أما إذا تاب من ذنب مع مباشرة ذنب آخر لا تعلق له به ولا هو من نوعه صحت توبته مما تاب منه. مثال ذلك أن يتوب من الربا وهو مُصّر على السرقة وشرب الخمر، فتقبل توبته مما تاب منه، أما إذا تاب من نوع من أنواع الربا وهو مُصّر على نوع آخر منه، أو تاب من نوع منه وانتقل إلى نوع آخر فلا تقبل توبته، كحال من يتوب من ربا الفضل وهو مُصّر على ربا النسيئة، وكحال من يتوب من الزنا بامرأة وهو مُصّر على الزنا بأخرى، فإن توبته لا تصح. وبالجملة فكل ذنب له توبة خاصة وهي فرض منه، لا تتعلق بالتوبة من غيره، فهذه هي التوبة الخاصة.
وسر المسألة أن التوبة تتبعض كالمعصية، فيكون تائباً من وجه دون وجه، كالإسلام والإيمان.
وهذا هو قول جمهور أهل السنة والجماعة.
ثم إن على العبد إذا وفقه الله لترك ذنب من الذنوب أن يسعى في التخلص من الباقي؛ لأن الإصرار على الذنوب يقود إلى ذنوب أخرى، فالحسنة تهتف بأختها والسيئة كذلك.
4- التخلص من الحقوق والتحلل من المظالم:
فالتوبة تكون من حق الله وحق العباد، فحق الله تبارك وتعالى يكفي في التوبة منه الترك كما تقدم، غير أن منه ما لم يكتف الشرع فيه بالترك، بل أضاف إليه القضاء والكفارة.
أما حق غير الله فيحتاج إلى التحلل من المظالم فيه وأداء الحقوق إلى مستحقيها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات)).
ولكن من لم يقدر على الإيصال بعد بذل الوسع في ذلك فعفو الله مأمول.
5- توبة العاجز عن المعصية:
إذا ِحيل بين العاصي وبين أسباب المعصية فعجز عنها بحيث يتعذر وقوعها منه فهل تصح توبته إذا تاب؟ وذلك كحال السارق إذا قطعت أطرافه الأربعة، وكالزاني إذا جُب، وكمن حكم عليه بالسجن المؤبد، فهل لهؤلاء توبة، مع أنه قد حيل بينه وبين ما كان يفعله من معاصي؟
قال ابن القيم بعد أن ذكر الأقوال والخلاف في هذه المسألة "القول الثاني: وهو الصواب أن توبته ممكنة بل واقعة، فإن أركان التوبة مجتمعة فيه، والمقدور له منها الندم، وفي المسند مرفوعاً ((الندم توبة))، فإذا تحقق ندمه على الذنب ولومه نفسه عليه فهذه توبة، وكيف يصح أن تسلب التوبة عنه مع شدة ندمه على الذنب ولومه نفسه، ولا سيما ما يتبع ذلك من بكائه وحزنه وخوفه وعزمه الجازم، ونيته أنه لو كان صحيحاً والفعل مقدوراً له لما فعله، وإذا كان الشارع قد نَزّل العاجز عن الطاعة منزلة الفاعل لها إذا صحت نيته كقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً))، وفي الصحيح أيضاً: ((إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم)) قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: ((وهم بالمدينة، حبسهم العذر)).
وله نظائر في الحديث فتنزيل العاجز عن المعصية، التارك لها قهراً مع نية تركها اختياراً لو أمكنه منزلة التارك المختار أولى".
6- معنى التوبة من قريب والتوبة عند الموت:
قال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:17].
قال ابن رجب: "وأما التوبة من قريب فالجمهور على أن المراد بها التوبة قبل الموت، فالعمر كله قريب، ومن تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، ومن لم يتب فقد بعُد كلَّ البعد كما قيل:
فهم جِيرة الأحياء أما قرارهم فدانٍ وأما الملتقى فبعيد
فالحي قريب، والميت بعيد من الدنيا على قربه منها، فإن جسمه في الأرض يبلى وروحه عند الله تنعم أو تعذب، ولقاؤه لا يرجى في الدنيا".
أما إذا عاين العبد أمور الآخرة وانكشف له الغطاء، وشاهد الملائكة فصار الغيب عنده شهادة، فإن الإيمان والتوبة لا تنفعه في تلك الحال.
قال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء:18].
فسوّى عز وجل بين من تاب عند الموت ومن تاب من غير توبة، والمراد بالتوبة عند الموت: التوبة عند انكشاف الغطاء، ومعاينة المحتضر أمور الآخرة ومشاهدة الملائكة.
وقال ابن رجب: "وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال: لا يزال العبد في مهل من التوبة ما لم يأته ملك الموت يقبض روحه، فإذا نزل ملك الموت فلا توبة حينئذ.
وقال ابن عمر: (التوبة مبسوطة ما لم ينزل سلطان الموت).
7- رجوع الحسنات إلى التائب بعد التوبة:(/13)
قال ابن القيم: "وإذا استغرقت سيئاته الحديثات حسناته القديمات وأبطلتها، ثم تاب منها توبة نصوحاً خالصة عادت إليه حسناته، ولم يكن حكمه حكم المستأنف لها، بل يقال له: تبت على ما أسلفت من خير، فالحسنات التي فعلتها في الإسلام أعظم من الحسنات التي يفعلها الكافر في كفره من عتاقة وصدقة وصلة، وقد قال حكيم بن حزام: يا رسول الله أرأيت عتاقة أعتقتها في الجاهلية، وصدقة تصدقت بها، وصلة وصلت بها رحمي، فهل لي فيها من أجر؟ فقال: ((أسلمت على ما أسلفت من خير))، وذلك لأن الإساءة المتخللة بين الطاعتين قد ارتفعت بالتوبة، وصارت كأنها لم تكن، فتلاقت الطاعتان واجتمعتا والله أعلم".
قال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث المتقدم: "لا مانع من أن يضيف الله إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه في الكفر تفضلاً وإحساناً".
8- هل التوبة ترجع العبد إلى حاله قبل المعصية؟
إذا كان للعبد حال أو مقام مع الله ثم نزل عنه لذنب ارتكبه، ثم تاب منه، فهل يعود بعد التوبة إلى ما كان أو لا يعود؟
والجواب أن هذه المسألة قد اختلف فيها السلف على أقوال شتى، ومن أحسن من أجاب على تلك المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: "والصحيح أن من التائبين من لا يعود إلى درجته، ومنهم من يعود إليها، ومنهم من يعود إلى أعلى منها، فيصير خيراً مما كان قبل الذنب، وكان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة... وهذا بحسب حال التائب بعد توبته وجده وعزمه وحذره وتشميره، فإن كان ذلك أعظم مما كان له قبل الذنب عاد خيراً مما كان وأعلى درجة، وإن كان مثله عاد إلى مثل حاله، وإن كان دونه لم يعد إلى درجته وكان منحطاً عنها".
قال ابن القيم: "وهذا الذي ذكره هو فصل النزاع في هذه المسألة".
انظر: رسالة في التوبة (227) لابن تيمية ضمن جامع الرسائل (المجموعة الأولى).
مدارج السالكين (1/316)، وانظر أيضاً: فتح الباري (11/105).
تفسير القرآن العظيم (4/391).
روح المعاني (28/158).
انظر: إحياء علوم الدين (4/40).
انظر: مدارج السالكين (1/285).
انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن رجب الحنبلي (1/157).
أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب باب: من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له (2429) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
انظر: كتاب التوبة وظيفة العمر للحمد (83).
الحديث أخرجه ابن ماجة في كتاب الزهد باب ذكر التوبة (4252) وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (4002) وحسنه الحافظ في الفتح (13/471)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6802). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب:يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة (2996).
أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب: نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر (4423).
انظر: مدارج السالكين (1/296).
لطائف المعارف (571).
لطائف المعارف (573).
لطائف ومعارف (573).
أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب: من تصدق في الشرك ثم أسلم (1436)، ومسلم في كتاب الإيمان باب: بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده (123).
مدارج السالكين (1/293).
فتح الباري (3/354).
انظر: مدارج السالكين (1/302).
مدارج السالكين (1/302).
الفصل السابع: أمور تعين على التوبة:
1- الإخلاص لله والإقبال عليه عز وجل:
فالإخلاص لله عز وجل من أنفع الأدوية، فإذا أخلص لله عز وجل وصدق في طلب التوبة أعانه الله عليها ويسره لها وأمده بألطاف لا تخطر بالبال، وصرف عنه الآفات التي تعترض طريقه وتصد توبته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أمتع ولا أطيب، والإنسان لا يترك محبوباً إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه، أو خوفاً من مكروه، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر، قال تعالى في حق يوسف: {كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]، فالله يصرف عن عبده ما يسوءه من الميل إلى الصور والتعلق بها ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله؛ ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له تغلبه نفسه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوي في قلبه، انقهر له هواه بلا علاج".
2- المجاهدة:
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
قال ابن الجوزي: "وفي قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة، ألا ترى إلى كل مغلوب بالهوى كيف يكون ذليلاً؛ لأنه قُهِر، بخلاف غالب الهوى فإنه يكون قوي القلب عزيزاً؛ لأنه قَهَر".
3- قِصَر الأمل وتذكر الآخرة:(/14)
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).
قال ابن رجب الحنبلي: "وهذا الحديث أصل في قِصَر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً فيطمئن فيها. ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر، يهيئ جهازه للرحيل، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم".
4- العلم:
لأنه نور يستضاء به، والعلم يشغل صاحبه بكل خير ويُشغله عن كل شر، فإذا فقد العلم فقدت البصيرة. ومن العلم في هذا السياق العلم بعاقبة المعاصي وقبحها ورذالتها، ودناءتها، ومن العلم أيضاً أن يعلم بفضل التوبة والرجوع إلى الله عز وجل.
5- مصاحبة الأخيار ومجانبة الأشرار:
لأن مصاحبة الأخيار تحيي القلب وتشرح الصدر، وتنير الفكر، وتعين على الطاعة، والأشرار على عكسهم، ولهذا جاء في حديث الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً أنه لما أتى إلى الرجل العالم وسأله: هل له من توبة؟ قال له: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء.
6- استحضار أضرار الذنوب والمعاصي في الدنيا والآخرة:
فإن للذنوب والمعاصي أضراراً عظيمة وعقوبات متنوعة سواء في الدنيا أو في الآخرة على مستوى الأفراد أو الجماعات، فَتَذكُّر هذه العقوبات والمثلات يدعو الإنسان للتوبة قبل حلول العذاب.
7- الدعاء:
قال الله تعالى: {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وقال جل شأنه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.
ومن أعظم ما يُسأل الله عز وجل أن يوفقه للتوبة النصوح، وأن يتقبل توبته.
مجموع فتاوي ابن تيمية (10/187- 188).
صيد الخاطر (115).
أخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب قول النبي صلى الله عليه وسلم كن في الدنيا كأنك غريب (6416).
جامع العلوم والحكم (2/377).
أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب حديث الغار (347)، ومسلم في كتاب التوبة باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (2766).
انظر: التوبة وظيفة العمر (223).
الفصل الثامن: نماذج وقصص للتائبين:
1- قصة توبة أبي محجن الثقفي:
عن ابن سيرين قال: كان أبو محجن الثقفي لا يزال يجلد في الخمر، فلما أكثر عليهم سجنوه وأوثقوه، فلما كان يوم القادسية فكأنه رأى أن المشركين قد أصابوا في المسلمين، فأرسل إلى أم ولد سعد، أو امرأة سعد: إن أبا محجن يقول لك: إن خليت سبيله وحملته على هذا الفرس ودفعت إليه سلاحاً ليكونن أول من يرجع إليك إلا أن يقتل.
فحلت عنه قيوده، وحمل على فرس كان في الدار وأعطي سلاحاً، ثم خرج يركض حتى لحق، بالقوم فجعل لا يزال يحمل على رجل فيقتله ويدق صلبه، فنظر إليه سعد فجعل يتعجب ويقول: من ذاك الفارس؟ قال: فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى هزمهم الله، ورجع أبو محجن، ورد السلاح وجعل رجليه في القيود كما كان، فجاء سعد فقالت له امرأته: كيف كان قتالكم، فجعل يخبرها ويقول: لقينا ولقينا حتى بعث الله رجلاً على فرس أبلق، لولا أني تركت أبا محجن في القيود لقلت: إنها بعض شمائل أبي محجن فقالت: والله إنه لأبو محجن، كان أمره كذا وكذا، فقصت عليه قصته، فدعا به فحل قيوده وقال: لا نجلدك على الخمر أبداً، قال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها أبداً، كنت آنف أن أدعها من أجل جلدكم. قال: فلم يشربها بعد ذلك.
2- قصة توبة الفضيل بن عياض:
عن علي بن خشرم قال: أخبرني رجل من جيران الفضيل بن عياض قال: كان الفضيل يقطع الطريق وحده، فخرج ذات ليلة ليقطع الطريق فإذا هو بقافلة قد انتهت إليه ليلاً، فقال بعضهم لبعض: اعدلوا بنا إلى هذه القرية، فإن أمامنا رجلا يقطع الطريق يقال له: الفضيل، قال: فسمع الفضيل، فأرعد فقال: يا قوم أنا الفضيل، جوزوا، والله لأجتهدن أن لا أعصي الله أبداً، فرجع عما كان عليه.
انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (7/360- 362 ) لابن حجر.
انظر: سيد الأعلام النبلاء (8/423) للذهبي.
الفصل التاسع: أخطاء في باب التوبة:
1- تأجيل التوبة:
فمن الناس من يدرك خطأه ويعلم حرمة ما يقع فيه، ولكنه يؤجل التوبة ويسوّف فيها وهذا خطأ عظيم؛ لأن التوبة واجبة على الفور، بل إن تأخير التوبة ذنب يجب أن يستغفر منه.
قال الغزالي: "أما وجوبها على الفور فلا يستراب فيه، إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس الإيمان، وهو واجب على الفور".
وقال ابن القيم: "المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور، ولا يجوز تأخيرها، فمتى أخرها عصى بالتأخير فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى، وهي توبته من تأخير التوبة".
2- الغفلة عن التوبة مما لا يعلمه العبد من ذنوبه:(/15)
وهذا من الأخطاء التي تقع في باب التوبة وقلّ من يتفطن لها، قال ابن القيم: "ولا ينجي من هذا إلا توبة عامة مما يعلم من ذنوبه ومما لا يعلم، فإن ما لا يعلمه العبد من ذنوبه أكثر مما يعلمه، ولا ينفعه في عدم المؤاخذة بها جهله إذا كان متمكناً من العلم، فإنه عاصٍ بترك العلم والعمل، فالمعصية في حقه أشد".
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل))، فقال أبو بكر: فكيف الخلاص منه يا رسول الله؟ قال: ((أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)).
3- ترك التوبة مخافة الرجوع للذنب:
يجب على المسلم أن يتوب إلى الله في كل وقت وحين فلربما أدركه الموت وهو لم ينقض توبته، كما عليه أن يحسن الظن بربه ويعلم أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني)).
4- ترك التوبة خوفاً من لمز الناس:
فمن الناس من تحدثه نفسه بالتوبة ولزوم الاستقامة، ولكنه يخشى لمز الناس وعيبهم إياه ووصمهم له بالتشدد والوسوسة، وهذا خطأ فادح؛ إذ كيف يقدم خوف الناس على خوف رب الناس، وكيف يؤثر الخلق على الحق، فالله أحق أن يخشاه.
5- ترك التوبة مخافة سقوط المنزلة وذهاب الجاه والشهرة.
6- التمادي في الذنوب اعتماداً على سعة رحمة الله:
يقول المولى جل ذكره {نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ w وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ} [الحجر:49، 50].
يقول أبو حامد الغزالي في شأن من يذنب وينتظر العفو عنه اتكالاً على فضل الله تعالى قال: "هو كمن ينفق جميع أمواله ويترك نفسه وعياله فقراء منتظراً من فضل الله أن يرزقه العثور على كنز في أرض خربة، فإن إمكان العفو عن الذنب مثل هذا الامكان، وهو مثل من يتوقع النهب في الظلمة في بلده وترك ذخائر أمواله في حصن داره وقدر على دفنها فلم يفعل".
وقال ابن القيم: "وهذا الضرب من الناس قد تعلق بنصوص الرجاء واتكل عليها، وتعلق بكلتا يديه، وإذا عوتب على الخطايا والانهماك فيها سرد لك ما يحفظه من سعة رحمة الله ومغفرته ونصوص الرجاء. وللجهال من هذا الضرب من الناس في هذا الباب غرائب وعجائب".
7- الاغترار بإمهال الله للمسيئين:
قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ قوله تعالى: {وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
قال ابن الجوزي: "فكل ظالم معاقب في العاجل على ظلمه قبل الآجل، وكذلك كل مذنب ذنباً، وهو معنى قوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]، وربما رأى العاصي سلامة بدنه فظن أن لا عقوبة، وغفلته عما عوقب به عقوبة".
وقال ابن الجوزي أيضاً: "الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي، فإن نارها تحت الرماد، وربما تأخرت العقوبة، وربما جاءت مستعجلة".
8- اليأس من رحمة الله:
يقول المولى سبحانه: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}، وقال جل ذكره: {قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر:53].
9- اليأس من توبة العصاة:
جاء في صحيح مسلم عند جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث: ((إن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك)).
10- الشماتة بالمبتلَين.
11- توبة الكذابين:
الذين يهجرون الذنوب هجراً مؤقتاً يتحينون الفرص لمعاودة الذنب.
12- الاغترار بالتوبة:
وهذا الغرور قد يصاحب بعض التائبين وكأن توبته قد قبلت وذنوبه قد محيت فيدفعه هذا الغرور إلى أن يقع في بعض الذنوب الأخرى.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إحياء علوم الدين (4/7).
مدارج السالكين (1/283).
مدارج السالكين (1/283).
رواه البخاري في الأدب المفرد باب فضل الدعاء (1/250). وصححه الألباني في صحيح الجامع (3731).
أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى ويحذركم الله نفسه (7405) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب الحث على ذكر الله (2675).
إحياء علوم الدين (4/58).
الجواب الكافي (67-68).
أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن باب قوله وكذلك اخذ ربك إذا أخذ القد (4686)، مسلم في البر والصلة (2583)، من حديث أبي موسى الأشعري.
صيد الخاطر (104).
صيد الخاطر (500).
أخرجه مسلم في كتاب الصلة والاداب باب: النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله (2621).(/16)
التوبة وحسن الظن بالله ... ... ...
الشيخ فرج البوسيفي " خطبة جمعة ... ...
ليس من الإيمان في شيء سوء الظن بالله سبحانه، وخاصة من أصحاب الذنوب والكبائر، فعيب على أحدنا أن ييأس من روح ورحمة الله، ويصرّ على الكبائر، ملبّسًا عليه شيطانه ونفسه والهوى أنه بهتك ستره لن يغفر له ربُّه، وإذا زجرته أو نصحته أظهر لك يأسه وقنوطه من رحمة الرحيم، ورب العالمين يغفر الذنوب جميعًا، إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48]، إن الذي فرض علينا ترك المنكرات فرض علينا الاستغفار إذا وقعنا فيها: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء:110]. يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فمن الذي يدعو ويرجو المجرمُ؟!
إن الإنسان بفطرته وطبيعته يحدث منه النسيان والخطأ، وإن العصمة من الخطأ ليست في مقدورنا، إنما الذي في مقدور الجميع أن يجدد العقد مع الله، وأن يصلح ما أفسد وفرط في جنب الله، وليعلم المؤمن أن رحمة الله سبقت غضبه، إنه رحيم بعباده، فارحموا ـ أيها الناس ـ أنفسكم، ارحموها بالتوبة، ارحموها برحمة عباد الله، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم من في السماء.
كن عبدًا ربانيًا، رحيمًا بنفسك وبالمؤمنين، ولا تيأس من رحمة الله، فقد جاء في الحديث الصحيح: ((إن لله سبحانه وتعالى مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والطير والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وأخر تسعًا وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة)).
أيا رب عفوًا عن ظلوم لنفسه رجاك وإن كان العفاف به أولى
سألتك يا مولى الموالي ضراعة وقد يضرع العبد الذليل إلى المولى
لتصلح لي قلبًا وتغفر زلّة وتقبل لي توبًا وتسمع لي قولاً
ولا عجب فيما تمنيت إنني طويل الأماني عند من يحسن الطولا
حسن الظن بالله ورجاء رحمة الله لا يعني أبدًا أن نخدع أنفسنا بالأماني والإصرار، إنما معنى ذلك أن الإنسان منا كلما أحدث ذنبًا يحدث له توبة ورجاءً في الله أن يكفر عن آثار خطيئته، وأن يعزم العزم الأكيد أن لا يعود.
إن كثيرًا من الناس يظن مع عظيم ذنبه أنه يخلد في النار، أو واجب في حقه دخول النار، وهذا سوء أدب مع الله وفساد في العقيدة، والله يعامل العبد على حسب ظنه بالله، فليظن خيرًا، وجاء في الحديث: ((إن الله يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل منها مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقول: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء)).
يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعدّ لكل ما يتوقع
يا من يُرجى للشدائد كلِّها يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن رزقه في قول: كن امنُن فإنّ الخير عندك أجمع
ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن رددت فأيّ باب أقرع؟!
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع
حاشا لجودك أن تقنط عاصيًا الفضل أجزل والمواهب أوسع
يا أهل التوحيد، أخلصوا أعمالكم لله، وأحسنوا ظنكم بربكم، واعلموا أن اليوم عمل وغدًا جزاء، ومن زرع حصد، ومن جد وجد، من أراد أن يعامله الله معاملة الرحمة والغفران فليرحم عباد الله، ويغفر لهم أخطاءهم ولا يقسو عليهم، ومن لم يقرع أبواب التوبة وظلم العباد وأهلك الضرع والزرع وأفسد في الأرض وأصر على ذنبه ولعب بدين ربه ثم يرجو رحمته لا شك أن هذا متلاعب مستهزئ بالله ودينه.
خافوا ذنوبكم، وارجوا رحمة ربكم، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53].
تُب وثُب وادع ذا الجلال بصد ق تجد الله للدعاء سميعًا
لا تخف مع رجاء ربك ذنبًا إنه يغفر الذنوب جميعًا(/1)
جاء في الحديث أن امرأة في بعض المغازي في يوم صائف شديد الحر بصرت بصبي، فأقبلت تشتد، وأقبل أصحابها خلفها، حتى أخذت الصبي وألصقته إلى صدرها، ثم ألقت ظهرها على البطحاء، وجعلته على بطنها تقيه الحر، وقالت: ابني ابني، فبكى الناس وتركوا ما هم فيه، فأقبل رسول الله حتى وقف عليهم، فأخبروه الخبر، فسُرّ برحمتهم، ثم بشرهم فقال: ((أعجبتم من رحمة هذه لابنها؟)) قالوا: نعم، قال : ((فإن الله تبارك وتعالى أرحم بكم جميعًا من هذه بابنها))، فتفرّق المسلمون على أفضل السرور وأعظم البشارة.
يا من يرى مَدَّ البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى مناط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النُّحَّل
اغفر لعبد تاب من فرطاته ما كان منه في الزمان الأول ... ... ... ... ...(/2)
التوبة
التوبة لغة : من تاب يتوب إذا رجع .
وشرعًا : الرجوع من معصية الله إلى طاعته , فليس بين الطاعة والمعصية منزل , كما أنه ليس بين الجنة والنار منزل .
وأعظمها وأوجبها : التوبة من الكفر إلى الإيمان , قَالَ تَعَالَى : {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (38)} [سورة الأنفال : 38]
ثم يليها التوبة من البدعة إلى السُّنة , والتوبة من كبائر الذنوب وصغارها .
فالتوبة هي بداية العبد ونهايته , وحاجته إليها في النِّهاية ضرورية كما أن حاجته إليها في البداية كذلك , وقد قَالَ الله تَعَالَى : {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور : 31]
وهذه الآية في سورة مدنية خَاطَبَ الله بها أَهْلَ الإيمان وخيار خلقه ؛ أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم , ثم عَلَّق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه , وأتى بأداة لعل المشعرة بالترجي إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح , فلا يرجو الفلاح إلا التائبون - جعلنا الله منهم .
وقال الله تَعَالَى : {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة الحجرات : 11]
فقد قَسَّم سبحانه وتعالى العباد إلى تائبٍ وظالمٍ , وما ثم قِسْمٌ ثالث ألبتة , وأوقع سبحانه وتعالى اسم الظَّالم على من لم يتب , ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه , وبعيب نفسه , وآفات أعماله .
وقد جعلها سبحانه وتعالى علامة على فلاح العبد وهدايته , وعنوانًا على صِدْقِ عبوديته , قَالَ تَعَالَى : {وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [سورة هود : 3]
وقال تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } [سورة التحريم : 8]
وقد كان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر من التوبة ويحث عليها .
عَنْ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا النَّاس تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ .(1 )
والله سبحانه وتعالى يحب التائبين ويفرح بتوبتهم .
{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [سورة البقرة : 222]
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ من أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ , وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ , فَأَيِسَ مِنْهَا , فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ من رَاحِلَتِهِ , فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ , فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ من شِدَّةِ الْفَرَحِ : اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي , وَأَنَا رَبُّكَ ؛ أَخْطَأَ من شِدَّةِ الْفَرَحِ.( 2)
ومن عظيم كرمه ومَنِّهِ بعباده ؛ أنه سبحانه وتعالى يمهل عبده إن أساء بالنهار , ويدعوه إلى التَّوبة , ويبسط يده بالليل ؛ طالبًا عبده بالرجوع إليه , وكذلك مذنب الليل يمهله إلى النَّهار ؛ بل يظلُّ الباب مفتوحًا إلى قبيل قيام الساعة .
عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ , وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ , حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ من مَغْرِبِهَا .(3 )
والأمر في حقِّ العبد إلى أن تصل الرُّوح إلى الحلقوم .
عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ .( 4)
ولما كانت التَّوبة هي رجوع العبد إلى الله , ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضَّالين ؛ وذلك لا يحصل إلا بهداية الله له إلى الصِّراط المستقيم , ولا تحصل هدايته إلا بإعانته وتوحيده , فلا تستقيم العبودية إلا بالتوبة النَّصوح , فإن الهداية التامة إلى الصِّراط المستقيم ؛ لا تكون مع الجهل بالذنوب , ولا مع الإصرار عليها , بل بشعور العبد الدَّائم بعظم تفريطه , وسوء حاله إن لم يرحمه ربه سبحانه وتعالى , فلذلك لا تصح التوبة إلا بعد معرفة الذنب والاعتراف به , وطلب التخلص من سوء عواقبه أولًا وآخرًا , ومتى اعتصم العبد بربه نصره على نفسه وعلى الشيطان , قَالَ تَعَالَى : {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [سورة الحج : 78](/1)
ووقوع العبد في الذَّنب هو حقيقة الخذلان , فما خلى الله بينك وبين الذَّنب إلا بعد أن خذلك وخلى بينك وبين نفسك , ولو عصمك ووفَّقك لما وجد الذنب إليك سبيلًا , وإذا وقعت في الذَّنب فتداركك الله برحمة فأحسست بخطورة ما أنت فيه , وعلا قلبك النَّدم , وشملتك الحسرة , فهذه بادرة خير ؛ أن يجبر الله كَسْرَكَ , ويعينك على تدارك ما فاتك من غفلة .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : النَّدَمُ تَوْبَةٌ .( 5)
فهذا النَّدم إن لم يعصر القلب , وينغص عيش العبد ؛ فهو جاهل بحقيقة فعله , إذ الفرح بالمعصية دليل على شدة الرَّغبة فيها , والجهل بقدر من عصاه , والجهل بسوء عاقبتها وعظم خطرها , ففرحه بها غطى عليه ذلك كله , وفرحه بها أشد ضررًا عليه من مواقعتها , والمؤمن لا تتم له لذَّة بمعصية أبدًا , ولا يكمل بها فرحه , بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه , ولكن سكر الشَّهوة يحجبه عن الشُّعور به , ومتى خلي قلبه من هذا الحزن , واشتدت غبطته وسروره بمعصيته وفعله ؛ فليتهم إيمانه , وليبك على موت قلبه ؛ فإنه لو كان حيًا لأحزنه ارتكابه للذنب وغاظه , وصعب عليه , ولا يحس القلب بذلك , فحيث لم يحس به فما لجرحٍ بميتٍ إيلام , وهذه النُّكتة في الذنب قَلَّ من يهتدي إليها أو ينتبه لها ؛ وهي موضع مخوف جدًا مترام إلى هلاك العبد بالكلية ؛ إن لم يتدارك نفسه بثلاثة أشياء :
أولا : خوف القدوم على ربه قبل التوبة .
ثانيا : ندم على ما فاته من الله بمخالفة أمره .
ثالثا : وتشمير للجد في استدراك ما فات من تفريط وتقصير .
وقد نادى سبحانه على المسرفين من عباده بأحبِ نداء مرغبًا إياهم في الإقبال عليه , وعدم القنوط من رحمته قَالَ تَعَالَى : {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذين أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [سورة الزمر : 53]
وقال تَعَالَى : {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)} [سورة الشورى : 25]
وفَتَحَ باب التوبة أمام عبد علم منه الرجوع والإنابة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي , فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ , وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ . ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ , فَقَالَ : أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي , فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ , وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ . ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ , فَقَالَ : أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي , فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ , وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ؛ اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ. ( 6)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ , فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ , وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ , وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[سورة المطففين : 14] (7 )
من صور التائبين
الذي يطالع سير الأول يجد سجلًا حافلًا ممن تاب ورجع إلى ربه ومولاه ؛ بعد تفريطٍ وعِصيان وجهلٍ بحقيقة النَّفس , ويرى رحمة الله بعبده من توفيقه إلى التوبة , وإعانته عليها ؛ فضلًا منه وتكرمًا .
فهو سبحانه وتعالى الغفور الودود التواب الرحيم , فقد غفر سبحانه وتعالى لمن تاب بعد قتل مائة نفس .(/2)
فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا , ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ , فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ هَلْ من تَوْبَةٍ ؟ قَالَ : لَا , فَقَتَلَهُ . فَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ عَالِمٌ : ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ , فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا , فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ , فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي , وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي , وَقَالَ : قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا , فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ. (8 )
.وغفر لرجل شكّ في قدرة الله على جمعه يوم القيامة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ , فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِبَنِيه :ِ "إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي , ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ , فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا . فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَقَالَ : اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ فَفَعَلَتْ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ فَقَالَ : مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ ! قَالَ : يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ فَغَفَرَ لَهُ ".. ( 9)
توبة زان وزانية :
وَقَبِل توبة زانٍ وزانية , وشهد النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصحةِ توبتهما .
عَنْ بُرَيْدَةَ : أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَزَنَيْتُ , وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي فَرَدَّهُ , فَلَمَّا كَانَ من الْغَدِ أَتَاهُ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ , فَرَدَّهُ الثَّانِيَةَ , فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمِهِ , فَقَالَ : أَتَعْلَمُونَ بِعَقْلِهِ بَأْسًا , تُنْكِرُونَ مِنْهُ شَيْئًا , فَقَالُوا : مَا نَعْلَمُهُ إِلَّا وَفِيَّ الْعَقْلِ من صَالِحِينَا فِيمَا نُرَى , فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ , فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا , فَسَأَلَ عَنْهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَا بِعَقْلِهِ , فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةَ , حَفَرَ لَهُ حُفْرَةً ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ , قَالَ : فَجَاءَتْ الْغَامِدِيَّةُ , فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي , وَإِنَّهُ رَدَّهَا , فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ , قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! لِمَ تَرُدُّنِي ! لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا ! فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى , قَالَ : إِمَّا لَا فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي , فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ , قَالَتْ : هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ , قَالَ : اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ , فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ , فَقَالَتْ : هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ , فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ من الْمُسْلِمِينَ , ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا , وَأَمَرَ النَّاس فَرَجَمُوهَا , فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا ؛ فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا , فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُ إِيَّاهَا , فَقَالَ : مَهْلًا يَا خَالِدُ ! فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ , ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ ( 10)
توبة كعب بن مالك :
وإليك أشهر توبة وقعت في عهد النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .(/3)
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ - يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ قِصَّةِ تَبُوكَ - لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ , غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ ؛ وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا , إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ , وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ , وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ , وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاس مِنْهَا . كَانَ من خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ , وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ , وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ , وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا , فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ , وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ - يُرِيدُ الدِّيوَانَ - قَالَ كَعْبٌ : فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ ؛ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللَّهِ . وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتْ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ , وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ , فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا , فَأَقُولُ فِي نَفْسِي أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ , فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بالنَّاسِ الْجِدُّ , فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ من جَهَازِي شَيْئًا , فَقُلْتُ أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ , فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لِأَتَجَهَّزَ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا , ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا , فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ , وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ , فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ , فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاس بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ , أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ من الضُّعَفَاءِ , وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ , فَقَالَ : وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ : مَا فَعَلَ كَعْبٌ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ من بَنِي سَلِمَةَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ , فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : بِئْسَ مَا قُلْتَ , وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا , فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .(/4)
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ : فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلًا حَضَرَنِي هَمِّي , وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ , وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ من سَخَطِهِ غَدًا , وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ من أَهْلِي , فَلَمَّا قِيلَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا ؛ زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ , وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ , فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ , وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا وَكَانَ إِذَا قَدِمَ من سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ , فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ , وَيَحْلِفُونَ لَهُ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا , فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ , فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ؛ ثُمَّ قَالَ : تَعَالَ , فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ , فَقَالَ لِي : مَا خَلَّفَكَ؟! أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ ! فَقُلْتُ : بَلَى , إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ من أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ من سَخَطِهِ بِعُذْرٍ , وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا , وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي , لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ , وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ , لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي من عُذْرٍ , وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ , فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ , فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ من بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي , فَقَالُوا لِي : وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا , وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُتَخَلِّفُونَ , قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ , فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي , ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ : هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ ؟ قَالُوا : نَعَمْ رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ , فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ , فَقُلْتُ مَنْ هُمَا : قَالُوا مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَمْرِيُّ , وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ , فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا , فِيهِمَا أُسْوَةٌ فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي , وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ من بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ , فَاجْتَنَبَنَا النَّاس , وَتَغَيَّرُوا لَنَا , حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الْأَرْضُ ؛ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ , فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً , فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ , وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ , فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاة مَعَ الْمُسْلِمِينَ , وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ , وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ , وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاة , فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ أَمْ لَا , ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ , وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ من جَفْوَةِ النَّاس ؛ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي , وَأَحَبُّ النَّاس إِلَيَّ , فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ , فَقُلْتُ : يَا أَبَا قَتَادَةَ ! أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ , هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ؟ فَسَكَتَ , فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ , فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ ,(/5)
فَقَالَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ , فَفَاضَتْ عَيْنَايَ , وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ , قَالَ : فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ , إِذَا نَبَطِيٌّ من أَنْبَاطِ أَهْلِ الشّام مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ , يَقُولُ : مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ؟ فَطَفِقَ النَّاس يُشِيرُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا من مَلِكِ غَسَّانَ , فَإِذَا فِيهِ : أَمَّا بَعْدُ . فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ , وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ , فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ , فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا وَهَذَا أَيْضًا من الْبَلَاءِ , فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا , حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً من الْخَمْسِينَ , إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي , فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ , فَقُلْتُ : أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ ؟ قَالَ : لَا , بَلْ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا , وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ , فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي : الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَتَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ , قَالَ كَعْبٌ : فَجَاءَتْ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ ؛ فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ ؟ قَالَ : لَا , وَلَكِنْ لَا يَقْرَبْكِ , قَالَتْ : إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ , وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ من أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا . فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي : لَوْ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَتِكَ كَمَا أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ , فَقُلْتُ : وَاللَّهِ لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا , وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ , فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ حَتَّى كَمَلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً ؛ من حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلَامِنَا , فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ من بُيُوتِنَا , فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ ؛ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي , وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ , سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ : يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ ! أَبْشِرْ , قَالَ : فَخَرَرْتُ سَاجِدًا , وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ , وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ , فَذَهَبَ النَّاس يُبَشِّرُونَنَا , وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ , وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا , وَسَعَى سَاعٍ من أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ , وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ من الْفَرَسِ , فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ , وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ , وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَيَتَلَقَّانِي النَّاس فَوْجًا فَوْجًا يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ , يَقُولُونَ : لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ , قَالَ كَعْبٌ : حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاس , فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي , وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ من الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ , وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ . قَالَ كَعْبٌ : فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ من السُّرُورِ : أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ ! قَالَ : قُلْتُ : أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ من عِنْدِ(/6)
اللَّهِ ؟! قَالَ : لَا بَلْ من عِنْدِ اللَّهِ , وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ , وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ , فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ من تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ من مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ , وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ , قُلْتُ : فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ , فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ , وَإِنَّ من تَوْبَتِي أَنْ لَا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ , فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا من الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي , مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا , وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيتُ , وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} إِلَى قَوْلِهِ {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ من نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي من صِدْقِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ ؛ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذين كَذَبُوا , فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ , فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ} إِلَى قَوْلِهِ {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} قَالَ كَعْبٌ : وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذين قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَلَفُوا لَهُ , فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ , وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ , فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذين خُلِّفُوا} وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا عَنْ الْغَزْوِ , إِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ .( 11)
أبو محجن الثقفي :
وهذا سَجِينُ سعد بن أبي وقاص كان متهمًا بشرب الخمر , قيل كان يشربها وقيل كان يذكرها في شعره , إنه أبو محجن الثقفي البطل الشُّجاع الكَرّار أمسك به سعد ؛ وكان قد حبس في القصر وقيد , فهو في القصر فصعد حين أمسى إلى سعد يستعفيه ويستقيله , فزبره ورده , فنزل فأتى سلمى بنت خَصَفة -زوجة سعد - فقال : يا سلمى يا بنت آل خصفة هل لك إلى خير ؟ قالت : وما ذاك ؟ قَالَ : تخلين عني وتعيرينني البلقاء ؛ فلله علي إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قيدي , فقالت : وما أنا وذاك ! فرجع يرسف في قيوده , يقول :
كَفَى حَزَنًا أَنْ تَرْتَدِيَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا
وَأُتْرَكَ مَشْدُودًا عَلَيَّ iiوَثَاقِيا
إِذَا قُمْتُ عَنَّانِي الْحَدِيدُ iiوَأُغْلِقَتْ
مَصَارِيعُ دُونِي قَدْ تَصُمُّ iiالْمُنَادِيا
وَقَدْ كُنْتُ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ iiوَإِخْوَةٍ
فَقَدْ تَرَكُونِي وَاحِدًا لَا أَخَا لِيَا
وَللهِ عَهْدٌ لَا أَخِيسُ iiبِعَهْدِهِ
لَئِنْ فُرِّجَتْ أَلَّا أَزُورَ iiالْحَوَانِيا(/7)
فقالت سلمى : إني استخرت الله ورضيت بعهدك ؛ فأطلقته , وقالت : أمّا الفرس فلا أعيرها ورجعت إلى بيتها , فاقتادها فأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق , فركبها ثم دب عليها , حتى إذا كان بحيال الميمنة , كَبَّر ثم حمل على ميسرةِ القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصَّفين , ثم رجع من خلف المسلمين إلى الميْسَرَةِ فَكَبَّرَ وحمل على ميمنة القومِ يلعب بين الصَّفين برمحه وسلاحه , ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فندر أمام النَّاس , فحمل على القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه , وكان يقصف النَّاس ليلتئذ قصفًا منكرًا , وتعجب النَّاس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه من النَّهار . وجعل سعد يقول - وهو مشرف على النَّاس مكب من فوق القصر : والله لولا محبس أبي محجن لقلت : هذا أبو محجن وهذه البلقاء . وقال بعض النَّاس : إن كان الخضر يشهد الحروب فنظن صاحب البلقاء الخضر . وقال بعضهم : لولا أن الملائكة لا تباشر القتال لقلنا ملك يثبتنا , ولا يذكره النَّاس ولا يأبهون له ؛ لأنه بات في محبسه , فلمّا انتصف الليل ؛ حاجز أهل فارس , وتراجع المسلمون , وأقبل أبو محجن حتى دخل من حيث خرج , ووضع عن نفسه وعن دابته , وأعاد رجليه في قيديه , وقال :
لَقَدْ عَلِمَتْ ثَقِيفٌ غَيْرَ فَخْرٍ
بِأَنَّا نَحْنُ أَكْرَمُهُمْ iiسُيُوفَا
وَأَكْثَرُهُمْ دُرُوعًا iiسَابِغَاتٍ
وَأَصْبَرُهُمْ إِذَا كَرِهُوا الْوُقُوفَا
وَأَنَّا وَفْدُهُم فِي كُلِّ iiيَوْمٍ
فَإِنْ عَمِيُوا فَسَلْ بِهِمُ iiعَرِيفَا
وَلَيْلَةَ قَادِسٍ لَمْ يَشْعُرُوا بِي
وَلَمْ أُشْعِرْ بِمَخْرَجِيَ iiالزُّحُوفَا
فَإِنْ أُحْبَسْ فَذَلِكُمُ iiبَلَائِي
وَإِنْ أُتْرَكْ أَذِيقُهُمُ iiالْحُتُوفَا
فقالت له سلمى : يا أبا محجن ! في أي شيء حبسك هذا الرجل ؟ قَالَ : أما والله ماحبسني بحرامٍ أكلته ولا شربته , ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية , وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني يبعثه على شفتي أحيانًا , فيُسَاءُ لذلك ثَنَائِي , ولذلك حبسني , قلت :
إِذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إِلَى أَصْلِ كَرْمَةٍ
تُرَوِّي عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي iiعُرُوقُهَا
وَلَا تَدْفِنَنِّي بِالْفَلَاةِ فَإِنَّنِي
أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَلَّا iiأَذُوقُهَا
وَتَرْوِي بِخَمْرِ الْحُصِّ لَحْدِي فَإِنَّنِي
أَسِيرُ لَهَا من بَعْدِ مَا قَدْ أَسُوقُهَا
ولم تزل سَلْمَى مُغَاضِبَةً لسعدٍ عشية أرماث , وليلة الهدأة , وليلة السَّواد( 12) , حتى إذا أصبحت أتته وصالحته , وأخبرته خبرها وخبر أبي محجن , فدعا به فأطلقه , وقال : اذهب فما أنا مؤاخذك بشيءٍ تقوله ؛ حتى تفعله , قَالَ : لا جرم والله , لا أجيب لساني إلى صفةِ قبيحٍ أبدًا .( 13)
زاذان الكندي :
وهذا أحد الشباب ممن كان منهمكًا في اللَّعب واللهو , ممن من الله عليه بالتَّوبة حتى كان من أعلام زمانه .
زاذان الكِنْدِي : قَالَ الذَّهبي في السير : تاب علي يد ابن مسعود .
قَالَ زاذان : كنت غُلامًا حسن الصَّوت جيد الضربِ بالطُّنبور , فكنت مع صاحبٍ لي و عندنا نبيذ وأنا أغنيهم , فمرَّ ابن مسعود فدخل فضرب الباطيه - إناء للنبيذ - وكسر الطنبور ثم قَالَ : لو كان ما يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنت أنت أنت !! ثم مضى ، فقلت لأصحابي : من هذا ؟ قالوا : هذا ابن مسعود , فألقي في نفسي التوبة فسعيت أبكي , وأخذت بثوبه فأقبل عليّ فاعتنقني وبكى , وقال : مرحبًا بمن أحبه الله ، اجلس ، ثم دخل وأخرج لي تمرًا .(2)
ابن المبارك :
وهذا ابن المبارك سيِّد سادات المسلمين في زمانه , قيل : كان في أول شبابه منشغلًا باللهو .
قَالَ حسين بن الحسن : سُئل ابن المبارك وأنا حاضرٌ عن أوَّلِ زُهْدِهِ ؟ فقال : إني كنت يومًا في بستان وأنا شاب مع جماعة من أترابي , وذلك في وقت الفواكه فأكلنا وشربنا , وكنت مُولِعًا بضرب العود , فقمت في بعض الليل وإذا غصن يتحرك عند رأسي , فأخذت العُودَ لأضرب به ؛ فإذا بالعود ينطق وهو يقول : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ من الْحَقِّ} [سورة الحديد : 16] قَالَ : فضربت بالعود الأرض فكسرته , وصرفت ما عندي من جميع الأمور التي كنت عليها مما شغل عن الله , وجاء التوفيق من الله تَعَالَى , فكان ما سهل لنا من الخير من فَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ .(14 )
القعنبي :
وهذا عبد الله بن مَسْلَمَة القَعْنَبِي عالم زمانه , الذي قَالَ فيه أبو حاتم : ثقة حجة لم أر أخشع منه , ولما دخل على الإمام مالك قَالَ : قُوموا لخير أهل الأرض . قيل : كان في أول شبابه مُنشغلا باللعب والبطالة ؛ حتى من الله عليه بالتَّوبة .(/8)
ذكر موفق الدين ابن قدامة في كتابه " التَّوابين " عن بعض ولد القعنبي بالبصرة قَالَ : كان أبي يشرب النبيذ ويصحب الأحداث فدعاهم يومًا وقد قعد علي بابٍ ينتظرهم فمرّ شعبه علي حماره و النَّاس خلفه يهرعون , فقال : من هذا ؟ قيل شعبه ، قَالَ : وإيش شعبه ؟ قالوا : محدث .
فقام إليه وعليه أزر أحمر فقال له : حدثني .
فقال له : ما أنت من أصحاب الحديث فأحدثك ، فأشهر سكينه وقال : تحدثني أو أجرحك ؟
فَقَالَ : حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيّ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاس من كَلَامِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ .(15 )
فرمى سكينه ورجع إلي منزله ؛ فقام إلي ما كان عنده من شراب فهراقه ، وقال لأمه : السّاعة أصحابي يجيئون فأدخليهم وقدمي الطَّعام إليهم , فإذا أكلوا فأخبريهم بما صنعت بالشَّراب حتى ينصرفوا , ومضى من وقته إلي المدينة فلزم مالك بن أنس " (1)
توبة شاب :
قَالَ مَنْصُور بن عمار : خرجت ليلةً وظننت أني قد أصبحت وإذ أنا علي ليل , فقعدت عند بابٍ صغير , وإذا بصوت شابٍ يبكي ويقول : بعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتك مخالفتك , وقد عَصَيْتُك حين عصيتك وما أنا بِنَكَالِك جاهل , ولا لعقوبتك مُتَعَرِّض ولا بنظرك مُسْتَخِف , ولكن سوَّلت لي نفسي وغلبت علي شقوتي , وغرني سترك الْمُرْخَى عَلَيّ , والآن فمن عذابك من ينقذني ؟! وبحبل من أتصل إن قطعت حبلك عني ؟! واسوأتاه من تصرم أيامي في معصية ربي , يا ويلي ! كم أتوب ! وكم أعود ! قد حان لي أن أستحي من ربي .
قَالَ مَنْصُور : فلمّا سمعت كلامه قلت : أعوذ بالله من الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : { يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاس وَالْحِجَارَةُ }[التحريم : 6]
فسمعت صَوتًا واضطرابًا شديدًا , ومضيت لحاجتي , فلمّا أصبحت رجعت , فَإِذا جنازةٌ موضوعة على ذلك الباب , وعجوزٌ تَذْهَبُ وتجئ فقلت لها : من هذا الميت ؟ فقالت : إليك عنِّي لا تجدد علَّى أحزاني , قلت إني رجل غريب , قالت : هذا ولدي , مَرَّ بنا البارحة رجلٌ لا جزاه الله خيرًا قرأ آيةً فيها ذِكرُ النَّار , فلم يزل ابني يبكي ويضطرب حتى مات .
قَالَ منصور : هكذا والله صفة الخائفين .(16 )
توبة لص :
دَخَلَ لِصٌ عَلَي مَالِكِ بْنِ دِينَار فلم يجد ما يأخذه . فناداه مالك : لم تجد شيئًا من الدُّنيا ، أفترغب في شئ ٍ من أمر الآخرة ؟ قَالَ : نَعَم ، قَالَ : تَوَضَّأ وصلِّ ركعتين ، ففعل ثم جلس . وخرج إلي المسجد ، فَسُئِل مَنْ ذا ؟ قَالَ : لِصٌ جَاءَ لِيَسْرِقَنَا فَسَرَقْنَاه !! (17 )
توبة عابد صنم :
قَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ : عَصَفَتْ بِنَا الرِّيحُ عَلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ , فَإِذَا بِرَجُلٍ يَعْبُدُ صَنَمًا .
فَقُلْنَا لَهُ : أَيُّهَا الرَّجُلُ مَنْ تَعْبُدُ ؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلَى الصَّنَمِ , فَقُلْنَا لَهُ : إنَّ مَعَنَا فِي الْمَرْكَبِ مَنْ يَعْمَلُ هَذَا , قَالَ : فَأَنْتُمْ مَنْ تَعْبُدُونَ ؟ ! قُلْنَا نَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى , قَالَ وَمَنْ هُوَ ؟ قُلْنَا : الَّذِي فِي السَّمَاءِ عَرْشُهُ , وَفِي الْأَرْضِ سُلْطَانُهُ , وَفِي الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ قَضَاؤُهُ .(/9)
قَالَ : كَيْفَ عَلِمْتُمْ هَذَا ؟ قُلْنَا : وَجَّهَ إلَيْنَا رَسُولًا أَعْلَمَنَا بِهِ , قَالَ : فَمَا فَعَلَ الرَّسُولُ ؟! قُلْنَا قَبَضَهُ اللَّهُ إلَيْهِ , قَالَ : فَهَلْ تَرَكَ عِنْدَكُمْ عَلَامَةً ؟ قُلْنَا : تَرَكَ عِنْدَنَا كِتَابَ الْمَلِكِ , قَالَ : أَرُونِيهِ , فَأَتَيْنَاهُ بِالْمُصْحَفِ فَقَالَ : مَا أَعْرِفُ هَذَا ؟! فَقَرَأْنَا عَلَيْهِ سُورَةً وَهُوَ يَبْكِي , ثُمَّ قَالَ : يَنْبَغِي لِصَاحِبِ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ لَا يُعْصَى , فَأَسْلَمَ وَحَمَلْنَاهُ مَعَنَا , وَعَلَّمْنَاهُ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَسُوَرًا من الْقُرْآنِ , فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ صَلَّيْنَا وَأَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا , فَقَالَ : يَا قَوْمُ الْإِلَهُ الَّذِي دَلَلْتُمُونِي عَلَيْهِ أَيَنَامُ إذَا جَنَّهُ اللَّيْلُ !؟ قُلْنَا : لَا يَا عَبْدَ اللَّهِ هُوَ حَيٌّ قَيُّومٌ لَا يَنَامُ , قَالَ : بِئْسَ الْعَبِيدُ أَنْتُمْ تَنَامُونَ وَمَوْلَاكُمْ لَا يَنَامُ ! فَعَجِبْنَا من كَلَامِهِ , فَلَمَّا قَدِمْنَا عَبَادَان جَمَعْنَا لَهُ دَرَاهِمَ وَأَعْطَيْنَاهَا لَهُ وَقُلْنَا لَهُ : أَنْفِقْهَا , قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَلَلْتُمُونِي عَلَى طَرِيقٍ لَمْ تَسْلُكُوهُ , أَنَا كُنْت فِي جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ أَعْبُدُ صَنَمًا من دُونِهِ فَلَمْ يُضَيِّعْنِي فَكَيْفَ الْآنَ وَقَدْ عَرَفْته , فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ أَتَانِي آتٍ فَقَالَ لِي : إنَّهُ يُعَالِجُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ , فَجِئْته وَقُلْت : أَلَكَ حَاجَةً ؟ فَقَالَ : قَدْ قَضَى حَوَائِجِي مَنْ عَرَّفْتنِي بِهِ . فَبَيْنَمَا أَنَا أُكَلِّمُهُ إذْ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْت , فَرَأَيْت فِي الْمَنَامِ رَوْضَةً وَفِي الرَّوْضَةِ قُبَّةً وَفِيهَا سَرِيرٌ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ أَجْمَلُ من الشَّمْسِ تَقُولُ : سَأَلْتُك بِاَللَّهِ عَجِّلْ عَلَيَّ بِهِ , فَانْتَبَهْت فَإِذَا بِهِ قَدْ مَاتَ رحمه الله تَعَالَى , فَجَهَّزْته لِقَبْرِهِ ثُمَّ رَأَيْته فِي الْمَنَامِ فِي الْقُبَّةِ وَالْجَارِيَةُ إلَى جَانِبِهِ وَهُوَ يَتْلُو {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( 18)
توبة مجوسي :
ورُوي عَنْ الْحَسَنِ البَصْرِي رضي الله عنه أنه قَالَ :" دَخَلْتُ عَلَى بَعْضِ المجوس وهو يَجُودُ بنفسه عند الموت ، وكان حَسَنَ الجوار ، حسن السِّيرة ، حَسَنَ الأخلاق ، فرجوت أن الله يوفقه عند الموت ، ويميته على الإسلام ، فقلت له : ما تجد ؟! وكيف حالك !؟ فقال : لي قَلْبٌ عَلِيلٌ ولا صِحَّة لي ، وَبَدَنٌ سَقِيمٌ ، ولا قوة لي ، وَقَبْرٌ مُوحِشٌ ولا أنيس لي ، وسَفَرٌ بعيد ولا زاد لي، وصِرَاطٌ دقيق ولا جَوَازَ لي ، ونَارٌ حَامِيةٌ ولا بدن لي , وجنّةٌ عالية ولا نصيب لي ، وَرَبٌ عَادِلٌ وَلَا حُجَّة لِي.
قَالَ الحسن : فرجوت الله أن يوفقه ، فأقبلت عليه ، وقلت له : لم لا تُسْلِم حتى تَسْلَم ؟ قَالَ : إِنَّ الْمِفْتَاحَ بِيَدِ الفَتّاح ، والقُفْلَ هُنا ، وأشَارَ إلى صَدْرِهِ وغُشِي عَلَيهِ .
قَالَ الْحَسَنُ : فقلت : إلَهِي وَسَيِّدِي ومَوْلَاي ، إِنْ كَانَ سَبَقَ لِهَذَا الْمَجُوسِي عِنْدَكَ حَسَنَةً فَعَجِّلْ بِهَا إِلَيْهِ قَبْلَ فِرَاقِ رُوحِهِ من الدُّنْيا ، وانْقِطَاعِ الأَمَلِ .
فأفاق من غشيته ، وفتح عينيه ، ثم أقبل وقال : يا شيخ ! إِنَّ الفَتَّاحَ أَرْسَلَ الْمِفْتِاحَ . أُمْدُد يُمْنَاكَ ، فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، ثم خَرَجَتْ رُوحُهُ وَصَارَ إلى رحمة الله .(19 )
توبة امرأة جميلة :(/10)
قَالَ العِجْلي : حدثني أبي عبد الله قَالَ : كانت امرأة جميلة بمكة وكان لها زوج , فنظرت يومًا إلى وجهها في المرآة , فقالت لزوجها : أترى يرى أحد هذا الوجه ولا يفتتن به ؟! قَالَ : نعم . قالت : من ؟! قَالَ : عُبَيْدُ بْنُ عُمَير( 20) . قالت : فأذن لي فيه فلأفتننه , قَالَ : قَدْ أذنت لك , قَالَ : فأتته كالمستفتية , فخلا معها في ناحيةٍ من المسجد الحرام , قَالَ : فأسفرت عن مثل فلقة القمر , فقال لها : يا أمةَ الله ! فقالت : إني قد فتنت بك فانظر في أمري ؟ قَالَ : إني سائلك عن شيءٍ فإن أنت صدقت , نظرت في أمرك , قالت : لا تسألني عن شيءٍ إلا صدقتك , قَالَ : أخبريني لو أن ملك الموت أتاك يقبض روحك ؛ أكان يَسُرُّك أني قضيت لك هذه الحاجة ؟! قالت : اللهم لا , قَالَ : صدقت , قَالَ : فلو أدخلت في قبرك فأجلست للمساءلة ؛ أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة ؟ ! قالت : اللهم لا , قَالَ : صدقت , قَالَ : فلو أن النَّاسَ أُعطوا كتبهم ولا تدرين تأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك , أكان يسرك أنى قضيت لك هذه الحاجة ؟! قالت : اللهم لا , قَالَ : صدقت , قَالَ : فلو أردت المرور على الصِّراط , ولا تدرين تنجين أم لا تنجين ! كان يسرك أنى قضيت لك هذه الحاجة ؟! قالت : اللهم لا , قَالَ : صدقت , قَالَ : فلو جيء بالموازين وجيء بك لا تدرين تَخِفِّين أم تثقلين ! كان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة ؟! قالت : اللهم لا , قَالَ : صدقت , قَالَ : فلو وقفت بين يدي الله للمساءلة ؛ كان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة ؟! قالت : اللهم لا , قَالَ : صدقت . قَالَ : اتقي الله يا أمة الله ! فقد أنعم الله عليك ! وأحسن إليك ! قَالَ : فرجعت إلى زوجها , فقال : ما صنعت ؟ قالت : أنت بطّال , ونحن بطّالون , فأقبلت على الصَّلاة والصّوم والعبادة , قَالَ : وكان زوجها يقول : ما لي ولعبيد بن عمير ! أفسد علي زوجتي , كانت كل ليلة عروسًا فصيَّرها راهبة .(21 )
أخي الحبيب : بادر بالتوبة من الذنوب ، واقتف آثار التوّابين ، واسلك مسالك الأوّابين ، الَّذِين نالوا التوبة والغفران ، وأتعبوا أنفسهم في رضا الرحمن ، فلو رأيتهم في ظُلم الليالي قائمين ، ولكتاب ربهم تالين ، بنفوسٍ خائفة ، وقلوبٍ واجفة ، قد وضعوا جباههم على الثَرَى , ورفعوا حوائجهم لمن يَرى ولا يُرى .
دَعُونِي عَلَى نَفْسِي أَنُوحُ وَأَنْدُبُ***بِدِمْعٍ غَزِيرٍ وَاكِفٍ يَتَصَبَّبُ
دَعُونِي عَلَى نَفْسِي أَنُوحُ لِأَنَّنِي***أَخَافُ عَلَى نَفْسِي الضَّعِيفَةِ تُعْطَبُ
فَمَنْ لِي إِذَا نَادَى الْمُنَادِي بِمَنْ عَصَا***إِلَى أَيْنَ أَلْجَأُ أَمْ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ
فَيَا طُولَ حُزْنِي ثَمَّ يَا طُولَ حَسْرَتِي***إِذَا كُنْتُ فِي نَارِ الْجَحِيمِ أُعَذَّبُ
وَقَدْ ظَهَرَتْ تِلْكَ القَبَائِحُ كُلُّهُا***وَقَدْ قُرِّبَ الْمِيزِانُ وَالنَّارُ تَلْهَبُ
وَلَكِنَّنِي أَرْجُو الإِلَهَ لَعَلَّهُ***بِحُسْنِ رَجَائِي فِيهِ لِي يَتَوهَّبُ
وَيُدْخِلَنِي دَارَ الْجِنَانِ بِفِضْلِه***فَلَا عَمَلٌ أَرْجُو بِهِ أَتقرَّبُ
سِوَى حُبِّ النَّبِي الهاشِمِيِّ مُحَمَّدٍ***وَأَصْحَابِهِ وَالآلِ مَنْ قَدْ تَرَهَّبُوا .(22 )
[من كتاب "العبادة واجتهاد السلف فيها" للشيخ]
________________________________________
(1) رواه مسلم (2702)
(2) رواه مسلم (2747)
(3) رواه مسلم (2759)
(4) حسن : الترمذي (3537) أحمد (6160) ابن ماجة (4253) ابن حبان (2450) الحاكم (4/257) وصححه .
(5) صحيح : أحمد (3558) ابن ماجة (4252)
(6) البخاري (6481) مسلم (2758)
(7 ) صحيح : رواه الترمذي (3334) وقال حديث حسن صحيح , ابن ماجة (4244) أحمد (2/297)
(8 ) البخاري (3470) مسلم (2766)
(9 ) البخاري(3481) مسلم(2756)
(10 ) رواه مسلم (1695)
(11 ) رواه البخاري (4418) مسلم (2769)
(12 ) أسماء مواقع من أيام القادسية .
(13 ) تاريخ الطبري (2/416)
(14 ) تاريخ ابن عساكر (32/406)
( 15) رواه البخاري (3483) من غير طريق القعنبي , ورواه أبو داود (4797) من طريق القعنبي .
( 16) التبصرة لابن الجوزي (1/27)
(17 ) الذهبي في "السير" (5/363)
( 18) غذاء الألباب شرح منظومة الآداب (2/505)
(19 ) بحر الدموع (27)
( 20) كان من ثقات التابعين بمكة , وكان يذكر النَّاس , "السير" (4/156)
(21 ) ثقات العجلي (322)
(22 ) بحر الدموع (41)(/11)
التوجيه نحو الاستقرار الاجتماعي للشباب المسلم
عندما نتناول موضوع رعاية الشباب، نجد أنه يُمثل واجباً يتبناه أولو الأمر من الآباء والمسؤولين والهيئات والمؤسسات الوطنية، بهدف توجيه طاقات الشباب بما يعود عليهم بالنفع، وما يُقلل من الاضطرابات السلوكية بينهم، ويحقق الاستقرار الاجتماعي المنشود بينهم وبين ذويهم وبين أبناء المجتمع كافة.
ورعاية الشباب تعد واجباً ذاتياً يجب أن يدركه الشباب أنفسهم، إذ إنه عادة ما تكون خصائصهم النفسية والعقلية في مرحلة الشباب، تمكنهم من إدراك الواقع الاجتماعي الذي يعايشونه، وما تتطلبه الحياة الجادة المستقرة منهم من بذل وعطاء، ما دامت تتوافر أمامهم الفرص الكافية، لاستغلال طاقاتهم وإشباع رغباتهم وحاجاتهم.
لذلك تعد ميادين رعاية الشباب مجالاً مهماً في حياة الشباب حيث إنها:
1 - تمكن الشباب من تنمية الذات، كما تمكنهم من القدرة على تحمل المسؤولية والتبعات، من منطلق إدراكهم لقدراتهم واستعداداتهم، وكيفية استغلال هذه الطاقات فيما يعود بالنفع عليهم.
2 - تعتبر الأساس للتوجيه المهني والتأهيل العلمي للحياة الاجتماعية والاقتصادية المنتجة، بغية استقرار حياتهم واستقرار حياتهم واستشعارهم الأمن الاجتماعي، ومواصلة ركب الحياة.
3 -تحقق للشباب الرعاية الجسمية والنفسية والعقلية الصحيحة، ومن ثم الإنتاجية الفاعلة.
4 - تتيح أمامهم فرص ممارسة المواقف العلمية، والمسؤوليات التي تنمي الالتزام والضبط والاتزان الاجتماعي، وبذلك تقلل من الانحرافات والاضطرابات بينهم وبين المجتمع الذي يعايشونه.
5 - كما أنها تعد الشباب لبناء الثروة الوطنية التي يمكن أن توجه وتستغل لما فيه خير المجتمع في جوانبه الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
من هذا يتبين أن رعاية الشباب تمثل ضرورة اجتماعية، لأن قوة المجتمع وتماسكه وسلامة بنيانه والعلاقات السائدة فيه، تتطلب إعداد جيل من الشباب يتمسك بعقيدته ويعتز بتراثه، ويلتزم بالضوابط الدينية الاجتماعية، ويحافظ على العادات والتقاليد الإيجابية الصالحة، ويُساهم مساهمة إيجابية عند تعليمه، وفي عمله وفي أوقات جده وأوقات فراغه، لدفع عجلة التقدم في وطنه نحو الغد والهدف المرغوب.
ومن أهم ما يواجه الشباب بصفة عامة في حياتهم مشكلة كيفية الاستفادة من أوقات الفراغ، حيث إنها تمثل أهمية بالغة في عالمنا المعاصر، حيث يحتاج توجيه الشباب المسلم إلى نشاط مخطط يعود بالنفع عليهم وعلى أوطانهم، إذ إن وقت الفراغ ليس وقت عبث، بل هو سلوك يجب أن يتسم بالجدية، ويستثمر بوسائل فعالة تعمل على تحقيق الصحة النفسية للشباب وتقلل من الاضطرابات السلوكية بينهم، ويعمل على زيادة الانتاج المتوقع منهم.
والشباب لو ترك لطبيعته الخيرة لاستغل وقت فراغه في نشاط إيجابي بناء، في حين أنه قد يتعرض لعوامل بيئية اجتماعية محلية أو واردة تؤدي إلى توجيهه إلى نشاط سلبي هدام، خاصة وقد انتشرت وسائط كالإنترنت وغيره، ما يتيح فرصا لا تستغل لصالح الشباب، ومع زيادة تكاليف وأعباء الحياة العصرية المعاصرة، ونتيجة للتقدم التقني وما صاحبه من مشكلات اقتصادية واجتماعية، فإن الشباب المعاصر يواجه مشكلات تتصل بكيفية استغلال طاقاتهم وتوجيهها، فهم في حاجة إلى توجيه وإرشاد نحو قضاء وقت الجد والفراغ وشغلها بنشاط بناء.
ومشكلة وقت الفراغ من أبرز المشكلات المعاصرة التي تواجه الشباب المسلم، وهي من المشكلات التي يجب على المسؤولين في المجتمعات العربية والإسلامية إيجاد حلول لها، لأنها تُمثل مشكلة الكثير من الشباب، وعدم إيجاد الحلول الإيجابية لمشكلات الفراغ بين الشباب تؤدي إلى زيادة الجنوح والجريمة في أوساط الشباب، في حين أنه عند توافر أنشطة وقت الفراغ والأنشطة الترويحية بين الشباب، تقل نسبة الجنوح بينهم إضافة إلى أن توجيه وإرشاد الشباب نحو الاستثمار الأمثل لأوقات الفراغ- في ضوء المسموح به أخلاقياً ودينياً- ما ينمي الشخصية المتكاملة للشباب من النواحي الجسمية والعقلية والاجتماعية والانفعالية والدينية، بحيث يتحقق التوافق النفسي لهم، خاصة الشباب المسلم في وقتنا المعاصر يواجه مشكلات عديدة، وأنواء عاصفة، تحتاج إلى توجيه وإرشاد متكامل ومتجدد، لتمكينهم من التغلب على هذه المشكلات، وتجنيبهم الخوض في معاركها.
ومن واجب المسؤولين البحث عن السلبيات والانحرافات التي قد تواجه الشباب المسلم في وقتنا المعاصر، إذ إن عدم إحكام الرقابة، وإتاحة فرص اللهو والعبث أمام الشباب، والابتعاد عن الجدية والأعمال المثمرة النافعة والاستثمار الأمثل لأوقات العمل المثمرة والفراغ الذي يستغل لصالحهم قد يؤدي إلى مخاطر اجتماعية لا تقتصر على الإضرار بالشباب وحدهم ، بل تتعدى أضرارها إلى المجتمع بجوانبه البشرية والمادية والمعنوية.(/1)
وللحديث بقية بمشيئة الله، ونسأل الله أن يجنبنا جميعا الزلل، وأن يرشدنا إلى طريق الاستقامة والرشاد، حتى يعم الخير أمتنا الإسلامية جمعاء، مصداقا لقوله تعالى(وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقًا).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(/2)
المدرس ومهارات التوجيه
الكتب/المدرس ومهارات التوجيه
مقدمة الطبعة الثانية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:-
فقبل ثلاث سنوات صدرت الطبعة الأولى، ولما عدت لقراءة هذا الكتاب رأيت أنه بحاجة لمزيد مراجعة وإضافة، فأعدت النظر فيه مرة أخرى، ليخرج بهذه الطبعة الجديدة، والتي تمتاز عن سابقتها بما يلي:
أولاً:- إضافة المزيد من الأفكار والمباحث، وقد بلغ ما تم إضافته في هذه الطبعة قريباً من ثلث الكتاب.
ثانياً:- كنت قد قرأت بعض ما كتبه السلف حول آداب العالم والمتعلم، فأضفت بعض النقول عنهم في ذلك، وتركت الكثير لئلا يزيد حجم الكتاب.
ثالثاً:- إعادة ترتيب بعض فصول الكتاب ومباحثه.
رابعاً:- تصحيح بعض الأخطاء في الطبعة السابقة.
وأشعر أنه كلما امتد الزمن، لابد أن تجِدَّ للإنسان أمور، أو يعيد النظر في بعض اقتناعاته، أو ترتيب أولويات أفكاره، لذا فسيبقى العمل البشري عرضةً للصواب والخطأ، والتغيير والتبديل، ومهما امتد ذلك فلن يصل مرتبة الكمال، أو يتجاوز مرحلة الوقوع في الخطأ والزلل.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل إنه سميع مجيب.وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
محمد بن عبدالله الدويش
الرياض 30/1/1416هـ
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:-
فإنه قرار صائب ذاك الذي اتخذتَه بالتوجه لهذه المهنة الشريفة، والتصدي لحمل هذه الرسالة الخالدة، فقد وضعتَ قدميك في طريق البناء والإعداد لهذه الأمة، ولستَ بحاجة أخي المدرس إلى أن أدبج لك المقال، وأستنجد لك اليراع.
أي خطأ يرتكبه ذاك الذي يظن التعليم وظيفة رسمية فحسب، وأي ظلم وإهانة للجيل والنشء- لا للمعلم وحده - تلك النظرة القاصرة التي تقلل من مكانة المعلم، وترى أن التعليم وظيفة من رضوا بالدون، وأخلدوا للدعة، وتركوا التسابق للمراتب العالية.
وكم أتهلل بشراً وأسعد حين أراك أخي المدرس يا من تحمل بين طياتك نفساً صادقة، وقلباً حارًّا يحترق على واقع أمته، ويتألم لحال الشباب. ومع ذلك فلم يكن هذا الهم عائقاً لك ومثبطاً، بل أنت تحمل طموحاً صادقاً، ونفساً أبية متطلعة للإصلاح والتغيير. ولم يقف الحد عند هذه المشاعر، فها أنا أرى ثمرات جهدك، ونتاج عملك، بارك الله فيك، وزادك علماً وعملاً.
أخي المدرس : كثيراً ما سمعت كلمات الثناء الصادقة من طلابك، وكثيراً ما رأيت بصماتك ظاهرة عليهم، أرأيت الشباب الغض الذي يتسابق إلى الصفوف الأول في المساجد، ويسارع إلى حلق العلم ومجالس الخير؟ ولن أقول لك اذهب إلى المدارس، فأنت من أهلها، ألم تر إليها وقد تزينت بأولئك الأخيار، وقد صاروا يسابقون إلى أعلى المراتب، ويبزون أقرانهم. فكل ما ترى أخي الكريم بعض ثمرة جهدك وجهد إخوانك من الأساتذة والدعاة.
ولكن ومع هذه الجهود الخيرة المشكورة هناك فئة من المعلمين الأخيار، لا مطعن في دينهم، ولا شك في فضلهم، فنحن نحبهم في الله، ونعتقد أن أكثرهم أفضل منا عند الله، ونسعد بلقائهم ودعواتهم الصادقة، لكنهم لا يزيدون على أن يندبوا واقع الشباب، ويتألموا لما هم فيه، دون أن يحركوا ساكناً.
فأستأذنك أخي الكريم أن أخاطب هؤلاء الأحباب فحقهم علينا عظيم..
فهل فكرت أخي الكريم في عظم الموقع الذي تبوأته، والأمانة التي تحملتها، فذاك الرجل الطاعن في السن، وتلك المرأة الضعيفة قد علقوا آمالهم بعد الله عليك في استنقاذ ابنهم وحمايته، والمصلحون الغيورون يعدونك من أكبر الآمال في استنقاذ المجتمع، والأمة تبحث أخي الفاضل عن المنقذ لها ولأبنائها، وأنت أخي المدرس جزء من محط آمال الأمة.
أخي المدرس: أنت يا قارئ السطور أعنيك ولا أعني سواك، أنت محط آمالنا، أنت طريقنا لا إلى الشباب والتلاميذ وحدهم بل إلى الناس كلهم.
أعلم أخي المعلم أنك ستقول: علمي ضعيف، قدراتي محدودة، وربما لست صاحب اختصاص شرعي، أعلم ذلك كله، ولكني أجزم أنك قادر على أن تصنع الكثير، ومهما ضعف علمك، وتواضعت قدراتك، وقلَّت خبرتك، مهما خلعت على نفسك من أوصاف القصور، وسلكت من أبواب التواضع، فأنت قادر على أن تقدم الكثير، ولا نطلب منك أخي المدرس إلا ما تطيق. ألا تطيق الكلمة الناصحة؟ ألا تطيق التألم والحرقة على واقع أبنائك؟.
وحجة أخرى طالما سمعناها: المنهج طويل، لا أجد الوقت، لكنا نريد أخي الكريم دقائق معدودة، تستطيع توفيرها من كثير من الوقت الذي يضيع، والاستطراد الذي لا ضرورة له.(/1)
أخي المدرس: ما أغناك عن أن أحدثك عن الواقع المرير لأمتنا، أو عن التآمر على شباب المسلمين، أنسيت ما فعل دنلوب وأذنابه؟ أنسيت ما بذل جيل المسخ ليحول بينك - أنت المعلم - وبين إبلاغ كلمة الحق الصادقة إلى القلوب المتعطشة؟ .
أخي المدرس: أخاطب فيك الغيرة والحمية لدين الله، فأنت تقابل الشباب كلَّ يوم، وتدرك أيَّ غفلة وعالم يعيشونه، ترى مظاهر الإعراض، ومصارع الفتن، فكيف لا تحرك فيك ساكناً؟. ألم تره ذاك الشاب الذي يعيش معاناة واضطرابات المراهقة، ويصارع الشهوات، وتعصف به الرياح من كل فج، أو الآخر الذي اكتنفه رفاق السوء فأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم؟ فهل وصل بك أخي الكريم عدمُ القدرة ونقصُ الخبرة إلى أن تعجز أن تقدم شيئاً لهذا وأمثاله؟.
أخي المدرس: لست أدعوك إلى عمل خير تساهم فيه فحسب، ولا أحثك على القيام بنافلة من أفضل النوافل، إنما أدعوك إلى أن ترعى الأمانة، وتقوم بالمسؤولية، وبعبارة أدق: أن تؤدي الواجب الشرعي.
ألست راعياً أخي المدرس ؟ ألم يقل صلى الله عليه وسلم : "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" (رواه البخاري ( 893 ) ومسلم ( 1829 ) .) ؟ ألست ترى المنكر؟ ألم يقل صلى الله عليه وسلم :"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه"( رواه مسلم ( 49 ) .) ؟ وهل وصل بك الأمر إلى أن لا تطيق إلا الكلمة العابرة أو النقد السلبي؟ ألا تطيق أن تحمل همَّ الإصلاح؟ ألا تطيق أن تفكر في وسائل تربية الناشئة وتوجيههم؟
كيف أخي المدرس تتحمل أمانة تدريس المنهج الدراسي، وتأخذ مقابل ذلك أجراً من مال المسلمين؟ وحين ندعوك لتحمل أمانة الدعوة والتوجيه - التي هي واجبة عليك ابتداءً، وقد زادت مع تبوئك هذا الموقع - حين تكون الحاجة الماسة لحمل الأمانة التربوية تعتذر بعدم القدرة، والضعف العلمي، وفقد الخبرة، وتحسب أن هذا من التواضع. بل التواضع هو القيام بالواجب والاستعانة بالله.فعجباً لهذا القلب للمفاهيم! ومتى كان التخلي عن الواجب وترك المسؤولية تواضعاً؟
كيف أخي المدرس تنقد واقع الشباب، وتتحدث عن سلبياتهم ومع ذلك لا تحرك ساكناً، ولا تقوم بجهد؟.
معذرة لهذا الخطاب الجريء فلولا أني أقدر مسؤوليتك التي ستسأل عنها يوم الحساب، ولولا أني أخاطب قلبك الواعي، وعقلك المدرك. لما جرأت عليك، ولولا أن الأمر لا يحتمل الإغضاء لطويت الصفحة، ولولا ثقتي الكبيرة بأن ما أقوله سيثير كوامن خفية في نفسك لما سطرت حرفاً واحداً.
أخي المدرس : هل تزهد في ابنٍ بار، وتلميذٍ يقدر جهدك؟ وهل أنت مستغنٍ عن دعوة صالحة يخصك بها من قدَّمت له خيراً؟ إن هذه عاجل النتائج وبشرى المؤمن، أما ما عند الله فهو خير وأبقى.
أخي المدرس : إن الشعورَ بأهمية التوجيه، بل والخطوات العملية مطلبٌ نفيس، ولكن لا ينبغي أن نقف عند هذا الحد بل يجب أن نتجاوزه إلى أن نتعلم فن التوجيه، وأساليب التأثير، وهذا باب واسع، لن يحيط به ما سطرته، ومهما بذلت فالأمر أكبر من شخصٍ قاصر، ولذا فأنا أدعو أن تتضافر الجهود لاكتشاف وسائل التأثير، وأن نتبادل الخبرات. فأدعو هنا إخواني إلى المساهمة في الأمر، كتابة ومحاضرة، ومناقشة، ويسعدني أن أتلقى من الإخوة الكرام أي ملحوظة، أو رأي، أو توجيه، أو اقتراح.
وأنا كاتب هذه السطور إن نسيت فلن أنسى ذاك الأستاذ الفاضل الذي درسني في المراحل الأولية-رحمه الله- كنت ألمس يومها -وأنا طفل بريء - في وجهه الصدق والعاطفة الحية، ولا تزال أصداء كلماته تتردد في أذني، فرحمه الله وأجزل مثوبته، وأعلى درجته. والآخر الذي عوَّضه الله عن نور بصره بنور بصيرته -أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً- فلله كم ربَّى فيَّ من فضائل، وكم من كلمة صادقة سمعتها إن نسيت حروفها الآن فقد ترجمت إلى عمل وواقع فصارت جزءاً مني لايفارقني. وهل أنسى بعد ذلك ذاك الشيخ الوقور الذي مَنَّ الله عليَّ بحفظ كتابه على يديه؟
وبعدهم خطا بي العمر فانتقلت إلى المعهد العلمي، فتشرفت بالتتلمذ على مشايخ أجلاء وأساتذة أفاضل.ولست أملك والله ما أقدم لهم من العرفان والوفاء أفضل من الثناء الصادق، والدعاء الصالح. اللهم فاغفر لهم جميعاً، وارفع درجاتهم في الدنيا والآخرة، واجزهم عني خير ما جزيت والداً وأستاذاً ناصحاً.
محمد بن عبدالله الدويش
الرياض 26 /3 /1413هـ
الفصل الأول:ماذا يعني لنا التعليم؟
صور لحقيقة واحدة:(/2)
ألا ترى أخي الكريم أن هناك فئة من العاملين في قطاع التعليم قد أهان هذه الوظيفة الشريفة، حين اتخذها وسيلة للثراء والكسب المادي؟ فهو لا ينظر لهذا العمل إلا من خلال هذه الزاوية الحادة. إن وظيفة التعليم أسمى وأعلى من أن تكون وظيفةً رسميةً، أو مصدراً لكسب الرزق، إنها إعدادٌ للأجيال، وبناءٌ للأمة. ومن حق كلِّ فردٍ أن يتطلع لعيشة هنية، وأن يتحصل على مصدر شريف لكسب الرزق، لكن هذه صورة أخرى غير تلك التي يمتهن صاحبها التدريس فلا يختاره إلا لما يدره من مال، وغاية همِّه وجلُّ حساباته المقارنة بين المكاسب والخسائر، والحوافز والعقبات، فهل يؤتمن من هذه نهاية نظرته، وغاية تطلعه؟! هل يؤتمن مثله على رعاية الجيل وإعداد النشء؟ هذه صورة..
الصورة الثانية:
ذاك المدرس الذي يشكو دهرَه، ويندب حظَّه، فإجازاته ليست بيده، والطلاب أحالوا سوادَ شعره إلى بياض، والآباء يتمون مايعجز عنه أبناؤهم. فالمدرس عند صاحبنا أسوأ الناس حظًّا، فأقرانه حاز بعضهم على مراتب عالية، وأسوأهم حالاً من يستأذن متى شاء، ويأتي متى أراد، ويتعامل مع أوراق جامدة، لا أنفس متباينة، أما هو فيعيش بين ضجيج المراهقين، وصخب الصغار، ليعود بعدها إلى أكوام الدفاتر.
إنه هو الآخر وإن خالف صاحبه في الاتجاه، فتشاءم حين تفاءل صاحبه، ونظر بعين الخسائر حين نظر صاحبه بعين المكاسب، إنه مع ذلك لم يدرك شرف التعليم، ولم يرتق إلى أهلية التوجيه، وأي نتاج وتربية ترتجى وراء هؤلاء؟!.
الصورة الثالثة:
وهي قد تحمل أوجه تلاق مع الصورة الأولى أو الثانية، لكن صاحبها متبلد الإحساس، فاقد الغيرة يرى أبناء المسلمين يتهافتون على الفساد، ويقعون في شبك الرذيلة، ولا يحرك الأمر لديه ساكناً، أو يثير عنده حمية، فهذا ليس من شأنه . شأنه تدريس الفاعل والمفعول، أو توضيح المركبات وقوانينها، أو حل المعادلات، بل قد يتبوأ تدريس العلم الشرعي، والتربية الإسلامية، ومع ذلك فواقع الطلاب لا يعنيه بقليل ولا كثير.
لست أدري أي عقلية تحكم هذا النوع من الناس؟! ولا أعلم من أيهما أعجب من واقع الشباب، أم من ضعف التوجيه وعدم إيجابية هذا النمط من المعلمين؟
الصورة الرابعة:
مدرس اتجه إلى التدريس كرهاً لا طوعاً، فهو لم يجد وظيفة أصلاً غيره، أو كان يريد البقاء في بلده، فهو الخيار الوحيد له، ولسان حاله يقول: مكره أخاك لا بطل، نعم من حقه أن يؤمن مجالاً يعمل فيه، لكن مثل هذا الصنف قد لا يدرك رسالة التعليم، وشرف التربية.
المدرس الذي نريد:
وحين نرفض تلك الصور السابقة جملةً وتفصيلاً، ونرى أن ما تحمله من تباين لا يخرجها من أن تكون مظاهر لحقيقة واحدة هي الإهمال وعدم إدراك المسؤولية، فما الصورة التي نريد، والمدرس الذي نتطلع إليه؟.
لسنا نريد ذاك الذي رمى الدنيا وراء ظهره وطلقها ثلاثاً فلم يعبأ بها، أو ذاك الذي لا يفارق محرابه، أو ذاك الذي لا تندُّ منه شاردة ولا واردة، إنها صور سامقة لكنها ليست لكل الناس.
إننا نريد المدرس البشر الذي يتطلع كغيره لتحصيل مورد لرزقه، ويرى أن من حقه كغيره أن يتمتع بمزايا إدارية ووظيفية، لكن كل تطلعاته تلك لم ترق إلى أن تكون الهدف الأول والأساس، والمقياس الأوحد، والعامل الأهم في اتخاذ قراره بسلوك طريق التعليم، فقد اختار هذا الطريق ليخدم الأمة من خلاله، ويعدَّ الجيل ويربيَ النشء. إنه يحترق على واقع الشباب، ويعدهم أبناءه، ويعتبر إصلاحهم من أولويات وظيفته، وتربيتهم من مسؤوليته. ويؤدي واجبات وظيفته على الوجه المطلوب ليهنأ بأكل راتبه حلالاً.
وهو مع ذلك كله سيحصِّل ما يحصِّله غيره من مزايا مادية، ويعيش عيشة مستقرة هنية.
التعليم يعطي امتداداً لعمل الإنسان بعد موته:
حين يموت الإنسان ويفضي إلى ما قدم ينقطع عمله إلا من ثلاثة:"صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"( رواه مسلم ( 1631 ).) . وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علَّمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفًا ورَّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته، يلحقه من بعد موته" (رواه ابن ماجه ( 242 ) والبيهقي وابن خزيمة . وانظر : صحيح الترغيب والترهيب ص73.) .
وروى ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خير ما يخلِّف الرجل من بعده ثلاثٌ: ولدٌ صالح يدعو له، وصدقة تجري يبلغه أجرها، وعلمٌ يُعمل به من بعده"(رواه ابن ماجه ( 241 ) . وانظر : صحيح الترغيب والترهيب ( 75 ).).(/3)
ونصيب المدرس لا يقف عند واحدة من هذه الثلاث، بل يظفر بها جميعاً كما بيَّن ذلك الحافظ بدر الدين ابن جماعة حين قال:"وأنا أقول : إذا نظرت وجدت معاني الثلاثة موجودة في معلم العلم، أما الصدقة الجارية فإقراؤه إياه العلم وإفادته إياه، ألا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في المصلي وحده : "من يتصدق على هذا؟" (رواه أحمد ([11016] 3/14) وأبو داود (574) والدارمي (1368).). أي بالصلاة معه لتحصل له فضيلة الجماعة، ومعلم العلم يحصل للطالب فضيلة العلم التي هي أفضل من صلاة في جماعة، وينال بها شرف الدنيا والآخرة. وأما العلم المنتفع به فظاهر؛ لأنه كان سبباً لإيصال ذلك العلم إلى كل من انتفع به. وأما الدعاء الصالح له فالمعتاد على ألسنة أهل العلم والحديث قاطبة من الدعاء لمشايخهم وأئمتهم… فسبحان من اختص من شاء بجزيل عطائه" (تذكرة السامع والمتكلم ( 63 - 64 ) .).
وانظر إلى الثمرة التي جناها أبو حنيفة رحمه الله حين علَّم مسألة واحدة، قال مكي بن إبراهيم:"كنت أتجر فقال لي الإمام: التجارة بلا علم ربما تورث فساد المعاملة، فما زال بي حتى تعلمت، فما زلت كلما ذكرته وذكرت كلامه وصليت أدعو له بالخير؛ لأنه فتح عليَّ ببركته أبواب العلم"(من أعلام التربية الإسلامية ( 1/44) نقلاً عن مناقب أبي حنيفة للكردي ( 138). ).
المدرس صاحب اللبنة الأولى:
هل رأيت العالم الداعية الذي يحمل همَّ دينه، وتلتف حوله الجماهير، ويثني الناس ركبهم لديه؟
أم أبصرت القاضي الذي يحكم في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم؟
أم قابلت الجندي الذي يقف في الميدان حامياً لعرين الأمة، وحارساً لثغورها؟
كل أولئك إنما جازوا من قنطرة التعليم، وعبروا من بوابة الدراسة، وقد كان لهم ولاشك معلمون وأساتذة، ولم يعدموا مدرساً ناصحاً، وأستاذاً صادقاً.
" إن عظماء العالم وكبار الساسة فيه وصناع القرارات الخطيرة، كل هؤلاء قد مرُّوا من خلال عمليات تربوية طويلة ومعقدة، شارك فيها أساتذة ومعلمون، وضع كل منهم بصماته على ناحية معينة من نواحي تفكيرهم، أو على جانب من جوانب شخصياتهم، وليس من المحتم أن يكون هؤلاء العظماء وقواد الأمة ومصلحيها قد مرُّوا على عيادات الأطباء، أو على مكاتب المهندسين، أو المحامين، أو الصيادلة، أو المحاسبين. بل إن العكس هو الصحيح إذ لابد أن يكون كل هؤلاء الأطباء والمهندسين والمحامين والصيادلة والمحاسبين وغيرهم، لابد وأن يكونوا قد مرُّوا من تحت يد المعلم؛ لأنهم من ناتج عمله وجهده وتدريبه… إن المعلمين يخدمون البشرية جمعاء، ويتركون بصماتهم واضحة على حياة المجتمعات التي يعملون فيها، كما أن تأثيرهم على حياة الأفراد ومستقبلهم يستمر مع هؤلاء الأفراد لسنوات قد تمتد معهم ما امتد بهم العمر، إنهم يتدخلون في تشكيل حياة كل فرد مرَّ من باب المدرسة، ويشكلون شخصيات رجال المجتمع من سياسيين، وعسكريين، ومفكرين، وعاملين في مجالات الحياة المختلفة" (المعلم والمناهج وطرق التدريس لأستاذنا . د . محمد عبدالعليم مرسي (14-15) .).
فهو أنت أخي المدرس تدرس الصغير والكبير، وتعد الجميع، وتهيئهم ليصل بعضهم إلى ما لم تصل إليه، لكنك صاحب اللبنة الأولى وحجر الأساس.
أرأيت أخي حجم مسؤوليتك؟ وأدركت موقعك من المجتمع؟ وعلمت مكانك بين الناس؟
المدرس يمتد أثره خارج أسوار المدرسة:
يدرك الجميع مدى نجاح المدرس في التأثير من خلال فصله الدراسي، وعلى طلبته الجالسين أمامه على مقاعد الدراسة، أما أن تأثيره يمتد خارج أسوار المدرسة فهذا أمر قد لا يدركه الجميع، إن المدرس الناصح المخلص لن يعدم أن يجد واحداً من بين طلبته المئات يحمل أفكاره، ويتحمس لها ربما أكثر منه، وينافح عنها في المجالس والمحافل، فتبلغ كلماته مدى يعجز هو قبل غيره عن قياسه.
وأحسب أنك توافقني أن هذه البوابة من التأثير غير مفتوحة للجميع، وأن من يفشل في التأثير على الجالسين أمامه لن تجاوز كلماته فصله.
صلاة الله وملائكته:
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير " (رواه الترمذي ( 2685 ) والدارمي (289) .).
أي منزلة عالية تلك التي يبلغها المدرس، أن يصلي عليه الله سبحانه وتعالى وملائكته الكرام الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؟ وحتى سائر أهل السماء وأهل الأرض، وهذا أمر يشاهده الجميع، ألم تسمع تلك الدعوات الصادقة التي تصدر من الناس حين يسمعون خطيباً أو داعية للخير، قد علَّمهم أمراً جهلوه، أو ذكَّرهم شيئاً نسوه؟
ولكن ما بالك بمن جعل هذه الأمانة والمنزلة سليماً للثراء، ووسيلة للكسب المادي، ففقد الإخلاص لله سبحانه، ولم يبتغ بتعليم الناس وجه ربِّه، أتراه يستحق هذا الثواب؟ "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"(رواه البخاري ( 1 ) ومسلم ( 1907 ). ).(/4)
له مثل أجر من تبعه:
عن أبي هريرة- رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً (رواه مسلم ( 2674 ).).
وعن جرير بن عبد الله البجلي- رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"(رواه مسلم ( 1017 ).).
وعن حذيفة- رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من سنَّ خيراً فاستن به؛ كان له أجره ومن أجور من يتبعه غير منتقص من أجورهم شيئاً، ومن سنَّ شرًّا فاستن به؛ كان عليه وزره ومن أوزار من يتبعه غير منتقص من أوزارهم شيئاً"(رواه أحمد (5/387).).
فالمدرس له النصيب الأوفر من هذه الفضائل؛ فهو ممن يدعو للهدى، ويسن السنة الحسنة، بل روى ابن ماجه من حديث سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من علَّم علماً فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل" (رواه ابن ماجه ( 240 ) . وانظر : صحيح الترغيب والترهيب ( 76 ).).
النضارة:
لقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"نضرَّ الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فَرُبَّ مبلغ أوعى من سامع" (انظر لقط اللآلى المتناثرة ( 161 ) وأورده السيوطي والكتاني . وذكر ابن منبه أنه رواه أربعة وعشرون) فهذه دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم للمعلم، فبادر أخي المدرس في تعليم الخير لتفوز بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، فرب كلمة لا تلقي لها بالاً تقع على من يكون أوعى لها منك، فينالك أجرها.
من تلميذك البار؟
من أعظم ما تدخره أخي المدرس في الحياة الدنيا أن تكسب طالباً، يتلقى توجيهك، ويحمل علمك، ويعرف بعد ذلك قدرك .
ويوصيك بذلك ابن جماعة فيقول:"واعلم أن الطالب الصالح أعود على العالم بخير الدنيا والآخرة من أعز الناس عليه، وأقرب أهله إليه، ولذلك كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد؛ لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم، ومن بعدهم، ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينتفع الناس بعلمه وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله تعالى، فإنه لا يتصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر" (تذكرة السامع والمتكلم (63)).
الفصل الثاني:هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم
لماذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم ؟
ترتفع الرؤوس كثيراً اليوم، ويتطلع منظرو التربية في العالم الإسلامي إلى فلاسفة التربية الغربية ورموزها؛ فهم الذين نظَّروا لهذا العلم ورسموا خطوطه العريضة، والمؤلف الناضج والكاتب الرصين هو الذي يدبج مقاله بالنقل عن علماء الغرب وأساتذته، والتربية عند هؤلاء علم حديث النشأة إنما بدأ مع العصر الحديث: عصر النهضة والتقدم العلمي.
ونحن إذ لا ننكر ما بذله علماء الغرب من جهود في هذا العلم وغيره، ولا نغلو فندعو المسلم إلى هجر ورفض جميع ما عند أولئك - نحن إذ لا نقف هذا الموقف- فلسنا بحال مع من يدعو الأمة إلى أن تختزل تاريخها، وتطوي صفحاته، فتغضَّ الطرف جهلاً أو تجاهلاً، وتهيل الركام على تراثها الحق.
لقد بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم في أمة سيطر عليها الجهل، واستولت عليها الخرافة، فصنع بإذن الله منها أمة حاملة للهداية للبشرية أجمع، أمة حاملة منهج العلم، ومنهج التعليم والتفقه.
لقد وصف الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه معلم فقال [هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين] (الجمعة: 2).
وامتن على المؤمنين بذلك [ لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين] (آل عمران: 164).
وقال : [كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون] (البقرة :151).
وما أجمل ذلك الوصف، وأبر هذا القسم الذي صدر من معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه" فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه" (رواه مسلم ( 537 ).).
بل وهل يظن مسلم أن يوجد أسمى وأعلى، وأشرف منه صلى الله عليه وسلم معلماً ومربياً، بل وهل يظن ظان أن سيرد مشرب التعليم والتربية من غير حوضه، أو يدخل إلى ساحة البناء دون بابه.
فما أحوجنا معاشر المعلمين والمربين إلى التماس هديه صلى الله عليه وسلم في التعليم، والتأسي بسنته، وهل ثمة رمز نتطلع إليه، وموجه نتلقى منه غيره؟(/5)
ومن ثَمَّ كانت هذه المحاولات لتلمس بعض معالم هديه صلى الله عليه وسلم في التعليم.
أولاً :إيجاد الدافع للتعلم:
لا شك أن للترغيب في العلم دوراً كبيراً في إيجاد الحماسة لدى طالب العلم للتعلم؛ إذ هو مهما علت حماسته وارتفعت عزيمته، لايخلو من أن تعصف به رياح الكسل، ويصيبه العجز والفتور، ومن ثم كان لابد من تعاهد هذه النبتة بالرعاية، وهو أمر لا يمكن أن يغفل عنه معلم البشرية صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم يسلك مبدأ إثارة الدافع لدى المتعلم من خلال:
أ - بيان فضل العلم وطلبه: فيقول صلى الله عليه وسلم :"من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً؛ إنما ورثوا العلم؛ فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر"(رواه الترمذي (2682) وأبو داود (3641) وأحمد (21208) وابن ماجه (223).).
وحين جاء ثلاثة نفر وهو جالسٌ مع أصحابه، فجلس أحدهم خلف الحلقة، والآخر رأى فرجة فجلس فيها، وأما الثالث فأعرض.قال صلى الله عليه وسلم بعد ذلك:"أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه"(رواه البخاري (66) ومسلم (2176).).
ب - إشعار المتعلم بحاجته إلى العلم: فحين جاء المسيء صلاته وصلى قال له النبي صلى الله عليه وسلم :"ارجع فصلِّ فإنك لم تصل". فأعاده صلى الله عليه وسلم مراراً حتى أحسَّ - رضي الله عنه - بالحاجة للتعلم فقال:"والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني"( رواه البخاري (757) ومسلم (397) ).
وفرق بين أن يعلمه صلى الله عليه وسلم ابتداءً، وبين أن يشعر هو بحاجته للعلم فيأتي سائلاً باحثاً عنه.
ثانياً: جمعه بين التعليم والتربية:
فقد وصفه الله سبحانه وتعالى بذلك فقال: [هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ] (الجمعة : 2). فمن وظائفه صلى الله عليه وسلم تعليم العلم، والتزكية، وتلاوة الكتاب على أصحابه. ولذا لم يكن صلى الله عليه وسلم يخرج أقواماً يحفظون المسائل فقط، بل ربَّى أصحابه تربية علمية، وتربية جهادية، وقيادية، وإدارية، وقبل ذلك كله تربية إيمانية، فهذا حنظلة- رضي الله عنه - يحكي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يشهد معه مجالس التذكير والعلم، فكأنه يرى الجنة والنار(رواه مسلم (2750).) فهي إذاً مجالس مع ما فيها من التحصيل المعرفي تنقل المسلم بمشاعره إلى الدار الآخرة، وما يلبث أن يظهر ذلك على سلوكه وهديه.
ثالثاً:عنايته بتعليم المنهج العلمي:
ففي تربيته العلمية لأصحابه لم يكن صلى الله عليه وسلم يقتصر على تعليم أصحابه مسائل علمية فقط، بل ربَّى علماء ومجتهدين، وحملة العلم للبشرية. ولقد ظهرت أثار هذه التربية على صحابته بعد وفاته في مواقفهم من حادثة الردة، وجمع القرآن، وشرب الخمر، واتخاذ السجون، والخراج، وغير ذلك من المسائل التي اجتهد فيها صحابته رضوان الله عليهم، فلم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام النوازل التي واجهتهم، واستطاعوا أن يتوصلوا فيها للحكم الشرعي، ولقد واجه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دولة ممتدة الأطراف، متنامية النواحي، وتعاملوا مع أصناف أخرى من الشعوب، وأنماط جديدة من المعيشة والسلوك، واستطاعوا أن يستوعبوا ذلك كله. كل ذلك كان نتاج التربية العلمية التي ربَّاهم عليها صلى الله عليه وسلم.
ومن معالم تعليمه المنهج العلمي:
1 - كان يعودهم على معرفة العلة ومناط الحكم:
فلما سئل عن شراء التمر بالرطب، قال:"أينقص الرطب إذا يبس؟" قالوا:نعم فنهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك (رواه أبو داود (3359) والنسائي (4545) والترمذي (1225) وابن ماجه (2264).)، وقد كان معلوماً له صلى الله عليه وسلم ولغيره أن الرطب ينقص إذا يبس، لكنه أراد تعليمهم مناط الحكم وعلته.
وحين نهاهم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها قال لهم : "أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟"(رواه البخاري (2198) ومسلم (1555).).
وحين قال صلى الله عليه وسلم :"وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا له: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: :"أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً"(رواه مسلم ( 1006 ).).
ففي هذه النصوص علَّم صلى الله عليه وسلم أصحابه علةَ الحكم ومناطه، ولم يقتصر على الحكم وحده.
2 - كان يعودهم على منهج السؤال وأدبه:
ففي موضع يقول:"إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم، فحرِّم من أجل مسألته" (رواه البخاري ( 7289 ) ومسلم ( 2358 ).) .(/6)
وفي آخر يقول:" إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال"(رواه البخاري (1477) ومسلم (1715).). فهاهنا يذم السؤال.
لكنه في موضع آخر يأمر بالسؤال، أو يثني عليه فيقول:"ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال" (رواه أحمد (3048) وأبو داود (336) وابن ماجه ( 572 ) .). ويقول:"لقد ظننت يا أبا هريرة أن لايسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث"(رواه البخاري ( 99 ).).
ولا يمكن أن يخلو متعلم من السؤال والحاجة إليه، ومن هنا كان عليه أن يتعلم متى يسأل؟ وعم يسأل؟ ومن يسأل؟ وكيف يسأل؟ وهو منهج سعى صلى الله عليه وسلم لتأكيده، وتعليمه لأصحابه.
3- كان في إجابته لا يقتصر على موضع السؤال بل يجيب بقاعدة عامة:
سئل: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فلم يقتصر صلى الله عليه وسلم في إجابته على قوله نعم، وإلا كان الحكم قاصراً على الحالة موضع السؤال وحدها. إنما أعطاه حكم ماء البحر وزاده فائدةً أخرى يحتاج إليها حين قال:" هو الطهور ماؤه الحل ميتته" (رواه أبو داود ( 83 ) والترمذي ( 69 ) والنسائي ( 332 ) وأحمد (7192) وابن ماجه (386)وصححه). ويعنى هذا أن ماء البحر له سائر أحكام الماء الطهور، وليس فقط يجوز الوضوء به في هذه الحالة.
وسئل صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال:"لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرنس، ولا ثوبا مسه زعفران ولا ورس…"(رواه البخاري (1842) ومسلم (1177).). فلم يعدد له ما يجوز للمحرم لبسه؛ إنما أعطاه قاعدة عامة فيما لا يحل للمحرم لبسه؛ ليعلم أن ما سواه غير محظور.
4 - تربيته لأصحابه على منهج التلقي:
عن العرباض بن سارية- رضي الله عنه - قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت لها الأعين، ووجلت منها القلوب، قلنا أو قالوا: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع فأوصنا، قال:"أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً؛ فإنه من يعش منكم يرى بعدي اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة"(واه أحمد (16694)الترمذي ( 2157 ) وأبو داود ( 4607 )وابن ماجه (42 ). ) .
وقال في وصف الطائفة الناجية:"من كانوا على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
فهو هنا يسن لهم الطريق، ويرسم لهم المحجة. وحين يرى خللاً في هذا المنهج، أو اعوجاجاً فإنه يأخذ بيد صاحبه، فحين رأى مع عمر صحيفة من التوراة غضب، ونهاه عن ذلك، وقال:"أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني"(رواه أحمد ( 3/387 ) والدارمي ( 1/115 ).) .
إن المعلم الحق هو الذي يعطي المتعلم الأداة التي يصل من خلالها إلى النتيجة بنفسه، لا الذي يعوده في كل موطن أن يملي عليه موقفاً محدداً.
5 - تربيتهم على منهج التعامل مع النصوص:
إن التعامل مع المصادر الشرعية دون سواها، ليس نهاية الطريق، إنما هو مرحلة مهمة وأساسة، ويبقى بعد ذلك كيفية التعامل مع هذه المصادر، وهو ما سلكه صلى الله عليه وسلم في تعليم أصحابه وتربيتهم.
خرج صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتكلمون في القدر، وكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب قال: فقال لهم:"ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض، بهذا هلك من كان قبلكم" ( رواه أحمد ( 2/196 ) وابن ماجه ( 85 ) وقال في الزوائد :( هذا إسناد صحيح ). وصححه أحمد شاكر .) .
ولقد ضل فئام من المبتدعة، حين تنكبوا هذا المنهج، وانحرفوا عن هذا الهدي، فما أحوج المعلمين إلى تسنم ذرى هذا المنهج، فيربون طلابهم على تعظيم النص، وإجلال كلام الله ورسوله، والوقوف عند نصوص الوحيين، والبعد عن التلاعب بالنصوص وضرب بعضها ببعض.
فالجدير بنا معشر المدرسين أن نعلِّم طلابنا أن هناك أطراً للبحث لا تتعداها؛ فالمسائل الشريعة التي ثبتت بالنص لا مجال للمناقشة فيها، أو جعل الدين في معامل الاختبار الفعلية.
6 - تعويدهم على الاستنباط:
سأل صلى الله عليه وسلم أصحابه يوماً، فقال:"إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟" فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله - يعني ابن عمر-: ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال:"هي النخلة"( رواه البخاري (61) ومسلم (2811) ).(/7)
وجاء رجل ذات يوم فقال: رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها فالمستكثر والمستقل، وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل، فقال أبو بكر: يا رسول الله، بأبي أنت والله لتدعني فأعبرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:اعبرها. قال: أما الظلة فالإسلام، وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن حلاوته تنطف، فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرْني يا رسول الله - بأبي أنت - أصبتُ أم أخطأت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم :"أصبتَ بعضاً وأخطأتَ بعضاً" قال: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت، قال:"لا تقسم" ( رواه البخاري (7046) ومسلم (2269) وانظر النظرية التربوية في طرق تدريس الحديث النبوي ليوسف) .
وما أحوج الأمة في هذه المرحلة إلى التربي على المنهج العلمي، وعدم الوقوف عند حفظ المسائل المجردة، أو الجمود على المتون والمختصرات والحواشي.
7 - تعويدهم على المناقشة والمراجعة:
وتروي لنا هذا المنهج عنه صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- فقد كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من حوسب عذب" قالت عائشة: فقلت: أوليس يقول الله تعالى : [فسوف يحاسب حساباً يسيرا] ؟ قالت : فقال:"إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب يهلك"( رواه البخاري (103 ) ومسلم (2876).وانظر أساسيات في طرق التدريس العامة . لمحب الدين أبو صالح) . والقضية ليست سلوكاً ذاتياً لعائشة رضي الله عنها -وإن كان ذاك محل تقدير واحترام - بل هو مما تعلمته واعتادته من المعلم الأول صلى الله عليه وسلم.
وبعد هذه الجولة مع هدي المعلم الأول في العناية بتعليم المنهج العلمي نشعر أن تساؤلاً يفرض نفسه، ويقفز إلى أذهاننا: هل نحن نعنى بتعليم طلابنا وتهيئتهم ليكونوا أهل علم يستنبطون ويبدعون ويبتكرون؟ أم أننا نربيهم على تلقي أقوال أساتذتهم بالتسليم دون مراجعة وربما دون فهم لمضمون القول؟
هل نرى أن من أهدافنا في التعليم أن نربي ملكة التفكير والإبداع لدى طلابنا، وأن نعودهم على استنباط الأحكام الشرعية من النصوص، وعلى الجمع بين ما يبدو متعارضاً؟
وهل من أهدافنا تربيتهم على تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع التي يرونها؟
إن المتأمل في واقع التعليم الذي نقدمه لأبنائنا يلحظ أننا كثيراً ما نستطرد في السرد العلمي المجرد، ونشعر بارتياح أكثر حين نقدم للطالب كمًّا هائلاً من المعلومات، والطالب هو الآخر يقيس مدى النجاح والإنجاز بقدر ما يسطره مما يسمعه من أستاذه، والتقويم والامتحان إنما هو على أساس ما حفظه الطالب من معلومات، واستطاع استدعاء ذلك وتذكره.
وشيء من ذلك حق، لكن توجيه الجهد لهذا النوع وهذا النمط من التعليم لا يعدو أن يخرج جيلاً يحفظ المسائل والمعارف - ثم ينساها بعد ذلك - أو يكون ظلاً لأستاذه وشيخه.
ولأن تعلم الجائع صيد السمك خير من أن تعطيه ألف سمكة.
وحتى دروس المساجد وحلق العلم ليست بأحسن حظاًّ، ولا أفضل حالاً.
إن هذا يدعونا لمراجعة هادئة، مراجعة تتضمن أهدافنا وحجمها وأولوياتها، وتتضمن طرق التعليم والتدريس ووسائله وأساليبه.
والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ليس قاصراً على مسائل الطهارة والذكر والصلاة - وإن كانت من أولى ما يدخل في ذلك-بل هو معنى أشمل يظلل برواقه جوانب الحياة المختلفة، فيطبعها بهديه وسنته صلى الله عليه وسلم.
رابعاً:تربيته لأصحابه على القيام بواجب التبليغ:
عن أبي هريرة- رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة" ( رواه أبو داود (3658) والترمذي (2649) وابن ماجه (266) وأحمد ( 2/236 ) وصححه أحمد شاكر .). والأمر لايقف عند طائفة خاصة، أو مستوى معين من التحصيل، بل يدعو صلى الله عليه وسلم حتى صغار المتعلمين، وأولئك الذين لم يبلغوا منزلة عالية في التحصيل، يدعوهم إلى المشاركة في تعليم العلم ونشره قائلاً:" بلغوا عني ولو آية"(رواه البخاري (3461). ) . وهي دعوة للمشاركة والمساهمة المنضبطة، لا فتحاً للباب لتصدير من تعلم مسألة واحدة.
وقال صلى الله عليه وسلم :"نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فَرُبَّ مبلغ أوعى من سامع" ( سبق تخريجه ) . وقد روى هذا الحديث أكثر من(16) من أصحابه مما يشعر أنه صلى الله عليه وسلم قاله في أكثر من مناسبة، أو قاله في أحد المجامع العامة تأكيداً لشأنه.(/8)
وانظر إلى أثر هذه التربية في قول أبي ذر - رضي الله عنه - :" لو وضعتم الصمصامة (السيف) على هذه - وأشار إلى قفاه - ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا عليَّ لأنفذتها"( رواه البخاري تعليقاً كتاب العلم باب العلم قبل القول والعمل .).
ويتحرج معاذ- رضي الله عنه - فيرى أن من الإخلال بواجب العلم أن يكتم حديثاً سمعه منه صلى الله عليه وسلم مع أنه نهاه أن يحدث به الناس"هل تدري ما حق الله على عباده؟… "( رواه البخاري(6500) وموضع الشاهد برقم (128) ومسلم (32).) فيخبر- رضي الله عنه - به قبل موته تأثماً .
إن هذا كله بعض نتاج ما ورثه ذاك الجيل من المعلم الأول صلى الله عليه وسلم.
خامساً : تشجيع الطالب والثناء عليه:
سأله أبو هريرة- رضي الله عنه - يوماً :من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :" لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه" ( رواه البخاري ( 99 ) .) . فتخيل معي أخي القارئ موقف أبي هريرة، وهو يسمع هذا الثناء، وهذه الشهادة من أستاذ الأساتذة، وشيخ المشايخ صلى الله عليه وسلم ، بحرصه على العلم، بل وتفوقه على كثير من أقرانه، وتصور كيف يكون أثر هذا الشعور دافعاً لمزيد من الحرص والاجتهاد والعناية؟!.
وحين سأل أبيَ بن كعب فقال:"يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟" فقال أبي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. قال له صلى الله عليه وسلم:"والله ليهنك العلم أبا المنذر" ((رواه مسلم ( 810 ).) .
إن الأمر قد لا يعدو كلمة ثناء، أو عبارة تشجيع، تنقل الطالب مواقع ومراتب في سلم الحرص والاجتهاد، والنفس أيًّا كان شأنها تميل إلى الرغبة في الشعور بالإنجاز، ويدفعها ثناء الناس - المنضبط - خطوات أكثر.
سادساً:العناية بالمتعلم:
كان صلى الله عليه وسلم يحدث فجاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال:"أين أراه السائل عن الساعة؟" قال: ها أنا يا رسول الله، قال:"فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة" قال:كيف إضاعتها؟ قال:"إذا وسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" (رواه البخاري ( 59 ). ) فرغم أنه صلى الله عليه وسلم لم يقطع حديثه إلا أنه لم ينس هذا السائل ولم يهمله، وهو أمر يكشف عن تلك النفس العالية، والخلق السامي من المعلم الأول صلى الله عليه وسلم .
وحين خطب في حجة الوداع قال أبو شاه:اكتبوا لي، قال صلى الله عليه وسلم:"اكتبوا لأبي شاه" (رواه البخاري (2434) . ومسلم ( 1355 ). ) .
سابعاً: معرفته لقدرات تلامذته وإدراكهم العقلي:
فهو يقول لأبي هريرة- رضي الله عنه - حين سأله عن الشفاعة: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث" (رواه البخاري ( 99 ). ) فهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن تلميذه أبا هريرة - رضي الله عنه - من أحرص أصحابه على الحديث، ويظن أن يسبقهم بالسؤال.
ويقول صلى الله عليه وسلم :"أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أُبي، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"( رواه الترمذي (3790) وابن ماجه (154) وأحمد (12493). ) . أفليس هذا مظهراً من مظاهر إدراكه صلى الله عليه وسلم لمدارك واستعداد أصحابه؟
أفلا يجدر بمن يتأسى بمنهجه، ويقتدي بهديه في التعليم أن يعنى بالتعرف على قدرات تلامذته، ومدى حرصهم واستعدادهم ؟
إن معرفة المدرس لتلامذته تنعكس على تدريسه وعطائه، فالذي يعرف تلامذته معرفة دقيقة هو القادر أن يعلمهم ما يحتاجون إليه ويتناسب معهم، وهو القادر على توجيههم للتخصص المناسب، وعلى الإجابة الدقيقة عن تساؤلاتهم، وهو القادر أيضاً على العدالة والدقة في تقويمهم وإعطائهم الدرجات التي يستحقونها.
ثامناً:مراعاة الفروق الفردية:
عن أبي رفاعة -رضي الله عنه- قال:انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب قال: فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه، قال: فأقبل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديداً، قال: فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم آخرها(رواه مسلم (876) ).
فالناس معادن، وقدرات وطاقات متفاوتة، حرصاً، وذكاءً، واستعداداً، وتحصيلاً. والمعلم يتعامل مع الجميع، ويخاطب الكل، وهنا تكمن مهارته في إقناع الجميع، وتحقيق التوازن بينهم.(/9)
والاعتناء بالفروق الفردية أمر لم تبتكره التربية المعاصرة، بل أشار إليه أسلافنا الأوائل وأدركوه وأوصوا المعلم به، قال النووي:"وينبغي أن يكون باذلاً وسعه في تفهيمهم، وتقريب الفائدة إلى أذهانهم، حريصاً على هدايتهم، ويفهم كل واحد بحسب فهمه وحفظه، فلا يعطيه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عما يحتمله بلامشقة، ويخاطب كل واحدٍ على قدر درجته، وبحسب فهمه وهمته، فيكتفي بالإشارة لمن يفهمها فهماً محققاً، ويوضح العبارة لغيره ويكررها لمن لا يحفظها إلا بتكرار، ويذكر الأحكام موضحة بالأمثلة من غير دليل لمن لا ينحفظ له الدليل، فإن جهل دليل بعضها ذكره له"(المجموع شرح المهذب (1/31). ).
وكان السلف ربما خصوا بعض الطلاب بالتعليم والتحديث دون غيره. قال أبو عاصم:"ربما رأيت سفيان يجذب الرجل من وسط الحلقة فيحدثه بعشرين حديثاً والناس قعود"، قالوا: لعله كان ضعيفاً. قال:لا(أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل (785)).
تاسعاً: التوجيه للتخصص المناسب:
عن زيد بن ثابت- رضي الله عنه - أن قومه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم :هاهنا غلامٌ من بني النجار حفظ بضع عشرة سورة، فاستقرأني فقرأت سورة ق، فقال:" إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا علي أو ينقصوا، فتعلم السريانية" فتعلمها- رضي الله عنه - في سبعة عشر يوماً، وفي رواية : خمسة عشر(رواه البخاري) .
والأمة أحوج ما تكون إلى طاقات أبنائها وقدراتهم، فبدلاً من تشتيتها وبعثرتها، أليس من حق الطالب على أستاذه أن ينصح له ويوجهه لما يناسبه حين يبدع في فن دون غيره، ومن جانب آخر فالأمة لن تستغني عمن يسد ثغراتها، فالتخطيط السليم، والإعداد المتكامل يقضي أن توجه طاقات الأمة لسد هذه الثغرات، ومن أين يبدأ التوجيه إن لم يكن من التعليم؟
والتلميذ قد يسعى لتخصص لايناسبه، أو يوجهه والده لما غيره أولى منه، فحين يساهم المدرس في توجيهه لما يرى أنه أولى يقدم خيراً للتلميذ، بل وللمجتمع أجمع.
عاشراً: الجمع بين التعليم الفردي والجماعي:
في كثير من النصوص نقرأ :كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه، بينما كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا نموذج للتعليم الجماعي، وأما التعليم الفردي فنماذجه كثيرة، قال ابن مسعود - رضي الله عنه - :" علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفي بين كفيه التشهد كما يعلمني السورة من القرآن…"( رواه البخاري (6265) ومسلم (402) ).
ومن ذلك ما ورد عن غير واحد من أصحابه: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومن ذلك حديث معاذ - رضي الله عنه -: بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل فقال: "يا معاذ" قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: "يا معاذ" قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة، ثم قال: "يا معاذ" قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال:"هل تدري ما حق الله على عباده؟" قلت:الله ورسوله أعلم، قال:"حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" ثم سار ساعة ثم قال:"يا معاذ بن جبل" قلت: لبيك رسول الله وسعديك، فقال:"هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه" قلت: الله ورسوله أعلم، قال:"حق العباد على الله أن لا يعذبهم"( رواه البخاري (5967) ومسلم (30) ).
الحادي عشر: العناية بتعليم المرأة:
حين صلى العيد صلى الله عليه وسلم اتجه إلى النساء فوعظهن وأمرهن بالصدقة، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة( رواه البخاري (975) ومسلم (884) مطولاً. ).
بل تجاوز الأمر مجرد استثمار اللقاءات العابرة، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم : غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن :"ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار" فقالت امرأة: واثنتين، فقال:"واثنتين"( رواه البخاري (101) ومسلم (2633).) .
إن المرأة في المجتمع الإسلامي تناط بها أدوار ومسؤوليات جسام، وهي لن تستطيع أداء هذه الأدوار حين لا يعنى بتعليمها ورعايتها.
الثاني عشر: التشويق والتنويع في عرض المادة :
فهو أحياناً يطرح المسألة على أصحابه متسائلاً:"أتدرون ما الغيبة؟"(رواه مسلم (2589).)."أتدرون ما المفلس؟" ( رواه مسلم ( 2581 ).). "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟" (رواه البخاري (61) ومسلم (2811). ) .
ولاشك أن السؤال مدعاةٌ للتفكير وتنميته، ومدعاة للاشتياق لمعرفة الجواب مما يكون أرسخ في الذهن.
وأحياناً يغيِّر نبرات صوته، فكان إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم(رواه مسلم (867) ).(/10)
وأحياناً يغيِّر جلسته، كما في حديث أكبر الكبائر: وجلس وكان متكئاً فقال:"ألا وقول الزور" ( رواه البخاري ( 2654 ) ومسلم ( 87 ). ).
فنهدي هذه القبسات إلى كل من حبس نفسه في إطار قوالب جامدة، وأساليب موروثة، فحول الأسلوب هدفاً، والوسيلة غاية.
الثالث عشر: الربط بين المواقف التعليمية:
عن أنس- رضي الله عنه - قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم :"أترون هذه طارحة ولدها في النار؟" قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال:"لله أرحم بعباده من هذه بولدها"(رواه البخاري ( 5999) ومسلم ( 2754 ). ) .
فلا يستوي أثر المعاني حين تربط بصور محسوسة، وحين تعرض في صورة مجردة جافة.
إن المواقف تستثير مشاعر جياشة في النفس، فحين يستثمر هذا الموقف يقع التعليم موقعه المناسب، ويبقى الحدث وما صاحبه من توجيه وتعليم صورة منقوشة في الذاكرة، تستعصي على النسيان.
الرابع عشر:استعمال الوسائل التعليمية:
أ - فهو صلى الله عليه وسلم يشير تارة كقوله:"أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما شيئاً (رواه البخاري ( 5304 ) .) .
وقوله: "الفتنة من هاهنا" وأشار إلى المشرق ( رواه البخاري (5296) ومسلم ( 2905 ) . ).
ب - وتارة يضرب المثل، أو يفترض قصة كما في قوله:"مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً" (رواه البخاري (2493) .) . وكما في قوله صلى الله عليه وسلم:"لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، حتى اشتدَّ عليه الحرُّ والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده"( رواه البخاري (6308) ومسلم (2744) ).
ج - وتارة يستعمل الرسم للتوضيح فقد خطَّ خطًّا مربعاً، وخطَّ خطًّا في الوسط خارجاً منه، وخطَّ خططا صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا"( رواه البخاري (6417) ).
د - وأحيانا يحكي قصة واقعية من الأمم السابقة، كما في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدعوا الله بصالح أعمالهم (رواه البخاري (3465) ومسلم (2743).)، وقصة الذي قتل تسعة وتسعين إنساناً (رواه البخاري ( 3470 ) ومسلم ( 2766 ).)، وأمثلتها كثير.
هـ - وأحياناً يربط المعنى المعقول بالصورة المحسوسة، فينظر مرة إلى القمر ليلة البدر ثم يقول:"إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: [ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب]( رواه البخاري ( 554 ) ومسلم ( 633 ).).
وقال لعلي - رضي الله عنه - :" قل : اللهم اهدني، وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، وبالسداد سداد السهم"(رواه مسلم (2725).).
فاستعماله صلى الله عليه وسلم لما أتيح في عصره من وسائل، يعني لنا أن من تمام الاقتداء بهديه صلى الله عليه وسلم أن نستعمل خير ما تفتق عنه العصر من وسائل وأساليب حديثة في التربية والتعليم، مادامت مباحة.
الخامس عشر: تأكيد ما يحتاج للتأكيد:
فقد حلف صلى الله عليه وسلم على مسائل كثيرة تزيد على الثمانين : والله لايؤمن… والذي نفسي بيده.. وأيم الله.. وغيرها كثير، وكرر بعض العبارات كقوله:"ألا وقول الزور" فما زال يكررها حتى تمنى أصحابه سكوته إشفاقاً عليه صلى الله عليه وسلم (سبق تخريجه .).
السادس عشر: البعد عن مشتتات الفهم:
ويدل على هذا المعنى حديث السائل عن الساعة. ، إذ أعرض عنه صلى الله عليه وسلم حتى لا يشتت فهم أصحابه، ثم عاد إليه (انظر : أساسيات في طرق التدريس العامة . لمحب الدين أبو صالح (110) .) . ومن ثَمَّ فأولئك الذين يتيهون بطلابهم في أودية من التفرعات، والخروج عن مقصود الدرس، بحاجة إلى مراجعة هديه صلى الله عليه وسلم .
ويشير القرآن الكريم إلى شيء من هذا المعنى، فيقول تعالى في شأن تدبر القرآن [إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد] (ق: 37) فهو حين يريد أن يتدبر القرآن التدبر الأمثل لابد أن يفرغ قلبه من الشوارد والصوارف.(/11)
وفي صلاة الجمعة ينهى صلى الله عليه وسلم عن الانشغال عن الخطبة، أو إشغال الآخرين، ولو لإسكات من كان يتحدث "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت"(رواه البخاري (934) ومسلم (851) ). كل هذا دعوة لأن يتهيأ المسلم للإنصات والاستماع.
ولما كانت الصلاة تتطلب حضور القلب وخشوعه، وتدبر المصلي لما يكون في صلاته من تلاوة وذكر نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بحضرة ما يشغل المصلي، ومن ذلك:الصلاة بحضرة الطعام، ومدافعة الأخبثين، ووجود ما يشغله في قبلته.
السابع عشر:مراعاة نشاط الطلاب واستعدادهم:
ويدل لهذا المعنى ما رواه ابن مسعود- رضي الله عنه - قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا (رواه البخاري (68) ومسلم (2821) وانظر المصدر السابق (108) .) .
أما الذين يشعرون أن التعليم يقف عند سرد معلومات جافة، فلا يعنيهم مدى استعداد الطالب، وتهيئه للتعلم، فأولئك بعيدون كلَّ البعد عن هدي المعلم الأول صلى الله عليه وسلم .
إن المتعلم ليس آلة صماء تستقبل كل ما يرد إليها، بل هو بشرٌ له قدرات محددة، وغرائز، وصفات بشرية لابد من مراعاتها.
الثامن عشر: مراجعة العلم والحفظ:
فقد أوصى صلى الله عليه وسلم حفاظ القرآن بتعاهده والعناية به فقال:"تعاهدوا القرآن فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً من الإبل في عقلها" (رواه البخاري ( 5033 ) ومسلم ( 791 ) .) .
وكان جبريل يدارسه القرآن في رمضان (رواه البخاري (4997) ومسلم (2308).) .
هذه بعض المعالم التي استطعت أن أقبسها من خلال مراجعتي الهادئة لبعض نصوص السنة، وأجزم أن ما بقي أكثر مما أوردت لكنه جهد المقل، لا أدعي فيه الكمال، ولا أبرئ نفسي فيه من القصور، والمقررات السابقة، وقد حرصت قدر الإمكان على الاختصار في التعليق والاستطراد.
ويظهر من خلال تلك المعالم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان المعلم الأول بحق، ويظهر من ذلك أيضاً عظم الجرم والتقصير في حق تراثنا حين نتجاوزه جهلاًً بقدره، أو استخفافاً بحقه.
وإني أجزم أن ثمة جوانب عدة نستطيع اكتشافها من خلال مزيد من المراجعة والقراءة المتأنية لسيرته وسنته صلى الله عليه وسلم .
الفصل الثالث: من صفات المدرس
إنه ما من عمل أو مهمة صغرت أو كبرت إلا ولمن يقوم بها صفات لابد أن يتحلى بها، وصفات لابد أن يتخلى عنها، فكيف بمن يتولى أمانة إعداد الجيل، وتربية النشء؟
والحديث عن صفات المعلم يطول، فاقتصرت هنا على ما أرى ضرورة إيراده، إما لكثرة الإخلال به، أو لارتباطه بالتوجيه، أو لأن البعض قد يجهله ويغفل عنه .
ويمكن أن نقسم هذه الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المدرس إلى صفات إيجابية ينبغي له أن يتصف بها، وصفات سلبية ينبغي أن يتخلى عنها.
المبحث الأول : صفات إيجابية
1- الإخلاص لله وحده:
وهي خصلة تواطأ من ألَّف من سلف الأمة في أدب المعلم على الوصاة بها. قال الحافظ ابن جماعة في أدب العالم مع طلبته: :" الأول أن يقصد بتعليمهم وتهذيبهم وجه الله تعالى، ونشر العلم، ودوام ظهور الحق وخمول الباطل، ودوام خير الأمة بكثرة علمائها، واغتنام ثوابهم، وتحصيل ثواب من ينتهي إليه علمه" (تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم (47) .).
وقال الإمام النووي:"ويجب على المعلم أن يقصد بتعليمه وجه الله لما سبق، وألا يجعله وسيلة إلى غرض دنيوي، فيستحضر المعلم في ذهنه كون التعليم آكد العبادات، ليكون ذلك حاثاًّ له على تصحيح النية، ومحرضاً له على صيانته من مكدراته ومن مكروهاته، مخافة فوات هذا الفضل العظيم والخير الجسيم"(المجموع شرح المهذب (1/30) .).
وحين يصلح المدرس نيته، ويطيب طويته يتحول عمله إلى عبادة لله وحده، ويكتب له نصبه وجهده وكل ما يلاقيه حسنات عند الله، فلئن كان الرجل يثاب حين يأتي زوجته، أو حين يرفع متاع الرجل على دابته، أو حين يكف لسانه عن القيل والقال، أفلا يثاب من يغار على أبناء الأمة ويحمل همهم؟
والإخلاص أخي المدرس ينتج عنه أن تتمتع بكل ما يتمتع به الآخرون في الدنيا من مزايا مادية، وإجازات.... وتزيد عليهم في الدنيا أنك تتذوق عملك، وتعشق مهنتك فتحبها وتقبل عليها، وأن جميع الساعات التي تقضيها كل يوم في مدرستك، بل في ذهابك وإيابك مدخرة لك عند الله عز وجل.
أما الدار الآخرة فهي المقصود الأعظم والمطلب الأسمى، فهناك أي ثواب سيناله المخلصون، وأي أجر سيكتب لهم؟ هذه أمور لا تدركها أنت ولا أنا، إنما علمها عند الله [والله يضاعف لمن يشاء] (البقرة:261).
والنية الخالصة مع كونها شعوراً داخلياً إلا أنها تمثل عاملاً مهماً يضبط سلوك المدرس، ويفرض عليه رقابة داخلية؛ فيتقن العمل ويرعى الأمانة.
2- التقوى والعبادة:(/12)
روى الرامهرمزي بإسناده عن أبي العالية قال:"كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى صلاته، فإن أحسن الصلاة أخذنا عنه، وإن أساء الصلاة لم نأخذ عنه"(المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للقاضي الحسن بن عبدالرحمن الرامهرمزي (409) .) .
وقال محمد بن سيرين: "إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم"(رواه مسلم في مقدمة صحيحه . والخطيب في الكفاية 121 . والرامهرمزي في المحدث الفاصل(437) .) .
وقال حماد بن زيد: دخلنا على أنس بن سيرين في مرضه فقال:"اتقوا الله يا معشر الشباب، وانظروا عمن تأخذون هذه الأحاديث فإنها دينكم "(رواه الخطيب في الكفاية (122) . والرامهرمزي في المحدث الفاصل (440) .) .
وقال الإمام مالك رحمه الله: "إن هذا العلم هو لحمك ودمك، وعنه تسأل يوم القيامة، فانظر عمن تأخذه" (رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل (444) .) .
وقال مجالد: "لا يؤخذ الدين إلا عن أهل الدين" (رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل (445) .) .
فحين تطرق هذه النصوص أخي المدرس مسمع طلابنا أتراهم يرونها تنطبق علينا بحق؟ أم أنهم يدرجونا ضمن قائمة من حذَّر السلف من الأخذ عنهم؟ فلا علينا أن نطرح هذا السؤال بصدق وصراحة على أنفسنا: هل نحن معنيون بحق في الحرص على استقامة ديننا وسلوكنا؟ وهل نحن نشعر أن إعداد أنفسنا، وتقوية إيماننا، والعناية بعبادة الله عز وجل وطاعته جزءٌ لا يتجزأ من واجبنا؟
3- حث الطالب على العلم وتحريضه عليه:
إن غرس حب العلم، والعناية به من أهم الصفات التي ينبغي أن يتسم بها المدرس، وهي وصية يوصي بها المعلمَ مَنْ سلف من أهل العلم. قال الإمام النووي:"وينبغي أن يرغبه في العلم، ويذكره بفضائله وفضائل العلماء، وأنهم ورثة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولارتبة في الوجود أعلى من هذه"(المجموع شرح المهذب (1/30) .).
وفي عصرنا الحاضر تزداد القضية تأكيداً، وتستحق مزيداً من الرعاية والعناية؛ إذ كثرت الصوارف والشواغل للجيل المعاصر من الملاهي ووسائل قضاء الشهوات، مما يجعل العلم والعناية به في مرتبة متأخرة من اهتمامات الطالب، هذا إن وجد ذلك أصلاً.
والترغيب في العلم والحث عليه ليس بالضرورة حكراً على طريقة واحدة تتمثل كما يتصور البعض بالحديث النظري المستفيض عن فضائل العلم وأهله، وعن تقصير الجيل الحاضر في ذلك.
إن مثل هذا الحديث مطلب له أهميته، لكن حين نضيف لذلك عنايتنا بغرس حب العلم عند تلامذتنا من خلال إعطائهم المزيد مما يشد انتباههم من الفوائد العلمية، وتعويدهم على القراءة من خلال توجيههم لكتب مفيدة ومشوقة. وحين يلمسون عنايتنا نحن بما نقدمه لهم، ويرون أثر العلم على ما نقدمه، ونضيف لذلك كله نماذج من سير أهل العلم وعنايتهم به؛ إننا من خلال ذلك كله يمكن أن نسهم في دفع الهم العلمي لدى طلابنا مرحلة أعلى مما هي عليه في الواقع.
4 -حسن المظهر:
لا أشك أنك توافقني أن علينا أن نعتني بمظاهرنا بما لا يخرج عن حد الاعتدال؛ إذ ذلك أدعى للقبول والتقدير، وذاك يشعر طلبتنا أن الاستقامة لا تعني بالضرورة رثة المظهر، وقد كان السلف يعنون بذلك، ويوصون المحدث بحسن مظهره، نقرأ في فهرس (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي) ما يلي: باب إصلاح المحدث هيئته وأخذه لرواية الحديث زينته، مبحث وليبتدئ بالسواك، مبحث وليقص أظافيره إذا طالت، مبحث إذا اتسخ ثوبه غسله، مبحث إذا أكل طعاماً زهماً اتقى يديه من غمره، مبحث لباس المحدث المستحب له، مبحث ويكره له أن يلبس الثوب الخلق وهو يقدر على الجديد....
وقال:"ينبغي للمحدث أن يكون في حال روايته على أكمل هيئة وأفضل زينة، ويتعاهد نفسه قبل ذلك بإصلاح أموره التي تجمله عند الحاضرين من الموافقين والمخالفين"(الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (373) .) .
وروى بإسناده عن يحيى بن محمد الشهيد قال:"ما رأيت أورع من يحيى بن معين، ولا أحسن لباساً منه" (الجامع لأخلاق الرواي وآداب السامع (381) .) .
ومن تمام حسن المظهر وأولوياته الالتزام بالضوابط الشرعية، فإسبال الثياب، أو لبس المخالف منها، أو حلق اللحية مما يخل بمظهر المعلم، ويتأكد عليه قبل غيره من الناس أن يلتزم بالمظهر الشرعي.
5 - حسن المنطق :
إن المنطق واللسان يعد أخي المدرس معياراً من معايير تقويم الشخصية، لذا فلعلك توافقني أن من واجبات المدرس أن يحفظ منطقه ولسانه، فلا يسمع منه الطلاب إلا خيراً، وحتى حين يعاتب أو يحاسب، فلا يليق به أن يتجاوز ويرمي بالكلمات التي لايبالي بها.
ولئن كانت الكلمة الطيبة تترك أثرها في النفوس، فالكلمة الجارحة تهدم أسوار المحبة، وتقضي على بنيانها. ولئن كنا لاندرك بدقة أثر ما نقوله على الناس، فالناس لهم مشاعر، واعتبارات ينبغي أن نرعاها.(/13)
إننا نلمس في أنفسنا جميعاً أن هناك كلمات نسمعها فتترك أثراً إيجابياً أو سلبياً في نفوسنا دون أن يشعر من قالها بذلك. أفلا نجعل من هذا الاعتبار مقياساً للآخرين، فنفترض أن مشاعرهم تجاه ما يسمعونه منا لن تكون بالضرورة مدركة لنا، أو حتى واردة في حسباننا؟ مما يدفعنا إلى مراجعة منطقنا أكثر، وأن نحسب لكل كلمة نقولها حساباً.
6 - الانضباط واتزان الشخصية:
يؤكد هذه الصفة الإمام النووي فيقول :"وينبغي أن يصون يديه عن العبث، وعينيه عن تفريق النظر بلا حاجة، ويلتفت إلى الحاضرين التفاتاً قصداً بحسب الحاجة للخطاب"(المجموع شرح المهذب (1/33) .).
والاتزان صفة يحتاج إليها من يطلب من الناس أدنى اعتبار لشخصيته واحترام لها، فكيف بمن يكون معلماً للجيل وقدوة للناشئة؛ إذ إن أولئك الذين يفقدون اتزانهم، وتنبئ تصرفاتهم عن نقص في العقل وكمال الرجولة، وفقد لهيبة العلم، أولئك إنما تنادي أحوالهم بمزيد من السخرية والعبث من قبل تلامذتهم.
7 - القدوة الصالحة:
كثير من الناس يستطيع التوجيه ويحسن القول، ولكن كم هم المعلمون الذين يدعون بأعمالهم، ويرى فيهم الطالب القدوة الحسنة؟ فيحسن بك أخي الكريم أن تكون قدوة صالحة لأبنائك، في عبادتك، وفي تعاملك، وفي سلوكك. وبعبارة أدق أن يتفق مقالك وحالك.
إن التناقض بين القول والعمل، والظاهر والباطن، وازدواجية التوجيه وتناقضه، كل ذلك من أكبر مشكلات الجيل المعاصر، وذلك كله نبات بذرة خبيثة واحدة، ألا وهي عدم العمل بالعلم، والمأمول منك أخي المدرس أن تسهم في اجتثاث هذه النبتة السوء، لا أن تسهم دون قصد في سقيها.
ولذا يقول الشافعي موصياً مؤدب أولاد الخليفة الرشيد:"ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما تستحسنه، والقبيح عندهم ما تكرهه".
وها هو ابن مسعود- رضي الله عنه - يقول:"من كان كلامه لا يوافق فعله فإنما يوبِّخ نفسَه".
ويرى الغزالي أن الوظيفة الثامنة للمعلم: "أن يكون عاملاً بعلمه، فلا يكذب قوله فعله؛ لأن العلم يدرك بالبصائر، والعمل يدرك بالأبصار، وأرباب الأبصار أكثر، فإذا خالف العلم العمل منع الرشد، وكل من تناول شيئاً وقال للناس لا تتناولوه فإنه سم مهلك؛ سخر الناس به، واتهموه، وزاد حرصهم على ما نهوا عنه، فيقولون: لولا أنه أطيب الأشياء وألذها لما كان يستأثر به"(إحياء علوم الدين (1/97).) .
فالمدرس الذي يتحدث لطلابه عن أهمية الصلاة والمحافظة عليها، وحين يصلّون في المدرسة يرونه في آخر الصفوف أو"الذي يحث طلابه على الالتزام بالمواعيد وأهمية الوفاء بها، ثم يحضر إلى دروسه متأخراً يمحو بتصرف واحد عشرات الأقوال التي يصبُّها في آذانهم"(المعلم والمناهج وطرق التدريس لأستاذنا : د. محمد مرسي (21) .).
8 - الوفاء بالوعد:
إن الوفاء بالوعد من خلق المؤمن، بل الخلف من خصال النفاق، وإخلاف الوعد مظهر من مظاهر عدم الجدية واللامبالاة، ينطبع في أذهان الطلاب عن شخصية أستاذهم، ويعطيهم مقياساً لضآلة قدرهم عنده.
فحين تعد طالباً بمكافأة، أو بحث مسألة، أو تعد سائر طلبتك بأي أمر، فاجتهد واحرص كل الحرص على الوفاء بما وعدت به، وإن حال دون ذلك حائل، أو عاق دون تحقيقه عائق فالاعتذار اللطيف يزيل ما قد يكون في النفس.
9- الإسهام في إصلاح نظام التعليم:
المدرس الجاد المخلص يشعر أن مهمته لا تقف عند حد ما يقدمه في الفصل الدراسي، ولئن كانت المسؤولية عن نظم التعليم والمناهج وما يتعلق بذلك أموراً يعنى بها غير المعلم، إلا أن ذلك لا يعفيه من المشاركة والسعي للإصلاح.
وهو حين يحمل هذا الهم في خاطره، ويدرك أن هذه المهمة جزءٌ من مسؤوليته، سيسهم في اقتراحٍ بناءٍ على إدارة المدرسة، أو تنبيهٍ على ملحظ، أو مناقشة هادئة في قرار.
وسيدعوه ذلك أيضاً للمساهمة في إبداء اقتراح أو تصحيح خطأ حول منهج مادة يدرسها، أو طرح فكرة بناءة والكتابة عنها، أو السعي لدراسة ظاهرة من الظواهر السلبية في نظام التعليم أو مشكلة من مشكلاته.
ولهذا كان السلف يوصون المعلم بالعناية بحماية نظام التعليم من المخالفات الشرعية، ولو كانت في نظر البعض من الأمور اليسيرة. قال سحنون:"وأكره للمعلم أن يعلم الجواري، ولا يخلطهن مع الغلمان؛ لأن ذلك فساد لهم" (آداب المعلمين . مصدر سابق (123) .) .
10 -حسن المعاملة للطالب:
إن الطالب هو المقصود الأول والأساس من العملية التعليمية والتربوية، ولذا فهو المتغير الرئيس الذي يتعامل معه الأستاذ، أما المنهج، وأنظمة التعليم، وغير ذلك فهي إنما وضعت أساساً لتحقيق الهدف التربوي التعليمي للطالب، ولهذا الموقع الذي يتبوأه الطالب في العملية التربوية كان لابد من وضع بعض المعالم والقواعد في التعامل مع الطالب، حتى يتحقق الهدف المقصود من التربية والتعليم.(/14)
ومدار ذلك كله على حسن الخلق، وقد أعلى الشرع منزلة حسن الخلق ورفع من شأنها، قال صلى الله عليه وسلم :"ليس شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن"(رواه الترمذي (2002) وأبو داود (4799) وأحمد (26971)وانظر : السلسلة الصحيحة ( 876 ) .) .
وترتقي منزلة أهل الخلق الحسن ليدركوا درجة أهل العبادة والزهد:"إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم" (رواه أبو داود (4798) وأحمد (23834) وابن حبان (1927) .) . وإذا كان حسن الخلق يتأكد على كل مسلم، فهو في حق معلم الأجيال، وأستاذ النشء آكد وأوجب، وحسن خلق المدرس مع طلابه كلمة واسعة تجمع أبواباً شتى منها:
أولاً: توقير الطالب وتقديره:
بعيداً عن نظرة التعالي التي سادت بين كثير من المسلمين وللأسف، وفوق احتقار الآخرين وازدرائهم - كما هو حال بعض المعلمين - فوق ذلك كله وأسمى منه يجب أن تكون أخلاقنا معشر المعلمين الدعاة.
وفي الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: باب إكرامه الغرباء من الطلبة وتقريبهم، استقباله لهم بالترحيب، تواضعه لهم، تحسين خلقه معهم، الرفق بمن جفا طبعه منهم، ويروي في الباب الأخير عن أبي عثمان الوراق قال: اجتمع أصحاب الحديث عند وكيع، قال : وعليه ثوب أبيض، فانقلبت المحبرة على ثوبه، فسكت مليًّا ثم قال: ما أحسن السواد في البياض.
وعن سفيان بن وكيع قال: قال أبي: من أراد أن يحدث فليصبر وإلا فليسكت(الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/355) .).
وفي الأدب الرابع للمعلم عند ابن جماعة:"أن يحب لطالبه ما يحب لنفسه كما جاء في الحديث، ويكره له ما يكره لنفسه، قال ابن عباس: أكرم الناس علي جليسي الذي يتخطى رقاب الناس إليّ، لو استطعت أن لايقع الذباب عليه لفعلت، وفي رواية : إن الذباب ليقع عليه فيؤذيني" (تذكرة السامع والمتكلم ( 49 ) .) .
ويؤكد ابن جماعة على المعلم حسن المعاملة في موضع آخر فيقول:"وكذلك ينبغي أن يترحب بالطلبة إذا جلسوا إليه، ويؤنسهم بسؤالهم عن أحوالهم،وأحوال من يتعلق بهم بعد درسهم، وليعاملهم بطلاقة الوجه، وظهور البشر، وحسن المودة، وإعلام المحبة، وإضمار الشفقة"(تذكرة السامع والمتكلم ( 65 ) . ) .
وقال النووي:"وينبغي له أن يحنو عليه، ويعتني بمصالح نفسه وولده، ويجريه مجرى ولده في الشفقة عليه والاهتمام بمصالحه" (المجوع شرح المهذب ( 1/ 31 ) .) .
إن توقير الطالب وتقديره - مع أنه خلق المسلم ابتداء - يعلِّمه أن يوقر الناس، ويدعوه لمحبة مدرسه، والتلقي فرع عن المحبة وصفاء القلوب، وهو كذلك يخرج لنا جيلاً يتصف بحسن الخلق، وصفاء السريرة؛ إذ هو يتعلمها ويدرسها من خلال الواقع الملموس والصورة الحية، مما يفعل ما لا تفعله الكلمات المجردة.
ثانياً: الثناء عليه حين يحسن:
إننا نجيد النقد لمن أساء، ونرى أن إيقافه عند حده من بدهيات واجبات المدرس؟ فما بالك بمن يحسن؟ أليس في المقابل يستحق الثناء، ولو بدعوة صالحة: جزاك الله خيراً، أثابك الله، زادك الله علماً وحين يتجاوب الثغر مع اللسان فيفتر عن ابتسامة صادقة، يدرك الطالب صدق مودة مدرسه.
وحين نقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فلن تخطئنا تلك المواقف التي كان يثني فيها على من أحسن من صحابته كما سبق الحديث عن ذلك في هديه صلى الله عليه وسلم .
ومرة أخرى مع ابن جماعة يعلمنا هذا الأدب فيقول:"فمن رآه مصيباً في الجواب، ولم يخف عليه شدة الإعجاب شكره وأثنى عليه بين أصحابه؛ ليبعثه وإياهم على الاجتهاد في طلب الازدياد"(تذكرة السامع والمتكلم ( 54 ) . ) .
ثالثاً: العدل بين الطلاب:
على العدل قامت السموات والأرض، وبه أوصى الله عباده : [إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون] (النحل :90) ولذا فعلينا معشر المعلمين أن نتحرى العدل ونقصده، ونسعى إليه بين طلبتنا، وألا تظهر الميول والتقديرات الشخصية قدر الإمكان. فالمحاباة والتفريق في المعاملة مما يمقته الطلاب وينفرون منه ومن صاحبه.
وهي قضية لم تكن تغيب عن علمائنا الأوائل، فتوارثوا إيصاء المعلم بالعدل، وتحذيره من خلافه. قال الإمام النووي:"وينبغي أن يقدم في تعليمهم إذا ازدحموا الأسبق فالأسبق، ولايقدمه في أكثر من درس إلا برضا الباقين" (المجموع شرح المهذب (1/33) .).
وقال ابن قيم الجوزية:"إن الطالب المتعلم إذا سبق غيره إلى الشيخ ليقرأ عليه لم يقدم بدرسين إلا أن يكون كل منهم يقرأ درس" (الفروسية (114) . وانظر الفكر التربوي عند ابن القيم لحسن الحجاجي (450) .).
وعقد ابن سحنون باباً في ذلك (ماجاء في العدل بين الصبيان) وأورد فيه بإسناده عن الحسن قال:"إذا قوطع المعلم على الأجرة فلم يعدل بينهم - أي الصبيان - كتب من الظلمة" (آداب المعلمين لابن سحنون . المطبوع في نهاية كتاب المذهب التربوي عند ابن سحنون (115) .) .
وقال في موضع آخر:"وليجعلهم بالسواء في التعليم، الشريف والوضيع، وإلا كان خائناً".(/15)
وغني عن البيان أن تلك التوجيهات والوصايا قد ذكرها أصحابها على سبيل المثال، فالعدل صفة محمودة مطلوبة كل وقت، وإن اختلفت صوره وتطبيقاته من عصر لآخر.
رابعاً:الاعتدال في معالجة الأخطاء:
إن الصبر على الجفاء، وتحمل سيئ الطباع من محاسن الأخلاق، ونحن نسعى لبناء كل خلق فاضل في نفوس أبنائنا، أوليست التربية بالفعل أبلغ من القول ؟ فما رأيك أخي المدرس حين يعتاد تلميذك منك الصبر على جفائه، وتحمل هفوته، بما لا يزيل الهيبة، و يجرئ على المعاودة؟ وإن كان ولابد من التنبيه فبحسن الإشارة، وجميل التلطف، لذا يوصي ابن جماعة المعلم بهذا الخلق فيقول:"وينبغي أن يعتني بمصالح الطالب، ويعامله بما يعامل به أعز أولاده من الحنو والشفقة عليه، والإحسان إليه، والصبر على جفاء ربما وقع منه نقص لا يكاد يخلو الإنسان عنه، وسيئ أدب في بعض الأحيان، ويبسط عذره بحسب الإمكان، ويوقفه مع ذلك على ما صدر منه بنصح وتلطف، لا بتعنيف وتعسف، قاصداً بذلك حسن تربيته، وتحسين خلقه، وإصلاح شأنه، فإن عرف ذلك لذكائه بالإشارة، فلا حاجة لصريح العبارة، وإن لم يفهم إلا بصريحها أتى بها وراعى التدريج في التلطف"(ذكرة السامع والمتكلم ( 50 ) . ).
ويكرر الغزالي الوصية نفسها فيرى أن من آداب المعلم:"أن يزجر المتعلم عن سيئ الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح، وبطريق الرحمة لابطريق التبويخ" (إحياء علوم الدين ( 1/57 ) . ).
ويؤكد الإمام النووي هذا المعنى فيقول:"ويجريه مجرى ولده في الشفقة عليه، والصبر على جفائه وسوء أدبه، ويعذره في سوء أدب وجفوة تعرض منه في بعض الأحيان، فإن الإنسان معرضٌ للنقائص"(المجموع شرح المهذب (1/30) .).
والمنطق السليم يقتضي من المعلم أن يعالج الخطأ داخل الفصل بما يراه يحقق المصلحة، وأن لايتدخل طرف ثالث قدر الإمكان، والكي إنما هو آخر الدواء لا أوله.
وحين نتصور أن القصور والخطأ صفة ملازمة للطالب قلما ينفك عنها، وبخاصة في هذا الوقت، فسوف نتجاوز كثيراً من الأخطاء، أو نضعها في حجمها الطبيعي على الأقل ، وما أعظم أن يحتوي المعلم خطأ الطالب بنظرة، أو همسة، أو لفتة غير مباشرة، أو حديث خاص خارج الفصل.
وانظر إلى هذا النموذج الرائع من الصبر على جفاء الجاهل. قال أبو يوسف رحمه الله: "أتيت مجلس أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فجلست فيه، فجاء رجل فقام في ناحية المجلس فجعل يسبُّ أبا حنيفة ويشتمه، فما يقطع أبو حنيفة حديثه ولا التفت إلى كلامه، ولا أجابه أحد من أهل المجلس حتى فرغ أبو حنيفة من كلامه، وقام ليدخل داره، فلما بلغ أبو حنيفة إلى باب داره قام عند بابه واستقبل الرجل، وقال : هذه داري أريد الدخول، فإن كنت مستتم باقي كلامك فأتمه حتى لا يبقى شيء مما عندك تخاف عليه الفوت، فاستحيا الرجل، وقال : اجعلني في حل، فقال : أنت في حل" (من أعلام التربية الإسلامية ( 1/ 137- 138 ) .نقلاً عن مناقب أبي حنيفة للموفق المكي ( 249 ) . ).
خامساً: الاهتمام بالطالب:
"إن وجود المتعلم داخل المدرسة لا يعني انفصاله بأي حال من الأحوال عن المؤثرات الخارجية التي يحتك بها، بل إن تأثير بعض المشكلات الخارجية على التعليم يجعل الوصول إلى الأهداف التربوية والتعليمية المنشودة في غاية الصعوبة والتعقيد، لذا فإن واجب المعلم أن يتعرف على جانب من المشكلات الاجتماعية التي يعيشها المتعلم؛ لما لها من أثر في نموه العلمي والاجتماعي" (إعداد المعلم من منظور التربية الإسلامية.د عبدالله عبدالحميد محمود (71).) .
وقد تمر بالطالب حالة خاصة، كمرض، أو ظروف شخصية، فحين يعطيه مدرسه اهتماماً شخصياً، ولو بمجرد السؤال عن حاله، والاستفصال عنها فإن هذا يشعره بقيمته واهتمام مدرسه به ، بل يذهب ابن جماعة إلى أبعد من ذلك فيقول:"وإذا غاب بعض الطلبة أو ملازمي الحلقة زائداً عن العادة سأل عنه، وعن أحواله وعن من يتعلق به، فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه، أو قصد منزله بنفسه وهو أفضل، فإن كان مريضاً عاده، وإن كان في غم خفض عليه، وإن كان مسافراً تفقد أهله ومن يتعلق به، وسأل عنهم وتعرض لحوائجهم، ووصله بما أمكن، وإن كان فيما يحتاج إليه فيه أعانه، وإن لم يكن شيء من ذلك تودد له ودعا له"(تذكرة السامع والمتكلم ( 61 - 63 ) . مع ملاحظة اختلاف الأعراف والعبرة بالمعنى العام من كلامه رحمه).
وقد يجد المعلم أن لدى تلميذه ضائقة مالية فيسعى لأن يكون وسيطاً بينه وبين أهل الخير، ليقدم له شيئاً من المساعدة التي تشعره أن هناك من يدرك معاناته ويحس بآلامه.
سادساً: التواضع:
التعليم ميدان للتصدر والرفعة، فقد يدخل على المعلم في ذلك ما يدخل عليه من زهو، وشعور بالرفعة، قال ابن عبدوس:"كلما توقر العالم وارتفع كان العجب إليه أسرع إلا من عصمه الله بتوفيقه، وطرح حب الرياسة عن نفسه"(جامع بيان العلم وفضله (1/142) .).
ولذا يؤكد أهل العلم على المعلم التخلق بخلق التواضع.(/16)
روى ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال:"تعلموا العلم وعلِّموه للناس، وتعلَّموا له الوقار والسكينة، وتواضعوا لمن تعلمتم منه، ولمن علمتموه، ولا تكونوا جبابرة العلماء، فلايقوم جهلكم بعلمكم" (جامع بيان العلم وفضله (1/135) .).
وقد أوصى الإمام الآجري من يعلِّم القرآن بالتواضع فقال:"ويتواضع لمن يلقنه القرآن، ويقبل عليه إقبالاً جميلاً" (أخلاق أهل القرآن للآجري (111) .) .
وقال أيضاً رحمه الله:"وينبغي لمن قرأ عليه القرآن فأخطأ عليه أو غلط ألا يعنفه، وأن يرفق به، ولا يجفو عليه، فإني لا آمن أن يجفو عليه فينفر عنه، وبالحري ألا يعود إلى المسجد"(أخلاق أهل القرآن للآجري (120) .) .
قال الإمام النووي:"وينبغي له ألا يتعظم على المتعلمين، بل يلين لهم ويتواضع، فقد أمر بالتواضع لآحاد الناس، قال الله تعالى : [واخفض جناحك للمؤمنين] وعن عياض بن حمار- رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن الله أوحى إلي أن تواضعوا "رواه مسلم.
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله" رواه مسلم، فهذا التواضع لمطلق الناس فكيف بهؤلاء الذين هم كأولاده مع ما هم عليه من الملازمة لطلب العلم، ومع ما لهم عليه من حق الصحبة وترددهم إليه، واعتمادهم عليه، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:" لينوا لمن تُعلِّمون، ولمن تتعلَّمون منه" وعن الفضيل بن عياض رحمه الله"أن الله عز وجل يحب العالم المتواضع، ويبغض العالم الجبار، ومن تواضع لله تعالى ورَّثه الحكمة" أ.هـ(المجموع شرح المهذب (1/30)) .
وقد يكون المرء في موقع يرى منه الناس ما لايرونه في أنفسهم، فيكبرونه، وينزلونه فوق منزلته، والمدرس من أكثر الناس عرضة لذلك، فالحري به أن"يعرف قدر نفسه فلا ينخدع بما يقال عنه، ولايركن إلى ثناء أحد عليه، ولا يدخله العجب والغرور بما يرى من كثرة طلاب العلم حوله" (إعداد المعلم من منظور التربية الإسلامية. د عبدالله بن عبدالحميد محمود (225).) .
سابعاً: العناية بالطالب الموهوب :
لقد خلق الله الناس معادن وطاقات متفاوتة كما قال صلى الله عليه و سلم :"الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا "(رواه البخاري (3383) ومسلم ( 2638 ) . ).
وقال:"مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به؛ فَعَلِمَ وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"(رواه البخاري ( 79 ) ومسلم ( 2282 ) . ) .
ولقد كان سلف الأمة - رحمهم الله - يعنون بذلك أيما عناية، روى ابن عبد البر في الجامع عن عبد الملك بن عبد العزيز بن سلمة بن أبي الماجشون قال:أتيت المنذر بن عبدالله الحزامي وأنا حديث السن، فما رآني اهتز إلي على غيري لما رأى في بعض الفصاحة، فقال لي:من أنت؟ فقلت له: عبد الملك بن عبدالعزيز بن أبي سلمة. فقال:"اطلب العلم فإن معك حذاءك وسقاءك"(جامع بيان العلم وفضله (1/86)).
ومصطلح الموهوب أوسع وأشمل من أن يقتصر على من يتمتع بقدر أكبر من الذكاء، فهو يشمل كل من يملك قدرات خاصة تؤهله للتفوق في أي مجال من المجالات، فالشعر والخطابة والكتابة مواهب، والقدرات العملية والقيادية كذلك.
ونأسف حين نرى الغرب الكافر يعتني بالموهوبين، ويسن لرعايتهم أنظمة خاصة، ويقيم فصولاً ومدارس خاصة بهم، في حين يلقون غاية الإهمال لدى المسلمين، فتقام في أمريكا سنوياً مسابقة لاختيار الاختراعات التي يتقدم بها الأطفال(5-13) سنة، وأقيمت مسابقة عام 1992م في واشنطن وشارك فيها 51 طفلا ممن فازوا في التصفيات التي جرت على مستوى الولايات المتحدة، وابتداءً من شهر أغسطس الماضي عرضت الاختراعات الفائزة في متحف التاريخ الأمريكي جنباً إلى جنب مع الاختراعات الأمريكية الأخرى، كبادرة لتشجيع المخترعين الصغار (جريدة الرياض ( 8 838 ) 7 / 3/ 1413هـ ) .
فحين ترى طالباً يفوق غيره في قدراته، فماذا أنت صانع نحوه؟ وهل فكرت أن عليك أن تنظر له نظرة غير أقرانه؟ وأن توليه رعايةً واهتماماً يليقان به؟ أليست هذه الطاقات هي المؤهلة لتتبوأ المكانة الاجتماعية أو العلمية والفكرية في المجتمع؟ وصلاحها ينتج عنه خير كثير.
ونستطيع أن نرسم لأنفسنا هدفين رئيسين في التعامل مع الموهوب:
الهدف الأول:
أن نسلك به طريق الاستقامة والصلاح، ويسير في ركب جيل الصحوة، وهذا هو المطلب الأولى والأساس، والضمانة لاستثمار هذه الطاقة وتوجيهها.
الهدف الثاني:(/17)
قد يعجز المدرس عن التأثير التام على الموهوب وجلبه لتيار الخير والاستقامة والتغيير الجذري لديه، فلا أقل من أن يزرع لديه حب الخير وأهله، والولاء للدين، واستغلال طاقته وموهبته في خدمة دين الله، فهذا من تمام شكر نعمة الله عليه.
المبحث الثاني: صفات سلبية
لئن كانت هناك صفات إيجابية ينبغي للمعلم أن يتحلى بها، فهناك صفات سلبية ينبغي له أن يتأى عنها ويتجنبها، ومن أبرز تلك الصفات :
1- الاستكبار عن قبول الحق:
قد يكون لدى أحد طلبتك علم في مسألة معينة ليس عندك، أو سمع فيها ما لم تسمع، أو يتضح لك بعد النقاش أن الحق بخلاف ما قلته، فهلا فكرت في كسر حاجز الهوى، وقبول الحق والانتصار على الوهم الذي يوحي إليك أن هذا يغض من شأنك؟ بل فيه الرفعة والثقة، فالناس كل الناس يدركون أنه لا كمال لبشر، وأنه ما من أحد من كبار أهل العلم إلا وتعزب عنه شاردة أو واردة، فكيف بي وبك؟ بل إن الاعتراف بالحق يزيد تلامذتك ثقة أنك لا تقول إلا ما تعلم، ولا تنطق إلا بما توقن.
لذا فيعد الإمام النووي من صفات المعلم أن:"لايستنكف عن التعلم ممن هو دونه، في سن، أو نسب، أو شهرة، أو دين، أو في علم آخر، بل يحرص على الفائدة ممن كانت عنده، وإن كان دونه في جميع هذا"(لمجموع شرح المهذب (1/29) . ).
2 - حسد الطالب:
الحسد سلوك شاذ يصدر عن أصحاب النفوس المريضة حين ترى من فاقها في أمر من أمور الدنيا الفانية، وهو يحمل علاوة على خبث الطوية سخطاً على قضاء الله وعدم رضا بعطائه؛ لذا فالمدرس أعظم قدراً، وأعلى شأناً من أن يحمل في قلبه حسداً أو غلاً تجاه أحد أبنائه؛ خاصة حين يفوقه، وهو مسلك حذر منه السلف الصالح.
قال الإمام النووي:"ولا يحسد أحداً منهم لكثرة تحصيله، فالحسد حرامٌ للأجانب وهنا أشد؛ لأنه بمنزلة الوالد، وفضيلته يعود إلى معلمه منها نصيبٌ وافرٌ؛ فإنه مربيه، وله في تعليمه وتخريجه في الآخرة الثواب الجزيل، وفي الدنيا الدعاء المستمر والثناء الجميل"(المجموع شرح المهذب (1/33) .).
3 - الفتيا بغير علم:
ما أكثر ما يأتيك أخي المدرس السؤال والاستفتاء من طلبتك فهلا روَّضت نفسك على أن تقول لما لاتعلم لا أعلم؟ فمن حرم لا أدري أصيبت مقاتله، وهل وضعت نصب عينيك قوله تعالى : [ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون] (الأعراف : 33). وقوله سبحانه : [لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً] (الإسراء : 36) . وأجرأ الناس على الفتيا أقلهم علماً كما قال سحنون .
عقد الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله باباً بعنوان: (ما يلزم العالم إذا سئل عما لا يدريه من وجوه العلم) وروى بسنده عن عبد الرحمن بن مهدي قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله، جئتك من مسيرة ستة أشهر حمَّلني أهلُ بلدي مسألةً أسألك عنها. قال: فسل. قال:فسأله الرجل عن المسألة. فقال: لا أحسنها. قال: فبهت الرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء. قال:أي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟ قال: تقول لهم: قال مالك : لا أحسن"(امع بيان العلم وفضله (2/53) . ) .
وقال مالك رحمه الله:"ينبغي للعالم أن يألف فيما أشكل عليه قول لا أدري، فإنه عسى أن يهيأ له خير". قال ابن وهب: وكنت أسمعه كثيراً ما يقول: لا أدري. وقال في موضع آخر:"لو كتبنا عن مالك لا أدري لملأنا الألواح"(جامع بيان العلم وفضله ( 2/53-54) .).
ولذا يوصي ابن جماعة المعلم بذلك فيقول:"واعلم أن قول المسئول لا أدري لا يضع من قدره كما يظنه بعض الجهلة، بل يرفعه؛ لأنه دليل عظيم على عظم محله، وقوة دينه، وتقوى ربه، وطهارة قلبه، وكمال معرفته وحسن تثبته، وقد روينا معنى ذلك عن جماعة من السلف، وإنما يأنف من قول لا أدري من ضعفت ديانته، وقلت معرفته؛ لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، وهذه جهالة ورقة دين، وربما يشهر خطؤه بين الناس فيقع فيما فرَّ منه، ويتصف عندهم بما احترز عنه، وقد أدب الله تعالى العلماء بقصة موسى مع الخضر حين لم يرد موسى عليه السلام العلم إلى الله تعالى لما سئل هل أحد في الأرض أعلم منك" (تذكرة السامع والمتكلم (42-43) . ).(/18)
وقال الإمام النووي:"وإذا سئل عن شيء لا يعرفه أو عرض في الدرس ما لا يعرفه فليقل لا أعرفه ولا أتحققه، ولا يستنكف من ذلك، فمِن عِلْم العالم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم، أو الله أعلم. فقد قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : " يا أيها الناس، من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم : الله أعلم، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : [قل ما أسألكم عليه من أجرٍ وما أنا من المتكلفين] رواه البخاري. وقالوا: ينبغي للعالم أن يورث لأصحابه لا أدري، معناه يكثر منها، وليعلم أن معتقد المحققين أن قول العالم لا أدري لا يضع منزلته، بل هو دليل على عظم محله وتقواه، وكمال معرفته؛ لأن المتمكن لا يضره عدم معرفته مسائل معدودة، بل يستدل بقوله لا أدري على تقواه، وأنه لا يجازف في فتواه. وإنما يمتنع من لا أدري مَنْ قلَّ علمه، وقصرت معرفته، وضعفت تقواه؛ لأنه يخاف لقصوره أن يسقط من أعين الحاضرين، وهو جهالة منه، فإنه بإقدامه على الجواب فيما لا يعلمه، يبوء بالإثم العظيم، ولا يرفعه ذلك عما عرف له من القصور بل يستدل به على قصوره؛ لأنا إذا رأينا المحققين يقولون في كثير من الأوقات لا أدري، وهذا القاصر لا يقولها أبداً علمنا أنهم يتورعون لعلمهم وتقواهم، وأنه يجازف لجهله وقلة دينه، فوقع فيما فرَّ عنه، واتصف بما احترز منه، لفساد نيته، وسوء طويته، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :"المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور"(المجموع شرح المهذب (1/34) ) .
4 - كثرة المزاح:
لا شك أن الترويح، والدعابة اللطيفة وإذهاب الملل أمر مطلوب، وقد كان صلى الله عليه وسلم يداعب أصحابه ولا يقول إلا حقاًّ (رواه الترمذي ( 1991 ) ورواه أيضاً في الشمائل ( 202 ) وقال : حسن صحيح .) لكن المزاح حين يكثر يصبح له أثر آخر يحذرنا منه الخطيب البغدادي قائلاً:"يجب أن يتقي المزاح في مجلسه؛ فإنه يسقط الحشمة، ويقل الهيبة". وساق بإسناده إلى الأحنف بن قيس قال: قال لي عمر بن الخطاب:"يا أحنف، من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن مزح استخف به"(الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ( 2/50 ) . ) .
وقال محمد بن المنكدر: قالت لي أمي: يا بني، لا تمازح الصبيان فتهون عليهم"(الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/150) .) .
وحين يكثر المدرس من المزاح فسوف يسقط قدره وتقل هيبته ويهون على تلامذته، ناهيك عن أن من أهم ما يُنتظر من المدرس ومعلم الجيل أن يكون قدوة صالحة، وأن يسهم في غرس الجد والمثابرة لدى أبنائه، والإسفاف في المزاح وكثرة الهزل يعطيهم قدوة سيئة في ذلك.
5- استخدام الطلبة في الأمور الشخصية:
ألا ترى أنه مما لا يليق بالمدرس أن يستخدم طلابه في أموره الشخصية، ويكلفهم بها مهما هانت ؟ يجيبنا على هذا التساؤل الحافظ ابن جماعة فيقول:"وكذا ينزهه - علمه - من طمع في رفق من طلبته بمال أو خدمة أو غيرهما بسبب اشتغالهم عليه وترددهم إليه"(تذكرة السامع والمتكلم ( 19 ) .) اللهم إلا أن تكون حاجة عامة غير شخصية، وفي اشتغال المعلم بها تضييع لوقته، وهذا الطالب من خاصته فلا حرج حينئذ بل إنه يتشرف بخدمته، مادام يشعر أن ذلك ليس لشخصه فقط.
6- الوقوع في مواطن التهم:
المرء مسئول عن نفسه، وعليه أن يبعدها عن مواضع التهم كما قال ابن جماعة:"وكذلك يتجنب مواضع التهم وإن بعدت، ولا يفعل شيئاً يتضمن نقص مروءة، أو ما يستنكر ظاهراً، وإن كان جائزاً باطناً؛ فإنه يعرض نفسه للتهمة، وعرضة للوقيعة، ويوقع الناس في الظنون المكروهة، وتأثيم الوقيعة، فإن اتفق وقوع شيء من ذلك لحاجة أو نحوها، أخبر من شاهده بحكمه، وبعذره ومقصوده كيلا يأثم بسببه، أو ينفر عنه فلا ينتفع بعلمه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجلين لما رأياه يتحدث مع صفية فوليا :"على رسلكما إنها صفية" ثم قال:"إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فخفت أن يقذف في قلوبكما شيئاً(رواه البخاري (3281) ومسلم (2175).)" ا.هـ. (تذكرة السامع والمتكلم (19-20) .)
7- سرعة الانفعال ولغة التهديد:
من لوازم حسن الخلق الترفع عن سرعة الانفعال وشدة الغضب، واستبعاد لغة التهديد، ومن أسوأ الأساليب التي لا يجني منها المدرس إلا الكراهية من طلابه بل استخفافهم وسخريتهم:التهديد بما يعلم الطلاب أنه لن يفعله.
وعناية المدرس بانضباط الفصل وهدوئه ينبغي ألا تكون على حساب التربية، وعلاقته مع الطلاب.
والأغلب أن تكون هذه المواقف ردة فعل لسلوكيات ومخالفات لا ترقى لحجم هذه العقوبة والقسوة، ويمكن تجاوزها بإشارة، أو تنبيه لطيف يزيلها ويحفظ للمدرس وقاره وقدره.
8 - السخرية من الطالب واحتقاره:(/19)
قال عز وجل : [ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون] (الحجرات:11) وشدد النبي صلى الله عليه وسلم من أمر السخرية بالمسلم فقال:"بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم"(رواه مسلم (2564). ).
لقد جمع الله سبحانه وتعالى بين قلوب عباده المؤمنين بجامع الأخوة، وربط بينهم برابطة التقوى، تلك الأخوة والرابطة التي تذوب عندها كل الفواصل الأرضية والنعرات الجاهلية، ويستوي فيها الصغير والكبير، والشريف والوضيع، ومن الإخلال بهذا الأدب الذي أدبنا الله به في كتابه، ومن ارتكاب الشر الذي نهانا عنه صلى الله عليه وسلم أن نحتقر الطالب ونسخر منه، فنحرجه أمام زملائه؛ فقد يجيب إجابة، أو يسأل سؤالاً، أو يقع في خطأ ما، فهل يعني هذا أن نمرغ كل معاني الخلق الفاضل لنوجه له سخرية لاذعة؟
إن إيغار صدره على معلمه، ورده لما يسمع منه، ومشاركة سائر الطلبة له مشاعر السخط، كل ذلك نتيجة منطقية وبدهية لأسلوب السخرية الذي يمارسه بعض المعلمين.
فهلا أدبنا أنفسنا بالأدب الشرعي، ووزنا ألفاظنا قبل أن نتفوه بها؟
ويذكر أستاذنا د. محمد عبد العليم مرسي قصة تصور النتيجة التي يمكن أن يصل إليها الطالب حين يعامل بالسخرية والاحتقار فيقول:" ولا زلت أذكر حتى الآن، منذ كنت طالباً أن زميلاً لي في بداية المرحلة الثانوية، وقف ليخبر مدرس اللغة الإنجليزية أنه قد نظر في القاموس فوجد معنىً مختلفاً عما قاله الأستاذ… وكانت كارثة. لقد استلمه الأستاذ سخريةً واستهزاءً وانسحب الولد صامتاً، ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل قد صارت عادةً للمعلم المذكور كل يوم أن يدخل إلى الفصل ليبادر بالسؤال: أين صاحبنا الباحث في القاموس؟ أين قاموسنا اليوم؟ وهكذا والطلاب يضحكون من زميلهم، إما مجاملة للأستاذ، وإما عدم فهم لحالة زميلهم المسكين الذي انسحب تماماً من درس اللغة الإنجليزية"(لمعلم والمناهج وطرق التدريس . د. محمد عبد العليم مرسي (99).).
