «اللعب اللغوي» نسفوا ادعاءهم بأنهم «نسفوا السلفي القديم», وأتوا بالجديد الفائق» مع أنهم مسبوقون إليه بأحاديث ابن دريد ومقامات الهمذاني والحريري, ولكن علي نحو أرفع وأرقي. فالحريري مثلاً يكرر حرف اللام في العبارة الآتية من المقامة البغدادية «لم يزل أهلي وبعلي يحلون الصدر, ويسيرون القلب, ويمطون الظهر, ويولون اليد..», ومن ألعابه اللغوية الفذة: الأبيات «العواطل» وكلها غير منقوطة, والأبيات «العرائس» وكلها منقوطة وأنواع ثمانية أخري لا يتسع لشرحها المقام.
هذا هو شعر الحداثة: إغراق في الغموض والركاكة. وعدوان علي الدين والقيم واللغة والتراث وموسيقي الشعر. أما ما سموه بقصيدة «النثر» فنكبة أخري نختم بها هذه الحلقات .
( 4)
من الصعب وضع تعريف جامع مانع لما يسمي «قصيدة النثر». وإن كان المتاح هو التعرف علي أبعادها من مواصفات النصوص المعروضة التي يدعي مبدعوها أنها تمثل «قصيدة النثر».
ومن أوضح ما سجله الرافضون لها, وما أكثرهم!! ما تتمتع به من فوضي وانقلاب وتمرد عشوائي, وتنكر لكل مفاهيم البناء والشكل, وبخاصة البناء الموسيقي. واهمال الموسيقي معناه - كما يقول الدكتور محمد عبد المطلب - الإيغال في النثرية, وهي نثرية رديئة, لأنها استباحت كل محرم, وأهدرت مجموعة القيم الموروثة والمستحدثة, ورفضت التوصيل, وتجاهلت المتلقي تجاهلا تاما, ولم تقم اعتبارا لاحتياجاته الجمالية.
وفي كتابها «قصيدة النثر من بودلير إلي أيامنا» تؤكد «سوزان برنار» أنه يوجد في قصيدة النثر - في آن واحد - قوة فوضوية مدمرة تميل إلي رفض الأشكال الموجودة, وقوة منظمة تميل إلي وحدة شاعرية.(/4)
ومصطلح قصيدة النثر نفسه يشير إلي هذه الثنائية: إذ إن من يكتب بالنثر يتمرد علي التقاليد العروضية والأسلوبية.. ومن يكتب قصيدة يرمي إلي خلق شكل منظم, مغلق علي نفسه, ومنفصل عن الزمان. ص157.
إنها جنس وافد
والمعروف أن «قصيدة النثر» جنس وافد أطلقته, وتبنته مجلة «شعر», وهو ترجمة للمصطلح الفرنسي Poeme en Prose . وإن كان لها - كما يري بعض النقاد - حضور سابق علي مرحلة الحداثة, تحت مصطلح ثنائي أيضا هو «الشعر المنثور» أو «النثر الشعري», ولكن الحداثيين فضلوا مصطلح «قصيدة النثر» الذي وفد علينا, مع مجموع ما وفد من ظواهر الحداثة في الإبداع والنقد.
ولسنا في مقام تتبع ما أرسته التنظيرات من ملامح «قصيدة النثر», فذلك ما لا يتسع له المقام, ونري أن النماذج المتوافرة يمكن أن تبوح بكثير من هذه الملامح, من ذلك ما كتبه «أدونيس» تحت عنوان «تكوين»:
اخرج إلي الأرض أيها الطفل
خرج
هبط من الحرف
أ ح د= د ح أ الأرض
دائما يصنع طريقا لا تقود إلي مكان
أ ن أ
منفية بقوة الحضور
كالهواء
وهي هي
كل شيء يتغير ويتبقي
أ ن أ = أ ن أ.. إلخ.
عبثيات...عبثيات
وهذا الكلام المثقل بهذه الرموز, وهذه الحروف, وهذا الغموض والانغلاق والابهام, محروم تماما من «الشعرية» في معناه وفحواه, وموسيقاه, وقوالبه اللفظية الغريبة.
وعن «دفنتُ الأم» يقول الحداثي حلمي سالم:
هذه أمي علي باب وسط الدار
دلا لها بادي في حسرها غطاء الرأس
ومدينتها في الابتسامة
لكن نصفها الأسفل
- من الضلوع حتي البانٍتُوفًل-
متآكل
يلزمني أن أراها واقفة
لأنني عدت من دفنها
قبل أن يتاح لي أن أفرد أصابعها!
إنها «سطور» وعبارات لا يربط بينها ضبط فكري أو شعوري, مع جرأة علي حرمة اللغة العربية باستعمال كلمة أجنبية مثل «البانتوفل», وانغلاق في المعني. ومثل هذا «التشكيل» المشْكِل لا يشد إليه القارئ, ولا يهز منه فكرا, أو شعورا.
ويجمع «القصنثريون» - أي دعاة قصيدة النثر - إلي الغموض وانغلاق المعني - غثاثة الصور, ودمامة الخيال إلي درجة خدش الحياء, وإثارة الغثيان أحيانا, وأغلبه خيال جزئي تفسيري غريب, لا يصنع لوحة فنية, أو صورة كلية متكاملة. وذلك ما نراه في السطور الآتية, وهي بعنوان «فقط», من ديوان جرجس شكري «بلا مقابل أسقط أسفل حذائي»:
أتحسس وجهي, وأدخن تبغا رديئا
وبملل
أغلق النافذة
علي نصف قمر, وليل مر
وخيانة يوم
وعفونة آخر
لأصحو بسروال بللته الكوابيس
مع فتاة بغير ملامح
ويسقط كل الوقت
بين الصمت واللاشيء.
خلاصة المثالب ....
والنماذج التي قدمناها تبين - ولا شك - عما يثقل ما يسمي بقصيدة النثر من مثالب, وما يسجل عليها من مآخذ:
1- فهي تجنح إلي الغموض والانغلاق, وكأن الكلمات فيها رموز مبهمة توجه إلي لا شيء.
2- وهي خالية تماما من الموسيقي, وهي أهم ما يفرق بين الشعر والنثر.
3- وهي تفتقر إلي الترابط الفكري والشعوري بين أجزائها, مما يقطع بأنها لم تنطق من تجربة شعورية ناضجة صادقة, بل تنطلق من حرص أصحابها علي التغليق والتغميض, معتقدين أن هذا يمثل لونا من التفوق الفني.
4- وهي تتمرد علي المواريث الدينية والخلقية, وعلي القيم الفكرية والأدبية.
5- وهي تتوسع في الاشتقاقات اللغوية بلا ضوابط, وتدمر اللغة, وتخرج علي قواعدها, وتوظف الرموز الرياضية والهندسية, والألفاظ العامية والأجنبية, مما يفقدها تحقيق التناسب اللغوي في الأداء التعبيري.
فالواحدة من هذا اللون تتسع لألفاظ فصيحة, ومشتقات علي غير قياس, وكلمات عامية, وكلمات أجنبية, وأشكال ورموز هندسية وجبرية.
وهذا التنافر اللغوي يعد من أهم الأسباب التي تفقدها تكاملها وتماسكها, بحيث لا يؤثر في طبيعتها حذف جزئية من جزئياتها. إنها - كما يقول الأستاذ سامي مهدي - شظايا متناثرة لا يجمعها جامع, وركام من الألفاظ والصور لا ينتظمه خيط موضوعي, ولا ينظمه نظام. فلا عجب أن تولد ميتة, شأنها شأن كل «إبداعات» الحداثيين .(/5)
الحداثة
الأستاذ/ أنور الجندي
ليست دعوة مرحلية من دعوات التغريب في مجال الأدب ، ومن حيث تدخل في إطار السريالية والوجودية أو مذاهب الكلاسيكية والرومانسية والواقعية ، وإنما هي شيء أكبر من ذلك : إنها ثورة على الثوابت الإسلامية الأساسية عن طريقٍ خافت الضوء هو (الشعر) حتى لا تحدث ضجيجاً أو صياحاً يفسد عليها هدفها الذي تسير فيه حتى تصل إلى غايتها الخطيرة . وهي تقصد أساساً إلى محاربة القيم الإسلامية وإزاحة فكرة الأصول الثابتة ، بهدف تغليب طوابع التطور المطلق ، والتغيير المتوالى الذى لا يعترف أساساً بالضوابط والحدود .
ويرمي إلى فتح الطريق أمام حرية الإباحية ، وتمجيد العلاقة الجنسية ، والجرأة على أعلى القيم التي جاءت بها الأديان ، وذلك بتحطيم هذه الضوابط والحدود .
فهي عند فحص كتابات الداعين لها ، وتعمق كتاباتهم ( وخاصة مانشر من أبحاث مؤتمرهم الذي جمعت أبحاثه لتكشف عن أبعاد هذا المخطط الخطير ) يتبين أن وراء هذه الدعوة خطة رسمت بدقة وذكاء ومكر في نفس الوقت ، قام عليها الحاقدون على كل شيء طيب كريم في دنيا الإسلام والعرب ، وقد تعاقدت مطامحهم إلى توجيه ضربة للصحوة الإسلامية عن غير الطريق الذي يتوقع منه الضربات ، بل عن طريق مدخل ضيق قد لا يلتفت إليه الكثيرون وهو (الشعر)
وقد جاءت حركة الشعر الحر - شعر التفعيلة - وغيرها منذ ظهورها مقدمة ومدخلاً لهذا العمل الخطير ، قام على رأس هذه المؤامرة شاب علوي ، خدعه النصراني ( أنطون سعادة ) زعيم الحزب القومي السوري ، وليحمل لواء الدعوة إلى ما أسماه ( فينيقيا ) وتلقفته الجهات التي استثمرته لخطة عمل بعيدة المدى ( علي أحمد سعيد - أدونيس ) وقد أتاحت له تلك الجهات أن يحصل على الدكتوراه في الأدب العربي من معهد الدراسات الشرقية في الجامعة اليسوعية في بيروت ، برسالة عنوانها ( الثابت والمتحول : دراسة في الاتباع والإبداع عند العرب ) حاول فيها أن يهدم صرح العربية الشامخ ، ويثبت أن أصحابه غير مبتكرين أو مبتدعين ، ويبرهن على أنهم لم يقدموا شيئاً للإنسانية ، وفي وضع ( أيدلوجية ) دعوته إلى الحداثة التي خُدع بها عدد من الشباب العربي الذي عجزت خلفياتهم عن أن تحميهم من السقوط في هذا المستنقع .
دعاة الحداثة :
دعاة الحداثة كانوا كما يقول ( الدكتور حمد عبد العظيم سعود ) من أقليات بعضها ربما كان متهماً في دينه ، وبعضها كان لا يحظى من الأغلبية بنظرة ارتياح مطلقة ، أو أن هناك غالباً شيئاً عالقاً بالنفوس .
ففي سورية كان (علي أحمد سعيد) الذي زين له أنطون سعادة أن يغير اسمه إلى أدونيس) منتمياً إلى الحزب القومي السوري ، وهو حزب أعلن عداوته للإسلام والعروبة معاً ، إذ دعا إلى فينقة سورية ، ثم تحول أدونيس بعد ذلك إلى مذهب اللا منتمي ، وأدونيس هو القائل : إن السبب فى العداء الذى يكنه العرب للإبداع - كل إبداع - هو أن الثقافة العربية بشكلها الموروث هي ثقافة ذات معنى ديني ) ويعرف الأستاذ ولسون في كتابه (اللا منتمي) هذا المصطلح بقوله :
( لا صلاح لهذا العالم المليء بالمتناقضات إلا بالثورة والغضب وعدم الانتماء إلى أية قيمة أخلاقية من القيم الموروثة ؛ بل لا بد من مواجهة العالم بكل مشاعر الحقد والكراهية ) ويقول محمد الماغوط من زملاء أدونيس "على اللا منتمي أن يحس باللا جدوى ؛ لأن هذا الوجود بلا موقف ، ولا دليل ، ولا مستقر ، ولا مرشد . فليس للا منتمي موقف إلا الإحساس بالسأم ، ويتمني الموت والأنانية الفردية ورفض كل المعطيات الخارجية " .
وفي لبنان كان هناك ( سعيد عقل ) الذي بايعه بعض النقاد والشعراء بإمارة الشعر ، وهو الذي خرج بعدها ليعلن أن اللغة العربية لا تفي بالتعبير عن المشاعر ، ولا بد من استبدالها باللغات (اللهجات) العامية وأن هناك مشكلة في كتابتها ، فليست كل أحرفها منطوقة ، وبعض كلماتها ينقصها أحرف ، ولهذا كتب ديوانه (يارا) بلغة عربية في أحرف لا تينية وهو رجل (حراس الأرز) الذين جعلوا شعارهم قتل الغرباء (أي قتل المسلمين).
وفي مصر كان الدكتور لويس عوض ، وهو رجل كان يكرر في كل مناسبة أنه ليس قومياً ، وأنه علماني ، وقد لعب هذا الرجل دوراً خطيراً في الحياة الثقافية في مصر في الخمسينيات من هذا القرن العشرين ، حين كانت وسائل الإعلام كلها موجهة وتحت الرقابة الصارمة ، وكان هو المستشار الثقافي لجريدة الأهرام.(/1)
وقد قام لويس عوض - بروح متعصبة - دون أي شاعر عمودي يبتغي طريقه إلى وسائل الإعلام والنشر من إذاعة أو صحافة أو أي وسيلة أخرى إلى الجماهير ، كما يقول الدكتور طاهر أحمد مكي في كتابه "الشعر العربي المعاصر - دوافعه ومداخل لقراءته " : ( وأفسح المجال واسعاً عريضاً لكل من يكتب الشعر الحر ، وإذا نشر قصيدة عمودية لشاعر عمودي مثل كامل الشناوي "مثلاً" نشرها موزعة الجمل على نحو يوحي بأنها من الشعر الحر ، وفي ظل هذه الحركة تحول شبان كثيرون لا يزالون شاردين في عالم الشعر - وكان يمكن أن يصبحوا شعراء عموديين ممتازين - إلى شعراء يكتبون كلاماً تافهاً في الشكل الجديد ، وأصبحوا كما يقول الشاعر أدونيس وهو ليس متهماً في شهادته هذه ؛ لأنه من دعاة الشعر الحر المتحمسين له "في الشعر الجديد اختلاط وفوضى وغرور تافه وشبه أمية ، ومن الشعراء الجدد من يجهل حتى أبسط ما يتطلب الشعر من إدراك لأسرار اللغة والسيطرة عليها ، ومن لا يعرف من فن الشعر غير ترتيب التفاعيل في سياق ما ، إن الشعر الجديد مليء بالحواة والمهرجين " .
كان هناك بدر شاكر السياب ، وعبد الوهاب البياتي ، وهما من أخلص دعاة الماركسية نشر السياب قصائده وكلها صيحات إنكار وحيره بل وثورة على الله (جل في علاه) .
هذا أمر ، أما الأمر الآخر الذي يهدف إليه هذا التيار فقد كان واضحاً في تلك الرغبة المحمومة في إظهار الأحتقار للتراث الإسلامي العربي والزراية على الشعراء العرب القدامى المجددين ، ونعتهم بالصنعة والتكسب ، وإعلاء التراث اليوناني والروماني على ما فيه من وثنية .
ويسخر أدونيس من حادثة الإسراء في قصيدة (السماء الثامنة) .
ومعين بسيسو الماركسي يهزأ بالتراث وأعلام التاريخ ، ومن طريقة الإسناد في الحديث النبوي الشريف ويؤلف مقطوعة ساخرة (حدثني وراق الكوفة / عن خمار البصرة / عن قاضٍ في بغداد عن سايس خيل السلطان / عن جاريةٍ / عن أحد الخصيان) إلخ .. والحق أن الشعر الحر مترع بالدعوة إلى الإباحية على نحو لم يشهده الشعر العربي ، إلا عند بعض الشعراء الشواذ أو المنبوذين . والعجيب أن دعاة هذا اللون العجيب قد قفزوا في كثير من البلاد العربية إلى حيث التحكم في وسائل الإعلام ، حتى إنك تكاد تراهم يسيطرون سيطرة كاملة على هذه الوسائل في بعض بلدان العرب ، وفي هذا الجو الإرهابي أصبحت ترى شعراء عموديين يكتبون قصائدهم ، أو يعيدون كتابتها بعد تسطيرها وتبييضها وتقطيعها - إرضاء لهم وتقية - وقد ترجم كثير من تلك القصائد ؛ ليس لجودتها وإنما أولاً لسهولة ترجمتها لمستشرق شاذ ، أو لدوافع سياسية وعلل دينية .
ونحن نرجح أنها حركة مقصودة أريد بها طعن اللغة العربية ؛ لغة القرآن والإسلام وعمادها ؛ توطئة للإجهاز عليها . وستبقى العربية والشعر العمودي ، وسيبقى من فوقها القرآن والإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ولن يصمد هذا المسمى بالشعر الحر طويلاً لأنه لا يعلق بالذاكرة ، أو يفرط في الرمزية المطرقة الجامحة والغموض والتلفيق ).
وإذا ذهبنا نستعرض الدعاة إلى الحداثة نجدهم جميعاً من متعصبي الأديان الذين دأبوا على محاربة الإسلام واللغة العربية ، واتخذوا شعار الحداثة ستاراً ينفثون من تحته سمومهم ، ويظهر ذلك واضحاً في كتاب غالي شكري ( شعرنا الحديث إلى أين ؟ ) ومنهم أدونيس .
والماركسيون أكبر أعداء الإسلام : بدر شاكر السياب والبياتي ودنقل ، وشعراء المجون ، وكان القس (يوسف الخال) قد رسم الخطة لهؤلاء وساقهم إليها وهو مبشر نصراني يقول: (خاسر من يبيع ثلاثة ويشري واحداً) . يقصد بالثلاثة عقيدة التثليث النصرانية والواحد هو عقيدة الإسلام.
ومنهم أمير إسكندر (نصراني ماركسي) وجبرا إبراهيم ، وأسعد رزق ، ولويس عوض ، وخليل حاوي وتوفيق الصايغ ، وشوقي ابن سقا ، وميشال طراد ، وميشال سليمان ، وسعيد عقل ، وموريس عواد ، وكلهم نصارى ، ويقول الدكتور طاهر التونسي بعد هذا العرض : إنه حتى عندما انتسب إلى مدرستهم بعض من تسمى بالإسلام استعمل التعبيرات النصرانية ، ويبدو ذلك واضحاً في شعر بدر السياب الذي يدعي أن المسيح صلب وقد كذب وكذب أساتذته النصارى واليهود فما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ، ويذكر عن آدم وحواء القصة كلها كما روتها التوراة لا كما رواها القرآن .
وقد أشار لويس عوض إلى أن صلاح عبد الصبور يقرأ الإنجيل بحماسة ، وأنه دخل دائرة الخلاص المسيحية . ونجد التركيز على التراث النصراني والمصطلحات النصرانية في شعره ، وله قصيدة ( حكاية قديمة ) عن المسيح وصلبه ، ونظم بعض أبيات من ( نشيد الإنشاد ) ونجد ذلك في معين بسيسو ونزار قباني :
(مصلوبة الشفتين ، الصليب الذهبي) وعبد الوهاب البياتي ( في صليب الألم ) وأمل دنقل: (العهد الآتي).
أيدلوجية الحداثة:(/2)
أجمع الباحثون على أن ( الحداثة العربية ) هي ثورة متمردة على كل نظام وقاعدة وقانون ، وأنها ترمي إلى هدم الضوابط والحدود والقيم والقواعد التي قدمها المنهج الرباني إفساحاً للمنهج البشري : القائم على التحول الدائم ، ويرى بعضهم أنها ثورة اجتماعية هدامة ، تتخفى وراء نصوص الشعر والأدب لتحجب غايتها وحركتها ، ولذلك فإن دعاة الحداثة يهاجمون الثوابت التي قدمها الدين الحق في عنف شديد ، ويصفونها بالجمود والمحافظة والتحكمات . وقد وصفها الأستاذ محمد عبد الله مليباري بأنها باطنية جديدة تحاول غزو مبادئنا وقيمنا ؛ بدءاً من الشعر وانتهاء بالعقيدة الإسلامية ، وأن المسألة ليست أن يكون الشعر عمودياً أو غير عمودي ، أو تفعيلياً أو نثرياً ، ولكنها أكبر من ذلك ، إنها محاولة هدم في:
1- قضايا العصر : السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وما يتصل بها من تحرير وحرية وعدالة.
2- وقضايا العصر التعليمية والعلمية والفنية ، وما يترتب عليها من مشكلات .
3- وقضايا العصر الأدبية والفنية ، وما تستحدثه من أجناس ومدارس واتجاهات .
ويمكن القول إن هذه المؤامرة قد وضعت قواعدها على أساس حركة الزندقة القديمة ، وجماعة المجّان الذين كان على قيادتهم ( الشاعر أبو نواس ) الذي كان حاقداً على الإسلام ، والذي جندته قوى الباطنية والمجوسية والقرامطة ليهدم عن طريق الشعر جميع مقومات الثبات الإسلامي في البيئة العباسية ، وقد أعانه على ذلك مجموعة من الزنادقة والشعوبيين الذين تركوا تراثاً مسموماً استطاع المستشرقون إحياءه عن طريق شعوبي جديد يحمل في أعماقه جميع أحقاد المجوسية والباطنية .
وقد وضع أدونيس نظرية الحداثة على جملة أصول:
1- نظرية التطوير المطلق التي نقلها من فكر هيجل في دعوته إلى إلغاء الثوابت ، وهي نقيض نظرية أرسطو . وقد اصطنعتها القوى الصهيونية والماسونية لإحياء الفكر التلمودي وخلق نظرية تقول بأنه ليس هناك شيء ثابت أصلاً ، وأن كل شيء متطور ، وذلك لهدم ثبات الأديان والأخلاق والقيم . ويرون أن الإنسان هو محور العالم.
2- إحياء الوثنيات القديمة ، فقد كشفت رسالة أدونيس عن تقديره الوافر لفكر أبي نواس واهتمامه بفكر الملاحدة وأصحاب نظرية وحدة الوجود والحلول والاتحاد وإعادة إحيائها من جديد وهي الخطة التي وضع قواعدها المستشرق لويس ماسنيون .
3- تحطيم عمود اللغة العربية ، وهدف تحطيم الفصحى لغة القرآن هدف قديم وقد شارك فيه منذ بدأت حركة التعريب والغزو الثقافي ( ويلكوكس - لطفي السيد - سلامة موسى ، سعيد عقل - إلخ ) أملاً من هؤلاء الدعاة بأن تحطيم اللغة العربية سيحولها إلى المتحف ويفسح الطريق أمام تفرق الوحدة القرآنية الإسلامية الجامعة .
4- تحطيم عمود الشعر وذلك إيماناً منهم بأن عمود الشعر هو القاعدة الأساسية للأدب والبيان العربي بعد القرآن والسنة ، ومن هنا جاءت الحملة على الخليل بن أحمد وعلى كل الشعراء الملتزمين للنظم العربي الأصيل .
5- مهاجمة منهج الثبات والقيم ، وإطلاق اسم السلفية عليه ، والسلفية هنا تعني المعتقد الديني ، فالحداثة ترى أن الأفكار الباطنية والصوفية تحول من الثبات الديني بل تعتبر هذا التحول منطلقاً تاريخياً للحداثة العربية .
6- تغليب مفاهيم السريالية (النظرة التي لا يحكمها العقل) أو ما يسمى فوق الواقع ، وقوامها احتقار التراكيب العقلية والروابط المنطقية المعروفة والقواعد الأخلاقية والجمالية المألوفة والاعتماد على اللا شعور واللا معقول ، والرؤى والأحلام والحالات النفسية المرضية ، ولا سيما حالات التحلل النفسي ، ويعنون بالرغبات الجامحة .
7- تغليب طوابع الجنس والإباحة استمداداً من مفهوم الإغريق وعبادة الجسد وإباحيات الوجودية التي دعا إليها سارتر ، ونظرية التحليل النفسي الذي يعتمد الجنس التي دعا إليها فرويد ، ونظرية العلوم الاجتماعية التي دعا إليها دوركايم ؛ وفتح أبواب المجون والجنس والإباحة والتحلل الاجتماعي .
8- على أن يدور ذلك كله في إطار (التاريخانية) وهي الحتمية التاريخية لماركس فالمنهج الماركسي التاريخي هو الأساس الأيدلوجي للحداثة.
وقد عمد أدونيس - في سبيل صياغة هذه النظرية التي قدمها له شيخ المنظرين القس يوسف الخال - إلى استقطاب خيوط من التاريخ لتكون أدلة واضحة وأضواء كاشفة على الطريق ، وذلك بالاعتماد أساساً على الفكر الباطني الفلسفي والاهتمام برموزه ومحاولة ربط الخطوات بتطور الشعر الحديث وبالمرحلة الأخيرة منه ( قصيدة النثر وشعر التفعيلة ) واختيار الحاقدين الجدد على نسق الحاقدين القدامى : أبي نواس ومهيار الديلمي واعتماد الحركات التمردية الهدامة للمختار الثقفي والقرامطة . وقد خطا دعاة (الحداثة) خطوة متقدمة على مفهوم العصرية من ناحية والشعر الحر من ناحية أخرى .(/3)
فالشعر الحر تقليد لشعر (والت ويتمان) أما شعر الحداثة فهو متابعة للشاعر الصليبي توماس اليوت ، ويرى دعاة الحداثة أن الشعر الحر هو التيار ( السلفي ) الجديد بالنسبة لشعر الحداثة .
أما توماس إليوت فهو زعيم هذه المدرسة في الغرب ، خليفة دانتي الذي يحمل الحقد الصليبي الأعمى . يقول الدكتور عبد الله الطيب : لقد حذف اليوت في منظومته (الأرض المقفرة) اللفظ الدال على العرب واستبدله بكنيسة ماغنس ، وردد أشياء من التوراة والإنجيل . ويرجع هذا إلى الشعور الصليبي الموروث الصادر عن تعصب ديني أو عنصري إذ لا يخفى أن ظلال جزيرة العرب لا تخلو من معنى ظلال سيوف محمد وصلاح الدين والإسلام والجهاد .
فهو يرجع إلى الشعور الصليبي الموروث والتعصب الديني أو العنصري ومرده الزهو والغرور والاعتداء بالانتماء إلى حضارة اليونان والرومان .
ولا ريب أن كتمانه سرقة المعلومات وشعر العرب عن طريق مستشرقي الهند وفرنسا وحذفه اسم العرب وأسماء من أشاروا إليهم ، كل هذا يؤكد الشك في أصالة إليوت في منظومته (الأرض المقفرة) ويؤكد فساد وجهة الذين تابعوه من دعاة الشعر الحر والحداثة .
الحشاشية هي الجذور
ويحاول أدونيس ودعاة الحداثة أن يردوا فكرتهم إلى القديم ؛ وهم صادقون في ارتباطهم بالحشاشين والباطنية والمجوسية المتنامية في القرامطة ، ويتحدثون عن جذورهم في أبي نواس وأبي تمام والرازي وابن الرواندي ، على أساس أن الخاصية الرئيسية التي تميز هذا النتاج هي إذابة التقليد والمحاكاة ورفض النسج على منوال الأقدمين . ويركز أدونيس في كتابه ( الثابت والمتحول ) على الحركة القرمطية .
الحداثة وخلفياتها الأيدلوجية:
تهدف الحداثة إلى تجاوز القواعد الأساسية للإسلام : قواعد الثوابت هي بمثابة الضوابط والحدود التي تحفظ شخصية الفرد والوجود الاجتماعي ، وهي تحاول أن تخدع الناس بأن هولاء الرواد والرموز السابقين قد حطموا هذا القيد وتجاوزوه ، وأن هذه المحاولة هي التي مكنتهم من الإبداع وهم يدعون بأن الحداثة هي الثورة الدافعة لتجاوز التاخر والجمود والارتقاء إلى منطلق العصر .
وترد ذلك كله إلى ( التاريخانية ) " الماركسية " كمدخل للحداثة ، وترى أن هؤلاء الرواد يركزون على ( فكر التجاوز ) وأنه مصدر الإبداع ، وأن هذا التجاوز لا يتوقف فهو في حركة دائمة .
هذا هو مفهوم ( الثابت والمتحول ) وهذا يرمي إلى زعزعة فكرة النموذج أو الأصل ، أي أن الكمال لم يعد موجوداً خارج التاريخ ، وأصبح الكمال - بمعنى آخر - كامنًا في حركة الإبداع المستمرة .
هذه المحاولة كاذبة ومضللة ومحكوم عليها بالسقوط لأنها لا تقوم على أساس من الفطرة أو العلم أو الحق أو المنطق ، وإنما هي نوع من التمويه الكاذب والخداع المضلل ، لأن كل هؤلاء الذين اعتمد عليهم مفهوم الحداثة من رموز قديمة قد سقطوا فعلاً وداستهم الأقدام ، ولم يدخلوا التاريخ إلا في باب الشعوبيين والباطنيين وأعداء الإنسانية ، ولقد هزموا فكرياً في عصرهم وذهب كل ما قالوه من أكاذيب وادعاءات ، حتى جاء الاستشراق والغزو الفكري ليعيدهم إلى الحياة مرة أخرى .
وهي محاولة محكوم عليها بالانتهاء والدمار ، كالمحاولات الأخرى التي سبقتها ، ولن تجدي هؤلاء الدعاة الجدد نفعاً لأنها لا تقوم عندهم من منطلق أمين أو من منطلق غيرة على هذه الأمة أو رغبة في السمو بها ولكن من منطلق حقد وكراهية وهزيمة والمهزوم يعمل دائماً على كسب المهزومين إلى صفة ليحس بأنه ليس منبوذاً ، ولقد كان دعاة الشعوبية والباطنية مهزومين منعزلين ، شأنهم شأن أبي نواس وبشار في القديم حيث كان يتحاشاهم الناس ، وإذا كان قد أتيح لهم عن طريق " أحد غلمان التعريب والشعوبية " أن يذيع لهم فكرهم على هذا النطاق الواسع فإنها ليست إلا صيحة مضللة قد أغمدت الأقلام الإسلامية فيها خناجرها .
إن ( دعاة الحداثة ) هؤلاء إنما يدعون إلى توهين السلطة المطلقة - وهي الدين - والنيل من السيد الأعظم ( الله تبارك وتعالى ، علا وجل عن كلماتهم المسمومة ) ولن يتحقق يوماً أن تغلب الفئة الباطلة على النظام الرباني القائم في حكمه وقواعده وأي أصل من أصوله مهما تجمع لهذا دعاة الشعوبية والباطنية . ويرمي أدونيس إلى إلغاء كل قديم باعتبار أنه لاشيء في الوجود اسمه قديم ويهدف من ذلك الغاء فهمنا للقرآن الكريم وأنه كلام الله القديم .
والحرية عند الحداثيين هي التحلل من كل قيد ديني أو اجتماعي أو نظامي أو قانوني . وهم عندما يسمون الحداثة ( الثورة المتجهة لتجاوز السلفية ) يقصدون تجاوز قيم الدين والأخلاق ، وحين يدعون إلى حرية اللغة يقصدون الخروج باللغة عن سياقها ومضمونها وتحررها من إطارها التاريخي والبلاغي المرتبط بالبيان العربي والقرآن الكريم .(/4)
ويؤرخ أدونيس للحداثة بالدعوات التي خرجت على الإسلام ( المختار الثقفي والزنج والقرامطة ) ، ويرى أنها قامت بالتحرر من الثبات ، وكذلك دعوات الزنادقة ( في الشعر ) من الثبات ، والإباحية ودعاة وحدة الوجود والحلول والاشراق .
وبالجملة فإن الحداثة ( أيدلوجية مناهضة ) للإسلام الدين الحق والأخلاق وهي تقوم على الغموض في فهم النص ، وتفسيره تفسيراً مختلفاً ( لأن الشاعر ليس مطلوباً منه أن يفهم ما يكتبه ) ودعواهم الباطلة أنهم يتشبهون بتعابير القرآن متناسين أن لمفسر القرآن شروطاً لا بد أن تتوفر فيه .
وهم حين ينكرون العمودية في الشعر أو ينكرون التقييد بالوزن والقافية إنما ينطلقون من مفهوم الحداثة القائم على التمرد والثورة على كل قيد عقدي أو فني " كما تمرد أبو نواس وصوفية وحدة الوجود والحلاج ونظرية الحاكم بأمر الله " .
وقد استعمل الحداثيون نفس الألفاظ التي استعملها الباطنية سواء في الغرب ( نيتشه وفرويد ) أو في الشرق ( الباطنية والحلوليين ) .
ويرد أدونيس مفاهيمه إلى أصولها:
(السريالية قادتني إلى الصوفية وتأثرت بها أولاً ولكني اكتشفت أنها موجودة بشكل طبيعي في التصوف العربي ( يقصد التصوف الفلسفي) وتأثرت بالماركسية ونيتشه من حيث القول بفكرة التجاوز والتخطي وتأثرت أيضا بأبي تمام وأبي نواس من حيث فهم اللغة ، ولم تكن تورة المختار الثقفى والثورات القرمطية وثورة الزنج إلا توكيداً للقاعدة المادية ( الأرض - الاقتصاد - علاقات الإنتاج) ومن هنا نعرف أن حداثة أدونيس هي تلفيق من فكر الباطنية والملاحدة والإباحينن في الشرق والغرب وأنها تستهدف (ثوابت الإسلام) والإيمان بالغيب وتقوم على أسس ثلاثة:
1- عدم الانتماء لأي قيم أو منهج .
2- التمرد على كل الثوابت وفي مقدمتها الدين والأخلاق .
3- استعمال قواعد اللغة استعمالاً مغلوطاً .
4- بناء الصور الشعرية على أنقاض الأساطير القديمة .
مصطلح المطلق
وأخطر ما يركز عليه دعاة الباطنية الحديثة (الحداثة) هو ما يسمونه (المطلق) وهو الله تبارك وتعالى . وما من واحد من هؤلاء إلا وله في هذا المجال شعر رديء مليء بالإلحاد والفجور والله تبارك وتعالى أعلى وأجل عما يقولون . وهذا يكشف عن أن الهدف الحقيقي هو الثورة على العقيدة والألوهية والجذور الأصيلة للتكوين الاجتماعي وعلى كل ماهو متعارف ومقعد ومنظم ومتقن حتى القواعد اللغوية .
ومهاجمة النص المقدس عملية واضحة وأساسية في دعوتهم :
يقول كمال أبو ديب : ( من الدال جداً على أن النص المقدس في جميع الثقافات التي نعرفها هو نص قديم فليس هناك من نص مقدس حديث والحداثة بهذا المعنى هي ظاهرة اللا قداسة).
وهو يقصد بالنص المقدس القرآن والأحاديث النبوية وكل كتاب ديني تقدسه الأديان ، ويقول : ( لأنه لا سبيل لأن يكون الأدب حديثاً إلا إذا رفض كل نص مقدس وأصبح نقيضاً لكل ما هو مقدس حتى العبادة ) .
فالدعوة إلى تدمير القداسة . هي هدف أساسي في دعوة الحداثة ، وهي لاتقف عند ذلك بل تدعو إلى مقارفة الخطيئة بدعوى رفض كل قيد على الحرية الإنسانية ، ومن دعواهم إلغاء الخطيئة وبكارة الإنسان وإحراق التراث . وإلغاء الخطيئة يعني أنه لا خطيئة في الحياة ( الزنى ، الربا ، السرقة ، العقوق .. إلخ ) فيقولون : كلمة الخطيئة : يجب أن تشطب من قواميس اللغات .
والدعوة إلى العصيان المعلن قاعدة أخرى ، متمثلين بقول (أبي نواس):
فإن قالوا حرامٌ قل حرامٌ .. ولكن اللذاذة في الحرامِ .
وقد أعلن أدونيس في كتابه ( الثابت والمتحول ) أنه يرمي إلى تحول يزلزل القيم الموروثة من دينية واجتماعية وأخلاقية ، تحول في الثقافة التي يبثها الإسلام بقيمه الدينية ، ونحن نقول له هيهات فقد كان غيرك من الزنادقة أقدر ، والمعروف أن الأب بولس نويا اليسوعي هو الذي قدم منهجه ووصفه بأنه ( شاعر التحول المستمر ) .
وقد ركز على عبارة أدونيس ( نفسي تجردت من الماضي وقيمه كلها بما فيها القيم الدينية والخلقية ) . وعلق الأب بولس على ذلك فقال : " لقد انتهيت إلى نتيجة هي أن الرؤيا الدينية هي السبيل الأصلي في تغلب المنحى الثبوتي على المنحى التحولي في الشعر ، إن النظام الشامل الذي خلفه الدين ( يقصد الإسلام ) ، كان هو العامل الأساسي الذي جعل المجتمع العربي في القرون الثلاثة الأولى يفضل القديم على الحديث بحيث إنه وضع القديم في مجال الكمال واعتبر كل جديد خروجاً على المثال الكامل " .
وهكذا نرى كيف تتضافر قوى كثيرة على تأييد هذا المذهب وتشوه صفحات التاريخ الإسلامي ، وترى أن ثلة من الزنادقة ظهروا في القرن الثالث وداستهم الأقدام ، كانوا عوامل تجديد وحداثة كاذبة بدعوى أنهم تجاوزوا الثوابت واجترؤوا على الحقائق الإسلامية(/5)
وهكذا كانت دعوة الحداثة : التحول هو المنطلق : وإن التجرد من كل الموروثات التي نمت مع نمو تاريخنا الإسلامي هو أساس المواجهة ، ومن العجيب أن أدونيس وثلته كانوا من المتجردين من موروثاتهم وأوساطهم وأسرهم وعقائدهم التي نشؤوا عليها وتنكروا لما غذتهم به أمهاتهم وآباؤهم من إيمان . وهكذا يدعو هؤلاء الخارجون على أمتهم ، يدعون الناس إلى خروج مثل خروجهم . إن هؤلاء ينكرون مفهوم الإسلام الجامع بين ( الثوابت والمتغيرات ) ويلجؤون إلى مفهوم الغرب الذي كان يؤمن بالثوابت وحدها ، وقد دفع هذا بعض المفكرين إلى تحطيم الثبات ، بالدعوة إلى ( التغيير المطلق ) ولكن هذه الدعوة لا تصلح في أفق الفكر الإسلامي لأنه لا حاجة له بها ، ( لما جاء الإسلام أرسى قواعد الثبات ونظم وسائل التحول والتغيير والتطور من داخل الثوابت الأساسية القائمة على الخلق والمسؤولية الفردية والإيمان بالبعث والجزاء ومن هنا وقف الإسلام أمام كل دعوة باطلة ترمي تحت اسم التحول إلى القضاء على الثوابت أو هزها أو النيل منها ) .
وتلك سنة الله في خلقه وناموسه في قيام الأمم والحضارات وتحولها وسقوطها . وكل الدعوات التي حاولت أن تنال من الثوابت الإسلامية ، كالبابية ، والبهائية ، والقاديانية والقرمطية فقد تحطمت لأنها مخالفة لمنهج الله وستذهب ( الحداثة ) وتدوسها الأقدام قبل أن يعرف دعاتها من أين أتتهم الجائحة ( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ) الحشر : 2 . مهما بلغ ارتفاع اسمهم فهو إلى انحسار ومهما انتشر فكرهم فهو إلى زوال .
ومقطع الرأي في ( الحداثة ) أنها
أولاً : ردة إلى طفولة البشرية وهجوم مستتر على الفصحى لغة القرآن بهدف تدمير منظومة البيان العربي التي عرفها العالم منذ أربعة عشر قرناً والمنسابة في جيمع كتابات العلماء والمؤرخين والفقهاء والتي تقوم على فقه اللغة والبيان والتحقيق التاريخي الذي استمده المسلمون من علم الحديث النبوي .
ثانياً : تهدف إلى تقويض المنزع الحقيقي للأدب العربي المرتبط بالقرآن الكريم والسنة ، كما تنزع إلى إغراقنا في مذاهب تجريدية والرموز والدادائية والسريالية .
وقد وصفه الدكتور مصطفى بدوي بأن ( الفن الذي استجاب لما حل بأوروبا من اضطراب شامل وكان نتيجة لانعدام اليقين والتجديد المعلن ، إنه الفن الوحيد الذي يصلح لانهيار العقل ولما صارت المدنية إليه من دمار إبان الحرب العالمية الأولى ، إنه في المجون والترف : دارون وماركس وفرويد ، جاء بعد القضاء على الحقائق العامة المشتركة وعلى أفكارنا التقليدية عن العلية ، وبعد اندثار الآراء المتوارثة عن وحدة الشخصية الفردية فأين نحن العرب من هذه الأشياء ؟!
إن ( المودرنزم ) حركة أوروبية ليست مقصورة على دولة واحدة من دول الغرب ، وهي شديدة الصلة بتأريخ أوروبا السياسي ومرتبطة بفقدان الإيمان الديني وهي تطوير للرومانتيكية والرمزية والواقعية بل ظهر ما يسمى بما ( بعد المودرنزم ) .
وهذا يختلف تماماً عن طوابع الأدب العربي العميقة الصلة بالقيم الأساسية من الدين والأخلاق .
وإذا كانت هذه الدعوة المدعاة قد وجدت من بعض القوى ما يفتح لها الطريق ، فإن هذا البريق الهلامي سوف لا يثبت تحت ضوء الشمس ، وقد انهزم شعراء الحداثة في المواجهة ، وتراجعوا في أكثر من موقع ، وحاولوا أن يغيروا خططهم . وقالوا إن شعر الحداثة يقرأ ولا يلقى ، وعجز أصحاب الحداثة عن بيان ما في نفوسهم فادعوا أنهم طلاب غموض ، وقد رفضهم المثقفون ، واتهموهم وانقطعت الجسور بينهم وبين الأدب الأصيل .
إن هذه الدعوة وافدة وليست لها جذور ، وهي كالنبت الغريب الذي يوضع في الأرض فلا ينبت ، وقد رفض الجسم الإسلامي العضو الغريب في محاولات كثيرة سابقة ، وفي هذه المحاولة يرفض بحسم التغريب ويرفض ما وراءه من أهواء ومن أهداف ومطامح ، لم تعد خافية على أحد .
منار الإسلام
ربيع الأول 1406هـ(/6)
الحديث ثلاث لا ترد دعوتهم
الكاتب: الأستاذ محمد أحمد الوزير
الحمد لله رب العالمين ، وأصلى وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد :
فإن من الأحاديث التي احتج بها شيخنا القاضي العلامة / محمد بن إسماعيل العمراني في فتاوية ، حديث (("ثلاثة لا ترد دعوتهم ... الحديث )) وعلق عليه في الحاشية أن الألباني ضعفه ، على أن الحديث في فضائل الأعمال ، فأردت التبين في ذلك فقمت ببحثه وترجح عندي كما ترى أن الحديث حسن لغيره كما قاله الحافظ / ابن حجر والسيوطي وغيرهم وإليك البحث فأقول :
متن الحديث :
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين".
من أخرج الحديث :
وأخرج أحمد (479) الترمذي (3592) ، وابن ماجه (1752) ، وابن خزيمة رقم ( 1901) ابن حبّان في صحيحه( 2407ـ 2408) البيهقي في "كتاب الأسماء والصفات .
وقال الحافظ: هذا حديث حسن وحسنه الحافظ / ابن حجر السيوطي ، في الجامع الصغير .
الكل من طريق سعد الطائي قال أبو النضر سعد أبو مجاهد حدثنا أبو المدلة مولى أم المؤمنين سمع أبا هريرة به .... الحديث .
وضعفه الشيخ المحدث / محمد ناصر الدين الألباني ، في السلسلة الضعيفة ( 3/ 534 رقم 1358) ولم أجد من وافقه على القول بالتضعيف لذا الحديث من الأئمة المتقدمين ولم يذكر في السلسلة عن أحد أنه ضعفه .
علة الضعف في الحديث :
وعله الضعف في هذا الإسناد هو أبو مدلة عن أبي هريرة مرفوعا : وأبو مدلة بضم الميم وكسر المهملة وتشديد اللام يقال اسمه عبد الله مقبول من الثالثة.
قال ابن المديني : لا يعرف اسمه مجهول لم يرو عنه غير أبي مجاهد .
المتابعات للحديث :
وأخرجه الترمذي من طريق أخرى قال :
2579 ـ حَدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ، حدثنا مُحمّدُ بنُ فَضِيلٍ عَنْ حَمْزَةَ الزّيّاتِ عَنْ زِيَادٍ الطائِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وفيه الحديث المذكور .
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ الْقَوِيّ، وَلَيْسَ هُوَ عِنْدِي بِمُتّصِلٍ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِإِسْنَادٍ آخَرَ عن أَبي مُدَلَهٍ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلة الحديث المتابع :
هي أن زيادا الطائي الراوي عن أبي هريرة مجهول و لم يسمع عن أبي هريرة فالحديث منقطع كما أشار إلى ذلك الإمام الترمذي عقب أخراجه له .
الحكم على الحديث :
والحديث قد اختلف الحفاظ في الحكم عليه على التالي :
1 ـ فمنهم من صححه وبه قال : ابن خزيمة ، وابن حبان في صحيحيهما .
2 ـ ومنهم من حسنه وإليه ذهب الترمذي : قال الإمام الترمذي عقبه : هذا حديث حسن ، ورجحه القول بحسنه الحافظ ابن حجر والإمام السيوطي ، وذلك للشاهد المذكور ،
3 ـ ومنهم من ضعفه وإليه ذهب الألباني في الجامع الصغير وفي السلسلة الضعيفة .
المناقشة والترجيح :
الحديث الظاهر أنه حسن لغيره لأجل المتابعة المذكورة ، وكنت قد استغربت أن الشيخ الألباني ضعفه في الجامع الصغير ، فرجعت إلى السلسلة الضعيفة ( 3/ 534 رقم 1358) كي أرى السبب الذي من أجله ضعفه ، وما سيكون جوابه على المتابعة التي أخرجها الترمذي ، فتبين لي أنه لم يورده أو يشر إليه .
أقول: والحديث الضعف فيه محتمل ، والمتابعة الضعف فيها كذلك محتمل ، ومثل هذا الأصل أنه يحسن إن لم يصحح ، فإن قيل أن ابن حبان وابن خزيمة قد صححوه فالجواب أنهم متساهلون في التصحيح ، وذلك لما عرف عن ابن حبان وابن خزيمة من توثيق المجاهيل فيقال : يعذروا في ذلك لأن ابن حبان وابن خزيمة وثقا أبا مدلة ، فالحديث عندهما صحيح لذلك .
فالقول بصحة الحديث قد يقال أن فيه تساهل ولكن القول بالحسن لغيره محتمل.
فإن قيل إن في المتابعة التي جاءت عند الترمذي عن زياد الطائي عن أبي هريرة شيء وذلك لأن زيادا لم يسمع من أبي هريرة فلربما أنه سمعه عن أبي مدلة عن أبي هريرة ، وعند ذلك يتحد المخرج ، ولا يرتفع الضعف لجهالة أبي مدلة ، فيتجه القول بضعف الحديث .
أقول : ولكن الناظر عند التأمل في كلام أئمة الحديث يتوجه إليه القول باختلاف المخرج وذلك لوجهين :
الوجه الأول: هو أن المتأمل في كلام الإمام على بن عبد الله بن المديني شيخ البخاري الذي قيل فيه أنه حية الوادي في علم العلل ، وذلك في قوله : (( ولم يرو عنه ـ ( عن أبي مدلة ) ـ غير أبي مجاهد )) يظهر منه أن زيادا لم يسمعه من أبي مدلة، فإن كلامه يقوي عدم اتحاد المخرج ، فيصلح عند ذلك القول بأن المتابعة صالحة لترتقى بالحديث إلى الحسن لغيره .
الوجه الثاني : أن الإمام الترمذي قال عقب المتابعة : وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِإِسْنَادٍ آخَرَ عن أَبي مُدَلَهٍ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا يقوي القول باختلاف الطريق فتأمل .(/1)
فإن قال : قائل : قد قال الترمذي فيه :
هذا حديثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ الْقَوِيّ، وَلَيْسَ هُوَ عِنْدِي بِمُتّصِلٍ.
وقوله هذا قد يفهم منه ، أن المتاِبع لا يصلح مثله متابعة .
فالجواب أن هذا متوهم ، فأنه قد صرح القول في الحديث بالحسن بل الأظهر أنه ما حسنه إلا لهذه المتابعة ،فلا عبرة لهذا المفهوم بعد هذا النص ، وعلى العموم فإن الأصول الحديثية المقررة في علم المصطلح تقوي القول بأن مثله يقبل في الشواهد والمتابعات ، ولأجل هذا رجح الحافظ ابن حجر والسيوطي القول بالتحسين .
ثم إنه يرد على الشيخ الألباني شيء في قوله بضعف الحديث وهو :
أنه ذكر في مقدمة في تمام المنة في الخمسة عشر قاعدة حديثية ــــ وذلك على القول باتحاد المخرج عن أبي مدلة ــــ : أن الرجل إذا قال فيه الحافظ مقبول ، ووثقه ابن حبان ، وروى عنه ثقتان ، فإن حديثة حسن .
الأمر في أبي مدلة كذلك ، فقد قال فيه الحافظ : مقبول ، ووثقه ابن حبان ، وروى عنه أبو مجاهد وزياد الطائي .
وإذا اختلفت الطرق ، فالقول بأن المتابعة ترتقي بالحديث إلى الحسن متجه ، وخاصة أن الألباني : لم يناقش المتابعة التي رواها الترمذي في السلسلة الضعيفة فتأمل
وعلى هذا فالقول الراجح أن الحديث حسن لغيره والله أعلم .
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين على ما من ووفق والله المستعان وعليه التكلان .(/2)
الحذر من إطلاق البصر
إعداد :فرحان العطار 14/2/1424
16/04/2003
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبيه وعبده أما بعد:
فقد وصلت فتنة الشهوات ذروتها حتى وصلت إلى القاع بشكل لم يسبق له مثيل ، و أصبحت صور النساء تشاهد في كل وقت من ليل أو نهار ،في كل مكان إلا من عصم الله عز وجل ،واصبح ذلك في متناول الجميع،فعظمت بذلك الفتنة ،واتسع الخرق على الراقع ،فلا إله إلا الله كم أثنت هذه الفتنة من عزم ، و أوهنت من همه ، وكم ردت من ساع على طريق الخير حتى عاد أدراجه، وتنكب الصراط واستمرأ الضلالة ،أو حبسته عن الترقي في درجات الفلاح حتى إنه يخاف فتنة بنات بني الأصفر ونظرا لعظم هذه الفتنة واستفحال أمرها كان لزاما على الدعاة والمصلحين عامة أن يتذاكروا هذا الأمر ويبينوا خطره ويسعون جاهدين في دفعه بكل ما يملكون من قوة وهذه الكلمات أضمها إلى من سبق في التحذير من إطلاق البصر عسى أن يجعلنا ربنا من المتعاونين على البر والتقوى فأقول مستعينا بالله :
إن الذي أجمعت عليه الأمة واتفق على تحريمه علماء السلف والخلف من الفقهاء والأئمة هو نظر الأجانب من الرجال والنساء بعضهم إلى بعض والأصل في هذا الباب هو قوله تعالى(النور:30){قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم}وقد صرف النبي صلى الله عليه وسلم نظر الفضل بن عباس رضي الله عنه عندما مرت به ظعن تجرين فطفق الفضل ينظر إليهن[رواه مسلم] وكذلك صرف بصره حين نظر إلى الخثعمية[البخاري 1513،ومسلم1334]، "وهذا منع إنكار بالفعل ولو كان جائزا لأقره عليه ،وقال النبي صلى الله عليه وسلم (( إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى مدرك ذلك لا محالة فالعين تزني وزناها النظر))[ البخاري6243، ومسلم6257 ] ثم ذكر اللسان والرجل واليد و القلب فبدأ بزنى العين لأنه أصل زنى اليد والرجل والقلب والفرج،فهذا الحديث من أبين الأشياء على أن العين تعصي بالنظر وأن ذلك زناها ففيه رد على من أباح النظر مطلقا "(1)
والأمور التي يغض المسلم عنها بصره يمكن حصرها في الأمور التالية:(2)
1-غض البصر عن عورات الناس،فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ))لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة)) [رواه مسلم338] فكل إنسان له عورة لا يجوز له كشفها ،ولا يجوز النظر إلى من كشف عورته،والنبي صلى الله عليه وسلم يقول((احفظ عورتك إلا من زوجتك و أمتك )) [أخرجه الترمذي وحسنه ] ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك انكشاف العورات في المباريات التي يشاهدها الملايين من الرجال والنساء ولا حول ولا قوة إلا بالله .
2-غض البصر عن بيوت الناس ،ومن اجل ذلك شرع الله عز وجل الاستئذان قبل دخول البيوت كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال((إنما جعل الاستئذان من النظر )) [البخاري6241، ومسلم 2156]"إنها ليست عورات البدن وحدها إنما تضاف إليها عورات الطعام وعورات اللباس وعورات الأثاث التي لا يحب أهلها أن يفاجئهم عليها الناس دون تهيؤ أو تجمل أو إعداد وهي عورات المشاعر والحالات النفسية فكم منا يحب أن يراه الناس وهو في حالة ضعف يبكي لانفعال مؤثر أو يغضب لشأن مثير أو يتوجع لألم يخفيه من الغرباء ؟ وكل هذه الدقائق يرعاها المنهج القرآني بهذا الأدب الرفيع أدب الاستئذان ويراعي معها تقليل فرص النظرات السانحة والالتقاءات العابرة التي طالما أيقظت في النفوس كامن الشهوات والرغبات "(3) .
3- غض البصر عما لدى الناس من الأموال والنساء و الأولاد ونحوها مما جعلها الله من زينة الحياة الدنيا كما قال تعالى(طه:131) {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه}قال ابن سعدي في تفسيره "لا تمدن عينيك معجبا ولا تكرر النظر مستحسنا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها ...."(4).
4- غض البصر عن النساء الأجنبيات والمردان الذين يخاف بالنظر إليهم الفتنة وسوف يكون مدار الحديث على هذا القسم إن شاء الله تعالى.
والنظر إلى النساء على أقسام:تارة تدعوا إليه ضرورة أو حاجة فلا يباح بدونها وتارة يباح مطلقا وعلى كل حال فإنما يباح بأسباب :
1-العقد: ويدخل تحته عقد النكاح وعقد الملك ببيع أو نحوه ،وعقد النكاح الصحيح يفيد الاستمتاع بالمرأة ، والنظر جزء من هذا الاستمتاع ، بل إن الله عز وجل سمى العقد نكاحا كما في قوله تعالى(الأحزاب:49){يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات...}والمقصود بالنكاح في هذه الآية العقد.
2-ومن الأسباب المبيحة للنظر الصغر :فيجوز النظر للصغيرة لأنها ليست موضع شهوة ولتسامح الناس في ذلك قديما وحديثا ،مع ملاحظة زرع المعاني السامية في نفسها وعدم تعريتها بحجة أنها صغيرة(/1)
3-القواعد من النساء كما قال تعالى(النور:60){والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن..}قال ابن سعدي رحمه الله"والقواعد من النساء اللاتي قعدن عن الاستمتاع والشهوة فلا يطمعن في النكاح ولا يطمع فيهن وذلك لكونها عجوزا لا تشتهي ولا تُشتهى فلا حرج عليهن ولا إثم {أن يضعن ثيابهن}أي:الثياب الظاهرة كالخمار ونحوه، فهؤلاء يجوز لهن أن يكشفن عن وجوههن لأمن المحذور منها وعليها"(5)
4-المشاكلة :فيباح لكل من الأنثى والأنثى أن تنظر ما ينظره المحرم من المحرم لقوله تعالى(النور:31){أو نسائهن}والمراد هنا جنس النساء –والله أعلم-على القول الراجح فتشمل المسلمة والكافرة،إلا إذا ترتب على النظر مفسدة من وصف للرجال أو غير ذلك فإنه حينئذ يمنع سواء أكانت مسلمة أو كافرة
5-ومن الأسباب المبيحة للنظر المحرمية سواء أكانت بنسب أو رضاع و هن المذكورات في قولة تعالى (النساء:23){حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم و أخواتكم و عماتكم وخالاتكم....}
6-ومن الأسباب المبيحة للنظر أيضا:الضرورة والحاجة ويدخل تحتها مسائل منها الحاجة إلى نكاحها أو خطبتها أو الشهادة عليها أو معالجتها أو نحو ذلك ويكون هذا بشروط وضوابط ليس هذا موضع تفصيلها .
خطر إطلاق النظر وبعض آثاره:
1-أن النظر إلى ما لا يحل هو زنا العين كما في الحديث السابق((العين تزني وزناها النظر))
2-أن إطلاق النظر سبب رئيسي في إعاقة سير العبد إلى ربه جل وعلا ، واشتغاله عما خلق له من عبادة الله،بل قد يتعدى ذلك إلى الخروج من دين الله عز وجل والردة عن الإسلام والعياذ بالله كما حصل لبعض الذين أطلقوا أبصارهم في الصور الجميلة من النساء والمردان ،مثل ذلك الرجل الذي تعلق بفتى نصراني وهام بحبه ،وزاد به الوسواس حتى لزم الفراش وكان مما قاله(6)
إن كان ذنبي عنده الإسلام ... ...
فقد سعت في نقضه الآثام
واختلت الصلاة والصيام ... ...
وجاز في الدين له الحرام
فانظر واعتبر من حال هذا المسكين فبعد مجالس العلم وحلقات الدين،انحطاط إلى أسفل سافلين،وحال يندى لها الجبينوهذا عاقبة إطلاق البصر ،وتأمل المحاسن ،تورد صاحبها الردى وتبعده عن الهدى ،والأمثلة على ذلك كثير ،منها ما حكاه ابن القيم رحمه الله عن ذلك الرجل الذي قال لمحبوبة عند تغرغر الروح ،رضاك عندي أشهى من رحمة الخالق الجليل! "فأصحاب العشق الشيطاني لهم من تولي الشيطان والإشراك به بقدر ذلك ،لما فيهم من الإشراك بالله ولما فاتهم من الإخلاص له، ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد ولهذا ترى كثيرا منهم عبدا لذلك المعشوق متيما فيه ،يصرخ في حضوره ومغيبه أنه عبده ،فهو اعظم ذكرا له من ربه ،وحبه في قلبه اعظم من حب الله فيه ،وكفى به شاهدا بذلك على نفسه {بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيرهْ}فلو خير بين رضاه ورضى ربه لاختار رضى معشوقه على رضا ربه ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه وهربه من سخطه عليه أشد من هربه من سخط ربه عليه ،’يسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعة ربه ، فإن كان فضل من وقته فضله وكان عنده قليل من الإيمان صرف تلك الفضلة في طاعة ربه،وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه و مصالحه صرف زمانه كله فيها و أهمل أمر الله تعالى، يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس ،ويجعل لربه –إن جعل لله- كل رذيلة وخسيس ،فلمعشوقه لبه وقلبه ،وهمه ووقته و خالص ماله ،ولربه الفضلة قد اتخذه وراءه ظهيرا ،وصار لذكره نسيا ،إن قام في خدمته في الصلاة فلسانه يناجيه وقلبه يناجي معشوقه ووجهه وبدنه إلى القبلة ووجهة قلبه إلى المعشوق ،ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه ،وتكلفه لفعلها ،فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحا بها ناصحا له فيها ،خفيفة على قلبه لا يستثقلها و لا يستطيبها ،و لا ريب أن هؤلاء من الذين(البقرة:165){اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله}(7)"
ألم تر أن الحب يستعبد الفتى ... ...
ويدعوه في بعض الأمور إلى الكفر
هذا أحدهم قيل له جاهد في سبيل الله فقال:
يقولون جاهد يا جميل بغزوة ... ...
وأي جهاد غيرهن أريد
لكل حديث بينهن بشاشة ... ...
وكل قتيل بينهن شهيد
فانظر كيف حصر الجهاد فيهن،ولا يحلو الحديث إلا بينهن،وكل من قتلنه فإنه شهيد! أو ذلك الذي يعلن:
ولو أنني استغفر الله كلما ... ...
ذكرتك لم تكتب علي ذنوب
فهذا حال اللسان،أما حال القلب فهو أسوأ:
محا حبها حب الأولى كن قبلها ... ...
و حل مكانا لم يكن حُل من قبل
أقول:وأين محبة الله؟.(/2)
ومثل هذا كثير جره عليهم إطلاق أبصارهم ، وهذا من أعظم الأمور أن يعيق إطلاق البصر العبد في سيره إلى الله ،ولو سلم له دينه فإنه يضعفه ويجعله في مؤخرة الركب ،ولا ريب أن في ذلك مخالفة لأمر الله عز وجل بالإسراع بالخيرات والمسابقة إليها ،وقد أطلت في هذه النقطة لخطورة الأمر وأهميته .
3-أن الله جعل ميل المرأة للرجل،وميل الرجل للمرأة،وهذا أمر فطري مركوز في النفوس ،ولذلك ضبط الإسلام هذا الميل ووجهه الوجهة الصحيحة ،وفصل بين الرجال والنساء ، و أمر النساء بالحجاب لأن الفساد كل الفساد عند اختلاطهم ببعض ،كما في الصحيحين ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ))[البخاري5096، مسلم2741]
"ولهذا فطن أعداؤنا لهذه القضية واستخدموا المرأة كسلاح لتقويض كل القيم الأخلاقية في بلاد المسلمين وكانت المرأة رأس الحربة في هذه الهجمة الإباحية الخبيثة ،قال أحدهم:كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية اكثر مما يفعله ألف مدفع فأغروها في حب المادة والشهوات (8)"
لذلك فإن الدعوة لتحرير المرأة قد لاقى استحسانا عند من في قلوبهم مرض ،ليتأملوا وجوه الحسان، وليلغوا في مستنقع الرذيلة،منهم من صرح بذلك وأيده بلسانه أو ببنانه ومنهم من حبسها في قلبه يستشرف المستقبل ،وينتظر اليوم الموعود،ولأن هذا الأمر عظيم جدا، حذر الله منه بقولة(النور:19) {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب اليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون}
ولذلك فإن الإنسان إذا أطلق بصره وخاصة في هذا الزمان فإنه سوف يستحسن ذلك ولا بد وتركنُ إليه نفسه ،وخاصة إذا رأى الجمال الصارخ والأجساد العارية،فاحذر أيها المسلم واحفظ بصرك ،فإن الخطوة تقود إلى خطوات ،والنظرة إلى حسرات،وقد جاء بعد الآية السابقة قوله تعالى(النور:21){يا آيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان.....}
وهذه الفتنة تكون مكبوتة مغلوبة حتى يطلق بصره في النساء والصور الجميلة ويتأمل فيها ،فحينئذ يتشعب القلب وتطرقه البلابل ،وينفذ الشيطان إلى قلبه مع أقرب وأخطر طريق.
4-أن إطلاق البصر يؤدي إلى" تعدد الصور المخزونة في الذاكرة ،والمحفورة في الذهن من الإكثار من النظر إلى الصور الفاتنة ،سواء أكانت حية في عام الواقع أو مطبوعة في مجلة أو متحركة في فيلم لامرأة أو أمرد وتكرار النظر يؤدي إلى سهولة استدعائها ،وسهولة استدعائها يؤدي إلى تخيلها بوضع معين تثور معه الشهوة ويصاب مريض القلب بالقلق الشديد (9)"
ولو أن هؤلاء أطاعوا الله ورسوله واقتصروا على ما أحل الله لأراحوا قلوبهم وأفكارهم من أمور طالما عذبت وأرهقت الكثير من أبناء الجيل واكتوى بلظاها فئام من الناس .