9 - غيبة الطلاب:
يدور الحديث كثيراً بين المعلمين فيما يتعلق بالطلاب، وقد يمتد هذا الحديث إلى الوقوع في أعراضهم. وتحريم الغيبة مما لا يشك فيه مسلم، قال تعالى : [ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم] .(الحجرات: 12) ويشبِّه النبي صلى الله عليه وسلم تحريم عرض المسلم بتشبيه بليغ، إذ يقول:"إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" (رواه البخاري (67) ومسلم (1679) )ويعرفها صلى الله عليه وسلم بتعريف جامع مانع بأنها:"ذكرك أخاك بما يكره"(رواه مسلم (2589)).
فالطالب أخ لك أيها المعلم، وذكرك له بما يكره من الغيبة التي هي أربى الربا:" إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق"(رواه أحمد (1354) وأبو داود (4876)) .
10- إملال الطالب:
عقد الخطيب البغدادي في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع باباً بعنوان: (كراهة إملال السامع وإضجاره بطول إملاء المحدث وإكثاره).
وقال: " ينبغي للمحدث ألا يطيل المجلس الذي يرويه، بل يجعله متوسطاً ويقتصد فيه؛ حذراً من سآمة السامع وملله، وأن يؤدي ذلك إلى فتوره عن الطلب وكسله. فقد قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد فيما بلغني عنه: من أطال الحديث وأكثر القول فقد عرَّض أصحابه للملال وسوء الاستماع. ولأن يدع من حديثه فضلة يعاد إليها أصلح من أن يَفْضُل عنه ما يلزم الطالبَ استماعُه من غير رغبة فيه ولا نشاط له" (لجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/127) .) .
وروى بإسناده أن عبيد بن عمير دخل على عائشة - رضي الله عنها- فقالت له:"ألم أحدث أنك تجلس ويجلس إليك؟ قال: بلى. قالت: فإياك وإملال الناس وتقنيطهم".
وروى عن الوليد بن مزيد البيروتي قال:"المستمع أسرع ملالاً من المتكلم"(لجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/130) .) .
ومع نهيهم عن طول المجلس الذي يؤدي لإملال الطالب، فقد دعوا لإزالة الملل عنه وإذهاب السآمة فعقد الخطيب في الجامع باباً بعنوان (ختم المجلس بالحكايات ومستحسن النوادر والإنشادات)(لجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/129) .) . وأورد فيه بعض الآثار في ذلك منها:-
ما رواه بإسناده عن علي- رضي الله عنه - أنه قال:" روِّحوا القلوب وابتغوا لها طرف الحكمة؛ فإنها تمل كما تمل الأبدان".
وروى عن الزهري أنه كان يقول لأصحابه:"هاتوا من أشعاركم، هاتوا من حديثكم؛ فإن الأذن مجَّة، والقلب حَمِض".
وروى عن كثير بن أفلح أنه قال: "آخر مجلس جالَسْنا فيه زيد بن ثابت تناشدنا فيه الشعر"(لجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ( 2/129 - 130 ) .) .
11- تعليم الطالب ما لا يدرك:(/20)
قد تبلغ الحماسة بالمعلم والحرص على تعليم طلابه إلى أن يسعى لتعليمهم ما قد يصعب عليهم فهمه، أو يكون مدعاة للتخليط واللبس.ولذا نهى السلف عن ذلك.
قال علي - رضي الله عنه -:" حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله؟"(رواه البخاري (127).).
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه- :"ما أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"(رواه مسلم في مقدمة الصحيح.).
ويرى الغزالي أن من وظيفة المعلم"أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه، فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله؛ فينفره أو يخبط عليه عقله" (إحياء علوم الدين (1/96).) .
قال الإمام النووي:"ولا يلق إليه شيئاً لم يتأهل له، لئلا يفسد عليه حاله، فلو سأله المتعلم عن ذلك لم يجبه، ويعرفه أن ذلك يضره ولاينفعه، وأنه لم يمنعه من ذلك شحًّا، بل شفقة ولطفاً"(المجموع شرح المهذب (1/30) .) .
12- انتقاد المدرسين الآخرين أو موادهم:
قد يلحظ المدرس على بعض زملائه ملحظاً، أو يكون له وجهة نظر تجاهه في سلوكه، أو أسلوبه في التدريس، أو في تعامله مع طلابه. لكن هذه الملحوظة مهما علا شأنها فلا يسوغ أن تدفع المدرس إلى التصريح بانتقاد زميله أمام الطلاب، أو الإيماء لذلك والإشارة إليه.
ومثل ذلك الحديث عن مادة معينة، وعدم صلاحيتها للتدريس، فهذا مما لا يقدم ولايؤخر، ولايفيد الطالب شيئاًً.
وهو مسلك كان ينهى عنه الأولون كما قال أبو حامد الغزالي:"إن المتكفل ببعض العلوم ينبغي ألا يقبح في نفس المتعلم العلوم التي وراءه، كمعلم اللغة إذ عادته تقبيح علم الفقه، ومعلم الفقه إذ عادته تقبيح الحديث والتفسير"(إحياء علوم الدين (1/96).) .
الفصل الرابع : المدرس والتوجيه
ينظر بعض المدرسين لمهمته نظرة قاصرة؛ فيختزلها في زاوية ضيقة تتمثل في سرد معلومات محددة على الطلاب بعد حفظه لها واستظهارها، أما ما سوى ذلك من كل ما يخص سلوك الطالب وحياته فلا يعنيه في قليل ولا كثير.
ورفض هذا الصنف لا يعني قبول الصنف الآخر الذي يبالغ في الاستطرادات على حساب المنهج الدراسي، فهو في واد ومنهجه في واد آخر، والوسط في كل الأمور سمة المسلم، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
ولقد كان سلف الأمة يشعرون أن دور المدرس لا ينتهي عند هذا الحد، أو ينحصر في هذه الزاوية الحادة التي نراها الآن، فتتتابع وصايا سلف الأمة للمعلم في أن يأخذ بأيدي تلامذته إلى الخير ويأمرهم به، وينهاهم عما يخالفه.
قال سحنون: "وينبغي للمعلم أن يأمرهم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين، ويضربهم عليها إذا كانوا بني عشر، وكذلك قال مالك. قال سحنون: ويلزمه أن يعلمهم الوضوء والصلاة؛ لأن ذلك دينهم، وعدد ركوعها وسجودها والقراءة فيها والتكبير، وكيف الجلوس والإحرام والسلام، وما يلزمهم في الصلاة، والتشهد والقنوت في الصبح… وليتعاهدهم بتعليم الدعاء ليرغبوا إلى الله، ويعرفهم عظمته وجلاله ليكبروا على ذلك، وإذا أجدب الناس واستسقى بهم الإمام، فأحب للمعلم أن يخرج بهم، من يعرف الصلاة منهم، وليبتهلوا إلى الله بالدعاء ويرغبوا إليه… وينبغي له أن يعلمهم سنن الصلاة مثل ركعتي الفجر والوتر وصلاة العيدين والاستسقاء والخسوف، حتى يعلمهم دينهم الذي تعبدهم الله به، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم … ولا يمس الصبي المصحف إلا على وضوء، وليأمرهم بذلك حتى يتعلموه. قال: وليعلمهم الصلاة على الجنائز والدعاء عليها؛ فإنه من دينهم"(آداب المعلمين لابن سحنون . مصدر سابق (122) .).
وقال الإمام النووي:"وينبغي أن يؤدب المتعلم على التدريج بالآداب السنية، والشيم المرضية، ورياضة نفسه بالآداب والدقائق الخفية، وتعوده الصيانة في جميع أموره الكامنة والجلية. فأول ذلك أن يحرضه بأقواله وأحواله المتكررات على الإخلاص والصدق وحسن النيات، ومراقبة الله تعالى في جميع اللحظات، وأن يكون دائماً على ذلك حتى الممات، ويعرفه أن بذلك تنفتح عليه أبواب المعارف، وينشرح صدره، وتتفجر من قلبه ينابيع الحكم واللطائف، ويبارك له في حاله وعلمه، ويوفق للإصابة في قوله وفعله وحكمه، ويزهِّده في الدنيا ويصرفه عن التعلق بها، والركون إليها، والاغترار بها، ويذكِّره أنها فانية، والآخرة آتية باقية، والتأهب للباقي والإعراض عن الفاني هو طريق الحازمين ودأب عباد الله الصالحين" (المجموع شرح المهذب (1/30) .) .
وقبل الحديث عن التوجيه وما يتعلق به، أودُّ التأكيد على ما سبق في المقدمة من أن التوجيه المجرد وحده لايكفي، بل لابد أن ننتقل نقلة أخرى، لنتعلم فن التوجيه، ونتقن أساليب التأثير.
والآن إليك بعض المعالم المتعلقة بالتوجيه.
1 - المنهج الدراسي :
إن وظيفة المدرس الرسمية، وعمله الأساس الذي يتقاضى عليه أجراً هو تدريس المنهج المقرر للطلاب، لذا فعليه أن يتقي الله، ويؤدي الواجب على أكمل وجه، فهو مؤتمن عليه، وأولى الناس برعاية الأمانة وحفظها هم الدعاة إلى الله، فاحرص أخي الكريم على أداء واجب المنهج مراعياً:(/21)
1 - الاستيعاب الجيد للمادة العلمية.
2 - الاجتهاد في حسن عرضها وإيصالها للطالب.
3 - أداء ما يترتب على ذلك من الواجبات النظامية.
واعلم أخي المدرس أن من أهم عوامل قبول الطلاب لمدرسهم ومحبتهم له : مدى نجاحه في إيصال المعلومات لهم، وأنت حين تعتني بذلك ليس دافعك هو كسب محبة طلابك فقط، بل قبل ذلك كله أداء الأمانة التي اؤتمنت عليها.
أليس من التناقض والمفارقات، أن يسمع الطلاب من مدرسهم التوجيه، والحث على معالي الأمور، ويرون منه الإخلال بواجبه وأمانته؟ بل سترى كثيراً منهم يفسر حرص هذا المدرس المقصر في أداء الواجب على التوجيه، أن ذلك محاولة لتعويض النقص والفشل الذي يعاني منه.
ثم إن الإعداد العلمي جانبٌ مهم في بناء شخصية الطالب، والأمة تحتاج لمن يحمل العلم الواسع، والفكر الأصيل. والمنهج الدراسي إنما وضع لتحقيق أهداف محددة؛ فعناية المدرس بهذا الجانب مساهمة في البناء العلمي للأمة من خلال إعداد أبنائها، ومساهمة في تحقيق أهداف هذه البرامج التعليمية والتربوية.
بل لماذا نفترض أن التوجيه لا يمكن من خلال المنهج الدراسي نفسه، أفلا يستطيع المدرس الناجح أن يوظف المنهج لتحقيق الأهداف التربوية والإصلاحية؟
2-لا تحتقر الكلمة:
يتصور بعض المدرسين أن نتاجه إنما هو منحصر من خلال الطلبة الذين يتعامل معهم خارج الفصل الدراسي سواء عن طريق الأنشطة الدراسية أو غيرها، وهذا مجال له أهميته، لكنه ليس المجال الوحيد؛ فالكلمة التي يقولها المعلم في الفصل لا تذهب سدى، فالمدرس قادر على توجيه أفكار الطلبة، وتصوراتهم، واهتماماتهم، ولكلماته وتوجيهاته العامة مدى قد لا يدركه ولا يتصوره.
وخارج أسوار المدرسة لابد أن يوجد من يحمل أفكار مدرسه، وينقلها للآخرين، ويتحمس لها ربما أكثر من المدرس صاحب الفكرة، وذلك إنما يتم حين يقرأ الطلبة الاقتناع والحماس لفكرتك على قسمات وجهك، قبل أن تسمعها آذانهم، وتتجاوز توجيهاتك الكلام المجرد، والحماس العاطفي إلى قناعة تسري لديك.
فلا تحتقر الكلمة أو تستهين بها؛ فكثير هم أولئك الذين كان لكلمة واحدة أثرها في توبتهم ورجوعهم إلى الله، أو توجههم للعلم وعنايتهم به، أو ضبط مسارهم، فلا تحرم نفسك هذا الخير.
3 - المدرس والبذرة الخفية:
نتصور أحياناً أن جهدنا قد ذهب سدى، وأن كلماتنا قد انتهى مداها حيث نطقنا بها. لكن هناك كلمات تبقى بذرة خفية، تؤتي ثمارها في الوقت الذي يشاء الله؛ فقد يسمع شاب مُعرضٌ كلمة ناصحة من معلمه فتقع موقعاً من قلبه، ويقصر مداها عن أن تؤثر في سلوكه، ولكن هذه البذرة لا تزال معلقة في القلب، حتى ييسر الله لها الغيث فتؤتي ثمارها بإذن الله ولو بعد حين.
ومثل ذلك فتاة تعيش أوج مراهقتها، وعنفوان صبوتها، فتسمع من مدرستها كلمة تستقر في سويداء قلبها؛ لتبقى حتى يأذن الله بسقيها واستوائها على سوقها.
إن هذه البذرة هي التي استقرت في فؤاد جبير بن مطعم- رضي الله عنه - فسمع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر يقرأ سورة الطور فقال:"وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي" (رواه البخاري (4023).) ومع ذلك لم يسلم -رضي الله عنه- إلا بعد ذلك بسنين.
4- التلقي فرع عن المحبة:
إن للعلاقة بين التلقي والمحبة من الاتصال قدراً أكبر مما قد نتصور أحياناً، فمن لم يغرس المحبة له في نفوس الطلاب فكثيرٌ مما يقوله ستكون نهايته عندما يتلفظ به، ولن يأخذ طريقه نحو القلوب، فضلاً عن أن يتحول إلى رصيد عملي.
ومهما بلغ الإنسان في التأثير وقوة المنطق ورصانة الحجة، فلن يكون أعلم، أو أفصح، أو أكثر تأثيراً من النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك قال الله سبحانه في شأنه : [ ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك] [آل عمران : 159 ]. فهو صلى الله عليه وسلم - مع ما أتاه الله سبحانه من وسائل التأثير، ومع شعور الناس أن الحق معه وحده - مأمور بأن يلين لأصحابه وإلا انفضوا عنه. فكيف بغيره ممن يحمل قائمة طويلة من صفات القصور والنقص؛ فهو حين لا يحظى بقبول تلامذته له سيرون فيه من القصور ما يدعوهم لرفضه وإهمال ما يقول؛ بل إلى تفسير نصحه وتوجيهه على غير وجهه.
لذا يؤكد المربي محمد قطب على ذلك فيقول:"والضمان لذلك هو الحب... فما لم يشعر المتلقي أن مربيه يحبه، ويحب له الخير، فلن يقبل على التلقي منه، ولو أيقن أن عنده الخير كله، بل لو أيقن أنه لن يجد الخير إلا عنده، وأي خير يمكن أن يتم بغير حب"(منهج التربية الإسلامية ( 2 /45 ) .).
5 - اقتصد في الموعظة:(/22)
يدفع الحرص أحياناً بعضاً من المعلمين إلى كثرة التوجيه، وبيان الأخطاء والسلوكيات المخالفة، ولكن الحرص وحده ليس معيار إصابة الحق، ألا ترى أن هذا السلوك يدعو إلى إملال الطلاب وسأمهم؟ مما يفقد الموعظة الهدف المراد منها. إن صلتك بطلابك ولقاءك بهم يمتد على مدى عام كامل، وليست درساً عابراً أو لقاءً عاجلاً حتى تقذف لهم بكل ما عندك، وقبل ذلك كله فهذا مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاقتصاد في الموعظة كما روى ذلك ابن مسعود- رضي الله عنه -:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا"(رواه البخاري (68)، ومسلم (2821) .). وبوب عليه البخاري: باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا .
وقد أخذ ابن عباس- رضي الله عنهما - بهذا الأدب فيوجه عكرمة قائلاً:"حدث الناس كل جمعة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرات، ولا تمل الناس هذا القرآن"(رواه البخاري (6337) .).
6 - حدث الناس بما يعرفون:
إن واقع الطلبة اليوم يحتاج إلى التنزل معهم كثيراً، وإلى الواقعية وخطابهم بما يطيقون، فالحديث عن دقائق الورع، أو عن المسائل الدقيقة في الزهد قد لا يتناسب مع مستويات الشباب الذين يعانون من فتن الشهوات، ومن لأواء الغفلة والبعد عن الله، أو مع الفتيات اللاتي يعشن أزمة العاطفة، وربما التطلع للصداقة المحرمة، إنهم يحتاجون إلى أن تحدثهم عن أضرار المعاصي، وعن الخوف من الله عز وجل ومراقبته، والمحافظة على الصلاة مع الجماعة... إلى غير ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله:"العارف لا يأمر الناس بترك الدنيا فإنهم لا يقدرون على تركها، ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على دنياهم، فترك الدنيا فضيلة، وترك الذنوب فريضة، فكيف يُؤمر بالفضيلة من لم يقم الفريضة؟ فإن صعب عليهم ترك الذنوب فاجتهد أن تحبب الله إليهم بذكر آلائه وإنعامه وإحسانه، وصفات كماله، ونعوت جلاله، فإن القلوب مفطورة على محبته، فإذا تعلقت بحبه هان عليها ترك الذنوب والإصرار عليها، والاستقلال منها"(الفوائد (231). ).
وحين نؤكد على التوازن والواقعية في الطرح فإننا لا نعني تلك الواقعية المغرقة التي تؤدي إلى تمييع المنهج، والرضا بالأمر الواقع والاستسلام له.
7 - تنويع أساليب الخطاب والموعظة:
كنت أتحدث مع طلابي يوماً عن الأمراض الجنسية ونتائجها الوخيمة، فرأيت أثر ذلك عليهم، وقرأت في وجوههم المتابعة والتفاعل مع ما طرحته والذي لم يتجاوز سبع دقائق، فتذكرت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حين جاءه الشاب يستأذنه بالزنا فلم يذكِّره بالقبر والقيامة، إنما قال له: "أترضاه لأمك ؟ أترضاه لعمتك ؟…" ( رواه أحمد (21708) ) فتنويع أساليب التربية والتذكير:بالحديث عن البرزخ والقيامة تارة، وعن نتائج المعصية في الدنيا تارة، وعن آثارها الاجتماعية تارة أخرى… وهكذا؛ هذا التنويع خيرٌ وأجدى من الجمود على أسلوبٍ واحدٍ، ولغة واحدة، وهو قبل ذلك هدي النبي صلى الله عليه وسلم .
8 - التربية من خلال الأحداث:
حين نقرأ القرآن الكريم نجد أنه بعد حادثة الإفك وفي التعليق عليها ربَّى المؤمنين على منهج التثبت، وحماية الأعراض، وحسن الظن بالمؤمنين.
وبعد غزوة أحد نقرأ في سورة آل عمران التعقيب على هذه الغزوة ودروسها فنرى في ذلك بيان سنن الله في النصر والهزيمة، والموقف من المنافقين، والتنازع، وظن السوء، والتطلع للدنيا.... إلى غير ذلك من المعاني.
وأما السنة النبوية فهي مليئة بذلك، وغنية عن التمثيل، فأنت تقرأ مراراً في نصوص السنة:"فخطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس"، وذلك بعد حدث أو مقالة قيلت.
ألا تفهم أخي المدرس من ذلك أن التربية من خلال الأحداث سنة شرعية؟ فحين يحصل زلزال أو كارثة نقول لطلابنا : إن هذا من سنن الله في عقوبة أهل المعاصي، وإن سرنا في طريقهم تحق علينا نفس السنة، وحين يصلي الناس الاستسقاء يحسن أن نقول لأبنائنا ولو بإشارة عابرة: إن هذا القحط من شؤم المعصية، وحين تحصل مجاعة أو مصيبة للمسلمين نحدثهم عن الولاء بين المؤمنين ونصرتهم، وحين يسري لدى الناس إشاعة كاذبة فلنتحدث عن التثبت والتبين في الأخبار، وهكذا ينبغي أن نستغل الأحداث القريبة والبعيدة لتقرير المعاني الشرعية، والحقائق التربوية.
9- هل جربت النصيحة الخاصة؟
بعض المدرسين يمارس التوجيه العام لطلبته بصورة أو أخرى، ولكن حين يدرك خطأ فردياً على طالب من الطلاب، فهل جرب أن يحدثه بصورة فردية ؟
كم هم الطلاب الذين يتغير مسارهم -خاصة في مرحلة المراهقة- فماذا لو كان هذا الطالب يتلقى كلمة شخصية خاصة من أكثر من مدرس وآخر؟
كثيرٌ هم الشباب الذين يقعون في صحبة أصحاب السوء فيقلبون حياتهم رأساً على عقب، فلم لا نحذره - حين تبدو بوادر تلك الظاهرة- بكلمة لا يسمعها غيره؟(/23)
أي شعور يختلج في نفس هذا الطالب الذي يتمتع بعاطفة جياشة، حين يأخذه أستاذه بحديث شخصي، يلمس من خلاله الشفقة والنصح؟ ألن يدرك أنه أستاذ صادق، يحب له الخير والصلاح ؟ وهب أنه أخذ الأمر باللامبالاة فهل سينسى هذا الموقف أم أنه سيستجيش في نفسه بين آونة وأخرى؟
إن الطالب قد يجد تفسيراً غير صادق لحديث عام يسمعه من أستاذه داخل الفصل، فهو إما استطراد، أو للاستهلاك - كما يقال - أو لأن الوقت بقي فيه بقية فرأى المدرس ملأه بهذا الحديث، أما الحديث الشخصي المباشر فلن يجد له في الأغلب تفسيراً إلا محض النصيحة والتوجيه.
والحديث العام أيضاً قد يطمره النسيان، ويعفو أثره على مرِّ السنين، أما الحديث الخاص فسيبقى صورة منقوشة في الذاكرة تستعصي على النسيان.
هذه جوانب ثلاثة تمتاز بها النصيحة الشخصية وقبل ذلك هي هدي شرعي نبوي فقد قال صلى الله عليه وسلم :"الدين النصيحة"(رواه مسلم ( 55 ) وبوب البخاري : باب قول النبي صلى الله عليه وسلم :(الدين النصيحة .... ). ولم يخرجه.) ويصل الأمر بالنصيحة إلى قدر من الأهمية يجعله صلى الله عليه وسلم يبايع عليها، فها هو جرير بن عبد الله البجلي- رضي الله عنه - يقول:"بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم"(رواه البخاري (57) ومسلم (56) .) والطالب من عموم المسلمين شأنه شأنهم، ولا يخرجه كونه طالباً من استحقاقه للنصيحة والنصرة كما قال صلى الله عليه وسلم :"انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً (رواه البخاري ( 2443 ) وفسر النصرة في الحديث للظالم : بمنعه من الظلم وهو الشاهد هنا . ويلحظ هنا أن). بل إن المسؤولية تجاهه آكد، والأمانة أعظم .
الفصل الخامس : معوقات التوجيه
إن ما ذكرنا سابقاً حول دور المدرس في التوجيه، وقدرته على التأثير على تلامذته، لا يعني أن يكون المدرس هو وحده في الميدان، وكلمته هي الأولى والأخيرة. فهو لا يعدو أن يكون واحداً من العوامل المؤثرة في شخصية الطالب.
وفي كثير من مجتمعات المسلمين اليوم يشعر المدرس وكل من يحمل أمانة التوجيه أنه يواجه تياراً جارفاً، وأنه يسير باتجاه يعاكس كافة وسائل التوجيه والتربية في المجتمع.
فقد يتلقى المدرسُ التلميذَ وفق تربية شاذة مخالفة للمنهج التربوي السليم،. وبعد ذلك فالأسرة، والصحبة، والنادي، ووسائل الإعلام تهدم في لحظات ما يبنيه المدرس في شهور.
والمقارنة هنا ليست في جانب متكافئ، فهذه الوسائل مع كثرتها وتوافرها تملك من الإثارة والإغراء والجاذبية، وربما المصداقية لدى التلميذ أكبر بكثير مما يملكه المدرس.
لذا فالمدرس مع افتقاره للتعرف على وسائل التوجيه وأساليبه مفتقر إلى معرفة المعوقات والعقبات وإدراكها.
وفيما يلي محاولة للحديث عن أهم هذه المعوقات وبعض المقترحات للمدرس كي يتجاوزها:
أ - معوقات من داخل المدرس
وهي تلك المعوقات التي تعود إلى شخصية المدرس نفسه، أو أسلوبه في التدريس، أو معاملته مع الطلاب، فتحُوْل هذه المعوقات عن بلوغ كلمة المدرس مداها المطلوب، ووصولها إلى تحقيق الهدف الذي يسعى إليه، ومن أهم هذه المعوقات :
المعوق الأول: الفهم الخاطئ لقوة الشخصية:
حين يفهم المدرس قوة الشخصية فهماً خاطئاً، فيسيطر عليه هذا الهاجس، فسيؤثر هذا الفهم على أدائه الدور المراد منه والمنتظر.
إذ يَعدُّ بعض المدرسين قوة الشخصية المحور الأساس لنجاحه، والهدف الرئيس الذي يسعى المدرس المستجد إلى تحقيقه في عالم الواقع. فهو الهدف الأول والأساس، وعلى ضوئه يتحدد مستقبله في التعليم.
وتتوالى النصائح على المدرس في وسائل تحقيق هذا الهدف ومعوقاته، ويكثر صاحبنا استشارة من سبقه، واستثارة التجارب، واستعادة الصور السابقة من حياته الدراسية، وذكرياته مع من سبق أن درَّسه عله أن يستمد منها رصيداً يضيء له الطريق!.
ومع تقديرنا لأهمية تحقق هذه الصفة لدى المدرس، ودورها في تقبل تلامذته له، إلا أن النظرة إليها عند الأغلب أعطتها بعداً أكثر غلواً ومبالغة؛ مما أسهم في انعكاسات سيئة على نفسية المدرس وأدائه، ومن الانعكاسات السلبية لهذه النظرة:
1- أن هاجس خوف الفشل، وضياع الشخصية أمام الطلاب يعدُّ أكبر هاجس يواجه المدرس المستجد؛ مما يسهم في رفع قيمة هذا الهدف لديه، وزيادة رقعة المساحة المخصصة له من بين الاهتمامات والأهداف الأخرى، وهذا يعني بالضرورة سيطرته على سائر الأهداف وضمورها، فهدف التوجيه والتربية لن يأخذ مكانه الطبيعي لدى هذا المدرس، ذلك أن حماسته قد فُرِّغت، وجهده قد جمع لتحقيق هدف ضبط الفصل.
وحتى حين توجد الأهداف الأخرى، فسيبقى هذا الهدف حاكماً عليها، وموجهاً لها؛ فهدف التربية والتوجيه مرهونٌ عند هذا المدرس بما لا يخدش شخصيته، والرفع من المستوى العلمي لطلابه مشترط بألا يتسبب في خدش هذه الشخصية.(/24)
2- يسهم هذا الهاجس في إيجاد حالة من التوتر، وشد الأعصاب لدى المدرس، فيدخل الفصل بنفسية مشدودة، تسيطر عليه مشاعر الرجاء والخوف. فهو يتمنى أن ينتهي الدرس بسلام، ويتنفس الصعداء حين يسمع قرع الجرس، ويحرص على ملء الدرس بالحديث حتى لا يترك فرصة للطالب ليعبث ويحطم هذه الشخصية المتوهمة! حينها يتحول الفصل الدراسي لدى المدرس من مجلس للتعليم والتربية إلى ساحة معركة ينبغي أن يتغدى فيها الأستاذ بالطالب قبل أن يتعشى به.
أي تربية وتوجيه، وأي إنجاز ينتظر بالله عليك ممن يدخل الفصل بهذه النفسية المشدودة؟
3-ينعكس أثر هذا الهاجس لدى المدرس على سلوكه داخل الفصل، فيسهم في خلق جو معين، وفرض مواقف لم يأخذ في حسبانها إلا تحقيق هذا الهدف، والوصول لهذه النتيجة.
فالحواجز التي يفتعلها المدرس بينه وبين تلامذته، فتصبح علاقته معهم علاقة رسمية جافة، فلا يمكن أن يجد تلميذه ابتسامة، أو يسمع كلمة حانية، ومنطق الاستبداد بالرأي، ورفض الحوار والمراجعة والتنازل عن الآراء، والقسوة والغلظة، والتي يعلن البعض فيها مقاطعته لكل ما يمت للرحمة والرفق بصلة، فيحول الفصل إلى ثكنة عسكرية، أما التجاوز عن الخطأ، والعفو عن الزلة فهي من مظاهر الضعف والخور، ومن مسببات انهيار الشخصية.
كل هذه المظاهر وغيرها، إنما هي نتائج مباشرة لهذه النظرة المفرطة لقوة الشخصية. إن هذه الصور ليست حكايات من نسج الخيال، أو محاولة قصصية، بل هي واقع رأيناه ولمسناه ونحن في ميدان الطلب والتدريس، ولئن كان هذا الهاجس يبلغ ذروته عند المدرس المستجد، فهو يبدأ بعد ذلك يتناقص. لكنه لا يصل عند كثير منهم إلى حد الاعتدال، ويبدو ذلك من خلال المناقشة مع أمثال أولئك حين تطالبهم بالإسهام في التوجيه، أو بناء علاقة حسنة مع الطلاب، حين تفتح مثل هذا النقاش يبدي البعض لك هذه الحجة وهذا التخوف من الانهيار المزعوم للشخصية، ويظل يسهم مساهمة فعالة في حجب كثير من الأدوار التربوية.
ونحن إذ نرفض تحول قوة الشخصية إلى هاجس يسيطر على نفسية المدرس، وهمٍّ يقيمه ويقعده، فليس البديل الذي نطرحه هو ضياع شخصيته، وإفلات الزمام من يده؛ ليصبح في حال يلعب به الصبيان.
وحين يفلت الأمر من يد المدرس، فيصبح ألعوبة في يد الطلاب، فيتعالى صراخهم، ويزيد عبثهم، ويفقد سيطرته عليهم، فإنه يصبح في وضع لا يحسد عليه، ولا يمكن أن يلقي درسه بهدوء، أو يترك أثره على تلامذته.
ولا يسوغ أن يكون التطرف بديلاً لتطرف آخر.
ونقطة اختلافنا مع إخوتنا الأفاضل ليست في مبدأ قوة الشخصية، إنما في الفهم المتطرف لها، وفي وسائل تحقيقها.
إن المدرس المتمكن علمياً من مادته، الوقور في سلوكه وسمته، الحليم الذي لا يخرجه حلمه عن حزمه، إن من هذه صفته لن يستخف به طلابه لتنازل عن رأي، أو احترام لأشخاصهم، أو تجاوز عن خطأ، أو ابتسامة هادئة.
وهو في الوقت نفسه يدخل الفصل ويخرج مطمئن البال، مستقر السريرة، ويؤدي دوره في التوجيه والتربية من خلال حاله قبل مقاله.
ولعل أبرز معيار لقوة شخصية المدرس هو قدرته على اتخاذ القرار الذي يريد، وسيطرته على نظام الفصل، أما اختفاء الأنفاس، وسيطرة السكون والرهبة فهو أمر يليق بالعسكر والجلادين أكثر منه بالأساتذة المصلحين.
المعوق الثاني : الفهم القاصر لدور المدرس:
يرى بعض من المدرسين والمدرسات أن الدور المنوط به، والواجب الأساس الذي سيحاسب عليه هو أداء المنهج الدراسي والواجبات الرسمية، وقد يشعر بعض هؤلاء بثقل الأمانة والمسؤولية حين يخطئ في درجة واحدة للطالب قد لا يترتب عليها أثر يذكر، أو حين يترك صفحة من الكتاب المقرر، أو ربما حين يهمل الإعداد التحريري للدرس.
لكن إهماله لتوجيه الطلاب ونصحهم، وعدم مبالاته بما يراه أمامه من تقصير وسلوك شاذ،واعتقاده أن ذلك كله خارج دائرة مسؤوليته، أو هو نافلة والثاني فريضة - وهو فهم يسيطر على بعض المدرسين والمدرسات، وبعضهم للأسف من الصالحين- إن ذلك كله فهم قاصر للمسؤولية والأمانة .
إن أداء الواجب الرسمي مطلب من المدرس لابد أن يحاسب نفسه تجاهه، لكن ذلك ليس نهاية المطاف، وماذا تصنع الأمة بأجيال غاية إنجازهم إجادة القراءة والكتابة، واستظهار وسرد معلومات حفظوها ودرسوها؟
إن الدعوة إلى الله واجبة على المسلمين ابتداءً، وهي بحق طالب العلم آكد، وبحق من يقابلهم صباح مساء تصبح فرض عين يأثم بتركه والتقصير فيه.
وإنه لجزء من أمراض الأمة التي أوغلت في المظاهر على حساب المضمون أن يتصور المدرس أنه مسؤول عن إجراءات إدارية لا تقدم ولا تؤخر، أما ما سوى ذلك من البناء العلمي، والتربية والتوجيه فهو ضمن دائرة النوافل، ولئن قبلنا ممن يعيش العمل الإداري البحت، أو من بعض العامة من الناس أن يوغل في المظاهر على حساب المضمون، فإنه لا يمكن أن يحتمل بحال من المدرس والمربي ومعلم الأجيال.
المعوق الثالث: الحواجز المصطنعة:(/25)
يحيط بعض المدرسين نفسه بسياج وهمي وحاجز مصطنع، يمنعه من التعامل والتأثير على فئة وقطاع عريض من الطلبة، فأحيانا يتصور أن تأثيره وجهده لا يجاوز الطلبة المشاركين معه في الجمعية المدرسية، أو فئة خاصة من الطلبة (أهل الاستقامة والصلاح) ولو كان الأمر يقف عند مجرد نظرته لهان، لكن هذه النظرة تولد سلوكاً يشكل عائقاً له عن التأثير والتوجيه، ثم يتحول الأمر إلى شعور متبادل فيشعر الطلبة أنهم معزولون عن هذا المدرس أو ذاك، ويتحدث المدرس في فصله أمام ثلاثين طالباً وهو يشعر أنه لا يخاطب إلا الفئة الجادة، فيحرم الغالبية من توجيهه.
وكم نخسر معشر المدرسين حين نفرض على أنفسنا هذه الحواجز، فبدلاً من مئات الطلاب يخاطب الأستاذ العشرات، فهلا فكرنا تفكيراً جاداً وسعينا لتحطيم هذه الحواجز، ليتسع مدى المخاطبين بهذه الدعوة؟
وحين نلقي نظرة سريعة على مدارسنا المتوسطة والثانوية - وبخاصة في المدن- نرى أنه لا تكاد تخلو مدرسة من عدد من المدرسين والمدرسات الأخيار الذين يحملون هذه الدعوة، فدون احتقار لجهدهم، ومن غير إقلال من شأنهم، نتساءل:ماذا حقق إخواننا الأخيار؟ خاصة مع عامة الطلاب والطالبات الذين هم القاعدة والسواد الأعظم، والذين لن يخلو أحدهم من أن يكون قد تتلمذ على واحد من هؤلاء، فماذا سمع منه؟ وماذا قدم له؟ مرة أخرى لست أحتقر جهود العاملين، ولا أقلل أعمال المخلصين، لكنها دعوة جادة للمصارحة والواقعية مع أنفسنا.
فلنحطم هذه الحواجز الوهمية، ولنتوسع في خطابنا ليشمل السواد الأعظم من الطلاب، مع الاستمرار في الجهود الأخرى فهي أيضاً لا ينبغي أن يقلل من شأنها.
المعوق الرابع: النظرة المتشائمة:
لا جدال أن واقع الشباب اليوم لا يسر مسلماً، وأن شقة الانحراف قد اتسعت لتشمل رقعة واسعة من خارطة حياة الشباب المعاصرة، ولا جدال أن المسافة بين واقع الشباب اليوم وبين ما يجب أن يكون عليه ليست قريبة بحال.
ولكن أيعني ذلك أن الخير قد أفل نجمه؟ وأن الشر قد استبد بالناس؟ أليست هناك صفحات أخرى من حياة أولئك المعرضين غير هذه الصفحات الكالحات؟ ألم يقل صلى الله عليه وسلم : "إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم"(رواه مسلم (2623) . ) ؟
فلنسع في قراءة بعض الصفحات الخيرة والتي قد نجهلها أحياناً ونتغاضى عنها، أو نقلل منها، وأحياناً نتجاهلها عمداً.
فكثيٌر من الشباب يعود للجادة، ويستقيم أمره فيسير في قوافل التائبين.
وكثيرٌ منهم مع ما فيه من فساد وانحراف يتطلع إلى تلك الساعة التي يودع فيها هذه الحالة، ويسلك طريق أهل الخير والصلاح.
وقد قمت بإجراء دراسة على فئة من الشباب من غير أهل الصلاح والاستقامة فأجاب 93% من طلاب المرحلة الثانوية، و92% من طلاب المرحلة المتوسطة أنهم سبق أن فكروا في الالتزام. وأجاب 32% من الجميع أنهم فكروا تفكيراً جاداً في الالتزام.
وأفاد 46% من طلاب المرحلة الثانوية، و37% من طلاب المرحلة المتوسطة أنهم يرغبون رغبة أكيدة في تغيير واقعهم، أما الذين ليس لديهم رغبة في تغيير واقعهم فهم 3% فقط من طلاب المرحلة الثانوية، و7% فقط من طلاب المرحلة المتوسطة.
والغالب من هؤلاء الشباب - مع ما فيه من فساد وإعراض - أنه غير راضٍ عن واقعه الذي هو عليه الآن وقد أفاد 6% من طلاب المرحلة الثانوية، و14% من طلاب المرحلة المتوسطة أنهم راضون عن واقعهم أي أن 94%من طلاب المرحلة الثانوية، و86% من طلاب المرحلة المتوسطة يملك قدراً من عدم الرضا عن واقعه. أليس عدم الرضا هذا بداية خير، وبذرة يمكن أن تستثمر؟ (بحث عوائق الاستقامة لدى الشباب للكاتب . لم ينشر . ).
وأخيراً فهؤلاء مع ما فيهم من انحراف وفساد فهم يملكون جوانب خير، وفطرة سليمة، فليس بين صفوفهم من يتبنى نحلة أرضية أو ملة إلحادية، ولم يكن منهم من يرفض الدين جملة وتفصيلاً، وغالب ما لديهم من انحراف وخلل إنما هو في جوانب سلوكية.
وأنا حين أقول هذا لست أدافع عن هؤلاء الشباب، ولا أقلل من شأن ما هم فيه من فساد، ولكني أقول : إن هذه جوانب خير لا يجوز أن تغفل، ويجب أن نضعها في الحسبان، لتكون دافعاً لنا لمزيد من الجهد والبذل.
المعوق الخامس: التركيز على النقد:
هناك ظواهر سلبية منشرة بكثرة بين صفوف الطلاب والطالبات، وأمور لا يسع المؤمن السكوت عليها، ولابد للمدرس والمدرسة أن يشارك في إزالتها، ويتحمل مسؤوليته في ذلك، ولكن حين لا يسمع الطلاب منه إلا النقد اللاذع، والحديث عن الأخطاء والمساوئ، فإما أن يشعروا بأنه صاحب نظرة موغلة في التشاؤم فلا يسمعوا منه بعد ذلك، أو أن يتجاوبوا مع ما يطرحه فيشعرون أنهم قد غرقوا في الأخطاء والمساوئ ولن يتخلصوا منها، فيصيبهم اليأس والإحباط.(/26)
فبدلاً من أن أقول للطلبة: أنتم تتهاونون في المعاصي، وتقعون في الصغيرة والكبيرة، ولا ترعون حرمات الله، ولا تخافون منه، لو حدثتهم بدل ذلك عن شؤم المعصية ونتائجها الوخيمة دون أن أشير إليهم من قريب ولا بعيد، أفلا يفهم العاقل منهم أن هذا ينطبق عليه؟ أولا يتحقق المقصود من ذلك؟
وبدلاً من أن أحدثهم عن التهاون في النظر الحرام وتهافتهم عليه، لو حدثتهم عن فوائد غض البصر، وعن النتائج الوخيمة التي تترتب على إطلاقه أفلا أدرك المراد؟
وحين أراهم يقصرون في الصلاة، ويتهاونون بأمرها. ألا يمكن أن أتحدث معهم عن شأن الصلاة وعظمها، وأنها أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله؟
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد رأى رجلين يستبَّان فغضب أحدهما، فلم يوجه له صلى الله عليه وسلم الحديث إنما قال يخاطب أصحابه:"إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد"(رواه البخاري (3282)ومسلم ( 2610) .).
وأنا لا أدعو بذلك المدرسين إلى ألا يقولوا لطلابهم إن هذا خطأ، فقد يستوجب الأمر الحديث الصريح المباشر، ولا أدعوهم إلى أن يدافعوا عن أخطاء الطلبة، لكن هذا شيء، واستمراء النقد وسيطرة لغته شي آخر.
إن سيطرة لغة النقد على حديث المدرس قد تعود عليه هو بأثر سلبي، فيصبح دون شعور ينظر من هذه الزاوية، وتسهم هذه النظرة السلبية لواقع طلابه في حجب الرؤية الواضحة لما يمكن أن يحققه أو يصل إليه، ثم يعود في النهاية محبطاً مبدد الآمال.
المعوق السادس : كثرة التكاليف:
يشكو بعض المدرسين من كثرة التكاليف المدرسية والواجبات الإدارية المتعلقة بالمدرس، بدءاً بعدد الحصص الأسبوعية، إضافة إلى ما يتبعها من واجبات منزلية وتحضير وإعداد، وقد يكون لدى المدرس مهام وتكاليف إدارية وإشرافية أخرى.
إضافة إلى طول المنهج الدراسي وقصر الوقت المخصص للمادة مما يجعل المدرسين والمدرسات يشعرون أنهم بحاجة لمزيد من الوقت لإكمال المقرر، فكيف يجدون الوقت الفائض الذي يسمح لهم بأداء الدور التوجيهي التربوي؟
هذه العقبات من وجهة نظر هؤلاء تبقى عائقاً وحاجزاً دون أداء المدرس الدور المنوط به، فهي تستهلك وقته، وتستنفذ طاقته حتى لا يجد الوقت الكافي للتفكير والمراجعة.
ويمكن أن نسجل على ذلك الملحوظات الآتية:-
أولاً: لاشك أن المدرس يتحمل أعباء كثيرة تؤثر على عطائه وأدائه التعليمي التربوي، وأنه حين ينتظر منه نتاج أفضل فلا بد من تخفيف الأعباء.
ولئن قبلنا القول بأن زيادة النصاب من الحصص لها ما يبررها من تزايد أعداد الطلبة والطالبات ونقص الفرص الوظيفية، إلا أن الكثير من الأعباء الإدارية ليس لها تفسير سوى الإغراق في الشكليات الذي ابتليت به الأمة على حساب المضمون.
ثانياً: ومع هذا الوضع فإن صاحب الهدف الجاد الذي يسري في أعماقه وروحه، والذي يشعر أن تحقيق الدور التربوي هدف أساس وليس قضية هامشية أو نافلة من النوافل؛ إن الذي يحمل هذا الشعور يملك الاستعداد التام لتحمل الواقع والتعامل معه.
وأحسب أن هناك ارتباطاً وثيقَ الصلةِ بين مستوى الجدية في الهدف والحماس له والتشكي من كثرة التكاليف، ولا نزال نرى عدداً من المدرسين والمدرسات الأفاضل الذين لا ينكر جهدهم، ولا يجهل أثرهم، نراهم استطاعوا تحقيق هذا القدر من النجاح بالرغم من كثرة أعبائهم.
ثالثاً: لا نزال نرى أصحاب الأهداف الدنيوية والتطلعات الخاصة يتحملون في سبيلها اللأواء؛ فيصبر أحدهم على جفاء رئيسه في العمل، ويتحمل من الأعمال أكثر من غيره، ويتظاهر بقدر من الارتياح والإخلاص أكثر مما في داخله؛ يعمل كل ذلك من أجل تحقيق هدف عاجل، وأحسب أن الهدف التربوي والإصلاحي لدى إخواننا وأخواتنا أسمى وأعلى من ذلك كله، فهم أولى بالتحمل والبذل.
رابعاً: الدور الذي نطالب المدرس بتحقيقه معظمه يتم من خلال وجوده في الفصل الدراسي الذي لابد له منه، فهو سيدخل الفصل لا محالة، وسيخاطب تلامذته ولابد، فمعظم هذه الأدوار لن تتم بتحمل مزيد من العبء بل بإحسان النية، وصدق الكلمة، واختيار ما يقول.
خامساً: من يتأمل السنن الكونية يرى أن من يسعى للتغيير في المجتمعات - أيًّا كان هذا التغيير- لابد أن يدفع الثمن الباهظ لذلك، ويبذل الجهد الهائل، فكيف بأصحاب الدعوات؟ وسير الأنبياء والمصلحين على مدى تاريخ البشرية خير شاهد على هذا المعنى. قال تعالى : [حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء..] ويحكي صلى الله عليه وسلم صورة من معاناة الأنبياء قبله فيقول ابن مسعود- رضي الله عنه - :كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" (رواه البخاري (3477) ومسلم (1792).) .
ب - معوقات خارجية
المعوق الأول :التربية الأسرية الخاطئة:(/27)
ويمكن أن نصور الصعوبات التي تواجه دور المدرس والمرتبطة بالتربية الأسرية الخاطئة فيما يلي:-
1- الأسرة هي الدائرة الأولى من دوائر التنشئة الاجتماعية، وهي المسؤولة بشكل أساس عن صياغة عقلية التلميذ ومعاييره وخلفيته الإدراكية؛ فتتلقى الطفل صحيفة بيضاء تخط فيها ما تشاء.
وقد تكون هذه التنشئة خاطئة، وغير متسقة مع التربية الإسلامية الصحيحة.
2- لا يقف دور الأسرة عند مجرد توجيهات تعارض ما يطرحه المدرس، أو آراء تخالف آراءه؛ بل هي تنشىء التلميذ وفق معايير معينة تتحول إلى جزء من تفكيره، وتسهم في تشكيل وصياغة معايير يحكم من خلالها على ما يطرح عليه.
ماذا يصنع المدرس بتلميذ نشأ بعيداً عن الأجواء الشرعية المنضبطة، وصار يستنكف العبادات الشرعية، ويرى فيها صورة من التطرف والشذوذ، ويعتبر أن مطالبته بالانضباط الشرعي إنما هي ضمن دائرة التطرف والغلو. فهو هاهنا يقيِّم ما يسمعه من أستاذه في ضوء هذه الخلفية.
3- نظرة التلميذ لأستاذه ابتداءً تتحكم فيها تربيته الأسرية، فمن خلال التربية الأسرية ترتسم في ذهنه صورة محددة للشخصية السوية وصورة للشخصية الأخرى. ويسعى لتطبيق هذه المواصفات على شخصية أستاذه، فحين لا تتفق شخصية أستاذه مع الشخصية السوية لديه تشكل هذه النظرة حاجزاً وعائقاً أمام أي محاولة للتوجيه والبناء.
فهو قد ينشأ في جو يحتقر الشخص المتدين، وينظر إليه نظرة شاذة، أو يعتبر التدين غلواً وتطرفاً، فحين يرى أستاذه كذلك فهو سيدرجه ضمن هذه القائمة مما ينعكس بالضرورة على مدى تقبله لما يطرحه عليه من توجيه.
4- قد تسهم الأسرة في نقض كلام المدرس وتقويمه، فتنقض ما أحكمه، وتهدم ما بناه، وما أكثر ما يقول الأب أو الأم: كلام أستاذك غير صحيح، وغير مقبول.
وقد يستطيع الأستاذ أن يقطع خطوات في تربية التلميذ وتوجيهه لكنه جهد"غير مضمون الثمرة؛ لأن تأثير البيت المعاكس يظل دائماً عرضة لإفساد ما تحاوله المدرسة"(منهج التربية الإسلامية لمحمد قطب ج2 ص 101) .
5- قد يسهم الجو العام للمنزل في التأثير اللاشعوري على التلميذ وتطبيعه بما يتناقض مع توجيه أستاذه.
فالتلميذ الذي ينشأ في بيتٍ يهمل العناية بالصلاة، ولا يستيقظ أحد منه لصلاة الفجر سيكون كذلك، وقد لا يأخذ توجيه أستاذه بالاستيقاظ للصلاة مأخذ الجد.
والآخر الذي اعتاد في المنزل أن يرى الصورة الفاتنة على الشاشة، قد لا يتقبل بالضرورة نصح أستاذه المتكرر بغض البصر وحفظه، وحين يتفاعل مع توجيه أستاذه، ويعزم على ترجمة القول إلى عمل، يعود للمنزل وقد هبطت حماسته وفي الوقت نفسه انتصر داعي الشهوة، ولم يطق مجاهدة نفسه والكف عما يراه أمام عينيه.
المعوق الثاني: وسائل الإعلام:
لقد شهد العصر الحاضر ثورة هائلة في مجال تقنية الاتصالات، وتفتق العقل البشري- بما منحه الله من قدرة- عن وسائل تخاطب الفرد والمجتمع بكافة حواسه من خلال الصحيفة المقروءة، والإذاعة المسموعة والمرئية.
وتسهم هذه الوسائل في التأثير على تربية التلميذ فـ"الأفلام الساقطة والبرامج الهدامة التي تعرض على الجماهير عبر وسائل الإعلام لها دور كبير في هدم جوانب شخصية الطفل بشكل عام، وهذا النوع من الأفلام والبرامج هو الذي يحتل محل الصدارة في الإعلام العربي"(المؤثرات السلبية في تربية الطفل المسلم وطرق علاجها . لعائشة جلال (292).).
" ويكاد يجمع المهتمون بهذا الجانب التربوي على أن مظاهر الحب والغرام، والعشق بين الجنسين هي المحور الرئيسي، والقاعدة الأساسية التي تدور عليها أحداث المسلسلات، والمسرحيات التمثيلية التي يعرضها التلفزيون، إلى جانب الدعاية السيئة المعتمدة على إظهار مفاتن المرأة ومحاسنها"(مسؤلية الأب المسلم في تربية الولد في مرحلة الطفولة . عدنان باحارث (484-485)) .
والمجلة الساقطة هي الأخرى تسهم في وأد الفضيلة والحياء من خلال التسابق على نشر الصور الفاتنة، والمظاهر المغرية، واعتبار الحب والعلاقة المحرمة وسيلة شرعية وسلوكاً لا يرفضه إلا الشاذون، والأغلب الأعم مما يعرض أمام التلميذ هو من هذا النوع.
وتمتاز هذه الوسائل عن سائر المؤثرات بما يلي:
1- مخاطبتها لأكثر من حاسة لدى التلميذ، ففي الوقت الذي يرى الأستاذ يتحدث أمامه في الفصل حديثاً متواصلاً، لا يخاطب سوى حاسة السمع وحدها، وربما كان حديثاً علمياً جافاً، يرى من خلال الشاشة من يحدثه حديثاً مصحوباً بالصورة، والمشهد المثير لانتباهه، والذي صيغ بطريقة تأسر لبَّه، وقل مثل ذلك في الصحيفة أو المجلة التي تحمل الصور الملونة، يقرأها وهو مضطجع على فراشه في غرفته المكيفة.
2- يتعامل التلميذ مع هذه الوسائل بنفسية تختلف كليًّا عن تلك التي يتعامل فيها مع توجيه أستاذه. فهو يتعامل معها بعقلية المتلقي والمقبل عليها، أما أستاذه فربما كان زائراً ثقيلاً في الفصل يتمنى أن يسكته قرع الجرس.(/28)
3- تطرح هذه الوسائل على التلميذ طرحاً يلبي داعي شهوته، ويتسق مع هواه، في حين يستهدف توجيه أستاذه إخراجه من أسر هواه وشهوته.
4- تمثل الاختبارات وأعمال السنة والواجبات المدرسية ومطالبة الأستاذ بالانضباط داخل الفصل عاملاً هامًّا يقلل من دور الأستاذ التوجيهي - في نظر الطالب- بخلاف من يتعامل معهم بصورة غير مباشرة ولم يقابلهم يوماً من الدهر في حياته.
5- إن"تراكم عددٍ كبير من الوسائل الإعلامية بطرق مشوقة وجذابة، وعبر بعد زمني ممتد وهي تركز على موقف معين، أو تبشر بسلوك محدد قد يكسب ذلك الموقف أو السلوك شرعية اجتماعية، ويكسر الحواجز النفسية بين الجمهور وبين ذلك الموقف أو السلوك؛ فيعتاد عليه ويتقبله واقعاً معترفاً به"(الإرشاد النفسي خطواته وكيفيته . د.عبدالعزيز النغيمشي . ضمن الكتاب السنوي الثاني لجستن (297).
6- وترقى خطورة وسائل الإعلام لتقاوم أيضاً دور الأسرة. مما دعا الدكتور محمد نصار أن يتساءل قائلاً:"ماذا يصنع الأب أو ماذا تصنع الأم إذا أرادت أن يكون ابنها في المرتبة السامية العليا من الأخلاق، ومن الآداب، ومن السلوك الطيب، حيث تقوم بتوجيه أبنائها توجيهاً تربوياً سليماً ولكن يفسد هذا التوجيه تحريك مفتاح التلفاز، وتحريك المؤشر في الإذاعة والراديو وغير ذلك؟"(مشكلات الشباب والمنهج الإسلامي في علاجها . وليد شلاش نايف شبير (317) .).
المعوق الثالث: الصحبة السيئة:
إن من نافلة القول الحديث عن الدور الخطير والأساس الذي تلعبه الصحبة في التأثير على الشاب بصفة خاصة، لذا فقد أشار أنصح الخلق صلى الله عليه وسلم وأعرفهم بالله سبحانه إلى هذا المعنى في أحاديث عدة.
منها قوله:"المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"(رواه أحمد (8212) الترمذي (2378) وأبو داود (4833).).
وقوله صلى الله عليه وسلم :"لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي"(رواه أحمد (10944)3/38 والترمذي (2395) وأبو داود (4832) والدارمي (2057)).
ومما يزيد من أهمية دور الرفقة:
1- كونها اختيارية في الغالب"فهو الذي ينتقي أصدقاءه ويبني العلاقة معهم برغبته وحسب ميله....وهذا بخلاف علاقته بوالديه أو أستاذه أو زملاء صفه، فإنها تكون مفروضة عليه"(المراهقون . د.عبدالعزيز النغيمشي (64-65).) .
2- الرفقة تغذي حاجة اجتماعية ملحة لدى الشاب، يندر أن يستأنس بدونها.
3- وجود التشابه والتلاقي بينه وبين رفقته في الطبائع والأحاسيس والحاجات والمشكلات (المراهقون . د.عبدالعزيز النغيمشي (68).) ؛ فهو يشعر أنه وإياهم شيء واحد، بخلاف أستاذه أو والده الذي يرى أنه يعيش عالماً آخر غير عالمه.
4- طول الوقت الذي يقضيه التلميذ مع رفقته، فهو أطول مما يقضيه مع أستاذه وربما والديه.
هذه بعض المعوقات التي تواجه المدرس وهو يريد أن يربي أبناءه وتلامذته التربية الإسلامية، وأن يصحح ما يراه من خلل في سلوكياتهم.
مقترحات لتجاوز هذه المعوقات
إن سياقنا لما سبق ليس تثبيطاً وإبرازاً للعقبات والعوائق أمام الأستاذ الناصح لكن سقناه لأمور منها:-
أن يدرك المدرس ضخامة التحديات التي تواجهه، وصعوبة الدور الذي يناط به وينتظر منه أن يؤديه؛ مما يدفعه إلى مزيد من الاهتمام والاجتهاد والعناية. ولأجل ذلك أخبر صلى الله عليه وسلم معاذاً حين بعثه إلى اليمن أنه يأتي قوماً أهل كتاب؛ وذلك ليأخذ للأمر عدته، قال ابن حجر:"هي كالتوطئة للوصية لتستجمع همته عليها؛ لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهَّال من عبدة الأوثان"(فتح الباري (3/457)).
وبادئ ذي بدء أشعر أن ما يطرح هنا ليس بالضرورة حلاً متكاملاً لهذه المشكلة، ومدعاة لتجاوز هذه العقبات تجاوزاً تاماً؛ فهو لا يعدو أن يكون مقترحات قد تسهم في رفع مستوى تأثير خطاب المدرس، وامتداده مساحة أوسع.
أولاً: تربية الإيمان والتقوى:
إن العناية بتربية الإيمان بالله وتقواه وخشيته، والحرص على غرس ذلك في نفوس الناشئة، من أهم ما ينبغي أن يكون في أولوياتنا التربوية؛ فالإيمان والتقوى هو العاصم بإذن الله من مواقعة الرذيلة، والانهزام أمام داعي الهوى والشهوة.
إن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها فقال: إني أخاف الله عز وجل، نعم هكذا يصنع الإيمان بصاحبه، فيكون بإذن الله وقاية من السير في ركب الشهوة وطريق الضلالة والهوى.
ثم إن من يملك التقوى والإيمان لا يلبث حين يواقع ما حرم الله أن يستفيق ويتوب إلى الله عز وجل [إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون] (الأعراف :201 ) .(/29)
وإن من الفوارق الجوهرية التي تميز التربية الإسلامية عن المناهج الأرضية قيامها على أساس إصلاح القلوب وغرس الإيمان، بخلاف تلك المناهج التي تقوم على مبدأ تقويم السلوك - مع ملاحظة أن معايير السلوك المقبول والمرفوض في هذه المناهج معايير بشرية - إذ القلب هو الأساس لكل ما يصدر عن الإنسان من سلوك كما قال صلى الله عليه وسلم :"ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"(رواه البخاري (52) ومسلم (1599).) .
وهب أن المرء استقام سلوكه وقلبه خواء من الإيمان والعبودية لله فلن يجدي ذلك عنه شيئاً.
ثانياً: تنمية الاستقلالية في التفكير والرأي:
إن التبعية في الرأي والسير وراء الآخرين، من مشكلات الجيل المعاصر، وهي تكوِّن الأرضية المناسبة لتلقي التأثير الخارجي على الشخص، أياً كان مصدر هذا التأثير.
ومن ثم فإن عناية الأستاذ بتربية تلامذته على روح الاستقلالية في الرأي والتفكير، والتخلص من التلقي المجرد مما سوى الوحيين يخدم في تنمية الشخصية الناقدة لما يعرض لها وما يواجهها.
والأستاذ الذي يعنيه بدرجة أساس أن يتربى تلامذته تربية ناضجة، يشعر أن غرس الاستقلالية لديهم مطلبٌ ملح، ولو كان على حساب قبولهم لكل آرائه، وسماعهم لكل ما يطرحه، بل إنه ليسر حين يرى تلميذه يخالفه في رأيه واقتناعاته، ويرى أن ذلك معيار نضج وكمال.
وهو حينها سيعنى بتعليمهم الحقائق العلمية مقرونة بالدليل والبرهان، وسيناقش الأقوال والمسائل مناقشة علمية موضوعية بعيدة عن الأحكام الجاهزة والنتائج المسبقة، وهو لن يقبل منهم مناقشةً لقول، أو اعتراضاً على نتيجة علمية، ما لم تكن مناقشتهم مقرونة بالدليل والبرهان.
إن هذا المسلك مع أنه يربي العقلية العلمية الناضجة فهو أيضاً يسهم بشكل آخر في ضبط سلوك التلميذ الاجتماعي، وتطبيعه بذلك، فلا يقبل بعد ذلك في حياته ومسلكه إلا ما يقتنع منه.
هذه التربية تشكل بإذن الله درعاً واقياً للتلميذ من المؤثرات الأخرى، وتضع قناة لمراجعة ما يرد عليه بدلاً من كونه يتلقى ويتلقف كل ما يرده، حينها تتحطم الكثير من العوائق أمام هذه الشخصية.
ثالثاً: التجديد في الوسائل ولغة الخطاب:
إن النفوس تسأم التكرار والرتابة؛ ومن ثم كانت تحتاج باستمرار للتغيير والتنويع. وحتى في حياة الإنسان العادية وسلوكه اليومي فهو يجنح للتغيير، ويسأم الروتين.
إن سيطرة لغة محددة للخطاب والتوجيه قد يفقدها قيمتها وجاذبيتها، فتتحول إلى روتين ممجوج لدى البعض؛ فالتنويع والابتكار في وسائل مخاطبة التلاميذ وإقناعهم يسهم في تحقيق قدر أكبر من القبول.
وإدراك المدرس لهذا الأمر يدعوه إلى إعادة النظر في وسائل التوجيه، ولغة الخطاب، والتجديد في أساليب النصح والتأثير، وإلى الشعور بأن التوجيه ليس مجرد كلمات جوفاء يلقيها على طلابه وينتظر منهم الترحيب والمبادرة.
وحين نتصور أننا قادرون على مواجهة هذا الزخم الهائل من الصوارف والمغريات، والتي تملك من الجاذبية ما تملكه .بمجرد كلمات، أو توجيهات نلقيها ونحن ننتظر التنفيذ والاستجابة، وربما كانت مقرونة ابتداءً بلغة استعلاء واحتقار للطلاب ووصف لهم أنهم ليسوا على شيء، وغير جادين، ولا صادقين، وأن طلاب العلم مضوا مع الرعيل الأول والجيل السابق، حين نتصور ذلك فنحن نغرق في السذاجة والسطحية.
رابعاً: الواقعية في الأهداف والطموحات:
قد يرتفع مستوى الحماسة لدى البعض، ويرى أنه قادر على تحقيق ما يريد، فيرسم لنفسه أهدافاً طموحة، ونظرة مثالية يصعب الوصول إليها، وتقويمه لعمله، ورؤيته لنجاحه وفشله مرهون بأهدافه. فإذا كانت أهدافه أعلى من الواقع فسيشعر بالفشل وضعف النتاج وطول الطريق، ويقول بلسان حاله أو مقاله:ما الفائدة والجدوى من العمل؟
أما حين يدرك العقبات، ويعرف المصاعب، فسوف يرسم أهدافاً تتسق مع الواقع، ويمكن ترجمتها إلى واقع عملي.
خامساً: رصيد الفطرة:
إنه ومع كل العقبات والعوائق مما ذكرنا وما لم نذكر، فسيبقى جانبٌ مهم لا ينبغي إغفاله.
لئن كان طريق الشهوات والغواية طريقاً تستهويه النفس وتميل إليه، طريقاً يجد المرء ما يدعوه له. فالخير في المقابل له رصيد عميق في فطرة الإنسان [فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون. منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين] (الروم:30-31). نعم فقد فطر الله الناس منيبين إليه، فطرهم على الدين والتوجه له سبحانه.
وهو المعنى نفسه الذي يشير إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :"ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟" ثم يقول أبو هريرة - رضي الله عنه -[فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم] (رواه البخاري (1359)مسلم (2658). ) .(/30)
وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى:"إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم؛ فحرَّمت عليهم ما أحللت لهم..."(رواه مسلم (2865) ).
فمن يدعو الناس لمنهج الله إنما يستهدف إزالة الران والغشاء عن القلوب الذي يغطي رصيد هذه الفطرة، قبل أن يكون داعياً لتأسيس بنيان جديد.
ثم إن الناس وإن ابتعدوا عن شرع الله، وغرقوا في الفساد، وارتكبوا الشهوات، إلا أنهم يشعرون بمرارة المعصية وشؤم الغواية، ومن ثَمَّ فهم يبحثون عن المنقذ، ويتطلعون للمُخَلِّص. وها نحن نراهم في الواقع يتوافدون بحمد الله على طريق الخير، ويسلكون السبيل.
سادساً: العاطفة الصادقة:
وهي تلك اللغة التي لا يجيدها إلا الصادقون المخلصون، والأمارة الفارقة بين المتصنع المتشبع بما لم يعط وبين المخلص الجاد. فحين يملك الأستاذ العاطفة الصادقة والتفاعل مع ما يقوله لتلامذته، يخرج حديثه من القلب، فيشعر التلميذ وهو يسمع حديث أستاذه أنه حديثٌ صادق ناصح.
وكم نرى ممن يؤهله للقبول عند الناس عاطفة حية ومنطق صادق أكثر من أسلوب رصين بليغ.
وكما أن التلميذ يتعامل مع تلك الوسائل السابقة تعامل المقبل عليها، فهو في وسط ركام الغفلة، ومن بين أنقاض الواقع البئيس، يشعر حين يسمع الصوت الناصح أن يحس من خلاله بلغة النصيحة، ومنطق الصدق؛ فتتجاوب نفسه، ويسمو على أهوائه ورغباته الشخصية ليصيخ لمنطق الدين والعقل.
وحين سأل ذر بن عمر أباه:ما بال المتكلمين يتكلمون فلا يبكي أحد، فإذا تكلمت أنت سمعت البكاء من كل جانب، فقال : يا بني، ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة (إحياء علوم الدين (4/288).) .
سابعاً: القلوب بيد الله وحده:
ومع ماسبق، فالأمر أولاً وآخراً بيد الخالق سبحانه وتعالى الذي خلق عباده ويعلم ضمائرهم ودواخلهم، وقلوبهم ونواصيهم بيده سبحانه وتعالى يصرفها كيف يشاء، يضل من يشاء ويهدي من يشاء سبحانه وتعالى.
ورؤية المسلم للأسباب المادية، وعنايته بتحصيلها لا يجوز بحال أن تشغله عن إدراك قدرة الله سبحانه، وأن الأمور ونواصي العباد بيده عز وجل.
أرأيت الأنبياء والمصلحين السابقين، كيف استطاعوا أن يحققوا أهدافهم؟ وكيف تجاوزوا العقبات التي يصنعها شياطين الإنس والجن ليحولوا بين الناس وبين دعوة الله؟ فالطريق واحدة والسبيل متفقة.
إن إدراك هذه المعاني والسنن الربانية كفيل بإزالة تلك العوائق والعقبات، غير أن المسلم مأمور بفعل الأسباب، وتلمس الصعاب والاجتهاد في تذليلها، ثم حين يبذل ما يستطيع فالتوفيق بيد مولاه، والعون منه سبحانه وتعالى؛ فما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، وما من قلب إلا هو بين إصبعين من أصابعه سبحانه وتقدس يقلبه كيف شاء.
ولابد أن ينتج من طول تفكيره وسائل وبرامج يغذيها بممارسته وخبرته، وينضجها بالاستفادة مما عند الآخرين.
وهو على كل الأحوال لن يكون أقل قدرة من أصحاب الأهداف الوضيعة والمقاصد الدنيئة الذين يجدون ألف وسيلة ووسيلة لتحقيق أهدافهم.
هذه بعض الخواطر حول ما أرى أن المدرس قادر على القيام به لتجاوز بعض هذه المعوقات، وهي لا تعدو أن تكون حاضرَ ذهنٍ قاصر، ونتاجَ قلمٍ وتجربة محدودة. مع يقيني أن إخوتي الأفاضل قادرون بإذن الله على اكتشاف المزيد، وعلى تحقيق ما يريدون. حين يملكون الصدق والإخلاص- وهم كذلك نحسبهم والله حسيبهم.
ثامناً: استثمار الأنشطة الطلابية:
لاشك أن للتوجيهات والخطاب الناصح الدور البارز الذي لا ينكر، خاصة حين تضاف لذلك القدوة الحسنة، لكن ذلك مهما علا شأنه لا يمكن أن ينقل الطالب إلى مرحلة الاستغناء عن البرامج التربوية العملية.
ومن هنا يبرز دور الأنشطة الطلابية اللاصفية في توجيه الطالب وتربيته، وتؤدي هذه الأنشطة هذا الدور من خلال ما يلي:
أولاً: لقاء الأستاذ بطلابه خارج الإطار الرسمي والجو المدرسي يساهم في زيادة الألفة وزوال كثير من الحواجز والعوائق، فيهيئ نفسه للتقبل والتجاوب مع ما يطرحه عليه بعد ذلك.
ثانياً: أن هذه الأنشطة غالباً ما تحوي الفئات الجادة والمتميزة من الطلاب؛ مما يتيح للطالب فرصة للقدوة الحسنة والجو البديل عن أجواء الشارع والتجمعات غير المنضبطة.
ثالثاً: تسهم هذه البرامج في تشكيل صداقات الطلاب، فيختار الطالب من بين هؤلاء الذين يشاركهم الأنشطة المدرسية أصدقاء له، ولاشك أن ذلك حماية له من أصدقاء السوء وتوجيهاً غير مباشر للصحبة الصالحة.
رابعاً: كما أن هذه الأنشطة تحوي خيرة العناصر من الطلاب، فكذلك الذين يشرفون عليها هم في الأغلب من خيرة الأساتذة.
خامساً: غالباً ما تتضمن هذه الأنشطة برامج لها آثارها التربوية كالرحلات الاستطلاعية، والمسابقات الثقافية، والمحاضرات... وسائر الأنشطة.(/31)
سادساً: توفر هذه الأنشطة البدائل المنضبطة لكثير من الأنشطة التي ربما مارسها الطالب في أجواء شاذة؛ فالأنشطة الرياضية والترويحية التي يتعلق بها كثيرٌ من الشباب وربما أصبحت بيئة لصداقة سيئة، هذه الأنشطة يمكن أن تمارس من خلال برامج الأنشطة الطلابية؛ فتصرف الطالب عن ممارستها في تلك الأجواء، وتتيح له الأجواء المنضبطة.
ويحتاج الطالب للرفقة والصداقة التي تتجانس معه، فتسهم هذه الأنشطة في تحقيقها له كما سبق.
ويحتاج لحب الاستطلاع، وتحقيق الذات... كل ذلك وغيره يمكن أن توفره هذه الأنشطة للطالب؛ فتحقق له الجوانب التي يفتقر إليها في نموه المتكامل، وتقدم بديلاً لممارستها من خلال أجواء ضارة.
الفصل السادس:المدرس والتوجيه الذي نريد
حين نجتاز المرحلة الأولى وهي الاقتناع بأهمية التوجيه، وقيمة دوره، وضرورة المشاركة الفعالة فيه. فهل يعني هذا نهاية المطاف؟ أم أن هناك مراحل أخرى وخطوات للعمل؟
وبعبارة أخرى: هل يمكن أن نجعل الدور التربوي للأستاذ، والذي يشكل هذا القدر من الأهمية و الخطورة، أن نجعله مطلباً عائماً، وطريقاً مفتوحاً يسلكه الإنسان كيفما اتفق وحيثما تيسر له؟
وأحسب أن المرحلة الأولى قد اجتازها الكثير، وأنه أصبح يشعر بالمسؤولية بغض النظر عن مدى حرارة هذا الشعور ومستواه..
وخطورة الدور التربوي للأستاذ تفرض علينا مزيداً من العناية والدراسة لأساليب هذا الدور، وألا نتركه ضحية مواقف متبعثرة غير منضبطة.
والرأي الذي يطرح لا يعدو أن يكون محاولة متواضعة، تنتظر المزيد من الإثراء والتعديل والمناقشة لتستوي على سوقها، وتتأهل لتكون برنامج عمل ينتظر منه بإذن الله نتاجاً مثمراً .
ونستطيع أن نحدد أساليب التوجيه، ونظرات المدرسين تجاهه في الصور الآتية :
الرؤية الأولى:
تلك الرؤية التي ترى أن الحق واضحٌ أبلج، وأن معظم الناس يدركون ويعرفون الطريق جملة، وإن وجد بعض الغبش في بعض الجوانب، إلا أن العلة ومكمن الداء عند هؤلاء وأولئك هي تحويل الاقتناع إلى عمل واقعي والعمل بما يعلمون.
إن ما نراه من واقع كثير من الشباب والتلاميذ من المخالفات، والمظاهر الشاذة ليس بالضرورة نتيجة للجهل. ومن ثم فهؤلاء أحوج ما يكونون إلى الموعظة والحث والترغيب والترهيب، وهي قضية واضحة محددة لا لبس فيها، وليست بحاجة لمزيد فلسفة وتنظير.
وبناءً عليه، فالتوجيه الذي يراد يمكن أن يتحقق عفوياً من خلال كلمة عارضة، أو موعظة طارئة، فهي تحقق ما يحققه غيرها.
أو تجعل في التوجيه والموعظة قضية موسمية يمكن أن تتم في حصة انتظار، أو في استقبال شهر رمضان أو عشر ذي الحجة، أو من حدث معين ككسوف، ومصيبة عامة للمسلمين، أو وفاة أحد الطلاب؛ حيث تسهم هذه المواقف وتلك في خلق استعداد نفسي لدى الطالب يمكن استثماره وتوظيفه لتحقيق أهداف تربوية معينة.
أو ربما ينطلق التوجيه من خلال خطأ أو تجاوز أو مخالفة، فيتحدث عنها الأستاذ محذراً ومنبهاً.
الرؤية الثانية:
وهي تلك الرؤية التي ترى أن مجرد التوجيه والحديث العام قد لا يكفي، فلا بد من الانطلاق إلى مرحلة أكثر تحديداً، وتتجه الرؤية إلى محاولة استصلاح أكبر عدد ممكن ممن أصابه من غبار الضلالة ما أصابه، وتلبس بشيء من المخالفات السلوكية؟
وينطلق أصحاب هذه الرؤية من خلال ما يرونه في الواقع من أن التوجيه العام والموعظة المطلقة سرعان ما يذوب أثرها وتمحى نتائجها. وما يرونه في المقابل من نتائج مثمرة ومواقف سارة تتمثل في ذاك التحول من طريق الغواية إلى الهداية الذي نراه كل حين للعديد من الطلاب.
وبدلاً من أن تكون هذه الصور المشرقة السارة نتاج مواقف طارئة غير مقصودة فلنسهم نحن في دفع عجلتها.
الرؤية الثالثة:
وهي تلك الرؤية المتشائمة التي ترى أنه لا مجال ولا مناص من هذا الواقع الذي يعيشه الطلاب، أو أن التغيير ليس بيد المدرس، بل هو بيد من يملك دفة الأمور في المجتمع، فيصلح الإعلام، ويصلح الشارع، ويصلح رفقة التلميذ. وهي مطالب في قائمة المستحيل، ومن ثم فالأمر خارج عن الطوق ليس في مقدور فلان أو ذاك، فما علينا سوى التشكي والدعاء لهم با لهداية، والأمور بيد الله سبحانه وتعالى.
وهي رؤية مع إغراقها في التواني والسلبية واحتقار الذات إلا أنها وللأسف تملأ مساحة واسعة ممن يتصدر للتربية والتوجيه في بلاد المسلمين، وهي قد تكون إفرازاً للهزيمة النفسية التي تعيشها الأمة أجمع، أو نتاج تجارب خاطئة، أو رغبة في التنصل من الأمانة والمسؤولية، وأيًّا كانت الدوافع فهي تحت هذه المظلة، وداخل هذا الإطار.
إننا ومع رفضنا لهذه النظرة، أو تلك النظرات المتشائمة، نتفق أن بقية تلك الرؤى تملك قدراً من المصداقية، وتملك رصيداً من الاعتبار، والنتائج المتحققة منها تزيد من اقتناع أصحابها بها.
ولاشك أن الكلمة الصادقة التي يرسلها صاحبها دون إعداد مسبق، أو يدفعها له موقف لم يحسب له حساباً لاشك أنها تترك أثرها بإذن الله.(/32)
ولا ريب أن استصلاح عدد من وقع في الفساد والرذيلة جهد لا يجادل فيه إلا مكابر.
إذاً فهي أدوار مطلوبة، ورؤى تملك قدراً من الصحة؛ لكن أليس الأمر يستحق منا نظرة أعمق وأشمل؟
فهذه مقترحات أضعها بين يدي إخوتي المدرسين أرى أنها تسهم في الارتقاء بالتوجيه ليؤدي الدور المنتظر منه بإذن الله:
أولاً: تحديد الأهداف:
فرق ظاهر بين أولئك الذين يرسمون لأعمالهم أهدافاً واضحة ومحددة، وأولئك الذين يسيرون في أعمالهم ارتجالاً دون أن ينظروا إلا إلى ما تحت أقدامهم.
إن صاحب أي مشروع تجاري أو عمل دنيوي لابد له من أهداف واضحة محددة، يستطيع من خلالها أن يخطط لعمله تخطيطاً سليماً، وتكون هذه الأهداف معياراً للتقويم وحساب الأرباح والخسائر، والفكر والعلم شأنه أعلى وأتم، فهو أولى أن يسير على خطى ثابتة، وأن يرسم أهدافاً واضحة محددة.
كثيرٌ هم الأساتذة الذين يبذلون جهوداً خيرة مشكورة، لكنها تسير ارتجالاً دون تخطيط. وربما كان هذا خيراً بحد ذاته، لكن خير منه أن يكون للمدرس هدف واضح يسعى إليه، ومنهج وخطط توصله لتحقيق هذا الهدف، مع إتقان عمله والسعي نحو الأفضل والأكمل.
وحين يعتني المدرس بعملية التوجيه، لتصبح عملية مخططة مقصودة، ويرسم لنفسه أهدافاً محددة فهذا يعني:
أولاً: أن جهده أنضج ثمرة، فثمرات عمله مقصودة مرادة، في حين تكون ثمرات النموذج الأول اتفاقاً.
ثانياً: أن هذا يتطلب منه تفكيراً هادئاً يسبق عملية التوجيه والتدريس، ويتولد من هذا التفكير نضج أكثر للمضمون والأسلوب، بخلاف التوجيه المرتجل؛ إذ لا يعدو غالباً أن يكون ردة فعل لموقف يطرأ في الفصل أو يمر بالأستاذ، أو ربما كان مصدره خاطر يمر في خياله وهو يتحدث.
ثالثاً: أن مثل هذا التوجيه ينطلق من اعتبار ومراعاة أكثر لعوامل عدة لها دور مهم في تحديد أسلوب ومضمون ما يطرح، ومن هذه العوامل:
أ - المرحلة الدراسية والعمرية للطلاب، فما يستهدف المدرس تحقيقه لدى طلاب المرحلة المتوسطة يختلف عما يستهدف تحقيقه لدى طلاب المرحلة الثانوية.
ب - التركيبة الاجتماعية للطلاب، ففرق بين قرية صغيرة نائية وبادية، وبين مدينة تعيش الضجيج والصخب والمؤثرات؛ فرق بين تفكير هذا الطالب وذاك، بين إدراك ابن القرية والبادية، وبين إدراك ابن المدينة.
وقد تكون الشريحة العامة في المدرسة من طبقة فقيرة، وقد تكون من طبقة ثرية، وهي أمور لها تأثيرها الكبير على نمط التفكير والسلوك، وعلى طبيعة الخطاب الذي ينبغي أن يوجه لهؤلاء وأولئك.
ج - طبيعة المادة التي يدرسها المدرس فقد يكون ضمن أهداف مدرس مادة الحاسب مثلاً أن يؤصل لدى تلامذته الشعور بما تعانيه الأمة من تخلف مادي، وتقدم أعدائها عليها، وأن الأمة تحتاج لأن يعنى أبناؤها بهذه الجوانب المادية ليساهموا في تحقيق نهضة الأمة، وقل مثل ذلك في سائر المواد التطبيقية والتي تسمى علمية(هناك اصطلاح شائع وهو تسمية هذه المواد كالعلوم والرياضيات ونحوها المواد العلمية، وسواها المواد الأدبية.).
وقد يكون ضمن أهداف مدرس التربية الرياضية معالجة المظاهر السلبية والسلوكيات الشاذة المتعلقة بممارسة الرياضة، وتأصيل المفهوم الصحيح للرياضة وكونها وسيلة لا غاية.
وقل مثل ذلك في سائر المواد والتخصصات.
رابعاً : حين يسلك المدرس هذا المسلك في التوجيه فإنه يستطيع أن يقوِّمَ جهده ويقيس عمله، فيدرك ما حققه من نتائج، ويتعرف على أسباب النجاح والفشل، أما حين يكون عمله مرتجلاً فماذا يقيس؟ وأي عوامل للنجاح والفشل يستطيع إدراكها وهو لم يضع شيئاً في حسبانه؟
خامساً : وحين يسلك هذا المنهج فإنه سيسعى للوصول إلى هدفه من طرق عدة وأبواب شتى؛ فتتضافر على مسمع الطالب المؤثرات المتنوعة، لتؤدي في النهاية لنتيجة واحدة، بخلاف ما لو كان الهدف والوسيلة هو ما يخطر في ذهنه؛ فستكون المواقف مبتورة.
وبعد هذا كله يتضح لنا أن المدرس حين يحدد لنفسه أهدافاً واضحة فإنه يستطيع أن يحقق نجاحاً أكبر، ويترك أثراً أعظم.
ومع دعوتنا للمدرس أن يسلك هذا المنهج والمسلك فهذا لا يعني تحول الوسيلة إلى غاية، والإغراق في هذا الأمر وترك التجاوب مع الخواطر الواردة، والأحوال الطارئة.
ثانياً: العناية ببناء المفاهيم والتصورات:
وتبدو العناية بهذا الجانب ملحة ومهمة لما يلي:
1 - أن الغزو المكثف الذي واجهته الأمة ولَّد نتاجاً هائلاً من المفاهيم والتصورات الشاذة البعيدة عن المفاهيم الشرعية، إضافة إلى النتاج المتراكم للأعراف والتقاليد الخاطئة التي سادت في مجتمعات المسلمين فولدت العديد من المفاهيم الشاذة التي أصبحت جزءاً من تفكير الناس يصعب إزالتها واقتلاعها.
ذلك كله ولَّد حاجة ملحة لمواجهة هذا الانحراف والسعي في تصحيحه، وأضاف ضمن أهداف الصحوة والعمل الإسلامي العناية بإعادة بناء المفاهيم والتصورات الشرعية لدى الناس.(/33)
2 - أن المفاهيم والتصورات ليست نبتة مجتثة في العراء كالخطأ والسلوك المجرد، بل هي نواة ونبتة تنمو وتورق ما يليق بها.
لذا فالمفاهيم والتصورات الخاطئة ستولد وتنتج ألواناً من المواقف والسلوكيات الشاذة والتي ليست إلا ثمرة لتلك المفاهيم.
وفي المقابل فالمفاهيم والتصورات الشرعية هي الأخرى ستولد ألواناً من المواقف والسلوكيات الشرعية.
فالدعوة للتصحيح إذاً ستزيل ألواناً من الأخطاء المتراكمة، وتولد ألواناً من المواقف الإيجابية.
3 - قد تكون الدعوة للسلوكيات المحددة فعلاً وتركاً صعبة النتاج، بطيئة الأثر، ويشعر المدرس وهو يسعى لذلك أن هناك أفواجاً من الطلاب- بل ربما كانوا الأغلب - يمرون عليه دون أن ينجح في تصحيح ما لديهم من مخالفات؛ ذلك أن قضية السلوك المحدد تتأثر بالشهوات والأهواء، وقد تثقل على صاحبها، بخلاف المفاهيم والتصورات التي لا تصطدم بشيء من ذلك، ومن ثَمَّ فسيتجاوب مع ذلك الغالب الأعم، ويستطيع المدرس أن يترك أثره على معظم طلابه ظاهراً واضحاً.
4 - أن المفاهيم الصائبة حين تغرس باقتناع لدى الناشئة يصعب اقتلاعها بإذن الله، بل هي ربما تتضمن أداة للحكم على ما يسمعونه من غيرهم.
وهي ليست دعوة لترك الجانب الآخر، ولا للتهوين مما يقوم به إخواننا من النصح والبيان والتوجيه، لكنه حين يكون وحده كذلك فسوف يعزل أثر المدرس في إطار محدد.
إن الأمة تواجه اليوم تياراً جارفاً، وغزواً مكثفاً يستهدف اقتلاع كل ما من شأنه ربط الناس بالإسلام، وما يمت للدين بصلة من قريب أو بعيد في وقت تواجه المنابر الإسلامية جفافاً ومحاصرة هي الأخرى، فتبقى هذه المنابر وهذه القنوات أداة مهمة للمصلحين للتصحيح، وبناءِ الجيل البناءَ الشرعي.
ويمكن أن نطرح أمثلة عاجلة على بعض المفاهيم والتصورات والتي نرى أن يعنى المدرس ببنائها البناء الشرعي، وتصحيحها لدى تلامذته.
أ - شمولية الشريعة الإسلامية وأنها جاءت لتحكم سائر حياة الناس، وليست قاصرة على جانب واحد من الجوانب.
ويمكن أن يتم ذلك من خلال بيان كثير من المواقف المخالفة لما هو مستقر لدى الناس من أسس الشريعة في جوانب مختلفة من الحياة (الاجتماعية، الاقتصادية، التربوية...) ، ومن خلال بيان الموقف الشرعي في كثير من هذه المواقف، ومن خلال الحديث عن سعي العلمانيين المكثف إلى حصر الإسلام في زوايا ضيقة.
ب - التثبت والتبين في الأخبار والشائعات إذ هي تؤثر كثيراً في حياة المسلمين، فيحكمون على الناس والمؤسسات من خلال ما يسمعونه من إشاعات ربما كان وراءها أعداؤهم، وكثيراً ما يستغل ذلك الأعداء في تشويه صورة رجال الصحوة ومؤسساتها.
ويستطيع المدرس تأصيل هذا المفهوم من خلال الحديث عن أهمية التثبت في الأخبار، ومن خلال عرض نماذج من الشائعات الباطلة التي تروج عند الناس فيقبلونها، ومن خلال الحديث عن ضوابط من تقبل روايته وخبره...
ج - الولاء للإسلام وقضيته مهما كان تدين المرء؛ إذ ساد مفهوم خاطئ عند الناس هذا العصر، وهو أن المرء حين يكون مقصراً أو مذنباً فذلك يعني أن يعفى من المسؤولية في التفاعل مع القضايا الإسلامية.
ويمكن تأصيل هذا المفهوم بأن يبيِّن المدرس لتلامذته أن الأصل في المرء أنه مسلم مهما كان مقصراً، وأن تقصيره وإن أنزل رتبته إلا أنه لا يمكن أن يعفيه عن شيء من الواجبات الشرعية كهذا الواجب، ومن خلال عرض نماذج من التاريخ الإسلامي ساهم فيها أمثال هؤلاء في نصرة قضية الدين، ومن خلال عرض نماذج من التآمر على المسلمين مما يثير العاطفة تجاه قضيتهم ونصرتهم، وبيان تآمر الأعداء واشتراكهم في ذلك وإن لم يكونوا متدينين أو ملتزمين بمذاهبهم، ومن خلال اقتراح برامج ووسائل محددة يمكن أن يشارك فيها هؤلاء...
أحدهم وهو شاب غير متدين كان في مجلس قال فيه أحد الحاضرين كلمة فيها سخرية بالدين فانتهره وأنكر عليه، وبعد افتراق مجلسهم سأله أحد الحاضرين عن سر هذا الشعور مع ما هو عليه، فأعاد ذلك إلى كلمة سمعها من أحد مدرسيه يتحدث فيها عن الدفاع عن الدين ولو كان المرء فاسقاً.
هذه نماذج ذكرتها على سبيل المثال لا الحصر عل بها يتضح المقصود مما أردناه من ضرورة التركيز على بناء المفاهيم والتصورات الشرعية.
ومما ينبغي أن يعلم هنا أن بناء المفاهيم يحتاج لوقت وطول نفس، وتنويع في الأساليب والوسائل، وأنه لا يمكن أن يتم من خلال الأوامر التي توجه مباشرة.
ومع ذلك كله يبقى اعتراضنا على النماذج والرؤى السابقة منحصراً على مجرد اعتبارها وحدها منطلقاً للت
الخاتمة
وبعد فهذه أخي الكريم كلمات سطرها أخ لك، عايش هذه المهنة سنوات معدودة، اجتمعت له خلالها هذه الخواطر، التي لا تعدو أن تكون آراءً شخصية إن أصاب فيها فمن الله، وإن أخطأ فمن نفسه والشيطان والله ورسوله بريئان مما يقول.(/34)
أخي الكريم: إنها برامج ومقترحات للتوجيه، قد تخالفني في بعضها، وقد تصدق في أحوال وبيئة دون أخرى، فما رأيت فيها من الصواب فدونك إياه، وما كان سوى ذلك فإن من حقي عليك المناصحة والنصرة، وأجزم أني لن أعدم في كل حال دعوة صالحة منك بظهر الغيب، فدعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب مجابة.
ومرة أخرى أقول : إنه لا يكفي للقيام بواجب التربية والتوجيه الكلمات العاجلة، أو البرامج المرتجلة، فمن حق الشباب علينا وهم فلذات أكبادنا، أن نعنى بتربيتهم، فهلا خطوات جادة للوصول إلى أسلوب أمثل في التوجيه والتربية؟
وأنا بدوري أرحب بكل خواطر الإخوة القراء، واقتراحاتهم لعلها أن تأخذ طريقها في الطبعات القادمة.حفظك الله أخي الأستاذ، ووفقك، ورزقك التلميذ النجيب والابن البار.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وجيه، وتبقى سائر الأساليب مطلوبة ينبغي أن يسعى إليها جميعاً.
لمراجع والمصادر
- أخلاق أهل القرآن - الآجري - ت محمد عمرو عبداللطيف - دار الكتب العلمية - ط1 1406هـ
- أساسيات في طرق التدريس العامة - محب الدين أبو صالح - دار الهدى - ط2 - 1412هـ
- إحياء علوم الدين - ابو حامد الغزالي- ت سيد إبراهيم - دار الحديث - ط1 - 1412هـ
- الإرشاد النفسي خطواته وكيفيته - د عبدالعزيز النغيميشي - الكتاب السنوي الثاني لجستن - 1410هـ
- إعداد المعلم من منظور التربية الإسلامية - د عبدالله بن عبدالحميد محمود - دار البخاري، مكتبة الغرباء - ط1
- تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم - دار الكتب العلمية
- جامع الأصول من أحاديث الرسول - ابن الأثير - ت عبدالقادرالأرناؤوط - دار الفكر - ط2 - 1403هـ
- جامع بيان العلم وفضله - الخطيب البغدادي - دار الكتب العلمية
- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - ت محمود الطحان - مكتبة المعارف - 1403هـ
- الرسول المعلم ومنهجه في التعليم - محمد رأفت سعيد -دار الهدى للنشر والتوزيع - ط1 - 1402هـ
- سلسلة الأحاديث الصحيحة - محمد بن ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي
- سنن أبي داود - ت كمال الحوت - دار الجنان - ط1 - 1409هـ
- سنن ابن ماجه - ت محمد فؤاد عبدالباقي - دار الفكر
- سنن الترمذي - ت أحمد شاكر - دار إحياء التراث العربي
- سنن الدارمي - ت مصطفى البغا - دار القلم - ط1 - 1412هـ
- سنن النسائي - ت عبدالفتاح أبوغدة - مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب - ط1-1406هـ
- صحيح الترغيب والترهيب - محمد بن ناصر الدين الألباني- مكتبة المعارف - ط2 - 1409هـ
- صحيح سنن أبي داود - محمد ناصر الدين الألباني - مكتب التربية العربي - ط1 - 1409هـ
- صحيح سنن ابن ماجه - محمد ناصر الدين الألباني - مكتب التربية العربي- ط2 - 1408هـ
- صحيح سنن الترمذي - محمد ناصر الدين الألباني - مكتب التربية العربي- ط1 - 1408هـ
- صحيح سنن النسائي - محمد ناصر الدين الألباني - مكتب التربية العربي- ط1 - 1409هـ
- صحيح مسلم بشرح النووي - مراجعة خليل الميس - مكتبة المعارف - ط1 - 1410هـ
- فتح الباري شرح صحيح البخاري - ابن حجر العسقلاني - دار الكتب العلمية - ط1 - 1410هـ
- الفروسية - ابن قيم الجوزية
- الفكر التربوي عند ابن القيم - حسن الحجاجي - دار حافظ للنشر والتوزيع - ط1 - 1408هـ
- الفوائد - ابن قيم الجوزية
- الكفاية في علم الرواية - الخطيب البغدادي - ت أحمد عمر هاشم - دار الكتاب العربي - ط2 - 1406هـ
- لقط اللآليء المتناثرة في الأحاديث المتواترة
- المؤثرات السلبية في تربية الطفل المسلم وطرق علاجها - عائشة جلال - دار المجتمع - ط1 - 1412هـ
- المجموع شرح المهذب - النووي - دار الفكر
- المحدث الفاصل بين الراوي والواعي-الحسن بن عبدالرحمن الرامهرمزي-ت محمد عجاج الخطيب-ط3- 1404هـ
- مختصر الشمائل المحمدية للترمذي - محمد ناصر الدين الألباني - مكتبة المعارف - ط4 - 1412
- المذهب التربوي عند ابن سحنون - مؤسسة الرسالة - ط1 - 1406
- المراهقون - د عبدالعزيز النغيمشي - دار طيبة - ط1 - 1411هـ
- مسند الإمام أحمد - الإمام أحمد بن حنبل الشيباني - دار صادر
- مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد في مرحلة الطفولة - عدنان باحارث - دار المجتمع - ط1 - 1410هـ
- مشكلات الشباب والمنهج الإسلامي في علاجها-وليد شلاش نايف سبير - مؤسسة الرسالة - ط1 - 1409هـ
- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث الشريف - مطبعة بريل بمدينة ليدن - 1967م
- المعلم المناهج وطرق التدريس - د/محمد عبدالعليم مرسي
- من أعلام التربية الإسلامية - مكتب التربية العربي - 1409هـ
- منهج التربية الإسلامية - محمد قطب - دار الشروق - ط8 - 1408هـ
- النظرية التربوية في طرق تدريس الحديث النبوي - يوسف صديق - دار ابن القيم - ط1 - 1412هـ(/35)
التوحيد أولاً وأخيراً
محمد العبدة
إن أساس الإصلاح الإسلامي هو التوحيد الخالص لله (تعالى) ، فهو الذي يرتقي بالإنسان المكان اللائق به ، وهو الذي ينقذه من رق العبودية لغير الله ، ويحرره من استعباد الإنسان ، ومن استعباد الخرافة والأهواء ، وهو الذي ينقذه من المحتالين الدجالين أحبار السوء الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ، وإذا لم يتعبد الإنسان لله (تعالى) فسوف يقع في الوثنية - لا محالة - بشتى صورها وأشكالها ؛ فإن الإنسان كما جاء في الحديث (حارثٌ وهمّام) ، فلا بد أن يمتلئ بشيء ، فإذا لم تكن العبودية لله فهي لغيره مهما تظاهر بأنه حر ، فالعبودية هي عبودية القلب كما يقول ابن تيمية (رحمه الله) ، فمن ركض وراء الشهوات فهو الأسير المملوك ، ولو كان حاكماً يستعبد الناس .
التوحيد الخالص لله (تعالى) هو الذي يجعل المسلم شخصية تستعصي على الطغيان ، ولا تخضع للملأ أو المال ، كما استعصى الصحابي الجليل بلال بن رباح حين قالها لملأ قريش : أحد أحد ، والتوحيد هو الذي يحفظ الإنسان من الانفلات بلا قيد أو ضابط ، كما حُفظت الأفلاك بالجاذبية . التوحيد الخالص لله (تعالى) هو الذي أنقذ العرب من وهدة النسيان والخمول ، وجعلهم أمة تحمل رسالة وتشعر بالمسؤولية ، وتحول العربي إلى إنسان لا تأسره الأوهام والتقاليد ، ولا القبيلة والعشيرة ، ولا الإقليمية والقومية .
إن من أصعب الأشياء على الإنسان الذي يحب الفساد في الأرض أن يسمع كلمة التوحيد [ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً وَاحِداً إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ][ص : 5] وكأنهم يقولون : كيف يكون إله واحد ينظر في أمر الجميع ؟ [ وَإذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ... ][الزمر : 45] وقد خشي فرعون من هذا التوحيد الذي جاء به موسى (عليه السلام) فقال : [ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ... ][غافر : 26] والدين هنا يعني الحكم ، وكأنه يقول : إن هذا النبي الذي جاء بالتوحيد خطير جدّاً ؛ لأنه سيذهب بملككم وسيادتكم وطريقتكم في العيش .
فلا مانع عند الطغاة أن يكون الدين حركة ثقافية أو حضارية تتكلم عن الزخرفة الإسلامية أو العمارة الإسلامية ، وتذكر ما أنتجه العلماء القدامى في الطب ، والهندسة ، وعلم الفلك ، ولا مانع من تشجيع الطرق الصوفية التي تربط الفرد بالشيخ والولي والأقطاب والأوتاد وما هنالك من خيالات وخرافات .
ومن المؤسف أن بعض الذين يوسمون أنفسهم بأنهم (مثقفون) ، أو بعض من دخلت في قلوبهم شبه (علم الكلام) يأنفون من هذا التوحيد ، فلا يدرسونه ولا يُدرّسونه ؛ لأن هذا عندهم أقرب أن يكون للعوام ! ، أما هم فلا بد أن يخوضوا في الذات الإلهية ، وكيف ولماذا ؟ ... ولا بد أن يذكروا أقوال الفلاسفة القدامى والمعاصرين ؛ فتراهم يلوكون الكلمات التي لا تقيم حقًّا ولا تهدم باطلاً ، والتي هي كلحم جمل غَثّ على رأس جبل وعر ، ولا يكتفون بهذا ، بل يُنفّرون الناس عن هذا التوحيد باللمز والغمز لأهله الذين يقومون به ويعلمونه الناس .
إذا أردنا النهوض فلا بد أن نرتفع بمستوى الأمة كي تفهم وتمارس التوحيد الخالص ، وحتى لا تكون قطيعاً يُنادى من مكان بعيد ، وتكون أمة تقوم بواجباتها وتحمل الرسالة .(/1)
التوحيد أولاً
تقديم
المقدمة
أهمية الكتابة في هذا الموضوع
التوحيد: تعريفه وأقسامه
فضل التوحيد
واقع الأمة اليوم
العلمنة تعصف بالعالم الإسلامي
الخلل في فهم التوحيد وقصره على بعض أجزائه
ضعف أثر عقيدة التوحيد عند بعض المسلمين
الغلو في العلماء والتعصب لهم وتقديم أقوالهم
تقديم
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي تفرد بأن يعبد ويحمد، وأشهد أن الله -تعالى- هو الإله المتوحد، وأن من ألَّه سواه فقد أشرك وندد، وأن محمداً عبده ورسوله الذي نهى عن الشرك وشدد، فصلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن تعبد.
وبعد فقد كتب فضيلة الشيخ ناصر بن سليمان بن عمر هذه الرسالة القيمة بعنوان "التوحيد أولاً"، وأودعها ما يهم ذكره من عظمة التوحيد وعلو شأنه، وشناعة الشرك وخطره على المجتمعات الإسلامية، وقد أوضح فيها _أثابه الله_ أن التوحيد العملي القصدي الإرادي الطلبي الذي هو توحيد الألوهية هو الذي دعت إليه الرسل، وأنزلت به الكتب، وجردت لأجله سيوف القتال، ووقعت فيه الخصومة بين الرسل وأممها.
وأنه مع هذه الأهمية قد وقع فيه الخلل والنقص، وقد تهاون به الكثير من الجماهير مع ادعائهم التوحيد، وأن الكثير تجاهلوا ببعض ما ينقصه، وتساهلوا في بعض الشركيات زعماً منهم جوازها أو عدم منافاتها للتوحيد، وأفاد أن هذا خطأ كبير، وأن التوحيد هو أساس الدين وهو الشرط الأول لقبول القربات والطاعات، وأنه يستلزم تعظيم الخالق بجميع التعظيمات، وتعلق القلب به، وصرف جميع العبادات له، سواء كانت قلبية كالمحبة والخوف والرجاء والتوكل والتوبة والإنابة ونحوها،أو قولية كالدعاء والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذكر والحلف، أو بدنية كالركوع والسجود والطواف والعمل البدني، أو مالية كالذبح والنذر، أو تجمع ذلك كله كالطاعة والتعظيم والتعزير والتوقير والولاء والبراء ونحو ذلك مما أشار إليه -جزاه الله خيراً-.
ولا شك أن هذه الرسالة من الأهمية بمكان فنهيب كل مسلم أن يقرأها ويطبقها على نفسه، ويدعو إلى العمل بها بعد معرفتها رجاء أن تصلح أحوال المسلمين، ويعودون إلى توحيد الخالق وتعظيمه وحده، وتصغر المخلوقات في نفوسهم، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (آل عمران:102).
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً" (النساء:1).
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً" (الأحزاب:70، 71).
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
فقد خلق الله الخلق، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل لعبادته وتوحيده "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذريات:56).
وقال _ سبحانه_: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء:25).
وقد بعث صلى الله عليه وسلم إلى أمة كانت تعيش في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، الشرك أساس دينها، والأوثان أربابها وسادتها.
فجاءهم بالتوحيد الخالص، ونهاهم عن الشرك بأنواعه وأجناسه، ولقي منهم في سبيل ذلك أذى كثيراً، فصبر وصابر صلى الله عليه وسلم حتى أتم الله نوره، ودخل الناس في دين الله أفواجاً "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً" (النصر:3).
وكانت هذه السورة من آخر ما نزل من القرآن، مما يدل على الجهد العظيم الذي بذله المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى تحقق له مراد ربه، فأخرج الأمة من الظلمات إلى النور، وهداها إلى صراط مستقيم.
واليوم تشتد الحاجة لإنقاذ الأمة، وإخراجها من ظلمات الجهل والتخلف، إلى نور العلم والإيمان.
ومن أجل ذلك اجتهد الدعاة والمصلحون لتحقيق هذا الهدف العظيم، فبذلت المهج والأرواح، والأموال، وتعددت الجماعات، وتنوعت الأساليب.(/1)
ويقف المسلم متسائلاً: لماذا لم تؤت هذه الجهود -على ضخامتها- ثمارها؟ حتى دب اليأس وحل القنوط محل العزم والتفاؤل، إلا ما رحم ربك، وعند التأمل نجد أن لهذا الأمر سبباً، ففي المنهج خلل، وفي الطريق بلل، وقد توصلت إلى أن من أبرز الأسباب لهذه الحال على مستوى الأمة والجماعات والأفراد، القصور والتقصير في تعلم التوحيد وتعليمه وفهمه وتطبيقه، والناس في ذلك بين مقل وبين مكثر، وعلى حسب تشخيص الداء يكون الدواء، وما يعقلها إلا العالمون.
من أجل ذلك كله اقترح علي بعض الأحبة أن ألقي الضوء على هذا الموضوع، مشخصاً الداء، ومبيناً الدواء، فجاءت هذه الرسالة "التوحيد أولاً" استجابة لهذه الرغبات الكريمة، وقناعة بأهمية هذا الركن العظيم، لتنهض الأمة من كبوتها، وتصحو من رقدتها، وتستبين سبيل ربها، عندما نراها قد التزمت قولاً وفعلاً كتاب الله، واقتفت سنة نبيها صلى الله عليه وسلم وسارت على منهج سلف الأمة الأخيار، فجعلت "التوحيد أولا" ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
أسأل الله أن ينفع بهذه الرسالة كاتبها وقارئها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وذخراً لي يوم الدين.
وصلى الله وسلم على نبينا، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أهمية الكتابة في هذا الموضوع
تتضح هذه الأهمية من خلال العناصر التالية:
1- وجوب النصح للأمة عامة، وللدعاة وطلاب العلم خاصة، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الدين النصيحة -ثلاثاً- فقال الصحابة: لمن يا رسول الله؟ فقال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " (1).
2- إن الله خلق الخلق وأنزل الكتب، وأرسل الرسل بالتوحيد "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذريات:56)، أي: يوحدون.
3- ضعف العناية بالتوحيد، وجعله من الثانويات، والانشغال عنه بغيره مما هو فرع عنه، وإذا نظرنا إلى الدروس والمحاضرات والكتابات الخاصة بالتوحيد وجدناها لا تتناسب مع أهميته.
4- الخطأ في فهم التوحيد وتجزئته وقصره على بعض أفراده، وسيتضح هذا الأمر من خلال هذه الرسالة.
5- ضعف أثر التوحيد عند كثير من المسلمين، مع أنهم درسوا التوحيد وتعلموه.
6- مطالبة أعداء التوحيد بالكف عن الحديث فيه، وتحجيمه، وحذف بعض المناهج الخاصة به.
7- انتشار البدع، وبعض الشركيات القولية والفعلية.
8- تحول التوحيد إلى علم نظري معرفي فقط، بل هناك من أدخله تحت مسمى الفلسفة والجدليات.
9- جهل كثير من المسلمين لأمور هي من أصول العقيدة، كالولاء والبراء، وشرك الأحياء والأموات، ونحو ذلك.
10- إنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهل صلح إلا بكون (التوحيد أولاً).
11- إن هناك من يرى أن التركيز على التوحيد والبداءة به قد يكون عائقا أمام وحدة الأمة، وتأليف الشعوب الإسلامية، واجتماع كلمة الدعاة.
فيتحاشى مناقشة أمور العقيدة خوفاً من الفرقة -كما يتوهم- ويجمع الناس على عمومات لا تثبت عند الملمات، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، وقد أساء فهماً فأساء فعلاً.
ومما سبق يتضح لنا أهمية دراسة أن "التوحيد أولاً" مع التنبيه إلى ما يلي:
ا- أن هذه الرسالة تدور على عنوانها، فهي من أولها إلى آخرها تؤصل وتؤكد قضية أن (التوحيد أولاً).
ب- أنني لن أدخل في مناقشة قضايا العقيدة وتفصيلات أقسام التوحيد وما يتعلق به؛ لأن هذا ليس مراداً هنا، وما سيرد من ذلك فمما تقتضيه طبيعة هذه الرسالة وموضوعها.
ج- آثرت جانب الاختصار، وتحاشيت الاستطراد والتطويل؛ حرصاً على ترابط الموضوع، وتسهيلاً لفهمه واستيعابه، وليكون أدعى لانتشاره، وأيسر لقراءته.
د- آمل ألا يتعجل متعجل فيفهم غير ما أردت، أو يحمل العبارة غير ما تحتمل، وكلامي يفسر بعضه بعضاً، وأخذ بعض الجمل والعبارات بمعزل عما قبلها أو بعدها قد يوهم بخلاف المراد، وهذا الفعل ليس من أخلاق المؤمنين، والله المستعان.
التوحيد: تعريفه وأقسامه
أولاً: تعريف التوحيد
1- التوحيد لغة: الإفراد.
ولا يكون الشيء مفرداً إلا بأمرين:
1- الإثبات التام.
2- النفي العام.
فلو قلت: زيد قائم لم تفرده؛ لاحتمال أن يكون غيره قائماً أيضاً.
لكن إن قلت: ما قائم إلا زيد، فقد أفردته بإثباتك القيام التام له، ونفيك العام للقيام عن غيره.
2- التوحيد شرعاً: إفراد الله بحقوقه.
ولله ثلاثة حقوق:
1- حقوق ملك.
2- حقوق عبادة.
3- حقوق أسماء وصفات.
ثانياً: أقسام التوحيد
ذكر العلماء أن دلالة الاستقراء للنصوص تفيد أن التوحيد ثلاثة أقسام:
1- توحيد الربوبية.
2- توحيد الألوهية.
3- توحيد الأسماء والصفات.
ومن العلماء -كشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم- من جعل التوحيد قسمين:
1- توحيد في المعرفة والإثبات: وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات.
2- توحيد في الطلب والقصد: وهو توحيد الألوهية.
توضيح هذه الأقسام
1- توحيد الربوبية:
وهو إفراد الله بالخلق، والملك، والتدبير، وهو -أيضا- توحيد الله بأفعاله.
__________
(1) - أخرجه مسلم (1/74) رقم (55).(/2)
- ودليل إفراده بالخلق قوله -تعالى-: "هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ" (فاطر: من الآية3)، وقوله: "أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ" (النحل: من الآية17).
ومن مخلوقاته أفعال عباده، كما قال -تعالى-: "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ" (الصافات:96).
ودليل إفراده بالملك قوله -تعالى-: "تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ" (الملك: من الآية1)، وقوله: "قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ "(المؤمنون: من الآية88).
- ودليل التدبير قوله -تعالى-: "أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ" (لأعراف: من الآية54)، والمراد بالأمر هنا: التدبير.
أقسام ربوبية الله لخلقه:
ربوبية الله لخلقه على نوعين:
الأول: ربوبية عامة، شاملة لجميع المخلوقات، وهي: أن الله هو المنفرد بخلقها، ورزقها، وتدبيرها.
الثاني: ربوبية خاصة، وهي خاصة بأولياء الله وأصفيائه، وهي تربيته لهم بهدايتهم للدين والإيمان.
قال الشيخ السعدي في تفسيره (1/14):
وتربيته -تعالى- لخلقه نوعان: عامة وخاصة.
فالعامة: هي خلقه للمخلوقات، ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة: تربية لأوليائه، فيربيهم بالإيمان ويوفقهم له ويكملهم ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه.
وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، والعصمة من كل شر.
ولعل هذا المعنى هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ (الرب) فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبية خاصة اهـ.
عدم كفايته العبد في حصول الإسلام:
هذا التوحيد لا يكفي العبد في حصوله الإسلام، بل لابد أن يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الألوهية؛ لأن الله -تعالى- حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد وحده، قال-تعالى-: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" (الزخرف: من الآية87)، وقال: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" (العنكبوت: من الآية63).
فتبين أن الكفار يعرفون الله ويعرفون ربوبيته، وملكه وقهره، ولم تدخلهم تلك المعرفة في الإسلام.
2- توحيد الألوهية
وهو إفراد الله بالعبادة، ومبناه على إخلاص التأله لله -تعالى- في العبادات كلها ظاهرها وباطنها، لا يجعل فيها شيء لغيره، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، فضلاً عن غيرهما، وهذا التوحيد هو الذي تضمنه قوله -تعالى-: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" (الفاتحة:5) ، وقوله: "فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" (هود: من الآية123)، وقوله: "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" (الحجر:99)، وهو -أيضاً- توحيد الله بأفعال العباد، وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قول لا إله إلا الله، ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة، وأشقياء أهل النار (1).
ولا بد مع توحيد الألوهية من الإتيان بلازمه من توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
3- توحيد الأسماء والصفات
هو إفراد الله بما سمى به نفسه ووصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ،وذلك بإثبات ما أثبته من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل (2).
أسس هذا التوحيد:
يقوم توحيد الأسماء والصفات على ثلاثة أسس من حاد عنها لم يكن موحداً لربه في الأسماء والصفات:
الأساس الأول: تنزيه الله عن مشابهته الخلق، وعن أي نقص.
الأساس الثاني: الإيمان بالأسماء والصفات الثابتة في الكتاب والسنة، دون تجاوزها بالنقص منها أو الزيادة عليها أو تحريفها أو تعطيلها.
الأساس الثالث: قطع الطمع عن إدراك كيفية هذه الصفات (3).
أدلة هذا التوحيد:
أما الأسماء فقد دل عليها قوله -تعالى-: "وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا" (الأعراف: من الآية180)، وقوله: "لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى" (الحشر: من الآية24).
وأما الصفات فقد دل عليها إقراره صلى الله عليه وسلم لقول الصحابي في الحديث الذي أخرجه البخاري: "إنها صفة الرحمن" (4)
وقد أنكر ابن حزم صحته، وليس قوله معتبراً، فالإسناد صحيح، وقد أخرجه البخاري.
عدم كفايته في حصول الإسلام.
وهذا التوحيد لا يكفي في حصول الإسلام، بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه من توحيد الربوبية والألوهية.
ولم يكن الكفار ينكرون هذا النوع، إلا أن بعضهم قد ينكر بعضه، إما جهلاً، وإما عناداً، كما بينه ابن كثير والشيخ سليمان بن عبد الله في (تيسير العزيز الحميد).
فضل التوحيد
__________
(1) - تيسير العزيز الحميد (ص 36) باختصار.
(2) - فتاوى الشيخ العثيمين (2/112-113).
(3) - انظر: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات للشنقيطي (ص 3،5).
(4) - صحيح البخاري (8/165).(/3)
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " (1) متفق عليه.
وفي حديث عتبان -المتفق عليه- قال صلى الله عليه وسلم : " فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله " (2).
وفي حديث موسى -عليه السلام- مع ربه: قال: "يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله " رواه ابن حبان والحاكم وصححه (3).
ومما يدل على فضل التوحيد خطورة وعظم الإشراك بالله -تعالى- قال -سبحانه-: "إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً" (النساء:48)، والتوحيد هو الإيمان، فمن وحد الله فهو في أمان يوم الفزع الأكبر "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" (الأنعام:82).
وكلمة التوحيد،هي: لا إله إلا الله، ولا تنفع صاحبها إلا إذا تحققت شروطها، وهذه الشروط هي:
1- العلم بمعناها نفياً وإثباتاً.
2- اليقين، وهو كمال العلم بها المنافي للشك والريب.
3- الإخلاص المنافي للشرك.
4- الصدق المانع من النفاق.
5- المحبة لهذه الكلمة، ولما دلت عليه والسرور بذلك.
6- الانقياد بأداء حقوقها، وهي الأعمال الواجبة، إخلاصاً لله، وطلبا لمرضاته.
7- القبول المنافي للرد (4).
وأختم بيان فضل التوحيد بهذين الحديثين:
أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك أن النبي _صلى الله عليه وسلم_، ومعاذ رديفه على الرحل، قال: "يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك (قالها ثلاثاً)، قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله -تعالى- على النار، قال: يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذن يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثما " (5).
وللترمذي عن أنس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا ابن آدم لو أتيتني بقراب (6) الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة" (7).
التوحيد دعوة الرسل
قال ابن القيم -رحمه الله-:" وجميع الرسل إنما دعوا إلى "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" (الفاتحة:5)، فإنهم كلهم دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته، من أولهم إلى آخرهم، فقال نوح لقومه:"اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ" (الأعراف: من الآية59)، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وإبراهيم- عليهم السلام-، وقال -تعالى-: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" (النحل: من الآية36)، وقال: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء:25). "
وقد ذكر ابن القيم أن كل الدين يرجع إلى الفاتحة، إذ هي مشتملة على التوحيد بجميع أنواعه.
وهذا سر من أسرار تكرارها في كل صلاة، وقراءتها في كل ركعة، وأن الصلاة لا تتم بدونها "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (8) وقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته بالتوحيد فكان يدعو قريشاً ويقول لهم: " قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا" (9).
__________
(1) - أخرجه البخاري (4/139). ومسلم رقم (28) واللفظ للبخاري.
(2) - أخرجه البخاري (1/110). ومسلم (1/455).
(3) - انظر الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (14/102) رقم (6218) والمستدرك (1/528) وأخرجه أيضا النسائي في اليوم والليلة رقم (834) و (1141). والطبراني في الدعاء رقم (1480) وهذا الحديث وإن صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وكذلك صححه الحافظ ابن حجر في الفتح (11/211) إلا أنه من رواية دراج أبي السمح عن أبي الهيثم وفيها ضعف. قال الحافظ ابن حجر نفسه: في حديثه عن أبي الهيثم ضعف. انظر التقريب رقم (1824) والتهذيب (3/208، 209). والحديث ضعفه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (5/55) وفي تحقيقه للإحسان رقم (6218). والله أعلم.
(4) - انظر فتح المجيد ص89 وكتاب: لا الله إلا الله للشيخ صالح الفوزان.
(5) - صحيح البخاري (1/41). وأخرجه مسلم رقم (32).
(6) - بقراب: أي بما يقارب ملؤها.
(7) - سنن الترمذي رقم (3540) وأخرجه أيضا الضياء في المختارة. وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (4338).
(8) - أخرجه البخاري (1-184). ومسلم رقم (394).
(9) - أخرجه أحمد (3- 492)، (4-63، 341)، (5- 371، 376). وأخرجه أيضا الطبراني قال الهيثمي في المجمع (6-24، 25) عن إسناد الطبراني: رجاله ثقات وقال عن أحد أسانيد أحمد: رجاله رجال الصحيح.(/4)
وعندما هاجر إلى المدينة وقامت دولة الإسلام استمر يدعو إلى التوحيد حتى لقي ربه صلى الله عليه وسلم ، وسار خلفاؤه على هذا المنهج، بل إن من أول ما قام به أبو بكر هو قتال المرتدين، ولم يؤجل ذلك بدعوى استقرار الأوضاع، ويتساهل في ذلك بحجة أنهم يشهدون أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ماداموا لم يحققوا مدلولهما ومقتضاهما، وقال:" والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة " (1).
ومع قيام الخلافة فلم يتوقف قتال المشركين ولم تخب الدعوة إلى توحيد الله، حتى ضعفت الخلافة وتفرقت الأمة وأصبحت شيعاً وأحزاباً، وفشا الإرجاء والاعتزال.
واقع الأمة اليوم
بعد أن عرفنا معنى التوحيد وفضله، وأنه دعوة الرسل نقف وقفة مناسبة مع واقع الأمة ليتضح لنا مدى التزامها بالتوحيد أو بعدها عنه، حيث إن بعض طلاب العلم قد لا يتصور خطورة الأمر، نظراً لأنه يعيش بين أناس هم على عقيدة التوحيد، وتقل بينهم البدع والشركيات، فيتوهم أن أغلب المسلمين هم على هذه الحالة، بينما الحقيقة بخلاف ذلك، وإليك بيان ذلك:
1- الرافضة ودورهم الخطير في العالم الإسلامي
لست في حاجة إلى بيان منافاة عقيدة الرافضة للتوحيد، وأنهم يضيقون ذرعاً بدعوة التوحيد، فهذا الأمر أشهر من أن يوقف عنده، وإن تجاهل هذه الحقيقة من لم يترب على هذا المنهج وانجرف في تيار المناهج الأخرى.
وإنما أردت أن أبين أن الرافضة يقومون الآن بدور خطير في أنحاء المعمورة، وبخاصة بعد قيام دولتهم.
وقد بلغ أثرهم مشارق الأرض ومغاربها، وهذه حقيقة وليست مبالغة، فالمجاهدون في أفغانستان يعانون من تسلط الرافضة على انتصارهم وهم جادون في الحيلولة دون قيام دولتهم، وفي الجمهوريات الإسلامية الأمر أشد وأنكى، وفي السودان استغلوا الظروف فولجوا من خلالها.
وفي إفريقيا يعاني منهم أهل السنة الأمرين، وفي أوروبا وأمريكا أقاموا مؤسساتهم ومراكزهم ونشروا كتبهم وصحفهم، بل لقيت وفداً من الدعاة في أستراليا فإذا هم يشكون من تسلطهم وطغيانهم، وقل أن نجد بلداً إلا ولهم فيه موطئ قدم، فإذا ثبتت لنا هذه الحقيقة، علمنا ما يكاد لدعوة التوحيد ولعقيدة السلف على يد هؤلاء، وأدركنا خطورة الأمر ووجوب المبادرة إلى علاجه، ولن يكون ذلك إلا إذا كان (التوحيد أولاً).
2- الخرافيون وتأثيرهم الذي لا ينكر:
معارك الخرافيين مع التوحيد ليست جديدة، وسعيهم الحثيث لتأصيل البدع ونشر الشرك في بلاد المسلمين يعرفها القاصي والداني، وخدمتهم للاستعمار قديماً وحديثاً ليست بحاجة إلى شرح أو بيان، والذي يتأمل خارطة العالم الإسلامي، ويضع لوناً مميزاً للمناطق التي يكثر فيها هؤلاء يذهل من النتيجة التي سيراها.
وقد نشطوا في الآونة الأخيرة، وأقاموا عدداً من المؤسسات التي تدعوا إلى منهجهم وتنفق على مشاريعهم بسخاء.
ويكفي أن نعلم أن مؤسسة واحدة من مؤسساتهم قد خصصت ما يعادل (500) مليون ريال لإنفاق استثمارها وريعها على ما يدعم منهجهم وعقيدتهم،
وفي إحدى البلاد الإسلامية بلغ عدد المسجلين في الجمعيات الخرافية أكثر من خمسة ملايين عضواً.
3- الخوارج من أول الفرق التي نبتت في هذه الأمة، ولقد عانى منهم الجيل الأول معاناة شديدة، وأعلنوا وقوفهم أمام السلف وحربهم لمنهج أهل السنة والجماعة.
فشقوا عصا الطاعة، وابتدعوا في دين الله ما ليس منه، ووقف لهم السلف وقفة حازمة، ودخلوا معهم في معارك كثيرة، حتى ضعفت شوكتهم وقل أثرهم.
ولكنهم كانوا يعودون بين فينة وأخرى، وفي هذا الزمن عادت سوق الخوارج رائجة، وبخاصة مع وجود دولة تدعمهم وتدافع عن مذهبهم وتربي الناس على منهجهم.
4- الشركيات والبدع المنتشرة في العالم الإسلامي، ومن مظاهرها:
دعاء الأموات والاستغاثة بهم، والطواف حول القبور، والذبح للأولياء، ولو ألقينا نظرة سريعة على واقع البلاد الإسلامية لوجدنا في كل بلد قبراً أو أكثر يعبد صاحبه من دون الله، فمثلاً في بعضها يوجد قبر علي بن أبي طالب، وكذلك قبر الحسين، وفي أخرى رأس الحسين، وفي ثالثة قبر زينب والبدوي، وكذلك قبر أبي أيوب في بلد أخرى.
__________
(1) - هذا جزء من مقالة أبي بكر- رضي الله عنه- لعمر حين عارض قتال مانعي الزكاة لأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، فأقام أبو بكر- رضي الله عنه- الأدلة على جواز هذا القتال بدليل واضح وبرهان ساطع، فلم يسع عمر بعد ذلك إلا أن قال مذعنا: "فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر- رضي الله عنه- للقتال فعرفت أنه الحق!!" والحديث أخرجه البخاري (2- 110). ومسلم رقم (20).(/5)
وقبور الصحابة المنتشرة في كثير من البلاد الإسلامية، وقبور بعض الصالحين والأولياء، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، وذلك في عدة أحاديث صحيحة، منها: ما رواه جندب بن عبد الله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجداً ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجداً فإني أنهاكم عن هذا" (1) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم في مرض موته: " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجداً-يحذر ما صنعوا- " (2) متفق عليه.
ويكفي أن نعلم أنه في بلد من البلاد الإسلامية يزور قبر رجل فيها في كل سنة أكثر من مليوني نسمة، ويرتكب عند هذا القبر من الشركيات والبدع ما لا يعلمه إلا الله، فكم عدد الذين يزورون القبور من أهل البدع في أنحاء العالم الإسلامي؟
5- وجود النصارى في كثير من الدول الإسلامية، بل حتى في دول الخليج، حتى إنه يوجد لهم كنائس معلنة في بعض تلك الدول، والله- جل وعلا- يقول: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" (البقرة: من الآية120).
6- الوثنيون، وبخاصة عن طريق العمالة الآسيوية، وقصة الهندوس مع المسجد البابري خير شاهد على ما نقول.
7- انتشار السحرة والمشعوذين، حتى وصل الأمر إلى أن رجلا جاء يسأل ويقول: أين بيت الساحرة فلانة؟
وقد أجرت بعض الصحف الخليجية مقابلات مع عدد من هؤلاء السحرة،
وهناك صحف تنشر عناوين وهواتف هؤلاء مع نشر صورهم أحياناً.
وما ينشر تحت زوايا النجوم والأبراج يدخل في هذا الباب.
8- وأخيراً:
انتشار بعض الألفاظ البدعية أو الشركية والأعمال المحرمة المنافية للتوحيد أو كماله؛ كالحلف بغير الله، والاعتقاد أن غير الله ينفع أو يضر، وأعياد الميلاد، وتعليق التمائم، وقراءة الكف، والاعتقاد بأثر الأبراج والنجوم، وهلم جرا.
هذه صورة مجملة عن واقع العالم الإسلامي تبين خطورة الأمر، ووجوب المبادرة إلى إنقاذ هؤلاء، سواء أكانوا ممن وقع في الشرك، وهم يحسبون أنهم مسلمون؛ لأنهم يصلون ويحجون، أم كانوا ممن وقع في البدع والخرافة، ويظنون أنهم من أهل السنة والجماعة.
ولو توجهت هذه الصحوة المباركة إلى العناية الفائقة بهذه القضية لتغيرت الأحوال، وهذا لن يكون إلا إذا كانت هناك أولويات وكان "التوحيد أولاً".
ضعف الولاء والبراء
قال _تعالى_: "وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ" (المائدة: من الآية51)، وقال _سبحانه_:"لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ"(المجادلة: من الآية22).
وقال: "وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ" (هود: من الآية113) وقال صلى الله عليه وسلم : " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله والموالاة في الله، والمعاداة في الله" (3).
وقال صلى الله عليه وسلم : "من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان " (4). رواه أحمد عن معاذ وأنس وغيره.
والذي يتأمل في أحوال المسلمين اليوم يلحظ ضعف الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين، وهذا ينافي كمال التوحيد، وقد يصل بصاحبه إلى الكفر "وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ" (المائدة: من الآية51).
ومن علامات ضعف هذا الجانب ما يلي:
1- ضعف نصرة المسلمين بعضهم لبعض، رأينا ونرى التناحر والتدابر والتقاطع حتى وصل في أحوال كثيرة إلى القتال فيما بينهم.
2-التشبه بالكفار في اللباس والعادات، و " من تشبه بقوم فهو منهم ".
3- مجالسة الكفار استئناساً بهم وحبهم، ومن ذلك استقدامهم مع عدم الضرورة إلى ذلك، وخصوصاً أنه يوجد في المسلمين من يقوم مقامهم، في البيوت والشركات والزراعة والتجارة ونحوها.
4- الإعجاب بالغرب، وتمني اللحاق به، وطلب الحماية منه، ونصرته، ومعايشته يومياً عبر وسائل الإعلام، وخصوصاً البث المباشر.
5- السعي لكسر الحاجز النفسي مع اليهود والنصارى.
6- الابتعاث لبلاد الكفار دون حاجة تدعو إلى ذلك.
أخي الكريم: أليست هذه المظاهر مما ينافي ويضاد التوحيد أو كماله؟ فأين المخرج؟
العلمنة تعصف بالعالم الإسلامي
__________
(1) - أخرجه مسلم رقم (532).
(2) - أخرجه البخاري (1-112). ومسلم رقم (531).
(3) - أخرجه الطبراني في الكبير رقم (10531، 10537) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (2539).
(4) - أخرجه أبو داود رقم (4681) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (5965) والسلسلة الصحيحة رقم (380).(/6)
مما ينافي التوحيد ترك الحكم بما أنزل الله، والحكم بسواه من أنظمة البشر، قال -تعالى-: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" (المائدة: من الآية44)، وقال: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" (النساء:65)، وقال: "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" (المائدة:50)، والآيات في هذا كثيرة معروفة.
وفصل الدين عند الدولة، وإبعاد حكم الله وشرعه أن يكون حاكماً على الناس هو السائد الآن في أغلب بلاد المسلمين، حيث يحكمون بشرائع وقوانين بشرية ما أنزل الله بها من سلطان، وهناك من يهون من هذا الأمر ويقلل من شأنه مع أنه كفر بواح.
قال العلامة عبد الرحمن بن حسن في (فتح المجيد): فمن خالف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله، أو طلب ذلك اتباعاً لما يهواه ويريده فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه، وإن زعم أنه مؤمن، قال -تعالى-: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً" (النساء:60).
وهناك أمر آخر ينافي كمال التوحيد، وهو أنه توجد في بعض الدول التي تعلن التزامها بالإسلام أنظمة مصلحية لا تخالف كتاب الله ولا سنة رسوله، كبعض التنظيمات الإدارية والمالية والمرورية والبلدية، وليست الخطورة في وجود هذه التنظيمات، وإنما واقع الناس حيالها، حيث إنهم يعطونها من الاحترام ما لا يعطونه لأمر الله ونهيه، فيعظمون من شأنها ويجرمون مخالفها ويشنعون عليه مما لا يفعلون مثله لو خالف أمر الله وحكمه، بل تجدهم تجاه أحكام الشرع يبحثون له عن الرخص، ويأخذون بأدلة عامة تذهب ريح أحكام الشرع وتقلل من هيبتها، وتهون مخالفتها، فيعظم في نفوس الناس أوامر البشر وأحكامهم، ويضعف عندهم وازع الدين وهيبة الشرع، وهذا فيه من منافاة كمال التوحيد ما فيه، بل قد يصل إلى الخروج عن التوحيد إلى الكفر والشرك "وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (النور:48-51).
الخلل في فهم التوحيد وقصره على بعض أجزائه
سبق وأن بينت أن التوحيد ينقسم ثلاثة أقسام، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وقد بينت مع كل قسم من أقسام التوحيد لزوم القسمين الآخرين وعدم كفاية أحدها دون الآخرين.
وعند التأمل في منهج بعض الدعاة والجماعات الإسلامية تجد عنايتها بنوع واحد من أنواع التوحيد وإهمال غيره، وقد وصل الأمر ببعضهم إلى إخراج بعض أقسام التوحيد من التوحيد وعدم اعتباره، بل قد يخطئون أو يبدعون من يعنى بمسائل هي من التوحيد ظناً منهم أنها ليست منه.
وسبب ذلك هو قصر التوحيد على بعض أنواعه دون اعتبار لسواه، ومن ذلك الجهل بعلاقة بعض المسائل والقضايا بالتوحيد، فمثلاً هناك من يعد أن التوحيد هو توحيد الأسماء والصفات، وما يتفرع عنه من الحديث عن الفرق المنحرفة، ويهمل بقية أنواع التوحيد.
وآخرون يعدون التوحيد بعض توحيد الألوهية كالذبح لغير الله، أو دعاء الأموات والنذر لهم والرياء، والحلف بغير الله، ونحوه أما ما عداه فلا يعده من التوحيد أو لا يعيره اهتماما، مثل الحكم بما أنزل الله، وما يترتب على ترك الحكم بما أنزل الله من عبادة الطاغوت أو الزعماء والأعراف ونحوها.
وقسم ثالث يرون أن التوحيد هو إفراد الله بالملك ووجوب التحاكم إليه وحده، ويحذرون من الطواغيت والأرباب من دون الله، ولا يعنون ببقية أقسام التوحيد من شرك الأموات، والحديث عن الفرق الضالة، وانحرافها في توحيد الأسماء والصفات (1).
وأزيد الأمر إيضاحاً فأقول:
__________
(1) - نشرت إحدى المجلات مقالا تنتقد فيه تدريس الفرق الضالة كالمعتزلة والخوارج وتقول إنها قد انتهت ولا وجود لها الآن، وهذا جهل أو تجاهل.(/7)
في بعض البلاد الإسلامية إذا تحدث أحد أو صنف فيما يتعلق بالبناء على القبور، والتبرك بقبور الصالحين، والدعاء عندها، قال بعض الدعاة: إن هذا يتحدث في أمور ذوقية، فإن تحدث متحدث عن الفرق وضلالها، قالوا: إنك تبث الفرقة والخلاف.
إما إن تحدث عن وجوب تحكيم شريعة الله ونبذ ما سواها، قالوا: هذا يتكلم عن التوحيد، وآخرون: يصفون من يتحدث عن الأسماء والصفات وخطورة الفرق على الأمة بأنه معني بالتوحيد ومنهجه سليم.
فإن تحدث آخرون عن وجوب الحكم بما أنزل الله، وطالبوا بذلك قالوا لهم: أنتم تتحدثون في السياسة، أو تثيرون الفتنة، وهكذا، والخلاصة أنك تجد كل فريق قد أخذ بقسم من أقسام التوحيد، وقصر التوحيد عليه وفسره به، وأخرج عنه ما عداه.
وهؤلاء كلهم مخطئون، بعيدون عن الصواب، وذلك أن التوحيد أشمل مما ذهب إليه هؤلاء، فمن أخل بقسم من أقسام التوحيد فقد أخل بالتوحيد.
ولابد من فهم التوحيد فهماً شاملاً بأقسامه الثلاثة ومستلزماتها.
قال _سبحانه_: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" (النحل: من الآية36).
وقال _سبحانه_:"لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا" (البقرة: من الآية256).
وقال _سبحانه_: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات:56).
والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
والطاغوت: كل ما عبد من دون الله، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في (فتح المجيد): قال ابن القيم: "الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، ومن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت ومتابعته.
وقال الإمام محمد بن عبدالوهاب في كتاب التوحيد: واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمناً إلا بالكفر بالطاغوت، والدليل قوله-تعالى-: "فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا" (البقرة: من الآية256).
وقال العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز مبيناً شمول التوحيد في رسالته (وجوب التحاكم إلى شرع الله): "والعبودية لله وحده، والبراءة من عبادة الطاغوت والتحاكم إليه من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، فالله -سبحانه وتعالى- هو رب الناس وإلههم، وهو الذي خلقهم، وهو الذي يأمرهم وينهاهم، ويحييهم ويميتيم، ويحاسبهم ويجازيهم، وهو المستحق للعبادة دون كل ما سواه، قال -تعالى-: "أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ" (الأعراف: من الآية54)، فكما أنه الخالق وحده، فهو الآمر -سبحانه-، والواجب طاعة أمره".
ونخلص من هذا كله أن هناك انحرافاً عند بعض الناس في فهم التوحيد، حيث قصروا الكل على الجزء وفسروه به.
والذي يجب أن نعلمه أن التوحيد شامل متكامل، يكمل بعضه بعضاً، ويأخذ بعضه برقاب بعض، فمن أخذ ببعضه وترك البعض فقد آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" (البقرة: من الآية85).
بل إن كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) تشتمل على نفي وإثبات، نفي كل معبود سوى الله من بشر أو حجر أو جن أو شيطان أو غيرها.
وتثبت أن العبودية الحقة لله وحده، والنفي مقدم على الإثبات.
وبهذا نخلص إلى أن الحديث عن الفرق وبيان انحرافها وضلالها هو من التوحيد، والحديث في شرك الأموات من الذبح والنذور والدعاء ونحوها هو في صميم التوحيد، والدعوة إلى تحكيم شريعة الله، ونبذ شريعة الطاغوت وما يتفرع عن ذلك من الحديث عن الكفار والأنظمة الوضعية وخطط الأعداء ومؤامراتهم كل ذلك من التوحيد.
ولقد كان سلفنا الصالح يفهمون هذا الفهم الشامل المتكامل، وصنفوا في كل الأقسام والأنواع، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية كتبه خير شاهد على ما ذكرت من الحديث عن الفرق الضالة، وبيان وجوب التزام منهج السلف في الأسماء والصفات، كما تجد الحديث عن الشرك وأنواعه، وكذلك عن التتار والمغول وما جاؤوا به من أنظمة ونحوها، ووجوب تحكيم شريعة الله والرجوع إليها ونبذ ما سواها.
وهذا ابن القيم يقول في كتابه (مدارج السالكين):(/8)
الاعتراض على الله على ثلاثة أنواع سارية بين الناس:
1- الاعتراض على أسمائه وصفاته بالشبه الباطلة.
2- الاعتراض على شرعه وأمره.
3- الاعتراض على أفعاله وقضائه وقدره.
ثم يبين كيفية هذا الاعتراض، وكان مما قال تحت القسم الثاني:
ومنهم أهل الاعتراض بالسياسات الجائرة، التي لأرباب الولايات التي قدموها على حكم الله ورسوله، وحكموا بها بين عباده، وعطلوا لها وبها شرعه وعدله وحدوده.
وقال أصحاب السياسة: إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة.
فجعلت كل طائفة قبالة دين الله وشرعه طاغوتاً يتحاكمون إليه.
ونجد ابن أبي العز الحنفي في (شرح العقيدة الطحاوية) قد بين أنواع التوحيد ولم يقتصر على نوع دون الآخر، فضلاً عن أن يخطئ من تكلم في أنواع التوحيد.
وشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب عقد أبواباً في جميع أنواع التوحيد في كتابه الفريد (التوحيد)، ومن رجع إليه وتأمله وجد ذلك جلياً في كتابه، ومن ذلك:
1- باب تفسير التوحيد وشهادة لا إله إلا الله.
2- باب ما جاء في الذبح لغير الله.
3- باب ما جاء في الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً.
4- باب ما جاء في السحر.
5- باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات.
6- باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله.
7- باب قوله -تعالى-: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ" (النساء: من الآية60).
8- باب ما جاء في منكر القدر، إلى غير ذلك من الأبواب والمسائل التي ساقها في كتابه.
وكذلك من يرجع إلى فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، وفتاوى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، وفتاوى سماحة الشيخ محمد بن عثيمين يجد فيها عنايتهم بجميع أنواع التوحيد من خلال فتاواهم ورسائلهم وكتبهم.
وبهذا نصل إلى النتيجة التالية:
وجوب فهم التوحيد فهماً شاملاً متكاملاً بجميع أنواعه وأقسامه، وعدم قصره على بعض أنواعه وأقسامه، ويستلزم هذا تطبيقه والدعوة إليه وتعليمه،
ولا يجوز لأحد أن يعيب على جماعة أو داعية عني بجانب من جوانب التوحيد دون أن يدعي قصر التوحيد على هذا الجانب أو حصره فيه، ولا أن يهون من شأن ما يقوم به هذا الداعية أو تلك الجماعة، فضلاً عن الوصف بالضلال أو الانحراف، مادام ملتزماً بمنهج السلف الصالح داعياً إليه، والدعاة يكمل بعضهم بعضاً.
ضعف أثر عقيدة التوحيد عند بعض المسلمين
كل أمر معرفي يجب أن يمر بثلاث دوائر:
الأولى: الدائرة العلمية المعرفية.
الثانية: الوجدان والتفاعل.
الثالثة: العمل والتطبيق.
ولنأخذ مثلاً يوضح ذلك:
رجل جاءه خبر بوفاة عزيز لديه، فإنه يتأثر وينفعل ولو داخلياً، ثم يقوم بما يجب عليه تجاه هذا الأمر من صلاة عليه، وتعزية لأهله، والقيام ببعض حقوقه إن لزم الأمر.
فعلمه بالوفاة هو الدائرة الأولى، وتأثره وتفاعله هو الدائرة الثانية، وقيامه بما يجب عليه الدائرة الثالثة.
وعلم التوحيد يجب أن يمر بهذه المراحل جميعاً.
فمثلاً: يجب أن يعلم أن الله شديد العقاب، ثم يتفاعل مع هذا العلم فيخاف الله، ومن ثم يبتعد عن المعاصي ويأتي بالأوامر خوفاً من عقابه.
وعند التأمل في واقع كثير من المسلمين يجد الإنسان أنه لا ينقصهم العلم المعرفي، فقد تجد الكثير منهم يعرف التوحيد بأقسامه وتفصيلاته، ولكن عندما نبحث في مدى تأثره وجدانياً لا نلمس أي أثر لذلك، أو قد نجد أثراً ضعيفاً لا يتناسب مع علمه ومعرفته.
فإذا انتقلنا إلى مرحلة التطبيق والعمل ندرك الخلل الكبير والفرق بين علمه وعمله، وهكذا كان بنو إسرائيل فمعهم علم غزير، ولكنهم لم يتأثروا ولم يعملوا.
ومن خلال ما سبق نستطيع أن نفسر كثيراً من الظواهر السلبية في حياة بعض المسلمين، فإنه لا ينقصهم العلم المعرفي، ولكن ينقصهم التفاعل والتأثر والعمل.
ولنضرب أمثلة من الواقع: فلو جئت إلى أحد المسلمين وقلت له: من يرزقك؟ لأجابك: إنه الله- جل وعلا-.
فإذا سألته: وما دليلك؟ أجابك على الفور: "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" (الذاريات:58) ، وقد يزيد دليلاً آخر، فيقول: "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا" (هود: من الآية6).
ثم تأمل حال هذا الإنسان: يكد ليلاً ونهاراً وكأنه خلق لهذه الدنيا، فعبادته ضعيفة، وحقوق الأهل والأقارب مقطوعة، بل وحقوق النفس مضيعة.
ثم قد يقول لك أو لغيرك: إن فلاناً يريد أن يقطع رزقي، وأخشى أن أموت من الجوع، ومن لأولادي من بعدي، ونحو هذه العبارات التي تدل على أن علمه المعرفي لم يتحول إلى حقيقة يتعامل معها في وجدانه وسلوكه، وإنما بقي علماً معرفياً نظرياً.
ومثال آخر: حب الله ورسوله:(/9)
لا تجد مسلماً إلا ويقول لك: إنه يحب الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم بل إن حبهما أغلى لديه من كل محبوب.
ولكن انظر إلى تصرفه ومعاملاته وحياته لا تجد مصداق ذلك، فهو يقدم محبوب نفسه وشهوته على حب الله وأمره، ولذلك جاء قوله -تعالى- يعالج هذه القضية وهذا الخلل بين التصور والسلوك، فقال _سبحانه_: " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ" (آل عمران: من الآية31)، وصور هذه الحقيقة الشافعي، فقال:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... هذا لعمرك في القياس شنيع
إن المحب لمن يحب مطيع
وقل مثل ذلك في سائر مسائل الاعتقاد، وخصوصاً لوازم الأسماء والصفات.
ومن هنا فإنه يجب على العلماء وطلاب العلم العناية بهذه القضية، وخصوصاً من يدرسون التوحيد، فلا يكتفون بتدريسها علماً معرفياً نظرياً، وإنما يجب أن يعنوا بأن يتفاعل معها المسلم وجدانياً "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" (الأنفال:2).
وكذلك عليهم أن يولوا جانب التطبيق أهمية قصوى؛ لأن العمل هو الثمرة من العلم: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا" (النساء: من الآية136)، "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً" (الحجرات: من الآية14).
وبهذا يتكامل التوحيد ويؤتي ثماره، وهذا معنى قول أبي عبد الرحمن السلمي: "ما كنا نتجاوز عشر آيات حتى نعلم ما فيها من العلم والعمل"، ولنتأمل قوله -تعالى-: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ" (الصف:2، 3).
الغلو في العلماء والتعصب لهم وتقديم أقوالهم
من المسائل التي تتعلق بالتوحيد هو ما نراه من تعصب لأقوال الرجال وغلو في العلماء وتقديم أقوالهم على الكتاب والسنة.
وهذه مسألة خطيرة جداً، ما وجدت في قوم إلا أهلكتهم، وهي تنافي كمال التوحيد، وقد تصل ببعض الأفراد إلى الكفر "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً" (التوبة: من الآية31).
وقد حذر ابن عباس من عاقبة هذا الأمر، فقال:"يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وتقولون: قال أبو بكر وعمر" (1)
وكذلك نبه الإمام أحمد لهذه المسألة بقوله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، ويذهبون إلى رأي سفيان، والله -تعالى- يقول:" فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (النور: من الآية63)، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن:
والأئمة -رحمهم الله- لم يقصروا في البيان، بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة؛ لعلمهم أن من السنة شيئاً لم يعلموه وقد يبلغ غيرهم، وذلك كثير كما لا يخفى على من نظر في أقوال العلماء (2).
والمقصود أن هذه مسألة مهمة يجب أن يوليها العلماء وطلاب العلم عناية خاصة، وأن يربوا طلابهم على اتباع الدليل لا تقليد (3) الأشخاص والتعصب لهم والانتصار لآرائهم، فقد عانت الأمة من الحزبية والتعصب والغلو، وآثار هذا الأمر غير خافية.
والغلو باب خطير تلج عن طريقه كثير من الشرور، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حذر من هذا الأمر، فقال في الحديث الصحيح: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله " (4).
وفي حديث أنس عندما قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم :أنت سيدنا وابن سيدنا، قال: " قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان" (5).
وقال صلى الله عليه وسلم :"إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" (6) وتربية الناس على التوحيد والعبودية المطلقة لله هو المخرج من هذه الأمراض والمصائب.
معاص أم كفر
__________
(1) - انظر فتح المجيد ص 393 وص 395.
(2) - فتح المجيد ص 398.
(3) - التقليد منه جائز ومذموم وليس هذا مكان تفصيل ذلك.
(4) - أخرجه البخاري (4- 142).
(5) - أخرجه أبو داود رقم (4806) بلفظ "ولا يستجرينكم" وأحمد (3-153، 241) واللفظ له.
(6) - أخرجه أحمد (1-215، 347) والنسائي رقم (3057). والحاكم (1-466). وابن ماجة رقم (3029) وصحح إسناده على شرط مسلم شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء ص (106) وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (1283).(/10)
يتصور كثير من الناس أن المنكرات الموجودة مجرد معاص سواء أكانت من الكبائر أم من الصغائر، والقضية ليست بهذه البساطة والسهولة، فقد يبدأ المنكر معصية، ثم يتحول مع الزمن إلى كفر، ولست ممن يكفر بالمعصية حتى ولو كانت من الكبائر فإن هذا مذهب الخوارج ومن نحا نحوهم، ولكن بعض المعاصي يرتكبها بعض الناس وهم يعلمون أنها كبيرة من الكبائر، ثم تفشو هذه المعصية حتى تصبح أمراً عادياً ولا يستنكر على مرتكبها وسرعان ما تصل الحال بكثير من الناس إلى استحلال هذه الكبيرة، وهذا هو الكفر بعينه؛ لأن من استحل معلوماً حرمته من الدين بالضرورة فقد كفر.
وقد أجري استطلاع في مركز من المراكز وأفاد كثير ممن يرتكب بعض المعاصي أنهم يرون عدم حرمة هذه المعصية وأنها حلال، ولو أخذنا الربا -مثلاً- فالملاحظ تهافت الناس على التعامل بالربا، وعدم هيبتهم من ذلك، بل إن جميع البنوك التي أعلنت زيادة رأسمالها غطت أسهمها بأيام قليلة، بل وبعضها وصلت الأموال المدفوعة إلى ضعف المطلوب عدة مرات، ووصل عدد المساهمين في البنوك إلى عدة ملايين.
والسؤال هنا: هل كل هذه الملايين تعتقد حرمة الربا، ولكن غلبت عليهم شهواتهم فساهموا فيها؟ إننا لا نتصور وقوع ذلك من جميع هؤلاء (1) مع أنه لا يجوز الحكم على فرد بعينه إلا إذا تبينا منه أنه يستحل الربا، حتى لا نكفر فرداً بذنب لم يستحله.
ومن هنا فإن من أبرز أسباب انتشار المنكرات وشيوعها ضعف الناس في فهم التوحيد، وخطورة استحلال المعصية، ولو علموا ذلك لما رأينا ما نراه من منكرات ومآسٍ تنذر بعاقبة وخيمة.
كيف يكون التوحيد أولاً؟
لعلنا من خلال ما سبق اتضح لنا وجوب أن يكون (التوحيد أولاً)، وهنا يأتي سؤال يفرض نفسه: كيف يكون (التوحيد أولاً)؟
والجواب على هذا السؤال الكبير سأختصره في عناصر أساسية تسهيلاً لفهم المراد ومن ثم العمل بذلك.
أولاً: تعلم التوحيد وفهمه وتطبيقه
قال البخاري: "باب العلم قبل القول والعمل".
قال _تعالى_: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ" (محمد: من الآية19).
وقال صلى الله عليه وسلم :" من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " (2).
وقال أبو حنيفة: "الفقه في الدين أفضل من الفقه في العلم".
ومراده من الفقه في الدين: التوحيد، وبالعلم: الأحكام الشرعية في الفروع.
ثانياً تعليمه والدعوة إليه:
وهذه من أهم المسائل التي يجب أن نعنى بها، فلا يكفي أن نتعلمه لأنفسنا، بل إن من ثمرة العلم العمل، ومن العمل تعليم التوحيد والدعوة إليه.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ دعوته بالدعوة إلى التوحيد، وما بعث الله من نبي إلا دعا إلى التوحيد، فنوح وإبراهيم وهود وصالح وشعيب كلهم دعوا قومهم، فقالوا: "اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ" (الأعراف: من الآية59).
وقال _تعالى_:"وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ"(النحل: من الآية36).
وقال:"وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء:25).
ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذاً إلى اليمن قال له: " إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله... " (3)
وفي رواية أخرى: " إلى أن يوحدوا الله " (4).
وإذا كان هذا هو منهج رسول الله فنحن ملزمون باتباعه والالتزام به، قال _تعالى_:"قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (يوسف:108).
وتتمثل الدعوة إلى التوحيد بما يلي:
1- إقامة الدروس المستمرة في المساجد والبيوت.
2- وضع المناهج وتكثيفها في جميع المراحل.
3- الإكثار من المحاضرات والندوات.
4- تربية الأهل والأولاد على تعلم التوحيد.
5- نشر كتب التوحيد في جميع أنحاء العالم فحاجتهم إليها أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب.
6- استثمار جميع الفرص السانحة لنشر عقيدة أهل السنة والجماعة وسلف الأمة.
7- الرد على المناوئين لدعوة التوحيد، ولكل مقام ما يناسبه، ولابد من مراعاة الحكمة في ذلك حتى لا تقع مفسدة أعظم "وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ" (الأنعام: من الآية108).
ثالثاً: محبة أهله والذود عنهم:
__________
(1) - بل وصل الحال ببعضهم إلى أن قال إن الربا ضرورة من ضرورات هذا العصر، وآخر يقول إن البنوك كالدم لجسم الإنسان.
(2) - أخرجه البخاري (1- 26). ومسلم رقم (1037).
(3) - أخرجه البخاري (5- 109). ومسلم رقم (19).
(4) - البخاري (8- 164).(/11)
من مستلزمات كون (التوحيد أولاً) محبة التوحيد وأهله والذود عن أعراضهم والرد على مخالفيهم، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن(1) :"من لم يحب التوحيد لم يكن موحداً" ؛لأنه هو الدين الذي رضيه الله لعباده، كما قال _تعالى_: "وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً" (المائدة: من الآية3).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:" من أحب الله أحب دينه، وما لا فلا".
ومن علامات حب التوحيد: أن يكون هو هم المسلم، يفرح لما يؤدي إلى استكماله، ويحزن إذا رأى ما ينافيه، ويسعى جاهداً لنصرته والذود عنه، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكنه ما وقر في القلب وصدقه العمل "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" (الأنعام:162، 163).
رابعاً: بغض أعداء التوحيد:
وبغضهم يقتضي هجرهم والبراءة منهم وكشف تلبيساتهم وتفنيد دعاواهم "وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ" (الأنعام:55).
وليحذر من موالاتهم أو توليهم "وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ" (المائدة: من الآية51).
وبغضهم ينافي مودتهم ومحبتهم "لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ" (المجادلة: من الآية22).
ومخالطتهم ومجالستهم تضعف من بغضهم وعداوتهم إلا من أجل دعوتهم للإسلام.
خامساً: ربط قضايانا المعاصرة بالتوحيد:
من أهم ما يجب أن يعنى به العلماء وطلاب العلم والدعاة أن يربطوا قضايانا المعاصرة بالتوحيد، ويبينوا حالها من حيث الموافقة أو المخالفة.
وبخاصة أن هناك مستجدات تتعلق بالولاء والبراء، وأخرى لها صلة بالفرق الضالة، كأصحاب المدرسة العقلية، والجماعات التي تكفر المسلمين، أو التي تغلو في الصالحين.
وكذلك قضايا الحكم بغير ما أنزل الله، ونشر العلمنة في العالم الإسلامي.
ومن ذلك التغريب والتشبه ونحوهما، وكذلك ما نشأ من بدع ومحدثات في دين الله، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: " من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد" (2).
سادساً: جمع الأمة على أساس التوحيد:
من سمات أهل السنة والجماعة أنهم يدعون إلى اجتماع الكلمة ووحدة الصف ونبذ الفرقة والخلاف، والله- جل وعلا- يقول: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" (آل عمران: من الآية103)، وقال: "أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ" (الشورى: من الآية13).
وقال صلى الله عليه وسلم : "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات ميتة جاهلية" (3).
وقال ابن مسعود: "الخلاف شر".
ومما سبق يتضح أن جمع الكلمة وتأليف القلوب مطلب شرعي وهدف سام، ولكن مما يلحظ في هذا الجانب أن هناك من يذكر أن الاجتماع مراد لذاته، بغض النظر عما ينتج منه، وهذا خطأ في الفهم وقصور في التصور؛ لأن الهدف هو الاجتماع على كلمة الحق، والتعاون على البر والتقوى، وذلك لأن الاجتماع والاتفاق إن لم يكن على التقوى والطاعة سيكون على الإثم والعدوان، ولذلك أمر الله بالتعاون على البر والتقوى، فقال: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" (المائدة: من الآية2).
وقال: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ" (آل عمران: من الآية103)، فجعل الاعتصام على حبل الله (وهو التوحيد).
والذين جعلوا الاجتماع هو الغاية والهدف، تساهلوا في أمر التوحيد، ولم يجعلوه من الأصول التي يجتمعون عليها، بل تجد بعضهم يمنع أتباعه من إثارة قضايا العقيدة، بحجة أن هذا الأمر سيكون عائقاً أمام وحدة كلمة المسلمين، وتوحيد الصفوف، بل لا يخجل بعضهم أن يقول: إن طرح مسائل العقيدة تؤدي إلى الفرقة والخلاف، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
يقول الشيخ عبدالعزيز قاري موضحاً هذه المسألة: "إننا وجدنا أنفسنا أمام طوائف تنتسب إلى العلم والدعوة والتوجيه تخالفنا وتنازعنا في هذا المبدأ، فتقول:
إن قضية التوحيد في هذا العصر ليست هي القضية الأولى، وإن كانت قضية مهمة أساسية، إننا في عصر نحتاج فيه إلى التأليف بين كل من يقول: لا إله إلا الله ؛ لنواجه التحديات والأخطار من إلحاد وغير ذلك.
__________
(1) - انظر مجموعة التوحيد 1-51.
(2) - أخرجه البخاري (3-167). ومسلم رقم (1718).
(3) - أخرجه البخاري (8-87). ومسلم رقم (1849).(/12)
وآخرون وإن كانوا يتفقون معنا على هذا المبدأ، ولكنك تراهم يناقضونه ويضادونه عملياً، فإذا كشفت عن اعتقاد أحدهم وجدته أحوج ما يكون إلى تصحيح اعتقاده هو أولاً، وهذه مصيبة كبرى إذا كانت فيمن يتصدر للتعليم والدعوة والتوجيه، فكيف يصحح عقائد الناس من هو أحوج منهم إلى تصحيح عقيدته" (1).
ولا أدري على ماذا يجمعون الناس ولأي شيء يوحدون صفوفهم، مع أنه ثبت فشل مثل هذه التجمعات التي تضم خليطاً من العقائد، فعند المحن والشدائد يتحول الأصدقاء إلى أعداء، والأحباب إلى خصماء، وصدق الله العظيم "الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ" (الزخرف:67)، وإن كان هذا واقعاً في الآخرة فإنه يقع أحياناً في الدنيا كما رأينا وشاهدنا، ولذلك لابد أن تبنى الدعوات والتجمعات على أصول وثوابت منبثقة من عقيدة التوحيد، ملتزمة بمنهج أهل السنة والجماعة، بعيدة عن البدع المحدثة والتنازلات في دين الله المخزية، وتمييع قضايا العقيدة، بحجة جمع الكلمة ووحدة الصف والمصلحة العامة، مما لا يثبت عند التحقيق والتأصيل.
ولذلك فلابد عند التوحيد أن يكون (التوحيد أولاً) وإلا فلا.
ثمرة التوحيد وآثاره
للتوحيد ثمار كثيرة ومنافع عظيمة يصعب حصرها وعدها، فإذا كانت بهيمة الأنعام فيها منافع عظيمة قال الله فيها: "وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ" (يّس:73)، ويقول _سبحانه_ عن نعمه: "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا" (النحل: من الآية18)، وقال عن الحج: "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ" (الحج: من الآية28).
إذا كانت هذه النعم يصعب حصر منافعها، ولذلك جاءت كلمة "منافع" في الآيتين بالتنكير، فكيف نستطيع أن نحصر منافع وثمار التوحيد، وهو أعظم نعمة أنعم الله بها على الخليقة، إن ما سواه من منافع ليس إلا فرعاً عنه وأثراً منه "لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" (إبراهيم: من الآية7).
ولذا سأذكر بعض ثمار التوحيد وآثاره العظيمة في الدنيا والآخرة.
قال شيخ الإسلام -ابن تيمية-:
"وليس للقلوب سرور ولذة تامة إلا في محبة الله -تعالى-، والتقرب إليه بما يحبه، ولا تتم محبة الله إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة لا إله إلا الله ، وهي ملة إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام- (2).
وذكر ابن القيم في (زاد المعاد):
إن توحيد الله أعظم أسباب انشراح الصدر (3).
وقد ذكر الشيخ السعدي في القول السديد فضائل التوحيد فأطال،وإليك مختصر ما ذكر:
1- أن من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب.
2- مغفرة الذنوب وتكفيرها.
3- أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما.
4- أنه يمنع الخلود في النار، إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل، وأنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية.
5- أنه يحصل لصاحبه الهدى والكمال والأمن التام في الدنيا والآخرة.
6- أنه السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه، وأن أسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه.
7- أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد.
8- أنه يسهل على العبد فعل الخير وترك المنكرات ويسليه عن المصيبات.
9- إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان.
10- أنه يخفف عن العبد المكاره ويهون عليه الآلام.
فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان وتلقيه المكاره والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة وتسليم ورضا بأقدار الله المؤلمة.
11- أنه يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم، هذا هو العز الحقيقي والشرف العالي.
12- أن التوحيد إذا تم وكمل في القلب وتحقق تحققاً كاملاً بالإخلاص التام، فإنه يصير القليل من عمله كثيراً، وتضاعفت أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب، ورجحت كلمة الإخلاص في ميزان العبد بحيث لا تقابلها السموات والأرض.
13- أن الله تكفل لأهله بالفتح والنصر في الدنيا، والعز والشرف، وحصول الهداية والتيسير لليسر، وإصلاح الأحوال، والتسديد في الأقوال والأفعال.
14- أن الله يدفع عن الموحدين أهل الإيمان شرور الدنيا والآخرة، ويمن عليهم بالحياة الطيبة والطمأنينة إليه والطمأنينة بذكره.
كتب ورسائل في التوحيد
هذه إشارة سريعة لبعض الكتب والرسائل والأبواب في التوحيد التي لا يستغني عنها طالب العلم (4).
1- كتب التوحيد والإيمان في الصحاح والسنن والمسانيد.
2- كتب التوحيد والسنة والإيمان لعدد من علماء السلف كأحمد بن حنبل، وابن مندة، وغيرهما.
__________
(1) - انظر رسالة العقيدة أولا لو كان يعلمون ص 8.
(2) - مجموع الفتاوى (28-32).
(3) - زاد المعاد (2- 23).
(4) - أعظم كتاب في التوحيد هو القرآن الكريم وما سواه يرجع إليه.(/13)
3- (أصول معتقد أهل السنة والجماعة) للالكائي.
4- كتب شيخ الإسلام ابن تيمية.
5- (شرح العقيدة الطحاوية).
6- كتب ورسائل شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، وبخاصة كتاب التوحيد.
7- كتب ورسائل أئمة الدعوة من أحفاد الشيخ وغيرهم.
8- كتب ورسائل علمائنا المعاصرين كابن باز وابن عثيمين وغيرهما
9- الرسائل والكتيبات التي تصدرها بعض دور النشر في منهج أهل السنة والجماعة، وبخاصة سلسلة (دار الوطن).
10- الأشرطة التي تعنى بشرح التوحيد والدعوة إليه.
وختاماً
أوصيكم بوصية الله -تعالى- لعباده على لسان رسله، حيث قال: "شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ" (الشورى: من الآية13) ثم أوصيكم بوصية شيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب، حيث قال: [مجموعة التوحيد 1- 141]:
"فالله الله يا إخواني تمسكوا بأصل دينكم، وأوله وآخره ورأسه، ورأسه: شهادة ألا إله إلا الله، واعرفوا معناها، وأحبوها، وأحبوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم، ولو كانوا بعيدين، واكفروا بالطواغيت، وعادوهم، وأبغضوهم، وأبغضوا من أحبهم أو جادل عنهم، أو لم يكفرهم، أو قال: ما علي منهم، أو قال: ما كلفني الله بهم، فقد كذب هذا على الله وافترى، فقد كلفه الله بهم، وافترض عليه الكفر بهم، والبراءة منهم، ولو كانوا إخوانهم وأولادهم، فالله الله تمسكوا بذلك لعلكم تلقوا ربكم لا تشركون به شيئاً".
اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين" اهـ.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/14)
التوحيد في الحاكمية
السؤال :
سمعنا كثيراً في السنوات الأخيرة عن مصطلح ( توحيد الحاكمية ) فما حقيقة هذا التوحيد ؟ و ما حكم استعمال هذا المصطلح في الطرح الإسلامي المعاصر ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
لفظ ( الحاكميّة ) من الألفاظ المولّدة القائمة على غير مثال سابق في اللغة العربية ، و أول من استخدمها في خطابه السياسي و الديني هو العلامة الهندي الشهير أبو الأعلى المودودي ، ثم أخذها عنه الأستاذ سيد قطب رحمهما الله فبثها في كتاباته كمَعْلَم من معالم العمل الإسلامي الذي جاد بنفسه في الدعوة إليه و التركيز عليه .
هذا عن أصل استعمال ( الحاكمية ) كلفظٍ في لغة العرب ، و قد أصبحت مرادفة للحكم في اصطلاح كثير من المتأخرين ، و إذا وقف الأمر عند حد إطلاق هذا المصطلح على المراد الشرعي منه ، و هو إفراد الله بالتحكيم و التشريع فلا بأس في ذلك إذ لا مشاحّة فى الاصطلاح كما هو مقرر عند الأصوليين .
و ممّا لا خلاف فيه بين الموحدين قاطبةً وجوب توحيد الله تعالى في التحكيم و الرد إلى شريعته المحكمة المنزلة في كتابه المبين ، و سنة نبيّه خاتم المرسلين صلى الله عليه و آله و صحبه و سلم ، قال تعالى : ( و لا يشرك في حكمه أحداً ) و في قراءة ابن عامر ، و هو من القراء السبعة : ( و لا تُشرك في حكمه أحداً ) ، و قال سبحانه : ( ألا له الخلق و الأمر ) ، و قال أيضاً : ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون ) .
فمن أعطى حق التشريع أو الحكم فيما شجر بين الخلق لغير الخالق أو أقر بذلك أو دعا إليه أو انتصر له أو سلّم به دونما إكراهٍ فقد أشرك بالله شركاً أكبر يخرجه من ملة الإسلام ، و العياذ بالله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [ في منهاج السنّة النبويّة : 5 / 130 ] : ( و لا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر ، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتّباع لما أنزل الله فهو كافر فإنه ما من أمة إلا و هي تأمر بالحكم بالعدل ، و قد يكون العدل في دينها ما يراه أكابرهم ... فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله منهم كفار ) .
و قال العلاّمة الشنقيطي رحمه الله [ في أضواء البيان : 7 / 162 ] : ( الإشراك بالله في حكمه و الإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد لا فرق بينهما ألبتة ، فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله ، و تشريعاً غير تشريع الله ، و من كان يعبد الصنم ، و يسجد للوثن لا فرق بينهم ألبتة ؛ فهما واحد ، و كلاهما مشرك بالله ) .
و قال رحمه الله أيضاً [ في أضواء البيان : 7 / 169 ] : ( لما كان التشريع و جميع الأحكام ؛ شرعية كانت أو كونية قدرية ، من خصائص الربوبية ، كما دلت عليه الآيات المذكورة ، كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرِّع رباً ، و أشركه مع الله ) .
و خلاصة ما بينه رحمه الله تعقيباً على الآيات البينات التي سقناها آنفاً يوجزه قوله : ( إن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله مشركون بالله ) .
و ليس بعيداً عنه قول مفتى الديار السعودية في زمنه الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله : ( أما الذي جعل قوانين بترتيب و تخضيع فهذا كفر و إن قالوا أخطأنا و حكم الشرع أعدل ؛ فهذا كفر ناقل عن الملة ) .
و للمشائخ المعاصرين حفظ الله حيهم و نفع به و رحم ميتهم و أجزل مثوبته من الكلام في وجوب توحيد الله في الحكم و التشريع ، و تسمية العدول عنه شركاً ، و الحكم على صاحبه بالكفر الأكبر الناقل عن الملة الشيء الكثير مما لا يسمح المقام بتتبعه و سرده مطولاً ، و من أراد التوسع فعليه بفتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله و رسائله ، و بخاصة رسالة نقد القومية العربية .
قلت : و إذا تقرر وجوب إفراد الله بالتحكيم و أن من الكفر الأكبر أن يُشرَكَ في حكمه أحدٌ من خلقه سواءً كان ملكاً أو رئيساً أو سلطاناً أو زعيماً أو مجلساً تشريعياً أو سلطةً مدنية أو عسكرية أو فرداً من العامة أو الخاصة أو غير ذلك ، و أن ذلك مما أجمعت عليه الأمة ، و لا يسوغ لأحد أن يخالف أو يجادل فيه ، فلن يكون للخلاف حول إطلاق مصطلح ( توحيد الحاكمية ) أو عدمه أثر في الواقع ، و لا داعي للانشغال بتقرير هذا التوحيد كقسمٍ رابع من أقسام التوحيد المعروفة ، أو رده إلى الأقسام الأخرى ، و خاصة توحيد الربوبية و توحيد الألوهية .
بل يجب أن يبقى الأمر في دائرة المصطلحات السائغة التي لا مشاحة فيها لأحد ، مع التسليم بجدوى التقسيم إذا كان فيه مصلحة معتبرة لطالب العلم كتسهيل دراسته و تحصيله ، أو لضرورة تنبيه الناس إلى ما غاب عنهم أو انشغلوا عنه بغيره من أبواب العلم و العمل .(/1)
فإن أبى من جمد على تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام إلا أن يبدّع من خالفه في هذا التقسيم و يغمز قناته بإطلاق لسانه بثلبه أو نبذه بالتحزب و الخروج و نحو ذلك ؛ قلنا له : من أين لك أن تقسيم التوحيد إلى قسمين أو ثلاثة مرده إلى الكتاب أو السنة أو هدي سلف الأمة ؟
أما إن اعتُرض على توحيد الحاكمية كاصطلاح و ليس على مجرد التقسيم إلى قسمين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر أو أقل ، فيقال للمعترض : إن الدعوة إلى إفراد الله و رسوله بالحكم ليس مما ابتدعه المعاصرون بل هو من القدم بمكان .
قال ابن أبي العزّ الحنفي [ في شرح الطحاويّة ، ص : 200 ] في معرِض ذِكرِ ما يجب على الأمّة تجاه نبيّها صلى الله عليه وسلم : ( فنوحّده بالتحكيم و التسليم و الانقياد و الإذعان ، كما نوحّد المرسِلَ بالعبادة و الخضوع و الذلّ و الإنابة و التوكّل ، فهما توحيدان ، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما : توحيد المرِسل ، و توحيد متابعة الرسول ، فلا نحاكم إلى غيره ، و لا نرضى بحُكم غيره ) .
فإن شغب علينا من يقول : إن الإمام الطحاوي رحمه الله ذكر توحيد الرسول بالتحكيم و لم يكن حديثه عن توحيد الله .
قلنا : الأبعَدُ ثكلته أمه !! و هل ثمة فرق بين تحكيم الله و تحكيم رسوله الذي لا ينطق عن الهوى ؟
و إن قيل : إن الكلام عن الطاعة و التسليم و الانقياد و ليس عن التحكيم بمعناه المستخدم عند المعاصرين و هو التحكيم في التشريع !
قلنا : أوليس ردّ التشريع إلى الله تعالى من صميم التسليم و الانقياد و الإذعان للشارع الحكيم سبحانه ؟!
بل هو من أدق مسائل التوحيد في الربوبية التي تثبت لله دون سواه الحق في التشريع ، و في الربوبية التي توجب صرف هذا الحق لله تعالى على الإفراد و التوحيد ؛ كما هو مقرر في كتب أصول الدين ، و الموفق من وفقه الله لفهم كلام السلف ، و نهج نهجهم ، و سلوك سبيلهم ، على كان عليه ، لا على ما قد يتوهمه بعض الخلف ، و ينسبونه إلى السلف ظناً منهم أو زعماً أنه منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .(/2)
التوحيد في الحاكمية
بسم الله الرحمن الرحيم
التوحيد في الحاكمية
السؤال :
سمعنا كثيراً في السنوات الأخيرة عن مصطلح ( توحيد الحاكمية ) فما حقيقة هذا التوحيد ؟ و ما حكم استعمال هذا المصطلح في الطرح الإسلامي المعاصر ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
لفظ ( الحاكميّة ) من الألفاظ المولّدة القائمة على غير مثال سابق في اللغة العربية ، و أول من استخدمها في خطابه السياسي و الديني هو العلامة الهندي الشهير أبو الأعلى المودودي ، ثم أخذها عنه الأستاذ سيد قطب رحمهما الله فبثها في كتاباته كمَعْلَم من معالم العمل الإسلامي الذي جاد بنفسه في الدعوة إليه و التركيز عليه .
هذا عن أصل استعمال ( الحاكمية ) كلفظٍ في لغة العرب ، و قد أصبحت مرادفة للحكم في اصطلاح كثير من المتأخرين ، و إذا وقف الأمر عند حد إطلاق هذا المصطلح على المراد الشرعي منه ، و هو إفراد الله بالتحكيم و التشريع فلا بأس في ذلك إذ لا مشاحّة فى الاصطلاح كما هو مقرر عند الأصوليين .
و ممّا لا خلاف فيه بين الموحدين قاطبةً وجوب توحيد الله تعالى في التحكيم و الرد إلى شريعته المحكمة المنزلة في كتابه المبين ، و سنة نبيّه خاتم المرسلين صلى الله عليه و آله و صحبه و سلم ، قال تعالى : ( و لا يشرك في حكمه أحداً ) و في قراءة ابن عامر ، و هو من القراء السبعة : ( و لا تُشرك في حكمه أحداً ) ، و قال سبحانه : ( ألا له الخلق و الأمر ) ، و قال أيضاً : ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون ) .
فمن أعطى حق التشريع أو الحكم فيما شجر بين الخلق لغير الخالق أو أقر بذلك أو دعا إليه أو انتصر له أو سلّم به دونما إكراهٍ فقد أشرك بالله شركاً أكبر يخرجه من ملة الإسلام ، و العياذ بالله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [ في منهاج السنّة النبويّة : 5 / 130 ] : ( و لا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر ، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتّباع لما أنزل الله فهو كافر فإنه ما من أمة إلا و هي تأمر بالحكم بالعدل ، و قد يكون العدل في دينها ما يراه أكابرهم ... فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله منهم كفار ) .
و قال العلاّمة الشنقيطي رحمه الله [ في أضواء البيان : 7 / 162 ] : ( الإشراك بالله في حكمه و الإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد لا فرق بينهما ألبتة ، فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله ، و تشريعاً غير تشريع الله ، و من كان يعبد الصنم ، و يسجد للوثن لا فرق بينهم ألبتة ؛ فهما واحد ، و كلاهما مشرك بالله ) .
و قال رحمه الله أيضاً [ في أضواء البيان : 7 / 169 ] : ( لما كان التشريع و جميع الأحكام ؛ شرعية كانت أو كونية قدرية ، من خصائص الربوبية ، كما دلت عليه الآيات المذكورة ، كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرِّع رباً ، و أشركه مع الله ) .