5- من خطورة النظر بل من أعظمها أنه لا يقتصر على شيء معين ولا يقف عند حد ،فمثلا:إذا نظر إلى امرأة فإنه يسترسل بصره إلى مطالعة الصور ،الواحدة بعد الأخرى ،والصورة بعد الصورة ،دون أن يشفي غليله أو يطفئ لهيبه بل هو في ازدياد وانحدار مخيف ،والأمر كما قاله ابن القيم رحمه الله"أن الملوك ما استوفوا من هذا الباب (10)
، قال مجنون ليلى :
علقت الهوى منها وليدا ولم يزل ... ...
إلى اليوم ينمي حبها ويزيد
ويسهل الاحتراز عن ذلك من بدايات الأمور فإن آخرها يفتقر إلى علاج شديد وقد لا ينجح،ومثاله من يصرف عنان الدابة عن توجهها إلى باب تريد دخوله ،فما أهون منعها بصرف عنانها ،و مثال من يعالجه بعد استحكامه مثال من يتركها حتى تدخل الباب وتجاوزه ثم يأخذ بذنبها يجرها إلى وراء وما أعظم التفاوت بين الأمرين "(11)"
وقال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله "لو أتيت مال قارون وجسد هرقل وواصلتك عشر آلاف من أجمل النساء من كل لون وكل شكل وكل نوع من أنواع الجمال هل تظن أنك تكتفي ؟ لا، أقولها بالصوت العالي :لا ،أكتبها بالقلم العريض ، ولكن واحدة بالحلال تكفيك لا تطلبوا مني الدليل فحيثما تلفتم حولكم وجدتم في الحياة الدليل قائما ظاهرا مرئيا (12)".
أسباب إطلاق البصر :
1- تكرار النظر واستدامته:
وهذان السببان من أهم أسباب إطلاق البصر وهو نتيجة لعدم امتثال أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وقد حذر ابن عمه من أسباب الفتنة فقال ((يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية)) [رواه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني في حجاب المرأة ص 77]
وقال العقلاء: من سرح ناظرة أتعب خاطرة ومن كثرت لحظاته دامت حسراته وضاعت عليه أوقاته وفاضت عليه عبراته .
من أطلق الطرف اجتنى شهوة ... ...
وحارس الشهوة غض البصر
والطرف للقلب لسانا فإن ... ...
أراد نطقا فليكر النظر(/3)
ولايكون العشق إلا بالنظر ولا يرسخ وتتأصل جذوره إلا بتكرار النظر وإدمانه ، وأما ما يشاع اليوم مما يسمى "بالحب من نظرة واحدة"فهؤلاء إما أن يكونوا دجالين يصطادون بذلك من يرونه أهلا ،وهذا هو الغالب على جيل اليوم،وإن أحسنت الظن فإنهم على ما قاله ابن حزم رحمه الله"فمن أحب من نظرة واحدة ، وأسرع العلاقة من لمحة خاطرة فهو دليل على قلة الصبر ومخبر بسرعة السلو وشاهد الظرافة والملل وهكذا في جميع الأشياء أسرعها نموا أسرعها فناء،وأبطؤها حدوثا أبطؤها نفاذا(13)
وعلى العموم من حفظ بصره فقد صد عن نفسه شرا كثيرا ، ودرأ عنه خطرا جسيما ، قال ابن الجوزي رحمه الله "وقد يتعرض الإنسان لأسباب العشق فيعشق ،فإنه قد يرى الشخص فلا توجب رؤيته محبته فيديم النظر والمخالطة فيقع ما لم يكن في حسابه ،ومن الناس من توجب له الرؤية نوع محبة ،فيعرض عن المحبوب فيزول ذلك ،فإن داوم النظر نمت ، كالجنة إذا زرعت، فإنها إن أهملت يبست وإن سقيت نمت (14)
سأبعد عن دواعي الحب إني ... ...
رأيت الحزم من صفة الرشيد
رأيت الحب أوله التصدي ... ...
بعينك في أزاهير الخدود
3-الفراغ: والإنسان إذا لم يشغل نفسه وقلبه فيما خلق له من الفكر في اجتلاب المصالح في الدين والدنيا ،واجتناب المفاسد ،تعطل واستترت جوهريته وإذا أضيف إلى هذا ما يزيده ظلمة من النظر المحرم صار كالحديد يغشاه الصدأ فيفسد ، قال ابن عقيل "وما عشق قط إلا فارغ فهو من علل البطالين ، وأمراض الفارغين من النظر في دلائل العبر "(15)
و قال الأنطاكي "والعشق يختلف باختلاف أصحابه فإن الغرام أشد ما يكون مع الفراغ وتكرار التردد على المعشوق ،والعجز عن الوصول إليه ،وعلى هذا يكون أخف الناس عشقا الملوك ثم من دونهم لاشتغالهم بأمور الملك وقدرتهم على مرادهم وما دونهم أفرغ لقلة الاشتغال حتى يكون المتفرغ له بالذات كأهل البادية لعدم اشتغالهم بعوائق ومن ثم هم أكثر الناس موتا به(16)
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... ...
فصادف قلبا خاليا فتمكنا
ولذلك فإن الفراغ من أشد ما يكون فتكا بصاحبه ، فإذا أضيف إلى هذا فتن تموج كموج البحركان تأثيره أنكى وعاقبته اشد وأبلى، وقد ذكر ابن حزم رحمه الله انه قرأ في سير ملوك السودان أن الملك يوكل ثقة بنسائه يلقي عليهن ضريبة من غزل الصوف يشتغلن بها أبد الدهر لأنهم يقولون :إن المرأة إذا بقيت بغير شغل إنما تشوق إلى الرجال وتحن إلى النكاح(17)
فإذا تأملت هذا أيقنت بأن الآباء الذين يحضرون لأبنائهم أسباب الفساد من القنوات والمجلات وغيرها إنما يسوقون أبنائهم وأهليهم إلى الهاوية ويشغلون أوقاتهم بما فيه ضياع أعمارهم وفساد قلوبهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
4- الانشغال بأمور النساء والصور :وما يتعلق بذلك حتى يكون ذلك هو مدار الحديث في كثير من المجالس فمن وصف إلى حادثة إلى قصة إلى علاقة بين فلانة وفلان فتنقضي المجالس ومثل هذا لب الحديث ومداره ،وهذا أمر خطير يدل على مرض في القلب ،فإن من أحب شيئا أكثر من ذكره،وكلما كان الإنسان مشتغلا بهذا الأمر، كلما كان لهجا بذكره متعلقا بفكره فمقل ومستكثر ،ولعل من أكثر الأمثلة على هذا الشعراء كما قال خالد بن يزيد بن معاوية"وكنت أقول إن الهوى لا يتمكن إلا من صنفين من الناس هم الشعراء والأعراب فالشعراء ألزموا قلوبهم الفكر في النساء ووصفهن والتغزل بهن فمال طبعهم إلى النساء فضعفت قلوبهم عن حمل الهوى فاستسلموا له منقادين (18)
فالانشغال بأمور النساء سبب في إطلاق النظر فيهن ومما يؤسف له أن هذا الأمر قد تسرب لمجالس كثير من أهل الخير حتى أصبحت بعض مجالسهم تكاد لا تخرج عنه وهذا مؤشر خطير ينبغي أن يحذر منه أهل الخير ويرتقوا بمجالسهم إلى ما هو أعلى من ذلك وخير منه كما قال بعض العلماء "جنبوا مجالسنا الدنيا والنساء "ولا يشتغلوا بتوافه الأمور ولا بدنيء الهمم ، وأما أولئك المتسمرون أمام الشاشات والمتأملون فيها الساعات تلو الساعات ، فقد فتك بقلوبهم حب الغانيات وعصف بمشاعرهم مشاهد العاهرات ، حتى قادتهم إلى سبل الشيطان وأردتهم في مهاوي الهلاك،علموا بذلك أم لم يعلموا ،وقد سكروا بكؤوس النظر التي يتجرعونها، وأنسوا بالمستنقعات وهي ماء زلالا يظنونها ،فشرقوا بغصصها وغرقوا في لججها ، فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم.(/4)
4- التقليد وحب الاستطلاع: وأكثر ضحايا هذا القسم هم من فئة الشباب حين يسمعون أو يقرؤون أو ينظرون إلى من حولهم من الأصحاب والإخوان، يتحدثون عن المغامرات العاطفية وخاصة أن بعض الشباب وللأسف ينشئون في بيئة لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا ، فيرى الشاشات وما يعرض فيها من صور للحب الساقط والتصنع المبتذل، ويسمع من حوله يتحدثون عن حب فلانة وفلان فإنه حينئذ يتحفز لاستجلاء هذا الأمر وسبر غوره ،ولكي يكون عنده رصيد يتحدث ويفتخر به ،فتبدأ مرحلة الشقاء بإطلاق النظر في كل مليحة ومليح ،فإن كان ذلك و إلا صنعه في الخيال وحاك حوله القصص والأساطير ،فيكون هو أول المصدقين بذلك ،فيخوض في غمار اللجج ويطلب النجاة و لكن هيهات
الحب أوله شيء يهيم به قلب ... ...
المحب فيلقى الحب كاللعب
يكون مبدؤه من نظرة عرضت ... ...
أو مزحة أشعلت في القلب كاللهب
كالنار مبدؤها من قدحة فإذا ... ...
تضرمت أحرقت مستجمع الحب
ومن أسباب إطلاق البصر محادثة النساء الأجنبيات:
قال ابن القيم "والشعراء قاطبة لا يرون بالمحادثة والمخاطبة والنظر للأجنبيات بأسا وهو مخالف للشرع والعقل وفيه تعريض للطبع لما هو مجبول عليه من ميل كل واحد للآخر ،وكم من مفتون بذلك في دينه ودنياه لأن ذلك مدعاة لتركيز النظر والتنقيب عن المحاسن حتى تنقش في القلب وكلما تواصلت النظرات وتتابعت كلما زاد تعلق القلب وهيجانه ،مثل المياه تسقى بها الشجرة فإذا أكثر من المياه فإنها تفسد الشجرة ، وكذلك النظر إذا كرر وأعيد فإنه يفسد القلب لا محالة فإذا تعرض القلب لهذا البلاء فإنه يعرض عما أمر به ويخرج بصاحبه إلى المحن (19).
وقال ابن الجوزي "ومن التفريط القبيح الذي جر أصعب الجنايات على النفس محادثة النساء الأجانب والخلوة بهن وقد كانت عادة الجماعة من العرب، ويرون أن ذلك ليس بعار ويثقون من أنفسهم بالامتناع عن الزنا ويقتنعون بالنظر والمحادثة وتلك الأشياء تعمل في الباطن و هم في غفلة من ذلك إلى أن هلكوا ،و هذا الذي جنى على مجنون ليلى وغيرهم فأخرجهم إلى الجنون والهلاك (20).
وبعض الناس يستصعبون محادثة النساء البعيدات عنهم ولكنهم يخالطون من حولهم من النساء كزوجات إخوانهم ونحو ذلك وينظرون إليهن ويدخلون عليهن ولذلك سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك خاصة فقيل له أرأيت الحمو؟فقال ((هو الموت )) [رواه البخاري5232، ومسلم2172]
فليحذر المسلم من مخالفة أمر الله و رسوله صلى الله عليه وسلم ولتكن علاقاته مبنية على أصول الشرع لا يتعدى ولا يفرط ،ولا يجعل هذه الأمور لهوى نفسه ونزعات شيطانه .
6-الإعلام الفاسد بكافة وسائله من المقروء والمسموع والمرئي،على كافة المستويات حيث يحمل العبء الأكبر من العبث بأفكار وعقول الجيل بل إنه مسخ عقولاً بما يعرضه ويفرضه من صور فاضحة ومشاهد يستحيا من ذكرها فضلا عن رؤيتها ،وخاصة في غياب شبه كامل من أهل الصلاح والخير، في الوقت الذي نرى فيه أهل الباطل والفساد من أرباب الشهوات والشبهات يفتتحون قنوات تخص باطلهم وتنشر رذائلهم وهم يعملون بدأب عجيب ، فنشكو إلى الله جلد الفاجر وعجز المؤمن.
7-الاختلاط والتبرج والسفور :وهذا أدى إلى انتشار الفواحش وإطلاق الأبصار المسعورة في الصور المعروضة وهو رأس دواعي الفتنة ولذا لم يأل أعداء الإسلام وخاصة دعاة التغريب وسعا في الحث عليه والدعوة إليه والتهافت في ذلك وبذل الوسع والطاقة في جلبه وتحصيله ،ولما اشتدت وطأة التبرج في الكثير من الأقطار الإسلامية كثر المتساقطون في حبالها ،وأصبح الذي يغض بصره في بعض المجتمعات كالقابض على الجمر لكثرة المنكر وانتفاخه، ولكن ليبشر هؤلاء الصابرون (الشرح:5){فإن مع العسر يسرا }
8- المصافحة:
وقد يعجب البعض من هذا السبب ولكن لما العجب وقد وردت النصوص في تعظيم هذا الأمر والوعيد الشديد في حق فاعله ،فعن معقل بن يسار رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((لأن يطعن في رأس رجل بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)) [الصحيحة226]
وقد بين ابن القيم رحمه الله سرا في ذلك فقال "والسبب الطبيعي أن شهوة القلب ممتزجة بلذة العين فإذا رأت العين اشتهى القلب فإذا باشر الجسم الجسم اجتمع شهوة القلب ولذة العين ولذة المباشرة(21)
فسبحان الله ! كم من مفتون بذلك ، يستسهل هذا الأمر ويستصعب تركه أو بسبب ضغوط من حوله حتى يتلذذ بهذا الأمر ويشتهيه قلبه فما يزال الشيطان به حتى يكبه في أودية الهوى صريعاً والله المستعان .(/5)
9-ومن أسباب إطلاق الأبصار :تزيين الشيطان وتسويله :وذلك بإيجاد مسوغ شرعي للنظر كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو مخالطة الغلمان وتعليمهم ونحو ذلك، ومعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يحتاج إلى النظر إلى بعض المنكرات ولكن هذا أبيح للضرورة والحاجة فيقدر بقدر ذلك ،وأما أن يسترسل الإنسان في ذلك ويديم النظر أكثر من الحاجة فهذا قد تجاوز الحد المباح فلينتبه الدعاة وفقهم الله لذلك ويحذروا من خطوات الشيطان ، وكذلك مسألة مخالطة الغلمان من قبل المدرسين أو غيرهم ، ولا شك أن تربية النشء وتعليمهم من أعظم الأعمال ،ولكن أذكر ما قاله ابن الجوزي رحمه الله من لفتة تربوية رائعة حيث قال "والعالم والعابد قد أغلقا على أنفسهما باب النظر إلى النساء الأجانب لبعد مخالطتهن ،والصبي مخالط لهم فليحذر من فتنته فكم زل فيها من قدم وكم قد حلت من عزم ،وقل من قارب هذه الفتنة إلا وقع فيها(22)
ولست هنا أدعوا إلى ترك الشباب لدعاة الفساد والشهوات ، بل أؤكد على الدعاة وفقهم الله أن يتحملوا هذه المسؤولية فهم أحق بها أهلها ،ولكن أدعوا إلى الحذر من الانزلاق إلى طريق لا تحمد عقباه ،ولا يكون ذلك إلا بالصدق مع الله فإنه سبحانه نعم المولى ونعم النصير .
العلاج:
أولاً:استخدام العلاج الذي أمر الله تعالى به في قوله{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم }ويعلم أن غض البصر طاعة يتقرب به إلى مولاه عز وجل ، ومعلوم أن الله لا يأمر عباده إلا بما يقدرون عليه ،وهو سبحانه أعلم بهم وبما يصلحهم، وهو القائل {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم }ولم يستثن أحد من هذه الآية،بل الخطاب عام لأهل الإيمان ، فلا يأتي متحذلق بعد ذلك ويقول بأنه لا يستطيع أو أن الهوى قد غلب عليه ، أو نحو ذلك ،وهذا إنما جنى على نفسه بإطلاق بصره أولا ، ولو أنه امتثل للأمر لبلغه الله ما يريد ولعصمه من هذه الفتنة ،ولكن هذا من عاقبة التفريط،ومعلوم أن غض البصر يحتاج إلى صبر ومصابرة ومرابطة على الثغر وكل بحسب قوة إيمانه وإرادته فمقل ومستكثر .
ليس الشجاع الذي يحمي مطيته ... ...
يوم النزال ونار الحرب تشتعل
لكن فتى غض طرفا أو ثنى بصرا ... ...
عن الحرام فذاك الفارس البطل
قال ابن الجوزي "ليكن لك في هذا الغض عن المشتهى نية تحتسب بها الأجر وتكتسب بها الفضل وتدخل بها من جملة من نهى النفس عن الهوى "(23)
ثانياً:استخدام العلاج النبوي :وذلك حين سئل عليه الصلاة والسلام عن نظر الفجأة فأرشد إلى العلاج النافع الذي من استعمله سد عليه هذا الباب بالكلية ولا يحتاج معه لعلاج غيره فقال((اصرف بصرك ))و أوصى ابن عمه بهذا العلاج فقال عليه الصلاة والسلام ((يا علي لا تتبع النظرة النظرة ،فإن لك الأولى وليست لك الثانية)).
فهذان العلاجان هما من أنفع الأدوية ولا يحتاج معها المؤمن إلى علاج آخر إذا عمل بها ،ولاحظ انه علاج وقائي ،والعلاج الوقائي يعتبر من أفضل ما ينتفع به الإنسان ،لأنه يعالج الأمور ويدفعها قبل حصولها أصلا ،فإذا غض المؤمن بصره عن الحرام ثم إذا وقع بصره على شيء صرفه مباشرة ولم يعاود النظر فإنه أمن بذلك من هذه الفتنة العظيمة بسبب امتثاله لأمر الله ورسوله{وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم }.
ًثالثا:الصبر على غض البصر :لأن في إطلاق البصر قد يجد ما تتلذذ به العين ويشتهيه القلب فكان الغض عند ذلك شديدا على النفس يحتاج إلى صبر طويل ،وكلما استرسل بصره ثم أراد أن يغضه بعد ذلك ،كلما ازداد صعوبة في ثنيه ورده ،قال الحسن رحمه الله"إن هذا الحق قد اجهد الناس وحال بينهم وبين شهواتهم وإنما صبر على هذا الحق من عرف فضله ورجا عاقبته "(24)وقال ابن الجوزي رحمه الله ""فالطاعة مفتقرة إلى الصبر عليها والمعصية مفتقرة إلى الصبر عنها فلما كانت النفس مجبولة على حب الهوى فكانت بالطبع تسعى في طلبه افتقرت إلى حبها عما تؤذي عاقبته ،ولا يقدر على استعمال الصبر إلا من عرف عيب الهوى وتلمح عقبى الصبر فحينئذ يهون عليه ما صبر عنه وعليه، وبيان ذلك يتمثل بمثل وهو : أن امرأة مستحسنه مرت على رجلين فاشتهيا النظر إليها فجاهد أحدهما وغض بصره فما كان إلا لحظة ونسي ما كان، و أوغل الآخر في النظر فعلقت بقلبه فكان ذلك سبب فتنته وذهاب دينه"(25).(/6)
ًرابعا:التفكر في حقيقة المنظور :فإذا نازعتك النفس إلى النظر الحرام فتأمل حقيقة ما تنظر إليه ،و ما تنطوي عليه من الأمور التي إذا تأملها عاقل و أمعن فيها وتفكر اقتنعت نفسه ولم تحدثه ولم تنازعه ، فهذه عملية لإقناع النفس بعدم جدوى النظر ،فمثلا عندما يقول القائل "إذا أعجبتك امرأة فتأمل مناتنها "وأعظم المناتن الكفر بالله ، وأدنى من ذلك الفسق والفجور والضلال ،وجميع ما يعرض في القنوات والمجلات و غيرها من الصور الفاتنة لا تكاد تخرج عن هاتين الصفتين وان كان الأول أعظم لكن الثاني تأباه الفطر والعقول التي لم تعبث بها الشياطين ، ثم تذكر بعد ذلك المناتن من المخاط والبول والغائط والعرق ورائحة الفم وغير ذلك ، ثم تذكر القبائح المعنوية مثل الغش والدجل والكذب والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل إلى غير ذلك مما يعلن وينشر من الفضائح اليومية والدورية،فأين من يتأمل ذلك ويعمل الفكر فيه ؟و إلا فالكثير مطلق بصره بشهوة يتأمل في حسن الصورة ، منبهر من حسن الشكل ، معرض عن الصورة الحقيقية الباطنة التي غابت عنه ، وقد ذم الله تعالى أولئك الذين يعجب الناس مظهرهم من الهيئة وحسن الشكل والكلام ، لكنهم خواء من الإيمان ، قاعدون عن كل فضيلة ،واثبون إلى كل رذيلة فقال سبحانه(المنافقون:4){وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم و إن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة....}
فمتى يدرك المسلمون هذه الحقيقة القرآنية ؟، مع أنها أصل من أصول ديننا وهو الولاء و البراء.
خامساً: تأمل العواقب وملاحظتها فإذا تأملت عاقبة النظر وما سيؤول إليه فإنك تدرك أثره وتأثيره على قلبك وجوارحك وإيمانك وجميع ما يصدر عنك ،فتعلم حينئذ خطره فتؤثر الغض وتراقبه أيما مراقبه "وإطلاق البصر وإرساله لا يحصل إلا من خفة العقل وطيشه وعدم ملاحظة العواقب، ومرسل النظر لو علم ما يجني نظره عليه لما أطلق بصره ،قال الشاعر:
"وأعقل الناس من لم يرتكب سببا ... ...
حتى يفكر ما تجني عواقبه"
وانظر إلى هذا العاقل حين تعرضت له تلك المرأة وعرضت نفسها عليه فصاح بها وأعرض عنها حيث أنه تذكر العاقبة والعقاب فقال:
فكم ذي معاصي نال منهن لذة ... ...
فمات وخلاها وذاق الدواهيا
تصرم لذات المعاصي وتنقضي ... ...
وتبقى تباعات المعاصي كما هيا
فيا سوءتا والله راء وسامع ... ...
لعبد بعين الله يغشى المعاصيا
سادساً:تذكر ما أعده الله عز وجل لعباده الصالحين في جنات النعيم وما فيها من المشتهيات واللذات على أكمل الأوجه وأوسعها وأوعاها كما قال تعالى عن تلك الدار (الزخرف:71){وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وانتم فيها خالدون }وقال تعالى(الإنسان:20){وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا } وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :قال الله تعالى ((أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر))
فسم بعينيك إلى نسوة ... ...
مهورهن العمل الصالح
وحدث النفس بعشق الأولى ... ...
في عشقهن المتجر الرابح
واعمل على الوصل فقد أمكنت ... ...
أسبابه ووقتها رائح
وهذا الأمر ينبغي الاشتغال به والشوق إليه والسعي في بلوغه وحصوله
دع المصوغات من ماء وطين ... ...
واشغل هواك بحور عين
ًسابعا:اليأس:وذلك بأن يجزم جزماً ويعقد عزماً على غض البصر، بحيث تقنط النفس مع هذا الجزم، وتيأس بأن لا تتطلع إلى المحذور مع هذا العزم،فإنها حينئذ تذعن للغض ،ولو على مضض،وهذا يحتاج إلى نفس حره عزيمة أبيه وكم من إنسان يعرف بأنه مخطئ ولكنه يسترسل لضعفه أمام شهوات نفسه ولا يزول ذلك إلا باليأس من العودة إلى المحذور
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... ...
فإن أطمعت تاقت وإلا تخلت
قال ابن سهل : وجدت الراحة في اليأس (26).
ثامناً:البعد عن مواطن الفتن والأماكن التي تكثر فيها ، وأماكنها معرفة معلومة وإن كانت بعض البلاد صارت بؤرة للفتن، قد ملأت السهل والجبل والشواطئ والشوارع والله المستعان، ولكن الواجب أن يبتعد عن هذه الأماكن قدر المستطاع ويبذل في ذلك جهده لأنه قد تجذبه بصورها وفتنها ،قال ابن الجوزي رحمه الله "و أحذر رحمك الله أن تتعرض لسبب لبلاء فبعيد أن يسلم مقارب الفتنة منها وكما أن الحذر مقرون بالنجاة فالتعرض للفتنة مقرون بالعطب وندر من يسلم من الفتنة مع مقاربتها على انه لا يسلم من تفكر وتصور وهم " (27)و إن كان هذا كلامه وقد عاش في القرن السادس فما نقول نحن في هذا الزمان ؟ ففر من المجذوم فرارك من الأسد، فاجتنب الأسواق و الأماكن المختلطة كالمستشفيات و الأسواق إلا لحاجة وأما التلفاز والقنوات الفضائية وصفحات الإنترنت الفاسد منها والمجلات الهابطة التي تهبط بقرائها ولا ترفعهم ،فإنها من مراكز الفتن وبؤرها فإياك إياك يا من تريد السلامة لدينك، والله الموعد .(/7)
تاسعاً: نعمة النظر :فالنظر نعمة من الله فلا تعصه بنعمه، واشكره عليها بغض البصر عن الحرام تربح واحذر أن تكون العقوبة سلب النعمة، وكل زمن الجهاد في الغض لحضه"وتأمل قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي ((من أخذت حبيبتيه فصبر واحتسب فله الجنة )) [البخاري 5653] تعرف مقدار النعمة التي ذكرت من بين سائر النعم الأخرى بهذا الأجر العظيم تدرك عظيم قدرها ، فهل يليق أن تصرف في المعاصي و الذنوب ؟ .
العاشر:صرف البصر في الأمور الشرعية التي أمر الله بصرفها فيه أو ندب إليه مثل النظر إلى الزوجة والنظر إلى آيات الله عز وجل في السماوات والأرض ونحو ذلك فهذا هو المصرف الشرعي للنظر فإذا اشتغل المسلم بمثل هذا كان له شغلا عن الحرام ومصرفا عن النظر في الآثام ((وإذا قرأت القرآن وجدت الحث والترغيب في النظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه التدبر والتفكر يؤكد هذا الترغيب وروده بكل مترادفات الإبصار وهي الرؤية والتدبر والنظر في مواضع متعددة بصيغة فعل الأمر المجرد وبصيغة الفعل المضارع المقرون بلام الأمر وبالخطاب الفردي وبصيغة الجمع وبواسطة الاستفهام الإنكاري حينا والاستفهام التقريري حينا إلى غير ذلك من صور هذا الترغيب ))(28)
الحادي عشر:العمل بأحكام الإسلام فإن هذا يضمن الضمان المؤكد بإذن الله عز وجل بحبس النظر عن الحرام ومن التدابير في ذلك أمور منها :
أ- الاستئذان قبل دخول البيوت وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إنما جعل الاستئذان من البصر ))
ب-نهي المرأة عن الخضوع بالقول ونهيها عن التعطر إذا كان مرورها على الرجال حتى لا تثار الغرائز ج-النهي عن نعت المرأة المرأة عند زوجها حتى كأنه ينظر إليها فكيف إذا كان النظر مباشرة ؟
د-أمر النساء بالقرار في البيوت وربط خروجهن بشروط معلومة تهدف بجملتها إلى حفظ النساء والرجال .
هـ-النهي عن الحديث في أعراض المؤمنين وإقامة الحد الشرعي على أولئك الوالغين فيها وذلك حتى لا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا فيجد الشيطان حينئذ مدخلا إلى القلوب ليفسدها وتفسد معها الألسنة بنشر الفواحش واستمرائها، فتطلق الأبصار وتهتك الأستار ويعصى الله العزيز الغفار.
"وعلى العموم فالإسلام وضع القواعد لنظافة المجتمع من المفاتن والشهوات وسلامته من كل ما يهيج الغرائز ويثيرها من النظر إلى النساء وقراءة المجلات الماجنة والقصص الغرامية وسماع الأغاني واقتناء الصور والأفلام الجنسية والنهي عن كل ما يخدر الغيرة ويلوث الشرف ويميع الخلق ويثير الغريزة ويقتل الكرامة "(29)
ولا شك أن المسلم إذا اتبع واستعمل هذه الأحكام وسار على المنهج فإنه سوف ينتصر على الوسواس الشيطانية والحيل النفسية والتبريرات المنطقية وهذا كله يدخل في قول الله تعالى (البقرة:208){يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين}
فوائد غض البصر(30):
1-الامتثال لأمر الله تعالى وفي ذلك غاية السعادة والفوز والفلاح في الدارين
2-إن في غض البصر تخليص للقلب من ألم الحسرة ؛فإن من أطلق بصره دامت حسرته ؛ فأضر
شئ على القلب إرسال البصر والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية فإن لم تقتله جرحته ؛ وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه
3 - إن إطراق البصر يفرق القلب ويشتته ويبعده عن الله ويورث الوحشة بين العبد وبين ربه جل وعلا ؛فإذا غض المسلم طرفه أورثه ذلك أنسا بالله عز وجل ؛ وتلذذا بطاعته ؛ كما قال عثمان رضى الله عنه ((لو طهرت قلوبنا لما شبعت من القرآن ))
4-إنه يورث القلب نورا وإشراقا يظهر في العين والوجه والجوارح كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهة وجوارحه ولهذا والله أعلم ذكر الله سبحانه وتعالى آية النور في قوله تعالى (النور :35) {الله نور السموات والأرض }عقيب قوله { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم }وقد جاء الحديث مطابقا لهذا كأنه مشتق منه و هو قوله صلى الله عليه وسلم ((النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره عن محاسن امرأة أورث الله قلبه نورا)) [قال ابن كثير3\293 وروي هذا مرفوعا عن ابن عمر وحذيفة وعائشة ولكن في أسانيدها ضعف إلا أنها في الترغيب ومثله يتسامح فيه] وإذا اشرق القلب واستنار أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية كما أنه إذا اظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان فما شئت من بدع وضلالة واتباع هوى واجتناب هدى وإعراض عن أسباب السعادة واشتغال بأسباب الشقاوة فإن ذلك إنما يكشفه النور الذي في القلب فإذا فقد النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام .(/8)
5-إنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته وفي الأثر (( إن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله )) ، ولهذا يوجد عند المتبع لهواه من ذل القلب وضعفه ومهانة النفس وحقارتها ما لا يعلمه إلا الله قال الحسن (( إنهم وإن هملجت بهم البغال وطقطقت بهم البراذين ، فإن ذل المعصية لفي رقابهم ، أبى الله إلا أن يذل من عصاه )).وفي دعاء القنوت (إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت )
6-إنه يورث القلب سرورا وفرحة وانشراحا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر ، وذلك لقهره عدوه بمخالفة نفسه وهواه وأيضا فإنه لما كف لذته وحبس شهوته لله ، وفيها مسرة نفسه الأمارة بالسوء، أعاضه الله مسرة ولذة أكمل منها كما قال بعضهم ((والله للذة العفة أعظم من لذة الذنب ))
7- إنه يخلص القلب من أسر الشهوة فإن الأسير أسير هواه وشهوته وإطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة ويوقع في سكرة العشق كما قال تعالى عن عشاق الصور ((لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون )) .
8- إنه يسد عنه بابا من أبواب جهنم فإن النظر باب الشهوة الحاملة على موافقة الفعل فإذا سد هذا الباب وغض بصره فإنه بذلك سد عن نفسه بابا من أخطر الأبواب عليه .
9-إنه يفتح له طرق العلم وأبوابه و يسهل عليه أسبابه وذلك بسبب نور القلب فإذا استنار القلب ظهرت فيه حقائق المعلومات وتكشفت بسرعة ونفذ من بعضها إلى بعض و من أرسل بصره تكدر عليه قلبه واظلم وانسد عليه باب العلم وطرقه .
10-إنه يورث القلب صحة الفراسة فإنه من النور وثمراته ، وإذا استنار القلب صحة الفراسة لأنه يصير بمنزلة المرآة المجلوه تظهر فيها المعلومات كما هي والنظر بمنزلة التنفس فيها فإذا أطلق العبد نظرة تنفست نفسه الصعداء في مرآة قلبه فطمست نورها ، قال شجاع الكرماني "من عمر ظاهرة باتباع السنة و باطنة بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشهوات واكل من الحلال لم تخطئ له فراسة " وكان شجاع لم تخطئ له فراسة .