و خلاصة ما بينه رحمه الله تعقيباً على الآيات البينات التي سقناها آنفاً يوجزه قوله : ( إن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله مشركون بالله ) .
و ليس بعيداً عنه قول مفتى الديار السعودية في زمنه الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله : ( أما الذي جعل قوانين بترتيب و تخضيع فهذا كفر و إن قالوا أخطأنا و حكم الشرع أعدل ؛ فهذا كفر ناقل عن الملة ) .
و للمشائخ المعاصرين حفظ الله حيهم و نفع به و رحم ميتهم و أجزل مثوبته من الكلام في وجوب توحيد الله في الحكم و التشريع ، و تسمية العدول عنه شركاً ، و الحكم على صاحبه بالكفر الأكبر الناقل عن الملة الشيء الكثير مما لا يسمح المقام بتتبعه و سرده مطولاً ، و من أراد التوسع فعليه بفتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله و رسائله ، و بخاصة رسالة نقد القومية العربية .
قلت : و إذا تقرر وجوب إفراد الله بالتحكيم و أن من الكفر الأكبر أن يُشرَكَ في حكمه أحدٌ من خلقه سواءً كان ملكاً أو رئيساً أو سلطاناً أو زعيماً أو مجلساً تشريعياً أو سلطةً مدنية أو عسكرية أو فرداً من العامة أو الخاصة أو غير ذلك ، و أن ذلك مما أجمعت عليه الأمة ، و لا يسوغ لأحد أن يخالف أو يجادل فيه ، فلن يكون للخلاف حول إطلاق مصطلح ( توحيد الحاكمية ) أو عدمه أثر في الواقع ، و لا داعي للانشغال بتقرير هذا التوحيد كقسمٍ رابع من أقسام التوحيد المعروفة ، أو رده إلى الأقسام الأخرى ، و خاصة توحيد الربوبية و توحيد الألوهية .
بل يجب أن يبقى الأمر في دائرة المصطلحات السائغة التي لا مشاحة فيها لأحد ، مع التسليم بجدوى التقسيم إذا كان فيه مصلحة معتبرة لطالب العلم كتسهيل دراسته و تحصيله ، أو لضرورة تنبيه الناس إلى ما غاب عنهم أو انشغلوا عنه بغيره من أبواب العلم و العمل .(/1)
فإن أبى من جمد على تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام إلا أن يبدّع من خالفه في هذا التقسيم و يغمز قناته بإطلاق لسانه بثلبه أو نبذه بالتحزب و الخروج و نحو ذلك ؛ قلنا له : من أين لك أن تقسيم التوحيد إلى قسمين أو ثلاثة مرده إلى الكتاب أو السنة أو هدي سلف الأمة ؟
أما إن اعتُرض على توحيد الحاكمية كاصطلاح و ليس على مجرد التقسيم إلى قسمين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر أو أقل ، فيقال للمعترض : إن الدعوة إلى إفراد الله و رسوله بالحكم ليس مما ابتدعه المعاصرون بل هو من القدم بمكان .
قال ابن أبي العزّ الحنفي [ في شرح الطحاويّة ، ص : 200 ] في معرِض ذِكرِ ما يجب على الأمّة تجاه نبيّها صلى الله عليه وسلم : ( فنوحّده بالتحكيم و التسليم و الانقياد و الإذعان ، كما نوحّد المرسِلَ بالعبادة و الخضوع و الذلّ و الإنابة و التوكّل ، فهما توحيدان ، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما : توحيد المرِسل ، و توحيد متابعة الرسول ، فلا نحاكم إلى غيره ، و لا نرضى بحُكم غيره ) .
فإن شغب علينا من يقول : إن الإمام الطحاوي رحمه الله ذكر توحيد الرسول بالتحكيم و لم يكن حديثه عن توحيد الله .
قلنا : الأبعَدُ ثكلته أمه !! و هل ثمة فرق بين تحكيم الله و تحكيم رسوله الذي لا ينطق عن الهوى ؟
و إن قيل : إن الكلام عن الطاعة و التسليم و الانقياد و ليس عن التحكيم بمعناه المستخدم عند المعاصرين و هو التحكيم في التشريع !
قلنا : أوليس ردّ التشريع إلى الله تعالى من صميم التسليم و الانقياد و الإذعان للشارع الحكيم سبحانه ؟!
بل هو من أدق مسائل التوحيد في الربوبية التي تثبت لله دون سواه الحق في التشريع ، و في الربوبية التي توجب صرف هذا الحق لله تعالى على الإفراد و التوحيد ؛ كما هو مقرر في كتب أصول الدين ، و الموفق من وفقه الله لفهم كلام السلف ، و نهج نهجهم ، و سلوك سبيلهم ، على كان عليه ، لا على ما قد يتوهمه بعض الخلف ، و ينسبونه إلى السلف ظناً منهم أو زعماً أنه منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .
وكتب
د . أحمد بن عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad Najeeb
alhaisam@msn.com(/2)
التوحيد مسلّمة عقلية د. الحبر يوسف نور الدائم*
لقد سلط القرآن ضوءاً كاشفاً على كثير من القضايا الفكرية الجوهرية التي لا سبيل إلى تجاوزها أو المرّ بها مراً سريعاً مستعجلاً من هذه القضايا التي وقف عندها القرآن وقفة طويلة متأنية, يدافع عنها, ويحدد معناها, ويوضح أبعادها قضية التوحيد. أما أن الله سبحانه موجود فهذه من البديهيات المسلمات التي يشير إليها سبحانه إشارة سريعة مكتفياً باللمحة الدالة, و الأشارة العابرة إذ يكفي أن يلفتك لفتة قوية عابرة إلى آثاره ومظاهر عظمته وجلاله (أفي الله شك فاطر السموات و الأرض) (قل انظروا ماذا في السموات و الأرض) (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج . والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج . تبصرة وذكرى لكل عبد منيب . ونزلنا من السماء ماءاً مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد . والنخل باسقات لها طلع نضيد . رزقاً للعباد وأحيينا به بلدةً ميتا) .
تنزل القرآن الكريم على قلب الرسول الكريم و الناس في تيه وضلال, وزيغ وجنف, وميل وحنف, وسفه وطيش. قلوب مظلمة, وعقول متحجرة, ورقاب غلب وحمية جاهلية. فما زال بها يدعوها إلى الخير, ويحثها على التحرر, ويشجعها على الإنعتاق... يفتح لها الأبواب, ويهيئ لها المنافذ, ويفتق لها الآفاق حتى انقشعت عن القلوب الظلمة, وانجلت عن العقول الغشاوة. فإذا بالقلوب تهش, وإذا بالعقول تتفتح, وإذا بالأفكار تنقح, وإذا بالعقائد تصحح فتبارك الله أحسن الخالقين.
لقد أنبتهم القرآن نباتاً, ونشأهم تنشئة فكانوا خلقاً جديداً فتبارك الله رب العالمين. جاء القرآن والناس صنم قد هام في صنم. اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله .
رضوا بآلهة زائفة هي من صنع أيديهم إن هي إلا أسماء تسمى... اللات و العزى ومناة الثالثة الأخرى.... هبل وإساف ونائلة وغيرها من أصنام وأوثان وأنصاب...يتجهون اليها بالعبادة, ويتوجهون إليها بالدعاء ينحرون لها الذبائح, ويقربون لها القرابين, ويسألونها الصلاح و الفلاح, والهداية و الرشد فهم أولياؤها وسدنتها وحراسها. ومن عجائب ما يروى عنهم أن بعضهم قد أتخذ له ربا وأصبح ذات يوم فإذا بثعلب من الثعالب يبول على رأسه فحصبه بحصاة وقال قولاً سار مثلاً :
أرب يبول الثعلبان برأسه؟! ** لقد هان من بالت عليه الثعالب
وهاهو ذا آخر يتخذ صخرة صماء مستطيلة فأقبل عليها بإبل كثيرات لتبارك له فيها فلما رأت الإبل الصخرة فرت في كل وجه, وتفرقت بكل سبيل فقذفها بحجر وهو يقول:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ** ففرقنا سعد فما نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة ** من الأرض لا يهدي لغي ولا رشد
كان الرجل منهم إذا خلا إلى نفسه متفكراً وأقبل عليها متأملاً أنكر بعض ما هو منه ولكن أسر المجتمع من حوله, وربقة التقاليد التي تكتنفه, والولاء للآباء والأسلاف... كل هذا ربما حال بينه وبين المضي في تفكير قاصد مستقل. ما كانوا ينكرون وجود الخالق جملة ولكنهم كانوا يتخذون من دونه أنداداً (هذا لله وهذا لشركائنا) (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وهاهو بعضهم يقسم باللات و العزى, ويقسم بالله فيقول: ( وبالله إن الله منهن أكبر) فلم يكن الأمر أمر جحود مطلق, وكفران مبين بالخالق ولكنه كان أمر شرك متشاكس.... ذرائع تتخذ, ووسائط تقرب.
جاء القرآن ولكل قبيلة إله, ولكل بطنٍ صنم فأعلنها دعوة توحيد صريح فصيح لا مواربة فيه ولا جمجمة (إن إلهكم لواحد . رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق) ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم) (أن هذه امتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (قل هو الله أحد . الله الصمد) (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون) (فاعلم أنه لا إله إلا الله) في مثل ذلك الوضوح, وفي مثل تلك الصراحة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم في الناس مبشرا ونذيرا وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً , فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو كما كان يدعو إخوانه المرسلون من قبل (أعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) فلقي ما لقي إخوانه من قبل من عنت وتضييق, ورهق وتشريد, وتعذيب واضطهاد. فصبر كما صبر أولو العزم منهم, وجاهد كالذي جاهدوا حتى أذن الله لنصره أن يتنزل, ولدعوته أن تنتصر, ولأمره أن يسود, ولدينه أن يقود فعم الخير, وشع النور, وساد الهدى.
وسار الناس تحت راية التوحيد ينشرون فضيلة قد طويت, ويبشرون بحق قد اندثر, ويفيضون على العالم كله خيراً وبركة ونعيماً.(/1)
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد ليقيم عليه البناء الفكري للإسلام كله (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمّن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم) قام صلوات الله وسلامه عليه يدعو إلى التوحيد فاستجاب بعض من صلحت فطرته, واستقام قلبه, وصح تفكيره, وأعرض عنه من انتكست فطرته, وارتكس قلبه, وانقلب تفكيره. عجب أقوام لهذه الدعوة التوحيدية الكريمة ودهشوا له وقال قائلهم ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب . وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد . ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا إختلاق ) وعند ارتكاس الفطرة, وانطماس البصيرة وأنتكاس القلب يصبح الحق مستعجباً, ويتحول المعروف إلى منكر, و المنكر إلى معروف (أجعل الآلهة إلهاً واحداً ) أي آلهة يا هؤلاء؟! إنها لا تسمع ولا تبصر ولا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً ولا موتا ولا نشورا إنها لا تدفع عن نفسها فضلا عن أن تدفع عن غيرها...إنها لا تغني عنكم من الله شيئاً. وقديما قال إبراهيم عليه السلام لأبيه ( يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً . يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا . يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا. يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ) .
وكانت إجابة والد إبراهيم لهذه الدعوة الهينة اللينة المباركة الميسورة كما كانت إجابة اولئك الجفاة الغلاظ ( قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً ) إنها ذات الإجابة التي يواجه بها أولياء الله في كل زمان ومكان ( واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) ذات الإجابة, وذات الموقف... كفر وجحود, تكذيب وعناد, وتهكم وإستعجال بالعذاب ... أولم يقل كفار مكة ( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) أولم يقولوا ( ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) والقط هنا بمعنى الحظ و النصيب. وهو نحو من قوله سبحانه في خواتيم الذاريات ( فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون) والذنوب بفتح الذال النصيب وهو في الأصل الدلو العظيم ومنه قول علقمة الفحل:
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ** فحق لشأس من نداك ذنوب
قال الممدوح : نعم وأبيك وأذنة .(/2)
التوحيد وأثره في النفوس
يتناول الدرس عقيدة التوحيد من حيث شمولها لجميع نواحي الحياة وأثر فهم هذه الشمولية في سلوك المسلم في شتى جوانب حياته، مع ذكر الفوائد التي يجنيها الموحد بتوحيده، مع ذكر بعض النماذج التي توضح زعزعة مفاهيم العقيدة الصحيحة في نفوس كثير من الناس نتيجة لعدم فهم أن كلمة التوحيد منهج حياة .
أعظم سلاح يتسلح به المسلم هو سلاح العقيدة الصحيحة، المستمدة من الكتاب والسنة، وما عليه سلف هذه الأمة. فأصل ما تزكو به القلوب والأرواح هو التوحيد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:' ولهذا كان رأس الإسلام 'شهادة أن لا إله إلا الله' وهي متضمنة عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينا سواه ' [الفتاوى 10/15] فلا إله إلا الله كلمة التوحيد ؛الكلمة التي قامت بها الأرض والسماوات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات.. عليها أسست الملة، ونصبت القبلة، وجردت سيوف الجهاد. لا إله إلا الله هي الكلمة العاصمة للدم، والمال، والذرية في هذه الدار.. هي المنجية من عذاب القبر، ومن عذاب النار.. هي المنشور الذي لا يدخل أحد الجنة إلا به.. والحبل الذي لايصل إلى الله من لم يتعلق بصدده، هي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام.. ينقسم بها الناس إلى شقي وسعيد.. انفصلت دار الكفر من دار الإيمان، وتميزت دار النعيم من دار الشقاء والهوان بلا إله إلا الله..هي العمود الحامل للفرض والسنة ومن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة. وكثير من الناس يغفل عن حقيقة التوحيد؛ ويجهل شمولية هذه العقيدة جميع جوانب الحياة؛ لذلك ربما تزعزعت عقيدة التوحيد في نفوس كثير من المسلمين، فلا إله إلا الله في كل صغيرة وكبيرة..في كل حركة وسكنة .. في البيت.. في المسجد ..في الوظيفة ..في الشارع، وفي كل مكان. عند ذلك: يتبين لنا جميعًا أثر 'لا إله إلا الله' على نفوسنا.
نماذج من تزعزع العقيدة في النفوس:
الحلف بغير الله، والتوسل والاستعانة بالمخلوقين دون الله.
الاحتكام إلى الأعراف، والعادات، والتقاليد، وتقديمها على حكم الله ورسوله عند بعض الناس.
تقديم القرابين، والنذور، والهدايا للمزارات والقبور، وتعظيمها.
التشبه بالكافرين في أخلاقهم، وعاداتهم السيئة، وموالاتهم .
لجوء الناس، وتعلقهم عند الشدائد بالأسباب المادية فقط من دون الله عز وجل .
انتشار السحرة، والمشعوذين، والكهان، والعرافين، والتمائم، والرقى غير الشرعية .
ادعاء علم الغيب في قراءة الكف، والفنجان، والتنجيم، وعالم الأبراج التي تملأ صفحات بعض المجلات اليوم، والإذاعات .
الاحتفالات بالمناسبات الدينية: كالإسراء والمعراج، والهجرة النبوية، وبدعة المولد وغيرها مما لا أصل له في الشرع .
الاستهزاء بالدين، والسخرية بأهله، والاستهانة بحرماته، و ادعاء أنه تأخر ورجعية، ووصف أهله بالتطرف والتشدد.
التمسك بأقوال الرجال، حتى أصبحت تفوق الكتاب والسنة عند كثير من الناس وللأسف.
ضعف اليقين بالله ودخول اليأس والقنوط لقلوب كثير من المسلمين.
الخوف والرعب من المخلوقين عند حدوث الفتن والمصائب .
مما ابتلي به المسلمون اليوم نظرة الناس المادية للحياة: تحصيل اللذات والشهوات.
تعليق أهداف الأمة، واهتماماتها بأشياء لا قيمة لها كاللهو، والغناء والمتعة الحرام، والله عز وجل يقول:} أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ[115] {“سورة المؤمنون”
هذه بعض مظاهر زعزعة التوحيد في قلوب الناس، وتناقصه؛ ولهذا غفل كثير من الناس عن آثار التوحيد، وعن حقيقته، بل جهل كثير من المسلمين هذه الآثار، فأصبح يردد:' لا إله إلا الله' في اليوم عشرات المرات لكن ربما ليس لـ' لا إله إلا الله' أثر في حياته، مع أنه مسلم، ويردد: لا إله إلا الله .
فيا أمة التوحيد يا أمة التوحيد المراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها؛ والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله بالتعلق، والكفر بما يعبد من دون الله، والبراءة منه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: [قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ] قالوا- كما أخبر الحق عز وجل عنهم-:} أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ[5] {“سورة ص” فالعجب ممن هو من أهل الإسلام، ولايعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار؟!(/1)
والناس يتفاوتون في التوحيد ويتفاوتون في فهم معنى هذه الكلمة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:' فإن المسلمين- وإن اشتركوا في الإقرار بها فهم- متفاضلون في تحقيقها تفاضلاً لا نقدر أن نضبطه'“ الفتاوى” ويقول تلميذه ابن القيم:' فالمسلمون كلهم مشتركون في إتيانهم بشهادة أن لا إله إلا الله، وتفاوتهم في معرفتهم بمضمون هذه الشهادة، وقيامهم بحقها باطناً وظاهراً أمر لا يحصيه إلا الله'“ طريق الهجرتين” . ويقول أيضاً:' فإن من الناس من تكون شهادته ميتة، ومنهم من تكون نائمة إذا نبهت؛ انتبهت، ومنهم من تكون مضطجعة، ومنهم من تكون إلى القيام أقرب، وهي- أي الشهادة- في القلب بمنزلة الروح من البدن، فروح ميتة، وروح مريضة إلى الموت أقرب، وروح إلى الحياة أقرب، وروح صحيحة، قائمة بمصالح البدن...' “ الداء والدواء” .
آثار التوحيد وثماره:
أولًا: تحقيق معرفة الله سبحانه وتعالى: وهي من أعظم الآثار، وكيف تعرف ذلك؟ قال ابن القيم:' ولهذه المعرفة بابان واسعان، الأول: التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها . والثاني: الفقه في معاني أسمائه الحسنى، وجلالها وكمالها، وتفرده بذلك...'“ بتصرف من الفوائد” .
فالفقه في معاني أسماء الله وصفاته ومقتضياتها وآثارها وما تدل عليه من الجلال والكمال أقرب طريق لمعرفة الله. وكما قيل:'من كان بالله أعرف كان لله أخوف'. فمن كان بالله وأسمائه وصفاته أعرف، وفيه أرغب وأحب، وله أقرب؛ وجد من حلاوة الإيمان في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه. ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حب غيره، وكلما ازداد له حباً؛ ازداد له عبودية، وذلًا، وخضوعاً . إن علمنا بالله ومعرفتنا به؛ يصلنا بالله، ويزكي نفوسنا ويصلحها، وهذا هو الطريق الذي أضاعه الكثير من المسلمين اليوم.
ثانياً: راحة النفس الموحدة واطمئنانها وسعادتها: فهي لا تقبل الأوامر إلا من واحد، ولا تمتثل للنواهي إلا من واحد، ولذلك ترتاح النفس وتطمئن ويسكن القلب، ويهدأ. قال ابن القيم رحمه الله: 'وكما أن السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة غيره سبحانه لفسدتا كما قال تعالى:} لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ...[22] {“سورة الأنبياء” فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى؛ فسد فساداً لا يرجى صلاحه إلا بأن يخرج ذلك المعبود منه، ويكون الله تعالى وحده إلهه ومعبوده، الذي يحبه ويرجوه، ويخافه ويتوكل عليه، وينيب إليه'“ الفوائد”.
إذاً فالموحد لا يحب إلا لله، ولا يغضب إلا لله، ولا يكره إلا لله. وهنا يشعر القلب بالراحة والسعادة، فهو مطالب بإرضاء الله ولو غضب عليه أهل الأرض قاطبة، هذه هي حقيقة التوحيد، بل هذا هو الإخلاص لله في كل شيء:} قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[162] لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[163] {“سورة الأنعام” وقد خلقنا الله لعبادته:} وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[56] {“سورة الذاريات”.
والعبادة:' اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأفعال الظاهرة والباطنة' فكل فعل، وكل قول، وكل حركة، وكل سكون في حياتك هي عبادة لله، بشرط أن يحبها الله ويرضاها، وأن تكون خالصة لله، وكما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. هذا هو هدف المسلم في الحياة، فإذا اتضح الهدف للمسلم ارتاح قلبه، واطمأنت نفسه، وشعر بالسعادة؛ لأنه يعيش من أجل هدفٍ سامٍ، وغاية واضحة، ومبدأ عظيم هو رضا الله. وبهذا المفهوم الصحيح للعبادة فكل شيء في الحياة مع النية الخالصة لله؛ عبادة يؤجر عليها العبد، ومن الأمثلة على هذا:
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ] رواه مسلم. إذاً: وأنت تقضي شهوتك تؤجر عليها.
الهم..المرض..التعب يؤجر عليها المسلم الموحد الصادق إذا كانت في رضا الله عز وجل، ألم يقل الحبيب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.'لا إله إلا الله'ما أحلاها في حياتنا قولًا وعملًا لا كما يريد أعداء الله في المسجد فقط..في شهر رمضان، وموسم الحج فقط أما ما عداه فلا! ولذلك ربما سمعنا بعض المسلمين يقول: أَدْخَلُوا الدين في كل شيء . ونقول له، ولأمثاله: نعم الدين في كل شيء، ونحن مسلمون، والإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك.. تسليم واستسلام لله تعالى في كل شئون حياتنا لاحرية لك إلا في حدود الشريعة لا حرية لك بلباسك، ولا بقولك، ولا ببيعك، ولا بشرائك، ولا بذهابك، ولا بمجيئك إلا بهذه الحدود.(/2)
ثالثًا: تواضع النفس الموحدة وخوفها وانكسارها لخالقها وافتقارها إليه:لشعورها أنها في حاجة إليه في كل لحظة؛ فهو مالكها، ومدبرها، وهذا مما يزيد العبد افتقاراً والتجاء إليه عز وجل، ويزيده ترفعاً عن المخلوقين وما في أيديهم، فالمخلوق ضعيف، فقير، عاجز أمام قدرة الحق عز وجل الذي إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون . هنا يشعر الموحد بأنه يأوي إلى ركن شديد، وأنه في سعادة عظيمة، كيف لا؟ وهو يشعر بذله، وانكساره، وافتقاره، وعبوديته لملك الملوك. وهذه الثمرة من أعظم ثمرات التوحيد على النفوس، حُرِمَهَا الكثير منا. فراحة النفس، وسعادة القلب في الذل، والافتقار إليه، والانكسار بين يديه سبحانه، فلنلجأ إلى الله.. لنعلن ضعف أنفسنا لله، وهنا سيشعر الموحد بالقوة العجيبة وبالصبر والثبات؛ لأنه يعلم أنه يأوي إلى الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، الذي يحوطه، ويحفظه.
رابعاً:اليقين والثقة بالله عز وجل: فصاحب التوحيد على يقين من ربه، مصدق بآياته، مؤمن بوعده ووعيده كأنه يراه رأي العين، فهو واثق بالله، متوكل عليه، راض بقضائه وقدره، محتسب الأجر والثواب منه. والنفس الموحدة تمتلئ بالطمأنينة والسكينة حتى في أشد المواقف وأصعبها، ألم نقرأ في القرآن:} الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[82]{ “سورة الأنعام” يقول ابن تيميه رحمه الله:'والناس وإن كانوا يقولون بألسنتهم لا إله إلا الله، فقول العبد لها مخلصًا من قلبه له حقيقة أخرى'. ما هذه الحقيقة؟ يخبر تلميذه ابن القيم عن شيخ الإسلام بتلك الحقيقة الذي ذاقها- كما نحسبه والله حسيبه- فيقول:'وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشًا منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم،، بل ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد، والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نظرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض؛ أتيناه فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل؛ فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم بطلبها والمسابقة إليها..'. هكذا النفس الموحدة مهما أصابها في الدنيا، ومهما كانت الابتلاءات والامتحانات، مهما كانت الشدائد على تلك النفس؛ فإنها تعلم أنها قد تجزى بسيئاتها في الدنيا في المصائب التي تصيبها، ولذلك قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلَاحُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ:} لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ[123]{ “سورة النساء” فَكُلَّ سُوءٍ عَمِلْنَا جُزِينَا بِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْتَ تَمْرَضُ أَلَسْتَ تَنْصَبُ أَلَسْتَ تَحْزَنُ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ قَالَ: بَلَى قَالَ: فَهُوَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ] إذاً فأنت مأجور، والتوحيد يسليك عند المصائب، ويهون عليك الآلام وبحسب مقدار ما في القلب من لا إله إلا الله يكون الصبر والتسليم والرضا بأقدار الله المؤلمة،واليقين بنصرة الله وتحقيق وعده: فقد تكفل الله لأهل التوحيد بالنصر والعزة والشرف كما قال تعالى:} وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[55]{ “سورة النور” هذا هو الشرط:التوحيد} يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا {.
خامساً: تفريج الكربات: وقصة يونس عليه السلام من الأدلة على ذلك، قال تعالى:} وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ { بماذا نادى.. بماذا استغاث؟ بكلمة التوحيد(/3)
}فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ[87]{ “سورة الأنبياء” فماذا كانت النتيجة؟ } فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ[88] {“سورة الأنبياء” بل حتى المشركين يعلمون أن في التوحيد تفريجاً للكربات، قال تعالى:} فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ[65]{ “سورة العنكبوت” قال ابن القيم رحمه الله:'فما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد، ولذلك كان دعاء الكرب في التوحيد، ودعوة المؤمن التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه في التوحيد، فلا يلقي في الكرب العظام إلا الشرك، ولا ينجي منها إلا التوحيد، فهذا مفزع الخليقة وملجؤها، وحصنها، وبياتها وبالله التوفيق…'.
سادسا: الحزم والجد في الأمور:فإن الموحد جاد حازم؛ لأنه عرف هدفه، وعرف لماذا خُلِق، وما المطلوب منه، وهو توحيد الله عز وجل والدعوة إليه؛ فلذلك حرص على عمره، فاستغل كل ساعة في عمره، فلا يفوت فرصة للعمل الصالح، ولا يفوت شيئًا فيه رجاء الله، ولا يرى موقع الإثم إلا وابتعد عنه خوفاً من العقاب؛ لأنه يعلم أن من أسس التوحيد: الإيمان بالبعث والجزاء على الأعمال، والله عز وجل يقول:} وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ[132]{ “سورة الأنعام” وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الحزم والجد والقوة، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ] رواه مسلم وابن ماجه وأحمد . فيا أيها الموحد كن جاداً حازماً، فأنت صاحب عقيدة تحمل همها في الليل والنهار، وفي اليقظة والمنام، وهكذا المسلم إن حزن أو ابتسم فلتوحيده، وإن أحب أو أبغض فلعقيدته..حياته كلها جد وعمل، فهي وقف لله تعالى.
سابعاً:التوحيد هو الذي يحرر النفوس من رق المخلوقين: ومن التعلق بهم، وخوفهم ورجائهم، والعمل لأجلهم، وهذا والله هو العز الحقيقي، والشرف العالي، فيكون بذلك متألهاً، متعبداً لله، فما يرجو سواه، ولا يخشى غيره، ولا ينيب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه. قال شيخ الإسلام رحمه الله:'المشرك يخاف المخلوقين ويرجوهم؛ فيحصل له رعب كما قال تعالى:} سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا... [151]{ “سورة آل عمران” أما الخالص من الشرك يحصل له الأمن كما قال تعالى:} الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[82]{ “سورة الأنعام” وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم هنا بالشرك كما في الحديث' . فمن آثار التوحيد إذاً القوة والشجاعة
ثامناً:التوحيد يسهل على النفوس فعل الخيرات وترك المنكرات: المخلص في توحيده تخف عليه الطاعات؛ لما يرجوه من الثواب ويهون عليه ترك المنكرات، وما تهواه نفسه من المعاصي؛ لما يخشى من سخط الله، وأليم عقابه . وكلما حقق العبد الإخلاص في قول:' لا إله إلا الله' صرف عنه الكثير من الذنوب والمعاصي، ألم يقل الحق عز وجل:} كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ[24] {“سورة يوسف” فعلل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه} مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ {ويقول الحق عز وجل:} قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[110] {“سورة الكهف” فالمسلم بقدر ما في نفسه من التوحيد يكون إقدامه وحرصه على فعل الخيرات والعكس بالعكس . وأقول لأولئك العاجزين، أسرى الذنوب والشهوات والمعاصي، الذين إذا ذكروا؛ تعللوا بالمشقة والعجز، فإذا قيل لأحدهم: اترك يا أخي تلك المعصية . قال: والله ما استطعت. أقول لأولئك كما يقول ابن القيم رحمه الله:' إنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله أما من تركها صادقاً مخلصاً من قلبه لله؛ فإنه لا يجد من تركها مشقة إلا في أول وهلة؛ ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب؟' .(/4)
تاسعاً:التوحيد ينير القلب: ويشرح الصدر ويجعل للحياة معنى وحلاوة بل إن' لا إله إلا الله' إذا خرجت من قلبٍ صادق؛ تقلب الحياة رأساً على عقب،فهذا بلال عبد حبشي ليس له من الأمر شيء فأصبح بـ 'لا إله إلا الله' المؤذن الأول، ورجل من أهل الجنة، وسيد من سادات الإسلام، تهتز له القلوب، سبحان الله! كان مولى من الموالي، فلما آمن بالله؛ وقف في وجه أسياد مكة يتحداهم بـ'لا إله إلا الله' إنها شمس التوحيد لامست شغاف القلوب، فتجلت بها ظلمات النفس والطبع، وحركت الهمم والعزائم .
عاشراً:التوحيد يحفظ هذه النفوس: ماحفظت دماؤنا وأعراضنا وأموالنا إلا بكلمة التوحيد'لا إله إلا الله' قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ] رواه مسلم وأحمد. بل انظر لهذا الموقف العجيب: عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ] قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنْ السِّلَاحِ قَالَ: [أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا] فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ.رواه البخاري ومسلم-واللفظ له- وأبوداود وأحمد. فبماذا حفظت هذه النفس؟ بتوحيد الله، بـ'لا إله إلا الله' ولذلك ترجم النووي لهذا الحديث فقال:” باب: تحريم قتل الكافر بعد أن قال:' لا إله إلا الله'.
الحادي عشر: الإنصاف وتربية النفس على العدل: فمن أظلم الظلم أن يكون الله هو الذي أوجد؛ فأحسن الخلق، وينعم ويحسن الإنعام، ويتفضل سبحانه بكل شيء} وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ[18]{ “سورة النحل” ثم بعد ذلك كله نقابل ذلك بالنكران والجحود، فنجعل له نداً نمتثل لأمره ونحبه من دون الله، بل نخافه من دون الله ونرجوه، بل ربما صرف له شيء من العبادة من دون الله أليس هذا هو الظلم العظيم؟ فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! ولذلك كان أعظم ذنب عصي الله به هو الشرك بالله }يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[13]{ “سورة لقمان” وكما قال عز وجل:} إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا[48]{ “سورة النساء” .
الثاني عشر: زوال الحيرة والتردد عند الإنسان: فكلما كان الإنسان موحداً، مخلصاً لله، منيباً إليه؛ كان أكثر اطمئناناً، وراحة، وسعادة. وكلما كان الإنسان بعيداً عن الله كان أكثر حيرة وضلالاً وتردداً، واقرأ إن شئت قول الحق عز وجل:} قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[71]{ “سورة الأنعام” فأهل التوحيد أكثر الناس طمأنينة وإيماناً، وأبعدهم عن الحيرة، والانفراد، والتخبط، والتنافر. وليس ذلك إلا بتوحيد الله؛ بالتوحيد الخالص لله؛ تعرف من أنت؟ من أين أتيت؟ لماذا أتيت؟ ماذا يريد الله منك؟ ولولا الله ما كنت موجوداً في الوجود .
الثالث عشر: جمع كلمة المسلمين الموحدين وتوحيد صفوفهم : جمع الله بالتوحيد القلوب المشتتة، والأهواء المتفرقة، فما اتحد المسلمون، وما اجتمعت كلمتهم إلا بالتوحيد..وما تفرقوا واختلفوا إلا لبعدهم والله عنه؛ فربهم واحد، ودينهم واحد، ونبيهم واحد، وقبلتهم واحدة، ودعوتهم واحدة، هي:' لا إله إلا الله' .. أهل التوحيد لا يختلفون في أصول الدين وقواعد الاعتقاد، يرون السمع والطاعة لولاة أمورهم بالمعروف مالم يأمروا بمعصية، ولا يجوز الخروج عليهم- وإن جاروا- إلا أن يرى منهم كفر بواح، عليه من الله برهان.. أهل التوحيد تتفق في الغالب وجهات نظرهم، وردود أفعالهم مهما تباعدت الأمصار والآثار، فالمصدر واحد.(/5)
الرابع عشر:جود نفوس الموحدين بالمال والنفس في سبيل الله ونصرة دينه: فأمة التوحيد أمة قوية، تبذل كل غال ونفيس من أجل دينها وعقيدتها وتثبيت دعائمه، غير مبالية بما يصيبها في سبيل ذلك، يقول عز وجل:} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ[15] {“سورة الحجرات”، لم يدخلهم شك، ولا خوف، ولا يأس، ولا قنوط في حقيقة توحيدهم وعقيدتهم، بل في حقيقة نصرة الله لهم..أيها الموحد.. أيتها الموحدة، هل جعلت نفسك، ومالك، وولدك، وكل ما تملك في خدمة هذه العقيدة في سبيل لا إله إلا الله؟
ماذا قدمت لدينك، وعقيدتك؟ نعجب ونتحسر يوم أن يضحي الكافر من أجل دينه وعقيدته- وهو على باطل-. ويوم أن يفتر ويهمل ذلك المسلم من أجل عقيدته وتوحيده وهو على حق !
الخامس عشر: شعور النفس الموحدة بمعية الله عز وجل: قال ابن القيم:'فإن قُلْتَ: بأي شيء أستعين على التجرد من الطمع ومن الفزع؟ قُلْتُ: بالتوحيد، والتوكل على الله، والثقة بالله، وعلمك بأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، وأن الأمر كله لله ليس لأحد مع الله شيء '“الفوائد” قال عز وجل:} إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ اللَّهَ... [38] {“سورة الحج” وقال:} أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ...[36] {“سورة الزمر” وقال:} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ[11]{ “سورة محمد” وقال:} لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[64]{ “سورة يونس” وفي الحديث القدسي: [ إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ...]رواه البخاري. فأي فضل يناله صاحب التوحيد! فالله معه يحفظه، وينصره، ويدافع عنه؛ مما يزيده قوة وشجاعة وإقبالًا على الله عز وجل قال ابن رجب في رسالته الجميلة 'الإخلاص':' من صدق في قول لا إله إلا الله؛ لم يحب سواه، ولم يرج سواه، ولم يخش أحداً إلا الله، ولم يتوكل إلا على الله، ولم يبق له بقية من آثار نفسه وهواه، ومع هذا فلا تظن أن المحب مطالب بالعصمة وإنما هو مطالب كلما ذل أن يتلافى تلك الوصمة'.
السادس عشر: العلم والبصيرة: فمن عرف التوحيد وحقيقته؛ عرف عكسه من الشرك وحقائقه وأباطيله، بل عرف احتيالات أهل الشرك ومكرهم، فيجزم الموحد بكفرهم، وعداوتهم. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ] رواه مسلم وأحمد. فلا يكفي لعصمة دم المسلم أن يقول: لا إله إلا الله، بل لا بد أن يضيف إليها: الكفر بما يعبد من دون الله، فإن لم يكفر بما يعبد من دون الله؛ لم يحرم دمه وماله، ومن الآثار محبة أهل الإيمان وموالاتهم وبغض المشركين ومعاداتهم . وقد يتساءل البعض:لماذا يأمرنا الإسلام ببغض المشركين؟ فأقول: لأننا نحن وإياهم على طرفي نقيض، فنحن أهل توحيد، وهم أهل شرك، وبيننا وبينهم عداوة وبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده كما قال تعالى:} قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ...[4]{ “سورة الممتحنة” . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين .
من محاضرة: أثر التوحيد في النفوس للشيخ/ إبراهيم الدويش(/6)
التوحيد وأنواعه
للشيخ محمد بن صالح العثيمين
سئل فضيلة الشيخ أعلى الله درجته في المهديين : عن تعريف التوحيد وأنواعه ؟
فأجاب حفظه الله بقوله : التوحيد لغة : " مصدر وحد يوحد، أي جعل الشيء واحداً " وهذا لا يتحقق إلا بنفي وإثبات، نفي الحكم عما سوى المُوحَّد، وإثباته له، فمثلاً نقول : إنه لا يتم للإنسان التوحيد حتى يشهد أن لا إله إلا الله فينفي الألوهية عما سوى الله عز وجل ويثبتها لله وحده، وذلك أن النفي المحض تعطيل محض، والإثبات المحض لا يمنع مشاركة الغير في الحكم، فلو قلت مثلاً : " فلان قائم " فهنا أثبتَّ له القيام لكنك لم توحده به، لأنه من الجائز أن يشاركه غيره في هذا القيام، ولو قلت : " لا قائم " فقد نفيت محضاً ولم تثبت القيام لأحد، فإذا قلت: "لا قائم إلا زيد " فحينئذ تكون وحدت زيداً بالقيام حيث نفيت القيام عمن سواه، وهذا هو تحقيق التوحيد في الواقع، أي إن التوحيد لا يكون توحيداً حتى يتضمن نفياً وإثباتاً .
وأنواع التوحيد بالنسبة لله عز وجل تدخل كلها في تعريف عام وهو " إفراد الله سبحانه وتعالى بما يختص به " .
وهي حسب ما ذكره أهل العلم ثلاثة :
الأول : توحيد الربوبية .
الثاني : توحيد الألوهية .
الثالث : توحيد الأسماء والصفات .
وعلموا ذلك بالتتبع والاستقراء و النظر في الآيات والأحاديث فوجدوا أن التوحيد لا يخرج عن هذه الأنواع الثلاثة فنوعوا التوحيد إلى ثلاثة أنواع :
الأول : توحيد الربوبية : وهو " إفراد الله سبحانه وتعالى بالخلق، والملك، والتدبير " وتفصيل ذلك :
أولاً:بالنسبة لإفراد الله تعالى بالخلق فالله تعالى وحده هو الخالق لا خالق سواه قال الله تعالى :
( هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو ) .
وقال تعالى مبيناً بطلان آلهة الكفار : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ) . فالله تعالى وحده هو الخالق خلق كل شيء فقدره تقديراً ، وخَلْقُهُ يشمل ما يقع من مفعولاته، وما يقع من مفعولات خلقه أيضاً، ولهذا كان من تمام الإيمان بالقدر أن تؤمن بأن الله تعالى خالقٌ لأفعال العباد كما قال الله تعالى : ( والله خلقكم وما تعملون ) .
ووجه ذلك أن فعل العبد من صفاته، والعبد مخلوق لله، وخالق الشيء خالق لصفاته، ووجه آخر أن فعل العبد حاصل بإرادة جازمة وقدرة تامة، والإرادة والقدرة كلتاهما مخلوقتان لله عز وجل وخالق السبب التام خالق للمسبب .
فإن قيل : كيف نجمع بين إفراد الله عز وجل بالخلق مع أن الخلق قد يثبت لغير الله كما يدل عليه قول الله تعالى : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) . وقول النبي صلى الله عليه وسلم في المصورين : " يقال : لهم : أحيوا ما خلقتم " ؟
فالجواب على ذلك : أن غير الله تعالى لا يخلق كخلق الله فلا يمكنه إيجاد معدوم، ولا إحياء ميت، وإنما خلق غير الله تعالى يكون بالتغيير وتحويل الشيء من صفة إلى صفة أخرى وهو مخلوق لله - عز وجل - فالمصور مثلاً، إذا صور صورة فإنه لم يحدث شيئاً غاية ما هنالك أنه حول شيئاً إلى شيء كما يحول الطين إلى صورة طير أو صورة جمل، وكما يحول بالتلوين الرقعة البيضاء إلى صورة ملونة فالمداد من خلق الله عز وجل، والورقة البيضاء من خلق الله عز وجل، هذا هو الفرق بين إثبات الخلق بالنسبة إلى الله، عز وجل وإثبات الخلق بالنسبة إلى المخلوق . وعلى هذا يكون الله سبحانه وتعالى منفرداً بالخلق الذي يختص به .
ثانياً : إفراد الله تعالى بالملك فالله تعالى وحده هو المالك كما قال الله تعالى : ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ) .
وقال تعالى : ( قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ) . فالمالك الملك المطلق العام الشامل هو الله سبحانه وتعالى وحده، ونسبة الملك إلى غيره نسبة إضافية فقد أثبت الله عز وجل لغيره الملك كما في قوله تعالى : ( أو ما ملكتم مفاتحه ) . وقوله ( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) . إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أن لغير الله تعالى ملكاً لكن هذا الملك ليس كملك الله عز وجل فهو ملك قاصر، وملك مقيد، ملك قاصر لا يشمل، فالبيت الذي لزيد لا يملكه عمرو، والبيت الذي لعمرو لا يملكه زيد، ثم هذا الملك مقيد بحيث لا يتصرف الإنسان فيما ملك إلا على الوجه الذي أذن الله فيه ولهذا نهى النبي، صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال وقال الله تبارك وتعالى : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً ) . وهذا دليل على أن ملك الإنسان ملك قاصر وملك مقيد، بخلاف ملك الله سبحانه وتعالى فهو ملك عام شامل وملك مطلق يفعل الله سبحانه وتعالى ما يشاء ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون .(/1)
ثالثاً : التدبير فالله عز وجل منفرد بالتدبير فهو الذي يدبر الخلق ويدبر السماوات والأرض كما قال الله سبحانه وتعالى : ( ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) . وهذا التدبير شامل لا يحول دونه شيء ولا يعارضه شيء . والتدبير الذي يكون لبعض المخلوقات كتدبير الإنسان أمواله وغلمانه وخدمه وما أشبه ذلك هو تدبير ضيق محدود، ومقيد غير مطلق فظهر بذلك صدق صحة قولنا : إن توحيد الربوبية هو " إفراد الله بالخلق والملك، والتدبير " .
النوع الثاني : توحيد الألوهية وهو " إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة " بأن لا يتخذ الإنسان مع الله أحداً يعبده ويتقرب إليه كما يعبد الله تعالى ويتقرب إليه وهذا النوع من التوحيد هو الذي ضل فيه المشركون الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستباح دماءهم وأموالهم وأرضهم وديارهم وسبى نساءهم وذريتهم، وهو الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب مع أخويه توحيدي الربوبية، والأسماء والصفات، لكن أكثر ما يعالج الرسل أقوامهم على هذا النوع من التوحيد وهو توحيد الألوهية بحيث لا يصرف الإنسان شيئاً من العبادة لغير الله سبحانه وتعالى لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا لولي صالح، ولا لأي أحد من المخلوقين، لأن العبادة لا تصح إلا لله عز وجل، ومن أخل بهذا التوحيد فهو مشرك كافر وإن أقر بتوحيد الربوبية، وبتوحيد الأسماء والصفات . فلو أن رجلاً من الناس يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق المالك المدبر لجميع الأمور، وأنه سبحانه وتعالى المستحق لما يستحقه من الأسماء والصفات لكنيعبد مع الله غيره لم ينفعه إقراره بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات . فلو فرض أن رجلاً يقر إقراراً كاملاً بتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات لكن يذهب إلى القبر فيعبد صاحبه أو ينذر له قرباناً يتقرب به إليه فإن هذا مشرك كافر خالد في النار، قال الله تبارك وتعالى : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) . ومن المعلوم لكل من قرأ كتاب الله عز وجل أن المشركين الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم، وأموالهم وسبى نساءهم، وذريتهم، وغنم أرضهم كانوا مقرين بأن الله تعالى وحده هو الرب الخالق لا يشكون في ذلك، ولكن لما كانوا يعبدون معه غيره صاروا بذلك مشركين مباحي الدم والمال .
النوع الثالث : توحيد الأسماء والصفات وهو " إفراد الله سبحانه وتعالى بما سمى الله به نفسه ووصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بإثبات ما أثبته من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل " . فلابد من الإيمان بما سمى الله به نفسه ووصف به نفسه على وجه الحقيقة لا المجاز، ولكن من غير تكييف، ولا تمثيل.(/2)
التوحيد ...
...
06-03-2004
التوحيد هو أعظم فريضة فرضها الله عز وجل على عباده ، ومن أجلها بعث الله الرسل ، وأنزل الكتب ، وهو مناط النجاة في الدنيا ، والآخرة .
والتوحيد لغة : هو جعل الشيء واحدا . وفي الاصطلاح : الإيمان بوحدانية الله عز وجل في ربوبيته ، وألوهيته ، وأسمائه ، وصفاته ، وتفصيل ذلك بمعرفة أقسام التوحيد كما بينها العلماء :
أولا : توحيد الربوبية : وهو إفراد الله بأفعاله كالخلق ، والملك ، والتدبير ، قال تعالى : { الحمد لله رب العالمين } ( الفاتحة : 1 ) أي مالكهم ، ومدبر شئونهم .
والاعتراف بربوبية الله عز وجل مما لم يخالف فيها إلا شذاذ البشر من الملاحدة الدهريين ، أما سائر الكفار فقد كانوا معترفين بربوبيته سبحانه ، وتفرده بالخلق ، والملك ، والتدبير ، وقد حكى الله ذلك عنهم في غير ما آية ،منها قوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } (العنكبوت:61)
ثانيا : توحيد الألوهية : وهو إفراده تعالى بالعبادة ، وذلك بأن يكون قصد العبد وتوجهه في عبادته هو الله سبحانه وتعالى ، فلا يصرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله ، قال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الأنعام:162) وقد كان خلاف المشركين في هذا النوع من التوحيد ، لذلك بعث الله إليهم الرسل ، قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } (النحل: 36)
ثالثا : توحيد الأسماء والصفات : وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه ، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ولا تمثيل ، ولا تكييف ، ونفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى { ليس كمثله شيء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (الشورى:11) ، ولتوضيح هذه القاعدة نورد بعض الأمثلة التوضيحية ، من ذلك أن الله وصف نفسه بأنه { الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } (هود: 66) فموقف المسلم تجاه ذلك هو إثبات هذين الاسمين لله عز وجل كما ورد في الآية ، مع اعتقاد اتصاف الله عز وجل بهما على وجه الكمال ، فلله عز وجل القوة المطلقة ، والعزة المطلقة .
ومثال النفي في الصفات قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ) رواه مسلم فموقف المسلم من ذلك هو نفي صفة النوم عن الله عز وجل ، مع اعتقاد كمال الضد بمعنى : أن انتفاء صفة النوم عنه سبحانه دليل على كمال حياته ، وهكذا القول في سائر الأسماء والصفات .
فهذه هي حقيقة التوحيد ، مستمدة من نور الوحي ، وبهاء النبوة ، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يوحد الله حق توحيده ، ويعبده حق عبادته ، والله الموفق .(/1)
التورق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر
د.عبد الله بن حسن السعيدي
مقدمة البحث
أن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونستهديه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداَ عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله ، وصحبه ، وسلم تسليما كثيرا ،،، أما بعد :
فإن موضع التورق المصرفي المنظم :موضوع جديد ، قديم ، هام . فهو جديد : على صعيد العمل ، والممارسة ، وإن يكن جديدا من وجه ، فإنه امتداد لبيع المرابحة للآمر بالشراء ، الذي كان مأخذا على البنوك الإسلامية ، من جهة غايته ، حيث غايته الاستهلاك ، والبنوك الإسلامية من أهدافها : التنمية والاستثمار ، وقد أغرقت في المرابحة إغراقا نافى أهدافها المعلنة .
ومن جهة تطبيقية ، حيث ينطوي على مآخذ ، ومخالفات ، تختلف باختلاف البنوك ، لا تتفق والعمل الإسلامي ، الذي هو أساس البنوك الإسلامية من جهة رسمية .
موضوع جديد ، قديم ، هام .
فهو جديد : على صعيد العمل ، والممارسة ، وإن يكن جديدا من وجه ، فإنه امتداد لبيع المرابحة للآمر بالشراء ، الذي كان مأخذا على البنوك الإسلامية ، من جهة غايته ، حيث غايته الاستهلاك ، والبنوك الإسلامية من أهدافها : التنمية والاستثمار ، وقد أغرقت في المرابحة إغراقا نافى أهدافها المعلنة .
وهو قديم : بالنظر إلى أصله ، فإنه يندرج تحت عقود المداينة التي يقصد منها تحصيل النقد ، كما سيأتي بيانه في مبحث تخريجه .
وهو هام : بالنسبة للمستهلكين ، حيث إن كثيراً منهم قد ولجوا من بابه ، وكثيرين لا زالوا وقوفا عند أعتابه ، ينظرون إذن الدخول ، أو العدول .
هام : بالنسبة إلى الباحثين ، حيث لا يزال موضوعه مادة للبحث والمناقشة ، إذ لم يتخذ فيه قرار واضح حتى الآن .
وكان من شأنه أن عُرِض ثلاثَ عرضاتٍ خلال عام واحد :
أولاها : مؤتمر جامعة الشارقة ، خلال المدة 24 ـ 26 / 2/ 1423هـ .
وثانيتها : ندوة البركة الثانية والعشرون بمكة المكرمة ، خلال 8 ـ 9 / 4/ 1423هـ.
وثالتهما : ندوة البركة الثالثة والعشرون بمكة المكرمة ، خلال 6 ـ 7 / 9/ 1423هـ.
ولم تسفر هذه العرضان عن رأي بشأن حكم هذه المعاملة ، سوى التوصية بمزيد بحث ، ودراسة .
وهذا يبرر أهمية بحثه باعتباره من مشكلات التطبيق في البنوك الإسلامية ، وهو عرض لمشكلة منهجية تسير عليها البنوك الإسلامية ، وهي : " مشكلة التمويل " فلعل هذا البحث المتواضع يسهم في شيء مما طلب فيه .
هذا ، وإن ما تفضل به سعادة أمين المجمع الفقهي من مسائل ضمنَّها خطابه ، للاستئناس بها في الكتابة ، قد انساقت عفواً ، فتضمنها البحث في طياته ، وصارت ـ دون تكلف ـ من بين فقراته .
وقد قمت في سبيل إعداد هذا البحث بزيارة ميدانية ، لعدة بنوك ، تمارس هذا العمل ، والتقيت ، واتصلت بشخصيات لها صلة بهذا العمل ، وحصلت على عقود ، ومطويات ، متعلقة بهذا العمل ، واستخلصت من مجموع ذلك مادة هذا البحث دون نشر للعقود ، أو إشارة إلى الجهات ، أو الشخصيات ، محافظة على سرية العمل المصرفي ، الذي حملنيه كل من تعاون معي مشكوراً ، ولم أبح بشيء من ذلك ـ على قلته ـ سوى بعض ما تحتويه المطويات التي تُبَثُّ في كل مكان ، فهي مبثوثة في مداخل البنوك ، وفي غرف مكائن الصرف ، ولم تعد لذلك سرّاً .
ومن خلال بحثي الميداني تبين لي أن هذه المعاملة ذات وجهين :
وجه ظاهر : وهو ما يتصل بالسوق الداخلية ، التي أطرافها البنك وعملاؤه المتورقون ، وما يتبع ذلك من عقود وإجراءات يمكن الاطلاع عليها .
ووجه باطن: وهو ما يتصل بالسوق الدولية ، التي أطرافها البنك ، وما يتعامل معه من شركات يبيع عليها ، ويشتري منها ، وما يتبع ذلك من عقود واتفاقات ، ونحو ذلك ، فهذه دونها خَرْطُ القتاد ، بل ما هو أشد منه : " سرية العمل المصرفي "
فإلى ثنايا هذا البحث ، المقيد في مبحثين :
المبحث الأول
" للدراسة التصويرية " ، لتصوير المعاملة ، ومن ثم تصورها ، تمهيدا للحكم عليها .
المبحث الثاني
" للدراسة الفقهية " بعد بيان ما تستند عليه من تصور ، وأدلة ، واعتبارات .
عسى الله أن يجعله لوجهه خالصاً ، ولعباده نافعاً وهو المستعان وعليه التكلان .
المبحث الأول
الدراسة التصويرية
مقدمة
مقصود هذا المبحث : بيان ما يتم به تصور المعاملة ، تمهيداً للحكم عليها في المبحث الثاني ، وفيه من المسائل ما يلي :
أولا : في بيان اسمها ، والنظر فيها
تسمي هذه المعاملة التورق المصرفي ، وتسمي التورق المنظم أيضا ، وهذه التسمية قد أطلقها الباحثون ممن بحثوا التورق المنظم .(/1)
أما البنوك ـ مصدر هذه المعاملة ـ فتطلق عليها أسماء خاصة بها ، تختلف باختلاف البنوك ، فالبنك الأهلي يطلق عليها اسم " تيسير " وبنك الجزيرة يطلق عليها أسم " دينار " ـ والبنك السعودي الأمريكي يطلق عليها اسم " تورق الخير " ، والبنك السعودي البريطاني يطلق عليها اسم " مال " ، والبنك العربي الوطني يطلق عليها اسم " التورق المبارك " .
قلت : ويمكن أن يطلق اسم " التورق المصرفي المنظم " على هذه الأسماء كلها ، لما له في حقيقتها من نصيب .
أما التورق ، فلما فيها من معنى التورق .
وأما المصرفي ، فلانتساب هذه المعاملة إلى المصارف .
وأما المنظم ، فلما تقوم عليه هذه المعاملة من تنظيم بين أطراف عدة كان من شأن هذا التنظيم أن تتم من خلاله صناعة التمويل " الإقراض " ، وكان من شأنه أن كان عنصر إشكال فيه عند كثير من الباحثين .
ثانيا : في بيان تاريخه
التورق المصرفي ـ وإن بدأ معاملة جديدة ـ إلا أنه امتداد ، وتطور للمرابحة سلباً ، وكانت الريادة فيه للبنك الأهلي الإسلامي ، ثم تلتها البنوك ومعظمها فروع ونوافذ إسلامية ، لبنوك تجارية .
فانطلق التورق المصرفي في البنك السعودي البريطاني في أكتوبر 2000م .
وفي بنك الجزيرة في آخر عام 2002م .
وفي البنك السعودي الأمريكي في آخر عام 2002م أيضا .
ثالثا : في بيان الغابة منه
والغاية منه هي تحصيل السيولة النقدية لدى الأفراد ، والشركات ، وقد نصت كثيرا من البنوك على هذا ، وضمنته ما يتصل بهذه المعاملة من نماذج ، ومطويات ، ومنها :
• ( تحقق لك هذه الصيغة الرائدة إمكانية الحصول على سيولة نقدية بسرعة فائقة ، لتقضي بها حاجاتك المعيشية ، بالطريقة التي تفضلها ) . " تيسير "
• ( أحصل في حسابك على السيولة النقدية التي تحتاجها ، وأنعم براحة البال مع تمويل التورق المبارك ) .
• ( " آمال " ... يمكنك من الحصول على السيولة النقدية ، لتلبية احتياجاتك ، مهما كانت ) .
رابعا : في بيان أقسامه
التورق المنظم ينقسم قسمين :
الأول : لتمويل الأفراد .
الثاني : لتمويل الشركات ومنه تعلم أن البنوك تموِّل الأفراد والشركات من خلال هذه المعاملة .
خامسا : في بيان وصفه ، وإجراءاته
في برنامج التورق المصرفي المنظم يقوم البنك بشراء كمية من المعادن ، من السوق الدولية وقد يقيم البنك وسيطاً يقوم مقامه في الشراء ، وتبقى السلعة في المخازن الدولية ، وتحرر الشركة " البائعة " للبنك " المشتري " شهادة تخزين تفيد مواصفات السلعة ، وكميتها ، ومكان تخزينها ، ورقم صنفها ، وامتلاك البنك لها .
ثم يقوم البنك بعد امتلاكها ببيعها على سبيل التجزئة عن طريق برنامج التورق المصرفي ، سالكاً في البيع ما يلي من إجراءات :
إجراءات البيع :
1. " طلب الشراء " يتقدم به العميل إلى البنك من خلال أنموذج يعده البنك سلفا .
2. اتفاقية يعنون لها بـ " شروط وأحكام البيع بالتقسيط " ، وهي لا تمثل إيجاباً في عقد البيع ، ولا قبولاً فيه ، لكنها تحدد العلاقة بين الطرفين من خلال الاتفاق على ما فيها من شروط ، وأحكام ينبغي أن يخضع لها عقد البيع عند وجوده .
3. "إشعار عرض البيع " ، وهو يمثل إيجابا من البنك موجها إلى المشتري ، يشير فيه إلى السلعة ، وكميتها ، وقيمتها ، ونحو ذلك 4. " إشعار الموافقة على الشراء " وهو يمثل قبول العميل إيجابَ البيع السابق . وقد تنعكس لدى بعض البنوك فيكون الإيجاب من العميل ممثلاً بطلب شراء يتضمن السلعة ، وكميتها ، وقيمتها ، ونحو ذلك .
ويكون القبول من البنك بإشعار يتلو ذلك يفيد البنكُ فيه عميله بالموافقة على إيجابه السابق
5. إشعار توكيل البنك بالبيع نيابة عن العميل .
وبعض البنوك تختصر الإجراءات فيما يلي :
1. " طلب شراء " من قبل العميل من خلال أنموج قد أعده البنك سلفا .
2. " عقد بيع بالتقسيط " مُوَقَّعٌ من الطرفين يتضمن اتفاق الطرفين على البيع ، وفي الوقت نفسه يتضمن الشروط والأحكام التي ينبغي أن يخضع لها عقد البيع ، والتي تفردها بعض البنوك بأنموذج ، وإجراء مستقل يسبق العقد ، كما تقدم .
3. إشعار توكيل البنك بالبيع نيابة عن العميل .
ومما يتصف به التورق المصرفي المنظم : أن البائع يتوكل عن المشتري في بيع السلعة التي اشتراها منه ، نيابة عنه ، في السوق الدولية ، وهو ما عليه العمل ، وقد يكون بعده ، وهذا مختلف باختلاف البنوك ، وغالبها يكون التوكيل فيه قبل تمام عقد البيع .
وقد يتولي البنك البيع مباشرة في السوق الدولية ، وقد يقيم وسيطا يقوم مقامه ، وهو مختلف باختلاف البنوك أيضا .
ومما يتصف به أيضا : " التنظيم " من خلال ما يرتبه البنك من اتفاقات سابقة على عقد البيع مع كل من الشركة البائعة التي تبيع عليه ، والشركة المشترية التي تشتري منه ، وهو اتفاق ـ كما تقول عنه البنوك ـ ينظم التعامل المستقبلي مع تلك الشركات من خلال الاتفاق على إجراءات ، وأحكام معينة ، ومن أجل هذا سمي بـ " التورق المنتظم " .(/2)
ميزة التورق المنظم
إذن يتميز التورق المنظم بثلاث
الأولى : أن البنك يشتري السلعة سلفا ، قبل طلب العميل ، على أن بعض البنوك لا تشتري إلا بعد طلب العميل ، وهذا لا يخرجه عن كونه تورقا عندهم لتميزه بالميزتين اللاحقتين .
الثانية : أن البنك يرتب تنظيما مع الشركة البائعة ، والشركة المشترية في السوق الدولية ، وذلك قبل عقد البيع .
الثالثة : أن البنك يقوم ببيع السلعة التي اشتراها منه عميله ، نيابة عنه . وهذه أظهر ما يميز التورق المنظم .
سادسا : في بيان تعريفه :
أولا : في بيان ما سبق أن قيل فيه
لم أعثر ـ فيما وقفت عليه ـ على تعريف للتورق المصرفي خلا تعريف د . سامي السويلم ، حيث عرفه ( قيام المصرف ، أو المؤسسة المالية بترتيب عملية التورق للعميل ، بحيث يبيع المصرف سلعة ـ وهي غالبا معدن من المعادن المتوفرة في الأسواق الدولية ـ على العميل بثمن آجل ، ثم يوكِّل العميل المصرف ببيع السلعة نقدا لطرف آخر ، ويسلم المصرف الثمن النقدي للعميل ( 1) .
ثانيا : في بيان رأيي في الموضوع
وظاهر أن التورق المصرفي المنظم يشتبه بالتورق المعلوم لدي الفقهاء ، ويفترق عنه من جهة ما هو عليه من تنظيم صار وصفا لازما له ، ومؤثرا فيه ، لذا سيأخذ من تعريف التورق بطرف بقدر ما يتفقان فيه ، وسيفترق عنه بقدر ما يفترقان فيه ، فأرى أن يعرف بأنه : ( تحصيل النقد بشراء سلعة من البنك ، وتوكيله في بيعها ، وقيد ثمنها في حساب المشتري ) .
وبهذا المبحث التصويري أحسب أنه قد تم تصور التورق المصرفي المنظم ، وبه تمهد المقام للحكم على التورق المصرفي المنظم ، في المبحث الآتي .
المبحث الثاني
الدراسة الفقهية
مقدمة :
مقصود هذه الدراسة الحكم على التورق المصرفي المنظم بعد بيان ما يبنى عليه هذا الحكم من اعتبارات ، وفق المطالب الآتية :
المطلب الأول : في بيان تخريجه
أولا : في بيان ما سبق أن قيل فيه :
لم أعثر ـ فيما وقفت عليه ـ من الدراسات السابقة على تخريج للتورق المصرفي المنظم ، حيث أن أنصاره انطلقوا من كونه تورقا ، فأغناهم ذلك عن تخريجه .
وبعضهم يكتفي بذكر الفرق بينه وبين التورق المعلوم لدى الفقهاء ، وليس ذلك بتخريج .
أما خصومه : فيكتفون بإيراد ما عليه من إشكالات من شأنها أن تقضي بمنعه ، دون تعرُّض لتخريجه .
وبعضهم يكتفي بذكر الفرق بينه ، وبين التورق المعلوم لدي الفقهاء ، وليس ذلك بتخريج .
ثانيا : في بيان رأيي في الموضوع :
في هذا البحث سأعرض لتخريج التورق المصرفي المنظم فأقول :
1. التورق المصرفي المنظم غايته تحصيل النقد من المشتري " العميل " وهو من هذا الوجه يتفق مع التورق المعلوم عند الفقهاء .
2. التورق المصرفي المنظم يتكون من عقدين منفصلين :
أولهما : تعاقد البنك " البائع " مع العميل " المشتري " ، والفرض أنه عقد بيع صحيح قد استوفي أركانه وشرائطه .
وثانيهما : تعاقد البنك بالنيابة عن العميل " المشتري " مع طرف آخر " مشتر " للسلعة ، غير بائعها الأول ، والفرض أنه عقد بيع صحيح ، قد استوفى أركانه وشرائطه .
وهو من هذا الوجه يتفق مع التورق المعلوم عند الفقهاء .
وبهذا يظهر أن حقيقة التورق المصرفي المنظم ، هي حقيقة التورق المعلوم لدى الفقهاء ، كما أن غايتَه غايتُه .
بيان الفرق بين التورق والتورق المصرفي
قد يعترض على هذا ، فيقال : إن في التورق المصرفي المنظم فروقا ، قد أهملتها في الاعتبار ، وهي :
أ / أن البنك يقوم باتفاقات سابقة على البيع ، مع كل من الجهة التي يشتري منها ، والجهة التي يبيع عليها ، وهو تواطؤ يقرب المعاملة من العينة .
ب / كما أن البنك يكون وكيلا عن العميل " المشتري " في بيع السلعة التي اشتراها منه ( ولولا وكالة المصرف بالبيع نقدا لما قبل العميل بالشراء منه بأجل ابتداءً ... ولو انفصلت الوكالة عن البيع الآجل ، لانهار البرنامج ولم يوجد التمويل أصلا ) ( 2)
قلت : ومحصلة هذين : صناعة القرض من خلال التواطؤ ، ويناقش بما يلي :
النظر في توكّل البنك عن العميل
أما توكل البنك عن المشتري " العميل " فهو غير مشروط في عقد البيع ، والمشتري فيه بالخيار ، وقد اطلعت على نماذج كثيرة ، من عقود البيع ، ليس فيها شرط توكل البنك عن العميل في البيع .
وحتى لو كان مشروطا ، فماذا فيه ، فإنه شرط لا ينافي مقتضي العقد ، وفيه مصلحة لأحد طرفيه ، وهو يتكرر في كثير من البيوع دون إشكال ، " كمن " يشتري حطبا ، ويشترط تكسيره " .
وليست الوكالة من عقود الإرفاق المحضة ، التي لا يجوز الأجر ، أو الاعتياض عنها ، كي يمنع ضمها إلى عقد معاوضة ، لتهمة اعتبار دخول الاعتياض عنها في مجمل الثمن .
فإذا لمس المشتري في التوكيل مصلحة له ، فماذا فيه إذا كان قد ملك السلعة ملكا صحيحا ؟ فلم يكن التوكيل حيلة لتحصيل النقد ، إذ كان البيع صورة ، ولا سلعة .
فإن قيل : ولكن البنك يلتزم للعميل ببيع السلعة بسعر التكلفة .(/3)
قلت : هذا ليس شرطا بينهما في عقد الوكالة ، وقد اطلعت على عدة عقود ، كلها نصت على أن يكون البيع بالسعر السائد وقت البيع بهذه العبارة " ( بالسعر السائد وقت البيع ) .
لكن البنك يلتزم بذلك للعميل ، على نحو لا ينزل منزلة الشرط ـ وهو مما يحصل واقعا ، ويجري عليه العميل ـ وذلك بحكم خبرته في السوق ، ولقصر الوقت الفاصل بين الشراء ، والبيع ، فيؤمن معه تقلب الأسعار ، ولو حدث فهو يسير ، فما المانع منه ؟ فإنه أدخل بالنصح الذي تتطلبه الوكالة ، وفيه مصلحة الموكِّل ، دون ضرر على غيره .
فإن قيل : هذا دال على أن قصد المشتري " العميل " الدراهم .
قلت : وماذا فيه أيضا ، فإن البضاعة إذا كانت ملكه ، كان له أن ينتفع بها في أوجه الانتفاع المباحة ، ومنها : الانتفاع بثمنها ، وعلى الممانع الدليل .
فإن قيل : ( قصد الشارع من تشريع عقد البيع هو تلبية حاجات المشتري إلى السلعة ، والبائع إلى الثمن ، فإذا اشترى المتورق سلعة لا حاجة له فيها ، ولا في استعمالها ، ولا في الاتجار بها ، وإنما يقصد الحصول على نقد حال ، على أن يدفع أكثر منه بعد أجل معين فقد ناقض قصده الشارع في تشريع عقد البيع .(3)
قلت : الشارع الحكيم شرع البيع لتحقيق مصالح الخلق ، ومن ضمنها الانتفاع بالسلع : باستعمالها ، أو الاتجار بها ، أو الانتفاع بثمنها ، كما هو الشأن في التورق ، وما استدل به على إخراج هذا الانتفاع من دليل ، هو : " مناقضة قصد الشارع " لا يظهر للخاصة ، فضلا عن العامة ، وما كان الله ليحرم شيئا ، ويخفي دليله إلا عن خاصة الناس ، فهذه مشقة تتنزه عنها الشريعة .
هذا فضلا عما يعضد التورق ، مما هو به أولى من هذا المنزع ، وهو حديث ( بع الجمع بالدراهم ، ثم اشتر بالدراهم جنيباً ) . (4)
حيث وجه الحديث من امتنع عليه تحصيل شيء من طريق ، أن يسلك طريقا آخر مشروعا في تحصيله ، والتورق منه ، وعلى المانع الدليل .
على أن ما ذكر مراعي في باب فضائل المعاملة ، وآدابها ، لكن لا يرقى إلى التحريم .
فإن قيل : قد جاء في المدونة : ( ولقد سألت مالكا عن الرجل يبيع السلعة بمئة دينار إلى أجل ، فإذا وجب البيع بينهما ، قال المبتاع للبائع : بعها لي من رجل بنقد ، فإني لا أبصر البيع ؟ قال : لا خير فيه ، ونهى عنه ) (5)
قلت : هذا توسع منه _رحمه الله تعالى_ في سعد الذرائع ، فإنه علَّل نهيه عن التوكل في بيعها ، في سؤال لا حق : أنه ليس له أن يشتريها .
قلت : وفرق بين أن يشتريها ، وبين أن يبيعها بالوكالة على غيره .
ثم أن توكله في بيعها يحقق للمشتري " العميل " مصلحة كانت ستفوت عند عدمه وهي : تقليل الخسارة على المشتري " العميل " وما كان ممنوعا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة .
فإن قيل : ولكن المشتري الأخير كان على مواطأة مع البنك من خلال اتفاق سابق على عقد البيع ، مضمونه أن يشتري منه ما يعرضه عليه من سلع دولية ، بسعر التكلفة .
النظر في الاتفاقات السابقة على عقد البيع
قلت : عدنا إلى إشكال الاتفاق السابق على البيع ، مع كل من الشركة البائعة ، والمشترية ، وماذا فيه أيضا ، إذا كان هذا الاتفاق لا يمثل عقداً ، ولا إلزام فيه ، لكن تقتضيه طبيعة التجارة الدولية ، أياً كان المعاملة ، وهو من الأحكام التي لا ينكر تغيرها بتغير الزمان ؟
فما يبرمه البنك من اتفاق سابق مع الشركة التي يشتري منها ، والأخرى التي يبيع عليها ، ما دام موضوعه تحديد شروط ، وأحكام ، واعتبارات ، ينبغي أن
لها عقد البيع عند وجوده : لا ما نع منه ، ما دام موضوع هذا الاتفاق ، ومحتواه مشروعاً .
فإن قيل : ولكن البنك يلزم بموجب هذا الاتفاق الشركة المشترية بالشراء .
قلت : هذا ممنوع ، وينزل على حكم الوعد الملزم في بيع المرابحة للآمر بالشراء (6)
وهو لا يمنع أن تكون المعاملة تورقا ، لكنه قد يؤدي إلى أن يكون البيع فاسدا .فإن قيل أن البيع بهذا التنظيم يكاد يكون صوريا ، فتؤول المسألة إلى العينة .
بيان صور وحكم العينة
قلت : العينة تتدرج من الجواز إلى المنع في صور :
1. فأهونها : أن لا يبيع الرجل إلا بدين ، وذلك عينه كرهها أحمد ( 7).
2. وأشد منها : أن يشتري الدائن سلعة من تاجر ليبيعها على المستقرض " المدين " ثم يبيعها المدين على التاجر الذي باعها على الدائن أولاً .
3. وأشد منها : أن يبيع الدائن سعلة على المستقرض " المدين " ثم يبيعها المدين على ثالث ، ليبيعها على البائع الأول " الدائن " ويأخذ منه الثمن ، فيسلمه المستقرض " المدين " وهي : " العينة الثلاثية " ، وقد جئ بالثالث حيلة على العينة .
4. وأشد من هذه الصور كلها : أن يبيع الدائن سلعة على المستقرض " المدين " بثمن مؤجل ، ثم يشتريها منه بثمن أقل نقدا ، وهي : العينة الثنائية " .
ولنسمها ذريعة من " الدرجة الأولى " ولهذا يمنعها الفقهاء عدا الشافعية .(8)(/4)
وهذه الصور الثلاث ـ عدا الأولى ـ تلتقي في كونها ذريعة إلى الربا ، والبيع حيلة ، لكن الذريعة تتفاوت قوة وضعفا في هذه الصور ، فأقواها ذريعة الصورة الرابعة ،
ثم تليها الصورة الثالثة ، وهي ممنوعة عند المالكية ، والحنابلة ، فلنسمها ذريعة من " الدرجة الثانية " (9)
ثم تليها الصورة الثانية وهي ممنوعة عند بعض المالكية ، بل أكثرهم ، والإمام ابن تيمية ، ولنسمها ذريعة من "الدرجة الثالثة " (10)
تنزيل التورق المصرفي على كل من العينة ، والتورق ، بسحب فروضه
وما نحن فيه يبيع البنك السلعة على شركة ، في السوق الدولية ، على نحو يكتنفه الغموض ، وهو يؤول إلى الفرضيات الآتية :
الأولى : أنها تؤول إلى الشركة التي باعت السلعة أولا على البنك ، وعليه فإن العميل لم يكن قد باع السلعة على من اشتراها منه ، وهو " البنك " لتكون " عينة ثنائية " ، فإن باعها عليه كانت عينة ثنائية .
ولم يكن قد باعها ثالث يعيد بيعها على من اشتراها العميل منه ، وهو" البنك " لتكون "عينة ثلاثية " ، فإن باعها على ثالث يعيدها للأول ، كانت عينة ثلاثية .
لكنه قد باعها على الشركة التي اشتراها البائع " الدائن " منها ، فتكون عينة
أخف من الصورتين السابقتين ، قد رخص فيها الحنفية والشافعية والحنابلة وبعض
المالكية (11)، لأن الذريعة فيها إلى الربا ليست بقوة الصورتين السابقتين ، وإن
كانت الذريعة فيها إلى الربا قائمة على جهة احتمال الصورية في البيع الناتجة من التواطؤ بين الأطراف الثلاثة :
1. التاجر " مالك السلعة الأول " .
2. الدائن " الذي يشتريها منه ليبيعها على العميل "
3. المدين " الذي يشتريها من الدائن ، ثم يعيد بيعها على التاجر بائعها الأول " فتبرم عقود متلاحقة غايتها أن يحصل المستقرض على نقد ، والسلعة لا اعتبار لها ، وقد تكون غير موجودة ، أو غير صالحة ، ونحو ذلك ما هو عليه معلوم .
فتخريجه على أنه تورق مرهون بهذا الاعتبار قوة ، وضعفا ، فحيث يكون ضعيفا وتكون الذريعة في إلى الربا ضعيفة يستقيم تخريجه على التورق والعكس بالعكس .
الثانية : أن تكون شركة مستقلة عن الشركة البائعة أولا ، لكنها متفقة معها على أن تبيع عليها ما تشتريه من سلع قد باعتها ، بل أنها إنما تشتري ، لتبيع على هذه الشركة ، فهي ذريعة أخف من سابقتها ، ولنسمها من "الدرجة الرابعة "
الثالثة : أن تكون شركة مستقلة عن الشركة البائعة أولا ، ولا اتفاق بينهما ، فهذه لا ذريعة فيها ، ولا إشكال ، وتكون المعاملة : " بيع تورق " وبه يظهر أن المعاملة دائرة بين التورق ، والعينة في أخف درجاتها ، وتخرَّج على هذه أو تلك بحسب ظهور مقتضيات التخريج .
على أن التورق لدى الفقهاء يُعد نوعا من العينة غير الممنوعة ، ولهذا فإنهم يوردون صورته ضمن مسائل العينة ، عدا الحنابلة ، حيث يخصونه باسم التورق ، وأن كانوا يذكرونه حيث تذكر العينة فإنه آخذ منها بطرف .
وإذ ذاك كذلك فقد ناسب الكلام على كل من العينة ، والتورق بإيجاز ، حسبما يقتضيه المقام :
أما العينة : فقد تقدم بيان صورها ، وحكمها ، إذ اقتضي المقام السابق بيانه ، فيغني عن إيراده هاهنا .
الكلام على التورق
وأما التورق : فالكلام عليه مقيد بالآتي :
تعريفه : أما تعريفه فمصادر الحنابلة ـ وهي التي شاع فيها هذا المصطلح ـ لم تحفل بتعريفه ، حيث تستغني عنه ببيان صورته ، وتوصيفه ، وإنما حاول تعريفه المعاصرون ، وأمثل تعريف وقفت عليه ما جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية هو :
( أن يشتري سلعة نسيئة ، ثم يبيعها نقدا ، لغير البائع ، بأقل مما اشتراها به ليحصل بذلك على النقد ) (12)
وأرى أن يعرف بأنه : ( تحصيل النقد ، بشراء سلعة نسئة ثم بيعها ، من غير من اشتراها منه نقدا ).
حكمه
وأما حكمه : فجمهور الفقهاء على كراهته ، حيث كرهه الحنفية والمالكية ، والحنابلة في رواية (13)
وقال بجوازه أبو يوسف ، والشافعية والحنابلة في رواية هي المذهب ( 14) .
كما نسب تحريمه إلى الحنابلة في رواية ، ونسب اختيارها إلى الإمام ابن تيمية (15)
ومنه يظهر أن الجمهور على القول بكراهته ، لا جوازه كما شاع لدي كثير من المعاصرين .
والمتأمل الأدلة التي سيقت للمنع يظهر له أنها لا تنتج سوى الكراهة ، ومن نسب إليه التحريم لم يحتج بها على التحريم ، لكن المعاصرون استدلوا بها على التحريم ، ومن أظهرها:
1. " لما فيه من بيع المضطر " (16) : فإن غالبية من يتعاملون بالتورق تدفعهم الحاجة لذلك .
قلت : وبيع المضطر صحيح على الصحيح من المذهب ، وهو اختيار ابن تيمية(17) ، وهم من نسب إليهم الاستدلال به على التحريم .
2. " أن المقصود ببيع التورق الدراهم وليست السلعة " (18)، وهذا قد احتج به الإمام ابن تيمية ، لكن دعوى أنه احتج به على التحريم ، فيه نظر ، فإن الدليل لا ينتج من التحريم ، وعبارة الإمام جاءت بلفظ الكراهة ، لا التحريم .(/5)
ويجاب عنه : أن السلعة مقصودة بدليل أنه يملكها ملكا صحيحا ، بعقد بيع صحيح ، وهل القصد إلا هذا ؟ أما كونه لا يرغبها ، فذلك شأن آخر ، وفرق بين عدم القصد ، وعدم الرغبة ، فلو حَمَلَ مكلف سلاحا قاتلا قصدا ، وضرب به معصوما قصدا ، لعُدَّ قاصدا القتل ، ولم يعذره أنه لم يكن راغبا فيه .
بل لو ادعى عدم قصد القتل ما قُبل منه ، وقد قصد أسبابه .
والأحكام إنما تدار على المقاصد ، وما دامت السلعة مقصودة بعقد بيع صحيح ، فماذا في هذا ؟ فإن رغبة الانتفاع بثمنها ، لا عينها ، نوع من الانتفاع المشروع ، فإن قال قائل بمنعه ، فعليه الدليل .
وإن رغبة الانتفاع بثمنها ، لا عينها ، لا يصيرها دراهم بدراهم ، وهو عمدة المانعين ، فإن تحصيل الدراهم ، لا يخلو من ثلاث :
أ / إما أن يكون دراهم بدراهم أكثر منها ، فهذا ربا محرم .
ب / أو أن يكون دراهم بسلعة محللة هي واسطة بين دراهم نقدا ، يقابلها دراهم أكثر منها مؤجلة ، وهذه هي العينة الثانية ، وهي من ذرائع الربا الممنوعة عند الفقهاء عدا الشافعي ، وقد تقدم .
ج/ أو أن يكون دراهم بسلعة مقصودة بعقد بيع صحيح ، فيكون ثمنها نوع انتفاع بها ، وليس من قبيل دراهم بدراهم ، وهذه التورق .
المطلب الثاني : في بيان مزاياه ، ومآخذه
أولا : في بيان مزاياه ، والنظر فيها
أ / ( أن التورق المصرفي بديل شرعي عن عق القرض الربوي ) (19)
ب / ( أن التورق المصرفي أداة من أدوات التمويل القصير الأجل ، التي تحتاج إليها المصارف ) (20)
ج / ( أن التورق المصرفي يفتح مجالا للمصارف الإسلامية لتمويل بعض المشاريع ذات الخطورة العالية التي لا ترغب المصارف بالدخول فيها ) ( 21).
ويجاب عنها : بأن ذلك متحقق من خلال بيع المرابحة ، وهو آمن طريقا من التورق ـ على ما في تطبيقه من مخالفة ـ وأنفع للبلاد ، وهو كاف في سد حاجة البنوك ، وهل قامت البنوك إلا على المرابحة ؟ ومذ متى عرفت البنوك التورق المصرفي ؟
د/ أن التورق يمثل ( صيغة نافعة ، وقابلة للتطبيق تمكن من توفير تمويل المخزون ، للشركات المنتجة ) (22)
ويجاب عنه من وجوه :
الأول : أن ما عليه العمل يفوق حاجة تمويل المخزون ، فإن بعض البنوك تشتري من السلع الدولية ما تجاوز قيمته خمسة ملايين دولار يوميا ، وتبيعها في نفس اليوم ، وبعضها تشتري ما تجاوز قيمته عشرة ملايين دولار يوميا ، وتبيعها في نفس اليوم ، فهو مقصود لتمويل العملاء المتورقين .
الثاني : أن لا تلازم بين المخزون ، والتورق المصرفي فلْتُموِّل البنوك المخزون من خلال شرائها ما ينتج من مخزون ، ولتبعه على الموزعين ، خاصة وقد ثبت لها بالتجربة
ـ من خلال التورق ـ أنها سوق رائجة ، فإن ما تشتريه لعملائها المتورقين تعيد بيعه أسبوعيا ، وبهذا الطريق يكون التمويل استثماريا ، وهو أولى من التمويل الاستهلاكي الذي تمارسه من خلال التورق المصرفي .
ثانيا : في بيان مآخذه ، والنظر فيها
الإشكالات الواردة على التورق المصرفي ، تصنف صنفين :
أ ـ صنف متعلق بالمعاملة مباشرة .
ب ـ صنف متعلق بأمر خارج عنها ، " كالمآلات ، والغايات " ، وهذه الاعتبار بها أدخل بالسياسة الشرعية ،فلنفرد كل صنف على حدة :
الإشكالات المتعلقة بالمعاملة مباشرة ، ومن أظهرها
الأول : ما متعلقة العقود المتعاقبة في هذه المعاملة ، وفحواه
أن التورق المنظم يقوم على عدة عقود ، مرتبطة ببعضها :
1. فأولها : اتفاق سابق على عقود البيع ، يكون بين البنك ، وكل من الشركتين البائعة عليه ، والمشترية منه (23).
2. وثانيها :عقد بيع ( بين البنك والشركة التي تبيعه ، وبالقطع فإن البنك لم يكن ليشتري ، لولا أنه يقصد البيع لعملائه المتورقين )(24) .
3. وثالثها : عقد بيع ( بين البنك ، والمتورق ، ومن المقطوع به أن المتورق لم يدخل ليشتري السلعة لولا أن البنك سيبيع هذه السلعة لحسابه ، لتوفير النقد المطلوب ) (25).
4. ورابعها : عقد وكالة بين البنك ، والمشتري " العميل " ( ولولا وكالة المصرف بالبيع نقدا ، لما قبل العميل بالشراء منه بأجل ابتداءً ... ولو
انفصلت الوكالة عن البيع الآجل ، لانهار البرنامج ، ولم يوجد التمويل أصلا ) (26)
5. وخامسها : ( عقد بيع بين البنك بصفته وكيلا عن المتورق إلى شركة تشتري (27)
المناقشة : لقد تقدمت مناقشة ذلك كله في مبحث التخريج ، باعتباره إشكالا يرد عليه .
أما قوله : ( ... البنك لم يكن ليشتري لولا أنه يقصد البيع ... ) فيجاب عنه :
أ ـ بأن التجار هكذا ، لا يشترون السلع ، لولا أنهم يقصدون بيعها .
ب ـ ثم إن البنك قد ملكها بعقد بيع صحيح ، وهل القصد إلا هذا ؟! وقد تقدم عند الكلام على التورق .
الثاني : ما متعلقه الوكالة ، ومنه
أ ـ تولي طرفي العقد من جهة ( أن المصرف ينوب عن العميل في بيع السلعة للمشتري ، وينوب عن المشتري في تسليم الثمن ، وهذا جمع بين طرفي العقد ) ( 28) .(/6)
ويناقش : بأن البنك لا يتولى سوى طرف واحد ، هو طرف البيع ، إذ أنه يبيع السلعة بالنيابة عن المشتري " العميل " .
أما الطرف الآخر " المشتري الثاني " فليس البنك وكيلا عنه ، وكون البنك يأخذ الثمن منه ، ليسلمه للمشتري " العميل " ليس ذلك وكالة عن المشتري الثاني " ـ وهو موضوع اللبس في هذا الاحتجاج ـ لكنه بحكم وكالته في البيع عن المشتري " العميل " ، إذ تقتضي وكالته هذه استلام الثمن ، وتسليم المثمن .
ب ـ أن البنك " الوكيل " يتصرف في غير مصلحة الأصيل " العميل " ، من جهة أن : ( المصرف سيبيع السلعة بثمن أقل بالضرورة من الثمن الذي اشتري به العميل السلعة من المصرف ، وهنا نسأل : هل هذا البيع يمثل ربحا ، أو خسارة للعميل؟
لا ريب أن البيع بثمن أقل من ثمن الشراء ، يمثل خسارة ، وليس ربحا ، أي أن المصرف ينوب عن العميل في البيع بخسارة ، بعد أن يكون المصرف قد باعه بربح ، فهل هذه الوكالة لمصلحة الوكيل ؟ ) (29)
ويناقش : بأن فرقا بين أن يكون العمل الموكل فيه من مصلحة الموكِّل " الأصيل " وبين أن يكون عمل الوكيل في مصلحة الموكِّل " الأصيل " ، فالأول : ليس مسئولية الوكيل ، لكن الأصيل ، وما دام قد رضيه لنفسه ، وأقام غيره مقامه فيه ، فما الذي يمنعه ؟ ، فإنه لا يشترط في الوكالة كون الموكل فيه من مصلحة الموكِّل " الأصيل " ، وإنما يشترط أن يكون الموكِّل " الأصيل " ه فعله حال الحياة ، فإذا كان كذلك ، فله أن يوكل فيه . أما الثاني " وهو تصرف الوكيل " ، فينبغي أن يكون لصالح الأصيل ن فإن ذلك من النصح المطلوب ديانة ، ويكون بأن يتحرى الوكيل أفضل الأمور ، وأعدلها في تنفيذه الوكالة ـ وإن لم يكن موضوعها في صالح العميل ـ وهذا متحقق في وكالة البنك عن العميل في البيع ، فإنه يبيع بخسارة أقل مما لو كان البائع هو العميل .
على أن الفعل ، والترك غير منوط بأن يكون خيرا محضا ، أو شرا محضا ، ولو كان كذلك لتعطلت المسالك
الإشكالات المتعلقة بالغايات والمآلات " ومن أظهرها :
1. أيلولة التورق المصرفي إلى الربا ، بناء على قاعدة " المدخلات ، والمخرجات " عند المالكية ( 30) ، من جهة أن التورق المنظم : ( عبارة عن تعامل بين طرفين " العميل ، والمصرف " ونجد السلعة قد دخلت في ملك العميل ، ثم خرجت منه فصار وجودها لغوا ، كما يقول الفقهاء ، ويصبح صافي العملية هو : نقد حاضر ، بنقد مؤجل ) (31)
قلت : بيان هذه القاعدة : أن المالكية في بيوع الآجال يعتبرون بما يدخل يد البائع ، وما يخرج منها في الآخر ، ويلغون ما بينهما من واسطة ، فإن كان ما يدخل يده ، وما يخرج منها ، لا تجوز المعاوضة فيه ، حكموا بعدم الجواز ، واعتبروا ما بينهما من واسطة حيلة آلت إلى الربا ، مثال ذلك :
العينة الثنائية : وفيها يبيع زيد سلعة من عمرو بثمن آجل ، ثم يشتريها منه بثمن أقل نقدا ، فما دخل يد البائع " زيد " هو الثمن المؤجل ، وما خرج منها هو الثمن الحال ، فكأن المعاوضة نقد بنقد أكثر منه مؤجلا ، فيمنع للربا .
وفي تقديري : أن هذا الاحتجاج لا يستقيم فيما نحن فيه ، فإن ما دخل يد البائع " البنك " هو الثمن المؤجل الذي في ذمة المشتري " العميل " ، وما خرج منها هو السلعة ، أما ثمنها نقدا فلم يخرج من يد "البنك " ، لكنه خارج من يد المشتري الآخر ، الذي اشترى السلعة من البنك باعتباره وكيلا عن المشتري " العميل " ، وسلم له الثمن لهذا الاعتبار ، والمسألة فيها شيء من القبح ظاهرا .
2. أيلولته إلى الظلم ، فينبغي منعه ( لأن سبب تحريم الربا ، هو الظلم الواقع على المدين ، فإذا وجد الظلم نفسه في معاملة أخرى ، وجب القول بتحريمها ( 32)
يناقش من وجهين :
الأول : الفرق بين هذه المعاملة ، والربا من جهة : أن الربا كان ظلما ، لأن الزيادة فيه لا يقابلها شيء سوى الأجل ، لأن المالين جنس واحد ، لا فرق بينهما يستحق الزيادة ، والأجل في باب الربويات ممنوعة الزيادة بمقابله ، فكانت الزيادة ظلما ، لا مقابل لها .
أما فيما نحن فيه ، فهو أدخل ببيع الأجل ، فالمعاوضة بين الدائن " البنك " ومدينه " العميل " العوضان فيهما هما " السلعة "و " الثمن المؤجل " ، وكن الثمن مؤجلا يكون أكثر منه حالا أمر جائز ( 33) ، لكون العوضين ليسا ربويين ، فلم تتمحض الزيادة للأجل ، ولم تكن ظلما ، حيث صار لها ما يقابلها .
الثاني : أن الظلم حكمة ، لا عله ، فلا يدور مع الحكم أبدا ، وجودا وعدما ، ألا ترى الفضل بين نوعين من جنس التمر مثلا يُعدُّ ربا ، وإن كان له ما يقابله من جودة في النوع ، وفرق في الثمن ؟ !
3. أن العميل لا يقصد السلعة ، وإنا النقود ، فتؤول المعاملة إلى دراهم بدراهم ، قد تقدمت مناقشته ، في الكلام في التورق .
4. قضاؤه على أهداف البنوك الإسلامية ، فتفقد مصداقيتها ( 34) ، ومنه :
أ ـ محاكاتها للبنوك الربوية ، في تقديم التمويل ، ومنح الائتمان ( 35)(/7)
ب ـ الاكتفاء به عن صيغ الاستثمار الأخرى .( 36).وقد تبين لي من خلال مساءلة عدد من البنوك أن نسبة التورق المصرفي تجاوز 60% من أعمال التمويل في البنوك .
ج ـ الالتباس بين البنك الربوي ، والإسلامي ( 37)
د ـ إهدار الجهود المبذولة لتوجيه البنوك الإسلامية إلى تمويل في صورة استثمار ، عن طريق المشاركة ، والمضاربة والسلم ، ونحوها . (38)
قلت : وهذه تعليلات وجيهة في منع التورق المصرفي ، بل باجتثاث أساسه " سياسة التمويل " كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار " ، فإن سياسة التمويل التي لا تزال البنوك الإسلامية تنطلق منها ، هي أساس كل خطيئة تقع فيها هي :
" تقليد ، ومحاكاة للبنوك الربوية في المنهج " ، والمتعين على البنك الإسلامي ، ما دام قد جاء ليحارب الربا ، أن ينهج منهج الإسلام : " التجارة "،أما أن ينهج منهج الربا " التمويل " ، ويدعي أنه يحارب الربا ، فغير مستقيم في القياس ، وغير مستقيم في الواقع ، إذ أنه سبب كثير مما يؤخذ عليه من إشكالات ، ومخالفات :
أ ـ فمحاذرة التجارة مرجعها سياسة التمويل .
ب ـ ومحاذرة تحويل النقود إلى سلع ومنتجات ـ وإن كانت تستثمر استثمارا قصير الأجل كما هو الشأن في المرابحة ونحوها ـ مرجعها سياسة التمويل .
ج ـ ووقوعها في محاذير من جهة : تملك السلع ، وقبضها ، ونحو ذلك مرجعة سياسة التمويل .
د ـ وطرحها لمنتجات لا تخلو من حيل ن وإشكال ، كالتورق المصرفي المنظم ، والإجارة المنتهية بالتمليك ، ونحوه مرجعه سياسة التمويل .
هـ ـ والاكتفاء بهذه الصيغ التمويلية الاستهلاكية عن صيغ الاستثمار الأخرى ، ذات الفائدة الاجتماعية ، والجدوى الاقتصادية : كالسلم ، والمشاركة ونحوها مرجعه سياسة التمويل .
و ـ وكان من ذلك : الالتباس بين البنك الربوي ، والإسلامي ، وذلك للمشاكلة بينهما في المنهج ، لتبعية البنوك الإسلامية للبنوك الربوية فيه ، وهذا جعل من السهل على البنك الربوي أن يمارس ما يمارس البنك الإسلامي من أعمال تمويلية ، يدعى إسلاميتها ، لكونها لا تخرج بالبنوك الربوية عن سياستها التمويلية .
ز ـ وكان منه ك أن نافست البنوك الربوية البنوك الإسلامية ، من خلال ما أحدثته من نوافذ إسلامية ، تقوم بأعمال التمويل التي تقوم بها البنوك الإسلامية ، وهي على المنافسة أقدر ،لكونها في التنظيم ، والإدارة أجدر ، وصارت البنوك الربوية تسير في خطين متعاكسين غايتهما كسب الربح ، والعملاء .
ح ـ وكان منه : أن ألف الناس البنوك الربوية من خلال نوافذها الإسلامية ، وزالت الوحشة منها ، فكسبت البنوك الربوية بذلك مكاسب ، وخسرت البنوك الإسلامية بذلك خسائر منها .
ط ـ تنازلت البنوك الإسلامية عن كثير من مبادئها ، وأهدافها ، لتكسب المنافسة ، والذي يتأمل خط سيرها يجده في انحدار .
فأول ما قامت كانت المرابحة للآمر بالشراء قوامها ، وكان روادها ، ونظارها ينظرون إلى المرابحة على أنها حل مؤقت ، حتى يستقيم عودها ويقوى كيانها .
ثم خرج منتج آخر هوَّن من شأن المرابحة ، وهو : "الإجارة المنتهية بالتمليك " .
ثم حدثت محدثات منها :
أ ـ التورق المصرفي المنظم .
ب ـ ضمان رأس مال المضاربة .
ج ـ الدعوة إلى اعتبار الحساب الجاري حسابا استثماريا ، بأثر رجعي .
وصارت هذه المحدثات يرقق بعضها بعضا ، وصار من يستحيون من المرابحة بالأمس يجاهرون بما هو شر منها اليوم .
قلت : ولعل هذا الانحدار مظهر من مظاهر انحدار الفكر في العالم الإسلامي بفعل العولمة .
هـ تهجير أموال المسلمين (39) : فإن تجارة التورق المصرفي المنظم ، تكون في السوق الدولية ، فتهجَّر بها أموال المسلمين ، ليستفيد منها غير المسلمين ، وكان الأولى أن توظف هذه الأموال في بلادها ، لتدعم اقتصادها ، فهي احق بها ، وذلك من الأمور المعتبرة .
المطلب الثالث
في بيان حكمه
أولا : في بيان ما سبق أن قيل في حكمه
لعلك اطلعت على ما ذكر للتورق المصرفي من سلبيات ، وإيجابيات ، فمن قامت لديه السلبيات ، وطغت على الإيجابيات ، فهو قائل بمنعه ، ومن قامت عنده الإيجابيات ، دون السلبيات ، فهو قائل بجوازه ، وهو ما حصل ، فإن المعاصرين مختلفون في حكمه ، فمنهم من يجيزه ، ومنهم من يمنعه ، بناء على تلك الاعتبارات
ثانيا : في بيان رأيي في الموضوع
بيان المقدمة :
1. إن الإشكاليات السابقة المتعلقة بالغايات ، والمآلات متجهة بكل حال ، فهي بمجموعها معتبرة فيما سأقرره من رأي ـ وقد تقدمت فلا داعي لإعادتها.
2. أن الإشكالات السابقة المتعلقة بالمعاملة مباشرة ، والتي أجبت عنها ، وصرفت توجهها في مبحثه ، لا يعني صري لها عدم توجهها مطلقا ، فلذلك أمر مختلف باختلاف البنوك ، والوسطاء ، والشركات ، فلا ينبغي تعميمه، فإن محمول على المعاملة في أفضل وأكمل صورها ، وهو غير
مطرد واقعا ، وكل شيء بحسبه ، على أن البنوك لا تكتفي بهذه .(/8)
3. والشأن أن العمل المصرفي ـ بطبعه ـ ينتظم في سلسلة من الإشكالات ، والتجاوزات التي تتضافر ، ويقوي بعضها بعضا ، " والأدوية تهلك من القطرات " .
ومن ذلك :
أ ـ إشكال يتعلق بالقبض من جهة البنك : فإن البنك لا يقبض السلعة إلى قبضا حكميا ، بموجب " شهادة التخزين " التي تعدها البنوك مستندا لها في القبض ، وهي تشمل " رقم الصنف " الذي تعده البنوك تعيينا للسلعة ، وقد جاء بشأن هذا في " أنموذج عقد البيع لدى البنك الأهلي " : ( وحيث إن البنك يمتلك هذه السلعة بموجب شهادة التخزين رقم ... )
كما جاء عن موسى آدم : ( ... وأن كمية المعدن المشتري سيتم تعيينها عن طريق رقم الصنف للمعدن الذي وقع عليه البيع ، وتحديد مكان تواجده .. وفي نظري أن تحديد رقم الصنف للمعدن المشترى ، وتحديد مكان تواجده يمكن اعتبارهما تعيينا للمعدن طالما أن رقم التصنيف يشير إلى كمية محددة من المعدن ، بمواصفات معينة ، موجودة في مكان معين ) (40)
والإشكال في هذا هو : أن القبض الحكمي كما يكون طريقا للتيسير ، فإنه يكون طريقا للاحتيال ، والتلاعب ، وهذا ليس ادِّعاءا ، لكنه واقع ، ألا تراه سببا للتضخم الذي يعد من عيوب الاقتصاد : فإن تعهدات البنوك من خلال ما تصدره من أوراق تجارية : كالشيك ، والكمبيالة ، ونحوها ، لمَّا تواضع الناس على الثقة ، والتعامل بها ، على نحو أغناهم عن قبض النقد ، إذ اعتبروا قبض هذه التعهدات في حكم قبض النقد ، فطِنت البنوك لذلك ، فصارت تصدر أوراقا تجارية ، ليس لها رصيد سوى ثقة الناس بها ، فتضخم به النقد تضخما خبيثا .
وما نحن فيه معاملة تحكمها السوق الدولية ، وتتم برأس مال كبير ، وسرعة فائقة ، فاحتمال التلاعب فيها وارد ، وبخاصة أن التعامل في أصله مع جهات أجنبية تجهل الدين وأحكامه ، بلا لا تدين به ، وقد يكون الطرف الآخر ممن لا يأنف الربا
أيضا،وهذا لا يناسبه الاعتبار بالقبض الحكمي ، ألا ترى العلماء يشترطون لمشاركة المسلم للذمي : أن يكون إلى المسلم أمر التجارة (41)
ثم ألا تراهم ـ خاصة المالكية ـ يفرقون أهل العينة عن غيرهم في الاعتبار ، ومن ذلك ما جاء في المدونة : ( قلت : ولم وسَّع مال في أن أبيع ما اشتريت من الطعام جزافا قبل أن أقبضه من صاحبه الذي ابتعته منه ، أو من غيره ، قال : لأنه لمّا اشترى الطعام جزافا ، فكأنه إنما اشترى سلعة بعينها ، فلا بأس أن يبيع ذلك قبل القبض ، إلا أن يكون ذلك البيع ، والشراء من قوم من أهل العينة ، فلا يجوز ) . (42)
ب ـ إشكال يتعلق في القبض من جهة العميل " المشتري " : فإن العميل " المشتري " لا يقبض السلعة ، ولو قبضا حكميا ، ومن ثم فإنه يبيع ما لم يقبض ، بل ما لم يُعين .
فإن قيل : عقد البيع الذي بين البنك، والمشتري " العميل " ألا يكون قبضا حكميا ؟
قلت : لا يكون كذلك ، فإنه ليس فيه تحديد لرقم السلعة ، ولا تعيين لها ، وقد اطلعت على عدة عقود، فلم أجد فيها ما يُعيِّن السلعة بالرقم ، وكل ما فيها هو : تحديد النوع ، والكم ، والوصف .
فإن قيل : ولكن ما يبيعه البنك على العميل هو جزء مما يمتلكه البنك ، مما هو محدد برقم الصنف .
قلت : رقم الصنف لا يكون للأجزاء الصغيرة ، ولكن للوحدة الكبيرة ، التي يجزئها البنك ، ويبيعها على العملاء أجزاء ، من غير تعيين ، كالصبرة التي تجزء ، وتباع قفيزا ... قفيزا ، دون تعيين .
فإن قيل : لا داعي للتعيين ، لتماثل أجزاء الوحدة .
قلت :الجواب من وجهين:
الأول : لو كان البيع مقصودا ، والسلعة مقصودة ، لكان التعيين داع ، كما هو الشأن في بيع كثير من المتماثلات ، التي تعين بالرقم ، ولم يكن تماثلها مغنيا عن تعيينها .
الثاني : أن ما نحن فيه من قبيل " المقدَّرات " ، والخلاف في قبضها أضيق من الخلاف
في غيرها ، فإن الخلاف في القبض تتسع دائرته فيما عدا المقدِّرات ، ثم تضيف في المقدرات من غير المطعومات (43) .
فإن قيل :لا حاجة إلى القبض ، فالعلماء مختلفون في جواز بيع المبيع قبل قبضه ، ونحن نسير مع القول القائل بالجواز .
قلت : الجواب من ثلاثة وجوه :
الأول : أن القول بجواز البيع قبل القبض مرجوح ، إذ إن فيه عملا ببعض الأدلة ، دون بعضها ، في حين أن القول بمنعه عمل بالأدلة كلها .
الثاني : أن ما نحن فيه من قبيل " المقدَّرات " وهو يضيق الخلاف فيه ، كما تقدم آنفاً .
الثالث : أن هذا بيع ملتبس بالقرض ، مقارف للعينة ، فلا يقبل فيه التساهل ، والأولى بمقاصد الشريعة لزوم الحذر فيه ، فهو استبراء للدين ، ألا ترى العلماء يحاذرون معاملة أهل الذمة ، وأهل العينة ، كما تقدم .
فإن قيل : ما دام العميل قد وكل البنك في البيع ، فإن البنك سيقوم بتعيينها ، وقبضها قبل بيعها .
قلت : هذا لا يحصل ، ولو فُرض حصوله جدلا فإن تفويض البنك فيه بعد من مسائل الفرقان التي تفرق بين البيع المقصود حقيقة ،والبيع المقصود صورة ، فيكون المنع أولى .(/9)
هذا وإن التساهل في القبض على نحو يظهر منه عدم قصد السلعة ، يُصيِّر المعاملة عينية ، تختلف درجاتها باختلاف الفروض السابق ذكرها في مبحث التخريج .
ج ـ إشكال متعلق بما في العقد بين البنك ، والعميل من تعسف ، منه :
اشتراط البنك على العميل " إسقاط خيار الرد بالعيب " ، كما يظهر في عقود البيع ، كقولهم :
( ليس للبنك .. علاقة بعد توقيع هذا العقد بالسلعة ) .
وقولهم على لسان العميل ، مخاطبا البنك ، في صياغة قد أعدها البنك :
3/151 ، روضة الطالبين 3/506 ، وما بعدها ، وانظر : الربا في المعاملات المصرفية المعاصرة ، 1/511 .
( لا تتحملون أي التزام ، فيما يتعلق بمواصفاتها ، أو ملاءمتها ، أو نوعيتها ...)
هذا الشرط ، وإن كان موضع خلاف بين العلماء في أصله ، وأحواله (44)
إلا أنه جار مجرى التعسف ، وفيه من المجاوزة ما فيه ، وهو مبنى على عدم قصد السلعة ، إذ يرى البنك أنه مموِّل ، والفرض أن لا علاقة له بالسلعة ، ولهذا اشترط هذا الشرط .
اشتراط تحميل العميل رسوما إدارية ، تتراوح من 700 ـ 2000 ريال ، تختلف باختلاف البنك ، والمعاملة ، زعموا أنها مقابل ما يتكبده البنك من أعباء إدارية ، في سبيل البيع على العميل .
قلت : وهذا نهج غير مستقيم ، وهو تبعية للفكر الرأسمالي ، الوافد ، الذي يصطنع مداخل كثيرة ، للجباية منها .
فإن ما يتكبده البنك في سبيل البيع على العميل ، لم يذهب سدى ، ذلك أن البنك يبيع على العميل بربح ، وما يجنيه من ربح يقابل ما يتكبده من أعباء ، ولا يسوغ للبنك أن يأخذ شيئا من العميل ، مما هذا سبيله ، فإنه أكل للمال بالباطل
ثم لو سلمنا جدلا بهذا النهج ، فلن تكون مطالبة البنك للعميل بأولى من مطالبة العميل للبنك بمصاريف لقاء تردده ، وتكاليف تنقله ، وتعطيل جزء من وقته ، وعمله في سبيل إبرام عقد البيع مع البنك ، بل ولقاء اختياره لهذا البنك دون غيره من المنافسين ، وهكذا .
ومن عجيب ما يناقض هذا ، وهو الإشكال الآتي :
د ـ أن بعض البنوك التي تأخذ رسما من العميل " المشتري في الداخل " تدفع رسما لمن يشتري منها في الخارج ،إذ تعطيه أجرا بحدود مئة ( 100) دولار مقابل قيامه بشراء سلع المتورقين بها ، بسعر التكلفة ، وهو أمر يثير الريبة .
هـ ـ وثمة إشكال آخر هو : توكيل البنك للعميل في " صورة من صور تورق الشركات " بشراء السلعة نيابة عنه ، ثم بيعها على نفسه ، وهذا فيه تولى طرفي
العقد ، وهو ممنوع عند الجمهور من الحنفية ، والشافعية والحنابلة في المذهب (45)
وهو مشعر بعدم قصد البيع .
4. أن السلعة التي يشتريها البنك غير حاضرة ، وغير مرئية ، وغير مقبوضة ، إلا حكما ، وهو مظنة الصورية ، والاحتيال ، والمخالفة في البيع .
5. إن السلعة التي يشتريها العميل من البنك غير حاضرة ، وغير مرئية وغير معينة من وجه ، وغير مقبوضة ، وهو مظنة الصورية ، والاحتيال ، والمخالفة في البيع .
6. أن المعاملة يكتنفها كثير من الغموض في الجانب المتعلق بالسوق الدولية ، على نحو لا تكتشفه حتى الهيئات الشرعية في البنك ، والسوق الدولية غير مأمونة ، بل وبعض نوافذ البنوك الإسلامية غير مأمونة ، وهو مظنة الصورية ، والاحتيال ، والمخالفة في البيع .
7. أن التورق المصرفي المنظم يصنف في البنوك ضمن أعمال المداينات " التمويل " وطبيعة هذه تعزف بها عن التجارة ، وما يلزم لها من امتلاك السلع ، وحيازتها كيف لا ، وكثير من البنوك في مسألة المرابحة للآمر بالشراء ـ وهي من مجموعة التورق ـ لا تشتري السلعة إلا بعد طلب ، ووعد بالشراء من العميل ، ثم إنها تلزم العميل بالشراء بموجب الوعد السابق ، وتُعدُّ نكوله عن الشراء ضررا يحيق بها ، وتستحق عنه التعويض ، ومرجع ذلك كله العزوف عن السلعة ، وهو مظنة الصورية ، والاحتيال ، والمخالفة في البيع ، فكيف إذا كانت البنوك الممارسة : " نوافذ أسلامية في بنوك ربوية " تمارس التورق المصرفي مع عملاء ، كما تمارس الربا مع عملاء ، فالتهمة تقتضيها طبيعة العمل المصرفي الخاضع لسياسة التمويل ، ولو لم يكن الممارس نافذة لبنك ربوي ، فكيف إذا كان نافذة ؟
ومما يتكئ عليه بعض المعاصرين من الاحتجاج بما عليه الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ من عدم اعتبار بالذرائع ، غير متوجه فيما نحن فيه ، فإن محل عدم اعتبار الشافعي حيث لا يظهر قصد ، وليس ذلك مما نحن فيه ،
فإن قيل : الربا أبوابه مشرعة ، فلو كان مقصودا أمكن بلا حيلة .
قلت: هذا بالنسبة للعميل ، أما بالنسبة للبنوك ذات النوافذ الإسلامية ، فهي تسلك هذا الطريق بقصد المنافسة ، وكسب العملاء ، ولو كانت لا تريد الربا ، لما مارسته بشكل ظاهر ، ولما سارت في خطين متعاكسين غايتهما كسب الربح ، والعملاء .(/10)
وإذا كانت البنوك التي تمارس التورق المصرفي من خلال نوافذها الإسلامية ، في الوقت الذي تمارس فيه الربا من خلال أصولها ، لا نوافذها ، هي التي تقوم على هذه المعاملة ، فإنها متهمة ، والتهمة في ذلك ظاهرة .
والناس في حياتهم العملية ، ومصالحهم الشخصية ـ بما فيهم من ينكر الاعتبار بالذرائع ، والتهم ـ يسلكون ذلك ، فلا يقبلون ما يكون موضع ريبة ، أو إلى شر ذريعة " أفيجعلون لله ما يكرهون " ؟ !
8. أن التورق المصرفي المنظم ، غير متعين لسد حاجة التمويل لدى المستهلكين ، ولسد الحاجة إلى استثمار قصير الأجل لدى البنوك ، فإن المرابحة للآمر بالشراء تسد ذلك كله ، وما عرف التورق المصرفي إلا من وقت قريب ، وهي ـ أعني المرابحة على ما فيها من مخالفة في التطبيق ـ آمن من التورق .
فإن قيل إن في التورق المصرفي مزايا ليست في المرابحة ، هي :
أ ـ قلة التكلفة على العميل .
ب ـ سرعة إنجاز المعاملة .
قلت : أما التكلفة فيجاب عنها بأن ما يحصل عليه البنك من ربح في التورق المصرفي ، فإنه مقارب لما يحصل عليه في المرابحة ـ حسب إفادة البنوك ـ وهي نسبة 6% تقريبا.
بقى الفرق في مسألة ما يخسره العميل عند بيع السلعة في السوق ، حيث تباع بسعر التكلفة في التورق المصرفي ، والفرق في هذا يسير ، فإن العميل في المرابحة قد يبيع السلعة في السوق بخسارة 1 ـ 2% ، وهو مبلغ يسير .
أما فرق سرعة الإنجاز فهو يسير أيضا، فإنه يختلف باختلاف البنوك ، والأفراد أو الشركات ، ويتراوح من يوم إلى ثلاثة أيام في مسألة التورق ، والمرابحة تستغرق وقتا في حدود ثلاثة أيام ، فهو فرق يسير أيضا إلا إذا كانت البنوك تنتظر إلى سرعة الاستثمار بالنسبة لها حيث تستثمر من 5 ـ 10مليون ريال يوميا ، في التورق المصرفي ، فذلك شأن آخر ، والنظر فيه من قبيل النظر في الكمِّ لا الكيف ، والنظر في المصلحة الخاصة ، لا العامة .
فإذا اعتبرنا ما في المرابحة من مزايا ، منها :
أ ـ أنها أسلم طريقا ـ على ما في تطبيقها من مخالفة .
ب ـ أنها تتم في السوق الداخلية ، فلا تُهجَّر فيها الأموال ، ويستفيد منها أهل البلد ، ذاب بمقابلها ما يدّعى من مزايا للتورق المصرفي ،وهان ما يدّعى من خسارة يسيرة على العميل في المرابحة .
بيان النتيجة :
وبمجموع هذا كله يتقرر حكم التورق المصرفي المنظم ـ فيا يظهر لي ، والعلم عند الله تعالى ـ وهو المنع .
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ،،، وبعد:
فهذه خاتمة للبحث تشتمل : استخلاصا ، واستنتاجا ،وتوصية ، وبيان ذلك الآتي:
أولا : الاستخلاص
أما الاستخلاص فغايته لمُّ شتات البحث بذكر خلاصته ، وخلاصة هذا البحث الذي موضوعه دراسة التورق كما تجريه المصارف ، هي :
أنه أشتمل على مبحثين :
الأول : " الدراسة التصويرية " وغايتها بيان التورق المصرفي من جهة كونه معاملة مصرفية ، وقد تبين به :
1. أن التورق المصرفي عمل من أعمال "التمويل " ـ الذي هو مظهر من مظاهر تبعية البنوك الإسلامية للفلسفة الرأسمالية الربوية ـ والتي تراعي فيها المصارف :
أ ـ انخفاض المخاطرة .
ب ـ سرعة وسهولة التنفيذ .
ج ـ سرعة العائد " الربح " وهو ما يسمى بالاستثمار قصير الأجل .
2. أن التورق المصرفي : متاجرة بالدين .
3. وطريقه : تحصيل السيولة للأفراد ، والمؤسسات من خلال شراء سلع ثم بيعها ، للحصول على ثمنها .
4. أنه يتم في السوق الدولية ، ويعتمد على القبض الحكمي في مرحلة البيع التي طرفاها البنك ، والبائع الأجنبي ، كما لا يوجد قبض ، ولا تعيين في مرحلة البيع التي طرفاها البنك والمشتري " المتورق " .
5. أن البنك " البائع " ينوب عن المشتري " العميل " في بيع السلعة في السوق الدولية على طرف آخر غير من اشتريت منه السلعة أولا .
6. أن مايقوم به البنك من بيع ، وشراء في السوق الدولية قد تقدمه اتفاق يحدد الإجراءات ، والأحكام التي ينبغي أن يخضع لها عقد البيع عند وجوده .
7. أن ما يقوم به البنك من بيع في السوق الدولية يكتنفه شيء من الغموض ، لكنه لا يخرج عن واحد من الفروض الثلاثة المذكورة في مبحث التخريج .
والثاني : " الدراسة الفقهية " وغايتها بيان حكم هذه المعاملة ، وما يستند إليه الحكم من أدلة ، واعتبارات ، وقد تبين به :
1. أن تخريج التورق المصرفي مختلف باختلاف التطبيق ، والممارسة فإن قصد البيع ، وما يترتب عليه من امتلاك السلعة ، وقبضها ، ونحوه وكان بيعها على غير من اشتراها منه ، أو ثالث قد تواطأ معه ، فالمعاملة تورق صحيح . يتردد حكمه عند الفقهاء بين الجواز بلا كراهة ، والجواز مع الكراهة .
وكل ما ظهر من العميل عزوف عن مقتضيات عقد البيع من امتلاك السلعة ، وقبضها ، ونحوه ، كان ذلك دالا على الحيلة في البيع ، مما يقترب بالمسألة من العينة حسب الفروض المذكورة في مبحث التخريج .
2. أن التورق المصرفي تكتنفه إشكالات منها : ما يتعلق بالمعاملة مباشرة .(/11)
ومنها ما يتعلق بمآلاتها ، وبناء على تقررها ، أو دفعها ، يتقرر الحكم .
ثانيا : الاستنتاج
أما الاستنتاج فغايته ذكر أهم ما يستنتج من البحث ، ومنه :
1. إن التورق المصرفي في البنوك الإسلامية ، يمثل رجوع القهقرى ، إذ تراجعت من خلاله عن أهدافها ، وسياستها ، التي كانت تنتقد بموجبها المرابحة للآمر بالشراء وتعتبرها حلا مؤقتا حتى يشتد عود البنك الإسلامي .
قلت : وقد بلغ البنك الإسلامي الثلاثين من عمره ، أو جاوزها ، فإذا لم يشتد عوده ، فمتي يشتد ؟ ، وبأي شيء يشتد ؟!
2. أن البنوك توجه أموالا طائلة في التمويل من خلال التورق المصرفي ، فبعضها يخصص له ما يفوق الخمسة ملايين دولار يوميا ، وبعضها يخصص له ما يفوق العشرة ملايين دولار يوميا ـ فهي المستفيدة من هذه المعاملة ـ فكيف لو وجهت هذه الأموال الطائلة للاستثمار والتنمية ؟ !
3. إن مبدأ " التيسير " و " القبض الحكمي " هما خير مطية للتورق المصرفي المنظم ، وغيره مما يناسب فلسفة البنوك الربوية " التمويل " فتحاذر التجارة ، وتحاذر تحويل السيولة إلى سلع ، ومنتجات ، وتتذرع إلى ذلك بهذين المبدأين .
ثالثا : التوصية
وأما التوصية : فغايتها الوصية بما يراه الباحث بإزاء ما تعلق ببحثه من مشاكل وقضايا ، ومن ذلك :
الوصية الأولى : بشأن التورق المصرفي المنظم .
أوصي بمنع التورق المصرفي المنظم ، لما يلي :
أ ـ لما فيه من مخالفة وتجاوز .
ب ـ لما فيه من متاجرة بالدين ، والاستهلاك وتسويق ، وترويج لهما ، وإغراء بهما من خلال الدعاية .
ج ـ لما فيه من تهجير المال ، لتستفيد منه السوق الدولية ،وتحرم منه السوق الداخلية .
د ـ ولأنه غير متعين لتحقيق أمثل ما يناط به من غاية ، منها :
أن يكون بديلا عن القرض الربوي ، لكل من البنك ، والعميل .
أن يكون موردا من موارد البنك ، في الاستثمار قصير الأجل .
فكل ذلك متحقق في المرابحة ، فهي خير منه ـ على ما في تطبيقاتها من مخالفة ينبغي تسديدها .
الوصية الثانية : بشأن التمويل
أوصي بتوجيه البنوك الإسلامية إلى العدول عن سياسة " التمويل " التي غايتها المتاجرة بالدين ، وهي أساس كل خطيئة تقع فيها ، واستبدالها بما هو خير وهي :
" سياسة الاستثمار " ليستبدل الدين بالاستثمار ، فيحل عقد السلم محل التمويل في مسألة تمويل المزارع ، ويحل عقد الاستصناع محل التمويل في مسألة تمويل المصانع ، كما تحل المشاركة ، والمضاربة ، ونحوها محل القروض التمويلية ، إن كانت في صورة التورق المصرفي المنظم ، أو في صورة المرابحة للآمر بالشراء .
الوصية الثالثة : بشأن مقاصد الشريعة
أوصي بتطبيق " مقاصد الشريعة " وما يتفرع عنها بفقه يوافق مقاصد الشريعة ، ويؤمن معه تفويت مقاصد الشريعة ، أو ضرب بعضها ببعض ، ومثال ذلك فيما نحن فيه :
مبدأ " التيسير " ، و" القبض الحكمي " فينبغي تطبيقهما بفقه رشيد على النحو المذكور .
الوصية الرابعة : بشأن التسمية
إن لم يؤخذ بوصية منع التورق المصرفي المنظم ، فإن أوصي بتغيير اسمه ليكون " التمويل المصرفي المنظم " ، لكيلا يُلبَّس على الناس فيه ، فإن المعاملة لا تنضبط تورقا مطلقا .
هذا والحمد لله أولاً وآخرًا ، ظاهرًا وباطناُ ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد ، وآله ، وصحبه .
-------------------------------
(1) التورق المنظم ـ قراءة نقدية ـ ص 4.
(2) المرجع السابق ، ص 9 .
(3) تعليق حسن حامد حسان ص 5.
(4) صحيح البخاري بالفتح ، كتاب البيوع باب إذا أراد بيع تمر بتمر ، خير منه 4/399
صحيح مسلم بشرح النووي ، باب الريا ، 11/12
(5) المدونة 4/ 125
(6) والإلزام بالوعد في مسألة المرابحة للآمر بالشراء اختلف فيه المعاصرون ، فمنهم من ألزم بتنفيذه ، أو التعويض عن الضرر الواقع بسبب عدم الوفاء به ، إذا كان على سبب ، ودخل الموعد بسببه في كلفة ، كما عليه قرار مجمع الفقه الإسلامي قي دورته الخامسة بالكويت .
ومنهم من لم يرَ الإلزام في البيع ، وفرَّق بعد وقوعه بين حالين : الأولى : أن يبيع البنك السلعة ، فما زاد عن ثمنها المتفق عليه بينهما أعطاه العميل وما نقص طالبه به .
والثاني : أن لا يفعل البنك ذلك لكنه يلح على العميل ، ويطالبه بالتعويض على نحو يلجئه إلى إبرام عقد البيع ، فاعتبر الأولى عقد بيع باطل ، إذ هو من قبيل بيع ما لا يملك ، واعتبر
الثانية من قبيل الإكراه على عقد البيع حسب خلاف العلماء فيه ، انظر : الربا في المعاملات المصرفية المعاصرة ، للمؤلف ، 2/1128 ، 1139
(7) انظر المغني 6/362 ، الشرح الكبير 11/195 تهذيب سنن أبي داوود ، 5/109 .
(8) انظر : الهداية ، وشرحيها ، 6/433 ، تبيين الحقائق 4/53 ، الدر المختار وحاشيته 7/267 ، مواهب الجليل 4/392 ، شرح الخرشي 5/96 ، منح الجليل 2/588 ، حاشية الدسوقي 3/78 ، الأم 3/69 ، مختصر المنزني 2/201 ، روضة الطالبين 3/417 ، المغني 6/261 ، شرح الزركشي 3/601 ، الفروع 4/169.(/12)
(9) فإنهم يمنعون الحيل ، ألا تراهم يقولون بفسخ العقدين في العينة حيث قصد بالأول الثاني ، وكان حيلة ، انظر : مواهب الجليل 4 / 403 ، شرح الخرشي 5/104 ، منح الجليل 2/603 ، الفروع 4/170 ، الإنصاف 11/192 ، شرح منتهى الإرادات 2/158 . بل قد نص المالكية على منع هذه الصورة ، انظر : مواهب الجليل 4/394 ، منح الجليل 2/589 .
(10) انظر : مواهب الجليل 4/404 شرح الخرشي 5/105 ، منح الجليل 2/ 604 ، الفتاوي 29/ 430 ، 441 . قلت : ومنعهم لهذه الصورة فيه تنبيه على منع سابقتها ، فإنها أشدمنها .
(11)وترخيص بعض المالكية فيه وكذا الحنابلة ، مع اعتدادهم بالذرائع ، كائن لبعد الذريعة فيها ـ رغم احتمالها ـ لكن متى كانت حيلة ، فإنهم قائلون بمنعها ، طردا لقاعدتهم : " إبطال الحيل
(12)الموسوعة الفقهية الكويتية 14/147
(13) انظر : الهداية بشرحيها 7/ 211 ، البحر الرائق 6/ 256 ، مجمع الأنهر 2/139 ، مواهب الجليل 4/ 405 ، شرح الخرشي 5/ 106 ، حاشية الدسوقي 3/ 98 ، الفروع 4/ 171 ، الإنصاف 11/ 195 ، 196 .
(14) انظر فتح القدير ، 7/ 212 ، رد المحتار ، 7 / 613 ، الأم 3/ 69 ، مختصر المزني بهامش الأم 2/201 ، روضة الطالبين 3/ 417 ، النهاية في غريب الحديث ، والأثر ، 2/301 ، الزاهر في غريب الفاظ الشافعي ، ص 216 ، الفروع 4/171 ، الإنصاف 11/ 195 ، 196 ، كشف القناع 3/186.
(15) انظر الفروع 4/171 ، الإنصاف 11/195 ، 196 .
(16) انظر التطبيقات المصرفية للتورق ، القرى ، ص 3 ، بيع التقسيط وأحكامه ، ص 69، 70 .
(17) انظر : الفروع 4/4 ، الإنصاف 11/16
(18) انظر : الفتاوى 29/ 30 ، 302 ، 432 ، وما بعدها .
(19) ، ( 20) ، (21) التطبيقات المصرفية للتورق ، الشريف ، ص 11.
(22) التطبيقات المصرفية للتورق ، القرى ، ص ، 10
(23)انظر تطبيقات التورق ، واستخداماته ، موسى آدم ، ص 12 ، 15 ، التطبيقات المصرفية لعقد التورق ، أحمد محي الدين ، ص 2 .
(24) تعليق د. حسين حامد حسان على أبحاث مؤتمر جامعة الشارقة ، ص ، 6 .
(25) المرجع السابق .
(26) التورق المنظم ـ قراءة نقدية ـ ص 9 .
(27) تعليق د . حسين حامد حسان على ابحاث مؤتمر جامعة الشارقة ، ص 7 .
(28) التورق المنظم ـ قراءة نقدية ـ ص 8 .
(29) المرجع السابق ، ص 7.
(30) يعبر عنها المالكية بقولهم : " أعتبار ما خرج من اليد ، وما عاد إليها " انظر : مواهب الجليل 4/ 392 ، منح الجليل 2/589.
(31) التورق المنظم ـ قراءة نقدية ـ ، ص 5 .
(32) المرجع السابق ، ص 6.
(33) انظر بدائع الصنائع ، 5/ 158 ، حاشية الدسوقي 3/165 ، معنى المحتاج 2/ 79, المغني 6/333 ، المبدع 4/35 ، الفتاوى 29 / 499 ، 525 .
(34) انظر تعليق د . حسين حامد حسان ، ص 8 ، التطبيقات المصرفية لعقد التورق ، أحمد محي الدين ، ص 8.
(35) انظر المرجعين السابقين ، ص 9 ، 10 ، ص 7 ، 8 .
(36) انظر : تعليق د . حسين حامد حسان ، ص 10 .
(37) انظر التطبيقات المصرفية للتورق ، أحمد محي الدين ، ص 8، 13.
(38) انظر تعليق د . حسين حامد حسان ، ص 11.
(39) انظر تعليق د . حسين حامد حسان ، ص 9.
(40) تطبيقات التورق واستخداماته ، ص 13.
(41) انظر أحكام أهل الذمة ، ص 776
(42) المدونة 3/134 ، وانظر : المنتقى 4/280 ، مواهب الجليل 4/ 393 ، 409 ، منح الجليل 2/588
(43) في بيان حكم البيع قبل القبض انظر : بدائع الصنائع 5/ 108، حاشية الدسوقي
(44) انظر بدائع الصنائع 5/277 ، حاشية الدسوقي 3/123 ، مغنى المحتاج 2/53 ، غاية المنتهى 2/ 27
(45) انظر : بدائع الصنائع 6/28 ، تبين الحقائق 4/270، تحفة المحتاج 5/34 ، الإنصاف ، 13/484 .
---------------------
فهرس المراجع
أولا : المصادر
1. أحكام أهل الذمة ، ابن القيم ـ تحقيق : صبحي الصالح ـ بيروت : دار العلم للملايين الطبعة الأولى . 1401هـ
2. الأم " مختصر المزني " . محمد بن إدريس الشافعي . بيروت : دار المعرفة للطباعة والنشر .
3. الإنصاف . أبو الحسن المرداوي . تحقيق : عبد الله التركي . مصر : مطبعة هجر . الطبعة الأولى لعام 1415هـ .
4. بدائع الصنائع . علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني . بيروت : دار الكتاب العربي ، الطبعة الثانية . 1402هـ .
5. البحر الرائق " بهامشه منحة الخالق " . زين الدين بن إبراهيم بن محمد ، المشهور بابن نجيم . مصر : دار الكتب العربية الكبرى . 1334هـ .
6. بيع التقسيط وأحكامه ، سليمان التركي . الرياض : دار اشبيليا . الطبعة الأولى . 1424هـ .
7. تبيين الحقائق . عثمان بن على الزيلعي . مصر : مطبعة بولاق . الطبعة الأولى . 1313هـ .
8. تحفة المحتاج . ابن حجر الهيتمي . بيروت : دار صادر .
9. تهذيب سنن أبي داوود . شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية . تحقيق : محمد حامد الفقى . مصر : مطبعة السنة المحمدية . 1378هـ .
10. حاشية الدسوقي على الشرح الكبير . محمد بن عرفة الدسوقي . مصر : مطبعة عيسى الحلبي .(/13)
11. الدر المختار . محمد علاء الدين الحصكفي . تحقيق : عادل عبد الموجود ، وزميله . بيروت : دار الكتب العلمية . الطبعة الأولى . 1415هـ
12. رد المحتار على الدر المختار محمد أمين ، المشهور بابن عابدين . تحقيق عادل عبد الموجود ، وزميله . بيروت: دار الكتب العلمية . الطبعة الأولى . 1415هـ .
13. روضة الطالبين . يحيى بن شرف النووي . بيروت : المكتب الإسلامي الطبعة الثانية 1405هـ .
14. الربا في المعاملات المصرفية المعاصرة . عبد الله بن محمد السعيدي . الرياض : دار طيبة . الطبعة الأولى . 1420هـ .
15. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي . أبو منصور الأزهري . تحقيق : محمد جبر الألفي.
16. شرح الخرشي على مختصر خليل . أبو عبد الله محمد بن عبدالله الخرشي . مصر : مطبعة بولاق . 1318هـ .
17. شرح الزركشي على مختصر الخرقي شمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي . تحقيق : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين . الرياض : شركة العبيكان للطباعة والنشر . الطبعة الأولى .
18. شرح صحيح مسلم . محي الدين بن شرف النووي . بيروت : دار الكتب العلمية .
19. شرح منتهى الإرادات . منصور بن يونس البهوتي . بيروت : عالم الكتب .
20. الشرح الكبير . شمس الدين ابن قدامة . تحقيق عبد الله التركي . مصر : مطبعة هجر . الطبعة الأولى لعام 1415هـ .
21. صحيح البخاري " بفتح الباري " . أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن المغيرة البخاري الجعفي . تصحيح : محب الدين الخطيب . المطبعة السلفية .
22. العناية شرح الهداية . أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي . مصر : مطبعة بولاق . الطبعة الأولى . 1317هـ .
23. غاية المنتهى . مرعي بن يوسف الكرمي . تحقيق : زهير الشاويش .
24. فتح القدير . محمد بن عبد الواحد ، المشهور بالكامل بن الهمام . مصر : مطبعة بولاق . الطبعة الأولى . 1316هـ .
25. الفتاوي . أحمد بن عبد الحليم الحراني ، المشهور بابن تيمية . جمع وترتيب : عبد الرحمن بن محمد بن قاسم . القاهرة : مطابع إدارة المساحة العسكرية 1404هـ .
26. الفروع . أبو عبد الله محمد بن مفلح . مراجعة : عبد الستار أحمد فراج . دار مصر للطباعة . الطبعة الثانية 1381هـ .
27. كشاف القناع . منصور بن يوسف البهوتي . مراجعة : هلال مصيلحي . بيروت : دار الفكر للطباعة والنشر . 1402هـ .
28. مغنى المحتاج . محمد بن أحمد الشربيني . مصر : مطبعة مصطفى الحلبي . 1377هـ .
29. منح الجليل على مختصر الخليل . أبو عبد الله محمد بن أحمد المالكي ، المشهور بمحمد عليش . مصر : المطبعة الأميرية . 1294هـ .
30. مواهب الجليل . أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب . مطابع دار الكتاب اللبناني .
31. المبدع في شرح المقنع . أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مفلح . المكتب الإسلامي : الطبعة الأولى . 1397هـ .
32. المدونة . مالك بن أنس الأصبحي . مصر : مطبعة بولاق . 1294 هـ .
33. المغني . موفق الدين بن قدمة . تحقيق عبد الله التركي . مصر : مطبعة هجر . الطبعة الأولى لعام 1412 هـ .
34. الموسوعة الفقهية الكويت : وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية . مطابع ذات السلاسل . الطبعة الثانية . 1404هـ .
35. نهاية المحتاج . شمس الدين الرملي . المكتبة الإسلامية .
36. النهاية في غريب الحديث والأثر . ابن الأثير . مصر : مطبعة عيسى الحلبي . الطبعة الأولى .
ثانيا : أعمال المؤتمر ، والندوات
أ ـ مؤتمر دور المؤسسات المصرفية الإسلامية في الاستثمار والتنمية جامعة الشارقة خلال 26 ـ 28 / 2/ 1423هـ .
1. تطبيقات التورق ، واستخداماته في العمل المصرفي الإسلامي . موسى آدم عيسى .
2. التطبيقات المصرفية لعقد التورق ، وآثارها على مسيرة العمل المصرفي الإسلامي . أحمد محي الدين أحمد .
3. التورق المنظم "قراءة نقدية " . سامي السويلم .
4. تعليق على بحوث التورق . حسين حامد حسان .
ب ـ ندوة البركة المصرفية الثالثة والعشرون . مكة المكرمة . خلال 6ـ 7 / 9/1423هـ .
1. التطبيقات المصرفية للتورق ومدى شرعيتها ، ودورها الإيجابي .محمد عبد الغفار الشريف .
2. التطبيقات المصرفية للتورق ومدى شرعيتها ودورها الإيجابي . محمد على القرى .(/14)
التوسل ...
الدعاء من أعظم القربات التي تصل العبد بخالقه ، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الدعاء هو العبادة ) رواه أبو داود . وذلك لما يجتمع في الداعي من صفات الذل والخضوع والالتجاء إلى من بيده مقاليد الأمور .
ولما كان الدعاء بهذه المرتبة ، أمر الله عز وجل عباده أن يدعوه في كل أحوالهم فقال تعالى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } (لأعراف:55) ، وبين لهم سبحانه أن من الوسائل التي يكون معها الدعاء أرجى للقبول ، الدعاء بأسمائه وصفاته ، قال تعالى : { وَلِلَّهِ الأسماء الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } ( الأعراف:180) .
فيشرع للداعي أن يبدأ دعائه متوسلاً بذكر أسماء الله عز وجل وصفاته التي تتعلق بذلك الدعاء ، فإذا أراد المسلم الرحمة والمغفرة ، دعا الله باسم الرحمن ، الرحيم ، الغفور ، الكريم ، وإذا أراد الرزق دعا ربه باسم الرزاق ، المعطي ، الجواد ، وهكذا يقدِّمُ الداعي بين يدي دعائه ما يناسبه من أسماء الله ، وصفاته ، فإن ذلك من أسباب قبول الدعاء .
والتوسل بالدعاء على أنواعٍ ، فمنه التوسل المشروع ومنه التوسل الممنوع فمن أنواع التوسل المشروع : التوسل إلى الله عز وجل بصالح الأعمال التي عملها العبد ، قال تعالى : { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي للإيمان أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار } (آل عمران:193) فتأمل كيف توسل هؤلاء بإيمانهم بربهم جلا وعلا . وقص رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا - فيما رواه البخاري ومسلم - قصة ثلاثة نفر كانوا يمشون فنزل المطر الغزير ، فلجئووا إلى غار في جبل يحتمون به ، فسقطت على باب الغار صخرة منعتهم الخروج ، فحاولوا إزاحتها فلم يقدروا ، فاجتمع رأيهم على أن يدعوا الله عز وجل بأرجى أعمالهم الصالحة التي عملوها . فتوسل أحدهم ببره لوالديه ، وتوسل الآخر بحسن رعايته واستثماره لمال أجيره ، وتوسل الآخر بتركه الزنى بعد تمكنه منه ، وكلما دعا أحدهم انفرجت الصخرة عن باب الغار قليلا ، إلا أنهم لم يستطيعوا الخروج ، حتى أكمل ثالثهم دعائه فانفرجت الصخرة عن باب الغار فخرجوا يتماشون . فيُشرع للمسلم إذا أراد أن يدعوا الله عز وجل أن يتوسل بأحب الأعمال الصالحة التي يرجو أن تكون خالصة لله .
ومن أنواع التوسل المشروع : طلب الدعاء من الأحياء الصالحين ، وذلك أن العباد يتفاوتون في الصلاح وفي قربهم ومنزلتهم عند الله ، لذلك كان الصحابة يحرصون على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لهم رجاء القبول والإجابة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يدخل الجنة من أمتي زمرة هي سبعون ألفا تضيء وجوههم إضاءة القمر . فقام عكّاشة بن محصن ... قال : ادع الله لي يا رسول الله أن يجعلني منهم ، فقال : اللهم اجعله منهم .. ) رواه البخاري و مسلم .
ومن أنواع التوسل المشروع التوسل بذكر حال السائل وما هو عليه من الضعف والحاجة ، كأن يقول : اللهم إني الفقير إليك ، الأسير بين يديك ، الراجي عفوك ، المتطلع إلى عطائك ، هبني منك رحمة من عندك . والدليل على هذا النوع من التوسل دعاء زكريا عليه السلام ، قال تعالى : { قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً () وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً } ( مريم: 4-5 ) . ومنه قول موسى : { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } (القصص: 24 )
فهذه بعض أنواع التوسل المشروع ،التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم ، ويستفتح بها دعائه ، طالباً من الله قضاء حاجته .
وهناك أنواع من التوسل يفعلها الناس - منها ما يبلغ حدّ البدعة ومنها ما يبلغ حد الشرك - ظناً منهم أنهم يتقربون إلى الله سبحانه بها ، وما علموا أن التقرب إليه إنما يكون بما شرع لا بالأهواء والبدع .
فمن أنواع التوسل البدعي : طلب الدعاء من الميت ، كمن يأتي إلى ميت مقبور لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ويطلب منه أن يدعو الله له بأمر كشفاء مريضه أو كشف كربته . والدليل على بدعية هذا التوسل انتفاء الدليل على جوازه ، والعبادة إنما تكون بالإتباع لا بالابتداع ، ويدل أيضا على بدعية هذا النوع من التوسل : أن الصحابة وهم الأكثر علما والأشد اقتداء بسيد الخلق لم يفعلوا ذلك ولو كان خيراً لسبقونا إليه ، حتى إن عمر رضي الله عنه عندما حصل قحط بالمدينة قدَّم العباس عمّ النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو الله بالسقيا ، ولم يطلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم في قبره ، لِمَا يعلم من عدم جواز ذلك .(/1)
ومن أنواع التوسل التي ابتدعها الناس وهي شرك بالله عز وجل طلب كشف الكربات وقضاء الحاجات من الأموات ، أياً كان ذلك الميت رجلاً صالحاً أو نبياً مرسلاً ، ذلك أن الدعاء هو العبادة ، والعبادة لا تصرف إلا للخالق الرازق سبحانه ، فدعاء غير الله شرك ومذلة . قال تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } (غافر:60) فطلب سبحانه أن يكون الدعاء له ، ورتب الإجابة على ذلك. وقال أيضاً : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إلا فِي ضَلالٍ } ( الرعد : 14) . وقال أيضاً : { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ } (يونس:106) .
فهذه أنواع التوسل في الدعاء وأحكامه ، فينبغي للمسلم أن يحرص على المشروع منه ، وأن يجتهد في دعاء الله في أحواله كافة ، حتى يعلم الله منه صدق افتقاره إليه فيجيبه ويغيثه ، وعلى المسلم أيضاً أن يجتنب التوسل البدعي ، وأن يبتعد كل البعد عن التوسل الشركي ، فإنه الأخطر على دين المسلم وعقيدته ، نسأل الله العظيم أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه والحمد لله رب العالمي(/2)
التوكل على الله: فضله و أهميته
إعداد:خالد بن عبد الرحمن الشايع
الحمد لله رب العالمين, و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله وصحبه و التابعين. أما بعد:
*فإن للتوكل على الله تعالى منزلة عظيمة في الإسلام, يلحظها من تأمل النصوص الواردة فيه, و كل عبد مضطر إليه, لا يستغني عنه طرفة عين, كما أنه من أعظم العبادات من جهة توثق صلته بتوحيد الرب سبحانه، يقول تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} (الفرقان58) . و في هذه الآية أمر من الله تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه و سلم ـ أن يتوكل عليه ـ سبحانه و تعالى ـ ، و ألا يركن إلا إليه، لأنه الحي الذي لا يموت، و هو القوي القادر سبحانه و تعالى ، و من يتوكل عليه جل و علا فهو حسبه, أي كافيه و مؤيده و ناصره, و من توكل على غير الله , فإنما يتوكل على من يموت و يفنى, و الضعف و العجز يعتوره من كل جهة, و لأجل ذلك فالمتوكل عليه يضيع و يزيغ, و كل من اعتمد على غير الله فقد ضل سعيه.
* فدل ذلك على فضل التوكل على الله ـ جل و علا ـ و تعليق القلب به سبحانه.
* و التوكل معناه: صدق اعتماد القلب على الله ـ عز و جل ـ في استجلاب المصالح و دفع المضار, من أمور الدنيا و الآخرة كلها, و أن يكل العبد أموره كلها إلى الله ـ جل و علا ـ , و أن يحقق إيمانه بأنه لا يعطي و لا يمنع و لا يضر و لا ينفع سواه عز و جل.
* و قد حض الله عباده المؤمنين على التوكل في مواضيع عديدة من الكتاب العزيز، و بين سبحانه ثمراته و فائدته:
و من ذلك قوله سبحانه: {و على الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} (المائدة:23)، و قوله عز و جل: {و على الله فليتوكل المؤمنون} (التوبة:51)، و قوله تعالى: { و من يتوكل على الله فهو حسبه} (الطلاق:3)، وقوله جل و علا:{ فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} (آل عمران:159) ، و قال سبحانه و تعالى واصفاً عباده المؤمنين في معرض الثناء و المدح:{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً و على ربهم يتوكلون} (الأنفال:2) و في السنة المطهرة تكاثرت النصوص الموضحة لأهمية التوكل و الحض عليه, و من ذلك ما رواه الإمام أحمد و الترمذي و النسائي و ابن ماجة عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ:
"لو أنكم توكلون على الله حق توكله , لرزقكم كما يرزق الطير, تغدو خماصاً, و تعود بطاناً. "
قال الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ: هذا الحديث أصل في التوكل, و أنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق, قال الله ـ عز و جل ـ : { و من يتق الله يجعل له مخرجاً(2) و يرزقه من حيث لا يحتسب و من يتوكل على الله فهو حسبه(3) } (الطلاق:2و3)
و دل حديث عمر المذكور على أن الناس إنما يؤتون من قلة تحقيق التوكل, و وقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم, و مساكنتهم لها, فلذلك يتعبون أنفسهم في الأسباب, و يجتهدون فيها غاية الاجتهاد , و لا يأتيهم إلا ما قدر لهم, فلو حققوا التوكل على الله بقلوبهم لساق إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب, كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدو و الرواح, و هو نوع من الطلب و السعي, لكنه سعي يسير. و هذا ما يشير إليه قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ :"لرزقكم كما يرزق الطير.... " , و معناها أنها تذهب أول النهار خماصاً, أي ضامرة البطون من الجوع, و تتجه إلى غير وجهة محددة, تطير و تبحث و تسعى, ثم ترجع آخر النهار بطاناً, أي ممتلئة البطون.
و صح عن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ فيما رواه عنه جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: " إن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها, فاتقوا الله و أجملوا في الطلب, خذوا ما حل و دعوا ما حرّم. " (رواه ابن ماجة و الحاكم و ابن الحبان).
ومما ينبه إليه هنا أن ضعف التوكل لدى الإنسان إنما ينتج عن ضعف الإيمان بالقضاء و القدر , و ذلك لأن من وكل أموره إلى الله و رضي بما يقضيه له و يختاره , فقد حقق التوكل عليه , و أما من وكل أموره لغير الله , و تعلق قلبه به، فهو مخذول غافل عن ربه ـ جل و علا ـ .
روى ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ أنه قال: "من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته, و من أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى... "الحديث رواه أبو داود و غيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : " و ما رجا أحد مخلوقاً و لا توكل عليه إلا خاب ظنه فيه, فإنه مشرك, قال تعالى:{ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } (الحج:31)".
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله : " التوكل قسمان :
*أحدهما : التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله , كالذين يتوكلون على الأموات و الطواغيت في رجاء مطالبهم ، من نصر أو حفظ رزق أو شفاعة, فهذا شرك أكبر.(/1)
*والثاني : التوكل في الأسباب الظاهرة , كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره الله تعالى عليه من رزق أو دفع أذى و نحو ذلك، فهو نوع من شرك أصغر.
*و الوكالة الجائزة هي توكيل الإنسان الإنسان في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه, لكن ليس له أن يعتمد عليه في حصول ما وكل فيه, بل يتوكل على الله في تيسير أمره الذي يطلبه بنفسه أو نائبه, و ذلك من جملة الأسباب التي يجوز فعلها, ولا يعتمد عليها بل يعتمد على المسبب الذي أوجد السبب و المسبّب".
و مما يزيد إيضاح تحقيق التوكل و العمل بالأسباب مع تعليق القلب بالله وحده ما أخبر أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ في هجرة النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ للمدينة إذ قال: نظرت إلى أقدام المشركين و نحن في الغار و هم على رؤوسنا ، فقلت: يا رسول الله ! لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا, فقال:"ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما " متفق عليه. و تصديقه قوله تعالى: {إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } (التوبة:40)
و من توكل على الله فإنه ينال من فضائله و ثمراته بحسب تحقيقه له ما لا يخطر له على بال, و لا يحيط به مقال, فهو أشرح الناس صدراً, و أطيبهم عيشاً , قال تعالى: {و من يتوكل على الله فهو حسبه}(الطلاق:3)
و لأهمية هذه المسألة فقد عدها العلماء في أبواب التوحيد و العقائد , إذ أنها من أجلّ العبادات و أعظمها, و لذا عقد لها الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب باباً في كتابه"كتاب التوحيد" و دلل عليها و بيّن أنها من الفرائض و من شروط الإيمان. فالواجب على كل مسلم و مسلمة العناية بها و تعاهد قلبه على ذلك.
و فقنا الله لهداه، و رزقنا صدق التوكل عليه ، و حسن الإنابة إليه , و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم.
http://www.quranway.net المصدر :(/2)
التي هي أحسن ...
...
قال تعالى:{وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للانسان عدواً مبيناً}
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
كلام يستحق البدء فيه: شرف الكلمة في حسنها، وحسنها في قطعها على الشيطان مداخله. ومن تأمل هذه الآية التى صدر فيها الكلام علم مأتى هذا الكلام ومصدره، وأن القول الحسن شرف لصاحبه، به يملك ما لا يملكه الآخرون، فيغتني به ويحق له ذلك، كيف لا وهو دليل على صقل نفسه، ورفعة قدره، لأن الكلام إعراب عما في النفس، وإبانة عما هي عليه، فقبح الكلمة قبح لمعدنها ومخرجها، وحسنها حسن لمأتاها ومأخذها، والأقوال ليس مصدرها اللسان ولا هو صاحبها، وليست من لدنه تنشأ، إنما مخرجها النفس والقلب، فهما صاحباها، منها تبنى وفي مواطنها تشاد، وليس يبني إلا ما كان دليلاً عليه معبراً عنه، فحسن الكلام حسن لنفس صاحبه، وشرف الكلام شرف لمقام قائله، ومالك حسن الكلام أقدر في الوصول إلى هدفه، وأبصر من غيره في معالجة حوادث أيامه ونوازل أقداره، فما الناس إلا أهل انفعال ومقابلة لهذا الكلام الذي هو عنوان إنسانيتهم، يسمعونه فتحمى نفوسهم أو تخمل، تجود أو تبخل ، تقدم أو تجبن، فبها يصبغون، وعلى طرازها يتواردون، فمالك حسن الكلام مالك لنفوس الناس وإرادتهم ، بها يقطع عليهم سبل الشيطان والهوى، ويعطل منافذه على قلوبهم وأنفسهم، حتى قيل:{ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة}
{وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} في معرض ذكره -جل في علاه- لجملة من الأوامر التى يعلمها عباده، مع ما يرافق هذه الأوامر من تعظيم لشأنه –جل وعز- وتنبيه لحال خصوم الأمر الإلهي جاء هذا الأمر والإرشاد بهذا المطلع الرحيم الودود الدال على التحبب:{وقل لعبادي} ومن تأمل كلمة {قل} في كلام الرب سبحانه علم أنها على وجه يراد منها التنبيه والتكرار، أي ذكرى بعد ذكرى، وعظة بعد عظة، والإ فما وجه ذكر الواسطة هنا -وهو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم- وقارىء القرآن المتعظ به يعلم متكلمه ويعلم واسطة التبليغ له، ثم إفادة الإعادة والتكرار مرة بعد مرة لحاجة الناس له من جهة وسرعة غيابه عنهم من جهة أخرى، فقل يا محمد، {لعبادي} ولما كان الموطن موطن شرف ورفعة قدر، ولما كان باب هو في المعالي كان هذا الخطاب لهم، والتذكير هم أحق به وأهله.
{يقولوا التي هي أحسن}: والحسن جمال وتمام لا يقع اسم الحسن إلا على اجتماعهما، وبتمامها تميل النفس إلى صاحبها، وترتاح له وتبتهج للقياه، والحسن يكون في الخلقة كما يكون في الخلق، كما يكون في القول، وههنا أمر بحسن القول، ولا يكون القول حسنا إلا بفضل النظم ورقة المعنى وتجنب البذاءة والقبح، حينها يتغلل إلى نفس المخاطب ويحصل المراد، وتقطع على الشيطان منافذه وسبله.
والقول الحسن هدية كما قالوا: نعم الهدية ونم العطية كلمة حكمة تطوي عليها ثم تبلغها أخا لك في الله، والتلاق بين العبودية لله وبين القول الحسن بين ظاهر في هذه الآيه، لأن خلق العبد لا يتجزأ في وديان متضاربة، فحسن العمل مع الله لا يكون مع سوئه مع الخلق "فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله" ومن االأمور التي يجدر التنبيه عليها هي تلك الكلمة العظيمة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما وطئت قدمه الشريفة المدينة النبوية، وهي أول كلمة قالها لتعبر عن مقومات المجتمع المسلم، فقد قال عبدالله بن سلام (الإسرائيلي )، أبو يوسف حليف بني الخزرج، وقد بشر بالجنة كما في البخاي(6/623): قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة استشرفه الناس (أي رفع الناس أبصارهم يتطلعون إليه) فقالوا: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت فيمن خرج فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما سمعته يقول "يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"
فانظر رعاك الله كيف جمع حسن العمل مع الله ورعاية العمل مع الخلق من إخوانه المسلمين.
ومن تفكر في هذا علم عظمة هذا الدين وإحاطته لما يصلح النفس والبشر، وإلا فأي دين أعظم من أن يجعل تمام العبودية لا تقوم إلا على إحسان المرء للفظه وتقويمه للسانه وتثقيفه لمنطقه، وأي خير أعظم من هذا الذي لا يطلب من أتباعه الحسن فقط، بل يشدهم إلى الأحسن لا ليتم الفضل فقط، بل ليقع التفضيل أيضا.(/1)
والناس من أهل هذا الدين في هجر وإعراض عن هذا الذي كان عليه أهل هذا الدين حقاً، فهذه أمنا عائشة رضي الله عنها علمها في أسعار العرب لا يجهله عارف بسيرتها، وكذا حال طلاب الشعر من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنه وكذا رجال الحديث وعنايتهم لجودة ألسنتهم من خلال حسن اللفظ من نثر وشعر، وهاهو الشافعي يمدحه عصريه الجاحظ مدحاً لا يقوم لغيره من أهل اللغة، وقد قال الأصمعي: أخذت شعر الهذليين من فتى في مكة يدعى محمد بن أدريس الشافعي.
وهذا كله جعل لعلومهم مع ما فيها من جودة الفهم وقوة الاستنباط وعمق الإدراك حسناً آخر في صياغتها وأسلوبها.
ومقصد الآية هو التبيه على حسن القول، وهو دعوة قرآنية في كل باب من محادثة ومناظرة كما قال تعالى: {وجادلوهم باتي هي أحسن} وكذا في رد واعتراض كما قال تعالى {إدفع بالتي هي أحسن} لأن الحسن مطلوب في كل باب.
{إن الشيطان ينزع بينهم} هذا الصراع المتجدد والمتعدد، وهو الذي يقف عند حد ووقت، بل هو وقوف عند كل سبيل، وامتحان عند كل نفس، إنه الصراع بين العبودية لله –عبادي- وبين الشيطان، حتى في هذا النوع من المواقف هو موقف حرب وابتلاء وطعن، كما هو واضح في قوله تعالى {ينزغ بينهم} والنزغ هو الطعن، فتنبه لهذا لتعلم أي خطورة خلقت فيها، وأي شىء يراد منك وبك.
والآية تدل على أن الكلمة القبيحة الرذله هي سلاح من أسلحة الشيطان، وهي مركب من مراكب حربه للمؤمنين، وهي باب من أبواب ولوجه على الإخوان ليعمل عمله، فيبيض ويفرح وتنمو ثماره النجسه، فإن قال العبد لأخيه أو في حديثه ما ليس حسناً حضر حينها الشيطان وأعمل عمله، والشيطان عدو، وبئس الرجل الذي يعطي عدوه سلاحا يضربه به ويهلكه، بل يجب عليه عداؤه ومحاربته، وأعظم ما يضيق على الشيطان ويخضل به هو حسن الإخاء بين المؤمنين، فقد قال صلى الله عليه وسلم "لقد يئس الشيطان أن يعبده المصلون لكنه التحريش بينهم". فتأمل كيف كانت المرتبه التي تلي الشرك من مطالب الشيطان هي إحداث العداوات بين المسلمين، وفساد ذات بينهم، وقطع أواصر الأخوة والمحبة التي تجمعهم.
ولما كان أمر النفس والهوى حاضراً في المعصية ومع الشيطان كان أمر الكلمة الحسنة شديداً على النفس، لأنها تحتاج إلى التواضع وخفض الجناح وذهاب حظوظ المرء، فنفس المرء تميل وتهوى الانتصار على الغير، والكلمة الحسنة لا بد فيها من قطع حظوظ النفس والهوى لما فيها من خفض الجناح وكسر تطلع النفس من الانتصار والغلبة.
وفي الآية دليل على أن الكلمة الحسنة هي مفتاح الخير بين الإخوان، وبها تجتمع القلوب وتأتلف فلا بد من تحريها والجهد في إصابتها ليقطع على الشيطان مراده.
وذكر الرب أمر النزغ هنا (وهو الطعن كما تقدم) تنبيه أن الكلمة السيئة هي آلة إبليس في حربه بين الإخوان وعلى المسلمين.
{أن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً}، هذا هو علة الأمر الذي أرشد الله تعالى عباده إليه، وهو أن المرء والانسان هو في حالة عداء تام ومتواصل مع هذا المخلوق الحقيقي -الشيطان- وهو من الشطط وهو البعد عن رحمة الله تعالى وهدايته وتوفيقه.
فالعلة هي هذا العداء الذي فرضه الشيطان على خصمه، وهو الإنسان.
وانظر الى هذه الفاصلة القرآنية حيث جعل العداء مع جنس الإنسان، مع أن الآية كان خطابها لعباد الله تعالى، وفي هذا تحريض لجنس الإنسان أن يتنبه الى معيشه.. ومجال خصومه وأصحابه، فالشيطان هو عدو الإنسان وعداؤه بين واضح جلي ما لو عقل الإنسان هذا وصدق خبر العليم الخبير.
وعوداً على أهميتة حسن الخطاب وتحري أحسنه وأجمله الذي أمرنا الله تعالى به وحضنا عليه ونبهنا إلى أهميته، وفي ذلك يقول أهل المعرفة بهذا: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في وعظه أهل الجهل والمعاصي والرذائل واجب، فمن وعظ بالجفاء والاكفهرار فقد أخطأ وتعدىطريقته وصار في أكثر الأمور مغرياً للموعوظ بالتمادي على أمره لجاجاً ومرداً ومغايظة للواعظ الجافي، فيكون في وعظه مسيئاً لا محسناً.
ومن وعظ ببشر وتبسم ولين وكأنه مشير برأي ومخبر عن غير الموعوظ بما يستقبح من الموعوظ فذلك أبلغ وأجع في الموعظة. فإن لم يتقبل فلينتقل إلى الوعظ بالتحشيم وفي الخلاء، فإن لم يقبل ففي حضرة من يستحي منه الموعوظ. فهذا أدب الله تعالى في أمره بالقول اللين، وكان صلى الله عليه وسلم لا يواجه بالوعظه لكن كان يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا. وقد أثنى عليه الصلاة والسلام على الرفق وأمر بالتيسير، ونهى عن التنفير، وكان يتحول بالوعظة خوف الملل وقال تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}
وهكذا أخي الحبي، إجعل رسولك إلى أخيك كلمة حسن يجمع الله تعالى بها بين فلبيكما، وإياك ورسل وركائب الشيطان، فإنما هي أسلحته في التحريش بين الإخوان. والله الموفق(/2)
التيار الإصلاحي والأمن المنهجي
د. مسفر بن علي القحطاني * 15/11/1424
07/01/2004
أضحى الحديث عن الإصلاح شاغل المجالس والمنتديات، ولا يخلو حوار بين مجموعة من الناس إلا والإصلاح جزء منه خصوصاً في الأسابيع الماضية التي شهدت بعض مدن المملكة خروج بعض المظاهرات فيها تطالب بالإصلاح والتغيير. وأحب أمام هذه النازلة أن أذكر ببعض المسائل والخواطر التي سنحت في الذهن من خلال النقاط التالية:
أولاً: إن مسيرة الإصلاح في أي قطر لابد لها من مواصلة التقدم والسعي الدؤوب لسد احتياجات الفرد وتلبية متطلبات العصر, وأي توقف لها أو تعطيل أو حتى ركود قسري يجعلها عرضة لسيل التغيير الجارف، الذي يحتطم من بعيد والذي بدأ يسيل بقوة في كل أنحاء المعمورة من خلال العولمة التي تُحكّم قانون الغالب أو (الغاب), وحينئذ لا مناص للنجاة من هذا السيل العرم إلا بالتمسك بكل حبل إنقاذ يحفظ لنا الضرورات الملحّة, و إلا كان مآلنا الانجراف التام فلا يجدي حينها العذل والعتاب, ولا الخطط الموعودة ولا البرامج التي في الأدراج.
إن الأمن المنهجيّ المطلوب في هذه المرحلة يتطلب إصلاحًا شاملاً جادًّا يضمن للجميع المشاركة وفق منهجية تنظر لثوابت الدين بعين وتلمح بالأخرى متغيرات العصر وتستشرف أزماته, ويتحمل أهل الكفاءة والأمانة عبء التنفيذ وعظيم المسؤولية في جوٍّ من الثقة المتبادلة والحوار الهادف، وهذا العمل هو الضمان الأكيد من كل تآمر طامع يسعى للفتنة في الداخل, أو يخلق أزمة في الخارج، ويضمن بردّ المنحرف إلى المسيرة المنشودة ويصحح كل صورة مغلوطة أو رؤية مغرضة تهدف إلى الفساد أو الإفساد.
ثانياً: إن الأيام الماضية والتي شهدت خروج عدد من المواطنين في مظاهرات تطالب بالإصلاح والتغيير لم يكن الباعث فيها رؤية واعية للواقع أو نظرة شرعية للوقائع –وهذا من وجهة نظري–, وأرى –والله أعلم– أن الدوافع التي أخرجت أكثرهم للتظاهر؛ إما رغبة في الإثارة وتسليط الضوء الإعلامي عليهم!, أو حبًّا للفضول وسعيًا لمحاكاة بعض الأمم والشعوب في مسيراتهم الاحتجاجية مع كثرة الفوارق بيننا والبون الشاسع في الوعي بحيثيات المجتمع المدني.
إن السكون أمام هذه المظاهرات والوقوف مكتوفي الأيدي كي ننتظر تكرار تلك المظاهرات من أجل قمعها ووصم الخارجين فيها بالمروق والابتداع، في حين لا يزال أكثرهم مقتنعًا بأن هموم الإصلاح وحل المشكلات إنما هو من خلال الأثير الفضائي أو المنادة البعيدة القادمة من وراء البحار؛ وكأننا عُدمنا من الصلاح أو جردنا من الإصلاح. ولأجل ذلك يلزمنا أن نصارح بعضنا ونقرر طوع أنفسنا: أن هناك أخطاء وقصورًا في كثير من مؤسساتنا الأهلية والحكومية -ولا عيب أن نصرّح بذلك- على أن يكون علاجها منبثقًا من داخلها وبأيدي أبنائها, مع ضرورة بناء الوعي الحضاريِّ الشامل فيهم قبل بناء الجسور والمسلحات.
ثالثا: أثارت المظاهرات في الآونة الأخيرة الحديث عن مدى مشروعية هذه الوسيلة للتعبير عن المطالبات والاحتجاجات أو الضغط على أصحاب القرار والمسؤوليات، ولا يخلو تناول هذا الموضوع من تطرف وجنوح مال إليه بعض أهل العلم والباحثين، ولعل مرجع هذا التباين في الآراء إلى تصوّر وتكييف هذه النازلة، فمنهم من جعلها من المشروع المطلوب فعله وألحقها بأصول الشرع المعتبرة, ومنهم من جعلها نوعًا من المروق والإحداث في الدين.
وأعتقد –والله أعلم– أن معتمد الذين أجازوا المظاهرات قد بنوا دليلهم الأساس على المصلحة. ولهذا كانت الحاجة لتأصيل مفهوم (المصلحة)؛ فالمصالح منها ما هو معتبر مشروع قد نص الشرع على اعتبار المصلحة فيها، ومنها ما نص الشرع على عدم اعتبارها، وهي التي تسمى بالمصالح الملغاة, ومنها ما سكت الشرع عنه ولم ينص عليه بعينه لا بالإلغاء ولا بالاعتبار وهي ما تسمى بـ"المصالح المرسلة", وجمهور الأصوليين على اعتبار حجيتها (1), و لكن يبقى تقدير القضايا المستجدة ومدى اعتبار المصلحة فيها, إذ المصالح مظنة لدخول الهوى وحظوظ النفس؛ ولذلك رأى كثير من الأصوليين الحاجة لضبط المصلحة حتى لا تشطط عن الاعتبار والموائمة لأصول الشرع , ومن ضوابط المصلحة التي ينبغي تنزيلها على واقع المظاهرات في مجتمعنا (2) ما يلي:
1- ألا تخالف المصلحة نصًّا من الكتاب أو السنة أو الإجماع:
وليس هناك من النصوص الشرعية الصريحة ما يمنع أو يدفع القيام بالمظاهرات, ولو وجد نص في ذلك لارتفع الخلاف في المسألة.
2- أن تندرج المصلحة ضمن مقاصد الشرع الكلية:
فأي مصلحة تفوّت المحافظة على الدين أو النفس أو النسل والعرض أو العقل والمال؛ لا تعتبر مصلحة شرعية, والواقع يشهد أن كثيرًا من المظاهرات قد سوّغ لآخرين المطالبة بما يخالف الإسلام, كما يترتب على كثير منها اعتداء على الأنفس بالحبس والضرب, وربما وقع أثناءها اختلاط وفتن بين الجنسين, كما لا تخلو من تهييج وإثارة تهدر فيها الممتلكات والأموال المعصومة.(/1)
3- أن تكون المصلحة يقينية أو يغلب على الظن وجودها:
بحيث يعلم أن هذه المصلحة متحققة من هذا العمل يقينًا أو بغلبة الظن, أما إذا كان يشك أو يتوهم وجود المصلحة كحال بعض المظاهرات فلا يسوغ حينئذ القيام بهذا العمل.
4- أن تكون المصلحة كليّة:
بمعنى لا تقتصر على فئة خاصة وتضر بالآخرين, وهذا يحدث في بعض المسيرات حيث لا يتعدى منفعتها الخاصة سوى فئة من المحفزين لها ويتضرر منها فئات من المستجيبين.
5- عدم تفويت المصلحة لمصلحة أهم منها أو مساوية لها:
وهذا الضابط معتبر عند تعارض المصالح فلا تقدم المصالح التحسينية أو الحاجيّة على الضروريات القطعيّة, ولا تقدم المصلحة الخاصة على العامة, ولا الظنيّة على الأكيدة, ولا القاصرة على المتعديّة, ولا المنقطعة على الدائمة, ولا المحدودة على الأطول نفعًا.. إلى غيرها من الضوابط التي ترتب سلم الأولويات عند تعارض المصالح مع بعضها, أما إذا كان التعارض مع المفاسد فيقدم الأغلب منهما, أما إذا استويا فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح (3).
وبعد هذا العرض الموجز لضوابط المصلحة يتبين لنا حقيقة ما يدرج ضمن المصلحة من اجتهادات وأفعال قد لا تتفق مع مراد الشرع ومقاصده الكليّة.
ومع أهمية التأكيد أن المصالح طبيعتها متغيرة, فإنه يشترط كذلك النظر إلى مآلات الأفعال وتبدل الأحوال والظروف والأزمنة والأمكنة.
ومما يجدر ذكره في هذا المقام أيضًا: أن حجة القائلين ببدعية المظاهرات وكونها إحداث في الدين لا تخلو من أسئلة و مناقشات؛ لأن الإحداث في الدين هو التقرب إلى الله تعالى بعبادة لم يشرعها، أما الوسائل التي يتوصل بها إلى أداء مطلب شرعي لم يأت الشرع بتحديد كيفية أدائه على صورة مخصوصة؛ فلا تدخل في الإحداث في الدين؛ لأنها غير مقصودة لذاتها, ولا يقصد بها التقرب بخصوصها وكونها لم تكن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أو السلف فلأنها قد لا توجد لعدم وجود المقتضي لفعلها في عهده -صلى الله عليه وسلم-, ثم إن مجال الابتداع حق خاص للشارع لا يمكن معرفة حقه كمًّا وكيفًا ومكانًا وزمانًا وهيئةً إلا من جهة الشرع لا من آراء العباد(4).
ولا يعني ذلك عدم موافقتهم في فتوى عدم الجواز, ولكن ينبغي أن يتناسب الحكم مع مقدار المخالفة تغليظًا أو تخفيفًا, وهذا المعلم التشريعي من جملة مقاصد الشريعة الغراء.
رابعاً: إن مسيرة الإصلاح الشامل التي يأملها كل مسلم وينشدها كل غيور لا ينبغي أن تكون معاكسة لما سنَّه الله من قوانين عامة أو مجانبة لنواميسه الثابتة في الحياة والأحياء. يقول الله عز وجل: (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً) [الأحزاب: 62] وقال سبحانه: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين* هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) [آل عمران: 137ـ 138].
فسنن التغيير البنّاء لا يمكن أن تحدث من خلال خُطب عاطفية تغبّش الرؤى, أو من خلال مسيرات حاشدة تلهب الجوى, أو بعصًا سحرية تفاجئنا بـ(المدينة الفاضلة) في لمحة بصر!. ولا شك أن هذا مخالف لما جاء في سير وسنن الأنبياء والمرسلين، إذ هم -صلوات الله عليهم وسلامه- أول وأفضل من قاد مسيرة الإصلاح الشامل في مجتمعاتهم فلم يتجاوزا قانون " اعقلها وتوكل"؛ بل سعوا ببذل الأسباب كلها والتوكل على مسببها مع مراعاة سنة البدء والتدرج بتغيير الأنفس بالإيمان وتأهيلها بالعمل الجاد المثمر, كما في قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [ الرعد: 13] وقوله تعالى: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) [الأنفال:19]. وهذه معيّة خاصة تتناسب مع مقدار الإيمان وعمقه في النفوس .. إلى غيرها من السنن الباهرة الكثيرة التي تُغفل عند التخطيط وتُغمر حال التنفيذ, ويكون في نهاية المطاف مردّ الأمر إليها والاعتبار عليها في النهضة والتمكين. وبهذا المنهج الآمن تواصل مسيرة الإصلاح تألقها و تقدمها نحو حضارة عالمية مثلى تشهد لها بالخيرية على سائر الأمم والشعوب.
والله أعلم وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.* الأستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
(1)انظر : المستصفى 1/141 , الإحكام للآمدي 4/32 , البحر المحيط 6/ 87 ,شرح الكوكب المنير 4/432 .
(2)انظر تفصيل الكلام في الضوابط: المستصفى 1/269-300, نهاية السول 5/77-90 , شرح الكوكب المنير 4/170و171, حاشية البناني على جمع الجوامع 2/ 584و585 , الموافقات 2/627-632 , إرشاد الفحول ص242 , ضوابط المصلحة للبوطي ص115-272.
(3)انظر في ترتيب المصالح والمفاسد : قواعد الأحكام 1/56و66 , مختصر الفوائد لابن عبد السلام ص141و142 , الموافقات 2/44-50 , مفتاح دار السعادة 2/14 , ضوابط المصلحة للبوطي ص 217 ومابعدها .(/2)
(4)انظر: مجموع الفتاوى 21/381 , الاعتصام للشاطبي 2/600-607 , حقيقة البدعة للغامدي 2/ 187-189.(/3)
التّصور الصّهيوني للتفتيت الطّائفي والعرقي
-1-
اللواء الركن: محمود شيت خطاب
مستهل
لم تكن محاولات التفتيت الطائفي والعرقي للعرب جديدة، بل هي قديمة، ولكنّها استمرت بلا هوادة، تتصاعد تارةَ وتشتد، وتخفت أُخرى وتمهد، فلمّا جاورت اليهود العرب وكانت قريبة منهم في الجوار، تصاعدت تلك المحاولات واشتدت ، كما جرى في العراق على أيام البابليين والآشوريين، وفي منطقة المدينة المنورة على عهد الرسالة، وفي البلاد العربية عامةً بعد ظهور الكيان الصهيوني في الأرض العربية المحتلة: فلسطين.
الصهيونية ظهرت للوجود بشكل رسمي بعد المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1897 في مدينة بازل السويسرية، والصهيونية هي عبارة عن زج اليهودية في السياسة، فكل الذين عملوا في السياسة من يهودهم في الواقع صهاينة، دون التعرض للاختلاف في الرأي من جراء الأسماء والمسميات، وزعماء الصهيونية هم الذين قالوا: إن الصهيونية هي العودة إلى اليهودية في روحها، والصهاينة هم اليهود العاملون في السياسة. وقد عمل اليهود في السياسة منذ أقدم العصور كما هو معروف.
ولم يخف الصهاينة القدامى والجدد، عداوتهم للوحدة العربية، تحت لواء الإسلام على عهد الرسالة، وحتى عصرنا الحاضر، وقد ذكر أنتوني ناثنك: "أن زعماء وزارة الخارجية الصهيونية قالوا له: إن حكومتهم ستلجأ إلى كل وسيلة ممكنة، من أجل إبقاء جيرانها العرب ممزقين"(1) لأن الصهاينة الجدد يعلمون حق العلم: "أن القضية الفلسطينية لن تحل حلاً نهائياً لصالح العرب، إلا إذا اتحد العرب"(2) كما يقول المؤرخ البريطاني توينبي.
وتاريخ الحرب العربية الصهيونية منذ سنة 1948 حتى اليوم، تثبت أن الصهاينة قاتلوا جيوشاً عربية منفردة وليس جيشاً عربياً واحداً، وقاتلوا بقيادة صهيونية واحدة قيادات عربية شتى، وازدردوا الجيوش العربية على انفراد لقمة بعد لقمة، وما كان بمقدورهم ازدراد جيش عربي واحد لقمة واحدة، فلما هاجم الصهاينة لبنان ترك العرب لبنان يقاتل منفرداً، دون أن تمد له دولة عربية دعماً مادياً، بل كان موقف العرب اتجاه محنة لبنان موقف المتفرج، كأن أمر لبنان لا يهمهم من قريب ولا بعيد.
تعالج هذه الدارسة، لمحات من محاولات اليهود الصهاينة في إضعاف العراق قديماً، وفي مصاولة الإسلام، ومقاومتهم للوحدة العربية بالتفتيت الطائفي والعرقي، في محاولة لتشخيص الداء، تمهيداً لوصف الدواء، مذكرين (لعل الذكرى تنفع المؤمنين).