11-إنه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب فانه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي، فيمثل له صورة المنظور إليه ويزينها ويجعلها صنما يعكف عليه القلب ثم يعده ويمنيه و ما يعده الشيطان إلا غرورا فإذا غض بصره سد عنه هذا الباب العظيم وسلم من كيد الشيطان و تسلطه عليه وتزيينه
12-إن غض البصر دليل على قوة الإيمان وسلامته وإيثاره ما عند الله عز و جل فيكون بذلك دافعا قويا للمؤمن يدفعه إلى الترقي والزيادة و الرفعة من الدرجات فإن هذا لا يكون و خاصة في هذا الزمان إلا من قلب استقر الإيمان بين جوانحه ففتش عنه و ابحث فإن وجدته و إلا فراجع نفسك وإيمانك والله عز و جل يقول (آل عمران:142) {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله الذين آمنوا منكم ويعلم الصابرين }.
صور مشرقة للسلف في غض البصر :
·نبينا صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الغاية في هذا الأمر حتى مدحه ربه جل و علا بقوله(النجم:17){ ما زاغ البصر وما طغى } قال ابن القيم رحمه الله" و عند هذه الآية أسرار عجيبة وهي من غوامض الآداب اللائقة به صلى الله عليه وسلم تواطأ هناك بصره وبصيرته وتوافقا وتصادقا فيما شاهدة "إلى أن قال رحمه الله "فلموطأة قلبه لقالبه وظاهره لباطنه وبصره لبصيرته لم يكذب الفؤاد البصر ولم يتجاوز البصر حده فيطغى ولم يمل عن المرئي فيزيغ بل اعتدل القلب في الإقبال على الله والإعراض عما سواه فإنه أقبل على الله بكليته وللقلب زيغ وطغيان كما أن للبصر زيغاً وطغياناً وكلاهما منتف عن قلبه وبصره "إلى آخر كلامه البديع فانظره في منزلة الأدب .
·خرج حسان ابن عطية رحمه الله إلى العيد فقيل له :ما رأينا عيدا أكثر نساء منه ،فقال :ما تلقتني امرأة منذ خرجت .
·وقالت له امرأته يوم العيد كم من امرأة مستحسنة نظرت اليوم ؟ فلما أكثرت عليه قال :ويحك! ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندك حتى رجعت إليك(31)
·وكان الربيع بن خثيم رحمه الله يغض بصره فمر نسوة فأطرق بصره حتى ظن النسوة أنه أعمى فتعوذن بالله من العمى (32)
·وقال عمرو بن مرة رحمه الله ما أود أني بصير – وكان قد عمي - إني أذكر أني نظرت نظرة وأنا شاب
·وقال محمد بن سيرين رحمه الله "و الله ما نظرت إلى غير أم عبد الله – أي زوجته- في يقظة ولا منام ، وإني لأرى المرأة في المنام فأذكر أنها لا تحل لي فأصرف بصري عنها (33)
·وجاء في ترجمة الأسود بن كلثوم رحمه الله أنه إذا مشى لا يجاوز بصره قدميه فكان يمر بالنسوة ، و في الجدر يومئذ قصر ،ولعل إحداهن أن تكون واضعة ثوبها أو خمارها فإذا رأينه راعهن ثم يقلن كلا إنه عمرو بن كلثوم (34).(/9)
·وهذا إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله كان يتعجب من غضه لبصره .قال المروزي قال لي سراج بن خزيمة : كنا مع أبى عبد الله في الكتاب ، فكان النساء يبعثن إلى المعلم : ابعث إلينا بابن حنبل ليكتب جواب كتبهم فكان إذا دخل إليهن لا يرفع رأسه ينظر إليهن قال أبو سراج فقال أبي وذكره ، فجعل يعجب من أدبه وحسن طريقته فقال لنا ذات يوم أنا أنفق على ولدي و أجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا فما أراهم يفلحون و هذا أحمد بن حنبل غلام يتيم انظر كيف خرج ؟و جعل يعجب (35).
وأختم الحديث بهاتين الوقفتين:
الوقفة الأولى:عند قوله تعالى (غافر: 19) {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}قال ابن عباس رضي الله عنهما"الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغض بصره عنها ،فإذا رأى منهم غفلة نظر إليها فإن خاف أن يفطنوا إليه غض بصره وقد اطلع الله من قلبه أنه يود أن ينظر إلى عورتها"(37)
إذا جئتها وسط النساء منحتها ... ...
صدودا كأن النفس ليس تريدها
ولي نظرة بعد الصدود من الجوى ... ...
كنظرة ثكلى قد أصيب وحيدها
الوقفة الثانية:عن خالد بن معدان رحمه الله قال :"ما من عبد إلا وله أربع أعين ،عينان في وجهه يبصر بهما أمور الدنيا وعينان في قلبه يبصر بهما أمور الآخرة فإن أراد الله بعبد خيرا فتح عينيه اللتين في قلبه فيبصر بهما ما وعد بالغيب ، فآمن الغيب بالغيب ، وإذا أراد الله بعبد غير ذلك تركه على ما هو عليه ثم قرأ{أم على قلوب أقفالها}"37
اللهم أعنا على غض أبصارنا وحفظ فروجنا وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
1-روضة المحبين ص1102-أحكام النظر لعلي بن عطية الهيتمي ص108،وانظر غض البصر للسماري ص7
3-الظلال ص 2509
4- تفسير ابن سعدي ص516
5- المصدر السابق ص574 .
6- تزيين الأسواق للأنطاكي ص343
7-إغاثة االلهفان ص572
8- الفتنة لعبد الحميد السحيباني ص 231
9- العادة السيئة للدويش.
10-روضة المحبين 120.
11-مختصر منهاج القاصدين ص 213
12- فتاوى علي الطنطاوي ص 146 ، نقلا من مقال عبودية الشهوات للشيخ عبد العزيز آل عبد اللطيف، مجلة البيان العدد134 ص 8
13- طوق الحمامة ص 91 .
14- ذم الهوى ص 237 .
15- المصدر السابق ص 244
16- تزيين الأسواق ص 20 .
17- طوق الحمامة ص 140 .
18- روضة المحبين ص 18
19- المصدر السابق ص 104
20- ذم الهوى ص 347 . 21
21- روضة المحبين ص 59
22- ذم الهوى ص 92 .
23- المصدر السابق ص 440 .
24- المصدر السابق ص 41 .
25- ذم الهوى ص 52 .
26 ذم الهوى ص 441.
27- المصر السابق ص 126
28- غض البصر للسماري ص 11 .
29 – انظر الإسلام والجنس لعبد الله ناصح علوان ص 11
30- الجواب الكافي 229،وروضة المحبين113،وقد جمعت بين الذي ذكره ابن القيم في هذين الكتابين حيث ذكر في كل كتاب عشرة فوائد هي متشابهة ومتشابكة في الغالب فاختصرت ذلك قدر الإمكان.
31- ذم الهوى ص 77 .
32- المصدر السابق ص 80 .
33-من شريط سمعي بعنوان مصارع العشاق للشيخ سلمان العودة .
34- تهذيب الحلية للشيخ صالح الشامي ،ص 383
35- صلاح الأمة بعلو الهمة للشيخ سيد العفاني ص 7\75 نقلا عن مناقب الإمام احمد لابن الجوزي
36- انظر تفسير ابن كثير رحمه الله 4\75
37- تهذيب الحلية 2\188(/10)
الحر من راعى وداد لحظة
أثر الطلاق على المرأة
تقول إحدى المطلقات: إن المجتمع يحترم بل ويساعد الأرامل، أما المطلقة فهي مدانة في كل الأحوال، والكل ينظر إليها على أنها ستخطف الأزواج من زوجاتهم.
وتقول أخرى: إن المطلقة تعود حاملة جراحها وآلامها ودموعها في حقيبتها، وكونها الجنس الأضعف في مجتمعنا التقليدي، فإن معاناتها النفسية أقوى.
فالمطلقة تمثل عبء اجتماعي على الأسرة وعلى المجتمع، وغالبًا ما تتنصل الأسرة من مسئولية أطفالها وتربيتهم، مما يرغم الأم في كثير من الأحيان على التخلي عن حقها في رعايتهم إذا لم تكن عاملة، وتكون المراقبة والحراسة من الأهل أشد وأكثر إيلامًا. 'انتهى كلامها'.
المرأة بعد الطلاق:
المرأة بعد الطلاق تعاني بغض النظر عن الأسباب التي أدت إلى الطلاق ـ من الإحساس بخيبة الأمل والإحباط والفشل والظلم، وقد تصل للإحساس بالضياع والتشاؤم والخوف من المستقبل.
وبالتالي هي لا تحتاج إلى من يزيد الضغوط عليها بتذكيرها بما حدث أو بما كان، فالضغوط النفسية لا تفارقها مهما حاولت إخفاء حالتها النفسية المضطربة، وبالتالي فهي في أمس الحاجة إلى إعادة الاتزان النفسي، ولن يتأتى ذلك إلا بالاستغراق في عمل جاد يثمر في نهايته نجاحًا واضحًا.
ـ والمرأة بعد الطلاق إما أن تكون ما زالت شابة ولها حاجاتها النفسية والجنسية فتصدمها:
الحقيقة الأولى:
ـ أن غالب الشباب في مجتمعنا العربي لا يفضلون الزواج من امرأة فشلت في تجربتها الأولى ـ بغض النظر عن أسباب الفشل ـ.
ـ وإن كانت متقدمة في السن فإن لقب مطلقة قد يجعل من زواج المطلقة مرة أخرى شيئًا صعبًا وخصوصًا إذا كان عمر المطلقة كبيرًا أو لديها أبناء في حضانتها.
والحقيقة الثانية: هي مشكلة الأولاد:
ـ فمن النساء من ترضى أن تتخلى عن أولادها وتخدم أولادًا غير أولادها إن هي تزوجت رجلاً أرملاً أو مطلقًا، ولن يتمكن من سد حاجات أطفاله وأطفالها معًا، بالإضافة إلى غيرته من هؤلاء الأطفال كلما رآهم.
ـ وبعض المطلقات قد تحتفظ بأبنائها وترفض الزواج فتكون المسئولية الملقاة على عاتقها ثقيلة بالإضافة إلى كثرة الضغوط النفسية والقيود التي تحيط بها.
إذ على الرغم من كل هذه التضحيات إلا أن المجتمع لا زال ينظر إليهن بنظرة دونية لأنها أولاً امرأة وثانيًا مطلقة.
فمتى سندرك أن الطلاق بحالته الصحيحة ليس وصمة عار على جبين المرأة بل قد يكون نهاية سعيدة لحياة تعيسة مرهقة؟
والحقيقة الثالثة:
أن أهل المطلقة نفسها ومحيطها لا يقبلون لها حياة العزوبة خشية كلام الناس خاصة إذا كانت شابة وجميلة، وفي كثير من الأحيان يسارعون في تزويجها قبل أن تلتئم جراحاتها النفسية.
إعادة التوافق النفسي:
أي إنسان منا معرض للفشل في أي مشروع قد يقوم به في حياته، وهذا لا يعني أن يصبح الفشل ملازمًا له طوال حياته ولا بد أن يعطي نفسه فرصة أخرى للمحاولة، بل قد يعطي فشل الإنسان في تجربة سابقة دفعة كبيرة لنجاحه في حياته مستقبلاً. وعلى المرأة ـ خاصة ـ بعد الطلاق مراعاة التوافق النفسي مع نفسها أولاً ثم مع الآخرين ليتحقق لها الرضا الذاتي والقبول الاجتماعي، وتنخفض حدة التوترات، والقلق، وتحتاج المرأة في الفترة التالية لأزمة الطلاق إلى فترة تعيد فيها ثقتها بنفسها، وإعادة حساباتها والتخلص من أخطائها، وتعديل وجهة نظرها نحو الحياة بصفة عامة والرجال بصفة خاصة، وشغل الفراغ الذي خلفه ترك الزوج لها خاصة إذا كانت لا تعمل.
نجاح مطلقات:
نعم إن الطلاق وقعه شديد عل النفس، ولكن هل كل مَن فشل في حياته الزوجية معنى ذلك أنه فشل في حياته كلها؟
لقد سمعنا وقرأنا عن نماذج ناجحة ومتميزة، وكان هذا النجاح بعد الطلاق ومن هؤلاء تقول إحدى المطلقات المتميزات:
أكملتُ دراستي وعدت لممارسة هواياتي القديمة ومنها الحياكة، وأصبحت عضوة في عدد من الجمعيات الخيرية، وأخذت على نفسي عهدًا ألا أكدر حياتي بذكريات ليس لها وجود إلا في الماضي، أما الناس إن أرادوا تذكيري بكوني مطلقة أو حتى سؤالي عما حدث فكنت أرد بطريقة آلية 'لم يوفقني الله، وأحب أن أحتفظ بالأسباب لنفسي'.
ولله الحمد والمنة لقد منَّ الله علي من حيث لا أحتسب بزوج لا أجد له الكلمات التي أصفه بها سوى أنني لأظنه من خير البشر بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم أفتح كتاب الذكريات إلا لأستخلص منه أخطائي بنظرة إيجابية حيادية خالية من الانفعالات ومشاعر الحزن والأسى صدقوني بعد الطلاق الحياة ممكنة.
ـ وتقول متميزة أخرى:
اكتشفتُ ذاتي 'كان لطلاقي الأثر الكبير في اكتساب شخصيتي صفات جديدة حميدة لم أكن ألحظها فيها سابقًا، وهكذا بدأت الأمور تتحول من السلب إلى الإيجاب بمجرد تغير نظرتي لنفسي، وهنا أدركت أن الخير كان في الانفصال الأول؛ لأنه أدى إلى زواج آخر أكثر توفيقًا ونجاحًا، كما أوصلني إلى اكتشاف ذاتي.
ـ وهذه مطلقة تجاوزت الأزمة تقول:(/1)
لقد طلقت وأنا حامل وكان عمري عشرين سنة، وكافحت في تربية ابني التربية الحسنة حتى حفظ القرآن كاملاً وهو في الصف السادس الابتدائي، وقد عملت كإدارية في مدرسة خاصة لأعيل ابني وأخفف من مصروفي على والدي المسن.
والآن أصبح ابني يؤم المصلين وهو في الصف الأول الثانوي وهو بن بار وصالح.
ـ وهذه تقول:
بعد طلاقي أكملت دراستي العليا وأصبحت أكثر من قراءاتي واطلاعي على الكتب والمجلات المفيدة كما أتقنت عالم الإنترنت وأشارك في العديد من المنتديات المفيدة، وقد أصبحت حاليًا أكتب بعض الموضوعات والمشاركات في المجلات والصحف مما أشعرني بثقة أكبر في نفسي.
ـ وهذه متميزة رائعة تقول:
لقد بدأت طريقي بعد الطلاق بأول معاناة واجهتني وهي معاناة تربية الأبناء، ومن هنا بدأت بتحقيق أول هدف لي عندما أعطيت أول محاضرة للأمهات في كيفية التغلب على معاناة التربية، ثم توسع هدفي إلى أن أصبحت مدرسة أدرب الأمهات.
ثم بدأت أخرج المدربات. ثم قلت لماذا لا أؤسس مدرسة؟ وتحقق حلمي هذا. ثم فكرتُ في تأسيس سلسلة من المدارس لهذا الغرض.
نصائح للمطلقات:
ـ على ضوء هذه النماذج الناجحة المتميزة من المطلقات نؤكد أن الطلاق ليس نهاية الحياة؛ فبإمكان الجميع البدء من جديد والتعامل مع الواقع، وليكن ما حدث تجربة للتعلم منها إيجابيًا، ولا يغيب عنا أنه ليس معنى الفشل مرة الفشل دائمًا، فإن الشمس ستشرق من جديد وستبحر السفينة وتستمر عجلة الحياة. وإليك عزيزتي هذه الهمسات:
ـ اتركي الماضي خلفك وانسيه تمامًا ولا تجعليه يؤثر في حياتك.
ـ لا تكوني حساسة وتفسري تصرفات الآخرين أو كلامهم على أنهم موجه إليك، ولا تنعزلي عن العالم بسبب خوفك من النظرات فأنت إنسانة عادية، فقط كوني طبيعية وثقي نفسك.
ـ لا تتعجلي في القبول بأول خاطب ولا بد من السؤال الجيد عنه والاختيار المناسب.
ـ اجعلي لك أهدافًا في الحياة مثل إكمال دراستك، وإيجاد عمل مناسب، أو حفظ كتاب الله، والحرص على رضا الله تعالى .
ـ الصبر على الابتلاء، واعلمي أن هذا قدرك فاحمدي الله على ما قدره لك واصبري، والصبر على الابتلاء توفيق من الخالق العظيم، فإن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه حتى يختبر صبره وإيمانه {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216].
والعيش ليس يطيب من إلفين من غير اتفاق
ولعل الخير يكون للزوجين معًا بعد الطلاق مصداقًا لقول الله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} [النساء:130].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية:
'قد أخبر الله تعالى أنهما إذا تفرقا فإن الله يغنيه عنها ويغنيها عنه بأن يعوضه الله من هي خير له منها، ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه'.
{وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} أي واسع الفضل، عظيم المن، حيكمًا في جميع أفعاله وأقداره وشرع.
الحر من راعى وداد لحظة:
من الأزواج من لا يكتفي بالتسريح الجميل إذا لم يتوافق مع زوجته، فإذا افترقا بالطلاق يسرف في ذمها وذكر مساوئها والافتراء عليها، وإشاعة أخبارها السيئة وغيبتها، وربما رماها بما هي منه براء، ونفَّر منها من أراد الزواج بها، وذمها عند أولادها منه، وحثهم على عقوقها وهجرها، وهذا من الظلم والعدوان.
ذلك أن الشارع سبحانه وتعالى أمر الزوج إذا فارق زوجته أن يسرحها سراحًا جميلاً وأن يسرحها بإحسان فيستر ما وقف عليه من عيوب زوجته ويمسك عما لا يجوز ذكره، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: 'لا ضرر ولا ضرار' [رواه مالك في الموطأ].
ـ ومن الخطأ العظيم ذم الزوجة أمام أولادها وحثهم على عقوقها وهجرها، وهذا أمر منكر، ونهي عن المعروف، فماذا يرجى من الأولاد إذا هم عقوا أمهم وهي أولى الناس ببرهم؟
فإن العقوق سينال هذا الأب من باب أولى.
فالواجب على الزوج إذا فارق زوجته أن يمسك لسانه عن الوقيعة بها، وأن يحث أولادها ـ إن كان لها أولاد منه ـ على برها وصلتها.
وهذا من المروءة والتدمم 'الرحم التي بينهما' وحسن الوفاء.
ـ وما يقال للزوج يقال للزوجة أيضًا فإن كرام الناس وأهل الوفاء يحفظون الود ولا ينسون الإحساس مهاما تقادم عليه الزمان، حتى وإن افترقا، والحر من راعي وداد لحظة.
ـ وهذه الزوجة التي طلقتها أيها الزوج لا شك كان لك معها ـ رغم كل عيوبها ـ لحظات وداد وصفاء، وكان لك معها أيام وذكريات، فلا تجعل الحقد يعمي عينيك عن رؤية الحق، كن شريفًا، وتخلق بأخلاق الكرماء، ولا تنسَ ما كان بينكما من فضل كما أمرك الله تعالى في قوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:237].
وأخيرًا نقول للزوج:
لا تظلم زوجتك المطلقة وأعطها حقوقها كاملة، وما تم الاتفاق عليه ولا تراوغ وتحاول أن تأكل حقها، ولتخرج من حياتها بالمعروف وأعلم أن الله مطلع عليك {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:110].(/2)
الحرب الصليبية المعاصرة
دراسة موضوعية متكاملة تصدر كل أربعة أشهر عن مجلة الأنصار
العدد الثاني / ذو القعدة 1423 هـ / يناير - 2003 م
الحرب الصليبية المعاصرة
الحقيقة المفضوحة و الدور المطلوب
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن التصادم بين حضارة الحق و"حضارة" الباطل حقيقة قدرية لا داعي لإنكارها، ومعطى قائم على امتداد التاريخ، سواء كان هذا التصادم بسبب اختلاف المنطلقات الحضارية أو كان بسبب تضارب المصالح أو كان بهما معًا. وأي محاولة تَطرح إمكانية التعايش الدائم في ظل هذا الاختلاف تبدو ضربا من خيال الحالمين، أو لنقل: إنها – في حقيقة الأمر – ممارسة هروبية لن يستفيد منها إلاّ العدو. خاصة عندما تأتي في مثل الأوضاع الراهنة، والتي تتسم بانتشار النفوذ الغربي، وتنامي أطماعه في مقدرات العالم الإسلامي.
لقد ظل البعض يدعو إلى "الانسجام" الحضاري (في مقابل الصراع الحضاري) طيلة العقود الماضية، واجتهد في هذا الاتجاه إلى الحد الذي جعله يتهم المخالفين له بالتطرف الفكري، فما الذي – يا ترى – جنته الأمة من هذه الدعوة؟ هل تحقق السلام؟ هل عادت فلسطين..؟ باختصار: لا، لم يتحقق شيء، بل – على العكس – لقد ساعدت هذه الدعوة على تمييع القضية في عقل ووجدان المسلمين، مما رسخ نفسية الاسترخاء بينهم، في حين أن العدو كان يتحرك بجد في خط الصراع، ويستجمع كل ما أتيح له من المقدمات الضرورية لذلك.. وها هي النتيجة أمام أعين الجميع، إنها الحرب الصليبية تشن على الأمة من جديد، في محاولة واضحة لتكرار تجربة الماضي، وكأن التاريخ – كما قيل – يعيد نفسه مرة أخرى.
ويمكننا من خلال التتبع الموجز لمسيرة هذه الحروب، أن نضع أيدينا على الخلفية الدينية الكامنة وراءها، وأنها كانت دائما تستند إلى تحالف وطيد بين رجال السياسة ورجال الكنيسة، سواء أعلن الصليبيون عن ذلك صراحة أم حاولوا إخفاءه رعاية للمصالح. ولعل هذا ما ظهر بوضوح في الحملة المعاصرة، والتي أعلن "بوش" بصراحة أنها حرب صليبية شاملة.
وقد كان من المطلوب – شرعا وعقلا – أن يقف المسلمون على الدلالات التاريخية التي تحملها هذه الكلمة، أولاً ليستنبطوا منها نوع وطبيعة الحرب معلنة عليهم، وثانياً ليلتقطوا من خلال إيحاءاتها طبيعة الدور المطلوب في هذه المرحلة. لكن الإرث السلبي لعقود القعود، وعمليات التدليس التي مارسها البعض على العقل الإسلامي كلها عوامل ساعدت على إفراز حالة من التفاعلات الهزيلة لا ترتقي إلى مستوى الحدث الذي يهدد الأمة في مقوماتها الحضارية ووجودها الحقيقي.
وفي هذا الكتاب "الحرب الصليبية المعاصرة: الحقيقة المفضوحة والدور المطلوب" حاول الباحثون أن يقدموا رؤية متكاملة للحدث الذي يواجه الأمة الإسلامية في المرحلة الراهنة، آملين من الله تعالى أن نكون قد وقفنا إلى المساعدة على توعية الأمة بحقيقة الواقع القائم، ورسمنا لها معالم عامة على الطريق المؤدي إلى غد أفضل.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
( التحرير
الحملة الصليبية المعاصرة
رؤية إسلامية
سيف الدين الأنصاري
لقد كانت المقالة الشهيرة "صدام الحضارات" لـ"صموئيل هانتغتون" التي نشرها سنة 1993 م، والتي تحولت فيما بعد إلى كتاب، إشارة واضحة إلى ما يمكن أن تكون عليه الأوضاع في المستقبل، خاصة أن المقالة كثفت من استدعاء الدلائل التي تبرز أن الحضارة الإسلامية هي أول المرشحين للتصادم مع الحضارة الغربية، وأن هذا التصادم يرجع أساسا إلى العامل الديني، والذي – حسب تعبير الكاتب – "يقسم الناس بشكل أكثر حدة وشمولاً". وخاصة – كذلك – أن "هانتغتون" ليس مجرد كاتب عادي، فهو البروفيسور هانتغتون، المقرب من دوائر صناعة القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي غالبا ما تستند في مشاريعها الاستراتيجية إلى الأطروحات الفكرية لمثل هؤلاء المنظرين. فكان من المفترض – إذن – أن يأخذ قادة الفكر والسياسة هذه الإشارة مأخذ الجد، وأن يتعاملوا معها على أساس أنها استشراف لمعالم الهدف المستقبلي، وتسريب لثوابت الرؤية الغربية اتجاه العالم الإسلامي.
لكن بينما كان الغرب يطرح فكرة حتمية الصدام بين حضارته والحضارة الإسلامية، ويجتهد في بلورة هذه الفكرة إلى رؤية استراتيجية يتحرك من خلالها إلى تحقيق مصالحه في بلادنا، كان مثقفو الأمة يعيشون حالة من الارتباك الفكري، جعلتهم يتعاملون مع الموضوع بروح هاربة من مواجهة الواقع، بحيث اجتهدوا فقط في إسقاط هذه الفكرة وإثبات أنها فرضية متهافتة، لا تعبر إلاّ عن مثالٍ للتفكير الأصولي الشاذ، ولذلك لم يسمحوا لها أن تعكر عليهم أجواء التلذذ بموائد الحوار وأماني السلام.(/1)
وازدادت آثار المشكلة سوءً عندما ساهم في هذا التغافل بعض مثقفي التيار الإسلامي، حيث بدأت – في سبيل إبراز الوجه الحضاري للدعوة – عملية "تزييف الوعي"، وهي العملية التي تمت عن طريق التشويش على مجموعة من الثوابت العقدية والمفاهيم المنهجية، والضغط عليها لتتلاءم مع الصورة الوردية للإسلام، فبدأنا نسمع عن "إخواننا النصارى" و"الملة الإبراهيمية لتقارب الأديان الثلاثة" و"خط اللاعنف مطلقا" و"التسامح بلا حدود" و"مذهب غاندي"، وغيرها من المفاهيم الانهزامية التي ساعدت على تكريس حالة الاسترخاء اتجاه العدو، في الوقت الذي كان فيه هذا العدو يستعد لصدام حضاري بالمعنى الكامل للكلمة.
وقد كانت الحرب على العراق – بما صاحبها من التدمير والتنكيل الذي تجاوز موضوع تحرير الكويت – علامة واضحة على طبيعة النية المبيتة، حيث ظهر بجلاء أن الهدف الحقيقي هو استعمار المنطقة، وزرع الوجود الغربي في قلب العالم الإسلامي. ويومها قال العقلاء إنها حرب صليبية جديدة، وإن هذه الخطوة – رغم فظاعتها – ما هي إلاّ إجراء تحضيري يستهدف التمهيد لحرب شاملة.
ثم جاءت الحرب على أفغانستان، وظهر بجلاء – كذلك – أن المحرك الأول للاعتداء هو الحقد النصراني على المسلمين والرغبة في الوصول إلى خيرات بلدانهم، وإلاّ لماذا تُستهدف دولة قائمة بحجة أن هناك بعض "الإرهابيين" في البلاد!! ولماذا بدأ الاعتداء قبل ظهور ولو نصف دليل على مسؤولية "القاعدة"؟ ولماذا هذا التحالف النصراني على التنكيل بالشعب الأفغاني المسلم؟ ثم لماذا تفرض عليه حكومة مرتدة عميلة لأمريكا؟!! كل هذه الأسئلة يجيب عنها القيصر "بوش الصغير" بالواضح: "إنها حرب صليبية شاملة".
نعم لقد استعمل بوش هذه العبارة عند بداية الحملة، وكان بالإمكان أن ترن في آذان المسلمين ليستيقظوا من سباتهم، وليراجعوا حساباتهم، إلاّ أن العكس هو الذي وقع، لقد أوّلها المنافقون، وتغافل عنها الأكثرون، إصرارا منهم على استبعاد فكرة الحرب الدينية وإحسانا للظن بالإدارة الأمريكية "المتحضرة". لكن "بوش" عاد مرة ثانية وأكد أنه يعي ما يقول، حيث جاء في حديثه إلى الجنود الكنديين "وقِفوا إلى جانبنا في هذه الحملة الصليبية الهامة"، حتى لقد قال "روبرت فيسك" في إحدى مقالاته: "يبدو أن الرئيس بوش يعتقد حقيقة أنه يقود حملة صليبية، فقد عاد ليستعمل العبارة قبل أيام رغم أنه حُذر من ذلك".
وها هي الأحداث تؤكد أن أفغانستان وجماعات الجهاد لم تكن إلاّ المحطة الأولى في هذه الحملة، وأن شعار مكافحة "الإرهاب" لم يكن إلاّ عنوانا مغلوطا يتم تحته الاجتهاد في طمس هوية الأمة الإسلامية، وقتل الشرفاء من أبنائها، واستغلال خيراتها، بل والتدخل السافر في كل شؤونها، فيما يبدو أنها محاولة جديدة للعودة إلى الاستعمار المباشر، بعد أن ظهر أن الاستعمار بالوكالة قد بدأ يفقد قدرته على الإمساك بزمام الأمور. وها هي جنود الصليب ترابط اليوم على أبواب جزيرة العرب، وتطوق قلب العالم الإسلامي، وقد أعدت نفسها لتنفيذ المشروع الصهيوني في المنطقة، في تناسق كامل بين المصالح السياسية والخلفية الدينية، تماما كما هي الحقيقة الثابتة للحروب الصليبية على امتداد التاريخ.
أولاً: الحملة المعاصرة والامتداد التاريخي
يعتبر التاريخ أهمَ العوامل المؤثرة في تشكيل الوعي عند الإنسان، لأنه يعرّفه بالجذور العميقة للتفاعلات الحضارية، ويفتح أمامه آفاق الاستفادة من التجارب البشرية التي سبقته، خاصة عندما تكون عملية قراءة الأحداث خاضعة لمنهج علمي دقيق، بحيث يعمل على تمحيص الأخبار، ويحرص على استخراج السنن القدرية التي تحكم حركة الحياة، مما يُكسب المطلع على التاريخ خبرات عديدة تساعده على امتلاك رؤية جيدة للواقع، وتقترب به كثيرا نحو التقدير الصحيح للموقف.
وقد حرص القرآن الكريم على ترسيخ الاهتمام بدراسة التاريخ، وأمر مرارا بالنظر في أحداثه لاستفادة العبر والدروس التي يحتاجها المسلمون في مسيرة الحياة. إضافة إلى أنه عرض صفحات طويلة من التاريخ البشري، خاصة فيما يتعلق بالتفاعل بين حضارة الحق و"حضارة" الباطل، وقرر في هذا الموضوع خطوطا عريضة تصلح أن تكون بمثابة السجل الذي يمكّن المسلمين من معرفة العدو، والقواعد العلمية التي تساعد على استشفاف الدلالات الخفية لمواقفه، لكي لا نبقى ضحيةَ الإيحاءاتِ التي تحملها المواقف التكتيكية والتي غالبا ما تتحول تبعا للمصالح المتحركة.
ولكن – وللأسف – قليل هم الذين يهتمون بالتاريخ من المسلمين المعاصرين، وحتى من يفعل فإنه يعرف عن تاريخ العالم الغربي أكثر مما يعرف عن تاريخ أمته الإسلامية، مما أتاح للغرب فرصة تزييف التاريخ الإسلامي، حيث اجتهد في قلب الحقائق والتحكم في تفسير الأحداث، مستغلا في ذلك ضعف الذاكرة عند المتأخرين من المسلمين.
1 – لمحة تاريخية لاستعادة الذاكرة(/2)
لقد كانت الانتصارات التي حققتها الفتوحات الإسلامية – خاصة في بلاد الشام وشمال إفريقية – سببا أساسيا في تغلغل الحقد الدفين لدى الدول النصرانية اتجاه المسلمين، إذ رأى هؤلاء في هذه الفتوحات تقليصا لنفوذهم السياسي الذي كان يستعبد الشعوب، وتضررا لمصالحهم الاقتصادية التي كانوا يجنونها من الدول المستعمَرة، فناصبوا المسلمين العداء والحرب من أجل ذلك. وزاد من هذا العداء دخول الكنيسة على الخط، لأن مصالحها كانت مرتبطة بمصالح الأمراء الإقطاعيين، ولأن الدعوة الإسلامية ساعدت على تحرير العقل الأوروبي من الخرافات الكهنوتية، مما أدى إلى تراجع حاد في سلطان الكنيسة على الإنسان المسيحي، فردت هي بشن حملة فكرية سعت من خلالها إلى تشويه صورة الإسلام، ورسخت ذلك ببث الأفكار العدائية وجعْلها من صلب العقائد المسيحية، الأمر الذي ضاعف من مستوى كراهية النصارى للمسلمين، وجعل منهم مادة أولية للحروب الصليبية التي شُنت على العالم الإسلامي.
فبعد الهزائم المتكررة أمام حركة الفتح الإسلامي تنادت الدول النصرانية إلى التكتل لتوجيه ضربة قوية واستباقية إلى العالم الإسلامي، مستغلة في ذلك خصوصيةَ المرحلة التي كانت تمر بها الأمة (التمزق الداخلي)، ودخولَ عناصر همجية محاربة (القبائل الجرمانية والمجرية) في النصرانية، فتشكل من ذلك التكتل حلفا نصرانيا تدعمه كل الكنائس الغربية، وتوجهوا لغزو العالم الإسلامي.
ففي سنة 489 هـ (1095 م)جمع البابا "أوربان الثاني" في فرنسا جمعا غفيرا من رجال الدين، ودعا إلى الحرب الصليبية على العالم الإسلامي، وطلب من النصارى أن يحتلوا بيت المقدس. وقد تولى بطرس الناسك التنفيذ السريع لهذا الطلب، حيث سار بجموع المتطوعين – الذين كان أغلبهم يعاني من عقدة الحرمان والجوع – إلى أن وصلوا إلى بلاد المسلمين، وعندها صبّوا جام غضبهم عليها فأهلكوا الزرع والضرع، وأحرقوا الأخضر واليابس، وقتلوا ومثّلوا وانتهكوا الحرمات، إلى أن تدخلت دولة السلاجقة (الإسلامية) وصدت هذا الهجوم الهمجي، فأفشلت هذه الحملةَ ومنعتها من تحقيق أهدافها.
لكن تلتها حملة أخرى بعد أعوام، وقد كانت أكثر تنظيما من الأولى، مما مكنهم من تحقيق أهدافهم، حيث دخلوا أنطاكية سنة 491 هـ، ثم اتجهوا بعدها نحو القدس ودخلوها سنة 492 هـ (1099 م)، ثم حيفا سنة 494 هـ، وعكا سنة 497 هـ، وطرابلس وجبلة سنة 503 هـ، ثم أخذوا صيدا سنة 504. وقد كان لدولة العبيديين (الدولة المرتدة) الأثر الكبير في التمهيد لهذه الحملة، لأنهم هم الذين استعانوا بالصليبيين على دولة السلاجقة، وتحالفوا معهم على الإطاحة بها على أساس أن يتقاسموا حكم الشام بعدها.
ثم جاءت حملة ثالثة أرادت أن توطد أركان الاستعمار وأن تتوسع أكثر في العالم الإسلامي، لكن تصدت لها جماعات الجهاد ودولة آل زنكي المجاهدة، وكانت الحرب سجالا بين الطرفين، إلى أن انتهت في عهد صلاح الدين الأيوبي بالانتصار في معركة حطين سنة 583 هـ، وهو الانتصار الذي لم يتحقق إلاّ بعد القضاء على دولة العبيديين (الدولة المرتدة) في مصر، لأنها كانت بمثابة العدو الذي ينخر في الجسم الإسلامي من الداخل، ويقدم الخدمات الكبيرة للعدو الخارجي!!
لكن الدول الصليبية كانت قد ذاقت لذة الغزو، فعادت إلى الحملات مرات أخرى، واستهدفت مناطق متعددة في العالم الإسلامي، وفي كل مرة كانت تلقى مقاومة شرسة – إما رسمية أو من طرف الجماعات المجاهدة – تتكبد فيها خسائر كبيرة، حتى لقد أُسِر في بعض الحملات لويس التاسع عشر ملك فرنسا على يد الظاهر بيبرس رحمه الله.
ثم غيَّر الصليبيون استراتيجياتهم لغزو العالم الإسلامي، فبدأت هذه المرة حركة الاكتشاف التي مهدت لما عرف بالاستعمار الأوروبي، وقد كان من أشهرها رحلة "فاسكودي جاما"، وهي الرحلة التي قالوا بعد نجاحها: "الآن طوقنا رقبة العالم الإسلامي، فلم يبق إلا جذْب الحبل فيخنق". وهو ما وقع بالفعل، فقد تدفقت حملة استعمارية تحمل الروح الصليبية بكل ما تعنيه الكلمة من التوافق بين المصالح السياسية والخلفية الدينية، حيث كانت هذه الحملة تتم بدعم لامحدود من قيادات الكنيسة، وعلى رأسهم الأب "نيقولا الخامس" الذي كان يحرص على تغذية الحرب بالمشاعر الدينية، حتى لقد قال الجنرال غورو وهو يقف على أرض الشام: "ها قد عدنا ثانية يا صلاح الدين".(/3)
وفي الماضي القريب اتخذت أمريكا من حادث الهجوم على الكويت ذريعة لشن حملة على العراق، وقد كانت حملة صليبية بالمعنى الكامل للكلمة، أولاً لأنها تجاوزت موضوع تحرير الكويت إلى الاستيطان في المنطقة بكل ما يعنيه ذلك من التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وثانياً لأنها حملت حقدا نصرانيا تجلى في الحرص على تدمير كل العراق، وقتل وتجويع وتجهيل كل الشعب العراقي، بل والعمل على تنصيره كما يقع في الشمال. وهذه هي ملامح الحروب الصليبية على امتداد التاريخ. ولازالت ذيول هذه الحرب تمتد إلى يومنا هذا، وربما كانت أهم الأسرار الكامنة وراء الحملة الصليبية المعاصرة.
2 – الحملة المعاصرة: الحلقة الجديدة
مباشرة بعد غزوتي ثلاثاء الفتح – وقبل أن يظهر أيُّ دليل على مسؤولية القاعدة – أعلنت أمريكا الحرب على أفغانستان، مخالفة بذلك كل ما يعرف بالأعراف الدولية، وضاربة بكل قيمها الديموقراطية عرض الحائط، حيث أعطت لنفسها الحق في كل شيء.. العدوان من غير دليل، والقصف الوحشي للأبرياء، والتدخل في الشؤون الخاصة للدول، وفرض الأنظمة التابعة لها على الشعوب.. إلخ، وكلها تجاوزات أسقطت عن أمريكا وحلفائها الأقنعة التي كانت تتجمل بها، فظهرت على حقيقتها أمام الجميع، خاصة أن بوش لم يتمالك نفسه فأعلن بعظمة لِسَانه أن الحرب صليبيةٌ شاملة.
ولأنها كذلك فقد تجاوزت حد الاعتداء على أفغانستان لتدخِل في دائرتها كل الجماعات المجاهدة على امتداد العالم، حتى تلك التي تقاوم الاحتلال الأجنبي، كالجماعات المجاهدة في فلسطين وفي الشيشان وفي كشمير، وفي غيرها من ديار المسلمين، حتى لقد ظهر بجلاء أن النية المبيتة عند العدو هي الإجهاز على كل عرق نابض بالحياة في هذه الأمة، لتصبح كالدجاج والنعاج، يُعتدى عليها فلا ترد، وتُغتصب أرضها فلا تدافع، وينتهك عرضها فلا تغضب، وتداس مقدساتها فلا تثور، ويُنصّب عليها العملاء فلا تتحرك، وإلاّ فهي أمة إرهابية.. وللغرب النصراني الحق في مكافحة الإرهاب!!
بل لقد امتدت هذه المكافحة للإرهاب إلى كل ما هو إسلامي، بدءً بمدارس العلوم الشرعية ومرورا بالجمعيات الخيرية، ولم تنته بعدُ بالعمل على تغيير المناهج التعليمية والتوطيد للنظم السياسية والاجتماعية الجاهلية، لأنها – كما يقول بوش – حرب صليبية شاملة، تستهدف القضاء على الهوية الإسلامية للأمة، لتصبح مسخا مشوها مفتقدا لكل مقوماته الحضارية، من تم يسهل على الغرب النصراني ابتلاعه، أو على الأقل دمجه في حظيرة الأمم التابعة.
وها هي أمريكا – بعد أن فشلت في تحقيق أهدافها الأساسية في أفغانستان – تتوجه إلى العراق، وتحشد لضرب أبناء الأمة الإسلامية هناك ما يُظهر مستوى الحقد ونوعية المقاصد المبيتة، وأنها أولاً التمكين للكيان الصهيوني في المنطقة، والوصول إلى خيرات البلاد العربية، في خطوة يظهر عليها بوضوح أنها تجمع بين المصالح السياسية والخلفية الدينية للحرب، تماما كما هي الحقيقة الثابتة للحروب الصليبية.
ثانياً: الحملة المعاصرة والحضور الديني
لقد استبعد البعض أن تكون الحرب التي تشنها أمريكا وحلفاؤها على الأمة الإسلامية حربا صليبية، لأن هذا التوصيف يوحي بالحمولة الدينية للحرب، وفكرة الحرب الدينية عند هؤلاء فكرة رجعية لا تليق إلاّ بقاموس "القرون الوسطى"، في حين أن الدول الغربية دول متحضرة، يجب أن تُنزه عن التلبس بالأفكار المتخلفة. وإذا كان "بوش" قد قال إنها حرب صليبية، فإن عقلانية الرؤية تفرض علينا أن نعتبرها مجرد فلتة لسان قابلة للتأويل!!
هكذا يقول أصحاب الورع "المتأمرك"، وهي محاولة لخلط الأوراق الفكرية على المسلمين، تهدف إلى خلق حالة من الارتباك في التعامل مع الموقف، بحيث تؤدي إلى تجميد العدد الأكبر من الطاقات الإسلامية، ومن تم يتسنى لأمريكا الوصول إلى أهدافها بأقل الخسائر الممكنة. ولذلك أريد أن أركز – قبل الدخول في التفاصيل – على مسألة معينة، وهي أنه سواء كانت هذه الحرب حربا دينية صليبية أم لا فإن الواجب الشرعي يفرض على المسلمين أن يجاهدوا الاعتداء وأن يردوا على عدوان الكافرين حتى ولو كانوا من عالم الجن والشياطين، قال تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين}[البقرة: 191].
ولكن لا بأس بتوضيح المشهد الراهن ليكون المسلمون أكثر وعيا بالواقع القائم، لعل ذلك يساعد على تحريك العناصر الصادقة في هذه الأمة، ويدفع بها إلى أخذ موقعها في الصراع قبل فوات الأوان.
1 – ما معنى حرب دينية؟
عندما تكون محاربتنا للعدو الكافر مستندة في دوافعها إلى الدين الإسلامي فإنها بالنسبة إلينا حرب دينية، وهي التي نسميها في عرفنا الشرعي الجهاد، ولا يهمنا في تحديد هذا التوصيف لطبيعة حربنا للعدو هل العدو هو الآخر يخوض ضدنا حربا دينية أم لا، فذاك موضوع ثان، المهم في الحكم على طبيعة حربنا نحن هو طبيعة الدوافع ومدى ارتباطها بالدين الإسلامي.(/4)
فالحرب مع التتار مثلا كانت بالنسبة إلينا حربا دينية، رغم أن التتار همج لم يكونوا يحاربون من أجل دين معين، أي أنها من جهتهم لم تكن حربا دينية، لأنها كانت فقط من أجل النهب والسلب، ولكن من جهتنا نحن كانت حربا دينية، لأننا كنا نستند إلى ديننا الإسلامي في وجوب الدفاع عن النفس ووجوب الرد على العدوان.
وهكذا هي الحرب في الإسلام، دائما يجب أن تكون دينية، لأنها دائما يجب أن تستند إلى الدوافع التي حددها الدين. فإذا كان العدو هو الآخر مستندا في حربه لنا إلى دين معين فإن الحرب في هذه الحالة أصبحت دينية من الجهتين، وغالبا ما تكون هذه الحالة هي صورة الحروب التي قد نخوضها مع أصحاب الأديان السماوية المحرّفة (اليهود والنصارى)، أو مع أصحاب العقائد الأرضية الكفرية (الوثنية والشيوعية والعلمانية مثلا).
لكن إلى أي حد يمكن اعتبار الحرب التي تشنها أمريكا على المسلمين هي حرب دينية؟
للجواب عن هذا السؤال نحتاج – أولاً – إلى استحضار معنى الدين، وأنه قد يكون أرضيا كما يكون سماويا، وأنه أكبر من أن يختزل في الجانب العقدي وبعض الشعائر التعبدية، وإنما المعنى العام للدين هو أنه عبارة عن نظام للحياة يستند إلى تصور معين(1)، فإن كان هذا النظام يرجع إلى الوحي الإلهي – وبالضبط القرآن الكريم والسنة المحمدية – فهو الدين الحق، وإن كان لا يرجع إلى الوحي الإلهي فهو الدين الباطل، سواء كان سماويا محرفا أو كان أرضياً من وضع البشر للبشر.
وقد أعلنت أمريكا أنها تستند في حربها على الأمة الإسلامية إلى قيمها الأمريكية، بدءًا من العلمانية في السياسة وليس انتهاء بالإباحية في الاجتماع، وأنها تريد فرض هذه القيم على المسلمين تحت مسمى القيم الديموقراطية، لتصبح بديلا عن القيم الإسلامية. أي أن المسألة تتجاوز الحرب السياسية بمعنى الصراع على المصالح الخالية من الحضور الديني، فهناك قيم أمريكية يراد لها أن تفرض علينا في مقابل قيمنا الإسلامية، وهناك حرب إفرنجية – بكل ما تحمله من الإرث العقدي المتصهين والحاضر العلماني – يشنها العالم الغربي على الأمة الإسلامية، فالتحالف النصراني إذن يشن علينا حربا دينية بالمعنى الواضح للكلمة، مهما حاول البعض دس رأسه في الرمال للهروب من هذه الحقيقة.
وبما أن طلائع الأمة الإسلامية (الجماعات المجاهدة) تقابل هذه الحرب بجهاد إسلامي يجتهد في الدفع والمواجهة فإن الحرب تصبح دينية من الجهتين، أو على حد تعبير المستشرق "برنارد لويس" النصراني ذو الاتجاه الصهيوني، في إحدى مقالاته: "إن ما يحدث لا يمكن أن يكون غير وأقل من صدام حضارات"!!.
أما عندما تقول أمريكا وحلفاؤها أننا لسنا ضد الإسلام فإنهم يقصدون إسلاما أمريكيا، أي إسلاما هجينا يقبل الخضوع لأمريكا، بل ويعطيها الشرعية لأن تبسط سلطانها على العالم الإسلامي، إسلاما يجعل من المسلم جنديا أمريكيا مخلصا لوطنه مجتهدا في قتل المسلمين، إسلاما يقبل العلمانية في السياسة، ويقبل الإباحية في الاجتماع، ويقبل اللبرالية في الاقتصاد،.. يقبل كل شيء، يعني في الأخير إسلاما لأمريكا وليس إسلاما لله. أما الإسلام الذي يدعو إلى التوحيد، ويعمل على إزالة دولة إسرائيل، ويعمل على إخراج المستوطنات العسكرية من جزيرة العرب،.. أما هذا الإسلام فإن العالم الغربي يؤمن ويصرح بأنه معه في صراع حضاري.
2 – ثم هي حرب صليبية
قد يكون من نافلة القول التأكيد على أنها حملة صليبية، خاصة بعد أن صرح قائدها بوش بذلك، ولكن لا بأس أن نشير إلى أننا لا نحتاج لكي نعتبر حربا ما أنها صليبية أن يصرح أصحابها بمكنونهم النفسي، لأننا لسنا أغبياء إلى هذه الدرجة، إذ يكفي أن ننظر إلى المشاركين فيها هل هم نصارى أم لا؟ ثم هل تغذي العقيدة النصرانية هذه الحرب أم لا؟ فإذا اجتمع هذان الأمران فهي حرب صليبية، ويجب على المسلمين أن يتعاملوا معها على هذا الأساس، مهما اجتهد أصحابها في إخفاء الهوية بمساحيق التجميل وأدوات التنكر.
ومن هنا فإن الحرب التي يشنها اليوم العالم الغربي بقيادة أمريكا على العالم الإسلامي هي – بالواضح – حرب صليبية، بمعنى أنها حرب جديدة للنصارى على المسلمين، تُستحضر فيها – بشكل أساسي – الخلفية الدينية للمواجهة، لأنه كما يقول "مايكل كورتب وزوجته" (وهما أستاذان في جامعة بول الأمريكية) في كتاب بعنوان "الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية": "توجد الجذور الدينية للمواقف الأمريكية اتجاه الحرب والسلام في الكتب المُقدسة المسيحية واليهودية،... حيث أن المسيحية كانت لها السيادة في تشكيل المواقف في الولايات المتحدة اتجاه الحرب". ثم يُعدد المؤلفان مواقف الأمريكان فيقولان: تنقسم الحروب إلى ثلاثة أنواع هي:
__________
(1) - انظر "الدعوة في ظلال القرآن" أحمد فايز.(/5)
- الحرب المُقدسة: "..كان منهج الحرب المقدسة أو الحرب الصليبية هو أحد المظاهر المهمة للمواقف في الولايات المتحدة اتجاه الحروب، ومصطلح الحرب المقدسة يعني حربًا يشنها الصالحون نيابة عن الرب ضد الكفار والمهرطقين سياسيًا أو دينياً".
- الحرب العادلة: "..إن النموذج السائد للحرب والذي شكل مواقف الناس كان بطريقة أو بأخرى صورة من صور الحرب العادلة، ما دام إعلان الحرب يكون من جانب السلطة الصحيحة وما دامت أسبابها عادلة فيجوز للأفراد المشاركة فيها بنية حسنة، ويجوز إجبارهم على ذلك إذا استدعى الأمر... وعلى هذا النحو أصبحت الحرب أقرب ما تكون للحرب المقدسة".
- الحرب السَّلامية: "أي التي ترفض الحرب من وجهة نظر دينية باعتبارها أمرًا يتنافى مع تعاليم المسيح عليه السلام.. لكن عنوان الاتجاهات السّلامية هذه تقف لتؤيد الحرب وتنخرط في أعمال اجتماعية لمساعدة المُتضررين منها حين تقع"(1).
إذن رغم أن الدين يتراجع باستمرار في معظم المواقف الحياتية للعالم الغربي إلاّ أنه في حالة الحرب يكون أول الحاضرين، بحيث أنه هو الذي يتولى عملية تفسير الحالة وعملية تحديد الموقف المبدئي فيها، لأن الحرب هي لحظة الأزمة الكبرى في العقل الغربي، وخاصة عند المجتمع الأمريكي، لأنه مجتمع طارئ لم يتأسس إلاّ بفعل الحروب الأوروبية على سكان البلد الأصليين، ولذلك عندما تقع الحرب فإن الوجدان الأمريكي يستدعي – وبسرعة – المعاني الدينية لتكون هي الأساس الأول في تفسير الحرب.
وليست هناك حرب خاضتها أمريكا لم يكن الدين حاضرا فيها بقوة، حتى الحرب العالمية الأولى، بل حتى حرب الإبادة التي طالت السكان الأصليين للبلاد، فعلاقة الدين بالحرب في العقل والوجدان الأمريكي علاقة وطيدة ومتداخلة، وما هذا التناغم الأمريكي- الصهيوني في حرب الإبادة التي تشن على الشعب الفلسطيني إلاّ صورة من تجليات هذه العلاقة، خاصة عندما نعلم أن الدين في العقلية الأمريكية هو خليط مفبرك من العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل)، أي تحالف قذر بين اليهودية الصهيونية والمسيحية المتصهينة. بل لقد فُسرت حرب الخليج الثانية على أنها خطوة نحو الإعداد لحرب "هرمجدون"، وهي الحرب التي لها شأن كبير في العقل والوجدان النصراني.
وعندما قال "بوش" أنها حرب صليبية لم يكن مُخطئًا ولا ناسيا ولا نائما، وإنما كان يُعبر عن الضمير الأمريكي في أوقات الحروب، وعن حقيقة الوجدان الغربي اتجاه العالم الإسلامي. وحتى العبارات الأخرى التي أطلقها في حملته مثل "مواجهة الشر" و" الطيبين والأشرار" و"العادلة المطلقة"، هي في الواقع تعبيرات دينية ذات طابع صليبي، يُقصد بها المسيحية والمسيحيون في مواجهة الإسلام والمسلمين.
أما المحاولات التي استهدفت الترويج لمقولة أن الإسلام يختلف عن الإرهاب فلم تكن إلاّ لذر الرماد في العيون، ولم تكن إلاّ خدعة سياسية قصد بها إرباك الموقف الإسلامي، أولاً لتحييد البعض – مؤقتا – من ساحة المواجهة، وثانياً لإفساح المجال أمام الأنظمة العميلة في العالم الإسلامي لتساهم في الحرب على الإسلام والمسلمين تحت دعوى الحرب على الإرهاب. لأن العالم الغربي النصراني يعلم أن الإسلام هو الوحيد الذي يُمثل بالفعل تحديًا للحضارة الغربية اليهودية - المسيحية، وأن المسلمين المجاهدين هم العائق الأكبر – أو ربما الوحيد – في طريق بسط هذا الغرب سيطرته على العالم الإسلامي.
ثالثاً: النصارى والحملة: مشهد التداخل
من المعلوم عندنا أن اليهود أشد عداوة للمسلمين من النصارى، قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}[المائدة:82]، ولعل هذا هو السبب في الحساسية العالية التي تجدها في إرثنا الثقافي اتجاههم، فنحن نبغض اليهود أكثر من بغضنا للنصارى، لكن إذا تأملنا التاريخ فإننا نجد أن جل حروبنا في الماضي كانت مع النصارى ولم تكن مع اليهود!! فاليهود لم يدخلوا حربا مع المسلمين طيلة أربعة عشر قرناً إلا مرة في زمن النبوة، ثم عند الاحتلال الأخير لفلسطين، بخلاف النصارى فإن الحرب معهم لم تكن تهدأ إلاّ قليلا!!
__________
(1) - "الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية" نقلا عن محمد كمال منصور في مقال معنون بنفس العنوان.(/6)
ومن المهم جدا أن نقف أمام هذا المعطى التاريخي الهام، لا لنبحث عن الأسباب الكامنة وراء قلة الحروب مع اليهود، فهي معروفة، ولكن لنتأمل في الدلالات التي تحملها كثرة الحروب مع النصارى، هذه الحروب التي لازالت مستمرة إلى الآن، والتي لا تعد دولة اليهود في فلسطين إلاّ واحدة من آثارها، لعل هذا التأمل يساعدنا على استعادة التوازن إلى نظرتنا العقدية اتجاه النصارى، وأنهم في الحقيقة ليسوا "إخواننا النصارى" كما يحلو للبعض أن يصفهم، وإنما هم أعداؤنا النصارى، الكفار الذين كانوا دائما أعداء، والذين كثيرا ما كانوا كأنهم الذراع التنفيذي للمشروع اليهودي، لأنهم ينطلقون من تحالف عقدي يضع الإسلام هو العدو الأول في حياته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[المائدة:51].
يجب أن لا تغطي كراهيتنا لليهود الدورَ الخبيث لأوليائهم النصارى، كلهم أعداء، وإذا كان اليهود هم الأشد عداوة للذين آمنوا، فإن النصارى هم الأكثر قتالا للذين أسلموا، إضافة إلى أن التطور العقدي للمسيحية لم يترك فرقا يذكر بين النصارى واليهود، فجلهم صار من أتباع الحركة الصهيونية، إلاّ ما استثناه الدليل.
1 – الحملات الصليبية والخلفية النصرانية.
لقد تبين لنا من خلال اللّمحة التاريخية أن الحملات الصليبية مرتبطة بشكل مباشر بالنصارى، فهم مادتها الأولية.. القادة نصارى، والجنود نصارى، والمجتمعات النصرانية مستعدة دائما لتزويد الجيوش الصليبية بالعناصر المطلوبة. إذن هناك تداخل كبير بين النصارى والحملات الصليبية، ومن الصعوبة بمكان التفريق بينهما، إلاّ في حالات استثنائية ضيقة لا تعبر عن حقيقة الواقع من جهة، ولا تصلح لتأسيس الموقف المبدئي اتجاه هؤلاء النصارى من جهة أخرى.
وحقيقة هذا التداخل معروفة غير خافية، وهذا التاريخ أمام الجميع، لقد كانوا دائما أعداء، وفي أكثر الأوقات محاربين، ويمكن مشاهدة هذه الحقيقة في الماضي البعيد كما يمكن مشاهدتها في الماضي القريب، فهي موجودة في الحملات على العالم الإسلامي في التاريخ القديم، وفي الحملات الاستعمارية في التاريخ الحديث، وفي الحملات على البلقان وعلى العراق وعلى أفغانستان في التاريخ المعاصر.. إلخ. ويكفي أن نستحضر أن دولة اليهود التي تعد أم المشاكل الإسلامية في الوقت الراهن هي – في حقيقة الأمر – إنتاج إنجليزي، توطد في الماضي بفعل التواطؤ الغربي، ولازال مستمرا بفعل الدعم الأمريكي اللامحدود. بل ويمكن ملاحظة مشهد التداخل بين النصرانية والصليبية في المواقف الرسمية كما يمكن ملاحظتها على المستوى الشعبي، فأثناء حرب الخليج الثانية ظهرت شعارات في بريطانيا تُكتب على جدران الأحياء التي يسكنها المسلمون، تقول: (سنقتل طِفلَيْن مسلمَيْن، مقابل كل جنديٍ بريطانيٍ يُقتَل في العراق)!! أما ما يعانيه المسلمون في بلاد الغرب هذه الأيام من الاضطهاد والتمييز والتضييق فلا يحتاج إلى تعليق.
وعموما العالم الغربي كلُّه مسكون بفكرة الحروب الصليبية، وهي عميقة في الجذور النفسية والفكرية للشخصية الغربية، وتكفي الإشارة إلى أنه لم توجد دولة مسيحية واحدة اعترضت على العدوان الأمريكي على أفغانستان، حتى العالم الشرقي الأرثوذكسي والذي تقوده روسيا وقف هو الآخر في صف أمريكا، لأن العدو هذه المرة هو "الإرهاب" الإسلامي الذي يريد التحرر من ربقة الاحتلال النصراني.
إن العقل الغربي المعاصر ما هو إلاّ امتداد للعقل الغربي في القرون الوسطى، وكما كان رجال الكنيسة يعملون على ترغيب الناس في الحرب من خلال وعدهم بأن احتلال القدس يساوي الذهاب إلى الجنة, فإن رجال الكنيسة "الغربية" يعملون اليوم على الترغيب في محاربة العالم الإسلامي لنصرة القيم الأمريكية، ولقتال الإرهابيين الذين يهددون "إله الحرية" ويقفون في وجه عولمة القيم الغربية، ولذلك فليبارك الرب الحرب الصليبية على كل المسلمين، لنبدأ بالمجاهدين، فـ "ليس الجهاد إلا "صاعقاً" لقنبلةٍ هيدروجينيةٍ من نوعٍ جديد، اسمها: الإسلام)(1)!..
وللتوضيح، فإن الخلفية النصرانية للحروب الصليبية لا تعني أن يكون هؤلاء النصارى متدينون بالمعنى العملي، كلا، فهم غالبا ما يكونون من أبعد الناس عن الارتباط بالتعاليم المسيحية، فلا هم مسيحيون و"لا هم يحزنون"، وإنما هم مجرد نصارى حاقدين على المسلمين وطامعين في خيراتهم، ولا بأس أن يكون بعضهم متدين بالمعنى الاعتقادي، أي يحمل في رأسه وقلبه مجموعة من الأفكار المشبعة بالروح التلمودية، والتي تدعو إلى إبادة كل ما هو إسلامي وإلى التعجيل بإقامة دولة إسرائيل الكبرى لأنها مفتاح الخروج الثاني للمسيح عليه السلام!!
__________
(1) - مجلة "دير شبيغل" الألمانية-العدد الثامن لعام 1991 م- الصفحات 142- 149.(/7)
فعقدة الحروب الصليبية إذن هي أساس المفاهيم التي ينظر من خلالها الغرب إلى العالم الإسلامي، وإذا وجد بعض النصارى الطيبين والعقلاء فهذا لا ينفي القاعدة العامة، لأنهم استثناء من الأصل، وغالبا ما يكونون أبعدَ الناس عن مواقع التأثير. ومن الخطأ الكبير أن نروج لهذه الحالات الاستثنائية على أنها الوجه الحقيقي للعالم الغربي.
2 – الحملة المعاصرة والمسيحية المتصهينة
باستثناء بعض الأفراد القلائل يمكن أن نجزم أن العالم الغربي لم يعرف قط المسيحية على حقيقتها، وإنما عرف صورة محرفة من صنع الكنيسة لا صلة لها بالأصل. وباعتراف مؤرخي الغرب ومفكريه فإن اليهودي "بولس" كان قد أدخل على العقيدة المسيحية تعديلات جوهرية صرفتها كليا عن حقيقتها الخالصة.
إذن لقد بدأ الاختراق اليهودي للمسيحية منذ زمن طويل، وهو السبب الأول في كل الانحرافات العقدية الموجودة عند النصارى. لكن الجديد في عالم الاختراقات اليهودية للمسيحية كان في القرن السادس عشر ميلادي، حين ظهر المذهب البروتستانتي الذي يؤمن بكل النبوءات التوراتية، ويسعى باجتهاد إلى تحقيق كل ما يعتقد أنه من المقدمات الضرورية لتحقق تلك النبوءات، وأهمها:
إقامة دولة إسرائيل المنصوص عليها في التوراة (من النيل إلى الفرات) وتجميع يهود العالم فيها.
وقوع معركة كبرى بين قوى الخير (النصارى واليهود) وقوى الشر (المسلمين) تسمى (هرمجدون).
هدم أو تدمير المسجد الأقصى ليتسنى بناء الهيكل اليهودي مكانه.
وقد كانت إقامة دولة إسرائيل – على يد النصارى الإنجليز – واحدة على الطريق إلى "هرمجدون". بل يبدو واضحا من خلال التناغم اليهودي النصراني أن العالم الغربي سائر بجد نحو تحقيق كل هذه الأحلام اليهودية، فأمريكا توفر كل شيء لإسرائيل مهما كان الثمن، حتى لقد قال بعض الأمريكيين: "لقد حيرني أمر الصهاينة المسيحيين منذ الثمانينات. إنهم يضعون عبادة إسرائيل فوق تعاليم المسيح".
ومن هنا أصبح الصراع الإسلامي النصراني أكثر حدة من الماضي، لأن الصليبية اليوم صارت تجمع أكثر من رمز أيديولوجي في مواجهة الإسلام. فهي هذه المرة تنطلق من وحدة الإرث المسيحي - اليهودي، لتشكل تحالفا قذرا يرى أن العدو الأول هو كل ما له علاقة بالإسلام والحركات الإسلامية. وبذلك صار الدين (بالمعنى الاعتقادي) يلعب دورا مركزيا في صياغة سياسة العالم الغربي اتجاه العالم الإسلامي، وخاصة منطقة الشرق الأوسط، لأنها بؤرة الصراع.
إنها حرب صليبية جديدة يتلاقى فيها مزيج من اليهودية الصهيونية مع المسيحية المستولدة من صلب اليهودية الغربية. ومن تم صار أهم ما يميز هذا التحالف الصهيوني هو وحدة المصير ووحدة الهدف، إضافة إلى التقاء المصالح السياسية والاقتصادية، حتى لقد قال "حاييم" رئيس دولة اليهود الأسبق: "إنّ الأصولية الإسلامية هي أكبر خطرٍ يواجه العالَم، وإنّ إسرائيل تحمي قِيَم الغرب من الصحوة الإسلامية"!!