وسنجد أن اليهود عوملوا بالحسنى من العرب قبل الإسلام، ومن العرب المسلمين بعد الإسلام، في مختلف أصقاع البلاد الإسلامية شرقاً وغرباً، وفي مختلف العهود والأزمنة، ولكنهم قابلوا الحسنى بالغدر والعنف والقسوة، واستولوا على فلسطين وأجزاء أخرى من سوريا ولبنان، وجعلوا من أهلها لاجئين يطاردونهم بلا رحمة في لبنان وفي الأرض المحتلة، بأساليب مباشرة وغير مباشرة، وهكذا أثبت هؤلاء المعتدون أنهم عبيد مصالحهم وحدها، ولا علاقة لهم بالوفاء ولا بالمثل التي تميز الإنسان السوي من غيره من وحوش الغاب.
محاولة إضعاف العراق القديم(/1)
تعتبر الطائفة اليهودية في العراق، من أقدم الطوائف اليهودية في العالم، إذ يرجع معظمها إلى أولئك الذين اقتيدوا أسرى إلى بابل(3) على يد الملك الكلداني الشهير نبوخذ نصر عامي (597 ق.م و586 ق.م)، وحافظوا على وجودهم في العراق على مر العصور، ولم يتعرضوا إلى نفي أو اضطهاد أو هجرة إلى الخارج(4)، وهؤلاء اليهود هم الذين وقفوا ضد نبوخذ نصر وجيشه، فأسرهم نبوخذ نصر، ورافقتهم عوائلهم إلى العراق، فهم لا يشكلون إلا جزءاً من يهود فلسطين(5)، وليس جميع يهود فلسطين كما يرى قسم من المحققين، لأن في هذا الادعاء مبالغة، إذ لا يمكن أسر جميع يهود المنطقة مرة واحدة، ومن المعقول أسر المقاتلين حسب، وغض الطرف عن غير المقاتلين(6). إلا أن هذا لا يعني البتة أن جميع يهود العراق قد جاءوا قسراً عن طريق الأسر البابلي الأول سنة 597 ق.م، والثاني سنة 586 ق.م، بل إن قسماً لا يستهان به من الطائفة اليهودية في العراق القديم، جاءوا طوعاً في وقت مبكر إلى العراق، لاستغلال مواهبهم والمساهمة في العمل للدولتين البابلية والآشورية(7) والاستفادة من خيرات العراق الزراعية والتجارية، غير أن احتلال كورش الفارسي للعراق، وإسقاطه للدولة الكلدانية سنة 538 ق.م، كان بمثابة الإفراج لمن اعتبر نفسه أسيراً من يهود فلسطين. وكان لتعاون اليهود مع كورش في غزو بابل من جهة، وتمهيدهم لتفتيت الجبهة الداخلية، بإشعال الفتن وتفريق الصفوف والتأثير في معنويات الكلدانيين،من جهة ثانية ما سهل على كورش التغلب على البابليين في ميدان القتال، كما استغل اليهود زوجة كورش اليهودية الجميلة لتحريضه على توسيع رقعة الدولة الفارسية على حساب العراق، فلما انتصر كورش سمح لليهود بالعودة إلى فلسطين لمن أراد منهم، وهكذا عادت القافلة الأولى من بابل إلى فلسطين، وتبعهم بعد ذلك جمع غفير(8) إلا أن العائدين لم يكونوا كل اليهود، إذ فضل قسم منهم العيش في العراق، بعد أن تيسر رغد العيش فيه. وبذا يمكن القول: بأن يهود العراق يتألفون من: أسرى، ومهاجرين طواعية، ثم أخذ عددهم يزداد حتى بعد العودة على عهد كورش، مع مرور الزمن، ومما ساعد على ازدياد عددهم، ما كانوا يتعرضون له من اضطهاد في فلسطين على يد أباطرة الرومان، فكانت بيئة العراق بمثابة متنفس لهم، يغدون إليها من وقت إلى آخر فراراً من ظلم الرومان، وهكذا تكونت جاليتهم وأصبح لهم كيان في العراق(9).
وقد لقي يهود العراق، في العراق القديم، كل رعاية واهتمام، فقد أسكن نبوخذ نصر أسراهم في بابل، وكان بإمكانه إسكانهم في الصحراء، ولكنه حباهم برعايته الكاملة، ولم يتعرضوا في العراق للنفي أو الاضطهاد كما تعرض غيرهم في البلاد الأخرى، وكان إيثار أكثر بقايا الأسرى منهم البقاء في العراق وعدم النزوح منه بعد سقوط بابل، دليلاً قاطعاً على أنهم كانوا في رعاية وعناية كاملتين في هذا البلد الآمن المطمئن، وحتى الذين عادوا إلى فلسطين هاجروا من جديد إلى العراق لأنهم افتقدوا بعد عودتهم عدل العراق، وتحملوا ظلم الرومان، فآثروا العدل على الظلم. ولكن كان جزاء العراق وأهله من الذين أحسنوا إليهم وأطعموهم من جوع وآمنوهم من خوف، جزاء سنمار، إذ فرقوا صفوف العراقيين، وشتتوا كلمتهم، وأنشبوا بينهم الحقد والبغضاء وفتتوا سكان العراق وجعلوا منهم طوائف وفرقاً، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، وزعزعوا معنوياتهم، وحرضوا عدوهم على غزوهم، وعاونوا الغازي مادياً ومعنوياً، حتى تحققت له الغلبة، فكانوا عملاءه علناً بسقوط بابل، بعد أن كانوا عملاءه سراً قبل سقوطها.
وهكذا كان دأب اليهود الصهاينة القدامى، منذ خمسة وعشرين قرناً خلت: تفتيت البلد الذي يعيشون فيه إلى طوائف وعروق، ويعاونون أعداءه عليه ويتعاونون عليه، ويحرضون الغزاة على استعبادهم لعله يستفيدون مما جنت أيديهم ما يشبع رغبتهم الأزلية إلى التخريب والدماء.
مصاولة الإسلام والمسلمين في عهد الرسالة
1 - اختلف المؤرخون في الوقت الذي هاجر فيه اليهود إلى جزيرة العرب، ويرى المحققون أن هجرتهم إليها كانت في القرن الأول الميلادي سنة (70م) بعد تنكيل الرومان بهم، ويؤيد هذا الرأي طائفة من مؤرخي اليهود والأجانب، كما تؤيده المصادر العربية. وكانت هجرتهم لأسباب اقتصادية، فنزلوا على طريق مكة - الشام التجارية.(/2)
وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة في السنة الثالثة عشرة من بعثته أي سنة (622م)، ومعنى الهجرة عسكرياً، اجتماع القائد بجنوده، في قاعدتهم الأمينة(10)، وكان من جملة ما اتخذه الرسول القائد عليه الصلاة والسلام من إجراءات لترصين قاعدته الأمنية في المدينة المنورة، عقد (معاهدة) بين المسلمين من جهة وبين اليهود والمشركين من جهة أخرى، وادعهم فيها وأقرهم على دينهم وأموالهم، وفي هذه المعاهدة نظم الرسول عليه الصلاة والسلام الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية لسكان المدينة المنورة من مسلمين ومشركين ويهود: "... وإن من تبعنا من اليهود، فإن له النصر والأسوة - أي المساواة في المعاملة - غير مظلومين ولا متناصرين عليهم"(11) فأصبح بين اليهود والمسلمين بموجب هذه المعاهدة ارتباط مصيري يلتزم به الطرفان في السلم والحرب، ولا يخرجون عن المعاهدة نصاً وروحاً.
ولكن اليهود الصهاينة القدامى، منذ الأيام الأولى التي ظهر فيها النبيّ عليه الصلاة والسّلام في المدينة المنوّرة، نصبوا له العداء. وانطلقوا بمكرهم يكذبونه ويؤلّبون عليه العرب، ولا يدعون سبيلاً من سُبل الكيد له ولرسالته إلاّ ويسلكونه. وتطيّروا من قدومه إلى المدينة، وغلا الحسد والحقد في قلوبهم، وأخذوا ينظرون إلى الإسلام بعيون متوجّسة خائفة، تخشى رسوخ قدمه، وانتشار دعوته، واجتماع الأوس والخزرج تحت لوائه، بعد ذلك العداء الدموي الطويل، الذي كانوا يستغلونه فيحققون به لأنفسهم كثيراً من المصالح والمكاسب والامتيازات الاقتصادية، ولم يقتصروا على التجارة وحدها باعتبارهم يتمركزون في أهم عُقد طريق المواصلات التجاري، بين مكة التي تتصل باليمن والهند، ويعمل أهلها بالتجارة في رحلة الشتاء والصيف، وبين بلاد الشام وأرض الروم، وهي من أهم الطرق التجارية العالمية في حينه، بل شمل نشاطهم الزراعة أيضاً، فسيطروا على أفضل مزارع النخيل في المدينة ووادي القرى وخَيْبَر، فتهددت مصالح اليهود بالإسلام الذي حلّ في المدينة وشيكاً.
2 - وبدأت مكائدهم تَتْرى:
فكانت المكيدة الأولى التظاهر بالدخول في الإسلام نفاقاً، ليعملوا على تخريبه من الداخل، وليطلعوا على أسرار المسلمين وينقلوها إلى جماعاتهم وحلفائهم.
وكانت المكيدة الثانية محاولة الدخول في الإسلام، ثمّ الخروج منه، ليفتنوا بعض المسلمين عن دينهم، فيرتدوا مثلهم.
وكانت مكيدتهم الثالثة في إحراج الرسول عليه الصلاة والسّلام بسيل من الأسئلة المحرجة، التي يُلبسون فيها الحق بالباطل، لعلهم يوهمون العرب أنهم أعلم من الرسول عليه الصّلاة والسلام.
والمكيدة الرابعة في الحرب الدعائية القائمة على الضغط بالتعيير والتنقيص والشتائم لمن شرح الله صدره للإسلام، فأسلم، كما جرى بالنسبة لأحد أحبارهم الذي أسلم. وهو عبد الله بن سلاّم، الذي كان من أكبر أحبارهم، وعالماً بالتوراة، فنقم عليه اليهود نقمة شديدة بسبب إسلامه، وكالوا له الاتهامات الكاذبة ظلماً وعدواناً.
أما المكيدة الخامسة فهي الغدر ونقض العهود والمواثيق التي يبرمونها بينهم وبين المسلمين، كلما اشتدت الأزمات على المسلمين، وظنوا أنّ نقض عهودهم والغدر بالمسلمين قد يوقع بالرسول عليه الصلاة والسّلام وبالمسلمين أذى شديداً.
والمكيدة السادسة في الهزء والسخرية والطعن في الإسلام، كلما سنحت الفرصة لهم بذلك، بغية الصدّ عن اعتناقه، وإضعاف حماسة المسلمين له، إذ يحذرُ ضعفاؤهم من هجمات حرب الهزء والسخرية والطعن والتجريح.
والمكيدة السابعة في الحرب الاقتصادية، بإيجاد نوع من الضغط المالي على المسلمين، حتى ينفضوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
والمكيدة الثامنة، هي التفريق بين المسلمين، وتشقيق وحدة جماعتهم، لضرب بعضهم ببعض، وإضعاف قوتهم.
والمكيدة التاسعة في فرض ألوان من الحرب بالإعلام والقتال، ومحاولة اغتيال رسول الله عليه الصلاة والسلام.
والمكيدة العاشرة في تأليب القبائل العربية التي لم تدخل في الإسلام، على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه، وتحريضهم على قتالهم، وتوهين أمر المسلمين في نفوسهم.
والمكيدة الحادية عشرة هي في الاتفاقيات السرّية بينهم وبين القبائل المعادية للمسلمين التي اشتبكت معهم في معارك حربية، وذلك بالاتفاق معهم على أن ينصروهم ويغدروا بالمسلمين، بينما كان المسلمون غافلين عنهم واثقين بأمانهم، مصدّقين عهودهم ومواثيقهم.
إلى غير ذلك من مكائد عرف بها يهود في تاريخهم، فهي من خصائصهم الخلقية التي لا يستطيعون التخلي عنها.(/3)
3 - فمن الأمثلة على المكيدة الأولى: التظاهر بالدخول في الإسلام نفاقاً، ما تظاهر به بالإسلام بعض أحبار يهود من بني قَيْنقاع مثل: سعد بن حُنَيْف، وزيد بن اللُّصَيْت، ونُعمان بن أوفى، وعثمان بن أوفى، ورافع بن حُرَيملة، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وسلسلة بن برهام، وكنانة بن صورياء، فقد أسلم هؤلاء نفاقاً للدسّ، ولكنهم أخفقوا في محاولاتهم وانكشفوا للمسلمين، فافتضح أمرهم، وأصبحوا يعرفون بالنفاق.
ومن أمثلة المكيدة الثانية: الدخول في الإسلام صباح النهار، والخروج منه آخره، ليقلّدهم العرب المسلمون في ذلك، كما فعل عبد الله بن ضيف، وعَديّ بن زيد من يهود بني قَيْنقاع، والحارث بن عوف وهو من يهود بني قُريظة، ولكن محاولتهم انكشفت للمسلمين، فعُرفوا بالنفاق، وحذر منهم المسلمون.
ومن أمثلة المكيدة الثالثة: أسئلة التعنّت والإحراج، أنّ رافع بن حُريملة، وهو حبر من أحبار يهود بني قَينقاع، ووهب بن زيد، وهو حبر من أحبار بني قُريظة، جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: »يا محمّد! ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجّر لنا أنهاراً، نتبعك ونصدّقك«. سؤالان يحملان معنى التعنّت، أراد اليهوديان بهما إحراج الرسول عليه الصلاة والسلام، وزعزعة ثقة المسلمين به في حالة عدم إجابتهما، ولكنّ هذه المحاولة لم تنطل على المؤمنين، فوئدت في مهدها، وأخفقت إخفاقاً كاملاً.
وقد ضربنا مثلاً للمكيدة الرابعة: الحرب الدعائية، بما فعلوه بعبد الله بن سلام، الذي كان أحد أحبارهم، وأحد علمائهم في التوراة.
أما المكيدة الخامسة: في الغدر ونقض العهود والمواثيق، فقد كان الغدر بالنسبة ليهود هو القاعدة، والوفاء هو الاستثناء، ومن أشهر غدرهم غدر بني قريظة في غزوة الأحزاب(12)، فعاقب النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة بعد انسحاب الأحزاب، فنالوا حسابهم العادل الذي يستحقونه(13)، وقصة غدر اليهود في غزوة الأحزاب (الخندق) مشهورة معروفة.
والمكيدة السادسة: الهزء والسخرية والطعن في الإسلام، والمثال على ذلك ما فعله فِنْحاص وهو حبر من أحبار اليهود من يهود بني قينقاع، ولكنّ سخريته ارتدّت عليه وعلى أمثاله بالخزي والعار، لأن المسلمين عرفوا أن مصدرها الحقد والضغينة.
والمكيدة السابعة: الحرب الاقتصادية، فحاولوا تخزيل المسلمين عامة والأنصار خاصة، عن بذل أموالهم في سبيل الله، فطاف حُييُّ بن أخطب، وكَردَم بن قيس حليف كعب بن الأشرف، وهما من أحبار يهود بني النضير، وأسامة بن حبيب، ونافع بن نافع وهما من أحبار يهود بني قريظة، وبحر بن عمر ورفاعة بن زيد بن التابوت وهما من أحبار يهود بني قينقاع - طافوا برجال من الأنصار، يقولون لهم: "لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون علام يكون"، فأنزل الله تعالى فيهم قوله في سورة النساء: }الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله، وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً{(14) فكان رد فعل الأنصار المبالغة في الإنفاق، وبذل أموالهم رخيصة في سبيل الله.
والمكيدة الثامنة: التفريق بين المسلمين وتشقيق وحدة جماعتهم، فمارس يهود تفريق وحدة الصف الداخلي للمسلمين، ومحاولة ضرب بعضهم ببعض، فدبروا مكيدة إثارة النعرات الجاهلية التي كانت بين الأوس والخزرج، قبل أن يؤلف الله بينهم ويوحّد صفهم بالإسلام، وذلك بإحياء الخلاف القديم بين الأوس والخزرج وتصدى لتنفيذ ذلك حبر من أحبار يهود بني قينقاع اسمه شاس بن قيس، وكان شيخاً موغلاً في عداوة الإسلام فمرّ على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، فوجدهم مجتمعين يتحدثون، فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم، فقال: "قد اجتمع ملأ بني قَيْلة بهذه البلاد لا والله، مالنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها قرار" وأمر شاس شاباً من يهود كان معه، فقال له: "اعمدْ إليهم، فاجلسْ معهم، ثم اذكرْ يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار". وكان يوم بُعاث يوماً من أيام حروب الجاهلية، اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج. وفعل الشاب ما أمره به شاس، فتنازع الأوس والخزرج وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيّين على الرّكب، فتلاسنا وتقاولا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين، حتى جاءهم في الحَرَّة وهم يستعدون للقتال، فقطع دابر الفتنة وأعاد الأمور إلى نصابها.
والمكيدة التاسعة: فرض ألوان من الحرب المباشرة، كما جرى في الحرب الإعلامية على ألسنة شعرائهم في هجاء النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام والمسلمين، كما فعل اليهوديان أبو عفل وكعب بن الأشرف.(/4)
وبدأ بنو قينقاع بالتجسس على المسلمين لحساب مشركي قريش، كما تعرضوا لامرأة مسلمة تبيع حليّها في سوق بني قينقاع ونكثوا العهد، فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى وادي القرى(15) بعد أن حاصرهم وضيّق عليهم الحصار وانتصر عليهم(16).
وتآمر يهود بني النضير على اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتصر عليهم أجلاهم من المدينة المنورة إلى خيبر، فخرجوا عن المدينة(17). وحين كان عشرة آلاف من الأحزاب، يحاصرون المدينة المنورة، نقض بنو قريظة العهد وانضموا إلى الأحزاب، فتحرّج موقف المسلمين بشدة وأصبح الخطر محدقاً بهم من الداخل والخارج فلما رحل الأحزاب عن المدينة حاصر المسلمون بني قريظة لخيانتهم ولأنهم حشدوا الأحزاب لحصار المدينة، فانتصر المسلمون عليهم، فقتلوا المقاتل وسبوا الذراري، وغنموا أموالهم(18).
وحاولت امرأة يهودية دسّ السم للنبي صلى الله عليه وسلم في الطعام، فنفذت خطتها بتحريض من أحبار يهود(19).
والمكيدة العاشرة: تأليب القبائل العربية التي لم تدخل الإسلام، فقد قصد نفر من يهود قريشاً في مكة، فيهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب، فدعوهم إلى حرب النبي صلى الله عليه وسلم، ووعدوهم أنهم سيكونون معهم في قتال المسلمين، ولما وافقت قريش على قتال المسلمين، قصد أولئك النفر من يهود غطفانَ وغيرَها من القبائل، وأخبروهم أن قريشاً معهم، فوافقت غطفان والقبائل الأخرى على حرب المسلمين(20).
وهكذا فقد كثف اليهود القدامى على عهد الرسالة، جهودهم في مصاولة الإسلام والمسلمين، مستهدفين عدم توحيد سكان المدينة المنورة «يثرب» من الأوس والخزرج، وإبقاء العداوة بينهم قائمة والحرب مستعرة، ليضمنوا بقاء أعدائهم ضعفاء، من أجل التحكم فيهم وانتهاب خيراتهم واحتكار مواردهم الاقتصادية، وعدم توحيد العرب في شبه الجزيرة العربية تحت لواء الإسلام، ليبقى التفرق سائداً، والحرب ناشبة، والضغائن والأحقاد متحفزة، تعمل عملها المدمر في حياة العرب وحاضرهم ومستقبلهم، لأن اليهود يعلمون أن العرب إذا توحدوا تحت لواء الإسلام، أصبحوا بالوحدة والإيمان، قوة ضاربة، تجد لها متنفساً في الفتوح، كما جرى فعلاً، فلم يبق اليهود سادة الموقف، يتحكمون بمصائر المنطقة العربية اقتصادياً بخاصة واجتماعياً بعامة، بل أصبح العرب المسلمون بالوحدة هم السادة. ليس في شبه الجزيرة العربية فحسب بل خارجها في بلاد فارس وبلاد الروم فثلوا بعد سنوات قليلة عرش كسرى وزعزعوا عرش قيصر، وأصبح اليهود بالمؤخرة بالنسبة للعرب والمسلمين، وهذا ما كانوا يخشونه ويحذرونه: الوحدة، والإيمان، فأحبط المسلمون مكايد اليهود، وانتصر الحق على الباطل وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.
الهوامش
(1) وانظر: طريق النصر في معركة الثأر (262). Nuting, Antong: I saw for my self p.93, London 1958.
(2) انظر - الدر- نقولا - هكذا ضاعت وهكذا تعود - ص (256) - بيروت - 1964.
(3) مذكرات غروبا - انظر نجدة فتحي صفوة - العراق في مذكرات الدبلوماسيين الأجانب - ص (45) بيروت - 1969.
(4) د. علي إبراهيم عبدة، وخيرية قاسمية - يهود البلاد العربية - ص (45) - منظمة التحرير الفلسطينية - مركز الأبحاث - بيروت - 1971.
(5) صادق حسن السوداني - النشاط الصهيوني في العراق 1914 - 1952 - دار الشؤون الثقافية العامة - وزارة الثقافة والإعلام - بغداد -ط2 - 1986.
(6) غنيمة - يوسف رزق الله - ص (52) - نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق - بغداد - 1924.
(7) عون - الدكتور حسن - العراق وما توالى عليه من حضارات - الاسكندرية - 1953 - ط2.
(8) غنيمة - المصدر السابق - ص (52).
(9) عون- المصدر السابق - ص (218).
(10) القاعدة الأمنية: المدينة أو المنطقة الذي يستند عليها الجيش في إمداده بالرجال والسلاح والمواد، وينطلق منها، ويعود إليها.
(11) خطاب - محمود شيت - الرسول القائد - انظر نص المعاهدة وشروحها - ص (71 - 75) دار الفكر - بيروت - 1974 -ط5.
(12) الرسول القائد - مصدر سابق - ص (201 - 239).
(13) الرسول القائد - مصدر سابق - ص (243 - 247).
(14) الآية الكريمة من سورة النساء (4: 37).
(15) وادي القرى: موضع جنوبي خيبر، بين المدينة المنورة وخيبر.
(16) الرسول القائد - مصدر سابق ص (153 - 155).
(17) الرسول القائد - مصدر سابق - ص (205 - 209).
(18) الرسول القائد - مصدر سابق ص (244 - 247).
(19) حسن حبنكة الميداني - مكايد يهودية - ص (122 - 143) - بيروت - 1974.
(20) الرسول القائد - مصدر سابق - ص (229).
التّصور الصّهيوني
للتفتيت الطّائفي والعرقي
-2-
اللواء الركن: محمود شيت خطاب
محاولات اليهود التخريبية على عهد الخلفاء الراشدين
1 - مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه(/5)
روى الطبري(21) وابن الأثير(22) وغيرهما(23)، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خرج يوماً بعد عوده من حجّه يطوف بالسوق، فلقيه أبو لؤلؤة، فقال له: "يا أمير المؤمنين! أعْدِني على المغيرة بن شعبة فإن عليّ خراجاً كثيراً". قال عمر: "وكم خراجك؟"، قال: "درهمان في كل يوم". قال عمر: "وما صناعتك؟" قال: "نجار، نقاش، حداد"، فقال عمر: "فما أرى خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال. قد بلغني أنك تقول: "لو أردت أن أعمل رحىً تطحن بالريح فعلت" قال: "نعم". قال عمر: "فاعمل لي رحى" قال: "لئن سَلِمْت لأعملن لك رحى يتحدث بها من بالمشرق والمغرب!"، ثم انصرف عنه، فقال عمر: "لقد توعدني العبد آنفاً!".
ودخل عمر منزله، فلما كان من الغد، جاءه كعب الأحبار فقال له: "يا أمير المؤمنين! اعهدْ فإنك ميّت في ثلاثة أيام"، وكان كعب هذا من كبار أحبار اليهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يتردد عليه مظهراً الميل إلى الإسلام، مرجئاً إعلان إسلامه حتى يتحقق من كل الأمارات التي يجدها في كتب قومه عن النبي العربي وأصحابه، فلما انتهى أمر الخلافة إلى عثمان رضي الله عنه، أعلن إسلامه. وعجب عمر لنذير كعب، فسأله: "وما يدريك؟"، قال: "أجده في كتاب الله عز وجل، التوراة". ودهش عمر لهذا الكلام، فقال: "الله! إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟!"، قال كعب: "لا، ولكني أجد صفتك وحليتك، وأنه قد فني أجلك". وإذ كان عمر لا يحس وجعاً ولا ألماً، فقد زادت دهشته لهذا الحديث، ولم يعره عناية خاصة.
فلما كان من الغد، جاءه كعب فقال: "يا أمير المؤمنين! ذهب يوم وبقي يومان"، وفي الغداة من ذلك اليوم قال له: "ذهب يومان، وبقي يوم وليلة، وهي لك إلى صبيحتها". وفي فجر الغد طعن أبو لؤلؤة عمر طعناته المميتة، فلما دخل الناس على أمير المؤمنين، ودخل كعب معهم ورآه عمر قال:
فأوعدني كعب ثلاثاً أعدُّها وما بي حذار الموت، إني لميت(24)
وقد ساق سير وليام ميور قصة كعب هذه في كتابه "الخلافة الأولى" وأردفها بقوله "يتعذر علينا أن نعرف كيف نشأت هذه القصة العجيبة. وربما أنذر كعب عمر حين رأى ما بدا على أبي لؤلؤة من مظهر التحدي والوعيد". والذي نستطيع أن نستخلصه من حديث أبي لؤلؤة مع عمر، ومن قصة كعب، أن الفارسي توعد أمير المؤمنين، وأن اليهودي عين الموعد قبل حدوثه بثلاثة أيام. وما أخال أحداً يظن أن الكتب السماوية، تعين الأحداث التي تقع للناس بمثل هذه الدقة، فهذه الكتب كلها ترجع علم الغيب إلى الله وحده. لابد إذاً أن يكون كعب عرف سر ما كان يجري، فوجه النذير إلى عمر وأغفل عمر أمر هذا النذير بعد أن توعده أبو لؤلؤة بما توعده به، فحدث ما حدث. ونذير كعب وطعنات أبي لؤلؤة تدل على أن في الأمر سراً لم يظهر ساعة ارتكاب الجريمة، لكنه ظهر من بعد(25) وكان أبناء عمر أشد الناس حرصاً على معرفة الحقيقة، وقد كانوا يستطيعون كشفها والوقوف على جلية أمرها لو أن فيروز أبا لؤلؤة لم ينتحر، لكنه انتحر، فذهب بسره إلى القبر معه، وانكشف السر فيما بعد، فقد رأى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه السكين التي قتل بها عمر فقال: »رأيت هذه أمس مع الهرمزان وجفينة، فقلت ما تصنعان بهذه السكين؟ فقالا: نقطع بها اللحم، فإنا لانمس اللحم". ورأى السكين أيضاً معهما عبد الرحمن بن أبي بكر، فلم يبق إذاً في الأمر ريبة فهذان شاهدا عدل بل هما من أعدل شهود المسلمين، يشهدان بأن الهرمزان وجفينة كان معهما السكين الذي قتل بها عمر ويشهد أحدهما أن أبا لؤلؤة كان يأتمر قبل القتل معهما، فلاشك أن عمر ذهب ضحية مؤامرة كان هؤلاء الثلاثة أبطالها، وكان كعب على علم بالمؤامرة(26).
لقد كان اغتيال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مؤامرة يهودية، مجوسية، ما في ذلك من شك.
2 - مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه
في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، تناقل الناس أنباء بوادر شغب ظهرت في الكوفة، وبوادر إخلال في الأمن في البصرة.
أما ما ظهر منها في الكوفة، فبوادر فتنة سياسية، تنكر فضل قريش، التي كان زمام الحكم في أيديها يومئذ، فبادر إلى معالجتها ولاة عثمان: سعيد بن العاص والي الكوفة، ثم معاوية بن أبي سفيان والي الشام، بحكمة وسياسة، حتى خفت صوتها وكمنت على غش ودخن.(/6)
وأما ما ظهر منها في البصرة، فأعمال عدوانية مخلّة بالأمن، تولى كبْرَها رجل من بني عبد القيس، أخذ يغير على أرض فارس، ويفسد في الأرض، ومعه عصابة من المفسدين، فشكاه أهل الذِمّة(27) وأهل القبلة إلى عثمان، فكتب إلى والي البصرة عبد الله بن عامر(28): أن احبسه ومَن كان مثله في البصرة، ولا تأذن لهم بالخروج، فهدأ عدوان هذا الرجل وعدوان جماعته. وسمع يهود اليمن بهذه الأنباء، فأسرع رجل يهودي اسمه: عبد الله بن سبأ(29)، واشتهر بابن السوداء، وسافر من اليمن، وقدم البصرة متظاهراً بالإسلام، واختار أن ينزل عند زعيم عصابة العدوان، وصار يجتمع بعناصر الفساد والفتنة والحقد الذين يتوافدون عليه، فيبث فيهم أفكاراً غامضة يتلاعب فيها بعقائد الناس.
والتف حول هذا اليهودي لفيف من الفاسدين والحاقدين، وأسسوا فرقة سياسية سرية مغلفة بقناع ديني، وصار يأمر أفراده بالطعن في الأمراء، فبلغ أمره والي البصرة، فاستدعاه وسأله: "من أنت؟"، قال: "رجل من أهل الكتاب، رغب في الإسلام وفي جوارك"، فقال له: "ما هذا الذي يبلغني عنك؟ اخرج عني". وخرج ابن سبأ من البصرة إلى الكوفة، وهي مركز الفتنة الثاني، فأفسد جماعة فيها، فعلم به والي الكوفة، فأخرجه منها، فرحل إلى مصر حيث استقر فيها. وجعل يكاتب من أفسدهم في البصرة والكوفة ويكاتبونه، حتى تفاقمت دعوتهم ثم أخذ في مصر يبث دعوته بين العرب الذين قدموا مصر منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبعده، ويحرك فيهم روح الفتنة والشر والتمرد، ويثير الناس على عثمان وعلى ولاته، ويختلق عليهم الأكاذيب والافتراءات، ويدس الدسائس، ويوقد النار من وراء حجب، فانخدع به بعض السذج من المسلمين.
وما زال ينشط هو وجماعته ضد عثمان وولاته، حتى أوسعوا الأرض إذاعة، وكانوا يكتبون الكتب التي تنسب إليهم العيوب الكثيرة وتدس عليهم الدسائس، ويرسلونها إلى وجوه الناس في الأنصار، إعداداً للفتنة الكبرى المدبرة في رأس ابن سبأ، حتى بلغ أهل المدينة طائفة من رسائلهم، فجاؤوا إلى عثمان يسألونه: هل أتاه من الأمصار مثلما أتاهم؟ فقال لهم: "والله ما جاءني إلا السلامة"، فأخبروه الخبر، فقال لهم: "أنتم شركائي وشهود المؤمنين فأشيروا علي" فأشاروا عليه أن يرسل أشخاصاً ممن يثق فيهم إلى الأمصار، ليخبروا أهلها بأنهم لم ينكروا شيئاً من عثمان، لا أعلامهم ولا عوامهم، ففعل ذلك عثمان، ثم كتب إلى أهل الأمصار كتاباً عاماً يذكر فيه ما بلغه من الإذاعات والطعن على الأمراء، وأنه مستعد لسماع كل شكوى وإنصاف صاحبها، وإعطاء كل ذي حق حقه، ويدعو من له شكوى لموافاته في موسم الحج، ثم اتخذ تدابير أخرى علم منها أن ما بلغه على عماله محض اختلاق ودسائس تبث سراً. وكان من مكر السبئيين أنهم ابتدعوا فكرة إرسال الكتب المزورة إلى من يريدون تحريضه على عثمان وولاته، بأسماء طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الكتب المزورة باسم الخليفة نفسه(30).
وانتهت دسائس هذا اليهودي وزمرته إلى إشعال فتنة كبرى، وانطلقت جذواتها الثلاث من البصرة والكوفة ومصر وهي الأمصار الثلاثة التي أقام فيها هذا اليهودي ودس فيها دسائسه وفتنه. ثم تحولت الفتنة السبئية إلى ثورة مسلحة على عثمان. وفي السنة الخامسة والثلاثين للهجرة "655م" وصلت الحركة السبئية ذروتها واستكملت عناصرها، فتكاتب السبئيون في مصر والكوفة والبصرة، وتواعدوا على أن تخرج كتائب ثورتهم إلى المدينة، ويعسكروا خارجها، فقدموا إليها كما تواعدوا، وعسكروا خارج المدينة معلنين ثورتهم على الخليفة عثمان(31).
وانتهت هذه المؤامرة بمقتل عثمان كما هو معروف(32).
3 - مكائدهم في عهد علي رضي الله عنه
ظلّت روح التمرّد وعوامل الفتنة التي أشعلها ابن سبأ، تعتمل في نفوس الذين ثاروا على الخليفة الثالث عثمان بن عفّان رضي الله عنه. ولمّا توّلى الخليفة الرابع عليّ بن أبي طالب الخلافة: أطاعه هؤلاء، ولكن روح الشّغب كانت متغلغلة في أعماقهم، فكانت طاعتهم مظهرية، بينما يبثّون سمومهم في صفوف الجند، في وقت كانوا في أمسّ الحاجة إلى الضبط والطاعة والثقة الكاملة بالخليفة، والتفاني في خدمة أهداف الإسلام والمسلمين.(/7)
وأخذ ابن سبأ يبث في السرّ دون علم الخليفة رضي الله عنه، دعوى نبوّة علي، ثم أسرع فارتقى بدسيسته مرة أخرى ونقلها إلى طور جديد، فصار يبثّ بين المنخدعين به ألوهيّة علي رضي الله عنه، ونقل فكرة حلول الإله بالأشخاص، ودسّها بين الجاهلين من أهل الكوفة، فغلوا في علي غلوّاً فاحشاً، مما لا يرضاه علي رضي الله عنه ولا المسلمون. وتحوّلت دسائسه من همسات في السرّ، إلى أقوال صريحة، جعل يردّدها المتأثرون به من الغلاة، فرفع أمرهم إلى الخليفة، فوجدهم يُغالون به كما بلغه، وبحث علي رضي الله عنه عن صاحب الضلالة، وباعث فتنة الزّيغ، فعلم أنه ابن سبأ، فجمعهم ووعظهم ونهاهم ودعاهم إلى الإسلام، وجادلهم بالتي هي أحسن، فلم يرتدعوا، لأنّ وساوس ابن سبأ كانت قد أثرت فيهم تأثيراً بالغاً، فقرّر الخليفة أن ينكّل بهم أشد تنكيل، لردّتهم عن الإسلام بمقالتهم الشنعاء، فجمع فريقاً منهم، وحرقهم بالنار إمعاناً في التنكيل بهم، ومن غريب ما يروى، أنّهم عندما أحسّوا بلذع النار قالوا: الآن قام الدليل على صدق إلهيته، لأنّ النار لايعذّب بها إلا الله.
وهمّ الخليفة علي رضي الله عنه، أن يقتل ابن سبأ، ولكنّ ابن عباس أشار عليه بعدم قتله. ولعلّه لم يجاهر بمقالته أمام علي، وكان يبثها سراً في أتباعه، أو لعلّه تظاهر بالتوبة ليواصل دسائسه ومكايده، فنفاه إلى ساباط المدائن (مدينة شرقي بغداد وقريبة منها).
وظلّ يبثّ ضلالته سراً، فلما قُتل علي رضي الله عنه، أخذ ابن سبأ يبثّ في الذين تأثّروا بضلالته أنّ علياً رضي الله عنه لم يُقتل، بل رُفع إلى السماء، كما رُفع إليها عيسى عليه السّلام، وأنّه سينزل إلى الدنيا وينتقم من أعدائه، وأنّ الذي قُتل شيطان تمثّل في صورته. وصار يوسوس لهم، أنّ علياً يجري في السحاب، وأنّ الرعد صوته، وأنّ البرق تبسُّمه(33).
ولم يكن الدافع لابن سبأ، إلى كلّ هذه الدسائس والفتن، إلاّ عداؤه للإسلام، ومكره بالمسلمين، وحقده عليهم، واندفاعه في تنفيذ حلقة من سلسلة مكائد يهود على الإسلام، بل على الأديان كلّها وعلى جميع أمم الأرض، إلاّ اليهودية وبني إسرائيل.
وإذا قلنا: إنّ روح التمرّد في الخوراج، قد كانت بسبب مكائد ابن سبأ ودسائسه، كان لنا أن نقول: إنّ مقتل علي رضي الله عنه، قد كان أثراً من آثار هذه الدسائس أيضاً، ومن الجهل بمكان استصغار مقدمات الشر، واحتقار أوائل الفتن، فمعظم أحداث التاريخ الكبرى التي تحول فيها تاريخ الأمم، قد بدأت بنواة صغيرة لم يلق لها الناس بالاً في أول الأمر، ثم نمت فكانت شجرة كبرى ذات جذور متغلغلة، وفروع ممتدة، وآثار عظيمة(34).
وهكذا، فمن الواضح، أنّ هدف الاغتيالات، وإشاعة الفوضى، والإخلال بالضبط والنظام، هي إضعاف القوة الضاربة للمسلمين، التي كانت سيوفها على أعدائها، فأصبحت سيوفها على رجالها، وأصبح المسلمون متفرقين، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى: معركة الجمل، ومعركة صفّين، ومعارك الخوارج، فضعف حكم المسلمين في الأصقاع، وتنافست القوات المتقاتلة على الأمصار، حتى طمع قسطنطين بن هرقل باستعادة ما فتحه المسلمون من أرض الشام ومصر وشمالي أفريقية، فسار سنة خمس وثلاثين الهجرية (655م) في ألف مركب يريد أرض المسلمين(35)، ولكنّ الله سلّم.
وهكذا أصبح القوي ضعيفاً، والإخوة أعداء، والوحدة تفرقة، والصفوف شتّى، وتوقف الفتح من سنة ثلاث وثلاثين الهجرية (653م) وهي السنة التي ظهرت فيها اضطرابات ابن سبأ للعيان.
يهودُ هذا الزمان قد بلغوا غاية آمالهم وقد ملكوا
العزُّ فيهم، والمال عندهم ومنهم المستشار والملك
يا أهل مصر قد نصحتُ لكم تهوّدوا، قد تهوّد الفلك(46)
ج - وكما حصل في مصر، حصل في الأندلس، حينما بدأ الحكم العربي الإسلامي فيها ينحدر، إذ أخذ اليهود يتسللون إلى مراكز القوّة في الأندلس، عن طريق التجارة والصيرفة والربا، وتجارة الخمور والرقيق والجواري، ووسائلهم الأخرى المعروفة التي يفسدون بها أخلاق الأمة، ويهدمون بها قوتها، ويفرقون صفوفها. وفي ظل هذا الوضع المنهار، استطاع يهوديّ يقال له: (ابن نغرالة) أن يحتل كرسي الوزارة، لأحد ملوك الطوائف البربر في غرناطة، وهو: باديس بن حبوس بن ماكسن (428 - 465هـ) (1037 - 1073م).
وكان لأبي العباس كاتب حبوس والدباديس، مساعد من يهود يدعى: أبا إبراهيم يوسف بن إسماعيل بن نغرالة، فلما توفي أبو العباس، تقدم مكانه اليهودي ابن نغرالة. ودبّر ابن عم باديس مؤامرة لانتزاع السلطة من باديس، فلجأ إلى ابن نغرالة، وحاول ومن معه ضمّه إليه، فتظاهر اليهودي بالقبول، وأخطر مولاه باديس، ودبر اجتماع المتآمرين في داره، وحضر باديس ليسمع بنفسه مشاوراتهم من مكان معيّن، ومن ذلك الوقت غدا اليهودي أثيراً عند باديس، وصار ناصحه الأول، لايبرم أمراً دون رأيه.
وفرّ المتآمرون، وتفرقت عائلة باديس، وأصبحوا أعداء(47).(/8)
وأشعل اليهودي الحرب بين ابن باديس وزهير العامري صاحب المريّة، فدارت معركة بين الجانبين في منطقة قرية الفنت(48)، انتصر فيها باديس، وقُتل زهير في المعركة، وخسر الطرفان كثيراً من الشهداء!.
وقاتل باديس جند إشبيلية، فانتصر ابن باديس على بني عباد(49).
وكان باديس قد قطع إلى ذلك الحين ثلاثين عاماً في الحكم، قاتل فيها في عشرات المعارك الداخلية والخارجية، وكان شاخ وأخلد إلى الراحة، بعد أن أنهكته الفتن والحروب، فترك مقاليد الحكم كلها لوزيره يوسف بن نغرالة(50)، وكان يوسف قد حلّ في المنصب مكان أبيه إسماعيل بن نغرالة وزير حبوس، ثم ابنه باديس، وكان هذا الوزير اليهودي قد استأثر بعطف باديس وثقته، فرفعه فوق سائر كتابه ووزرائه، وفوّضه في جميع أموره، وعيّن معظم المتصرفين والعمال من اليهود. واستمر ابن نغرالة على مكانته حتى توفي، فندب باديس ولده يوسف للاضطلاع بمنصبه، وكان يوسف فتى جميلاً، غض الإهاب، فاستعمل اليهود كذلك على الأعمال، واجتمعت السلطات شيئاً فشيئاً بيد هذا اليهودي، حتى غدا كأبيه من قبل، أول رجل في الدولة، وأمضاهم تصرفاً في شؤونها(51).
وكان بُلقين ولد باديس الأكبر الملقب بسيف الدولة، والمرشح من بعده لولاية عهده، ينظر إلى استئثار الوزير اليهودي بزمام الأمور، واستئثار بني جنسه بالتصرف في الأعمال، وسيطرتهم التامة على الدولة: ينظر إلى ذلك كله بعين السخط والحسد، وكان يجاهر ببغضه لابن نغرالة، وسعيه إلى إسقاطه، ويفضي أحياناً إلى خاصته برغبته في إزالته وقتله، وكان يشعر أنه أحق بالأموال التي يتمتع بها اليهود، وأن اليهودي قد أخمله وأخمل سائر رجال الدولة بسيطرته عليها(52).
وكان يوسف من جانبه، يضع عيونه وجواسيسه من خاصة باديس في القصر و في الحريم، فلا يكاد باديس يأتي بحركة أوتصدر كلمة، حتى يقف علىها لفوره، وكان في نفس الوقت يحيط بلقين بعيونه، ويتقصى سائر حركاته وسكناته، ويقف على نياته نحوه، وكان بلقين مع بغضه ليوسف، يلقي له المودة، ويتردد على داره، ويشاطره الشراب، وكان منهمكاً مدمناً. فاعتزم يوسف أن يتخلص من بلقين قبل أن يقضي هو عليه، ودعاه ذات يوم مع خاصته وصحبه، إلى مجلس شراب حافل، ودس له السم في كأسه، فما كاد يغادر مجلسه، حتى ملكه قيء شديد، وما كاد يصل إلى داره، حتى لزم فراشه،ثم توفي بعد يومين، فروع باديس لمهلك ولده،على هذا النحو المفاجئ،واستطاع يوسف إقناعه باتهام بعض فتيان ولده وجواريه وقرابته،فقتل منهم باديس عدة نفر وفرّ الباقون،وكان مصرع بلقين بن باديس في سنة(456 هـ-1064م)(53).
وكان هذا الحادث مقدمة لحادث أخطر وأوسع مدى، وهو الذي اتسم به عهد باديس قبل كل شيء، ذلك أن باديس ترك المجال لوزيره يوسف، وزاد بفقد ولده انطواؤه على نفسه، وزاد يوسف بذلك استئثاراً وسيطرة على الدولة، وبسط على غرناطة وأعمالها نوعاً من الطغيان اليهودي المرهق، استسلم سائر الوزراء والشيوخ إلى هذا السلطان. ولم يكن يناوئ يوسف ويحاول مقاومته سوى: "الناية"، وهو شخصية غامضة، وأصله من عبيد المعتضد بن عباد، وكان متهماً في المؤامرة التي دبرها ضده ولده إسماعيل، ففرّ من إشبيلية، والتجأ إلى باديس وخدمه وحظي عنده، وعهد إليه ببعض المهام الخطيرة، ثم وقع التنافس بينه وبين يوسف، وكان الناية يحرّض على قتله، ويفضي إلى الأمير بذلك كلما سمحت الفرص. وشعر يوسف بتغيّر الأمير عليه، وبأن منزلته أخذت بالضعف، ففكرّ في التفاهم مع أبي يحيى بن صادح صاحب المرية، واستدعائه للاستيلاء على غرناطة. وكانت تربط ابن صادح وباديس علائق مودة قديمة، إذ كان باديس قد وقف إلى جانبه حين أراد ابن أبي عامر محاربته واسترداد المرية منه، ومهد يوسف لمشروعه بأن عمل على تعيين زعماء صنهاجة، الذين يخشى بأسهم، في الأعمال البعيدة، واستطاع ابن صادح أن ينتزع فعلاً وادي آش، الواقعة شمال شرق غرناطة وأن يشحنها برجاله، ومضى يوسف في مفاوضته، وهو محجم متهيّب من تنفيذ المشروع. كل ذلك وباديس غارق في لهوه منكب على لذاته(54)، وخصوم يوسف في صنهاجة، و سائر أهل غرناطة يضطرمون سخطاً على الطاغية اليهودي ويترقبون الفرصة لإسقاطه. ولقي سخط الشعب الغرناطي على اليهود في تلك الآونة متنفسه في الشعر، ونظم الفقيه الورع الزاهد أبو إسحق الألبيري(55) قصيدته الشهيرة في التحريض على سحق اليهود والتخلص من طغيانهم، وإليك بعض ما ورد في تلك القصيدة التي ذاعت يومئذ ذيوع النار في الهشيم، وألهبت مشاعر الشعب الغرناطي، وكانت كالشرارة التي أضرمت الحريق، وأثارت الانفجار:
ألا قُل لصِنْهاجة iiأجمعين
لقد زَلَّ سيِّدُكم iiزلَّةً
تَخَيَّر كاتِبَه iiكافِراً
فعزَّ اليهود به iiوانتخوا
ونالوا مُناهُمْ وحازوا iiالمدى ...
... بُدور الزَّمان وأُسد العَرين
تقرّ بها أَعيُن iiالشَّامتين
ولو شاءَ كان من iiالمؤمنين
وتاهوا، وكانوا من الأرذلين
وقد جاز ذاك وما iiيشعرون
ومنها:(/9)
أباديسُ أنت امرؤٌ iiحاذِقٌ
فكيف تحبّ فراخ iiالزّنا
وكيف استنمتَ إلى iiفاسقٍ
وقد أنزلَ اللهُ في iiوحيه
فلا تَتَّخِذْ منهمُ iiخادماً
فقد ضجَّت الأرض من فسقهم
وكيف انفردتَ iiبتقريبهم
وأنَّى احتللتُ iiبغرناطة
وقد قسموها iiوأعمالها
وهم يقبضون iiجباياتها
وهم يلبسون رفيع iiالكسا
وهم أمناكم على iiسركم
وقد لابسوكم iiبأسحارهم ...
... تصيب بظنّك مرمى iiاليقين
وقد بغّضوكَ إلى iiالعالمين
وقارنته، وهو بئس iiالقرين
يُحذِّر من صحبة الفاسقين
وذَرْهُمْ إلى لعنةِ iiاللاعنين
وكادت تميد بنا iiأجمعين
وهم في البلاد من iiالمُبْعَدين
فكنت أراهم بها iiعابثين
فمنهم بكلِّ مكانٍ iiلعين
وهم يخصمون وهم iiيقصمون
وأنتم لأوضاعها iiلابسون
وكيف يكون أميناً خؤون
فما تَسمعون ولا iiتُبصرون
* * *
ومنها في التحريض على ابن نغرالة وقومه:
فبادر إلى ذبحه قُرْبَةً
ولا ترفع الضغطَ عن رهطه
وفَرِّقْ عُرَاهم(57) وخذ iiمالهم
ولا تحسبن قتلهم iiغدرةً
فقد نكثوا عهدنا iiعندهم
فلا تَرْضَ فينا iiبأفعالهم
فراقِبْ إلهك في iiحزبه ...
... وضَحّ به فهو كبش سَمِيْن
فقد كنزوا كل عِلْقٍ(56) ثمين
فأنتم أحقّ بما iiيجمعون
بل الغدر في تركهم iiيعبثون
فكيف تُلامُ على iiالناكثين؟!
فأنتَ رهينٌ بما iiيفعلون
فحزبُ الإله هم المفلحون(58)
ووقع الانفجار في مساء يوم السبت العاشر من شهر صفر سنة (459 هـ -30 من كانون الأول "ديسمبر" 1066م)، ففي تلك الليلة اجتمع يوسف بن نغرالة بالقصبة على الشراب مع طائفة من صحبه الضالعين معه من عبيد باديس وخاصته. والظاهر أنّ مشروعه لاستدعاء ابن صمادح إلى غرناطة كان قد نضج، وأن ابن صمادح كان يكمن مع نفر من صحبه في مكان قريب من المدينة ينتظر النذير لاستدعائه، وكان ثمة في نفس الوقت جماعة من صنهاجة، ممن يرتابون في مشاريع يوسف ونياته، وينقمون على أميرهم تهاونه وتخاذله، ويرقبون حركات اليهودي وسكناته، فحدث والمتآمرون في مجلسهم، أن وقعت مشادة بين عبد من الحضور، وبين حاشية اليهودي، فانطلق العبد إلى خارج القصبة وهو يصيح: لقد غدر اليهودي، ودخل ابن صمادح البلدة. وفي الحال، هرع الناس وهم يتصايحون، وفي مقدمتهم رهط صنهاجة المناوئون لليهودي، واقتحم القصبة فاستغاث يوسف لفوره بباديس، وحاول الأمير عبثاً أن يهدئ المهاجمين، فهرب يوسف إلى داخل القصر ومن ورائه مطاردوه، حتى عثروا به في بعض مخازن الفحم، وقد تنكّر وقد صبغ وجهه بالسواد، فعرفوه وقتلوه، وأخذوه وصلبوه على باب غرناطة، وكان الجند والمدينة بأسرها قد ماجت عندئذ، وتخاطف الناس السلاح ونهبوا دار يوسف وكانت غاصّة بالنفائس والذخائر ووجدت له فيما وجد خزانة جليلة من الكتب، أما ابن صمادح فقد عاد أدراجه بخفي حنين، بعد أن انهار مشروعه(59).
إنّ اليهود الذين عملوا بالسياسة، اتّسموا بطابع الجشع في جمع الأموال واكتنازها والتفرقة بين الحاكم وبين ذوي قرباه، وبينه وبين بني شعبه، والعمل على إثارة الحروب لإضعاف المسلمين المتحاربين من الجانبين، والإقدام على اغتيال من يناصبهم العداء أو إبعاده عن النشاط السياسي والاجتماعي على الأقل وإلقاء تبعة الاغتيالات على غيره لتفريق الصفوف وتفتيت صفوف الشعب للتفرقة بينهم ومحاولة جمع السلطة بأيديهم بشتى الوسائل والأساليب غير الشريفة والتعامل مع الطامعين لاحتلال البلاد للتآمر معهم وتحريضهم على احتلال البلاد، طمعاً في الإبقاء على سلطتهم تحت ظل الحكم الجديد. إنهم كالقنبلة الموقوتة التي لا يعرف غيرهم بموعد انفجارها.
3 - مكيدة استخدام النساء للتأثير في الذين يريدون السيطرة عليه:
أ - ومن وسائل اليهود السياسيين استخدام النساء للوصول إلى صاحب السلطان، في البلاد التي يعيشون فيها. وعندئذ يسعون إلى تقطيع أوصال تلك البلاد وإفساد الثقة بين المسؤول وأعوانه، حتى يقع الجميع فريسة لهم، لأن الثقة المتبادلة إذا قلّت كثر تدبير المكائد، وأصبح الأصدقاء مظهراً أعداء مخبراً.
وعنذئذ يحاول يهود أن ينقلوا إلى من يريدون الظفر به وبسط نفوذهم عن طريقه، الأخبار التي توغر صدره على من صوروه له أنه خصمه ومنافسه وتملأ قلبه حنقاً وضغينة عليه حتى يبطش به وبأنصاره، فيخلو لهم الجو. ومن الأمثلة على ذلك، بعض القصص التي تردّدها أسفارهم المعتبرة عندهم ضمن الكتب المقدسة، ومنها سفر "أستير" وسفر "يهوديت".(/10)
ب - ويحتوي سفر أستير، على قصة امرأة يهودية جميلة اسمها: أستير، رآها يهود وسيلة مناسبة يصلون بها إلى السلطان في بلاد فارس، فعملوا بوسائلهم حتى أدنوها من ملك الفرس، فاستحسنها وتزوجها. ولمّا أصبحت زوجة الملك استطاعت أن تملك قلبه بفتنتها ودهائها، وبذلك استطاعت أن تؤثر فيه، وأن تجعل لابن عمها مردخاي حظوة عنده. ولمّا بلغ مردخاي مكان الحظوة عند الملك، أخذ يعمل بكل ما أوتي من حيلة ودهاء كي يبسط نفوذ يهود في فارس، ويمكّن لهم في بلاد الفرس، وعلا شأن يهود في بلاد فارس، وتنبّه إلى خطرهم وزير الملك : "هامان"، فأراد أن يكبح جماحهم، لكنّ اليهودي مردخاي لم يعبأ بالوزير الفارسي لأنّ ملكة القصر ابنة عمه، وسلطانها على الملك نافذ. وأخذ هامان يدبّر خطة لقتل اليهودي مردخاي والقضاء على نفوذ يهود فارس، فأوصلت العيون أنباء الخطة إلى مردخاي، فتركها تسير على منهجها المرسوم، دون أن يعمل على إحباطها قبل الأوان. وفي هذه الأثناء، كان مردخاي يشعر الوزير هامان بعدم علمه بما يجري ضده وينقل هو وابنة عمه إلى الملك ما يدبره هامان ويصوران المكيدة أنها ضدّ الملك نفسه، وأنّ هامان يريد قتله وسلب عرشه منه. وإمعاناً في المكر، فقد استطاع مردخاي أن يرتّب الأمور مع الملك ترتيباً دقيقاً، ويأخذوا الحيطة الكاملة، حتى كان اليوم الذي قرّر فيه الوزير هامان أن يقتل مردخاي شنقاً وينكّل بأنصاره من يهود فارس فخرج جنود الملك وأنصار مردخاي يحملون الأمر الملكي بقتل هامان وأنصاره، فقبضوا عليه وشنقوه بالمشنقة التي أعدها لمردخاي، وأسرع يهود في ظل هذا الجو المتوتر يقتلون أتباع هامان من الفرس، حتى بلغ من قتلهم اليهود منهم خمسة وسبعين ألفاً، وكان ذلك في اليوم الثالث عشر من شهر آذار "مارس" ولذلك صار اليوم التالي وهو اليوم الرابع عشر من آذار عيداً من أعياد يهود حتى اليوم(60).
ج - وينحو سفر: "يهوديت" نحو سفر أستير، في عرض قصة أخرى مشابهة لها، وهما جميعاً تعلمان اليهود بما يجب عليهم أن يعملوه في كل بلد ينزلون فيه، حتى يظفروا بالسلطة السياسية ويبسطوا نفوذهم على البلاد، مع التأكيد على اتخاذ عنصر النساء ضمن وسائلهم الكبرى التي يصلون بها إلى التحكم بذوي السلطة، كما يعطون دروساً بالمكر والمخادعة ونشر أخبث صور الفساد، واستعمال أشدّ أنواع العنف عند الظفر بمن يعارض خططهم الرامية إلى افتراس ما يريدون من مال أو سلطان.
وقد سار يهود عبر تاريخهم في تطبيق هذه التعاليم نصّاً وروحاً وزادوا عليها من مبتكراتهم ما يفوق الحصر، وكووا بنارها كلّ الأمم والشعوب، حتى غدا تاريخ كل أمة وكل شعب مشحوناً بمآسي جرائمهم وبقصص مكرهم(61).
وحين كنت في فلسطين مع الجيش العراقي سنة 1948، فُرضت الهدنة من قبل الأمم المتحدة بين العرب والعدو الصهيوني وحجز بين الجانبين ضباط من هولندا وبلجيكا وفرنسا، وكان هؤلاء الضباط ممثلو الهدنة على اتصال بالجانبين، فكانوا يتحدثون عن نشاط العدو الصهيوني في الترفيه عنهم جنسياً ومادياً ومعنوياً، على حين لا يجدون في الجانب العربي غير النوم في الخيام، وتناول أبسط الطعام في مطاعم الضباط العرب، وكان العدو الصهيوني بوسائله في الترفيه عن ممثلي الهدنة يكسبهم إلى جانبه حتماً، فسخّر بعضهم ليكونوا له عيوناً وجواسيس على العرب، مما جعل الضباط العرب في حذر شديد للغاية في لقاء ممثلي الهدنة الأجانب الذين يتنقلون بين الجانبين باستمرار.
إنّ تطبيق قصة أستير عملياً، يعتبر أسلوباً مشروعاً لدى اليهود وإلا ما تحدثت عنهم أسفارهم الدينية المعتمدة في التوراة والتلمود، فليكن ذلك نصب أعين العرب، دون أن يغتروا بالأماني والأوهام.
4 - مع الجمعيات السرّية
أ - زعم يهود أنّهم شعب الله المختار، وفضل الله منحصر فيهم، فلم يقبلوا بسبب أنانيتهم وحدهم اصطفاء الله لعيسى ابن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل عليه السلام، نبياً ورسولاً كما لم يقبلوا اصطفاء الله لمحمد بن عبد الله فخر العرب وخاتم الأنبياء ورسول الله للناس جميعاً عليه الصلاة والسلام. كما لم يستطيعوا أن يجعلوا من يهود كثرة كاثرة وقوّة قاهرة، فلجؤوا إلى سبل الحيلة والمكر سعياً لما تصبو إليه أحلامهم من بسط نفوذهم في الأرض، ومدّ سلطانهم، فوضعوا نصب أعينهم هدفين رئيسين، كي يستطيعوا بقلّتهم القليلة تحقيق هذين الهدفين، الظفر بالكثرة الكاثرة من الأمم من دونهم:
الهدف الأول: تجزئة أمم الأرض، وإغراء بعضها ببعض، وإثارة الحروب فيما بينها، وإيقاد الفتن داخل شعوبها، بتفتيت تلك الشعوب طائفياً وعرقياً.
والهدف الثاني: إفساد عقائد الأمم وإفساد مفاهيمها وأخلاقها ونظمها، وإبعادها عن أديانها، حتى تفقد هذه الأمم عوامل قوّتها ومجدها وتماسكها والانسجام الفكري بين أفرادها وجماعاتها.(/11)
ومن حيلهم التي اتخذوها لتجزئة الأمم وإفسادها، تأسيس الجمعيات السرّية، والجمعيات ذات الأهداف السريّة. ولعل من أهم هذه الجمعيات، هي الجمعية الماسونية، بمختلف أسمائها وانتماءاتها.
وأهم المحافل الماسونية بأسمائها المختلفة: أبناء العهد (بناي بريث)، أسس رسمياً في 13 من تشرين الأول 1834 في مدينة نيويورك.
والاتحاد اليهودي العالمي (اليانس إسرائيليت أو نيفرسل) أسس في فرنسا سنة 1860.
ومحفل لاينير أنتر ناشينال، مركزه في أمريكا، ويتبع محفل (بناي بريث) وهو يضم جمعية مكافحة التشهير ضدّ يهود. فمحفل الروتاري، وقد أسسها عام 1905 المحامي بول هاريس في شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو منتشر بمصر، وله ناد في القاهرة وآخر في الإسكندرية(62). والجمعيات الماسونية جمعيات يهودية تعمل لخدمة أهداف اليهود، وفي الفقرات التالية من بروتوكولات حكماء صهيون السريّة، دليل على هذه الحقائق، فقد جاء فيها قولهم:
"وإلى أن يأتي الوقت الذي نصل فيه إلى السلطة، سنحاول أن ننشئ ونضاعف خلايا الماسونيين الأحرار في جميع أنحاء العالم، وسنجذب إليها كل من يصير أو يكون معروفاً بأنه ذو روح عامة. وهذه الخلايا ستكون الأماكن الرئيسية التي سنحصل منها على ما نريد من أخبار، كما أنها ستكون أفضل مراكز للدعاية. وسوف نركّز هذه الخلايا تحت قيادة واحدة معروفة لنا وحدنا، وستتألف هذه القيادة من علمائنا، وسيكون لهذه الخلايا أيضاً ممثلوها الخصوصيون كي نحجب المكان الذي تقيم فيه قيادتنا حقيقة. وستكون لهذه القيادة وحدها الحق في تعيين من يتكلم، وفي رسم نظام اليوم. وفي هذه الخلايا سنضع الحبائل والمصائد لكل الاشتراكيين وطبقات المجتمع الثورية، وإنّ جميع الخطط السياسية السرية معروفة لدينا، وكل الوكلاء في البوليس الدولي السرّي تقريباً سيكونون أعضاء في هذه الخلايا، ولخدمات البوليس أهمية عظيمة لدينا، لأنهم قادرون على أن يلقوا ستاراً على مشروعاتهم، وأن يستنبطوا تفسيرات معقولة للضجر والسخط بين الطوائف، وأن يعاقبوا أولئك الذين يرفضون الخضوع لنا، ومعظم الناس الذين يدخلون في الجمعيات مغامرون، يرغبون أن يشقّوا طريقهم في الحياة بأي كيفية، دون جدّ أو عناء، وبمثل هؤلاء الناس سيكون يسيراً علينا أن نتابع أغراضنا، وأن نجعلهم يدفعون جهازنا إلى الحركة".
وجاء في البروتوكولات أيضاً قولهم:
"ومن الطبيعي أننا كنّا الشعب الوحيد الذي يوجّه المشروعات الماسونية، ونحن الشعب الوحيد الذي يعرف أن يوجّهها، ونعرف الهدف الأخير لكل عمل، على حين أن الأميين (أي: غير اليهود) جاهلون بمعظم الأشياء الخاصة بالماسونية، ولا يستطيعون رؤية النتائج العاجلة لما هم فاعلون. والأميون يكثرون من التردّد على الخلايا الماسونية عن فضول محض، أو على أمل نيل نصيبهم من الأشياء الطيبة التي تجري فيها، وبعضهم يغشاها أيضاً لأنه قادر على الثرثرة بأفكاره الحمقاء أمام المحافل. الأميون يبحثون عن عواطف النجاح، وتهليلات الاستحسان، ونحن نوزعها جزافاً بلا تحفّظ، ولذا نتركهم يظفرون بنجاحهم، لكي نوجّه لخدمتنا كل من تتملكهم مشاعر الغرور، ومن يتشربون أفكارنا عن غفلة واثقين بصدق عصمتهم الشخصية، وأنتم لا تتصورون كيف يسهل دفع أمهر الأميين إلى حالة مضحكة من السذاجة والغفلة، بإثارة غروره وإعجابه بشخصه، وكيف يسهل من ناحية أخرى تثبيط شجاعته وعزيمته بأهون خيبة، ولو بالسكوت ببساطة عن تهليل الاستحسان له، وبذلك ندفعه إلى خضوع ذليل".
وجاء في البروتوكول الرابع قولهم:
"مَن ذا، وماذا، يستطيع أن يخلع قوة خفيّة عن عرشها؟ هذا ما عليه حكومتنا الآن. إنّ المحفل الماسوني المنتشر في كلّ أنحاء العالم، ليعمل في غفلة كقناع لأغراضنا، ولكن الفائدة التي نحن دائبون على تحقيقها من هذه القوة في خطة عملنا وفي مركز قيادتنا ما تزال على الدوام غير معروفة للعالم كثيراً".
وجاء في البروتوكول الحادي عشر قولهم:
"إنّ الأميين (أي: غير اليهود) كقطيع من الغنم، وإننا الذئاب، فهل تعلمون ما تفعل الغنم حينما تنفذ الذئاب إلى الحظيرة؟ إنها لتغمض عيونها عن كل شيء. أي سبب أغرانا بابتداع سياستنا، وبتلقين الأميين إياها؟ لقد أوحينا إلى الأميين هذه السياسة دون أن ندعهم يدركون مغزاها الحقيقي، وماذا حفزنا وحملنا على هذا الطريق للعمل إلا عجزنا، ونحن جنس مشتت، عن الوصول إلى أغراضنا بالطرق المستقيمة، بل بالمراوغة فحسب؟ هذا هو السبب الصحيح وهو الأصل في تنظيماتنا التي لا يفهمها أولئك الخنازير من الأميين، ولذلك لا يرتابون في مقاصدنا. لقد أوقعناهم في كتلة محافلنا التي لا تبدو شيئاً أكثر من ماسونية، في عيون رفقائهم".(/12)
وأبلغ دليل على علاقة الماسونية بالصهيونية العالمية وإعادة بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى، تلك الرسالة التي وجّهها ماسونيان أميركيان، هما: غرايدي تبري وأودي مورفي إلى السيد روحي الخطيب أمين القدس، والتي جاء فيها: "أنا وزميلي أودي مورفي، عضوان في المحفل الماسوني: قديمان، وحرّان، ومعترف بنا ماسونياً، وأنتم تدركون أنّ هيكل سليمان، كان المحفل الماسوني الأصلي، والملك سليمان كان رئيس هذا المحفل، ولكنّ المحفل دُمِّر عام (70) بعد المسيح. إنني أقيم في المكان ذاته إلى جانب الصخرة التي قدّم عليها أبونا إبراهيم ابنه إسحق قرباناً للربّ... وإنني كمسيحي وعضو في الحركة الماسونية، أرأس جماعة في أمريكا يحبّون أن يعيدوا بناء هيكل سليمان من جديد، هذا هو اقتراحنا. إذا أعطى جامع عمر الأذن لمؤسستي فسوف نجمع (200) مليون دولار في أمريكا لهذه الغاية، أو المبلغ اللازم لإعادة بناء الهيكل... وعندما ينتهي بناء الهيكل، سيكرّس للرب، للملك سليمان والحركة الماسونية في العالم... الخ)، وقد ورد نصّ الرسالة في النشرة الدورية التي تصدرها في عمان اللجنة الملكية لشؤون القدس، والتي تحمل الرقم (67) تاريخ 1/10/1979.
ويبدو أن توقيت إحراق المسجد الأقصى جاء وليد ذكرى دينية تاريخية عند اليهود، فالتاريخ يفيد أن شهر آب (أغسطس)، يعتبر عند اليهود الشهر الحزين المهين الذي أقدم تيتوس خلاله على هدم الهكيل الثاني، وقد قطعت الحاخامية اليهودية بلسان حاخامها الأكبر في إسرائيل عهداً على نفسها بأن يكون شهر آب المناسبة الوحيدة التي تنطلق منها إسرائيل لهدم المسجد الأقصى، وإعادة بناء الهيكل، وفعلاً في شهر آب 1969 أقدم الشاب الأسترالي مايكل دينس روهان الذي كان يعيش في إحدى المستعمرات الاستيطانية اليهودية على جريمة إحراق المسجد الأقصى، وفي محاكمة صورية أطلق سراحه بحجة أنه يعاني من خلل عقلي.
وهذه الواقعة، تعطي دليلاً ماديّاً على استمرار محاولات اليهود لهدم المسجد الأقصى، كما أنّ رسالة الماسونيين الأميركيين تكشف عن العلاقة العضوية القائمة منذ البدء ما بين الصهيونية اليهودية والماسونية اليهودية(63).
وهذه بعض شهادات قسم من الشخصيات في الماسونية. قال الدكتور سيف الدين البستاني في كتابه "أوقفوا هذا السرطان" حقيقة الماسونية وأهدافها.. قال:
"الماسونية يهودية شعوبية مغرضة، وكلّ هدف الماسونية تمهيد السبيل لذوبان كل القيم ومحوها قبل انتصار السلطة اليهودية، فإذا مازالت هذه العقبات تحت ستار العالمية الموجّهة، سيطر زعماء اليهود على اقتصاديات العالم ومؤسساته المختلفة بصورة غير مباشرة، ثم انتقلوا إلى فرض السيطرة المباشرة"(64).
وقال الشيخ محمد أبو زهرة: "عرفت أنّ اليهود، وقد كانوا مضطهدين في أوروبا قبل (400) سنة تقريباً، هم الذين أنشؤوا الماسونية وجعلوا منها جمعية سرّية للدفاع عن مصالحهم"(65).
وقال محمد كرد على رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق: "الجمعية الماسونية ألعوبة صهيونية صرفة لا يهودية فقط، يسعى اليهود بواسطة نفوذها أن يعيدوا مجد صهيون، ومعنى مجد صهيون، نزع فلسطين العربية من أيدي العرب، وهي ملك العرب منذ ثلاثة عشر قرناً ونصف"(66).
وقال الشيخ محمد رشيد رضا: "الماسونية تسهّل عملية بيع الأراضي الفلسطينية لليهود"(67).
فلا مجال للشك مطلقاً بعلاقة الماسونية بالصهيونية العالمية وباليهود في العالم، وحسناً فعل العراق في مكافحة الماسونية وقطع دابرها في البلاد، فهل سرطان بدون شك، يصيب البسطاء وغيرهم من الذين تغريهم الشعارات، ولا يعرفون ماوراءها من أباطيل وضلال بعيد.
ب - وقضية محاربة الماسونية للدين، قضية لاتحتمل أي جدال أو مناقشة، لأنها من الأمور الكثيرة التي كشفتها تصرفاتهم العملية، واعترافاتهم وأقوالهم المنتشرة في كثير من الوثائق الصادرة عنهم من تصريحات وخطب وكتابات.
ولقد جمّع الباحثون كثيراً من أقوالهم، التي تدينهم بالسعي إلى بثّ الإلحاد بالله ومحاربة الأديان السماوية كلها عدا اليهودية، ومنها بحكم انعزاليتها وصيانة أقطاب الماسونية لها، في منأى عن هذه الحرب، وبذلك تظل العقيدة اليهودية ثابتة في نفوس اليهود، إلا من أراد من اليهود أنفسهم أن يقدموهم ضحايا لتحقيق أهدافهم في محاربة الأديان. وطبيعي أن يتبرأ أعضاء الماسونية الرمزية من ذلك، لأن معظمهم مضللون تسخرهم الأيدي الخفية اليهودية لأهدافها، دون شعور منهم.
فمن أقوال المحفل الماسوني الأكبر سنة 1912: " سوف نقوي حرية الضمير في الأفراد بكل ما أوتينا من طاقة، وسوف نعلنها حرباً شعواء على العدو الحقيقي للبشرية الذي هو(الدين)، وهكذا سوف ننتصر على العقائد الباطلة وعلى أنصارها". فمن الواضح أنهم يقررون في هذا التصريح، إعلان الحرب الشعواء على الدين، ويعتبرونه العدو الحقيقي للبشرية، ومرادهم في ذلك طبعاً جميع الأديان غير اليهودية.(/13)
"ويجب ألا ننسى أننا نحن الماسونيين أعداء للأديان، وعلينا ألا نألو جهداً في القضاء على مظاهرها".
وجاء في مضابط المشرق الأعظم الماسوني لسنة 1913 قولهم: "سوف نتخذ الإنسانية غاية من دون الله".
وجاء في مضابط المؤتمر العالمي للماسونية لسنة 1900 قولهم: "إننا لا نكتفي بالانتصار على المتدينين ومعابدهم، إنما غايتنا الأساسية هي إبادتهم من الوجود".
وفي مجلة: (أكاسيا) الماسونية لسنة 1903 قولهم: »إن النضال ضد الأديان لا يبلغ نهايته إلا بعد فصل الدين عن الدولة". ومن أقوالهم:"ستحل الماسونية محل الأديان، وإن محافلها ستقوم مقام المعابد".
وجاء في مجلة الشرق الأكبر التركية الماسونية قولهم: "لا يعنينا كفر الملحد أو ثواب المتدين أو وصف الجنة أو النار، وإذا وجد من يحاول العمل في ساحة الدين، فنتركه وشأنه مع الله، وإذا أصر على رأيه، فنرجو منه أن يتركنا، وألا يدخلنا بينه وبين الله".
وفي النشرة الرسمية التي أذاعها محفل الشرق الأعظم في فرنسا في شهر تموز سنة 1856 قولهم: "نحن الماسون لا يمكننا أن نتوقف عن الحرب بيننا وبين الأديان، لأنه لامناص من ظفرها أو ظفرنا، ولابد من موتها أو موتنا، ولن يرتاح الماسون إلا بعد أن يقفلوا جميع المعابد". وقال كوكفيل في محفل منفيس بلندن: "إننا إذا سمحنا لمسلم أو نصراني الدخول في أحد هياكلنا، فإنما ذلك قائم على شرط أن الداخل يتجرد من أضاليله ويجحد خرافاته وأوهامه التي خدع بها في شبابه".
وفي المحاضرة الرابعة لمحفل السلام الماسوني قولهم: "إن الماسونية تجرد الأفكار من الخرافات والنظريات اللاهوتية المدسوسة من قبل الأديان". وفي محاضرات محفل الشرق لعام 1923 قولهم: "إنه يجب أن تبقى الماسونية وتصرفاتها المستمرة لملة واحدة، وعليه يجب محو جميع الأديان ومنتسبيها من الأساس".
ومعروف في ترتيبات الماسونية وتصرفاتها المستمرة، أن الملّة الواحدة المقصودة بالبقاء هي اليهودية، وما عداها يجب بحسب تخطيطهم أن يحكم عليهم بالفناء.
ونوادي الروتاري والليونيز واجهات للماسونية، وتسألهم عن الروتارية والليونيز، فيقولون لك: هم بعض كبار الموظفين والصناعيين والفنيين والتجار، ومن لفّ لفّهم، يتصل بعضهم ببعض في اجتماعات عادية ولقاءات شخصية على الغداء أو العشاء يتم خلالها التعارف بين الإخوان القدامى والجدد الذين يتفهّمون ويحلّون مشاكلهم.
وإذا قيل لهم: فما لكم تصرّون على الاتصال برجالات الدولة من حكّام ووزراء ونوّاب، ليكون نشاطهم تحت رعايتهم؟ فيقولون: نحن نسعى إلى السلام العالمي والتفاهم بين الشعوب. وتسألهم: أليس في هذا الكون غير العرب واليهود من يحتاج إلى السلام والتفاهم؟
من ذلك نفهم أن أندية الروتاري والليونز تتدخّل بالسياسة والاقتصاد والثقافة وبكل شيء، ولأن نشاطهم يهدم الأخلاق والانتماء الوطني والديني، فقد صدر في 20 من كانون الثاني - ديسمبر 1950 مرسوم بابوي من المجلس الأعلى المقدس للفاتيكان يدين أندية الروتاري، ونص المرسوم: "دفاعاً عن العقيدة والفضيلة، تقرر عدم السماح لرجال الدين بالانتساب إلى الهيئة المسماة بالروتاري، وعدم الاشتراك في اجتماعاتها، وإن غير رجال الدين مطالبون بمراعاة المرسوم رقم 684 الخاص بالجمعيات السرية المشتبه فيها (الماسونية)"(68)، وأحرى بالعرب والمسلمين أن يحرّموا هذه النوادي على أفرادهم، وجماعاتهم. والمتتبع يرى حشداً كبيراً من الأقوال التي صرّحت بها المحافل والمؤتمرات والمنشورات الماسونية، ونطق بها كبار الماسونيين في عصور مختلفة، والتي تبيّن الأهداف الحقيقية لهذه المؤسسة اليهودية الصهيونية العالمية، والتي أصبحت من الأمور البديهية المعروفة عند جميع الباحثين، ألا وهي إعادة مجد بني إسرائيل، وتأسيس دولتهم الكبرى التي يريدون لها أن تمدّ سلطانها على العالم أجمع، وأن تهدم جميع الأديان السماوية والمذاهب الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية النافعة في الأرض، وأن ترفع لواء اليهودية وحدها. وما الدولة الصهيونية في فلسطين إلاّ وليدة هذه المخططات اليهودية التي استخدمت الجمعية الماسونية وسيلة من وسائلها(69)، ومن المؤسف حقاً أن ينتمي إلى هذه الجمعية السرية الهدامة بأسمائها المختلفة قسم من العرب والمسلمين، وهؤلاء عملوا في الماسونية في خدمة أهداف الصهيونية العالمية والكيان الصهيوني، فمثلهم كمثل من يطعن أُمه التي ولدته بخنجر مسموم، ثم يدّعي أنّه لم يكن يعرف أنّها أمّه حين طعنها، فمن غير المنطقي ولا من المعقول، أن ينتسب المسلم والعربي إلى منظمة تخدم الصهيونية وإسرائيل وهو لا يعرف عنها شيئاً، أو كان مغشوشاً بها، أو مضللاً بأهدافها وشعاراتها، فالماسونية صهيونية، والصهيونية ماسونية، وينبغي أن يكون ذلك معروفاً لكل إنسان.
يتبع إن شاء الله ..
الهوامش:(/14)
(21) الطبري - محمد بن جرير الطبري - تاريخ الطبري - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - ص(4/190 - 195) دار المعارف - القاهرة - 1963.
(22) ابن الأثير - عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد الشيباني - الكامل في التاريخ - (3/49 - 52)- دار صادر ودار بيروت - بيروت - 1965.
(23) ابن كثير - أبو الفدا الحافظ ابن كثير - البداية والنهاية (7/138) - مكتبة المعارف ببيروت ومكتبة النصر بالرياض - بيروت - 1966 - ط1.
(24) الطبري - مصدر سابق - (4/192 - 193).
(25) هيكل - الدكتور محمد حسين هيكل - الفاروق عمر (2/309 - 310).
(26) الفاروق عمر (2/323)، وانظر أيضاً ما جاء حول الموضوع في: الضابط - شاكر صابر - تاريخ المنازعات والحروب بين العراق وإيران - ص (236 - 241) - منشورات وزارة الثقافة والإعلام - بغداد - 1984.
(27) أهل الذمة: المعاهدون من أهل الكتاب ومن جرى مجراهم، انظر التفاصيل في: ابن قيم الجوزية - شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر - أحكام أهل الذمة - تحقيق د. صبحي الصالح - (1/16 - 17) - مطبعة جامعة دمشق - 1961 - ط1.
(28) انظر سيرته في: الزركلي - خير الدين - (4/228) - الأعلام - بيروت - ط2 - بلا تاريخ.
(29) الأعلام - مصدر سابق - (4/220).
(30) الطبري - مصدر سابق (4/317 - 326 و 326 - 329) وابن الأثير (3/137 و 3/144).
(31) الطبري (4/330 - 339) و (4/340 - 365) وابن الأثير (3/147).
(32) الطبري (4/365 - 396) وابن الأثير (3/167 - 180) وتاريخ أبي الفدا (1/169 - 170) وانظر مكايد يهودية - مصدر سابق - (166).
(33) ابن عساكر - علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي - تهذيب تاريخ دمشق الكبير - (7/431 - 434 - هذبه ورتبه الشيخ عبد القادر بدران - دار المسيرة - بيروت - 1979 - ط2.
(34) الميداني - عبد الرحمن حسن حبنكة - مكايد يهودية عبر التاريخ - دار القلم - بيروت - 1974.
(35) الطبري - مصدر سابق - (4/441).
(36) السلمية: بليدة في ناحية البريّة من أعمال حماة، بينهما مسيرة يومين، وكانت تعدّ من أعمال حمص، انظر التفاصيل في: معجم البلدان (5/112 - 113) - مطبعة محمد أمين الخانجي - القاهرة - 1906 - ط1.
(37) اليماني - محمد بن مالك - كشف أسرار الباطنية - كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة - القاهرة.
(38) مكائد يهودية - مصدر سابق - (174 - 175).
(39) انظر التفاصيل في: فضائح الباطنية - للغزالي - تحقيق د. عبد الرحمن بدوي - الدار القومية للطباعة والنشر - القاهرة - ،1964 وانظر: الملل والنحل (1/175) الهامش - الشهرستاني، وتاريخ المذاهب الإسلامية - للشيخ أبي زهرة - (2/545) - القاهرة - بلا تاريخ.
(40) القاموس المحيط (4/15) وشرح السير الكبير (1/168).
(41) كشاف القناع (1/704).
(42) خلدون حاجي معروف - الأقلية اليهودية في العراق - (25).
(43) الفريد ليلنتال - إسرائيل ذلك الدولار الزائف - ص (63).
(44) الفريد ليلنتال - ثمن إسرائيل - ص (146).
(45) مكائد يهودية عبر التاريخ - مرجع سابق - (206 - 209).
(46) مكائد يهودية عبر التاريخ - مرجع سابق - (209 - 210).
(47) عنان - عبد الله - دول الطوائف - مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر - (125) - القاهرة - 1960 - ط1.
(48) هي بالاسبانية (Daifontes) وتقع على قيد عشرين كيلو متراً من شمالي غرناطة.
(49) دول الطوائف (130).
(50) كتاب التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله بن بلقين المنشور بعناية ليفي بروفنسال - ص (42) - القاهرة - 1955.
(51) انظر الراحة في أخبار غرناطة (1/446 - 447) لابن الخطيب - القاهرة 1904 و1956، ودول الطوائف (131).
(52) التبيان - مصدر سابق - ص (39).
(53) البيان المغرب (3/265) والتبيان (40) وأعمال الأعلام لابن الخطيب ص (231).
(54) انظر كتاب التبيان ص (46 - 47 و50 - 53) - مصدر سابق.
(55) هو إسحق بن مسعود بن سعيد التجيبي الألبيري، كان فقيهاً محدّثاً أديباً شاعراً، سعى به الوزير يوسف لأمور نقمها منه لدى باديس، فأبعده عن غرناطة، فسكن البيرة القريبة منها، وانقطع إلى الزهد والعبادة، ولكنه لبث يحرض صنهاجة على اليهود في شعره ووعظه، حتى وقع الانفجار، وتمّ الفتك بهم، وتوفي البيري في أواخر سنة 459هـ بعد أن شهد آثار تحريضه في بطش صنهاجة باليهود.
(56) العلق: النفيس من كل شيء يتعلّق به القلب. (ج) أعلاق، وعلوق.
(57) العُرى: قادة الجيش، ويريد هنا: رؤساءهم وسادتهم، وهي جمع: عُرْوَة.
(58) نشر ابن الخطيب في: أعمال الأعلام هذه القصيدة بأكملها، وهي (43) بيتاً، ص (231 - 233) ونشرها دوزي في كتابه: Recherches, V1, Appxxvi
(59) التبيان (54)، والذخيرة - القسم الأول - المجلد الثاني - ص (271 و 272)، والإحاطة (1/447 - 448)، وأعمال الأعلام (233)، والبيان المغرب (3/266 و 275 - 276).(/15)
(60) انظر تفاصيل القصة في الكتاب المقدس - العهد القديم - سفر أستير - الإصحاح: 1 و2و3 و4 و5 و6 و7 و8 و9 و 10 - (533 - 543) - بيروت - 1945 - ط3.
(61) مكائد يهودية (217) - مصدر سابق.
(62) حسين عمر حمادة - شهادات ماسونية - (10 - 12) - دار قتيبة - بيروت - ط1-1980.
(63) شهادات ماسونية - مرجع سابق - (42 - 47).
(64) البستاني - سيف الدين - أوقفوا هذا السرطان - (15 - 112) - دار النهضة العربية - دمشق - 1959.
(65) مجلة القوات المسلحة المصرية - رقم 412 - أيار - مايو - 1964.
(66) محمد كرد علي - المذكرات - (408 - 409) - مطبعة الترقي - دمشق - 1367هـ - 1948م.
(67) رشيد رضا - إبراهيم العدوي (260 - 261) - القاهرة - 1964.
(68) شهادات ماسونية - مصدر سابق - (122 - 123).
(69) مكائد يهودية - مصدر سابق - (233 - 238).
التّصور الصّهيوني
للتفتيت الطّائفي والعرقي
-3-
اللواء الركن: محمود شيت خطاب
مكائد الصهيونية من قُبيل سنة 1948 حتى اليوم
1 - التفتيت الطائفي والعرقي في الفلسطينيين قُبيل سنة 1948
كان الجيش العراقي في سنة 1948 ضمن الجيوش العربية في فلسطين، وكنتُ أحد ضباط الجيش العراقي مع اللواء الذي يعسكر في منطقة جنين الباسلة، وكنت أعمل ضابط ركن اللواء برتبة رائد ركن، وأنوب عن الحاكم العسكري لمدينة جنين، كما كان أهل جنين يحبون الجيش العراقي حباً جماً، ويرعون منتسبيه رعاية كاملة، فكانوا بعطفهم القلبي عليهم قد أنسوهم أهلهم في العراق، لأنهم أصبحوا أهلهم بحق في فلسطين، فكان الاختلاط بين أهل جنين، وبين منتسبي اللواء العراقي الذي يحلّ بين ظهرانيهم مستمراً وثيقاً، كأهل عائلة واحدة تماماً.
وكنت بحكم منصبي (ضابط ركن اللواء) الذي له اتصال مباشر بالفلسطينيين وبحكم نيابتي عن الحاكم العسكري مرات عديدة، واختلاطي الوثيق بأهل جنين أطّلع على تفاصيل الروابط الاجتماعية في منطقة جنين عامة ومدينة جنين خاصة فعلمت بوضوح أن الصهاينة عملوا على تدمير الروابط الاجتماعية بين سكان منطقة جنين تدميراً شنيعاً، بحيث فتّتوا السكان تفتيتاً كاملاً، حتى أصبح سكان كل قرية أعداء لسكان القرى الأخرى، وسكان القرية الواحدة أعداء لبعضهم البعض على مستوى العوائل، فكل عائلة تكون وحدة مستقلة، ترى نفسها جديرة بكل خير، وغيرها جدير بكل شر، كما ترى نفسها أحسن من غيرها من العوائل قدراً وقوة وشرفاً، وأن مظهرها يدل على التصافي والوفاق، أمام الخُصوم حسب، ولكن الاطلاع على الدخائل يظهر التمزّق بوضوح.
استولى الصهاينة على مدينة جنين، ففرح بنكبتهم أهل قباطية، وقباطية جنوبي جنين وعلى بعد ثلاثة كيلومترات منها، وسقوط جنين يؤدي حتماً إلى سقوط قباطية. وعلمت أن عوائل قباطية تدب على أشجار الزيتون ليلاً وتشعل فيها النيران، ثم تعود إلى القرية ليلاً مستفيدة من الظلام، وكان في كل يوم تقريباً ينشب حريق في أشجار الزيتون وأشجار الحمضيات، فتدخلت بصفتي وكيلاً للحاكم العسكري، فقلت للعوائل المتناحرة بعد أن حشدتها في صعيد واحد: لماذا لا تحرقون أشجار الزيتون والحمضيات التابعة للصهاينة، وهي قريبة منكم؟ والعداوة ناشبة بين العوائل، والشغب بينها قائم على قدم وساق، والصهاينة بسلام.
كان بريد اللواء يحمل رسائل من الأهالي، أكثرها »إخباريات« فيها اتهامات خطيرة جداً، ولكنها خالية من التوقيع، وكان قسم من الأهالي يطلبون مواجهة آمر اللواء، فلا يقولون خيراً إلا نادراً. وحين نضطر إلى استخدام أحدهم في وظيفة من الوظائف، تتناقض أقوال معارفه عنه تناقضاً كبيراً.
وكانت أكثرية أهل جنين مع المفتي الحاج أمين الحسيني عليه رحمة الله، ولكن الأقلية ترفضه رفضاً شرساً، وكان الفدائيون العرب يدافعون في المناطق دفاعاً واهناً، وهؤلاء بحاجة إلى دعم بالرجال، ولكنك لا تجد من يدعمهم عملياً من الشباب الفلسطيني بحجج مختلفة: قسم يدعون بأنهم لا يثقون بهم، وقسم يطالبون بالسلاح للقتال بصورة مستقلة، ولكن من يتولى قيادتهم منهم؟ هنا تسكب العبرات، فكل عائلة تريد أن تستأثر بالقيادة، وترفض رفضاً قاطعاً أن تعمل بإمرة غيرها.
وحين نظم الجيش العراقي وحدات من الفلسطينيين بقيادة ضباط عراقيين، أقبل الشباب الفلسطيني على التطوع في هذه الأفواج، وكان تقبلهم للتدريب ممتازاً حقاً، ولكن كان الضباط لا ينفكون يحلون المشاكل الداخلية الناشبة بينهم، كل واحد منهم يريد أن ينتظم ضمن حظيرة معينة، في فصيل معين، في سرية معينة، مع من يحب ويهوى، لا مع من يعادي ويخاصم، حتى في مجال التكليف بواجب معين، فلابد أن يراعى الانسجام الشخصي، ومع ذلك لا يكاد ينتهي الواجب، إلا ويتبعه سيل جارف من الاتهامات من جهة والادعاءات من جهة أخرى: إلقاء اتهام التقصير على الخصوم، وادعاء النجاح للأصدقاء، ثم يتنافس المدّعون فتضيع الحقائق في ضجيج الاتهامات والادعاء.(/16)
لقد مهد الصهاينة بهذا التفتيت الطريق للتغلب على السكان الفلسطينيين بسهولة ويسر، وهذا ما حدث فعلاً بعد إعلان مولد الكيان الصهيوني في منتصف عام 1948 ونشوب الحرب، إذ لم تكن المقاومة الفلسطينية للعدو الصهيوني كما ينبغي، فكان القصف الصهيوني الذي يعقبه هجوم المشاة الصهاينة، يؤدي إلى نزوح الفلسطينيين عن قراهم دون مسوِّغ يذكر.
إنّ التفتيت أدىّ إلى الهزيمة المعنوية، ولا أهمية للحشود بدون معنويات عالية.
2 - السّعي لتحقيق الأحلام الصهيونية
أ - رأي سِيْف:
يعلم الصهاينة علم اليقين، أنهم لا يستطيعون العيش في فلسطين، والعرب والمسلمون يحيطون بهم من كلّ جانب، وانطلاقاً من هذا الشعور، يرى قادتهم أنه لا حياة لهم في الأرض المحتلة، إلا إذا تمكنوا من إقامة دويلات طائفية في البلاد العربية عامة، لتكون ضعيفة في كلّ مكان، وإقامة دويلات طائفية في لبنان، تعزل الكيان الصهيوني عن البلدان التي يشكل فيها العرب المسلمون أغلبية مطلقة.
إن تمزيق البلاد العربية والعالم الإسلامي، إلى دويلات طائفية وأخرى عرقية، حلم طالما داعب قادة الصهاينة قديماً وحديثاً، وأصبح الحلم حقيقة، عندما تمكن الصهاينة من تأسيس كيانهم في الأرض المحتلة واجتياح لبنان سنة ،1982 وتأسيس قوّة لبنانية موالية لهم علناً على حدود الكيان الصهيوني الشمالية، تدافع عن الكيان الصهيوني، وتحارب قومها خدمة للصهيونية.
ولم يكن تنفيذ هذه الخطوة مرتجلاً، فقد كتب: إسرائيل سيف، الذي كان الذراع اليمنى لحاييم وايزمن مقالاً في مجلة: "فلسطين" الصادرة يوم 17 شباط - فبراير 1917، قال فيه: "قمت بدراسة مستفيضة للمشكلة السياسية الجغرافية في فلسطين، وقد توصّلت إلى نتيجة مفادها، أن الحدود الشمالية لفلسطين، يجب أن تمتد إلى شمال صيدا، ثم تتحرّك بعيداً عن البحر، لتضمن حوران وتلال الجولان، ويجب أن تمتد الحدود الشرقية بمحاذاة خط الحجاز للسكك الحديد، على أن تكون على مسافة تتراوح بين عشرة كيلومترات وعشرين كيلو متراً شرق الخط، وبهذا تشمل حدود فلسطين أفضل مناطق تساقط الأمطار، والتي اصطلح على تسميتها بعد ذلك باسم شرقي الأردن.
وفي خطاب إلى وايزمان، شرح: إسرائيل سيف وجهة نظره، فكان مما قاله: "إنني متأكد أنّك ستوافق على أنّ فلسطين بدون حوران وخط الحجاز للسكك الحديد، لن تعنى بالنسبة إلينا -نحن اليهود- مجرّد فلسطين محدودة وضيقة، بدون أيّ أمل في التوسّع، ولكنها تعني أيضاً فلسطين مهددة من جانب مجموعة قوية من العرب، ستجعل موقف شرقي الأردن دقيقاً باستمرار".
إذن كان الصهاينة اليهود في عام 1917، جادّين في محاولة إقامة دولة يهوديّة تضم فلسطين وجنوب لبنان والجولان وحوران -أي جنوب سورية- وشرقي الأردن(70)، ولم يكن رأيهم هذا جديداً، وقد نفذوا جزءاً منه في حرب 1967، وجزءاً منه في حرب 1982 في لبنان.
ب - مذكرات بن غوريون:
شارك بن غوريون في المؤتمر الذي عقده المجلس العالمي لعمال صهيون في زيوريخ بسويسرا سنة 1937، وأدلى خلال المؤتمر بالتقرير التالي: "... إنّ واحداً من الامتيازات الأساسية التي أراها في مقترحات اللجنة الملكية، هي رسم الحدود الشمالية للدولة بمحاذاة لبنان، فإلى جانب القيمة التاريخية لجبال الجليل وأهميتها العملية للأمة، يُشكّل جوار لبنان دعماً سياسياً هائلاً للدولة اليهودية. لبنان هو الحليف الطبيعي لأرض إسرائيل اليهودية، فإن شعب لبنان المسيحي يواجه مصيراً مشابهاً لمصير الشعب اليهودي في هذا البلد!! مع فارق واحد، هو أنه ليس بإمكان مسيحييّ لبنان التزايد بواسطة الهجرة الآتية من الخارج.. سيقوم جوار لبنان للدولة اليهودية حليفاً مخلصاً من اليوم الذي ستتأسس فيه، وليس من المستبعد أن تتاح لنا الفرصة الأولى -للتوسع عبر الحدود الشمالية- في منطقة جنوب لبنان المتاخمة للدولة اليهودية، وذلك بالاتفاق الكامل مع جيراننا وبركتهم، لأنّهم بحاجة إلينا".
وجاء في مذكراته المؤرخة في 21 مايو - أيار 1947: "إنّ نقطة الضعف في التآلف العربي هو لبنان، وإن السيطرة الإسلامية في هذه الدولة مصطنعة، ويمكن الإطاحة بها بسهولة، ويجب إنشاء دولة مسيحية هناك، تكون حدودها الجنوبية على نهر الليطاني وسوف نوقّع معاهدة تحالف مع هذه الدولة.(/17)
وفي يوم 27 شباط - فبراير 1954 قال بن غوريون في خطاب عام: "إنهم -أي المسيحيون اللبنانيون- يمثلون الأغلبية في لبنان القديم، وهذه الأغلبية تختلف من ناحية الثقافة والعادات والتقاليد عن سكان بقية الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، وحتى في لبنان بحدوده الواسعة الحالية -كان أكبر خطأ ارتكبته فرنسا، توسيع نطاق الحدود اللبنانية- لا يتمتع المسلمون بحرية أن يفعلوا ما يشاؤون، حتى إذا كانوا يشكّلون الأكثرية هناك- وإني لست واثقاً بأيّ حال من الأحوال بأنهم يشكلون أغلبية السكان- ويرجع عدم تمتعهم بالحرية إلى خوفهم من المسيحيين، ولهذه الأسباب تصبح إقامة دولة مسيحية هناك أمراً طبيعياً، فإنّ لها جذوراً تاريخية، كما أنها ستتمتع بتأييد دوائر واسعة في العالم المسيحي، الكاثوليكي والبروتستانتي". "وفي الأحوال العادية يكاد يكون تحقيق ذلك أمراً مستحيلاً، وذلك بسبب افتقار المسيحيين أساساً إلى الشجاعة وروح المبادرة. ولكن عندما تسود الفوضى أو القلاقل أو الحرب الأهلية، تتخذ الأمور شكلاً آخر، حتى يعلن الضعيف نفسه بطلاً..."(71).
وسادت القلاقل والحرب الأهلية في لبنان، واتخذت الأمور شكلاً آخر، وأصبح قسم من المسيحيين يجاهرون علناً بالدولة المسيحية، مما يدل على أنّ القلاقل والحرب الأهلية في لبنان، مصدرها الصهيونية وعملاؤها على اختلاف مللهم ونحلهم مواطنهم.
ج - خنجر إسرائيل:
في سنة 1958، أصدر الكاتب الهندي: "كرانجيا" صاحب مجلة بليتز الهندية كتاباً أسماه: "خنجر إسرائيل" وقد تضمّن الكتاب وثيقة سريّة أعدّتها الأركان العامة الإسرائيلية ننشر فيما يلي بعضاً مما جاء فيها: "لتقويض الوحدة العربية، وبث الخلافات الدينية بين العرب، يجب اتخاذ الإجراءات منذ اللحظة الأولى من الحرب، لإنشاء دول جديدة في أراضي الأقطار العربية هي:
1 - دولة درزية (تشمل المنطقة الصحراوية وتدمر).
2 - دولة شيعية: تشمل قسماً من لبنان في منطقة جبل عامل ونواحيها.
3 - دولة مارونية: تشمل جبل لبنان حتى الحدود الشمالية الحالية للبنان.
4 - دولة علوية (نصيريّة): تشمل اللاذقية حتى الحدود التركية.
5 - دولة أو منطقة ذات استقلال قبطي.
وستوزّع الأراضي العربية، بما في ذلك المنطقة الصحراوية بين الدول الجديدة. أما المناطق العربية التالية، فستبقى على حالها: دمشق، جنوب العراق، مصر، المنطقة الوسطى والجنوب من العربية السعودية. ومن المرغوب فيه أن يصار إلى إيجاد ممرات واسعة غير عربية، عبر هذه المناطق العربية"(72).
وجاء في هذه الوثيقة: "ويجب خلق الأحوال الآيلة إلى التعاون مع الشعب في سورية ولبنان، وسيتطلب الأمر أن نظهر الودّ حيال الدروز والموازنة، وأن نؤيد أمانيهم بإقامة دولتين مستقلتين"(73).
وجاء في هذه الوثيقة أيضاً: "إذكاء نيران الخلافات الداخلية بين الشعوب العربية"(74). وجاء فيها: "لا تستطيع الدول العربية أن تجابه إسرائيل بمقاومة كبرى، إلا إذا كانت متحدة. وطالما ليس ثمة قطر عربي أقوى من إسرائيل وحده، وبالتالي طالما لا يستطيع أي قطر عربي أن يشنّ بمفرده حرباً على إسرائيل، فإن الوحدة العربية في الحرب هي جوهريّة. لقد استوعب العرب دروس الحرب الفلسطينية، ولذلك فهم ينافحون الآن للوصول إلى الوحدة السياسية والعسكرية.
"وإن معاهدة الضمان الجماعي العربي الحالية، قد تكون بمثابة قاعدة لعمل مشترك، تقوم به الجيوش العربية الموقعة على المعاهدة، ولهذا يرتدي أعظم الأهمية بالنسبة لنجاح عملياتنا الحربية، ذلك العمل السياسي التمهيدي الذي يجب أن تقوم به في الأقطار العربية، بمساعدة الدول الغربية، إن هذا العمل السياسي التمهيدي، يرمي إلى بذر بذور الشقاق بين الدول العربية".
ويرى المراقبون تنفيذ هذه المخططات الصهيونية في لبنان، ومعاهدة الضمان الجماعي العربي غائبة عن الميدان في سبات عميق، والتفتيت الطائفي والعرقي يبدو واضحاً في لبنان وفي غير لبنان أيضاً مع الأسف الشديد، وذلك كله لمصلحة العدو الصهيوني ومن وراءه من دول الاستعمار القديم والحديث.
د - الرسائل المتبادلة بين إدّه وكيسنجر:
قام ريمون إدّه بنشاط هائل، زعم أنه من أجل منع تقسيم لبنان، وكان من أبرز نشاطه زيارته للولايات المتحدة الأمريكية ومعظم العواصم الأوربية، وختم جولاته برسالة بعثها إلى وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية، وصفه فيها: بأنه مهندس الحرب اللبنانية بتكليف من إدارة البيت الأبيض، وننقل فيما يلي ما يخصّ تقسيم لبنان من الرسالة: "... إنّ المخطط يقضي إعطاء البقاع وطرابلس وعكّار -أي المنطقة التي اقتطعت من سورية عام .192 وضمّت إلى لبنان- تكون هذه الأراضي بدلاً عن الجولان التي لن تتنازل عنها إسرائيل، وما تبقى من لبنان يُقسم ثلاثة أقسام:
الأول: شمال طريق بيروت - شتورة للمسيحيين.
والثاني: ويقع جنوب الطريق المذكور حتى نهر الليطاني، يعطى للبنانيين المسلمين وللفلسطينيين.(/18)
والثالث: ويقع بين الليطاني والحدود اللبنانية - الإسرائيلية، تحتله إسرائيل من أجل تأمين المياه اللازمة لها".
وردّ كيسنجر برسالة بعث بها إلى إدّه جاء فيها: "إن الزلازل لا تحدث إلا في الأرض المشقوقة، ولا أكتمك أن لبنان هو بلد مثالي لتحقيق المؤامرات، ليس ضدّه فقط، وإنما ضد العالم العربي ككل، ومن هنا اكتشفت في تناقضاته عناصر جديدة لنصب فخ كبير للعرب جميعاً. إن التناقضات اللبنانية هي التي كانت تؤمن لنا الخطة وسلامتها، مرة واحدة حدث خطأ عربي - أوروبي، كاد يجمّد حركة العملية، وسارعت بإرسال (براون) وهو مهندس سياسي اختصاصي بعمليات الشرق الأوسط، وقد اكتشف بسرعة موضع الخلل، ثم أعاد ضبط الجهاز الكبير الذي يحرّك الأمور حسب الأهداف المطلوبة والخطة المرسومة. وقد تسأل يامستر إدّه عن طبيعة هذه الخطة! لا أكتمك أنني بدأت بشيء، ثم انتهيت بشيء آخر. كان همي الوحيد أن أبعد الاتحاد السوفياتي عن مجال التدخل والحسم والمشاركة في حلّ أزمة الشرق الأوسط، كما أسعى إلى تأجيل مؤتمر جنيف والاعتراف بمنظمة التحرير إلى ما بعد انتخابات الرئاسة، أي مدة سنتين على الأقل، ثم تشعبت مطامحي بعد أن رأيت أن خصوبة الأحداث الدامية في لبنان قد أسقطت صيغة التعايش المطروحة، وبعد ما بدا لي أن ما كان يحلم به موشي شاريت عندما كتب رسالته الشهيرة إلى بن غوريون في 18/3/1954 أصبح سهل المنال.
"فقد تحدّث الرجلان الإسرائيليان يومها عن وجوب تقسيم لبنان إلى دولتين طائفيتين، وإنما دعني أستعمل عبارة شاريت حرفياً: (لا جدوى ولا فائدة من محاولة إثارة حركة من الخارج، إذ ا لم يكن لهذه الحركة وجود في الداخل، ومن الممكن تعزيز روح حيّة إذا كانت تنبض من تلقاء نفسها، وليس من الممكن بعث الروح في جسد لا تبدو عليه دلائل الحياة)، هذا ما قاله شاريت حرفياً عن لبنان، لذلك أريدك ألا تجعلني مسؤولاً عن خطة كانت إسرائيل تمهّد لها منذ عام 1954. صحيح إنني أفكر بخلق دويلات شبيهة بإسرائيل، بعدما أخفقت في إقناع الدول العربية بفكرة الصلح الانفتاحي، وفي قبول هذه الدولة -أي إسرائيل- جزءاً من المنطقة، ولكن الصحيح أيضاً أن الأحداث الدامية التي افتعلناها أمّنت لنا أرضية مثالية لتقسيم النفوس الموحّدة، وتدمير صيغة التعايش، وإحداث خلل أساسي في النظام الديمقراطي الوحيد في المنطقة"(75).
ولا مجال للتشكيك في الرسالتين، لأن أحداث لبنان تطبيق عملي لرسالة كيسنجر، ومن جهة أخرى لم يصدر عن الرجلين أي تكذيب لما نشرته الصحف عن الرسالتين، علماً بأن رسالة كيسنجر فيها تجريح لريمون إدّه، ومن مصلحته لو كانت الرسالة غير صحيحة أن يصدر بياناً ينكر فيه اطلاعه على مثل هذه الرسالة.
هـ - الإمارة الدرزيّة:
بعد سقوط الجولان بيد العدو الصهيوني، جرت محاولات بين الكيان الصهيوني وقسم من رجالات الدروز، في الجولان المحتلة وفي أوروبا، لتشكيل إمارة درزيّة. وقد انكشفت هذه المحاولات، وأدلى من جرى الاتصال بهم من الدروز بشهاداتهم، فتوقفت المحاولة علناً، ولم تتوقّف سرّاً .
حدود الدولة الدرزية: تمتد هذه الدولة أو الإمارة الدرزية، في جبل الدروز، إلى الشاطئ اللبناني محيطة بإسرائيل، وتشمل محافظة القنيطرة، وقضاء قطنا، وضواحي دمشق (بعض قرى الغوطة الدرزية)، فقضاءي حاصبيا وراشيا، ثم الشوف وقضاء عاليه حتى خلدة، بما في ذلك بلدة الشويفات.
عاصمة الإمارة: من المقرر أن تكون السويداء أو بعقلين عاصمة هذه الإمارة، وذلك حسب أيّ من دروز لبنان أو سورية، يكونون أكثر تعاوناً مع إسرائيل.
علم الدولة: هو العلم ذو الألوان الخمسة الذي وضعته فرنسا للدولة الدرزية، بعد تقسيمها لسورية، على أيام الاحتلال الفرنسي.
السكّان: يكون المسلمون السنيون والشيعة في لبنان الجنوبي (المشمول في الإمارة) وكذلك في حوران والبقاع الغربي، مخيّرين في البقاء كأقلية لا شأن لها ضمن الإمارة الدرزية أو الرحيل. أما المسيحيّون، فلا ضير من بقائهم، ويمكن إشراكهم في الحكم كأقليّة.
المقومات الاقتصادية: مضمونة من قبل إسرائيل بتعهدات أمريكية، يصبح ميناء صور بعد تطويره الميناء التجاري للإمارة، ويبقى ميناء صيدا لتصدير النفط.
رصدت أمريكا مبلغ ثلاثين مليون دولار للبدء بتهيئة الأجواء لتنفيذ المخطط(76).
وهناك دراسات تشمل طوائف شتى وقوميات مختلفة، معروفة في الوطن العربي، ضربت عنها صفحاً لأنها معروفة، ولأنَّ النشاط الصهيوني في التفتيت الطائفي والعرقي نشاط مشهود، لا يكاد يخفى على كل ذي عقل سليم.
الخاتمة
لا تقتصر الصهيونية على إحباط محاولات العرب للوحدة العربية السياسية والعسكرية والاقتصادية، بل تحاول جاهدة لتفتيت الوطن العربي إلى دويلات طائفية وعرقية، ليصبح في كل قرية منبر وعلم وأمير، وبذلك تحقّق الصهيونية شعارها الذي رفعته من سنة 1948 حتى اليوم، وهو: ولدت الصهيونية في الأرض المحتلة لتبقى.(/19)
وليس بإمكان الكيان الصهيوني أن يبقى في محيط، يتفوّق عليه عددياً بنسبة سبعين من العرب على واحد من الصهاينة، وسعة بنسبة أربعين للعرب إلى واحد للصهاينة، كما أن الطاقات العربية المادية والمعنوية متفوقة بالنسبة للعرب على الصهاينة تفوقاً ساحقاً، ولكن هذه الطاقات الضخمة غير منظمة كما هو الحال في تنظيم الطاقات الصهيونية، فإذا بقيت الطاقات العربية ساعةً غير منظمة، فلن تبقى كذلك إلى قيام الساعة، لذلك أنذر الصهاينة عقلاؤهم وحكماؤهم، بأن مصيرهم مظلم على المدى البعيد، وأن تجمعهم في موطن واحد، له أفدح العواقب. إذ تكون الصهيونية مهددة بالاندحار وتكبيدهم خسائر فادحة في الأموال والأرواح. وقد صدرت عشرات الكتب تنذر الصهاينة بالمصير المظلم كما هو معروف.(/20)
ولكن الصهاينة لم ينصتوا إلى مفكريهم وآراء حكمائهم، فتغلبت الصهيونية في اتجاهها السياسي على الحكمة، فكان على الصهاينة أن يعملوا على إضعاف جيرانهم بالتفتيت الطائفي والعرقي تارة، وحرمانهم من التفوق التقني تارة أخرى، والعمل على سيادة: الحضارة العبريّة، بإضعاف نفوذ الديانتين الإسلامية والمسيحية السائدتين في البلاد العربية تارة أخرى، ليكون بإمكان الصهاينة الاستيلاء على إسرائيل الكبرى: من النيل إلى الفرات(77)، والسبيل إلى نشر الحضارة العبرية: هو التعليم العبري من جهة، وتكريه العرب بدينهم وقيمهم العليا من جهة أخرى. فقد كانت الكتب المقررة لدراسة التاريخ في المدارس اليهودية في العراق، ترتكز على موضوعات معينة ذات دلالات خاصة، مثل: »أورشليم«، وعلى ما يسمى بالسبي البابلي لليهود، ومواقف العرب من اليهود قبل الإسلام وبعده، وكيف هبت ملوك الفرس لمساعدة اليهود وأعانوهم في العودة إلى فلسطين وبناء الهيكل من جديد. وفي جميع الدراسات التاريخية تشويه مقصود للتاريخ العربي - الإسلامي، وإثارة الحقد والضغينة على العرب والمسلمين وتراثهم الحضاري، وإظهار التاريخ اليهودي بمظهر الفاعلية والطاقة السياسية والاجتماعية، مما يغرس في نفوس الطلاب اليهود في العراق منذ نعومة أظفارهم: أفكار معاداة العرب، ورفض التعايش معهم، ومبادئ الدعاية للصهيونية، ويعدّهم فكرياً وسياسياً لخدمة أهداف الصهيونية، وفي الوقت الذي كانت جميع المدارس اليهودية في العراق تدرّس وبلا استثناء، اللغة العبرية، وهي في مناهجها ليست لغة دين فقط، وإنما هي أداة لتحقيق الوحدة بين يهود العراق ويهود العالم، وتعميق الشعور بالمصير اليهودي الواحد. والأكثر أهمية، أنّ طلبة المدارس اليهودية في العراق من البنين والبنات، كانت تشدّهم جميعاً الرابطة اليهودية التي توثقت عراها في الأحياء اليهودية المغلقة، وفي المدارس اليهودية والمعابد الملحقة بها، وفي النشرات والصحف والمجلات العبرية التي تقوم بتوزيعها المنظمات الصهيونية في العراق (في حينه)، فقد عملت هذه الرابطة على توجيه أبصارهم وقلوبهم إلى فلسطين، قبل قيام الكيان الصهيوني، وبعد قيامه عام ،1948 فأضعفت ولاءهم إلى حد كبير للعراق الذي يعيشون على أرضه، وينعمون بخيراته، وينالون العطف والتسامح من أهله، وعمقت في نفوسهم الحقد والكره على غير اليهود من أبناء الشعب العراقي. كما أن المعلمين والمدرسين اليهود الذين قدموا من فرنسا وغيرها من الأقطار الأوروبية ومن فلسطين، للتدريس في المدارس اليهودية في العراق، كانوا يحملون أفكاراً معادية للعرب وللغة العربية وللتاريخ العربي وتراث العرب الحضاري، ويجهدون من أجل نشرها بين طلبة المدارس اليهودية، وبخاصة الأطفال منهم في رياض الأطفال وفي الصفوف الأولى للدراسة الابتدائية: "إن الطفل الصغير، يقرأ وهو في سنيه الأولى، كتاباً عبرياً طبعته له منظمات صهيونية في فلسطين، حاولت من خلاله تنشئة الطفل نشأة صهيونية محضة، فيتقزّز من منظر عربي وينفر من كل ما يسمى وطناً عربياً"(78). وكان الحرص على تعلّم اللغات الأجنبية والتحدّث بها بطلاقة في المدارس اليهودية، أشد كثيراً من الحرص على تعلم اللغة العربية، كل ذلك، من أجل قطع رابطة الطالب اليهودي والطالبة اليهودية باللغة العربية، أو لتهمل دراستها وإجادة الكتابة بها، فمدير مدرسة (الأليانس) اليهودية في العمارة على سبيل المثال، كان يُقاصص كل طالب يتكلم اللغة العربية، ويجبرهم على التكلم باللغة الفرنسية"(79)، وفي طريق تنفيذ المخطط الصهيوني للاستيلاء على أرض فلسطين العربية، فقد وجّهت المدارس اليهودية في العراق عناية خاصة جداً، وبأسلوب دقيق وغير مباشر، ولكن نشيط وفعّال، بالتثقيف العسكري والتجسس. وقد أثبتت التحقيقات التي قامت بها الأجهزة الأمنية مع العناصر التي عملت في المنظمات الصهيونية الإرهابية في العراق، أن المدارس اليهودية، كانت من أخطر البؤر التي عملت على تجنيد الناشئة اليهود في التشكيلات العسكرية التخريبية، والتدريب على الأسلحة وصنع القنابل والمتفجرات وكيفية استخدامها(80) وأغلب معلمي ومدرسي المدارس اليهودية في العراق الذين يدرّسون اللغة العبرية -إن لم نقل جميعهم- كانوا من دعاة الصهيونية ومن المتحمسين لإقامة الكيان الصهيوني ممن يحرصون على غرس المفاهيم الواردة في التوراة والتلمود في نفوس التلاميذ، وهي أساس المنطلقات الفكرية والسياسية للحركة الصهيونية العالمية، كما وردت في بروتوكولات المؤتمر الصهيوني العالمي عام 1897 والمؤتمرات اللاحقة لهذا المؤتمر. لقد جاء في قرارات المؤتمر الصهيوني الثامن والعشرين المنعقد في القدس في عام 1972: "واجبات الصهيوني تجاه اللغة العبرية والتربية اليهودية: إن واجب كل صهيوني في تعلم تقاليد الشعب والإلمام بها، ويجب أن تكون اللغة العبرية اللغة الثانية لكل يهودي في المنفى، وبواسطة العبرية تنمو(/21)
ثقافة الشعب، ويتم إغناء حياة اليهود الروحية في الشتات (EXODOS) أي في الأقطار عدا فلسطين- ويتم إعداد الذين يتعلمونها للهجرة والاستيطان في البلد (أي في الكيان الصهيوني)«(81).
لقد كانت المدارس اليهودية في العراق، تعمل عملها التخريبي، وهي في خدمة الصهيونية العالمية وتحقيق أهدافها نصّاً وروحاً، وما يقال عن التخريب في العراق خدمة للصهيونية، يقال عن البلاد العربية الأخرى، فقد كان يهود البلاد العربية يعملون للصهيونية بكل طاقاتهم المادية والمعنوية(82)، لنشر الحضارة العبرية في البلاد العربية، ولن تنتشر هذه الحضارة إلا بإماتة الحضارة العربية الإسلامية وإضعاف أثرها وتأثيرها في عقول وقلوب العرب والمسلمين، كما صرح بذلك الصهاينة وبخاصة المستشرقين منهم، ولا عتب على الصهاينة في دسهم، فهذا هو دأبهم، وهم أعداء على كل حال، والعدو لا ينصف عدوه أبداً، ولكن العتب على أبنائنا من معلمين ومدرسين وأساتذة، الذين ينقلون أفكار الصهاينة المتخذة لبوس البحث العلمي زوراً وبهتاناً، دون تمحيص وتدقيق وبحث واستقصاء، لاستكشاف مكامن الزيغ والخطل، ونقل هذه الأفكار لتسميم عقول تلاميذنا وطلابنا في المدارس والمعاهد والجامعات، فلابد من الحذر من أفكار المستشرقين الصهاينة ومن لفّ لفهم، فقد تخصصوا بالكذب والدسّ، وانحرافهم واضح للعيان لا يخفى على عاقل سوى العقل من العرب والمسلمين، وحتى من غير العرب والمسلمين.
لقد كان ليهود العراق نشاط صهيوني قبل الحرب العالمية الأولى، وكان لهم نشاط محموم بعد الحرب العالمية الأولى، وقد أسسوا منظمات صهيونية في العراق، كان لها نشاط تخريبي مشهود، وكان لهذه المنظمات إرهاب موجه ضد يهود العراق لإجبارهم على الهجرة إلى الأرض العربية المحتلة في فلسطين، وقد ثبت ذلك في محاكمات عادلة(83)، وما يقال عن نشاط يهود العراق، يقال عن نشاط سائر الدول العربية كافة بدون استثناء.
ولعل أخطر الآفات التي تعرضت وتتعرّض له أمتنا العربية المجاهدة، هي محاولة أعدائها، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وتباين مذاهبهم ومعتقداتهم، خلق حالات من الفوضى والاضطراب بين الأمة الواحدة، وتغذية روح التنافر والعداء بين أفرادها، واستثارة التفرقة والخلاف الديني في صفوفها، كل ذلك من أجل شلّ حركة النهوض واليقظة. وأخطر الدروس المستفادة من قراءة تاريخنا وحركته هو: ثبات المرتكزات والمحاور التي اعتمدتها حركات الهدم وشبكات التخريب، ماضياً وحاضراً، حتى ليصدق عليها القول، بأن جميعها تبدو متماثلة متحدة في أصولها وجذورها ومناهج عملها وخططها، وإن اختلفت في المصادر والصّور والأشكال الخارجية وفي مفردات مواقفها الجزئية.
والدارس لهذا البحث، يجد أن الأساليب التي اتّبعها يهود العراق القدامى على عهد البابليين العراقيين من الخلف، وبيعهم لأعدائهم بثمن بخس، وتشجيع أعدائهم على اكتساحهم دون مسوّغ معقول، لا تختلف كثيراً عن أساليب يهود العراق من سنة 1914 إلى سنة 1952 في نشاطهم الصهيوني والتجسّسي والتخريبي في العراق وخارجه خدمة للصهيونية العالمية ومخططاتهم قديماً وحديثاً يمكن إجمالها في: تفتيت البلد الذي يعيشون فيه إلى طوائف وعروق، وتحريض الأعداء عليه، والتعاون مع العدو المغتصب، وكشف أسرار البلد، والدعاية السيئة ضده لتشويه سمعته زوراً وبهتاناً، والغدر ونقض العهود، والسيطرة الاقتصادية على البلد، والتفريق بيت أبناء البلد الواحد، وبين أبناء الأقطار العربية بالإشاعات الكاذبة، ومحاولة تشقيق جماعتهم، وإضعاف قوتهم بالفتن والقلاقل الداخلية والخارجية وبالحروب التي لا مسوّغ لها، وإضعاف الروح المعنوية، وغير ذلك من المكايد التي تقضّ مضاجع الحكّام والمحكومين على حد سواء.
فلابد من أن يحذرهم العرب والمسلمون، فهم أعداء متربصون، وأطماعهم التوسعية لا يجهلها أحد، لأنها معلنة لا يخفونها، وهي بالنسبة لهم جزء من الدين، لأنّ مصدرها التوراة والتلمود.
والحمد لله كثيراً، والشكر له على توفيقه، وأدعوه أن يفيد بهذه الدراسة، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم.
تمت
الهوامش:
(70) مجلة فلسطين - العدد 115 - تاريخ 3/7/1982 - مقال بيتر مانسفيلد الخبير البريطاني في الشؤون العربية.
(71) النواوي - محمد عبد الغني النواوي - الصراع العربي الإسرائيلي - (313 - 314) - بيروت - 1983 - ط1.
(72) كارانجيا - خنجر إسرائيل - (91) - نقله إلى العربية مروان الجابري - المكتب التجاري للطباعة - بيروت - 1967 - ط،2 وانظر الصراع العربي - الإسرائيلي (1/315) - مصدر سابق.
(73) خنجر إسرائيل - مرجع سابق (90).
(74) خنجر إسرائيل - مرجع سابق - (41).
(75) رسالة كيسنجر نشرتها أكثر من صحيفة عربية، انظر جريدة الوطن الكويتية الصادرة في 19/8/،1977 ورسالة ريمون إدّه نشرتها جريدة السياسة الكويتية الصادرة بتاريخ 12/6/،1976 نقلاً عن: الصراع العربي الإسرائيلي - مرجع سابق - (317 - 319).(/22)
(76) ملخص فكرة تلك الكتب، أنّ الصهاينة إذا بقوا مشردين في أقطار الأرض. كما كانوا عليه قبل مولد الكيان الصهيوني سنة 1948 في الأرض العربية المحتلة: فلسطين، أفضل لهم من تجمعهم في موطن واحد، لأنّ تفرقهم يحميهم من الإبادة الكاملة، حتى إذا اضطهد الصهاينة في قطر ما، وأبيدوا هناك مثلاً، يبقى الصهاينة في الأقطار الأخرى سالمين، كما حدث منذ كانت اليهودية حتى اليوم، أما إذا اجتمعوا في مكان واحد، في وسط من الناس يعاديهم ويعادونه، فإن ذلك يؤدي إلى تكبيدهم خسائر عظيمة اليوم أو غداً، هم في غنى عنها، وبعيدون عن أخطارها في حالة تشتتهم.
(77) خنجر إسرائيل - مصدر سابق - (31)، وانظر: أهداف إسرائيل التوسعية في البلاد العربية - دار الفكر - بيروت - ط2 - 1971.
(78) موسى بن نصير - شذوذ ومآسي الطائفة اليهودية - مطبعة الكرخ - بغداد - 1352هـ - من (239 - 240).
(79) شريف يوسف - مدارس الاتحاد الإسرائيلي في العراق (الاليانس) وارتباطاتها بالحركة الصهيونية العالمية - مجلة آفاق عربية - السنة السادسة - العدد (5) - كانون الثاني 1981 - ص (49).
(80) البراك - د. فاضل البراك - المدارس اليهودية والإيرانية في العراق - (46 - 47 - 48 - بغداد - 1984).
(81) المؤتمر الصهيوني الثامن والعشرون - 1972 - مترجم عن العبرية والإنكليزية بإشراف الدكتور إلياس شوفاني - مؤسسة الدراسات الفلسطينية - بيروت - ومركز الدراسات بجريدة الأهرام - بيروت - 1977 - ص (432).
(82) أحمد محمد غنيم وأحمد أبو كف - اليهود والحركة الصهيونية في مصر (1897 - 1947) - كتاب الهلال - العدد (219) - القاهرة - 1969.
(83) انظر التفاصيل في: السوداني - صادق حسن - النشاط الصهيوني في العراق 1914 - 1952 - وزارة الثقافة والإعلام - بغداد - 1980.
المصادر والمراجع
إبراهيم العدوي:
1 - رشيد رضا - سلسلة أعلام العرب رقم 33 - المؤسسة المصرية للتأليف والنشر.
القاهرة - 1964.
ابن الأثير: عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد الشيباني الجزري.
2 - الكامل في التاريخ - بيروت - 1385هـ.
ابن حزم: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي:
3 - الفصل في الملل والنحل - القاهرة - 1928 - 1929.
ابن الخطيب: لسان الدين بن الخطيب.
4 - الإحاطة في أخبار غرناطة - القاهرة 1954.
5 - أعمال الأعلام - بيروت 1956.
ابن خلدون: عبد الرحمن بن خلدون المغربي.
6 - العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر - بيروت 1932.
ابن سعد: أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري.
7 - الطبقات الكبرى - بيروت - 1376هـ.
ابن عبد ربه: أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي.
8 - العقد الفريد - القاهرة - 1373هـ.
ابن عساكر: أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر.
9 - تهذيب ابن عساكر - دمشق - 1329هـ.
ابن قتيبة: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري.
10 - عيون الأخبار - القاهرة - 1383هـ.
11 - المعارف - تحقيق ثروة عكاشة - 1960.
ابن القيم: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر.
12 - أحكام أهل الذمة - تحقيق صبحي الصالح - دمشق - 1381هـ.
ابن كثير: عماد الدين أبو الفدا إسماعيل بن عمر بن كثير.
13 - البداية والنهاية - بيروت - 1966.
أبو زهرة: الشيخ محمد أبو زهرة.
14 - تاريخ المذاهب الإسلامية - القاهرة. بلا تاريخ.
أبو الفدا: عماد الدين إسماعيل بن محمد بن عمر.
15 - المختصر في أخبار البشر - القاهرة - بلا تاريخ.
البراك: د. فاضل البراك.
16 - المدارس اليهودية والإيرانية في العراق - بغداد - 1984.
البستاني: سيف الدين البستاني.
17 - أوقفوا هذا السرطان - دار النهضة العربية للتأليف والترجمة والنشر - دمشق - 1959.
بلقين: عبد الله بلقين.
18 - التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله بن بلقين - القاهرة - 1955.
التل: عبد الله التل.
19 - الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام - بيروت - 1971.
20 - خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية - القاهرة - 1964.
التونسي: محمد خليفة التونسي:
21 - الخطر اليهودي (بروتوكولات حكماء صهيون) بيروت - بلا تاريخ.
توينبي: آرنولد توينبي.
22 - محاضرات ترجمها د. فؤاد زكريا - القاهرة - 1966.
حمادة: حسين محمد حمادة.
23 - شهادات ماسونية - بيروت - 1980.
خطاب: محمود شيت خطاب.
24 - أهداف إسرائيل التوسعية في البلاد العربية - بيروت - 1971 ط 3.
25 - الرسول القائد - بيروت - 1974 - ط5.
26 - طريق النصر في معركة الثأر - بيروت - 1972 - ط2.
27 - الوجيز في العسكرية الإسرائيلية - بيروت - 1972 - ط3.
الزركلي: خير الدين الزركلي.
28 - الأعلام - القاهرة - 1373 - 1378هـ - ط2.
السوداني: صادق حسن السوداني.
29 - النشاط الصهيوني في العراق 1914 - 1952 - بغداد - 1980.
السرخسي: محمد بن أحمد السرخسي.(/23)
30 - شرح كتاب السير الكبير - محمد بن الحسن الشيباني - القاهرة - 1958.
الضابط: شاكر صابر الضابط.
31 - تاريخ المنازعات والحروب بين العراق وإيران - بغداد - 1984.
الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري.
32 - تاريخ الرسل والملوك - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - القاهرة - 1964.
طعيمة: صابر عبد الرحمن.
33 - إسرائيل بين المسير والمصير - القاهرة 1973.
عنان: محمد عبد الله عنان.
34 - دول الطوائف في الأندلس - القاهرة - 1960.
أبو حامد الغزالي:
35 - فضائح الباطنية - تحقيق عبد الرحمن بدوي - القاهرة - 1964.
غنيمة: يوسف رزق الله.
36 - نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق - بغداد - 1924.
كرانجيا: ر. ك. كرانجيا:
37 - خنجر إسرائيل - بيروت - 1967 - ط2.
كرد علي: محمد كرد علي.
38 - المذكرات - مطبعة الترقي - دمشق - 1948.
ليتنتال: ألفريد.
39 - ثمن إسرائيل - بيروت - 1967.
40 - إسرائيل ذلك الدولار الزائف - ترجمة عمر الديراوي - بيروت - 1965.
معروف: خلدون ناجي.
41 - جوانب من التعليم اليهودي - مقالة منشورة في العدد (17) من مجلة مركز الدراسات. لشهري تشرين الأول والثاني 1976.
منصوربن يونس بن إدريس:
كشاف القناع - 1394.
الميداني: عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني.
42 - مكائد يهودية عبر التاريخ - بيروت - 1974.
النواوي: محمد بن عبد الغني النواوي.
43 - الصراع العربي الإسرائيلي - بيروت - 1983.
ناثنك: أنتوني.
44 – I saw for my self London -1958.
نويهض: عجاج نويهض.
45 - بروتوكولات حكماء صهيون - بيروت - 1980.
ياقوت شهاب الدين: أبو عبد الله ياقوت الحموي.
46 - معجم البلدان - القاهرة - 1323هـ.
اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب بن واضح.
47 - البلدان - ليدن - 1892.
اليماني: محمد بن مالك بن أبي الفضائل الحمادي اليماني.
48 - كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة - القاهرة - بلا تاريخ(/24)
"التّنويرِيّون السّعودِيّون"..قراءة هادئة...
د. مسفر بن علي القحطاني 19/5/1425
07/07/2004
عندما كثر الحديث عن الغلو والإرهاب في الآونة الأخيرة خصوصاً خلال العامين الماضيين ؛ برزت على السطح كثير من الأفكار التصحيحيّة والإصلاحيّة، وأُطُراً عدة للخروج من مأزق التكفير والتطرّف، وتُهم الجمود الفكريّ والانغلاق الفقهيّ الذي وجه للخطاب الإسلاميّ المعاصر. فكانت فرصة مهمة للمراجعة وإعادة النظر في كثير من الأولويّات وتراتيب العمل الإسلاميّ والإصلاحيّ عمومًا.
ونظراً لكوْن المقام منصبًّا نحو التطرّف والغلوّ كأساس للمراجعات؛ كان لابدّ لهذا التطرف أنْ يغري البعض بأفكار متطرفة في المقابل، قد تتفق أو تختلف من حيث القوة ولكنها تعاكسه من حيث الاتجاه.
فظهرت على الساحة الفكرية – متزامنة مع وَهَج الانفتاح الإعلامي العولمي- أطياف متعددة لرؤى تجديدية كان بعضها شديد القابلية لأسر اللحظة الحاضرة والمعطيات الجاهزة والبيئة المحيطة. فلم تأتِ بجديد بقدر ما هو إسماع بالتجديد. وبرزت تيارات فكرية بُعثت من جديد في وطننا بعد ركود دام عقودًا من الزمن عاشت عصرها الذهبيّ في بعض الأقطار الإسلاميّة . كان من أبرزها حضوراً في الأزمة الراهنة " التيار التنويري " أو " العقلاني " ذو الثّقافة والفلسفة الإسلامية. وقد حمل إرثه الإصلاحيّ طليعة من المثقفين السعوديين ، برز منهم على الساحة الإعلامية بعض الشباب المثقف والمتحمس –أيضًا- للصّدام، والمستعد لخوض معارك البقاء، والمنعتق من قيد الأيدلوجيات التقليديّة أو الحركيّة، مما أدّى إلى سِجالات ومعارك إقصائيّة شهدتها ساحات الإنترنت وبعض صحفنا اليومية وسط مناخات فكرية قاسية، وثقافات كانت تحرّم هذا الطرح جملة وتفصيلاً.
إنّ شيوع استخدام مصطلح " التنوير" في وصف هذا الفكر الناشئ من قِبل أصحابه وغيرهم ، يدعونا لدراسة الامتداد التاريخيّ والفكريّ للفلسفة التنويريّة التي نشأت في أوائل القرن السابع عشر الميلادي ، والتي يحلم البعض بمحاكاتها كتجرِبة رائدة يمكن تكرارها في المجتمعات المماثلة .. حيث انطلقت بداية التنوير العقلي والتحرر من القيود الدينيّة والسلطويّة بشكل واضح مع الثورة الإنجليزيّة عام 1688م ، كتب أثناءها (جون لوك) مقالته "حول التسامح "، ثم مقالته في "الفهم الإنساني"؛ والتي أدّت إلى حِراك ثقافيّ وسياسيّ منع الاستبداد الكاثوليكي وسمح للبروتستانت وغيرهم بحريّة العبادة والتعليم، وقد صدر قانون " التسامح" 1689م ليجعل إنجلترا في تلك الحقبة أكثر دول أوروبا حرية وليبراليّة .
خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر برز النتاج الفكري والعلمي لفلاسفة التنوير والذي أطاح بجانب كبير من العقيدة المسيحيّة، وجعل العقل آلة الفهم للطبيعة والكون والحياة ، وأُسقط كل ما هو خارق للطبيعة أو غيبيّ ، وبدأ النقد اللاذع لسلطة الكنيسة وهيمنتها الإقطاعيّة الاستبداديّة على الفكر والسياسة والمجتمع.. من خلال تبطين النقد في بعض الرّوايات الدراميّة الفلسفيّة؛ كان أشهرها "إيلويز الجديدة " لجان جاك روسو ، و"رسائل فارسية " لمنتسكيو ، و "كانديرا" لفولتير ، و" جاك القدري " لديدرو، وغيرها من الروايات والمقالات ، والتي أثارت الكنيسة وأتباعها؛ فحرّمت قراءتها وتداولها في وقت انتشرت الصالونات الأدبيّة في كثير من المدن الأوربيّة كان أشهرها الصالونات الباريسية المحمومة بالنقد والإلحاد الذي بدأ يظهر على بعض الفلاسفة التنويريين.
في تلك الآونة برز النتاج العقلي الثائر على السلطة الكهنوتية التي جسدت القدر الإلهي المرسوم الذي لا يحيد عنه إلا هالك ، وانتهى احتكار الرهبان والقساوسة للفلسفة والعلم . حينها توالدت النظريّات الفلسفيّة العقلانيّة الصارخة على يد "هيلفتيوس" و" ديكارت " و "سبنيوزا"، وبلغت قمّتها وتطوّرها على يدي "هيجل" الذي تُعدُّ فلسفته الأعمق في الفكر الأوربي الحديث .(/1)
ثم خرجت النظريات الاجتماعيّة التنويريّة فاتّسق نظامها المعرفي في مشروع "كانت" و "فيكو" . كما برزت النظريات الاقتصادية من خلال "آدم سميث" و"ماركس" ، ويعتبر "ميكافيلي" أول فيلسوف سياسي تنويري يضع مشروع الدولة المركزيّة البُرجوازيّة؛ وبدأ المنهج التجريبي العلمي يتبلور على يدي "فرانسيس بيكون" و " نيوتن" و " غاليليو"..، حينها تصاعد الحِراك الفكري والثقافي إلى حِراك اجتماعيّ وسياسيّ هيّج الجماهير الفقيرة المقهورة في فرنسا وبقية الدول الأوروبية، وحتى أمريكا إلى انتهاج الثورة على الدولة والكنيسة.(1)امتدّ الأثر الفكري للثورة الفرنسية مع امتدادها العسكري، وكذلك من خلال الاتصال الغربي بالمشرق الإسلامي، وقد أوجد هذا الاتصال الثقافيّ ذو النزعة الطّوباويّة إلى تأثر بعض المثقفين المسلمين بمبادئ التنوير الفلسفي والعقلاني؛ "كالطهطاوي" و"الأفغاني" و"خير الدين التونسي" و"الكواكبي" وغيرهم ، وانتشرت مؤلفاتهم وأفكارهم الإصلاحيّة في عموم البلاد الإسلاميّة حتى جاء الجيل الأكثر وعياً بالفكر التنويري الغربي؛ كزكي نجيب محمود و العشماوي وحسن حنفي وجمال البنا والجابري وأركون ... فحاولوا تأطير الفكر، والمزاوجة بينه وبين الفلسفة الإسلاميّة بنفض الغبار عن فكر ابن رشد، وابن سينا، والفارابي، وعموم الفكر الاعتزالي، والباطني مما ولّد أجنة مشوّهة بقيت حبيسة أسوار " المدينة الفاضلة "، ولا أدري عن مدى صمودها لتغيّرات العصر وتحدّياته القادمة إذا تجسدت في أرض الواقع!
ومازالت هذه الأجيال التنويرية تتوارث الأفكار، والرؤى القديمة نفسها التي وضعها جيل التأسيس الأوّل، مع كثرة حديثهم عن ا لتحرر و التجديد والانعتاق من التسلط الديني التقليدي والموروثات القديمة! بينما لا نجد نقداً موضوعيًّا للفكر التنويري الغربي يوازي نقدهم الشديد لـ" التّراث الديني" و " العقل العربي" كما فعل "الجابري" ، أو "الفكر الإسلامي" كما فعل "أركون" و"حنفي" وغيرهم ، في حين كانت هناك مدارس بدأت تنشأ في الغرب لنقد فلسفة التنوير وثورته الدّامية من كبار الفلاسفة كما فعل "ماركس" في نقد "برجوازية الثورة" و "فرويد" و "نتشه" في الثورة على العقل، والتأكيد على الدّور النفسي والغريزي من أجل النفاذ إلى ما وراء الواجهة العقلانية ... (2)
وهنا أسأل إخواننا التنويريين السعوديين:هل يعني هذا المُسمّى (التنوير) الامتداد التاريخي والفكري لمن سبق من فلاسفة التنوير، أم أنها ظاهرة إعجاب مُنبهِر جاءت في لحظة عنادٍ مع الواقع؟
بقي أنْ نعرف: هل هناك ملامح فكريّة عامة تجمع أطياف هذا التيار الناشئ؟
الحقيقة أنني لم أطلع على رسم واضح يعبّرون فيه عن سِماتهم المنهجيّة، ومعالمهم الفكرية بصراحة، وأعتقد أنّ لهذا مبرراته: الزمانيّة، والمكانيّة، والردود الإقصائيّة المتوقعة، ولكني سأحاول جمع بعض الرّؤى العَجْلى كمحاولة أُولى لفتح باب المزيد من الدراسات العلميّة و الموضوعيّة للدارسين و الباحثين في هذا الموضوع؛ ألخّصها فيما يلي :
1- إنّ هذا الفكر مازال جديدًا لجيل الشباب، ومعالمه مازالت لم تهضمها ثقافتهم وبناؤهم المعرفيّ السابق، مع شدّة حماسهم لأطروحاته التّجديديّة، وليس من المتوقع إمكانية تنظيم ملفاتهم وأوراقهم المبعثرة في الفترة القادمة؛ لاختلاف طبائعهم، وموروثاتهم السابقة، ومرور بعضهم بمُراهقة فكريّة حادة قد تبطل كل مشروعاتهم الإصلاحيّة!
2- الغلو في نقد المدرسة السلفيّة التقليدية، وإظهار جمودها وانغلاقها على الواقع المعاصر؛ مما حدا بكل الناقمين عليها والمخالفين لها أنْ ينضمّوا إلى خندق هذا التيار مع تباين أطيافهم وانتماءاتهم الفكريّة. وأعتقد أنّه لولا قميص النقد للسلفيّة، وردة الفعل من المقابل لما اجتمعوا على هذا التيار في خندق واحد، ليثأروا لبعضهم ويتنادَوا في منتدياتهم " التّحاوُرِيّة" أو في الوادي المقدّس .. أو من خلال مقالاتهم في صحفنا اليوميّة .
3- الاعتماد في تفسير النصوص الشرعيّة والأحكام الثابتة على العقل المجرد، والمصلحة الذوقيّة، وتأويلها وتنزيلها على الواقع من خلال هذه الرُّؤية؛ باعتبارها الأوفق لحياة الناس المعاصرة ، ونقد الكثير من القواعد الأصوليّة بحجة تضييقها لمساحة المُباح والعفو في الشريعة الإسلاميّة .
4- الدعوة لتجديد الفكر الإسلامي وتأطيره من جديد ، وربْط النّهضة بالمشروع الحضارِيّ الشامل بالمفهوم الحَدَاثيّ المعاصر .
5- نقد التيارات الإسلاميّة الحركيّة من غير تمييز، واتهامها في مقاصدها بتَسْييس الدّين لصالحها، ووَصْمها بالانتهازِيّة، وربطها- أحيانًا- بالعمالة لدول أجنبيّة .
6- التأكيد المستمر على خيار الديمقراطيّة في الإصلاح ، والعمل على إقامة دولة المؤسسات وتحقيق مفهوم "المجتمع المَدَني" من خلال المِنظار "اللّيبرالي التقدّمي" .(/2)
7- الدعوة لـ" الإسلام المستنير" كمخرج من الجمود والتقليد الذي تعيشه بعض المجتمعات الإسلاميّة الخليجيّة ، وكمفهوم للدين يتوافق مع ديمقراطيّة الغرب ومبادئ المجتمع المدني ، كما تبرز أهميته في قابليته للتشكل لأيّ صياغة ليبراليّة يستدعيها موقفهم "القِيَمِي" ، وهذا ما جعل التيار الليبرالي يتبناهم ويفسح المجال لهم في كثير من منابره الثقافيّة والإعلاميّة .
8- تجلِية التاريخ الإسلامي- بدأ من عهد الخلفاء الراشدين –بدراسة سلبياته وإيجابياته وأسباب انحرافاته السياسيّة والفكريّة، وتمجيد الأفكار والحركات الباطنيّة والاعتزاليّة والفلسفيّة كنوع من التحرّر الفِكريّ العقلانيّ، والنهوض الثوريّ في وجه الرجعيّة التُّراثيّة .
إنّ هذه الملامح وإنْ كانت مشتركة عند الأكثر، إلا أنّها قد تزيد أو تنقص عند أفرادهم حسب ميولهم الثقافيّة، وحاجة الوسط الذي يعيشون فيه لتغليب نوع معين من جوانب الإصلاح التنويري . والحقيقة أّ هذا الفكر مع كل الإشكاليّات المُثارة عليه قد حمل معه صواباً ورُؤًى تجديديّة واقعيّة، وغنيّة بالمعرفة وبالوعي الحضاري لبعض المشكلات و القضايا الإسلاميّة المعاصرة والمستقبليّة .
إنّ رموز التيار التنويري السعودي لهم شهرتهم في الوسط الفكري المحلي والعربي ، ولكني تعمّدت عدم ذكرهم بأعيانهم في مقالي ؛ لأن أكثرهم لم يخرج بعد من مخاض هذه التجرِبة الفكريّة ، وفكره الإصلاحي لم ينضَج ولم يستقرّ ، كما أنّ البعض مازال ممسكاً بزِمام حبّ الإثارة والبحث عن الشهرة الثقافيّة والصعود فوق أيّ رُكامٍ كان!
ولعلّ الظروف المتوتّرة التي تمرّ بها المملكة اليوم من جرّاء أعمال التفجير والتخريب الإرهابيّ،أو من خلال الضّغط والاتهام الخارجيّ يدعو الجميع لتجاوز مرحلة الاحتقان الحاصل بين هذا التّيار التنويري وغيره من التيّارات المحافظة ، ويردُم الهوّة التي حفرتها الاتّهامات المُتبادَلة بالوقوف خلف الغُلوّ والتّكفير . وبإعمال بسيط لفِقه الأولويّات والموازنات، وحتميّة المرحلة، و طبيعة المواجهة فإنّ عوامل الاتّفاق قد تتجاوز نقاط الافتراق وبشكل كبير ، إذا وعَيْنا حجم المتغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة القادمة .
إنّ الغرب في أزمته الراهنة في الشرق الأوسط بدأ يراهن من أجل إعادة تشكيل المِنْطقة، و كسب التأييد الشعبيّ، لإصلاحاته الديمقراطيّة على ما أسماهم بـ"الإسلاميين الليبراليين " وقد وعد أكثر من مسؤول أمريكي بالدعم الماديّ لفكرة " التسامح الديني" و " الإسلام المستنير " في المِنْطقة (3)، فهل يعي التيار التنويري موقعه الحاليّ في الأزمة الرّاهنة ؟
وفي الختام .. أتمنّى أنْ تكون قراءتي الموجزة للفكر التنويري السّعودي هادئة رغم الضّجيج وغَبَش الرُّؤْية .. وأنْ نتعامل معها كظاهرة صحيّة تستوجب النّقد والتّقويم، ولا أبرِّئ نفسي، و زلات قلمي من التجاوُز والخلل .. ولكنها دعوة عامّة للتّحاوُر المثمر الجادّ والتثاقُف المستمرّ؛ حتى لو فقدْنا أدواته، وضيّعْنا أدبيّاته .
________________________________________
1- انظر:كتاب( التنوير ) . تاليف : لويد سبنسر واندريه كراوز (مترجم) ؛ وكتاب (الفلسفة والإنسان ) تأليف: د. فيصل عباس ..
2- انظر : كتاب (تاريخ الثورة الفرنسية) تأليف : البير سوبول، القسم الثاني من الكتاب لتلحظ عظم البشاعة والظلامية التي قام بها الثوار ؛ كتاب (التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر ) تاليف : د. عبد الرحيم عبد الرحمن - الفصل التاسع ؛ كتاب (الفلسفة والإنسان) تأليف : د. فيصل عباس من ص249-276 .
3- انظر : مقال (بعد تفجيرات بالي .. أمريكا تدعم الإسلام اللطيف) للكاتب الصحفي صهيب جاسم , نشر في موقع اسلام أون لاين في 28/12/2002م ؛ ومقال (الإستراتيجيّة الأمريكيّة الجديدة تجاه العالم العربي و الإسلامي ) للكاتب كمال السعيد , جريدة الشعب 8/2/2002م .(/3)
التًّعليم باللغة العربية في التًّعليم الجامعي
أ.د. عباس محجوب*
التًّعليم باللغة العربية في التًّعليم الجامعي باعتبارها لغة القرآن والإرث المشترك بين الشعوب الإسلامية
1/ المقدمة :
لم تكن اللغة العربية للعرب وسيلة تخاطب يومي بل كانت صورة حياتهم الفكرية والعقلية التي مثلت مجدهم وثقافتهم و صورتهم ورسالتهم إلى غيرهم . وقد اكتسبت العربية مكانتها من غزارة كلماتها وتعدد أساليبها و وقوة أدائها وسعة صدرها وقابليتها للنماء والزيادة والتطور والرّقي ، ثم زاد من شرفها و خلودها و رسوخها نزول القرآن الكريم بها ، وتكريم الله لها دون اللغات الأخرى ، فأضاف إليها القرآن أبعاداً جديدة ومصطلحات مستحدثة وجعلها أوسع أفقا و أغزر عطاء وأقدر على استيعاب معطيات الحضارة كما منحها إظهار قدرتها في حمل الأفكار والمبادئ والنظريات السامية في الحياة.
وبفضل القرآن أصبحت اللغة العربية رمز الوحدة الثقافية والاجتماعية لأمة تحتل مساحة ما بين الخليج العربي شرقاً والمحيط الأطلسي غرباً و من آسيا الصغرى والبحر المتوسط شمالا إلى أواسط إفريقيا والمحيط الهندي جنوباً بل أبعد من ذلك حيثما كان للمسلمين وجود[1] .
يقول القلقشندي[2] : " أما فضلها فقد أخرج ابن أبي شيبة بسنده إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : تعلموا اللحن والفرائض فإنه من دينكم، قال يزيد بن هارون : " اللحن هو اللغة " و لاخفاء أنها أمتن اللغات وأوضحها بيانا ، وأذلقها لساناً وأمدها رواقا وأعذبها مذاقا و من ثم اختارها الله تعالى لأشرف رسله وخاتم أنبيائه وخيرته من خلقه وصفوته من بريّته ، وجعلها لغة أهل سمائه وسكان جنته وأنزل بها كتابه المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ".
برهنت اللغة العربية بنزول القرآن بها على قدرتها الواسعة ومرونتها الذاتية على الانتقال بالعربية من لغة تواصل وتخاطب وخطابة وشعر إلى لغة تشريع و علوم واستطاعت في القرنين الثاني والثالث ترجمة العلوم الإنسانية وهضمها وتمثلها والإضافة إليها وأصبحت بحق لغة العلم والحضارة التي تتطور بأساليبها الذاتية وقدراتها الإبداعية وإمكاناتها الاشتقاقية الواسعة والعوامل التي جعلت من العربية لغة العلوم والتعلّم هي التي تمنحها القدرة على أن تكون لغة العلوم والتعليم في الجامعات الإسلامية في عصرنا .
كانت إرادة الخالق عز وجل أن تبقى العربية معزولة في أنحاء الجزيرة العربية محافظة على أبنيتها وتراكيبها ومعانيها لا تتأثر بغيرها إلا في حدود ضيقة مرتبطة بالحجيج والتجار الذين يفدون إلى" مكة " بلهجاتهم وفي رحلة الشتاء والصيف حيث تضاف بعض التعابير الجديدة إلى اللغة ، وعندما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالإسلام ، وكرّم هذه اللغة بجعلها لغة الدين الجديد أحدث ثورة لغوية في لغة العرب حيث وجد العرب في لغة القرآن الكريم ما لم يعهدوه في استعمالاتهم اللغوية ولغة خطبائهم وشعرائهم حيث الجديد في الألفاظ والعبارات ، والجديد في المعاني والدلالات ، فأصبحت العربية بفضل القرآن الكريم لغة متطورة تتوسع فيها الدائرة الدلالية للألفاظ ، وتكتسب الألفاظ من السعة الدلالية والمرونة اللفظية ما يجعلها قادرة على التعبير عن كل جديد في الحياة وكل إبداع ومستحدث في العلم والحضارة وذلك عن طريق المعاني الدلالية الجديدة التي اكتسبتها ألفاظ العربية واستعمال الألفاظ في معان مختلفة ذات مصطلحات استطاعت العربية هضمها وتمثلها والتعامل خلال فترة وجيزة جعلتها قادرة بعد قرن من الإسلام وسيلة نقل العلوم المختلفة وظهور طبقة من المترجمين ثم بعدهم المؤلفين الذين استفادوا من حركة الترجمة في الإضافة إلى علوم الحضارة والعلم .
استوعبت العربية العلوم الإنسانية كلها حفظا ونقلا ثم أضافت إليها إبداعا وابتكارا وأصبحت لغة العلوم حتى القرن السابع عشر وكان كل من أراد أن يكتب علما يقرؤه الناس لجأ إلى اللغة العربية . فكتب بها وألف وظلت كتبهم في العلوم الطبيعية المراجع المعتمدة في جامعات أوربا حتى أواخر القرن السابع عشر إلى أن ترجمت إلى اللاتينية [3] .(/1)
والقرون الوسطى التي مثلت عهود الظلام في أوربا كانت منارات العلم عند المسلمين حيث كان لهم علم عربي تعهدوه قرونا بلغة قوية متينة ويمكننا أن نقرر أن هذه اللغة كانت في ذلك التاريخ لغة العلم الوحيدة في العالم بأسره فيما بين القرنين الثامن والثالث عشر الميلادي، ثم انضمت إليها اللاتينية بعد ذلك ، أخذت عن العربية ، وأفادت منها فترجم اللاتين قدرا من كيمياء جابر بن حيان وأبي بكر الرازي ، وعنوا برياضيات الخوارزمي وبصريات ابن الهيثم وفلك الميتاني واليتروجي وطب ابن زهر وعلي بن رضوان ، شغلوا بالترجمة عن العربية نحو قرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي واستعاروا بعض الألفاظ العربية كما استعار المسلمون من قبل بعض الألفاظ الأجنبية ولا تزال الألفاظ العربية المستعارة باقية إلى اليوم في اللاتينية ومن بعدها في بعض اللغات الأوربية المعاصرة فأدت العربية رسالتها نحو العلم في الماضي ، ولا يعزّ عليها أن تؤديها في الحاضر وهي متهيأة لذلك تهيؤ اللغات العالمية الكبرى [4].
وكما يقول د. محي الدين صابر فان اللغة العربية أصبحت " لعدة قرون في التاريخ الوسيط هي اللغة العالمية الأولى لغة الفكر والعلم والاقتصاد ، وحرّر الحرف العربي عشرات اللغات غير المكتوبة وأدخلها عالم التدوين ، وتعايشت الثقافة العربية الإسلامية مع ثقافات الشعوب التي ارتبطت معها بالعقيدة ولم تحاول طمسها أو استلابها ، ولكنها تعاملت معها أخذا وعطاء فأغنتها واعتنت بها وقبلت دون تحيّز ولا تمييز من استطاع أن يضيف الي قدرتها بل إنها كرمت ذلك وشجعت عليه " [5].
و منذ قرن أو يزيد بدأت محاولات تعريب التعليم تمثل هاجسا للبلاد العربية تأكيدا لشخصية الأمة وإبرازا لهويتها الحضارية التي تجعل التعريب في حياتها وسيلة معرفية ومشاركة في حلبة السباق الحضاري مع الأمم التي هضمت معطيات الحضارة وأضافت إليها ثم شاركت بها في هذا العطاء الإنساني والتعريب ضرورة علمية لا تستجيب لسيطرة المادية لغيرنا ، ولا تنطوي على ضعف سياسي أو استبداد ثقافي يفرضه علينا الآخرون الذين سعوا لاحلال ألسنتهم محل لساننا وفكرهم مكان فكرنا والأمر متعلق بعملية التعارض الحضاري بين الأمم جميعا كما فعلت أوربا عندما اقترضت معطيات الحضارة الإسلامية قبل أن تكون لها حضارة مميزة. وقد أثارت هذه القضية جدلا واسعا لا زالت أصداؤه حتى اليوم بين مؤيد مؤمن به دون قيد ، ومعارض متشكك فيه ، ومتوسط يؤيد في جوانب ويعرض في جوانب .(/2)
ولما كانت الغاية التي تسعى إليها الجامعات تتمثل في إيجاد الفرد النافع لنفسه ومجتمعه ووطنه و دينه فان التفاعل بين هذه الشخصية التي تعدها الجامعة لخدمة مجتمعه الإنساني وبين المجتمع الذي تعد له هذه الشخصية – إنما يتم إذا كانت اللغة التي يتعلم بها تلك الشخصية هي اللغة التي يتعامل بها ذلك المجتمع ويفكر بها ويقدم نفسه للعالم على أساسها وهذا يفرض علينا أن نهتم بالبعد الاجتماعي في مشاكل التعريب فالأمة العربية متعددة الأوطان متمايزة الكيانات والنظم السياسية مترامية الأطراف تعاني مشكلات الأمية العلمية والحضارية على غير ما كانت عليه في الماضي فالمصطلح الواحد ينطلق من بغداد ثم ينتشر في القاهرة و دمشق وقرطبة بخلاف ما هو عليه الآن فالتعريب عند المشارقة هو " صياغة المصطلح الأجنبي على المقاييس الصرفية العربية بحيث يصبح قابلا للتعريف وأخذ الاسم منه والفعل واسم الفاعل واسم المفعول واسم الآلة " ، وعند المغاربة " إحلال اللغة العربية في التعليم محل اللغات الأجنبية وتوسيع اللغة العربية والعمل على أن تكون لغة التخاطب العربية وحدها والدعاية لها ومقاومة كل الذين يناهضون لغتهم للتفاهم فيما بينهم بلغة أجنبية وبالجملة فإن التعريب هو الذي جعل اللغة العربية أداة صالحة للتعبير عن كل ما يقع تحت الحس من العواطف والأفكار والمعاني التي تختلج في ضمير الإنسان الذي يعيش عصر الذرة و الصواريخ " فهذا التعريف الثقافي الشامل أملته الظروف الاجتماعية والسياسية والمنافحة عن هوية الأمة وخصوصيتها الحضارية والثقافية في ظل مواجهة الثقافة الأجنبية التي سيطرت فترة طويلة على بلاد المغرب العربي وهذا تعريف يتجاوز المفهوم الفني الذي ساد في المجامع العلمية واللغوية فترة من الزمن ، وفي هذا الموضوع يقول الدكتور "محي الدين صابر " المدير السابق للمنظمة العربية للثقافة والعلوم : " التعريب ليس قضية لغة بل هي قضية حضارية أساسية تواجهنا حاليا اللغة ليست ألفاظا بل فكرا وبالتالي لابد من تطوير المجتمع العربي واستيعاب حضارة العصر وذلك لا يتم إلا عبر اللغة كوسيلة وكأداة ، اليابان – مثلا – وهو مثل تقليدي أوجدت شخصيتها عبر لغتها الخاصة وقد أضحت اللغة اليابانية لغة تكنولوجيا حديثة ، أي لغة لها عمق تاريخي وتراث ضخم ، من حقها أن تكون مثل اللغات الأخرى. بالنسبة للغة العربية ارتبطت كثيرا بالتراث خاصة التراث الإسلامي ، هذا العامل أغرى الغرب على محاربة اللغة العربية ، الاستعمار حين أسس المدارس الحديثة حرص على إبعاد اللغة العربية وقد أقصيت عن المجالات الإدارية والاقتصادية والتقنية وبالتالي أصبحت معرفة اللغة العربية لا تجدي نفعا في المجتمع العربي ، وهذا وضع شاذ ، لقد حوربت اللغة العربية في عقر دارها ، أساتذة اللغات في الغرب هم أفضل الأساتذة ولا أود أن أتحدث عن وضع أستاذ اللغة العربية في المدارس العربية .
الغرب أراد أن يدفعنا لاحتقار الذات ، لأننا للأسف احتقرنا لغتنا وكما ترى فإن قضية التعريب مرتبطة بمجموع الكبرياء القومي " [6] ، وعن هذا الجانب يقول " د. عبد الصبور شاهين " : " إن للفرد في المجتمع العربي ولا سيما المثقف محليا أو خارجيا جهتا ولاء متعددة ومصادر ثقافية شتى مع فقر الوعي الاجتماعي الذي يعكس الوعي الحضاري ويشد الفرد إلى الفرد بحبل المواطنة وهي هنا مواطنة على مستوى الأمة العربية ذات اللسان الواحد فإذا أضفنا إلى ذلك تفشي الأمية في نسبة كبيرة من المجموع العربي غيرا لمتحضر وتغير الحياة الاقتصادية إلى جانب القطاعات الجاهلة مما يهون لديها قيمة اللغة وأهمية العلم وأثره في تقرير مصير الفرد كل ذلك يقصي قضية اللغة الواحدة ويحرمها من الثراء الحضاري ويباعد بينها وبين هموم الفرد المثقف الممزق الولاء الشديد التعصب حتى ولو كان أعمى لرأيه ونوازعه والغة لا تتطور إلا على أيدي عاشقيها ولا توسع مقاييسها إلا طبقا لحاجات مجتمع يطالبها بهذا التوسيع "[7] .
2/ المصطلح العلمي :
إن المصطلح العلمي كلمة – كغيرها من الكلمات اللغوية – تشير الى شيء حسي و معنوي لابد من إيضاح مفهومه أول مرة ، حتى لابن اللغة نفسه لكي يدرك ذلك المفهوم .
وأيّة كلمة – مهما كانت – هي كلمة علمية ، فان لم تدخل تحت هذا العلم ، دخلت تحت علم آخر . فالبحث عن المصطلحات العلمية معناه – في الحقيقة – بحث في اللغة وإمكاناتها في التعبير عن المستحدثات العصرية .
والاصطلاحات من الأمور الوصفية الاعتبارية ، إذ الكلمات المصطلح عليها في المعاني العلمية ، لا تدل على تلك المعاني – من حيث اللغة – دلالة تامة ، إلا في بعض الأحوال الاستثنائية ، فلذلك ليس من الضروري أن تترجم الكلمة عنها ترجمة حرفية ، بل من الأوفق أن نتحرى الكلمة التي يمكنها أن تدل على المعنى المطلوب على أحسن الصور وأوضحها .(/3)
ولما كان يتعسر علينا – في معظم الأحوال – أن توجد الكلمة العربية التي تدل على المعنى المطلوب دلالة تامة – تحتم علينا أن نبحث عن أقرب الكلمات من المعنى المطلوب وأن نخصّصها به ، وإن كان معناها اللغوي الأصلي أعم أو أخص من هذا المعنى .
والمصطلحات وليدة الاحتياجات ، فإنها لا تكون إلا عندما يشعر الناس بالحاجة إليها ، ولا يشعر أحد بالحاجة إليها إلا عندما يفكر في مدلولاتها . واحتياج أمتنا العربية إلى المصطلحات العصرية اللغوية كاحتياجها إلى جميع وسائل التقدم الحضاري ، بل إن حاجتها لتلك المصطلحات تأتي في المقام الأول ، لأنها مرتبطة بأسباب وجودها ، إذ ما عسى أن يكون مستقبل أمة ليست لها لغة تستوعب موجودات الحياة ومعطياتها .
فالمصطلحات العلمية هي الرافد الأساسي للمعاجم والنهوض باللغة على وجه العموم وهي تشمل ألفاظ الحضارة الحديثة وشتى فروعها في المعرفة النظرية ، وفي التطبيقات العملية . ولأهمية المصطلح العلمي العربي أوصى مؤتمر التعريب السابع – الذي عقد "بالخرطوم" عام 1994م – بضرورة تدريس علم المصطلح في الكليات والمعاهد العليا ، إذ إن أهمية المصطلح العربي تكمن في أنه الوسيلة المباشرة للتعريب ، الذي أصبح في بلادنا سياسة واقعة مطبّقة في جميع مراحل التعليم ، ولا سيما التعليم العالي ، ذلك لأن التعريب قضية حضارية و ضرورة قومية و دعوة للاعتماد على الذات لما فيه من استنهاض للأمة ، وترسيخ لهويتها وتأصيل لانتمائها الحضاري .
هذا بالإضافة إلى فوائد التعريب الأخرى ، التي تتمثل في التيسير والتسهيل على الطلبة والدارسين ، وتمكينهم من تلقي العلوم ومتابعة المحاضرات بطريقة أوفى ، حيث إن قدرتهم على الاستيعاب باللغة العربية تفوق ما هي عليه باللغات الأجنبية الأخرى . وتتمثل في إتاحة العلوم الطبيعية والمعارف الإنسانية في جميع مجالاتها باللغة العربية ، لتكون في متناول الدارسين والمواطنين كافة ، مما يمكنهم من المشاركة الفاعلة في النهوض ببلادهم . وتتمثل –أيضا – في توثيق الروابط بين المشتغلين بالعلوم والبحوث والدراسات ، في المجالات التي تهم الوطن والمواطنين .
ولأهمية التعريب بالنسبة للأمة العربية جمعاء جاء في التوصية الثالثة ، من التوصيات المهمة لمؤتمر التعريب السابع ما يلي : " وبناء على ما تقدم يرى المؤتمر انه على الرغم مما حققته مسيرة التعريب حتى الآن من تقدم في الوطن العربي ، وتقديره لما أسهم به العلماء والمتخصصون والمؤسسات اللغوية والتعليمية ، فإنه لابد من أن نخطو خطوة أبعد ، لكي تؤتي هذه الجهود ثمارها ، وهي أن تتخذ الأمة العربية قرارها – على أعلى المستويات المسؤولة – بإلزام جميع الهيئات التعليمية ، من جامعات ومعاهد عليا وسواها ، باستعمال اللغة العربية تأليفا وبحثاً و تدريساً في جميع المراحل . كما ينبغي إلزام المؤسسات الإعلامية في الوطن العربي ، باستعمال اللغة العربية الفصيحة ، في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية . وجاء في الفقرة الحادية عشرة من نتائج أعمال تطوير منهجية وضع المصطلح العربي وبحث سبل نشر للمصطلح الموحد وإشاعته المنعقدة في عمان سنة 1993م – ما يلي:-
" تفيد التجربة السورية والتجربة السودانية في تعريب التعليم في الكليات العلمية والتطبيقية ، على أساس التدرج سنة بسنة – نجاح هذا الأسلوب . وهذا مثال واضح على أن متطلبات التطبيق مواتية ، والأمر يحتاج إلى حسم والبدء في التطبيق تدريجيا ، ولا سيما بالاعتماد على كل ما وضعته المجامع والمؤسسات العربية المتخصصة من مصطلحات تعد الركيزة الأساسية لتطبيق التعريب " .
3/ مسيرة وضع المصطلح العربي :
ليس التعريب أمرا جديدا أو نزعة حديثة ، فقد عرف العرب التعريب منذ العصر الجاهلي ، حيث وجدت في لغتهم ألفاظ كثيرة ، استعيرت من اللغات المجاورة . وقد وردت هذه الألفاظ المعربة في أشعارهم كما وردت في القرآن الكريم .
وقد عرفوا وضع المصطلح ، عندما بدأت حركة الترجمة [8]، في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي ، حيث قام العلماء بوضع كثير من الألفاظ بطرق الاشتقاق والمجاز والتعريب وترجموا تعابير دقيقة ، حتى أصبحت اللغة العربية لغة العلم والحضارة إذ ذاك . كل ذلك يعني أننا لا نقف –الآن – أمام تجربة نخشى عليها الفشل ، فقد مرت اللغة العربية بهذه التجربة ، وبرهنت على حيويتها وقدرتها المتجددة على الاستيعاب .
فمن القدماء الذين عنوا بتسجيل المصطلحات نذكر " الخوارزمي " صاحب كتاب(مفاتيح العلوم ) و " الجرجاني " صاحب كتاب ( التعريفات ) و " الجواليقي " صاحب كتاب ( المعرب الأعجمي في لغة العرب ) و " الخفاجي " المصري جامع كتاب " شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل ) و " النهاوندي " صاحب كتاب " كشف اصطلاحات الفنون والعلوم ) ... هذا ، وما أثبت في الكتب العربية الأخرى من أسماء المصطلحات أكثر مما ورد في هذا الكتب .(/4)
ومنذ مطلع القرن العشرين بذل بعض الباحثين مجهودهم في اختيار مصطلحات مفيدة . ولا شك أن للمجامع اللغوية التي أنشئت في القاهرة و دمشق و العراق – أثرها الفاعل في دفع تأصيل وضع المصطلح العربي ، وقد قامت بجهود وإنجازات مهمة في هذا الحقل .
ويطلع – الآن – بمهمة تأصيل المصطلح العربي وتوحيده مكتب تنسيق التعريب بالرباط التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم . وقد أنشئ هذا المكتب بالرباط عام 1961م . وفي مايو 1972 تم إلحاق هذا المكتب بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم . وترتكز وظيفته أساسا على :
1. تنسيق الجهود العربية في إيجاد المقابل العربي للمصطلح الحديث في مختلف فروع المعرفة وتحقيق توحيده .
2. تكريس استخدام العربية وإحلالها المكانة اللائقة والمشرفة في المناهج والتلقين ، بمختلف أقسام و حقول وشعب التكوين العلمي والتقني والمهني .
3. الإسهام في النشر والتعريب بجهود الباحثين –لغويين و مصطلحيين – في تحديث اللغة العربية علميا و حضاريا و تأكيد حضورها المتطور .
ويعني المكتب بإصدار مجلة " اللسان العربي" وهي مجلة سنوية تعنى بنشر الأبحاث اللغوية وقضايا الترجمة والتعريب ، كما يعني المكتب بإصدار المعاجم الموحدة والمصادق على مصطلحاتها في مؤتمرات التعريب .
ونتيجة لاستمرار الجهود في ترقية المصطلح العلمي العربي وتنفيذه تم إنشاء الهيئة العليا للتعريب في السودان ، استجابة لتوصية الندوة القومية المنعقدة حول تدريس المواد العلمية باللغة العربية في المدة من 22 يوليو إلى 26 منه سنة 1990م .
وقد خطت الهيئة لعملها سياسات عامة نذكر منها فيما يلي [9]:-
1. وضع خطة التعريب وسياساته العامة ومتابعتها .
2. دعم الجامعات فيما يختص بإنجاز سياسات التعريب ، وتأمين الكتاب العلمي العربي للمواد الدراسية .
3. العمل على عقد ندوات للمصطلحات العلمية ، في المواد المتخصصة في الجامعات على أن تتولى الجامعة هذا العمل بالتنسيق مع الهيئة .
4. عقد ندوات متخصصة في علم اللغة العربية وفقهها ، بما يعين المختص على التأليف والترجمة والتدريس .
5. العمل على إقامة معارض الكتاب العلمي العربي بمشاركة دور النشر المتخصصة .
6. إنشاء علاقات مع مكاتب تنسيق التعريب والمجامع اللغوية في البلاد العربية و غيرها .
7. وضع ضوابط للتأليف والترجمة والنشر العلمي .
8. جلب أهم المراجع الأساسية والأجنبية التي تخدم التعريب .
9. إدخال قسم خاص بالحاسوب ، ووضع برامج لمصطلحات للتنسيق والتصحيح وتسهيل استخراج المصطلح العلمي للباحثين والدارسين .
10. تأكيد جودة المادة العلمية وسلامة اللغة العربية في الكتب المترجمة والمؤلفة قبل إجازتها للنشر .
وتضم مكتبة الهيئة ما يقارب عشرة آلاف عنوان . وما زالت تتلقى إضافات عديدة من الكتب العلمية ، لتلبي حاجة المؤلفين والمترجمين في التخصصات العلمية المختلفة . وتشمل عناوين المكتبة المجالات التالية :
1-المعاجم والموسوعات العلمية والفهارس .
2- كتب الأساس في اللغة وعلومها .
3- الكتب العلمية العربية وتشمل :-
أ - الكتب المنهجية الدراسية .
ب - الكتب المترجمة .
ت - الدوريات .
4- كتب التراث العلمي العربي .
وتقوم وحدة توحيد المصطلح بالهيئة بمتابعة مشاريع المعاجم العلمية لتوحيد المصطلح العلمي، وذلك بالتنسيق مع الجامعات وجميع أهل التخصص العلمي ، والمؤسسات الأخرى ذات الصلة . ولتحقيق ذلك تتبع الوحدة منهجا يضمن اشتراك أكبر عدد من أهل الاختصاص في إعداد المعجم حيث تنعقد لكل تخصص ندوة علمية تنظر في حصر مفردات المعجم الخاص به و تعريبها و توحيده ثم تعمل على نشره .
ولقد صدرت مشاريع المعاجم التالية :
1- معجم الفيزياء الموحد .
2- المعجم الهندسي الموحد .
3- معجم الكيمياء الموحد .
4- معجم المصطلحات الرياضية الموحد .
ويتواصل برنامج إعداد مشاريع المعاجم المتخصصة في العلوم الأخرى ، مثل : علوم الحاسوب ، وطبقات الأرض ، والآثار ، وغيرها . وقد روعي في سلسلة مشاريع المعاجم العلمية الموحدة أن تكون متوافقة مع ما أجمعت عليه المعاجم الأخرى ، الصادرة من مجامع اللغة العربية بالوطن العربي .
وتعمل وحدة التأليف والترجمة على إصدار الكتاب العلمي المعرّب عن طريق التأليف أو الترجمة . وتضع لائحة للتأليف والترجمة والنشر تتضمن البنود الرئيسية لخطة هذا العمل .
وتتأكد الوحدة من التزام المتعاملين معها – من المؤلفين والمترجمين – بالمصطلحات العلمية الواردة في المعاجم الموحدة كل في تخصصه . وكذلك مراعاة نظم الكتابة العلمية العربية المجازة لهذا الغرض .
هذا وتتعاون هيئة التعريب العليا بالسودان مع الجهات التالية :
1- المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر بدمشق التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم .
2- لجنة إنجاز الكتاب الجامعي في الجمهورية العربية السورية .
3- منظمة الصحة العالمية .(/5)
4- المكتب الإقليمي للعلوم والتكنولوجيا للدول العربية .
5- معهد الترجمة الإسلامي بالخرطوم .
6- المعهد العالي للفكر الإسلامي بواشنطون .
7- مجمع اللغة العربية في السودان .
8- مجامع اللغة العربية في الوطن العربي .
9- مكتب تنسيق التعريب بالرباط .
4/ طرق وضع المصطلح :
يكاد الباحثون في المصطلح العربي يجمعون على أن المصطلحات ينقب عنها أولا في كتب اللغة القديمة فإذا وجدت اعتمدت وإذا لم توجد لجيء إلى واحد مما يلي : الاشتقاق ، أو المجاز ، أو النحت ، أو التعريب .