رابعاً: الحملة الصليبية والعناوين المغلوطة
لقد كان الغرب الصليبيّ – ولازال – يعتبر أنّ الإسلام هو مصدر الخطر الأكبر، لأنه الدين الذي يستطيع أن يشكل تهديدا حقيقيا للحضارة الغربية المفلسة، والزاد الذي يمكّن العالم الإسلامي من الوقوف في وجه مخططات الغرب الاستعمارية، ولذلك ينظر العالم الغربي إلى الصحوة الإسلامية على أنها أكبر خطرٍ يهدّده في المرحلة الراهنة. لأنه يعلم أن هذه الصحوة إذا ما تم توجيهها بشكلٍ إيجابيٍ فستؤدي إلى استعادة المسلمين لدورهم الحضاري في العالم، خاصة أن الحضارة الغربية آيلة إلى الزوال بفعل تراكم عوامل الفساد الخلقي والقيمي، وهذا ما عبر عنه أحد المسؤولين الكبار في الخارجية الفرنسية بقوله: "إنّ العالَم الإسلاميّ عملاق مقيّد لم يكتشف نفسه اكتشافاً تاماً، فإن تحرر من قيود جهله وعجزه، فإنه سيشكّل خطراً داهماً يُنهي الحضارة الغربية، ويُنهي وظيفتها في قيادة العالَم)(1).
فكل المواقف والإجراءات العدوانية السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، التي يتّخذها الغرب الصليبي اتجاه العالَم الإسلاميّ تحركها – بالأساس – هذه النظرة التي تحمل في عمقها الإحساس بالخطر من هذا العملاق، خاصة بعد أن ظهرت عليه بوادر استعادة العافية بفعل محاولات الرجوع إلى الهوية الإسلامية، وبفعل تنامي الوعي بالدور الخبيث الذي تلعبه الدول الغربية في تكريس حالة العجز والتبعية.
لكن الغرب الصليبي كان – ولازال – يجتهد في التستر على حروبه العدوانية بعناوين مغلوطة، يقصد بها إرباك الآخر من جهة، وإضفاء الشرعية على نفسه من جهة أخرى، وقد كان أهمها هذه المرة:
1 - محاربة الإرهاب الدولي
__________
(1) - انظر جند الله ص 22.(/8)
لقد أدى الإحساس المتزايد بـ"التهديد" الإسلامي للمصالح الغربية إلى جعْل الحركات الإسلامية على رأس قائمة الأعداء، وخاصة تلك التي تنتمي إلى ما بات يعرف بـ"السلفية الجهادية"، لأن الغرب وجد في الجماعات الممثلة لهذا التوجه حصانة عقدية ومنهجية تصعّب عليه وعلى أوليائه عملية الاحتواء، كما أن هذه الجماعات كانت قد أثبتت أنها الأكثر تعبيرا عن آمال الأمة والأكثر قدرة على التجاوب مع متطلبات المرحلة.
ولم تكن غزوة الثلاثاء إلاّ بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، وأبرزت الحرب الصليبية إلى السطح، وإلاّ فإن الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني وعملية القتل البطيء (الحصار) لغيره من أبناء الأمة الإسلامية كانت قائمة ولم تكن بحاجة إلى 11 سبتمبر، بل لم تكن تلك الغزوة إلاّ ردا طبيعيا على هذا العدوان. فإذا كان الرد بالمثل يسمى إرهاباً فإن أمريكا هي المسؤولة عن تأسيس الإرهاب والإرهاب المضاد.
عموما لا نريد أن ندخل في الجدل السفسطائي، فأمريكا وحلفاؤها النصارى هم أحرص الناس على عدم تحديد مفهوم دقيق للإرهاب، لأن هذا التحديد سيظهر أن الغرب النصراني هو الإرهابي الكبير عبر تاريخ البشرية. ويكفي أنّ أمريكا تعتبر الجماعات المجاهدة للمحتل الأجنبي – مثل حماس في فلسطين وطالبان في أفغانستان – جماعات إرهابية، وهو ما يعني على أن تعريف الإرهاب عند الغرب هو كل ما يفزعه، وأن الإنسان الإرهابي هو كل مسلم يمكن أن يتسبب في إفزاع إنسان صليبي.
لقد أصبحت "الحرب على الإرهاب" مقولة ممجوجة، خاصة بعدما تجاوزت الحملة المعاصرة الحرب مع مجاهدي القاعدة، وامتدت إلى الاعتداء على دولة طالبان الإسلامية، في هجمة مورست فيها كل أنواع الإرهاب الصليبي على الأمة الإسلامية هناك، بل لقد تجاوزت كل ما له علاقة بالجهاد لتصل إلى كل ما هو إسلامي، سواء كأشخاص ومنظمات أو كدين وثقافة، في محاولة واضحة لفرض القيم الأمريكية والهيمنة الغربية على المسلمين وعلى العالم الإسلامي.
فـ"الإرهاب" في العقل الغربي ليس إلا كلمة السر التي تفتح ملف كل ما هو إسلامي، لأن هناك إرثا ثقافيا مركوزا في الداخل الغربي هو الذي يفك رموز هذه الكلمة المشفرة، أي أن الإدراك الغربي يرى من منظور ثقافي (ديني) أن الإسلام هو الخطر الأكبر الذي كان – ولازال – يشكل له مصدر قلق وفزع، ومن تم فهو المعنى المتبادر لكلمة الإرهاب. وقد كان الإنتاج الفكري والإعلامي أقل تَحفظًا حين دعا – بوضوح – إلى وضع حد للوهم الذي يفرق بين الإسلام كدين وحضارة وبين الإرهاب.
ومن منظور التحليل النفسي فإن التصريحات التي أطلقها "بوش، وتشيني، وبلير" وغيرهم من تأكيد التفرقة بين الإسلام والإرهاب ما هي إلاّ جزء من حيل الدفاع لإخفاء الحقيقة المضمرة في عقولهم.. وهي أن المقصود بالحرب هو الإسلام، وأن "الحرب على الإرهاب" ليست إلاّ عنوانا مغلوطا يتم تحته الاجتهاد في طمس هوية الأمة، وقتل طلائعها المجاهدة، وشعار يراد به التسويق للحملة الصليبية في العالم، أولاً لإرباك الموقف الإسلامي في التعامل مع الوضع، وثانياً لتوفير الغطاء "الشرعي" لحشد الأنظمة ضمن حملة التحالف العدواني على هوية الأمة وعلى الشرفاء من أبنائها.
2 – قصة الأسلحة العراقية
هذا هو العنوان الثاني للحملة المعاصرة، والذي يتم تحته حشد إمبراطورية عسكرية صليبية في المنطقة العربية، أولاً لتطوق قلب العالم الإسلامي، وثانياً لتحضّر لغزو مكشوف للعراق وربما لكامل بلاد الشام والجزيرة العربية.
ولا نريد أن نخوض في الجواب عن السؤال الأول في الموضوع وهو: لماذا لا يجوز للعراق أن يمتلك أسلحة الدمار الشامل؟ ثم لماذا تحرم هذه الأسلحة على دولة عربية في حين أنها مباحة للدول الأخرى، وبالضبط لإسرائيل العدو التاريخي المزروع في قلب المنطقة العربية؟
طبعا من السخافة محاولة إقناعنا بشرعية هذه المعايير المزدوجة لأننا أمة تفكر بعقول الأحرار وليس بعقول العبيد، لكن الأكثر سخافة هو محاولة "شرعنة" الغزو الصليبي للعراق، حيث تم استصدار قرار دولي (يعني صليبي) يخول لبوش أن يقول: "إذا رفض الرئيس العراقي السماح بدخول المفتشين غير المشروط إلى كل موقع وكل وثيقة وكل شخص، فإن هذا سيكون إشارة واضحة إلى عدم الالتزام". وعدم الالتزام يعني مبرر الهجمة على العراق لقتل المسلمين والسطو على خيرات بلدانهم حسب القرار الصليبي 1441.
خامساً: معالم على طريق المواجهة
بعد هذا العرض السريع لحقيقة الحملة الصليبية المعاصرة نطرح السؤال التالي: ما العمل؟
نعم ما العمل؟ لأن الوضع لا يحتاج إلى الاستغراق في الرصد السلبي للحدث، نحن الآن أمام حالة طوارئ حقيقية، تتطلب تفاعلا عمليا يتسم بكامل الجدية والمسؤولية، فالمسلمون يواجهون حرب إبادة على امتداد بقاع العالم، وهويتنا الإسلامية تخضع لضربات صليبية تستهدف الإجهاز على كل مفردات المنظومة القيميّة للأمة.(/9)
ما العمل؟ لأننا مطالبون بواجبات شرعية تعتبر هي التجسيد العملي لمفهوم التدين.. نحن مطالبون بالدفاع عن الديار والقيم الإسلامية التي يستهدفها الغرب النصراني في حملته المعاصرة، نحن مطالبون بالرد على العدوان الصليبي على أمتنا في فلسطين وفي العراق وفي أفغانستان، نحن مطالبون بنصرة المجاهدين لأن هذه النصرة هي دليل الولاء الإيماني الذي يجمعنا بهم.. باختصار نحن مطالبون بالمواجهة، فهي أخص الواجبات الشرعية للمرحلة الراهنة.
لكن حتى لا تكون هذه المواجهة مجرد تحرك عاطفي تطغى عليه الارتجالية في التخطيط والتنفيذ.. حتى لا يقع هذا يجب أن نجتهد في ضبطها وفق مشروع متكامل يستجمع كل ما هو متاح من شروط الفعالية والتأثير، والتي أرى أهمية أن تكون تحت ثلاثة معالم أساسية.
1 – التعاون بين فصائل الحركة الإسلامية
لم تكن الحملات الصليبية الماضية تفرق بين هذا مسلم مجاهد وهذا مسلم قاعد، بل لم تكن ترحم لا العلماء ولا حتى الزهاد المنعزلين، الكل بالنسبة للصليبين سواء إلاّ ما اقتضاه الاستثناء الضيق، ومعنى هذا الاستثناء هو التنازل عن المبادئ الإسلامية، والذي غالبا ما يصل إلى حد الارتداد عن الدين، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}[البقرة:217] (1).
والحملة الصليبية المعاصرة مثلها مثل أخواتها السابقات، لا ولن تفرق بين هذا خط الدعوة والتربية وهذا خط الدعوة والجهاد، كلاهما بالنسبة إليها شيء واحد، وأقل "التهم" الثابتة في حق الأول أنه هو المسؤول عن بقاء وامتداد التدين في المجتمعات الإسلامية، وهذه – في نظر الصليبيين – مشاركة عملية في تهيئ الأجواء المناسبة لترعرع "الإرهاب"!! كما أن الحملة الصليبية المعاصرة لن تفرق بين هذا آرائي "معتدل" وهذا سلفي "متشدد"، كلاهما بالنسبة إليها شيء واحد، أو على حد تعبير "التايمز" البريطانية: "لا يوجد فرق بين معتدلين ومتشدّدين، فكلّهم مسلمون"(2). وبالتالي كلهم مستهدفون، ومن غُضّ عنه الطرفُ في هذا الشوط فلينتظر دوره في الشوط الثاني، فإنما تأجل الاهتمام به لأجل التفرغ لخط الدفاع الأول (الجماعات المجاهدة).
يجب أن يكون الجميع واعيا بأن الحملة المعاصرة تهدف إلى الإجهاز على كل ما هو إسلامي.. فهي تهدف إلى تجفيف منابع التدين، وإلى سحق هوية الأمة، وإلى المزيد من الإفساد الاجتماعي، بل إلى إعادة الاستعمار المباشر للعالم الإسلامي. فهي حرب شاملة، لم تسلم منها لا مدارس العلوم الشرعية، ولا حتى الجمعيات الخيرية، فضلا عن غيرها.
ولذلك فإن الحركة الإسلامية بمختلف تعبيراتها الفكرية والحركية تعد معنية بهذه الحرب، بل إنها القضية المعاصرة التي يجب أن توضع على رأس اهتماماتها، فالوضع القائم شكل لجميع الفصائل تحديات كبيرة وعلى مستويات متعددة، مما يدعو كافة الجماعات الإسلامية إلى وقفة صادقة لتشخيص جدي للواقع الذي تحياه وللخط الذي تتحرك من خلاله، ولتنظر في مدى مناسبة هذا الواقع وهذا الخط للمعطيات القائمة ولطبيعة الأهداف التي تتطلع إليها الأمة. لأن أكبر مظاهر القصور الذي يمكن أن يصيب الحركة الإسلامية هو انصرافها عن واجبات المرحلة، وانشغالها عنها بقضايا جزئية أو هامشية لا هي تمثل جوهر الصراع القائم ولا حتى تصب في أحد قنواته.
وهذا ما يقودنا – باعتبار معطيات المرحلة – إلى ضرورة التعاون بين فصائل الحركة الإسلامية على مواجهة الحملة الصليبية المعاصرة، لأنه لا يمكن تحقيق الفعالية المطلوبة إلاّ به، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:2]، وإذا كان البعض لازال "متورعا" في جهاد الأنظمة الطاغوتية، فإن جهاد الكافر الأصلي الصليبي لا يختلف فيه اثنان ولا تتناطح حوله عنزتان، بل حتى أعراف القانون الدولي تسمح بمجاهدته لأنه في موقع الاعتداء ونحن في موقع الدفاع، إذن فلتكن هذه هي نقطة الالتقاء التي يتعاون فيها الجميع.
ولست هنا بصدد التنظير الحركي لصيغة هذا التعاون، ولا للمجالات التي يمكن أن يقع فيها، ولا لطبيعة الأدوار التي يمكن أن يقوم بها كل فريق، ولا للإجراءات الاحتياطية المطلوبة في مثل هذا النوع من التفاعل.. لست بصدد هذا، فذاك موضوع آخر، أرى أن يترك لقيادة العمل الإسلامي في كل بلد، فهي أعلم بمعطياتها الذاتية والموضوعية. المهم عندي هنا هو أن نطرح موضوع التعاون حول نقطة الالتقاء هذه (دفع الصائل الصليبي) طرحا جديا، بحيث يصير حاضرا بقوة في البرامج الحركية للجميع، لأن هذا هو الواجب الشرعي في الوضع الراهن، وأنا شخصيا أعتبره المحك العملي لاختبار مدى التفعيل الصادق لشعار "نتعاون فيما اتفقنا عليه"(3).
__________
(1) - انظر "ولا يزالون يقاتلونكم" للكاتب.
(2) - في عددها الصادر بتاريخ 16/6/1992م
(3) - أول من أطلق هذه القاعدة الحركية هو الأستاذ حسن البنا رحمه الله، ولها شطر ثان عليه بعض التحفظ.(/10)
وإذا كنا لا نستطيع – في الوقت الراهن – أن نصل بهذا التعاون إلى مستوى الوحدة التنظيمية، فعلى الأقل الاجتهاد في تفعيل دور التنسيق، فقد ملّت القواعد المخلصة والجماهير العريضة من هذا التفكك الذي أصاب الجسم الإسلامي، وأصبح السؤال الصحيح الآن هو: ما هو حكم الله في حقنا، هل هو القعود مع القاعدين أم الجهاد مع المجاهدين؟ هذا هو سؤال المرحلة، بعيدا عن البكاء على الأطلال فإنه لا يغير الواقع، وبعيدا عن أدبيات التنويم المغناطيسي فإنه أسلوب قديم، فقد تغير الوضع بعد 11 سبتمبر، وأصبحت المواجهة كأنها مفروضة على الجميع.
2 - التكامل والتركيز في المشروع الجهادي
المشروع الجهادي – ولله الحمد – قائم، والجماعات المجاهدة موجودة على امتداد العالم الإسلامي. ومن فضل الله على أكثرها أنها تتميز بوحدة منهجية ساعدت على تشكيل قاعدة فكرية ينطلق منها الجميع، فرغم تباعد الديار وصعوبة التواصل فإن خط الطائفة المنصورة (خط الدعوة والجهاد) يعيش حالة من الانسجام والتقارب جعلت البعض يسمي جميع جماعات الحركة السنية المجاهدة "قاعدة".
ولكن حتى نستفيد أكثر من هذه الوحدة الفكرية في مشروعنا الجهادي نحتاج إلى تعميق التقارب في الرؤية الحركية، ليصبح العمل "نور على نور". وأرى لهذا الهدف ضرورة أمرين اثنين:
أ – التكامل: وأعني بالتكامل في المشروع الجهادي توزيع الأدوار بين الجماعة العالمية (قاعدة الجهاد) والجماعات "القطرية"، فلكل واحدة دورها الذي لا غنى للآخر عنه. "القاعدة" تجعل اهتمامها الأول هو العدو الخارجي، فتتصدى للعدو الصليبي الذي يستهدف الأمة في هويتها ومقدراتها، ويساعد على توطيد الحكم الطاغوتي للأنظمة العميلة في بلاد الإسلام. أما الجماعات "القُطرية"(1) (طالبان مثلا) فتجعل اهتمامها الأول هو العدو الداخلي، لأن مشروع إقامة الدولة الإسلامية يحتاج إلى حسابات تفصيلية تراعى فيها المعطيات الجزئية لكل قطر على حدة، إضافة إلى أنه لابد في التصدي للعدو الصليبي من ملاحظة التعاون القائم بينه وبين الأنظمة العميلة له في بلاد المسلمين.
ب – التركيز: وأعني بالتركيز عدم تشتيت الجهود في جبهات متعددة في آن واحد، وهو ما يتطلب التحفظ الكبير في فتح معارك جديدة. بحيث يكون الاهتمام الأول منصبا على إنجاح المشاريع القائمة، دون أن يعني ذلك نوعا من الانحسار في الدائرة المغلقة، فالأمور مترابطة، وقيادات العمل الإسلامي مخولة بتقدير الموقف!!
3 – تفعيل دور الأمة الإسلامية
لأن الأمة هي خزان العناصر المجاهدة، وقد كانت دائما قادرة على تزويد الطليعة باحتياجاتها في ساحة الجهاد، وعلى سبيل المثال يبرز اليوم الشعب الفلسطيني – ما شاء الله – كنموذج حي على تفاعل الأمة مع المشروع الجهادي، وهي الصورة التي نحتاج إلى أن تصبح سمة عامة لباقي الشعوب الإسلامية، بحيث تنفض عنها غبار اللامبالاة لتستشعر أنها المعنية بما هو قائم، وأن الجماعات المجاهدة ما هي إلاّ طليعة تقدمت الصف، ومن تم فإنه لا مجال للاتكالية، خاصة في ظل الوضع الراهن، والذي – حسب التكييف الفقهي – يجعل المشاركة في الجهاد فرض عين على جميع المسلمين.
باختصار, إن التعاطف السلبي لا يرد الصائل الصليبي، وإنه لمن العار على أمة "حضارة الحق" والتي يبلغ عددها 1500.000000 مسلم أن تسمح للعدو بالجرأة على بيضتها، فضلا عن أن تظل مكتوفة الأيدي أمام العدوان.
إن كنت ذا حق فخذه بقوة الحق يأخذه الضعيف فيزهق
لغةُ السيوف تحل كلَّ قضية فدع الكلام لجاهل يتشدق
والحمد لله وهو ولي التوفيق(
التاريخ يعيد نفسه
أبو عبيد القرشي
قبل أكثر من سنة أعلن بوش الأبله الحرب الصليبية ..
نزل هذا الإعلان كالصاعقة على من اغتر بالغرب من بني جلدتنا. فإلى عهد قريب كان هؤلاء يتشدقون بألفاظ ظنوا سذاجة أن العدو صادق حين روجها في صفوفهم.. "حقوق الإنسان.. ديمقراطية.. ثقافة الحوار.." كلمات رنانة طنانة.. كلمات ابتدعها أبناء الحضارة الغربية لتطبيقها بين بعضهم البعض.. لا في إطار آخر.. خاصة إن كان في دائرة الإسلام.
حين سقط القناع وظهر الخداع.. خرجت ألفاظ أخرى للاستهلاك.. ألفاظ محلها الماضي السحيق.. "حرب صليبية.. رسول إرهابي.. تجفيف منابع الإسلام.. التكيف أو الاندثار.."، ألفاظ ظن السذج أن "عصر الأنوار" قد دفنها إلى الأبد.. فإذا بها تبعث من جديد.. بُعِثَت قولا.. وإلا فالعمل بمقتضاها لم يتوقف قط.. واستهداف الإسلام والمسلمين جاري منذ القدم.
__________
(1) - لا ندعو إلى "القطرية" بمعنى الوطنية في الفكر الجاهلي، وإنما القصد هنا المشروع الحركي الذي يراعي خصوصيات الوضع القائم.(/11)
كانت الصدمة مهولة.. كيف كان هؤلاء مخطئين في الغرب لهذه الدرجة.. كيف استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.. كيف استهزأوا بأهل القبلة ممن كان يحذر من حقيقة الغرب.. ألم ينعتوهم بالسذاجة والضحالة السياسية.. ألم يتهموهم بالسطحية والفكر المؤامراتي.. ألم يصفوا تحليلهم بفقه السجون.. فمن المحق اليوم ومن المخطئ؟
إن الحملات الصليبية لم تنقطع منذ مئات السنين كما قد يتبادر للأذهان، ولم تنطلق لتوها من جديد مع إعلان بوش الأبله كما قد يظن البعض. الحملة الجديدة استمرار للهجوم الأوروبي الشامل على أراضي المسلمين الذي يسمى زورا وبهتانا "الاستعمار"، وهو الاسم الذي استعمل بذكاء من طرف الغزاة الصليبيين لاستغفال المسلمين، متنصلين بذلك من أي شَبَه بالحملات الصليبية السيئة الذكر، ومبررين استخدام اسم "الاستعمار" بأن هجومهم استهدف شعوبا أخرى من غير المسلمين في إفريقيا وآسيا. مع العلم أن الحملات الصليبية الأولى كذلك استهدفت شعوبا أخرى نصرانية (البيزنطيين والأرمن ونصارى العرب) ووثنية، لكن هدفها الأساسي كان هو تدمير بلاد الإسلام.
لقد كان "الاستعمار" حملة صليبية شرسة قامت بها القوات الروسية والفرنسية والانجليزية والاسبانية والبرتغالية والايطالية والهولندية ضد بلاد المسلمين من كل حدب وصوب، لدرجة أنه لم ينج بلد إسلامي من الغزو إلا استثناءات قليلة. ولا أدل على صليبية "الاستعمار" من صراحة الجنرال غورو حين وصل إلى قبر صلاح الدين سنة 1918 - أيام الاحتلال الفرنسي لسوريا - وقال قولته المشهورة: "ها نحن عدنا يا صلاح الدين. والآن انتهت الحرب الصليبية."
ولولا تخفيف الله على المسلمين بأن اشتعلت الحرب العالمية الأولى والثانية بين هذه القوى حول الغنائم، ثم استعار المقاومة في بعض الأقطار المسلمة، لكانت البلاد الإسلامية إلى اليوم ترزح تحت حكم الصليب بشكل مباشر.
لقد حققت الحملة الصليبية/الاستعمار أهدافها كاملة، فقد قضت على الرابط الذي يوحد بين المسلمين وهو رابط الخلافة الإسلامية، وشتتت البلدان المسلمة شر مذر، ونَحَّت الشريعة الإسلامية من ميادين الحياة، وساهمت في تنشئة أجيال جديدة لا علاقة لها بالقرآن رسما أو حكما..
بعد هذا كله حسب الأعداء أن أمر الإسلام انتهى وولى دون رجعة.. لكن هيهات.. فما أن مر بعض الوقت حتى سعى العلماء والمصلحون لإعادة الأمة إلى مسارها بصبر وتضحيات لا مثيل لها. ورغم الطغيان الذي اقترفه عملاء الصليب ضد هؤلاء الأخيار، إلا أن الله سبحانه وتعالى بارك في جهودهم، فعادت الروح إلى هذه الأمة، وأصبح الرجوع إلى الله سمة بارزة، وصار الاحتكام إلى الشريعة الغراء مطلبا شعبيا مجمعا عليه. وكان آخر الفصول المقلقة للصليبيين بروز حركات الجهاد، وهو الأمر الذي دل دون مواربة أن الأمة في طريقها لاستعادة عافيتها كاملة، وأن النظام الذي دأب الصليب على إقامته لقرون عديدة، مهدد بالسقوط كقصر من الورق في سنين معدودة..
هنا جاءت صرخة بوش الأبله: إنها الحرب الصليبية من جديد.. وأمريكا هذه المرة هي التي ستقوم بالدور المنوط بعد فشل المناورات الخداعية الأوروبية.. إنه تبادل للأدوار وانتقال للقيادة حدث مرارا وتكرارا في الحملات الصليبية الأخرى.. ولا جديد إطلاقا في الأمر.
والمذهل أن أحدنا لو أخذ كتابا موجزا وجامعا حول تاريخ الحملات الصليبية لما رأى فرقا في الجملة بين ما حصل في السابق وما يحصل اليوم. وما دامت الدراسات الاستراتيجية تتعلق أساسا بالعلاقة بين الزمان والمكان، فلا بأس أن يتطرق هذا المقال إلى ما حدث في الماضي ومقارنته بما يجري في الحاضر ثم استخلاص خطوط عريضة للعمل.
1 - مقارنة بين أسباب الحملات الصليبية في الماضي والحاضر
الأسباب الدينية
إذا كانت الذريعة لانطلاق الحملة الصليبية الأولى (1095 م) هي التشدد الذي مارسه الحكام السلاجقة على المسيحيين الزائرين لبيت المقدس، فإن السبب الحقيقي كان هو إحساس الكنيسة بخطورة الموقف نتيجة انتشار الثقافة الإسلامية بعد اتساع نطاق الفتوحات..
قد يقول قائل: أين نحن وأين الفتوحات اليوم!!! وما وجه التشابه بين الأمس واليوم؟
الحقيقة أن اليوم ورغم الضعف الشديد الذي يعانيه المسلمون على كافة الأصعدة، إلا أن عظم هذا الدين وقوة الحق التي يحملها تجعله يشع، مما يدفع بالملايين للإقبال عليه. إن الدين الإسلامي اليوم هو أسرع الأديان انتشارا في العالم(1) بل وفي أمريكا نفسها(2)، إضافة إلى أن بلدانه الأصلية تعيش انفجارا سكانيا كبيرا وصحوة إسلامية معتبرة، مما جعل صناع القرار في دول الغرب والكيان الصهيوني يرون في هذا الأمر خطرا أكيدا. ونجد صدى هذه الهواجس في كتاب "موت الغرب" لبوكانان الذي استشرف سيادة الإسلام على العالم بحلول 2050 استنادا – فقط - على المعطيات الديموغرافية دون غيرها.(/12)
قد يعترض البعض على هذا الكلام بإبراز طبيعة الغرب غير المتدينة. لكن هذا الاعتراض يتهافت حين يتم الاطلاع على أحوال الغزاة الصليبيين في الحملات الأولى: ألم يكن رواد الحملة الصليبية الأولى من جحافل الرعاع وقطاع الطرق واللصوص، الذين ارتكبوا في سيرهم نحو المشرق كل الموبقات من سلب ونهب وقتل واعتداء على الأعراض، بل واغتصاب بعض الراهبات، إلى حد عرفت به هذه الحملة في التاريخ بحملة الرعاع؟ ألم تكن الحرب الصليبية الرابعة التي تمت الدعوة لها سنة 594 هـ/1199 م سوى أداة لأطماع سياسية للبابا وأطماع اقتصادية لإمارة البندقية؟ ألم تستهدف تلك الحملة إلا المسيحيين من هنغاريا والقسطنطينية لأسباب غير دينية في الأساس؟ هذه الأمثلة وغيرها تبين أن الحملات الصليبية كان يقوم بها في الغالب أناس غير متدينين وهو نفس الحال تماما اليوم.
بل إن سيطرة اليمين الديني على مقاليد الحكم في أمريكا تبين أن الحملة الصليبية الحالية مرشحة لكي تضاهي أكثر الحملات تطرفا. فبوش الأبله وضع محاربة الإسلام ومكافحة السُنَّة النبوية على سلم أولوياته، وجعل القضاء على الدعوة الإسلامية والعمل الخيري والتعليم الشرعي أسمى أمنياته، وهو بهذا يتفوق في السفاهة على سلفه الغابر، الذين لم يطمعوا أكثر من السيطرة على بيت المقدس وطرق التجارة المربحة.
الأسباب الاستراتيجية
لقد غيرت الفتوحات الإسلامية الأولى كل المعطيات الاستراتيجية للغرب، فقد فتح المسلمون الأراضي الممتدة بين شمال الهند إلى جنوب فرنسا، مما أقام طوقا خانقا على أوروبا المسيحية طيلة قرنين من الزمان. خلال هذه المدة جنحت فيها موازين القوى لصالح المسلمين بشكل غير مسبوق، خاصة وأنهم تمتعوا بتفوق اقتصادي هائل وازدهار كبير على المستوى الثقافي.
لكن بعد عام 750 م بدأت مظاهر الضعف والتفكك والانقسام السياسي تظهر جلية على الخلافة العباسية، فمالت كفة التوازن لصالح الأوروبيين الذين ظهرت قوتهم في البحر المتوسط وفي إسبانيا. حينها حقق الأوروبيون سلسلة من النجاحات والانتصارات البحرية في طليطلة وصقلية، بينما شن البيزنطيون عدة غارات ناجحة على شمال سوريا في أواخر القرن العاشر، وسيطروا على بعض المدن لفترة وجيزة.
يمكن القول إن الحملات الصليبية الأولى كانت تهدف إلى استرجاع مكاسب الماضي والانتقام من الفتوحات الإسلامية الكاسحة. لكننا اليوم نجد أن الدول "الإسلامية" كلها تعيش في تبعية مطلقة للغرب، فما السبب في إطلاق حملة صليبية أخرى؟
يظهر أن السبب هذه المرة هو الحفاظ على القوة وليس اكتسابها من الأول كما كان الأمر سابقا. ففي سنة 1980 أعلن الرئيس الأمريكي كارتر في رسالته السنوية إلى الكونغرس مجموعة من المبادئ التي ستمكن الولايات المتحدة من التحرك السريع في مواجهة الاتحاد السوفيتي. والأفكار التي طرحها كارتر، والتي كان لبريجنسكي(3) اليد الطولى في إعدادها، هي التي تمت تسميتها فيما بعد بـ "مبدأ كارتر". ركزت هذه الرسالة على مناطق الشرق الأوسط والخليج العربي وجنوب آسيا، ودعت لإعادة الهيبة والنفوذ الأمريكيين فيها بعد الغزو السوفييتي لأفغانستان، والدفاع عن المصالح الأمريكية والرأسمالية في تلك البقعة من العالم، التي تعد من أكثر المناطق أهمية بالنسبة لسياسة الدول الكبرى بما تمثله من نفط ومال وموقع استراتيجي، ولا يمكن لمن يطمع في حكم العالم بتاتا الاستغناء عنها.
ويلخص مضيق هرمز الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الخليج، ففي سنة 1980 كانت تمر عبر هذا المضيق ناقلة نفط واحدة كل ثماني دقائق. وكان مجموع ما تحمله الناقلات يقدر بـ 19 مليون برميل من النفط يوميا أي 40 % من تجارة النفط العالمية، ومنها 12 % من النفط الذي تستهلكه الولايات المتحدة الأمريكية. أما اليوم فقد تضاعفت هذه الأرقام، وتضاعفت معها أهمية المنطقة في نظر الساسة الأمريكيين.
__________
(1) - إن عدد المسلمين يزداد حسب احصائيات الأمم المتحدة (1994-1995) ب6.4 % سنويا (عدد المسيحيين لا يزداد سوى بـ 1.46% سنويا رغم الجهود التنصيرية الجبارة).
(2) - كما صرحت بذلك هيلاري كلينتون زوجة الرئيس الأمريكي السابق (انظر Los Angeles Times, May 31 1996 )
(3) - مستشار الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي.