ويمكن أن نوضّح هذه الطرق فيما يلي :
أ/ الاشتقاق :
إن كثيرا من المصطلحات العلمية وجدت المعنى المطابق لها تماما سواء بلفظ قديم وضع للغرض نفسه أو لقريب منه . وإذا لم يوجد للكلمة الأعجمية مقابل في اللغة العربية فأمامنا طرق أخرى – كما ذكرنا – أهمها وأولها الاشتقاق ، وهو أخذ كلمة من أخرى مع تناسب بينهما في المعنى وتغيير في اللفظ .
والاشتقاق قياسي في لغة العرب قال احمد بن فارس : " أجمع أهل اللغة – إلا من شذ منهم – أن للغة العرب قياسا ، وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض ،والأصل فيه أن يكون من المصادر ، ويقل من أسماء الأجناس والجامدة ، : كأورقت الأشجار ، وأسبعت الأرض ، وفلفلت الطعام ، ونرجست الدواء . من الورق والسبع والفلفل والنرجس .
وقد وقف كثير من اللغويين بالاشتقاق من أسماء الأجناس عند حد السماع . ولا شك أن القياس في هذا الباب يفتح المجال واسعا أمام اللغة ، في استيعاب معاني الكلمات الحضارية الحديثة ، التي تدخل في حياة الإنسان بالعشرات والمئات كل يوم . فالاشتقاق من أسماء الأجناس ضروري لا بد منه ، ولا يجوز أن يكون عدم السماع حجة في منع قياسه و اطراده.
وبالرغم من أن الأقدمين جروا على الاشتقاق من الاسم المعرّب فقالوا : هَنْدَسَ و دَرْهَم وخَنْدَق ، وجرى العصريون على اشتقاق كهرب و كهربائية من الكهرباء ، ومغنط ومغناطيسية من المغناطيس ، واشتقاق أكسد من المعرب أكسيد ، نقول : بالرغم من ذلك قد وجد في العصر الحديث من يمنع إعطاء ما عرّبته العرب حكم كلامها فيشتق ويشتق منه ، وهذا مفهوم خاطئ فضلا عن جموده و إعاقته لحيوية اللغة ، إذ العرب كانوا يتناولون اللفظ الأعجمي فيصقلونه ويهذبونه على حسب أوزان لغتهم ومنطق لسانهم فيخرج من ألسنتهم كأنه عربي صميم ، وهكذا فإن هذه الألفاظ تعد فصيحة فكيف يمكن بعد ذلك أن تعدّ لغات مستقلة ؟! الواقع أنها ألفاظ عربية تخضع لقواعد اللغة العربية و نحوها و صرفها دون أي تمييز إلا ما حكم به الذوق السليم في عذوبة الجرس وسهولة اللفظ .
فهم قد اشتقوا من لفظ " هندسة " المعرب عن الفارسية : اسم الفاعل ( مهندس ) والفعل (هندس ) والمنسوب (هندسي ) كما فعلوا في معنى " الصفر " فاشتقوا منه الجمع (أصفار) والفعل (صفر ) والمصدر (تصفير ) وهذه هي الفكرة الأساس التي يمكن أن نستوفيها ويمكن أن تهتدي بها خطانا اليوم .
فعبقرية اللغة العربية متأتية من توالدها بالاشتقاق وكل لكمة تلد فيها بطونا والمولودة بدورها تلد بطونا أخرى ، فحياتها منبثقة من داخلها , وهذا التوالد يجري بحسب قوانين وصيغ وأوزان وقوالب هي غاية في السهولة .
إن من المصطلحات ما يكون جامدا من حيث المعنى فلا يحتاج إلى مشتقات ، في حين أن منها ما يكون متصرفا من حيث المعنى فيحتاج إلى عدد قليل أو كثير من المشتقات . فعلينا أن نلاحظ هذه النقطة ، فلا نختار مقابل المصطلحات التي هي من الصنف الثاني إلا ما يقبل التصريف .
ومن المشتقات اسم الآلة ، وهو اسم مصوغ من مصدر الفعل الثلاثي المتعدي ، لما وقع الفعل بواسطته . وتقول كتب الصرف : إن له ثلاثة أوزان هي : مِفْعَل ، كمبرد ، ومِفْعَال ، كمنشار و مِفْعَلة كمكنسة .
والرأي عندي أن نسير على القول الراجح القاضي بقياسية اسم الآلة في هذه الصيغ الثلاث لاستفاضتها في الاستعمال وشهرتها ولا سيما ونحن في أوج معركة التعريب .
والملاحظ أن جميع أجهزة القياس التي كانت معروفة قد انحصرت في وزن " مِفْعَال " مثل : ميزان و مكيال ومثقال ومعيار و مسبار و...الخ . لذلك يجدر بنا أن نخصص هذا الوزن للجهاز الذي ينفع للقياس ، فنقول : مِطْياف لمقياس الطيف ، و مِمْطار لقياس المطر ومِضْغاط لقياس الضغط ..الخ .
وغير ذلك ، حيث يكون هذا الوزن لأجهزة القياس كافة و نحصرها فيه . ونترك الكلمات القديمة التي على هذا الوزن ، دون أن نتعرض لها حتى ولو لم تعن وظيفة القياس ، مثل : مِفْتاح ومنشار و سواهما .
و من هذا نرى أنه بمجرد تعرفنا القصد من وضع صيغة " مِفْعَال " يتيسر لنا إيجاد تسميات كثيرة دون تردد أو التباس . وقد ترك لنا الباب مفتوحا لإدخال مسميات جديدة قد لا تكون في وقتنا الحاضر لكن المكان لها ممهّد سلفا لتحتله في المستقبل .(/6)
وإذا استعرضنا أسماء الآلة التي على وزن "مِفْعَل " مثل : مبرد و مسرد و مثقب و منقش ومبضع و محجم وغير هذا ، نجد أنها أدوات تقوم بعمل مباشر فنتركها لمثل هذه الوظيفة .
أما إذا استعرضنا الأوزان التي على وزن " مِفْعَلة " مثل : محبرة و ومكنسة و ملعقة و مطرقة ، وغيرها فنجد أنها تقوم بعمل غير مباشر ، فهي بالأحرى وسيلة ، فالمحبرة وسيلة لحفظ الحبر وليست هي التي تصنع الحبر والمغسلة وسيلة للغسل ... وهكذا . بهذا نرى أن مصفاة و مشواة ومطواة قد خضعت للقاعدة وعبرت عن وظيفتها .
فالوزن – كما يتراءى لنا – هو العامل المسيطر في التعبير عن الوظيفة ، قبل الأخذ بأية اعتبارات أخرى . ولدينا وزن آخر جدير بالعناية وقلما يذكر في اسم الآلة ، هو وزن " فِعَال " الذي يأتي على وزنه أسماء كثيرة للآلة ، مثل : حزام ، ولجام ، وزحام ، و خطام ، و زناد ، وغيرها : وهذه الأدوات تقوم بعمل مباشر أيضاً ،كالأدوات التي على وزن " مِفْعَل " لكن هناك – مع ذلك – فارقا بين المجموعتين، فما كان على " مِفْعَل " لا يزول أثره فالمبرد يبقى أثره بعد البرد ، وكذلك المبضع والمنقر وغيرها . أما ما كان على وزن " فِعَال " فلا يبقى أثره ، مثل حزام ولجام .
وفي لغتنا أوزان أخرى حملها المحدثون معنى اسم الآلة ، فأدته بكل يسر وسهولة مثل :
فاعل وفاعلة كنا بض و باخرة .
و فَعَّال وفَعّالة كجرّار و طيّارة .
و مفعل و مفعلة كمحرض و منوبة .
وقد جاء اسم الآلة جامدا على غير هذه الأوزان : كالإبرة والقلم والسكين والفأس والناي والقدوم والهراوة و الرّمح والسيف و غير ذلك .
و من الاشتقاق الزيادة في الكلمة ، فنقل المجرد إلى أوزان المزيد ، يغطي أغراضا كثيرة ومختلفة ، كالتعدية و التكثير والسلب والمشاركة والصيرورة و المطاوعة و الطلب والانتساب و غيرها . فالمشتقات من المصدر والأوزان الأخرى يجب ألا تبقى محدودة العطاء ، إذ قد نفتش أحيانا عن جملة لترجمة مصطلح ، مع أن وزنا مجهولا لا يمكن أن يؤدي المعنى بدقة .
ولنضرب مثلا لتعدد الوزان بالزيادة في المادة الواحدة ، فـ " الصبغ" هو المجرّد وهو الأصل، وفوق ذلك نجد : الصباغة " و هي الحرفة ، و" الصبّاغ " وهو محترف الصباغة و " المِصْبَغ " وهو الجهاز في الآلة (إن وجد ) الذي يطبع اللون على النسيج ، و" المِصْبَاغ " وهو الجهاز الذي تقاس به دقة الصباغة ، و" المِصْبّغَة " مكان الصبغ ، وهكذا .
وإذا كان الاشتقاق هو أهم وسائل وضع المصطلح ، إلا أنه لا يكفي وحده لتوليد الكلمات التي يحتاج إليها التفكير البشري ، لأن عمله مقصور على أوزان وقوالب معيّنة . وهذه الأوزان والقوالب – مهما كانت كثيرة و ولودة – لا تستطيع أن تستوعب جميع المعاني العقلية ، فلا بد إذن من الاستعانة بطرق أخرى أبرزها النحت والتعريب .
ب/ النّحت :
النحت نوع من الاختصار والتركيب، يمزج فيه لفظان أو عدة ألفاظ أو أهم حروفها ، فيتولد عنها لفظ واحد جديد . ومعناه في أصل اللغة البري . وهو ليس اشتقاقا بالفعل وإنما من قبيلة ، لأن الاشتقاق أن تنزع كلمة من كلمة . والنحت أن تنزع كلمة من كلمتين أو أكثر .
ويرى البعض أن النحت والتركيب أمر واحد . وكان القدماء يطلقون التركيب على النحت كما هو رأي الخليل . وجاء في كتاب الصاحبي : " العرب تنحت من الكلمتين كلمة واحدة . وهو جنس من الاختصار : كعبشمي منسوب إلى اسمين ، أنشد الخليل :
أقول لها ودمع العين جار***********ألم تحزنك حيعلة المنادي
من قوله : " حي على "
وأقرّ مجمع اللغة العربية بالقاهرة في جلسته المؤرخة بالحادي والعشرين من فبراير سنة 1948 مبدأ العمل بالنحت إذا اقتضى الأمر ذلك . وهو بذلك يجدد ما قام به النقلة في العصر العباسي ، خاصة في ميدان الطب والأدوية .
وقال جرجي زيدان :" النحت ناموس فاعل على الألفاظ ، وغاية ما يفعله فيها إنما هو الاختصار في نطقها تسهيلاً للفظها، واقتصاراً في الوقت بقدر الإمكان "[10] .
وقال محمد شكري الألوسي : " مما يدل على أنّ اللغة العربية أحسن اللغات صيغة وأساليب ... وأكملها نسقاً وتأليفاً ، تسويغ استعمال النحت عند اقتضاء الضرورة ، ولو أن العرب شاهدوا البواخر وسكك الحديد ... الخ ، لوضعوا لذلك أسماء خاصة ناصعة ،فهم على ذلك عير ملومين ، وإنما اللوم علينا حالة كوننا قد ورثنا لغتهم وشاهدنا هذه الأمور ، ولم نتنبه لوضع أسماء على النسق الذي ألفه العرب وهو الاختصار.
وقد خصص الشيخ عبد القادر المغربي بحثا وافيا للنحت في كتابه " الاشتقاق و التعريب" . واستفاد السابقون من النحت في تكوين المصطلحات العلمية عند الضرورة حتى إنهم اقترحوا _ أحيانا _ بصراحة . ونحن نعتقد أن الضرورة ماسة لذلك ، حيث إننا نعبر عن كثير من المعاني العلمية بتراكيب متنوعة .(/7)
ومن المعلوم أن " لا " النافية أعطتنا كثيراً من الاصطلاحات العلمية الرشيقة ، فقد استعمل المتقدمون : " لا متناهي" و "لا ضروري" و "لا دائمي" و" لاإرادية " وقد استفاد العصريون - أيضا – من هذه الصيغة مثل " لاسلكي" و " لا مركزية" و"لا شعوري" و "لا إرادي" .
إننا نرى استعمال النحت لأجل الاصطلاحات العلمية ، وهذه الاصطلاحات محدودة بطبيعة الحال، فلا تصعب مراعاة التناسق في تكوينها ، ولا يمكن نشر العلم بالتراكيب المطولة فإذا لم نقبل النحت فسنضطر إلى استعمال الاصطلاحات الإفرنجية نفسها . كما أن المصطلحات العلمية المركبة من عدة كلمات ثقيلة الاستعمال ، وتتجه جميع اللغات الحية إلى جعلها قصيرة مستساغة[11] .
ج/ التعريب [12]:
ونذكر في النهاية طريقة هي الأخيرة – في رأينا- وضعا واعتباراً ، وهي طريقة التعريب ، أي نقل المفردات الأجنبية بلحمها ودمها . والمعرب ما استعملته العرب من الألفاظ الموضوعة لمعان من غير لغتها . وفي اللغة العربية من اللغات : اليونانية ، والفارسية ، و السريانية، والرومانية، والحبشية، والعبرانية، والهندية- الشيء الكثير. وقد أجاز مجمع اللغة العربية بالقاهرة الالتجاء إلى هذه الطريقة، إذا دعت إلى ذلك الحاجة الماسة ، بأن لا يوجد لفظ متداول في اللغة أو مهجور ، يؤدي بدقة المعنى المصطلح عليه. والتعريب ضروري لحياة العلم ، ولا خوف معه على كيان اللغة ، إذ يكون أخر ما يلجأ إليه في النقل ، عندما لا توجد كلمة عربية تترجم لها الكلمة الأجنبية ، أو يشتق منها اسم أو فعل أو يتجوز منها مجازاً ، أو ينحت لفظ .
واللفظ المعرّب يتبع قواعد التعريب في بنائه وتركيبه ، سواء أشبه العربي من كل وجه ، أو حافظ على ما يدل على أعجميته . وهناك فريقان في أمر التعريب ، ففريق يذهب الى وجوب اتباع الكلمة المعرّبة وزنا عربيا ، فليس يكفي أن نتكلم باللفظة الأعجمية حتى تغدو معربة . وفريق آخر – فيه سيبويه و جمهور أهل اللغة – يذهب إلى أن التعريب أن تتكلم العرب بالكلمة العجمية مطلقا ، يلحقونها بأبنية كلامهم حينا ، وحينا لا يلحقونها . بل قد ذهب بعضهم إلى : إذا عربت الألفاظ الأعجمية وتمكنت لدى العرب صرفها العرب واشتقوا منها ، مثل : ديباج ، فرند ، زنجبيل ، لجام ... الخ .
و نحن نرى ألفاظا كثيرة عربت وشاع استعمالها مع وجود نظيرها في اللغة ، مما يدل على مرونة هذه اللغة ، وقدرتها على الاستيعاب والنقل من اللغات الأخرى دون حرج ، فلم يصبها الفساد ، ولم تفقد هويتها ، بل على الضد من ذلك ، ازدادت غنى وخصوبة ، وأصبحت لغة عالمية للحضارة والفكر لمدة طويلة .
إن العلوم التطبيقية الحديثة وما تضيفه في كل يوم من الأدوات والمخترعات الجديدة ، تتطلب ألفاظا كثيرة لهذه الأدوات و الآلات . كما أن طبيعة بعض العلوم مثل الكيمياء والفيزياء الحديثة وبما تتميز به مصطلحاتها من حيث ارتباط ألفاظها بعضها ببعض ، كل ذلك يبرر لنا اللجوء إلى تعريب الألفاظ ، وإلا اختلط الأمر علينا وضاع الهدف ، وبقينا متخلفين عن اللحاق بالركب المتقدم ، والبدء في سلم المشاركة والإبداع .
فالتعريب يغني اللغة بذخيرة من الكلمات التي تعبّر عن كل ظلال المعاني الإنسانية ، كما أنه يمدنا بفيض من المصطلحات العلمية الحديثة ، التي لا نستغني عنها في نهضتنا العلمية . فلا بد من إباحة التعريب بأوجهه المختلفة ، ونقل الأسماء الأعجمية إلى اللغة العربية بحروفها وذلك مثل أسماء العلام الأعجمية ، واللباس والطعام و الشراب و الأثاث والعقاقير الطبية و أسماء الحيوانات و النبات ، مما لم يعرفه العرب وليست في بلادهم .
ولعل من الواجب أن تتعاون جميع المؤسسات اللغوية على أصول يمكن اتخاذها قواعد للتعريب ، يقاس عليها ويجري على نسقها ، لكي تتوحد المصطلحات ، فيسهل العلم ويعمَّ نشره في جميع الأقطار العربية .
د/ النقل المجازي :
وهو طريقة في التوسع اللغوي ، إذ قد يستعمل لفظ في معنى على سبيل المجاز ، حتى يصير المجازي هو الذي ينصرف إليه الذهن عند الإطلاق . و من هنا يمكن بعث الكلمات القديمة للدلالة على معان حديثة بطرق النقل المجازي . ولا يلبث اللفظ – لكثرة استعمال المجازي – ألا يفهم منه إلا هذا المعنى المجازي .
5/ لماذا التعليم باللغة العربية :(/8)
تعمل الجامعات في العالم العربي والإسلامي لاعداد القدرات الفكرية والعلمية للحاجة المتزايدة لذلك وهذا يقتضي أن تهدف الجامعات و مراكز البحوث العلمية إلى استنبات القدرات الذاتية وتكوين الباحثين العلميين ، وإيجاد التجانس الفكري تحقيقا لمتطلبات التنمية ، وتأصيلا للقيم الحياتية ولما كان معظم أعضاء الهيئات التدريسية قد تلقت تأهيلها في الجامعات الأجنبية فقد نتج عن ذلك تعدد المدارس الفكرية والاتجاهات المنهجية التي أورثت الطالب الجامعي بلبلة فكرية ، وتنازعا نفسيا وتعددا في الرؤى و الاتجاهات مما جعل تعريب التعليم الجامعي والدراسات العليا أمرا ضروريا نادت به المنظمات العربية وقادة التعليم والفكر لأن تكوين القيادات في مجالات الحياة المختلفة لا تتم إلا بتأصيل العلم والتقنية في اللغة العربية في مجال التعليم والبحث والإنتاج العلمي وذلك بتنمية اللغة العربية باعتبارها لغة عالمية معاصرة وتنميتها تكون بتطوير أساليب تعليمها ، وتحسين قدراتها وتجديد طاقاتها وإبراز عبقريتها الإبداعية .
إن أبرز مقومات الشخصية الإسلامية بجانب قيمها الإنسانية والروحية نظامها اللغوي فحول اللغة تقوم الحضارة وباللغة تبلغ الأمة رسالتها الخاتمة وتنشر ثقافتها وتراثها الذي لم تبلغه أمة في التاريخ الإنساني نوعا وحجما وكما وكيفا وانفعالا وتفاعلا وتأثرا وتأثيرا في المعرفة الإنسانية .
اللغة إبداع إنساني يلبي الحاجات الطبيعية والروحية والاجتماعية وهي قابلة دائما لاستيعاب الجديد وهي منهج فكر وأسلوب تصوّر لأننا نفكر بلغتنا التي تعبر عن هويتنا وحكتنا وتجارب حياتنا وفلسفتنا وتراثنا وبصيرتنا مما يؤكد قدرتها على مواصلة دورها الحضاري واستيعابها للمعرفة البشرية في كل زمان.
والذي جعل العربية لغة العلم والتكنولوجيا في الماضي وقابليتها لذلك في المستقبل ما تنفرد به من إمكانات وسمات قلّ أن تتوفر في لغة أخرى منها :
1- مرونة اللغة العربية وقدرتها على التفاعل مع غيرها حيث استوعبت العلوم الإنسانية كلها ترجمة ثم حفظا وإضافة وابتكارا ، وعندما نزل القرآن الكريم كان سببا في توسيع دائرة الألفاظ ومدلولاتها واكتسبت الألفاظ مرونة كبيرة وصلاحيات واسعة لتعبر عن المعاني الجديدة والحياة الجديدة ثم تستوعب بعد ذلك كل مستحدث في العلم أو جديد في الفكر وأصبحت اللغة العربية تحمل المعاني اللغوية التي كانت عليها والمعاني الاصطلاحية التي طرأت عليها وثبتت فيها فكان القران بذلك إضافة ضخمة و ثروة هائلة أثرت العربية كما أن اللغة النبوية والبلاغة المحمدية في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عززت المصطلحات الجديدة والمعاني المستحدثة للألفاظ والتراكيب العربية .
وتتمثل هذه المرونة في بروز ظاهرتي اللغة الأدبية واللغة العلمية فالعربية عاشت لغة أدبية برز فيها الخطباء والشعراء حيث كان الشعر ديوان العرب وإن قواعدها أسست على مستوى اللغة الأدبية واستمرت طرائق التعبير معتمدة على المقاييس الأدبية المتعارفة بين الشعراء والكتّاب والتي ظلت عن طريق الرواية حتى نهاية القرن الثالث الهجري حيث بدأت اللغة العلمية تبرز باعتبارها مستوى خاصا في التعبير عن وصف الأشياء لتعيين ماهيتها على اعتبار أن يراد بـ " الأشياء كل ما يدخل في نطاق الحواس الإنسانية من مخلوقات ويراد بالوصف كل جهد يأخذ شكل التقرير أو التحليل أو التركيب العلمي " [13].
وإذا كان الأسلوب الأدبي يتميز بالذوق والجمال فإن الأسلوب العلمي لا يخلو من جانب جمالي لا يطغى على تميزه بالدقة في استعمال الكلمات والجمل والرحابة والمرونة وتجنب الصور البلاغية والمحسنات البديعية .
2- قدرة اللغة على الابتكار والتوسع في المصطلحات العلمية فلغة العلم في الإسلام تطورت عبر أزمنة حيث كان القرن الأول عصر المصطلحات الفقهية والتشريعية ومصطلحات علوم التفسير والحديث وعلم الكلام ثم جاء القرن الثاني ليكون عصر المصطلحات اللغوية والأدبية والتاريخية والسياسية ثم استكملت العلوم لغتها ومصطلحاتها التي عمت العالم الإسلامي ونمت في القرن الرابع الهجري وظهرت المصطلحات في معاجم " واستعان المسلمون على وضع هذه المصطلحات بوسيلتين هامتين : أولهما (النقل ) وهو منهج مألوف في اللغات جميعها فتنقل الكلمة من مدلولها الأصلي إلى مدلول جديد له به صلة وتستقر فيه بحيث تصبح حقيقة عرفية وقد ينسى المدلول القديم ويحل محله المدلول الجديد وحده ، والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر من بينها الصلاة والصيام والزكاة في الفقه ، والتمييز والاستثناء في النحو والجامد والمشتق في علم الصرف . والفرق بين الدلالة اللفظية والدلالة الاصطلاحية لهذه الكلمات واضح و معروف .
والوسيلة الثانية من وسائل تكوين المصطلح العلمي هي الوضع ، ويراد به خلق لفظ جديد لأداء معنى خاص بالنحت والاختراع أو التركيب والجمع وأوضح صوره الاشتقاق والعربية ولا شك لغة اشتقاقية "[14] .(/9)
3- التعليم الجامعي باللغة العربية يتناسب مع القدرات المعرفية وطاقات الإدراك لدى الطالب الجامعي لأنها اللغة التي يتعامل بها في حياته اليومية ويعبر بها عن حاجاته و مشاعره وهي قبل ذلك مرتبطة بدينه وعقيدته والقناعة العقلية والنفسية بأهمية التعليم باللغة العربية يحقق عملية التفاعل بين الطالب والأستاذ ويسهل عملية الفهم والإفهام " لأن من أهم مقومات النجاح وأعمقها قبول التعريب نفسيا من المجتمع والطالب والأستاذ وخلق الاستعداد النفسي والاجتماعي في تقبل الدراسة باللغة العربية ضرورة من ضرورات الإبداع وخلق الثقة بقابلية العرب في استيعاب العلوم الحديثة وهضم الحضارة الجديدة لتكون وحدة روحية تزرع الثقة العميقة بأصالة العربية والاعتداد بالتراث الإسلامي وبالتالي إعادة الثقة بقابلية الطالب العربي والاعتداد بالمستوى العلمي للأستاذ "[15] .
وبما أن اللغة – كما ذكرنا – هي أداة التواصل الإنساني فإن البعد النفسي للتدريس بالعربية يساعد على الإبداع والأصالة العلمية والقضاء على الحواجز النفسية التي تنشأ عن التعلم بلغة أجنبية لأن التعليم بها يفقد الطالب البعد النفسي المطلوب في العملية التعليمية ويضيع الإحساس بهوية الطالب وذاتيته المعززين بلغة دينه وأمته ، كما أن التعليم باللغة الأجنبية يعمق لدى الطالب الإحساس بالتبعية الفكرية ، والدونية بل إنه يعمم هذا الإحساس على أساتذته الذي يتعاملون معه بلغة غريبة على مجتمعه و دينه وهويته الأمر الذي قد تكون له آثاره السالبة في مجالات التفكير والإبداع .
وعندما ننظر إلى الأمم المعاصرة كاليابان و كوريا وغيرهما ممن حققوا وجودا لهم في الحياة العلمية المعاصرة فإننا نجد أن سرّ نهضتها أنها نقلت العلوم والتكنولوجيا إلى لغاتها التي بها استوعبت وتمثلت وأنتجت في الحضارة الإنسانية المعاصرة ، وما بنى المسلمون حضارتهم التي أسست الحضارة المعاصرة إلا باللغة العربية .
واليهود أحيوا لغتهم العبرية و جعلوها لغة التعليم الجامعي منذ أن أنشئوا الجامعة العبرية عام 1918م ولم ينتظروا حتى تكتمل الجامعة وتنمو بل جعلوا العبرية لغة التدريس في الطب والهندسة والعلوم وغيرها وقد ذكر الأستاذ اسحق موسى الحسيني تفاصيل ذلك في بحثه الذي قدمه لمجمع اللغة العربية في القاهرة عام 1985م حيث ذكر أن الجامعات التي أنشئت في إسرائيل كلها مع مراكز البحوث العلمية والتاريخية تتخذ العبرية لغة للتدريس ليس للطلبة اليهود فحسب بل حتى للعرب الذين يدرسون فيها فاليهودي يتطوّر في مجال العلوم والفنون والآداب بلغته التي يراها لغة العلم والتقنية والآداب بينما يظن بعض العرب والمسلمين أنهم لن يتطوروا بالعربية التي فرضوا حضارتهم بها وأثبتوا بها وجودهم في العالم القديم .
فاليهود خططوا لاحياء لغتهم بفكر ديني ربط بين البعث الحضاري اليهودي والوسيلة التي يعتمد عليها وهي اللغة العبرية التي نظروا إليها باعتبارها أداة بعث و عنوان نهضة لليهودية العالمية وليست مجرد أداة تواصل إنساني لغوي بين الناس بل اعتبروها ضرورة دينية ذات تأثير مباشر على الأمة أولاً و الآخرين ثانيا ، فاليهود بعد شتاتهم وفقدان هويتهم أوجدوا هويتهم وبعثوا وجودهم باللغة العبرية التي أصبحت لغة التعليم في المراحل المختلفة ولغة المنتديات والأنشطة الثقافية والاجتماعية .
إنهم كما خططوا لإنشاء دولتهم خططوا لاحياء لغتهم لتكون لغة قومية تعبر عن دولتهم وكيانهم السياسي فشجعوا الحديث بها في بيوتهم وكتبوا بها صحفهم ونشراتهم وجعلوها لغة منتدياتهم وتجمعاتهم ووصفوا معجمهم اللغوي العبري كل ذلك قبل قيام دولتهم التي وجدتهم جاهزين بلغتهم.
5- تعمل التربية الإسلامية لإيجاد الإنسان الصالح المتعلم الحاصل على معرفة منظمة والقادر على تطوير مهاراته الفكرية وبصيرته و ذوقه الحسي والجمالي ووسيلة التربية في تحقيق تلك الأهداف هي اللغة السهلة التي يفهمها الطالب العربي المسلم وهذه لا تتوافر إلا في اللغة العربية التي كرّمها الله سبحانه وتعالى بالقران الكريم الذي جعل علاقة المسلم بها علاقة تعبدية إيمانية تجعل العالم المسلم يتعامل مع العلوم الطبيعية والإنسانية باعتبارها من علوم الدين الاستدلالية وأن تعليم العلوم باللغة العربية من فروض الكفاية التي قد ترقى لفروض العين أحياناً لأن الطالب عندما يتعلم بلغته والمعلم عندما يعلّم بلغته يتحقق لهما معا التواؤم النفسي والديني لأنهما يتعاملان بلغة القرآن الكريم الذي حقق بها المسلمون مشروعهم الحضاري الإسلامي في الماضي وبها يستطيعون تقديم مشروعهم للعالم المعاصر، ولارتباط العربية بالدين قال ابن سيرين : " إن العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم " .(/10)
ولما كانت اللغة هي أداة التواصل والوصل بين الأستاذ والطالب فإن ثقتهما وتعاملهما باللغة التي يعرفانها ويعتزان بها ستقضي على كل جوانب القصور والضعف في عملية التواصل والتفاعل بينهما ، بالإضافة إلى تحقيق الأصالة العلمية وتذويب الفارق النفسي والعقلي عند التعامل بلغة غير العربية لأن " أهم مقومات النجاح وأعمقها قبول التعريب نفسيا من المجتمع والطالب والأستاذ وخلق الاستعداد النفسي والاجتماعي في تقبل الدراسة باللغة العربية ضرورة من ضرورات الإبداع وخلق الثقة بقابلية العربية في استيعاب العلوم الحديثة وهضم الحضارة الجديدة لتكون وحدة روحية تزرع الثقة العميقة بأصالة العربية والاعتداد بالتراث الإسلامي وبالتالي إعادة الثقة بقابلية الطالب العربي والاعتداد بالمستوى العلمي للأستاذ " [16] .
13- إن تطوير الأداء للأستاذ الجامعي يتطلب أولا إجادته للغته العربية وإيمانه به دينا وقناعته وحرصا على التعليم بها لأنها الوسيلة الوحيدة لإحداث التفاعل بينه وبين طلابه " لأنه لا سبيل لقيام حركة علمية حقيقية في بلد إلا إن اعتمدت على اللغة الوطنية وبودّنا أن يعرب العلم والتكنولوجيا في الدرس والمحاضرة في قاعة البحث والمعمل في المصنع والمزرعة " [17]، والذي يحقق ذلك هو الاستعداد النفسي لدى الأستاذ بالإيمان بالتدريس بالعربية والإيمان بقدرتها على تسهيل عملية الاستيعاب لدى الطلاب وإسقاط الحاجز العقلي والنفسي واللغوي بينه وبين طلابه عندما يدرسهم باللغة التي درسوا بها في المراحل الدراسية السابقة ، والتدريس بالعربية وسيلة أيضا إلى الإبداع العلمي ورفع المستوى الثقافي والعلمي للأمة وتقوية الصلة بين التفكير والتعبير وتقوية الصلة أيضا بين الجامعة والمجتمع وذلك مع مضاعفة الاهتمام باللغات الأجنبية لأنها وسيلتنا لتواصل العلمي والتفاعل الحضاري .
إن العربية استوعبت – كما ذكرنا – ثقافات الشعوب كلها عن طريق الترجمة وتمثلتها و هضمتها ثم تجاوزتها فأضافت إليها وأبدعت فأصبحت لغة العلوم الحيوية " فالقضية المثارة حول تعريب التعليم الجامعي والبحوث العلمية اليوم كانت مثارة في أوربا قبل ثلاثة قرون بصورة عكسية فقد كانت كتب الطب العربية هي التي تدرس في الجامعات الأوربية وكان هناك من العلماء الأوربيين من يرى أنه لا يمكن دراسة العلوم والرياضيات والفلك والطب إلا باللغة العربية لأنها لغة العلوم وكانوا يطلبون ذلك في الجامعات العربية في غرناطة و قرطبة وسالرنو كما يحدث اليوم بالنسبة إلى العرب الذين يطلبون العلم في الخارج وهم الذين يرون استحالة دراسة العلوم باللغة العربية لأنهم تعلموا في بلاد أخرى ولقنوا ما لقنوا بلغة أجنبية "[18].
6/ تجربة تعريب التعليم العالي :
قضية تعريب التعليم الجامعي من القضايا التي شغلت العلماء والباحثين في العالم العربي والإسلامي حيث عقدت مؤتمرات و ندوات متعددة حول التعريب وأهميته بدءا من مؤتمر بغداد عام 1978 حيث ركزت البحوث على أهمية تعريب التعليم الجامعي وحيث أثبتت التجارب في الجامعات العربية أن التدريس باللغة العربية أكثر نفعا وأعم فائدة للطلبة والأساتذة في استيعاب العلوم وتعليمها . وكانت الدعوة لتعريب التعليم مرتبطة بالتحرر من العقلية الاستعمارية التي روجت لعجز العربية أن تكون لغة علم وحضارة وبحيث روّج الكثيرون لهذه الفكرة الكثيرون ممن رفضوا التعريب وحاربوه والمعروف أن اللغة التي يتعلم بها المرء يفكر بها والتعليم الجامعي بغير اللغة الأم فصل بين التفكير واللسان وتعزيز للتبعية الثقافية والسياسية وتكريس للتخلف والعزلة بين أبناء الأمة ولغتهم وحضارتهم وتاريخهم . وقد أوضحت نتائج الاستفتاء المتعددة لمكتب تنسيق التعريب أن اللغة العربية هي الأداة الطبيعية للتعليم الجامعي في مختلف المواد ضرورة قومية و دعامة لوحدة الأمة.
الإيمان بحتمية التعريب للتعليم العالي جعل التفكير منصبا على تذليل المشكلات التي تحول دون تحقيقه من حيث المصطلح العربي الموحد والكتاب الجامعي المترجم أو المؤلف والأستاذ المؤهل القادر على التدريس بالعربية . ومع ذلك فقد كان رأي اتحاد الجامعات العربية في مؤتمرهم الرابع في مايو 1982م " أن تعريب التعليم الجامعي قد تأخر كثيرا من الأقطار العربية ولابد من قرار سياسي و خطوة حازمة تتجاوز عوامل التردد والقصور " [19] .
وعن أهمية تعريب التعليم الجامعي في مواكبة العصر ومواجهة سيل المعلومات المتسارع يقول الأستاذ نبيل علي " يصعب تصور إمكان لحاقنا بعصر المعلومات .. عصر انفجار المعرفة دون ترسيخ العلم في وجدان الإنسان العربي وعقله وهو هدف دون تحقيقه تقاعسنا في تعريب العلوم والحجة القائلة بأن تعريب العلوم يقطع صلة طلبتنا بالمراجع الأصلية لهذه العلوم يتعارض مع تعدد مصادر المعرفة في عصر المعلومات "[20] .(/11)
والمعروف تاريخيا أن أول كلية طب أنشأها محمد علي باشا في مصر عام 1826 كان التدريس فيها باللغة العربية واستمرت على ذلك حتى خضوع الحكومة المصرية للضغوط السياسية من المحتلين حيث غيرت لغة التعليم إلى الإنجليزية عام 1887 بعد أن كانت حركة التعريب للعلوم المختلفة قد سارت بخطى ثابتة حيث ألف عدد من العلماء في مجال النبات والحيوان والفيزياء والجيولوجيا والرياضيات والصيدلة والنجوم والفلك [21] .
أ- التجربة السورية :
تعتبر الجامعات السورية صاحبة الريادة في تعريب التعليم الجامعي حيث تم تطبيق التعريب في كلية الطب بجامعة دمشق عام 1919م حيث اشترطوا على عضو هيئة التدريس إتقان اللغة العربية للالتحاق بها ونتيجة للدروس الخاصة في اللغة استطاع عدد كبير منهم إتقان اللغة واستخدامها بدلا من اللغة التركية وتواصلت عملية التعريب في الكليات الأخرى كالصيدلة والهندسة والزراعة و غيرها وتبع ذلك حركة تأليف وترجمة لمصادر وتصنيف عدد كبير من المصطلحات وتأهيل الأساتذة في مجال التعريب حيث ظلت حركة التعريب مستمرة وألّفت كمية كبيرة من المصادر التي تعتمد عليها بعض الجامعات اليوم .
وفي رسالة دكتوراه مقدمة لجامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية بعنوان (تعريب الكليات العلمية في جامعات الدول العربية ) للباحثة "رجاء محمود أبو بكر" أجرت مقارنة بين الجامعات السورية والسودانية من خلال استبانة تناولت عددا من الأسئلة وجهت إلى 208 من الطلبة السودانيين الذين استجابوا للفحص وعدد 1023 طالبا سوريا ثم 57 أستاذا سودانيا في مقابلة 62 أستاذا سوريا فكانت النتائج في خلاصتها كالآتي :
المؤيدون للتعريب
أساتذة سودانيون 75.3 %
أساتذة سوريون 100 %
أسباب المعارضة لا ترجع إلى عدم كفاءة اللغة العربية ولا صعوبة التدريس بها وانما ترجع إلى عدم وجود المراجع العربية 91.3 % عدم وجود الكتاب الدراسي المعرب 49.1% عدم توافر المصطلح العربي 24.6 % أما بالنسبة للغة التي يفضل الطالب إن يدرس بها فان النسبة كاملة لدى السوريين بينما هي 70.1% لدى السودانيين والسبب في نزول تلك النسبة أن بعض الطلاب ممن درسوا في المدارس الأجنبية وبعضهم من أبناء الجنوب لذلك يفضلون الإنجليزية التي درسوا بها على العربية .
وإذا كان التعريب في سوريا يتم وفق ضوابط و معايير لغوية صرفية استعانة بالقواميس ومعاجم اللغة العربية فان التعريب في السودان يعتمد على المصطلح والكتاب المعرب في البلاد العربية الأخرى .
أما أوضح السلبيات في واقع التعريب فتتمثل في أن الملخصات و المذكرات في الجامعات السودانية تكتب باللغة العربية الفصحى المتيسرة مع بعض المصطلحات الأجنبية بنسبة 93.% بينما بالعربية الفصحى المتيسرة هي بنسبة 100% في الجامعات السورية .
وبينما تجاوزت الجامعات السورية الصعوبات في مجال التعريب فان التعريب في السودان يواجه ضعف الاعتمادات المالية المتعلقة بتوفير الموسوعات والمصادر والمعاجم العربية والحوافز المشجعة للعمل .
أما بالنسبة للفرضية القائلة بضرورة التعريب في التعليم الجامعي فيؤكد ذلك أن نسبة 96% من السوريين و 94% من السودانيين قد تلقوا تعليمهم في المرحلة الثانوية في بلادهم باللغة العربية ويعزّز هذه الفرضية الإجابة عن كيفية استيعاب للمواد باللغة العربية إجماع الطلاب في القطرين على أنها جيدة أو جيدة جدا .
واهم السلبيات التي تواجه التعريب في السودان دون سوريا تتمثل في عدم توافر المراجع العلمية العربية بصورة مرضية بالإضافة إلى عدم توافر الكتاب الجامعي لارتباطه بالسلبية السابقة ولقصور أساليب التعريب وضعف الاقتناع بالتعريب وبخاصة في وضع المصطلح فحين يجد قلة من الطلاب السوريين 0.3% صعوبة في حفظ المصطلح العربي نجد أن 96.6% السودانيين يجدون صعوبة في ذلك ولعل ذلك راجع إلى أن الأساتذة لا يذكرون المصطلح بالعربية إلاّ نادرا و مع المصطلح الإنجليزي وبالنسبة للغة التي يفضلها لدراسة المصطلح بالعربية 1005 بالنسبة للسوريين في حين يفضل 92% من الطلبة السودانيين دراسة المصطلح باللغة الإنجليزية وهذه من سلبيات واقع التعريب في الجامعات السودانية لأن الطالب السوداني يجد أن المصطلح الأجنبي أكثر دقة وأيسر فهما وان المصطلح العربي معقد لعدم توافر المراجع بالعربية وسهولة الحصول عليها باللغة الإنجليزية.
ب - التجربة السودانية :(/12)
المعروف أن الاحتلال البريطاني قد فرض لغته على التعليم العام والجامعي بحيث يدرس الطالب العلوم كلها في المرحلة الثانوية باللغة الإنجليزية حيث كانت امتحانات الثانوية مرتبطة بجامعتي "كمبردج و أكسفورد" حيث تصحح الامتحانات هناك ثم ظهرت الدعوة إلى جعل اللغة العربية لغة التعليم بعد الاستقلال حيث انتهى تعريب التعليم الثانوي في عام 1970م غير أن الأمر كان متعسرا في التعليم الجامعي حيث لا زالت بعض المواد في كليات الطب والهندسة تدرس باللغة الإنجليزية التي تعلم بها أساتذة الجامعات الذين لا زال البعض يناهض عملية التعريب ولا يؤمن بها .
وقد انعكست آراء الأساتذة على الطلاب الذين يفضلون الدراسة باللغة الإنجليزية لأنها الوسيلة للانفتاح على العالم الخارجي وأن التعريب قد يقف دون ذلك زيادة على أنهم يعتبرون اللغة العربية لغتهم الأصلية التي يعرفونها ويجيدونها وأن التعريب يعيقه ندرة الكتاب الدراسي والمصطلح العلمي العربي مع اعترافهم بأن العربية هي لغة القرآن الكريم واللغة القومية الممثلة لهويتهم وذاتيتهم .
ولأن الأساتذة السودانيين تلقوا تعليمهم الجامعي والعالي باللغة الإنجليزية فإنهم يعتمدون على المراجع الأجنبية ولا يطلبون العربية إلا بنسبة 20% بينما يطلب 83% من الأساتذة السوريين المراجع العربية من المكتبات .
ومن السلبيات التي تشكل ضعفا في أساليب التعريب أن الجامعات السودانية والسورية لا تستخدم أجهزة الحاسوب وبنوك المصطلحات بصورة واسعة ومفيدة مع توافرها بكثرة في الجامعات حيث تستغل في تصنيف الكتب وبرامج الاختبارات وفي أقسام التخصص في الحاسوب وكلية الهندسة أحيانا وفي الغالب تقوم هذه الجامعات بتعريف طلابها بالحاسوب واستخداماته دون تفعيله في معرفة المصطلحات العلمية المعربة والمعلومات المعينة على ذلك فهناك قصور في الاستفادة من معطيات التقانة الحديثة في التعريب وخلافه .
كانت المشكلة الأولى في طريق التعريب هو الأستاذ الجامعي الذي درس بالإنجليزية واعتمد علي المصادر الأجنبية غير إن هذه الظاهرة بدأت تتلاشى بعد عشر سنوات من التجربة التي اعتمدت في البداية منهجا سهلا يقوم على التدريس باللغة الفصحى الميسرة ودراسة بعض المواد بالإنجليزية والإبقاء على الرموز والصيغ الرياضية في صورتها الأجنبية وقد اكتمل التعريب في عدد من المواد في العلوم الطبية والرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء والهندسة وغيرها ولا زالت اللجان تعمل على المستوى القومي ومستوى الجامعات وتأخذ التجربة طريقها في تحقيق أهداف التعريب .
ج - التجربة الليبية :
في بحث للدكتور "نوفل الأحمد" الأستاذ في جامعة تشرين السورية قدم تجربة في الجامعات الليبية تستحق الدراسة والاستفادة منها في تعريب التدريس في الجامعات ، نشرة مجلة " التعريب " العد السادس كانون أول ديسمبر 1993م وبعد أن وصف المراحل التي مرت بها التجربة حتى مرحلة التعريب الشامل يقول : " لقد ظهرت بوادر الارتياح والانفراج على الطالب وأصبحت ثقته بنفسه كبيرة وتفاؤله بالمستقبل كبيراً ، لأنه بدأ يستوعب المحاضرات ويناقش بها ويشعر بتحسن مستواه العلمي ، ومن الجدير بالذكر أن التغير كان فجائياً أي أن الطالب الذي كان يتلقى علومه باللغة الإنجليزية في الفصل الماضي أصبح الآن يتلقاها باللغة العربية وقد أجرينا استبانة آراء الطلبة حول هذه العملية فطرحنا عليهم أسئلة كانت كما يلي :
س1: هل ازداد حجم المعلومات أثناء المحاضرة أكثر مما كان عليه باللغة الإنجليزية ؟
الجواب: 88% نعم ، 12 % لا .
س2 : هل أصبح الاستيعاب والفهم أكثر مما كان عليه ؟
الجواب : 85 % نعم ، 15 % لا .
س3 : هل ازدادت مشاركة الطلاب في عمليات التدريس من خلال المناقشة ؟
الجواب : 80 % نعم ، 20% لا .
س4 : هل قلت زيارتك للمكتبة ؟
الجواب : 65% نعم 35% لا .
وطلب في نهاية الاستبانة أن يكتب كل طالب رأيه حول التعريب وملاحظاته واقتراحاته التي من شأنها دفع عملية التعريب إلى الأمام وأخذت (100) ورقة عشوائية فكانت الاقتراحات كما يلي :
70 % يطالبون بتعميق هذه الخطوة القومية والاستمرار بها .
33 % يطالبون بالمراجع العلمية المعرّبة .
20% يطالبون بتوفير المصطلحات واعطائها أثناء المحاضرة .
18% يطالبون بتوفير الكتاب العلمي العربي .
8 % يطالبون بالأستاذ الجامعي الكفي .
7 % يطالبون بتنفيذ التعريب على مراحل .
5 % يطالبون بإلقاء المحاضرات باللغة العربية و كتابتها باللغة الإنجليزية .
4 % خائفون من الصعوبات التي سوف تعترضهم عند الالتحاق بالشركات لأن هذه الشركات معظمها أجنبية .
3 % مشككون بالتعريب و لا يحبذونه ويطالبون بالرجوع إلى الإنجليزية[22] .(/13)
أما في مصر فالتجارب كثيرة نذكر منها تجربة الدكتور "عبد الملك أبو عوف" الأستاذ بكلية الصيدلة والذي انتدب للتدريس في جامعة دمشق إذ يقول : " وما أحب أن أركز عليه هو حسن النتائج التي أحرزها الطلاب بالنسبة لنتائج أقرانهم طلاب كلية الصيدلة بالقاهرة وكثافة التحصيل وحسن الاستيعاب الذي توصلوا إليه لن نفهم الطالب للغة المحاضرة وشرحها كان يعفيه من بذل مجهود مضاعف ينصرف نصفه لفهم اللغة والتعرّف على المفردات الصعبة في اللغة الأجنبية التي يدرس بها وينصرف النصف الآخر من الجهد لاستيعاب المادة العلمية نفسها فضلا عما يعتور ذهن الطالب أحيانا من غموض في المعنى أو نقص فيه يختل معه بناء المعلومات أو تنتقل إليه بغير الصورة المقصودة من المحاضرة " [23].
7/ اللغة العربية في الدول الإسلامية الناطقة بغيرها
الحرب التي وجهت للغة العربية و عدم صلاحيتها لاستيعاب علوم العصر كانت معركة موجهة للإسلام وللأمم الأفريقية والآسيوية التي تتطلع للكتابة بالحروف العربية حتى تبتعد هذه الأمم عن عقيدتها واللغة التي تمثلها وهي لغة القرآن الكريم وإيهامهم بان العربية عاجزة عن أن تكون لغة علم وثقافة تستوعب معطيات العصر ومستجدات العلوم . وحمل لواء هذه الدعوات كتاب عرب نصارى ومسلمون رأوا أن البديل هو التوجه نحو الغرب بلغته وثقافته و جعل العربية لغة شعائر دينية وليست لغة فكر وعلوم لأن كثيرا من الأمم لها لغتها التي تفكر بها ولغتها الدينية التي تتعبد بها وتقرأ بها كتابها المقدّس كاللاتينية واليونانية والقبطية والسوريانية . وتذكر الدراسات أن ستين لغة آسيوية وأفريقية لأمم إسلامية كانت تكتب بالحرف العربي حتى جاء الاحتلال وأنهاها " إن الحرف العربي الذي نكتب به لغة إسلامية من شانه أن يكون حلقة الوصل بينهم وبين القرآن الكريم المكتوب بالحرف ذاته ، وهو مدخل سهل لتعلم القرآن ولغته ، فالذي يتعلم كيف يكتب لغته بالحرف العربي يستطيع قراءة القرآن بأقل جهد ، أما إذا كتبت اللغة بالحرف غير عربي انقطعت الصلة بين متكلميها ، وبين قراءة القرآن " [24].
و قد حارب المحتل اللغة السواحيلية التي يتكلم بها شعوب شرقي إفريقيا ولغة الهوسا التي يتكلم بها شعوب غرب إفريقيا ومع ذلك انتشرت العربية في هذه البلاد ويتقنها معظم المتعلمين الذين درسوا في الجامعات العربية في الأزهر والسودان والسعودية وغيرها وهم الذين يدعون للعودة بالكتابة بالحرف العربي الذي" كريم توري " الهدف من الكتابة به في النقاط الآتية :
1- المحافظة على التراث الحضاري في إفريقيا واستمراره .
2- التعبير عن أغراض الحياة المعاصرة التعليمية والدينية و الثقافية وأغراض الحياة اليومية .
3- الاتصال بمصادر الحضارة العربية الإسلامية .
4- محو الأمية الحضارية والمساعدة على التنمية المحلية .
و مع الحرب التي وجهت للحرف العربي إلا أن اللغة العربية تمثل اللغة الثانية في البلاد الإسلامية ، وإذا كان العالم كله يتعلم الإنجليزية والفرنسية وغيرهما ويجعلانهما لغة تعلم وثقافة فيمكن للبلاد الإسلامية أن تجعل العربية لغة دينها وثقافتها وتعليمها في ظل الجهود المبذولة لتسهيل تعلم العربية وتحديث الأساليب والطرق والاستفادة من معطيات التقنية المعاصرة .
8/ و أخيراً ..
لقد أصبح التعريب في عدد من الجامعات واقعا معيشا يتطور ويتكيّف مع المستجدات ويستجيب للحاجات وأصبحت لهذه التجربة نتائج تشجع على تعميمها والعمل بها في الجامعات الإسلامية والعربية وأبرز هذه النتائج تتمثل فيما يلي :
أولاً : اللغة هي وسيلة التأصيل للأمة ، تأصيل فكرها وروح الإبداع فيها ووسيلتها لتمكين هويتها والمحافظة على شخصيتها ومقومات وجودها ثم هي وسيلة الأمة في توحيد أفرادها وتسهيل التواصل بين الماضي والحاضر وبها تتحقق عملية التقدم والرّقي فإذا كانت اللغة العربية قد سايرت النهضة العلمية العالمية التي قادها المسلمون في العصور الوسطى فهي في طريقها لاعادة ذلك الدور اهتماما بالعلم وعناية بالبحث وحملا لمفاهيم الحضارة والتعبير عنها.
ثانياً : أصبح المستوى العلمي للطلاب في تقدم مستمر لأن التدريس بالعربية ربطهم بأصولهم اللغوية وسهل لهم المادة التي يتعلمونها وأصبحت ثقتهم في أنفسهم ولغتهم قوية فهم يتقنون المادة التي يتعلمونها واللغة التي بها يتعلمون .
ثالثاً : التعليم باللغة العربية جعل ارتباطهم بدينهم ووطنهم أقوى وأعمق لأن قرار التعريب قرار سياسي تربوي يحقق مصلحة الأمة ويدعم وجودها ويجعلها أكثر استشرافا للمستقبل ، وتطلعا إلى الحسن والأفضل واعتزازا بالنفس .
رابعاً : أصبح استيعاب الطالب للمادة العلمية مرضيا من حيث الكم والكيف لأنه يتلقى المادة بلغته التي يفهمها ومن أستاذه العربي الذي يمثل حضارته ولا يضيع وقته في معالجة مفردات اللغة الأجنبية التي يتعلم بها .(/14)
خامساً : أحس الطالب بأنه متحرر من التبعية الثقافية والهيمنة الفكرية التي يحس بها من يتلقى تعليما بلغة أجنبية فهو مستعل بإيمانه ولغته و حضارته وليس مستجديا لحضارة غيره ولغة غيره مما يعمق إحساسه بالدونية أمام استعلاء الآخرين بحضارتهم ولغتهم .
سادساً : التعريب وسيلة الأمة لتنمية الشخصية المبدعة المتميزة القادرة عن طريق اللغة – على التفاعل والمشاركة والوفاء بمطالب التواصل الحضاري والإبداع العلمي والرّقي الاجتماعي – لأن اللغة العربية تحمل الخصائص الإبداعية من خلال طرائق نموها المتمثلة في القياس اللغوي و مجالاته والاشتقاق وأنواعه وطريقة صوغ المصطلح العلمي عن طريق الإلصاق المعتمد على السوابق واللواحق والدواخل الى جانب طرائق النحت والتركيب والاختصار ثم المعرّب والمولد والمحدث وغير ذلك .
سابعاً : لم يعد المصطلح العلمي مشكلة ، حيث توافرت المعاجم وتنوعت وارتبطت بحركة التنسيق والاختبار وأصبح الكتاب العلمي الجامعي والمصطلح العلمي ملبيا لمطلوبات العلوم والتقنية ووجدت الحلول لكثير من المشكلات التي كانت تعوق مسيرة التعريب عن طريق المجامع اللغوية والجهود العلمية في الجامعات العربية والمنظمة العربية للتربية والعلوم ومكتب تنسيق التعريب .
ثامناً : الأستاذ الجامعي لم يعد عائقا بل أصبح فاعلا مفيدا باعتباره العنصر الذي يحقق نجاح التجربة أو فشلها فقد أصبح كثير من الأساتذة الذي تلقوا دراستهم وكتبوا بحوثهم في جامعات الغرب يقدمون أعمالا مفيدة في مجال التعريب حيث تغلبوا على كثير من الصعوبات بقناعتهم وارادتهم القوية وإيمانهم بدورهم الريادي والقيادي في هذا المجال .
تاسعا : الكتاب الجامعي لم يعد مشكلة بعد أن شجعت وزارة التعليم العالي تأليف الكتاب الجامعي بدل الكتاب الأجنبي بالتشجيع المادي والمعنوي سواء أكان التأليف جماعيا أو فرديا وإن كان التأليف الجماعي أكثر فائدة وأشمل لمفردات المنهج .
عاشراً : لم يكن من أهداف التعريب إهمال اللغات العالمية التي بها يحقق الطالب عملية التواصل الإنساني والانفتاح على العلوم والثقافات لدى الأمم المتقدمة في مجال التطور العلمي والتقني واللغات الأجنبية هي التي تساعد على مواكبة التسارع الرهيب في مجال المعلومات لذلك تهتم الجامعات بأن يتقن الطالب لغة من اللغات العالمية .
المراجع :
1- د. إبراهيم مدكور-مجلة مجمع اللغة العربية – ج 33 – مايو 1974م .
2- الأمير مصطفى الشهابي – المصطلحات العلمية في اللغة العربية – دمشق 1988م .
3- رجاء محمود أبو بكر – تعريب الكليات العلمية في جامعات الدول العربية " رسالة دكتوراه " 1997م .
4- د. السيد احمد فرج – تعريب التعليم الجامعي فريضة علمية و إسلامية – دار الصحوة القاهرة 1993م .
5- د. عبد الحليم منتصر – أثر العرب والإسلام في النهضة الأوربية .
6- د. عبد الصبور شاهين – العربية لغة العلوم والتقنية – دار الاعتصام القاهرة – ط2 –1986م .
7- احمد بن علي القلقشندي – صبح الأعشى في صناعة الإنشاء –دار الكتب العلمية –بيروت 1987 – طبعة أولى .
8- د. عبد النبي محمد علي و د. عباس محجوب – المهارات اللغوية – طبعة أولى –الخرطوم 1995م .
9- د. عباس محجوب – مشكلات تعليم اللغة العربية – قطر 1986م – دار الثقافة .
10- مجلة اللسان العربي – العد 20 – 1982م .
11- نبيل علي – العرب وعصر المعلومات – سلسلة عالم المعرفة – الكويت 1994م .
12- د. نوفل احمد – مجلة التعريب – العدد الثامن – ديسمبر 1999م .
[1] د. عباس محجوب – مشكلات تعليم اللغة العربية – ص11 – قطر ، الدوحة 1986- دار الثقافة .
[2] القلقشندي – صبح الأعشى ص 183 –ج1 – دار الكتب العلمية –بيروت – 1987 – طبعة أولى .
[3] د. عبد الحليم منتصر – أثر العرب والإسلام في النهضة الأوربية – ص 195 .
[4] د. إبراهيم مدكور – مجلة مجمع اللغة العربية –ص19-20 – ج33 مايو 1974 .
[5] د. محي الدين صابر – من قضايا الثقافة العربية المعاصرة – ص 30 – المكتبة العصرية 1987 –ط ثانية – بيروت .
[6] نقلا عن د. عبد الصبور شاهين – العربية لغة العلوم والتقنية ص328-329 .
[7] المصدر السابق – ص 329 .
[8] راجع مجلة " لسان العرب " المجلد الثاني عشر ص 54-55 .
[9] راجع الكتيب بعنوان " الهيئة العليا للتعريب " يناير 1994م .
[10] نقلا عن كتاب (المهارات اللغوية ) د. عبد النبي محمد علي و د. عباس محجوب – ص 216-219 .
[11] المصدر السابق .
راجع مجلة " لسان العرب " المجلد الثاني عشر ص 57-58 .[12]
[13] د. عبد الصبور شاهين-العربية لغة العلوم والتقنية – ص 78 – دار الاعتصام .
[14] د. إبراهيم مدكور –مجلة مجمع اللغة العربية – ص 17-ج33 مايو 1974 .
[15] د. يوسف عز الدين – الأثر النفسي والاجتماعي من تعريب التعليم – مجلة مجمع اللغة العربية – ص 146-147-ج51 .
[16] د. يوسف عز الدين – مجلة مجمع اللغة العربية ص 146-147- ج 51 .(/15)
[17] د. إبراهيم مدكور – مجلة مجمع اللغة العربية – ص 20 ج33 – مايو 1974م .
[18] د. محي الدين صابر – من قضايا الثقافة العربية المعاصرة – ص 67 .
[19] مجلة اللسان العربي ص 205 العدد 20 1982م .
[20] العرب وعصر المعلومات – ص 292 سلسلة عالم المعرفة الكويت 1994م .
[21] راجع الأمير مصطفى الشهابي – المصطلحات العلمية في اللغة العربية – ص 63 – دمشق 1988م .
[22] التعريب – العدد السادس – ديسمبر 1993 ص 24 –25 .
[23] نقلا عن د. السيد احمد فرج – تعريب التعليم الجامعي ضرورة علمية وإسلامية – ص 82 .
[24] د. يوسف الخليفة أبوبكر –الحرف العربي واللغات الإفريقية .(/16)
الثابت والمتغير من أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية (1/2)
... بقلم: الدكتور مسعود فلوسي
هناك حقيقتان مهمتان لا ينبغي أن نغفل عنهما ونحن نتحدث عن أي نوع من أنواع الأحكام الشرعية في الشريعة الإسلامية:
أما الحقيقة الأولى فمفادها؛ أن أحكام الشريعة الإسلامية كُلٌّ متكاملٌ وليست تَفَارِيقَ أو أجزاء منفصلة عن بعضها البعض. ولذلك فإن أي تناول لأي قسم من هذه الأحكام، ينبغي أن يكون في إطار رؤية شاملة للمنظومة العامة للتشريع، في أبعادها كلها؛ العقدية والأخلاقية والتشريعية.
________________________________________
المصالح والمفاسد ليست كلها على درجة واحدة من الثبات؛ فهناك مسالك أو تصرفات تصدر عن المكلفين ترتبط بمصالح أو مفاسد ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان وأحوال الأفراد والمجتمعات، وهو ما يقتضي أن يهيئ لها الشارع أحكاما ثابتة تتكفل بجلب ما كان منها مصلحة ودفع ما كان منها مفسدة..
________________________________________
وهذه المنظومة العامة للتشريع مُنَزَّلَة من الحكيم الخبير، الذي هو الله سبحانه وتعالى، الخالق الرازق المشرع، الذي لا مُشَرِّع سواه، وهو عز وجل قد ارتضى لعباده هذه المنظومة التشريعية وأمرهم أن يلتزموا بها كُلَّها، ولم يَقْبَلْ منهم الالتزام بغيرها، قال سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا}(1). وقال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ}(2). كما لم يقبل منهم أن يتمسكوا ببعضها ويتركوا البعض الآخر، فقال عز من قائل: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(3).
وأما الحقيقة الثانية؛ فإنه من المعلوم قطعا أن أحكام الشريعة الإسلامية إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، فكل ما هو مصلحة أو سبب إلى مصلحة فقد تواردت الأدلة على طلبه والحث على فعله، وكل ما هو مفسدة أو سبب إلى مفسدة فقد تواردت الأدلة على طلب تركه والنهي عن فعله.
لكن المصالح والمفاسد، كما هو معلوم، ليست كلها على درجة واحدة من الثبات؛ فهناك مسالك أو تصرفات تصدر عن المكلفين ترتبط بمصالح أو مفاسد ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان وأحوال الأفراد والمجتمعات، وهو ما يقتضي أن يهيئ لها الشارع أحكاما ثابتة تتكفل بجلب ما كان منها مصلحة ودفع ما كان منها مفسدة.. وفي هذا الإطار يندرج تحريم الشرك والنفاق والسحر وشرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير والسرقة وأكل الربا واقتراف فاحشة الزنا وقتل النفس والحقد والحسد والغيبة والنميمة وقطع الأرحام وما إلى ذلك من رذائل لأنها مفاسد محققة وثابتة.. وفي الإطار نفسه كذلك يندرج الأمر بالصلاة والزكاة والصوم والحج وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهد وجهاد الكفار المعتدين وإكرام الضيف والصدق والصبر والأمانة والعفة والحياء وغير ذلك مما هو مصالح محققة وثابتة.
هذا النوع من المصالح، والأحكام التي جاءت لتحقيقها؛ يمثل كليات الدين وقواعده وأسسه التي لا يجوز التنكر لها أو استبدالها بغيرها، لأنها كما قال الإمام الشاطبي "كلية أبدية، وُضِعَت عليها الدنيا، وبها قامت مصالحها في الخلق، حسبما بين ذلك الاستقراء، وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضا، فذلك الحكم الكلي باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها"(4).
وإلى جانب هذه المصالح والمفاسد الثابتة، هناك مصالح ومفاسد متغيرة، أي أن الفعل أو التصرف قد يكون في وقت ما أو حال معينة مفسدة، ولكنه في حال أخرى أو في زمن مختلف أو في مجتمع آخر مصلحة. بمعنى أن السلوك قد يكون له أثر نافع في ظل ملابسات معينة، وفي ظل ملابسات مختلفة يتحول أثره إلى ضار. ولذلك فإن الشارع لم يأت بأحكام ثابتة تحكم مثل هذه المسالك والتصرفات، وإنما اكتفى بوضع مبادئ تشريعية عامة تتكفل بجلب كل ما هو مصلحة أو سبب إلى مصلحة، ودفع كل ما هو مفسدة أو سبب إلى مفسدة. والمبدأ العام الذي يحكم هذا كُلَّه هو قولُه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(5).(/1)
وقد ترك الشارع الحكيم للمجتهدين من الأمة أمر تقدير هذه التصرفات والحكم عليها بالصلاح والفساد تبعا للواقع وظروف الناس وعاداتهم. وقد استخرج العلماء من جملة أدلة الشرع عددا من المناهج التشريعية الكفيلة بإيجاد الحلول لهذا النوع من المسائل المتغيرة في حياة المكلفين، كمبدأ القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعمل بالاستصحاب. كما استخلصوا أيضا جملة من القواعد الكفيلة بمتابعة هذه المسائل بالحلول الناجعة لها في الواقع، ومنها: درء المفسدة يقدم على جلب المصلحة، التصرف على الرعية منوط بالمصلحة، الضرر يُزال، الضرر لا يُزال بالضرر، يُتََحَمَّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، الضرورات تبيح المحظورات، ما أبيح للضرورة يُقَدَّر بقدرها، المشقة تجلب التيسير... الخ.
أحكام الأسرة المسلمة في ضوء هاتين الحقيقتين
في ضوء هاتين الحقيقتين ينبغي أن ننظر إلى أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية، فهي أحكام تمثل جزءا من المنظومة العامة للتشريع الإسلامي الذي لم يرتضِ الله عز وجل للناس دينا غيره، إذ تَحُوطُها عقيدة جامعة وتمتزج بها أخلاق ربانية سامية وترتبط بها أحكام متعلقة بالشؤون الأخرى من الحياة. والمسلم في إطار هذه الأحكام كلها إنما يحكمه مبدأ واحد، وهو أنه عبدٌ لله عز وجل مُكَلَّف بأن يمتثل لأوامره سبحانه وتعالى وينتهي عما نهاه عنه، ولا يملك أن يقبل حكم الله عز وجل في مجال ما من مجالات الحياة ويرفض حكما آخر صادرا عنه سبحانه وتعالى في مجال آخر. كما لا يملك أن يُشَرِّعَ لنفسه أحكاما تناقض ما شرعه الله عز وجل له. ذلك أن موقف الإنسان من ربه عز وجل هو موقف العبودية، وهذه العبودية تقتضي أن يلتزم الإنسان بكل ما يأتيه من ربه على سبيل التشريع، وذلك بعض ما يفيده قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِي}(6).
وكذلك الأمر بالنسبة للحقيقة الثانية، فالمسائل المتعلقة بالأسرة منها ما هي متعلقة بمصالح أو مفاسد ثابتة ارتبطت بالأسرة منذ وجودها فهي لا تنفك عنها ولا تتغير بتغير الزمان والمكان وأحوال الناس وعادات الأفراد والمجتمعات، ولذلك وضع لها الشارع الحكيم سبحانه وتعالى أحكاما تتكفل بجلب ما كان منها مصلحة ثابتة ودفع ما كان منها مفسدة ثابتة. أما المسائل الأخرى التي قد تكون في بعض الأحيان مصالح بالنسبة للأسرة أو أسبابا لمصالح، وفي أحيان أخرى تتحول إلى مفاسد أو أسبابا لمفاسد، فإن الشارع تكفل بوضع المبادئ العامة التي تضمن جلب ما هو مصلحة ودفع ما هو مفسدة تبعا لملابسات الواقع وتبدل سلوكات الناس وعاداتهم وأعرافهم.
في أي نوعي الأحكام يجوز الاجتهاد؟
إن الذي ينبغي تقريره هنا؛ أن اجتهاد المكلفين في الأحكام الشرعية ينبغي أن ينضبط بهاتين الحقيقتين ولا يخرج عنهما.
فبالنسبة للأحكام الثابتة لا يجوز أن يُوضع شيء منها موضع اجتهاد أو نقاش. إلا ما كان من اجتهاد في كيفية تطبيقها ومراعاة أوفق السبل لتحقيق مقصود الشارع من تشريعها.
وبالنسبة للأحكام المتغيرة، ينبغي أن يكون هناك متابعة مستمرة من قبل المجتهدين لأفعال المكلفين وتصرفاتهم في إطار المسائل المتغيرة حتى يتم ملاحظة ما يطرأ عليها من تغيرات ليتم متابعتها بالاجتهادات الكفيلة بجلب ما كان منها مصلحة ودفع ما أصبح منها مفسدة.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:
"الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة مر عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير، ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتميز بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها حسب المصلحة"(7).
ولابد من التأكيد هنا على مسألة ذات أهمية بالغة، وتتمثل في أن الأحكام الثابتة في مسائل الأسرة أكثر بكثير من المسائل ذات الطبيعة المتغيرة، فالشارع الحكيم قد أحاط الأسرة بالكثير من الأحكام التفصيلية التي من شأنها أن تسد الباب أمام أي اجتهاد بشري فيها. وما ذلك إلا لأن الأسرة ككيان اجتماعي يعتبر اللبنة الأولى في قيام المجتمع، فإذا ما صلح حال الأسرة صلُح حال المجتمع، وإذا ما فسد حال الأسرة فسد حال المجتمع، ولذلك اقتضى الأمر أن يحيط الشارع هذا الكيان بكل أسباب الصحة والعافية المتمثلة في التشريعات التفصيلية، ويمنع من إجراء التجارب التشريعية المختلفة عليه تبعا لتبدل الظروف والأحوال وتباين ثقافات الناس ونزواتهم.
في ضوء ما سبق كله، نود في هذا البحث أن نؤشر على بعض مسائل الأسرة التي لها صفة الثبات، والتي أحاطها الشارع الحكيم بأحكام ثابتة لا تتبدل ولا تتغير. ثم نتبعها بذكر مسائل أخرى ليست لها صفة الثبات والديمومة:
نماذج من الأحكام الثابتة في نطاق الأسرة
1. بطلان نكاح المحرمات(/2)
حرم الشارع الحكيم على الرجل أن يتزوج من محارمه من النساء، كما حرم على المرأة أن تتزوج من محارمها من الرجال. ذلك أن بقاء الرابطة التي تربط بين الرجل ومحارمه من النساء والمرأة ومحارمها من الرجال رابطةً مقدسة تعلو فوق الشهوات أمرٌ مقصودٌ شرعا وفيه من المصالح ما لا يخفى على أي عاقل.
ولذلك جاء التشريع الحكيم واضحا بتحريم هذا النوع من الزواج على سبيل التأبيد، فقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}(8).
وإضافة إلى هؤلاء النساء المحارم، حرم الشارع أصنافا أخرى من النساء لأسباب أخرى.
________________________________________
المسائل المتعلقة بالأسرة منها ما هي متعلقة بمصالح أو مفاسد ثابتة ارتبطت بالأسرة منذ وجودها فهي لا تنفك عنها ولا تتغير بتغير الزمان والمكان وأحوال الناس وعادات الأفراد والمجتمعات، ولذلك وضع لها الشارع الحكيم سبحانه وتعالى أحكاما تتكفل بجلب ما كان منها مصلحة ثابتة ودفع ما كان منها مفسدة ثابتة
________________________________________
وقد عدد المالكية أصناف النساء اللائي يحرم على الرجل الزواج منهن، وهن ثمان وأربعون امرأة: خمس وعشرون منها على سبيل التأبيد: سبع من النسب: الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت. ومثلهن من الرضاع. وأربع بالمصاهرة: أم الزوجة وبنت الزوجة المدخول بها وزوجة الأب وزوجة الابن. ومثلهن من الرضاع. ونساء النبي صلى الله عليه وسلم، والملاعنة، والمنكوحة في عدة من زوج سابق.
وأما المحرمات لا على سبيل التأبيد، فثلاث وعشرون امرأة: المرتدة، وغير الكتابية، والزوجة الخامسة، والمتزوجة، والمعتدة، والمستبرئة، والحامل، والمبتوتة، والأَمَة المُشْتَرَكَة، والأَمَة الكافرة، والأَمَة المسلمة للقادر على طَوْل الحرة، وأَمَة الابن، وأَمَة نفسه، وسيدته، وأم سيده، والمُحرِمة بالحج، والمريضة، وأخت الزوجة، وخالتها، وعمتها، إذ لا يجوز الجمع بينهما، والمنكوحة يوم الجمعة عند الزوال، والمخطوبة بعد الركون للغير، واليتيمة غير البالغة(9).
فأي علاقة زواج تنشأ بين الرجل وأي صنف كمن هؤلاء النساء، هي علاقة باطلة، وأي عقد يبرم هو عقد باطل يجب فسخه ولا يترتب عليه أثر شرعي. وهذا حكم ثابت لا يقبل التبديل والتغيير، إلا في حالة النساء المحرمات على سبيل التأقيت، إذا ذهب سبب التحريم، فيجوز حينئذ العقد والزواج.
والحكمة من تحريم هذه الأصناف من النساء، سواء ما كان منهن على سبيل التأبيد أو على سبيل التوقيت، ظاهرة؛ وهي الحفاظ على قداسة الروابط الاجتماعية وجعلها بمنأى عن اتباع الشهوات والخضوع للنزوات وكل ما من شأنه أن يفضي إلى اختلال العلاقات الإنسانية في المجتمع.
2. ولاية الرجل على المرأة في الزواج
مسألة ولاية الرجل على المرأة في الزواج مما أثار الكثير من الجدل والنقاش، وخاصة في عصرنا هذا الذي صار فيه بعض الناس يستنكرون أن تخضع المرأة لولاية أبيها أو أخيها أو من هو ولي لها في الزواج، خاصة المرأة المتعلمة والمثقفة.
والحق أن ولاية الرجل ثابتة على المرأة في الشرع، ليس لأنها لم تكن متعلمة ولا مثقفة، وإنما لأنها امرأة وكفى، بغض النظر عن مستواها التعليمي، أو منصبها الاجتماعي.
فالمرأة التي لم يسبق لها الزواج، وإن تقدمت في السن، وإن بلغت ما بلغت من الثقافة والعلم، فهي تظل عديمة المعرفة بطبائع الرجال وأخلاقهم وأصولهم الاجتماعية وسوابقهم الأخلاقية. إضافة إلى أن المرأة بطبيعتها سريعة التأثر بالمغريات والكلام المعسول، وقد تنساق وراء من تتصوره فارس الأحلام وزوج المستقبل ثم لا يلبث أن يظهر على حقيقته وتنكشف سيرته، ولكن بعد فوات الأوان.
لأجل ذلك شرع الشارع الحكيم حكم الولاية، بأن رفض عقد المرأة زواجها بنفسها، مشترطا موافقة وليها وإمضاءه العقد نيابة عنها، وذلك حماية للمرأة من الانخداع بمن يتقدم إليها من الرجال أولا، وحماية لها من نفسها التي قد تنساق للانخداع ثانيا، لأن الولي عادة حريص على مصلحة موليته، مجتهد في معرفة أصول الرجل الذي يتقدم للزواج منها وتربيته وأخلاقه وسيرته خلال حياته السابقة.(/3)
أخرج الترمذي وغيره عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِل،ٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِل،ٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِل،ٌ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ»(10).
ولا مجال لما يبديه الرافضون لمبدأ الولاية، من أن الولي ربما استغل حقه في الولاية في الإضرار بموليته ومنعها من الزواج ممن ترضى حتى ولو لم يكن فيه ما يُعاب، بل قد يستغلها هذا الولي في تزويجها ممن يريد هو حتى وإن كان فيه الكثير مما يُعاب. إن هذا الاعتراض ربما كان صحيحا ومقبولا لو أن المرأة لم يكن أمامها أي سبيل لرفع الغبن الواقع عليها من وليها، لكن الحديث صريح في أن المرأة من حقها أن ترفع أمرها إلى القاضي إذا رأت أن وليها يريد أن يحرمها من الزواج من رجل دون مبرر مقبول: «فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ».
فالولاية هي ولاية توجيه وتسديد وصيانة، وليست ولاية استبداد وإجبار واستغلال.
والذي أراه ـ والله أعلم ـ أن حكم الولاية من الأحكام الثابتة التي لا تقبل التغيير والتبديل، لأن طبيعة المرأة ثابتة لا تتغير، وحاجتها الفطرية إلى الزواج قد تدفعها إلى التسرع في إبرام عقد الزواج مع من يتقدم إليها لمجرد إعجابها بمظهره وما يصف به نفسه. ولذلك فإن الوسيلة الوحيدة لحمايتها من الوقوع في أخطاء فادحة تعود على حياتها بأوخم العواقب؛ هي إثبات الولاية عليها.
3. قوامة الرجل على المرأة ونفقته عليها
يقرر القرآن الكريم أن {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}(11).
وهذا حكم ثابت لا يتبدل بتبدل الظروف والأحوال ولا يتغير بتغير حياة الناس والتطور الذي يطرأ عليها.
فالآية الكريمة جعلت أمر القوامة ثابتا للرجل على المرأة، لاعتبارين اثنين:
الأول: التكوين الطبيعي لكل من الرجل والمرأة {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}.
والثاني: التزام الرجل بالنفقة {وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}.
فالاعتبار الأول يضع في حسابه أن سرعة انفعال المرأة تجعلها أقل تحملاً من الرجل، وأسرع تصدعاً حينما تواجه الشدائد والمسؤوليات الكبيرة، كما أن طبيعتها العاطفية تسبب في الغالب افتقارها للموضوعية في مواقفها من الأحداث والمشكلات. في حين أن الرجل أقوم منها في الجسم، وأقدر على الكسب والدفاع عن بيته وعرضه، لا شك في ذلك، وهو أقدر منها على معالجة الأمور، وحل معضلات الحياة بالمنطق والحكمة وتحكيم العقل والتحكم بعواطفه، لا شك في ذلك أيضا.
والسبب الثاني للقوامة؛ هو التزام الرجل بالنفقة على أسرته التزاماً لا يرفعه غنى الزوجة ولا اكتسابها المالي بعمل، فالرجل في جميع هذه الأحوال يجب عليه النفقة على زوجته وأولاده، وهي غير مطالبة أن تنفق على الأسرة أي شيء من مالها الشخصي قَلَّ أو كَثُرَ. وطبيعي أن يسهم التزام الرجل بالنفقة في إحقاق القوامة له، لأن من يتكلّف الإنفاق على مشروع ما يكون أحق من غيره بالإشراف عليه.
وهكذا يتضح أن قوامة الرجل على المرأة قوامة ثابتة ثبوت الحياة، لا يلغيها خروجها للعمل ولا أي تغير في أوضاعنا الحضارية(12).
ثم إن هذا المبرر الذي يُثار في الكثير من الأحيان كسبب يُراد به رفع قوامة الرجل عن المرأة، والذي هو عمل المرأة وخروجها من البيت واكتسابها للمال مثلها مثل الرجل، مما يجعلها في غير حاجة إلى قوامته عليها، بل يجعل أمر القوامة نوعا من إعطاء السيطرة للرجل على المرأة دون مبرر.
هذا المبرر أو الاعتراض لا قيمة له من الناحية الشرعية، لأنه قبل أن نقول بأن عمل المرأة واكتسابها للمال يبرر رفع قوامة الرجل عنها، ينبغي أولا أن نتساءل عن حكم هذا العمل نفسه، وهل هو مباح شرعا(13)؟
________________________________________
شرع الشارع الحكيم حكم الولاية، وذلك حماية للمرأة من الانخداع بمن يتقدم إليها من الرجال أولا، وحماية لها من نفسها التي قد تنساق للانخداع ثانيا، لأن الولي عادة حريص على مصلحة موليته، مجتهد في معرفة أصول الرجل الذي يتقدم للزواج منها وتربيته وأخلاقه وسيرته خلال حياته السابقة
________________________________________(/4)
لا شك أن الثابت شرعا هو أن أصل وظيفة المرأة في الإسلام أن تكون في البيت إلا لضرورة، ولذا كفل لها الإسلام النفقة والرعاية، وأسقط عنها بعض الواجبات الدينية التي تحتاج في أدائها إلى الخروج من البيت، إمعاناً منه في قرارها في بيتها. امتثالا لأمر الحق سبحانه وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}(14).
لذا فإن خروجها من البيت، لا لضرورة ولكن لأجل أن تعمل كما يعمل الرجل حتى يكون لها دخل مثله، يعتبر خروجاً على أوامر الدين، وتمرداً على تعاليمه لا يقره الإسلام ولا يرضاه، فلا يصلح لأن يكون سبباً في إسقاط شِرْعَةٍ شرَعَها الله وأقامها: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}.
وحتى لو فرضنا وسلمنا بأنها صارت شريكة له في الإنفاق على البيت، فإن هذه المشاركة لا تؤهلها لأن تكون القوَّامة على البيت، لأنها بطبيعتها لا تستطيع مواصلة القيام بأعمال القوامة في كل الأوقات، لأن ما يطرأ عليها من موانع فطرية كالحمل، والولادة، والحيض، تعطل قيامها جسمياً وعقلياً بما تتطلبه القوامة من أعمال.
وفي النهاية، ليس هناك إطلاقا ما يبرر الثورة على مبدأ القوامة، لأنه في الواقع ليس نوعا من السيطرة والاستبداد يفرضهما الرجل على المرأة، وإنما هي قيادة كلف الله عز وجل بها الرجل نظرا إلى خصائصه الفطرية التي تؤهله للقيام بها، وهي وظيفة تقوم أساسا على الشورى والتفاهم حول أمور البيت والأسرة. (يتبع)
________________________________________
(1) سورة المائدة، من الآية: 3.
(2) سورة آل عمران، الآية: 85.
(3) سورة البقرة، من الآية: 85.
(4) الموافقات، شرح وتحقيق الشيخ عبد الله دراز، دار المعرفةـ بيروت، بدون تاريخ، ج: 2، ص: 298.
(5) سورة النحل، الآية: 90.
(6) سورة النحل، الآية: 90.
(7) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، ج: 1، ص: 346 ـ 349.
(8) سورة النحل، الآية: 90.
(9) الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي، دار الفكر ـ دمشق، ط: 4، 1418 هـ، 1997 م، ج: 9، ص: 6625.
(10) سنن الترمذي، كتاب النكاح عن رسول الله، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، رقم: 1021. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
(11) سورة النساء، من الآية: 34.
(12) من مقال للأستاذة خديجة عبد الهادي المحيميد، بعنوان (القوامة وحقيقتها الشرعية). مصدره: حركة تغريب المرأة الكويتية. انظره على الشبكة العنكبوتية العالمية (الأنترنت).
(13) راجع في هذا الموضوع: عمل المرأة واختلاطها ودورها في بناء المجتمع، للدكتور نور الدين عتر، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث ـ دبي، ط: 1، 1422 هـ، 2001م. قوامة الرجل وخروج المرأة للعمل (العلاقة والتأثير)، للدكتور محمد بن سعد بن عبد الرحمن آل سعود، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث ـ دبي، ط: 1، 1422 هـ، 2002م.
(14) سورة الأحزاب، من الآية: 33.
الثابت والمتغير من أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية (2/2)
... بقلم: الدكتور مسعود فلوسي
على خلاف ما قد يبدو للكثير من الناس، فإن تعدد الزوجات هو وسيلة من وسائل حماية المجتمع وصيانة أفراده من الانحراف والتشرد والضياع. يدل على هذا قولُه تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا}(1).
إن القارئ لهذا النص القرآني الكريم، لا شك أنه سيتساءل عن العلاقة بين الإقساط في اليتامى ـ أي العدل فيهم بإعطائهم حقوقهم ـ وتعدد الزوجات؟ وكيف يكون تشريع تعدد الزوجات مقتضياً وموجباً للعدل في اليتامى؟
________________________________________
إن تعدد الزوجات مباح إذا توفرت شروطه، والواقع العملي يؤكد أن قليلين من الرجال هم الذين يلجؤون إلى التعدد، فهو أمر نادر واستثنائي. وقد أثبتت آخر الإحصائيات التي أجرتها الجامعة العربية أن نسبة تعدد الزوجات في البلاد العربية لا تزيد على 7 إلى 10 في الألف
________________________________________
والجواب: أن لليتيم حاجات تتجاوز حاجة الجسم من الأكل واللباس والمأوى؛ حاجات عاطفية ونفسية وتربوية لا تقلّ في أهميتها عن الحاجات الجسمية، والواقع العملي وأحكام الشرع (الإسلامي) تظهر أنَّ هذه الحاجات في الغالب تُلبَّى عندما تتزوج أمّ اليتيم فيكون لليتيم في هذه الحالة أب بديل وجوّ أسريّ بديل وإخوة وأخوات من أمه، وتكون علاقة زوج الأم بربيبه أو ربيبته (أولاد الأم من الزوج السابق) مشابهة في الغالب لعلاقته بأولاده لصلبه، حتى إنه يحرَّم عليه شرعاً الزواج بربيبته، كما يحرم عليه الزواج من ابنته.(/5)
والواقع يُظهر أنَّ أمّ الأيتام في الغالب لا تتزوَّج إلا في مجتمع يكون فيه الطلب على النساء كثيراً والعرض قليلاً، وهذا الوضع لا يتحقق عادة إلا في مجتمع يشيع فيه تعدد الزوجات. في مثل هذا المجتمع وحده تُتاح فرصة الزواج لكل امرأة مهما كان لديها من موانع الرغبة فيها كزوجة؛ مثل أن تكون أرملة مصبية، أي ذات أولاد. وبالعكس فإنَّ المجتمعات التي لا يشيع فيها تعدد الزوجات، تتحدد فيها فرصة الأرامل في الزواج، حتى إنَّه مع مرور الوقت يصبح زواج الأرملة عيباً أو محرَّماً بحكم التقليد.
معنى ما تقدَّم أنَّ شيوع تعدد الزوجات في مجتمع ما، يجعل الطلب على النساء في ذلك المجتمع كبيراً، فحتى الأرملة ذات الأيتام سوف تجد الرجل المناسب الذي يرغب في زواجها، فإذا تزوَّجت فاء ظلّ الأب البديل على أولادها اليتامى ونعموا بالجوّ الأسري كأيّ أطفال عاديين لم يُصابوا بفقد أبيهم، وبذلك يتحقق في هذا المجتمع الوفاء لليتيم بحقوقه، أو كما جاء في الآية الكريمة (الإقساط فيه).
وما تقدَّم يشير إلى معنى أوسع للحكمة من تشريع تعدد الزوجات، فكما شاهدنا، فإنَّ المجتمع الذي يشيع فيه تعدد الزوجات يعمل فيه قانون العرض والطلب (وهو قانون طبيعي) عمله في أي مجال آخر، فتتاح فيه الفرصة للزواج لكل امرأة، فلا يبقى فيه عوانس ولا مطلقات ولا أرامل فقدن الأمل في الزواج بعد فقد أزواجهن. وسيعمل هذا القانون الطبيعي ـ ولا بدّ ـ عمله، فيؤثر إيجابياً وبصورة ظاهرة على قيمة المرأة في المجتمع، وبالتالي على حريتها، واستيفائها حقوقها، وأن تؤتى ما كتب الله لها، وأن تعامل من قبل الرجل والمجتمع بالعدل. ولعلَّ هذا ما تشير له الآية الكريمة {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا}، فتعدد الزوجات ـ في النظر المتعمق ـ يحمي المرأة من الظلم وانتقاص الحق(2).
ثم إن التعدد لم تتم إباحته بإطلاق لكل من يريده، وإنما اشترط الشارع لإباحة التعدد شرطين جوهريين هما:
الأول: توفير العدل بين الزوجات، أي العدل الذي يستطيعه الإنسان ويقدر عليه، وهو التسوية بين الزوجات في النفقة وحسن المعاشرة والمبيت، لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا}، فإنه تعالى أمر بالاقتصار على واحدة إذا خاف الإنسان الجور ومجافاة العدل بين الزوجات.
والثاني: القدرة على الإنفاق(3).
هذا إضافة إلى أن التعدد ليس أمرا يُفرض على المرأة، وإنما هي التي ترضى به أساسا، فهو بالنسبة للزوجة الجديدة تعدد برضاها. أما بالنسبة للزوجة الأولى، فإن الإسلام يعطيها الحق في أن تشترط على زوجها حق الطلاق إن هو تزوج عليها بدون موافقتها(4).
إن تعدد الزوجات مباح إذا توفرت شروطه، والواقع العملي يؤكد أن قليلين من الرجال هم الذين يلجؤون إلى التعدد، فهو أمر نادر واستثنائي. وقد أثبتت آخر الإحصائيات التي أجرتها الجامعة العربية أن نسبة تعدد الزوجات في البلاد العربية لا تزيد على 7 إلى 10 في الألف. ولذلك لا داعي للخوف الذي يبديه الثائرون على إباحة تعدد الزوجات حين يدعون أن التعدد من شأنه أن يدمر المجتمع ويساهم في انتشار الفساد وتشرد الأطفال.
5. إباحة الطلاق مع اعتباره أبغض الحلال
من الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية؛ إباحة الطلاق، واعتباره أبغض الحلال إلى الله.
صحيح أن الإسلام قد أحاط عقد الزواج بكل الشروط والضمانات التي من شأنها أن تجعله عقد الحياة الذي يربط على سبيل التأبيد بين رجل وامرأة.
غير أن الإسلام وهو يحتم أن يكون عقد الزواج مؤبداً يعلم أنه قد يحدث بين الزوجين من الأسباب والدواعي، ما يجعل الطلاق ضرورة لازمة، ووسيلة متعينة لتحقيق الخير والاستقرار العائلي والاجتماعي لكل منهما، وأمراً لا بد منه للخلاص من رابطة الزواج التي أصبحت لا تحقق المقصود منها، والتي لو ألزم الزوجان بالبقاء عليها، لأصبح ذلك سببا لكثير من الشرور والمفاسد، لهذا شُرع الطلاق وسيلة للقضاء على تلك المفاسد، وللتخلص من تلك الشرور، وليستبدل كل منهما بزوجه زوجاً آخر، قد يجد معه ما افتقده مع الأول، فيتحقق قول الله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا}(5).
________________________________________
المؤسف أن المسلمين قد تخلوا عن هذا الحكم الثابت وعصوا الله عز وجل فيه، وصاروا لا يعرفون من الطلاق إلا أنه عودة الزوجة إلى بيت أبيها وانقطاع صلة ما بينها وبين زوجها
________________________________________(/6)
والإسلام عندما أباح الطلاق، لم يغفل عما يترتب على وقوعه من الأضرار التي تصيب الأسرة، خصوصاً الأطفال، إلا أنه لاحظ أن هذا أقل خطراً، إذا قورن بالضرر الأكبر، الذي تُصاب به الأسرة والمجتمع كله إذا أبقى على الزوجية المضطربة، والعلائق الواهية التي تربط بين الزوجين على كره منهما، فآثر أخف الضررين، وأهون الشرين.
وفي الوقت نفسه، شرع من التشريعات ما يكون علاجاً لآثاره ونتائجه، فأثبت للأم حضانة أولادها الصغار، ولقريباتها من بعدها، حتى يكبروا، وأوجب على الأب نفقة أولاده، وأجور حضانتهم ورضاعتهم، ولو كانت الأم هي التي تقوم بذلك.
ومن الأحكام الثابتة المتعلقة بالطلاق كذلك؛ أن الطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة، لأن فصم رابطة الزوجية أمر خطير، يترتب عليه آثار بعيدة المدى في حياة الأسرة والفرد والمجتمع، فمن الحكمة والعدل ألا تُعطى صلاحية البت في ذلك، وإنهاء الرابطة تلك، إلا لمن يدرك خطورته، ويقدر العواقب التي تترب عليه حق قدرها، ويزن الأمور بميزان العقل، قبل أن يقدم على الإنفاذ، بعيداً عن النزوات الطائشة، والعواطف المندفعة، والرغبة الطارئة.
والثابت الذي لا شك فيه أن الرجل أكثر إدراكاً وتقديراً لعواقب هذا الأمر، وأقدر على ضبط أعصابه، وكبح جماح عاطفته حال الغضب والثورة، وذلك لأن المرأة خلقت بطباع وغرائز تجعلها أشد تأثراً، وأسرع انقياداً لحكم العاطفة من الرجل، لأن وظيفتها التي أعدت لها تتطلب ذلك، فهي إذا أحبت أو كرهت، وإذا رغبت أو غضبت اندفعت وراء العاطفة، لا تبالي بما ينجم عن هذا الاندفاع من نتائج ولا تتدبر عاقبة ما تفعل، فلو جعل الطلاق بيدها، لأقدمت على فصم عرى الزوجية لأتفه الأسباب، وأقل المنازعات التي لا تخلو منها الحياة الزوجية، وبذلك تصبح الأسرة مهددة بالانهيار بين لحظة وأخرى.
ثم إن إيقاع الطلاق يترتب عليه تبعات مالية، يُلزم بها الأزواج: فبه يحل المؤجل من الصداق إن وجد، وتجب النفقة للمطلقة مدة العدة، وتجب المتعة لمن تجب لها من المطلقات، كما يضيع على الزوج ما دفعه من المهر، وما أنفقه من مال في سبيل إتمام الزواج، وهو يحتاج إلى مال جديد لإنشاء زوجية جديدة، ولا شك أن هذه التكاليف المالية التي تترتب على الطلاق، من شأنها أن تحمل الأزواج على التروي، وضبط النفس، وتدبر الأمر قبل الإقدام على إيقاع الطلاق، فلا يقدم عليه إلا إذا رأى أنه أمر لا بد منه ولا مندوحة عنه. أما الزوجة فإنه لا يصيبها من مغارم الطلاق المالية شيء، حتى يحملها على التروي والتدبر قبل إيقاعه، إن استطاعت. لذلك كان من الخير للحياة الزوجية، وللزوجة نفسها أن يكون البت في مصير الحياة الزوجية في يد من هو أحرص عليها وأضن بها.
والشريعة لم تهمل جانب المرأة في إيقاع الطلاق، فقد منحتها الحق في الطلاق، إذا كانت قد اشترطت في عقد الزواج شرطاً صحيحاً، ولم يف الزوج به. كما أباحت لها الشريعة الطلاق بالاتفاق بينها وبين زوجها، ويتم ذلك في الغالب بأن تتنازل للزوج أو تعطيه شيئاً من المال، يتراضيان عليه، ويسمى هذا بالخلع أو الطلاق على مال، ويحدث هذا عندما ترى الزوجة تعذر الحياة معه، وتخشى إن بقيت معه أن تقصر في حقوقه، وهذا ما بينه الله تعالى في قوله: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}(6).
ولها طلب التفريق بينها وبينه، إذا أُعسر ولم يقدر على الإنفاق عليها، وكذا لو وجدت بالزوج عيباً، يفوت معه أغراض الزوجية، ولا يمكن المقام معه مع وجوده، إلا بضرر يلحق الزوجة، ولا يمكن البرء منه، أو يمكن بعد زمن طويل، وكذلك إذا أساء الزوج عشرتها، وآذاها بما لا يليق بأمثالها، أو إذا غاب عنها غيبة طويلة.
كل تلك الأمور وغيرها، تعطي الزوجة الحق في أن تطلب التفريق بينها وبين زوجها، صيانة لها أن تقع في المحظور، وضناً بالحياة الزوجية من أن تتعطل مقاصدها، وحماية للمرأة من أن تكون عرضة للتعسف والظلم(7).
6. أنواع العِدَّة
من الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية في باب الأسرة أيضا؛ أصناف العدة المتعلقة بكل امرأة تنفصل عن زوجها بوفاة أو طلاق.
هذه الأصناف من العدة لا يدخلها التبديل والتغيير تحت أي مبرر كان. وتفصيلها كما يلي:(/7)
أ. الاعتداد بثلاثة أشهر، بالنسبة للمرأة التي لم تحض لصغر، أو التي انقطع عنها دم الحيض لكبر. فهذه عدتها إذا انفصلت عن زوجها بالطلاق هي ثلاثة أشهر قمرية كاملة، عملا بقوله تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ}(8).
ب. وضع الحمل بالنسبة للمرأة الحامل، عملا بقوله تعالى: {وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}(9).
ج. الاعتداد بثلاثة قروء، حيضات أو أطهار، بالنسبة للمرأة المنفصلة عن زوجها بالطلاق والتي من عادتها أن تحيض. عملا بقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}(10).
د. الاعتداد بأربعة أشهر وعشرا بالنسبة للمرأة المتوفى عنها زوجها، عملا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}(11).
هذه الأنواع من العدة ثابتة ومستمرة، والمصلحة من إنفاذها ثابتة ومستمرة كذلك، كما أن المفسدة المتوقعة من عدم مراعاتها محققة أيضا. ولذلك لم يترك الشارع أمر تقدير العدة للمكلفين، وإنما فصل القول فيها وأغلق باب الاجتهاد.
7. اعتداد المطلقة في بيت الزوجية
من الأحكام الشرعية الثابتة، والتي تخلى الناس عنها كلية، ولم يعد لها وجود في حياتهم؛ وجوب قضاء المرأة المطلقة عدتها في بيت الزوجية، وعدم خروجها منه إلى بيت أهلها. وذلك ما يدل عليه صراحة قول الله سبحانه وتعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}(12).
فالطلاق الرجعي، وإن كان حلا مؤقتا للرابطة الزوجية، إلا أنه يُرجى أن تكون مدة العِدَّة فرصة لكُلٍّ من الزوجين لإعادة النظر في علاقته بالآخر، وكلما كانا متقاربين في المكان كلما كانت عودة المودة بينهما أمرا مرجوا، لكن حين يبتعد كل منهما عن الآخر، ويتعرض كل منهما لما يزهده في الآخر، فإن أسباب المراجعة تنقطع. ولذلك أكد الله عز وجل ضرورة ألا تخرج المرأة المطلقة من بيت الزوجية وأن تقضي فيه مدة العدة.
________________________________________
ليس بالضرورة أن تكون الأنثى مستحقة لنصف نصيب الذكر، فهناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصيبا على النصف من نصيب الرجل، في حين أن هناك أكثر من عشر حالات ترث فيها المرأة مثل ميراث الرجل تماما، بل إن هناك حالات كثيرة أخرى ترث فيها المرأة نصيبا أكبر من نصيب الرجل
________________________________________
وهذا حكم ثابت مصلحته ظاهرة، وليس فيه مفسدة مطلقا، لأن مراجعة الرجل لزوجته أمر مطلوب شرعا، واتصاله بها في أثناء العدة يعتبر مراجعة تثبت بها عودة العلاقة الزوجية بينهما من جديد.
لكن المؤسف أن المسلمين قد تخلوا عن هذا الحكم الثابت وعصوا الله عز وجل فيه، وصاروا لا يعرفون من الطلاق إلا أنه عودة الزوجة إلى بيت أبيها وانقطاع صلة ما بينها وبين زوجها.
8. أنصبة الورثة في الميراث
بَيَّنَ الشارع الحكيم في عدد من آيات التنزيل وفي جملة من أحاديث السنة النبوية الشريفة، أصناف الورثة الذين يستحقون أن يرثوا من تركة المتوفى، كما بَيَّنَ ما يستحقه كل صنف من الورثة من نصيب في التركة، سواء كان من أصحاب الفروض أو ممن يرثون بالتعصيب.
وتجري كثير من قوانين الأحوال الشخصية في الدول الإسلامية على توزيع تركة المتوفى بحسب ما نص عليه القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة. ولم يُثِرْ أيٌّ من هذه الأحكام أيَّ جدل أو نقاش، إلا ما كان من حكم استحقاق الأنثى نصف نصيب أخيها الذكر في حال وفاة أحد والديهما.
لقد اتخذ بعض المغرضين من هذا الحكم شاهد إدانة يدَّعون به أن الإسلام قد أهان المرأة وجعلها دون الرجل في القيمة والمكانة الاجتماعية، وهذا ـ على زعمهم ـ مما يتعارض وحقوق الإنسان.
وهذا في الحقيقة فيه الكثير من التجني، وهو ينطوي على جهل كبير بأحكام الشريعة الإسلامية عامة وأحكام المواريث خاصة، فكثير من الناس يتصورون أن المرأة على النصف من الذكر في الميراث، دائما وفي كل الحالات، غافلين عن منطوق الآية الكريمة التي يقول الله عز وجل فيها: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}(13).
فالأنثى على النصف من الذكر في حال وفاة أحد الأبوين وتركه أولادا، فهؤلاء يرثون للذكر مثل حظ الأنثيين. وهذا حكم ثابت ومقطوع به لا يتبدل ولا يتغير فيما يتعلق بالأولاد.(/8)
لكن في أحكام أخرى من أحكام المواريث ليس بالضرورة أن تكون الأنثى مستحقة لنصف نصيب الذكر، فهناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصيبا على النصف من نصيب الرجل، في حين أن هناك أكثر من عشر حالات ترث فيها المرأة مثل ميراث الرجل تماما، بل إن هناك حالات كثيرة أخرى ترث فيها المرأة نصيبا أكبر من نصيب الرجل(14).
إن أحكام المواريث التي فصلها الشارع ولم يتركها لاجتهاد المجتهدين، هي أحكام ثابتة لا تقبل التغيير والتعديل. والسبيل الوحيد إلى الحفاظ على حقوق الورثة والعدل بينهم في توزيعها، هو سبيل تقسيم التركة على مقتضى ما نص عليه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وأي تغيير أو تعديل فيها بدعوى المساواة والمماثلة هو ظلم وتجن وتعد لحدود الله عز وجل، لأن فيه دعوى معرفة مصلحة المكلفين أكثر مما يعرفها الخالق الحكيم الذي خلق هؤلاء المكلفين ثم لم يعرف كيف يعدل بينهم، تعالى الله عز وجل عن ذلك علوا كبيرا.
نماذج من المسائل المتغيرة الأحكام في نطاق الأسرة
إن المسائل المذكورة سابقا التي تتميز بصفة الديمومة والثبات مما اقتضى أن يحيطها الشارع بأحكام ثابتة، هي بعض النماذج فقط مما أحاطه الشارع بأحكام ثابتة في مسائل الأسرة، ذلك أن أغلب مسائل الأسرة فصلها القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة ولم يتركها لاجتهاد المجتهدين، ولذلك فإن المسائل المتغيرة في نطاق الأسرة قليلة ونادرة، إلا ما كان من وسائل تطبيق تلك الأحكام الثابتة فهي متغيرة حقا، أما أصول المسائل فهي ثابتة. وقد لاحظ أحد الباحثين انعدام "منطقة الفراغ التشريعي في ميدان الأسرة، دفعا لذريعة التقنين فيها أو تسريب امتيازات أو استطراق مصلحة معينة من خلال التشريع البشري الوضعي، مدعاة التغيير المستمر في المستقبل الذي تحتمه متطلبات الظروف ونوازع النفس متى رق فيها الوازع والرادع"(15)، كما عبر. ولذلك نكتفي هنا بذكر مثالين للمسائل المتغيرة، وهما:
1. مقدار النفقة
إن النفقة واجبة على الرجل تجاه زوجته وأولاده ووالديه في حالة عجزهما عن النفقة على نفسيهما.
ووجوب النفقة على الزوجة والأولاد أمر ثابت لا يتبدل ولا يتغير، ولكن مقدار النفقة أمر لم يحدده الشارع، وإنما "جعل الواجب هو تلبية حاجة المرأة بالمعروف. والحاجة تختلف من عصر لآخر، ومن بيئة لأخرى، ومن وسط لآخر، ومن رجل لآخر. فالمدنية غير الريفية، والحضرية غير البدوية، والناشئة في بحبوحة النعيم غير الناشئة في خشونة الشظف، وزوجة الثري غير زوجة المتوسط، غير زوجة الفقير"(16). وقد بين الله عز وجل ذلك بقوله: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}(17).
وأمر تقدير النفقة متروك للقاضي يفصل فيه عند التنازع، بالنظر إلى حال الزوج وظروفه وطبيعة وظيفته ومقدار دخله. وهذا يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال، ولا يمكن أن تكون النفقة التي يحكم بها القاضي ثابتة وواحدة في كل الحالات التي تُعرض عليه، وإلا صار هناك ظلم قد يحيق ببعض النساء والأطفال، لأن الرجل الغني الذي عَوَّدَ زوجته وأولاده على نمط رفاهي معين من العيش ثم حدث الطلاق بينه وبين زوجته، لا يجوز أن يُحكم عليه بالنفقة بنفس المقدار الذي يُحكم به على فقير لم يُعَوِّد زوجتَه وأولادَه إلا على الضروري من العيش.
2. الشروط في عقد الزواج
من حق كل واحد من الزوجين عند إبرام العقد؛ أن يشترط شروطا إضافية يراها كفيلة بالمحافظة على حقوقه، سواء في أثناء استمرار علاقته مع زوجه، أو عند وقوع الانفصال بينهما. وهي شروط يلزم القاضي كل واحد منهما بالوفاء بها، إذا ما وقع التنازع ورُفِع الأمر إليه.
لكن هذه الشروط لا يجوز أن تتعدى الغرض المقصود منها وهو حماية حقوق كل طرف، فتتحول إلى وسيلة لإضرار أحد الزوجين بالآخر.
وذلك مثل أن تشترط المرأة على زوجها أن يدفع لها مبلغا ضخما من المال في حال وقوع الطلاق بينهما، أو تشترط عليه ألا يتزوج عليها مهما كان مبرر الزواج معقولا ومشروعا، أو يشترط الرجل على زوجته أن تتنازل عن حقها في حضانة الأولاد إذا وقع الطلاق بينهما. فمثل هذه الشروط الإضرار فيها مقصود وواضح، وهو أمر لا يقبله الشرع ولا يرتضي حصوله، ولذلك فينبغي عدم إبرام عقد زواج متضمن لمثل هذه الشروط، وإن ذُكِرت في العقد فلا ينبغي للقاضي أن يلتفت إليها إذا ما وقع النزاع وانتهى إلى الانفصال، لأنها شروط تذهب بمقتضى العقد.
موقفنا من دعوات تغيير قانون الأسرة
في ضوء ما سبق يمكن وزن الصيحات الكثيرة الصاخبة الداعية إلى تغيير قانون الأسرة الجزائري، فنقول:(/9)
لا شك أن الداعين إلى تغيير قانون الأسرة لهم الكثير من الحق، وخاصة المتخصصين المخلصين منهم، وذلك حين لاحظوا فراغا تشريعيا في المسائل الإجرائية المتعلقة بتنفيذ الأحكام القضائية في مسائل الزواج والطلاق والنفقة والحضانة وما إلى ذلك. إن هذه الدعوات نثمنها ونرى ضرورة وضعها في الحسبان لوضع قانون جديد يأخذ بعين الاعتبار ملاحظات القضاة والمحامين الذين يتعاملون بصفة يومية مع مشكلات الناس وقضاياهم وتواجههم الفراغات التشريعية في الكثير من المسائل المتغيرة الأحكام(18).
________________________________________
لا شك أن الداعين إلى تغيير قانون الأسرة لهم الكثير من الحق، وخاصة المتخصصين المخلصين منهم، وذلك حين لاحظوا فراغا تشريعيا في المسائل الإجرائية المتعلقة بتنفيذ الأحكام القضائية في مسائل الزواج والطلاق والنفقة والحضانة وما إلى ذلك. إن هذه الدعوات نثمنها ونرى ضرورة وضعها في الحسبان لوضع قانون جديد يأخذ بعين الاعتبار ملاحظات القضاة والمحامين الذين يتعاملون بصفة يومية مع مشكلات الناس وقضاياهم وتواجههم الفراغات التشريعية في الكثير من المسائل المتغيرة الأحكام
________________________________________
أما الدعوات الأخرى التي لا تصدر عن متخصصين في الميدان، وإنما عن أناس لا يخفون ضيقهم بأحكام قانون الأسرة لا لشيء إلا لأنها مستمدة من الشريعة الإسلامية، أو أناس يريدون هدم المجتمع وتقويض العلاقات الأسرية ولا سبيل لهم إلى ذلك إلا بإلغاء بعض أحكام الأسرة التي لها صفة الثبات والديمومة في الشريعة الإسلامية. هذه الدعوات لا ينبغي الإنصات لها أو أخذها بعين الاعتبار لأنها لا تهدف إلى تحقيق مصلحة المجتمع أو رفع الغبن عن المرأة كما تدعي وإنما هدفها قطع آخر الصلات التي تربط مجتمعنا الجزائري بدينه الإسلامي الحنيف.
وإذا كان هؤلاء يتمسكون بتغير واقع الحياة وتطور أساليب التفكير وبضرورة مسايرة هذا التطور وهذا التغير، فإن الواجب هو السؤال عن مدى توافق هذا التطور والتغير مع المراد الإلهي، وهل هذا التطور والتغير هو إلى الأحسن في ضوء مقاصد الشارع الحكيم، أم إلى الأسوأ بالنظر إلى تلك المقاصد؟
لا شك أن المتأمل في الكثير مما سمي بالتطور والتغير الذي أنتجه واقع العصر، سيلاحظ أنه إذا كان هناك تطور إلى الأحسن في المجالات المادية من الحياة، فإن هناك تطورا إلى الأسوأ في الكثير من المجالات الأخرى، وخاصة مجال الأخلاق والروابط الأسرية والعلاقات الاجتماعية مما ينذر بأوخم العواقب على الفرد والمجتمع، فكيف نراعي هذا التطور السيئ ونغير في ضوئه الأحكام الإلهية الثابتة التي من شأنها المحافظة على مصالح المكلفين ودفع المفاسد عنهم؟
إننا إذا ما سايرنا هذه الدعوات وانصاع القائمون على سن القوانين لرغبات أصحابها، فلا شك أنه سيأتي علينا يوم نسمع فيه من يدعو إلى إباحة زواج المحارم، وإباحة الزواج بين الرجل والرجل، والمرأة والمرأة، وما إلى ذلك مما هو موجود اليوم في الغرب، كل ذلك بدعوى التطور والتغير المزعوم.
________________________________________
(1) سورة النساء، من الآية: 3.
(2) من دراسة للشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين، بعنوان: (تعدد الزوجات وحقوق الإنسان). انظرها على شبكة الأنترنت.
(3) الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي، ج: 9، ص: 6669 ـ 6670.
(4) انظر: المرأة في الإسلام، للدكتور محمد معروف الدواليبي، دار النفائس ـ بيروت، ط: 1، 1409 هـ، 1999م، ص: 77 ـ 78.
(5) سورة النساء، الآية: 130.
(6) سورة البقرة، الآية: 229.
(7) من دراسة بعنوان (لماذا شرع الإسلام الطلاق؟)، مأخوذة من الشبكة العنكبوتية العالمية "الأنترنت" موقع: (www.islamunveiled.com). بتصرف.
(8) سورة الطلاق، من الآية: 4.
(9) سورة الطلاق، من الآية: 4.
(10) سورة البقرة، من الآية: 228.
(11) سورة البقرة، من الآية: 234.
(12) سورة الطلاق، الآية: 1.
(13) سورة النساء، من الآية: 11.
(14) انظر في هذه الحالات، ما كتبه الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه (المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني)، دار الفكر ـ دمشق، ط: 1، 1417 هـ، 1996 م، ص: 106 ـ 107. وانظر كذلك دراسة بعنوان (الميراث بين الرجل والمرأة في الإسلام)، بقلم الأخ أبو بكر، على الشبكة العنكبوتية العالمية "الأنترنت".
(15) من بحث بعنوان (مقاصد التنزيل من تشريعات الأسرة الإسلامية)، للدكتور محمد البشير الهاشمي مغلي، مجلة المجلس الإسلامي الأعلى، العدد الثالث، 1420 هـ، 2000م، ص: 175.
(16) فتاوى معاصرة، للدكتور يوسف القرضاوي، المكتب الإسلامي ـ بيروت، ط: 1، 1421 هـ، 2000م، ج: 1، ص: 570.
(17) سورة الطلاق، الآية: 7.(/10)
(18) راجع في هذا الصدد، على سبيل المثال، بحث الدكتور نصر الدين ماروك: ((قانون الأسرة الجزائري بين النظرية والتطبيق))، مجلة المجلس الإسلامي الأعلى، العدد الثالث، 1420 هـ/ 2000 م. ص: 263 ـ 320.(/11)
الثقافة الإسلامية في عصرالعولمة(1-2)
سهيلة زين العابدين حمَّاد 3/9/1424
28/10/2003
إنَّ الموضوع الذي نحن بصدده جد خطير وهام؛ إذ لابد من هذه الوقفة مع واقع الثقافة في عالمنا الإسلامي الذي يواجه الآن كل تحديات أنواع العولمة (الدينية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأدبية، واللغوية، والفكرية، والثقافية).
ومما لاشك فيه أنَّ هذه المجالات جميعها تكون عقيدة وفكر وثقافة الأمة التي من خلالها يتحدد سلوك أفرادها، وقرارات قاداتها.
وقراءة منا لواقع الثقافة في عالمنا الإسلامي، وحال مثقفيها نجد أنَّنا -للأسف الشديد- مهيئين تماماً لقبول العولمة، بل والذوبان في الآخر، وهذه ليست نظرة تشاؤمية، ولكن حاضرنا الثقافي هو الذي يشهد بهذا، فنحن منذ ظهور الإسلام حتى وقتنا الراهن كنا فريسة لمخططات الغرب التي أوصلتنا إلى هذه المرحلة، ولابد لنا أن نكون صريحين وواقعين حتى لانخدع أنفسنا ونوهمها بحسن نية الآخر تجاهنا، وحتى لا نعطي للآخر حجماً أكبر من حجمه، أو نستهين بما يخططه ضدنا للتظاهر بأننا لسنا من ذوي نظرية التآمر التي نجح الغرب في أن يجعل عددًا كبيرًا من مثقفينا يعتنقها ليخطط ويحقق أهدافه دون أن توجه إليه أصابع الاتهام، ولنتقبل ما يخطط لنا دون إدراك أبعاد وخطورة هذه المخططات كما هو حاصل الآن، علينا أن نقرأ التاريخ، ونتعرف على حقيقة علاقة الشرق بالغرب، وأبعاد هذه العلاقة وأهدافها، ونتوقف عند علاقة الغرب بالإسلام وموقفه منه، ومخططاته لمواجهته، ونظرته للمسلمين عامة وللعرب بصورة خاصة، وما يفعله الآن معنا.
إنَّ ما يحدث ليس وليد التسعينيات من القرن العشرين ولكنه حصيلة قرون عديدة تصل إلى ما قبل عصور التاريخ، ومما ينبغي علينا أن نحذر من الغرب؛ لأنه يريد طمس هويتنا ومسخ شخصيتنا واقتلاعنا من جذورنا وإحلال ثقافته ودينه وعقيدته وأمراضه وانحلاله محل ديننا وثقافتنا وقيمنا وأخلاقياتنا، مع فرض هيمنته السياسية والاقتصادية والعسكرية علينا، وحرماننا من حق المعارضة وإبداء الرأي، والدفاع عن حقوقنا الشرعية. وجعلوا منا من أصبح يناهض كل ما هو إسلامي، ويطالب بإلغاء ثوابت الإسلام، وإسقاط الإسلام من دساتير الدول الإسلامية، وقصره على العبادات، ومنا من فقدوا ثقتهم في العقلية الإسلامية، وشككوا في قدرات المسلمين، ونسبة إنجازات المسلمين للغرب، ووصفوا الإسلاميين بسرقة أفكار الغربيين ونسبتها إليهم، بل نجد اللغة الإنجليزية قد أصبحت هي الأساسية في الدراسات الجامعية في جامعاتنا، ليس في العلوم التجريبية فقط، بل أصبحت لغة دراسة الاقتصاد والإدارة أيضاً.
كما نجد الغرب قد نجح في نسبة الإرهاب إلى الإسلام بشرائه لمجموعة من الأفاكين مستغلين حبهم للمال وحاجتهم إليه للقيام بأعمال إرهابية، ونسبتها إلى جماعات إسلامية، هم في الغالب وراء إيجادها وتكوينها، حتى أصبحت الحكومات الإسلامية تخشى من كل ما هو إسلامي.
أليس هذا هو واقعنا الآن؟
قد يقول قائل: الخطأ خطؤنا ونحن أوصلنا أنفسنا إلى ما نحن عليه الآن، وأنا أتفق مع هذا القائل، ولكن لكي نكون واقعيين لابد لنا أن نضع أيدينا على الأسباب التي أوصلتنا إلى الحال هذه، ومن وراءها؛ علَّنا نستطيع تلافيها. وهنا يتطلب منا أن نطرح هذه الأسئلة:
متى تعَّرف الغرب إلى الشرق؟ وماذا كانت طبيعة هذه العلاقة؟ وما أهدافها وغاياتها؟ وكيف كانت نظرة الغرب إلى الشرق؟ وما هو تأثيرها على الثقافة العربية والإسلامية؟
وسأبدأ بالإجابة عن السؤال الأول:
متى تعرَّف الغرب إلى الشرق:
لقد تعرَّف الغرب إلى الشرق عبر قرون طويلة، وعن طريق عدد كبير من الكتَّاب والرَّحالة والجغرافيين والمؤرخين، وقد اختلفت وسائل اتصال أوربا بالشرق باختلاف أهدافها وبواعثها من وراء هذا الاتصال، وقد بدأت بعلاقات تجارية ترجع إلى أيام الكنعانيين، ثمَّ تلتها علاقات حرب واحتلال في زمن الإسكندر الأكبر في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد الذي وقف علماؤه لدراسة الشرق ليتمكن من غزوه. وهذه تعد البداية الحقيقية للاستشراق.
صورة الإسلام في أوربا من خلال الكنسية وكتابات المستشرقين:(/1)
وعندما ظهر الإسلام كثّفت الكنيسة جهودها لمهاجمة الإسلام والنبي محمَّد -صلى الله عليه وسلَّم-، ولقد ظهرت آراء ومواقف فظة ومشوبة بالعصبية في العقيدة الإسلامية، وقد أوضح المستشرق البريطاني ريتشارد سوذرن في كتابه "صورة الإسلام في أوربا في العصور الوسطى"، وكذلك نظيره نورمان دانيال في كتابه "العرب وأوربا في العصور الوسطى" تلك المواقف الفظة المشوبة بالعصبية ضد الإسلام ونبيه -محمّد صلى الله عليه وسلم-، وإلحاق فعال وصفات به هو منزه عنها، ولا تمت إلى الحقيقة والواقع بصلة، فقط ليشوهوا صورته وليصرفوا الناس عن الإيمان برسالته وبنبوته، وليفرغوا حقدهم عليه، والمجال لا يتسع لذكر ما نسبوه إليه باطلاً، ولكن يبين لنا هذا أنهم في تعاملهم معنا يخرجون عن جميع مبادئ وأسس الحوار العلمي الموضوعي المنطقي الذي يتظاهر به الغرب في نقاشه وحواره معنا.
قد يقول قائل إن طريقتهم اختلفت مع مشارف القرن العشرين، ولا سيما في العقود الأخيرة منه، وأقول هنا من خلال دراستي للاستشراق، ولبعض المدارس الاستشراقية -وأهمها المدرسة البريطانية والفرنسية والألمانية، وغيرها- وموقفها من السيرة النبوية؛ وجدتها لم تخرج عن الإطار الذي رسمه المستشرقون الأوائل الذين كان معظمهم من رجال الكنيسة، وعند دراستي لمصادرهم وجدت أن كتابات أولئك المستشرقين هي مصادرهم الأساسية، أمَّا المصادر الإسلامية فما هي إلاَّ مجرد إطار لوضع الصورة التي رسمها المستشرقون الأوائل مع تخفيف حدة الهجوم المباشر بتغليفه بغلاف يوحي بالمنهجية العلمية والموضوعية، ولكن عندما تتفحص في المحصلة والنتيجة تجد أنها لا تخرج عن الصورة التي رسمها أولئك المتعصبون الحاقدون على الإسلام ونبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم، وتؤكد ما أقوله أهداف الدراسات الاستشراقية ونتائجها.
أهداف الاستشراق ونتائجه:
نتيجة لكشف بعض الباحثين العرب- في مقدمتهم الدكتور إدوارد سعيد، والأستاذ عبد النبي أصطيف، والدكتور أنور عبد الملك- أمام الرأي العام العالمي أهداف ومناهج المستشرقين مبينين مثالبه وعيوبه فلقد تخلى المستشرقون رسمياً عن مصطلح "مستشرق" في المؤتمر الدولي التاسع والعشرين للمستشرقين الذي عقد في باريس صيف عام 1973م، وقال المستشرق الصهيوني البريطاني الأمريكي برنارد لويس: "فلنلق بمصطلح مستشرق في مزبلة التَّاريخ"، لكنهم لم يتخلوا عن مناهجهم، وقد أعلنوا هذا في ذات المؤتمر، واتخذوا من مراكز المعلومات مصطلحاً جديداً للاستشراق الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية لتمارس من خلاله على الشرق ولاسيما الشرق الإسلامي ودول العالم الثالث نوعاً جديداً من الاستعمار، وهو أخطر أنواع الاستعمار ولم يسبق للبشرية أن رأت مثيلاً له، وهذا الاستعمار هو "العولمة".
هذا وللاستشراق أهداف دينية وتنصيرية، وأهداف سياسية، وأهداف استعمارية عسكرية، وأهداف علمية، والحديث عن هذه الأهداف طويلة جدًا، لذا سأوجز الحديث عنها في الحلقتين القادمتين إن شاء الله.
الثقافة الإسلاميةفي عصرالعولمة(2/2)
سهيلة زين العابدين حمَّاد 10/9/1424
04/11/2003
توقفتُ في الحلقة الأولى من هذه المقالة عند أهداف الاستشراق التي سوف أوجزها في الآتي:
أولاً: الأهداف الدينية والنتصيرية:
1- لقد أسهمت الدراسات الاستشراقية في إيجاد الأرضية في كثير من بلاد المسلمين للدعوة التنصيرية، وقد كتب بعض المستشرقين ونظَّروا لكيفية التَّنصير مع المسلمين، مثل ما قام به المستشرق المُنصِّر القس صموئيل زويمر في معهده الذي أنشأه باسمه من قبل المؤتمر التَّنفيذي ليكون مركزاً للأبحاث مهمته إعداد الأبحاث وتدريب العاملين في صفوف المسلمين لتعزيز قضية تنصير المسلمين، وكذلك المستشرق البريطاني وليم موير، ويشهد على ذلك كتابه " شهادة القرآن على الكتب اليهودية والمسيحية " فهو كتاب تنصيري في المقام الأول. ومسلسل التنصير لم ينته بعد فلقد أعلن البابا في المجمع المسكوني الثاني الذي عقد عام 1965م خطته لتنصير العالم واقتلاع الإسلام مع قدوم الألفية الثالثة بحيث يتم استقبالها بلا إسلام، ولعل حملات التنصير المكثفة التي شهدتها إندونيسيا تعطينا مؤشراً لذلك، بل الأخطر من هذا وجود بعض المدارس التنصيرية في بعض دول الخليج العربي، ولعل كتاب " الغزو التبشيري النصراني في الكويت" لأحمد النجدي الدوسري يكشف أبعاد هذا المخطط، أيضاً النشاط التنصيري المكثف في الجنوب السوداني لإيجاد دولة مسيحية سودانية تمهيداً لاقتلاع الإسلام من السودان، وقد شرعوا بالفعل لتنفيذ هذا المخطط، كما نجحوا في تفتيت وحدة إندونيسيا، وقسَّموا تيمور إلى شرقية وغربية، بينما نجدهم وحَّدوا برلين الشرقية والغربية.(/2)
إنَّ مخطط تجزئة الدول الإسلامية وشطرها إلى شطرين: مسيحي وإسلامي، أو تقسيمها على أساس مذهبي أو عرقي كما هو مخطط للعراق، وغيرها من دول المنطقة، كل هذا يؤكد أنَّ هدف الغرب القضاء على الإسلام، وأن أساس الصراع بيننا وبين الغرب هو الدين الإسلامي في المقام الأول ويظهر هذا بوضوح في الحروب الصليبية، إذ خشي الغرب من المد الإسلامي، وعندما فشلت هذه الحملات، ولم تحقق أهدافها نشأ الاستشراق الذي ركَّز هجومه على القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه الإسلامي والسيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي، واللغة العربية لأنها لغة القرآن الكريم، وكذلك دراسة الأدب العربي، والعمل على إحياء الفرق المنحرفة في تاريخ المسلمين كالباطنية، وقضوا السنوات في إخراج كتب ليؤثروا في المفاهيم الأساسية للإسلام، وذلك بثنائهم على البهائية والقاديانية، وقد أوجد الاستعمار البريطاني القاديانية، إذ أشاد بها لأنها –كما زعم- جاءت بآراء حرة مستقلة ووصفها بالعقلانية، والاستنارة والتجديد ليخدع بها بعض المسلمين، وليشوه تعاليم الإسلام، وللأسف هناك أقلية من المسلمين تأثرت بفكر هذه الفرق المنحرفة واعتنقت عقائدها.
كما أسهم المستشرقون بقدر كبير في إحياء القوميات في العالم العربي خاصة في النصف الأول من القرن العشرين، فقد نبَّش المستشرقون في الحضارات الجاهلية القديمة؛ لإحياء معارفها من ذلك: بعث الفرعونية في مصر، والفينيقية في سوريا، والآشورية في العراق، والفارسية في إيران، والطورانية في تركيا، أمَّا الجزيرة العربية فلقد بحثوا في آثار السَّابقين، وأسموا دراستهم " التاريخ الحضاري للعرب قبل الإسلام "، وتعمدوا بذلك إظهار الحضارات القديمة ليطفئوا نور الإسلام، وأنَّ الإسلام ليس وحده هو الذي قدَّم الحضارة الإنسانية، وترتب على مثل هذه الدراسات الآتي:
ا-تحسين سمعة الجاهلية القديمة، وتمجيد رجالها.
ب-بث النعرات الانفصالية في الأمة الإسلامية.
ج-محاولة قطع صلة الأمة الإسلامية بماضيها الحقيقي الذي بدء بظهور الإسلام.
د- تهيئة بعض المسلمين لتقبل قيام حضارة لهم غير مهتدية بهدي الإسلام، كما نشأت في تلك الحضارات القديمة.
- كما سعى المستشرقون في نشر بعض الأيدلوجيات الأجنبية في الأراضي الإسلامية كالشيوعية، فلقد أشاد المستشرق " بندلي جوزي" بالقرامطة، وأدعى أنَّهم والإسماعيلية الشيوعيين الأولون في الإسلام، وذلك في كتابه "من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام "، كما زعم المستشرق الفرنسي "جاك أوستري" أنَّ هناك بعض الشَّبه بين الإسلام والشيوعية من حيث عالميتها وتساميها على القوميات والعنصريات، وقد شبَّه كذلك نظام الدَّولة في الإسلام بنظام الدَّولة في النِّظام الشيوعي، وقد تأثر بهذه الكتابات بعض الكتاب المسلمين، وعملوا على نشرها مثل الكاتب الكبير "توفيق الحكيم" في سلسلة مقالاته التي نشرت في الأهرام "دفتر الجيب"، وذلك في الفترة من 21إبريل حتى 15سبتمبرعام 1981م، وقد قرَّر في هذه المقالات أنَّ الشيوعية تسير على مبدأ الإسلام في قوله تعالى (وفي أموالهم حق معلوم* للسائل والمحروم)، وأراد أن يثبت أنَّ المادة قد طغت على الإسلام عند تطبيقه لنظمه؛ ليجعل الإسلام لا يختلف عن الشيوعية من ناحية طغيان المادة، واتخذ من الإسلام وسيلة للدعوة لتطبيق الاشتراكية، والأخذ بالشيوعية، بل قال في كتابه شجرة الحكم السياسي صفحة 507: " أنَّ الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلَّم كان يسارياً هو وسائر الأنبياء " ، ونسمع الآن عن الإسلام اليساري الذي يتزعم دعوته الأستاذ حسن حنفي.(/3)
- كما شجَّع الاستشراق على نشر الليبرالية الغربية وتبعيتها في بلاد المسلمين، وقد حاول بعض المستشرقين أن يخدعوا بعض المسلمين، بأنهم إذا أرادوا التقدم واللحاق بركب الأمم الصناعية ما عليهم إلاَّ أن يتبنوا المنهج الأوربي الذي قام وفُرِض بعد نقض كتب العهد القديم والعهد الجديد " ، وهي أقدس كتب لديهم وهم بهذا يريدون من المسلمين التجرؤ على كتاب الله ونقده، وللأسف فقد تأثر بعض الأساتذة المسلمين بهذه الدعوة في مقدمتهم الأستاذ الدكتور طه حسين، إذ دعا طلبته في كلية الآداب إلى نقد القرآن الكريم بوصفه كتاباً أدبياً، وأثار الشبهات حول كلمة كتاب وقرآن، وقال إنَّ الكتاب غير القرآن، وأنَّه كان موجوداً قبل نزول القرآن، وإنَّ القرآن صورة عربية منه، وأنَّه أخذ صوراً من الكتب التي قبله، ويقول: "إنَّ هناك قرآناً مكياً له أسلوب، وقرآنا مدنياً له أسلوب آخر، وإنَّ القسم المكي يمتاز بالهروب من المناقشة والخلو من المنطق، أمَّا القسم المدني فيمتاز بمناقشة الخصوم بالحجة الهادئة، وهذا القول هو ما يردده المستشرقون، وفي مقدمتهم المستشرق اليهودي البريطاني دافيد صموئيل مرجليوث في كتابه "مقدمة الشعر الجاهلي" الذي ترجمه الدكتور طه حسين ونسبه إلى نفسه، مسمياً كتابه " الشعر الجاهلي"، والذي قال فيه بخلق القرآن، ثمَّ تراجع عن ذلك عندما وجد اعتراضاً على ذلك.
- قيام بعض المستشرقين برصد الحركات الإسلامية المعاصرة، ودراسة أحوالها وأوضاعها ليمكنوا صناع القرار في البلاد الغربية من مكافحتها، وبذل كافة الوسائل لإطفاء نورها، وهناك عدد من المستشرقين مثل: "هاملتون جيب"، و"ميشيل ريتشارد"، و"ألفريد سميث" وغيرهم كتبوا عدة دراسات عن هذه الحركات، ومن أحدث الدراسات عن هذه الحركات أعدها المستشرق الأمريكي جون سبوزيتو عن ظاهرة الصحوة الإسلامية في العالم الإسلامي، وهي على صلة وثيقة بالبيت الأبيض الأمريكي.
إنَّ رجال الحكم الغربيين والإعلاميين حريصون على معرفة الحركات وزعمائها، وفي شهر مايو سنة 1992م صرَّح نائب الرئيس الأمريكي في حفل الأكاديمية البحرية بولاية ماريلاند "بأنهم في هذا القرن أي القرن العشرين قد أخيفوا بثلاث تيارات: الشيوعية، والنَّازية، والأصولية الإسلامية، وقد سقطت الشيوعية والنَّازية ولم يبق أمامهم سوى الأصولية الإسلامية"، فمن أخطر دراسات المستشرقين عن الإسلام وأهله الدراسات التي تحذر الغرب من قدرات الإسلام الكامنة، وتنبيه الغربيين إلى ثروات المسلمين الهائلة ليخطط الغرب مواصلة سيطرته على بلاد المسلمين، ومن أخطر الدراسات الاستشراقية تلك التي أعدها المستشرق الألماني "باول شمتز" باسم "الإسلام قوة الغد العالمية".
إنَّ مقولة نائب الرئيس الأمريكي عن الإسلام في التسعينيات من القرن العشرين تعيد إلى أذهاننا مقولة رئيس الوزراء البريطاني "جلاد ستون" في أواخر القرن التاسع عشر، أي قبل حوالي قرن من الزمان؛ إذ أعلن رئيس الوزراء البريطاني في مجلس العموم البريطاني وقد أمسك بيمينه كتاب الله عزَّ وجل، وصاح في أعضاء البرلمان وقال: "إنَّ العقبة الكؤود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد المسلمين هي شيئان، ولابد من القضاء عليهما مهما كلفنا الأمر، أولهما هذا الكتاب، وسكت قليلاً، بينما أشار بيده اليسرى نحو الشرق وقال: هذه الكعبة ".
أليس هذا أكبر دليل على أنَّ الغرب لم ولن يغير موقفه من الإسلام والمسلمين؟
إنَّ دور المستشرقين لم يتوقف عند هذا الحد، إذ نجدهم مهدوا وساعدوا على الاستعمار منذ عصر الإسكندر الأكبر، ونابليون بونابرت، حتى أواخر القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، سواء كانوا رحالة أو قناصل أو جواسيس، أو منصِّرين.
ثانياً: الأهداف السياسية والاستعمارية والعسكرية:
ممَّا ينبغي التوقف عنده والتأكيد عليه أنَّ نشاط المستشرقين والخبراء الأمريكيين بشؤون الشرق الأوسط يشكل جزءًا رئيساً من نظام التخطيط للعمل الإسرائيلي والأمريكي في المنطقة العربية، وهذا ينبهنا إلى حقيقة هامة، وهي أنَّ الاستشراق يقوم في عصرنا الراهن على مخطط تحدده المصالح الأمريكية والصهيونية في الشرق الأوسط، كما لعب الاستشراق الأوربي من قبل، والاستعمار الإنجليزي بدور في خدمة الأهداف الصهيونية بإنشاء صندوق اكتشاف فلسطين، وإعلاء شأن اليهود مع التقليل من شأن العرب المسلمين، والذي سهَّل للصهيونية تحقيق أهدافها من خلال الاستشراق وجود أكثر من أربعين يهودي في المدارس الاستشراقية الأوربية والأمريكية، ومن أكبر مستشرقيها مثل: جولد تسهير، وشاخت، وكارل بروكلمان، ولويس ماسينون، ومكسيم ردونسون، ومرجليوث، وبرنارد لويس.(/4)
ولا ننسى أنَّ بعض المستشرقين أوجدوا النظرية العرقية ليبرروا الاستعمار، ووصفوا العقلية العربية بأنَّها عقلية ذرية غير قادرة على التجميع والقيادة، وممن قالوا بهذا القول المستشرق البريطاني هاملتون جيب، وملف الاستشراق حافل بهذه المواقف التي تدين الحركة الاستشراقية، والتي بسببها أصبح مصطلح الاستشراق مشبوهاً، وأعلن المستشرقون تخلصهم منه ورميه في مزبلة التاريخ، واستبداله بمراكز المعلومات التي تقوم بنفس دور الاستشراق القديم، ولكن في ثوب جديد.
ثانياً: الأهداف العلمية والتمهيد للعولمة الثقافية:
ومما ينبغي لفت الانتباه إليه أن الاستشراق قام بدور كبير في التمهيد للعولمة الثقافية باحتواء كثير من المسلمين ثقافياً عن طريق خدمة المستشرقين للتراث وتحقيقه ونشره وفهرسته، وما إلى ذلك حيث أصبح كل باحث مسلم لا يستغني عن بعض جهودهم في أبحاثه ومكتباته، فيعتمد عليها أو يتناولها بالدراسة، وتأثر بها شعر أو لم يشعر، ويرجع هذا إلى نجاح الاستشراق في السيطرة على مصادر التراث العربي الإسلامي، وعلى الرغم من أن بعض الدراسات كانت تقترب من صفة النزاهة والحياد إلاَّ أنها في النهاية، وبكل المقاييس تبقى مظهراً من مظاهر الاحتواء الثَّقافي، وقد نجم عن هذا الاحتواء الآتي:
أ-شعور كثير من المسلمين بضعفهم، ونقص إمكاناتهم، وتأخرهم عن غيرهم في العصر الحديث، ونسبة كل الإيجابيات إلى الغرب.
ب-تبعية كثير من الكتَّاب والباحثين فكرياً لهم، ودفاعهم عن مبادئهم ومناهجهم.
ج- وضع أسس لمنهج البحث والتفكير المادي، فكتبوا وبحثوا ونقدوا في ضوء هذا المنهج، كما نجدهم قد طبَّقوا المناهج الفكرية المادية على كثير من علومنا الإسلامية سواءً في التفسير المادي للتاريخ، أو في كتاباتهم عن القرآن الكريم والرسول -صلى الله عليه وسلَّم- فدَّعموا شهادتهم في هذه الجوانب الفكرية باسم المنهج العلمي، ممَّا أدى إلى رواجها واستسلام كثير من الكتاب لها ودفاع بعض المسلمين عنها.
د- لقد رسَّخ المستشرقون مبدأ العلمانية وصدَّروه إلى عالمنا الإسلامي سواء في الجانب الفكري والسياسي، فأصبح من المسلمين من تبنوا مبدأ العلمانية، بل نجد هناك بعض الدول الإسلامية قد تبنت العلمانية، وأعلنت أنَّها دولة علمانية، أو هناك من المسلمين من ينادي بعلمانية السياسة، ونحن لو رجعنا إلى أصل نشأة هذه الدعوة نجد أنَّ المستشرقين ممن روَّجوا لها ودعوا إليها، ولا ننسى أثر ميكافلي في ترسيخ العلمانية السِّياسية، وتجريد السياسة من معاني الدِّين والأخلاق وتبرير الوسائل باسم الغايات.
ه-دعوة المستشرقين إلى الحرية الفكرية المزعومة التي دعوا إليها، ولم يلتزموا بها في بحوثهم وكتاباتهم؛ إذ نجدهم صوروا المفكرين الإسلاميين مجرد نقلة للتراث اليوناني الفلسفي بناءً على نظرتهم العنصرية المقسمة للشعوب إلى: ساميين، وآريين. فالساميون ومنهم العرب لا قدرة لهم على التفكير الفلسفي، وتناول الأمور المجردة بخلاف الشعوب الآرية، كما صرَّح بذلك رينان في كتابه " تاريخ اللغات السامية "، وكذلك "جوتيه" في كتابه " المدخل لدراسة الفلسفة الإسلامية ".
و-كان الاستشراق وراء طرح ونشر مصطلحات متعددة في الجانبين الأدبي والنقدي مثل "الحداثة" و " البنيوية" و "الأبستولوجيا المعرفية" و "والوجودية" و "النثرية" في مجالات الأدب، ولقد كشفت الباحثة البريطانية فرانسيس ستونور سوندرز في كتابها "بعنوان "التكاليف؟ -الصادر في يوليو عام 1999م- قيام الحكومة الأمريكية عبر وكالة المخابرات المركزية لإيجاد مدارس وتيارات ثقافية كاملة ومنها تيار الحداثة، ودعم مجلة الحوار العربية وغيرها، فتجرأ بعض الأدباء والشعراء على الذات الإلهية، فأدونيس كتب قصائد بعنوان " الإله الأعمى، و " الإله الميت "، ويقول في هذه القصيدة: " وبدلت إله الحجر الأعمى وإله الأيام السبعة بإله ميت "
(1) ، وأعلن كرهه لله، بل ادعى الألوهية في قصيدة " الخيانة "
وأنا ذاك الإله
الإله الذي سيبارك أرض الجريمة
وصلاح عبد الصبور قال في شعره " الشيطان خالقنا ليجرح قدرة الله العظيم "
(2) ، وقال في قصيدة " الإله الصغير" :
ورقصنا وإلهي للضحى خداً…لخد
ثمَّ نمنا وإلهي بين أمواج وورد
ويقول ذات الشاعر في قصيدة " الناس في بلادي ":
كم أنت قاس موحش يا أيها الإله
(3)وأمل دنقل مجَّد الشيطان فقال في قصيدة له :
المجد للشيطان ……معبود الرياح
من قال " لا " في وجه من قالوا " نعم "
من علّم الإنسان تمزيق العدم
من قال " لا " فلم يمت
وظلَّ روحاً أبدية الألم.(/5)
والأمثلة كثيرة لا حصر لها، ولكن ما ذكرته يبين لنا سمة الشعر الحداثي، ومقومات الحداثة القائمة على فصل العقيدة عن الفكر والأدب آخذة بمذهب " الفن للفن، متبنية مذاهب فكرية لا تمت للدين الإسلامي بصلة، بل تدعو إلى الإلحاد وإلغاء العقل، وإحياء فكر الفرق الباطنية من دعاة الحلولية والتناسخ، كما أوجد المستشرقون في الساحة مصطلح "الأصولية " و " السلفية " لتغييب اسم الإسلام.
ز-لم يقتصر المستشرقون في بحوثهم على علم واحد، وإنَّما تناولوا مختلف العلوم، وللأسف لم يلتزموا بالحيدة والموضوعية في أغلب بحوثهم، إذ نجدهم سلكوا سبل التحريف والتشويه في دراساتهم عن القرآن الكريم والطعن في مصدره، وكذلك الطعن والتشكيك في السنة المطهرة وصحتها، وامتد التشويه إلى نبي الإسلام محمَّد -صلى الله عليه وسلَّم-، وحسبنا قول المستشرق البريطاني وليم موير: "إنَّ سيف محمَّد والقرآن هي أكثر الأعداء الذين عرفهم العالم حتى الآن عناداً ضد الحضارة والحرية الحقيقية " .
ح-تأليف الكتب والمراجع والموسوعات العلمية في موضوعات مختلفة عن الإسلام ونظمه مع التحريف الخفي، والتزييف المتعمد في الوقائع التاريخية، وفي نقل النصوص من القرآن والسنة، وبيان سيرة الرسول صلى الله عليه وسلَّم، وإصدار النشرات الدورية والمجلات العلمية الخاصة ببحوثهم عن الإسلام والمسلمين، وإلقاء المحاضرات والخطب في الجمعيات العلمية، وفي كل مكان، ونشر مقالات وبحوث في الصحف والمجلات الواسعة الانتشار، وخاصة في أوساط المثقفين، وترجمة كتبهم ومراجعهم وموسوعاتهم إلى اللغة العربية، ويكفي أن نعرف أنَّ هناك وأقسام عديدة مستقلة للدراسات الشرقية في الجامعات العلمية في الغرب كله، وأنَّ في القارة الأمريكية وحدها حوالي تسعة آلاف مركز للبحوث والدراسات الشرقية عامة، ومنها حوالي خمسين مركزاً خاصاً بالعالم الإسلامي، وأنَّه منذ مئة وخمسين عاماً، وحتى الآن يصدر في أوربا بلغاتها المختلفة كتاب كل يوم عن الإسلام، فقد صدر ستون ألف كتاب بين سنة 1800-1950م.أي عبر قرن ونصف، ويصدر المستشرقون الآن ثلاثمائة مجلة متنوعة بمختلف اللغات في تراث الإسلام، وأنَّ المستشرقين عقدوا خلال قرن واحد ثلاثين مؤتمراً مثل: مؤتمر"أكسفورد" الذي ضمّ تسعمائة عالم.
وما هذا إلاَّ خطة لتهيئة الرأي العام لقبول الغزو العسكري والاقتصادي والثقافي الغربي لبلاد الإسلام من جهة، ولدراسة أحوال العالم الإسلامي، وكل ما يتعلق بشؤونه ليساعدهم ذلك على السيطرة وبسط النفوذ من جهة أخرى.
كل هذا كان إعداداً وتمهيداً لتقبلنا لما هو آت، وهو " العولمة " ، بل لخضوعنا لما تفرضه علينا العولمة، وعدم إعطائنا فرصة للقبول أو الرفض، فنحن ما بين عشية وضحاها وجدنا أنفسنا أمام العولمة الدينية -من خلال فرض الحوار الإسلامي المسيحي- والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتقنية في آن واحد، ووجدنا أنفسنا قد فقدنا القدرة حتى على شجب ما تتعرض له الأمة الإسلامية من عدوان ومحاولات إبادة، بعدما فقدنا القدرة عن المشاركة في القتال للدفاع عن ما يتعرض له المسلمون من غزو، فلقد شوهوا مفهوم الجهاد في الإسلام، فصوروا الجهاد في سبيل الله ومقاومة الاحتلال والعدوان إرهاباً، وقتلوا روح الجهاد في نفوس المسلمين بعد اتفاقية كامب ديفيد، وخداعنا بأسطورة السلام مع الذين لا يعرفون السلام، ولا يحترمون العهود والمواثيق، ولا يلتزمون بها.
أخطار العولمة السياسية
والطَّامة الكبرى أن "العولمة" السياسية سوف تلغي دور الدولة والحكومة، وأنَّ النظام الاقتصادي العالمي الجديد المفروض علينا سوف يجعل البلاد النامية التي نصنف نحن ضمنها مراكز للتلوث الصناعي، إذ يخطط الكبار نقل مصانعهم إلى بلادنا لحماية بيئاتهم من التلوث الصناعي، مع استغلال العمالة في هذه البلاد لرخصها، ولكن دون أن تنقل لنا تقنية الصناعة أو جعلها في أيدينا، وهذا ما تدرسه الآن بريطانيا لطلبتها وتعِدُّهم لتنفيذه، كما أنَّ النظام المالي الجديد سيتيح المجال أمام المضاربين لضرب اقتصادنا كما حصل في إندونيسيا وماليزيا، كما أنَّ النظام الاقتصادي الجديد سوف يفتح باب الاستثمار على مصراعيه، وهذا يعني أن الصهاينة سيدخلون أسواقنا ويتحكمون في اقتصادنا كما دخلوا بيوتنا من خلال التمويل الأجنبي للجمعيات النسائية الأهلية، والاتفاقيات الدولية -كاتفاقية إزالة أشكال التمييز ضد المرأة التي وقع عليها عدد من الدول الإسلامية-، ومؤتمرات المرأة العالمية، وأصبحوا يفرضوا علينا الخروج عن ثوابت الإسلام مع توعدهم لعلماء الدين إن اعترضوا على ما يفرض علينا من توصيات مؤتمرات المرأة العالمية بسن قوانين دولية تطبق على الجميع، وخاصة القوانين التي تسمح بالانفلات الجنسي تحت مسمى " الصحة الجسدية " أو " الصحة الجنسية"، والتي تتضمن إقرار الإجهاض كوسيلة من وسائل منع الحمل إلى جانب الحرية الجنسية الانفلاتية.(/6)
1- ديوان أدونيس : المجلد الأول،ص346 .
2- ديوان صلاح عبد الصبور:قصيدة الحزين، ص 38.
3- قصيدة كلمات سبارتكوس لأمل دنقل.
الفكر الإسلامي في زمن العولمة 1/2
معالم الصراع الفكري في العالم العربي
محمد سليمان أبورمان 4/9/1424
29/10/2003
يعد سؤال الهوية من الأسئلة المحورية في الفكر العربي المعاصر، وقد شغل هذا السؤال كثيرًا من مداولات وسجالات المفكرين العرب، وأدخلهم إلى ميادين الصراع الفكري، وقسّمهم إلى فئات متنازعة حول الأصول الفكرية والمعرفية التي ينبغي أن تحكم مسيرة النهضة والتنمية، والخروج من كهف التخلف ومن ظلمات التيه.
وأخذ الصراع الفكري أشكالاً متعددة ، ومر بمراحل مختلفة في العالم العربي في فترة العصور الحديثة ، لكنه وصل اليوم مع العولمة إلى مرحلة متقدمة جدًا تمتاز بوجود أمريكي مهيمن على العالم، وحداثة غربية تنتقل وتسود بشكل كبير - مع تطور ثورة الانفوميديا -.
و يجد الفكر الإسلامي اليوم نفسه أمام تحديات كبيرة في عدة مستويات: مستوى نقد الحداثة الغربية، ومستوى مواجهة ظواهر التشدد والانغلاق والجمود الفكري في الداخل، ومستوى صوغ استراتيجية فكرية تدفع بالإنسان والمؤسسات في العالم العربي إلى المضي بفعالية و قوة في مشروع النهضة والتنمية وتجاوز مرحلة الانكشاف الحضاري السافر الذي وصلنا إليه أمام الآخر، والخروج من الفجوة الكبيرة بين حالتنا الحضارية ورصيدنا الحضاري الكبير..
المدرسة الإصلاحية:
بدأت أولى الجدالات حول مسألة الأصالة والمعاصرة ، ودور الفكر الإسلامي في مواجهة التحديات الكبرى مع الحملة الفرنسية على مصر ، وعودة الطلاب العرب الدارسين في الغرب ، وجاءت أبرز المساهمات الرائدة في هذا المجال مع رحلة رفاعة الطهطاوي والذي سجّل ملاحظاته ورؤيته و استنتاجاته حول الحضارة الغربية في كتابه " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " .
ثمّ كانت أبرز المحاولات الفكرية في مواجهة التحدي الحضاري الغربي - و ما وصل إليه من فلسفة وعلوم ومعرفة وما صاحب ذلك من تقدم وتطور تكنولوجي - من قبل ما عرف بالمدرسة الإصلاحية ( جمال الدين الأفغاني، عبد الرحمن الكواكبي ، محمد عبده ، رشيد رضا ، علال الفاسي ، ابن عاشور ، ابن باديس ) ، وقد تمركزت مجهودات هذه المدرسة في :
- الإطلاع على المعرفة والثقافة الغربية، وهضم أصولها، ودراستها دراسة نقدية.
- رصد الجوانب الإيجابية في المعرفة والثقافة الغربية، والعمل على الإفادة منها في المشروع النهضوي الإسلامي.
- رصد جوانب الخلل في المفاهيم الحاكمة في هذه الحضارة، وتنبيه المسلمين إليها، وإلى خطورة الوقوع فيها، خاصة الفلسفة المادية في النظر إلى الوجود والحياة.
- إعادة تفسير الإسلام ومصادره المعرفية وفق أسس جديدة تتناسق مع الأصول الفكرية والمقاصد الشرعية للإسلام، وتكون قادرة على الدخول إلى العصر بروح إسلامية متقدمة ومتجددة.
- تجديد الفعالية الحضارية و النهضوية الإسلامية ، والعمل على استنهاض الشعوب للمساهمة والمشاركة في عملية التنمية والتحديث في العالم الإسلامي.
وكان للمفكر الجزائري مالك بن نبي مقاربة متميزة في فهم شروط النهضة و أسس التنمية المطلوبة، وكذلك في فقه الصراع الفكري في العالم العربي، خاصة في كتابه " الصراع الفكري في البلاد المستعمرة"، ولعل أبرز ما قدّمه ابن نبي -بالإضافة إلى نظريته في شروط النهضة - هو مفهوم " القابلية للاستعمار " ؛ والذي يقوم على فرضية أن الاستعمار هو محصلة ونتيجة منطقية للحالة الثقافية والفكرية وليس سببًا لها ، والمشكلة هي في جمودنا وكسلنا وغياب الفعالية الحضارية، وليس الاستعمار والغرب.
الفكر الإحيائي
وتلا المدرسة الإصلاحية والمحاولات المبكرة في هضم الثقافة الغربية، وتجديد الخطاب الإسلامي، مرحلة جديدة ظهر فيها الانقسام الفكري على أشده، وجاء أغلب النتاج الفكري والمعرفي لهذا الصراع الفكري قبيل الاستعمار، وفي المرحلة المبكرة من الاستقلال السياسي وظهور الأنظمة العلمانية في العالم العربي، وبدأ مع هذه المرحلة حالة الاستنزاف الشديد للفكر العربي في هذا الصراع والجدال الحاد حول هوية الدولة والمجتمع، وأثّر ذلك على مناهج الثقافة والتعليم والفن والأدب .
واجه الفكر الإسلامي هذا التحدي والصراع الجديد من خلال مجهودات ركزت على نقد الأسس الفكرية والمعرفية للحداثة الغربية وتصوراتها العامة في كافة مجالات الحياة، وبرزت في هذا السياق مساهمات أبي الأعلى المودودي في أغلب كتبه، وأيضًا الشهيد سيد قطب ، وأخيه الأستاذ محمد قطب خاصة كتبه : " مذاهب فكرية معاصرة " ، " الإنسان بين المادية والإسلام " ، " جاهلية القرن العشرين " ، وكُتب يوسف القرضاوي ومنها " الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا " ، وكُتب الشيخ محمد الغزالي .
وقد أكّد الفكر الإسلامي في هذا النتاج المعرفي والفكري على عدة قضايا:(/7)
- التمييز في الحضارة والفلسفة الغربية بين البعد الفلسفي والبعد التقني والعلمي المحض، والدعوة إلى تجاوز الفلسفة الإلحادية والإفادة من التطورات العلمية التطبيقية.
- نقد الأسس المادية للحداثة الغربية، ولمناهجها العلمية والإنسانية، ومفاهيمها الحاكمة، ورصد آثارها المدمرة على الأمن الاجتماعي المبني على سيادة القيم والحفاظ على رأس المال الاجتماعي، الذي يستند على الدين الناظم لكل القيم الروحية والأخلاقية التي تحمي الإنسان من الفساد والانحطاط.
- عرض الفلسفة الإسلامية المقابلة للفلسفة الغربية، وبيان حالة التفوق الكبير للإسلام في تجاوز الخبرة الغربية أثناء التجربة المسيحية، وحالة الصدام بين العلم والدين والاستبداد الديني لرجال الكنيسة، وفساد التصورات المعرفية الكونية والاجتماعية للكنيسة.
وأغلب ما يميز المدرسة الإصلاحية / النهضوية السابقة عن المدرسة الإحيائية في مواجهة النظم العلمانية؛ أنّ المدرسة الإصلاحية لم تشهد صعود التيار العلماني بشكله الفض والرافض للقبول بالمنطلقات الإسلامية في السياسة والمجتمع و المعرفة والثقافة، وكذلك لم يشهد الفكر الإصلاحي الصراعات السياسية الحادة على هوية الدولة بين الحركات الإسلامية والنظم السياسية القائمة، الأمر الذي تطوّر إلى معارك دموية وحالة أمنية متعسرة واضطراب سياسي شديد، مما جعل الفكر الإحيائي أكثر تشددًا في مسألة الانفتاح، و أقل حرصًا على التجديد والتفاعل مع الحضارة الغربية، ودفع بالبعد الأيدلوجي ـ السياسي إلى الأمام، على حساب البعد المعرفي في محاولة الإجابة عن سؤال النهضة في الفكر و معضلة التخلف في الواقع العربي الحديث والمعاصر.
العولمة و الانكشاف الحضاري
مع انتهاء الحرب الباردة و أفول نجم الاتحاد السوفيتي و تضعضع مكانة ومصداقية المذهب الشيوعي؛ تأثر الفكر العربي بشكل كبير، وضعف بالتبعية الفكر الاشتراكي العربي، وأخذ عدد كبير من فلول المفكرين اليساريين يبحثون عن أيدلوجيا جديدة يتدثرون غطاءها بعد انكشاف عورتهم الفكرية و الفلسفية التي كانوا يجادلون عنها سنين طويلة، و لبس عدد كبير منهم ثوب الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان عندما وجدوه بضاعة رائجة في سوق المعونات والرشوة الأمريكية للمثقف العربي والمسلم، كما يرصد ذلك بموضوعية عزمي بشارة في كتابه " المجتمع المدني ".
كما صدرت قراءات مستقبلية حول المرحلة القادمة من الصراع الفكري العالمي ، كان أبرزها كتاب فوكوياما " نهاية التاريخ " والذي يزعم فيه أن التاريخ البشري قد وصل إلى نهاية كدحه الطويل؛ بحثًا عن الفلسفة الفكرية التي تحقق سعادة الإنسان و تكون القول الفصل في الجدال الإنساني الطويل في الفكر والفلسفة، وطبقًا لفوكوياما فإن الليبرالية والديمقراطية الغربية هي ذروة الفكر الإنساني ومحور خَلاصه وسعادته.
أما القراءة الثانية؛ فقد كانت للمفكر السياسي المعروف صموئيل هانتنجتون في كتابه "صدام الحضارات"، والذي يرى فيه أن المرحلة القادمة من الصراع العالمي ستكون مرحلة صراع ثقافي، وبالتحديد بين الثقافتين الإسلامية والغربية، وجوهر كل منهما المتركز حول الدين.
لقيت القراءتان السابقتان اهتمامًا كبيرًا في العالم، وكان لهما صدى واسع في العالم العربي، و أثارتا جدالاً كبيرًا، بيد أن المهم في الموضوع أن الفكر الإسلامي وجد نفسه أمام تحد واضح وكبير مرة أخرى، وهو مواجهة الحداثة الغربية، وقد جاءت هذه المرحلة بقوة وغزارة شديدة ترتدي ثوبًا جديدًا يطلق عليه "العولمة".
مفهوم " العولمة " - إذًا - ليس مفهومًا محايدًا؛ بل هو مفهوم محمّل ومثقل بالمضامين المعرفية والحضارية للحداثة الغربية، وخطورة العولمة أنها وسيلة قوية جدًا ومتطورة لنقل الحداثة والمشروع الغربي إلى أنحاء العالم، كما أنها تحمل قِناعًا تجميليًا فائقًا يقدمها في إطار من الإغراء الشديد للدخول والولوج إليها، وتصل محاولة تجنب التفاعل مع العولمة إلى درجة الاستحالة الحقيقية، إلاّ إذا اختارت أمة أو مجموعة أن تدخل كهفًا من الكهوف، وتعزل نفسها عن العالم وصولاً إلى الخلاص الروحي!.
ومما يزيد من صعوبة وخطورة تحدي العولمة أمام الفكر الإسلامي المواجهة العسكرية والسياسية بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة ، والتي تفجّرت بشكل كبير مع أحداث 11 أيلول وما تلاها من تحديات ، وظهور التيار الجهادي ، مما يجعل من مهام الفكر الإسلامي - بالإضافة إلى التحاور مع العولمة- مواجهة حالة الإحباط والتشدد الذي تنتاب كثيرًا من أبناء الأمة الإسلامية في غضبهم الشديد، وحنقهم على الحالة السياسية الحرجة التي آلت إليها الأمور من تسلط وهيمنة خارجية أمريكية وتدفعهم إلى الغلو في رفض الآخر، والميل إلى الانغلاق الفكري حرصًا على التأكيد على الهوية والذات أمام روح التبعية والهزيمة التي تنتاب فئات كبيرة من المفكرين والساسة.(/8)
ومن دواعي استنفار الفكر الإسلامي - في هذه المرحلة - انكشاف الحالة الحضارية للعرب والمسلمين عن درجة عالية من الفشل في المشاريع التنموية، وعن فساد كبير في الممارسة السياسية العربية، وحالة متقدمة من خطورة الأوضاع الاقتصادية والثقافية في العالم الإسلامي، وما يرتبط بذلك من فقر شديد و بطالة ونسب مرتفعة من الحرمان، و الأمية وغياب الإنتاج العلمي ، وضعف تدفق المعلومات ، وإهدار كبير للثروات ، ناهيك عن الأوضاع السياسية البائسة المرتبطة بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة.
ويمكن الإشارة إلى جزء من هذه الحقائق المخيفة التي تكشف الحالة الحضارية في تقرير التنمية الإنسانية – بعيدًا عن تحفظات كبيرة حوله - ، وفكرة مبادرة الشراكة الأمريكية ـ الأوسطية ، وكل هذا وذاك من الأرقام والوقائع والإحصائيات يؤكد الفجوة الكبيرة بين الرصيد الحضاري الكبير و بين الحالة الحضارية الحالية.
إن الملاحظات السابقة تضع أمام الفكر الإسلامي العديد من المسؤوليات والمهام في هذه المرحلة، أبرزها:
- مجهود التعامل مع العولمة وما تستبطنه من قيم و معرفة، وبناء الخطاب الحضاري الإسلامي بما يستبطنه أيضًا من أسس ومفاهيم وقيم تميزه عن الخطاب الغربي، والتي تستند على الاعتراف بالوحي كأحد أبرز وأهم مصادر التنظير الإسلامي.
- مواجهة التفلت الفكري في الداخل سواء اتجاهات الغلو العلماني والانجراف الفكري أم جماعات الغلو الفكري والتشدد الديني، وبناء الرؤية الحضارية الإسلامية في الفقه العام للتدين، ودور الدين في الممارسة السياسية، و العلاقة بين الشعب والسلطة..إلخ.
- بناء الرؤية الاجتهادية الإسلامية في التعامل الواقعي مع المشاكل والقضايا الداخلية التي تعاني منها الشعوب العربية، ومنها: الفقر والبطالة والفساد السياسي والتخلف العلمي والأمية وفشل المشاريع التنموية وإهدار الثروات والمعضلات الاقتصادية ..إ
الفكر الإسلامي في زمن العولمة 2/2
خواء الذات: الأدمغة المستعمرة
محمد سليمان أبورمان 11/9/1424
05/11/2003
يأتي في إطار مهام الفكر الإسلامي اليوم تحدٍ رئيس، وهو مواجهة العولمة التي تستند إلى الحداثة الغربية وتقوم عليها، وتوظف ما وصلت إليه التقنيات البشرية خاصة ثورة الانفوميديا في هذا المجال بشكل فاعل وكبير.
ومواجهة الحداثة أو فرضية تفوق الحضارة والعلوم والقيم الغربية تتطلب قراءة معرفية عميقة للحداثة الغربية ورصد مساحات الخلل وكشف الفجوات الكبيرة في بنيتها المفاهيمية الحاكمة، وتقديم الأسس الفلسفية والفكرية للخطاب الحضاري الإسلامي في مواجهة ذلك، وبيان أدوات ومناهج التعامل مع العولمة ومعطياتها وفيضانها الكبير على العالم الذي وصل إلى درجة كما يصفها هوفمان "إن أزمة القيم الغربية تحظى حاليا بالقلق داخل بقية العالم؛ لأنّ الثقافة في وقتنا الحالي ليست ثقافة مكان بعينه، بل هي ثقافة وقت بعين ".
في هذا السياق من مهام الفكر الإسلامي يأتي كتاب مراد هوفمان المفكر الألماني المسلم، الذي كتب قبل هذا الكتاب عدة كتب تبين أسباب دخوله الإسلام وتحاول تقديم الأصول الفكرية للرؤية الإسلامية التي تتجاوز التناقضات والفراغات المعرفية الكبيرة في الفلسفة والثقافة الغربية الحديثة.
وليس كتاب هوفمان ببدع من الكتب التي تقدم نقدًا للفكر الغربي المستند على معطيات الحداثة، أو تتحدث عن الآفات المترتبة على النزعة المادية والمرتبطة أيضًا بالفلسفة الفردية الليبرالية الحديثة، فهناك على سبيل المثال كتاب الفوضى لأحد أبرز المنظرين الأمريكان بريجنسكي، لكن الجديد في كتاب هوفمان أنه ينقد الخبرة المعرفية والفلسفية الغربية الحديثة في شتى العلوم والمجالات الحيوية من خلال فكره الإسلامي الذي يصدر عن فهم يصل إلى قاع النظرية المعرفية الإسلامية التي تقوم على الاعتراف بمصادر المعرفة وحدود كل منها: الوحي و العقل والحس، أو الموائمة بين العقل المؤيد والعقل المسدد – على حد تعبير الإمام محمد عبده رحمه الله ـ.(/9)
يحمل كتاب هوفمان عنوان "خواء الذات: العقول المستعمرة" ( دار الشروق الدولية، القاهرة، 2002)، ويأخذ جزءًا من العنوان من عبارة للدكتورة نادية مصطفى – أستاذة العلوم السياسية في جامعة القاهرة – إذ تقول: "عملية الاختراق المسماة بالعولمة ، لا تتعلق باختراق حدود جغرافية ، ولكن بالسيطرة على العقول" ، فاستعمار العقول الذي تشير إليه مصطفى من أكبر التهديدات والحروب التي تشن على المسلمين اليوم وهي حروب من نوع جديد - كما يصفها محمد حسنين هيكل في كتابه "حرب من نوع جديد"-، وبما أنها تستهدف العقل والوعي و تدفع إلى الهزيمة الفكرية والنفسية؛ فهي إذًا أخطر من الحروب العسكرية والهيمنة السياسية. وهذه الملاحظة يشير لها الخبير الأمريكي جوزيف ناي في كتابه مفارقة القوة عندما يتحدّث عن القوة الناعمة والمرتبطة بالنموذج الثقافي الاستهلاكي الأمريكي الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تعميمه على العالم.
ما يريد هوفمان إذًا قوله في هذا الكتاب هو: أن الحداثة الغربية - التي تستند عليها العولمة كمضمون فكري وثقافي ومعرفي يجري تسويقه وكأنه العلم بعينه، و أنه آخر ما وصل له العقل البشري من إبداع، وأنه الإنتاج المعرفي والثقافي الذي يحقق الخير والسعادة للإنسانية -، أنها - أي الحداثة - مليئة بالثغرات والتناقضات، وقد وصلت إلى أزمة حقيقية اليوم أنتجت ما يسمى بمدرسة " ما بعد الحداثة ".
وبالتالي على العقل المسلم أن يتحرر من التبعية الخطيرة للفكر الغربي، وأن يشق طريقه في المعرفة والعلم والتفكير انطلاقًا من الرؤية الإسلامية الناصعة التي تنظر إلى الكون والوجود والحياة بشكل شمولي متكامل ولا تختزل أي جزء لحساب الآخر، كما هو الحال في الفكر الغربي والذي يختزل الحياة في بعدها الفيزيقي المادي المحسوس، الأمر الذي يصيب الإنسان باضطراب شديد في مسيرته الحديثة، كما يوضح ذلك كتاب هوفمان وكما يشرح الأمر بشكل مفصل للغاية محمد مزريان في كتابه القيم " البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية".
وإذا كان كتاب هوفمان يتآلف بشكل رئيس من ثلاثة أجزاء، فإن الجزء المهم و المساهمة الفكرية الرئيسة في الكتاب هو ما يرتبط بنقد الحداثة الغربية، ويدل على هذه الملاحظة أيضًا تقسيم صفحات الكتاب؛ إذ يشمل الجزء المتعلق بنقد الحداثة تقريبا 60 صفحة من صفحات الكتاب البالغة 111 صفحة، بينما يقع الجزء الأول المرتبط بالشيوعية في 15 صفحة تقريبًا، أما الجزء الثالث حول الرؤية الإسلامية فيقع في 25 صفحة.
زيف الحداثة
يتتبع هوفمان المادية العلمية التي صبغت البحث العلمي في شتى حقول المعرفة الإنسانية في مدرسة الحداثة؛ ليصل إلى نتيجة أن العلم لم يصل إلى إرواء غليل الإنسان في القضايا الكبرى التي تشكل دومًا مصدر اهتمامه و محور تفكيره: الوجود و العدم، الله والكون، غائية الحياة..، بل صار العلم اليوم أكثر استعدادًا لتقبل فكرة صياغة أسئلة لا يستطيع الإنسان الإجابة عنها؛ لأنها تقع خارج قدرة المعارف الإنسانية.
وساهمت أزمة الحداثة الغربية في ظهور مدرسة ما بعد الحداثة التي تعبر عن ذروة التخبط في العلم الحديث، و تعيد نبش المطلقات الفلسفية والمعرفية التي انطلقت منها الخبرة العلمية المعاصرة، التي بنيت على فرضية التناقض مع الدين، وفرضية أن العقل البشري قادر على الوصول إلى المعرفة المطلقة بمفرده دون أية وصاية خارجية.
بدا واضحا اليوم أنّ هناك تطورًا دائمًا في العلوم، وأن النظريات العلمية تنقد بعضها، وأن ما يثبته العلم اليوم ينفيه غدًا، كما أن هناك فرضيات أساسية شكلت نموذجًا سائدًا في حقول علمية شتى ثبت اليوم عدم صحتها، الأمر الذي يصل ببول فييرانبد إلى القول - في كتابه ترجمتي - : "لقد وصلت إلى الاقتناع أن الأمر كله ليس إلاّ فوضى مجنونة"، وأصبح علماء الأنسنة أقرب إلى الشعراء منهم إلى العلماء إذ يقولون: " لماذا نتباحث اليوم فيما سوف يتغير غدًا على أي الأحوال؟!".
هذا القلق و الاضطراب في عدم القدرة على الوصول إلى الحقيقة من خلال مناهج البحث الحداثية أنتج محاولات عديدة للخروج من هذا النفق، وبات عدد كبير من العلماء يشعر بالحاجة إلى الحكمة الشرقية و فلسفة الروح لإنقاذ العلم من متاهته المعاصرة، الأمر الذي حدث فعلاً مع فريتوف كابرا – أحد أفراد مدرسة ما بعد الحداثة – الذي قام في كتابه بالدمج بين الفيزياء والتصوف الشرقي، وكما في التصوف يتوقع كابرا أن ترفع فيزياء العصر الحديث – ما بعد الحداثة - كل المتناقضات، وتصل إلى نقطة يندمج فيها الملاحِظ والملاحَظ في وحدة واحدة: وحدة صوفية تتجاوز الفيزياء الحديثة.
الله أو الدمار
يمكن استعارة عنوان كتاب المفكر الإسلامي سعد جمعة " الله أو الدمار" في قراءة نقاش هوفمان لأخطار وآفات الحداثة على الخبرة الغربية الحديثة والمعاصرة في شتى مجالات الحياة..(/10)
1- العلم والأخلاق: حاول العديد من المفكرين والعلماء وضع أساس جديد للأخلاق بدلاً ؛ إلاّ أنهم فشلوا في ذلك فشلاً ذريعًا، وأدى العلم إلى مشكلة أخلاقية حقيقية في الغرب؛ إذ لم يتظاهر العلم فقط بوجود برنامج دون مبرمج، لكنه تصرف و كأن العلم وحده هو المعول عليه. وأصبح الغرب وفقا لفاسلاف هافيل أول حضارة ملحدة في التاريخ أي تنكر دور الدين ابتداءً.
2- العلم والحضارة: الميراث من العلم، والعلم الزائف في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بدأ يثمر مجتمعًا لا إداريًا، نفعيًا، استهلاكيًا، موغلاً في الفردية، وليبراليًا، بما يعني حضارة تنشد المتعة حتى النخاع.
3- اللذة كأسلوب للحياة: كان جينو – المفكر الفرنسي المسلم – ذا إدراك عظيم عندما حدد أن المفهوم الجوهري للحركة الإنسانية الذي صيغ خلال فترة النهضة الأوروبية، يلخص مقدمًا البرنامج الذي ستأتي به الحضارة المعاصرة، كل شيء سوف يختزل إلى المستوى البشري، وإلى المقاييس البشرية، لذلك كان من الممكن التنبؤ أن الحضارة المعاصرة سوف تصل في النهاية إلى الغوص مرحلة تلو الأخرى، إلى مستوى أدنى الرغبات البشرية.
4- دين ما بعد الحداثة: أقام الغرب بنيانه الاجتماعي المعاصر بعيدًا عن الدين، وعلى الرغم من حضور الدين في المناسبات العامة، فهو لا يعدو أن يكون فلكلورًا أو تقليدًا عاريًا عن القوة.
لكن المشكلة هي أن الدين الذي خرج من الباب الأمامي في المجتمعات الغربية عاد من الباب الخلفي من خلال الإقبال الشديد للشباب ولفئات من المجتمع على أديان جديدة وغريبة؛ كجماعات العهد الجديد التي تتعبد داخل الأهرامات، والانبعاثيون الذين يعيدون عبادة إخناتون للشمس، وبالتساوي في مكان الصدارة إلى الآن أديان عبادة القمر، العلموية والتنجيم، والملائكة، والشيطان.
هذه الموجة الجديدة من التدين تستمد قوتها من الحنين إلى التوحد العضوي، والبحث عن المعنى، الغائبين بشدة في الحياة المعاصرة.
5- ثورة القيم: اعتبر الغربيون أن الخروج على الدين و على قيم العصور الوسطى التقليدية ثورة في القيم، واستبدلوها بالقيم الرأسمالية العملية. لكن طبقًا لتحليل عالم الاجتماع دانييل بيل في كتابه " التناقضات الثقافية للرأسمالية"؛ فإن المشكلة في العالم الغربي تكمن في أن نجاحه الاقتصادي يدفع إلى تدمير القيم الجوهرية التي قام عليها.
وداخل المسار الجديد للعلم والقيم العملية النفعية أصبح الناس غير معتادين على حقائق الحياة كالحوادث والمصائب الشخصية والمرض والكهولة والموت، إلى حد أنهم أصبحوا غير قادرين على التواؤم مع هذه الحوادث من غير مساعدة مستشاري الأحزان.
6- السلام الخيالي: لم يقدم عونًا لإحلال مدرسة ما بعد الحداثة محل الحداثة مثلما فعلت لا عقلانية الحروب المتواصلة داخل ما يفترض أنه العالم المستنير، وقد تنبأ بذلك تولستوي في رواية الحرب والسلام أن الحياة مستحيلة في اللحظة التي يظن فيها الإنسان أنه يستطيع أن يقودها ويمارسها وفقا لتوجيهات العقل الخالص.
ولم يعد المجتمع الغربي ينعم بالسلام حتى على المستوى الداخلي، فقد وصل مستوى العنف في المدارس الأمريكية الثانوية حدًا مرعبًا، وهذا لا يمثل سوى قمة جبل الجليد الغاطس؛ إذ يتغذى العنف كل يوم من كمية العنف غير المعقولة التي تشاهد يوميًا في التلفاز، وقد وصلت إلى ألعاب الكمبيوتر بشكل كبير.
7- حافز الربح: أعادت الفلسفة الرأسمالية السائدة في الغرب إنتاج جملة المفاهيم الحاكمة في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في الغرب، و تعدلت كثيرًا من المفاهيم لتلائم هذه الفلسفة، فالخير هو النافع والفعال في الحصول على أقصى درجات السعادة عن طريق إنتاج أقصى كمية من البضائع لأكبر عدد من الناس.
في الواقع، النفعية هي التي قادت إلى الغلو الذي أنجب الماركسية، وأدت كذلك إلى تفاوت كبير في دخول الأفراد والدول.
ويصل ريتشارد فولك إلى القول: لم يعد الغرب حيزًا جغرافيًا، بل ظاهرة كونية تدار العولمة بمؤسسات لا تحصى، بالغة الضخامة، ومتعددة الجنسيات، ووصل الأمر إلى الحد الذي تدار به السياسة برأس المال، الأمر الذي يهدد الديمقراطية الاجتماعية بصورتها المعروفة في ألمانيا والدول الاسكندنافية.
8- الإعلام والتسلية (المعلوتسلية): الإنسان الغربي يعاني اليوم من الكم الهائل من المخترعات والأجهزة التي تحرمه من الهدوء والاسترخاء والتأمل أو التفكير بعمق، أو الصلاة بخشوع. في الواقع يجب على الدوام إثارة غرائز الإنسان المعاصر، حتى عطلاته ينبغي تحويلها إلى مغامرات يشرف عليها محترفون بالتسلية.
وعلى الرغم من وجود برامج تلفازيه ذات مستوى رفيع، وأيضًا مجلات إلاّ أن العملة الرديئة تطرد الجيدة من السوق، والمنتجات الإعلامية الهابطة تستحوذ على النصيب الأوفر من المشاهدين، وكل هذا يعمل بشكل كبير على إفقار روحي للمجتمع وتنمية النرجسية والبعد عن العلاقات الاجتماعية.(/11)
في نفس الوقت تجاوزت وسائل الإعلام المعاصر كل الحواجز الموضوعة لحماية الدول ذات الأيدلوجية المغلقة من تأثيرات الأنباء والثقافات الأخرى، وهنا ينبغي على الدول الإسلامية أيضًا تغيير استراتيجيتها لحماية تراثها الإسلامي من خلال تحصين الناس بالعلم النافع لمواجهة الأفكار الضارة، وليس من خلال عزلهم المادي عن التعرض لها.
9- التعليم كأيدلوجيا: تلعب العلمانية دورًا حاسمًا في المعالم العامة للتعليم الغربي، من خلال إبعاد الدين عن المناهج الدراسية وعن صياغة أخلاق الطلاب، ويدرّس الإلحاد بشكل سافر في المدارس من خلال نظريات الحداثة أسسها اللادينية.
10- الثورة الجنسية: ضمن كثير من الثورات التي مرت بالإنسان الغربي في العقدين الماضيين؛ فإن أكثرها ثراءً وأطولها بقاءً هي على الأرجح الثورة الجنسية، وبدا الجنس للوهلة الأولى كأنه البديل الأقوى للدين مكتملاً بأنبيائه الذين يبشرون بالحرية الجنسية.
الآن فإن العادة السرية، والجنس ما قبل الزواج ، تبادل الزوجات ، الجنس في الشرج ، والجنس المثلي ، ومشاهدة العري ، والدعارة ؛ أصبحت كلها مقبولة ، وتتكرر كموضوعات رئيسة من خلال تبادل الحديث ، كما تجتذب الإعلام ، الجنس مع الأطفال هو الوحيد الذي مازال محرمًا . ووصل الأمر إلى السماح لمحترفات البغاء بتكوين نقابات ببعض الدول على أنهن "عاملات جنس"، وفي ألمانيا منذ عام 2001؛ فإن الأزواج الشواذ يحصلون على التسجيل المدني.
11- انحطاط الأسرة: الضحية المباشرة للثورة الجنسية ، والتي هي الأكثر استحقاقًا للأسى هي الأسرة ، انهيار الأسرة الناتج عن الثورة الجنسية هو عنوان الشؤم على قرب انهيار الحضارة الغربية.
ويعرض التلفاز كل ليلة كم هي عالية درجة الجمال في الرجال الآخرين والنساء الأخريات، ويحض الزوجات داخل بيوتهم على الدخول في منافسة مع جميلات التلفاز، وهي منافسة صعبة جدًا، ولا يمكنهم ببساطة الفوز بها، فعندما يصبح الجنس بضاعة تعرض في السوق، فسوف تتحلل الأسرة، وذلك ما يحدث بمعدلات مخيفة، وأرقام الطلاق تتصاعد في كل مكان، والأسوأ من ذلك المزيد والمزيد من الشباب يقررون عدم الزواج مطلقًا منذ البداية.
12- العدوان على الحياة والإدمان البنيوي: ومن آفات الحداثة إباحة الإجهاض وقتل الجنين غير المرغوب فيه، ومن أثارها الإدمان والكحول و المخدرات، والإدمان ليس مرتبطًا بالمخدرات والخمر، وإنما يصل إلى الإدمان على التكنولوجيا والاستهلاك وشراء الحديث، بما يذكرنا بكتاب هربرت ماركوز المتميز " الإنسان ذو البعد الواحد".
يقول هوفمان: "يطغى ضجيج الإدمان على صوت الضمير الذي قد يذكر الإنسان المعاصر بمصيره الحق، وهو معرفة الله، والدخول تحت عباءة الخضوع له. تعطي أنواع الإدمان معنى زائفًا للحياة، وتبدو على هيئة حلول، بينما هي في الحقيقة تمثل المشكلة الجوهرية.. إنها تحرم الإنسان من الصمت الوجودي والتركيز الذي يحتاج إليه من أجل إقامة الروابط السامية".
الفكر الإسلامي و العولمة
في حوار سابق مع زكي ميلاد حول أحداث أيلول وأثارها على الفكر الإسلامي، قال: إن على الفكر الإسلامي اليوم أن يعيد بناء رؤيته الشمولية للكون وللمفاهيم الكبرى، ويصوغ من جديد استراتيجية الخروج من النفق الحضاري الذي وصلنا إليه.
و يرى الفضل شلق في مقالة له – في مجلة الاجتهاد – أن الهوية الحضارية ليست دورانًا حول الذات، وإنما عملية دؤوبة نحو تحقيق الذات من خلال النمو والتنمية، وعندها ستصبح الهوية الحضارية منجزاً وليس عائقًا.
وبالتالي؛ فإن الفكر الإسلامي في عصر العولمة مسؤول مسؤولية مباشرة عن طرح الرؤية الاجتهادية الإسلامية في التنمية والنهضة والتقدم، وإدارة الصراع الفكري ليكون جدلاً محركًا ومفعلاً لطاقات الأمة وليس كابحًا لها.
والسؤال الذي يجب على الفكر الإسلامي أن يجيب عنه: كيف نسير في مساق التنمية، وننهض انطلاقًا من روح الإسلام ومقاصده العامة؟، كيف نفقه المشروع الحضاري الإسلامي؛ ليكون طرحًا تنويريًا منفتحًا متقدمًا يمتلك أدوات الموائمة والتوفيق بين مصادر التنظير الإسلامي الوحي و العقل والحس؟(/12)
الثقافة الإسلامية وعولمة الثقافة 17/10/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
العلاقة بين الثقافة الإسلامية والعولمة:
إن الله هو رب العالمين، والدين الذي ارتضاه للعالم هو الإسلام "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" (1)، وقد بعث الله محمداً _صلى الله عليه وسلم_ رحمة للعالمين، فأدى الرسول الكريم رسالة ربه، فخاطب العرب والعجم، بل دعا الثقلين، ثم أخبر من لاينطق عن الهوى بأن دين هذه الأمة ظاهر، وأنه أكثر الأنبياء تبعاً.
فأمة الإسلام مبعوثة لتنقل ركناً ركيناً من أركان الثقافة إلى البشرية بل إلى العالم، فقد قال الله _تعالى_ عن نبيه محمداً _صلى الله عليه وسلم_: "وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلاّ ذكر وقرآن مبين ~ لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين" (2) ومما قيل في معناها: "لينذر بهذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض"(3).
وقال _سبحانه_: "قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ~ إن هو إلاّ ذكر للعالمين" (4)، "وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلاّ ذكر للعالمين" (5)، " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (6)، وقال _سبحانه_: " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً" (7)، " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون" (8).
وفي حديث الصحيحين: "أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي" قال _صلى الله عليه وسلم_: "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة" (9).
فاستجاب نبينا _صلى الله عليه وسلم_ لأمر ربه وبدأ بدعوة قومه، فاستجاب له قلة وجمع من الضعفاء على استخفاء، أما الأقوياء والكبراء فقد فرحوا بما عندهم من العلم، "وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين" (10) فجاهروا بصريح العداء، وزعموا أن ما جاء به محمد _صلى الله عليه وسلم_ معتقدات (راديكالية) بالية، لها جذور قديمة، لا أساس لها من الصحة "إن هذا إلاّ خلق الأولين" (11)، "وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً" (12).
ولكن سنة الله في الأمم تمضي فما هي إلاّ سنوات قلائل حتى تغيرت الحال، ومما امتن الله به على عباده المؤمنين: "واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون" (13).
وتنفيذاً لأمر الله لم يكتف _صلى الله عليه وسلم_ بدعوة من بدأ بهم من عشيرته الأقربين، فدعى قومه ثم سائر العرب، بل خاطب الأمم والشعوب ممثلة في عظمائها، وكان من ثمرات ذلك إسلام بعضهم كالنجاشي بأرض الحبشة، وإقامة جسور للدعوة بأرض مصر عن طريق الاتصال بمقوقسها، أما كسرى فمزق رسالة محمد _صلى الله عليه وسلم_ فمزق الله ملكه، وعظيم الروم آثر اتباع الهوى من بعد ما تبين له الحق.
ولأنه _صلى الله عليه وسلم_ رحمة للعالمين لم يكتف بدعوة البشر، بل دعا _صلى الله عليه وسلم_ الجن أيضاً فانقسموا "فمن أسلم فؤلئك تحروا رشداً" (14)، "قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً ~ يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا" (15)، "وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ~ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ~ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ~ وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" (16).
وقد تكفل الله بنشر دعوة الإسلام، فعن ثوبان _رضي الله عنه_، قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها"(17)، فهذا وعد بقبول دعوة الإسلام وعالميتها، وفي حديث ابن عباس: خرج علينا النبي _صلى الله عليه وسلم_ يوماً، فقال: "عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد، ورأيت سواداً كثيراً سدّ الأفق فرجوت أن يكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر فرأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا فرأيت سواداً كثيراً سدّ الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب" (18).
إن هذا الانتشار الواسع لأمة جاءت في ختام الأمم، لدليل يبين أن لديها من الخصائص والمميزات ما لا يوجد في سواها.(/1)
كما أن لسيادتها وظهورها في عصرها الأول عندما قام أهلها بها حق القيام، لدليل على صدق الوعد بظهورها في الآخرين على سائر الملل.
فإذا سرنا على نفس الطريق تحقق الوعد الإلهي بظهور هذه الدعوة وقبولها على نطاق واسع، وإذا تأخرنا تأخر، وبشائر الحاضر _بحمد الله_ حاضرة شاهدة، فعجلة الدعوة رغم النكوص والعراقيل والحواجز والسدود لم تتوقف وإن تباطأت، فدعوة الإسلام –بحمد الله- في اطراد مستمر، والناس يدخلون في دين الله يوماً بعد يوم، رغم ضعف الآلة الإعلامية والمقومات المادية الأخرى.
ومتى رجع المسلمون لسابق عهدهم وترسموا خطى سلفهم، ازدادت قوة دعوتهم، وانتشرت ثقافتهم واكتسحت، كما ظهر الصدر الأول وعلا في سنوات قلائل.
ومن البشائر أيضاً أنه ليس ثمة مكان -بحمد الله- في أرض الله يخلو من مسلم، وهذا يدل على مواءمة دعوة الإسلام وثقافته لكافة المجتمعات، وعلاجها لظروف أي زمان ومكان، وليس هذا تنظيراً علمياً بل هو واقع عملي.
وليس معنى هذا أن دعوة الإسلام خاضعة للتشكل كالطين أو العجين، يلعب به الصبيان فيصورونه كيف شاؤوا، ولكن المراد بيان أن في شريعة الله علاجاً لكافة أوضاع البشر أين كانوا وأيان وجدوا، وأن من تمسك بها فهو موعود بالحياة الطيبة، وكل المطلوب ممن أرادها هو أن ينهل من المعين الصافي الذي نهل منه الصدر الأول، دون أن يحاول تغيير مجراه، أو تحسين محتواه، فالذي وضعه عليم خبير، والذي أداه حريص أمين.
فالواجب أن نؤدي ما علينا من تبليغ دعوة الله، فنأخذ بالأسباب المادية، ونضع الخطط والبرامج الاستراتيجية، والله قد كفل القبول والعالمية.
أما ما يرد إلينا من علوم وثقافات وافدة، فإن فيها حقاً وخيراً، وهذا يقبل ممن جاء به، كما أن فيها باطلاً وشراً، وهذا يرد على من جاء به، وهو غالب ما يرد، والمطلوب ألا نخضع شريعتنا ونلويها حتى توافق ما وفد، وإنما نُحكِّمها فيما يرد، ونرضى بحكمها، ثم لا نجد حرجاً فيما قضت، ونوقن بأنه الخير والحق.
إن في سنة نبينا _صلى الله عليه وسلم_ وفي عمل الصدر الأول تقريراً لهذا المنهج، فقد نقل أهل السير لنا استفادته -صلى الله عليه وسلم- من ثقافة الفرس يوم حفر الخندق بمشورة سلمان الفارسي _رضي الله عنه_، وقد لبس -صلى الله عليه وسلم- جبة من صوف رومية، وعرف الاستبرق وأصله أعجمي، وأطلقوا على الجمال طويلة العنق ما كان يطلقه العجم، فقالوا: بختي وبختية، ورمى الصحابة بالمنجنيق وهي فارسية، واستعملوا سيوف الهند، وعرفوا الصولجان، وقرؤوا المجال -مفرد مجلة- وهي وافدة، وأقر نبينا -صلى الله عليه وسلم- الدركلة ضرب من لعب الحبشة حتى جاء في الأثر: "خدوا يا بني أرفدة حتى يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة" (19).
وبالمقابل نبذ الصدر الأول ثقافات وعادات وافدة، ومنها: اللعب (بالإسبرنج) وهي الفرس التي في الشطرنج، وعرفوا الشطرنج وما فيه من بياذق أوبيادق وكلها فارسية، وجاء في الأثر: "من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه" (20)، وعرفوا لعبة السُّدُّر -نوع من القمار- وأنكروها، وعرفوا السمسرة من فارس وتكلموا فيها،
و لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: ما هذا؟ قال: يا رسول الله قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم فأردت أن أفعل ذلك بك.
قال: "فلا تفعل" (21).
بل أكثر من ذلك كان عندهم نوع استقراء وتحليل للثقافة الوافدة، فقد تصوروا بعضها، وحكموا عليها –حكماً خاصاً- قبل أن تفد، ومن ذلك ما جاء في البخاري: عن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: لما اشتكى النبي- صلى الله عليه وسلم- ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة - رضي الله عنهما- أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع رأسه فقال:"أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله" (22).
فينبغي للمسلمين أن يعدوا الدراسات ويقيموا الثقافات من حولهم، حتى يميزوا بين حقها وباطلها وفقاً لضوابط الشرع، فيقبلوا ما فيها من خير، ويحصنوا المجتمعات ضد ما فيها من شر، وأول ذلك يكون بتقرير الثقافة الإسلامية في نفوس ذويها، وترسيخ مفاهيمها وبيان محاسنها قبل دعوة الآخرين إليها.
--------------------------------------------------------------------------------
1 سورة آل عمران: 85.
2 سورة يس: 70-71.
3 تفسير ابن كثير 3/581.
4 سورة ص: 87.
5 سورة يوسف: 104.
6 سورة الأنبياء: 107.
7 سورة الفرقان: 1.
8 سورة سبأ: 28.
9 حديث جابر رواه البخاري 1/128، ومسلم 1/370.
10 سورة سبأ: 35.
11 سورة الشعراء: 137.
12 سورة الفرقان: 5.
13 سورة الأنفال: 26.
14 سورة الجن: 14.
15 سورة الجن: 1-2.
16 سورة الأحقاف 29-32.
17 صحيح مسلم 4/2215.
18 صحيح البخاري 5/2170.(/2)
19 انظر زوائد الهيثمي، مسند الحارث 2/826، والصحيحة 4/443 رقم (1829)، وقد أعلها أبو حاتم كما في العلل لابن أبي حاتم 2/297، ولكن جاء بمعناه عند الإمام أحمد 6/116: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يومئذ: "لتعلم زفر أن في ديننا فسحة إني أرسلت بحنيفية سمحة"، قال ابن كثير (التفسير 2/199): " أصل الحديث مخرج في الصحيحين والزيادة لها شواهد من طرق عدة".
20 حديث بريدة ابن الحصيب في صحيح مسلم 4/1770، ورواه غيره.
21 رواه ابن حبان في صحيحه 9/479، والحاكم في مستدركه 4/190، وروى نحوه أبو داود في السنن 2/244، وابن ماجة 1/595، ومسند أحمد 4/381، ورواه غيرهم وقد صححه الألباني في الإرواء 7/55-56 وأدب الزفاف 178 والصحيحة 1203 وغيرها.
22 صحيح البخاري 1/450، ومسلم 1/376، ورواه غيرهما.(/3)
الثقافة الجنسية الجامعية : دعوة للتأمل
د.محمد سالم سعد الله
أستاذ الفلسفة والمنطق والفقه الحضاري / جامعة الموصل
تنهض البنية المؤسساتية الجامعية على مقومات وأسس تقليدية هدفها الحفاظ على سلوكيات النخبة المثقفة ، وتكوين المعرفة العلمية التي توصف بميزتها للتحول والتطور والتفاعل مع المستجدات العالمية ، ثم ضخ هذه المعرفة في مسيرة المجتمع المتطلع إلى الاطمئنان على بناء دفاعاته تجاه الجهل والفوضى ، والمندفع نحو تحصين الذات الأكاديمية من المعوقات والأفكار الوافدة المفتقرة إلى خصيصة التحول من الظاهرة إلى الخبرة بسبب تغير البيئة مكاناً وزماناً .
إنّ التحول من الظاهرة إلى الخبرة يتطلب أنساقاً منهجية تتسم بالخصوصية في كلّ بيئة تنتمي إليها ، وإنّ المسافة الزمنية التي يستغرقها تخضع للنسبية ، لذا فإنّ انتقال المادة العلمية من بيئة إلى أخرى دون مراعاة الحاجة الاجتماعية والاستعداد النفسي للتلقي ، تقود حتماً إلى انعطافات في التوجه الفكري ، وتغيرات في القناعات المتحصلة لدى الفرد ، فضلاً عن ظهور نماذج تدين بالولاء للوافد الجديد من غير معرفة بالخلفيات الفكرية المنطلق منها .
ومن الجدير بالذكر أنّ فعل التكوين المعرفي الجامعي قائم على أساس فعل الهدم والبناء ، فلأجل بناء الهرم الواعي المنتظم بسلسلة لا نهائية من التنوعات العلمية لابد من هدم أو خلخلة الترتيب التقليدي ، ومن أجل إيجاد الطرق الفاعلة في تطوير النهج الجامعي ونقله من السكون إلى الحركة ، ومن الخمول إلى النشاط ، لابد من إعلان البراءة من سلوكيات الجهل ، وكشف عيوب التوجه الكلاسيكي ، ووضع الإصبع على موضع الألم ، والانتقال إلى الفكر الحرّ ضمن سياقات تدور في فلك العقيدة السليمة ، والخُلق المتزن القويم .
إنّ المقدمة السابقة ستغدو عقلانية إذا علمنا أنّ الجامعة بوصفها مؤسسة تربوية أولاً ، وعلمية معرفية ثانياً ، تتعرض الآن إلى حملة منظمة تتسم بالهدوء ، وشعارات التغيير والإصلاح الذي غدا سمة مميزة للدول الجانحة نحو الديموقراطية ، وإرساء دعائم حرية الفرد الغائب الحاضر : غائب بوصفه مواطناً ، وحاضر بوصفه جسداً ، وتهدف هذه الحملة إلى فتح الباب أمام كلّ التوجهات المتعلقة بالعاطفة الإنسانية ، بدعوة مساعدة الفرد الملتف بعباءات المجتمع وتقاليده ، ومحاولة تخفيف الكبت المسيطر عليه ، وتشجيعه للحديث عن موضوعات باتت إلى وقت قريب عنوانات لا يجرؤ المرء الحديث عنها ، بسبب الحياء ـ ربما ـ أو بدافع التدين ، أو الالتزام بالنهج العرفي الذي يمنع فتح قنوات الحديث هذه .
إنّ السعي وراء تطوير العلم ، وتكوين المعرفة المعاصرة لا يعني بشكل من الأشكال التدمير النفسي للمتلقي ، والجنوح نحو أفكار تحمل في مضمونها فلسفة هدامة ، ومدركات تجعل الفرد في حالة شك ودهشة مستمرين ، لذا توجب على المعنيين ـ الموكل إليهم وضع مناهج التعليم ـ تمحيص الخطط الموضوعة ضمن جدول الأعمال ، ودراسة المناهج المحددة في المراحل الدراسية كافة الأولية منها والعليا ، لأن التهاون في تمحيصها هو دعوة لتمرير المناهج التي لا تنتمي لبيئتنا ولا تناسب طبيعة مجتمعاتنا ، لا سيما ونحن نرزح تحت احتلال يهدف إلى زعزعة التزام الفرد ، ونزع قيم انتمائه لبلده ووطنه ، وإفراغ قيم التدين والخلق القويم التي ما زال جمهور من المجتمع يتمتع بها ويفاخر بأصالتها .
تتعرض جامعاتنا اليوم إلى دعوة متسارعة الفكر متريثة الخطى ، هدفها تأسيس طبقة مثقفة تدعم مشروع إيجاد مادة ( الثقافة الجنسية ) بوصفها مادة علمية حضارية تفتقر إليها الجامعة في مناهجها !! ، ويحتاجها الطالب في حياته العلمية والاجتماعية والنفسية ، والغرض تصحيح الفكر الموروث عن الجنس ، وفتح الأذهان وتنويرها في هذا الجانب ! ، وتدخل هذه الدعوة الآن أروقة المثقفين العرب ، وتشغل ميدان محاوراتهم بين مشجع ومناقش ومتبنٍ ومعارض ، وحسبنا في هذا المقام بيان الإيجابيات والسلبيات المرافقة لدعوة إيجاد مادة الثقافة الجنسية الجامعية وتعميمها ، والسبل الكفيلة المتوجهة نحو محاورة هذه الدعوة توافقا ومخالفة.
وقبل الدخول في تفاصيل مناقشة الدعوة ، يمكن القول : أنّ مادة الثقافة الجنسية الجامعية هي من المفردات المهمة في المدارس الثانوية الغربية ـ الأوربية منها والأمريكية ـ وتعطى هذه المادة بشقيها النظري والعملي ، النظري من خلال دراسة الأفكار وأبرز النظريات والكشوفات العلمية المستجدة ، والعملي من خلال الحديث عن تجارب الطلبة وخبرتهم في هذا الميدان ، وللبيئة الغربية دافع مهم في إعطاء هذه المادة ، وذلك بسبب طبيعة الحياة المنفتحة ، التي لا تخضع لمعايير دينية أو عرفية أولاً ، وبسبب غياب الواعز الفردي الذي ينهي عن هذه التمثلات ثانياً ، ولحاجة الفرد الغربي لإشباع غريزته الهائجة ثالثاً ، فضلاً عن أنّ السلوك العام يشجع هذه المسألة ويحث عليها .(/1)
أما في البيئة العربية والإسلامية المحاطة بخطوط حمراء كثيرة ، وبحواجز ينتمي بعضها إلى الدافع الديني ، وبعضها ينطلق من التوجه العرفي أو الاجتماعي ، وبطبيعة حياتية معيشية تروم حفظ الخُلق وتمدحه ، وتقيد الانحلال وتمقته ، وتتسم بمعايير سلوكية تزدان بالترغيب حيناً وبالترهيب حيناً آخر بوصفهما أسلوبين مؤثرين بالأفراد ، فإنّ الفرد العربي قد لا يكون في حاجة ملّحة لدراسة الجنس ـ بوصفه مادة روحية وعملية ـ بميادين عامة ومعرفية كالجامعة ، بل قد لا يتفهم الهدف الحقيقي من وراء إقحام هذه المادة المفترضة في المناهج الأكاديمية ، فضلاً عن أنّ النهج السلوكيّ العام لا يشجع على بسط الحديث في هذه الجوانب إلا في ميادين ضيقة جداً ، وعليه فإنّ التعامل المتوقع من الطلبة تجاه ذلك سيسير باتجاهين مختلفين : ( الأول : المقاطع ، إذ سيتجه بعض الطلبة إلى مقاطعة هذه المادة ونعتها بالسلبية ، وبناء موقف معادٍ للأستاذ الذي سيقوم بتدريسها ، وستغدو مادة ثقيلة بائسة يهرب منها الطلبة ويأسفون لوجودها ، والثاني : المشجع ، إذ سيقوم بعض الطلبة بتشجيع إعطاء هذه المادة والحديث عن أهميتها ، ودورها في تنوير الأذهان ، وتوسيع مدارات الخيال ، ومقت دوائر الجهل التي تخيم على المسائل المتعلقة بموضوعات الجنس ، وستغدو هذه المادة بالنسبة للطرف الثاني من أروع المواد الدراسية وأجملها ، وسيحرص الطلبة على عدم تفويت أي دقيقة من ساعاتها المقررة .
ويمكن الحديث عن الجوانب الإيجابية المفترضة لمادة الثقافة الجنسية الجامعية بالنقاط الآتية :
1. قد تنجح مادة الثقافة الجنسية الجامعية في إعطاء مادة علمية للطالب الجامعيّ ، على صعيد سلوكيات ممارسة الجنس ، وبيان مواضعه وطرقه وأصنافه ، ومحاولة اجتناب مزالقه المؤدية إلى بعض الأمراض كالزهري والسيلان والإيدز ونحو ذلك .
2. قد تمنح هذه المادة متلقيها نصائح مهمة تتعلق بكيفية الاهتمام بالأعضاء التناسلية ، ومحاولة الابتعاد عن كلّ المظاهر والسلوكيات المضرّة في هذا الإطار .
3. قد تعطي هذه المادة تعليلات مناسبة لبعض الأسئلة التي تدور في فلك التغيرات الفسلجية الحاصلة عند المراهقين ، وتعليل ذلك بشكل علميّ ـ ربما ـ .
4. قد تقدم هذه المادة للطالب فرصة إنعاش الأجواء الأكاديمية ، بسبب تفاعله معها كونها مادة غير تقليدية .
5. قد تترك مساحة مهمة للحوار والحديث عن مسائل تتسم بالخصوصية الفردية ، مما يمكنها من تقديم فرص لإيجاد حلولٍ مناسبة .
6. قد تساعد الطلبة المقبلين على الارتباط الشرعيّ من تجهيز عوامل الاطمئنان ، وإعادة التوازن النفسيّ لمشكلة اختيار الشريك الآخر .
أما الجوانب السلبية المفترضة فيمكننا الحديث عنها بالنقاط الآتية :
1. تعمد هذه المادة إلى تحريك مشاعر الطلبة وأحاسيسهم المكبوتة ، فتجرهم نحو عدم الاستقرار النفسي .
2. تولد ميولاً جنسية لدى الطلبة ، مما تسبب عادة تفكيراً مضطرباً ، وتوجهاً غير محمود .
3. قد يلجأ بعض الطلبة ـ بعد دراستهم الجانب النظري ـ إلى البحث عن الجانب التطبيقيّ ، وهنا تبدأ المتاعب وتتنوع المزالق .
4. تسهم في خلق أجواء التوتر النفسي السلبيّ بين الطلبة المختلفين جنساً ، وتبدأ نظرات الإعجاب غير البريء بين الفريقين .
5. ستسهم هذه المادة بنزع الحياء الذي يزدان به طلبتنا ، وستعمل على إيجاد فرص الجرأة في الحديث والاستفسار والسؤال .
6. أما إذا توفر بين الطلبة من حمل بذور الشذوذ الجنسي أو اتصف به ، فإن هذه المادة ستشكل فرصة ذهبية لهذا النوع من ممارسة أفكاره بشكل غير سويّ .
7. قد تسهم هذه المادة بتحويل الميدان الجامعي من ميدان معرفي ثقافي ، يزود الجيل الناشىء بالعلم والمعرفة المتنوعة بشقيها الإنسانيّ والعلميّ ، إلى بيئة يخشى الآباء المحافظون إرسال أبنائهم إليها خوفاً عليهم من الانحدار نحو الهاوية .(/2)
وبعد تقديم افتراضات حول ايجابيات مادة الثقافة الجامعية وسلبياتها ـ حال كونها مادة منهجية مقررة في الجامعة ـ يمكن القول أنّ هناك طرفين مهمين في التعامل مع هذا المنهج ـ ومع غيره ـ هما : الأستاذ والطالب ، فإن كان الأستاذ الواقع على عاتقه تدريس هذه المادة متزناً متديناً غيوراً على الجيل الناشىء ، عارفاً حقوق الله عزّ وجلّ ، قائماً بأحكامه مجتنباً نواهيه ، فإنه سيقوم بتدريس هذه المادة وفقاً للسياق القرآني في عرض المشاهد الجنسية : " وَرَاودتْه التي هُو في بيتِها عَن نَفسِه وَغَلّقتِ الأبوَابَ وقَالتْ هَيتَ لَك قالَ مَعاذَ اللهِ إنّهُ رَبّي أحسنَ مَثوايَ إنّهُ لا يُفلحُ الظَالمونَ وَلقد همّتْ بهِ وهمَّ بهَا " ( سورة يوسف ، الآية : 23-24 ) ، ووفقا للنهج النبويّ في تعليم المسلمين الجنس وأحكامه ( فلتذقْ عُسيلتَها ولتذقْ عُسيلتكَ ) ، ووفقاً لسياق علميّ ذي حدود دقيقة عن طريق التلميح لا التصريح ، والإشارة لا التجريح ، وفي مقابل ذلك طالب متزن يدرك أهمية الأحكام من خلال منظار شرعي ، ويعرف الغثّ من السمين ، ويزِن الأقوال والأفعال من حيث موافقتها أو عدم موافقتها لأوامر الله سبحانه ، هذا الطالب يعي أنّ الجنس هو طريق لمواصلة الحياة ودفع عجلتها إذا رُسم بإطار شرعي ، وهو وسيلة لا غاية ، ونعمة من الله لا نقمة ، وأنّ على الفرد ممارسة الجنس بوصفه منطلقاً للتأسيس والتكوين والبناء الأسري ، لا بوصفه مبدءاً للغريزة والإشباع ومشاعية العلاقات ، وعند توفر هذه المعاني سيكون التلقي للمادة ايجابياً ، لكن يبقى السؤال قائماً : هل يمكن ضمان توفر هذين النموذجين ؟! .
وفي مقابل ذلك إذا كان الأستاذ منفتحاً غير متدين ، لا يفقه من الدين وأحكامه إلاّ ما تبثه وسائل الإعلام غير البريئة ، ذو علاقات وتصرفات تثير علامات استفهام عدة ، فإنه سيتصرف بإعطاء هذه المادة بحرية كبيرة متخطيا حواجز الدين والعرف والحياء والبيئة الأكاديمية ، منطلقاً من بيان أهمية الجنس ، معرجاً على أصنافه في التواصل ، منتهياً بالحديث عن مشاهد تطبيقية ـ ربما ـ أو على الأقل قد يحفز الطلبة على الدخول في ميدانه ، وإلى جانب هذا الأستاذ قد يكون هناك بعض الطلبة من تعجبهم طريقة العرض هذه ،إذ يُقدم لهم العرض الثقافي للمادة ، ليجدوا من ثَمَّ طرقاً معينة لتطبيق ما تعلموه .
وفي الختام يمكن القول : أنّ وضع المناهج العلمية الأكاديمية يتطلب حاجة اجتماعية ، ومسوغات معرفية تسهم في بلورة فلسفة الفرد المتعلم تجاه الحياة ومتطلباتها ، كما أنّ نسقية اقتراح المناهج الجديدة تمر بعملية اكتشاف البديل المناسب للرفض القائم للمنهج السابق ، فإن تمّ هذا فهو تحقيق لوظيفة المنهج وخصيصته في تقديم النهج الأفضل للمتعلم ، وإن لم يكن فإنّ النتائج ستكون عكسية على صعيد الذات أولاً ، وعلى صعيد المجتمع ثانياً ، ومن هذا المنطلق فإننا نعمد إلى إطلاق صرخة عقلانية تتوجه بتكوين رؤية فاحصة وثاقبة للمقترحات التي ستوضع على أجندة المواد الدراسية في الجامعات العراقية ، التي نتمنى أن لا تخضع لضغوطات البنيات الثقافية القادمة مع المحتل بلا استئذان ، بدعوى مجاراة العولمة أو بدافع المعاصرة التي لا تمتلك من الدلالة إلاّ الادعاء ، ولا تتقن من الإجراء إلاّ الاستهلاك(/3)
الثقافة العربية والقرن الحادي والعشرون
د. قيصر موسى الزين*
مقدمة:
هذا البحث يمثل مسحاً عاماً لبعض المؤشرات والمحددات والأفكار المتعلقة بمعالجة احتمالات تطور اتجاه( الثقافة الإسلامية) وهي تعبر القرن العشرين نحو القرن الحادي والعشرين. وإسهامها الأساسي يتركز في النواحي المنهجية والمفهومية، وليس في مجال المعلومات التفصيلية. وموضوع المعلومات التفصيلية المهمة لتحليل معطيات الحاضر لإلقاء الأضواء على احتمالات المستقبل، ليس مجال ورقة بحثية واحدة، ولكنه موضوع مشروع بحثي متكامل، وقد لا تستوعبه إلا المجلدات العديدة، ويحتاج إلى فرق من الباحثين. غير أن مثل هذا المشروع البحثي الكبير لن يكون ممكناً بدون بلورة المسائل المفهومية والمنهجية، وتطوير حوار علمي بين الدارسين، من تخصصات مختلفة ذات صلة بالموضوع.
لقد حاولت الدراسة البحث عن صلات بين ما نطلق عليه كلمة( ثقافة إنسانية ) و(ثقافة إسلامية)، وتوضيح ما يكتنف هذه التعبيرات من غموض أحيانا، وما يتصل بها من استخدامات ذات مرامٍ غير علمية، أيدلوجية أو دعائية. أشارت كذلك الدراسة إلى صعوبة تحديد حدود قاطعة لمفهوم (الثقافة الإسلامية) في مجال الزمان والمكان.
وقد اختارت تركيزها المكاني على ما يعرف بـ(العالم العربي)، لاعتباره أكثر وحدات العالم الإسلامي مركزية فيما يخص مفهوم الثقافة الأسلامية، فهو موطن الإسلام التاريخي، ومحور أهم التطورات المتعلقة به ماضياً وحاضراً، وكذلك باعتباره مصدر اللغة المقدسة الخاصة بهذا الدين. وقد اختارت الدراسة معياراً إجرائياً بحتاً لتحديد هذا "العالم العربي" وهو معيار أساسي يحدده النطاق الجغرافي لدول منظمة الجامعة العربية. وهذا المعيار أكثر قطعاً في تحديده للمنطقة من المعايير الثقافية، ولكنه لا يختلف معها كثيراً، فيمكن القول أيضاً بأن العالم العربي هو المنطقة التي يغلب فيها استخدام اللغة العربية كلغة أم وكلغة التخاطب العامة الأساسية. و لا يمكن بحال اعتبار أن هذا العالم كامل التجانس الثقافي، أو أن حدوده في مناطقه المختلفة منبتة الجذور عن الثقافات غير العربية التي ساهمت في الماضي وتساهم في الحاضرفي تشكيل الهوية الثقافية لكل قطر، وأحيانا ًللأقاليم الداخليةالصغيرة في إطار كل قطر، مثل البربرية والنوبية السريانية والفينيقية والفرعونية... الخ).
والثقافة ــ كما يوضح الشكل المرفق ـــ معنى معقد، يقوم علىالكلية والتشابك، فهي ذات طبيعة نسيجية شبكية. غير أن كل خيط من خيوط هذه الشبكة لا يوجد إلا في الواقع، ولا يلمس إلا من خلال أجزاء متحركة متفرقة عديدة، وتتداخل في هذه الحركة الأشياء المادية والفضاء الفيزيائي ( المادي)، والأفكار والمفاهيم والمشاعر والنظم الثقافية الدينية والقيمية، والمؤسسات والتيارات والنشاطات المرتبطة بها من سياسية واقتصادية وإبداعية...الخ ... وهذه الخيوط المكونة من نقاط عديدة تتلاقى في النهاية لتحديد محصلة الحركة الاجتماعية ذات الطبيعة التيارية، ويمكن تشبيهها بالنهر الذي يجري في الزمن من مراحل الماضي عبر الحاضر إلى المستقبل. إذا كانت التيارات الفرعية، الخيوط، والنقاط أو الجزئيات المشكلة لها ذات طبيعة زمانية يظهر عليها التغيير بوضوح فإن (الكل) أو الثقافة تمثل جوهرا يبقى ثابتا بالمعنى النسبي، وإن عبرت عنه في حيز الواقع المفردا ت المتغيرة. لذلك يمكن أن نقول عن الثقافة إنها (فوق الزمن)، ولكن بالمعنى النسبي فقط، فهي تتغير ببطء شديد، وهي ليست من ( المطلق) بأية حال. وخيوط المفردات التي تتلاقى ــ والتعبير هنا مجازياً ــ لتشكيل المحصلة أو اتجاه نهر الزمن، تخرج من الثقافة وتعود إليها دون أن تفقد اتجاه الحركة، فالحركة العامة حلزونية أي تصاعدية ـــ دائرية، وليست دائرية فقط. غير أن الرسم البياني المرفق لا يستطيع أن يوضح هذه الناحية الأخيرة. والخيوط السبعة المشار إليها بالأرقام في الرسم لا ترد علىسبيل الحصر، فكل خيط مكون من خيوط رفيعة لا تحصى، وكذلك فإن عدد الخيوط الكلي ليس نهائياً، وقد تم اختيار السبعة محاور التي تتابعها الدراسة بالإثبات هنا. وهذا الاختيار اصطناعي فني بحت ذو طبيعة إجرائية تصل بتنظيم فقرات الدراسة وخطة سرد أفكارها الأساسية. (انظر الشكل والمفتاح والملاحظات المرفقة).
ملحوظات:
أـ التظليل الشبكي للكتلة في مستوى فوق الزمن يعبر عن بعض صفات مفهوم الثقافة، ومعنى (فوق الزمن) يعني اللاتاريخية، وهو معنى نسبي فقط.
ب ـــ السهمان أسفل الرسم باتجاه الأعلى والأسفل يشيران إلى المسار الحلزوني للحركة الاجتماعية الزمنية. فهي تخرج من ( الثقافة) وتعود إليها، ولكن في اتجاه أمامي دائماً.
ج ــ اتصال الخط يعني الماضي والحاضر. أما النقاط ..... فهي تشير إلى مسار لم يبدأ بعد وهو المستقبل، ومع أنه لم يبدأ ولكن من السهولة التنبؤ بأنه سيشكل إلى حد كبير نوعا من الاستمرار للخط المتصل من الماضي إلى الحاضر.(/1)
دـ يمكن أن ترسم بدائل لا نهائية العدد لمحتوى الحركة واتجاهاتها، وهدف هذا الرسم محاولة التقريب وتقديم نموذج توضيحي بسيط فقط، ولا يمكنه إلا الإيماء إلى حقيقة التعقيد في حركة الثقافية في اتجاه الزمن، وعلاقات (اللاتاريخي)بـ(التاريخي) أو (الفرق زمني)بـ (الزمني).
مدخل:
يراد بتعبير " الثقافة"[1] جملة من معاني الشمول. وهي بنية يصعب تحديد المفردات الداخلة في تكوينها على سبيل الحصر والدقة. قد يقال إنها " الروح" التي تميز مجموعات إنسانية عن غيرها في طرق أدائها لمختلف النشاطات الحياتية. وقد قيل أنها ذلك الكل المعقدالذي يحوى العادات والتقاليد والآداب والفنون والعلوم والنشاطات الاقتصادية إلى آخر النشاطات والإنجازات الإنسانية. وقد يقال عنها غير ذلك، حتى القول بأنها تستعصي على "التعريف"[2]. لكن من مهما يقال لا يمكن إسقاط المصطلح أو حقيقة أنه يدل على ظاهرة من ظواهر هامة أصبح من غير الممكن التناول العلمي لتطور المجتمعات الإنسانية دون استخدامه. ويختلف مصطلح الثقافة عن مصطح" الحضارة" مع الاتصال الوثيق بين الاثنين. فالحضارة، أحياناً " المدنية "، هي إنجاز إنساني ضخم يقاس زماناً بالقرون، ومكاناً بالقارات . وهي تنفذ من المحلية للعالمية. ومع ذلك فالحضارة أو المدنية مثل" الثقافة" تتصف بالشمول، وبأنها " روح" تتجلى في شتى مظاهر النشاط الإنساني . وإذا وصفنا كلا من الحضارة والثقافة بأنه ( إنجاز)، فإن كلا منهما يمثل أيضاً ( نظام) ،فهو (منتج) بقدرما هو إنتاج، أي أنه فاعل بقدر ماهو مفعول به. والصلة بين الثقافة أو الحضارة ومجتمعاتها صلة معقدة ،فقد يرى الرائى أن المجتمع ينتج الثقافة. ويرى آخر ت أو نفس الرائي ـ من زاوية أخرى ان الثقافة هي التي تنتج المجتمع .والواقع أن ( المجتمع) يختلف من كونه واقعاً آنياً يشكله أفراد محدودون، وينتهي بزوالهم من الحياة الأرضية، إلى كونه تواصلاًً عبر الأجيال والأزمنة والأمكنة . وذلك شكل من اختلاف ( التاريخي) من ( اللاتاريخي) . وقد اعتقد البعض أنه لا يوجد إلا الأفراد المحددون، واعتقد آخرون أن وجود هؤلاء المحددين ما هو إلا انعكاس لبنية مترابطة ومستمرة قبل وبعد وجود هؤلاء المحدودين . وهو اختلاف فلسفي ومعرفي، لاأمل في حسمه، ويدخل دون شك في تحديد معالجات المنهجية في الدراسةالاجتماعية.
الثقافة الإسلامية والثقافة الإنسانية[3]:
هذا المدخل الموجز يدل على إشكالية تحديد المصطلح المحوري في هذه الدراسة وهو ( الثقافة الإسلامية) . وقد تنسب الحضارة أو الثقافة إلى العرق، فيقال الحضارة الأوربية . أو إلى اللغة، فيقال الثقافة العبرية أو السواحيلية ...إلخ.(/2)
وكثيراً ما تنسب إلى الدين، ومن هنا جاء تعبير " الحضارة الإسلامية " و" الثقافة الإسلامية"، والنسبة هنا تقوم على تغليب عنصر في المكون الثقافي للوحدة المعنية على بقية العناصر، باعتبار أهمته وهيمنته . وأحياناً للدلاله على حدود في المكان أو الزمان لا يمكن أن تصل إليها الثقافة المعنية أو تقصر عن بلوغها ـ دون وجود العنصر الذي نسبت إليه هذه الثقافة تجاوز لغيرـ غير أن تحديد عنوان ثقافة أو حضارة يخضع عادة للمرامي الأيدولوجية وما تتضمنه من ترميز . فما نحن بصدده من حديث عن ثقافة إسلامية يمكن أن يراه البعض " ثقافة عربية" إذا لم تجاوز الحديث العالم العربي، وحدوده النهائية غير متفق عليها رغم الاتفاق على حدوده المركزية . ويمكن نسبة ثقافة المجتمع في باكستان مثلاً إلى شبه القارة الهندية، فبينها وبين الهندوسية ـ رغم الإسلام ـ نسب وصلة قوية، كما يمكن نسبة إيران إلى الحضارة الهندوأوربيه . وبالتاكيد فإن لغتها القومية، وهي الفارسية ـ ( هندو ـ أوربية) تعزلها عن العالم الإسلامي ـ مثل الوطن العربي ـ الذي يجمعها معه الإسلام. وهكذا يمكن القول بوجه عام أن تعبير الحضارة الإسلامية، الدين الغالب في تأثيره عليها هو الإسلام . والإسلام يمثل في استخداماتنا الفكرية أكثر من كونه مجموعة نصوص مقدسة، فهو خلق تاريخي مستمر، قديم ومتجدد على مستوى الأمة والشعوب . يتجاوز المستوى المعرفي العقائدي إلى الجوانب الطقوسية والمؤسسية والقيمية والقانونية ..الخ ولكل منها جذور في سياق المكان المحدد، حية ونامية ومتفاعلة، ربما تعود بقدر كبير إلى مرحلة ما قبل الإسلام في ذلك المكان . غير أن كل ذلك ينسب إلى " الثقافة الإسلامية".وإذا كان للثقافة الإسلامية معناها وبعدها المحلي والنسبي في كل إقليم قاري أو قطري، أو حتى كل مدينة أو قرية، فإن لها بعدها التجريدي العالمي واللاتاريخي. وهذا يقودنا إلى ارتباط هذه " الثقافة الإسلامية بمفهوم " الثقافة الإنسانية"وكذلك بمفهوم" الثقافة العالمية". وقد لا يجوز أ ن نقول " الحضارة العالمية"، ويبدو تناقضا منطقيا في التعبير بين"ثقافة" و "عالمية"، فالثقافة تقوم على " الفروقات" التي تحجب العالمية وتكرس الخصوصية، ولكن أحيانا نغض الطرف عن ذلك تماشيا مع التجاوزات اللغوية.
إن فكرة "العالمية" تقوم على الظن بوجود مجرى رئيسي في الحاضر، كما في الماضي والمستقبل، تصب فيه تجارب الحضارات والثقافات، ويصبح هذا المجرى جارفا يجذب التيارات الفرعية ويجعلها تخضع لاتجاهه، ويلونها بألوانه. له إذن صفة التذويب والتمثيل، وبالتالي الهيمنة الحضارية تعتمد عادة على هيمنة سياسية واقتصادية مكنت بعض القوى المحلية من أن تصبح عالية في تأثيرها ونفوذها. لذا فإن الحضارة التي نصفها بعالمية قد لا تعدو أن تكون حضارة شعوب أو مجموعة شعوب، محدودة العدد ومحصورة المكان، تتمكن مؤقتا من الإمساك بمفاتيح القوة والثروة ومخارج ومداخل الحركة عبر البحار والقارات وبعض نقاط العصب الحساس في جسم العالم ــ إذا جاز التعبير ــ لذلك فإن مثل هذه الحضارة العالمية تكون عادة حضارة مفترسة، تلتهم غيرها من الثقافات، وتعمل على امتصاصها وتمثلها في خلاياها وتصبغ عليها روحها. هذا بالطبع على سبيل المجازفي التعبير اللغوي، ولابد من هذا القول حتى لا نقع في وهم التشخيص البيولوجي للحضارة، مثلما مافعل إشبلنجر مثلا، فنقول أنها كائن حي.
أما "الثقافة الإنسانية" فهي قد تعنى ما هو خالد ومستمر من القاسم المشترك الأعظم، بين كل الثقافات التي أنتجتها وتنتجها المجموعات الإنسانية المختلفة.
و" الثقافة الإنسانية " هي من إرث القرون وتواصل الأجيال، لذلك يمكن أن أقول بأنها "ملك مشاع"، وهو مفهوم يعمل عادة على"تلين " الحواجز الحضارية والجدران التي تتمترس بها الثقافات في حالة المواجهة والعداء، وليس من المبالغة القول بأن أية حضارة مهما تكن عظيمة فإنها تنبع وتصب من وفي" الثقافة أو الحضارة الإنسانية" . وفي حال تميز هذه الحضارى وقوتها فإنها ترتبط بوشائج تكوينية وصلات دينامية مع غيرها من الحضارات المتزامنة معها، بحيث يبدو للرائي المبتعد عن " المجال الأرضي"بأن الجميع يمثل كلا واحد. غير أن هذا الفهم يوصل في جانب من تطوراته إلى أيدولوجيا خاصة على فكرة أو مذهب " الإنسانية"، وهو رغم إنسانيته في نهاية المطاف"مذهب"، وهذا المذهب يتصل بيوتوبيا وأحلام ذات صلة بالإحباط الذي يخلقه واقع التجزؤ والانشطار والصراع على هذه الأرض. وإذا كانت الثقافات والوجهات الحضارية تستخدم في معارك التوسع والهيمنة، فهي أيضاً يمكن أن تكون درعاً دفاعية، تقاوم محاولات الإخضاع والامتصاص والتمثل التي تتم أحياناً باسم "العالمية" أو الإنسانية.(/3)
هذه الأفكار المجردة والنظرية الواردة سلفا ربما تساعد على فهم الوضع الراهن الحرج لما يمكن أن نسميه بـ" الثقافة الإسلامية"، وهي تعبر إلى القرن الحادي والعشرين. وهي تقع بين المطرقة والسندان: التقوقع أو الذوبان،ولا شك أن المخرج هنا يمتثل في التكيف الناجح مع المتغيرات والقوى الفاعلة في عالم اليوم والغد. ومثل هذا التكيف الناجح يعتمد على شروط عدة من بينها إمكانات التكيف والوعي والتخطيط والإراداة، ويمكن إجمال هذه الشروط في كلمتين: المعرفة والقدرة.
المعرفة وعلم المستقبل : علم المستقبل ليس ضرباً من ضروب الكهانة . ولا يمكن الجمع بين كلمة علم اجتماعي(social science) وبين ادعاء معرفة الغيب . وعلم المستقبل يتعلق بتحليل معطيات واقعية يمثلها تراكم التجارب عبر الزمان الماضي والحاضر، لأن المستقبل هو وليد الأثنين . ومثل هذا التحليل لا يمكن أن يتجاوز معرفة المؤشرات وتحديد المعايير،ذلك مبني على فكرة وجود أنماط (patterns ) للحركة التاريخية والآنية، يمكن اكتشافها، والحديث عن إمكانة تجدد ظهورها، ليس تكرارها؛ فالتاريخ أكثر يسراً وأكثر جدوي حين يتعلق الأمر بالثقافات والحضارات بالمقارنة بتطورات الثقافي السياسية السريعة. وذلك بحكم بطء الحركة التاريخية وقيامها على أسس قاعدية ومؤسسية راسخة مرتبطة بالمستوى الشعبي في حالة التطور الثقافي والحضاري، يضاف إلى ذلك أنه يتم هنا رؤيتها المناسب أن يتجه الحديث الآن نحو منهجية التناول وتأسيس قواعد النقاش نظرياً . ولنبدأ بالمؤشرات والمعابير .
المؤشرات والمعايير:
هنالك متغيرات عديدة لابد من رسم اتجاه حركتها بياناً على مقياس القرن:
مثل المعارك العسكرية، الثورات السياسية، الانقلابات التكنولوجية، التقلبات في السياسية الدولية، انتقال مراكز الثقل الإقليمية والعالمية، الانهيارات الاجتماعية بجوانبها السلوكية والتركبية، حركة التجارة واتجاهات التراكمات المالية، تطور أنماط التعبير والتأثيرات الإعلامية، نحو المدن وانكماشها، المتغيرات الديموغرافية، نقاط التحول في تطور القيم...ألخ.. والقائمة طويلة يصعب الوقف عند نهاية لها، وكل ذلك من مفردات قابلة للتجزؤ والتركيب اصطناعا فقط، وهي في حالتها الدينامية تيارات متداخلة متحركة ومتغيرة باطراد منطقي في سياق الاستمرارية، كل ذلك يمثل أوزانا مختلفة في حركة الدفع ما تجاه المستقبل.
إن القراءة الصحيحة للمحصلة النهائية لا تجاه هذه المتغيرات هي التي يتمخض عنها رؤية المؤشرات الصحيحة باتجاه المستقبل , والتحليل المتعلق يستطيع إعادة الأصناف المختلفة للمتغيرات هنا( سياسة، ديموغرافية، تنقية، سلوكية فنية...الخ.. ) إلى جذور والشتات الظاهرتين الذي يبدو ومتناثرا، وقد تبدو الحركة الدائرية بالنسبة للبعض . غير إنه يصعب الادعاء هنا أن( الثقافة ) تنفي غيرها.
أما المعايير فهي تتعلق بالتحديد المرن لأوزان دفع المتغيرات باتجاه المستقبل وبتحديد نسبة كل مفردة منها ــ كعنصر شتات ـــ إلى الجذر الثقافي : المنبع والمصب بالمنظور الخاص . والمعطيات التي يتم استخلاص المعايير منها تعود إلى مرجعية توثيقية، تعني بالكم الهائل للتفاصيل الجزئية التاريخية والآنية، واستخلاص المعايير . أي التحديد المرن لأوزان دفع المتغيرات باتجاه المستقبل . ولا يمكن بالطبع هنا الوصول إلى اختزال رياضي بسيط حتى في مرحلة النتائج . ما هو ممكن هو تطويرلغة علمية محدثة، وتوفير نظريات تحليلية في شكل (مؤشرات) و( معايير) تقرب الدارسين من الإحساس بتحولات الاتجاهات المنثبقة من حركة الثقافة نحو المستقبل، وبالتالي تعين على توفير أحد ركني النجاح في التكيف المطلوب، وهو المعرفة، التي عليها ينبني التخطيط الاستراتيجي، وكذلك التجاوب المرحلي والتكتيكي مع المؤشرات والأحداث . ومحاولة مشروع بحثي ضخم، وليس من شأن هذا البحث المحدود إلا الإشارة إليه ومحاولة بيان هذه الإشارة بمزيد من التناول المحدد للثقافة الإسلامية في مقياس الزمن الكبير . أولاً عن طريق الحديث عن إرث القرون، ثم القرن العشرين، وأخيراً الاتجاه نحو القرن الحادي والعشرين . لكن قبل ذلك لابد من توضيح إطار المكان .(/4)
إطار المكان كل من المكان والزمان بعد في آخر، ولا يتحدد أحدهما دون تحديد الآخر، وهما بعدان في ( الثقافة) ـ أية ثقافةـ لا تحدد بدونهما. أما داخلة في معادلة الحركة الدينامية وهي اجتماعية طبيعية . والإطار المكاني للثقافة الإسلامية هو الموطن أو المسرح الجغرافي للشعوب المسلمة، ومن أهمها تلك التي تقطن في العالم العربي، تركيا، إيران، أفغانستان، آسياالوسطى، الباكستان، بنغلاديش، الهند، ومناطق آخرى . ولأسباب تاريخية، ,أخرى تتعلق بالوضع الخاص للغة العربية في الحضارة الإسلامية، وذلك لا يعني " العالم العربي" هو دائرة المكانية المركزية للثقافة الإسلامية، وذلك لا يعني تجاهل الوحدة الثقافية الفضفاضة للعالم الإسلامي، أو ارتباطات " العالم العربي " بذلك الإسلامي . و" العالم العربي" هنا يمثل مصطلحاً ثقافياً سياسياً يدل على المكان الجغرافي، ومن أيسر معايير تحديد هو المعيار القطري ـ السياسي الذي تنسب إليه أراضى كل الدول المنضوية حديثاً تحت راية جامعة الدول العربية .
وهذة واحدة من وسائل التحديد ـليس أكثر . وتركيز هذا البحث هو على " العالم العربي بهذا المفهوم . وهو بدوره مقسم لوحدات مكانية داخلية: الأقطار، والوحدات الإقليمية مثل الشام، المغرب العربي، وشبه الجزيرة العربية، ووادي النيل، وفي كل من هذه الوحدات نجد الثقافات غير العربية، مثل البربرية في شمال إفريقيا، والنوبة في مصر والسودان، والزنجية في السودان وموريتانيا والفارسية في شرق شبه الجزيرة العربية، والكردية في العراق وسوريا....الخ ونجد هذه الثقافات إما في التكوين الثقافي العربي لأي قطر في حالة التكامل أو التعايش، وأما متميزة ومناوبة لذلك التكوين في حالة المواجهة، وفي كل الأحوال تملك الثقافات ـ غير العربيةـ دورا مهما في دينامية التطور الاجتماعي السياسي.
محاور المعالجة :
لابد من البحث عن مدخل تصنيفي لتحديد محاورالمعالجة التي نهتم هنا بمتابعتها عبر وحدات كبرى ثلاثة هي: الماضي ( ماقبل القرن العشرين)، الحاضر (القرن العشرين)، المستقبل ( القرن الحادي والعشرين، ويمكن إدراج الظواهر هنا في صيغة أصناف: الأول والثاني متصلان بالسياسة، والثالث بالدين، والرابع بالعدل والتوازن الاجتماعي، والخامس بالمعرفة والإبداع، والسادس بالتقنية والرفاهية، والسابع بالديموغرافيا والعائلة. وهذا الترحيب يخضع لاعتبارات الفاعلية وقوة الدفع في دينامية الحركة، ويعكس هذا الترحيب التناغم بين أكثر المجاور قاعدية، وهو المحور السابع، وأكثرها حركة وفوقية، وهما المحوران الأول والثاني، وكل محور يشمل جملة من أصناف المفردات، ويمكن إيراد ذلك على سبيل المثال وليس الحصر كما يلي:
المحور الأول: الهزيمة، الانتصار، الهوية، الأمة، التراث.
المحور الثاني: العالم في المنظور، العولمة، الانفتاح، وصراع الشمال والجنوب.
المحور الثالث: الدين، المعبد، الأصولية، الصوفية والباطنية.
المحور الرابع: حقوق الإنسان، المساواة، الديمقراطية، العمل الإنساني، العد الاجتماعي، الحب والسلام، الصحة والتغذية.
المحور الخامس: مغزى الحياة، الوقت، العلوم، الفنون، التعليم، الإعلام،الكتاب التنوير.
المحور السادس: التقنية، المعلومات، الإنتاج.
المحور السابع: السكان، الأسرة، المرأة، الطفل، الجنس.
ويلاحظ على صياغة مفردات المحاور طغيان لغة القرن العشرين وما أبرزته من مستجدات على صعيد الأجندة الثقافية ومتعلقاتها السياسية. ولا شك أن الصراع الثلاثي ما بين اتجاهات الحضارة الغربية والثقافة الإسلامية والثقافة المحلية ـــ غير الإسلامية أو الموازية لها ــ يبدو أساسيا في معظم المفردات التي انتظمت في المحاور السبعة.
متابعة المحاور عبر الوحدات الزمانية الكبرى:
المحور الأول: السياسة والثقافة، الداخل:(/5)
شكلت الروح البدوية عقلية العربي منذ (الجاهلية) بما غرست في تكوينه من روح الفروسية بما تنطوي علية من إباء وشعور بالكرامة ونزوع إلى الغزو وإبداء الفخر والتباهي. وقد وصف الإسلام ـــ متمثلا في دولته الأولى المتجددة ــ هذه الخصال في مشروع غزو وفتح العالم القديم، وذلك بعدأن أعاد تأسيسها في القوالب الدينية، وأطرها في قوالب الأيدلوجية الإسلامية المستندة على مصادر شتى، من أهمها القرآن. وقد حفظ القرآن هذه الموجهات ونقلها من المستوى التاريخي المؤقت إلى المستوى اللاتاريخي المستمر. وقد تطور هذا الإرث باتجاهات شتى مع تطور أشكال النظم والدول التي تعاقبت على المنطقة خلال القرون منذ أيام دولة المدينة، ومنذ أيام الراشدين استوعب الجندي العراقي والجندي الشامي التقاليد والتقنيات العسكرية عند الامبراطوريتين الفارسية والرومانية على التوالي؟ وفي فترة هيمنة الإقطاع العالمية، في العالمين االإسلامي والأوروبي خلال العصور الوسطى، برز نظام الفروسية القائم على الإقطاع العثماني، وتطور بتأثير ثقافة هي أقرب إلى ثقافة الرعاة المتحضرين حديثاً في سهول آسيا الوسطى. كذلك الحال في الأندلس الإسلامية، إذ تطور نظام الفروسية فيها تحت ظل الاحتكاك بالتحدي الأوربي الأسباني. وكان من آثار ذلك الاحتكاك تلقيح نظام الفرسان النبلاء في أسبانيا بكثير من القيم الإنسانية التي ترفع الحرب إلى مرتبة الشرف والقيم الرفيعة، وتربط بين إقدام الفارس وجرأته وشدة فتكه، وبين إعجاب النساء ــ ليس في سياق البدوية الرعوية الساذجة ولكن في سياق المجتمع الحضري وفي دائرة مراكزة الصفوية ــ ويمكن أن نرة هذا مثلا مرتبطا بالازدهار الحضاري في فترة التفكك السياسي في المشرق العربي، وبالتحديد في الشام والعراق أيام سيف الدولة، الذي لم يعرف إلا بالشاعر العملاق أبو الطيب المتنبي. والذي كان واحد من أهم المبشرين بقيم الفروسية العربية القحة في ثوبها الحضاري الإسلامي، والأمثلة الكثيرة التي تمكن أن ترد في هذا السياق تدل على جانب مهم مما أسماه بعض الباحثين بـ( العقل العربي)[4]، وحاولت بعض التحليلات المنحازة ضد العرب القول بأن اللسان العربي أطول بكثير من السيف العربي، أو بكلمات أخرى أن العربي يقول ما لا يفعل[5]، غير أن ذلك يجافي حقيقة مهمة هي أن الروح العربية الإسلامية كانت اهم القوى الفاعلة في الحضارة العالمية المرتكزة على الشرق الأوسط منذ القرن السابع الميلادي وحتى القرن السابع عشر، حين أخدت شمس العثمانيين في الأفول، وأخذت القوى الأوربية الصاعدة في الاستيلاء على مقاليد الأمور عسكرياً وسياسياً وحضارياً في العالم القديم والجديد معاً . هذه الفاعلية الحضارية كانت كاملة الأركان تقوم على التفوق العسكري والإداري والاقتصادي والإبداعي، تجمع بين قوة التأمل وقوة الفعل والقدرة على التجدد والتكيف المستمر إزاء التحديات والمستجدات . غير أن تلك الحضارة العصر ـــ أوسطية عانت منذ بداية قوتها وحتى تصدعها قبل قرنين أو ثلاثة من نقاط ضعف داخلية عديدة ومزمنة وخطيرة. وقد وجدت فيها مشاكل الاضطهاد والهيمنة العرقية والطبقة وطغيان المجموعات الحاكمة والمفارقات بين القيم العليا للحضارة، وهذه الإشكالات الاجتماعية وجدت ترجمتهما السياسية في شكل اضطرابات كانت تقوى مع التراجع المضطرد للمركزية السياسة والإدارية في نظام الدولة الإسلامية العالمية . وكان ذلك مدخل الشعوب المعنية إلى عهود الانحدار والجمود الحضاري وما ذلك مدخل سياسي وعجز تقني وعسكري قد خلق على حد تعبير المفكرالجزائري مالك بن نبي حالة القابيلة للاستعمار[6]، فكانت الهزائم العسكرية والاحتلال، أو الوصاية على الأقل، في كل أرجاء العالم العربي، منذ الحملة الفرنسية عند أفول شمس القرن الثامن عشر، وخلال القرن التاسع عشر. واستمرت ذيول ذلك طوال القرن العشرين، رغم النجاحات الوطنية هنا وهناك، والتي كان من ثمارها استقلال الدول القطرية في العالم العربي. وقد نجحت الدول القطرية إلى حد ما في تحقيق قدر من التنمية والتطور التقني، غير أن آليات الهيمنة الاقتصادية والسياسية أفلحت في بسط السيطرة الغربية، بطريقة أو بأخرى على العالم العربي، ووقعت هزائم فادحة في الحروب العربية والإسرائيلية ــ خاصة في 1948و1967. وكذلك خسر جميع العرب في حرب الخليج الثانية التي ظللت آثارها العقد الأخير من القرن الماضي. ويكفي أن من نتائجها مصادرة جانب أساسي من الأرصدة المالية العربية، وتقييد التطور التقني، ووضع أسس جديدة إضافة للانقسام الإقليمي والقطري في أكثر من مكان. وقد تم ذلك باستخدام آليات مستحدثة ومعقدة، تضمنت التغلغل الغربي داخل الكيانات الغربية السياسية المختلفة، واستخدام أسلحة التقنية الإعلامية، والحذق في إرادة لعبة التوازن، وتحريك التناقضات الداخلية في العالم العربي، ذلك بحانب استخدام العمل العسكري والوسائل الدبلوماسية والقانون(/6)
الدولي دون التورط في احتلال العالم العربي مرة أخرى، كما فعلت الأساليب الاستعمارية البدائية في القرن التاسع عشر.
كان طبيعيا لمسلسلالت الهزيمة والإخفاق أن تظهر على المرآة الثقافية العربية، فكانت مرحلة الغضب والانفعال بجروح الكرامة وردود الأفعال غير الحكيمة والمبارزات الكلامية، تغطي معظم هذا القرن، وإن اختفت حيناً في مصر مثلاً ظهرت أحياناً في العراق. أما الاستجابة الأكثر تنظيماً فقد تأثرت أيضاً بالانفعال والرومانسيات، وتأرجحت بين دعوات وحركت راديكالية ثورية، عربية قومية،وماركسية، وإسلامية أصولية، وبين اتجاهات إصلاحية هادئة تحلّقت حول حلم النهضة[7]. ولكن من مداخل شتى[8]. غير أن الواقع كان يثمر دائما هيمنة المحافظين المعتدلين ـــ حتى ولو بدوا ثوريين في بعض الأحيان ــ شريطة انسجام هؤلاء مع صيغ التوازن الدولي[9]. أما إعادة بناء النظم السياسية على أساس الانسجام مع المرامي المبدئية ــ الثقافية بعيدة المدى، وعلى أساس تفعيل العلاقة بين السلطة والقاعدة الشعبية، وتحرير طاقاتها الكامنة، والقيادة الصائبة لحركة التطور قومياً أو قطرياً. فإن ذلك لم يتم. وأكثر من ذلك أن النخبة المفكرة لم فلح في تطوير تصور واضح ومقبول على نطاق واسع داخلها حول هذا الموضوع. بل إن البلبلة الفكرية ـــ التي هي موجودة أصلا ولكن يؤجج نارها المغامرون السياسيون والفرقاء الأجانب ــ لا زالت تشوّش على هذه النخبة وتمنعها من الاتفاق حتى على المرجعية[10] للحكم على الأفكار:
أهي عقلانية محضة أم دينية؟ أم معادية للدين باسم العلمانية ؟ وأم علمانية أصيلة ؟ أم برغماتية محضة ؟ أم تراثية المرتكز ؟ أم تراثيةالإسلام ؛ أم قبل الإسلامي[11] ؟أم هي عصرية محضة[12] ؟ وإذا كانت كذلك فكيف تفعل مع التراث ؟ وكيف يفسر في كل الأحوال[13] ؟ وهل هو تراث أم شيءآخر ؟؟ والمفقود هنا هو تناغم الإيجابات بتنويعها حول هذه الأسئلة، وأصدارذلك في محيط الحركة الفكرية والسياسية والاجتماعية في في المنطقة العربية . وهذا التناغم المفقود كان يمكن أن يثمر عن طريق خلقه لحالة وعي راسخة وسط القاعدة الصوفيةـ التي ترتكز عليها أنظمة الحكم السياسية ـ محاولات أكثر نجاحا وفاعلية لحل الأزمة السياسية في المنطقة . وذلك عن طريق الأنظمة الصحية بين المفكر المكتمل التكوين، وبين السياسي الذي تضبط حركته اتجاهات الوعي العام الراسخ في الوسط الذي يتحرك فيه.
غير أن الصور هنا باتجاه نهاية القرن العشرين هي انحسارالرغبة العامة إبداع نظم جديد وانتشار التفكير البرغماتي والمحافظ، مقابل انكسار[14] وتراجع بأحلام وهمية . وهو يتمثل بصورة واضحة في سياسات أنظمة ( الوضع الراهن ) في معظم الدول العربية . غير أن الأنظمة الراديكالية الرومانسة لا زالت في حالة من الخوف والتخفي، ولا زال التيار الراديكالي موجوداً، وقد ينفجر بصورة قوية في هذا القرن بأشكال جديدة، قد تستبدل الواجهات اليسارية بواجهات"أصولية" إسلامية[15]، ولذلك مخاطره[16] كما أن له إيجابيات تحت شروط كثيرة من أهمها توفير شروط العقلانية والاعتماد على التأييد الطوعي للأغلبية السكانية القائمة على تحالف وتواصل الشعبي والصوفي، والواقعية، والتماسك في كيان ( الأمة ) العام، وتحقيق الانسجام بين مكونات ومنطقات الثقافية التاريخية، وضرورات الانطلاق على خطوط التطور العقلي والاجتماعي والتقني والاقتصادي والسياسي دون كبير قيود ؛ وتحقيق الانسجام مع العالم ـــ إن لم يكن في إطار فلسفة السلام فليكن في إطار تجنب دور الضحية بفعل القوة الغاشمة وهو الدور المألوف خلال القرنين الأخيرين للتيارات الراديكالية، التي تنجح في تحقيق دور قيادي لهذا العالم ـــ سواء أكانت دينية أم علمانية المتركز[17] .(/7)
إن قضية الهوية ــ الأمة التراث تلحق بما سبق من معالجة . وهي قضايا تدخل في صلب الأزمة السياسية في العالم العربي مع جذورها الثقافية . وليس من قبيل الصدفة أن نجد في كل قطر عربي، في النصف الثاني من هذا القرن، انقسام القوى السياسية بين تيار قومي قطري ــــ وأحياناً إقليمي جهوي أوقلبي قطري ـ وتيار عروبي وتيار إسلامي وتيار أممي ماركسي. وقد نجد تمثيل هذه الاتجاهات أكبر في المستوى الفكري، مهما تكن صفويته، يظلل التطور السياسي ويؤثر عليه .وكثيراً ما تصارع الفرقاء السياسيون في أكثر من دولة عربية حول توجه الأمة القطرية، وهل يكون نحو الخارج إلى الأمة العربية ؟ أم باتجاه الانقسام بسياج الكيان القطري الوليد ؟ أم إلى الداخل والتمترس على هذا الكيان؟ وقد شكل هذا الجدل المنعكس عن صراع واقعي، جزءاً من قضية ما عرف بالهوية : من نحن ؟ وما هي أمتنا؟ وماهي طبيعتها وحدودها ؟ أما الجزء الآخر من قضية الهوية، فقد شكله سؤال الجذور، وهو الانتماء في التاريخ . فيقال في السودان مثلا هل يبدأ تاريخنا الحقيقي ببدايات الحضارة النوبية قبل وصول التأثيرالفرعوني إليها أم بالاسلام ؟ وماذا يمكن أن نعتبر كعناصر تراثية من الدرجة الأولى، إهرامات النوبية مثلا ام ترث الخلفاء الراشدين ؟... الخ . ولو أمكن الجمع بين الاثنين فلمن الأولوية ؟ ومن هم أسلافنا ــ ايضاً من الدرجة الأولى ـــ المسلمون الفاتحون عندما اشتبكوا بقيادة عبد الله بن أبي السرح مع دولة النوبة في الشمال في منتصف القرن السابع الميلادي ؟ أم خصومهم من النوبة الذين أرغموا على قبول تسليم 360عبد سوداني سنوياً لهؤلاء المسلمين ثمناً للسلام معهم[18] ؟... هذا مجرد مثال لنوع الاسئلة التي تكشف علاقة القراءات المختلفة للتاريخ والتراث بتحديد الانتماء الاجتماعي ــ السياسي لهويات، هي في حقيقتها واجهات فكرية أو أيدلوجية لمجموعت متصارعة، تمثل انقسامات في جسم الدولة القطرية العربية . ونفس هذه الاسئلة ــ أو اخرى شبيهة بها ــ يمكن تطبيقها على حالات مثل مورتانيا، العراق، لبنان .. الخ غيرأن سؤال الهوية المرتكزة على الفكر القومي العربي، أو الاسلامي الاصولي، او القطري الانغلاقي، أو الجهوي، أو الطائفي الديني، تؤدي بتبايناتها إلى أشكال صراعية وانقسامية في معظم أرجاء العالم العربي. والتوفيق الحالي بينها؛ أو تجاهل التناقض الصارخ بين اتجاهاتها هو سبيل أنظمة ( الوضع الرهن) الحاكمة في تحقيق قدر كبير من الوحدة القطرية. وهذا الحل يمثل حلا سياسيا، لذلك فهو مؤقت. ولا يمثل حلا ثقافيا يصلح على المدة البعيد في حل إشكالية الانقسام والصراع. وربما كان الحل الثقافي، بمنظور التفاؤل فقط، ما هو من مشاريع القرن الحادي والعشرين، وذلك إذا التقى الفكر الوحدوي العصري والواقع السياسي على أرضية والحدة من التجانس والتكامل في إطار مشروع شامل لإعادة البناء الثقافي وتعديل الأوضاع العلمية للنظم والمؤسسات الوظيفية القائمة عليه.
المحور الثاني: السياسة والثقافة/ نحو الخارج:
يستند الموقف إزاء (الآخر) على رؤية ثقافية، وهي تلون عادة المراقف السياسية. وقد طورت الحضارة الإسالمية تاريخياً قواعدها وإمكاناتها اقتصادياً وعسكرياً وثقافياً على أساس المواجهة مع (الآخر)، والتمدد على حسابه واستيعابه في إطارها ، وتوظيفها في اتجاهاتها. ومع انتقال مركز الثقل الحضاري إلى الغرب الأوربي ــ الأمريكي أخذ العالم الإسلامي يخضع لتأثير اتجاه معاكس لعملية التوسع والاستيعاب من قبل الحضارة الغربية. وفي البداية عندما نزلت الجحافل الاستعمارية على السواحل الإسلامية، كان تصور المسلمين للجغرافية السياسية والثقافةي لعالم القرن التاسع مشوشاً بالأوهام بحيث يمكن الخلط بين أبي جهل ونابليون، والاعتقاد بأن نابليون يمكن هزيمته بنفس الطريقة التي هزم بها أبو جهل. ولقد لعبت اللغة دوراً هاماً في هذا التمويه، إذا وضعنا الأوربيون في خانة (الكفار)، وتم اختزال خصائصهم الأخرى داخل هذه الكلمة، وكانت النتيجة مسلسل الهزائم الذي سبق ذكره. ويبدو أن الأمر قد تغير كثيراً خلال القرن العشرين. وبالرغم من النجاح المظهري للخطاب الواقعي العقلاني الذي يحاول أن يرى الأشياء كما هي في الواقع دون كبير أوهام، تاريخية أو غير تاريخية، فإن هناك استعداداً كببيراً لبعث الرؤية العصر/ أو سطية لعالم القرن العشرين وسط كل الشعوب العربية حالما تدق طبول الحرب وتظهر السيوف والخيول، حتى لو استبدلت بالطائرات والمدفعية.(/8)
من ناحية أخرى فقد لعب الفكر الإسلامي الدعائي في تصوير الغرب ، كل الغرب بمظهر الشيطان في أذهان كثير من الشباب. وتلعب هذه الصورة دوراً مزدوجاً يتمثل في الاعتقاد بأن الطرف العربي أو أيا كانت تسميته؛ هو صاحب الحق المطلق، وذلك يمنح كل أفعاله صفة الصحة المطلقة. وفي الاعتقاد أيضاً بحتمية تلقائية هزيمة الطرف الآخر، باعتبار حتمية هزيمة الشيطان. وحتى تكتمل صورة الشيطان فقد تم في الذهنية العربية المسلمة رد كل الأعداء إلى أصل واحد هو اليهودي ــ الشرير بحكم تكوينة، والملعون بنص القرآن. ولا تأتي معركة إلا وتذكر (بدر) و(أحد) .. الخ .. حسب الحال من نصر أو هزيمة. وقد أدت النتائج المؤلمة لنظام التفاعل هذا مع العدوان على العالم العربي إلى ردود أفعال متمردة خطيرة، فذكر مثلا في أعقاب الهزيمة الساحقة في يونية 1967في سوريا أن السبب الحقيقي خلف الهزيمة هو التراث الإسلامي، وعلى رأس ذلك القرآن. وظهرت كتابات مثل (نقد القكر الديني) لجلال صادق العظم[19]، وفي المقابل ظهر سيل من الكتابات المضادة مثل سلسلة (الغزو الفكري) التي أصدرهامحمد جلال كشك، الصحفي المصري. وقد اتجهت هذه الكتابات المضادة لتيار التنويريين المستغربين[20] نحو تكريس أسطورة اليهودي الشيطان، واستحضرت خيالات الحروب الصليبية. وعموماً فقد غمست الواقع في بحر من الصور والخيالات التاريخية. ولكن ذلك لم يؤد إلى زحف إسلامي مقدس ضد( الصليبية)، أو (الصهيونية)، إذا أن أنظمة ( الواقع الراهن) كانت تتجه بثبات نحو التصالح مع الدول الواقعية، حتى إسرائيل نفسها ما سلفت الإشارة. وقد خرجت (الدولة القطرية) في معركة الأفعال وردود الأفعال هذه أقوى مما كانت في صراعها مع التيارات الوحدوية والأصولية غير أن تيار( الدولة القطرية) الراسخ كان منقسما على نفسه في العالم العربي فهنال من يريد الاكتقاء بالإطار القطري دون أى اكنراث لأي مستقبل. بينما يحاول آخرون تحقيق انقلاب على واقع النظام الدولي عن طريق إقامة نموذج (الدولة العظمى)قطريا؛ ثم توسيعةإقليميا، كما حاول العراق ذات يوم والاتجاهات البرغماتية المحافظة الحاكمة في معظم العالم العربي لا تقول صراحة في مواجهة القوى التاريخية الراديكالية المعارضة لها أنها تريد أن تجتث أو تلغي الحلم التاريخي بهزيمة أعداء المسلمين التاريخيين، وإقامة دولى الإسلام أو العروبة العظمى على أنقاض إمبراطورياتهم. إنها تقول فقط إن أكثر ما يعنيها هو ما تحت قدميها، وإن سبيلها هو البناءالواقعي[21]، وهو طريق يعني الحفاظ على واقع التجزئة. وهذا الخط يقوم في الحقيقة على أساس تغلغل أيدلوجية الدولة القوميةـ القطرية وأسسها الفلسفية والعقائدية في النظام الثقافي العربي خلال القرن العشرين. ويبدو أن ما يسمى بالحركات الأصولية الإسلامية، منذ حركة " الأخوان المسلمين" المصرية في عشرينيات القرن العشرين وحتى اليوم، لم تستطع أن تلغي بصورة واضحة أساس هذه الأيدولوحية القومية القطرية. ويمكن القول كخلاصة هنا أن القرن العشرين اختلف عن التاسع عشر في العالم العربي بقدرة القيادات البرغماتية فيه على كبح جماح تيارات التفكير العصر أو سطي التي تؤمن بضرورة وإمكانية الاجتياح العسكري للعالم باستخدام الرايات الدينية ، ولكن دون أن تتمكن من استئصال هذه القكرة الشعبية. وتشهد نهايات القون العشرين تزايد قوة التيارات التي تعمل على الإحاطة بالدولة القطرية وفلسفتها البرغمايتة ـــ مع تفاوت كبير في طبيعة وعي ومرامي هذه التيارات ونجد كذلك أن نهاية القرن العشرين تعطي تناقضًا واضحاً تمثله ثنائية التعايش والرفض للقيم الإنسانية ــ العالمية التي تمثلها اليوم على الصعيدالثقافي منظمة الأمم المتحدة، وفي حقيقتها من صنع الحضارة الغربية.
المحور الثالث: الدين ـــ المعبد ــ الأصولية ــ الصوفية:(/9)
يمثل الحديث هنا انتقالا من معالجة الجانب السياسي للمسألة الثقافية إلى معالجة جانب آخر لا يمكن فصله في الواقع عن ذلك الجانب السياسي، وهو الدين ــ رغم استقلاله وتميزه ــ إن العناصر الدينية الفاعلة تتأثر بإعادة الصياغة والتوجيه والتلوين، مما تقوم به مؤسسات الدولة بأجهزتها الإعلامية والتربوية، وكذلك بما تقوم به غير الرسمية مثل الأحزاب السياسية وغيرها. وتعبير المعبد هنا يرمز للمؤسسة الكهنوتية في كل الأديان، ومن أشكالها المؤسسات الإسلامية التقليدية المعترف بها رسمياً وشعبياً كحارس وراعي ومفسرلكل ما يعتبر من صلب الوعي والتفكير والسلوك والممارسات الدينية. وتتكون هذه المؤسسات من عدد لا يمكن تحديده من الهيئات الرسمية وغيرالرسمية، بعضها يمثل مؤسسات الفتوى في كل قطر، وبعضها عبارة عن مساجد ومدارس دينية، وبعضها طرق صوفية ...الخ... وهي هيئات ذات جذور عصرـ أو سطية. وظهرت في العصر الحديث ــ في القرن العشرين ـــ الحركات التنظيمات الصوفية، مثل حركات " الأخوان المسلمين " بأشكالها المختلفة من قطر إلى آخر ، والتي تسمى أحياناً ( الحركة الحديثة ) . وبالرغم من ا لصراع والانقسام بين التيارات والحركات المختلفة التي تشكل المؤسسة الدينية ، وخضوع بعضها للدولة ، وتمرد البعض الآخر عليها، وسلفية بعضها، وعصرية البعض الآخر؛ إلا أنها جميعاً تستند على قاعدة فكرية ومصلحية مشتركة في تحدي إعدائها على نحو واحد، فهم أهل " الإلحاد والإباحة " باختلاف مسمياتهم.. وقد شهد القرن العشرون تطور هذه المؤسسة باتجاهاتها المختلفة، واستمرار دورها في الحفاظ على النظام الطبقي، أو الإبطاء بالتغير فيه ودورها في تشكيل نظم القيم . وقد ااستطاعت بتنويعها بسط نفوذها في كل من المستوى الشعبي والمستوى الصوفي ، وتمكنت من الحد من تأثير بهذا( الغزو) بوعي أو دون وعي[22] . وهي تتجه عموماً ببطء أو بسرعة نسبية نحو إعادة تفسير النصوص الدينية ، وإعادة صياغة القوانين الإسلامية ، وتطوير صياغات فكرية محدثة بخصوص المرأة، وحقوق الإنسان، مجتمع الرفاهية والعدل ، وذلك تحت تأثير قوي من تيار( الثقافة الإنسانية) التي تستمر في القرن الحادي والعشرين، وستتأثر بالمصير العام الذي ستؤل إأليه أمور الكل الذي اصطلحنا على تسمية ب( الثقافة الإسلامية) .
المحور الرابع / العدل والتوازن الاجتماعي ( حقوق الإنسان ، المساواة، الديمقراطية، العمل الإنساني ، العدل الاجتماعي الحب والسلام ، الصحة والتغذية.الخ)
يتعلق هذا المحور بناحيتين
القيم وتصويب الممارسة الوقعية . وتعكسه المفردات االمختارة كأمثلة هنا الضغوط الثقافية التي تمارسها الحضارةالغربية الممثلة للعصر على ثقافة الإسلامية باتجاه القرن الحادي والعشرين . قد وقعت كل الدول الإسلامية تقريباً على مواثيق حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة . واقتضت الحركة الإسلامية للقول بأن الإسلام هو المصدر لحقوق الإنسان ، وهي صيغة نفسية لقبول الفكرة الغربية الشكل على الأقل . وقد تفرغ من ذلك نمو اتجاهات العمل الإنساني تحت لافتات عامة وإسلامية مثل حقوق المرأة ، حقوق الطفل ، حقوق السجين ...الخ . أما موضوع التغذية والصحة فتعكس اشتراكا بين مفهوم حقوق الإنسان ومفهوم دولة الرفاهية ، وهي من فكرة دولة الخدمات التي تحولت فيها العلاقة بين الحاكم والمحكوم من شكل الراعي والرعية إلى شكل ممثل الشعب الحاكم والمواطن ، وذلك منذ الثورة الفرنسية في الغرب[23] .
والتغذية والصحة للجميع هو من أهم الاهتمامات المعلنة للدولة القومية وكثيراً ما يوضع الشعاركمقابل مضاد لشعار الحرب والمجد ، وفي ذلك تعبير عن " ايدلوجيا الإنسانية " التي تصل قمتها إعلان الانصياع الكامل لهيمنة شعارات الحب والسلام ، أما المساواة والديمقراطية فقد تأرجحت التيارات في العالم العربي الأسلامي بين المفاهيم الليبرلية والاشتراكية حولهما، وهي مفاهيم غربية المنشأ . وظهر كمعادل لذلك القول بالخصوصية الإسلامية أو الوطنية حول هذه المسائل . وخضعت كل هذه الشعارات لاعتبارات الصراع السياسي الداخلي ، أو الداخلي أو الخارجي وتسيست بذلك المفاهيم الإنسانية والاجتماعية بنفس القدر الذي وظفت فيه هذه المفاهيم السياسية الغربية بعرض هذه القيم على عالم الحضارة الإسلامية ، وفي نفس الوقت تشهد مزيداً من المرونة لقبول استيعاب هذه المفهيم في العالم العربي والإسلامي في جسم ( الثقافة الإسلامية) المتجددة باتجاه القرن الحادي والعشرون . وتصاحب هذه المرونة اتجاهات للمقاومة ، على أساس أن مرحلة التطور الخاصة بالمجتمع العربي لا تسمح بقدر كبير من الاستجابة الفعلية لقيم حقوق الإنسان ، الديمقراطية، المساواة، ...الخ .. وفقا لما تراه مفاهيم الحضارة الغربية.
المحور الخامس / المعرفة والإبداع ( مغزى الحياة، الوقت: العلوم، الفنون، التعليم، الإعلام ، الكتاب ، التنوير):(/10)
ما هي الغايات الأسمى للفعل الإنساني التي يجب أن تستغرق الوقت ، ووحدته الأساسية هي العلوم، الشهر ، السنة ، العقد الجيل ، القرن، ...الخ هذاسؤال مفتاحي في البحث عن فلسفة أية حضارة إنسانية . حول الإجابة عليه تبرز التناقضات المعاصرة في ( الثقافة الإسلامية) . وتتصارع هنا إجابات الليبرالي المتطرف، والعلماني القح، والإسلامي الأصولي، التقليدي العشائري والمحافظة أو الثوري .. الخ , ولكن رغم تنوع هذه الاتجاهات تغطي ثنائية المرجعية الإسلامية / الغربية ، التي تنطوي على تيارات شتى وجانب كبيرمن المفردات المذكورة يخضع لهيمنة الدولة وما تؤديه من مؤسسات لا تربط بها مباشرة ، وكذلك فإن هذه المفرادت توظف في إطار دولة ( الواقع الراهن ) لخدمة الاتجاه الاجتماعي والسياسي ، ويقصد والسياسي ، ويقصدبالتالي في التغيير ، غير أنه في نهاية المطاف العلوم الحديثة ، ويوظف لذلك التعليم والإعلان والكتاب؛ لكنه يحتفظ كثيراً حول نشر حول الفنون بأشكالها العديدة , من سمعية وبصرية ، تشكلية ــ دراميةـ موسيقي وغناء ــ أدب ، قصصي وشعري ، رقص ...الخ .. وذلك خطر الفنون ، الثقافية الغربية ، وهي مطية للتمرد الاجتماعي والسياسي الذي يتصدره متفردون رافضون لعقلية القطيع ، مثل الفانون . وبعض الأنظمة العربية الرايكالية حاولت خلال فترة محددة من الزمن توظيف الفنون لتحقيق هدف معلن هو ترقية الحياة الإنسانية ، وإخر غير معلن ، هو استخدامه كأداة للتحرير النفسي والاجتماعي ، وفض قيود المجتمع . غير أن ذلك الاتجاه تراجع هو والدولة الراديكالية في وجه القوى المحافطة اجتماعياوثقافيا.
إن ثورة الاتصالات عند نهاية هذا القرن ، لابد أن تحدث في القرن القادم تراجعات كبيرة في مواقف إعلام الدولة القطرية المحافظ ، في موقفه من الفنون ونزعها المتمرد على الواقع.
المحور السادس : التقنية والرفاهية( التقنين ــ المعلومات ـ الإنتاج ... ألخ ..)
ليس هنالك كبير اعتراض من الناحية النظرية على الاندفاع نحو نشر التنقية بأشكالها المختلفة ، وتوظيفها لزيادة الانتاج الاقتصادي ، وتحقيق مجتمع الرفاهية الذي يتطور من مستوى تحقيق حاجات المعيشة إلى مستوى الترف ونا فيه من تنعم ولهو .. الخ... ويبدأ التحفظ النظري على النقطة الأخيرة، فالثقافة السائدة لا تقبل اللهو والمتعة دون حدود. وأكثر من ذلك فهناك تيار قوي يرى توحيه التقنية والنجاح الاقتصادي نحو العسكرية والحرب، وذلك يعيدناإلىالدائرة السياسية الثقافية الأولى. وهذا من الناحية النظرية، أما من الناحية العلمية، فإن تحول المجتمع من مستوى تقنية العصور الوسطة وبداية العصرالحديث لا يتحقق بالرغبات أو حتى بالمحاولات التي لا تستوفي شروط التغيير[24]الثقافي والاجتماعي ــالذي يتمخض عنه مجتمع الصنيع ونظمه القيمية المتشابكة.أما مظاهر استجلاب المصنوعات والسلع[25] من أجهزة الكترونية وسيارات، وحتى مصانع مستوردة، وإنشاء للعمارات الحديثة، وانتشار لاستخدامات الطاقة الكهربائية وربما الذرية...الخ .. في إطار استمرار بنية المجتمع التقليدي بنظمه العشائرية وعقليته العصر أو سطية، فلا يعني شيئاً كثيرا طالما أن التقنية لا تنتج ذاتيا بواسطة آلية داخلية للمجتمع العربي. وهذا يعني أن قدرا من التحديث التقني الزائف يحدث في هذا المجتمع العربي، وهو يعكس بعض العلاقات التجارية، خاصة حقول النفط، الرابح الحقيقي فيها اقتصاديا وسياسيا هو الطرف الآخر الذي يضخ التقنية والمعلومات لهذا الجزء من (العالم الثالث) حسب رغبته وحساباته. وفي هذا الإطار تنشأ مثلا الجامعات في العالم العربي، ولا تكون جامعات بالمعنى الحقيقي في الغرب إلا من حيث المظهر، المباني، الأساتذة، الطلاب، الدروس، الدخول، الخروج.. الخ .. أما المعرفة المتقدمة فيتم إنتاجها في الغرب، ويتم تصديرها إلى هذه الجامعات؛ وهذا مجرد مثال . ربما كان هناك نوع من المبالغة في هذه الصور، غير أنها دون شك تنطوى على قدر كبير من الحقيقة. وليس من مؤشر واضح يدل على اتجاه للتغيير، غلى الأقل في بدايات القرن الحادي والعشرين في هذا الخصوص.
المحور السابع/ الديموغرافيا والعائلة (السكان، المرأة، الطفل، الجنس، التحضير):
يمثل هذا المحور أكثر المحاور قاعدية لقوة الاتصال بين الجانب البيولوجي والاجتماعي فيه، ولأنه يشكل الجانب الحياتي الذي تقوم عليه الظواهر الاجتماعية. وهو قوى التأثر بالجوانب الثقافية.وحوله تدور أقوى المعارك بين قيم الحضارتين الغربية والإسلامية. وهو صراع متصل بالمرامي السياسية، لأنه يتعلق مباشرة بمصادر القوة، باعتبار أن الثرةذوة البشرية هي من أهم مكوناتها.(/11)
والمسألة الديموغرافية هنا ليست فقط مسالة(كم) زيادة عدد السكان، ام إنقاصهم للتوازن مع الموارد؟ وإنما تتضمن نوع السكان، كم من المتعلمين؟ وما نوع ذلك التعليم ودرجته؟ كم فيهم من المرضى والأصحاء؟ وما هي درجات الأصحاء؟ كم منهم من الأطفال والشبان والشيوخ؟ وهل يؤدي تقسميهم إلى ذكور وإناث إلى تفرقة في الإعداد والفعالية الاقتصتادية والاجتماعية..الخ.
وقد أظهرت مؤتمرات السكان في بكين والقاهرة مدى الصراع والانقسام بين قيم وتوجهات الغرب والعالم الإسلامي. وفي الحقيقة نجد أن الصراع الذي يبرز في المؤتمرات العالمية الموسمية يعكس صراعاً يومياً في أجهزة ومؤسسات التخطيط الاجتماعي في كل من الأقطار العربية. وتعمل هنا منظمات الأمم المتحدة والتكنو قراط المتأثرون بالأفكار الغربية وغيرهم جنباً إلى جنب في تحقيق التوجهات الغربية، ولكن على أساس الحذر والتحفظ باعتبار أن ما يجري يتم بإذن ورقابة سلطة الدولة القطرية ذات النزعة المحافظة والتقليدية، ولا شك أن تطويرمفاهيم وقناعات حول التخطيط السكاني والأسري، ومواضيع لتربية الجنسية وتنظييم النسل .. الخ.. يتأثر بالتأرجح بين المحافظة والراديكالية في منظور الدولة القطرية. ومن المتوقع أن تخطو الأقطار العربية المختلفة بسرعات متفاوتة في اتجاه تطبيق القيم العالمية الحالية، الغربية المنشأ على واقع مجتمعاتها. وربما قاد التطبيق المتسرع أو المتعسف إل تنشيط النزعات المحافظة اجتماعياً، والتي تنحو سياسياُ منحى ثورياً. واقتران الثورية السياسية بالمحافظة الاجتماعية والسلفية هو من سمات التطور الاجتماعي السياسي في الأقطارالعربية حالياً. من ناحية آخرى من المتوقع أن يتصاعداتجاه التحضر وتقلص الأرياف في الأقطار العربية. وفي ظل المعادلات الحالية فإن هذا الاتجاه يؤدي إلى توسيع شريحة فقراء المدن، مما يؤدي إلى ضغوط تؤدي بدولها إلى المزيد من التفكك الأسري: وظهور نظام الأسرة وحيدة العائل ــ غالبا ما يكون الأم ــ جنباً إلى جنب مع الأشكال المعتادة من الأسرة خلال هذا القرن. وسيؤثر هذا التطور على تنشئة الأطقال، الذين سيكون حظهم من رعاية الأموين المباشرة والأسرة الممتدة أقل مما هو الحال بالنسبة لأطفال اليوم. ربما كانت سرعة هذه التطورات السلبية أكبر إذا بدأ نضوب النفط في القرن القادم وربما كانت سرعة هذه التطورات قد تخلق بدورها بعض التكيفات الناجحة، والتي من شأن بعضها تقوية النسيج الاجتماعي والإسهام في الإبطاء بتيارات التفكك[26] ـ عموما فمن المتوقع أن تؤدي التغييرات الكبيرة في شكل النظام الأسري التقليدي والخروج المتزايد للنساء للعمل إلى تغييرات في نظم القيم الاجتماعية؛ خاصة في المراكز الحضرية. وإزاء هذه التطورات، والتأثيرات المتصاعدة لتسرب القيم الغربية إل جسم الثقافة الإسلامية، فمن المتوقع أن يتطور المزيد من إعادة تفسير التراث الديني، وتقديم صيغات فكرية جديدة، وتشريعات مستحدثة تحقق المزيد من التوفيق بين الواقع الاجتماعي المتغير والنظم الثقافية القيمية التقليدية. ويمكننا الآن ملاحظة بعض البوادر في النصف الأخير من القرن العشرين في الاتجاه نحو تعديل قوانين الأحوال الشخصية بواسطة علماء الشريعة أنفسهم، لتسمح بالمزيد من المرونة في منح المرأة حق العمل والطلاق واختيار الزوج.
خاتمة/ المعطيات والتوجه المستقبلي:
تحدد الثقافة غايات الحركة الاجتماعية، وبالتالي قإن ما يتحقق بالفعل في المستقبل يكون جزئياً من نتائج تأثيرها وإيماءاتها، ويمكن أن يرد إليها النجاح أو القصور في تحقيق ما يهدف إلى تحقيقه المصلحون والقادة الاجتماعيون والسياسيون والاقتصاديون ..الخ.. ويمكن القول مثلاأن الذهنية الثقافية في العالم الغربي في القرن التاسع عشر كانت من بين أهم من ساهم في تحقيق واقع هذا العالم في القرن العشرين. وليس من المبالغة اتهام الناقدين لها بأنهاقد لعبت دوراً في قصور القوى الاجتماعية والسياسية في بلوغ ما كانت ترمي إليه من أهداف تنموية وتحريرية، ومن تقدم علمي وتحقيق للتماسك الاجتماعي والسياسي، وتوفير القوة اللازمة لتحقيق الأمن والانتصار في المعارك العسكرية مع القوى المناوئة للعالم العربي، وتحقيق واقع التسامي والعدالة مع المجموعات ذات الثقافات عير العربية الداخلة في التكوين الثقافي والسياسي لهذا العالم العربي.(/12)
وما ذكر هنا عن واقع القرن العشرين يمكن أن ينطبق على اتجاه التطور في القرن الحادي والعشرين . وإذا كان منظور التفاؤل ، إصلاحياً كان أم ثورياً ، يسعى ويِؤمن بإمكانية تحقيق عدد من الأجندة في المستقبل مثل إقامة قيم الخيروالجمال في الواقع وتحقيق الوحدة في إطار كل قطر وإيقاف الحروب الأهلية ، وأشكال الاجتماعي السياسي بين القوميات المختلفة داخل العالم العربي بين الوحدات الإقليمة الكبيرة ، مثل وادي النيل، المغرب العربي، الشام ، الخليج وشبه الجزيرة العربية ،وكذلك الوحدة بين هذه الأقاليم والأقطار الداخلية فيها، وإلى الأمن والحماية من عدوان الدول الكبرى وإسرائيل، وحتى بعض الدول الإسلامية إيران وتركياـ التي تهدد جاراتها العربيات، وتحقيق التقدم التقني والعلمي ، وتنيمة المعارف والفنون، والساهة في الإبداع الإنساني، ورفع المستوى المعيشي والصحي، وذيادة دخلهم وخلق الحياة الروحية والذهنية الراقية .. الخ .. غير أن منظور التشاؤم تسنده مؤشرات في واقع نهاية القرن العشرين، يمكن أن يرى وجود إحتمالات قوية لتحقيق العكس . المزيد من التجزئ والفقر والحروب الداخلية وازدياد قبضة القيم السلبية التعصب الديني والطائفي والعرقي، وأزدياد مساحات الحرمان والضياع، وتحقيق المزيد من النجاح للمشاريع الاستعمارية التي تهدف إلى السيطرة على الموارد والثروات والتجارة، وكذلك المزيد من النجاح للمشروع الصهيوني وترسيخه في فلسطين وتنامي سيطرتهم السياسية والاقتصادية في الأقطار العربية المختلفة. كذلك أن يؤدي زوال أنظمة( الواقع الراهن) المستقرة نسبياً إلى مزيد من الانفراط والانفلات السياسي والاجتماعي ــ وهكذا.
لا شك أن قدراً من رؤية المنظور المتفائل، بجانب قدر من رؤية المنظور المتشائم سوف يتحققان في القرن الحادي والعشرين، أما رجحان كفة هذا أم ذاك فتعتمد على شكل المتغيرات المختلفة التي تتطور الآن ومستقبلا، ومن أهمها توفير شرطي المعرفة والقدرة، وتتعلقان بالاهتداء إلى الطرق الصحيحة، وبوجود الإرادة لتحقيق الفعل الصائب. وفي هذا الإطار يمكن للمفكر العربي وللمخطط الاجتماعي والثقافي العربي أن يقودا خطي السياسي العربي لتقليص دائرة التشاؤم في واقع الغد، وتوسيع دائرة التفاؤل في ذلك الواقع. وهذا يقتضي تطوير دراسات المستقبل وربطها بآلية للتخطيط والتنفيذ الاجتماعي والسياسي. وذلك هو الطريق الوحيد لتعجيل الشروط الثقافية وتوجيهها على المدى البعيد في اتجاه المساهمة في تحقيق الأهداف الايجابية. ولا بد من الانتباه هنا إلى أن التغيير الثقافي الشامل غير ممكن، والممكن هو التأثير على اتجاه بعض المفردات الثقافية، واستخدام بعض المفردات الثقافية الايجابية الموجودة اليوم لحقيق أفضل شروط التقدم على الجبهات المختلفة ، ومثل هذا العمل يقتضي بداية أن يتم توسيع دائرة الاتفاق وسط النخبة الرائدة بتياراتها المختلفة حول المرامي والأهداف المختارة، لتتجه حركة المجتمعات نحوها، وعلى معايير التنوير، وبنفس القدر معايير الاظلام والظلامية. وعلى أساس مثل الاتفاق ــ الذي لن يكون إجماعاً أو حتى قريباً من الاجماع ــــ يمكن للجهد القومي الجماعي أن يعيد صياغة محتوى ووسائل التعليم والاعلام وغيرهما من أدوات التوجيه، وكل ذلك يتصل بصورة قوية بتفسير الإسلام كدين موجه، أهو دين أرضي التوجه؟ أم اخروي التوجه[27] . وفي الحالتين كيف يمكن أن يوظف لإعمار الارض دون أن نحاول تقويض اركانه كدين مستقل الوجود يتسامى على أغراض التوظيف. وهذا يقودنا إلى نقطة أخيرة نختم بها هذا التحليل، وهي ما هو الإسلام الذي تنسب إليه " الثقافة الإسلامية". ونقول إنها الثقافية المهيمنة على مجتمعات العالم العربي؟ هذا السؤال الذي يبدو للبعض أوليا، أو بسيطاً، أو أن الإجابة عليه من البديهيات، هو من أصعب الأسئلة، لأن الإجابة عليه تقتضي استخدام مرجعيات معقدة ومتصارعة، تمثلها المؤسسات الدينية والتيارات العلمانية وغيرها. كما أن الإجابة عليه تقتضي استخلاص الرسالة العامة من نص عميق ــ هو (القرآن الكريم) ــ . وهذه الصعوبة في تطوير فهم موحد لأهم المصطلحات هنا، وهو الإسلام، تمثل في الواقع مصدراً من أهم مصادر الدينامية الاجتماعية التي تخلقها الفكرة الإسلامية في محاولتها للتأثير على مسارات الحركة الاجتماعية، والتي يمثل هو جزئيا ــ واحداً من انعكاساتها المعقدة، وتمثل هذه الحركة الاجتماعية جزئية أيضاً ــ واحدة من تأثيرات هذا الفكر الذي يبدأ وينتهي بالقول المأثور أن :الإسلام هو دين التوحيد الذي يأمر بعبادة رب واحد منزه على الشبيه والمثال ( ليس كمثله شيء)[28] وهو الكمال المطلق، له تسع وتسعون اسماً، كلها صفات إلا اسم الجلالة، الله سبحانه وتعالى[29].
المصادر والمراجع: قائمةمختارة(/13)
1. أحمد الياس ـــ صلح عبد الله بن أبي السرح مع مملكة نوباتيا ــ مجلة حروف: عدد (38) ــ دار جامعة الخرطوم للنشر ــ 1991.
2. أحمد ثابت ــ العولمة والعرب ــ خيارات اقتصادية مرة بين التعميش والاقتصاد ــ مجلة الاجتهاد: عدد 38 ـــ شتاء 1998.
3. آرون ريمون ــ المجتمع الصناعي:ــ ترجمة فكتور باسيل ــمنشورات عويدات ــ بيروت باريس ــ 1983.
4. السيد وليد أباه ــ أزمة التنوير في المشروع الثقافي العربي المعاصر ــ مجلة المستقبل العربي: العدد 145ــ مارس 1991.
5. حسن الترابي ــ أولويات التيار الإسلامي لثلاثة عقود قادمات: نشر بيت المعرفة للإنتاج الثقافي ــ الخرطوم ــ 1991.
6. حسين مروة ــ النزاعات المادية في الفكر الإسلامي: بيروت (ج1 ــج2).
7. رمزي زكي ــ تناقضات حاكمة لمستقبل العولمة ــ مجلة الاجتهاد: عدد شتاء1998.
8. سمير أمين ــ شروط إنعاش التنمية ــ مجلة المستقبل العربي: عدد 191ــ يناير 1995.
9. عبد الله بلقزيز ــ مستقبل العمل الوطني في الووطن العربي في ضوء التحولات الدولية الجارية ــ مجلة المستقبل العربي ــ عدد 135 ــ مارس1991.
10. عبد اللطيف الحمد ــ رؤية مستقبلية للاقتصاد والمجتمع العربي ــ مجلة الاجتهاد: عدد 38ــ شتاء1998.
11. قيصر موسى الزين ــ الحركة التاريخية/المدينة والدين في أفريقيا الشمالية والشرقية (1945ــ 1990) ــ رسالة دكتورا غير منشورة ــ جامعة الخرطوم 1991.
12. كمال فريدتك ــ الإسلام والارتقاء الاجتماعي والتطور الاقتصادي ــ مجلة الاجتهادـ عدد 38ــ شتاء1998.
13. لتنويل رالف /الأصول الحضارية للشخصية ــ ترجمة د. عبد الرحمن اللبان ــ مؤسسة فرنكلين ــ بيروت 1964.
14. مالك بن نبي ــ شروط النهضة ــ الكويت.
15. محمد بريش ــ حاجتنا إلى علوم المستقبل ــ مجلة المستقبل العربي : العدد 144ــ فبراير1991.
16. محمد عمر بشيرـ التنوع والإقليمية ــ ترجمة سلوى مكاوي ــ بدون تاريخ .
17. مصطفى النشار ــ العقلية العربية بين الانتاج العلم واستيدار الثقافة ــ مجلة المستقبل العربي: العدد200ــ اكتوبر1995.
محمود حيدر ــ الأمم المتحدة بين زمنين ، من الحرب البادرة إلى الفوضي الباردة ــ مجلة الشاهد ــ عدد153ــ مايو199.
----------
[1] حول مفهوم الثقافة والجدل الأكاديمي والفكري حولها، يمكن مراجعة العديد من الكتابات، مثل: هارس، قيرتز، بينديكت، هول، بيكلي، قولدنيز، لنتون.
[2] انظر بروفيسور محمد بشير عمر ــ التنوع والإقليمية، ص1 وما بعدها.
[3] عن دراسات المستقبل، أهميتها وتطبيقها في الواقع العربي، يمكن مراجعة: عبد اللطيف الحمد(رؤية مستقبلية للقتصاد والمجتمع العربي).
[4] انظر: قيصر موسىالزين ــ الحركة التاريخية: المدينة والدين، رسالة دكتوراه غير منشورة ــ جامعة الخرطوم 1992م، وذلك حول مفهو م مستويات الحركة التاريخية واختلاف درجات سرعتها.
[5] انظر في المرجعpatal.
[6] المصدر السابق.
[7] يمكن الإشارة هناإلى كتاب مالك بن نبي ــ شروط النهضة كنموذج لفكرة بهذا الخصوص.
[8] راجع مثلا كتابات سلامة موسى وهو يمثل الاتجاه الليبرالي المتحرر، وردود الأفعال المعاكسة التي أثرها. ومن قبله كتابات لطفي السيد. ومن قبلهما الشيخ محمد عبده والأفغاني.
[9] التعارض هنا أساسا بين السلفيين والليبراليين والماركسيين العرب ، وهي تيارات تكاد تكون موجودة في كل قطر عربي.
[10] الإشارة هنا إلى الدول التي اعتبرت نفسها تقدمية وثورية في مصر وسوريا والعراق واليمن والجزائرفي حقبة الستينيات، وقد كانت إلى حد كبير دولا محافظة في سياساتها الاجتماعية والثقافية، وكانت بعض الدول المحافظة مثل تونس ــ برقيبة أكثر جرأة منها في سياسات التغيير الاجتماعي.
[11] سؤال الرجعية هنا يتصل بالمنطقات واختلافاتها بين الإسلامية بأشكالها المختلفة ــ والليبرالية والماركسية ..الخ..
[12] يكاد يكون التراث الإسلامي في كل قطر عربي ممتزجا بتراث محلي يتصل باستمرار عناصر ثقافية من تاريخ هذا القطر السابق للإسلام .
[13] عادة ما يتنكر اتجاه العصرية للتراث ، ولكن ذلك نسبي . فنجد أن العصرية تجد مثلا من سلفة بعض التيارات الإسلامية الأصولية.
[14] نلاحظ تطور تفسيرات مبتكرة للنصوص الإسلامية خاصة القرآنية ، منذ أيام الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا ، خاصة حول المسائل الاجتماعية.
[15] يمكن هنا الإشارة إلى الاختلاف بين مصر عبد الناصر ومصر بعد ذلك .
[16] تلعب التيارات الإسلامية النامية دور التيارات اليسارية خلال الستينيات فيما يتعلق بالتطرف السياسي في مخاصمة الدول الغربية، بخاصة الولايات المتحدة ، خاصة في حقبة الثمانينيات والتسعينيات .
[17] أهم المخاطر هنا تعميق الانقسام الداخلي في المجتمعات العربية حول توجهات هذه الحركات الإسلامية الأصولية ، مع إقحام بعض الدول العربية في معارك خاسرة بسبب عدم التكافؤ في القوة مع الغرب.(/14)
[18] لعبت المهدية مثلا في السودان دور الضحية في نهاية القرن التاسع عشر .ولعبت هذا الدور العراق في نهاية القرن العشرين .وغيرهما... الأمثلة كثيراً .
[19] .راجع مقالة أحمد إلياس عن اتفاقية البقط في مجلة حروف ــ عدد مزدوج 2ــ3، 1991( مجلة دار النشر بجامة الخرطوم) .
[20] يمكن الإشارة كذلك إلى الحملة الصحفية الواسعة في مصر في أعقاب هزيمة يونيو 1967، والتي كانت ترددمقولة ضرورة خلق مجتمع عصري لتجنب المزيد من الهزائم.
[21] يتجلى ذلك بوضوح منذ كامب ديفيد وزيارات السادات للقدس عام 1978، ليس في حالة مصر فقط ولكن في حالة دول أخرى مثل الأردن وسوريا وحركة فتح الفلسطينية.
[22] توجد ايضا حركات أخرى مهمة مثل الجماعات السلفية ، وجماعة الجهاد والتفكير.
[23] يمكن رصد التحولات الفكرية الكبيرة حول بعض القضايا الاجتماعية ، مثل المرأة والاجتهاد في حركات إسلاميةكالتيار الرئيسي ل( الأخوان المسلمين) في السودان وتونس . ويمكن مراجعة فكر الترابي والغنوشي.
[24] هذا لا يعني إسقاط ما طورته الحارة الإسلامية عن حقوق المحكومين وتجلى بصورة واضحة في فقه السياسة الشرعية وبعض الممارسات الحميدة للخلفاء.
[25] انظر مثلا سمير أمن، شروط إنعاش التنمية ــ مجلة المستقبل العربي ــ عدد 191يناير 1995.
[26] انظر مصطفى النشار ــ العقلية العربية بين إنتاج العلم واستيراد التقانة ــ مجلة المستقبل العربي ــ عدد200 ــ أكتوبر 1995 وكذلك آرون ــ المجتمع الصناعي.
[27] الإشارة هنا إلى نظرية ماكس فيبر في تصنيفه للأديان بين أخروية التوجه، مثل الهندوسية، ودنيوية التوجه مثل البروتستانية المسيحية. ويتهم عالدة التيار الوصفي بالدعوة للانسحاب من واقع الحياة الأرضية وقبول الظلم والبؤس إما على أساس فكرة التعويض في عالم ذهني بديل، أو على أساس التعويض الأخروي للمظلومين، ويمكن النظر إلى ذلك باعتبار اتهاماً تختلف حوله الآراء.
[28] القرآن الكريم ــ سورى الشورى ــ الآية 11.
[29] ومع ذلك فهناك من يعتقد بأن اسم الجلالة مشتق وليس جامدا، وفي رأيهم أنه من (الوله)، إلى الحب الشديد، وهو المعبود بحب.
* جامعة الخرطوم ــ معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية(/15)
الثقافة مفهوم ذاتي متجدد ...
د.نصر عارف ـ إسلام أون لاين ...
على الرغم من سيادة لفظ "ثقافة" كمرادف للفظ الإنجليزي "Culture"، إلا أن ذلك لا يمنع وجود اختلاف كبير في الدلالات الأصلية بين المفهومين، "الثقافة" في اللغة العربية من "ثقف" أي حذق وفهم وضبط ما يحويه وقام به، وكذلك تعني: فطن ذكي ثابت المعرفة بما يحتاج إليه، وتعني: تهذيب وتشذيب وتسوية من بعد اعوجاج، وفي القرآن: بمعنى أدركه وظفر به كما في قوله تعالى: " مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً" (الأحزاب:61).
ومن خلال هذه الدلالات يمكن تحديد أبعاد المفهوم:
1 - إن مفهوم "الثقافة" في اللغة العربية ينبع من الذات الإنسانية ولا يُغرس فيها من الخارج. ويعني ذلك أن الثقافة تتفق مع الفطرة، وأن ما يخالف الفطرة يجب تهذيبه، فالأمر ليس مرده أن يحمل الإنسان قيمًا- تنعت بالثقافة- بل مرده أن يتفق مضمون هذه القيم مع الفطرة البشرية.
2 - إن مفهوم "الثقافة" في اللغة العربية يعني البحث والتنقيب والظفر بمعاني الحق والخير والعدل، وكل القيم التي تُصلح الوجود الإنساني، ولا يدخل فيه تلك المعارف التي تفسد وجود الإنسان، وبالتالي ليست أي قيم وإنما القيم الفاضلة. أي أن من يحمل قيمًا لا تنتمي لجذور ثقافته الحقيقية فهذه ليست بثقافة وإنما استعمار وتماهٍ في قيم الآخر.
3 - أنه يركز في المعرفة على ما يحتاج الإنسان إليه طبقًا لظروف بيئته ومجتمعه، وليس على مطلق أنواع المعارف والعلوم، ويبرز الاختلاف الواضح بين مفهوم الثقافة في اللغة العربية ومفهوم "Culture" في اللغة الإنجليزية، حيث يربط المفهوم العربي الإنسان بالنمط المجتمعي المعاش، وليس بأي مقياس آخر يقيس الثقافات قياسًا على ثقافة معينة مثل المفهوم الإنجليزي القائم على الغرس والنقل.
وبذلك فإنه في حين أن الثقافة في الفكر العربي تتأسس على الذات والفطرة والقيم الإيجابية، فإنها في الوقت ذاته تحترم خصوصية ثقافات المجتمعات، وقد أثبت الإسلام ذلك حين فتح المسلمون بلادًا مختلفة فنشروا القيم الإسلامية المتسقة مع الفطرة واحترموا القيم الاجتماعية الإيجابية.
4 - أنها عملية متجددة دائمًا لا تنتهي أبدًا، وبذلك تنفي تحصيل مجتمع ما العلوم التي تجعله على قمة السلم الثقافي؛ فكل المجتمعات إذا استوفت مجموعة من القيم الإيجابية التي تحترم الإنسان والمجتمع، فهي ذات ثقافة تستحق الحفاظ عليها أيَّا كانت درجة تطورها في السلم الاقتصادي فلا يجب النظر للمجتمعات الزراعية نظرة دونية، وأن تُحترم ثقافتها وعاداتها. إن الثقافة يجب أن تنظر نظرة أفقية تركيبية وليست نظرة رأسية اختزالية؛ تقدم وفق المعيار الاقتصادي -وحده- مجتمع على آخر أو تجعل مجتمع ما نتيجة لتطوره المادي على رأس سلم الحضارة.
وقد أدت علمنة مفهوم الثقافة بنقل مضمون والمحتوى الغربي وفصله عن الجذر العربي والقرآني إلى تفريغ مفهوم الثقافة من الدين وفك الارتباط بينهما.
وفي الاستخدام الحديث صار المثقف هو الشخص الذي يمتلك المعارف الحديثة ويطالع أدب وفكر وفلسفة الآخر، ولا يجذر فكره بالضرورة في عقيدته الإسلامية إن لم يكن العكس تمامًا.
ووضع المثقف كرمز "تنويري" بالفهم الغربي في مواجهة الفقيه، ففي حين ينظر للأخير بأنه يرتبط بالماضي والتراث والنص المقدس، ينظر للأول - المثقف- بأنه هو الذي ينظر للمستقبل ويتابع متغيرات الواقع ويحمل رسالة النهضة، وبذلك تم توظيف المفهوم كأداة لتكريس الفكر العلماني بمفاهيم تبدوا إيجابية، ونعت الفكر الديني - ضمنًا- بالعكس.
وهو ما نراه واضحًا في استخدام كلمة الثقافة الشائع في المجال الفكري والأدبي في بلادنا العربية والإسلامية؛ وهو ما يتوافق مع نظرة علم الاجتماع وعلم الاجتماع الديني وعلم الأنثروبولوجيا إلى الدين باعتباره صناعة إنسانية وليس وحيا منزلاً، وأنه مع التطور الإنساني والتنوير سيتم تجاوز الدين..والخرافة!!
أما في المنظور الإسلامي فمثقف الأمة هو المُلمُّ بأصولها وتراثها. وعبر التاريخ حمل لواء الثقافة فقهاء الأمة وكان مثقفوها فقهاء.. وهو ما يستلزم تحرير المفهوم مما تم تلبيسه به من منظور يمكن فيه معاداة الدين أو على أقل تقدير النظر إليه بتوجس كي تعود الثقافة في الاستخدام قرينة التنوير الإسلامي الحقيقي، وليس تنوير الغرب المعادي للإله، والذي أعلن على لسان نيتشه موت الإله فأدى فيما بعد الحداثة إلى موت المطلق وتشيؤ الإنسان.
والله أعلم.
اتجاهات ترجمة المفهوم للعربية:
مع بداية الاتصال الفكري والمعرفي بين المجتمع العربي والمجتمعات الأوروبية انتقل مفهوم "Culture" إلى القاموس العربي واتخذت الترجمة اتجاهين:
أ - اتجاه ترجمة مفهوم "Culture" إلى اللفظ العربي "ثقافة":(/1)
فكان سلامة موسى -في مصر-أول من أفشى لفظ ثقافة مقابل "Culture"- وقد تأثر في ذلك بالمدرسة الألمانية في تعريف ربط الثقافة بالأمور الذهنية، حيث عرّف الثقافة بأنها هي المعارف والعلوم والآداب والفنون التي يتعلَّمها الناس ويتثقفون بها، وميَّز بين الثقافة "Culture" المتعلقة بالأمور الذهنية والحضارة "Civilization" التي تتعلق بالأمور المادية.
ولقد عرفت اللفظة العربية بنفس المضمون الأوروبي للمفهوم، مما شجع الدعوة إلى النقل والإحلال للقيم الغربية محل القيم العربية والإسلامية انطلاقًا من مسلمات الانتشار الثقافي والمثاقفة.
ب - اتجاه ترجمة "Culture" إلى اللفظ العربي "حضارة":
وهو اتجاه محدود برز في كتابات علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا العرب في ترجماتهم للمؤلفات الأوروبية في هذين الحقلين، وفي المقابل ترجموا لفظ "Civilization" باللفظ العربي "مدنية" ...(/2)
الثقة بالله تعالى وأثرها في العمل الإسلامي
يتناول الدرس مدى ثقة الدعاة بالله وتأثير ذلك على سلوكهم ومدى ثقة الصحابة بنبينا صلى الله عليه وسلم وكيف أثمرت هذه الثقة حتى دانت لهم كسرى وقيصر. ثم يتحدث عن مظاهر الثقة بالمؤسسة الدعوية مع تطبيقات عملية على الواقع ويختم بخلاصة تبين ثمار الثقة بالله إن أحسن الداعية المسلم الظن بالله .
مقدمة : يقول الله تعالى:} قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [53]{ [سورة الزمر] ويقول سبحانه:} يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ [8]{ [سورة التحريم] , وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ]رواه مسلم وأبوداود وابن ماجه وأحمد.. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ] رواه أحمد والدارمي. هذه الشواهد القرآنية والأحاديث النبوية تؤكد على حسن الثقة بالله، وعدم اليأس والقنوط من رحمته؛ فهو سبحانه يؤيد بنصره رسله وأتباعهم على مر العصور والدهور، فلنثق ولنطمئن إلى علو المسلم وهيمنته على أعدائه مادام مع الله، وقد عيّر الله قومًا فقال تعالى:} وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ ...[23] {[سورة فصلت]. فلا نظن بالله إلا خيرًا، وليكن ما عند الله أوثق مما في أيدينا من متاع زائل.
والمتتبع لهذا البحث يجد أنه مقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسة:
القسم الأول: يختص بالثقة بالله ومدى تأثيرها على سلوك الدعاة.
القسم الثاني: يختص بالثقة بأسوتنا: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ومدى ثقة صحابته به .. وكيف تمثلت هذه الثقة بسلوك واقعي أدان لها ملك كسرى وقيصر.
القسم الثالث: مظاهر الثقة بمؤسسة الدعوة الإسلامية مع تطبيقات عملية على واقع الدعوة والحياة وأهمية هذه الثقة التي تتوقف عليها استمرارية الدعوة إلى الله في إطار الدعوة.
ثم يُختم البحث بخلاصة تبين ثمار الثقة بالله إن أحسن الداعية المسلم الظن بالله.
مدخل:
إن الثقة بالله تعالى موقف ينشأ عما يقوم بنفس المؤمن من أن الله حق وما خلاه باطل، وأن هدى الله هو الهدى ليس بعده إلا الضلال، فإذا استقر هذا العلم بالنفس وصار ديدن المؤمن، واعتقادًا جازمًا حاسمًا بأن الله هو الناصر .. هو المؤيد بنصره من يشاء .. أورث المؤمن حالة من الثقة المطلقة بصحة الطريق الذي يسلكه مقبلاً على ربه وعاملاً في سبيله، وذلك يدعوه للإقدام بثبات نحو الغاية المنصوبة أمامه على صراطها المستقيم. وثقة المؤمن في الله وفي شرعه ثقة وطيدة لا تزعزها الشكوك، فهو إنما يوجه لأعلى ما يصبو إليه البشر، وأكمل ما يقصدون- لله الكبير المتعال- بينما ينحط أهل الشرك ويتخذون من دون الله آلهة ما هم إلا بعض خلقه، لا يماثلونه في شيء . والمؤمن إنما يجعل ولاءه لله الواحد القهار، الذي يصرف أسباب الحياة.. يجلب الخير ويكشف الضر .. والذي ينفرد بالملك يوم الدين لا عاصم من أمره ولا يملك أحدٌ معه شيئًا .. والمؤمن إذ يهتدي بهدى الله، ويتبع شريعته؛ يثق أنه على طريق سديد .. وهكذا يتم للمؤمن اليقين القاطع بأنه يأوي إلى ركن شديد، ويسير على طريق سديد، ويصح اعتماده على ربه:} فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ[79]{ “سورة النمل”
}فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ[159]إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[160]{ “سورة آل عمران” }قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[51]{“سورة التوبة”.
نقلة لطيفة: ننتقل بها لنتعرف على جانب آخر- وأقصد بذلك: الجانب 'الحركي'- من جوانب الثقة:بعد أن نظرنا إلى الثقة بمنظار إيماني تهفو إليه القلوب بأجنحتها، دعنا أخي الداعية نفتح ثغرة ننظر من خلالها إلى ماضينا الإسلامي التليد، ونتحسس أخبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك 'الجيل القرآني الفريد' ننظر إليهم بمنظار الثقة بالله .. وكيف حولوا ذلك المفهوم إلى 'حركة ' شهد لها التاريخ على مر العصور:(/1)
فهذا عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ لمّا سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لأَصْحَابِهِ يَومَ بَدْرٍ: [ قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ] قَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ قَالَ: [ نَعَمْ] قَالَ: بَخٍ بَخٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ] قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ: [ فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا” فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ: [ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ] رواه مسلم وأحمد.ما أحوجنا نحن الدعاة إلى صيحة عمير هذه .. نقتبس منها جذوة تنير طريق الدعاة المظلم؛ لترسم له معالم الطريق .. بالثقة بالله في كل حركة .. وفي كل سكنة، نعم هذه صيحة من الأعماق ..!! [هذه نماذج من ذلك الجيل السامق الذي تربى بالقرآن في حجر محمد صلى الله عليه وسلم في ظلال التوجيه الرباني الكريم:} قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ[195]إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ[196] {“سورة الأعراف”..
ثم ماذا كان بعد هذا الأذى الذي احتملوه من كيد المشركين، وهذا الاعتصام بالله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين؟ كانت الغلبة، والعزة، والتمكين لأولياء الله، وكانت الهزيمة، والهوان، والدثور للطواغيت الذين قتلوا الصالحين، وكانت التبعية ممن بقي منهم ممن شرح الله صدره للإسلام لهؤلاء السابقين الذين احتملوا الأذى بثقة في الله لا تزعزع، وبعزيمة في الله لا تلين..
إنّ صاحب الدعوة إلى الله في كل زمان وفي كل مكان لن يبلغ شيئًا إلا بمثل هذه الثقة، وإلا بمثل هذه العزيمة، وإلا بمثل ذلك اليقين .. ومهما أسفر الباطل من تعدٍ وأطلق على الدعاة تهديده، وبقى في وجه كلمة الحق الهادئة، وعربد في التعبير والتفكير .. ينبغي على الدعاة أن يمضوا في الطريق، وأن يحملوا الواجب الملقى على عاتقهم]”طريق الدعوة في ظلال القرآن”.
مصادر الثقة بالله:
1 - ضعف لا يتسرب إلى نفسك : [وهذا هو كتاب الله ينطق بيننا، محذرًا من أن يتسرب الضعف إلى نفوس الأتباع، فتحن قلوبهم إلى الاستسلام، لأن الله القدير مؤيدهم وناصرهم، وآخذ بأيديهم، وموهن كيد أعدائهم ...} وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[104]{ “سورة النساء”.ويقول تعالى:} فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ[35]{ “سورة محمد” .
ويبث القرآن الثقة في المجاهدين بأنفسهم معلنًا أن النصر بيد الله وحده، وأن القلة مع تأييد الله لابد من أن تغلب الكثرة مهما بلغت من قوة:}...كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[249]{“سورة البقرة” ويقول تعالى:} إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ[65]{ “سورة الأنفال”
ويقوي القرآن في نفوس المجاهدين الثقة بالنصر؛ لأنهم إنما يجاهدون في سبيل الحق وحده، ولأن وراء الحق قويًا ينصر أهل الحق، وهو يملك وحده جنود السموات والأرض:} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ[11]{ “سورة محمد”]” التربية في القرآن لمحمد عبد الله السمان” .
يقول سيد قطب-رحمة الله عليه- في 'الظلال' في تفسير هذه الآية: [ومن كان الله مولاه وناصره فحسبه، وفيه الكفاية والغناء، وكل ما قد يصيبه إنما هو ابتلاء وراءه الخير، لا تخليًا من الله عن ولايته له، ولا تخلفًا لوعد الله بنصر من يتولاهم من عباده، ومن لم يكن الله مولاه؛ فلا مولى له، ولو تجمعت له كل أسباب الحماية وكل أسباب القوة التي تجعله يعرفه الناس بها]”في ظلال القرآن”.(/2)
وهذا داعية آخر يخاطبنا بكلمات من نور لمّا أدرك تمام الإدراك الثقة بالله وبنصره لدعوته، وأن الله لن يخذل عصبة الإسلام .. ولن يترك لراية الخير أن تتناولها أيدي الطغاة .. كلمات الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله عندما قالإنها دعوة الله وليست دعوة أشخاص، وإن الله علّم المسلمين أن الدعوة ترتبط به ولا ترتبط بالدعاة إليها، وأن حظ الأشخاص منها من عمل بها أكرمه الله بعمله، ومن ترك العمل بها، فقد أبعد الخير عن نفسه، وما يضير الدعوة شيئًا]”العوائق، للراشد” .
2 - رجعة إلى الله والصلة به عز وجل : يقول أحد الدعاة: [ادعوا المسلمين خصوصًا .. ادعوهم إلى رجعة حقيقية-لا رجعة كلامية لفظية- إلى الله عز وجل .. ادعوهم إلى توثيق الصلة به، وصدق العبودية له، وربط القلب بالفكر .. إنكم يا شباب إذا رجعتم إلى الله هذه الرجعة الصادقة؛ كنتم الأعلون، وكنتم قدرًا من قدر الله الذي لا يرد .. إذا أردتم الآخرة؛ هانت عليكم الدنيا، فتحررتم من إسار الدنيا، وإذا عرفتم الله صغر عندكم من سواه وما سواه، بل ذاب في أعينكم، وفني في قلوبكم كل ما عداه، ولم يعد يستأهل الطلب والنصب إلا قربه ورضاه، وإذا استشعرتم رابطتكم بربكم وعونه لكم، وأيقنتم أنه معكم؛ رأيتم أنفسكم أقوى من كل قوى الشيطان والطغيان ..!! وهكذا يولد المسلم ولادة جديدة من عقيدته لا من رحم أمه، وينبعث بمعرفته بالله وحرارة إيمانه به .. ولقد أحسن جند الله المؤمنون المخلصون، الذين فرغوا من أنفسهم، ووهبوا حياتهم-كل حياتهم- لربهم، فلم يتحركوا، ولم يقفوا، ولم يعطوا، ولم يمنعوا، ولم يحبوا، ولم يبغضوا، ولم يحاربوا، ولم يسالموا إلا به وفيه ومن أجله عز وجل .. لقد أحسوا أنهم قدر من قدر الله الغلاّب لا تصده ولا ترده قوة في الأرض إلا أن يشاء الله ..]”أزمة روحية، عصام العطار”.
3 - مع الله في كل حال: [أن أكون مع الله في كل حال .. واثقًا به في قدرته على نصري إن أنا بذلت الأسباب. وإن لم أستطع جني الثمار فإنها ستنتظرني عند ربي .. غدًا في الملتقى] ..!!
أن أكون مع الله في سبحات الفكر .. أن أكون مع الله في لمحات البصر .. أرى بديع صنعه فأوقن بأن هناك خالقًا لهذا الخلق ومدبرًا لهذا الكون .. وأن أكون مع الله حال احتدام الخطر .. موقنًا بأن الله لا يخذل عند وقع الأذى وتصاعد الصراع، موقنًا بأن فوق عسر المحن يسرا ربانياً، يستجلبه بوحدة يحرص عليها مع إخوانه المؤمنين، يرغم الشيطان بها عند اختلاف الاجتهاد وتزييفات الانفراد .. أن أكون مع الله في حب أهل التقى، وكره من قد فجر .. فلذلك يكون في كل حال .. مع الله]”العوائق،للراشد”.
[.. وأن أكون متصلاً برباط وثيق مع الله متوكلاً عليه في جميع أموري متيقنًا بأن الله تعالى هو المنفرد بالخلق، والتدبير، والضرر والنفع، والمنع والعطاء، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله تعالى يكفي من يتوكل عليه، ويفوض الأمور إليه .. لا سيما من يتوكل عليه في أمور الدعوة إلى الله ونصره وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه، قال تعالى حكاية عن موسى وهارون:} قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى[45]قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى[46]{ “سورة طه”. وهذه المعية- معية النصر والتأييد- غير مقصورة على أنبيائه ورسله المتوكلين عليه في تبليغ رسالاته، وإنما هي شاملة لعباده المؤمنين المتقين-لاسيما الدعاة منهم إلى دينه-} إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[128]{ “سورة النحل”.
عدة الداعي:
إن للثقة بالله تعالى متطلبات وعدة .. ولابد للداعية من عدة قوية من 'الفهم الدقيق' و'الإيمان العميق' و'الاتصال الوثيق' بالله تعالى .. هذه هي مقومات عدة الداعي وأركانها، وإذا فقدها لم يغن عنها شيء آخر، وإذا ضعفت معانيها في نفسه فعليه أن يقويها.والاتصال الوثيق بالرب جل جلاله ضروري جدًا للداعي المسلم .. فبه تهون عليه الصعاب، وتخفف الآلام، وتنتزع من قلبه الخشية من الناس: }الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[173]{“سورة آل عمران” ويحس بعزة الإيمان؛ لأنه موصول بالقوي العزيز: }وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ[8]{“سورة المنافقون”. فلا يعظم في عينه باطل ولا مبطل؛ لأن الباطل وأهله من التافه الحقير، فلا يمكن أن يعظم في أعين المؤمنين.(/3)
فالداعية يثق في ميدان الدعوة، ويوقن إيقانًا عميقًا بأن ما معه هو الشيء الوحيد المثمر، وأن ما عداه لاثمر له؛ لأنه وَهْمٌ لا وجود له .. ولك أن توازن بين شعور زارع يبذر بذورًا سليمة، وآخر يبذر بذورًا عفنة وهو يدرك أنها عفنة .. بل لك أن توازن بين هذين:أحدهما يبذر بذورًا سليمة، والآخر ليس في يده شيء .. إلا أنه يقبض قبضته ثم يبسطها في الجو، لينشر على الأرض لا شيء ..!! محاكيًا فعل الرجل الأول .. فأي العملين حق، وأيهما باطل؟!
العوامل التي تقوي الثقة في الله :
1 - معرفة الله سبحانه وتعالى عن طريق الإيمان بأسمائه وصفاته الكاملة : فلها أثر كبير في نفس المسلم، حيث إنها تجعل إيمانه قويًا راسخًا؛ لأنه قد عرف خالقه حق المعرفة، وقد تبينت له صفاته من قوة ورحمة، وبطش وعفو، وجلال وقدرة، وعزة وكرامة، وأنه هو الأول ولا شيء قبله، والآخر ولا شيء بعده: }هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[3] {“سورة الحديد” وهو عليم وخبير بكل شيء.. هذه المعرفة وغيرها تجعل للمؤمن طمأنينة وراحة في النفس: } الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[28]{ “سورة الرعد” وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ]رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد.
والذي يؤمن بالله وبصفاته ويصدقها، لا يتسرب إليه اليأس ولا ينفطر في حال من الأحوال؛ فإنه يؤمن بالذي له خزائن السموات والأرض، فهذا الإيمان يفيض على قلبه طمأنينة غير عادية، ويملؤه سكينة وأملاً وثقة،ولو أهين في الدنيا وطرد عن كل باب من أبوابها، وضاقت عليه سبل العيش وانقطعت عنه الأسباب.
2- الإيمان بملائكة الله: أن نؤمن بوجود الملائكة، وأنهم يطيعون الله تعالى ولا يعصون له أمرًا، والله تعالى سخّرهم في ملكه، وهم يقومون بأوامره حق القيام، وقد أعطى الله الملائكة قوة وبطشًا؛ مسخرين للعمل لأوامر الله عز وجل، وأخبر الله عز وجل عنهم وعن شدتهم في نار جهنم:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[6]{ “سورة التحريم”. وهذه المعرفة بالملائكة تجعل للمؤمن ثقة بالله؛ حيث إن الله تعالى أخبر بأنه ينزل الملائكة لمساعدة عباده الصالحين: }إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا [12]{“سورة الأنفال”
كيف تكون واثقًا بالله ؟
هناك من يتساءل في شوق ولهفة: كيف أثق بالله ؟! وكيف أحصل على هذه الثقة؟ وما هو طريقها؟
ونجيب على هذا التساؤل بأن هناك طريقين يمكن الحصول بهما على الثقة بالله تعالى:
أولاً: الإيمان باليوم الآخر : إن عقيدة الإيمان باليوم الآخر- البعث والحساب- هي قضية كبرى، تقوم عليها العقيدة الإسلامية، ويقوم عليها كذلك التصور الكلي لمقتضيات هذه العقيدة الواضحة؛ فالمسلم مطالب بأن يؤمن بها، لأنه مكلف أن يقوم على الحق ليدفع الباطل، وأن يفيض بالخير ليقضي على الشر، فلابد إذن من عالم آخر يُبعث فيه الناس للحساب والجزاء..وكذلك إن هذا الإيمان بهذا اليوم نعمة .. يضفيها الإيمان على القلب، ويهبها الله تعالى للفرد الفاني الضعيف.
ومن آثار هذه النعمة: أنها تبعث الطمأنينة والثقة التامة بالله عز وجل، فنجد المؤمن الذي يشعر بهذه النعمة سباقًا إلى الجهاد، وبقدر ما تكون هذه النعمة واضحة ومتمكنة من القلب؛ بقدر ما تجد الإنسان مندفعًا إلى العمل والصلاح.. فنجده قد باع نفسه لله عز وجل.
وقد صور القرآن لنا هذه الثقة وهذا الإيمان واضحًا في قصص الرسل عليهم السلام: فنجدهم قد اتضح لهم مشهد الآخرة، فكأنهم يرون الجنة والنار، ويرون المجرمين يتهاوون في النار، ويرون الصالحين ينعمون بالجنة. كما قال موسى عليه السلام لأصحابه:} قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[62]{ “سورة الشعراء” فهو واثق بنصر الله عز وجل ووعده. ويتكرر هذا المشهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، في غزوة حنين قال: [ أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ]رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.(/4)
وصور لنا موقف الذين استقر الإيمان في قلوبهم: فاستعلوا على جميع الضغوط والتهديد والعذاب؛ لأنهم علموا ما هناك، نعم إنها قصة الاستعلاء الإيماني كما يصورها الله تعالى في القرآن الكريم:} قَالَ ءَامَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ[49]قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ[50]إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ[51] {“سورة الشعراء”. وقد كان قدوتنا من الأنبياء، والصحابة، والسلف الصالح عنوانًا لنا في ثقتنا بالله.
نماذج رائعة للثقة بالله:
1- ثقة الأنبياء بالله: أما ثقة الأنبياء بالله، فهي ثقة كبيرة، وتوجد قصص كثيرة لهم ومواقف تدل على ثقتهم الكبيرة بالله:
قصة إبراهيم عليه السلام:قال عزوجل:} قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ[68]قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ[69]{ “سورة الأنبياء” وسبب غضب المشركين هو محاجة إبراهيم لهم، وترى عند قراءة الآيات الذاكرة للحجيج التي أقامها عليهم مدى قوة النبي وثقته حين يجادلهم؛ يسفه أصنامهم، وكذلك يكسرها حتى لا يبقي إلا على كبيرها، وفوق ذلك يتهكم عليهم، فكل هذا يدل على الثقة الكبيرة القوية بالله؛ فنصره الله، وحوّل النار الحارقة إلى باردة.
قصة موسىعليه السلام: قال عزوجل: }فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ[60]فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ[61]قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[62]فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ[63]{ “سورة الشعراء”.وهذه الآيات تدل دلالة واضحة على هذه الثقة الكبيرة، فقد كان موسى عليه السلام ومن معه من بني إسرائيل في موقف صعب، فالبحر من أمامهم، وفرعون وجنوده من خلفهم، حتى إنّ الذين آمنوا مع موسى ظنوا أنهم هالكون ويئسوا من النجاة، ولكن ثقة موسى بربه في النجاة كانت أكبر من هذا الموقف، فطمأن من معه، ثم فلق البحر وعبر وأغرق الله فرعون وجنوده.
ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بربه: نوضحها بذكر قصتين من القصص العديدة للرسول عليه الصلاة والسلام، تدل دلالة قاطعة على هذه الثقة بالله:
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: [ بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالْأَمْسِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلَا جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَأَخَذَهُ فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَاسْتَضْحَكُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ فَجَاءَتْ وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: [ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ] ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمْ الضِّحْكُ وَخَافُوا دَعْوَتَهُ ثُمَّ قَالَ: [ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ] وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ ]رواه البخاري ومسلم والنسائي-مختصرا- وأحمد.(/5)
أما القصة الثانية: فهي عند ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لعله يجد من يسمع لدعوته بعد أن آذاه أهل مكة، فلم يجد في أهل الطائف ما كان يأمل، بل ردوه ، وأغلظوا له الجواب ومكث عشرة أيام يتردد على منازلهم دون جدوى. ورغم ذلك فقد كانت ثقته بالله أكبر من هذا، وبقي يدعوهم إلى أن طردوه من الطائف، ووقفوا له صفين يرمونه بالحجارة، وزيد بن حارثة يحاول أن يرد عنه الحجارة، حتى شجوا رأسه وأدموا أقدامه إلى أن ألجؤوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة،فجاءه ملك الجبال وقال له: [ أَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ] فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا]رواه البخاري ومسلم . فبعد كل هذه المتاعب، والإيذاء الذي أصابه من أهل مكة وأهل ثقيف يدعو الله عز وجل أن يخرج من أصلابهم من يوحّد الله، فهل بعد هذه الثقة ثقة؟! وهو ثابت على الحق.. ثابت على دعوته لا يلين ولا ييأس؛ لأنه يثق ثقة كاملة بأن نصر الله آت، وأن إظهار الله لهذا الدين لابد منه ولو بعد حين، فأيد الله رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، وأظهر هذا الدين الإسلامي الحنيف.
2 - ثقة الصحابة بالله وبرسوله : أما بالنسبة لثقة الصحابة بربهم وبرسوله عليه الصلاة والسلام، فتتمثل فيما رواه الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ: [ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ قَالَ وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنْ الخَنْدَقِ لَا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ عَوْفٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ:- وَضَعَ ثَوْبَهُ ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ [بِسْمِ اللَّهِ] فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ وَقَالَ: [ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا ]ثُمَّ قَال:َ [بِسْمِ اللَّهِ وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا ]ثُمَّ قَالَ: [بِسْمِ اللَّهِ] وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَال:َ [اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا ] رواه أحمد. نرى في هذه القصة، وقد كان الصحابة يحفرون الخندق وقد كان الجو باردًا، والطعام قليلاً، وكذلك الماء، وكان يعلم الصحابة ما سيقبل عليهم من الحصار الشديد الذي سيلازمهم، ورغم ذلك لم يصدهم عن الحفر أي سبب من هذه الأسباب، وعندما عرضت لهم هذه الصخرة، وكسرها الرسول صلى الله عليه وسلم كان الرسول يبشرهم بمغانم كثيرة، وبقصور الشام الحمر، وقصر المدائن بفارس، وبأبواب صنعاء في اليمن، ما هذه الثقة العظيمة؟ ثقة الصحابة بقول الرسول عليه الصلاة والسلام وبربهم، لو كان بينهم من هو ضعيف الإيمان لقال: أيبشرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الغنائم التي تحتاج منا إلى الخروج إليها، ونحن مقبلون على حرب مع قريش وعرب الجزيرة العربية، وقد لا يبقى منا أحد؟! ولكن هؤلاء الصحابة الذين رباهم الرسول عليه الصلاة والسلام وعلمهم معنى الثقة بالله، والذين عندما بشرهم بذلك زاد من حماسهم في الحفر، وأذهب عنهم التعب، والجوع والعطش حتى نصرهم الله على عدوهم بدون قتال، كما قال تعالى: } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا[9] {“سورة الأحزاب”.
نقول في ختام هذا الفصل: [إن صاحب الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان لن يبلغ شيئًا إلا بمثل هذه الثقة، وإلا بمثل هذه العزيمة وإلا بمثل هذا اليقين:} إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ[196]{ “سورة الأعراف” ومهما أسفر الباطل عن غشمه وأطلق على الدعاة تهديده، وبغى في وجه كلمة الحق الهادئة، وعربد.. ينبغي على الدعاة أن يمضوا في الطريق وأن يحملوا الواجب الملقى على عاتقهم]”طريق الدعوة في ظلال القرآن”.(/6)
3 - ثقة السلف بالله : أريد أن أروي في هذا الفصل قصة إحدى النساء الصالحات ألا وهي زوجة أبي الأنبياء ـ إبراهيم عليه السلام ـ السيدة هاجر ـ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: [ أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لَتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَتْ إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا ثُمَّ رَجَعَتْ...]رواه البخاري وأحمد.
من هذا نرى مدى إيمان وثقة وتوكل هذه المرأة على الله، وأن الله لن يضيعها، فلم يضيعها الله كما وثقت، وكفى بهذه القصة دليلاً على هذه الثقة، يقول تعالى على لسان نبينا إبراهيم عليه السلام:}رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ[37]{ “سورة إبراهيم” .
ثانيًا: الثقة بالرسول صلى الله عليه وسلم : على الداعية أن يثق برسوله الأمين .. موقنًا بأن دعوته هي دعوة الحق التي جاء بها إلى البشرية؛ ليخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الرحمن، ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة .. على الداعية أن يثق بأسوته، ويجعله نبراسًا يهتدي به في دياجير الليالي، يقول فيه أحد المفكرين الإسلاميين المبرزين: [إذا كان هناك إنسان استوعب جوانب دعوته كل الاستيعاب ووثق بها وبمصيرها كل الثقة، وعرف مضمونها كل المعرفة، وعرف بداياتها ونهاياتها، وأولها وآخرها، ومقدمتها ونتائجها، ولم يتزحزح عن جزء منها، بل الخطوة الثانية تأتي مكملة للخطوة الأولى وممهدة للخطوة التالية، فذلك هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول عليه السلام كان واضحًا تمامًا لديه أن منطلق دعوته هو أن الحكم الحقيقي لا يجوز أن يكون لغير الله، وأن خضوع البشر لغير سلطان الله وحاكميته شرك، وأن التغيير السياسي الأساسي الذي ينبغي أن يتم في العالم هو نقل البشر من خضوع بعضهم لحاكمية بعض، إلى خضوع الكل لله الواحد القهار، وأن الأمة التي تحمل هذه القضية بكل متطلباتها، هي التي سيكون بيدها مفاتيح الحياة البشرية، ولها قياداتها، ومن هذه البداية وانسجامًا معها يقوم كل شيء في حياة البشرية ثانيًا، وحياة الأمة التي تحمله أولاً، ولننظر وضوح هذه الجوانب عنده صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر ونهايته]”الرسول ج1، سعيد حوى”.
مواقف الثقة بالرسول صلى الله عليه وسلم :
[.. وفي جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ـ في غار حراء ـ تطمينًا لقلبه، فَقَالَ : [ مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا]رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد. مثل من أمثلة الصدق في الثقة بالله، والاطمئنان إلى نصره والاتكال عليه عند الشدائد، وهو دليل واضح على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته بالنبوة، فهو في أشد المآزق حرجًا ومع ذلك تبدو عليه أمارات الاطمئنان؛ لأن الله بعثه هدى ورحمة للناس، ولن يتخلى عنه في تلك الساعات .. وذلك هو قمة الثقة التي كان يتمتع بها رسولنا الأسوة فهل ترى مثل هذا الاطمئنان والثقة بالله يصدر عن مدعي النبوة؟]”السيرة دروس وعبر، لمصطفى السباعي”(/7)
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: [مَرَّ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ خَبَّابٌ وَصُهَيْبٌ وَبِلَالٌ وَعَمَّارٌ فَقَالُوا:يَا مُحَمَّدُ أَرَضِيتَ بِهَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمِكَ؟ أَفَنَحْنُ نَكُونُ تَبَعًا لِهَؤُلاءِ؟ أَهَؤُلاءِ الَذِينَ مَنَّ الله عَلَيْهِمْ؟ اطْرُدْهُمْ عَنْكَ فَلَعَلَكَ إِنْ طَرَدتَهُمْ اتَبَعْنَاكَ، قال: فَنَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ: } وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ[51]وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ[52] {“سورة الأنعام”]رواه أحمد- مختصرا- والطبري، وأصله في مسلم.
في يوم العقبة حيث تم اللقاء بين الرسول صلى الله عليه وسلم والوفد الثاني للأنصار، كان من أمرهم كما قال العباس بن عبادة: [يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم! قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس. فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه؟ فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف].
وهذه مبايعة أخرى من صحابي امتلأ قلبه ثقة برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ حيث قَالَ له: [نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ ]رواه أحمد .
وهذه مبايعة أخرى:' فَقُلْنَا- أي الْأَنْصَار- يَا رَسُولَ اللَّهِ نُبَايِعُكَ قَالَ: [ تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَنْ تَقُولُوا فِي اللَّهِ لَا تَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمْ الْجَنَّةُ] فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَهُوَ مِنْ أَصْغَرِهِمْ فَقَالَ رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ فَإِنَّا لَمْ نَضْرِبْ أَكْبَادَ الْإِبِلِ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ وَأَنَّ تَعَضَّكُمْ السُّيُوفُ فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ جَبِينَةً فَبَيِّنُوا ذَلِكَ فَهُوَ عُذْرٌ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ قَالُوا أَمِطْ عَنَّا يَا أَسْعَدُ فَوَاللَّهِ لَا نَدَعُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ أَبَدًا وَلَا نَسْلُبُهَا أَبَدًا قَالَ فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ فَأَخَذَ عَلَيْنَا وَشَرَطَ وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ ] رواه أحمد، وقال الحافظ ابن حجر:بإسناد حسن.
[من هذه النصوص يشعر الإنسان بمقدار الثقة التي كانت تملأ قلوب هذا الرعيل الأول مع معرفتهم بما سيترتب على هذه البيعة من آثار مخيفة] “الرسول ج1، سعيد حوى”.
ثمار الثقة بالله:
يقول المولى القدير:} وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ...[6]{ “سورة العنكبوت”.إن ثمار الثقة بالله تعالى كثيرة لا تحصى لأن الله يجازي المحسن إحسانًا، ومن هذه الثمار:
الثمار الدنيوية :
الرضا بقضاء الله تعالى وقدره: كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ]رواه مسلم والدارمي وأحمد. فهو يعيش قرير العين، راضيًا بقضاء الله العادل؛ لأن الله يحفظه ويعينه.(/8)
اطمئنان النفس وسكينتها بتعرفها على خالقها وهدايته لها: فهو مطمئن النفس؛ لأنه يعرف كيف جاء، وإلى أين يصير؟ وما هو دوره في هذه الحياة: فهو يعيش لهدف:} وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[56]{ “سورة الذاريات”. وهو يقوم بهذا الدور وهو سيعود إلى ربه، فيجازيه على ما قدم :} كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [185]{ “سورة آل عمران” }ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[8]{ “سورة الجمعة”
عدم الندم على ما فات من الدنيا: فهو يعلم أن ما عند الله خير وأبقى، وأنه مهما قدم من عمل صالح؛ فهو سيجده في ميزانه، ولا يظلم ربك أحدًا:} فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ[7]{ “سورة الزلزلة” وهناك ثمار أخرى كثيرة.
أما الثمار الأخروية : وهي الثمار الحقيقية، ألا وهي جنات النعيم، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. واسمع إلى قول الله تعالى يبين جزاء من وثق بوعده ونصره:} وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[169]فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[170]{ “سورة آل عمران”.
الخاتمة:
أخي المسلم نذكرك في الختام أنه علينا أن نحسن الظن بالله تعالى، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : [ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ]رواه أحمد والدارمي.فهذه الثقة بالله تعالى تذهب اليأس والقنوط، وتثبت أقدامنا على الطريق الصحيح، وتدفعنا نحو الغاية .
تمت
من سلسلة رسائل فتيان الدعوة :'الثقة بالله تعالى وأثرها في العمل الإسلامي' بإشراف: الشيخ/ جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين.. الشيخ/ أحمد بن عبد العزيز القطان.(/9)
الثقة والاطمئنان بالله.. من أين تنبع؟
* محمد مهدي الآصفي
ليس من شك أن القيم التي يؤمن بها الانسان في حياته، والتي تتحول أحياناً إلى رسالة في حياة الانسان يضحي في سبيلها.. تلهم الانسان كثيراً من العزم والقوة والتضحية، كما أن الإيمان بالله يلهم الانسان هذا العزم والقوة.
وتنبع هذه العزيمة والقوة من نفس الانسان، حيث يتحول هذا الإيمان والعقيدة إلى اتجاه وهدف وقوة في كلتا الحالتين:
لكن الفرق بين الحالة الأولى والحالة الثانية، أي الإيمان بالقيم والإيمان بالله، أن الانسان في الحالة الاولى يتعامل مع أصنام من المفاهيم الميتة لا تملك حولاً ولا قوة، ولا يؤمن الانسان في هذه الحالة أنها تمده بقوة أو سلطان، ولا يثق بأمداده وتعزيزه، خلال المعترك الطويل الذي يخوضه في سبيل العقيدة.
بينما يعتقد الانسان المؤمن بالله أنه يعبد إلهاً، حياً، قديراً، قوياً، رحيماً، لا حد لقدرته وقوته وسلطانه ورحمته، ويثق بامداده وتعزيزه للمؤمنين به خلال معترك الحياة، ويؤمن خلال أزمات المعركة ومتاعب الحياة أنه مرتبط بمعين لا ينضب من الرحمة وقوة وسلطان لا يقهر.
وهذا الشعور يخلق لدى الانسان المؤمن كثيراً من الثقة والاطمئنان، ويسنده ويربط على قلبه حتى في أحرج الأوقات وأشدها، ويوحي إليه أن من ورائه دعماً وتأييداً إلهياً قوياً، لا يقاومه العدو.
وهذا الشعور، في حد نفسه، من أهم مقومات النصر، كما أن فقدان هذا الشعور يعتبر من أهم أسباب التخاذل والهزيمة.
ولا يختلف الأمر في ساحات الحياة ومعترك الحياة الكبير عن ساحات الحرب والقتال. فلكي يقاوم الانسان عوامل الفشل وأسباب الهزيمة النفسية في خضم مسائل الحياة.. لابد أن يتمتع بقدرٍ كبيرٍ من الثقة والإيمان بالمدد الغيبي.
وفي غير هذه الحالة يعود الانسان في كثير من الأحيان مهزوماً أمام مشاكل الحياة ومتاعبها الكثيرة، عندما يجد أن عدّته المادية لا تكفي لمواجهة هذه المشاكل.
وليس من العسير علينا أن نجد في التاريخ رجالاً أشداء معروفين بقوة الشخصية وبالاعتداد بالنفس التجأوا إلى الانتحار حينما وجدوا أن امكاناتهم المادية قاصرة عن مواجهة تحديات المعركة.
ولا نريد بالطبع أن نقول هنا أن التوكل على الله والاعتماد على المدد الغيبي يكفي لكسب المعركة في ميادين الوغى والحياة، دون أن يعد الانسان المؤمن للمعركة عدتها اللازمة والتخطيط الكافي لمواجهة تحديات المعركة. فليس من شك أن الاعتماد على المدد الغيبي فقط دون الإعداد لخوض المعركة لا يكفي لإحراز النصر.
ولكن الذي يهمنا في هذا الصدد أن الإيمان بهذا المدد الغيبي والثقة بالله يمد الانسان في ساحات المعركة بكثير من القوة والعزم والصلابة، التي تعتبر من دون ريب، من أهم العوامل النفسية لإحراز النصر، إلى جانب العوامل المادية الأخرى لخوض المعركة والخروج منها بالنصر.(/1)
الثناء المنضبط وسيلة تربوية
نشعر كثيراً في تربيتنا وتوجيهنا أننا نحتاج لبيان الأخطاء والانتقاد، وربما اللوم والعتاب، وقد يتطور الأمر للعقوبة، وكل ذلك –حين يكون في إطاره الطبيعي- ليس مجالاً للنقاش.
ومنشأ الإشكال إنما هو في اتساع مساحة الانتقاد واللوم على حساب غيره، فالنفس تحتاج للثناء والتشجيع، وتحتاج للشعور بالنجاح والإنجاز كما أنها تحتاج للنقد والتسديد، لكن ما يأخذه النقد واللوم من واقعنا أكثر بكثير مما يأخذه الجانب الآخر.
ومن يتأمل هدي النبي صلى الله عليه و سلم يجد أنه يثني على أصحابه في مواقف عدة ومنها، قوله صلى الله عليه و سلم لأشج عبد القيس :»إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة«([1])، وقوله لأبي هريرة –رضي الله عنه- :»لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث…« ([2]). وقال أيضاً :»كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة« ([3]). وقال لابن مسعود –رضي الله عنه- :»إنك غلام معلم« .([4]) ومن نظر في أبواب المناقب رأى الكثير في ذلك.
إن الثناء يُشعِر الشخص بالرضا والإنجاز، ويزيد من ثقته بنفسه، والمربون اليوم أحوج مايكونون إلى غرس الثقة بالنفس والشعور بالقدرة على الإنجاز في ظل جيل يعاني من الإحباط، وتسبق هواجس الفشل تفكيره في أي خطوة يخطوها، أو مشروع يقدمه.
في حين أن النقد واللوم يسهم في تكريس الشعور بالفشل والإحباط ونموه في النفس، ويضيفه صاحبه إلى تجاربه الفاشلة.
والثناء وسيلة غير مباشرة لإثارة تطلع الآخرين وحماستهم للتأسي بالمثنى عليه والاقتداء به، وإبرازه مثلاً حياً مشاهداً أمامهم، لذا فحين قدم طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم محتاجين للنفقة، ودعا النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه لذلك، فتصدق رجل بصُرَّة كادت يده أن تعجز عنها، فتتابع الناس بعد ذلك، حينها قال صلى الله عليه و سلم :” من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء«([5]).
وحتى يؤدي الثناء دوره دون إفراط فلابد من الاعتدال، فالمبالغة فيه تفقده قيمته، وتشعر من يسمعه بأنه ثناء غير صادق ولاجادّ.
وهو مذموم حين يوجه لمن لايستحقه، أو لمن يخشى عليه العجب والغرور، بل يستحق من يطلقه حينئذ أن يحثى التراب في وجهه، كما قال صلى الله عليه و سلم :» إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب« ([6]).ولهذا امتنع صلى الله عليه و سلم عن بيان بعض منزلة قريش، فعن عائشة –رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل عليها فقال:» لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله عز وجل«([7]).
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه مسلم (18)
([2]) رواه البخاري (99)
([3]) رواه مسلم (1807)
([4]) رواه أحمد (3587)
([5]) رواه مسلم (1017)
([6]) رواه مسلم (3002)
([7]) رواه أحمد (24721)(/1)
...
الثوابت الأساسية في الإسلام
رئيسي :المنهج :
يتناول الدرس الأصول أو الثوابت التي بني عليها الإسلام موضحا أدلة هذه الثوابت وأهميتها من القرآن والسنة وأقوال العلماء وموضحا الواجبات التي تتفرع عن هذه الأصول ويبين موقف المسلم منها. ثم يذكر عقب كل أصل الفرق التي خالفت هذا الأصل ومدى ونوعية المخالفة لهذا الأصل حتى يحذر منها المسلم والداعية إلى الله.
الأصل الأول : القرآن الكريم : القرآن الكريم كتاب الله المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم آخر رسل الله إلى أهل الأرض، وهو الذي تحدى الله به العرب البلغاء أن يأتوا بسورة من مثل سوره، فعجزوا، وكان ذلك من أكبر الأدلة على أنه من عند الله، وليس من عند البشر؛ لأن البشر لا يعجز بعضهم أن يأتي بما يأتي به بعضهم، فما من شاعر إلا وعورض بمثله وأشعر منه، ولا من خطيب إلا وجاء من هو أخطب منه، ولا عالم إلا قد جاء من يفوقه. وكذلك الشأن في كل ما يحسنه البشر يستحيل أن يأتي أحد منهم بما يعجز البشر كلهم في كل عصورهم، قال الله تعالى متحدياً المكذبين برسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم :
} وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[23]فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ[24]{ 'سورة البقرة' .
?وهذا الكتاب الكريم مع بيان الرسول صلى الله عليه وسلم هما مصدرا التشريع، قال الله تعالى:} وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[89]{ 'سورة النحل' وقال فيه أيضاً:} حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[3]{ 'سورة المائدة' .
?وهذا الكتاب الكريم أنزله الله موضحاً ومبيناً به السبيل إليه، فهو بصيرة وفرقان، يفرق بين الشرك والتوحيد، والحق والباطل، وما أحله الله وما حرّمه، وما يرضاه الله وما يسخطه، وفرق الله به أيضاً بين أوليائه وأعدائه، وأوضح سبيل كل فريق منهم، وقد جعله الله ميسراً سهلاً للتذكر والاعتبار والتعلم، فقال سبحانه وتعالى:} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ[17]{ 'سورة القمر'.
وقال تعالى:} كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ[29]{ 'سورة ص' .
وقال تعالى:} أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[24]{ 'سورة محمد'. وقال:} أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا[82]{ 'سورة النساء' .
?وقد حذر الله سبحانه وتعالى من الإعراض عنه، قال تعالى:} كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ ءَاتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا[99]مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا[100]خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا[101]{ 'سورة طه' وقال تعالى في شأن إعراض المنافقين عنه:}وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا[61]{ 'سورة النساء' .(/1)
?وقد أمر الله نبيه الكريم أن يحكم كتاب الله في الصغير والكبير، قال تعالى:} وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ[48]وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ[49]{ 'سورة المائدة'
ولما كان القرآن الكريم بهذه المثابة والمنزلة؛ فإن الله سبحانه وتعالى أتم نعمته على أمة الإسلام بأن كفل له الحفظ والرفعة والمجد، فلا تناله يد بتحريف، أو تبديل، أو نقص، أو زيادة، قال تعالى:} إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[9]{ 'سورة الحجر' . وقال:} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ[41]لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[42]{ 'سورة الحجر' .
فهو كتاب ممتنع على التغيير والتبديل... وفي الحديث الصحيح:'...وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ...' رواه مسلم وأحمد. فلو اجتمعت بحار الأرض على محو القرآن من الأرض لما حصل ذلك، ولو اجتمع كل جبابرة الأرض وكفارها وفجارها على أن يبدلوا القرآن ما استطاعوا ذلك.
وهذه القضية أعني حفظ القرآن وبقاءه، وأنه مصدر الحكم والتشريع؛ هي قضية الإسلام الأولى والكبرى.
الأصل الثاني: السنة النبوية:
سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي: ما أُثِر ونقل من أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وصفته صلى الله عليه وسلم. وما نقل إليناً نقلاً صحيحاً منها يجب علينا تصديقه واعتقاده، والعمل به؛ لأن القرآن أمرنا بذلك، وقد تواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وجوب العمل بسنته، قال تعالى:} وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[7] {'سورة الحشر'. وقال تعالى:} فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[65] {'سورة النساء'. وقال تعالى:} مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ[80] {'سورة النساء' . وقال تعالى:} فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[63] {'سورة النور' .. والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً.
?والسنة- في جانب منها- تفسير وبيان لكتاب الله تعالى، كما قال جل وعلا:} وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[44] {'سورة النحل' . وقال تعالى:} إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ[17]فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ[18]ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ[19] {'سورة القيامة' أي: إن الله سبحانه وتعالى تكفل أن يجمع القرآن في صدر الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينسى منه إلا ما شاء الله أن ينسيه:} سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى[6]إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ...[7] { 'سورة الأعلى' ثم إن على الله أن يبينه لرسوله صلى الله عليه وسلم ليعمل به، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن للناس كما أمره الله سبحانه وتعالى، وقد أثنى الله عليه فقال:} وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى[3]إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[4] {'سورة النجم' .
فالسنة في نهاية الأمر عائدة إلى الله؛ لأنه سبحانه هو الذي أوحى بها لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأرشده إلى ما قال، وهداه فيما فعل:} إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ[105] {'سورة النساء' .
?وكل أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم هي في مجال التأسي والقدوة؛ فإن خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، فجميع ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في طعامه وشرابه ولباسه، ونومه وقيامه، وصحبته، ومعاشرته، وطرائق حياته ومعيشته، كل ذلك كان على أتم الهدى وأسمى ما يتأدب به المتأدبون، ويفعله الحكماء العالمون.(/2)
والخلاصة أنه ليس شيءٌ من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج عن التأسي والاقتداء حتى في أموره الجبلية الحياتية. وأما في أعماله التشريعية، فإنه يجب الأخذ بسنته؛ لأنها تشريع من الله سبحانه وتعالى.
المخالفون لهذا الأصل: الطاعنون في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم: شهد تاريخ الإسلام كثيراً من الفرق الضالة، والعقائد الباطلة، ممن ردوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها، أو بعضها تحت دعاوٍ كثيرة، وشبهٍ متباينة:
فمنهم : الخوارج: الذين قالوا بكفر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجنده، وقالوا: بأن علياً رضي الله عنه كان مسلماً قبل قتال الخوارج بالنهروان، ثم كفر بعد قتالهم، وكفروا الحَكَمَيْنِ وسائر المسلمين بعد ذلك، وبنوا على تكفير الصحابة بعد الفتنة؛ ردَّ روايتهم، وردّوا رواية جميع من وكل على السلاطين من بني أمية وغيرهم.
ومنهم : المعتزلة والمتكلمون: الذين ردوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي سموها بالآحاد، وقالوا: لا نقبل إلا بالمتواتر، الذي يستحيل تواطؤ من رووه على الكذب.
ومنهم: بعض المنافقين الذين اتبعوا المستشرقين من أعداء الإسلام: الذين شككوا في ثبوت سنة النبي صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً.
ومنهم: من رد السنة الثابتة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دعاوى: أنها لا توافق العقل، أو أنها كانت لجيل غير جيلنا، ولعصر غير عصرنا، ومنهم من يقول: يجب أن نأخذ روح السنة وأهدافها الثابتة دون أحكامها التفصيلية العملية.
? ولا شك : أن كل من رد سنة ثابتة للرسول صلى الله عليه وسلم راغباً عنها فقد كفر بذلك، لقيام الأدلة القطعية على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم مخالفة أمره.
? ولا شك أيضاً: أن الله سبحانه وتعالى يستحيل أن يتعبد الناس بشيء لم يبلغهم.
? ولا شك أيضاً: أنه لو ضاعت السنة؛ لضاع القرآن؛ لأن السنة شارحته ومبينته، إذ كيف يمكن التحقق من أعداد الصلوات، وأعداد الركعات، وهيئة الصلاة، ونصاب الزكاة، والأموال التي تجب فيها، وكذلك كثير من أحكام الصوم والحج لولا السنة.
ولو كان الصحابة الذين رووا السنة مطعونين، لكان القرآن كذلك مشكوكاً فيه؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم هم الذين دونوه وحفظوه، وجمعوه في مصحف واحد بعد رسول الله، ونشروه في الأرض، ونقلوه لمن بعدهم، فلو كانوا غير مؤتمنين؛ لكان القرآن مكذوباً، ولذلك أجمع المسلمون أن جرح الصحابة جرح للدين، وهدم عدالة الصحابة هدم للقرآن والسنة معاً، وليس للسنة وحدها.
ولذلك قال الإمام أبو زرعة: 'إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاعلم أنه زنديق، وذلك: أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة' 'الإصابة لابن حجر 1/18' .
?ولا شك أيضاً: أن رد بعض السنة إذا كان صحيحاً ثابتاً حسب ضوابط النقل التي أجمع عليها أهل الإسلام فيما سموه مصطلح الحديث وعلموه وهو قبول نقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه إذا خلا من الشذوذ والعلة؛ ردها بزعم أنها تخالف العقل أو ردها بالهوى.. لا شك أن رد بعض السنة الثابتة بذلك هو هدم للسنة كلها؛ لأنه هدم للأصول التي على أساسها تعرف السنة الصحيحة الثابتة مما افتراه أهل الكذب، ونسبوه إلى رسول صلى الله عليه وسلم، أو مما غلط فيه بعض الرواة .
والعقل لا يمكن أن يكون مقياساً للقبول والرد، لأن ما يراه زيد من الناس معقولاً قد يراه غيره أنه غير معقول إلا في الأمور الحسية القطعية. ولا توجد سنة صحيحة ثابتة حسب أصول النقل تخالف شيئاً من المعقول المقطوع به، ولذلك كان الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لضاعت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضياعها يعني ضياع القرآن كذلك، وضياع الدين كله.
والحمد لله الذي حفظ لنا كتابه وسنة رسوله الكريم التي هي الحكمة كما قال تعالى:} هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[2]{ 'سورة الجمعة'. وقال تعالى لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم:} وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا[34]{ 'سورة الأحزاب'. فآيات الله هي: القرآن. والحكمة هي: سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ويستحيل أن تضيع الحكمة التي امتن الله بها على عباده المؤمنين، قال تعالى:} لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[164]{ 'سورة آل عمران'.(/3)
أَفَتَرَى الله سبحانه وتعالى يتكفل بحفظ القرآن، فيقول جل وعلا:} إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[9]{ 'سورة الحجر' . ولا يحفظ الحكمة التي هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يبين به القرآن ويشرحه ويفسره، وما هو تطبيقه وتأويله؟! إن هذا مستحيل.
? ولا شك أن الناظر في علم الإسناد، وكيف وضع علماء السنة ضوابط النقد للرجال، وكيف تتبعوهم وأحصوهم، وكيف ضبطوا هذا العلم ضبطاً فائقاً، وكيف أن الله سبحانه وتعالى قد هيأ له جهابذة من الرجال كانت لهم ملكات عظمية في الحفظ والملاحظة والدقة مع الدين والتقى مما مكنهم من تمييز ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما حاول الزنادقة والملحدون، وأهل الأهواء أن يدخلوه على الإسلام مما هو ليس منه في شيء.. وهذه معجزة من معجزات هذا الدين... فكما حفظ الله القرآن الكريم بأسباب عظيمة توافرت وتضافرت على حفظه من أن يتطرق إليه أدنى خلل، حفظ الله كذلك سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا رد مجمل على كل من الفرق التي شككت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولسنا في مقام الرد على كل شبهة من شبهاتهم الكثيرة، فإن هذا مكانه المطولات.
? وأما الذين ردوا بعض السنة الثابتة حسب مصطلحات أهل الحديث تحت دعوى أنها تخالف معقولهم، فإننا نقول لهم: إن ما تزعمونه من مخالفة عقولكم، يخالفكم فيه غيركم ممن يرون أن هذا يوافق العقل الصحيح، فأي العقول يعتمد عليه، ويقدم على الآخر؟! ولو ظن مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بما يخالف العقل الصحيح لكفر. ولا شك أن هدم قواعد الإسناد التي وضعها أهل الحديث لتمييز السنة الصحيحة من الضعيفة هدم للسنة كلها.
?وأما من قال بأن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتفسيره للقرآن كان مناسباً لجيل الصحابة، وأنه غير معقول لأجيالنا، فهو كافر بالله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى:} وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا[64]{ 'سورة مريم' والقرآن والسنة حجة الله على الناس ما بقيت الدنيا:
}وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ[19]{ 'سورة الأنعام' فكل من تبلغه النذارة في شرق الأرض وغربها، وفي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد حياته؛ فقد أقيمت عليه الحجة، وإقامة الحجة بهذا القرآن المنزل، وبالسنة التي هي وحي كذلك من الله.