وزاد الطين بلة فشل سياسة أمريكا في بناء احتياطات نفطية ضخمة. فقد أصبحت الاحتياطات الأمريكية التي تبلغ 22 مليار برميل لا تساوي إلا 2 % فقط من الاحتياطات العالمية المؤكدة، والأدهى أنها تتناقص باطراد رغم امتلاك أمريكا لأحدث الأساليب والمعدات التكنولوجية وتوفرها على أعلى القدرات الاستثمارية. وهذا كذلك عامل معتبر في تحرك أمريكا السريع للسيطرة على منابع النفط عوض أن تستمر في الاعتماد على الاحتياطات الذاتية.(/13)
إن الحملة الصليبية الحالية ما هي إلا امتداد لما كان يُعَدُّ للمنطقة منذ أواسط السبعينات. ويؤكد هذا الترابط أن بريجينسكي هو ذاته مُنَظِّر استيلاء أمريكا على آسيا الوسطى منذ بداية التسعينات، ونظرياته نالت اهتماما بالغا منذ أن برز الخطر الاستراتيجي لمجاهدي القاعدة وإمارة طالبان على التحالف الصليبي- الصهيوني، وزاد من رواج طرحه ما ادعاه بريجينسكي من أن وجود أمريكا في قلب اليابسة الأوراسية، على حدود الصين وروسيا وإيران، وعلى تُخُوم منطقة الخليج العربي، يمكنها من السيطرة على كل القوى المنافسة الحالية والمستقبلية. كما دعا أمريكا، التي استثمرت في حقول النفط والغاز لبحر قزوين وآسيا الوسطى حوالي 50 مليار دولار، أن تتخذ هذه الاستثمارات كمسمار جحا للاستيلاء على ما تختزنه تلك المنطقة من نفط يقدر ب200 مليار برميل من النفط، وغاز طبيغي يبلغ حوالي 600 تريليوم متر مكعب.
وغزو العراق هو تكملة لهذه الخطة الشاملة للاستحواذ الكامل والشامل على الخيرات الإسلامية، والتي ينوي طاغوت العصر عن طريقها ضرب آمال الأمة في النهوض بالضربة القاضية. فالعراق هو ثاني أكبر بلد نفطي في العالم، وتبلغ احتياطاته المؤكدة 115 مليار برميل أي نحو 11 % من الاحتياطات العالمية. وللتذكير فقط فإن البنك الدولي كان يصنف العراق في السبعينيات ضمن الدول ذات الدخل الفردي المتوسط العلوي، مع إمكانية التحول للشريحة المرتفعة، مما كان يؤهل العراق في ذلك الوقت لدخول نادي الكبار، والخروج عما تسطره الدول الصليبية للمنطقة من ذل وتبعية، لولا اتباع قادته لسياسات خرقاء - بإيعاز من أعداء الأمة – أكلت الأخضر واليابس. وبضرب العراق يتم إلغاء دوره نهائيا في الإزعاج (المتوقع) لمصالح أمريكا والكيان الصهيوني، ليتم إغلاق الجبهة الشرقية (النظرية) المقلقة للصهاينة بعد أن تم تكبيل الجبهة الغربية (الواقعية) في مصر بعملية كامب ديفيد، وبهذا يقفلون ما كان يسمى بـ(الصراع العربي الإسرائيلي).
لقد كانت التحركات العراقية هي ذاتها الذريعة التي اتخذتها أمريكا لتنسج نسيجا عنكبوتيا حول المنطقة. فقد تدرجت منذ الثمانينات بنيل "تسهيلات" عسكرية من دول المنطقة، ثم سرعت وتيرة وكثافة حضورها إثر حرب الخليج الثانية (1991) فحصلت على قواعد دائمة، لينتج عن هذا النسيج إقامة ما يزيد عن 63 موقعا عسكريا في 11 دولة "إسلامية" ( الخليج، دول "الطوق"، القرن الإفريقي، تسهيلات واسعة النطاق في شمال إفريقيا، حضور مكثف في وسط وجنوب آسيا حول وداخل أفغانستان)، وهو ما يعني أن مجال القيادة المركزية الأمريكية لما تسميه الشرق الأدنى يشمل 25 دولة تقع على المساحة الممتدة بين باكستان شرقا والمغرب غربا. وهذا التواجد الضخم يقصد منه إدخال المنطقة في مرحلة الخضوع الكامل للإرادة الأمريكية-الصهيونية، بعد كسر إرادة التحدي لدى الشعوب، وهو ما يعطي رسالة لشعوب المنطقة بأنها أصبحت تعيش عصر ما بعد الدكتاتورية وما بعد الديمقراطية.. عصر الحكومة العالمية الأمريكية الصهيونية(1).
الأسباب السياسية
إذا كانت الحملات الصليبية الماضية قد جاءت لرد الاعتبار لسلطة الكنيسة، فإن الأسباب السياسية المعاصرة هي كذلك تصب في نفس المنحى، لكن ربما بفارق صغير هو أن التهديد ليس لسلطة الكنيسة (التي لم تعد تحكم بشكل مباشر)، وإنما لنظام أقامته الدول الغربية بمباركة الصليب، وهو النظام الذي يهدف للإبقاء على عالم إسلامي ذليل وتابع يشرف عليه كيان يهودي يكون بمثابة الخنجر في خاصرته.
كما أن أمريكا - والغرب عموما - تسعى منذ مدة لتغيير العالم من حيث اقتصاده وفكره وعلاقاته الاجتماعية، وفقا لمنظور الغرب وتجربته الخاصة، بشكل يصب في مصلحتها دون غيرها من الامم والشعوب. وقد أشكل على أمريكا أن المجتمعات الإسلامية لا تتعامل مع الإسلام كدين فقط، ولكن كوسيلة للتفكير وعلاقات تواصل وفلسفة حياة، ومن ثم تبين لأمريكا أنه يستحيل استيعاب المنطقة الإسلامية في دوامة العولمة دون القضاء على الإسلام نهائيا.
إن وضع الكيان الصهيوني اليوم وهو يواجه أسوأ أزمة يمر بها منذ إنشاءه سنة 1948، وتصاعد نجم الحركات الإسلامية في كل الأقطار وما يتبع ذلك من تعزيز للهوية، وانتشار روح الجهاد هي العوامل السياسية وراء إطلاق ناقوس الخطر والإعلان عن حملة صليبية أخرى.
__________
(1) - كما عبر عن ذلك باقتدار الكاتب عبد العزيز كامل.(/14)
وبما أن الوضع في الماضي لم يكن لصالح الصليب إلا في ظل أنظمة عربية وإسلامية هزيلة، فإن نفس الموقف هو السائد اليوم. ومقارنة سريعة تؤكد ذلك: فما الفرق بين أمير طرابلس وهو يتودد ويتوسل بين يدي رايموند الصليبي سنة 1099 م لعله يتركه يحكم مدينته، وبين ياسر عرفات وهو يقبل يدي مادلين ألبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية سنة 2000 لعلها تتركه يحكم مخفره.. ما الفرق بين تسليم افتخار الدولة بيت المقدس للصليبيين سنة 1099 م، وتسليم الملك حسين القدس للصهاينة سنة 1967.. ما الفرق بين أمير شيزر وأمير طرابلس وهما يعرضان ولاءهما وخدماتهما لأسيادهم الصليبيين سنة 1099 م، وبين أمراء الأردن والسعودية والكويت وقطر والبحرين الخ. وهم يسبحون برغبات الصليبيين الأمريكيين طيلة العقود الأخيرة.. ما الفرق بين الملك شاوار وهو يستنجد بالصليبيين لإنقاذ حكمه سنة 1164 م من المجاهد نور الدين زنكي، وبين حكام العرب وهم يستغيثون بالكفار ضد الشيخ أسامة.. لا فرق بتاتا.. إن هذه الملكيات والإمارات والسلطنات والجمهوريات العربية اليوم تُجَسِّد واقع ملوك الطوائف المر.. الواقع الذي أضر بالإسلام دوما ولم ينفعه، وشكل في الماضي كما في الحاضر عقبة كؤودا أمام كل محاولات تحرير الأرض والإنسان.
أما عن تسبب الحكم العسكري في أزمات الأمة فحدت ولا حرج، فبغداد عاصمة الخلافة الإسلامية إبان الحملة الصليبية الأولى كانت تعيش على إيقاع الانقلابات العسكرية المتتالية، إلى درجة أن 8 انقلابات حدثت فيها فقط خلال الـ3 سنوات التي سبقت سقوط بيت المقدس في يد الصليبيين سنة 1099 م، مما كان له بالغ الأثر على الاستقرار السياسي وأضعف قدرات الأمة.. حدث نفس الأمر طيلة نصف القرن الأخير، فقد توالت الانقلابات في جل الأقطار العربية مما أنهك طاقة الأمة بشكل صارخ. ومعلوم أن نصف الدول العربية ترزخ تحت وطأة حكم عسكري ظالم لا يعرف سوى القمع والتنكيل كأسلوب في الحكم ، مقابل الخنوع والاستكانة أمام العدو الخارجي. كما ان الملكيات ليست معفاة من التهمة، فهي كذلك تدخل تحت خانة الحكم العسكري ما دامت تحكم شعوبها أساسا بالحديد والنار.
وقد ترتب على هذا القمع الشامل نتيجة حتمية: بغض الشعوب للحكام. فالتحالف الصليبي- الصهيوني يدفع ملوك الطوائف المعاصرين إلى التضييق على الشعوب تحت حجج مختلفة، فتنتفض الشعوب كلما طفح الكيل، فتتدخل القوى الخارجية لصالح الأنظمة بعد ابتزازها ونيل أقصى التنازلات منها، لتستمر هذه الحلقة المفرغة إلى حين يستنفذ التحالف الصليبي-الصهيوني أغراضه كاملة.
وأمثلة الماضي تؤكد تشابها كاملا في استعمال هذا الأسلوب، فسقوط القدس في يد الصليبيين سنة 1099 م كان ضمنيا بسبب تمرد الأهالي ضد الحكم العسكري السلجوقي سنة 1076 م، فما كان من هذا الأخير إلا أن رد بقمع شديد تجاههم مما أدى إلى إفراغ مدينة القدس من الآلاف من سكانها، وتركها منذئذ كاللقمة السائغة بعدما لم يعد من يدافع عنها...
كذلك القمع العسكري المعاصر لأهالي العراق والشام ومصر وشمال إفريقيا – خزانات المقاومة الإسلامية عبر العصور - هو سبب أساسي في الهوان الحالي للشأن العربي، بعدما تعرت الأنظمة عن أدنى شرعية سياسية، دون حتى أن تنال رضا أمريكا التي تعتبر أن مهمتها انتهت الآن.
الأسباب الاقتصادية
فيما يخص الأسباب الاقتصادية نجد أن هناك اختلافا ملحوظا بين الأمس واليوم، فعند الحملة الصليبية الأولى كانت الدول الإسلامية منارات حضارية، وعلى سبيل المثال كانت بغداد - عاصمة الخلافة - تعد المدينة الأكثر تطورا في العالم، إذ كانت تزخر بالمستشفيات المجانية والحمامات العمومية وأنظمة البريد والصرف الصحي، بل وكانت تتوفر على أبناك ذات فروع في شتى البلدان ومنها الصين.. بينما كانت الدول الصليبية تعيش في بحر من الظلمات، ولذلك سعت إلى تغيير وضعها البئيس بتحويل طرق التجارة لصالحها بأي شكل من الأشكال، فكان أن حققت ذلك عن طريق الحملات الصليبية.
إنما اليوم نجد العكس.. فالدول الصليبية تعيش في رخاء لا مثيل له، في حين أن الدول "الإسلامية" تعيش حالا يرثى له، اللهم إلا في استثناءات قليلة تزداد قلة مع مرور السنين. فهل هناك أسباب اقتصادية للحملة الصليبية الحالية؟
إن الأمة الإسلامية تعيش وضعا استثنائيا لا مثيل له: فهي الأغنى والأفقر في ذات الوقت.. هي الأغنى بما أنعم الله عليها من ثروات.. والأفقر بسبب تبعية حكامها للتحالف الصليبي- الصهيوني، وتفريطهم في خيراتها بثمن بخس أحيانا، وبلا مقابل في أكثر الأحيان.(/15)
لقد استمر هذا الوضع المثالي للأعداء برهة من الزمان، لكن الصحوة الإسلامية الجارفة، واشتعال روح الجهاد باتت تهدد هاته المكتسبات. وبما أن الأنظمة الدمى باتت على كف عفريت، واحتمال سقوطها أضحى كبيرا للغاية، فإن الصليبين يخشون أن تسقط معها امتيازاتهم الضخمة فيرتفع ثمن النفط، فيتبع ذلك غلاء شديد للأسعار وأزمات اقتصادية، وهو ما لا يريدون أن يحدث (آثار حظر النفط بعد حرب أكتوبر 1973 لبثت أحقابا في الذاكرة الغربية)، مما يدفعهم للتحرك والسيطرة المباشرة على مناطق المسلمين.
ليس هذا وحسب، فإن الاقتصاد الأمريكي يواجه اليوم أعظم أزمة اقتصادية منذ أزمة 1929، ولا أدل على ذلك من انهيار البورصة الأمريكية طيلة سنة 2002، وما نتج عنه من فقدان أزيد من 5 تريليون دولار، إضافة إلى تسببه في أزمة عالقة للقطاع السكني قد يترتب عليها مثل تلك الخسائر الضخمة وزيادة. وهذا يعني أن الاقتصاد الأمريكي يكمن على حافة الهاوية إذا لم يتم تداركه بإجراءات إنعاش راديكالية، وزاد الطين بلة فشل الخطة الاقتصادية لإدارة بوش الأبله (إقالة وزير الخزينة الأمريكي خير دليل)، فكان أن ظهر الحل السحري بالسعي لاحتلال منابع النفط وإبرام صفقات ضخمة جديدة للسلاح وإعادة الإعمار.
2 - خطوط عريضة لصد العدوان الصليبي
عنصر المفاجأة
خلال الحملات الصليبية الأولى كان هجوم العدو مباغتا للمسلمين، الذين فوجئوا دوما بهجوم الغزاة وكذلك بعددهم وعتادهم، ولذلك كان العدو يستفيد من هذا العنصر أيما استفادة فيحرز المكاسب تلو المكاسب.
لكن الشأن مختلف اليوم، فجل المعلومات المتعلقة بالحملة الصليبية معروفة مسبقا، ولا مجال لعنصر المفاجأة إطلاقا. في المقابل نجد أن المجاهدين هم الذين يحتكرون عنصر المفاجأة، ويحددون توقيت ومكان العمليات، فأحرزوا بذلك سبقا لا يقدر بثمن.
كما أن الإعلان الوقح عن الحملة الصليبية والأهداف التي يتوخون من وراءها كذلك صب في مصلحة المجاهدين، وذلك لأن صناع الرأي الإسلامي على اختلاف مشاربهم باتوا مدركين لحقائق الأمور، ولم يعد هناك ما يصرف عن اتباع خطوات عملية للدفاع عن الأمة، عوض الدخول كما كان يأمل الأعداء في متاهات جانبية.
التعبئة العامة
إن تعبئة المسلمين عامة وفي كل الأقطار من أولى الأولويات لمواجهة الخطر الداهم، وهو الأمر الذي لا يجب أن يقتصر على المجاهدين وحدهم، وإنما ينبغي أن يتعداه لكافة القوى والفعاليات الاسلامية لأن مصير الأمة الإسلامية هو الذي يرجح في الكفة هذه المرة، وليس مجرد قضية ثانوية إذا اهتم بها البعض حصلت الكفاية.
ودور العلماء والدعاة المخلصين عظيم في هذا الشأن، ولعل التاريخ يثبت لنا هذه الأهمية: لقد جوبهت الحملات الصليبية الأولى بلا مبالاة مطلقة من طرف الحكام في صورة مطابقة لما يحدث اليوم، لكن أحد العلماء الربانيين وهو أبو الفضل بن الخشاب عالم مدينة حلب وقاضيها، كان له الفضل في بث روح الجهاد ضد الصليبيين، وتحريض المؤمنين على القتال في سبيل الله، وعدم ترك هذه الفريضة في يد الجيوش النظامية التي ابتعدت عن الطريق القويم، ولم يعد يهمها سوى مصالح قادتها المادية. لم يكن الأمر سهلا آنذاك فقد أخذ الفساد في النخب الحاكمة مأخذه، لدرجة أن حاكم حلب رضوان رضخ لأمر القائد الصليبي Tancred، وهَمَّ بإقامة صليب فوق مئذنة المسجد الجامع بحلب(1). فما كان من ابن الخشاب إلا أن قاد انتفاضة كسرت الصليب، بل وذهب أبعد من ذلك حين قرر زيارة بغداد سنة 1111 م ليحث القيادات هناك على الجهاد. وبعد أن حاول لقاء الخليفة دون جدوى، ذهب إلى أكبر مساجد بغداد ومنع الخطيب من الصعود لخطبة الجمعة وأخذ الكلمة مكانه، فحرض الحاضرين على الجهاد وذكرهم بواجبهم تجاه الأمة. لم يثمر هذا العمل سوى تطمينات رسمية لا تسمن ولا تغني من جوع، فأعاد ابن الخشاب الكَرَّةَ ثانية في الجمعة الموالية لكن في مسجد الخليفة هذه المرة، فنتج عن هذه الخطوة بداية تغيير في الخط السياسي السلبي الذي ساد الأوساط في بغداد خلال تلك الفترة.. لكن ذلك لم يكن كافيا نظرا للتعقيد الذي وصلت إليه الأمور.. مع ذلك لم يُقل ابن الخشاب ولم يستقل، بل سخر حياته في البحث عن سبل صد العدوان الصليبي، فكان يخرج مع سرايا المجاهدين ويشهد بعض انتصاراتهم، فما لبث أن اغتالته أيادي عملاء الصليبيين بعدما اشتد خطر مشروعه الجهادي.
ليست مثل هذه المواقف حكرا على الماضي، فذكرى الشيخ عبد الله عزام لا زالت قوية في الأذهان، كيف لا وهو الذي قام بمثل ما قام به ابن الخشاب وزيادة، وله الفضل بعد الله في إذكاء جذوة الجهاد في زماننا من جديد.
إنها النفسية التي ينبغي أن تسود علماء الإسلام ودعاته.. نفسية لا تعرف العجز والكسل ولا الذل والاستكانة.
__________(/16)
(1) - إن في هذا الأمر قمة الطغيان والكفر، ومثله اليوم ما يقوم به الحكام - بأمر من الصليبيين - من وضع شرائع الكفر فوق شريعة الله في الدول "الإسلامية".
قد تختلف الأوضاع اليوم بأنه لا خير في أي نظام قائم، ولا مجال أصلا للانكار على الحكام يوم الجمعة لأنهم باختصار لا يصلون. لكن تعبئة المسلمين وحثهم على الجهاد والنصرة بالغالي والنفيس، ودعم المجهود الحربي الجهادي بشكل سري ومنظم من المتطلبات العاجلة للمرحلة.. في انتظار أوقات أفضل على المستوى الرسمي.
إيجاد الخزانات الاستراتيجية
من بين أسباب اندحار المسلمين في الحملات الصليبية الأولى أن الجند كانوا حديثي عهد بإسلام. فقد كان السلاطين يجلبون المقاتلين من قبائل التركمان ليحدثوا نظاما عسكريا احترافيا حتى لا يكون للأهالي دور في الجيش أو رأي في شأن الملك. لكن مع مرور الوقت حدث عكس ما كان يصبوا إليه الحكام إذ انقلب هؤلاء الجند التركمان عليهم واستقلوا بالحكم لأنفسهم. فكان لهذا الأمر الوقع السيئ على قضايا الأمة لأن هؤلاء الحكام الجدد وجيوشهم لم يكونوا يحملون الهم الإسلامي قط، بل كان المال هو أكبر همهم.
لكن حصل تحول جذري حين فقد الملك نور الدين زنكي أجزاء من مملكته لصالح أخيه، ففقد معها جزءا كبيرا من جيشه. وبما أنه لم تكن له القدرة المالية الكافية لجلب الجنود التركمان، فقد استعان عوضا عنهم بعنصر آخر: الأكراد.
كان الأكراد - خلافا للتركمان - قد أسلموا قديما، فكانوا يشعرون بما تشعر به الأمة ويتألمون مما تتألم منه، إضافة إلى أنهم كانوا أولو قوة وبأس في القتال. فحصل بدخولهم الميدان انقلاب في الموازين القائمة، تَوَّجَهُ صلاح الدين الأيوبي (الكردي) باستعداة القدس من أيدي الصليبيين.
لعل العبرة التي يمكن استنباطها من هذا التحول التاريخي هو ضرورة اهتمام الحركات المجاهدة بإيجاد وتهييء مثل هذه الخزانات الاستراتيجية، التي يكون أصحابها من أقوام ذوي إيمان أصيل وتاريخ عتيد في القتال وفنونه. فإن في ذلك سببا عظيما في استمرار الجهاد والنكاية في العدو.
مواجهة الحرب بالوكالة
إن الصليبيين توصلوا إلى أعلى درجات التمكن والسيطرة خلال الحملات الصليبية الأولى والثانية والثالثة، وتمكنوا من نسج تحالفات مع حكام المنطقة، وتفعيل الخلافات البينية للمسلمين لصالحهم، لدرجة لم يكن معها من الممكن المقاومة بفعالية. لكن هذه المناورات سقطت حين انتشرت الدعوة الإسلامية في صفوف الأمة وتم بناء عناصر القوة، فتمكن المسلمون من دحر الغزاة.
واليوم يمكن القول إن درجات الوعي الشرعي والسياسي بلغت حدا مقبولا، عرفت إثره الشعوب حقيقة الموقف الحالي، كما أن المجاهدين عرفوا كيف يستديرون على الأنظمة الخائنة ويؤججون الجهاد مباشرة على التحالف الصليبي الصهيوني. فالأمة لم تقعد مسلوبة الإرادة لتنتظر أحد هؤلاء الحكام الملاعين ليعلن الجهاد (وهو ما لن يحدث أبدا)، بل قامت طلائعها المجاهدة بالواجب منذ أكثر من عقدين وإلى حدود الساعة بكفاءة عالية.
ومع ذلك فإن التصدي للتحالف الصليبي الصهيوني يتطلب على المدى المتوسط والبعيد تسخير كل قدرات الأمة - التي ارتهنها الحكام لصالح نزواتهم ولمصلحة الأعداء - مما يعني ضرورة السعي لتغيير بعض هذه الأنظمة، التي تتوفر على مقومات استراتيجية تحسن - إذا ما حصل عليها المجاهدون - الوضع الاستراتيجي للمسلمين. ويمكن القول أن هذا بالذات كان هو نهج أبطال الإسلام في حروبهم ضد الصليبيين، فالاستراتيجية التي تبناها زنكي و ابنه نور الدين ثم صلاح الدين الأيوبي بدأت بالقضاء على فساد الوضع العقدي والسياسي في البلاد الإسلامية المحيطة بمستعمرات الصليبيين، قبل حسم المعركة معهم.
الدفاع الاستراتيجي
إن أكبر خطإ ارتكبه المسلمون في الحملة الصليبية الأولى كان هو عدم التصدي المستميت لجحافل الغزاة خلال المعارك الأولى سنة 1097 م، فمثلا نجد أن قلج أرسلان - قائد أول جيش مسلم يواجه الصليبيين في الأناضول – قد تفاجأ بطريقة حرب الصليبيين المغايرة تماما لما كان يمارسه الأتراك، فتركهم يمرون إلى الأراضي الأخرى، ظنا منه أنهم سيلقون حتفهم على أيادي جيوش مسلمة أخرى. لكن هذا التسويف والتلكؤ ألهب حماس الصليبيين وزادهم شهية لتحقيق ما يصبون إليه.
يختلف الوضع اليوم بأن المجاهدين والحمد لله صدوا هجوم أمريكا على أفغانستان بكفاءة، بل وانتقلوا إلى الهجوم المضاد مما أربك حسابات الصليبيين ودفعهم لتغيير بعض برامجهم. ويا ليت نفس الأمر يحدث خلال غزو العراق، وذلك أن منع أمريكا من تحقيق مآربها هناك سيكون ذا أثر بليغ على المخططات الموضوعة وعلى القائمين عليها، وسيفتح آفاقا واسعة أمام المجاهدين.
ملء الفراغ السياسي(/17)
إن الاندفاع الصليبي الصهيوني المسعور نحو احتلال قلب العالم الإسلامي قد يخلف زلازل سياسية في بعض أقطاره، مما قد يسفر عن سقوط أنظمتها المتهالكة. في هذا الإطار لا بد للفعاليات الإسلامية من السعي بكل قوة لملء هذا الفراغ السياسي، وأن تكون على استعاد للتحول من قوى شعبية كما هي الآن إلى قوى سياسية، فإن هذا من شأنه أن يقوي الموقف الإسلامي.
والمقارنة مع الماضي تؤكد حصول ذات الشيء، فقد ظهرت قوى سياسية إسلامية ناشئة ملأت الفراغ السياسي، ولعل ظهور دولة المرابطين في الجناح الغربي للأمة الإسلامية من أمثلة هذا الإفراز، الذي كانت له نتائج سريعة على الميدان، خاصة على مسرح الحرب في الأندلس مما قوى الموقف الإسلامي هناك.
تعاضد الجهود
من المعلوم أن حالة التشرذم التي كان يعيشها المسلمون هي أهم سبب وراء انتصار الصليبيين في الماضي. فمنطق المدينة/الدولة الذي كان سائدا دق إسفينا عميقا في محاولات جمع الكلمة، لأن المصلحة الوحيدة المعتبرة هي مصلحة حكام تلك المدن/الدول. وإذا كان موقف الأنظمة الحاكمة اليوم هو نسخة مطابقة لأصل ما حدث في الماضي، فإن المطلوب من الحركات والفعاليات الإسلامية ألا تسقط في هذا المطب فتحكم على نفسها وأمتها بالإعدام، وذلك لأن الوعي بوحدة الموقف والمصير من أهم متطلبات المرحلة، وبدونه لن تذوق هذه الأمة طعم النصر.
3 - الخاتمة
التاريخ يعيد نفسه.. حكمة طالما تم ترديدها.. ربما دون استيعابها حق الاستيعاب. .لكن من يقرأ كتاب الله.. ويقرأ: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله..} يعلم أن سنن الماضي تعود وتتكرر لا محالة.. وها قد عادت..
إن الحملة الصليبية اليوم تكرار لما حدث في أيام خلت، وستحدث فيها بإذن الله سنة التدافع تماما كما حدث في الماضي.. وربما تكون الوتيرة أسرع.. فالأمة الإسلامية تعيش وعيا إسلاميا قل نظيره في القرنين الأخيرين.. وها هي قد ألقت بفلذات أكبادها يواجهون جحافل الكفر شرقا وغربا.. وآخرين مستعدين للحاق بهم على أحر من الجمر.
إنها مسألة وقت.. ووقت فقط.. قبل أن يدرك بوش الأبله جسامة الخطإ الذي اقترفه.. فقد أخرج البعبع الإسلامي من قمقمه.. وحان وقت الحساب.
المراجع:
ابن كثير، البداية والنهاية – تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي- دار هجر- القاهرة 1998.
ابن الأثير، الكامل في التاريخ – دار صادر - بيروت 1966.
د. زهير شكر، السياسة الأمريكية في الخليج العربي، الدراسات السياسية الاستراتيجية 1980.
د. محمد فراج أبو النور، "صدام الحضارات.. واستراتيجية الهيمنة الأمريكية،" جريدة البيان، العدد 599.
عبد العزيز كامل، "حرب الخليج الثالثة..وتداعياتها الخطيرة،" جريدة الشعب، 27/12/2002
د. حسن الباش، "حرب صليبية جديدة.. هل هي زلة لسان أم استراتيجية المنطق الغربي؟ "مجلة الإسلام عدد 81.
Terry Jones and Alan Ereira, Crusades, Penguin Books 1996.
Patrick J. Buchanan, The Death of the West, St Martin Press 2002.
Dean Baker, “Dangerous Minds? The Track Record of Economic and Financial Analysts,” Center For Economic and Policy Research, 2/12/2002
Stephen Zunes, “U.S. Policy toward Political Islam,” Foreign Policy in Focus, Vol.6 Number 24 June 2001.
الحروب الصليبية
بين الماضي والحاضر
أبو أيمن الهلالي
تعتبر الحركة الصليبية من الظواهر التاريخية الكبرى التي لم تتوقف إلى يومنا هذا، بحيث عرفت تجديدا في الخطط وابتكارا في الأساليب، وتنوعا في وسائل محاربة المسلمين.
كما لم يسجل في تاريخ البشرية جمعاء، وفي كافة مراحله حملة مثلها سوى الحركة الصهيونية، لأنها لم تقتصر على المسلمين فقط، بل نالت حتى من المسيحيين الذين كانوا يعيشون في سلام وأمان في الشرق الإسلامي، ويكفي المجازر التي وقعت في بغداد وسوريا وفلسطين والأندلس...مثالا حيا وصارخا على هذه الحقيقة/الحركة الصليبية، والتي دفعت ببعض العقلاء من الأوروبيين إلى الاعتراف بدموية ووحشية أجدادهم.
لكن رغم كل ما قامت به لإرغام الناس عامة والمسلمين خاصة على التنصر، فإنها فشلت بامتياز في القضاء على الإسلام، بل كانت لها آثار إيجابية تمثلت في تحريك مشاعر المسلمين، وتوعيتهم بحقيقة العدو، ودفعهم إلى خوض معركتهم المقدسة التي تسعى لإقبار هويتهم واجتثاث وجودهم والاستيلاء على خيراتهم وأراضيهم، وصدق ربنا إذ يقول في منزل تحكيمه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال: 30)، وقوله سبحانه وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:216).(/18)
أمام جهل البعض بدينه وتاريخه وواقعه، وعمالة الآخر-ولا سيما القيادات الفكرية والسياسية-، تم اختزال جوهر الصراع في المسألة الاقتصادية، والمصالح السياسية والأمنية، والرأي العام والديمقراطية وحقوق الإنسان...، بحيث تصدرت هذه القضايا/الاقتصاد... برامج الأحزاب العلمانية وبعض الإسلاميين، واعتبرت من أولوياتها، مع الإغفال التام للأساس العقدي والفكري الذي يحكمها، حتى شهد شاهد من أهلها/بوش- الذي يمثل رأس الصليبية العالمية-، وصرح أمام العالمين بأنه سيشن حربا صليبية على المسلمين بسبب صدمة غزوتي نيويورك وواشنطن، التي أخرجت مكنونه النفسي، وكشفت عن بنية وعيه وحقيقة نيته وعقيدته الصليبية، والتي تزامنت مع بداية الألفية المسيحية الثالثة.
هذا الوعي الذي عبر عنه بوش يرجع بالأساس إلى الوعي الغربي الصليبي المشترك، الوريث الشرعي لتراث يهودي مسيحي، الذي يجعل من الزمن مراحل تنتهي كل ألف سنة، ويستأنف دورته الجديدة مع الألفية الجديدة.
ويعتبر سلوك قائد الحملة الصليبية الاستعمارية البريطانية أوائل القرن الماضي في بلاد الشام، وتحريضه أن يطأ قدمه قبر قاهر الصليبيين صلاح الدين الأيوبي، مصرحا بانتهاء الحروب الصليبية ولاسيما بعد إسقاط الخلافة العثمانية، وإحكام السيطرة على بلاد المسلمين نموذجا لهذه العقيدة، وأيضا ما يقوم به كتاب أمريكا ومفكروها ومؤسساتها في هذه الألفية من عمل تطهيري جديد، يهدف إلى تدمير كل ما هو إسلامي.
إن العدو الصليبي حاول زعزعة ثقة الأمة بما تملك من مقدرات تاريخية وحضارية وثقافية وفكرية، وطاقات بشرية كمية (عددية) وكيفية (أدمغة)، وموقع جغرافي استراتيجي متميز، لكن كيف نستثمر هذه المعطيات في رحلة انبعاث حضاري جديد؟ وكيف نؤهل الأمة لتكون في مستوى التحديات/الصراع؟ وكيف نستفيد من تاريخنا/ذاكرتنا الذي يختزن في طياته الكثير من التجارب والحقائق؟ وكيف نجعله عنصر إلهام لنا في المواجهة والنهوض والتحرير؟ وكيف نتصدى لحرب اللغة والمفاهيم التي تجري في الخطاب قبل الواقع؟ أي كيف نحدد معاني المفاهيم ونفهم الحقائق ونتحرر من التحكم الثقافي الذي يستخدمه إعلام العدو، الذي يحول المجاهد إلى إرهابي والشهيد إلى انتحاري والعدو إلى صديق والظالم إلى مظلوم...؟ وكيف يتحرك العدو؟ وكيف انتصر أجدادنا؟ ولماذا انهزمنا؟ وما السبيل إلى التحرير؟
هذه الأسئلة وغيرها هو ما سنحاول الإجابة عنه من خلال المحاور التالية:
أولا - جذور الصراع:
إن جذور صراعنا مع العدو الصليبي ترجع بالأساس إلى العلاقة التاريخية بين الإسلام والنصرانية، أي إلى موقف النصارى من الإسلام ونبي الرحمة محمد رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، وهذا ما كشفه ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم في قوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}(البقرة:120)، وقوله سبحانه وتعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(البقرة:109)، وقوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(البقرة:217).
وهذا ما جعل النصارى ينقسمون في عهد رسولنا العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام إلى فريقين بخصوص موقفهم من الإسلام:
أ - أهل الذمة:
الذين فضلوا مصالحة الرسول ( وعدم قتاله، ودفع الجزية، أي الخضوع لشريعتنا السمحة، مثل نصارى نجران...
لذا، فمثل هؤلاء ليس لدينا أي إشكال معهم في عصرنا الحالي الذي لا توجد فيه خلافة إسلامية، وهو ما نعبر عنه في خطابنا بالعقلاء المسالمين التواقين للحرية والعدل، الرافضين للظلم مثلنا، الذين يجب أن نبرهم ونقسط إليهم مصداقا لقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8)(/19)
ويدخل في هذا الإطار التصريحات الأخيرة للأب عطا الله حنا (الناطق الرسمي بلسان الكنيسة الأرثوذكسية في القدس)، حيث دعا إلى تشكيل لجنة إسلامية مسيحية تعمل على إفشال الحرب على العراق، والعمل على تحرير فلسطين من البحر إلى النهر إثر استقباله وفدا رسميا شعبيا في مدينة حيفا في فلسطين المحتلة عام 1948، كما أشاد بالعمليات الاستشهادية التي تطال عمق الكيان الصهيوني مؤكدا أن: "هؤلاء الاستشهاديين الفدائيين هم أبطال هذه الأمة، ونحن نفتخر بهم ونرفض قطعيا المحاولات المشبوهة في التشكيك بما يقومون به، ودعا المسيحيين العرب والفلسطينيين إلى الانخراط في المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني بكافة أشكالها وأساليبها، ذلكم لأنهم جزء من هذا الشعب الفلسطيني وهذه الأمة(1).
ب - المحاربون:
الذين قاتلوا الرسول (، أي لم يخضعوا لأحكام الإسلام، مثل نصارى مؤتة وتبوك...
لذا، فالحملات الصليبية التاريخية والجديدة بزعامة بوش تعتبر امتدادا طبيعيا لحركة النصارى المحاربين، وإن اختلفت الأسماء والعناوين والأساليب، لأنها تلتقي على ثابت عقدي وسياسي واحد هو محاربة الإسلام وأهله، وهذا هو الأساس الجوهري الذي يجب أن تفهم من خلاله مجموعة من القرارات والمواقف السياسية والاقتصادية والأمنية... التي يتخذها الغرب الصليبي اتجاه قضايانا المصيرية (فلسطين، الشيشان، أفغانستان، العراق، الفلبين، كشمير...).
وعليه فإن صراعنا مع الصليبية الجديدة صراع عقدي سياسي حضاري في جوهره، أي صراع وجود في بلادنا الإسلامية، حيث لا هدنة ولا تفاوض ولا حوار، أي المواجهة والقتال ودماء الشهداء هو سلوكنا السليم والصحيح اتجاههم، لتحرير بلادنا من دنسهم، وإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى مصداقا لقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة: 193).
ثانيا - السياق التاريخي لنشوء فكرة "الحركة الصليبية":
إن الأجواء الفكرية والنفسية التي كانت سائدة عند النصارى بخصوص نهاية العالم بعد الألفية الأولى من معاناة المسيح عليه السلام على الصليب، كانت المحرك الرئيسي لتحويل المشاعر المتعلقة بالعالم الآخر صوب بيت المقدس من أجل الخلاص، والأرضية الخصبة لنشوء الحركة الصليبية، حيث عرفت هذه المرحلة زيادة كبيرة في عدد الرحلات التي قام بها النصارى من غرب أوروبا إلى بيت المقدس.
هذه المرحلة كانت مقدمة ضرورية للنصارى، وفرصة مناسبة للتفكير الجدي في السيطرة على الأرض التي شهدت قصة المسيح عليه السلام، بحيث بدأت الكنيسة في الدعاية ضد المسلمين، ونعتهم بالكفار المتوحشين(2)، وبالموازاة تعبئة النصارى للقيام بالحملة الصليبية لتخليص الأرض المقدسة، والتي توجت بالخطبة التاريخية التي ألقاها البابا أربان الثاني في 27/11/1095 في جنوب فرنسا (كليرمون)، والتي دعا فيها إلى القيام بحملة ضد المسلمين في فلسطين تحت راية الصليب.
هذه الخطبة كانت نتيجة للمجمع الديني الذي عقده البابا مع جمع من الأساقفة أثناء مناقشتهم لأحوال الكنيسة، كما قامت على إثرها عدة مستوطنات صليبية في فلسطين وبلاد الشام ما بين 1096 و1291 م، لكن استعمال اصطلاح "الحملة الصليبية" لم يحدث سوى في بداية القرن 13 م، لأنها في البداية كانت توصف ب"الرحلة إلى الأرض المقدسة" أو "الحرب المقدسة"...،(3) وبعدها صار توسيع الحملات الصليبية ضد المسلمين في فلسطين والأندلس وعلى شواطئ البلطيق...، كما استعملت البابوية فكرة "الحرب العادلة" في القتال ضد مسلمي الأندلس، أما المؤرخون المسلمون (ابن الأثير، ابن كثير...) فكانوا يسمونها ب "حروب الفرنجة" أو "الإفرنج".
بعد نجاح الحملة الصليبية الأولى في إقامة مملكة بيت المقدس وعدة إمارات أخرى في البلاد العربية، أصبح همهم الأساس هو نشر قوات عسكرية ضخمة للدفاع عنها، ونشر المسيحية بين شعوب المنطقة.(4)
ولما استرجع الإمام صلاح الدين الأيوبي مدينة بيت المقدس سنة 1187 م/583 هـ، ركز الصليبيون جهدهم في الدفاع عن ما تبقى من كيانهم في فلسطين، بحيث حاولوا غزو مصر في الحملة الخامسة (1218 م)، وكذلك في الحملة السابعة (1249 م) التي قادها لويس التاسع.(5)
ولقد استمرت الحملات الصليبية قرنين من الزمان (489 – 610 هـ)، أي مند حملة البابا إلى سقوط عكا ونهاية - فيما بعد - الوجود الصليبي في فلسطين.
__________
(1) - القدس العربي، العدد 4244.
(2) - راجع: Robert of Rheims, Historiore Ihersolimitana
(3) - راجع: The crusades Motives and Achievement, james A.Brundage
(4) - راجع: The Second Crusades,Virginia G.Berry
(5) - راجع: Mayer, the crusades.(/20)
بعد ذلك، حاول البابا "نيقولا الرابع" تعبئة النصارى وتذكيرهم بسقوط مماليك الصليب (عكا، بيت المقدس...) في الشرق الإسلامي، لكن دون جدوى نظرا لعدم قدرتهم/ الإرهاق، والخسائر الفادحة التي تكبدوها خلال قرنين.
ثالثا - أوضاع المسلمين قبل الحروب الصليبية:
يمكن تلخيصها في الخطوط العامة التالية:
- الانقسام والتشرذم وهيمنة المصالح الشخصية الضيقة دفعت الحكام إلى تحويل كل مقدرات الأمة (البشرية والمادية) إلى عقار/حساب خاص.
- تخاذل الحكام وأنانيتهم وضيق أفقهم الذي ضيع البلاد وأذل العباد.(1)
- ابتعاد العلماء الصادقين عن السياسة شجع الحكام على تدبير أمور الأمة وفق أهوائهم وغرائزهم، بعيدا عن همومها وقضاياها.
-ضعف الدولة العباسية "السنية" دفع بالعبيديين/الفاطميين "الشيعة" إلى الانقضاض على شمال إفريقيا، وتكوين الدولة الفاطمية، وتقتيل علماء أهل السنة، والاستعانة باليهود والصليبيين ضد المسلمين، ومحاولة إبرام اتفاق/التحالف مع العدو الصليبي على اقتسام الأرض والنفوذ على حساب الأتراك "السنة"، لكن فشلوا بسبب رفض العدو(2)، بل وصلت بهم الوقاحة/الخيانة إلى حد أن الأسر الحاكمة في شمال بلاد الشام كانت تتفرج علىالتقتيل الذي يتعرض له المسلمون "الأتراك" معبرين عن الفرح بهزيمتهم، فضلا عن تركهم لسقوط أنطاكية ولم يتدخلوا لإنقاذها.
- تعدد الكيانات السياسية الصغيرة وغياب الوحدة، بحيث كانت كل مدينة كبيرة في بلاد الشام مثلا تمثل إمارة مستقلة تحت حاكم.
- عجز الحكام وضعفهم بسبب الحروب التي خاضوها فيما بينهم على مدى قرن كامل.
- شيوع الشك والريبة وانعدام الثقة فيما بين الحكام.
رابعا - العوامل الرئيسية التي ساهمت في تحرير القدس/ الأمة:
ترجع هزيمة العدو الصليبي بعد توفيق الله سبحانه وتعالى إلى الأسباب التالية:
- إحساس الرأي العام/الأمة بخطورة الهجوم الصليبي بسبب همجيته، والتدمير والتقتيل والتشريد والقهر والإذلال الذي تعرضوا له.
- قيام العلماء بدورهم في التحريض والتعبئة، وتذكير الأمة بمكانة القدس الشريف "أولى القبلتين وثالث الحرمين" الدينية، وفضل الجهاد والشهادة، وتوعيتهم بحقيقة العدو وطبيعة أهدافه التوسعية.
- بدأ المجاهدون التحرك الجاد من أجل توحيد الجهود ضد العدو الصليبي، أي كان شعار المرحلة "فلنترك خلافاتنا جانبا ولنتحد جميعا حول جهاد عدونا المشترك/الصليبي، فكان بديلا عمليا/المجاهدين للجيش الإسلامي، حيث لم ينهجوا سياسة التوسل اتجاه حكامهم.
- ظهور عماد الدين زنكي كقائد عام للحركة الجهادية ضد الصليبيين، وخضوع الموصل سنة 521 هـ/1127 م،(3) وأيضا البديل الصحيح لعجز الحكام وضعفهم، وفشلهم السياسي والعسكري، بسبب جديته وجهاده، لأن الرجل وضع كل إمكانياته في خدمة الهدف الإسلامي المرحلي المتمثل في جهاد الصليبيين.
- بعده، برز الإمام صلاح الدين الأيوبي الذي واصل الطريق/ المسيرة الجهادية، وقام بمجموعة من الخطوات كانت أهمها إزالة دولة الفاطميين، وتوحيد السلطة والقرار في مصر.
- بعد ذلك، بدأ بترتيب أوضاع المجاهدين الداخلية في كل من مصر والشام لمدة ست سنوات (572 –577 هـ/ 1176–1281م)، وعدم توسيع دائرة الصراع مع الصليبيين، وبالموازاة تحقيق مجموعة من الانتصارات التي توجت بهزيمة العدو في حطين 582 هـ/1187 م.(4)
بعد حطين، بدأت المدن والقلاع الصليبية تستسلم، فاتجه الإمام صلاح الدين صوب القدس الشريف، وتم فتحها بعد حصار قصير.
وعليه، فلقد أدرك العدو الصليبي - كما أدرك إمامنا صلاح الدين - أن مفتاح القدس يوجد في مصر، أي السيطرة عليها تعتبر مقدمة ضرورية لا يمكن تجاوزها.
خامسا - أساليب وآليات الحركة الصليبية الجديدة:
لم تتوقف الحركة الصليبية طيلة تاريخ المسلمين، أي منذ بعثة نبي الرحمة رسولنا العظيم عليه أفضل والصلاة، لكن أساليبها كانت متغيرة، تختلف من مرحلة إلى مرحلة حسب ميزان القوى وجدوائية الأسلوب في تحقيق هدفهم الثابت/تدمير المسلمين، مما دفعهم إلى التجديد الدائم في الأسلوب والابتكار في الآليات، وكذلك في الشعارات والعناوين والأهداف التضليلية.
يمكن إجمال أساليبها وآلياتها في النقاط التالية:
أ - الاستعمار العسكري:
الذي يعتبر امتدادا للحركة الصليبية، وقد تم التمهيد له بأبحاث ودراسات ميدانية حول الخصائص البشرية والمادية للبلدان المستهدفة تحت عنوان "الاكتشافات الجغرافية"، ليتم في نهاية المطاف السيطرة على ثرواتها والتحكم في خياراتها عن طريق العملاء، أي بعبارة أخرى ضرب كل البنى العقدية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، والتأسيس لبدائل تنسجم مع أهدافهم الاستعمارية.
__________
(1) - راجع: ابن الأثير، الكامل في التاريخ.
(2) - Runciman,A Hist.of the Crusades
(3) - راجع: ابن الأثير، الكامل في التاريخ.
(4) - راجع: ابن الأثير، الكامل في التاريخ.(/21)
ولضمان استمرار تطويعهم لإرادة الأمة الإسلامية، ومنع أي خطر مستقبلي على مشروعهم الصليبي التوسعي، تم وضع مجموعة من الألغام السياسية -كاتفاقية "سايكس بيكو" مثلا- لعرقلة كل حركة تبحث عن الحرية والاستقلال الحقيقي وليس الشكلي كما هو حاصل في كل البلاد الإسلامية، وتسهيل تحكمها من خلال:
- الدولة القطرية:
كانت ضمن المشروع الصليبي الاستيطاني، حيث تم في عام 1792 تكوين حلف صليبي مقدس من الصرب والبوشناق والمجر وبلغاريا ونصارى ألبانيا لقتال العثمانيين وإزالة الخلافة، وتقطيع فيما بعد العالم الإسلامي إلى دوليات صغيرة(1)، أي أن "سايكس بيكو" كان مخططا له منذ زمن بعيد.
و تتجلى خطورتها على المشروع الإسلامي التحرري في الأمور التالية:
أنها كيان غريب عن مرجعية الأمة ووجدانها، وذلك بتغييبها للذات الإسلامية كمركز ينظم كل أشكال الوعي بالوجود، حيث أصبحت من ملحقات العدو الصليبي.
أنها استهدفت هوية الأمة، وشرعية وجودها العقدي والسياسي والحضاري، لأن الهوية لا تصبح قضية عندما تكون منهجا في حياتنا اليومية، وإنما تطرح عندما تتعرض للتحقير والتهديد والإلغاء.
أنها تساهم في تجفيف ينابيع الأمة العقدية والسياسية والحضارية ومضامينها التحررية، حيث أصبح دور الإسلام هامشيا عبر اختزاله في أشكال طقوسية وفلكلورية فارغة.
أنها نقطة ضعف الشعوب الإسلامية التواقة إلى الحرية والاستقلال، لأنها أداة المستعمر الصليبي في تكبيل إرادة الشعوب عبر التجويع والقمع والتقتيل والاعتقال، وأيضا حماية وجوده ومصالحه.
أنها تساهم في إضعاف بنية الاجتماع السياسي من خلال تعدد المرجعيات العقدية والسياسية، وعامل انشطار المجتمع.
أنها العائق الكبير أمام توحد الأمة الإسلامية، وتعاون المسلمين وتضامنهم فيما بينهم.
أن همها الأساس هو الصراع على الحدود المصطنعة، والالتجاء في نهاية المطاف إلى العدو الصليبي لحل/عرقلة مشكلتها.
- إقامة الملحقات الثقافية:
التابعة للعدو كالمركز الثقافي البريطاني والفرنسي...، التي تنشر ثقافته، فهي بمثابة قاعدته الخلفية ومكتب للتنسيق بينه وبين العملاء والمرتزقة...
- زرع الحركات الانفصالية:
التابعة مباشرة للعدو الصليبي، والتي يتم دعمها بكل الأشكال لتكون ذريعته من أجل التدخل في البلد وتقسيمه، ويعتبر جنوب السودان مثالا حيا.
- زرع الكيان الصهيوني:
في قلب الأمة الإسلامية عبر وعد بلفور الذي جاء بعد المرحلة التمهيدية لاتفاقية "سايكس بيكو"، ليكون قاعدة للمشروع الصليبي التوسعي.
إن الكيان الصهيوني اتبع نفس سياسة العدو الصليبي عند احتلاله لفلسطين حتى في اللقب الديني، حيث كان الصليبيون يسمون أنفسهم ب"فرسان المسيح" و"الشعب المقدس"، والصهاينة ب"شعب الله المختار"، أي امتداد طبيعي له وإن اختلفت الأسماء/صليبي أو صهيوني، فهو ارتكز في مشروعه على أساسين:
- اغتصاب الأرض بالقوة.
- القضاء على أصحابها، سواء بالتقتيل أو التهجير...
ونفس السياسة مارسها العدو الصليبي في حملاته التاريخية ضد المسلمين، وتعتبر فلسطين والأندلس شاهدا حيا على جرائمه، وكذلك إبادة أمريكا لأصحاب الأرض الأصليين/الهنود الحمر، فضلا عن أن صاحب الفكرة هو نابليون، لأنه أول من دعى إلى قيام دولة صهيونية، وكان ذلك في أبريل 1799، والذي فشل بعد هزيمته في معارك عكا وأبي قير،(2) وهذا يعني أن التعاون الصليبي- الصهيوني كان قبل ميلاد الحركة الصهيونية.
- تحريك الأقليات الدينية والعرقية:
واتخاذها كوسائل ناجعة للتدخل في شؤون الدولة، والضغط عليها من أجل الانصياع التام لمخططاته، بل أصبح المسلم مواطن من الدرجة الأخيرة، أي بعد النصارى والعلمانيين والعملاء والمرتزقة...، كما لا يتمتع بأية حقوق، والسؤال هو: ماذا ينتظر؟.
ب - هيئة الأمم المتحدة:
المؤسسة الدولية لحل النزاعات، لكن الملفت للانتباه هو سيطرة الصليبيين المطلقة عليها، بحيث نجدهم ممثلين بأربع مقاعد دائمة في المجلس (أمريكا، فرنسا، بريطانيا، روسيا) ما عدا الصين، كما يتمتعون بحق "الفيتو"، مع العلم أنه رغم العدد الضخم لسكان العالم الإسلامي الذي يفوق المليار فإنه غير ممثل.
ج - الغزو الفكري المنظم:
التجأ العدو الصليبي لهذا السلاح لاستدامة حالة الاستعمار، واستكمال المشروع الصليبي، لأنه أدرك من خلال تجربته التاريخية مع المسلمين، أنه لا يمكن القضاء عليهم بأسلوب المواجهة والقتال مادام كتاب الله بين أيديهم، لأنه يحرضهم على البراءة من الكفار وجهادهم، وسبب هزيمتهم عندما كان يحكم.
وقد أخذ هذا الأسلوب أشكالا مختلفة من بينها:
- التوطين لمعتقدات وأفكار الغرب الصليبي كمنظومة الديمقراطية والمجتمع المدني...، ليصبح المسلمون مجرد هوامش وذيول للمتن الغربي.
- تشويه صورة الإسلام ورموزه بطريقة مباشرة وغير مباشرة.
__________
(1) - راجع: الحروب الصليبية، أحمد الشلبي.
(2) - راجع: جذور القضية الفلسطينية 1799-1922، عبد الفتاح العويس.(/22)
- زرع العملاء/العلمانيين التابعين للغرب الصليبي وحمايتهم، بل والضغط على الحكام من أجل تكريمهم.
- التحريش بين المسلمين والتفريق بينهم على أساس "الإرهاب/الاستقامة" و"الاعتدال/الميوعة".
د - الأعمال التنصيرية:
القيام بالأعمال التبشيرية/التنصيرية في البلاد العربية والإسلامية مستغلة بذلك الفقر والجهل والمرض والحروب والكوارث لتحقيق عدة أهداف، من بينها:
- تنصير ما يمكن تنصيره، وإن تعذر الأمر إخراجه على الأقل من دينه.
- التجسس على العالم الإسلامي، وتقديم تقارير دورية للغرب الصليبي.
- ربط المسيحية/الصليبية (لأن المسيح عليه السلام بريء من أعمالهم الإجرامية) بالرحمة والإنسانية، من خلال إرسال إغاثات رمزية ومساعدات تافهة، والتغطية في نفس الوقت على الإجرام الصليبي في كل من فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان والفليبين والبلقان...، ويبقى مقتل أكثر من نصف مليون طفل في العراق أكبر شاهد على ذلك؟ ونفس الأمر بالنسبة لكل من فلسطين والشيشان وأفغانستان...
أما فيما يخص استراتيجيتها فتعتمد على مرحلتين:
الأولى- الحصول على شرعية الوجود:
تقوم بأعمال إغاثية وخيرية صرفة دون الإعلان عن نواياها الحقيقية، وبمؤسسات قليلة كي لا تطرح الشكوك، حتى تثبت أقدامها وتكتسب شرعية وجودها.
الثانية - الزيادة في عدد المؤسسات التنصيرية وتجنيد/هيكلة المستهدفين:
القيام علنيا بالأعمال التنصيرية من خلال الرفع من عدد المؤسسات التنصيرية العاملة، وتجنيد الفقراء واليتامى...
ولقد طبقت هذه الإستراتيجية في عدة مناطق من بلادنا الإسلامية، وتعتبر "البوسنة والهرسك" - التي تمثل نقطة تماس مباشر بين العالمين الإسلامي والغربي- نموذجا واضحا، حيث استهدفت المؤسسات التنصيرية "يتامى البوسنة"، وعلى سبيل المثال تقوم مؤسستاDon Sindikata وikre بتنظيم رحلات لليتامى سنويا إلى إيطاليا وإسبانيا... في أواخر ديسمبر، حيث احتفالات رأس السنة الميلادية ومدتها 20يوما، والثانية ما بين يوليو وأغسطس ومدتها 40يوما، وتكون داخل عائلات نصرانية متدينة، فضلا عن الذهاب إلى الكنائس(1).
وهذا ما أدركه المجاهدون الذين يحملون هموم أمتهم، ويسعون بجد لتحريرها عبر كل الوسائل الشرعية والممكنة، مما دفع بالمجاهد اليمني مؤخرا إلى اغتيال ثلاثة مبشرين أطباء، كانوا يستغلون جهل الناس وفقرهم من أجل تنصيرهم أو إخراجهم من دينهم، مما يعبر عن وعي عميق بخلفية المنصرين وطبيعة أهدافهم، وحقيقة الأعمال التنصيرية، عكس ما يروج بعض الجهلة أو العملاء من كون هؤلاء الأطباء كانوا يقومون بأعمال إنسانية في قرى نائية.
هـ - العولمة:
التي تعني في جوهرها الترجمة الحقيقية لتوجه استراتيجي عام لسياسة العدو الصليبي/الأمريكي، لتدجين ما يمكن تدجينه، وضرب من يجب ضربه، لفتح الطريق وتأمينه للمشروع الصليبي، وتتخذ الأدوات السياسية والاقتصادية والأمنية... لتحقيق ذلك.(2)
سادسا - شواهد حية من الواقع:
ونعني بها مجموعة من الأمثلة الدالة على حقيقة الحركة الصليبية الجديدة، وطبيعة أهدافها وسياستها، وموقفها الصريح من الإسلام، والتي منها:
- إعلان بوش بعد الغزوة المباركة/11 سبتمبر بأنه سيقود حملة صليبية ضد المسلمين، تقوم بعمل شبيه بمحاكم التفتيش لاعتقال أو قتل أي شخص تحوم حوله الشبهة، وتنصير الباقين سواء بالارتداد إلى النصرانية أو تبني "الإسلام الأمريكي" على حد قول الشهيد الحي سيد قطب رحمه الله، وهذا ما يتم تطبيقه حاليا في البلاد العربية والإسلامية من طرف أولياء الصليبي بوش من حكام/عملاء والطفيليات العلمانية وبعض اللقطاء الصليبيين... وآخرون محسوبون على التيار الإسلامي...
أما اعتذاره الغبي/نفاقه فيكذبه إجرامه المتجلي في إغلاق المساجد والمدارس الإسلامية، والخوف والرعب الذي يزرعه عند الأبرياء، والاعتقال والاغتيال الذي يتعرض له المسلمون في العالم، والسطو/سرقة على المؤسسات الاقتصادية...
إن الحكومة الأمريكية الصليبية تهدف في نهاية المطاف إلى تدمير المسلمين، وشل قدرتهم ومحاصرتهم بالنشاط الكنسي.
- احتضان ولاية كولورادو الأمريكية في أواخر السبعينات من القرن الماضي أكبر مؤتمر كنسي عالمي، الذي خرج بخطة علنية تستوجب تنصير العالم الإسلامي، والقضاء على الإسلام، وشكل في نفس الوقت دافعا جديدا وقويا، ساهم في الرفع من وتيرة النشاط التبشيري/الصليبي، حيث عرفت البعثات التنصيرية الأمريكية نموا ملحوظا في أنشطتها.
__________
(1) - راجع: Magnify your Visio For The Small Church,John Rowell
(2) - للمزيد من التفصيل: راجع كتاب الأنصار الأول، مقال الكاتب.(/23)
- انفصال تيمور الشرقية عن الأرخبيل الأندونيسي، والذي كان نتيجة للضغط الغربي الصليبي على إندونيسيا، وأيضا التحريض المستمر للنصارى، فضلا عن المساعدة العسكرية والاقتصادية والسياسية التي عجلت بفصل هذا الجزء/تيمور الشرقية عن انتمائه العرقي والجغرافي، ونفس الأمر يطبق حاليا مع السودان، وأما حملتهم فلقد امتدت لتشمل البوسنة والهرسك والشيشان وكوسوفا وأفغانستان والفلبين...
- قرار الكونجرس الصليبي بضم القدس، واعتبارها عاصمة آل صهيون، فضلا عن مساعدة اللقيط الصهيوني ضد إخواننا المسلمين في فلسطين الجريحة.
- وصف القس جيمي سوجارت في شهر نوفمبر الماضي رسولنا العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام ب"الضال"، وطالب بطرد جميع طلاب الجامعات المسلمين الأجانب من أمريكا، ورحم الله الشيخ الداعية الجليل "أحمد ديدات" الذي لا طالما كشفه وفضحه في عقر داره وأمام أتباعه، وكذلك وصف بات روبتسون المسلمين بأنهم أسوأ من النازيين، والرسول ( مجرد متطرف ذي عيون متوحشة تتحرك عبثا من الجنون.(1)
- وصف القس الأمريكي البارز جيري فالويل راعي الكنيسة المعمدانية الجنوبية في أمريكا الرسول ( بـ "الإرهابي"، الذي يعتبر "كلينتون" من أتباعه.(2)
- تهجم القس فرانكلين جراهام المستشار الروحي لبوش على الإسلام، ووصفه بالديانة القبيحة والسيئة.
- فصل التلميذات المحجبات في فرنسا من الدراسة.
- انحياز القوات الفرنسية إلى جانب النصارى في ساحل العاج إلى حد الاشتباك مع المعارضة في كوت ديفوار، لإيقاف تقدمها نحو المواقع الخاضعة للقوات الحكومية، لأن بعض حركات المعارضة يسيطر عليها المسلمون، كما تعرض بعضهم للمذابح على أيدي النصارى.
- اضطرار 15 إسلاميا من البوسنة (متزوجين ولهم أبناء) مؤخرا إلى اتخاذ قرار الرحيل عن قرية قريبة من مدينة بريتشكو بالشمال البوسني، بعد مضايقات تعرضوا لها من قبل القوات الدولية/الصليبية.
- إن أمريكا وإيطاليا هما الدولتان الأكثر بخلا في العالم فيما يتعلق بتقديم المساعدات من أجل محاربة المجاعة والفقر، لأنه حسب المعطيات المسجلة سنة 2000 فإن النسبة المائوية في الناتج الخام الإيطالي المخصصة للدول في طور النمو والمؤسسات الدولية لا تتجاوز 0,13، وأسوأ من إيطاليا لا نجد في الرتبة الأخيرة سوى أمريكا، التي لا تتجاوز مساعدتها 0,10 في المائة.
- بخصوص إفريقيا التي تعتبر منطقة استراتيجية وحيوية للمشروع الصليبي، حيث يعمل العدو الصليبي بكل ما يملك لتحوليها إلى ملحقة تابعة له، فتح بابا الفاتيكان حملته الصليبية في فبراير 1993 إثر زيارته الرسمية للسودان، التي تم التمهيد لها من خلال التهديد الأمريكي بإدراج السودان في قائمة الدول التي ترعى الإرهاب، بعد تقرير وزير الخارجية للشؤون الإفريقية "هيرمان كوهين".
لكن رغم الاستقبال الحار والتكريم المبالغ فيه فضلا عن المديح الذي تعرض له البابا، فإنه صرح في خطابه بكل قوة ووضوح عن طبيعة مهمته، ودوره المحوري في المشروع الصليبي بقوله: "إن رياح التغيير تهب على إفريقيا وتتطلب احترام حقوق الإنسان، لقد كانت لي رغبة ملحة للمجيء إلى السودان، وبصفتي خليفة القديس بطرس الذي جعله المسيح رأسا على كنيسته، فمن اللازم علي أن أشجع وأثبت الإيمان في إخوتي وأخواتي أينما كانوا، ولا سيما عندما يقتضي الإيمان شجاعة كبيرة وقوة للصمود، وعندما يكون الشعب ضعيفا وفقيرا ولا حاميا له يجب أن أرفع صوتي لأتكلم باسمه".
- ما يقع لإخواننا في "غوانتانامو" يعبر بشكل فاضح عن الوجه الإجرامي للعدو الصليبي، ويقدم لنا صورة واضحة عن طبيعة "المشروع الصليبي"، بل ويكفي وحده لتحريض المسلمين في كل أنحاء العالم، وتوحيدهم ضد العدو الصليبي، واتخاذ كافة الوسائل لتحريرهم، لأن ذلك من صميم التوحيد الذي نتشدق به، ويكفي مثال "أبو بكر ( مع بلال ( " حجة علينا، حيث قدم ثمنا باهظا مقابل تحريره، ومن يدري فاليوم هم وقد نكون نحن غدا، نسأل الله عز وجل أن يفك أسرهم بما شاء وكيفما شاء، وأن يدمر الأعداء وينصر المسلمين إنه سميع مجيب.
سابعا - بداية الوعي والرهان الصليبي:
لقد ساهمت الحرب الشرسة التي يشنها العدو الصليبي بزعامة أمريكا على الأمة الإسلامية في إيقاظ وعيها بحقيقة الحرب الدائرة، وأبعادها العقدية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، أي أنها حرب حضارية تستهدف الأرض والإنسان، والقضاء على كل مسلم، ونهب خيرات البلاد الإسلامية، مما جعلها تستشعر جدية الخطر، ووحدة القضايا المصيرية وأيضا وجودها.
__________
(1) - قناة فوكس الأمريكية، 18 أيلول/سبتمبر.
(2) - برنامج 60 دقيقة الأمريكي، 6 أكتوبر.(/24)