?وقد سلم الله سبحانه وتعالى أهل السنة والجماعة من الانحراف عن هذا الأصل العظيم، وهو الأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عملاً واعتقاداً، كما قال سبحانه وتعالى:} إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا...[51]{ 'سورة النور'.
فهم سامعون، مذعنون لحكم الله، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، ومطبقون لقوله تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[59]{ 'سورة النساء'.
فالرد إلى الله هو: الرد إلى كتابه، والرد إلى رسول الله: هو الرد إلى سنته. فلو كانت سنته قد ضاعت؛ لما كان للرد إليها من معنى، ولو كان بعضها قد ضاع؛ لذهب الكثير مما يجب التحاكم والرد إليه. فالحمد لله الذي حفظ لنا كتابه الكريم، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجزى الله خيراً أعلام الإسلام، وعلماء الحديث على جهودهم المباركة في حفظ سنة رسول صلى الله عليه وسلم وتدوينها.
الأصل الثالث: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
اختار الله لصحبة نبيه الخاتم، والإيمان به خير أصحاب الأنبياء ديناً وجهاداً، وعلماً وتقوى، فكانوا أنصاره والمجاهدين في سبيل الله، قدموا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، وأذلَّ الله بهم دول الكفر كلها في سنوات قليلة، ومكن لهم في الأرض، ونشر بهم الإسلام في عامة المعمورة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وتحولت شعوب كثيرة إلى الإسلام في زمن قياسي، ولم يحدث هذا لنبي قبل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى:} هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ[62]وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[63]{ 'سورة الأنفال'.
وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على إيمانهم وجهادهم وإحسانهم في آيات كثيرة من كتابه، منها:(/4)
قوله تعالى:} ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ[285]{ 'سورة البقرة'. فشهد لهم بالإيمان مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال:} مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[29] {'سورة الفتح'. وهذه الآية من أعظم المدح والشهادة لهم بالإيمان وإخلاص الدين لله، وأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، وأنهم أهل طاعة وصلاة، وأنهم ممدوحون بذلك في التوراة والإنجيل، وأن أوائلهم هم بذرة الدين، ونبتة الإسلام التي كبرت وتفرعت حتى أصبحت شجرة الإسلام قوية باسقةً تستعصي على الرياح:} يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ {.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:} لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا[18]وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا[19]{ 'سورة الفتح'. وهذه الآية نزلت في غزوة الحديبية، وكان الصحابة فيها ألفاً وأربعمائة رجل.
وقال تعالى:} لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[117]{ 'سورة التوبة'. وهذه الآية نزلت في غزوة تبوك وكانوا ثلاثين ألفاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونزل على الرسول وهو في حجة الوداع في أعظم حشد تجمع له، وكانوا أكثر من مائة ألف قول الله تبارك وتعالى:} الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[3]{ 'سورة المائدة'. فهؤلاء الأصحاب الأطهار الأبرار سادة هذه الأمة وعنوان مجدها، وسر خلودها، ونموذجها الفريد في الإيمان والجهاد والعمل الصالح، وهم أسوة الأمة وقدوتها، ومنبعها الذي لا ينضب من المُثُل والعطاء والخير.. ولكل منهم من المناقب والفضل والسابقة ما هو محل القدوة والأسوة، ففيهم الذي انفق ماله كله في سبيل الله، وفيهم الذي قتل أباه في الله، وفيهم الذي آثر ضيفه على نفسه، وأهله وعياله، حتى عجب الرب من صنيعه من فوق سبع سمواته، وفيهم الأبطال الصناديد فرسان الحروب، وفيهم رهبان الليل، فرسان النهار، وكلهم قد تحمل في سبيل الله ما لم تتحمله الجبال، وكلهم كان يفتدي الرسول بأبويه ونفسه وماله، وقد عظموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبوه كما لم يُعظَّم عظيم قط أو يحب، ولم ينصر أتباع رسول رسولهم كما نصر أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم محمداً صلى الله عليه وسلم.. ومناقبهم وفضائلهم أكثر من أن تحصر.
موقف المؤمن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
ومن أجل هذا الفضل والإيمان والإحسان الذي كان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ أوجب الله على كل مسلم يأتي بعدهم:
أن يعترف بفضلهم وأن يدعو الله لهم بالمغفرة:} وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[10]{ 'سورة الحشر'.
وأن يحبهم ويواليهم:} إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ[55]وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ[56]{ 'سورة المائدة'.
وأن يعترف أنه لم يصبح مسلماً إلا بفضل جهادهم وفتوحهم:و' لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ' رواه أبوداود والترمذي وأحمد .(/5)
وأن يأتسي بهم في جهادهم وصبرهم: كما أرشدنا الله إلى ذلك حيث قال سبحانه في بيان صبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وصبرهم في غزوة الخندق:} لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[21]وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا[22]مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[23]{ 'سورة الأحزاب'.
وفي هذه الآيات رفع الله من شأن نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصادقين، وأبان الصورة العظيمة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة العصيبة من الصبر والإيمان والتوكل، وثبت مع رسول الله: أهل الإيمان واليقين، الذين وصفهم الله بقوله:} مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ...[23]{ 'سورة الأحزاب'. وقد عاهدوه على نصر رسوله، والموت في سبيله. وما ذكر الله لنا هذا إلا ليكون هؤلاء الأصحاب الأطهار الأقوياء في الدين قدوة لنا وأسوة، وأن نحبهم ونجلهم، ونثني على جهادهم وصبرهم.
الصحابة أسوة في العلم كما هم أسوة في الجهاد: ولا شك أنهم كانوا في العلم واليقين والفهم الصحيح للدين كما كانوا في الجهاد والبذل.. فكما أثنى الله على جهادهم وصبرهم، أثنى على إيمانهم وإحسانهم وعبادتهم، ولا غرو فقد كانوا هم الفوج الأول الذي تلقى التعليم والتربية من فم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت القدوة المثلى، والمثل الكامل ماثلاً أمامهم ليس بينهم واسطة. فهذا رسول الله الإنسان الكامل، والقدوة المثلى أمامهم، يتلو عليهم الكتاب ويبينه لهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ويربيهم بالأسوة والموعظة الحسنة، ولفت النظر، والهجر والزجر أحياناً، ولا يقر أحداً منهم على باطل، ويختار فريقاً منهم فيوجب عليهم ما ليس واجباً على العامة؛ ليحوزوا قَصَبَ السَّبْق، ويكونوا مثلاً لمن وراءهم كما أخذ على بعضهم ألا يسأل الناس شيئاً فكان إذا وقع السوط منه وهو على بعيره لا يسأل أحداً أن يناوله إياه، وكل ذلك ليخرج منهم جيلاً يكون مثلاً لكل الأجيال في العلم والعمل والجهاد والصبر.
وبث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما يحتاجونه من علم كما قَالَ أَبُو ذَرٍّ:' لَقَدْ تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَتَقَلَّبُ فِي السَّمَاءِ طَائِرٌ إِلَّا ذَكَّرَنَا مِنْهُ عِلْمًا' رواه أحمد .
ومن أجل ذلك كله كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الجيل المثالي الذي يجب أن تحتذيه كل أجيال الأمة في الإيمانوالجهاد، والعمل والعلم، وأن يقدم تفسيرهم للكتاب والسنة على كل تفسير، وأن كل ما جاء مخالفاً لما قالوه فليس من الهدى والدين، فما لم يعرفه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين فلا شك أنه ليس ديناً.
ولا شك أن أفضلهم بإطلاق هو أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وفضلهم كترتيبهم في الخلافة.
الأصل الرابع: الموالاة بين المسلم والمسلم:
فكل مسلم أخ لكل مسلم تجب عليه موالاته، ولا يجوز له أن يعتدي على دمه، أو ماله، أو عرضه.
وهذا الأصل دلت عليه مئات النصوص من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، منها:
قوله تعالى:} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ...[10]{ 'سورة الحجرات'. وأكثر الآيات في سورة الحجرات.
وقوله تعالى:} وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ...[103]{ 'سورة آل عمران'. وما تلى ذلك من الآيات من سورة آل عمران.
وقوله تعالى:} إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ[55]وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ[56]{ 'سورة المائدة'.
وأما الحديث فكثيرة جداً، فمنها:
قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: '...فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا...' رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة والدارمي وأحمد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: 'لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ' رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وأحمد .(/6)
ومنها: تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتل من نطق بالشهادتين ولو كان ظاهر حاله لا يدل على صدقه، كما عَنَّفَ النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد لما قتل رجلاً كان قد قتل عدة رجال من المسلمين فاتبعه أسامة فَلَمَّا رَفَعَ عَلَيْهِ السَّيْفَ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَتَلَهُ أُسَامَةُ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ' قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا فَقَالَ:' أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ' ' فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ' قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي قَالَ:' وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ' فَجَعَلَ لَا يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ:' كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ' رواه البخاري ومسلم- وبعضهم يزيد على بعض وينقص في روايته- . والنصوص في حرمة المسلم على أخيه المسلم كثيرة جداً.
ومنها:إيجاب مجموعة من المعروف يجب على المسلم أن يقدمها لأخيه المسلم دون أخذ أجر على ذلك بل من حق المسلم على أخيه المسلم كرد السلام وإلقائه، وتشميت العاطس وعيادة المريض، واتباع الجنازة، وإجابة الدعوة، وإبرار المقسم، وكذلك التطوع بالشهادة دون أن يأخذ على ذلك أجراً.
هذا مع وجوب نصره ظالماً برده عن الظلم، ومظلوماً في السعي لرفع الظلم عنه. كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا' رواه البخاري والترمذي وأحمد .
ومن فروع هذا الأصل- أعني أخوة المسلم لأخيه المسلم- : تحريم كل ما يدعو إلى فرقة بين المسلمين، ويفرق جماعتهم، ويمزق صفوفهم. فقد جاء الإسلام بتحريم كل عصبية، ولو كانت لاسم شريف، وفئة كريمة، كما أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من دعا إلى تعصب الأنصار ضد المهاجرين، والمهاجرين ضد الأنصار فقال:' مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ...دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ' رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد .
فكل العصبيات في الدين مذمومة سواء كانت لفئة أو قبيلة، أو جماعة، أو وطن، أو إقليم، أو عالم، وقد ذم علماء الإسلام من تعصب لمذهب من المذاهب الفقهية؛ لأن هذا يؤدي- وقد أدى- إلى فرقة بين المسلمين، حتى إنه أدى أحياناً إلى الفرقة في الصلاة، فكان بعضهم لا يصلي الجماعة خلف المخالف في المذهب، وكذلك في الزواج، والقضاء والمدارس، حتى جاء وقت كانت المذاهب الفقهية المدونة كأنها شرائع مستقلة. فكل عصبية تؤدي إلى فرقة في الدين فهي مذمومة.
والواجب على أهل الإسلام جميعاً: التمسك بأصل الموالاة في الدين، وترك كل خلاف يؤدي إلى الفرقة بين المسلم والمسلم. ففي الخلاف الديني يجب الرد إلى كلام الله، وكلام رسوله، واتباع أهل العلم الذين هم أولو الأمر، والتمسك بجماعة أهل الإسلام، وإجماعهم، وعدم إخراج المسلم من الإسلام بمعصية لا تبلغ الكفر ولا تبدعه ولا تكفره، وأن يوالى كل مسلم يشهد ألا إله إلا الله ولا يعاديه 'إلا' بقدر معصيته، ولا يعاقب 'إلا' بقدر بدعته مع موالاته في أصل الدين، وإبقائه في جماعة المسلمين، وإعطائه ما للمسلم من حق في حرمة دمه وماله وعرضه، ووجوب نصره، ومحبته، وموالاته.
المخالفون في أصل الولاء:
الخوارج : الذين خرجوا على المسلمين بالسيف، واستحلوا دماءهم وأموالهم بالمعصية، واعتقدوا خلود المسلم الموحد في النار إذا ارتكب كبيرة من الكبائر، وهؤلاء شر الفرق.
أهل التأويل والتعطيل الباطل: الذين اخترعوا منهجاً في أسماء الله وصفاته يقوم على نفي وتحريف كل ما وصف الله به مما زعموا أن إثباته يوجب المماثلة لخلقه، وقد قالوا بكفر من لم يعتقد معتقدهم، وينزه الله حسب زعمهم وتأويلهم.
المتنطعون المتشددون الجراحون : الذين أخرجوا المسلم من الإسلام بمجرد أن يقع في خطأ بتأويل أو اجتهاد، والذين يتتبعون سقطات العلماء، ولا يغفرون زلة، ولا يعذرون جاهلاً ولا ناسياً، ولا متأولاً، ويأخذون المسلم بلازم قوله.
المجتمعون على عصبية : يوالون عليها ويعادون عليها أيا كانت هذه العصبية من مذهب فقهي، أو جماعة دعوية، أو هوية سياسية، أو دولة إقليمية.
كل صاحب هوى وبدعة : ينصر هواه، ويوالي من يوافقه في بدعته، ويحارب من يخالفه، ولا يرجع في خلافه إلى كلام الله ورسوله.
المختلفون بسبب هذه الدنيا الفانية: ويوالون عليها ويعادون عليها، ويقتلون في سبيلها، فيقطعون الأرحام، ويهدمون أخوة الإسلام، ويسفكون الدم الحرام، ويفرقون أمة الإسلام، وكل ذلك بسبب هذا الحطام!!!
الأصل الخامس: البراءة من الكفار:(/7)
أرسل الله سبحانه وتعالى رسله إلى أهل الأرض مبشرين ومنذرين، وشاء الله سبحانه وتعالى أن ينقسم الناس إزاء دعوة رسله إلى مؤمن وكافر. وأن يظل هذا الخلاف ما بقيت الدنيا.
ومن أجل سنة الله هذه في خلقه وعباده، فإنه أرسل الرسل مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم بالنار، وداعين إلى الله يبينون الطريق والصراط إليه، وأمر الله الرسل وأتباعهم أن يجاهدوا الكفار بأنفسهم وأموالهم وألسنتهم. وأن يوالي أهل الإيمان بعضهم بعضاً، وأن يعادي أهل الإيمان أهل الكفران، فلا يحبوهم، ولايركنوا إليهم، حتى ولو كان المؤمن وحيداً في هذه الأرض كما ضرب الله لأتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مثلاً بإبراهيم عليه السلام ولم يكن مؤمن في الأرض غيره وزوجه سارة، ولم يؤمن به غير لوط ابن أخيه، قال تعالى:} قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ...[4]{ 'سورة الممتحنة'.
ولذلك أوجب الله على أهل الإسلام مفارقة ما عليه آباؤهم وأهلهم من الكفر، ومعاداتهم في الدين،
قال تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا ءَابَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[23] {'سورة التوبة'.
وأوجب كذلك سبحانه وتعالى معاداة الناس جميعاً ممن اتبع غير دين الإسلام، ولو كانوا أكثر عدداً، وأعظم قوة، كما قال تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[51]{ 'سورة المائدة'.
وجعل الله سبحانه وتعالى موالاة ونصرة المسلم للكافر على المسلم كفراً به سبحانه وتعالى، كما قال تعالى:} لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ[28]قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[29]{'سورة آل عمران'.
وأمر الله سبحانه وتعالى أهل الإسلام أن يلزموا صراط الله المستقيم، وشريعة الله الإسلام التي اختصهم بها، ولا يخلطوا دينهم بغيره في عقيدة أو عبادة، وألا يتشبهوا بأعداء الله. قال تعالى:} قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ[1]لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ[2]وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ[3]وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ[4]وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ[5]لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[6]{ 'سورة الكافرون'.
وقال صلى الله عليه وسلم: :'بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ - وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ' رواه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم2831.
وبَعْثُ النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف هو تكليفه بقتال الكفار حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: 'أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ' متفق عليه .
وفي أهل الكتاب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم ليسلموا، أو يدفعوا الجزية، كما قال سبحانه وتعالى: }قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[29]{ 'سورة التوبة'.(/8)
وهذه هي البراءة من الكفار، والفصل الكامل بين ديننا ودينهم، وطريق أهل الإسلام وطريقهم، والحذر من اتخاذهم أولياء، بل ولا بطانة وأعواناً، كما قال تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ[118] {'سورة آل عمران'. هذه البراءة وما يتبعها من العداوة في الدين، ومخالفة أصحاب الجحيم، والحذر من اتخاذهم بطانة... الخ أصل من أصول الإسلام، وقد خالفته طوائف كثيرة؛ فكان من هذه المخالفة الشر والفساد الكبير الذي حذر الله منه. كما قال تعالى:} إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ[73]{ 'سورة الأنفال' والضمير في:} تَفْعَلُوهُ { راجع إلى ما أمر الله به من وجوب موالاة المسلمين بعضهم بعضاً، ووجوب الحذر من موالاة الكفار.
المخالفون لهذا الأصل:
الفرق الباطنية من أهل النفاق والكفر الذين كانوا في كل أدوار تاريخهم عوناً للكفار على المسلمين، وإلباً على أولياء الله من الصالحين، وعوناً لليهود والنصارى والمغول الكافرين على المسلمين.
المنافقون المستغربون، الذين فتنوا بما عليه الغرب الكافر في علومه وثقافاته وعاداته وطرائق معيشته؛ فحاولوا التوفيق -في زعمهم- بين الإسلام وبين الحضارة الغربية:} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا[61]{ 'سورة النساء'.
ويتعللون دائماً بموافقتهم لأعداء الإسلام قائلين:} إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا[62]{'سورة النساء'.
الأصل السادس: أمة الإسلام هي خير أمة أخرجت للناس:
من أصول الإسلام التي يجب علي كل مسلم اعتقادها، ويكفر من قال بنقضيها: الاعتقاد أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خير أمة من أمم الهداية أخرجت للناس، قال تعالى:} كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ[110]{ 'سورة آل عمران'.
وهذه الخيرية والفضل كان لأسباب كثيرة:
منها: كرم الأصل، ونفاسة الجرثومة، وطيب المعدن كما قال صلى الله عليه وسلم: 'النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا ... ' رواه مسلم . وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: 'خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ يَتَسَمَّنُونَ وَيُحِبُّونَ السِّمَنَ يُعْطُونَ الشَّهَادَةَ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلُوهَا' رواه الترمذي وأحمد والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 3294.
ومن أجل ذلك كانت أمانتهم وصدقهم وشجاعتهم منطلقاً لحمل رسالة الإسلام بصدق وإخلاص، وتفان وشجاعة، فكانوا كما قال تعالى:} مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[23] {'سورة الأحزاب'.
وقال سبحانه وتعالى في مدحهم:} مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[29] {'سورة الفتح'. ولا يوجد في أمة من أمم الهداية ما وجد في هذه الأمة من العلماء والعباد، والمجاهدين، والشهداء والزهاد.
ومنها: أنهم أطول الأمم عمراً في الدعوة إلى الله وهداية الناس، وبقاء الحق فيهم ما بقيت الدنيا، فلا تزال طائفة منهم على الحق لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يقاتل آخرهم الدجال.
ولأجل ذلك جعلهم الله سبحانه وتعالى أمة وسطاً عدولاً قال تعالى:} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...[143] {'سورة البقرة'.(/9)
فهم شهداء الله في أرضه من شهدوا له بالصلاح؛ نال الجنة، ومن شهدوا عليه بالشر؛ كانت النار مصيره . بل يشهدون لكل نبي على أمته بما أنزل الله إليهم من القرآن.
ولأجل هذه المهمة العظيمة، وهذه الخيرية المطلقة على كل أمم الأرض فإن الله اختصهم بأنواع كثيرة من رحمته، منها:
أن العبادات التي كلفوا بها قليلة، ولكن جعل الله لهم من الأجر ضعف ما أعطى الأمم السابقة كما قال تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[28]{ 'سورة الحديد'.
وقال صلى الله عليه وسلم:'مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى ثُمَّ أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنْ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ قَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً قَالَ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ قَالُوا لَا قَالَ فَذَاكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ شِئْتُ' رواه البخاري.
وقد حفظ لهم القرآن من التغيير والتبديل، وحفظ لهم سنة نبيهم، ولم يمت رسول الله ويتركهم إلا وقد أسس الدين، وأتم الله به النعمة، وكملت الشريعة، وتركهم على مثل المحجة، ومكن الله لهم في الأرض فأصبحت الجزيرة العربية كلها خاضعة للدين. وهذا بخلاف جميع الرسل قبل رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن موسى عليه السلام مات وقومه ما زالوا في التيه. وعيسى عليه السلام رفعه الله إلى السماء، وتلامذته خائفون مختفون من أعدائهم.
والخصائص والفضائل التي اختصت بها هذه الأمة كثيرة جداً... من أجل ذلك يجب اعتقاد هذا الفضل لأمة الإسلام، وتعظيم أصحاب رسول الله الذين هم خلاصة الأمة، ونقاوتها، وأهل السبق والسابقة فيها وهذا من عقائد الإسلام الراسخة.
خاتمة:
والخلاصة أن من ثوابت الإسلام وأصوله الأصيلة:
الاعتقاد بكمال القرآن وحفظه، وأنه لا يوجد قرآن غيره بأيدي أحد من الناس، ووجوب التحاكم إلى هذا القرآن في الصغير والكبير، وتحكيمه في حياة الأمة، ووضعه حيث وضعه الله سبحانه من الحكم به في جميع شئوننا.
وكذلك حجية السنة وأنها بمنزلة القرآن اعتقاداً وعملاً }مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ...[80]{ 'سورة النساء'.
والإيمان بعدالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمانتهم في نقل القرآن والسنة، وأنهم النموذج الذي يجب أن يحتذى في الدين والجهاد والصبر، وكذلك في فهم الدين اعتقاداً، وعملاً.
والاعتقاد بفضل آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وإنزالهم منزلتهم، وأنهم كانوا مع القرآن لم يفارقوه .
ووجوب الموالاة بين أهل الإسلام جميعاً، ووجوب المعاداة والبراءة من الكفار جميعاً ولو كانوا من الآباء والأخوان .
واعتقاد فضل هذه الأمة الإسلامية على جميع أمم الهداية، وأنهم حملة رسالة الله الخاتمة إلى أهل الأرض جميعاً. ووجوب قيامهم بما كلفهم الله به:} كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...[110]{ 'سورة آل عمران'.
وعالمية رسالة الإسلام، وأنه الدين الذي يجب أن يكون دين الناس جميعاً، وأن البشر جميعاً يجب إن يخضعوا له كما قال تعالى:} وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ...[39]{ 'سورة الأنفال'. وقوله تعالى:} قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا... [158]{ 'سورة الأعراف'.
وأن غاية الرسالة المحمدية هي تعبيد الناس لله سبحانه وتعالى. وأن هذه هي مهمة الرسل جميعاً قبل رسولنا صلى الله عليه وسلم:} وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ... [36]{ 'سورة النحل'.
وأن الإسلام جاء ليهذب النفوس، ويزكيها بالإيمان والعمل الصالح والخلق الكريم: 'إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ' رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد. وأن على دعاة الإسلام أن يعملوا لبناء هذا الإنسان الصالح، والمسلم الكريم، والنموذج الذي يحتذى به كما جاءت أوصافه في الكتاب والسنة.
وكذلك وجوب الاعتقاد بشرف اللغة العربية؛ لنزول القرآن بها، وأنها لسان الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، وجعل هذه العربية هي اللغة الأولى لكل مسلم في الأرض؛ لأنه لا تتم عبادته في صلاته إلا بها، ولا يفهم الإسلام فهماً كاملاً إلا بجمعها، ومعرفتها بعلومها البالغة اثنى عشر علماً، أهمها ورأسها:'علم النحو'.(/10)
وكذلك اعتقاد أنه لا عصمة لأحد من خطأ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الاجتهاد حق بل واجب على كل من استكمل آلته من علماء الإسلام؛ لأنه لا بصيرة، ولا عمل بالكتاب والسنة والدين إلا باجتهاد أهل العلم، الذين ينزلون آيات القرآن منازلها، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مواقعها، هذا مع وجوب حفظ تراث أهل العلم وجهودهم في تبويبه وتأصيله، وفقهه وتعليمه، وألا تكون مذاهب العلماء بمثابة شرائع مستقلة لأهل الإسلام حتى لا يتفرقوا في الدين.
من مقال:' الثوابت الأساسية في الإسلام'.... للشيخ/ عبد الرحمن عبد الخالق(/11)
الثورة على الذات
إننا نسمع كثيرا من الدعاة يدعو إلى الاصلاح وخاصة اصلاح الذات البشرية والتغيير من داخل النفس وانه الخطوة الاولى في طريق النصر والتمكين .
فلماذا يقف الكثير أمام أنفسهم لايستطيعون فعل شيء؟؟. بل يهزمون هزيمة نكراء مع أول مناوشة مع أنفسهم
أخي المبارك : إن التغيير كلمة لابد أن نهتم بها وبمدلولاتها لأن التغيير إذا انطلق من دواخلنا فإنه شعاع الشمس الذي مايلبث إلا وينتشر في نواحي المعمورة جمعاء، فهيا نثور أنا وانت على ذاوتنا المقصرة ونرتب اولوياتها من جديد واعلم (إن الله لا يغيرما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ).
أخي الفاضل : هاك محاور أربعة للتغيير ستساعدك على هذه الثورة التي أنت بصددها :
المحور الاول : اتخذ القرار :
من لم يتخذ قراره بالتغيير والنجاح فقد اتخذ قرارا بالفشل :هذا سلمان الفارسي رضي الله عه اتخذ قرار البحث عن الحقيقة فوصل بعد مشوار من البحث الدقيق حتى لقبه البعض بالباحث عن الحقيقة .وذاك صهيب رضي الله عنه عندما اتخذ قرار الايمان والهجرة طارده اهل مكة فأعطاهم كل ماله فربح دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ( ربح البيع ربح البيع).
إذا هي دعوة لاتخاذ القرار ولكن بعد نظر وتأمل وحكمة وروية وفقني الله وإياك لكل خير
المحور الثاني: خطط لحياتك :
إلى متى أخي الكريم تخضع حياتنا لعشوائية وفوضوية مقيتة ؟؟ إلى متى يظل الكثير أسرى لتصرفات فردية ارتجالية ضررها متعد ونفعها لازم في أغلب الأحيان ؟؟
أما آن أن نضع لحياتنا أهدافا نسعى لتحقيقها ونضع برامج ووسائل تعيننا على تحقيق ما نريد ,أما آن أن نضع لأعمالنا خططا ومتابعة دقيقة حتى نكون منتجين ونافعين ؟؟
لقد آن الأوان لأن ننفض الغبار من على كواهلنا التي قد أضناها الركود الذي حول الكثير من المسلمين إلى مكائن صدأة
فاستعن بالله يا أخي وابدأ بالتخطيط لنفسك تخطيطا دنيويا وأخرويا والله يرعاك.
المحور الثالث :برمج قناعاتك :
والمعنى أنه يوجد في نفوس بعض الناس قنا عات سلبية قاتلة, كلما أراد الانطلاق قتل بتلك القنا عات وكلما أراد الإبداع قتل بتلك القنا عات فهو يصطدم بجدار صلب ( لا أستطيع - لا أقدر- لست جديرا بذلك ......)
فلا يزال يردد تلك الكلمات السلبية ولا يزال صداها يتردد في جوانب نفسه الكليلة حتى تقضي عل آخر جيوب المقاومة في دخائل نفسه السقيمة.
أخي: أنت صاحب إبداع ورسالة فلا تحطم نفسك بنفسك فأنت جدير بأن تكون حادي القافلة الذي لايتعب.
المحور الرابع: تحكم في تصرفاتك:
وما زالت الاستفهامات تتكرر على ذهنك أيها القارىء المبارك: إلى متى ونحن نعاني من النتائج السلبية بسبب تصرفاتنا الشخصية السريعة غير المسئولة التي تؤدي إلى مفاسد قد ترجع إلى أنفسنا وفي أحيان كثيرة إلى مجتمعاتنا الإسلامية, فإذا كنت من الباحثين على التغيير ومن الثائرين على ذواتهم المقصرة فلابد أن تتحكم بتصرفاتك وردات فعلك لأنه لا محالة ستكون أول المكتوين بنار تلك التصرفات الفردية البحتة.
وخلاصة القول أخي المبارك: لابد وأن نكون جادين في تناول قضايانا والبحث عن كل ما يطورنا ويجعلنا نسير بخطوات واثقة راسخة نحو قمم المجد والله من وراء القصد.
كاتبه / إبراهيم بن علي السفياني
المدرس بمعهد تبوك العلمي(/1)
الثورةُ عَلى السنةِ النبوية
د. علي بن عبد الله الصيّاح
</TD
إنَّ مِنْ أسبغ نعم الله على هذه الأمة حفظ دينها بحفظ كتابه العزيز، وسنة نبيه الكريم، قال تعالى : { إِنّا نَحْنُ نَزّلنا الذِّكرَ وإِنّا لهُ لحافظون } وهذا الوعد والضمان بحفظ الذكر يشمل حفظ القرآن ، وحفظ السنة النبوية - التي هي المفسرة للقرآن وهي الحكمة المنزلة كما قال تعالى { وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } -وقد ظهر مصداقُ ذلك مع طول المُدّة، وامتدادِ الأيام، وتوالي الشهور، وتعاقبِ السنين، وانتشارِ أهل الإسلامِ، واتساعِ رُقعتهِ، فقيض الله للقرآن من يحفظه ويحافظ عليه.
وأما السُّنَّةُ فإنَّ الله تعالى وَفَّق لها حُفَّاظاً عارفين، وجهابذةً عالمين، وصيارفةً ناقدين، ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المُبْطلين، وتأويل الجاهلين ، فتفرغوا لها، وأفنوا أعمارهم في تحصيلها، وبيانها والاستنباط منها، وتمييزِ ضعيفها من صحيحها، فجزاهم اللهُ عن الإسلامِ والمسلمينَ خيرَ الجزاءِ وأوفرَهَ.
هذا وفهم السنة النبوية وبيانُ حِكَمها وأحكامها له أصول وقواعد يُنطلق منها وفق منهج علميّ رصين ، فمن لم يراع هذه القواعد العلمية والأسس المنهجية كان فهمه للسنة النبوية –في الواقع-ثورة عليها وتغييراً لدلالتها، وبالتالي يصبح الأمر فوضى ، وتضيع كل قواعد العلم ، وتصبح السنة النبوية حمى مستباحاً لكل من هبّ ودب !، يقرأ أحدهم كتاباً في "السنة النبوية" يوم السبت، ويصنف فيه يوم الأحد، ويدعو كلَّ أحد للاستنباط يوم الاثنين، أما يوم الثلاثاء فيطاول الأئمة ويقول: نحن رجال وهم رجال!!..
قال ابنُ حزم في السير ((لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها، وهم من غير أهلها فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويظنون أنهم مصلحون )).
وقال الجرجاني في دلائل الإعجاز:((إذا تعاطى الشيء غير أهله، وتولى الأمر غير البصير به، أعضل الداء واشتد البلاء)).
إنَّ مسألة فَهْم السنةِ النبوية وبيان حِكَمها وأحكامها والاستنباط منها، وتمييزِ ضعيفها من صحيحها، ليست من قبيل الثقافة العامة التي يتناولها الكتاب والمفكرون والمثقفون والشعراء بالنقد والتعليق كما يتناولون نقد القصيدة أو المقالة ، وإنما هي مسألة علمية ، تتعلق بدين الله وشرعه، والقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير علم كالقول على الله بلا علم لأنه صلى الله عليه وسلم ما ينطق عن الهوى إن هو إلا هو وحي يوحي .
قال ابنُ القيم في إعلام الموقعين: ((وقد حرَّم الله القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء وجعله من أعظم المحرَّمات؛ بل جعله في المرتبة العليا منها؛ قال تعالى: "قلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ..." الآية، فرتَّب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها، وهو الفواحش، وثنّى بما هو أشد تحريمًا منه، وهو الإثم والظلم، ثم ثلَّث بما هو أعظم تحريمًا منهما، وهو الشرك به سبحانه، ثم ربَّع بما هو أعظم تحريمًا من ذلك كله، وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعمُّ القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه)) وقال تعالى {[ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }.
وهنا أصول ينبغي لمن أراد الاستنباط من السنة النبوية أن يراعيها لكي يكون كلامه من جنس كلام أهل العلم والأيمان المؤصل تأصيلاً علمياً :
1- استشعار عظمة وخطورة الكلام عن الله ورسوله بدون علم مؤصل.
2- التأكد من درجة الحديث من حيثُ الصحة والضعف، فلا تبنى الأحكام والاستنباطات على أحاديث موضوعة أو ضعيفة، وهذا الأصل له فنٌّ خاص عند دارسي السنة النبوية اسمه "علوم الحديث" أو "مصطلح الحديث" وهو قائم على "النقد العلمي للإسناد والمتن"، و"ضوابط توثيق الأخبار" وتنقية السنة مما قد يشوبها، وقد سئل عبد الله بن المبارك-الإمام المشهور-: عن الأحاديث الموضوعية؟ فقال: "تعيش لها الجهابذة، قال تعالى { إنا نحن نزلنا الذِّكر وإنا له لحافظون}"، وأخذ هارونُ الرشيد زنديقا فأمر بضرب عنقه فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي يا أمير المؤمنين ؟ قال: أريح العباد منك، قال: فأين أنتَ من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها ما فيها حرف نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأين أنت ياعدو الله من أبي إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا !.(/1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : » المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب ، والمرجع في التمييز بين هذا وهذا إلى أهل علم الحديث ، كما نرجع إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحو غير العرب ، ونرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة ، وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك ، فلكل علم رجالٌ يعرفون به ، والعلماء بالحديث أجلّ هؤلاء قدراً ، وأعظمهم صدقاً ، وأعلاهم منزلة ، وأكثرهم ديناً ، وهم من أعظم الناس صدقاً و أمانة وعلماً وخبرة فيما يذكرونه من الجرح والتعديل ، مثل : مالك وشعبة وسفيان ... «
وعلم الإسناد وما ترتب عليه لم يظهر في الأمم السابقة، وهو من أعظم إنجازات المسلمين في مجال البحث العلمي، ومثار الثناء والإعجاب من الأعداء قبل الأصدقاء.
3- جمعُ روايات وألفاظ الحديث الواحد فالحديث بمجموعه يفسر بعضه بعضاً، قال أحمد بن حنبل :(( الحديث إذا لم تُجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يُفسر بعضه بعضاً ))، قال ابن حجر في الفتح:((المتعين على من يتكلم على الأحاديث أن يجمع طرقها ثم يجمع ألفاظ المتون إذا صحت الطرق ويشرحها على أنه حديث واحد فإن الحديث أولى ما فسر بالحديث ))، لذا تجد الشارح البارعين –أمثال: ابن عبد البر في كتبيه "التمهيد" و"الاستذكار" ، وابن رجب في كتابه "فتح الباري" وبقية كتبه، و ابن حجر شارح صحيح البخاري في كتابه "فتح الباري" - يُعنون في بيانهم لسنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم بجمع روايات وألفاظ الحديث الواحد، وقد ذكر العلائيّ في كتابه " نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد" -ص111 -قاعدة شريفة عظيمة الجدوى في هذا الباب يحسن بالمتخصص أن يتقنها.
ومما يمثل به على هذا الأصل حديث أم حرام بنت ملحان –المتفق على صحته- فله طرق كثيرة وألفاظ عديدة ففي بعض طرقه أنَّ أم حرام "قالت:يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين فركبت البحر في زمان معاوية بن أبي سفيان فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت" قد يفهم بعضهم من هذه الرواية أنها خرجت بدون محرم، ولكن هذا الفهم مردود بالرواية الأخرى –المتفق على صحتها- "فقال: أنت من الأولين، فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازيا أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية..." وهكذا الروايات والألفاظ يفسر بعضها بعضاً لمن طلب الحق بصدق وعدل.
4- جمع الأحاديث الواردة في المسالة المستنبطة، ومراعاة قواعد وأصول الاستدلال التي وضعها الأئمة، والفقهاءُ المحققون إذا أرادوا بحث قضية ما، جمعوا كل ما جاء في شأنها من الكتاب والسنة، ، وأحسنوا التنسيق بين شتى الأدلة،
قال الشاطبي : » من يأخذ الأدلة من أطراف العبارة الشرعية ولا ينظم بعضها ببعض، فيوشك أن يزل، وليس هذا من شأن الراسخين وإنما هو من شأن من استعجل طلبا للمخرج في دعواه« .
وقال أيضاً : » ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد : وهو الجهل بمقاصد الشرع ، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض ، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها ، وعامّها المرتب على خاصّها ، ومطلقها المحمول على مقيدها ، ومجملها المفسر بِبَيّنها ، إلى ما سوى ذلك من مناحيها ، -إلى أن قال - فشأن الراسخين : تصور الشريعة صورة واحدة ، يخدم بعضها بعضاً كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة،وشأنُ متبعى المتشابهات أخذ دليلٍ مَا أيّ دليل كان عفواً وأخذاً أولياً وإنْ كان ثم ما يعارضه من كلى أو جزئى، فكأن العضو الواحد لا يعطى في مفهوم أحكام الشريعة حكما حقيقيا، فمتبعه متبع متشابه، ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ ما شهد الله به ومن أصدق من الله قيلا « .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : » إذا ميّز العالم بين ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما لم يقله ، فإنه يحتاج أن يفهم مراده ويفقه ما قاله ، ويجمع بين الأحاديث ويضم كل شكل إلى شكله ، فيجمع بين ما جمع الله بينه ورسوله ، ويُفرق بين ما فرق الله بينه ورسوله ؛ فهذا هو العلم الذي ينتفع به المسلمون ، ويجب تلقيه وقبوله ، وبه ساد أئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم « .
أما اختطاف الحكم من حديث عابر، وقراءة عجلى من غير مراعاة لما ورد في الموضوع من آثار أخرى فليس من عمل العلماء.
ومما يمثل به على هذا الأصل حديث أم حرام بنت ملحان المتقدم ذكره فقد اختطف بعضهم من الحديث جواز العسكرية للنساء هكذا بدون قيد ولا شرط ولا حال ولا زمان ، و من غير مراعاة لما ورد في الموضوع من أحاديث تأمر بالستر ومجانبة الرجال، ولهذا كان جهاد النساء الحج كما ثبت في الصحيح.(/2)
قال أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار:" قال ابنُ وهب: أم حرام إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة فلذلك كان يقيل عندها وينام في حجرها وتفلي رأسه، قال أبو عمر : لولا أنها كانت منه ذات محرم ما زارها ولا قام عندها والله أعلم، وقد روي عنه عليه السلام من حديث عمر وبن عباس: لا يخلون رجل بامرأة إلا أن تكون منه ذات محرم، على أنه صلى الله عليه وسلم معصوم ليس كغيره ولا يقاس به سواه، وهذا الخبر ..فيه إباحة النساء للجهاد وقد قالت أم عطية: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنداوي الجرحى ونمرض المرضى وكان يرضخ لنا من الغنيمة"
وليس هذا موضع الحديث عن هذه المسألة إذ المقصود هنا الإشارة والتنبيه فقط.
5- الإحاطة بقدر كاف من العلوم الأساسية و علوم الآلة المعينة على الفهم والاستنباط.
وأذكر هنا وقفات سريعة :
1- جميلٌ أنْ تقرأ في "السنة النبوية" وتعيش مع أخباره صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه وتطبقها عملياً، ولكن قبيحٌ أن تتصدر للفتيا والاستنباط والتصنيف من غير مقدمات علمية متخصصة، إذْ لا بدَّ من احترام التخصص، و إتيان البيوت من أبوابها، وكل من تكلم بغير فنه أتى بالعجائب.
2- قال ابنُ الوزير (( ومن المعلوم لدى الفرق الإسلامية على اختلاف طبقاتها ولدى جميع العقلاء في الأرض الاحتجاج في كل فن بكلام أهله، ولو لم يرجعوا إلى ذلك لبطلت العلوم لأنّ غير أهل الفن إما أن لا يتكلموا فيه بشيء ألبته أو يتكلموا فيه بما لا يكفي ولا يشفي، ألا ترى أنك لو رجعت في تفسير غريب القرآن والسنة إلى القراء وفي القراءات إلى أهل اللغة وفي المعاني والبيان والنحو إلى أهل الحديث، وفي علم الإسناد وعلل الحديث إلى المتكلمين وأمثال ذلك لبطلت العلوم وانطمست منها المعالم والرسوم وعكسنا المعقول وخالفنا ما عليه أهل الإسلام )).
3- ما أحسن وأصدق قول الشاطبي : » وكذلك كل من اتبع المتشابهات، أو حرف المناطات، أو حمل الآيات مالا تحمله عند السلف الصالح، أو تمسك بالأحاديث الواهية، أو أخذ الأدلة ببادى الرأى، له أن يستدل على كل فعل أو قول أو أعتقاد وافق غرضه بآية أو حديث لا يفوز بذلك أصلا، والدليل عليه استدلال كل فرقة شهرت بالبدعة على بدعتها بآية أو حديث من غير توقف...فمن طلبَ خلاصَ نفسهِ تثبّت حتى يتضحَ له الطريق، ومن تساهل رمته أيدي الهوى في معاطب لا مخلص له منها إلا ما شاء الله«. من كتاب "الاعتصام" وهو كتابٌ جديرٌ بالقراءة والتأمل فإنْ ضعفتَ فقرأ البابَ الرابع منه.
4- التجرد المسبق أكبر معين على الاستنباط فلا يعتقد ثم يبحث ؛ ولكن يبحث أولاً ثم يعتقد-بالضوابط العلمية-، ويتحلى بالنصفة والعدل والاستقلال، قال الإمام الشافعي: » ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ « ، وقال أيضا : » ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان ، وما كلمت أحداً قط إلا ولم أبال بَيّنَ الله الحق على لساني أولسانه «.
5- سُئل الإمام أحمد عن حرف من الغريب فقال: (سلوا أصحاب الغريب فإني أكره أن أتكلم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظن).
ولو كان لي من الأمر شيء لوضعت في كل دور الطباعة والنشر عبارة " إذا تكلم المرءُ في غير فنه أتى بالعجائب والغرائب فكن على حذر"، والله الموفق.
وما تقدم من الحقائق العلمية الشرعية التأصيلية سطرتها لمّا قرأتُ كتاب "ثورة في السنة النبوية" تأليف.غازي بن عبدالرحمن القصيبي، سائلاً المولى للجميع التوفيق والهداية.
و صلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.(/3)
الجاحظ
(من كتاب: الحيوان)
هو أبو عثمان، عمرو بن بحر، الملقب بالجاحظ لجحوظ في عينيه. ولكن خفة روحه طغت على قبحه، وجعلته حسن المعاشرة، لطيف النكتة، فألفه العلماء والأدباء، وقصدوه من كل مكان.
كان من أئمة الأدب والعلم، ملماً بكل ألوان الثقافة الإسلامية لعهده، معتزليّ المذهب وله كتب كثيرة صوَّر فيها أحوال عصره، ونقد أخلاق الناس وعاداتهم، في أسلوب رشيق، خال من التكلف، جيد التصرف، يدل على مقدرة الجاحظ الإنشائية، وإمامته في الأدب
أصيب في أواخر أيامه بالفالج، فلزم فراشه يتابع التأليف حتى مات سنة 255هـ.
ومن كتبه: البيان والتبيين، والبخلاء، والحيوان. ومن هذا الأخير اخترنا النص التالي:
حيلة حية
حدثنا أبو جعفر المكفوف(1) النحوي العنبري، وأخوه روح الكاتب، ورجال من بني العنبر: أن عندهم، في رمال بلعنبر(2)، حية تصيد العصافير وصغار الطير بأعجب صيد.
زعموا أنها إذا انتصف النهار واشتد الحر في رمال بلعنبر وامتنعت الأرض على الحافي والمنتعل، ورمض الجندب(3) غمست هذه الحية ذنبها في الرمل، ثم انتصبت كأنها رمح مركوز أو عود ثابت، فيجيء الطائر الصغير أو الجرادة، فإذا رأى عوداً قائماً، وكره الوقوع على الرمل لشدة حره، وقع على رأس الحية، على أنها عود، فإذا وقع على رأسها قبضت عليه. فإذا كانت جرادة، أو جُعَلاً(4)، أو بعض ما لا يشبعها مثله، ابتلعته وبقيت على انتصابها. وإن كان الواقع على رأسها طائراً يشبعها مثله، أكلته وانصرفت، وأن ذلك دأبها ما منع الرمل جانبه في الصيف والقيظ، في انتصاف النهار والهاجرة. وذلك أن الطائر لا يشك أن الحية عود، وأنه سيقوم له مقام الجِذْل للحرباء(5)، إلى أن يسكن الحر ووهج الرمل.
وفي هذا الحديث من العجب:
أن هذه الحية تهتدي لمثل هذه الحيلة.
وفيه جهل الطائر بفرق ما بين الحيوان والعود.
وفيه قلة اكتراث الحية للرمل الذي عاد كالجمر، وصلح أن يكون ملة(6) وموضعاً للخبزة.
ثم أن يشتمل ذلك الرمل على ثلث الحية ساعات من النهار والرمل على هذه الصفة. فهذه أعجوبة من أعاجيب ما في الحيات.
الهوامش
(1) الأعمى.
(2) أي بني العنبر.
(3) آلمه الحر وأحرقه. والجندب: نوع من الجراد.
(4) الجُعَلُ: دويبة سوداء.
(5) الجِذْلُ: جذع الشجرة. والحرباء: دويبة كثيرة التلون.
(6) الملة: الرماد الحار يوضع فيه العجين حتى ينضج.(/1)
الجاذبية بين الزوجين
عزيزي القارئ:
لا نبالغ حينما نقول أننا نعيش في عصر تكثر فيه الاضطرابات العائلية والنفسية وحالات التفكك الأسري وأحيانًا الطلاق، والخيانة الزوجية إلا من رحم ربي والله سبحانه وتعالى لا يريد لنا هذه الحياة البائسة، وعلى الزوجين من جانبهما حماية حياتهما الزوجية من الأعاصير، ويتطلب ذلك منهما أن يستخدما كل مهاراتهما للإبقاء على سعادتهما الزوجية والحفاظ على الصورة والحلم الذين كانا يطمحان إليه منذ بداية الزواج. والحفاظ على ما يسمى بالجاذبية الزوجية [الجنسية].
الجاذبية الجنسية:
إن الجاذبية الجنسية سرًا هامًا من أسرار السعادة الزوجية، فقد خلق الله تعالى في الرجل والمرأة الدافع الجنسي، فجعل في الرجل شوقًا وحنينًا إلى المرأة، وجعل في المرأة رغبة وتطلعًا إلى الرجل فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].
ولولا هذه الجاذبية الجنسية التي أودعها الله في البشر لما كان هناك تزاوج وتناسل ولانقرض النوع البشري.
ولقد تناول القرآن الكريم العلاقة الجنسية السامية بطريقة مبسطة وبكلام رقيق ليس فيه خدش للحياء أو إخفاء للحقائق، يقول تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 5، 6].
ومن الملاحظ أنه حينما تشتد الأزمات بين الأزواج، ويظهر الكارهون والكارهات من الأزواج والزوجات فإن أكثر الأسباب تكون غالبًا وراءها مشكلات عاطفية أو جنسية أو هما مجتمعتين. ولكن الحياء يغلب على المرأة فيمنعها أن تعلن الحقيقة فتصطنع أسبابًا أخرى لا تصلح سببًا لهدم العلاقة الزوجية... ثم تتعقد النفوس وتستعصي المشكلات ويحاول الناس علاجها ظاهريًا ويبقى أصل الداء يعمل في المجتمع.
ولقد عنيت شريعة الإسلام عناية فائقة بهذه العلاقة بين الزوجين وحددت لها المنهاج الناجح، ومع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، إلا أنه تكلم عليه الصلاة والسلام في مسائل العلاقة الجنسية بين الزوجين وأجاب السائلين عنها رجالاً ونساءً، ولم يكن من حيائه ولا ورعه أن يغلق هذا الباب في وجه من يسأل وهذا ثابت بالأحاديث الصحيحة.
لماذا الجاذبية الجنسية؟
إن نظرة الإسلام إلى الجنس نظرة شمولية تستند إلى الإحاطة الكاملة بطبيعة الإنسان {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وتهدف إلى تحقيق التوازن والانسجام في إشباع الدوافع الجنسية. فلم يسمح باختزان الطاقة الجنسية للفرد مدى الحياة كمن نهج منهج الرهبانية لأن الحياة لا تستقيم من دونها، وجعل المتعة الجنسية وسيلة لبناء الأسرة واستمرار النوع البشري والتكاثر؛ لأنه لولا المتعة الجنسية بين الرجل والمرأة وذلك لا يكون إلا في مؤسسة الزواج الشرعي لانصرف الرجل وانصرفت المرأة عن الزواج، وبالتالي توقف النوع البشري عن التكاثر ومن ثم انقرض النوع البشري.
لماذا هذه المقدمة عن الجاذبية الجنسية؟
بالرغم من عصر التقدم الذي نعيشه إلا أن هناك جاهلية جنسية يعيشها بعض الأزواج، ويشكو بعض الأزواج والزوجات بخصوص علاقتهما الخاصة. فهناك من الأزواج من يطلب من زوجته أن تتحدث معه بكلام غزلي فترفض، وهناك من يطلب من زوجته أن ترقص له فترفض، وهناك من يطلب من زوجته أن تلبس له لباسًا معينًا فترفض، كل هذا تحت عنوان 'الحياء'، وهي لا تعلم أن هذا الحياء مزيف وفي غير موضعه؛ لأن رسولنا الكريم وصف ورغّب فيه, وطلب المرأة التي تمتلك صفة 'تداعبك' و'تلاعبك' من النساء، ويدخل في ذلك كله طريقة اللبس، والعطور، والحركات والكلمات والإشارات والإيماءات وكل وجوه الجاذبية والتفنن في إشباع الحواس والفؤاد، والطبيعي أن الرجل هو صاحب المبادرة والتجديد في العلاقة الزوجية ولكن أيضًا دور المرأة بنفس مستوى دور الرجل من الإقبال والتشويق والإغراء والجاذبية , وإذا لم تتوافر هذه الجوانب لا نحزن إذن عندما يندفع بعض الأزواج إلى الخيانة الزوجية وليس هذا مبررا بالطبع ولكنها شكوى وملاحظة بعض الأزواج ولكم يكره الزوج أن يظل ملحا على زوجته أن تتزين له وتتهيأ له مرة تلو الأخرى ولا فائدة إنه بعد فترة يسكت على امتعاض ولولا بقية من دين وحياء من الخطيئة لنظرت العين إلى الخارج.
عزيزي القارئ:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عند عودته من السفر من يخبر أهل المدينة بقدومهم... لماذا ؟
حتى تمتشط الشعثاء وتستعد المغيبة، ولقد كان الرسول يوصي أصحابه ألا يدخلوا على أهليهم بليل حتى لا يروهم إلا في أحسن هيئة ومظهر، ودائمًا تظهر الزوجة أمام زوجها بجاذبيتها وجمالها.(/1)
كل هذا الفقه العظيم عندنا في التأكيد على التبرج الزوجي والجاذبية الزوجية بحاجة اليوم إلى أن يظهر من جديد بدءًا من تلاعبها وتلاعبك، وانتهاءً بالنصوص القرآنية ومنها قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]؛ لأن اللذة بين الزوجين مشتركة وهامة.(/2)
الجار وصية جبريل "
حوار مع الشيخ محمد الراوي
عندما تغيب القيم والأخلاق، وتحل المصالح والأهواء، وتستبد الأنانية والأطماع، يطغي الفساد ويتحول البشر إلى وحوش يأكل بعضهم بعضا، فتنهار الروابط ويُحل عقد الجوار الذي وثقه الله بين خلقه.
فقد وضع لنا الإسلام القواعد كي نسير عليها في تعاملنا مع جيراننا سواء كانوا في بيت أو عمل أو سفر أو دول؛ فالجوار عام ليس به تخصيص، لكن من منا يستند إليه؟!
لا يعيش الإنسان وحده
حاورنا فضيلة الشيخ محمد الراوي -عضو مجمع البحوث الإسلامية، الرئيس الأسبق للجنة شئون القرآن بالأزهر الشريف- عن أهمية الجيرة وأثرها على الإيمان، فأكد أن الكون كله جيرة وجيران، فإذا نظرت يمينا ويسارا تجد بيتا لجار، فالإنسان لا يعيش وحده، بل يعيش في مجتمع ينعطف إليه.
وإذا ابتلي الإنسان بجار لا يتقي الله فيه، وصبر عليه ودعاه للاستقامة فلعل الله يهديه، فيتبدل البغض إلى محبة.
* كيف كان الرسول جارا بارا؟
- ما عرف أحد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وتأثر به تمام التأثر، فكم من أمور تعرض لها الرسول بالأذى ومع هذا تجد منه السماحة والصبر والدعوة بالبر، وهذا يحول مَنْ آذاه من عدو إلى صديق وحبيب وبار ومحسن؛ لذا اجتمع الناس عليه.
وكم أرادوا إيذاء الرسول ولكنه عفا وسامح؛ فحتى قريش التي أخرجته لما جاء إليها واجتمعوا جميعا وهم يعلمون العقاب، وعندما استطاع أن يرد إهانة قريش له سألهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فما رد عليهم إلا بكرم الأخلاق: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
إذن العفو أساس في تعامله مع الآخرين، فلم ينتشر الدين بالكلام ولكن بالعمل الصالح؛ لأن الكلام لا يقدم ولا يؤخر إذا لم يكن الإنسان صالحا وعمله حسنا، وأمرنا الله جميعا بالتعاون فقال عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
المفهوم الشامل للجيرة
- هل يتوقف مفهوم الجوار عند جوار الإنسان لأخيه الإنسان، أم أن هناك جوارا أعلى درجة من الجوار الفردي، بمعنى: هل وضع الإسلام منهجا للتعامل مع الجوار الدولي بين الدول فيما بينها، سواء أكانت مسلمة أم غير مسلمة؟.
- عندما أوصى جبريل بالجار لم يحدد نوعه، فهناك معنى عام للجار، ولم يحدد الدين مواصفات وشروطا للجار الذي يستحق البر -مذهبه أو ملته أو دينه- وكأن الفضل يجب أن يعم كل الجيران.
ومنهج الإسلام هو "الإحسان".. والإحسان بصورة عامة يحققه العدل في النظر للأمور والعدل مع النفس؛ بمعني لا نقول قم صل 100 ركعة، فلا بد أن يكون فيه اعتدال وتوازن وتوسط.
وهناك شيء لا بد أن يفهمه الناس؛ أن الله لم يجعل مكانا فيه اكتفاء ذاتي، إنما جعل حاجة الناس إلى بعضهم البعض حتى يأتي التعاون بصورة فطرية بينهما، وهنا يظل الترابط كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}. ولم يقل لتناقضوا أو لتحاربوا أو لتتباغضوا، فالتنوع المغزى منه هو التعارف والتقارب، وأن يحسن بعضنا إلى بعض، ويقضي بعضنا حاجة بعض.
وفي القرى، نجد القرويين في تعاون وسلام، وكأنهم عائلة واحدة، وما حدث من تبديل في هذه المفاهيم، فنقول فيه: حسبنا الله ونعم الوكيل.
لماذا تفرق الجيران؟
الإحسان مفتاح القلوب
* وما الأسباب التي أدت إلى انفراط عقد الجوار بين الناس؟
- الدنيا مؤثرة.. يؤثرها الإنسان ويريدها من أي طريق، وإن لم يكن يعرف الحلال والحرام فلا يقرب إلا ما أحل الله له، ولا يقترب مما حرم الله عليه، ولا يقع أذى منه لأحد، ولا يضيق بأحد يصلح حالها.
ولكن عندما تؤثر الدنيا، وتؤثر الأهواء والشهوات تذهب الروابط الكريمة، وهذا سر أخطاء البشرية. وتتعدد المشاكل التي أدت إلى فساد الإنسان في الأرض، منها: الطمع، والاستبداد، والعلو في الأرض، وتعالي الإنسان على الإنسان، وعدم شعور الإنسان بأن قيمته في إكرام أخيه.
وينهانا عن ذلك القرآن: {وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ}، فهنا اعتبر لمزه لغيره لمزا لنفسه، وإساءته لغيره إساءة لنفسه، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة}.
* كيف نوازن في الجيرة بين المحافظة على الخصوصية والتواصل الاجتماعي؟
- يجب ألا يؤذي الجار جاره، ولكن يجب أن يكون معاونا له على الاستقامة، وإن ظهر فيه عيب يخفيه ويعالجه بالحكمة، وكأن الجيران جسد، فهل يمتنع القلب يوما عن ضخ الدم لأحد الأطراف، أو لأي عضو آخر في الجسم؟.
الجيرة.. والمنهج الأخلاقي
* ما منهج الإسلام في بيان حقوق وواجبات الجار؟(/1)
- قال تعالي: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فالتعاون، والنصيحة الطيبة، والعون والمحبة سر الإحسان في معاملة الجيران؛ لأن الحب للجار ناشئ من الحب لله.
ويجب أن يكون الجار حريصا على جاره، أمينا على مصالحه، ودودا لا يسئ إليه أبدا. وفي الوقت نفسه يكون على دراية بضرورياته، عونا له إذا احتاج إلى المساندة؛ أي يجعل بينه وبين جاره رباطا أساسه التعاون، فالله -عز وجل- قال في آيات العباد {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}.
فلقد أوصى القرآن بأن يكون الجار موطن رعاية كاملة للإنسان وحبا وتقديرا ورعاية لمصالحه، وهذا أمر لا يجهله أحد أبدا، يتضح هذا من حديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".
فالوصاية هنا دون تحديد من هو الجار وعلى أي مذهب يكون؛ فللجار حقوق يجب مراعاتها، ويُعرف أنه كان للإمام أبي حنيفة جار كثير الأذى له، فعلم يوما أبي حنيفة أن جاره هذا مسجون، فأخذ أبو حنيفة بغلته وذهب وأخرجه من السجن، وفي أثناء عودته إلى البيت قابل جاره في الطريق، فقال له: أنا أفعل معك ما أفعل وأنت تفعل معي هذا؟!! وعندها أعلن الرجل إسلامه، ودخل الإسلام من حسن المعاملة. فالمعاملة الحسنة تدل على استقامة الإنسان وخلقه الطيب، وأولها معاملة الجار.
ولو تذكر الإنسان عقائد دينه، وأنه من التراب وإلى التراب، وكلنا من نسب آدم، وساعة الموت مباغتة، سيحسن علاقته مع الله، ويرحم جيرانه ويعامل الناس جمعيا بخلق حسن.
فإذا غابت الأخلاق تجد الظلم يحل محل العدل، والإساءة محل البر، والكلمة الخبيثة بدلا من الكلمة الطيبة، والفساد يشوه الإصلاح.
ولا بد أن يتأكد المرء أن حسن أخلاقه هويته الإنسانية، ودليل على استيعابه لمفاهيم الدين، قال رسول الله صلوات الله عليه: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وهذا دليل على أن الرسل من قبله جاءوا بمكارم الأخلاق، ولكن قد يكون الناس نسوا بعضها، فأتى حبيبنا ليكملها.
ويقول الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت .. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا(/2)
الجامعات الفلسطينية بحاجة ماسة للإصلاح والتغيير
د. حسام الدين عفانه
جامعة القدس
تقتضي الحكمة من كل إنسان عاقل أن يديم النظر في مراجعة أعماله بين الفينة والأخرى وذلك للوقوف على محصلة أعماله هل هي ناجحة ومرضية أم سلبية وبحاجة إلى تغيير ؟ وليأخذ الدروس والعبر منها فإن كان قد أصاب فبها ونعمت وإن كان قد أخطأ تراجع عن خطئه فإن الرجوع عن الخطأ فضيلة ومعروف أن كل إنسان معرض للخطأ وهذا الكلام كما أنه ينطبق على الأفراد يجب أن ينطبق على كل مؤسسة أو شركة أو جمعية وكذا فإنه ينطبق على الجامعات الفلسطينية من باب أولى
إن جامعاتنا بحاجة أكيدة لمراجعة الحسابات والوقوف مع الذات وقفة صادقة لأخذ العبر لتصحيح الأخطاء التي وقعت فيها أثناء مسيرتها .
إن المطلوب من جامعاتنا في هذه المرحلة الدقيقة التي نمر بها أن تعيد النظر في الأمور التالية :
أولاً : دور مجالس الأمناء وطبيعة تشكيلها والمهام المناطة بها ولا يصح أن يبقى دور مجلس الأمناء شكلياً في بعض الجامعات.
ثانياً : إعادة النظر في الهيئات الإدارية العليا في الجامعات والنظر في مدى كفاءتها ومحاسبتها عن أعمالها ولا يصح أن تكون بعض الجامعات مزارع خاصة لرؤسائها .
ثالثاً : وضع الأسس الصحيحة للسياسات الإدارية المتبعة وجعل إشغال المناصب الإدارية بناء على المؤهلات العلمية فقط وليس اعتباراً لمنطلقات أخرى .
رابعاً : الشفافية والوضوح في الأمور المالية من خلال الأصول المتبعة في إعداد الميزانيات وكيفية صرفها والرقابة على ذلك .
خامساً : توحيد الكادر الوظيفي في الجامعة الواحدة فضلاً عن الجامعات كلها وإلغاء سياسات التميز أو العقود الخاصة التي تعطى بناء على اعتبارات ليس لها علاقة بالعمل الجامعي .
سادساً : إعادة النظر في البرامج العلمية بشكل عام وقضية فتح الأقسام العلمية للدراسات العليا بدون تخطيط علمي صحيح وإنما بغرض التنافس بين الجامعات .
سابعاً : تطبيق الأنظمة الإدارية فعلياً وخاصة ما يتعلق بالتعيينات ولا بد من احترام التخصصات العلمية واستبعاد سياسة التمسك بالمنصب مدى الحياة .
ثامناً : النظر بواقعية وموضوعية لدور مجالس الطلبة في الفترات السابقة وأثر ذلك على المسيرة التعليمية حيث إنه قد ثبت مدى ما ألحقته بعض نشاطات مجالس الطلبة من ضرر أكيد بالعملية التعليمية .
تاسعاً : يجب قطع الطريق على كل من يحاول التدخل في شؤون الجامعات لغرض قبول طلبة أو إعفاءات أو تعيينات لأشخاص مع مخالفة كل ذلك للأنظمة المتبعة .
عاشراً : العناية الأكيدة بالبحث العلمي وما يتعلق به في جامعاتنا ومن المعلوم أن بعض جامعاتنا لا تولي البحث العلمي العناية المطلوبة وإنه لأمر مخجل أن بعض جامعاتنا لا يوجد لها مجلة علمية محكمة بعد مضي سنوات كثيرة على وجودها وإن وجدت فهي هزيلة .
أحد عشر : الاهتمام بتطوير كفاءات أعضاء الهيئتين التدريسية والإدارية ووضع الحوافز المادية والمعنوية لذلك من أجل رفع مستوى الجامعات حتى لا تكون جامعاتنا عبارة عن مدارس كبيرة .
هذه أهم القضايا التي أرى أنها بحاجة ماسة لإصلاح أحوال جامعاتنا وحبذا لو أن وزارة التعليم العالي يكون لها مساهمة في العملية الإصلاحية بشكل فعال .
والله الموفق
نشر في جريدة القدس 7/5/2002 م(/1)
الجامعة الرمضانية
للشيخ/ زياد الرفاعي
المدرس بمعهد الإمام البخاري للشريعة الإسلامية
المقدمة
كلية التقوى
كلية الجهاد
كلية اليقين
كلية التدبر والتفكير
كلية التغير
كلية التربية
كلية الرحمة
كلية التميز
كلية الذكر
كلية الطب
كلية الحلم
كلية الزكاة
كلية القيام
كلية الاعتكاف
كلية السعادة
دليل الصائم
الخاتمة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله. .
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون )) [آل عمران :102].
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمِ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) [ النساء :1].
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )) [ الأحزاب : 70 ، 71 ] .
أمَّا بعد : فإنّ أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدي هدي محمّد صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النَّار.
كلّية التقوى
عندما جاء الإسلام كَانَ منبراً قوياً لقتل روح التفرقة بَيْنَ النَّاس بل مِن الأسس الَّتِي وضعها حتّى تكون العبادة لربّ العباد. وكان أهل الجاهليّة يحبّون الفخر ويسألون عَنْ الأحساب والأنساب والقبائل الَّتِي ينتمون إِلَيْهَا وعلى هَذَا الأساس يكون التعامل والمجاملة فالقويّ لَهُ الحقّ وزيادة والضعيف عَلَيهِ الظلم وله الخنوع ليعيش تحت ظلّ هَذَا القانون الَّذِي يفرّق حتّى بَيْنَ الألوان والأشكال.
ولمّا قام الدين لهدم هَذَا الميزان وضع لهم ميزاناً جديداً وَهُوَ ميزان التقوى (( يَا أيّها النَّاس إنّا خلقناكم مِن ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عِنْدَ اللهِ أتقاكم إنّ الله عليمٌ خبير )) [الحجرات: 13] ولأنّ التقوى شيء لَيْسَ بالهيّن وَلاَ يصل إِلَيْهِ الإنسان بيوم وليلة جعل لهذه الأمّة شهراً تتعلّم مِن خلاله التقوى فقال عَزَّ وَجَلَّ: (( يَا أيّها الَّذِينَ آمنوا كُتِبَ عليكم الصّيام كَمَا كتب عَلَى الَّذِينَ مِن قبلكم لعلّكم تتقون )) [البقرة: 183] ولذلك كَانَ هَذَا الشهر دعوة إِلَى النسب الحقيقي، وَهُوَ الإسلام والتّمسك بحبل الله عَزَّ وَجَلَّ ليكمل الإنسان سفره إِلَى الآخرة وَهُوَ بحاجة فِي طريقه إِلَى الزّاد والملبس وهما مِن نوع خاص لأنّ الرحلة إِلَى جنّات الخلد والنّعيم. فدلّ الله عَلَى الزّاد فقال عَزَّ وَجَلَّ: (( وتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التقوى )) [البقرة: 197] فهذا هُوَ الزّاد الَّذِي يكسب الأعضاء قوّة والوجدان تقدّماً ويعين صاحبه عَلَى طاعة ربّ العالمين، ثُمَّ ذَلِكَ اللّباس الَّذِي يستر العورة ويحجب عَنْ البدن آثار الذّنوب والمعاصي ويجدّد لَهُ قوّته وطاقته (( يَا بني آدم قَدْ أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذَلِكَ خير ذَلِكَ من آيات الله لعلّهم يذكرون )) [الأعراف: 26] فالحرص كلّ الحرص عَلَى أَنْ تصنعوا لأنفسكم ولأبدانكم الزّاد واللّباس لاستكمال المسيرة إِلَى ربّ العالمين وَلاَ تضيعوا الرّحمة حتّى يكون النسب قَدْ اكتمل إِلَى دين الله عَزَّ وَجَلَّ ويجد الإنسان لنفسه مكاناً تحت تِلْكَ المظلّة الرّبّانيّة ويتعارف مَعَ إخوانه فِي دين الله عَزَّ وَجَلَّ. والله المستعان.
كلّية الجهاد(/1)
(( وقال الَّذِينَ لاَ يعلمون لَوْلاَ يكلّمنا اللهُ أَوْ تأتينا آية كذلك قَالَ الَّذِينَ من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قَدْ بينا الآيات لقوم يوقنون )) [البقرة: 118] وهذه الآية تخبرنا عَنْ التّشابه الَّذِي كَانَ بَيْنَ القرون مَعَ تغير البيئات والصّور والحضارات الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم والرّسل مِن قبله، وَمَا كَانَ هَذَا التّرابط إِلاَّ لأن قائد المسيرة واحد لَمْ يتغيّر مَعَ كلّ التّغيّرات. إنّه إبليس القائل كَمَا بيّنه الله عَزَّ وَجَلَّ: (( فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم ثُمَّ لآتينّهم من بَيْنَ أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم وَلاَ تجد أكثرهم شاكرين )) [الأعراف: 17]، فهذا شعاره الَّذِي رفعه وَهُوَ معنا بالليل والنّهار طوال العام إِلاَّ فِي هَذَا الشهر الكريم، ينفك عَنْ محبوبته، وَهِيَ النَّفْس ليذهب إِلَى سجنه تاركها تواجه المصير لوحدها ( إِذَا كَانَ أوّل ليلة فِي شهر رمضان صفّدت الشّياطين ومردة الجنّ ) صحيح الجامع (759) فتضعف النَّفْس لأنّ قائدها مكبّل ومحبوس، وَهِيَ كذلك بَيْنَ يدي مقبل عَلَى طاعة فِيهَا من الأدوات مَا يزيد من ضعفها ويقتل الشر فِيهَا من قلّة الطّعام والشّراب والابتعاد عَنْ الشّهوات ليخرج جانب الخير الَّذِي حاولت هِيَ وإبليس خلال السنة دفنه والقضاء عَلَيهِ لتمزيق الرّاية الرّبّانيّة والقضاء عَلَى الجوارح وجعلها عبادة لشهواتها، لكن فِي شهر رمضان تختلف الأمور، فالقائد مسجون والنّفس تعبة من ضعف مقوّماتها، وأنت سيّد الموقف فِي الكرّ والفرّ. فعليك أَنْ تكون ذَلِكَ القائد المحنّك لتقضي عَلَى شرّ نفسك وتلبسها ثوب الخير (( ونفسٍ وَمَا سوّاها فألهمها فجورها وتقواها قَدْ أفلح من زكّاها وَقَدْ خاب من دسّاها ))، وتفجّر طاقات الخير فِي نفسك وتفلح، فيخرج من سجنه ليزور حليف الأمس فيجده قَدْ أصبح عدوّاً مستعدّاً لحربه، وبذلك يكون الانتصار. والله المستعان.
كلّية اليقين
عندما تكلّم أهل مكّة عَنْ يوم القيامة وتساءلوا عَنْ حقيقة ذكر الله لهم فِي سورة النبأ الظّواهر الطّبيعيّة الدّالة عَلَى قدرته ثُمَّ أشار عَزَّ وَجَلَّ إِلَى يوم القيامة (( إن يوم الفصل كَانَ ميقاتاً )) [النبأ: 17] وعندما أشار أيضاً إِلَى ذَلِكَ اليوم ومقدّماته قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (( كلا لَوْ تعلمون علم اليقين لترونّ الجحيم ثُمَّ لترونّها عين اليقين )) [التكاثر: 5-7] ولذلك أراد الله أَنْ يعلّمنا كَيْفَ نكون من أولئك الجازمين الحازمين فِي أمورهم، لاَ يتلاعب الشيطان بهم، وَلاَ تزيغ منهم الأبصار والقلوب، وتبقى متمسّكة بالحقّ الَّذِي تسعى إِلَيْهِ وتكون عَلَى ثقة دائمة بحكم الله عَزَّ وَجَلَّ، وَهِيَ بهذه الظاهرة الَّتِي يفطر الصّائم عِنْدَ لحظتها شاكراً لله نعمهُ عَلَيهِ ( إِذَا أقبل اللّيل مِن هاهنا وأدبر النّهار مِن هاهنا وغربت الشّمس فَقَدْ أفطر الصّائم ) صحيح الجامع (364)، ولذلك يؤكّد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذِهِ الظّواهر الطبيعيّة الَّتِي لَهَا تعلّق بالعبادة ( لاَ يزال النَّاس بخير مَا عجلوا الفطر فإن اليهود يؤخّرون ) صحيح الجامع (7695)، وهذا حتّى لاَ تتعلّق النَّفْس بالشّك والجهل الَّذِي منع كفّار مكّة مِن الدخول فِي دين الله عَزَّ وَجَلَّ فقالوا (( أألقيَ عَلَيهِ الذّكر مِن بيننا بل هُوَ كذّابٌ أشر )) [القمر: 25] ولذلك كَانَ تعليم النَّاس الحرص عَلَى اليقين، ونبذ الشّك، والنّاظر فِي قصص الأنبياء يجد أَنْ الشكّ فِي الرّسل صلوات الله عليهم وَمَا أنزل الله معهم مِن الحقّ كَانَتْ هِيَ السّمة المشتركة بَيْنَ الأجيال المتتالية قَالَ تَعَالَى: (( وَمَا لهم بِهِ مِن علم إن يتّبعون إِلاَّ الظنّ وإنّ الظنّ لاَ يغني مِن الحقّ شيئاً )) [النجم: 28] فكانت دعوته صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله ( إنّا معشر الأنبياء أُمرنا أَنْ نعجّل إفطارنا ونؤخّر سحورنا ونضع أيماننا عَلَى شمائلنا فِي الصّلاة ) صحيح الجامع (2285). فهذه تربية مِن الله عَزَّ وَجَلَّ لمن أراد أَنْ يثبت نفسه ويتخلّص من الوسواس، ويرفع شعار نبيّه صلى الله عليه وسلم من كَانَ يؤمن باللهِ واليوم الآخر. والله المستعان.
كلّية التدبّر والتفكير(/2)
قبل أَنْ ينزّل الله الكتاب عَلَى عبده صلى الله عليه وسلم، كَانَ هناك كتاب منظور فِيهِ مَا لاَ يطيقه عاقل ليسجد لصنم أَوْ يعبد وثناً، وَهِيَ هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي نعيش بِهَا، ونسير فِي أرجائها، ولكنّ الإنسان مَعَ صغر شأنه وضآلة حجمه أمام الظّواهر الكونيّة ركبه الكبر لأنّ الله عَزَّ وَجَلَّ سخّر لَهُ الدُّنْيَا، وفي هَذَا الزحام تنبّه عباد الله إِلَى ذَلِكَ (( إنّ فِي خلق السَّمَاوَات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار لآيات لأولي الألباب )) [آل عمران: 190]، فكانت هَذِهِ الظّواهر الطبيعيّة أثر تدلّ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ وترفع من مستوى العقل ونشاط العبادة فِي القلب والذّكر عَلَى اللّسان (( الَّذِينَ يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكّرون فِي خلق السَّمَاوَات والأرض ربّنا مَا خلقت هَذَا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النّار )) [آل عمران: 191] وهنا الوقفة الحقيقيّة، وَهِيَ توحيد الله وسؤاله الرّحمة فكان علينا أَنْ ننظر ونعيد النّظر فِي هَذَا الكون الفسيح لنعلم قدرة الله عَزَّ وَجَلَّ فِي خلقه.
ومن رحمته عَزَّ وَجَلَّ أَنْ جعل لَنَا هَذِهِ العبادة متعلّقة بتلك الظّواهر الكونيّة وخاصة من الإمساك عَنْ الطّعام والشّراب والشّهوة إِلَى العودة إِلَيْهَا وزينة الحياة الدُّنْيَا لتكون لَنَا معياراً فقال عَزَّ وَجَلَّ: (( فالآن باشروهنّ وابتغوا مَا كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثُمَّ أتمّوا الصيام إِلَى اللّيل )) [البقرة: 187] فهذا تنبيه للنّظر فِي ملكوت الله والتفكير والتدبّر وأنت ترى الجبال والتّلال والشمس والقمر والنّجوم واللّيل النّهار تدور بك وأنت مكانك وَهِيَ مسخّرات لك مَعَ عظمها (( الله الَّذِي خلق السَّمَاوَات والأرض وأنزل من السّمَاء ماءً فأخرج بِهِ من الثّمرات رزقاً لكم وسخّر لكم الفلك لتجري فِي البحر بأمره وسخّرلكم الأنهار وسخّر لكم الشّمس والقمر دائِبين وسخّر لكم اللّيل والنّهار )) [إبراهيم: 32-33] فيستلزم ذَلِكَ ممن يعبد الله ويريد الرّجوع إِلَيْهِ والإنابة لَهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يتفكّر فِي خلقه وأصل مَا هُوَ لَهُ يعلم قدرة الله عَلَيهِ وَهُوَ صاحب الذّنوب والمعاصي بالسّرِّ والعلن والله يمهله التّوبة، وينعم عَلَيهِ لعلّه يعود إِلَى عقله ورشده وعبادته عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ الغنيّ الحميد ( إنّ الله يبسط يده باللّيل ليتوب مسيء النّهار ويبسط يده بالنّهار ليتوب مسيء اللّيل حتّى تطلع الشّمس من مغربها ) صحيح الجامع (1871). والله المستعان.
كلّية التغير
إنّ الإنسان فِي كلّ يوم يحاول أَنْ يغيّر من نفسه وحاله إِلَى الأحسن، وذلك بالنظريّة الَّتِي يراها والزاوية الَّتِي يحبّ أَنْ ينطلق من خلالها، لكن فِي شهر رمضان يكون التغير إِلَى الأفضل، وذلك لعدم تدخّل الاجتهاد العقلي والتخبّط بكل المسارات لأنّه أمرٌ من ربّ العالمين، وفرض عَلَى المسلمين أَنْ يصبحوا فِي سلك هَذِهِ العبادة وأن يغيّروا كلّ مَا تعوّدوا عَلَيهِ خلال السنة من العادات والتقاليد، ولذلك نسمع من النَّاس من يقول: "إنّ لهذا الشهر عاداته وأموره الخاصة"، لكن التغير الَّذِي نقع بِهِ هُوَ مقدّمة عظيمة لتغيير مَا فِي النّفوس والأبدان إِذْ أنّ القاعدة (( إنّ الله لاَ يغيّر مَا بقومٍ حتّى يغيّروا مَا بأنفسهم )) [الرعد: 11] ولقد غيّر الصحابة رضوان الله عليهم مَا كانوا عَلَيهِ فِي عبادة غير الله وَمَا يلحق ذَلِكَ من أمور وتبعات ليتحوّل أهل الصحراء إِلَى أمّة عظيمة تهابها الأمم الَّتِي كَانَتْ لاَ تنظر إليهم، ولذلك فِي هَذَا الشّهر وقفة ليتغيّر الإنسان نفسيّاً ومعنويّاً، لما فِي هَذَا الشّهر من خير وتغير لمسار الحياة الراتبة اليوميّة.
فيكون تغيراً كلّي فِي الاتجاه النّفسي، فَهُوَ يتغيّر مَعَ محاكات الأشياء من حوله، فَهُوَ يحافظ عَلَى لسانه وجوارحه. وفي الاتّجاه المعنوي يحاول أَنْ يبحث عَنْ ذاته ولما خلق لَهُ فِي هَذَا الشّهر ويتفكّر فِي تِلْكَ الأوقات الَّتِي ضاعت مِنْهُ فِي اللّهو واللّعب، ويشعر بأنّ كلّ شيء يتغيّر من حوله فِي هَذَا الشّهر فيصمم عَلَى التّغير ويستشعر أَنْ العبادة هِيَ الَّتِي فعلت بِهِ ذَلِكَ فيلتزمها ليجد نفسه قَدْ غيّر كلّ تِلْكَ العادات والأطباع الَّتِي تعلّق بِهَا خلال العام إِلَى عادات جديدة وجميلة تلائم الفطرة فيشعر بنعمة الله عَلَيهِ فِي هَذَا الشّهر الكريم وكيف لا؟ وَقَدْ جاء فِي الحديث القدسي ( وَمَا تقرّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليَّ مما افترضته عَلَيهِ وَمَا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه ) صحيح الجامع (1782) ، وكفى من التغير والعودة إِلَى رحاب الله محبّته عَزَّ وَجَلَّ. والله المستعان.
كلّية التربية(/3)
عَنْ الرّبيع بنت معوّذ رضي الله عنها قالت: أرسل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم -صبيحة عاشوراء- إِلَى قرى الأنصار ( من كَانَ أصبح صائماً فليتمّ صومه، ومن كَانَ أصبح مفطراً فليصم بقيّة يومه ) فكنّا نصومه بَعْدَ ذلك، ونصوّم صبياننا الصغار منهم، ونذهب إِلَى المسجد فنجعل لهم اللّعبة من العهن فَإِذَا بكى أحدهم من الطّعام أعطيناه إيّاه، حتّى يكون عِنْدَ الإفطار. مختصر صحيح مسلم (615)
بهذه القصّة الَّتِي نقلت لَنَا عَنْ تربية الأولاد عَلَى هَذِهِ الطّاعة يتبيّن لَنَا شيئاً عظيماً، وَهِيَ تربية الأولاد عَلَى الأصول الصحيحة فِي التّعلق بحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فإنّ الآباء والأمّهات يقومون عَلَى تربية أولادهم بكل الطّرق الممكنة حتّى يكونوا صالحين، فهم تِلْكَ الثمرة الَّتِي كَانَتْ بَعْدَ الزّواج، وهم المطلب الغرائزي للمحافظة عَلَى النّوع. والنّاتج الطّبيعي لتلك العلاقة الموثقة بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يفتح الطّفل عينيه وذهنه عَلَى تِلْكَ القوّتين العظيمتين الأمّ والأبّ من التوجيه والتعليم والتربية، وعندما يحاولان منعه من شيء فيكون التلويح بالعقاب المادّي كالضّرب، والمعنوي كالحرمان من المصروف اليومي أَوْ مَا يحب، والنّفسي بالتوبيخ، والتقليل من وضعه وعقله.
ولكن المسألة فِي رمضان تختلف، فهما يمنعانه من الطّعام والشّراب خلال النّهار إِلَى غروب شمسه وهما بالأمس يعتريهما الغضب والاستنكار لعدم إقباله عَلَى الطّعام والشّراب، وَلاَ بدّ من مبرر لذلك فيسمع منهما لفظ الجلالة بكل خوف وخشوع: الله أمرنا بذلك، ويرى مكان ذَلِكَ الغضب تودد ولعب وحمس حتّى يشعر الطّفل بقرب والديه مِنْهُ أكثر من كلّ وقت، فيستشعر الولد بتلك القوّة الَّتِي هِيَ أقوى من الآباء والأمّهات، فيشعر أَنْ أبطال الأمس أصبحوا أصدقاء اليوم، فيهم الرّقة والعذوبة، ثُمَّ تتجلّى لَهُ أسمى صور الاتحاد بَيْنَ الآباء والأمّهات فِي كلمة واحدة وَهِيَ أمره بالصّيام طاعة للرحمن عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الأمّهات تخالف رأي الآباء، وترى اجتهادهم فِي الأوامر الَّتِي يطلقونها خطأ، ويستنكر الآباء قرار الأمّهات فيقومون بكسره لأنّهم لاَ يروا فِيهِ قوام التربية إِلاَّ فِي هَذَا الشهر الكريم الَّذِي تتحد فِيهِ الكلمة عَلَى عبادة رب العالمين من الطرفين، ويستشعر بتلك الفطرة الربّانية القيمة الحقيقية الَّتِي وصل إِلَيْهَا مَعَ والديه لتكون تِلْكَ الكلمة لفظ الجلالة "الله" وبيان رسالتي رسوله صلى الله عليه وسلم أوّل مَا يشاهد فِيهِ الأطفال ضعف السلطة الأبويّة والاتّحاد فِي التربية فيعلم أنّ الله فَوْقَ الجميع. والله المستعان.
كلّية الرحمة
لقد وصف الله عَزَّ وَجَلَّ حال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم والصّحابة رضوان الله عليهم، وتلك البيّنة الاجتماعيّة الَّتِي تضمّهم فقال عَزَّ وَجَلَّ (( محمد رَسُول الله والذين معه أشدّاء عَلَى الكفّار رحماء بينهم تراهم ركّعاً سجّداً يبتغون فضلاً من اللهِ ورضواناً )) [الفتح: 29]، وَإِذَا كَانَ استشعار الأفراد فيما بينهم بالرّحمة يبعث عَلَى الأمل والحب، فكيف إن كَانَتْ هَذِهِ الرحمة من الله عَزَّ وَجَلَّ؟ ويتجسّد ذَلِكَ عمليّاً فِي هَذَا الشهر العظيم.(/4)
مَعَ أنّ الله لَمْ يوجب الصّيام علينا إِلاَّ شهراً واحداً فِي السّنة إِلاَّ أنّه أخذ هَذِهِ الأمّة بالرّحمة وجعل لَهَا الرّخصة (( فمن شهد منكم الشّهر فليصمه ومن كَانَ مريضاً أَوْ عَلَى سفرٍ فعدّة مِن أيّامٍ أُخر يريد الله بكم اليسر وَلاَ يريد بكم العسر )) [ البقرة: 185]. ولذلك استطاع المريض أَنْ يترك الصيام حتّى يشفى من مرضه ويسترد صحّته، والمسافر حتّى ينتهي من عمله، وبهذه الرّحمة تسير عجلة الحياة فِي رمضان لتدخل إِلَى قلوبنا فنرحم أنفسنا أوّلاً من نار جهنّم الَّتِي وقودها النّاس والحجارة، ثُمَّ ننظر إِلَى المجتمع بعين الشّفقة فيقوم القوي عَلَى مساعدة الضّعيف، والحاكم عَلَى نصرة المحكوم، والغني عَلَى الصدقة للفقير. تحت مظلّة عظيمة تصنعها غيوم الرّحمة والتواضع لله عَزَّ وَجَلَّ، والعمل فِي سبيله، يحمل كلّ فرد من الأمّة فِي وجدانه قدرة الله عَزَّ وَجَلَّ وعظمته، وَمَعَ تِلْكَ الرّخصة الَّتِي ترفع عَنْهُ الحرج والضّيق وكيف لا؟ والله أرحم بعباده من الأم بولدها الرّضيع، وذلك كَانَ عَلَى الإنسان أَنْ يرحم من هم تحت يده وَلاَ يكلّفهم مِن الأعمال مَا لاَ يستطيعون، وليعلم أنّ ذَلِكَ مِن تمام رحمة الله علينا (( لاَ يكلّف اللهُ نفساً إِلاَّ وسعها لَهَا مَا كسبت وعليها مَا اكتسبت )) [البقرة: 286] فكيف بك وَقَدْ جعل طعامك وشرابك إِذَا نسيت رزقاً مِنْهُ لاَ يحاسبك عَلَيهِ، وأنت مَعَ امتناعك من الطّعام والشّراب تتفكّر بغيرك الَّذِي لاَ يجد طعام يومه فتفيض فيك الرّحمة الَّتِي علّمك الله إياها فِي هَذَا الشهر. والله المستعان.
كلّية التّميّز
لقد منَّ الله عَلَى هَذِهِ الأمّة بميزة عظيمة لَمْ تكن لغيرها وَهِيَ حفظ الرّسالة الَّتِي أنزلها عَلَى محمد صلى الله عليه وسلم (( إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا لَهُ لحافظون )) [الحجر: 9] فكان ذَلِكَ يقتضي أَنْ نكون أمّة متميّزة عَنْ كلّ الأمم السابقة حتّى نما حفظ عَلَى روح هَذِهِ الرّسالة ونقوم بِمَا أوجب الله علينا من الدّعوة إِلَيْهِ (( كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عَنْ المنكر )) [آل عمران: 110] ولذلك رفع نبيّ هَذِهِ الأمّة صلى الله عليه وسلم شعار المخالفة فِي كلّ شيء وحذّر من مشابهة المغضوب عليهم أَوْ الضّالين من اليهود والنّصارى حتّى لاَ نذوب فِي تِلْكَ الأمم ونأخذ من أفكارهم وأشكالهم يؤثر فِي دين الله عَزَّ وَجَلَّ ويخرج النَّفْس عَنْ الطّريق الصّحيح وهم يرفعون شعار العداوة باللّيل والنّهار (( ولن ترضى عَنْكَ اليهود وَلاَ النّصارى حتّى تتّبع ملّتهم )) [البقرة: 120] ولذلك جعل عَلَيهِ الصّلاة والسّلام أكلة السّحر هِيَ الفاصل بَيْنَ صيامنا وصيامهم فقال: ( فصل بَيْنَ صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السّحر )صحيح الجامع (4207)، وبذلك عندما يحمل الإنسان نفسه عَلَى القيام قبل الفجر فِي وقت السّحر وَهُوَ من أكثر الأوقات الَّتِي يعشق فِيهَا الإنسان النّوم ليتسحّر، بل كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: ( تسحّروا وَلَوْ بجرعة ماء ) صحيح الجامع (2945)، فَهُوَ يعد نفسه لهذه المخالفة ويكون تحت ضوء التميُّز فيتطبع بِهَذَا الخلق الكريم الَّذِي أمر بِهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حتّى لاَ تهلك الأمة فتغيّر دين الله عَزَّ وَجَلَّ وتحرف عبادتها عَنْ الصّراط المستقيم ويبقى المفهوم هُوَ اتّباع الأمّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنخرج أنفسنا من ذَلِكَ التحذير ونستعدّ لَهُ نفسيّاً وعمليّاً ( لتتّبعنّ سنن الَّذِينَ من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتّى لَوْ سلكوا جحر ضبّ لسلكتموه ) قالوا: اليهود والنّصارى؟ قَالَ: ( فمن؟ ) صحيح الجامع (5063). ولذلك فلنتّخذ من أكلة السّحر فِي رمضان شعاراً لنتميّز عَنْ أمّة الكفر والنكران. والله المستعان.
كلّية الذكر(/5)
إنّ أخطر عضو فِي الإنسان: اللّسان، لأنّ كلّ الأعضاء يصيبها التّعب وحبّ الرّكون إِلَى الرّاحة إِلاَّ اللّسان، فَهُوَ يعمل بكلّ نشاط، وَلاَ يصيبه التعب إِلاَّ عِنْدَ التّوقف عَنْ الحركة، وبه يكون السّقوط إِلَى الهاوية، قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وَهُوَ يسأله ( كُفَّ عليك هَذَا! ) وأشار إِلَى لسانه، قَالَ: يَا نبيّ الله! وإنّا لمؤاخذون بِمَا نتكلّم به؟ قَالَ: ( ثكلتك أمّك يَا معاذ! وهل يكبّ النَّاس فِي النّار عَلَى وجوههم أَوْ مناخرهم إِلاَّ حصائد ألسنتهم؟ ) ولذلك كَانَ لاَ بدّ لهذه الآلة من شغل تعمل بِهِ حتّى لاَ نقع فيما حرّمه الله وليس لَهَا إِلاَّ الذّكر الَّذِي يكون فِي شهر رمضان شهر القرآن (( شهر رمضان الَّذِي أُنزل فِيهِ القرآن هدىً للنّاس وبيّنات من الهدى والفرقان )) [البقرة: 185] فِي هَذَا الشّهر يتعوّد اللّسان عَلَى ذكر الله وقراءة القرآن والدّعاء ويصبح اللّسان آخذ بالذّكر فِي حالة عمله مبتعداً عَنْ الشّر، قريباً من الله عَزَّ وَجَلَّ (( وَإِذَا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الدّاعي إِذَا دعان )) [ البقرة: 186]، ولذلك بشّر الله الذّاكرين لَهُ فِي الحديث القدسي ( أنا عِنْدَ ظنّ عبدي وأنا معه إِذَا ذكرني، فَإِذَا ذكرني فِي نفسه، ذكرته فِي نفسي، وإن ذكرني فِي ملأٍ ذكرته فِي ملأٍ خير منهم ) صحيح الجامع (8137). ولهذا كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من الذّكر والدّعاء وقراءة القرآن فِي هَذَا الشّهر وفي ذَلِكَ تبعه الصّحابة رضوان الله عليهم والتّابعون فكانت لهم ألسناً يذكرون بِهَا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فكان فِي هديه عِنْدَ فطره أَنْ يقول: ( ذهب الظّمأ وابتلّت العروق وثبت الأجر إن شاء الله ) صحيح الجامع (2066). وإن أفطر عِنْدَ قوم دعا لهم ( أفطر عندكم الصّائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وتنزّلت عليكم الملائكة ) صحيح الجامع (1137)، وقوله لعائشة لمّا سألته مَاذا تقول فِي ليلة القدر من الدّعاء، قَالَ لَهَا قولي: ( اللهم إنّك عفوٌّ تحبّ العفو فاعفوا عنّي ) صحيح الجامع (2789)، وكان صلى الله عليه وسلم يتحرّى الثلث الأخير من اللّيل لما لَهُ من الفضل والاستجابة من الدّعاء.
فعليك بالاجتهاد والذّكر والخشوع لله عَزَّ وَجَلَّ واعلم ( إنّ الله رحيم حييٌّ كريم يستحي من عبده أَنْ يرفع إِلَيْهِ يديه ثُمَّ لاَ يضع فيهما خيراً ) صحيح الجامع (1768)، فادعوا الله أَنْ يحفظكم ويحفظ عليكم ألسنتكم. والله المستعان.
كلّية الطّب
هَذَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ينبّه الأمّة إِلَى السبب الرئيسي للأمراض الَّتِي يعاني مِنْهَا البشر فيؤكّد أنّها فِي المعدة الَّتِي هِيَ منفذ عظيم لدخول الأشياء إِلَيْهَا ووصولها إِلَى باقي البدن فيقول: ( مَا ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كَانَ لاَ محالة، فثلث لطعامه وثلث لشرابه، وثلث لنفسه ) صحيح الجامع (5674)، وبذلك يحصل الترشيد فِي الطّعام الَّذِي يمتنع الإنسان عَنْهُ فِي نهار رمضان ليقوم الجسم بالتّخلّص من الفضلات الزائدة عنه، والسموم الَّتِي تخرجها خلايا الجسم لتصبح نشيطة فتنتقل من عمل التنظيف إِلَى البناء والإنتاج، وهذا فِي حقيقة الأمر بحاجة إِلَى إنسان مرتاح نفسيّاً لأن الأمراض النفسيّة لَهَا تأثير عَلَى الأجهزة والأعضاء وتصيبها بخلل فَلاَ تستطيع تنظيم عملها حتّى وَلَوْ كَانَ أصحاب هَذِهِ الأجهزة والأعضاء لاَ يأكلون من الطّعام إِلاَّ القليل.
وَمَعَ طول السنة والانشغال الفكري والعضلي وتجمّع هموم الحياة اليومية والمستقبليّة تتفرّق الهموم عَلَى الإنسان حتّى يشعر بأنّه لاَ يخرج من هم إِلاَّ إِلَى غيره إِلَى أَنْ يأتي شهر رمضان فيتذكر أَنَّهُ لاَ بدّ لَهُ من الدّخول فِي هذه العبادة وغيرها من العبادات ليكون من عتقاء هَذَا الشهر، ومن أهل الجنّة، فيركن تحت تِلْكَ المظلّة المكتوب فِيهَا ( من كَانَتْ الآخرة همّه جعل الله غناه فِي قلبه وجمع لَهُ شمله وأتته الدُّنْيَا وَهِيَ راغمة ومن كَانَتْ الدُّنْيَا همّه جعل الله فقره بَيْنَ عينيه وفرق عَلَيهِ شمله ولم يأته من الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قدر لَهُ ) صحيح الجامع (6510)، فيجتهد فِي العبادة وخاصة أَنْ من حوله من النَّاس يكون همّهم هُوَ همّه من العبادة والذّكر فيجد فِي ذَلِكَ الفرصة ليتخلّص من أوهامه كلّها ويعود إِلَى الأصل الَّذِي خلق من أجله (( وَمَا خلقت الجنّ والإنس إِلاَّ ليعبدون مَا أريد منهم من رزقٍ وَمَا أريد أَنْ يطعمون إنّ الله هُوَ الرّزاق ذو القوّة المتين )) [الذّاريات: 56-58] وبذلك تتخلّص النّفس من حقدها وشرّها وحسدها وتتطلع بَعْدَ ذَلِكَ لفعل الخير لأن كلّ شيء ذاهب وَلاَ يبقى إِلاَّ البحث عَنْ حقيقة ذَلِكَ الطّريق الموصل إِلَى الجنّة. والله المستعان.
كلّية الحِلم(/6)
جاء الرّجل إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يسأله الوصيّة فقال: ( لاَ تغضب ) صحيح الجامع (7373)
ولأنّ الغضب هُوَ فِي أغلب أحيانه ردّة فعل لفعل آخر، ويصحبها مجانبة الصّواب حتّى لَوْ كَانَ معه الحقّ وإرادة العقاب. فلعلّه فِي حكمه هَذَا يقع فِي الغلوّ فيؤدّي بِهِ إِلَى الظلم الَّذِي حرّمه الله عَزَّ وَجَلَّ لقوله صلى الله عليه وسلم فِي الحديث القدسي ( يَا عبادي إنّي حرّمت الظلم عَلَى نفسي وجعلته بينكم محرّماً فَلاَ تظالموا ) صحيح الجامع (4345)، ثُمَّ إنّ فورة الغضب توقع الإنسان فيما لاَ تحمد عقباه ولذلك لمّا استبّ رجلان أمام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأحدهما قَدْ احمرّ وجهه وانتفخت أوداجه فقال عَلَيهِ الصّلاة السّلام: ( إنّي لأعلم كلمة لَوْ قالها لذهب عَنْهُ مَا يجد، لَوْ قَالَ: أعوذ باللهِ من الشّيطان الرّجيم ذهب عَنْهُ مَا يجد )مختصر صحيح مسلم (1792) فلمّا نقل لَهُ قول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَتْ ردّة الفعل عنده سريعة وقويّة فقال: أمجنون تراني؟ ولذلك كَانَ لاَ بدّ لهذا الدّاء من علاج، وأن يكون الإنسان مستعدّاً لَهُ، وليس وليد السّاعة حتّى لاَ يقع فِي معصية أَوْ ظلم، فكانت تِلْكَ الكليّة العظيمة فِي رمضان الَّتِي يكون جوابها حاضر وفعلها متوافر ( الصّيام جنّة، وَإِذَا كَانَ أحدكم صائماً فَلاَ يرفث، وَلاَ يجهل، وإن امرؤ قاتله أَوْ شاتمه فليقل: أنّي صائم، أنّي صائم ) صحيح الجامع (3877) وهكذا يلوذ بالله عَزَّ وَجَلَّ وَلاَ يكون عنده ردّة فعل، بل يقف عَلَى ساحل الخير الَّذِي فِيهِ الرّحمة والمحبّة من الله عَزَّ وَجَلَّ لَهُ لأنّ هَذِهِ الخصال يحبّها الله عَزَّ وَجَلَّ، وهذا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يمتدح الحلم فِي أشج بني عبد قيس فقال: ( يَا أشج! إنّ فيك لخصلتين يحبّهما الله: الحلم التؤدة ) صحيح الجامع (7848)، وبذلك تكون من الَّذِينَ ذكرهم الله فِي كتابه (( والكاظمين الغيظ والعافين عَنْ النَّاس والله يحبّ المحسنين )) [آل عمران: 134]، فكن عَلَى طريق أولئك الَّذِينَ لاَ يغضبون لأنفسهم بل يتسامحون مَعَ النَّاس حتّى وإن كَانَ الخطأ والغبن عليهم، ليكون لهم الأجر عِنْدَ الله (( وَلاَ تستوي الحسنة وَلاَ السّيئة ادفع بالتي هِيَ أحسن فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم وَمَا يلقّاها إِلاَّ الَّذِينَ صبروا وَمَا يلقّاها إِلاَّ ذو حظّ عظيم )) [فصّلت: 34]، فعليك أَنْ تحمل هَذَا الخلق بَعْدَ رمضان ليصبح فيك سجيّة، وهذا لاَ يأتي بيوم وليلة ولكن بالتّدبّر والجاهدة. والله المستعان.
كلّية الزّكاة
زكاة الفطر واجبة لحديث ابن عمر رضي الله عنه : ( فرض رَسُول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أَوْ صاعاً من شعير عَلَى العبد والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين ) [مختصر صحيح مسلم].
قَالَ الخطّابي رحمه الله تَعَالَى فِي "معالم السنن" (3/214) "وَهِيَ واجبة عَلَى كلّ صائم غني ذي جدة أَوْ فقير يجدها عَنْ قوته إِذَا كَانَ وجوبها لعلّة التطهير وكل الصّائمين محتاجون إِلَيْهَا فَإِذَا اشتركوا فِي العلّة اشتركوا فِي الوجوب".
قال تعالى: (( يَا أيّها الَّذِينَ آمنوا هَلْ أدلّكم عَلَى تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون فِي سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذَلِكَ خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون )) [الصفّ: 10-11].
لقد جعل الله البذل بالمال قبل النَّفْس لأنه أرخص منها، ولكنه محبب إِلَى النّفوس يعزها ويرفعها فتختلج هَذِهِ الشهوة بالنّفس حتّى لاَ يستطيع الإنسان فِي كثير من الأوقات الانفكاك عنها فكانت أوّل درجات الجهاد حتّى يتعود المسلم عَلَى البذل شيئاً فشيئاً بالمال الَّذِي يحبّه، فجعل الله فِي رمضان زكاة الفطر الَّتِي يدفعها الإنسان عَنْ نفسه وأهله وولده ومن يعول ولعلّ الإنسان لاَ يملك النصاب فِي زكاة المال وليس عنده من الأموال مَا يحمله عَلَى دفع الصدقات للفقراء والمساكين فينسى هَذِهِ الشرعة العظيمة الَّتِي تعوده عَلَى البذل فِي سبيل الله، لأنّها أوّل مراحل التجارة الَّتِي طلبها ربّ العالمين من عباده لسلعته الغالية الجنّة، فيأتي شهر الخير ليذكره بِهَا ( زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرّفث وطعمة للمساكين ) صحيح الجامع (3570) فيبعده عَنْ مهلكة الشحّ (( فاتقوا الله مَا استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون )) [التغابن: 16].(/7)
فهذا الإنفاق بداية لتربية النَّفْس عَلَى العطاء، والتوكّل عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ وتحمل أعباء الدّعوة إِلَى الله ليكون بذل النَّفْس بَعْدَ المال باباً من أبواب الإيثار يقدمها فِي سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ حتّى وَلَوْ كَانَ الإنسان لاَ يملك غيرها فدفع القليل فِي أوّل الأمر يحمله عَلَى الكثير، فهذا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( اتّقوا النّار وَلَوْ بشقّ تمرة ) صحيح الجامع (114)، ولأن الإنسان دائم التفكير بالرّزق والموارد الَّتِي يريد أَنْ يحصل من خلالها عَلَى المال والاستزادة منه، تجعله يبخل فإن هَذَا الشهر يحمله عَلَى التفكير فِي دفع المال وإخراجه من أجل اكتمال الطّاعة والفرض (( قل إنّ ربّي يبسط الرّزق لمن يشاء من عباده ويقدر لَهُ وَمَا أنفقتم من شيء فَهُوَ يخلفه وَهُوَ خير الرّازقين )) [سبأ: 39]. والله المستعان.
كلّية القيام
من هنا يبدأ مصنع الرّجال ومفخرة الأجيال، إنّها صلاة اللّيل، وَهِيَ من الأمور الَّتِي كَانَتْ واجبة فِي حقّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وسنّة فِي حقّ سائر أفراد الأمّة، وَقَدْ تلهّى النّاس عَنْ هَذِهِ الشرعة الَّتِي أخرجت لهذه الأمّة أبطالها، ولذلك قَالَ سيّد الخلق صلى الله عليه وسلم: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر لَهُ مَا تقدّم من ذنبه ) صحيح الجامع (6440)..
لقد كَانَ قيام اللّيل أوّل الدّروس العلميّة الَّتِي قام بِهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من أجل تحمّل أعباء الرّسالة (( يَا أيّها المزمّل قم اللّيل إِلاَّ قليلاً نصفه أَوْ انقص مِنْهُ قليلاً أَوْ زد عَلَيهِ ورتّل القرآن ترتيلاً إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً إنّ ناشئة اللّيل هِيَ أشدّ وطئاً وأقوم قيلاً )) [المزمّل: 1-6] وبذلك كَانَ القيام هُوَ المؤهل لتحمل تِلْكَ الرّسالة الَّتِي أخبر الله عَزَّ وَجَلَّ عَنْ تِلْكَ المخلوقات الَّتِي تساوي الإنسان بمرات بل الإنسان أمامها مثل الذرّة، وَهِيَ عاجزة عَنْ حملها (( إنّا عرضنا الأمانة عَلَى السَّمَاوَات والأرض والجبال فأبين أَنْ يحملنها وأشفقن مِنْهَا وحملها الإنسان إنّه كَانَ ظلوماً جهولاً )) [الأحزاب: 72]، فإن قيام اللّيل يعين الإنسان عَلَى حمل هَذِهِ الأمانة بشكلها الصحيح، وكيف لا؟ والصّلاة هِيَ الَّتِي تنهى عَنْ الفحشاء والمنكر، وتأمر بالمعروف، وتوقظ داخله وضميره، فتكون بداخله مثل هيئة الأمر بالمعروف والنّهي عَنْ المنكر، وتجعل مِنْهُ عبداً لله وحده، يركع ويسجد لَهُ، ويبكي من خشيته متذكّراً كثيراً من المعاصي الَّتِي كَانَ يرتكبها، وغيره يقوم اللّيل ويصارع الوقت ليستفيد مِنْهُ فِي آخرته، فجعل الله لمن دخل هَذِهِ الكلّية فِي شهر رمضان وأواخره جائزة ليعوّضه مَا فاته من الطّاعة ويعطيه الأمل فِي المستقبل للثبات ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر لَهُ مَا تقدّم من ذنبه ) صحيح الجامع. وقال تَعَالَى: (( إنّا أنزلناه فِي ليلة القدر وَمَا أدراك مَا ليلة القدر ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر تنزّل الملائكة والرّوح فِيهَا بإذن ربّها من كلّ أمر سلامٌ هِيَ حتّى مطلع الفجر )) [سورة القدر]. فنسأل الله أَنْ تكون السّلامة علينا فِي الدُّنْيَا والآخرة. والله المستعان.
كلّية الاعتكاف
الاعتكاف سنّة عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي كلّ أيّام السنة وأفضلها فِي العشر الأواخر من رمضان لقول عائشة عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ( كَانَ يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتّى توفّاه الله عَزَّ وَجَلَّ ).
إنّ حبس النَّفْس فِي مكان لاَ يحتمل الوجود فِيهِ إِلاَّ القيام بأعمال محدودة من الطّاعات وترك المنكرات وكثير من المباحات ليحصل مِنْهُ أمرين عظيمين، الأوّل محاسبة النَّفْس والوقوف عَلَى الخلل الموجود فِيهَا والنّظر الصحيح لَهَا نظرة المتفحّص (( بل الإنسان عَلَى نفسه بصيرة وَلَوْ ألقى معاذيره )) [القيامة: 14-15] وهنا تكون الخلوة الصحيحة مَعَ النَّفْس فَهُوَ عتاب معها لكن بصمت لاَ يسمعه أحد وَلاَ يعاتبه عَلَى أخطائه أحد، ولذلك يكون فِي حالة صدق مَعَ نفسه، لأنّه أدخل نفسه فِي طاعة وَلاَ يمكن لَهُ إفسادها بأن ينكر ذَلِكَ الصّوت الداخلي الَّذِي يذكره بثقل الذنوب ووحشة الصدور، ونزعتها لجانب الخير الَّتِي تفجر طاقاتها فِي هَذِهِ الكلّية العظيمة.
والأمر الثاني العودة إِلَى قلبه والنّظر فِيهِ وفي تِلْكَ المضغة وصلاحها ( إنّ فِي الجسد مضغة إِذَا صلحت صلح الجسد كلّه وَإِذَا فسدت فسد الجسد كلّه ) صحيح الجامع (3193). وَهِيَ القلب الَّذِي يضخّ الدّم، ويحمل مادة الحياة الَّتِي توجب عَلَى المسلم الطّاعات وترك المنكرات فإن فِي الاعتكاف الدّواء الناجح الَّذِي تصرفه الصيدليّة الإسلاميّة ليقوى ويعود إِلَى نشاطه، وذلك يكون فِي اعتكاف رمضان قَالَ الشّاعر:(/8)
دَوَاءُ الْقَلْبِ خَمْسٌ عِنْدَ قَسْوَتِهِ * فَدُمْ عَلَيْهَا تَفْزْ بِالْخَيْرِ وَالظَّفَرِ
خَلاَءُ بَطْنٍ وَقُرْآنٍ تَدَبَّرَهُ * كَذَا تَضُرُّعُ بَاكٍ سَاعَةَ السَّحَرِ
كَذَا قِيامُكَ جُنْحَ اللَّيْلِ أَوْسَطَهُ * وَأَنْ تُجالسَ أَهْلَ الْخَيْرِ وَالْخَبَرِ
وهذه الوصفة، يكون تمامها فِي نهار وليل رمضان فِي الاعتكاف. والله المستعان.
كلّية السعادة
إن البشرية منذ زمنٍ بعيد، أَوْ قلْ مِن عهد نزول آدم عليه السلام إِلَى الأرض وإلى أَنْ يبعث الله النَّاس، تبحث عَنْ السّعادة ومادتها، وكيف الوصول إِلَيْهَا وكثير منهم ضلّوا الطريق، وهم ينقبون عنها فمنهم من ظنّها بالمال وركض خلف تجميعه، ومنهم من قَالَ إنّها فِي الشهرة، وبدأ يرسم الخطوط العريضة والرّفيعة ليصل إِلَى وهمه ومنهم من ظنّها موجودة بالقوّة والسيطرة فركب بحراً مَا زال يتلاطم مَعَ أمواجه.
لكنّ نبي هَذِهِ الأمّة صلى الله عليه وسلم يصف لَنَا السّعادة بَعْدَ يوم من الصوم، وتنفيذ الأمر تمهيداً إِلَى تِلْكَ السّعادة الكبرى (( فمن زحزح عَنْ النّار وأدخل الجنّة فَقَدْ فاز )) [آل عمران: 185].
( إنّ الله تَعَالَى يقول: إنّ الصّوم لي وأنا أجزي به، إن للصائم فرحتين إِذَا أفطر فرح وَإِذَا لقي الله تَعَالَى فجزاه فرح ) صحيح الجامع (1907). ولهذا علينا أَنْ نعرف أركان هَذِهِ السعادة وكيف تمت فِي هَذِهِ العبادة العظيمة الَّتِي تجتمع فِيهَا أركان الثلاثة الرخاء الأمني والرخاء الاقتصادي وتوحيد الله وعبادته لذلك أخبر الله عَزَّ وَجَلَّ عندما منّ عَلَى أهل مكّة فِي كتابه العزيز (( لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشّتاء والصّيف فليعبدوا ربّ هَذَا البيت الَّذِي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف )) [سورة قريش] فيحصل الفرح بذلك الأمان الَّذِي يستشعره الصّائم، وخاصة فِي تِلْكَ المظاهر الَّتِي تجمع العائلة الواحدة عَلَى الإفطار، والنّاس فِي المساجد للصّلاة ويتفشّى بينهم السّلام ( لاَ تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا وَلاَ تؤمنوا حتّى تحابوا، أوّلاً أدلّكم عَلَى شيءٍ إِذَا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السّلام بينكم ) مختصر صحيح مسلم (42)، وبذلك يستشعر خلال هَذِهِ العبادة بالأمان، ثُمَّ تكون زكاة الفطر الَّتِي يخرجها المسلم عَنْ نفسه ومن يعول للفقراء الَّذِينَ يغنوهم عَنْ السّؤال والحوج، فيحصل الاستشعار بالرّخاء الاقتصادي ويكون كلّ ذَلِكَ طاعة لله عَزَّ وَجَلَّ فتكتمل السّعادة ويتحقق الاطمئنان الَّذِي يحصل بذكر الله عَزَّ وَجَلَّ (( ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب )) [الرعد: 28] ليتخرج الصائم من هَذِهِ الكلّية فِي هَذَا الشهر وَهُوَ يعرف طعم مَا يبحث عَنْهُ، فهل يحافظ عَلَى هَذِهِ الشهادة من كليّته. والله المستعان.
دليل الصائم
حكم الصّيام
1. ... الكتاب: (( يَا أيّها الَّذِينَ آمنوا كتب عليكم الصّيام كَمَا كتب عَلَى الَّذِينَ من قبلكم )) [البقرة: 183].
2. ... السنّة : ( بُنيَ الإسلام عَلَى خمس…وصيام رمضان…) [صحيح الجامع: 2840].
3. ... الإجماع : ذكره النّووي –رحمه الله- فِي المجموع (6/252).
عَلَى من يجب
1. ... المسلم لقوله: (( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة من الخاسرين )) [آل عمران: 85].
2. ... البالغ (انظر كلّية التربية) والعاقل: لقوله صلى الله عليه وسلم: ( رفع القلم عَنْ ثلاثة: عَنْ النّائم حتّى يستيقظ، وعن الصّبي حتّى يشبّ وعن المعتوه حتّى يعقل ) [صحيح الجامع: 3513].
3. ... الصحيح والمقيم لقوله تَعَالَى: (( فمن كَانَ منكم مريضاً أَوْ عَلَى سفر فعدّة من أيّام أُخر )) [البقرة: 184].
أركان الصّيام
1. ... النّية لقوله صلى الله عليه وسلم ( من لَمْ يبيّت الصّيام قبل الفجر فَلاَ صيام لَهُ ) [صحيح الجامع: 6534].
2. ... الإمساك : وَهُوَ الإمساك عَنْ جميع المفطرات (الطّعام والشّراب والجماع) من طلوع الفجر إِلَى غروب الشّمس لقوله تَعَالَى: (( فالآن باشروهنّ وابتغوا مَا كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثُمَّ أتمّوا الصيام إِلَى اللّيل )) [البقرة: 187].
مَا يباح للصّائم فعله
1. ... الصّائم يصبح جنباً:عَنْ عائشة وأمّ سلمة رضي الله عنهما أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يدركه الفجر وَهُوَ جنب من أهله ثُمَّ يغتسل ويصوم. [صحيح الجامع: 4938].
2. ... السواك للصائم:لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لَوْلاَ أَنْ أشقّ عَلَى أمّتي لأمرتهم بالسّواك عِنْدَ كلّ وضوء ). [صحيح الجامع: 5318].
3. ... المضمضة والاستنشاق:لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أسبغ الوضوء وخلّل بَيْنَ الأصابع وبالغ فِي الاستنشاق إِلاَّ أَنْ تكون صائماً ) [صحيح الجامع: 927].
4. ... الحجامة:لفعله صلى الله عليه وسلم ( احتجم وَهُوَ صائم ) [صحيح البخاري: 1837].(/9)
5. ... تذوّق الطّعام:عَنْ ابن عبّاس رضي الله عنه ( لاَ بأس أَنْ يذوق الخل أَوْ الشّيء مَا لَمْ يدخل حلقه وَهُوَ صائم )..
6. ... صبّ الماء البارد عَلَى الرّأس:لفعله صلى الله عليه وسلم (( كَانَ يصبّ الماء البارد عَلَى رأسه وَهُوَ صائم من العطش أَوْ من الحرّ )) [صحيح سنن أبي داود: 2072].
7. ... الاغتسال:قول عائشة وأمّ سلمة رضي الله عنهما أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يدركه الفجر وَهُوَ جنب من أهله ثُمَّ يغتسل ويصوم. [صحيح الجامع: 4938].فدلّ ذَلِكَ عَلَى اغتساله صلى الله عليه وسلم بَعْدَ دخول وقت الفجر وَهُوَ وقت الامساك عَنْ المفطرات.
مفسدات الصّيام
1. ... الأكل والشرب متعمداً :لقوله تَعَالَى: (( وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثُمَّ أتمّوا الصّيام إِلَى اللّيل )) [البقرة: 187].
لاَ يدخل فِي هَذَا الحكم النّاسي لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من نسي فأكل وشرب فليتمّ صومه فإنّما أطعمه الله وسقاه ) [صحيح الجامع: 6573].
2. ... تعمّد القيء :لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من ذرعه القيء فليس عَلَيهِ قضاء ومن استقاء فليقض ) [صحيح الجامع: 6243].
3. ... الجماع :لقوله تَعَالَى: (( أحل لكم ليلة الصّيام الرفث إِلَى نسائكم هنّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنّ )) [البقرة: 187].
ذكر النّووي فِي المجموع (6/348) أجمعت الأمّة عَلَى تحريم الجماع فِي القبل والدّبر عَلَى الصّائم وعلى أَنْ الجماع يبطل صومه. اهـ
4. ... الحقن الغذائيّة:وَهِيَ إيصال بعض المواد الغذائيّة إِلَى الأمعاء بقصد تغذية بعض المرضى فهذا النّوع يفطر الصائم لأنّه إدخال إِلَى الجّوف وإن لَمْ يكن عَنْ طريق الفم.
أحوال النّساء
1. ... الحيض والنّفاس : تفطران وعليهما القضاء :عَنْ معاذة قالت: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: مَا بال الحائض تقضي الصّوم وَلاَ تقضي الصّلاة؟ قالت: أحروريّة أنت؟ قلت لست بحروريّة ولكن أسأل، قالت: كَانَ يصيبنا ذَلِكَ فنؤمر بقضاء الصّوم وَلاَ نؤمر بقضاء الصّلاة. [مختصر صحيح مسلم: 180].
2. ... الحامل والمرضع تفطران وعليهما الفدية :قَالَ تَعَالَى: (( وعلى الَّذِينَ يطيقونه فدية طعام مسكين )) [البقرة: 184].
عَنْ ابن عبّاس -موقوفا- قَالَ: ( إِذَا خافت الحامل عَلَى نفسها والمرضع عَلَى ولدها فِي رمضان، قَالَ: يفطران، ويطعمان مكان كلّ يوم مسكيناً، وَلاَ يقضيان صوماً ). [إرواء الغليل: 4/19].
صيام التّطوع
1. ... صيام ستّة أيّام من شهر شوّال:لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من صام رمضان ثُمَّ أتبعه ستّاً من شوّال فكأنّما صام الدّهر ) [صحيح الجامع: 6327].
2. ... صيام يوم عرفة:لقوله صلى الله عليه وسلم: ( صوم يوم عرفة يكفّر سنتين، ماضيه ومستقبله ) [صحيح الجامع: 3806].
3. ... صيام يوم عاشوراء :لقوله صلى الله عليه وسلم: ( …وصوم عاشوراء يكفّر سنة ماضية ) [صحيح الجامع].والسنّة صيام يوم معه لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لئن بقيت إِلَى قابل لأصومنّ التاسع ) أَيْ مَعَ يوم عاشوراء.
4. ... صيام الاثنين والخميس من كلّ أسبوع :لقوله صلى الله عليه وسلم: ( تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحبّ أَنْ يعرض عملي وأنا صائم ) [صحيح الجامع: 2959].
5. ... صيام المحرّم:لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الصّيام بَعْدَ رمضان شهر الله المحرّم ) [صحيح الجامع: 1121].
6. ... صيام شعبان:سألت عائشة عَنْ صيام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ( …ولم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كَانَ يصوم شعبان كلّه، كَانَ يصوم شعبان إِلاَّ قليلاً )
عَنْ عبد الله بن شفيق قَالَ: قلت لعائشة: أكان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً كلّه؟ قالت: مَا علمته صام شهر كلّه إِلاَّ رمضان، وَلاَ أفطره كلّه، حتّى يصوم مِنْهُ، حتّى مضى لسبيله صلى الله عليه وسلم.
7. ... أفضل الصّيام فِي التّطوع:لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنّ أحب الصّيام إِلَى الله صيام داود…كَانَ يصوم يوماً ويفطر يوماً ) [مختصر صحيح مسلم: 629 ].
8. ... فضل الصّوم فِي سبيل الله: قوله صلى الله عليه وسلم: ( مَا من عبدٍ يصوم يومً فِي سبيل الله إِلاَّ باعد الله بذلك اليوم وجهه عَنْ النّار سبعين خريفاً ) [مختصر صحيح مسلم: 609].(/10)
فهذا هُوَ شهر رمضان يأتي فِي كلّ سنة مرّة مثل ذَلِكَ الزّائر الخجول يحمل فِي طيّاته الخير الكثير وخاصّة إِلَى من جاء إِلَيْهِ يطرق بابه ويدخل إِلَى رحاب جامعته لينهل من تِلْكَ الموارد العمليّة الَّتِي تطّهر النَّفْس من أخباثها والقلب من سواده ليرتقي الإنسان فِي عبادة ربّه عَزَّ وَجَلَّ ويكون متقلباً فِي العبادة فِي كلّ لحظة وحين ليطمئنّ القلب وتستقيم النَّفْس ويتخرّج الإنسان صحيح البدن والعقل من الشّرك والبدعة والظنّ والشّك فلذلك عليكم أيّها الأخوة أَنْ تستعدّوا لدخول هَذِهِ الجامعة العظيمة والتنقّل بَيْنَ كلّياتها لعل الله يكتب لَنَا بأحد هَذِهِ الكلّيات المثوبة والمغفرة وَهُوَ وليّ ذَلِكَ والقادر عَلَيهِ. والله المستعان.
هَذَا جهد المعترف بالتّقصير المحب لنشر دعوة ربّ العالمين، فمن رأى فِيهِ عيب يقومه وأجره عَلَى الله ومن أعجب بشيء مِنْهُ فذلك بتوفيق الله وَمَا أبرّأ نفسي إن النَّفْس لأمارة بالسّوء وصلى الله عَلَى نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إِلَى يوم الدّين.
وآخر دعوانا أَنْ الحمد لله ربّ العالمين.(/11)
الجامعة العربية ..مائدة الخلاف العربي !
محمد عبد الله السمان 11/2/1426
21/03/2005
في أواسط عام 1948 م، ونحن في المركز العام للإخوان المسلمين، وشباب الإخوان يتأهبون إلى فلسطين جهاداً في سبيل الله لتخليص فلسطين من الصهاينة واسترجاع الأرض المغتصبة التف الصحفيون حول سماحة مفتي فلسطين الشيخ أمين الحسيني آنذاك، فلم يسمعوا منه إلا عبارة واحدة: تكلم السيف .. فاسكت أيها القلم!!!
رحم الله مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني .. أذكى أذكياء الساسة العرب والمسلمين في العصر الحديث .. لم يخنه ذكاؤه .. لكن الموقف الحرج أرغمه على النطق بهذه العبارة منعاً لتسرب اليأس إلى النفوس .. كان على علم يقيني بأن السيف العربي قد أصابه الصدأ حتى لم يعد قادراً على الكلام، ولا بد أن يحل القلم محل السيف ليتكلم في الهواء ما شاء له أن يتكلم!
أذكر أنني أجريت منذ أكثر من نصف قرن مع سماحة المفتي رحمه الله الحاج أمين الحسيني، ومع الدكتور عبد الرحمن عزام أول أمين عام للجامعة العربية رحمه الله حواراً .. كان الاثنان متفقين في الرأي بأن دخول الجيوش العربية فلسطين مؤامرة خطط لها الاستعمار الغربي الصليبي المساند لليهود، ولن تكون النتيجة إلا في صالح شراذم اليهود، وكان الإمام "حسن البنا" على هذا الرأي .. وهو أن يذهب إلى فلسطين متطوعون .. فإن انتصروا كان خيراً .. وإن لم ينتصروا كان العالم العربي في مأمن من إلحاق الهزيمة به .. إلا أن الأنظمة العربية لم تكن لها إرادة الرفض لمخططات الاستعمار!!
كان وعد بلفور المشئوم في الثاني من نوفمبر سنة 1917 م شهادة ميلاد لدولة إسرائيل بلا حياة، وكان دخول الجيوش العربية في حرب مع اليهود، قد منح هذه الدولة الحياة .. تسابقت الدول في الاعتراف بها، وتوج الاعتراف باعتراف هيئة الأمم المتحدة .. وأخيراً اعترفت دويلة الفاتيكان بإسرائيل شكلاً بعد أن ظلت معترفة بها موضوعاً منذ قيامها في عام 1948 م .
ومنذ عقدت مصر الصلح المنفرد مع إسرائيل توقف السيف عن الكلام .. حيث لم يعد لكلام السيف معنى .. وإذا كان صلح مصر مع إسرائيل بداية المؤامرة على قضية فلسطين .. فإن اتفاقات التسوية بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل كتب السطور الأخيرة في تنفيذ المؤامرة كما تتمنى إسرائيل .. وليس كما يتمناه العرب .. وبعد ذلك لم يعد العرب في حاجة حتى إلى سيف أخرس .. وإنما هم في أمس الحاجة إلى قلم يكتب، ولسان ينطق .. ولا أهمية لما يكتبه القلم، ولا لما ينطق به اللسان .. والمهم تخدير الشعوب التي تتظاهر ـ مرغمة ـ بقابليتها للتخدير وهي في أكمل يقظتها!!
وحتى لا نظلم السيف نقول:
هذا السيف ليس دائماً مصاباً بالعي والخرس .. لأن إصابته تلازمه حين يواجه أعداء العروبة والإسلام .. ولكنه يتكلم بانطلاق في مجالين:
أولهما: حين تواجه الأنظمة العربية والإسلامية الشمولية معارضيها .. حيث لا تكفي السياط والهروات لردع معارضيها!!
ثانيهما: حين تكون المواجهة بين الشعوب العربية وأنفسها في صورة حروب أهلية من أجل فئة قليلة تسعى إلى السلطة دون أن تنزعج لاستنزاف الدماء البريئة!!
وحتى لا نتجنى على القلم نقول:
لم يستجب السيف لما قاله سماحة مفتي فلسطين ويتكلم .. كذلك لم يستجب القلم لما قاله سماحته ويسكت .. بل لقد انطلق .. لا لحساب قضيتنا المصيرية مع القوى المعادية للإسلام والعروبة معاً .. ولكن لحساب أهواء السلطة التي تدفع له الأجر بسخاء .. وهناك القلم الذي استجاب لما قاله سماحة المفتي، والتزم الصمت، لأنه عز عليه أن يشترك في زفة التزلف إلى السلطة .. و"تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها" كما يقول المثل العربي .
وهكذا صارت الأمة العربية والإسلامية في موقف لا تحسد عليه .. بين يأس من صليل السيوف .. وزهد في صرير الأقلام .. والشعوب العربية والإسلامية التي استمرأت ـ عن رضى وطيب خاطر ـ أن تظل مغلوبة على أمرها هي اليوم على هامش الحياة في معزل عن الأحداث الجسام ومن هذا المنطلق:
ترتكب القوى المعادية للعروبة والإسلام الجرائم البشعة ضدنا .. تمزق الأجساد، وتنهش الأعراض .. في العراق وفلسطين وهي مطمئنة غاية الاطمئنان، دون أن نتوقع انتفاضات الشعوب العربية والإسلامية، لأن الأنظمة عندما تمثل صمام الأمان، وقوانين الطوارئ سيوف مصلتة على الرقاب .. المعلنة منها وغير المعلنة .. وقد يسمح للأقلام أن تستنكر، وللألسنة أن تشجب وتندد .. شريطة أن يسمع العالم برمته جعجعة ولا يرى طحناً!!
ويتساءل البسطاء في دهشة .. وليس في أسى:
ما جدوى الجامعة العربية .. ولا نقول: ما جدوى منظمة المؤتمر الإسلامي، أو منظمة الوحدة الأفريقية؟!!
ونجيب نحن في أسى .. وليس لمجرد الدهشة:(/1)
إن هذه المنظمات هي منظمات حكومات .. وليست منظمات شعوب .. وهذا هو سر فشلها .. وقد رأينا أن الوحدة الأوروبية الحديثة تختفي فيها الحكومات .. لأن الشعوب هناك هي صاحبة اتخاذ القرار .. أما منظماتنا فهي لمجرد الاستهلاك، لا تحس بها الشعوب ولا تكاد تدري عنها شيئاً .. وها نحن أولاء نرى أن الجامعة العربية منذ إنشائها في الثاني والعشرين من مارس عام 1945 م لم تفعل شيئاً يذكر .. والجامعة العربية أصلاً هي فكرة "مستر إيدن" وزير خارجية بريطانيا يومئذ .. فقد كان إيدن يرى أن العرب لكي يختلفوا يجب أن تكون لهم مائدة يجلسون حولها فكانت الجامعة العربية!!
واليوم الجامعة العربية غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها حيال القضايا العربية الملحة ومن أسف أن هناك دولاً عربية أعضاء في الجامعة تريدها أن تظل هامشاً سياسياً!
ولا حول ولا قوة إلا بالله(/2)
الجامعة العربية ..مائدة الخلاف العربي !
محمد عبد الله السمان 11/2/1426
21/03/2005
في أواسط عام 1948 م، ونحن في المركز العام للإخوان المسلمين، وشباب الإخوان يتأهبون إلى فلسطين جهاداً في سبيل الله لتخليص فلسطين من الصهاينة واسترجاع الأرض المغتصبة التف الصحفيون حول سماحة مفتي فلسطين الشيخ أمين الحسيني آنذاك، فلم يسمعوا منه إلا عبارة واحدة: تكلم السيف .. فاسكت أيها القلم!!!
رحم الله مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني .. أذكى أذكياء الساسة العرب والمسلمين في العصر الحديث .. لم يخنه ذكاؤه .. لكن الموقف الحرج أرغمه على النطق بهذه العبارة منعاً لتسرب اليأس إلى النفوس .. كان على علم يقيني بأن السيف العربي قد أصابه الصدأ حتى لم يعد قادراً على الكلام، ولا بد أن يحل القلم محل السيف ليتكلم في الهواء ما شاء له أن يتكلم!
أذكر أنني أجريت منذ أكثر من نصف قرن مع سماحة المفتي رحمه الله الحاج أمين الحسيني، ومع الدكتور عبد الرحمن عزام أول أمين عام للجامعة العربية رحمه الله حواراً .. كان الاثنان متفقين في الرأي بأن دخول الجيوش العربية فلسطين مؤامرة خطط لها الاستعمار الغربي الصليبي المساند لليهود، ولن تكون النتيجة إلا في صالح شراذم اليهود، وكان الإمام "حسن البنا" على هذا الرأي .. وهو أن يذهب إلى فلسطين متطوعون .. فإن انتصروا كان خيراً .. وإن لم ينتصروا كان العالم العربي في مأمن من إلحاق الهزيمة به .. إلا أن الأنظمة العربية لم تكن لها إرادة الرفض لمخططات الاستعمار!!
كان وعد بلفور المشئوم في الثاني من نوفمبر سنة 1917 م شهادة ميلاد لدولة إسرائيل بلا حياة، وكان دخول الجيوش العربية في حرب مع اليهود، قد منح هذه الدولة الحياة .. تسابقت الدول في الاعتراف بها، وتوج الاعتراف باعتراف هيئة الأمم المتحدة .. وأخيراً اعترفت دويلة الفاتيكان بإسرائيل شكلاً بعد أن ظلت معترفة بها موضوعاً منذ قيامها في عام 1948 م .
ومنذ عقدت مصر الصلح المنفرد مع إسرائيل توقف السيف عن الكلام .. حيث لم يعد لكلام السيف معنى .. وإذا كان صلح مصر مع إسرائيل بداية المؤامرة على قضية فلسطين .. فإن اتفاقات التسوية بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل كتب السطور الأخيرة في تنفيذ المؤامرة كما تتمنى إسرائيل .. وليس كما يتمناه العرب .. وبعد ذلك لم يعد العرب في حاجة حتى إلى سيف أخرس .. وإنما هم في أمس الحاجة إلى قلم يكتب، ولسان ينطق .. ولا أهمية لما يكتبه القلم، ولا لما ينطق به اللسان .. والمهم تخدير الشعوب التي تتظاهر ـ مرغمة ـ بقابليتها للتخدير وهي في أكمل يقظتها!!
وحتى لا نظلم السيف نقول:
هذا السيف ليس دائماً مصاباً بالعي والخرس .. لأن إصابته تلازمه حين يواجه أعداء العروبة والإسلام .. ولكنه يتكلم بانطلاق في مجالين:
أولهما: حين تواجه الأنظمة العربية والإسلامية الشمولية معارضيها .. حيث لا تكفي السياط والهروات لردع معارضيها!!
ثانيهما: حين تكون المواجهة بين الشعوب العربية وأنفسها في صورة حروب أهلية من أجل فئة قليلة تسعى إلى السلطة دون أن تنزعج لاستنزاف الدماء البريئة!!
وحتى لا نتجنى على القلم نقول:
لم يستجب السيف لما قاله سماحة مفتي فلسطين ويتكلم .. كذلك لم يستجب القلم لما قاله سماحته ويسكت .. بل لقد انطلق .. لا لحساب قضيتنا المصيرية مع القوى المعادية للإسلام والعروبة معاً .. ولكن لحساب أهواء السلطة التي تدفع له الأجر بسخاء .. وهناك القلم الذي استجاب لما قاله سماحة المفتي، والتزم الصمت، لأنه عز عليه أن يشترك في زفة التزلف إلى السلطة .. و"تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها" كما يقول المثل العربي .
وهكذا صارت الأمة العربية والإسلامية في موقف لا تحسد عليه .. بين يأس من صليل السيوف .. وزهد في صرير الأقلام .. والشعوب العربية والإسلامية التي استمرأت ـ عن رضى وطيب خاطر ـ أن تظل مغلوبة على أمرها هي اليوم على هامش الحياة في معزل عن الأحداث الجسام ومن هذا المنطلق:
ترتكب القوى المعادية للعروبة والإسلام الجرائم البشعة ضدنا .. تمزق الأجساد، وتنهش الأعراض .. في العراق وفلسطين وهي مطمئنة غاية الاطمئنان، دون أن نتوقع انتفاضات الشعوب العربية والإسلامية، لأن الأنظمة عندما تمثل صمام الأمان، وقوانين الطوارئ سيوف مصلتة على الرقاب .. المعلنة منها وغير المعلنة .. وقد يسمح للأقلام أن تستنكر، وللألسنة أن تشجب وتندد .. شريطة أن يسمع العالم برمته جعجعة ولا يرى طحناً!!
ويتساءل البسطاء في دهشة .. وليس في أسى:
ما جدوى الجامعة العربية .. ولا نقول: ما جدوى منظمة المؤتمر الإسلامي، أو منظمة الوحدة الأفريقية؟!!
ونجيب نحن في أسى .. وليس لمجرد الدهشة:(/1)
إن هذه المنظمات هي منظمات حكومات .. وليست منظمات شعوب .. وهذا هو سر فشلها .. وقد رأينا أن الوحدة الأوروبية الحديثة تختفي فيها الحكومات .. لأن الشعوب هناك هي صاحبة اتخاذ القرار .. أما منظماتنا فهي لمجرد الاستهلاك، لا تحس بها الشعوب ولا تكاد تدري عنها شيئاً .. وها نحن أولاء نرى أن الجامعة العربية منذ إنشائها في الثاني والعشرين من مارس عام 1945 م لم تفعل شيئاً يذكر .. والجامعة العربية أصلاً هي فكرة "مستر إيدن" وزير خارجية بريطانيا يومئذ .. فقد كان إيدن يرى أن العرب لكي يختلفوا يجب أن تكون لهم مائدة يجلسون حولها فكانت الجامعة العربية!!
واليوم الجامعة العربية غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها حيال القضايا العربية الملحة ومن أسف أن هناك دولاً عربية أعضاء في الجامعة تريدها أن تظل هامشاً سياسياً!
ولا حول ولا قوة إلا بالله(/2)
الجاهلية بين الكتب التاريخية والمفهوم الشرعي
د. محمد بن إبراهيم أبا الخيل أستاذ مساعدفي كلية علوم العربية والاجتماعية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، فرع القصيم 29/7/1423
06/10/2002
الجاهلية في كتب التاريخ :
المؤلفات التي تحدثت عن جاهلية ما قبل الإسلام - سواء في الكتب المؤلفة عن سيرة النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم ، أو في المؤلفات التاريخية العامة - لا تعرض لها ( أي للجاهلية ) عرضاً وافياً ، وإن أفاضتْ وفصّلتْ ؛ ذاك أنها تَعْرِض مظاهر تلك الجاهلية أكثر ممَّا تعرض لجوهرها . فكل ما يرد في تلك المؤلفات عن عرب الجاهلية – مثلاً – أمور تقليدية ملخصها : أنهم يعبدون الأصنام ، ويئدون البنات، ويشربون الخمر ، ويلعبون الميسر ، ويقومون بغارات السلب والنهب .. إلخ ، فجاء الإسلام فنهاهم عن ذلك . وهذا فيه إيحاء بأن الإسلام استنفذ أغراضه، ولم يُعد له دور يؤديه لا للمسلمين ولا لبقية الناس ، فالدارس لن يرى الأصنام الحسية تعبد ، ولا يجد أحداً يئد البنات ، أمَّا الأمور الأخرى فرغم تحريم الإسلام لها فإن الناس يقعون فيها بسبب ضعفهم البشري أمام المغريات والشهوات والأهواء .
المفهوم الشرعي للجاهلية :
استخدم العرب قبل الإسلام الجهل ومشتقاته في معنيين اثنين هما : الجهل ضد العلم، والجهل ضد الحِلْم . أمَّا لفظ الجاهلية فهو مصطلح إسلامي صرف ، لم يستخدمه العرب قبل الإسلام لا في كلامهم ، ولا في أشعارهم وخطبهم .
فالجاهلية في القرآن والسنة لفظ يختص بمعنى معين ، بحيث لا ينصرف ذهن السامع عند ذكره إلا إلى ذلك المعنى ، وإن كان يدخل في إطار المعنى اللغوي والعام له . فالصلاة - مثلاً - في اللغة معناها الدعاء ، ولكنها في الإسلام تعني الهيئة التي يقف فيها العبد بين يدي مولاه كما بيّنها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم.وقُل مثل ذلك عن الزكاة والإيمان والكفر وغيره ممَّا صار له معنى معين في الدين الإسلامي (1)
ولفظ الجاهلية هو في الأصل صفة ، ولكن غلب عليه الاستعمال حتى صار اسماً ، وقد يكون اسماً للحال ، وهو الغالب في الكتاب والسنة ، وقد يكون اسماً لذي الحال ، فتقول : طائفة جاهلية ، وشعر جاهلي . ونحو ذلك (2) .
والمتتبع للجاهلية وما تفرع عنها من ألفاظ في القرآن والسنة يجد مفهومها يتركز في الجهل بحقيقة الألوهية وخصائصها ، أو في الدلالة على الحياة بسلوك غير منضبط بالضوابط الربانية . ويمكن أن نجمع هذين المعنيين بتعبير آخر شامل ، فنعرف الجاهلية بأنها الجهل بدين اللَّه ، والجهل بشرعه ، إمَّا علماً أو عملاً . وعلى هذا فكل ما خالف الشرع فهو جهل وجاهلية .
ومن الآيات التي جاء فيها لفظ الجاهلية الدال على الجهل بحقيقة الألوهية وخصائصها قوله سبحانه عن طائفة تصورت - حين قُتل من المسلمين من قُتل يوم أُحد - أن ثمة من يمكن أن يشارك اللَّه تعالى في تدبير الأمر ( يظنون باللَّه غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء ) ، ولذلك رد عليهم سبحانه بقوله : ( قل إن الأمر كله لله ) ، وحين مر بنو إسرائيل بقوم يعكفون على أصنام لهم قالوا لنبيهم موسى عليه السلام - فيما أخبر اللَّه تعالى - : [ اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ] رد عليهم موسى عليه السلام - كما قال سبحانه- : [أنكم قوم تجهلون ] . أي تجهلون عظمة اللَّه ، وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل .
أمَّا لفظ الجاهلية الدال على الحياة بسلوك غير منضبط بالضوابط الربانية ، فقد وردت فيه عدة آيات قرآنية وأحاديث نبوية . فلقد وصف اللَّه سبحانه ما داخل نفوس الكفار من عصبية لدينهم الباطل في غزوة الحديبية بقوله : [ إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ] ، وحين نهى سبحانه نساء المؤمنين عن التبرج باللباس قرنه بتبرج الجاهلية ، فقال : [ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ] ، كذلك اُعتبر الحكم بغير ما أنزل اللَّه بأنه حُكْمُ جاهلية ، فقال تعالى : [ أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ].(/1)
ثم إن مقترف الفاحشة جُعل في عداد الجاهلين ، كما ورد على لسان يوسف عليه السلام في قوله تعالى : [ وإلا تَصْرِف عني كيدهن أَصْبُ إليهن وأكن من الجاهلين ] . أمَّا الرسول –صلى اللَّه عليه وسلم- فقد أطلق لفظ الجاهلية على عدد من الأفعال غير المنضبطة بالضوابط الربانية ، منها قوله للذي عَيَّر أخاه المسلم بأمه ، معتزاً عليه بالنسب العربي : ( إنك امرؤٌ فيك جاهلية ) . ومنها استنكاره –صلى اللَّه عليه وسلم- استنكاراً شديداً استغاثة أحدهم بالقول: ( يا للمهاجرين ) ، والآخر بـ ( يا للأنصار ) ، وعد ذلك تعصباً مقيتاً من دعاوى الجاهلية رغم أن التسمية بالمهاجرين والأنصار تسمية إسلامية خالصة ، ولكن لما صارت في هذا الموقف عصبية لفئة على فئة اعتبرها جاهلية فقال : ( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ) ومنها أيضاً اعتباره -صلى اللَّه عليه وسلم- الفخر بالأحساب ، والطعن بالأنساب والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة أموراً جاهلية .
جاهلية العالم قبل الإسلام :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (3)ـ رحمه اللَّه ـ (( فالناس قبل مبعث الرسول
-صلى اللَّه عليه وسلم- كانوا في حال جاهلية منسوبة إلى الجهل ، فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنَّما أحدثه لهم جهال ، وإنَّما يفعله جاهل . وكذلك كل ما يخالف ما جاء به المرسلون من يهودية ونصرانية فهي جاهلية . وتلك الجاهلية العامة )) . فلفظ الجاهلية (( يندرج فيه كلّ جاهلية : مطلقة أو مقيدة ، يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو صابئة أو وثنية أو شركية أو غير ذلك ، أو بعضه أو منتزعة من بعض هذه الملل الجاهلية فإنها جميعها : مبتدعها ومنسوخها صارت جاهلية بمبعث محمد صلى اللَّه عليه وسلم )) . ولما أراد الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه اللَّه - أن يعدد مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أهل الجاهلية في رسالة له في هذا الشأن أضاف إلى عبارة (أهل الجاهلية ) قوله ( الكتابيين والأميين ) ليوضح أن مقصده بأهل الجاهلية هم أهل الكتاب والأميون من يهود ونصارى ووثنيين وغيرهم .
هل هناك جاهلية بعد بعثة الرسول صلى اللَّه عليه وسلم ؟
لا جاهلية في زمان مطلق بعد مبعثه –صلى اللَّه عليه وسلم- ؛ لأنه لا تزال من أمته طائفة على الحق إلى قيام الساعة . (( فالجاهلية المطلقة بعد البعثة قد تكون في مصر دون مصر ، كما هي في دار الكفار ، وقد تكون في شخص دون شخص كالرجل قبل أن يسلم ، فإنه يكون في جاهلية ، وإن كان في دار الإسلام )) ، (( أمَّا الجاهلية المقيدة ، فقد تكون في بعض ديار المسلمين ، وفي كثير من المسلمين )) (4).
هل رقي أي حضارة مادية يمنع وصفها بالجاهلية ؟
وممَّا ينبغي إدراكه أن الجاهلية في المصطلح الإسلامي - الذي سبق أن أَبَنَّاه- ((ليس مقابلاً للقوة المادية ، ولا العمارة المادية للأرض ، ولا العلم بظواهر الحياة الدنيا ، فقد وصف اللَّه جاهليات في التاريخ بالقوة والعلم وعمارة الأرض ، فلم ينْفِ عنها ذلك كله أنها جاهلية ... قال تعالى : [ فأمَّا عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن اللَّه الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ]... وكذلك لا يمكن أن ننفي عن الجاهلية أن يكون فيها أي خير على الإطلاق .. فما من جاهلية من جاهليات التاريخ خلت من جوانب من الخير ومن أفراد خيرين .. وقد كان في الجاهلية العربية - مثلاً - فضائل لا شك فيها كإكرام الضيف ، والشجاعة ، وإباء الضيم ، وإجارة الضعيف .. ولكن هذا كله لم يمنع عنها صفة الجاهلية التي وصفها بها رب العالمين ... لأنها (( تجهل حقيقة الألوهية ، وتتبع غير منهج اللَّه )) (5).
(1)- محمد قطب : كيف نكتب التاريخ الإسلامي ، ص 34 ، 35 ، رؤية إسلامية لأحوال العالم الإسلامي ، ص 13 ، 14 .
(2) - ابن تيمية : اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ، نشر محمد حامد الفقي ، ط. مطابع المجد التجارية ، ص 77 .
(3)- اقتضاء الصراط المستقيم ، ص 78 .
(4)-ابن تيمية : اقتضاء الصراط المستقيم ، ص 78 – 79 .
(5)-محمد قطب : رؤية إسلامية ، ص 18 – 21 .(/2)
الجدال والمراء يورثان العداوة
(الشبكة الإسلامية)
آفة عظيمة وداء عضال تمكن من كثير من الناس ، فتراهم في مجالسهم ومنتدياتهم وأحاديثهم يتجادلون ويتناقشون ويماري بعضهم بعضا ، ولربما ثارت بينهم الخصومات والعداوات بسبب هذا الجدل والمراء.
الجدل من طبع الإنسان:
لقد صرح القرآن الكريم بأن الإنسان بطبعه مجادل برغم وجود الحجج والبراهين الدامغة والآيات الساطعة والأمثلة المتعددة:
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف:54].
الجدال نوعان:
الجدال منه ما هو مذموم، ومنه ما هو محمود. أما المحمود فهو ما تعلق بإظهار الحق والدلالة عليه والدعوة إليه، وهذا الذي أمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125]. وقال تعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [العنكبوت:46].
وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم".
وقد جادل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الخوارج زمن عليّ بن أبي طالب بأمر علي، فأقام عليهم الحجة وأفحمهم، فعاد عن هذه البدعة خلق كثير. فهذا هو الجدال المحمود: ما كان لإظهار الحق بإقامة الأدلة والبراهين على صدقه.
أما النوع الآخر من الجدال- وهو موضوع حديثنا - فهو الجدال بالباطل، وهو أنواع :
الجدال لطمس نور الحق
فمنه ما يكون الهدف منه طمس نور الحق والتشغيب عليه وشغل أهل الحق عنه: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ) [الأنعام:121]. وأخبر الله عن هذا الصنف من الناس بقوله:
(وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) [غافر:5].
وقال عز وجل:
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام:25].
والدافع إلى هذا النوع من الجدال والمراء هو الكبر في نفوس هؤلاء ، كبرٌ يمنعهم من قبول الحق والعمل به: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [غافر:56]. وهذا النوع من الجدال يهلك صاحبه ويضله ويعميه ويجعله يوم القيامة من الخاسرين: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) [الحج:3، 4]. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) [الحج:8، 9].
الجدال لإظهار المزية والتقليل من شأن الآخرين:
وهذه آفة عظيمة قلَّ من يسلم منها، فهي دأب كثير من الناس في أحاديثهم ومجالسهم ومنتدياتهم. والدافع إلى هذا النوع من الجدال شعور الشخص بتميزه ورجاحة عقله ومحاولة تسفيه آراء الآخرين ، وهو من علامات الضلال ؛ فقد قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم:
"ما ضل قوم بعد هدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل".ثم تلا قوله تعالى: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) [الزخرف:58].(ابن ماجة وحسنه الألباني).
وهذا النوع من الناس لا يحبه الله تعالى ،قال صلى الله عليه وسلم: "إن أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الْخَصِم". (البخاري)
وهذا الصنف الذي يجادل بالباطل يعرض نفسه لسخط الجبار جل وعلا :
"ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع". (أبو داود وصححه الأباني).
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن ترك هذا النوع من الجدال شاق على النفوس التي اعتادته فقد بشر من تركه بهذه البشارة العظيمة:
"أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا". (أبو داود وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة).(/1)
إن هذا الصنف من الناس على خطر عظيم وفعلهم دليل على زيغ قلوبهم؛ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ) [آل عمران:7]. فقال: "يا عائشة إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عناهم الله فاحذروهم". (ابن ماجة وصححه الألباني).
الجدال يفوت على الناس الخير
إن هذا النوع من الجدل يضيع على الناس الخير. فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى ( تخاصم وتنازع وتشاتم ) رجلان من المسلمين فقال: "خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة". (البخاري).
ولأن الجدال يفوت على الناس الخير ويفسد عليهم الطاعات نهى الله عنه: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة:197].
وفي الصيام قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ..." وفي رواية سعيد بن منصور: "ولا يجادل".
إن الجدال على هذه الصورة يزرع الضغائن وينشر العداوات.
الجدال لاغتصاب حقوق الناس
ومن أقبح صوره الجدال والمراء لانتزاع حقوق الناس واغتصابها. قال صلى الله عليه وسلم محذرا من هذا ومتوعدا أهله: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار". ( رواه البخاري).
وجاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال الحضرمي : يا رسول الله! إن هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي. فقال الكندي : هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي "ألك بينة!" قال : لا. قال "فلك يمينه" قال : يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه. وليس يتورع من شيء.فقال : "ليس لك منه إلا ذلك" فانطلق ليحلف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أدبر "أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلما، ليلقين الله وهو عنه معرض". (رواه البخاري).
آثار سلفية في التحذير من الجدل
ولأن الجدال بالباطل أو بغير دليل يؤدي إلى كل المفاسد التي سبق الحديث عنها فقد رأينا الصالحين ينهون عنه وينصحون باجتنابه ومن هذه الآثار الواردة عنهم في ذلك:
قال نبي الله سليمان عليه السلام لابنه: "دع المراء فإن نفعه قليل، وهو يهيج العداوة بين الإخوان".
وقال ابن عباس: "كفى بك إثمًا ألا تزال مماريًا".
وقال الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شرًا ألزمهم الجدل ومنعهم العمل.
وقال محمد بن حسين بن علي: الخصومة تمحق الدين وتنبت الشحناء في صدور الرجال.
وقيل لعبد الله بن الحسن بن الحسين: ما تقوله في المراء؟ قال: يفسد الصداقة القديمة ، ويحل العقدة الوثيقة ، وأقل ما فيه أن يكون دريئة للمغالبة ، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة.
وقال الشافعي: المراء في الدين يقسِّي القلب ويورث الضغائن.
وقديما قيل: لا تمار حليمًا ولا سفيهًا؛ فإن الحليم يغلبك والسفيه يؤذيك.
فاللهم جنبنا الجدال وأهله وارزقنا الاستقامة ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.(/2)
الجدية في الالتزام
لماذا دبَّ الوهن فينا؟ لماذا لا يعتقد أي منَّا أنه أهل لأن يمكن له؟ لماذا انتكس من انتكس؟ لماذا تولى من تولى؟ لماذا صرنا إلى نقصان بعد أن كنا في زيادة؟ … إنه داء الفتور في الالتزام .
أخي في الله:هل كنت:
تحفظ القرآن ثم تركت؟!
تقوم الليل ثم نمت؟!
ممن يطلب العلم ثم فترت؟!
ممن يعمل في الدعوة ثم تكاسلت؟!
هذا واقع مرير يمر به كثير من شباب الأمة:
فكم من أعمال بدأت ولم تتم بسبب مرض الفتور!
وكم من أعمال بمجرد أن بدأت ماتت وانتهت، وهي مازالت مشروعات على الأوراق!
وكم من أناس ما زال الفتور بهم، وتقديم التنازلات حتى وصل إلى ترك الدين بالكلية، والبعد عن الدين بالمرة، ونسيان الله بالجملة .
كم من أناس هم موتى اليوم، وهم لا يشعرون ولا يعلمون، هل هم أحياء أم ميتون؟!
إنَّ أكبر سبب من أسباب الفتور: هو فقدان الجدية، فأنت ترى الجدية واضحة عند كثير من المسلمين في طلب الدنيا، فهو إذا افتتح مصنعًا، أو شركة، أو نحو ذلك فإنه يبذل أقصى جهده، ويستولي هذا العمل على جهده ليلاً ونهارًا، فهو يعيش وينام لهذا العمل الدنيوي .. أما أهل الدين ففي الخذلان والكسل والتواني والإخلاد إلى الأرض والرغبة في الدعة والراحة – إلا من رحم الله - .
إخوتاه ..
إنني أتعجب من لاعبي الكرة كيف يبذلون جهدهم وطاقتهم إخلاصًا للكرة ! وهؤلاء الممثلون في إخلاصهم من أجل الشهرة ! ونفقد نحن هذا الإخلاص في الملتزمين بشريعة رب العالمين، فمن يعملون لأجل جنة عرضها السموات والأرض متكاسلون فاترون.. إنَّ أحدنا ليستحي من لاعب كرة يتدرب ويلعب ليل نهار، من أجل حطام الدنيا الفاني، وللأسف إنَّ أي طالب في الثانوية العامة يبذل جهدًا أضعاف أي طالب علم يطلب العلم لله !
يا شباب الإسلام .. إنه واقع مر يستوجب منا وقفات: لماذا يدب الوهن في قلوبنا؟ لماذا تفتر سريعًا عزائمنا؟ لماذا يولي بعضنا الأدبار عند أول صدمة؟!
والجواب: لأننا أخذنا ديننا بضعف، كانت لي محاضرة بعنوان: ' بين سحر الحواة ولعب الهواة ضاع الدين ' ضاع الدين لأن كثيرًا من شباب المسلمين حملوا هذا الدين هواية، كهواية لعب الكرة، فدخل الدين هواية، ونحن نواجه ملحدين وكفارًا محترفين، ولا يمكن للهواة أن يقفوا في وجه هؤلاء، فلابد من احتراف الدين .
إنني لا أطلب منك أن تترك دراسة الهندسة-مثلا- ؛ لتطلب العلم الشرعي، وإنما أطالبك أن تكون مهندسًا محترفًا في أعمال الهندسة وإخضاعها للدعوة إلى الله، وخدمة الدين.. أن تكون تاجرًا ولكن عبدتّ المال لخدمة رب العالمين .
أسباب ضعف الالتزام :
عدم الجدية في أخذ الدين: لم نأخذ هذا الدين في الأصل بجد، بل دخلنا فيه هوى وهواية، وكثيرًا جدًا ما أطالبكم بأن يراجع كل منا نفسه: لماذا تصلي؟! يا من أعفيت لحيتك لماذا أعفيتها؟ لماذا قصرت ثوبك؟! لماذا تركت أشرطة الأغاني وأقبلت على سماع القرآن؟! لماذا خلا بيتك من الدش والفيديو والتليفزيون؟ لماذا اقتنيت مصحفًا؟ لماذا بدأت تقرأ القرآن؟ لماذا تحفظ القرآن؟ لماذا تحضر دروس العلم؟ لماذا لا تصاحب إلا مؤمنًا؟ ….لماذا .. لماذا؟ إن لم يكن كل هذا لله؛ فإنه مردود عليك، فيضمحل ويتلاشى ويتواري ويعود كأن لم يكن، قال تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[23] } [سورة الفرقان]. لابد أن نمحص نياتنا على جمرات الإخلاص، ارجع وصحح نيتك فهذا هو الأصل .
الترف: والترف مفسد؛ إذ يتعلق قلب صاحبه بالدنيا، وللأسف الشديد إنَّ أكثر الأمة اليوم يعيش ترفًا غريبًا عجيبًا، فالفقراء يحاولون أن يفتعلوا الترف، ولو في بعض الأشياء، تجده لا يجد إلا قوته الضروري ولكنه يقتطع منه من أجل أن يقتني المحمول، ويشتري أفخر الأثاث، ويشتري أحدث الأجهزة، ليشتري الدش فيدخل الفساد على أهله ويقره في بيته دياثة، وهذا يقتطع من قوت أطفاله لكي يصيّف هنا أو هناك، والقائمة طويلة تعرفونها جيدًا، وإلى الله المشتكى .
ترف يخجل، فلأجل الله يَشِحُّ ويبخل، ويقدم لك الاعتذارات لضيق الوقت وضيق ذات اليد و …الخ لكن للدنيا وللشهوات يحارب ويدبر ويفكر.. إنه التنافس على الدنيا، وكأنه لو لم يحصل هذه الأمور سيعيش في الضنك، وسيبلغ به الحرج المدى .
لا شك أنَّ الترف أفسد أبناءنا، فوجدنا فينا من يتفاخر يقول: أنا لا أجعل ابني في احتياج إلى شيء أبدًا فأنا ألبي له جميع طلباته ورغباته، ومثل هذا يظن أنه أحسن إلى ولده . ومن لا يستطيع أن يفعل ذلك يظل مهمومًا بهذه الرغبات من الأولاد والتي لا يستطيع أن يلبيها لهم، والحقيقة أنَّ هذا ليس من التربية في شيء، فأنت بذلك تفسد الولد، وليس من التربية أن تلبي جميع متطلبات أولادك فينشأ الواحد منهم عبد شهواته، كلما تاقت نفسه إلى شيء طلبه، فإنَّه إن لم يجده سيسرق ويزنى ويخون من أجل أن يحقق ما يشتهي .(/1)
إن لابنك حقًا أعظم من الدنيا، وهو أن تعلمه كيف ينجو من النار، قال الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[6] } [سورة التحريم].
نحتاج إلى صفات ' الرجولة ' والرجل الحق لا يعرف الترف، قال عمر:' اخشوشنوا فإنَّ النعمة لا توم' .
ليسَ أمرُ المرءِ سهلاً كله إِنَّما الأمرُ سهولٌ وحزونْ
ربما قرَّتْ عيونٌ بشجى مُرْمضٍ قد سخنتْ عنه عيونْ
تطلبُ الراحةَ في دارِ العنا خابَ من يطلبُ شيئاً لا يكونْ
إن الترف مفسد، وكثرة المال تلهى، والناس في هذا الزمان لا يطلبون ما يكفيهم، بل يطلبون ما يطغيهم، لا يكتفون بما يرضيهم بل يطلبون ما يعليهم، انظر لطلبة العلم الآن، فأكثرهم لم يختم القرآن حفظًا، فإذا سئلت لماذا لم تحفظ القرآن؟ فالجواب عادة: لأنني لا أجد الوقت . لماذا لا وقت عندك؟ لأنك تضيعه في طلب الدنيا، أو طلب شهوات النفس، أليس لله حق في وقتك، فاتقِِ الله .
رواسب الجاهلية: يدخل طريق الالتزام وفي داخلة نفسه رواسب من رواسب الجاهلية مثل: حب الدنيا، والاعتزاز بالنفس، والآمال الدنيوية العريضة، وعدم قبول النصيحة، وكثرة الأكل، وكثرة النوم، وكثرة الكلام…الخ .
قال الله عن قوم موسى الذين لم يستطيعوا أن يدخلوا معه الأرض المقدسة: { فَمَا ءَامَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ...[83] } [سورة يونس].
هؤلاء الذين أسلموا لموسى بعد السحرة، ربُّوا على القهر والذل والاستعباد، وسياقهم كالقطيع، نشأوا على ذلك، عاشوا على هذا، فلما آمنوا ظلت فيهم رواسب من هذا فلم ينجحوا مع موسى عليه الصلاة و السلام، فأتعبوه، وبدأت الجاهليات تظهر، فتارةً قالوا: { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [55] } [سورة البقرة] . وتارة قالوا: { لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ [61] } [سورة البقرة] . وتارةً:} قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[24] } [سورة المائدة].
والشاهد: أن سبب هذا أنهم آمنوا أصلاً: { ...عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ } ، فإذا اجتمع الالتزام مع رواسب الجاهلية، تظل الرواسب تشدك للماضي .
بعض السبل العلاجية لظاهرة ضعف الالتزام والفتور:
قف مع نفسك وقفة صادقة جادة: لابد من وقفة جادة مع النفس، اصدق نفسك، ولا تبخل في بذل النصح لها . هذا أول سبيل للعلاج، سل نفسك: ماذا تريدين؟ هل تريدين الجنة أم النار؟ فإن قلتِ: الجنة فبماذا تطمعين فيها وأنت في هذا البلاء، وأنت تعصين الله، إنَّ هذا لهو الغرور عينه .
سل نفسك: مالك تشتهين الدنيا وقد علمت حقيقتها؟
إن أهل الآخرة يكفي أحدهم أقل القليل من حطام الدنيا، فمن كان همُّه الآخرة لم يبالِ بما حصَّل الناس من الدنيا، إذا رأى الناس يتنافسون في الحصول على المرأة الجميلة تذكر هو قول الله في الحور العين: { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً[35]فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا[36]عُرُبًا أَتْرَابًا[37]لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ[38] } [سورة الواقعة]. فصرف رغبته إليهن، وشمَّر عن ساعد الجد لنيلهن، وهكذا تلمح دائمًا الفرق بين أهل الدنيا وأهل الآخرة فممن أنت؟! إننا نريد موقفًا جديًا، نمحص به نياتنا، نعيد من خلاله ترتيب أهدافنا، وابدأ بسؤال نفسك ماذا تريدين؟ ثم الأمر يحتاج بعد ذلك إلى قرارات صارمة .
مخالفة النفس طريق الهوى: انظر لربك وهو يعاتب موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في تربية قومه يقول عز وجل: { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا... } لماذا؟ { ...سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ[145] } [سورة الأعراف] .
فهذا أول السبيل: تهذيب النفس بمخالفة الهوى، فلا تتابع نفسك في كل ما تشتهي، فلا تجبها في كل ما تطلب .
مثال ذلك: أن تعرف من نفسك أنها لا تصبر على طاعة، فإذا قالت لك: هيا لنأكل، أو لنذهب لزيارة فلان، أو نحو ذلك من المباحات، فقل لها: ليس قبل أن أقرأ وردي من القرآن . فستظل تلح عليك فإن خالفتها ولم تفعل ما تطلبه منك المرة بعد المرة؛ فسوف تتحكم فيها، ومن هنا تعلو همتك، وتكون صاحب إرادة، وهذه هي الرجولة الحقيقية.
كذلك أنت أيتها الأخت المسلمة: إذا حادثتك النفس في أن تكلمي فلانة أو فلانة، فقولي لها: لا ليس قبل أن أنتهي من حفظ هذا الجزء من القرآن، أو ليس قبل أن أنتهي من أذكار الصباح والمساء، وهكذا .(/2)
فإن من تابع نفسه في كل ما تطلب أهلكته، لذلك قال تعالى في عاقبة من يخالف نفسه في هواها: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى[40]فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى[41] } [سورة النازعات]. و النفس قد تكون طاغوتًا يعبد من دون الله دون أن يدري الإنسان منا، قال تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ[23] } [سورة الجاثية] . فاتباع الهوى سبب الضلال، قال تعالى: { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[50] } [سورة القصص].
فهذب نفسك، وأعلمْها حقيقتها، فهي أمة لله، فلابد أن تقيم حاكمية الله على النفس، فالله هو الذي يحكم نفسك، وليست الشهوات، ولا الشيطان . وأعداء الإسلام لا ينفكون في تزيين الباطل للناس، حتى تتحطم عقيدة المسلمين في خضم الشهوات والملذات، إنها كما قيل: صناعة الغفلة!
لما أراد الله أن يربي يحيى ليحكم صبيًا قال: { يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا[12] } [سورة مريم]. وهو صبي يحكم؛ لأنه تربى على الجدّ والرجولة، لا على الترف، ولا على الشهوات، ولا على متابعة النفس، ومطاوعة الرغبات، ولا على توفير المطالب: { يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا[12]وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا[13]وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا[14] } [سورة مريم]. فأين هذه الصفات في شبابنا الآن؟!
إن الله أمرنا بالجدية في الإسلام، فقال: { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ[13]وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ[14] } [سورة الطارق]. فالأمر ليس هزلًا.. إننا اليوم نرى سمات الصالحين في الظاهر، ولكن على قلوب فارغة، على عقول فارغة- وأنا آسف إن قلت هذا- ولكن هذا واقع للأمة لابد من تصحيحه؛ لأنه عار علينا، ووصمة للدعوة، وقد بدأت تظهر أمور لا تمت بصلة للإسلام، في المعاملات، وأكل أموال الناس بالباطل، والمشاكل الأسرية والطلاق، والأولاد الذين كنَّا نعقد عليهم آمالنا، أولاد الملتزمين الذين لم يعرفوا الجاهلية التي مرَّ بها آباؤهم، فوجدنا من كبر منهم ـ وللأسف ـ بعضهم أسوأ من أبيه، فلابد من وقفة للتصحيح، لابد من ضبط مواقع الأقدام، قبل أن تذل بنا في جهنم.
التخلص من مظاهر عدم الجدية: ومن أخطر تلك المظاهر: الرضا بالظواهر والشكليات، ونسيان القلب والأعمال، فليس جل الدين في اللحية والقميص القصير والنقاب، إنها من شعائر الإسلام، وينبغي علينا أن نلتزم بها، لكن لأنَّ هذه السنن صارت شعارًا لأهل الإيمان ومعشر الملتزمين في هذا الزمان، فلا شك تسرب بينهم من ليس منهم، واكتفى بهذه الأمور، ومن هنا عدنا نقول: الملتزم هو الصوَّام القوَّام، الملتزم هو القائم بالقسط، الملتزم هو من خلا بيته من المنكرات، من يتفقه في دينه، من يفهم عن ربه، من يعمل في تزكية نفسه، هذه هي المعايير، ومن ابتعد عن هذا فليس من الملتزمين، فقف لتحاسب نفسك .
إنني أسأل: منذ أن التزم الواحد ماذا حصَّل من العلم الشرعي الذي زاده قربًا إلى ربه؟ ماذا حصَّلت من العقيدة؟ ماذا درست في الفقه؟ كم كتاب قرأت؟ وعلى من تعلمت؟ هل تجيد قراءة القرآن الذي هو فرض عين عليك؟ كم حفظت منذ أن التزمت من القرآن؟ ما أخبار قيام الليل وصيام النهار والمحافظة على الأذكار؟
أيها الأخ الحبيب .. ينبغي أن يكون الفرق بينك الآن وبين أيام الجاهلية شاسعًا، لابد أن تتغير جذريًا، فاللسان يلهج بالذكر، والعين تبكي خشية لله، القدم تتورم من القيام، قلبك لا تجده إلا في دروس العلم، أذنك تعودت على سماع القرآن وهجرت الموسيقى والغناء .
أين الإخلاص؟! أين حملة الدين؟ أما رأيتم الرويبضة وهم يمرقون من الدين، إن هؤلاء ما تجرأوا على الدين إلا بسبب تقصيرنا؟ تقصير في طاعة الله، تقصير في الدعوة إلى الله، والواحد منَّا جل ما يصنع أن يقول: أنا مقصِّر، ادعُ الله لي !! . مقصر!! فلابد من علاج، فليس الأمر أن تتهم نفسك في العلن، ثمَّ لا يتبع ذلك ندم وتوبة .. نحن لا نيأس من رحمة الله، والله وعدنا إنْ أصلحنا من أنفسنا أن يغير ما نحن فيه من غربة، فالأمل سيظل معقودًا أبدًا، والمستقبل للإسلام، وإن كره الملحدون والكافرون، والتمكين للدين آتٍ بإذن الله، نسأل الله أن يمكن لدينه في الأرض .(/3)
زيادة الطاعات وعدم الاغترار بالعمل اليسير: معتقد أهل السنة والجماعة أنَّ الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فإن لم يكن يزيد فإنه ينقص . أريد أن يزيد إيمانك كل يوم، تقرب إلى الله بما تستطيع، ولا تغتر بالعمل اليسير، ولا تكثر التشدق بالإنجازات، لأنَّ هذا قد يورث العجب والفرح بالعمل والاشتغال بالنعمة عن المنعم، فقد تجد أن الأخ إذا وجد نفسه مقيمًا للصلوات في الجماعة، وقام ليلة أو ليلتين، ظن نفسه من أولياء الله الصالحين، وهذا قد يبتلى بترك العمل، لأنه لم يشكر النعمة وإنما نسب الفضل لنفسه، ولذلك كان المؤمنون هم أكثر الناس وجلًا، فليس الشأن في العمل وإنما في قبوله، قال تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ[60] } [سورة المؤمنون]. فالاغترار بالعمل اليسير، وكثرة الكلام عن الأعمال التي يقوم بها؛ دليل أنه لن يكمل، ولن يتم فاستر نفسك، قال الإمام ابن القيم في 'مدارج السالكين': ' ولله در أبي مدين حيث يقول: ومتى رضيت نفسك وعملك لله، فاعلم أن الله عنك غير راضٍ، ومن عرف نفسه وعرف ربه؛ علم أن ما معه من البضاعة لا ينجيه من النار، ولو أتى بمثل عمل الثقلين ' .
نعم الذي يرى نفسه مؤمنًا خالصًا فهذا معجب مغتر بنفسه، لابد أن ترى دائمًا نفسك بعين النقص والعيب، ولا تأمن، فإنَّ إبراهيم الخليل عليه السلام لم يأمن على توحيده، بل ابتهل إلى ربه وقال: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ[35] } [سورة إبراهيم].
عدم التسويف: فمن مظاهر عدم الجدية في الالتزام: كثرة الوعود والأماني مع التسويف، فتجد المرء منَّا يمني نفسه، تقول له: احفظ القرآن، فيقول: سأحفظ إن شاء الله عندما أجد الوقت . وبطبيعة الحال لا يجد الوقت فهو مهموم دائمًا، يقول: عندما أنتهي من الدراسة سأتعلم العلم الشرعي، وأتفرغ للدعوة إلى الله، ثمَّ تنتهي فيبدأ في البحث عن العمل، ثمَّ يقول: لابد أن أتزوج، فيظل مهمومًا بأمر الزوجة والبحث عنها، ثمَّ يجدها فيهتم بأمر الشقة وتجهيز المنزل، ثمَّ يتزوج فيبدأ في السعي لتحسين وضعه الاجتماعي، ثمَّ يرزق بالأولاد فيظل مهمومًا بأمورهم هكذا دواليك . والعجيب أنّك قد تجد رجلًا من هؤلاء في النهاية قد رضي بهذا الضنك، ويقول: هذه سنة الحياة !! سنة الحياة أن تهجر الطاعات من أجل الهوى والشهوات !! بسيف التسويف قُتل أناس كثيرون، فالتسويف رأس كل فساد، فمن أجَّل الطاعات لغد وبعد غد لا يلبث أن يتركها بالكلية، فالشيطان يسول له، ويمنيه، ويغريه بطول الأمل، والموت يأتي بغتة، والقبر صندوق العمل .
? فالحذر الحذر من التسويف، وطول الأمل، قبل فجأة الموت، وحسرة الفوت:
يا من تعمل في أعمال محرمة، إياك أن تسوِّف، فقد تموت قبل أن تتخلص منه، هيا الآن، لا تؤجل، لا تعطل، واتخذ هذا القرار الحاسم في حياتك فهذا دليل توبتك حقًا، لا أن تتشدق بالأوهام .
يا من يريد حفظ القرآن قل: سأبدأ حفظ القرآن اليوم، كل يوم ربع أو ربعين، وتلزم نفسك بذلك إلزامًا صارمًا، ولا تتهاون في عقاب نفسك إن قصرت، وإلا فستصبح من أصحاب المظهرية الجوفاء الذين يكثرون من الوعود والأماني .
أخذ الدين بشموليته : فمن مظاهر عدم الجدية في الالتزام الاكتفاء ببعض الجوانب في الدين دون الشمولية، وقد قال الله: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً...[208] } [سورة البقرة] . فكثير من الملتزمين يلتزم ببعض الجزئيات التي أحبها في الدين، وقد يكون ذلك هوى، فليس الهوى في فعل المحرمات، بل وفي فعل الطاعات أيضًا .
فملاحظة الشمولية في الدين أمر ضروري، فإنني أريدك متكاملاً في جانب العبادة: صوّام قوّام ذكّار لله، تتلو القرآن فتصبح ذا شخصية متألهة متنسكة، وعلى الجانب العلمي فأنت طالب علم مجتهد، حافظ للقرآن، ذو عقل وفكر نير واستيعاب شامل، وفي الجانب الدعوي فنشاط متقدم، سرعة واستجابة، وعدم رضا بالواقع، وتفكير متواصل في الطرق الشرعية لتحويل وتغيير مجرى الحياة، ذو تأثير ملحوظ في المحيط الذي تعيش فيه، كما قال الله تعالى في وصف نبيه عيسى عليه السلام: { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ...[31] } [سورة مريم].هذه هي الشخصية التي نبحث عنها، هؤلاء هم الرجال الذين يحق أن يمكن لهم في الأرض.
أما الرضا ببعض جوانب الدين، وتقسيم الدين إلى لباب وقشور، فهذه بدعة منكرة جرت من ورائها تنازلات كثيرة، وشقت الصف لا جمعته، تجد بعض الشباب رضي بالجانب العلمي وترك باقي الجوانب، تقول لأحدهم: لماذا لا تقوم الليل؟ فيقول: طلب العلم يستحوذ على كل وقتي .
وأنا أعجب من هذه التفرقة التي لا أصل لها، من قال أنَّ علماء السلف تركوا الاجتهاد في العبادة والدعوة من أجل طلب العلم؟!(/4)
وتجد آخرين لا همَّ لهم إلا الدعوة، يتجولون على الناس لدعوتهم وربطهم بالمساجد- وهذا في حد ذاته جيد- لكن دعوة بدون علم، هذا سرعان ما ينقلب على عقبيه، لأنه لم يفهم دينه، فربما يستجيب مرة أو مرتين بسيف الحياء، أو بفعل تحمس مؤقت، ثمَّ بعد ذلك لا تجده .وآخرون ارتضوا من الدين بالعبادة فلا تعلموا ولا دعوا، فمن أين لهؤلاء بهذا؟!!الدين كلُُ واحد، لا يصلح فيه الترقيع : { ...ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً...[208] } [سورة البقرة] . أي: جملة واحدة بجميع جوانبه .ولابد أن توزع طاقاتك من أجل خدمة هذه الجوانب الثلاثة: علم وعمل ودعوة، ومتى ضاع منك الوقت دون أن تثمر شيئًا في هذه الجوانب فاعلم أنَّ هذا من الخذلان، وأنَّ هذا لا يكون إلا بكسبك، فينبغي أن تتوب سريعًا، وإلا فمن يدريك أن الموت لن يكون أسرع مما تتوقع، وعلى هذا نتعاهد ونتواصى، وليأخذ كل منكم بيد أخيه، فإنها النجاة .
التعاهد على الثبات حتى الممات: فمن مظاهر عدم الجدية: التفلت من الالتزام لأول عارض، فمن أول شبهة، أو أول وارد من شهوة يتفلت، وسرعان ما تتتابع التنازلات، مرة ترك النوافل، ثمَّ مرة ترك الجماعة، بدأ يترك رفقة الصالحين، وفي الملتزمات تجدها تتنازل يوم عرسها فتخلع الحجاب، لماذا؟ لأنه يوم الزفاف ولا حرج، أو تتنازل فتتزوج من غير الملتزمين، وهكذا، تبدأ في خلطة غير الملتزمات، تبدأ في مشاهدة التلفاز، تبدأ في الاختلاط بالرجال، ثمَّ لا تسل بعد ذلك أين هي الآن؟!
هذا ما يورثه الفتور وعدم الجدية، فبهذه النفسيات لا يمكن أن يمكن لنا، لذلك لابد من أن نقف على أرض صلبة، لابد أن نثبت على الدين وإن قويت الرياح، لا نتزعزع، لا تكن انهزاميًا .
بعض الإخوة إذا أصابه شيء من القهر يجزع سريعًا، وآخرون يقعون في أول اختبار في شهوة، فإذا فتحت عليه الدنيا شيئًا ما؛ نسي ما قدمت يداه، فأين الثبات على الدين؟ أين الاستقامة على شريعة رب العالمين؟
إنَّ هؤلاء الذين يتفلتون من الالتزام لأول عارض شبهة، أو أول وارد شهوة يضيعون قبل ورود العوارض والموارد، لأنهم مهيئون نفسيًا للوقوع والسقوط .
والعلاج هو اليقين، هو الثبات حتى الممات، هو العقيدة الصحيحة الصلبة، والمنهجية في العلم والعمل والدعوة، وهذا يحتاج إلى صبر وتحمل، ولا يكون ذلك كله إذا لم يخلص العبد في الاستعانة بربه تبارك وتعالى فالزم .
عدم إكثار الشكوى وتضخيم المشاكل: فمن مظاهر عدم الجدية في الالتزام: كثرة الشكوى وتضخيم المشاكل وإيجاد المبررات، فدائمًا أبدًا شكاء، لا يرضى، وكل مشكلة صغيرة يضخمها، وهذا من البطالة وعدم الجدية .. وآخر صاحب منطق تبريري، فلا يريد أن يواجه نفسه ويلقي باللائمة عليها، بل يتذرع ويعلل ويبرر، وهو يدري أنَّه على غير الحق .
ومنهم: من إذا التزم بالدين صار عالة على الدعاة، ولسان حاله يقول: أنا صنعت ما قلتم لي، فعليكم أن توجدوا لي الحلول لكل مشكلاتي، وهل لما التزمت التزمت من أجل فلان وفلان أم ابتغاء وجه رب العالمين؟!
إن كثرة الشكوى وتضخيم المشاكل وإيجاد المبررات سبيل للنكوص ولابد، واستصحب دائمًا هذه النصيحة النبوية الذهبية: [...وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ...] رواه مسلم . [وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ] رواه الترمذي وأحمد .
نصيحة أخيرة: إننا نحتاج إلى إخوة جادين في كل شئون حياتهم، تبدو عليهم تلك السمات في أفعالهم، جادين في تفكيرهم، الهمّ الأول عندهم هو الدين، ثمَّ تأتي سائر الهموم بعد ذلك، فلا شيء يقدم على دين الله .
فابدأ من الآن إجراء هذه العملية الضرورية، عملية تطهير للأفكار، نريد جدية في الاهتمامات، إن بعضنا يكاد يقتل نفسه من كثرة التفكير، يفكر في وضعه بين الناس، كيف يفكر الناس فيه؟! ماذا يقول الناس عنه؟! ولعله لم يخطر للناس على بال، ولو شغل نفسه بحاله مع الله لكفاه، حينئذٍ عليك أن تردد في نفسه: ماذا أنت فاعل بي يا غفار الذنوب؟ وما اسمي عندك يا علام الغيوب؟
لا تهتم كثيرًا بالناس، فاصلح ما بينك وبين رب الناس؛ يكفك أمر الناس .
تجد بعضهم يقع في مشكلات نفسية وعندما تفتش عن الأسباب تجدها أمور تافهة، وهذا حال أهل البطالة سافلو الهمة، فإنَّ النفوس العلوية لا تنظر لمثل هذه السفاهات، وإلا أخلَّ ذلك بها، لكنه فراغ القلب من الله .
أما أهل الهمة العالية، والجادون في التزامهم فإنهم مشغولون بأمور أخرى، مشغول بحفظ القرآن، بالدعوة إلى الله، بكيفية إصلاح فساد قلبه، مشتاق لسجدة يقبلها الله منه، مشتاق لتسبيحة يشعر معها بحلاوة الإيمان، هذا شأن عباد الله الصالحين، فمن أي الفريقين أنت؟!(/5)
هذه ـ إذًا ـ قضيتك الأولى، هل أنت ملتزم أم لا؟ هل اعتاد لسانك الذكر فصار رطبًا منه؟ هل اعتادت جوارحك القيام بأداء حقوق الله فصرت تشعر بالوحشة إذا لم تؤدِ شيئًا يسيرًا منها؟ إنَّه إدمان الطاعة، حينها تجد الرجل يقول: الصلاة صارت تجري في دمي، لا أستطيع أن أترك ورد القرآن، أشعر بأنِّي لا أتمالك نفسي، وهكذا ساعتها تعيش الإسلام لأنه يعيش فيك، فتحفظ من التفلت والانتكاس .
أخيرًا: عليكم بالاقتصاد في الهزل والمزاح: فلقد صار الهزل وكثرة الضحك شعار الشباب في هذه الأيام، وليست المشكلة في الدعابة اليسيرة، والمزاح القليل الذي لا يخرج عند حدود الأدب، وإنما في هذا الإفراط والمبالغة حتى أن بعض الشباب يقلب أكثر المواقف جدية إلى هزل وفكاهة، والذي لا يصنع هكذا يتهم بأنه مصاب بالجمود والانغلاق …الخ
آهٍ … للأسف الشديد ونحن في ذلة وصغار واستضعاف صرنا نعبث ونلهو حتى كأن العصر هو عصر الهزل، والآن هناك أماكن مخصصة للضحك، مسرحيات بالساعات للضحك واللهو والعبث، وكل ذلك بالكذب .
أين الجد في حياتنا يا شباب الإسلام؟ الذي يحلق ببصره ويطوف شرقًا وغربًا ليرى حال المسلمين لا يمكن أن يكون هذا حاله !
اسأل الله العلي الكبير أن تكون هذه الرسالة سبيلاً للمؤمنين للرجوع إلى الجادة، ونفض هذا الغبار الذي لطخهم، لنتعاون سويًا لنصرة دين الله تعالى .
من رسالة:'الجدية في الالتزام' للشيخ/محمد حسين يعقوب(/6)
الجريمة المروعة في خوست (1)
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
يا " خُسْتُ " ! يا دارَ الشهّادة حَدِّثي ... ... عَنْ كُلِّ خَطَّارِ بِسَاحِكِ مُقْبِلِ
يا " خُسْتُ " ! يا دَار التّقاة فَحَدِّثي ... ... عَنْ كُلِّ صَوّامٍ أبَرَّ مُهَلِّلِ
يا " خُسْتُ " ! يا دَارَ الجِهادِ تَحدَّثي ... ... عَنْ كُلِّ قَلْبٍ فِيكِ لم يتَحَوَّلِ
رَمَضانُ فيكِ لآلئٌ من كل وجْـ ... ... ــهٍ مُشْرِقِ الإيْمانِ أو مُتَهلِّلِ
المؤمِنونَ مَضَوْا إِلى كَنَف الهُدَى ... ... في مسْجِدٍ رَحْب الفَناء مَجَلَّلِ
رُصَّتْ صُفوفُهُمُ صَلاةَ فَرِيضَةٍ ... ... وقيام ليلٍ بالخُشُوعِ مُكَلَّلِ
خَشعَتْ قُلُوبُهُمُ لخَالِقِهِمْ فَرَ ... ... فَّ نَدىً عَلى عَبَقٍ يَمُوجُ ومُثَّلِ (2)
ما بَيْنَ قَوّامٍ ودَمْعٍ خَاشِعٍ ... ... لله ، أو دَاعٍ وبَيْنَ مُرَتِّلِ
خَشَعَتْ نَجُومُ اللّيلِ في تسبيحِها ... ... ورباكِ بَيْنَ تَخشُّع وتَذَلُّلِ (3)
رَمَضَانُ ! و الدُّنيا خُشُوعٌ كُلُّها ... ... واللَّيلُ سَاجٍ والخلائقُ تَجْتَلي
يسْري النَّسيمُ ! وهَمسُه نجْوى القُلو ... ... بِ ! نداوةٌ مِنْ لهْفَةٍ وتَوَسُّلِ
شَقَّ الدُّجى مُسْتكبِرٌ بسلاحه ... ... وهَديرِه ودويِّ هَوْلٍ مُقْبِل
كلُّ الشياطين التي قَدْ صُفِّدتْ ... ... سَكَنَتْ ! وشيطانُ ابن آدم يَغْتَلي (4)
قَدَرٌ مِن الله العَليّ وحكمةٌ ... ... تْمضِي عَلى سُنَنِ الإلهِ وتبْتَلي
لِيُبانَ غَدَّارٌ وتُكْشَفَ حِيلَةٌ ... ... ويُبَانَ حَشْدُ المَجرِمِين ويَنجَلي
شقَّ السّكونَ دَوِيُّهمْ وأتَوْا إِليْـ ... ... ــكِ إِلى جَلالٍ جَامِعٍ أو مَوْئِلِ
مِن كُلِّ خَوَّارٍ يَفِرُّ مِنَ اللِّقا ... ... ءِ وكُلِّ جَبّارٍ لَئيمٍ مُدغلِ (5)
نَفرُوا إلى جَوِّ السَّماء وحَوَّموا ... ... بالطّائراتِ تَجُولُ فيه وتَعْتَلي
صَبُّوا الجَحيم على مَرَابعِ مَسْجِدٍ ... ... حِقداً يَمُورُ وفِتنَةً لمْ تُجْهَلِ
ألْقَوْا ودَكُّوا المسْجِد الرحبَ الذي ... ... غَصَّت جَوانِبُه بقَوْمٍ عُزّلِ
فَتَفَجَّرَتْ أَرْكَانُه وهَوَتْ على ... ... عُبَّادِهِ مِن كُلِّ بَرٍّ أَبْسَلِ
صُرِعَ المِئَاتُ ورُوِّعَتْ كُلُّ الدِّيا ... ... رِ ! وثارَ كلُّ فَتىً كميٍّ أَجْدلِ (6)
وبَدا الجَبانُ النّذلُ في عُدْوانِهِ ... ... قَزَماً أذلّ ومجرماً لم يَخجَلِ
المجْرِمون الغَادِرون الكاذِبُو ... ... نَ إِلى عَذابٍ بَعْد ذاكَ مُعَجّلِ
أسَفي على من كانَ سَارَعَ فِيهِمُ ... ... وُدّاً على سَفَهٍ وَوَهْمِ مُخيِّلِ (7)
لَهْفي عَلى العُبَّادِ كَيفَ تمزَّقوا ... ... إرَباً وغَابُوا في رُكَامٍ أهْيَلِ
صَعدتْ بِهِمْ أرْواحُهم ومَضَوا إِلى ... ... خُضْر الجِنَانِ وطِيبِ ذاكَ المَنزِلِ
والظالمون هَوَوْا لِقَعْرِ جَهَنَّمٍ ... ... ولظىً على سُودِ الوُجُوهِ وكَلكَلِ !
والتابعون على لظىً لا يَخْرجُو ... ... ن وكلُّ باغٍ بالذنوبِ مُحَمَّلِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في مسجد مدينة "خوست " الأفغانية ! يلتقي فيه المؤمنون يؤدّون الصّلوات ، ويعبدون ربّهم الله الذي لا إله إلا هو . في (1/9/1423هـ 16/11/2001م) قامت الطائرات الأمريكية بقصف هذا المسجد والناس مجتمعون فيه والعلماء معهم ليؤدوا الصلاة. وكان من المقرر أن يلتقوا بعد الصلاة مع المجاهد جلال الدين حقّاني . فاستشهد (150) منهم ونجا جلال الدين حقّاني .
(2) المَثَّل : الذين يكون مِثالاً يُقتدى .
(3) تَخَشُّع : تضرُّع.
(4) يغتلي : يسرع.
(5) أَدْغل به : خانه واغتاله .
(6) الأجدَل : الصقر .
(7) مخيِّل : الذي يظن ويتوهم .(/1)
الجغرافية العسكرية الإسلامية
يطرح الكاتب العسكري محمد جمال الدين محفوظ (1) في كتاب له السؤال المنطقي التالي: هل يقبل العقل أن تكون الشجاعة، وقوة العقيدة وحدهما وراء النجاح في العمليات الحربية للمسلمين دون أن يكون معهما شيء من الكفاية الحربية في القيادة و أساليب القتال ؟ ويتبعه بسؤال آخر هو : هل يقبل العقل أن يكون من المسلمين رواد في كل نواحي العلوم الطبيعية والاجتماعية ولا يكون منهم رواد في فن الحرب ؟ ويأتي الرد من أي مجيب سواء من أهل العلم المختص، أو من العامة بالنفي.
ويسعي كاتب هذه المقالة إلى إلقاء الضوء على بعض من نتاج المدرسة العسكرية الإسلامية في مجال الجغرافية العسكرية.
الجغرافية العسكرية كعلم تطبيقي فى تعريفها الدارج:"حقل متخصص من الجغرافيا بالتعامل مع الظاهرات الطبيعية، والظاهرات التي صنعها الإنسان، والتي قد تؤثر في مسار العمليات العسكرية، أو التخطيط لها"(2). وعلى ذلك سيعمل القادة على دراسة أحوال وخصائص البلاد والمناطق بوساطة العيون وما شابهها ، من جمع للمعلومات قبل إرسال الجيوش - عن مواطن القوة والضعف فيها ، وسعياً لحصول النصر ، وتجنباً لوقوع الهزيمة. وكان ذلك بعضاً مما أوصى به خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم قادتهم ، فقد كتب الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ومن معه من الأجناد ".. وإذا وطئت أرض العدو .. وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها بها ، فتصنع بعدوك كصنعه بك .."(3) .إن دراسة أرض العدو ، كما رأى عمر رضي الله عنه أمر واجب ، إذ إن في التعرف على مسالكها ودروبها ، وموارد مائها ، ونباتها ، ومعالم سطحها ، إدراكاً لمواطن القوة والضعف فيها ، وهذا أمر سيحسن الأعداء استخدامه ، فهم أدرى من غيرهم بطبيعة بلادهم ، وإن عرف سعد وجنده أرض العدو فإنهم سيدركون ما يدركه عدوهم عنها، ويكون بإمكانهم إعداد الخطط الملائمة عن أرض أصبحوا يعرفونها كما عرفها أصحابها.وبذلك لن تكون الأرض إلا لصالح من يحسن استخدامها ، وتسخير مواردها ، ويستفيد من إمكانياتها (4). العوامل الجغرافية التي ساعدت على الفتوحات: قد يسأل سائل ما هي العوامل الجغرافية التي ساعدت المسلمين في فتوحاتهم ؟بالنسبة لفتح العراق يجيب محمد أحمد حسونة (5)، ويورد من العوامل أن المسلمين لم يخرجوا في فتحه عن بيئتهم الطبيعية المعروفة ، حيث وجدوا أنفسهم في بلاد صحراوية الأرض والأحوال الجوية ، ولا تختلف عن موطنهم بل هي بلاد متممة لها ، كما تعتبر الصحراء ملاذهم ، يعتصمون بها، ويستندون إليها ، ويتخذونها حاجزاً بينهم وبين أعدائهم ، ولا تنسى روابط العرق ، واللغة، والعادات ، والتقاليد بينهم وبين سكان العراق. وصفوة القول: إن العراق بأرضه وسكانه ليس غريباً على المسلمين الفاتحين . أما ما يتعلق ببلاد الشام فالأمر يشبه العراق، فقد وجد المسلمون أنفسهم أول الأمر في مثل الظروف الجغرافية التي ألفوها حيث التضاريس ، وبخاصة في القسم الشرقي من بلاد الشام إذ إنه بادية تشكل امتداداً لصحرائهم ، والقسم الأوسط جبلي يعتبر امتداداً للحجاز ، ولرحلة الصيف التي جاءت بأهل مكة إلى دروب وأسواق الشام دورها ، فعرفها التجار والأدلاء على حد سواء ، إضافة إلى أن العرب المسلمين وجدوا بالشام أناساً سبقوهم، وتغلغلوا في المنطقة قبل الإسلام بأكثر من ألف عام، واستقر بعضهم على تخومها الشمالية. ويضاف إلى ما سبق حرية المسلمين في ضرب الروم أو الفرس ، وفي نقل جنودهم بين العراق والشام.معركة حطين نموذجاً : إن في معركة حطين دروساً وعبراً، وفيها العديد من الأمثلة على استخدام المسلمين للعوامل الجغرافية فى العمليات العسكرية والتخطيط لها، إضافة إلى دور العقيدة والإيمان في تحقيق النصر المؤزر على العدو الباغي. تشير الكتب والمراجع التاريخية(6) إلى عقد هدنة بين المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي، والصليبيين مدتها أربع سنوات بدأت بعام 581 هجرية -1185م، لكنها نقضت بعد ذلك بعامين باعتداء الأمير الصليبي أرناط على قافلة للمسلمين أثناء سيرها من القاهرة إلى دمشق، مما عجل بمعركة عسكرية منتظرة بين المسلمين والصليبيين.(/1)
عبأ صلاح الدين القوات، وخرج من دمشق ، وقام بأنشطة ناجحة ، فكان رد الصليبيين توحيد صفوفهم ، وحشد قواتهم في صفورية. وهنا ظهرت براعة صلاح الدين ، إذ قرر عدم مواجهتم ، وفضل استدراجهم إليه فيصلونه وقد نال منهم التعب من طول الطريق ، وحرارة الجو ، وقلة الماء. فبادر إلى احتلال طبرية عدا قلعتها ، وأحرقها. وأراد الصليبيون الانتقام فزحفوا إلى طبرية ، حيث كان صلاح الدين وجنوده يعسكرون ويستريحون قرب طبرية حيث الماء، والظل، والراحة، وينتظرون عدوهم ، وبعد وصول خبر الزحف الصليبي تقدم صلاح الدين ، وشدد الحراسة على شواطئ بحيرة طبرية لمنع الماء عن العدو ، ورابط قرب طبرية عند قرية حطين التي تبعد نحو ثلاثة أميال عن البحيرة، ووسط منطقة وفيرة الماء والعشب. وفي اليوم الثالث من تموز (يوليو) وكان شديد الحرارة ساكن الهواء ، وصل الصليبيون هضبة تطل على سهل طبرية ، واتخذ صلاح الدين مواقع يحول بها بين العدو وبين ماء البحيرة، في وقت اشتد بهم الظمأ. عادت براعة القائد المسلم تتجدد ثانية ، فأمر بإشعال النار في الأعشاب والأشواك - التي جففتها أشعة شمس الصيف اللاهبة - التي تكسو الهضبة ، " وكانت الريح على الفرنج ، فحملت إليهم الحر والنار والدخان ، فأجتمع عليهم العطش ، وحر الزمان ، وحر النار ، والدخان ، وحر القتال" على قول ابن الأثير.وعندما أشرقت شمس يوم الرابع من تموز (يوليو) ، وهو اليوم التالي ، تبين للصليبيين أن المسلمين استغلوا ظلمة الليل لحصارهم ، وبذلك بدأ الهجوم الشامل،" فأخذتهم سهام المسلمين ، وكثرت فيهم الجراح ، وقوي الحر ، وسلبهم العطش الفرار" على قول المؤرخ ابن واصل.وكانت نهاية المعركة بوقوع جيش الصليبيين بين قتيل، وجريح، وأسير، وعاقب صلاح الدين أرناط بالقتل، وأحسن معاملة من استسلم من أمراء الصليبيين. لا يقتصر الأمر على العوامل والعناصر الطبيعية في عالم الحروب فحسب ، بل يمتد إلى الجوانب والعناصر البشرية ، أى: أحوال الناس ، أعدادهم ، وأقلياتهم ، وعاداتهم، وأعيادهم.ومن أمثلة ذلك نجاح هجوم خالد بن الوليد على قبائل غسان النصرانية يوم عيد الفصح ، وعادة يكون جل الجيش في إجازة ، ويصعب أو على الأقل يطول استنفاره.ويتكرر الأسلوب عندما شن العرب حرب رمضان -أكتوبر-تشرين 1973 يوم عيد الغفران (يوم كيبور) أعظم أعياد اليهود، وكان اختيار اليوم المذكور بعد دراسة مستفيضة شملت السنة والشهر واليوم بل والساعة أيضاً بكل عناصرها الطبيعية، والاستراتيجية، والتعبوية. من كل ما سبق يمكن القول : إن العرب أصبح لهم بعد الإسلام مدرسة عسكرية لأول مرة في تاريخهم(7) ، لقد كان للمسلمين في تاريخهم الطويل دور عسكري ، وإنجازات عسكرية لا تقل عن إنجازاتهم الحضارية ، عندما خاضوا غمار حروب مع أقوى امبراطوريات العصر ، الروم والفرس، وانتصروا فيها، ولم يعودوا أهل حرب الصحراء "حرب الكر والفر" فقط، بل أظهروا عبقريات عسكرية منقطعة النظير (8).
المراجع :1- محمد جمال الدين محفوظ.العسكرية في الإسلام ، سلسلة أقرأ العدد 598 ، دار المعارف، القاهرة 1994.2-Department of The Army.Dictionary of United States Army Terms , AR 310 25 USA June 1972.3- أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي. العقد الفريد، دار الكتاب العربي، بيروت،1983 .
4- هاني عبدالرحيم العزيزي.صور من الجغرافيا العسكرية في التراث العربي، مجلة جند عمان ، العدد 250 سبتمبر 1996.5- محمد أحمد حسونة. أثر العوامل الجغرافية في الفتوحات الإسلامية ، دار نهضة مصر للطبع والنشر ، القاهرة (بدون تاريخ).6- الموسوعة الفلسطينية.المجلد الثاني ، دمشق 1984.- ماجد اللحام.معجم المعارك الحربية ، دار الفكر المعاصر ، دمشق 1990.- Comptons Home Library Battles of the world , the learning company UK 1996 7- محمد أحمد حسونة . مرجع سابق.8- هاني عبدالرحيم العزيزى.مرجع سابق.
@ مقدم باحث جغرافي.(/2)
الجزائر
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
وانْظُرْ إلى أَرْضِ الجَزائِرِ هَلْ تَرى
إلاَّ مَجَازرَ فِتْنَةٍ وتَغَوُّل
ودَماً يَفيضُ على الرُّبى دفقَ الهَوى
فَيَغِيبُ في تِيهٍ يُمَدُّ وهَوْجَلِ (1)
كَم مجرمٍ فيها يَغيبُ وعابِثٍ
يُخْفى و جُهْدٍ حائِرِ مُتَمحَّلِ
غَنَّيْتُ داركِ والقصِيدُ مداَمعٌ
ودمٌ على تِلْكَ المجازِرِ يَنْجَلي (2)
* *
*
* *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان ملحمة الإسلام من فلسطين إلى لقاء المؤمنين
(1) هوجل : المفازة البعيدة .
(2) إشارة إلى " ملحمة الجزائر " في ديوان : عِبر وعبرات .(/1)
الجزية
تمهيد
أولاً : الجزية في اللغة
ثانياً : الجزية قبل الإسلام
ثالثاً : الجزية في الإسلام
التحذير من ظلم أهل الذمة
بعض صيغ عقد الذمة في الدولة الإسلامية
حرص المسلمين على الوفاء بعقد الذمة
من أقوال الفقهاء المسلمين في حراسة وتقرير حقوق أهل الذمة
صور ناصعة من معاملة المسلمين لأهل الذمة
رابعاً : شهادة المؤرخين الغربيين
تمهيد
استشكل البعض ما جاء في القرآن من دعوة لأخذ الجزية من أهل الكتاب، وذلك في قوله تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } (1) ، ورأوا – خطأً - في هذا الأمر القرآني صورة من صور الظلم والقهر والإذلال للشعوب التي دخلت في رعوية الأمة المسلمة.
ولا ريب أن القائل قد ذهل عن الكثير من التميز الذي كفل به الإسلام حقوق أهل الجزية، فقد ظنه كسائر ما أثر عن الحضارات السابقة واللاحقة له، فالإسلام في هذا الباب وغيره فريد عما شاع بين البشر من ظلم واضطهاد أهل الجزية، كما سيتبين لنا من خلال البحث العلمي المتجرد النزيه.
(1) سورة التوبة : 29 .
أولاً : الجزية في اللغة
الجزية في اللغة مشتقة من مادة (ج ز ي)، تقول العرب: "جزى ، يجزي، إذا كافأ عما أسدي إليه"، والجزية مشتق على وزن فِعلة من المجازاة، بمعنى "أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن"، وقال ابن المطرز: بل هي من الإجزاء "لأنها تجزئ عن الذمي". (2)
(2) الجامع لأحكام القرآن (8/114)، المغرب في ترتيب المعرب (1/143)، وانظر مختار الصحاح (1/44).
ثانياً : الجزية قبل الإسلام
لم يكن الإسلام بدعاً بين الأديان، كما لم يكن المسلمون كذلك بين الأمم حين أخذوا الجزية من الأمم التي دخلت تحت ولايتهم، فإن أخذ الأمم الغالبة للجزية من الأمم المغلوبة أشهر من علم ، فالتاريخ البشري أكبر شاهد على ذلك.
وقد نقل العهد الجديد شيوع هذه الصورة حين قال المسيح لسمعان: " ماذا تظن يا سمعان؟ ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس من الأجانب.قال له يسوع: فإذاً البنون أحرار " (متى 17/24-25).
والأنبياء عليهم السلام حين غلبوا على بعض الممالك بأمر الله ونصرته أخذوا الجزية من الأمم المغلوبة، بل واستعبدوا الأمم المغلوبة، كما صنع النبي يشوع مع الكنعانيين حين تغلب عليهم "فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر.فسكن الكنعانيون في وسط افرايم إلى هذا اليوم وكانوا عبيداً تحت الجزية" (يشوع 16/10)، فجمع لهم بين العبودية والجزية.
والمسيحية لم تنقض شيئا من شرائع اليهودية، فقد جاء المسيح متمماً للناموس لا ناقضاً له (انظر متى 5/17)، بل وأمر المسيح أتباعه بدفع الجزية للرومان، وسارع هو إلى دفعها ، فقد قال لسمعان: " اذهب إلى البحر وألق صنارة، والسمكة التي تطلع أولا خذها، ومتى فتحت فاها تجد أستارا، فخذه وأعطهم عني وعنك" (متى 17/24-27).
ولما سأله اليهود (حسب العهد الجديد) عن رأيه في أداء الجزية أقر بحق القياصرة في أخذها "فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين: يا معلّم نعلم أنك صادق، وتعلّم طريق الله بالحق، ولا تبالي بأحد لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس. فقل لنا: ماذا تظن ، أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ .. فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة.قالوا له: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر، وما للّه للّه" (متى 22/16-21).
ولم يجد المسيح غضاضة في مجالسة ومحبة العشارين الذين يقبضون الجزية ويسلمونها للرومان (انظر متى 11/19)، واصطفى منهم متى العشار ليكون أحد رسله الاثني عشر (انظر متى 9/9).
ويعتبر العهد الجديد أداء الجزية للسلاطين حقاً مشروعاً، بل ويعطيه قداسة ويجعله أمراً دينياً، إذ يقول: "لتخضع كل نفس للسلاطين، السلاطين الكائنة هي مرتبة من الله. حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة... إذ هو خادم الله، منتقم للغضب من الذي يفعل الشر. لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط، بل أيضا بسبب الضمير. فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضاً، إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه، فأعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام" (رومية 13/1-7)
ثالثاً : الجزية في الإسلام(/1)
لكن الإسلام كعادته لا يتوقف عند ممارسات البشر السابقة عليه، بل يترفع عن زللهم، ويضفي خصائصه الحضارية، فقد ارتفع الإسلام بالجزية ليجعلها، لا أتاوة يدفعها المغلوبون لغالبهم، بل لتكون عقداً مبرماً بين الأمة المسلمة والشعوب التي دخلت في رعويتها. عقد بين طرفين، ترعاه أوامر الله بالوفاء بالعهود واحترام العقود، ويوثقه وعيد النبي صلى الله عليه وسلم لمن أخل به ، وتجلى ذلك بظهور مصطلح أهل الذمة، الذمة التي يحرم نقضها ويجب الوفاء بها ورعايتها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أمر الله بأخذ الجزية من المقاتلين دون غيرهم كما نصت الآية على ذلك { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } (3) قال القرطبي: "قال علماؤنا: الذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من المقاتلين... وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني".(4)
وقد كتب عمر إلى أمراء الأجناد: (لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي)(5) أي ناهز الاحتلام.
ولم يكن المبلغ المدفوع للجزية كبيراً تعجز عن دفعه الرجال، بل كان ميسوراً ، لم يتجاوز على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الدينار الواحد في كل سنة، فيما لم يتجاوز الأربعة دنانير سنوياً زمن الدولة الأموية.
فحين أرسل النبي معاذاً إلى اليمن أخذ من كل حالم منهم دينارا، يقول معاذ: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا، أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة (هذه زكاة على المسلمين منهم)، ومن كل حالم ديناراً، أو عدله مَعافر(للجزية))(6)، والمعافري: الثياب.
وفي عهد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ضرب الجزية على أهل الذهب: أربعة دنانير، وعلى أهل الورِق: أربعين درهما؛ مع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام.(7)
(3) سورة التوبة : (29) .
(4) الجامع لأحكام القرآن (8/72).
(5) انظره في إرواء الغليل ح (1255).
(6) رواه الترمذي في سننه ح (623)، وأبو داود في سننه ح (1576)، والنسائي في سننه ح (2450)، وصححه الألباني في مواضع متفرقة ، منها صحيح الترمذي (509).
(7) مشكاة المصابيح ح (3970)، وصححه الألباني.
الجزية ...
1- التحذير من ظلم أهل الذمة
يأمر الله في كتابه والنبي في حديثه بالإحسان لأهل الجزية وحسن معاملتهم، وتحرم الشريعة أشد التحريم ظلمهم والبغي عليهم، فقد حثّ القرآن على البر والقسط بأهل الكتاب المسالمين الذين لا يعتدون على المسلمين { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين }(8) ، والبر أعلى أنواع المعاملة ، فقد أمر الله به في باب التعامل مع الوالدين ، وهو الذي وضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بقوله : (( البر حسن الخلق ))(9) .
ويقول صلى الله عليه وسلم في التحذير من ظلم أهل الذمة وانتقاص حقوقهم: (( من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)) (10)، ويقول: ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً )). (11)
وحين أساء بعض المسلمين معاملة أهل الجزية كان موقف العلماء العارفين صارماً، فقد مرّ هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)). قال: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه، فحدثه، فأمر بهم فخُلوا. (12)
وأما الأمر بالصغار الوارد في قوله: { وهم صاغرون }، فهو معنى لا يمكن أن يتنافى مع ما رأيناه في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم من وجوب البر والعدل، وحرمة الظلم والعنت، وهو ما فهمه علماء الإسلام ، ففسره الشافعي بأن تجري عليهم أحكام الإسلام، أي العامة منها، فالجزية علامة على خضوع الأمة المغلوبة للخصائص العامة للأمة الغالبة.
وفسره التابعي عكرمة مولى ابن عباس بصورة دفع الجزية للمسلمين، فقال: "أن يكونوا قياماً، والآخذ لها جلوساً"، إذ لما كانت اليد المعطية على العادة هي العالية، طلب منهم أن يشعروا العاطي للجزية بتفضلهم عليه، لا بفضله عليهم، يقول القرطبي في تفسيره: "فجعل يد المعطي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى، ويد الآخذ عليا". (13)
(8) الممتحنة ( 8 ).
(9) رواه مسلم برقم (2553) .
(10) رواه أبو داود في سننه ح (3052) في (3/170) ، وصححه الألباني ح (2626)، و نحوه في سنن النسائي ح (2749) في (8/25).(/2)
(11) رواه البخاري ح (2295) .
(12) رواه مسلم ح (2613)
(13) الجامع لأحكام القرآن (8/115) ، وتفسير الماوردي (2/351-352).
2- بعض صيغ عقد الذمة في الدولة الإسلامية
وقدم الإسلام ضمانات فريدة لأهل الذمة، لم ولن تعرف لها البشرية مثيلاً، ففي مقابل دراهم معدودة يدفعها الرجال القادرون على القتال من أهل الذمة، فإنهم ينعمون بالعيش الآمن والحماية المطلقة لهم من قبل المسلمين علاوة على أمنهم على كنائسهم ودينهم .
وقد تجلى ذلك في وصايا الخلفاء لقادتهم ، كما أكدته صيغ الاتفاقات التي وقعها المسلمون مع دافعي الجزية، ونود أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى تأمل الضمانات التي يضمنها المسلمون وما يدفعه أهل الجزية في مقابلها.
ونبدأ بما نقله المؤرخون عن معاهدات النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجزية، ونستفتح بما أورده ابن سعد في طبقاته من كتاب النبي لربيعة الحضرمي، إذ يقول: " وكتب رسول الله e لربيعة بن ذي مرحب الحضرمي وإخوته وأعمامه، أن لهم أموالهم ونخلهم ورقيقهم وآبارهم وشجرهم ومياههم وسواقيهم ونبتهم وشِراجهم (السواقي) بحضرموت ، وكل مال لآل ذي مرحب ، وإن كل رهن بأرضهم يُحسب ثمره وسدره وقبضه من رهنه الذي هو فيه ، وأن كل ما كان في ثمارهم من خير فإنه لا يسأل أحد عنه ، وأن الله ورسوله براء منه ، وأن نَصْرَ آل ذي مرحب على جماعة المسلمين ، وأن أرضهم بريئة من الجور ، وأن أموالهم وأنفسهم وزافر حائط الملك الذي كان يسيل إلى آل قيس ، وأن الله جار على ذلك ، وكتب معاوية" (14)
وقوله: (( وأن نصر آل ذي مرحب على جماعة المسلمين )) فيه لفتة هامة، وهي أن المسلمين يقدمون حياتهم وأرواحهم ودماءهم فدىً لمن دخل في حماهم ، وأصبح في ذمتهم ، إنها ذمة الله تعالى وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول القرافي: "فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صوناً لمقتضاه عن الضياع إنه لعظيم". (15)
كما كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاب ذمة وعهد إلى أهل نجران النصارى، ينقله إلينا ابن سعد في طبقاته، فيقول: " وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف عن أسقفيته ، ولا راهب عن رهبانيته ، ولا كاهن عن كهانته ، ولا يغير حق من حقوقهم ، ولا سلطانهم ولا شيء مما كانوا عليه، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين ، وكتب المغيرة". (16)
وانساح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يطبقون ما تعلموه من نبيهم العظيم، ويلتزمون لأهل الجزية بمثل الإسلام وخصائصه الحضارية، وقد أورد المؤرخون عدداً مما ضمنوه لأهل الذمة، ومن ذلك العهدة العمرية التي كتبها عمر لأهل القدس، وفيها: "بسم الله الرحمن الرحيم ؛ هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان ، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أن لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم ولا يُنتقص منها ولا من حيزها ، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم .
ولا يكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم ، ولا يُسَكَّن بإيلياء معهم أحد من اليهود ، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا منها الروم واللصوص ، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغ مأمنه ، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ...ومن شاء سار مع الروم ، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم.
وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية ، شهد على ذلك خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان ، وكتب وحضر سنة خمس عشرة". (17) ، وبمثله كتب عمر لأهل اللد.(18)
وحين فتح خالد بن الوليد دمشق كتب لأهلها مثله، "بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم ، لهم بذلك عهد الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء والمؤمنين، لا يُعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية". (19)(/3)
ويسجل عبادة بن الصامت هذه السمات الحضارية للجزية في الإسلام، وهو يعرض الموقف الإسلامي الواضح على المقوقس عظيم القبط ، فيقول: "إما أجبتم إلى الإسلام .. فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدت في الدنيا والآخرة ، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحل أذاكم ولا التعرض لكم ، فإن أبيتم إلا الجزية، فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبداً ما بقينا وبقيتم ، نقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إن كنتم في ذمتنا ، وكان لكم به عهد علينا ...". (20)
ونلحظ ثانية كيف يتقدم المسلم بنفسه لحماية أهل الجزية وأموالهم، ونرى فداءه لهم بماله ودمه "نقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم" .
(14) طبقات ابن سعد (1/266) .
(15) الفروق (3/14-15)
(16) الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 266) .
(17) تاريخ الطبري (4 / 449) .
(18) انظر: تاريخ الطبري (4/ 449).
(19) فتوح البلدان للبلاذري (128) .
(20) فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (68) .
3- حرص المسلمين على الوفاء بعقد الذمة
وقد خشي الخلفاء أن يقصر المسلمون في حقوق أهل الذمة ، فتفقدوا أحوالهم، ومن ذلك ما رواه الطبري في تاريخه، في سياقه لحديث عمر إلى وفد جاءه من أرض الذمة " قال عمر للوفد: لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم؟ فقالوا:ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة". (21)
ولما جاءه مال الجباية سأل عن مصدره مخافة العنت والمشقة على أهل الذمة، ففي الأثر عنه رضي الله عنه "أنه أتي بمال كثير، أحسبه قال من الجزية فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟ قالوا: لا والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا. قال: بلا سوط ولا نوط؟ قالوا: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني ". (22)
ولما تدانى الأجل به رضي الله عنه لم يفُته أن يوصي المسلمين برعاية أهل الذمة فقال: " أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، وأن يوفي لهم بعهدهم ، وأن يقاتلوا من ورائهم ، وألا يكلفوا فوق طاقتهم ". (23)
وكتب علي رضي الله عنه إلى عماله على الخراج: "إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة، شتاءً ولا صيفاً، ولا رزقاً يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحداً منهم سوطاً واحداً في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عَرَضاً في شيء من الخراج، فإنا إنما أمرنا الله أن نأخذ منهم العفو ، فإن أنت خالفت ما أمرتك به يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتك". (24)
وأجلى الوليد بن يزيد نصارى قبرص مخافة أن يعينوا الروم فردهم يزيد بن الوليد الخليفة بعده، يقول إسماعيل بن عياش عن صنيع الوليد: فاستفظع ذلك المسلمون، واستعظمه الفقهاء، فلما ولي يزيد بن الوليد ردهم إلى قبرص ، فاستحسن المسلمون ذلك من فعله، ورأوه عدلاً.(25)
ولما أخذ الوليد بن عبد الملك كنيسة يوحنا من النصارى قهراً، وأدخلها في المسجد، اعتبر المسلمون ذلك من الغصب، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكى إليه النصارى ذلك، فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاد في المسجد عليهم.(26)
(21) تاريخ الطبري (2/503).
(22) المغني (9/290)، أحكام أهل الذمة (1/139).
(23) رواه البخاري برقم (1392) في (3/1356).
(24) الخراج (9).
(25) فتوح البلدان (156).
(26) فتوح البلدان (132).
4- من أقوال الفقهاء المسلمين في حراسة وتقرير حقوق أهل الذمة
ونلحظ فيما سبق الإسلام لحراسة حقوق أهل الذمة في إقامة شعائر دينهم وكنائسهم ، جاء في قوانين الأحكام الشرعية : "المسألة الثانية: فيما يجب لهم علينا، وهو التزام إقرارهم في بلادنا إلا جزيرة العرب وهي الحجاز واليمن، وأن نكف عنهم، ونعصمهم بالضمان في أنفسهم وأموالهم، ولا نتعرض لكنائسهم ولا لخمورهم وخنازيرهم ما لم يظهروها". (27)
وينقل الطحاوي إجماع المسلمين على حرية أهل الذمة في أكل الخنازير والخمر وغيره مما يحل في دينهم، فيقول: "وأجمعوا على أنه ليس للإمام منع أهل الذمة من شرب الخمر وأكل لحم الخنازير واتخاذ المساكن التي صالحوا عليها، إذا كان مِصراً ليس فيه أهل إسلام (أي في بلادهم التي هم فيها الكثرة)".(28)
وتصون الشريعة نفس الذمي وماله ، وتحكم له بالقصاص من قاتله ، فقد أُخذ رجل من المسلمين على عهد علي رضي الله عنه وقد قتل رجلاً من أهل الذمة، فحكم عليه بالقصاص، فجاء أخوه واختار الدية بدلا عن القود، فقال له علي: "لعلهم فرقوك أو فزّعوك أو هددوك؟" فقال: لا ، بل قد أخذت الدية، ولا أظن أخي يعود إلي بقتل هذا الرجل، فأطلق علي القاتل، وقال: "أنت أعلم، من كانت له ذمتنا، فدمه كدمنا، وديته كديّتنا". (29)(/4)
وصوناً لمال الذمي فإن الشريعة لا تفرق بينه وبين مال المسلم، وتحوطه بقطع اليد الممتدة إليه، ولو كانت يد مسلم، يقول المفسر القرطبيُّ: "الذمي محقون الدم على التأبيد والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقِق ذلك أنّ المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أنّ مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه، إذ المال إنّما يحرم بحرمة مالكه". (30)
قال الماورديّ: "ويلتزم ـ أي الإمام ـ لهم ببذل حقَّين: أحدهما: الكفُّ عنهم. والثانِي: الحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ آمنين، وبالحماية محروسين". (31)
وقال النوويّ: "ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم". (32)
وتوالى تأكيد الفقهاء المسلمين على ذلك، يقول ابن النجار الحنبلي: "يجب على الإمام حفظ أهل الذمة ومنع من يؤذيهم وفكُّ أسرهم ودفع من قصدهم بأذى". (33)
ولما أغار أمير التتار قطلوشاه على دمشق في أوائل القرن الثامن الهجري، وأسر من المسلمين والذميين من النصارى واليهود عدداً، ذهب إليه الإمام ابن تيمية ومعه جمع من العلماء، وطلبوا فك أسر الأسرى، فسمح له بالمسلمين، ولم يطلق الأسرى الذميين، فقال له شيخ الإسلام: "لابد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، ولا ندع لديك أسيراً، لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة، فإن لهم ما لنا، وعليهم ما علينا" ، فأطلقهم الأمير التتري جميعاً. (34)
وينقل الإمام القرافي عن الإمام ابن حزم إجماعاً للمسلمين لا تجد له نظيراً عند أمة من الأمم، فيقول: "من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة". (35)
(27) قوانين الأحكام الشرعية (176).
(28) اختلاف الفقهاء (233).
(29) مسند الشافعي (1/344).
(30) الجامع لأحكام القرآن (2/246).
(31) الأحكام السلطانية (143).
(32) انظر: مغني المحتاج (4/253).
(33) مطالب أولي النهى (2/602).
(34) مجموع الفتاوى (28/617-618).
(35) الفروق (3/14-15).
5- صور ناصعة من معاملة المسلمين لأهل الذمة
وحين عجز المسلمون عن أداء حقوق أهل الذمة وحمايتهم من عدوهم ردوا إليهم ما أخذوه من الجزية لفوات شرطها، وهو الحماية، فقد روى القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج وغيره من أصحاب السير عن مكحول أن الأخبار تتابعت على أبي عبيدة بجموع الروم، فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين ، فكتب أبو عبيدة لكل والٍ ممن خلَّفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي منهم من الجزية والخراج ، كتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع ، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم". (36)
وحين قام أهل الذمة بالمشاركة في الذود عن بلادهم أسقط عنهم المسلمون الجزية، كما صنع معاوية رضي الله عنه مع الأرمن، يقول لوران المؤرخ الفرنسي في كتابه "أرمينية بين بيزنطة والإسلام" : "إن الأرمن أحسنوا استقبال المسلمين ليتحرروا من ربقة بيزنطة، وتحالفوا معهم ليستعينوا بهم على مقاتلة الخزر، وترك العرب لهم أوضاعهم التي ألفوها وساروا عليها، والعهد أعطاه معاوية سنة 653م، إلى القائد تيودور رختوني ولجميع أبناء جنسه ماداموا راغبين فيه، وفي جملته: ((أن لا يأخذ منهم جزية ثلاث سنين، ثم يبذلون بعدها ما شاؤوا، كما عاهدوه وأوثقوه على أن يقوموا بحاجة خمسة عشر ألف مقاتل من الفرسان منهم بدلا من الجزية، وأن لا يرسل الخليفة إلى معاقل أرمينا أمراء ولا قادة ولا خيلا ولا قضاة... وإذا أغار عليهم الروم أمدهم بكل ما يريدونه من نجدات. وأشهد معاويةُ الله على ذلك)). (37)
ولا يتوقف حق أهل الذمة على دفع العدو عنهم، بل يتعداه إلى دفع كل أذى يزعجهم، ولو كان بالقول واللسان، يقول القرافي: "إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقاً علينا لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا (حمايتنا) وذمتنا وذمة الله تعالى، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة دين الإسلام". (38)
وواصل المسلمون بهدي من دينهم عطاءهم الحضاري حين تحولوا من آخذين للجزية إلى باذلين للمال رعاية وضماناً للفقراء من أهل الذمة، فقد روى ابن زنجويه بإسناده أن عمر بن الخطاب رأى شيخاً كبيراً من أهل الجزية يسأل الناس فقال: ما أنصفناك إن أكلنا شبيبتك، ثم نأخذ منك الجزية، ثم كتب إلى عماله أن لا يأخذوا الجزية من شيخ كبير.(39) وكان مما أمر به رضي الله عنه : "من لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه". (40)(/5)
وأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله على البصرة عدي بن أرطأة يقول: "وانظر من قبلك من أهل الذمة، قد كبرت سنه وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه". (41)
أما إذا امتنع الذمي عن دفع الجزية مع القدرة عليها فإنه يعاقب، من غير أن تنقض ذمته، يقول القرطبي: "وأما عقوبتهم إذا امتنعوا عن أدائها مع التمكين فجائز، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم، لأن من عجز عن الجزية سقطت عنه، ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء". (42)
لقد أدرك فقهاء الإسلام أهمية عقد الذمة وخطورة التفريط فيه، وأنه لا ينقض بمجرد الامتناع عن دفع الجزية، يقول الكاساني الحنفي: "وأما صفة العقد (أي عقد الذمة) فهو أنه لازم في حقنا، حتى لا يملك المسلمون نقضه بحال من الأحوال، وأما في حقهم (أي الذميين) فغير لازم". (43)
(36) الخراج (135) ، وانظره في: فتوح البلدان للبُلاذري ، وفتوح الشام للأذري.
(37) وانظر فتوح البلدان (210- 211).
(38) الفروق (3/14).
(39) الأموال (1/163).
(40) تاريخ مدينة دمشق (1/178).
(41) الأموال (1/170).
(42) الجامع لأحكام القرآن 8/73-74.
(43) بدائع الصنائع (7/112).
رابعاً : شهادة المؤرخين الغربيين
ولسائل أن يسأل : هل حقق المسلمون هذه المثُُل العظيمة ، هل وفوا ذمة نبيهم طوال تاريخهم المديد؟ وفي الإجابة عنه نسوق ثلاث شهادات لغربيين فاهوا بالحقيقة التي أثبتها تاريخنا العظيم.
يقول ولديورانت: "لقد كان أهل الذمة، المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زيّ ذي لون خاص، وأداء ضريبة عن كل شخص باختلاف دخله، وتتراوح بين دينارين وأربعة دنانير، ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون البلوغ، والأرقاء والشيوخ، والعجزة، والعمى الشديد والفقر، وكان الذميون يعفون في نظير ذلك من الخدمة العسكرية..ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها اثنان ونصف في المائة من الدخل السنوي، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم..." (44)
يقول المؤرخ آدم ميتز في كتابه "الحضارة الإسلامية": "كان أهل الذمة يدفعون الجزية، كل منهم بحسب قدرته، وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهبون، وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار". (45)
ويقول المؤرخ سير توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" موضحاً الغرض من فرض الجزية ومبيناً على مَن فُرضت: "ولم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة على المسيحيين - كما يردد بعض الباحثين - لوناً من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذمة. وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين".
وهكذا تبين بجلاء ووضوح براءة الإسلام بشهادة التاريخ والمنصفين من غير أهله، ثبتت براءته مما ألحقه به الزاعمون، وما فاهت فيه ألسنة الجائرين.
هذا والله أسأل أن يشرح صدورنا لما اختلفنا فيه من الحق بإذنه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(44) قصة الحضارة (12/131).
(45) الحضارة الإسلامية (1/96).(/6)
الجمال
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
خَلَقْتَ الجَمَالَ لَنَا آيَةً
تَطُوفُ القُلوبُ بهَا وَ العَيُونْ
وَأَبْدَعْتَ في الكَوْن مَا تَجْتَلي
عُيُونٌ وَمَا هُوَ سِرٌّ دَفِينْ
وَزيَّنْتَهُ ! يَا لَهَذا الجَمَالِ
وَهذا الجَلاَلِ وهذا الحنين
فَتَخْشَعُ في نُورِه أَضْلُعٌ
وتَخْفُقُ أَشْوَاقُهَا و الشُّجُونْ
*
*
*
فهذي السَّمَاءُ وآفَاقُها
بُرُوجٌ تُزَيَّنُ للنَّاظِرينْ
فَكَمْ بَصَرٍ عَادَ مِنْهَا حَسْيراً
عَلى خَشيَةٍ وَهُمُ مُشْفِقُونُ
وَ غَيْبٌ وراءَ وثوب الخيالِ
عَصَيٌّ عَليْهِ و سَقفٌ مَتِينْ
فُطُفْ حَيْثُ شِئتَ فآيَاتُهَا
جَلاَلُ المَدَى و جَلال القرونْ
*
*
*
وهذي هي الأرضْ كَمْ جَنَّةٍ
تَفَجَّرُ بين جَنَاها العُيُونْ
ورَوْضٍ تَنَفَّسَ عَنْهُ الصَّبَاحُ
شَذاً من وُرُودٍ و مِنْ يَاسَمِينْ
وطَيْرٍ كَأْنّ رَفيفَ جَنَاحَيْـ
ـهِ رفُّ البكُورِ وهمْسُ الغُصُونْ
يُسَبِّح لله في مَوْكِبٍ
جَليلٍ وحَشْدٍ من الخاشِعِينْ
*
*
*
وكَمْ مِن جِبالٍ تَشقُّ ذُرَاهَا
عنانَ السَّماءِ و سَهْلٍ يَلينْ
وَكَمْ أَبْحُرٍ غَيَّبَ الله فِيهَا
غُيُوباً وأَطْلَقَ فيها السَّفِينْ
وَنَهْرٍ .. تَدَفَّقُ أَمْواهُه
يُرَوِّي الحَيَاةَ ويُغْني القُرونْ
يُزَيِّنُها الله كَيْفَ يشاءُ
وَيَمْنَحُهَا عَبْقَرِيَّ الفُنُونْ
*
*
*
وأنْشَأتَ مِنْ زِينَةٍ في الحياةِ
لِتَبْلُوَ مِنَّا الهَوَى و اليَقِينْ
وَتَبْلوَ مِنَّا خَبَايَا الصُّدُورِ
ونَجْوَى القُلُوبِ و هَمْس الجُفُونْ
فَكَمْ زِينَةٍ سَعَّرَتْ فِتْنَةً
تلظَّتْ عَلَى شَهْوَةٍ أَو مُجُونْ
وكمْ زِينَةٍ رفَّ فيها الجَمّالُ
يُطَهِّرُ أَشْوَاقَنا والحَنِين (1)
فَزِينَةُ هذِي الحَيَاةِ رِيَاشٌ
وزهْوَةُ مَالٍ وَ شَوْقُ البَنِيْنْ
يُبَدِّلُهَا النَّاسُ في سَعْيِهِمْ
شُكُورَ التُّقَى أو جُحُودَ الفُتُونْ
فَكَمْ جَاهِلٍ ضَلَّ في غَيِّه
فَظنَّ الجَمَالَ هَوَى المُعْتَدِينْ
وَلهْوَ الحَرَام عَلَى شَهْوَةٍ
تَوَاثَبُ بَيْنَ غَوَانٍ و عِينْ
*
*
*
رَفِيفُ الجَمَالِ نَوَالُ الحَلالِ
وصِدْقُ الوَفَاءِ وعَهْدٌ أَمينْ
وأَجْمَلُ آيَاتِهِ أَنَّهُ
هُوَ الحَقُّ والطُّهْرُ أنّى يكُونْ
ونورٌ تَدفّقَ مِلءَ الوُجُودِ
يُزيحُ الظّلاَمَ و يَنْفي الظّنُونْ
وَحُرِّيّةٌ أَطْلَقَتْ أَنْفُساً
لِتَمْضِيَ في مَوْكِبِ العَابِدينْ
*
*
*
سَيَبْقَى الجَمالُ لَنَا آيَةً
يَرَى اللّهَ في صِدْقِها العَالمونْ
ويَبْقى هَوَانَا هوى الصَّادقينَ
فَمَا الحُبُّ إِلا هَوَى الصَّادقِينْ
وَمَا الحُبُّ إلا زكيُّ الجَمَالِ
نَقِيُّ الفعَال وَ فَاءٌ وَ دينْ
وَمَنْ عَرَفَ الحُبَّ للّـ
ـهِ عَلّمَهُ الحبُّ تَرْكَ المُجُونْ
*
*
*
ففي كُلِّ ناحِيَةٍ آيَةٌ
مِنَ الحُسْنِ تُجْلَى و حَقٌّ يَبِينْ
تَدُلُّ عَلَى أَنَّكَ اللّـ
ــه رَبُّ الخَلائِقِ و العَالمينْ
وَلَيْسَ يَرَاها سِوَى مُؤمِنٍ
وَلَيْسَ يَرَاهَا سَوَى المتَّقين
وأَنْتَ جَميلٌ تُحِبُّ الجَمالَ
فَقُلْتَ لَنَا يا عِبَادِي اتَّقُونْ
*
*
*
4/6 /1408هـ
23/1 /1988م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من ديوان مهرجان القصيد .
(1) إشارة إلى أن كلمة زينة ترد في القرآن الكريم لتدل على الزخرف العام ، فإن كان طاهراً إيمانياً ترد لفظة الجمال ، وإن كان شرّاً ترد لفظة " فتنة " .(/1)
الجفاء بين الدعاة
________________________________________
إن مما يحزن الداعية في هذه الأيام كثرة الجفاء بين الأخوان والأصحاب فتجد أحدهم يجفو ويهجرمن له الفضل في هدايته وتربيته وصلاح أمره وتجد الأخر يجفو إخوانه وأقرانه فى الدعوة إلي الله الذين طالما جلس معهم فأفادوه وأفادهم . وإذا سألته ما هذا الجفاء رد عليك قائلاً{ الاخوة لا يقدرون _أمضيت سنين في الدعوة ولا أحد يبادر معي …… } إلى غيرها من الردود التي فيها انتصار للنفس وموافقة للطبع.
لذا يجب أن تعلم أخي الجافي من إن الألفة والتالف والتآخي في الله من ثمرة حسن الخلق ولهذا مشاهد كثيرة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم منها قوله صلى الله عليه وسلم: { المؤمن إلفٌٌ مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف } رواه أحمد والطبرانى.
نصيحتى لك أخي الجافى تتلخص فى عدة نقاط:
1- مصارحة إخوانك الذين تجفو عليهم بالتصرفات التي تصدر منهم وتضايقك واحرص أن تكون تلك المصارحة في إطار أدب النصيحة.
2- أن تعفو عن الزلات والهفوات واستمع إلى ما قاله الأمام أبو حامد الغزالى رحمه الله :
(( وهفوة الصديق لا تخلو إما أن تكون في دينه بارتكاب معصية أو في حقك بتقصيره في الاخوة أما ما يكون فى الدين من ارتكاب معصية والإصرار عليها فعليك التلطف في نصحه بما يقوم عوده ويجمع شمله ويعيده إلى الصلاح والورع … أما تقصيره فى حقك الأولى العفو والاحتمال فقد قيل ينبغي أن تستنبط لزلة أخيك سبعين عذراً فإن لم يقبله قلبك فرد اللوم على نفسك فتقول: لقلبك ما أقساك يعتذر إليك أخوك سبعين عذراً فلا تقبله فأنت المعيب لا أخوك )) انتهى كلامه رحمه الله.
يقول الأمام الشافعي :
ولما عفوت ولم احقد على أحدٍ * * * أرحت نفسي من هم العداوات
3- يجب أن تعلم إن الناس أجناس وطبائع واخلاق فتجد بعضهم طبيعته الشده في التعامل والأخر كثير الكلام قليل العمل وغيرها من أصناف الناس التي قد تتعامل معهم لذا يجب أن تكون حذقاً فطناً تعرف التعامل معهم جميعاً وتكون محبوباً بينهم وإن لم تقدر على ذلك فلا تقصر في حقوق الأخوة ولا تنسى طلاقة الوجه :
يقول الشاعر:
الناس شتى إذا ما أنت أذقتهم * * * لا يستوون كما لا يستوي الشجر
هذا له ثمر حلو مذاقه * * * وذاك ليس له طعم ولا ثمر
4- أن تربى نفسك التربية الإيمانية التي تجعلك راقي الإحساس في التعامل مع ما قال الله عز وجل وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم . فلقد قال الله تعالى : { إنما المؤمنون أخوة } سورة الحجرات وقال الله عز وجل فى الحديث القدسي.
(( المتحابون في جلالى لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء)) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (( مثل المؤمنين في توادهم وترحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى من عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )) رواه مسلم.
والحديث الآخر الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم(( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) متفق عليه.
والآيات والأحاديث واقوال الصالحين في ذلك كثيره ولكن تريد من يتلقى للتنفيذ.
5- أن تدعوا لإخوانك بظهر الغيب تدعوا لهم بالتوفيق والصلاح .تدعو لهم بدوام نعمة التآخي فى الله تدعوا لهم بما تحبه لنفسك. ودعائك لأخيك بظهر الغيب يؤكد محبتك الصادقة لأخيك وأعلم إن الدعاء بظهر الغيب من أسرع الدعوات إجابة قال صلى الله عليه وسلم: (( أسرع الدعاء إجابةً دعاء غائب لغائب)) رواه البخاري.
وفى الختام هي دعوه إلى ترك الجفاء و الشحناء مع إخواننا وأحبابنا وما اجمل ما قاله الشافعي رحمه الله:
إذا لم يكن صفوِ الودادِ طبيعةً * * * فلا خير في خلٍ يجيء تكلفا
ولا خير في خلٍ يخون خليله * * * ويلقاه من بعدالمودة بالجفا
سلامُُ على الدنيا إذا لم يكن بها * * * صديقُُ صدوقٌٌ صادق الوعدِ منصفا
وصلى على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
تأليف: عمر سالم المطوع(/1)
الجلال الرمضانيّ يستباح
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة 11/9/1425
25/10/2004
أتساءل بشغف عن إمكانية عقد مؤتمر يُقام على أُسس أكاديمية معتمدة ينتهي بطبيعة الحال بتوصيات، وحبذا لو عُقد تحت مظلة رابطة العالم الإسلامي، مؤتمر يخصص لمناقشة أسباب تهافت – معظم- القنوات العربية ، التلفزيونية منها والإذاعية ، وبقطاعيها العام والخاص، على بث برامج خلال شهر رمضان المبارك أبعد ما تكون مضامينها عن طبيعة شهر القرآن والصيام والقيام ، فالأسلوب المتّبع في مثل هذه البرامج -من الغرابة بمكان- بحيث يستدعي منا دعم هذا التوجه. أليس مستغرباً إقبال تلك القنوات الإعلامية للبدء وبحماس منقطع النظير، وقبل انتهاء أيام عيد الفطر المبارك من كل عام لإعداد وتنفيذ برامج تُعرض بعد عام من تاريخه، وبالتحديد في شهر رمضان التالي لوقتها!!
أليس مستغرباً من الناحية العقليّة على الأقل خلوّ- معظم- تلك الخطط من برامج تهدف -صراحة لا تأويلا-ً تبيان فضل هذا الشهر وعظمته، وتحضّنا على فعل الخيرات، طاعة لله سبحانه، وطمعاً في رضاه ومحبته.
أليس مستغرباً عدم تطرقها -إلا على استحياء- لواقع العدوان الصهيوني على الحياة الفلسطينية بمعناها الواسع، أو تصويرها المعاناة اليومية للصائم الفلسطيني تحت نير ووحشية شارون وزبانيته، معاناة تتنامى في خضم انشغال العالم في كل ما لا يمتّ بمصالحه بصلة، وأين هي من حال الإنسان العراقي الغني بخيرات أرضه، الفقير بأطماع سجانيه؟!
إن اهتمامها في هذا الشهر بالذات انصبّ في حقيقته على غير هذا وذاك، فالهدف الذي تنطلق منه وإليه لا يخرج عن دائرة الترفيه سواء كان ترفيهاً نافعاً أو مشوباً بالفساد، أما النافع فقد طُعّم -على الأغلب- بما يفسده، وأما الضارّ المضرّ فمن السّفه السكوت عنه، فكيف بمتابعته متابعة المأموم للإمام في الصلاة!!
إن الغرابة لا تكمن في رعاية هذه القنوات لتلك البرامج بشكل عام، بل لاهتمامها وحرصها على تواجدها وبهذا الزخم وفي هذا الشهر المبارك، ولعملها وبشكل دؤوب على تحويله من شهر عبادة إلى شهر خمول و تفسّخ ..قنوات نجحت بشكل أو بآخر في نفي حقيقة الصيام من أذهان أهله، وليكون منحصراً بالإمساك عن الطعام والشراب، دون الجوارح ..!!
ثم ما دور بعض وزارات الإعلام في وطننا العربي والإسلامي التي ما فتئت تسعى سعياً حثيثاً وراء معدّي هذه البرامج، مقدمة لهم كل غال و نفيس لعلها تحظى برضا أصحابها، فتنال عرضاً حصرياً لما تظن أنه أكثر البرامج استقطاباً، متناسية أن الظنّ لا يغني من الحق شيئاً، وأنها بفعلها هذا أضرّت لا بِدِين مُتَتبّعيها- فقط- بل بعقولهم وأولويّاتهم. ثم كيف جاز لها أن تستقطب المعلنين دون رقيب أو حسيب؟! معلنة بفعلها إيمانها المطلق بأن الغاية تبرّر الوسيلة .. فلا بأس كيف بدأ الإعلان .. وكيف انتهى ، وكيف ظهر، فالمهم لا يكمن في هذا كله بل بالثمن الذي دُفع للإفساح له وظهوره!!
إن من حقوقنا على تلك الوزارات، قادة و شعوباً، أن تحدّد أولوياتها بوضوح تام، لا تشوبه ريبة، ووضوح يظهر من خلال قنواتها الإعلامية، فتعلن أن الربحيّة ليست أولى أولويّاتها، ما دام الطريق إليها يضرّ بالصالح العام، ولتقف في هذا الشهر وفي غيره، بجدّ وحزم أمام قضايا هامة مهدّدة تتعلق بخصائصنا الذاتية، الدينية منها والوطنية، قضايا بحاجة ماسّة لرعايتها والذّوْد عنها .. وأخيراً لتترك شهر القرآن لمن هو أهل له(/1)
الجلسة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مجموعة من الأسئلة وجهت للشيخ سليمان بن ناصر العلوان في إحدى جلساته اليومية بعد صلاة الظهر وكانت الإجابة عليها مسجلة وبعد ذلك فرغت من الأشرطة وعرضت على الشيخ فأجاز نشرها . بتاريخ 24 / 5 / 1421 هـ
السؤال الأول : هل يوجد في الأربعين النووية أحاديث ضعيفة ؟
الجواب : نعم فيه بعض الأحاديث الضعيفة مثل
- الحديث الثاني عشر ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه . رواه الترمذي وغيره من طريق قرة بن عبد الرحمن المعافري عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يصح قرة بن عبد الرحمن سيء الحفظ وقد رواه مالك وغيره عن ابن شهاب عن علي بن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً .
وصحح إرساله أحمد بن حنبل والبخاري والدار قطني وغيرهم .
2- وفيه الحديث التاسع والعشرون حديث معاذ بن جبل قلتُ [ يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعد ني عن النار ... ) الحديث رواه الترمذي من طريق عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ .
ورواه أحمد في مسنده من طريق حماد بن سلمة عن عاصم عن شهر بن حوشب عن معاذ .
وهذا أصح من الأول وشهر بن حوشب ضعيف الحديث .
3- ومن ذلك الحديث الثلاثون حديث أبي ثعلبة الخشني ( إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ..) الحديث فيه انقطاع بيد أن له شاهداً حسناً رواه الحاكم من حديث أبي الدرداء
4- ومن ذلك الحديث الحادي والثلاثون حديث سهل بن سعد الساعدي قال [ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله دُلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس ... ) الحديث ولا يصح بوجه من الوجوه وإن كان معناه صحيحاً .
5- ومن ذلك الحديث الثاني والثلاثون حديث لا ضرر ولا ضرار لا يصح إلا مرسلاً قاله ابن عبد البر وغيره وقد عده أبو داود من الأحاديث التي يدور الفقه عليها .
6- ومن ذلك الحديث التاسع والثلاثون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )) . أنكره الإمام أحمد ومعنى الحديث صحيح فيه ما يدل عليه من الكتاب والسنة .
7- ومن ذلك الحديث الحادي والأربعون حديث (( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به )) مداره على نعيم بن حماد الخزاعي ولا يصح حديثه ضعفه أبو داود والنسائي وجماعة .
8- ومن ذلك الحديث الثاني والأربعون حديث أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى ( يا ابن آدم إنك ... ) فيه لين وقد تفرد به الترمذي من هذا الوجه وقال حسن غريب وقد صح آخره من حديث أبي ذر رواه مسلم في صحيحه .
السؤال الثاني : هل الكحل يفطر الصائم ؟
الجواب : الكحل لا يفطر الصائم وليس به بأس في الصيام سواء كان نفلاً أو فرضاً .
وقد قال الإمام الأعمش . ما رأيت أحداً من أصحابنا يكره الكحل للصائم . رواه أبو داود في سننه .
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى كراهيته للصائم لحديث ليتقه الصائم . رواه أبو داود وغيره وفيه نكارة قال أبو داود قال لي يحي بن معين هو حديث منكر . وحينئذ لا يصح هذا الحديث حجة على منع الصائم من الكحل والله أعلم .
السؤال الثالث : البنت البكر إذا ثاب منها لبن فأرضعت به هل تكون أماً للطفل ؟
الجواب : لا خلاف بين العلماء أن البكر التي لم تنكح إذا نزل منها لبن وأرضعت به فإنه ينشر المحرمية فيكون المرتضع ابنها وليس له أب وقد أشار إلى هذه المسألة ابن المنذر في الإجماع وابن قدامة في المغني وغيرهما .
السؤال الرابع : ما حكم الاستمناء باليد ؟
الجواب : في ذلك ثلاثة مذاهب لأهل العلم
الأول : الجواز مطلقاً لأنه لم يثبت في منعه دليل وقد كتب الشوكاني رسالة في ذلك ونصر هذا القول
الثاني : المنع مطلقاً سواء خشي العنت أو لم يخش بدليل ظاهر قوله تعالى { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (7) } .
الثالث : يباح لمن خشي الزنا أو الفاحشة وما عدا ذلك فيحرم وهذا قول الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام رحمه الله .
السؤال الخامس:ما صحة حديث ( لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ).
الجواب : هذا الخبر منكر سنداً ومتناً . قال عنه الإمام مالك هذا كذب ذكره عنه أبو داود في سننه .
وقال الأوزاعي . مازلت له كاتماً حتى رأيته انتشر يعني حديث ابن بسر هذا في صوم يوم السبت .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم . لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوماً قبله أو بعده . متفق عليه من حديث أبي هريرة وهو دليل على صوم يوم السبت والأحاديث في ذلك كثيرة والله أعلم .
السؤال السادس : هل يجوز للمحادة أن تتصل بالهاتف .
الجواب : ليس في ذلك حرج ولا أعلم أحداً من العلماء كره ذلك .(/1)
وقد ورد منع المحادة من التزين والطيب والكحل والخروج من المنزل بدون عذر ودون هذه الأمور أقوال وآراء لا دليل عليها والله أعلم .
السؤال السابع : ما هو القول الصحيح في الأقراء هل هي الحيض أم الأطهار ؟
الجواب : في ذلك خلاف مشهور بين الفقهاء . فقال قوم هي الحيض وهذا مروي عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وأكابر الصحابة وهو مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد في آخر القولين عنه .
وقال آخرون . الأقراء الأطهار وهذا مروي عن ابن عمر وعائشة وهو مذهب مالك والشافعي .
والأول أصح وحينئذٍ لا تنقضي عدتها حتى تنقضي الحيضة الثالثة والله أعلم .
السؤال الثامن : امرأة طهرت من الحيض في صيام رمضان فهل يجب عليها الإمساك بقية يومها ؟
الجواب : قال بذلك الإمام أبو حنيفة وأحمد بن حنبل في رواية .
وقال مالك لا تمسك إذا طهرت وقال في الذي يقدم من سفره وهو مفطر وامرأته مفطرة حين طهرت من حيضها في رمضان أن لزوجها أن يصيبها إن شاء .
وهذا قول الإمام أحمد رحمه الله في الرواية الثانية وهو الصحيح وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من أكل أول النهار فليأكل آخره . رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن وكيع عن ابن عون عن ابن محيريز قال قال ابن مسعود والله أعلم .
الجلسة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مجموعة من الأسئلة أجاب عنها فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان في جلسته اليومية بعد صلاة الظهر .
وكانت الإجابة مسجلة بصوته وقد تم تفريغها وعرضها على الشيخ بتاريخ 27 / 5 / 1421 هـ فأذن بنشرها .
السؤال الأول : ما صحة حديث ( عند كل ختمة دعوة مستجابة ... ) .
الجواب : هذا الحديث موضوع رواه أبو نعيم في الحلية وغيره وفي إسناده يحي بن هاشم السمسار .
قال عنه الإمام النسائي : متروك الحديث .
وقال يحيى بن معين : كذاب .
وقال ابن عدي : كان يضع الحديث ويسرقه .
والدعاء عند ختم القرآن له حالتان :
الأولى : في الصلاة فهذا بدعة فإن العبادات مبناها على الشرع والاتباع وليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه الله أو سنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ودون ذلك ابتداع في الدين قال صلى الله عليه وسلم (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد . متفق عليه من حديث عائشة .
وقد ذكر الشاطبي في الاعتصام وشيخ الإسلام في الاقتضاء قاعدة عظيمة المنفعة في التفريق بين البدعة وغيرها ، وهي أن ما وجد سببه وقام مقتضاه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة ولم يقع منهم فعل لذلك مع عدم المانع من الفعل فإنه بدعة كالأذان للعيدين والاستسقاء ونحو ذلك .
ودعاء الختمة في الصلاة من ذلك فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يقومون في رمضان ليلاً طويلاً ويتكئون على العصي من طول القيام فهم في هذه الحالة يختمون القرآن أكثر من مرة ولم ينقل عن أحد منهم دعاء بعد الختمة .
وقد قال الإمام مالك رحمه الله : ما سمعت أنه يدعو عند ختم القرآن وما هو من عمل الناس . ذكر ذلك عنه ابن الحاج في المدخل .
الحالة الثانية : الدعاء عقيب الختمة في غير الصلاة وهذا منقول عن أنس بن مالك بسند صحيح .
ومأثور عن جماعة من أهل العلم ولا أعلم في المرفوع شيئاً ثابتاً والله أعلم .
السؤال الثاني : ورد في صحيح مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى النساء فوعظهن وذكرهن وقال تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم فقامت امرأة من وسط الناس سفعاء الخدين ... الحديث .
نريد صحة الزيادة ( سفعاء الخدين ) حيث يحتج بها القائلون بكشف المرأة وجهها عند الأجانب ؟.
الجواب : هذه الرواية جاءت في صحيح الإمام مسلم من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر بن عبد الله .
ورواه البخاري ومسلم من طريق ابن جريج عن عطاء عن جابر بن عبد الله وليس فيه هذه الزيادة .
وابن جريج في عطاء أوثق من عبد الملك بن أبي سليمان .
قال الإمام أحمد رحمه الله : عبد الملك من الحفاظ إلا أنه كان يخالف ابنَ جريج في إسناد أحاديث وابن جريج أثبت منه عندنا .
والقول بأن الزيادة من ثقة فيجب قبولها دعوى غير صحيحة فإن أكابر المحدثين لا يحكمون على الزيادات بحكم كلي يعم كل الأحاديث .
بل يعتبرون القرائن ويحكمون على كل زيادة بما يترجح عندهم .
وحين نعلم أن ابن جريج أوثق من عبد الملك في عطاء فإننا نقدم روايته ونحكم على رواية عبد الملك بالشذوذ والله أعلم .
السؤال الثالث : ما تقولون في نجاسة القيء ؟
الجواب : ذهب أكثر أهل العلم إلى أن القيء نجس مطلقاً .
وذهب فقهاء المالكية إلى أن القيء النجس هو ما شابه أحد أوصاف العذرة .
وأما ما كان على هيئة الطعام لم يتغير فإنه طاهر .
والصحيح أنه طاهر مطلقاً والاستقذار والاستحالة إلى روائح كريهة لا يعني النجاسة .
والأصل الجامع في هذا الباب طهارة كل الأعيان حتى يثبت الدليل على النجاسة والقيء لم يثبت دليل على نجاسته فهو طاهر .
وحديث (( العائد في هبته كالعائد في قيئه )) متفق عليه من حديث ابن عباس .(/2)
ليس صريحاً في نجاسة القيء فإن العود في القيء منهي عنه للضرر وشبهه وليس للنجاسة .
وقد تقرر في القواعد الأصولية أنه ليس كل محرم نجساً والله أعلم .
السؤال الرابع : هل يعتبر موت الإنسان دماغياً موتاً حقيقياً ؟
الجواب : في هذه المسألة قولان للعلماء المتأخرين حيث أن هذه المسألة من مستجدات العصر بسبب التطور الطبي والتقدم في ذلك .
القول الأول : أنه لا يعتبر موت الإنسان دماغياً موتاً حقيقياً ولا يحكم بموته حتى يتوقف قلبه عن النبض و حينئذ لا يجوز نزع الأجهزة عنه ما لم يأت من هو أحوج منه إليها .
الثاني : يعتبر موت الدماغ دون القلب موتاً حقيقياً حيث أن الأعضاء لا تستجيب لتصرفات الروح . والحياة المستقرة المعتبرة هي أن تكون الروح في الجسد ومعها الحركة الاختيارية دوه غيرها وفيه نظر .
فإن فقد الإحساس والشعور والحركات الاختيارية ليس كافياً في الحكم عليه بالموت .
والفرض في ذلك التحري والتريث إلى أن يحصل اليقين بموته .
ولأن الأصل الحكم بحياة المريض فلا تخرج عن اليقين بمجرد الشك وهذا معلوم في قواعد الفقهاء والأصوليين والله أعلم .
الجلسة الثالثة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مجموعة من الأسئلة أجاب عنها فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله في جلسته اليومية بعد صلاة الظهر وكانت الإجابة مسجلة بصوته فتم تفريغها وعرضها على الشيخ بتاريخ 3 \ 6 \ 1421 هـ فأذن بنشرها .
السؤال الأول : ما الحكم في اللقيط هل يعتبر عبداً أم حراً ؟
الجواب : اللقيط بمعنى ملقوط وهو الطفل المنبوذ الذي لا يعرف نسبه .
والأصل فيه أنه حر في جميع الأحكام فقد جاء في موطأ مالك عن ابن شهاب عن سنين أبي جميلة رجل من بني سليم . أنه وجد منبوذاً في زمان عمر بن الخطاب قال فجئت به إلى عمر بن الخطاب فقال : ما حملك على أخذ هذه النسمة ؟ فقال وجدتها ضائعة فأخذتها . فقال له عريفه : يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح ، فقال له عمر أكذلك ؟ قال نعم . فقال عمر بن الخطاب إذهب فهو حُرّ ولك ولاؤه وعلينا نفقته .
قال ابن المنذر رحمه الله في كتاب الإجماع . وأجمعوا أن اللقيط حر وقال ابن قدامة رحمه الله اللقيط حرّ في قول عامة أهل العلم إلا النخعي .
السؤال الثاني : ما حكم الوضوء في المسجد ؟
الجواب : لا بأس بذلك فقد رخص فيه أئمة السلف وأهل العلم وحكى ابن المنذر في الأوسط الإجماع على ذلك وقال ليس للمنع من ذلك معنى ظاهر لأنه ماء طاهر يلاقي ها هنا طاهراً ولا يزيده بذلك إلا نظافة غير أنا نكره أن يتوضأ في موضع مصلى الناس لئلا يتأذى بهذا الطهور مسلم .
وقد ثبت عن ابن عباس أنه قال لا بأس بهذا رواه ابن المنذر في الأوسط .
وروى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يتوضأ في المسجد .
ولا يدخل في الوضوء قضاء الحاجة فإن قضاء الحاجة من بول وغائط في أماكن المصلين محرم بالإجماع .
السؤال الثالث : فضيلة الشيخ هل يكفر ساب الرسول صلى الله عليه وسلم بمجرد السب أم يشترط في ذلك الاستحلال ؟
الجواب : أجمع الصحابة والتابعون ومن جاء بعدهم من أهل السنة أن من قال أو فعل ما هو كفر صريح كفر دون تقييد ذلك بالاستحلال .
واتفق أهل العلم على أن الكفر قد يكون بالجحد أو التكذيب أو الإعراض .
وقد يكون بالقول كسب الله وسب رسوله صلى الله عليه وسلم والاستهزاء بالدين وأحكامه ويكون بالفعل كالسجود للأصنام والطواف على القبور والذبح للجن والأوثان .
وقد يكون بالترك كترك جنس العمل مطلقاً وحكى إسحاق بن راهويه وغيره إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة عمداً وقد جاء في صحيح مسلم من طريق ابن جريج عن أبي الزبير المكي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة .
والكفر المعرف بالألف واللام يدل على الكفر الأكبر غير أنه قد جاء في كفر تارك الصلاة خلاف بين أئمة المذاهب فقالت طائفة لا يكفر مطلقاً مالم يجحد وجوبها .
وقالت طائفة يكفر كفراً أكبر لإجماع الصحابة على ذلك على خلاف بينهم في القدر الذي يكفر بتركه فقالت طائفة يكفر بترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها وقالت أخرى لا يكفر إلا بالترك الكلي .
وبالجملة فأهل السنة لا يكفرون بمطلق الذنوب ولا بكل ذنب كما تفعل الخوارج والمعتزلة حيث يكفرون بكبائر الذنوب ويعتقدون ذنباً ماليس بذنب ويرتبون عليه أحكام الكفر وتارة يأخذون الناس بلازم أقوالهم وهذا كثير في المتأخرين ولا يفرقون في إطلاق الأحكام بين النوع والعين ولا بين مسألة وأخرى وقد يكفّرون من لا يوافقهم على هذه الإنحرافات وقد جاء نعتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ) . رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد .(/3)
فأهل السنة وسط بين الخوارج والمرجئة فلا يكفرون أهل الكبائر مالم يستحلوا ذلك ولا يقولون بقول المرجئة لا يضر مع الإيمان ذنب أو لا يكفر من أتى بمكفر حتى يستحل فهذا باطل بالكتاب والسنة والإجماع فمن سب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم فقد كفر دون تقييد ذلك بالاستحلال وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد قال إسحاق بن راهويه . وقد أجمع العلماء على أن من سب الله عز وجل أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئاً أنزله الله أو قتل نبياً من أنبياء الله وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر .
السؤال الرابع : ما حكم جلسة الاستراحة في الصلاة ؟
الجواب : جلسة الاستراحة سنة من سنن الصلاة في أصح قولي العلماء وقد جاء في صحيح البخاري من طريق خالد الحذّاء عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً .
وموضعها في القيام من الأولى للثانية ومن الثالثة للرابعة . والمرأة في ذلك كالرجل .
وقد استحب فعلها إسحاق و الإمام الشافعي وكان الإمام أحمد رحمه الله لا يقول بذلك فرجع عن قوله وقال بما دل عليه حديث مالك بن الحويرث .
وقال النووي رحمه الله في المجموع : اعلم أنه ينبغي لكل أحد أن يُواظب على هذه الجلسة لصحة الأحاديث فيها وعدم المعارض الصحيح لها ولا تغتر بكثرة المتساهلين بتركها .
والقول الثاني في المسألة أنه لا يصح فعلها لغير حاجة وهذا قول أكثر العلماء وقالوا إنها لم ترد في أكثر الأحاديث وإنما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مالك للحاجة .
ويجاب عن هذا بأنه لم يثبت دليل على أنه صلى الله عليه وسلم فعلها للحاجة وراويها هو راوي حديث ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) . رواه البخاري . وذكره بعض أهل العلم في المتفق عليه ولا يصح .
السؤال الخامس : ما حكم رفع اليدين بعد الصلوات المكتوبة ؟
الجواب : تخصيص رفع اليدين للدعاء بعد الفرائض غير مشروع وليس له أصل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة ولا أفتى به أحد من التابعين .
والأصل في العبادات المنع حتى يثبت دليل وكل من نقل صفة صلاته صلى الله عليه وسلم لم يذكر عنه أنه رفع يديه ودعا بعد الفريضة .
وقد جاء في الصحيحين وغيرهما من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) .
ولكن إذا عرض للمصلي عارض يقتضي الدعاء فدعا بعد الصلاة ورفع يديه ولم يقصد تخصيص هذا الوقت فهذا لا بأس به .
وقد جاء في الصحيحين من طريق مالك عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال أتصلي للناس فأقيم ؟ قال نعم فصلى أبو بكر فجاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف فصفق الناس وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صافاً فأشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمكث مكانك فرفع أبو بكر رضي الله عنه يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ... ) . الحديث وفيه دليل على الدعاء ورفع اليدين في مثل هذه الحالات فقد فعل ذلك أبو بكر اجتهاداً وأقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم فكان هذا مؤكداً للحكم سواء كان داخل الصلاة أو خارجها والله أعلم .
الجلسة الرابعة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مجموعة من الأسئلة أجاب عنها فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله تعالى في جلسته اليومية بعد صلاة الظهر وكانت الإجابة مسجلة بصوته فتم تفريغها وعرضها على الشيخ بتاريخ 7 / 6 / 1421 هـ فأذن بنشرها .
السؤال الأول : ما صحة حديث الصدقة تطفئُ غضب الرب ..؟
الجواب : هذا الحديث رواه الترمذي في جامعه وابن حبان في صحيحه من طريق عبد الله بن عيسى الخزّاز عن يونس بن عُبيد عن الحسن البصري عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . إن الصدقة لتطفىء غضب الرب وتدفع ميتة السوء )) .
وهذا الإسناد منكر .
عبد الله الخزاز منكر الحديث قاله أبو زرعة .
وقال النسائي ليس بثقة .
وقال ابن عدي . هو مضطرب الحديث وليس ممن يحتج به وقال العقيلي . لا يتابع على أكثر حديثه .
وجاء هذا الخبر بلفظ . إن الله ليدرأ بالصدقة سبعين ميتة من السوء . رواه القضاعي في مسنده من طريق يزيد الرقاشي عن أنس ولا يصح .
السؤال الثاني : فضيلة الشيخ . ما تقولون في حديث ابن عمر قال . كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام ؟
الجواب : هذا الحديث معلول وقد رواه أحمد و الترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه كلهم من طريق حفص بن غياث عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر .(/4)
وظاهر هذا الإسناد الصحة وقد صححه أبو عيسى الترمذي وابن حبان وآخرون .
وفي ذلك نظر ولا يصح الاعتماد على ظاهر الإسناد وقد قال أبو عيسى الترمذي في كتابه العلل سألت محمداً عن هذا فقال هذا حديث فيه نظر .
وقال الإمام يحيى بن معين رحمه الله . لم يحدث بهذا الحديث أحد إلا حفص وما أراه إلا وهم فيه وأراه سمع حديث عمران بن حُدير فغلط بهذا .
وقد اختلف الفقهاء في حكم الشرب قائماً .
فقيل محرم ويجوز لعذر يمنع من القعود وهذا اختيار الإمام ابن القيم لحديث أنس في صحيح الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائماً .
وفي رواية . نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرب الرجل قائماً .
ورواه من حديث أبي سعيد الخدري .
وقيل هذا النهي منسوخ لحديث ابن عباس قال . سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم . رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما .
وفي صحيح البخاري من طريق عبد الملك بن ميسرة عن النزال قال : أتى عليّ رضي الله عنه على باب الرحبة فشرب قائماً فقال : إن ناساً يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم وإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت )) . وقيل تحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه وأحاديث الجواز على بيانه وهذا قول الطبري والخطابي والحافظ ابن حجر .
وقيل بجواز الأمرين دون كراهة والشرب قاعداً أفضل لأنه الأكثر في فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الصحيح . والله أعلم .
السؤال الثالث : هل يجوز للأب أن يجبر ابنه العاقل على الزواج بفتاة لا يريدها .
الجواب : ليس لأحد الأبوين أن يلزم الإبن على نكاح من لا يريد ولايحب لأن نتيجة هذا الزواج قد تكون الطلاق أو تصبح حياتهما ضرباً من النكد .
ولا يجب على الإبن طاعتهما في ذلك ولا يعتبر حينئذٍ عاقاً .
ولكن الواجب على الإبن أن يتلطف بالرفض ولا يرفع صوته عليهما ولا يُسمعهما قولاً سيئاً .
السؤال الرابع : هل تجوز حضانة الكافر على المسلم ؟
الجواب : لا تصح على الصحيح وهو قول أكثر أهل العلم وذلك لأمور .
الأول : أنّ الطفل ينشأ في حضن الكافر فلا يؤمن أن يهوَّده أو ينصره أو يمجسه وهذا ضرر محض يجب اجتنابه وتفادي خطره .
الثاني : أن الحضانة من أقوى أسباب الموالاة بين الطفل وحاضنه والله تعالى قد قطع الموالاة بين عدوه ووليه فالكفار بعضهم من بعض والمؤمنون بعضهم أولياء بعض فلا تصح حينئذٍ حضانة عدو الله للطفل المسلم .
الثالث : قوله تعالى { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } فقد نفى الله السبيل للكافر على المسلم .
وإذا وجد شيء من ذلك في دنيا الواقع فهو بخلاف الشرع ولا يجوز إقراره .
الرابع : أن احتجاج بعض الفقهاء بحضانة الكافرة للولد المسلم بحديث رافع بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ابنتي وهي فطيم أو شبهه وقال رافع ابنتي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( اقعد ناحية ) وقال لها [ اقعدي ناحية ] .
وأقعد الصبية بينهما ثم قال ( ادعواها ) فمالت الصبية إلى أمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم اهدها فمالت الصبية إلى أبيها فأخذها .
فهذا الخبر رواه أبو داود من طريق عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن جده رافع بن سنان ورواه النسائي من طريق عبد الحميد بن سلمة الأنصاري عن أبيه عن جده .
وفيه نظر وقد أعله غير واحد بالاضطراب .
وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله . إن هذا الحديث قد يُحتج به على صحة مذهب من اشترط الإسلام فإن الصبية لما مالت إلى أمها دعا النبي صلى الله عليه وسلم لها بالهداية فمالت إلى أبيها وهذا يدل على أن كونها مع الكفار خلافُ هُدى الله الذي أراده من عباده ولو استقر جعلها مع أمها لكان فيه حجة بل أبطله الله بدعوة رسوله .
السؤال الخامس : فضيلة الشيخ ما تقولون في الحديث الوارد في دعاء الخروج من الخلاء . الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني .
الجواب : هذا الحديث لا يثبت فقد رواه ابن ماجه من طريق إسماعيل بن مسلم عن الحسن وقتادة عن أنس بن مالك قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال الحمد لله ... الخ .
وإسماعيل بن مسلم متفق على تضعيفه وجاء نحوه من حديث أبي ذر مرفوعاً وموقوفاً وفيه اختلاف ولا يصح .
وفي الباب حديث عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال . غفرانك . رواه الترمذي والبخاري في الأدب المفرد من طريق مالك بن إسماعيل عن إسرائيل عن يوسف بن أبي بردة عن أبيه عن عائشة وإسناده حسن .
ورواه النسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجه من طريق يحيى بن أبي بكير .
وأبو داود من طريق هاشم بن القاسم كلاهما عن إسرائيل بلفظ كان إذا خرج من الغائط قال غفرانك .
السؤال السادس : ما درجة حديث ( ماء زمزم لما شرب له ) ؟(/5)
الجواب : هذا الحديث رواه أحمد في مسنده وابن ماجة من طريق عبد الله بن المؤمل عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وفيه ضعف فإن عبد الله بن المؤمل ضعيف الحديث قال الإمام أحمد رحمه الله . أحاديثه مناكير .
وقال أبو داود . منكر الحديث .
وقال ابن عدي . أحاديثه عليها الضعف بيّن .
وقال العقيلي في الضعفاء حين ذكر له هذا الخبر . لا يتابع عليه .
وروى الفاكهي في أخبار مكة عن معاوية رضي الله عنه قال . زمزم شفاء هي لما شرب له وقد حسنه الحافظ ابن حجر في جزء جمعه حول هذا الحديث .
وفي إسناده عند الفاكهي محمد بن إسحاق الصيني شيخ الفاكهي وهو كذاب قاله ابن أبي حاتم .
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمزم . إنها مباركة إنها طعام طُعم .
وروى عبد الرزاق في المصنف عن الثوري عن ابن خُثَيم أو عن العلاء شك أبو بكر عن أبي الطفيل عن ابن عباس قال كنا نسميها شُباعة يعني زمزم .
وكنا نجدها نعم العون على العيال .
ورواه ابن أبي شيبة والأزرقي والفاكهي في أخبار مكة .
وروى عبد الرزاق بسند صحيح عن معمر عن عبد الله بن طاووس عن أبيه قال : زمزم طعام طعم وشفاء سقم .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن خُثَيم أن مجاهداً كان يقول . هي لما شربت له يقول تنفع لما شربت له .
الجلسة الخامسة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مجموعة من الأسئلة المقسمة على علم الحديث والفقه والعقيدة أجاب عنها فضيلة الشيخ سليمان ابن ناصر العلوان في جلسته اليومية بعد صلاة الظهر وكانت الإجابة مسجلة بصوته فتم تفريغها وعرضها على الشيخ بتاريخ 11 / 6 / 1421 هـ فأذن بنشرها .
السؤال الأول : ما هو القول الصحيح في الحديث الوارد في الصلاة بعد الإشراق ؟
الجواب : هذا الحديث رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك و أبو أمامة وابن عمر وعائشة وغيرهم ولا يصح من ذلك شيء .
فحديث أنس رواه الترمذي في جامعه من طريق عبد العزيز بن مسلم حدثنا أبو ظلال عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة ) قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب )) أي ضعيف .
وأبو ظلال ليس بشيء قاله يحيى بن معين وضعفه أبو دواد والنسائي وابن عدي وغيرهم .
وحديث أبي أمامة رواه الطبراني في المعجم الكبير من طريق عثمان بن عبد الرحمن عن موسى بن علي عن يحي بن الحارث عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة مرفوعاً .
وعثمان بن عبد الرحمن الحراني متكلم فيه بسبب روايته عن الضعفاء والمجاهيل .
وموسى بن علي ليس بمعروف .
والقاسم مختلف فيه وقد ضعفه جماعة بسبب الرواة عنه قال أبو حاتم : حديث الثقات عنه مستقيم لا بأس به وإنما ينكر عنه الضعفاء .
وتكلم فيه الإمام أحمد وضعفه الغلابي والعقيلي وابن حبان وقال يروي عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم المعضلات ويأتي عن الثقات بالأشياء المقلوبة حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها .
وحديث ابن عمر ذكره ابن حبان في كتابه المجروحين من طريق الأحوص بن حكيم عن خالد بن معدان عن ابن عمر مرفوعاً والأحوص ضعيف قاله أحمد بن حنبل وابن المديني ويحيى بن معين .
وحديث عائشة رواه أبو يعلى في مسنده وفيه جهالة ونكارة .
ولا أعلم حديثاً صحيحاً في الباب ولا ثبت عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا عن الأئمة المتبوعين من الأئمة الأربعة أن من جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس وصلى ركعتين حضي بأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة .
ومثل هذا تتوافر الهمم والدواعي على نقله فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يجلسون في المصلى حتى ترتفع الشمس ثم يقومون رواه مسلم في صحيحه من طريق أبي خيثمة عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة .
وحين لا يذكرون الصلاة ولا الأجر المترتب على ذلك وهو من الأهمية بمكان ... فيه دليل على أنه لا أصل للأحاديث الواردة في الباب .
وروى ابن أبي شيبة في المصنف من طريق منصور عن مجاهد أن عائشة كانت إذا طلعت الشمس نامت نومة الضحى . وهذا إسناده صحيح وليس فيه ذكر للصلاة بعد الجلوس وكأن الأمر غير معروف في ذاك الجيل العظيم .
وذكر الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الوليد بن مسلم قال رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس ، ويخبرنا عن السلف أن ذلك كان هديهم فإذا طلعت الشمس قام بعضهم إلى بعض فأفاضوا في ذكر الله والتفقه في دينه .
والمنقول عن السلف في مثل هذا كثير مما هو دال ومؤكد على أن هذه الصلاة المذكورة بعد الشمس والأجر المترتب على ذلك ليس له أصل .
وهذا لا ينفي أن الصلاة بعد ارتفاع الشمس مشهودة محضورة والخبر في مسلم من حديث عمرو بن عبسة فهذا شيء وما نحن فيه شيء آخر والله أعلم .
السؤال الثاني : ما حكم الصلاة على الميت الغائب ؟(/6)
الجواب : الخلاف في هذه المسألة مشهور وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي حين توفي صلاة الغائب وخرج بأصحابه إلى المصلى فصفَّ بهم وكبر عليه أربعاً .
والحديث في البخاري ومسلم من طريق مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة .
فقالت طائفة يُصلَّى على كل ميت غائب وهذا مذهب الإمام الشافعي وأحمد في رواية واختار ذلك أبو محمد بن حزم رحمه الله .
وقالت طائفة أخرى . لا تصح الصلاة على الميت الغائب مطلقاً . وحديث أبي هريرة في صلاته صلى الله عليه وسلم على النجاشي خاص به وليس لأحد أن يفعل مثل ما فعل وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ورواية عن الإمام أحمد .
وقالت طائفة ثالثة . إذا مات الرجل الصالح صُلَّي عليه لصلاته صلى الله عليه وسلم على النجاشي وهذا منسوب للإمام أحمد رحمه الله ذكره عنه شيخ الإسلام كما في الاختيارات الفقهية وهو قول جماعة من متأخري العلماء .
والقول الرابع : أن الغائب إذا مات ببلد لم يُصلَّ عليه صُلي عليه صلاة الغائب كما هو الحال في صلاته صلى الله عليه وسلم على النجاشي لأنه مات بين الكفار ولم يثبت أن صُلي عليه هناك ومثله الغريق والمفقود تحت هدم ونحوهما وإن صُلي عليه حيث مات لم تشرع صلاة الغائب عليه وهذا قول الإمام أحمد رحمه الله في رواية واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وهو الصواب .
فقد توفي خلق كثير من أصحاب رسول لله صلى الله عليه وسلم . وهم غياب ولم يُصَلَّ عليهم .
وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم _ وأصحابه متفرقون في البلدان _ ولم يثبت عن أحد منهم الصلاة عليه .
وتوفي الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون ولم يذكر عن أحد من الصحابة والتابعين الغُيّب صلاة عليهم ومن القواعد المهمة في هذا الباب أن ما تركه رسول الله صلى الله وسلم وأصحابه من العبادات مع وجود المقتضي للفعل وزوال المانع فإنه واجب الترك وفعله بدعة .
وضبط هذه القاعدة يجلَّي كثيراً من البدع .
وقد كتبت في هذه المسألة رسالة بأطول من تلك وبينت واقع بعض المسلمين اليوم من التوسع في الصلاة على الغائب ولا سيما أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم من العلمانيين وأئمة الضلال ودعاة الفساد فإنا لله وإنا إليه راجعون .
السؤال الثالث : ما صحة الحديث الوارد في افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ؟
الجواب : هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء من غير وجه وعن أكثر من صحابي .
وقد تكلم فيه بعض المتأخرين وأثار حوله بعض الإشكالات وليس هذا بشيء .
فالحديث محفوظ رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعبن فرقة )) .
وهذا سند صحيح وقد صححه الترمذي وابن حبان والحاكم وغيرهم .
وصح من حديث معاوية وفيه ( وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين . ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة . رواه أبو داود في سننه .
وفي الباب عن عوف بن مالك رواه ابن ماجه .
وعبد الله بن عمرو بن العاص رواه الترمذي بسند ضعيف .
وأنس بن مالك رواه ابن ماجه وابن أبي عاصم في السنة .
وأبي أمامة رواه محمد بن نصر في السنة وابن أبي عاصم .
فهذه الأحاديث الثابتة تقتضي حتمية افتراق الأمة وأنه واقع لا محالة ولا ينجو من هذه الثلاث والسبعين فرقة غير واحدة وهي الجماعة فلا تزال منصورة ظاهرة حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى .
السؤال الرابع : ما تقولون في الحديث الوارد في لحوم البقر بأنها داء .
الجواب : هذا الخبر جاء بأسانيد منكرة عند الطبراني في المعجم الكبير والحاكم في المستدرك .
ورواه أبو داود في المراسيل من طريق زهير بن معاوية حدثتني امرأة من أهلي عن مليكة بنت عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا مرسل ضعيف .
ولم يثبت في النهي عن لحم البقر شيء .
وقد أحل الله لعباده لحم البقر وامتن به عليهم فمن المحال أن يمتن الله على عباده بما هو داء وضرر عليهم قال تعالى { ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين } .
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه بالبقر )) .
ولو كان لحمها داء لما جاز التقرب به لله فالذي يجب القطع به أن هذا الأثر باطل وليس لتصحيحه وجه معتبر وقد أجاد ابن الجوزي في قوله ( فكل حديث رأيته يخالف المعقول أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع فلا تتكلف اعتباره ) .
السؤال الخامس : ما تقولون في تقسيم الشرك إلى ثلاثة أقسام أكبر وأصغر وخفي ؟
الجواب : هذا التقسيم قاله طائفة من أهل العلم وفيه نظر والصحيح أن الشرك قسمان
1- أكبر ... 2- وأصغر .
والشرك الخفي منه ما هو أكبر كالنفاق الأكبر فإن المنافقين يظهرون الإسلام ويبطنون الشرك .(/7)
ومنه ما هو شرك أصغر وهذا مراتب متفاوتة وقد قرأت لبعض المتأخرين حين قسَّم الشرك إلى ثلاثة أقسام قال والشرك الخفي دون الأصغر .
وهذا الإطلاق بدون قيد غير صحيح وقد تقدم أن الشرك الخفي منه ما هو شرك أكبر وصاحبه لا تناله شفاعة الشافعين ولا رحمة أرحم الراحمين .
وقد كتب الله عليه الخلود في السعير قال تعالى { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } .
وقال تعالى { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البريّة } .
والشرك الأكبر هو تسوية غير الله بالله في شيء من خصائص الله .
والشرك الأصغر هو ما جاء في الأدلة الشرعية تسميته شركاً ولم يصل إلى الأكبر .
وقد قيل إن هذا الشرك لا يغفر فلا بدَّ أن يُعذّب صاحبه ولكنه لا يخلد في النار ذكر ذلك ابن مفلح في الفروع عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد أشار إلى هذه المسألة في رده على البكري .
والقول الثاني : أن صاحب هذا الشرك تحت المشيئة وهو قول عامة العلماء وهو الصحيح .
فإن الله تعالى يقول { إن الله لا يغفر أن يشرك به } أي الشرك الأكبر { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } يدخل فيه الشرك الأصغر . والله أعلم .
الجلسة السادسة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مجموعة من الأسئلة أجاب عنها فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله في جلسته اليومية بعد صلاة الظهر وكانت الإجابة مسجلة بصوته فتم تفريغها وعرضها على الشيخ بتاريخ 14 / 6 / 1421 هـ فأذن بنشرها .
السؤال الأول : ما حكم بدأ اليهود والنصارى بالسلام ؟
الجواب : هذه المسألة محل اختلاف بين أهل العلم وقد قال الإمام الأوزاعي رحمه الله . إن سلّمت فقد سلّم الصالحون وإن تركت فقد ترك الصالحون .
وقد جاء في صحيح مسلم من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال . لا تَبدَؤا اليهود ولا النصارى بالسلام . فإذا لقيتم أحدَهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه .
وهذا دليل على النهي عن بدأ أهل الكتاب بالسلام وإليه ذهب أكثر أهل العلم .
وروى عن ابن عباس وأبي أمامة جواز ذلك وتأول بعض أهل العلم النهي الوارد في ذلك على أن معناه ليس عليكم أن تبدؤهم .
وفيه نظر فالأصل عدم الإضمار .
والحديث قوي الدلالة على تحريم بدأ اليهود والنصارى بالسلام .
فإن السلام اسم من أسماء الله تعالى وصفته فلا يحيى به غير المسلم .
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بدَأ اليهود والنصارى بالسلام وقد كان يكتب إلى ملوكهم . سلام على من اتبع الهدى .
ولا مانع من تكنية الكافر ومخاطبته بكلام غير السلام مع الحذر من الألفاظ الدالة على رضاه بدينه كقول بعض الجهّال متعك الله بدينك .
السؤال الثاني : هل تجوز عيادة أهل الكتاب ؟
الجواب : في هذه المسألة اختلاف بين الفقهاء فقيل تجوز مطلقاً وقيل تحرم وقيل تجوز العيادة بقصد دعوته وعرض الإسلام عليه .
وهذا توسط في المسألة فلا يصح المنع مطلقاً لأنه لم يرد في ذلك دليل بل هو خلاف الأدلة الصحيحة .
والقول بالجواز مطلقاً فيه شيء من النظر فلم يبق إلا جواز عيادته إذا كان يعرض عليه الإسلام أو يرتجيه .
وقد جاء في صحيح البخاري من طريق حماد بن زيد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال . كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمَرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له . أسلم . فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم . فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول . الحمدلله الذي أنقذه من النار .
وهذا الحديث فيه فوائد .
الأولى : حُسنُ خُلقه صلى الله عليه وسلم .
الثانية : حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية الخلق .
الثالثة : أن اليهود إذا مات على يهوديته كافر مخلد في النار وهذا لا خلاف فيه بين أحد من أهل العلم قال النبي صلى الله عليه وسلم . والذي نفسي بيده لاَ يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار .رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة
الرابعة : عيادة اليهودي إذا رجيت المصلحة . قال أبو داود رحمه الله سمعت الإمام أحمد سئل عن عيادة اليهودي والنصراني ؟ قال إن كان يريد أن يدعوه إلى الإسلام فنعم .(/8)
وقد جاء في الصحيحين وغيرهما من طريق ابن شهاب قال أخبرني سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءَه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة قال رسول الله صلى لله عليه وسلم لأبي طالب ياعم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم . أما والله لأستغفرنّ لك مالم أُنه عنك فأنزل الله تعالى فيه { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى .. } .
والحديث فيه دليل على عيادة القريب المشرك إذا رُجي إسلامه قال الفضل بن زياد سمعت أحمد بن حنبل سئل عن الرجل المسلم يعود أحداً من المشركين ، قال : إن كان يرى أنه إذا عاده يعرض عليه الإسلام يقبل منه فليعده كما عاد النبي صلى الله عليه وسلم الغلام اليهودي فعرض عليه الإسلام .
السؤال الثالث : ما هو القول الصحيح في حكم الساحر ؟
الجواب : السحر بكل أنواعه محرم في كل الشرائع ومجمع على تحريمه وتحريم تعلمه .
وهو يخالف ما جاءَت به الرسل ويعارض ما أنزلت من أجله الكتب .
وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الساحر كافر يجب على وليّ الأمر قتله .
قال تعالى { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ... } .
وقال { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } أي بعمل السحر فثبت أن هذا كفر .
وذهب أكثر فقهاء الشافعية إلى أن الساحر لا يكفر إلا إذا اعتقد إباحة السحر أو اعتقد مثل ما يعتقده أهل بابل من التقرب للكواكب السبعة .
وفيه نظر ولا دليل على اشتراط الاعتقاد .
والصحيح أن الساحر كافر سواء اعتقد تحريمه أو لم يعتقد فمجرد عمل السحر كفر وهذا ظاهر الأدلة وليس في النصوص الأخرى ما يعارضها .
وحين يثبت وصف السحر على شخص ما فإنه يقتل وجوباً فقد ثبت ذلك عن جماعة من الصحابة ولكن ليس لآحاد الناس إقامة الحدود دون أمر السلطان أو من يقوم مقامه لأنه يترتب على إقامة الحدود دون ولاة الأمور فساد وزعزعة للأمن وذهاب هيبة السلطان .
السؤال الرابع : ما الحكم فيمن حلف أن لا يفعل شيئاً ففعله ناسياً ؟
الجواب : من حلف أن يفعل كذا وكذا فنسيه أو حلف أن لا يفعل شيئاً ففعله ناسياً أو جاهلاً بأنه المحلوف عليه فلا حنث عليه ويمينه باقية .
وقيل إن حلف على نفسه أو غيره يقصد منعه أن لا يفعل شيئاً ففعله ناسياً أو جاهلاً حنث في الطلاق والعتاق دون اليمين بالله تعالى .
وفيه نظر ولا دليل على هذا الاستثناء .
والصحيح القول الأول وأنه لا يحنث بالجهل والنسيان ويمينه باقية قال تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } .
وإن حلف بالله إن فعلت كذا وكذا فامرأتي طالق أو فعليّ صيام شهر أو عليّ الحج ، فهذه الأيمان فيها للعلماء مذاهب .
1- قيل إذا حنث لزمه ما حلف به .
2- وقيل لا يلزمه شيء .
3- والقول الثالث تجزئه كفارة يمين وهذا أقرب الأقوال إلى الدليل واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية لأن الله يقول { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } .
وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إني واللهِ إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير ) .
السؤال الخامس : هل صح قتل الوزغ باليد ؟ وهل ثبت في قتله أجر ؟
الجواب : قتل الوزغ مشروع بأدلة كثيرة وذلك بألة ونحوها وليس في شيء من الروايات تخصيص اليد أو الندب إلى قتله باليد المباشرة ولا أظن ذلك صحيحاً ولا وارداً فمثل هذا بعيد عن هدي الإسلام ومعالي الأخلاق .
وفي الصحيحين وغيرهما من طريق سعيد بن المسيب أن أم شريك أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بقتل الأوزاغ وفي رواية البخاري قال ( كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام .
وفي صحيح مسلم من طريق عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ وسمّاه فويسقاً .
وقتل الوزغ في أول ضربة أكثر أجراً وثواباً من قتله في المرة الثانية جاء هذا في صحيح مسلم من طريق خالد بن عبد الله عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من قتل وزَغة في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة . ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة لدون الأولى وإن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة لدون الثانية ) .
الجلسة السابعة
بسم الله الرحمن الرحيم(/9)
هذه مجموعة من الأسئلة في الحديث والفقه أجاب عنها فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله في جلسته اليومية بعد صلاة الظهر وكانت الإجابة مسجلة بصوته فتم تفريغها وعرضها على الشيخ بتاريخ 1 / 3 / 1422 هـ فأذن بنشرها .
السؤال الأول : فضيلة الشيخ ما هو القول الراجح في كيفية صلاة الاستسقاء هل تقدم الخطبة على الصلاة كهيئة صلاة الجمعة أم تقدم الصلاة على الخطبة كهيئة صلاة العيدين ؟
الجواب : اختلف الفقهاء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين .
الأول : تقديم الصلاة على الخطبة وهذا مذهب مالك ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في رواية عنه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال . خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا ودعا وحوّل وجهه نحو القبلة رافعاً يديه ثم قلب رداءَه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن . رواه ابن ماجة وابن خزيمة وغيرهما من طريق النعمان بن راشد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة وسنده ضعيف وقد أخطأ في هذا الحديث النعمان وذكره عن الزهري على غير وجهه .
وقد قال الإمام ابن خزيمة في صحيحه ( في القلب من النعمان بن راشد فإن في حديثه عن الزهري تخليطاً كثيراً .
واحتج أصحاب هذا القول بروايات أخرى بعضها صحيح ولكنه غير صريح الدلالة على تقديم الصلاة على الخطبة ، والبقية أحاديث ضعيفة لا يصح الاحتجاج بشيء منها .
القول الثاني : تقديم الخطبة على الصلاة كالجمعة وهو عمل أهل المدينة في القديم ، وقال به الليث بن سعد وأحمد في رواية عنه والإمام بن حزم وهو ظاهر الأدلة الصحيحة قال عبد الله بن زيد رضي الله عنه . خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي ، فتوجه إلى القبلة يدعو وحوّل رداءَه ثم صلى ركعتين جهر بهما في القراءَة . رواه البخاري ومسلم وقد ترجم له النسائي في سننه ( باب الصلاة بعد الدعاء ) وترجم له ابن خزيمة في صحيحه ( باب الخطبة قبل صلاة الاستسقاء ) .
وروى أبو داود في سننه من طريق يونس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت . شكى الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوماً يخرجون فيه . قالت عائشة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر صلى الله عليه وسلم وحمد الله عز وجل ثم قال : إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه ، وقد أمركم الله عز وجل أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم . ثم قال : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين ، لا إله إلا الله يفعل ما يريد . اللهم أنت الله لا إله إلا أنت أنت الغني ونحن الفقراء ، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين . ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه ، ثم حوّل إلى الناس ظهره وقلب رداءَه وهو رافع يديه ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين .... الحديث . قال عنه أبو داود هذا حديث غريب إسناده جيد وأهل المدينة يقرؤون ( ملك يوم الدين ) وهذا الحديث حجة لهم ) .
والحديث فيه دلالة على تقديم الخطبة على الصلاة خلاف المعمول به في هذه العصور من تقديم الصلاة على الخطبة .
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز التقديم والتأخير بلا أولوية . وفيه نظر فقد دلت السنة الصحيحة على أنه صلى الله عليه وسلم يقدم الاستغفار والدعاء على الصلاة فالعمل بذلك أتبع وأقرب إلى الحق .
السؤال الثاني : هل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديد يوم للخروج إلى صلاة الإستسقاء .
الجواب : جاء في سنن أبي داود بسند لا بأس به من حديث عائشة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وعد الناس يوماً يخرجون فيه قالت عائشة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس .. الحديث ودلالته ظاهرة على تحديد يوم للخروج إلى صلاة الاستسقاء ... غير أنه لم يثبت تسمية هذا اليوم وقد استحب غير واحد من أهل العلم تحديد يوميّ الإثنين والخميس لأن الأعمال تعرض فيهما على الله تعالى ولأنهما وقت فضيلة للصيام فيجمع المسلمون بين الصيام والاستسقاء فيكون الدعاء حينئذٍ أقرب للإجابة .
ويحتمل عدم مشروعية تقصد هذين اليومين دون بقية الأيام لأن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة وهذا هو الصواب فلا يشرع تقصد يوم دون آخر بدون نص فالمشروع هو تحديد يوم يخرجون فيه فقد يوافق يوم الإثنين وقد يوافق يوماً آخر مراعاة لمصالح الناس وحاجاتهم .
السؤال الثالث : ما حد الغيبة وما حكمها ؟
الجواب: الغيبة هي أن يذكر الإنسان عيب أخيه المسلم في غيبته بما يكرهه لو بلغه من غير حاجة لذلك.
فقولي : أن يذكر عيب أخيه . هذا يخرج الحديث عن الغير بالمدح والثناء .
وقولي : المسلم : يخرج بذلك الكافر فلا غيبة له .(/10)
وقولي : في غيبته . أخرج بذلك الحاضر فالحديث عنه لا يسمى غيبة في أصح قولي العلماء .
وقولي : بما يكرهه لو بلغه . خرج بذلك ما رضي به .
وقولي : من غير حاجة لذلك . خرج بذلك ما كان لمصلحة شرعية كالتحذير من المبتدع لتتقى بدعته .
ويجب في ذلك مراعاة أمور .
الأول : الإخلاص لله تعالى وإرادة وجهه .
الثاني : مراعاة المصلحة في ذلك .
الثالث : أن يكون الحديث مقصوراً على موضع الزلل دون تجاوزه إلى غيره بدون فائدة .
وقد اتفق العلماء على تحريم الغيبة بدون مصلحة وجزم أكثرهم على أنها من الكبائر وهي مراتب متفاوتة بعضها أشد من بعض فمن اغتاب عالماً ليس كمن اغتاب جاهلاً قال تعالى { ... وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) } .
وفي صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أتدرون ما الغيبة قالوا الله ورسوله أعلم قال [ ذكرك أخاك بما يكره قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال [ إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ) .
وروى أبو داود في سننه من طريق نوفل بن مساحق عن سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق ) .
وقال صلى الله عليه وسلم ( إن دماءَكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه ) .متفق عليه من حديث أبي بكرة .
ومن أقبح أمور الغيبة وأشدّها حرمة تنقص المسلم واحتقاره وازدراؤه وبذل الجهد في إهانته وإسقاط حرمته والنيل من عرضه . فهذا الخلق الذميم والداء العظيم كبيرة من كبائر الذنوب وصاحبه معرض للوعيد والبطش الشديد .
السؤال الرابع : توفي رجل عن زوجة حامل فوضعت قبل أن يُغسَّل فهل يجوز للمرأة أن تليه في الغسل ؟
الجواب : حين وضعت المرأة أصبحت أجنبية عن الزوج فيحرم عليها تغسيله .
فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم أن تغسل المرأة زوجها ما دامت في عصمته كأن يموت عنها حاملاً وغسلته قبل الوضع أو لم تكن حاملاً فتغسله ما دامت في العدة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام وأما حين وضعت قبل أن تغسله فيحرم عليها تغسيله فقد أصبحت أجنبية وحلّت للخطاب باتفاق أهل العلم .
قال تعالى { وَأُولاَتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وحكى ابن المنذر الإجماع على أن عدة الحامل أن تضع حملها ... وحينئذٍ يسقط الإحداد عنها فلها أن تتزوج وتتجمل بما شاءَت .
السؤال الخامس : ما تقولون في حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال . من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت ؟
الجواب : هذا الحديث رواه النسائي في عمل اليوم والليلة وابن السني في عمل اليوم والليلة والطبراني في الكبير وغيرهم من طريق محمد بن حمير عن محمد بن زياد الألهاني عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم . وإسناده لا بأس به وقد صححه ابن حبان في كتاب الصلاة والمنذري وابن عبد الهادي وابن كثير .
وقد بالغ ابن الجوزي فأورده في كتابه الموضوعات ولا يوافق على ذلك .
والحديث تفرد به محمد بن حمير عن الألهاني .
وهذا يحتمل التعليل ولا سيما أن الفسوي رحمه الله قال . محمد بن حمير ليس بالقوي .
وخالفه ابن معين فقال ثقة وقال الإمام أحمد . ما علمت إلا خيراً . وقال النسائي ليس به بأس .
والحديث جيد الإسناد وليس من صحاح الأخبار ومثله يقبل وذلك لأمور .
الأول : أن الإمام النسائي رحمه الله رواه ولم يعله وأورده في المختارة وصححه .
الثاني : أن الحديث ليس من أصول الأحكام .
الثالث : أن تفرد الصدوق بالحديث يقبل إذا دلت قرينة على ضبطه وتفرد محمد بن حمير من هذا ، وقد جاء للحديث شواهد من حديث المغيرة ابن شعبة وأبي مسعود وعلى بن أبي طالب ولا يصح من ذلك شيء والله أعلم .
السؤال السادس : فضيلة الشيخ سمعت من بعض العامة أنّ أم الأولاد لا تطلق فهل يصح هذا وهل قال به أحد من أهل العلم ؟
الجواب : هذا الكلام من الهذيان وليس له أصل في الشرع ولا أظن عالماً أو طالب علم يفتي بمثل هذا الباطل وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على أن الرجل إذا طلق زوجته صغيرة أو متوسطة العمر أو من القواعد في طهر لم يمسها فيه أو حاملاً قد تبين حملها أنها تطلق قال تعالى في المطلقات ذوات الحيض { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } .(/11)
وقال تعالى في المطلقات اللاتي انقطع عنهن الحيض { وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ... } وقال بعد ذلك في المطلقات ذوات الحمل { وَأُولاَتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ...} .
فإن كانت الطلقة الثالثة فقد بانت منه ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره ، وإن كانت الأولى أو الثانية فيشهد شاهدين ويراجعها وقد روى أبو داود في سننه من طريق يزيد الرشك عن مطرف بن عبد الله أن عمران بن حصين . سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال : طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة . أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تَعُدْ .
الجلسة الثامنة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مجموعة من الأسئلة أجاب عنها فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله في جلسته اليومية بعد صلاة الظهر وكانت الإجابة مسجلة بصوته وقد تم تفريغها وعرضها على الشيخ بتاريخ 11 / 3 / 1422 هـ فأذن بنشرها .
السؤال الأول : شخص طلق زوجته طلاقاً رجعياً وقبل أن تنقضي عدتها أراد مراجعتها فهل يجب رضاها بذلك ؟
الجواب : لا يلزم رضاها فالزوج يملك رجعتها ما دامت في العدة رضيت أو لم ترض ولا أعلم في ذلك خلافاً .
وقد ذكر ابن المنذر رحمه الله في كتابه الإجماع أن العلماء متفقون على أن الرجعة إلى الرجل ما دامت في العدة وإن كرهت ذلك المرأة .
غير أنه يحرم على الزوج أن يرتجعها ليضرَّ بها أو كي تفتدي منه بعوض قال تعالى { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ } وقال تعالى { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } .
وكما أن هذا الإضرار محرم على الرجال هو أيضاً محرم على النساء فمن المحرمات أن تؤذي المرأة زوجها وتسيء معاملته وتمنع منه نفسها كي يطلقها بدون عوض فلا يشاق أحدهما الآخر .
فإذا أبغض الرجل زوجته فليمسكها بالمعروف أو يطلقها بإحسان وإذا كرهت المرأة زوجها وأبغضته ولم تقم بحقه ولم تقدر على معاشرته فلها أن تفتدي منه بما أعطاها دون أذيته وتوليد العداوات .
وقد جاء في صحيح البخاري من طريق خالد عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله . ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلُق ولا دين ولكنّي أكرهُ الكفرَ في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتردين عليه حديقته . قالت نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقبل الحديقة وطلقها تطليقة .
وفي رواية أيوب عن عكرمة عن ابن عباس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تردين عليه حديقته فقالت نعم فردّت عليه وأمره ففارقها .
وأصح قولي العلماء أن الخلع فسخ وليس بطلاق فتعتد المرأة بحيضة واحدة . وهذا قول أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وابن عمر وابن عباس وقال به إسحاق وأحمد في رواية واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم .
السؤال الثاني : ما حكم الوضوء من لحوم الإبل ؟
الجواب : ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالوضوء من لحوم الإبل وجاء هذا في صحيح مسلم من طريق جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أأتوضأ من لحوم الغنم قال إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا توضأ . قال أتوضأ من لحوم الإبل قال نعم ، فتوضأ من لحوم الإبل .
وجاء نحوه من حديث البراء بن عازب رواه أحمد وأبو دواد والترمذي وابن ماجة وابن الجارود وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن المنذر .
وهذا مذهب ابن عمر وأفتى به محمد بن إسحاق وإسحاق والإمام أحمد وقال . فيه حديثان صحيحان حديث البراء وحديث جابر بن سمرة .
وقال بذلك الإمام ابن المنذر وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم .
بينما ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الوضوء من لحوم الإبل غير واجب وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وذكره ابن أبي شيبة وابن المنذر عن سويد بن غفلة وعطاء وطاووس ومجاهد .
وذكره بعض أهل العلم عن الخلفاء الراشدين وهذا فيه نظر فلا يصح عن أحد منهم أنه أسقط الوضوء من لحوم الإبل .
وقد احتج أهل هذا المذهب بما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما من طريق شعيب بن أبي حمزة عن محمد ابن المنكدر عن جابر بن عبد لله قال : كان آخرُ الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء ممّا مست النار .
وهذا الخبر لا يصح الاحتجاج به على الرخصة في ترك الوضوء من لحوم الإبل وذلك لوجهين :
الأول : أنه عام ويمكن تخصيصه بحديثي البراء وجابر بن سمرة ولا سيما إذا عُلم أن الوضوء مما مست النار كان واجباً .(/12)
الثاني : أن هذا الخبر معلول ولا يصح متنه وهذا قول أهل هذا الشأن قال الإمام أبو حاتم رحمه الله : هذا حديث مضطرب المتن إنما هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل كتفاً ولم يتوضأ كذا رواه الثقات عن محمد بن المنكدر عن جابر ويحتمل أن يكون شعيب حدّث به من حفظه فوهم فيه .
وقال الإمام أبو داود رحمه الله في سننه وهذا اختصار من الأول يعني حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل خبزاً ولحماً ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ .
وذكر نحو هذا الإمام ابن حبان رحمه الله .
السؤال الثالث :ما حكم لبس خاتم الذهب للرجال ؟
الجواب : خاتم الذهب محرم على الرجال في قول أكثر أهل العلم وقد جاء في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خاتم الذهب .
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه وقال : يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده . فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذ خاتمك انتفع به قال : لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإذا كان الخاتم يلبس للخطوبة فهو أشد إثماً وأعظم ضلالاً فإن اللابس يجمع بين ذنبين كبيرين :
الأول : ارتكاب النهي الصريح الصحيح في نهي الرجال عن لبس الذهب وتحليهم به .
الثاني : التشبه بالنصارى والمشابهة في الظاهر تورث المودة في الباطن وهذا بلاء عظيم وداء قبيح .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال .من تشبه بقوم فهو منهم رواه أحمد من حديث ابن عمر .
وقد بلغني عن مجموعة من الجهّال أنهم يلبسون الخاتم دفعاً للعين واعتقاداً أنه يؤلف بين الزوجين ويكفيهما عين كل حاسد وهذا جهل بالدين وبتوحيد رب العالمين قال تعالى { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .
وقال تعالى { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } .
وكل من جعل من الأشياء سبباً لجلب نفع أو دفع ضر ولم يدل على ذلك دليل شرعي ولا قدري فقد أشرك بالله وهذا الشرك قد يكون أكبر وقد يكون أصغر على حسب قصد لا بسها نسأل الله السلامة والعافية .
السؤال الرابع : فضيلة الشيخ ما هي الفوائد المستفادة من قوله صلى الله عليه وسلم ( غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركي يلهث قال كاد يقتله العطش فنزعت خفها فأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك ) .
الجواب : هذا الحديث متفق على صحته من حديث أبي هريرة وفيه دروس وعبر ومعاني وعلوم وإليك أهم المهمات من المعاني والفوائد .
1- سعة رحمة الله تعالى قال تعالى { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } .
2- فيه معنى قوله تعالى { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } .
3- فيه الرد على الخوارج المكفرين بمطلق الذنوب .
4- فيه إثبات صفة المغفرة لله تعالى والرد على المعطلة .
5- فيه مشروعية الإحسان إلى الدواب وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء .. الحديث رواه مسلم في صحيحه من حديث شداد ابن أوس رضي الله عنه .
6- فيه أن قليل الخير يحصل به كثير الأجر وقد جاء في صحيح البخاري من طريق مالك عن سُمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( بينما رجل يمشي بطريق وجد غُصن شوك على الطريق فأخذه فشكر الله له فغفر له .
7- فيه عدم اليأس من رحمة الله وعفوه فقد سبقت رحمة الله غضبه صح هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم .. رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة .
8- فيه قبح الزنا وعظيم حرمته وقد قال تعالى { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } .
9- فيه أن الله يرحم من عباده الرحماء وقد جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إنما يرحم الله من عباده الرحماء ) .
10- فيه مشروعية إبهام اسم الزانية والزاني حيث قال صلى الله عليه وسلم ( غفر لامرأة ) فلم يذكر اسمها ولا قبيلتها حيث لا فائدة من ذلك .
السؤال الخامس : ما هي آخر مدة النفاس ؟
الجواب : في ذلك خلاف بين أهل العلم .
1- فقال أكثر أهل العلم إن أكثر النفاس أربعون يوماً فإذا تجاوز الدم ذلك فهو استحاضة إلا إذا صادف عادة حيضها وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في رواية وهي المشهورة من مذهبه وحكاه الترمذي في جامعه عن سفيان وابن المبارك وإسحاق وأكثر أهل العلم .
2- وقال مالك والشافعي وأحمد في رواية أكثره ستون يوماً .(/13)
3- وقال الحسن البصري تجلس أربعين يوماً إلى خمسين فإن زاد فهي استحاضة .
4- وقيل غير ذلك من الأقوال وهي اجتهادات ليس على شيء منها دليل صحيح إلا القول الأول فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال . النفساء تنتظر نحواً من أربعين يوماً . رواه ابن الجارود في المنتقى .
وقد روى أحمد و أبو داود والترمذي وابن ماجة من طريق مسة الأزدية عن أم سلمة قالت : كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً وكنا نطلي وجوهنا بالورس من الكلف .
وهذا الإسناد مختلف فيه وقد ضعفه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام والإمام ابن حزم . وصححه الحاكم وحسنه النووي وغيره .
قال ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار ليس في مسألة أكثر النفاس موضع للاتباع والتقليد إلا من قال بالأربعين فإنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مخالف لهم منهم . وسائر الأقوال جاءَت عن غيرهم ولا يجوز عندنا الخلاف عليهم بغيرهم لأن إجماع الصحابة حجة على من بعدهم والنفس تسكن إليهم فأين المهرب عنهم دون سنة ولا أصل . وهذا القول هو الصواب وذلك لأمور :
الأول : أنه قول الصحابة ولا مخالف لهم .
الثاني : أنه لا بد في المسألة من تحديد أيام تجلس فيها النفساء ولا يمكن تجاوز قول الصحابة إلى غيرهم .
الثالث : أنه قول الأطباء وهم من أهل الاختصاص في معرفة الدم فاتفق قولهم مع رأي ابن عباس وقول أكثر أهل العلم .
وأما أقل النفاس فلا حدَّ له في قول أكثر أهل العلم فإذا رأت النفساء الطهر وهو انقطاع الدم وجب عليها أن تغتسل وتصلي .
وقد ذكر الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه الله في جامعه إجماع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومَنْ بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فإنها تغتسل وتصلي .
الجلسة التاسعة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مجموعة من الأسئلة أجاب عنها فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله في جلسته اليومية بعد صلاة الظهر وكانت الإجابة مسجلة بصوته فتم تفريغها وعرضها على الشيخ بتاريخ 30/1/1422 هـ فأذن بنشرها .
السؤال الأول : فيه رجل يريد أن يتزوج ابنته من الزنا فما حكم ذلك ؟
الجواب : هذا محرم ومنكر من الفعل وقد أنكره أكثر أهل العلم وشدّد فيه الإمام أحمد رحمه الله وقال في الرجل يزني بامرأة فتلد منه ابنة فيتزوجها فاستعظم ذلك وقال يتزوج ابنته !!! عليه القتل .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : مذهب الجمهور من العلماء أنه لا يجوز التزوج بها وهو الصواب المقطوع به .. ) .
وقال ابن القيم رحمه لله في زاد المعاد ( وقد دل التحريم بلبن الفحل على تحريم المخلوقة من ماءِ الزاني دلالة الأولى والأحرى ، لأنه إذا حرم عليه أن ينكح من قد تغذّت بلبن ثارَ بوطئه ، كيف يحل له أن ينكح من قد خُلق من نفس مائه بوطئه !! وكيف يحرّم الشارع بنته من الرضاع لما فيها من لبن كان وطء الرجل سبباً فيه ثم يبيح له نكاح من خلقت بنفس وطئه ومائه !! . هذا من المستحيل فإن البعضية التي بينه وبين المخلوقة من مائه أكمل وأتم من البعضية التي بينه وبين من تغذت بلبنه فإن بنت الرضاع فيها جزء ما من البعضية .
والمخلوقة من مائه كاسمها مخلوقة من مائه فنصفها أو أكثرها بعضه قطعاً ، والشطر الآخر للأم . وهذا قول جمهور المسلمين ولا يعرف في الصحابة من أباحها ... ) .
وقد جاء عن بعض أهل العلم جواز نكاح البنت من الزنا باعتبار أنها ليست بنتاً في الشرع ودليل ذلك أنهما لا يتوارثان . وهذا ضعيف فإن النسب تتبعض أحكامه وأمثلته كثيرة .
وكونهما لا يتوارثان لا يعني جواز النكاح بينهما بدليل البنت من الرضاع لا يجوز نكاحها بالإجماع وهما لا يتوارثان بالإجماع .
وقد قال تعالى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } والآية عامة في كل من شمله لفظ البنت .
ولم يثبت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من الصحابة نقل هذا العموم عن عمومه فشمل كل بنت من نكاح أو زنا .
وقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على تحريم الأم على ابنها من الزنا فأيّ فرق بين هذه الصورة وبين البنت مع والدها فالبنت بعضها من الأب والإبن كذلك بعضه من الأم فلا فرق بين المسألتين .
وقد جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة جريج حين استنطق الولد المخلوق بماء حرام فقال من أبوك قال : راعي الغنم ) .
وهذا فيه دلالة صريحة على نسبة ابن الزنا لأبيه وأما حديث ( لا يحرم الحرام إنما يحرم ما كان بنكاح حلال ) فهو حديث منكر رواه ابن عدي في الكامل والدار قطني والبيهقي وغيرهم وقد تفرد به عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي وهو متروك الحديث وقد نقل عن ابن معين أنه كذّبه وقال الإمام أبو حاتم رحمه الله . هذا حديث باطل .
السؤال الثاني : ما تقولون في مسافر يصلي خلف مقيم ؟(/14)
الجواب : لا مانع من كون المسافر يصلي خلف المقيم سواء اختلفت هيئة الصلاة أم لا . واختلاف النية غير مؤثر غير أن المسافر إذا أدرك مع الإمام دون الركعة فإنه يصلي قصراً .
مثال ذلك : مسافر أدرك مع الإمام التشهد الأخير من صلاة الظهر فحينئذٍ يصلي الظهر ركعتين ، فهذه صلاته إذا لم يدرك ركعة فأكثر .
وأما إذا أدرك من صلاة المقيم ركعة فأكثر فإنه يتم وجوباً وهذا مذهب أكثر أهل العلم وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما .
وفي صحيح مسلم من طريق شعبة عن قتادة عن موسى بن سلمة الهذلي قال سألت ابن عباس كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أُصل مع الإمام فقال ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم .
وفي صحيح مسلم من طريق نافع قال كان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً وإذا صلاّها وحده صلى ركعتين .
وروى البيهقي في السنن من طريق سليمان التميمي عن أبي مجلز قال قلت لابن عمر : المسافر يدرك ركعتين من صلاة القوم يعني المقيمين أتجزيه الركعتان أو يصلي بصلاتهم ؟ قال فضحك وقال يصلي بصلاتهم .
وإذا اختلفت هيئة الصلاة كأن يصلي المسافر صلاة المغرب خلف مقيم يصلي العشاء فإنه حينئذٍ يجلس بعد الثالثة .
وهل يكمل صلاته وينصرف أم ينتظر الإمام حتى يتم صلاته ويتشهد معه ويسلم ؟
لكل من هذين القولين احتمال والأقرب في نظري الاحتمال الثاني وهو الانتظار .
وإذا كان العكس كأن يصلي المسافر صلاة العشاء خلف مقيم يصلي المغرب ، فالذي يظهر لي في هذه المسألة أنه يصلي ركعتين ويجلس حتى يتم الإمام صلاته ويتشهد ويسلم معه والله أعلم .
السؤال الثالث : ما الحكم في رجل دخل عليه وقت صلاة الظهر وسافر فهل له القصر؟
الجواب : إذا دخل عليه وقت الصلاة وخرج من البلد فإنه يصلي صلاة مسافر وهو قول الجمهور كأبي حنيفة ومالك والشافعي ورواية عن الإمام أحمد ، لأن الحكم للمكان لا للزمان .
وقيل ليس له القصر لأنها وجبت عليه في الحضر فلزمه إتمامها وهذا أحد القولين في مذهب الإمام أحمد وهذا القول فيه ضعف وينتقض بما لو دخل عليه الوقت في السفر ولم يصل حتى رجع إلى بلده فإنه يصلي صلاة مقيم عند الحنابلة وغيرهم فبان أن الحكم للمكان لا للزمان فحيثما صلى اعتبر مكانه فإن صلى في السفر فإنه يصلي صلاة مسافر وإن صلى في الحضر صلى صلاة مقيم .
السؤال الرابع : ما تقولون في رجل عدم الماء فتيمم وصلى وحين فرغ من صلاته وجد الماء ؟
الجواب : الصحيح في هذه المسألة أن الصلاة مجزئة وهو قول أكثر أهل العلم و إليه ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد .
وذهب ابن سيرين والزهري وغيرهما إلى أنه يعيد الصلاة ما دام في الوقت .
والصحيح مذهب الجمهور فقد سقط الفرض بالتيمم حين العجز عن الماء وقد اتقى المصلي ربه وعمل بالبدل حين تعذر الأصل وهذا المشروع في حقه ولا يلزم إعادة الصلاة مرة ثانية لأن هذا غير مشروع وقد ورد النهي عن ذلك فروى أبو داود من طريق عمرو بن شعيب عن سليمان مولى ميمونة عن ابن عمر أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تصلوا صلاة في يوم مرتين ) .
وروى البيهقي في السنن الكبرى عن أبي الزناد قال كان من أدركت من فقهائنا الذين يُنتهى إلى قولهم منهم سعيد بن المسيب فذكر الفقهاء السبعة من المدينة وذكر أشياء من أقاويلهم وفيها وكانوا يقولون من تيمم فصلى ثم وجد الماء وهو في وقت أو في غير وقت فلا إعادة عليه ويتوضأ لما يستقبل من الصلوات ... ) .
وروى أبو داود في سننه من طريق عبد الله بن نافع عن الليث بن سعد عن بكر بن سوادة عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمّما صعيداً طيباً فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يُعد الآخر ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يُعد : أصبت السنة وأجزأتك صلاتك وقال للذي توضأ وأعاد : لك الأجر مرتين .
قال أبو داود رحمه الله . وغير ابن نافع يرويه عن الليث عن عميرة بن أبي ناجية عن بكر بن سوادة عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وذكر أبي سعيد في هذا الحديث ليس بمحفوظ هو مرسل .
السؤال الخامس : فضيلة الشيخ إذا صلت المرأة صلاة الجمعة خلف الإمام في المسجد فهل تصلي ركعتين كصلاة الإمام أم أنها تتم أربعاً بعد سلام الإمام ؟
الجواب : ذكر الإمام ابن المنذر في كتابه الإجماع أن العلماء مجمعون على أن النساء إذا حضرن الإمام فصلين معه أن ذلك يجزئ عنهن .
وإذا أدركت من صلاة الجمعة ركعة فلتصل إليها أخرى وتصح صلاتها وإذا لم تدرك ركعة أو صلت في بيتها فلتصل أربعاً .
وقد جاء عن عبد الله بن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا إذا أدركتَ من الجمعة ركعة فأضف أخرى وإن أدركتهم جلوساً فصل أربعاً .
وحكى ابن المنذر الإجماع على أن من فاتته الجمعة من المقيمين أنهم يصلون أربعاً .(/15)
وجاء عن أبي حنيفة وجماعة من أهل العلم أنه إذا أحرم في الجمعة قبل سلام الإمام فإنه يصلي ركعتين وإذا لم يدرك الإمام في صلاته فإنه يصلي أربعاً باتفاقهم .
السؤال السادس : ما حكم السجود للسهو وما هي مواضعه ؟
الجواب : السجود للسهو في نقص أو زيادة أو شك واجب في أصح قولي العلماء فقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به .
والأصل في الأمر أن يكون للإجاب مالم يصرفه صارف .
وقد سجد النبي صلى الله عليه وسلم تارة قبل السلام وتارة بعده .
فقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله السجود كله بعد السلام .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله . كله قبل السلام .
وفصّل في ذلك الإمام مالك فقال إذا كان السهو عن نقص في الصلاة فيسجد قبل السلام وإذا كان عن زيادة في الصلاة فيسجد بعد السلام ولا خلاف في مذهب مالك أنه لو جعل السجود كله قبل السلام أو كله بعد السلام لم يكن عليه شيء وهذا مذهب أكثر أهل العلم .
وأما مذهب الإمام أحمد رحمه الله فقد اختلفت الروايات عنه فقيل قبل السلام كمذهب الشافعي وعنه بعد السلام وعنه كمذهب الإمام مالك .
وعنه يسجد قبل السلام في كل شيء إلا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد بعد السلام وقال لولا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد بعد السلام لرأيت السجود كله قبل السلام لأنه من شأن الصلاة فيقضيه قبل السلام وهذا مذهب قوي لأنه مبني على الأصل غير أنه لا بأس بالسجود قبل السلام في سهو محله بعد السلام ويمتنع العكس لأنه لا يخرج عن الصلاة قبل أن يقضي ما عليه فإن فعل صحت صلاته على الصحيح .
ومواطن سجوده صلى الله عليه وسلم بعد السلام ثلاثة :
1- سجد بعد السلام حين خرج من الصلاة قبل إتمامها وحديث هذه المسألة في الصحيحين من رواية أبي هريرة في قصة ذي اليدين .
2- وسجد صلى الله عليه وسلم بعد السلام حين زاد ركعة ولم يعلم بها حتى سلم من صلاته جاء هذا في حديث ابن مسعود في الصحيحين .
3- وقال صلى الله عليه وسلم . إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم ثم يسلم ثم يسجد . جاء هذا في الصحيحين من حديث ابن مسعود .
ولا تنافي بين هذا وبين حديث أبي سعيد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال . إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم .
فهذا محمول على من بنى على اليقين وحديث ابن مسعود فيمن تحرى وبنى على غلبة الظن .
فالإمام يبني على غلبة الظن ويسجد بعد السلام .
والمنفرد يبني على اليقين ويسجد قبل السلام .
والفرق بينهما أن الإمام يجد من ينبهه ويرشده إلى الصواب وحينئذٍ فالأفضل في حقه أن يبني على غلبة الظن . بخلاف المنفرد فيبني على اليقين وهو الأقل حتى يخرج من الصلاة بيقين والله أعلم .
الجلسة العاشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مجموعة من الأسئلة أجاب عنها فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله في جلسته اليومية بعد صلاة الظهر وكانت الإجابة مسجلة بصوته فتمّ تفريغها وعرضها على الشيخ بتاريخ 2 ، 4 ، 1422 هـ فأذن بنشرها .
السؤال الأول : ما حكم النوم بعد صلاة العصر وما درجة الحديث الوارد في النهي عن ذلك ؟
الجواب : لا بأس بالنوم بعد صلاة العصر ولا حرج في ذلك فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة نهي عن ذلك والأصل الإباحة .
ولا حرام إلا ما حرّمه الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم .
ومن حكم على أمر ما بالتحريم أو الإيجاب بدون دليل فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله .
والحديث المشهور ( من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومنّ إلا نفسه ) ليس له سند ثابت .
وقد رواه أبو يعلى وغيره من حديث عائشة وروي من حديث عبد الله بن عمرو وأورده ابن الجوزي في الموضوعات .
وقد قيل لليث بن سعد . تنام بعد العصر وقد روى ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال . فذكر الخبر .
فقال الليث : لا أدع ما ينفعني لحديث ابن لهيعة .
السؤال الثاني : ما صحة حديث . لا يسأل بوجه الله إلا الجنة ؟
الجواب : هذا الحديث رواه أبو داود في سننه من طريق سليمان بن معاذ التميمي عن ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله .
وهذا إسناد ضعيف . فيه سليمان بن قرم بن معاذ تكلم فيه الأئمة . فقال ابن معين : ضعيف .
وقال أبو زرعة : ليس بذاك .
وقال النسائي : ليس بالقوي .
وروى الطبراني في معجمه الكبير عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال . ملعون من سأل بوجه الله وملعون من سُئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هجراً ) .(/16)
وهذا لا يصح أيضاً وقد ضعفه ابن منده في كتابه الرد على الجهمية ، وقال . وذلك أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل بوجه الله واستعاذ بوجه الله وأمر من يُسْأل بوجه الله أن يُعطي .. من وجوه مشهورة بأسانيد جياد ورواها الأئمة عن عمار بن ياسر وزيد بن ثابت وأبي أسامة وعبد الله بن جعفر وغيرهم .
وهذا هو الصواب والأصل جواز السؤال بوجه الله الجنة وغيرها ولا يصح الخروج عن هذا الأصل إلا بدليل صحيح والله أعلم .
السؤال الثالث : فضيلة الشيخ . ما تقولون في الحدود هل هي كفارات أم لا ؟
الجواب : الصحيح أن الحدود كفارات وهو مذهب الشافعي وأحمد وجماهير العلماء وقد دل على ذلك حديث عبادة المتفق على صحته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( با يعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تعصوا في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه )) .
وفي رواية لمسلم ( ومن أتى منكم حداً فأقيم عليه فهو كفارته ) وهذا صريح في أن الحدود كفارات .
فإن قيل جاء في مستدرك الحاكم من طريق عبد الرازق عن معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . ما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا .
فيقال هذا الخبر لا يصح وقد أعله البخاري والدارقطني والصحيح إرساله .والعمل عند أكثر أهل العلم على حديث عبادة .
وظاهره أن الحدود كفارات ولو لم يتب من الذنوب .
فإن الحد مطهر للذنب وهذا قول جماعة من العلماء وقد روى عن جماعة من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين وهو مذهب الشافعي وأحمد وابن جرير الطبري .
وقال جماعة من العلماء . الحدود ليست كفارة ما لم تقترن بالتوبة والأول أصح .
وقد استثنى بعض العلماء حق المقتول فقال إنه لا يسقط باستيفاء الوارث لأن المقتول لم يصل إليه حقه .
وقال ابن القيم في الجواب الكافي . التحقيق في المسألة . أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق .
حق الله ، وحق للمظلوم المقتول وحق للولي . فإذا سلم القاتل نفسه طوعاً واختياراً إلى الولي ندماً على ما فعله وخوفاً من الله وتوبة نصوحاً يسقط حق الله بالتوبة وحق الولي بالإستيفاء أو الصلح أو العفو ، وبقي حق المقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن ويصلح بينه وبينه فلا يبطل حق هذا ولا تبطل توبة هذا .
وقد يجاب عن هذا فيقال :
إن المقتول ظلماً تكفر عنه ذنوبه بالقتل فهذا حقه وإذا أقيم الحدّ على الجاني فهو كفارته ولا يلحقه المقتول بشيء وهذا ظاهر حديث عبادة فقد جاء في الحديث ( ولا تقتلوا أولادكم ) وفي آخره قال ( ومن أصاب من ذلك شيئاً أي القتل والسرقة والزنا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه ) .
والتفريق بين الأمرين أي بين من عوقب وبين من ستره الله صريح الدلالة على أن الحدود كفارات .
وإذا اقترن بذلك توبة وندم كان أفضل وأتقى لله باتفاق العلماء والله أعلم .
السؤال الرابع : ما صحة حديث . من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
الجواب : هذا الحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي في الكبرى والترمذي وغيرهم من طريق حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله .
وهذا إسناد لا يصح ولم يثبت لأبي تميمة سماع من أبي هريرة .
والخبر ضعفه البخاري والترمذي وغيرهما .
وقد ثبت بالكتاب والسنة تحريم وطء الحائض .
وثبت عن جماعة من الصحابة تحريم إتيان المرأة في دبرها .
قال أبو الدرداء رضي الله عنه . وهل يفعل ذلك إلا كافر !! رواه الإمام أحمد بسند صحيح .
وسئل ابن عباس عن الرجل يأتي المرأة في دبرها ؟ فقال : ذلك الكفر . رواه النسائي في الكبرى من طريق معمر عن عبد الله بن طاووس عن أبيه قال سئل ابن عباس وهذا سند صحيح .
وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال . أوَيعمل هذا مسلم !!! رواه النسائي في السنن الكبرى .
وقد جاء في الباب أحاديث مرفوعة عن جمع من الصحابة .
وأهل العلم مختلفون في صحتها وقد جزم ابن حبان وجماعة بصحة كثير منها وعليه العمل عند أكثر أهل العلم .
وأما سؤال الكهان والعرافين فهو محرم بالإتفاق وهو مراتب منه ما هو كفر أكبر ومنه ما هو دون ذلك وقد جاء في صحيح مسلم من طريق يحي بن سعيد عن عبيد الله عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أتى عرّافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة .(/17)
وروى الحاكم في مستدركه بسند صحيح من طريق عوف عن خلاس ومحمد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أتى عرّافاً أو كاهناً فصدّقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
السؤال الخامس : ما تقولون في حديث ( إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس ) .
الجواب : ذكرت غير مرة في الدروس والإجابات أن هذا الحديث ضعيف وأنه لا يصح في فضل سورة يس حديث وقد شاعت في بلادنا وأكثر البلاد الأخرى فضائل هذه السورة الكريمة حتى فاقت شهرتها شهرة الأحاديث الصحيحة المتفق على ثبوتها وتلقيها بالقبول .
وقد جاء حديث ( إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس ) عن جماعة من الصحابة :
1 – أنس بن مالك رواه الترمذي واستغربه .
2_ وعبد الله بن عباس رواه ابن مردويه .
3- وأبيّ بن كعب رواه القضاعي في الشهاب وذكره ابن لجوزي في الموضوعات .
4- وأبو هريرة رضي الله عنه رواه البزار وغيره .
ولا يصح من هذه الأحاديث شيء وقد أبان عن نكارتها غير واحد من الحفاظ .
الجلسة الحادية عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مجموعة من الأسئلة أجاب عنها فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله في جلسته اليومية بعد صلاة الظهر وكانت الإجابة مسجلة بصوته فتم تفريغها وعرضها على الشيخ بتاريخ 9 / 4 / 1422 هـ فأذن بنشرها .
السؤال الأول : فضيلة الشيخ ما هو تعريف الإيمان عند أهل السنة ؟ وما هي نوا قضه ؟
الجواب : الذي دل عليه الكتاب والسنة أن الإيمان قول وعمل قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح يزيد وينقص وهذا الذي اتفق عليه الصحابة والتابعون وأهل السنة .
والمقصود من قول القلب هو اعتقاده ، وعمل القلب هو نيته وإخلاصه .
وقد حكى الإمام الشافعي إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم أن الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة عن الآخر .
وقال البغوي رحمه الله . اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان وقالوا : إن الإيمان قول وعمل وعقيدة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة وجاء في الحديث بالنقصان في وصف النساء .
وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن تارك جنس العمل مطلقاً كافر والمراد بجنس العمل أعمال الجوارح فلا يجزئ التصديق بالقلب والنطق باللسان حتى يكون عمل الجوارح .
وقال الآجري رحمه الله في كتابه الشريعة . اعلموا أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقاً ولا يجزئ معرفة بالقلب ونطق باللسان حتى يكون عمل بالجوارح فإذا كملت فيه هذه الخصال الثلاث كان مؤمناً دل على ذلك القرآن والسنة وقول علماء المسلمين .
وقال رحمه الله . فالأعمال بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان فمن لم يصدق الإيمان بعمله بجوارحه مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمناً ولم تنفعه المعرفة والقول وكان تركه للعمل تكذيباً لإيمانه وكان العمل بما ذكرناه تصديقاً منه لإيمانه .. ) .
وقد حكى إسحاق بن راهويه . إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة قال تعالى { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وقال r بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ، رواه مسلم من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ومن طريق ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير عن جابر .
وقال سفيان بن عينية : المرجئة سموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم ، وليسا سواء لأن ركوب المحارم متعمداً من غير استحلال معصية .
وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر هو كفر وبيان ذلك في أمر آدم و إبليس وعلماء اليهود الذين أقروا ببعث النبي صلى الله عليه وسلم بلسانهم ولم يعملوا بشرائعه .
وقال إسحاق . غلت المرجئة حتى صار من قولهم إن قوماً يقولون : من ترك الصلوات المكتوبات وصوم رمضان والزكاة والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفره يرجى أمره إلى الله بعد إذ هو مقر . فهؤلاء الذين لا شك فيهم أنهم مرجئة .
وذكر الخلال في السنة عن الإمام الحميدي عبد الله بن الزبير أنه قال . أخبرت أن قوماً يقولون . إن من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت أو يصلي مسند ظهره مستدبر القبلة حتى يموت فهو مؤمن مالم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك في إيمانه إذا كان يقر بالفروض واستقبال القبلة . فقلت هذا الكفر بالله الصراح وخلاف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفعل المسلمين قال الله عز وجل { حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } . قال حنبل قال أبو عبد الله أحمد أو سمعته يقول من قال هذا فقد كفر بالله ورد على الله أمره وعلى الرسول ما جاء به .(/18)
وهذا قول كل أهل السنة والجماعة فهم متفقون على ما جاء في الكتاب والسنة أن تارك أعمال الجوارح مطلقاً كافر بالله خارج عن الإسلام . قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في آخر رسالته كشف الشبهات : ولا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً .. ) .
وخالف في ذلك غلاة الجهمية والمرجئة فزعموا أنه لا يكفر تارك جنس العمل مطلقاً وقد تقدم بيان فساده ومخالفته للكتاب والسنة والإجماع .
وزعموا أن من قال أو فعل ما هو كفر صريح لا يكفر حتى يجحد أو يستحل . و هذا باطل ليس عليه أثارة من علم .
فمناط الكفر هو مجرد القول الذي تكلموا به وقال تعالى { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ } وقد دل الكتاب والسنة على فساد هذا القول فقال تعالى { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكمَ }.
وقد أجمع أهل العلم على أن سب الرسول r كفر دون اشتراط البغض أو الاستحلال .
وأجمع العلماء أن السجود للأصنام أو الطواف على القبور كفر دون ربط ذلك بالاستحلال .
وأجمع العلماء على أن تعمد إلقاء المصحف بالقاذورات كفر دون اشتراط الاستحلال .
وهذا كله ينقض أصول الجهمية والمرجئة ويبطل قولهم في مسألة الإيمان .
وقد جاء في سؤال الأخ طلب بيان نواقض أصل الإيمان وهي كثيرة وقد تقدمت الإشارة إلى شيء منها :-
كترك جنس العمل مطلقاً
وترك الصلاة بالكلية
و الطواف على القبور والسجود للأصنام
و إلقاء المصحف في القاذورات
و دعاء غير الله
و التقرب بالذبح لغير الله
و النذر للأولياء.
و سب الله أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم
و الاستهزاء بالدين .
و تبديل شرع الله ووضع القوانين الوضعية وإقامتها مقام حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } .
فمناط الكفر في هذه الآية هو ترك حكم الله والإعراض عنه وسبب نزول الآية يقضي بكفر من ترك حكم الله واعتاض عنه بغيره من أحكام البشر .
والكفر إذا عرف باللام فيراد به الكفر الأكبر .وما روي عن ابن عباس من كونه كفراً دون كفر فلا يثبت عنه وقد بينت نكارته في غير موضع وأبنت أن المحفوظ عنه إطلاق الكفر على من حكم بغير ما أنزل الله ، وقد سئل ابن مسعود عن الرشوة فقال من السحت فقيل له أفي الحكم قال ذاك الكفر ثم تلا هذه الآية { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } وهذا أثر صحيح رواه ابن جرير في تفسيره ورواه أبو يعلى في مسنده و البيهقي و وكيع في أخبار القضاة .
فمن حكم بهذه القوانين الوضعية والتشريعات الجاهلية أو قننها أو شارك في تشريعها أو فرضها على العباد وألزم بالتحاكم إليها وأعرض عن شرع الله والتحاكم إليه أو استخف بمن ينادي بتحكيم الكتاب والسنة فإنه كافر بالله العظيم وأي كفر أكبر من الإعراض عن شرع الله والصد عنه ومحاكمة من دعا إليه ولمزه بالرجعية والتخلف عن الحضارة والمناداة عليه بالجهل وسوء الفهم .
ومن عظيم نفاق هؤلاء المشرّعين أنهم إذا دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم أعرضوا عن ذلك وصدّوا واستكبروا استكباراً وقد صرح أحدهم بأن حكم الله غير مناسب لمثل عصرنا فنحن في عصر التطور والحضارة ومجاراة الدول الأوربية بينما تحكيمُ الشريعة يعود بنا إلى الوراء والتخلف ، وهذا لسان حال الجميع من محكمي القوانين وإن لم يتكلم به أكثرهم والأفعال شاهدة على القلوب والأقوال ولا أدل من ذلك محاربتهم للناصحين وإقصاؤهم شرع رب العالمين .
وإعطاؤهم المخلوق حق التشريع بحيث تعرض الأحكام الشرعية القطعية على البرلمان فما أجازه فهو نظام الدولة وما حضره فهو ممنوع .
وهذا الصنيع إعتداء كبير على التشريع الإلهي وتطاول على الأحكام القطعية ولا ريب أن هذا منازعة لله في حكمه وحكمته وإلاهيته .
وتقييد الكفر بالجحود أو الاستحلال لا أصل له فإن الجحود أو الاستحلال كفر ولو لم يكن معه تحكيم القوانين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المجلد الثالث من الفتاوى : متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدّل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء .
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية في ترجمة جنكيز خان . من ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه من فعل هذا كفر بإجماع المسلمين .(/19)
قال تعالى { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } وقال تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً } .
فإن قيل إن الحاكم بغير ما انزل الله لا يفضل القانون على حكم الله بل يعتقد أنه باطل ، فيقال :
هذا ليس بشيء ولا يغير من الحكم شيئاً فان عابد الوثن مشرك ومرتد عن الدين وإن زعم أنه يعتقد أن الشرك باطل ولكنه يفعله من أجل مصالح دنيوية قال تعالى { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } .
والاعتذار عن هؤلاء المشرعين المعرضين عن الدين بأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
يقال عنه : بأنّ المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار يشهدون الشهادتين ويصلون ويصومون ويحجون وليس هذا بنافع لهم .
والذين يطوفون حول القبور ولها يصلون وينذرون ويذبحون يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وقد قال تعالى { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }.
والذين قالوا ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم و أصحابه ونزل القرآن ببيان كفرهم . كانوا يتكلمون بالشهادتين ويصلون ويصومون ويجاهدون .
والرافضة الإثنا عشرية الذين يسبون الصحابة ويزعمون ردة أبي بكر وعمر وعثمان ويقذفون عائشة بالإفك يتكلمون بالشهادتين .
والسحرة والكهان والمنجمون يلفظون بالشهادتين .
وبنوعبيد القداح كانوا يتكلمون بالشهادتين ويصلون ويبنون المساجد وقد أجمعت الأمة على كفرهم وردتهم عن الإسلام .
وهذا أمر يعرفه صغار طلبة العلم ناهيك عن كبارهم وقد صنف أهل العلم كتباً كثيرة في الردة و نوا قض الإسلام يمكن مراجعتها في مضانها .
وأهل العلم والسنة يفرقون بين ذنب ينافي أصل الإيمان وبين ذنب ينافي كماله الواجب فلا يكفرون بكل ذنب .
وقد أجمعوا على أنه لا يكفر صاحب الكبيرة ما لم يستحلها فلا يكفر المسلم بفعل الزنا وشرب الخمر وأكل الربا لأنه هذه المحرمات لا تنافي أصل الإيمان .
والحديث عن هذه المسألة يطول ذكره وقد تحدثت عن هذه القضية في غير موضع وبينت كفر تارك أعمال الجوارح مطلقاً وردة المبدّلين لشرع الله المعرضين عمّا جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم . بيد أني أقول إن الحديث عن هذه المسألة وغيرها من النواقض هو حديث عن النوع دون العين بمعنى أن من قال أو فعل ما هو كفر صريح كفر وهذا ليس بلازم منه تكفير المعين ، لأنه لا يحكم على العين بالكفر حتى تقام عليه الحجة وتنتفي عنه الشبهة لاحتمال أن يكون جاهلاً جهلاً معتبراً أو متأولاً تأويلاً سائغاً أو مكرهاً . وحين تقوم عليه الحجة وتنتفي عنه موانع التكفير يصبح حينئذ مرتداً عن الدين ويجب على ولىّ أمر المسلمين تطبيق حكم الله فيه . ويمتنع على آحاد الناس إقامة الحدود والأحكام دون السلطان فان هذا يسبب فوضى في المجتمع ولا يحقق المصلحة المطلوبة .
وللحديث بقية لعلي أتحدث عنه في جلسة أخرى .
وأشير إلى أسباب الضلال في هذا الباب ومواطن الزلل في كلام كثير من المعاصرين .
فقد زلّ في هذه المسألة الكبيرة طائفتان :-
1. الخوارج حيث أخرجوا عصاه الموحدين من الإسلام وجعلوا ذنباً ما ليس بذنب ورتبوا على ذلك أحكام الكفر ولم يراعوا في ذلك الأحكام الشرعية ولا المطلق من المقيد ولا موانع التكفير .
2. وقابلهم في هذا الضلال أهل الإرجاء حيث زعموا أنه لا يكفر أحد بذنب مهما كان ذنبه حتى يستحل أو يجحد .
وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على فساد هذين المذهبين وعلى ضلال تلك الطائفتين .
وأختم بمسألة مهمة وأنبه على أنه ليس كل من شابه المرجئة بقول أصبح مرجئاً ولا كل من دان بقول من أراء الخوارج صار خارجياً فلا يحكم على الرجل بالإرجاء المطلق ولا أنه من الخوارج حتى تكون أصوله هي أصول المرجئة أو أصول الخوارج .
وقد يقال عن الرجل فيه شيء من الإرجاء في هذه المسألة وذاك فيه شيء من مذاهب الخوارج .
وحذار حذار من الظلم والبغي حين الحديث عن الآخرين من العلماء والدعاة والمصلحين وغيرهم . فالعدل في القول والفعل من صفات المؤمنين وهو مما يحبه الله ويأمر به قال تعالى { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا } ، وقال تعالى { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان } .
وقد اتفق الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم إنسهم وجنهم على حب العدل .(/20)
واتفق الناس كلهم على بغض الظلم وذمه وبغض أهله وذمهم ومهما كانت منزلة عدوك من الانحراف والضلال فهذا لا يسّوغ لك ظلمه وبهته . فكن من خير الناس للناس ولا تتحدث عن الآخرين إلا بعلم وعدل واجعل قصدك نصرة الحق والنصيحة للآخرين . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت . متفق عليه من حديث أبي هريرة .
السؤال الثاني : فضيلة الشيخ من لم ير كفر تارك الصلاة هل يعتبر من أهل الإرجاء ؟
الجواب : نقل عبد الله بن شقيق العقيلي إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة رواه عنه الترمذي بسند صحيح ، وحكى إسحاق بن راهويه إجماع أهل العلم على ذلك وكونه إجماعاً للصحابة فهذا ظاهر فلا يعلم عن أحد من الصحابة خلاف في هذا .
وأما كونه إجماعاً لأهل العلم ففيه نظر فقد ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أن تارك الصلاة بالكلية لا يكفر مالم يجحد وجوبها . وهؤلاء أئمة هدى ومصابيح دجى فمن رماهم جميعاً بالإرجاء فقد أساء وظلم . فان هؤلاء الأئمة يمتنعون من تكفير تارك الصلاة بسبب ما توفر لهم من الأدلة وما استبان لهم من النصوص ولعله لم يبلغهم إجماع الصحابة أو لم يثبت عندهم وإلا لما تجاوزوه إلى اجتهادهم ورأيهم .
ومأخذ هؤلاء الأئمة من منع تكفير تارك الصلاة ليس هو مأخذ المرجئة من كون الصلاة عملاً وشتان ما بين المذهبين .
فمن ظهرت له الأدلة بعدم كفر تارك الصلاة فهو مجتهد يجب حفظ مكانته وصيانة عرضه من الوقيعة .
ومن قال أنا لا أكفر تارك الصلاة لأن الصلاة عمل ولا يكفر أحد بترك العمل مهما كان أمره فهذا مخطئ ضال وهو مذهب غلاة المرجئة .
السؤال الثالث : فضيلة الشيخ . روي عن عمر أنه قال : لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة . ماهي درجته ؟ ومن رواه ؟
الجواب : هذا الأثر صحيح رواه عبد الرزاق عن الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه عن سليمان بن يسار عن المسور بن مخرمة قال دخلت أنا وابن عباس على عمر حين طعن فقلنا الصلاة فقال : إنه لا حظ لأحد في الإسلام أضاع الصلاة فصلى وجرحه يثعب دماً .
ورواه من طريق معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال سمعت عمر يقول . لا حظ في الإسلام لأحد ترك الصلاة .
ورواه المروزي في كتاب تعظيم قدر الصلاة من طريق عبد الرزاق .
ورواه مالك في الموطأ من طريق هشام عن أبيه عن المسور بن مخرمة بدون ذكر سليمان بن يسار وقد رجح الدار قطني في العلل رواية الجماعة عن هشام وحكم على رواية مالك عن هشام بالوهم .
الجلسة الثانية عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مجموعة من الأسئلة أجاب عنها فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله في جلسته اليومية بعد صلاة الظهر وكانت الإجابة مسجلة بصوته فتم تفريغها وعرضها على الشيخ بتاريخ 18 / 4 / 1422 هـ .
السؤال الأول : هل يستحب مسح الوجه باليدين بعد رفعهما للدعاء ؟
الجواب :
ليس هذا بمستحب ولا جائز وقد ورد فيه حديث ابن عباس رواه أبو داود وضعفه .
وحديث عمر بن الخطاب رواه الترمذي في جامعه وقال غريب يعني بذلك أنه ضعيف .
فقد تفرد به حماد بن عيسى الجهني وهو ضعيف الحديث وفي الباب غير ذلك ولا يصح منها شيء .
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى مسح الوّجه باليدين بعد رفعهما للدعاء وهذا مروي عن الحسن البصري وإسحاق وقول للإمام أحمد . وعنه لا يشرع وهو الصحيح فلم يثبت في ذلك حديث يصلح حجة في هذا الباب .
وقد ذكر الإمام المروزي رحمه الله في كتاب الوتر عن الإمام مالك أنه أنكر المسح وقال ما علمت .
وهذا قول عبد الله بن المبارك والبيهقي والعز بن عبد السلام فقد قال ( لا يمسح وجهه إلا جاهل ) .
وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
السؤال الثاني : ما هو القول الصحيح في وقوع الطلاق بالثلاث ؟
الجواب : الطلاق على نوعين حلال وحرام :
فالحلال : أن يطلق امرأته في طهر لم يمسها فيه أو يطلقها حاملاً قد تبين حملها .
الطلاق البدعي الحرام : أن يطلقها في حيض أو يطلقها في طُهر جامع فيه أو يطلقها بالثلاث مجموعة بكلمة واحدة .
وهذا الحكم بالنسبة للمدخول بها . وغيرُ المدخول بها يجوز طلاقها حائضاً وطاهراً غير أنه لا يجوز تطليقها بالثلاث مجموعة في أصح قولي العلماء .
وقد اختلف أهل العلم في وقوع الطلاق بالثلاث مجموعة .
فذهب الأئمة الأربعة وأكثر أهل العلم إلى أن الطلاق نافذ فلا تحل له الزوجة حتى تنكح زوجاً غيره .
وحكاه بعض أهل العلم إجماعاً . وهذا غلط من قائله فالخلاف ثابت بين المتقدمين والمتأخرين .
وقد ذهب الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله إلى أن هذا الطلاق لا يقع مطلقاً لا واحدة ولا غيرها وهذا القول ضعيف وليس عليه دليل ولا نظر صحيح .(/21)
القول الثالث في المسألة أن طلاق الثلاث يقع به واحدة رجعية وهذا مذهب ابن عباس وطاووس وعكرمة ومحمد بن إسحاق واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم وهو المختار فقد روى مسلم في صحيحه من طريق عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال : كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة .... ) .
ورواه من طريق ابن جُريج قال أخبرني عبد الله بن طاووس عن أبيه أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس : أتَعلَمُ أنها كانت الثلاث تُجعَلُ واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثاً من إمارة عمر ؟ فقال ابن عباس : نعم .
ورواه من طريق إبراهيم بن ميسرة عن طاووس أن أبا الصهباء قال لابن عباس .. الحديث وإسناده إلى ابن عباس صحيح وهو أقوى دليل في هذا الباب .
ومحاولة تضعيفه بتفرد طاووس فيه نظر . فطاووس ثقة ثبت وتفردُ مثله إذا لم يخالف لا يضر وأهل العلم بالحديث لا يقبلون كل تفرد ولا يردونه فهم يعتبرون في ذلك القرائن ويحكمون على كل حديث بما يترجح لديهم .
وحديث ابن عباس صححه الإمام مسلم وأورده في صحيحه وطعن فيه الإمام أحمد رحمه الله والصحيح في ذلك قول الإمام مسلم ومن تابعه والله أعلم .
وقد جاء في مسند الإمام أحمد من طريق محمد بن إسحاق حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال ( طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني عبد المطلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً قال فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طلقتها قال طلقتها ثلاثاً قال فقال في مجلس واحد قال نعم قال فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت قال فراجعها فكان ابن عباس : يرى إنما الطلاق عند كل طهر )) .
وهذا الإسناد معلول . داود بن الحصين عن عكرمة فيه نظر قال الإمام علي بن المديني : ما روى عن عكرمة فمنكر الحديث .
وقال أبو داود . أحاديثه عن عكرمة مناكير .
وقد قوى هذا الإسناد جماعة من أهل العلم ونقلوا توثيق داود عن جماعة من الأئمة ترى هذا مذكوراً في زاد المعاد المجلد الخامس والله أعلم .
السؤال الثالث : فضيلة الشيخ . هل يفرق في الطلاق الثلاث بين قول الرجل أنت طالق البتة وبين قوله أنت طالق بالثلاث ؟
الجواب : الصحيح في ذلك أن طلاق الثلاث لا يقع منه إلا واحدة سواء كان بلفظ أنت طالق طالق طالق أو بلفظ أنت طالق وطالق وطالق أو بلفظ أنت طالق بالثلاث أو أنت طالق البتّة .
فكل هذه الصيغ لا تغيّر من الحكم شيئاً فإن جَمْعَ الثلاث محرم ولا يصح منه إلا واحدة وهذا الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم والأمر النافذ في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
فإذا قال الرجل لزوجته أنت طالق طلقتين أو ثلاثاً لم يكن قد طلقها إلا مرة واحدة .
ومثله لو قيل للرجل سبح ثلاث مرات فقال سبحان الله ثلاثاً لم يكن قد سبح إلا مرة واحدة .
والطلاق الشرعي أن يطلق الرجل امرأته في العدة التي أمر الله بها طلقة واحدة فلا يخرج عن ذلك إلا جاهل والجاهل يرد إلى السنة ولا تمضى عليه البدعة .
السؤال الرابع : فضيلة الشيخ ما تقولون فيمن يلزم الناس بطلاق الثلاث ويكره المفتين والمجتهدين على هذا القول ؟
الجواب : أهل العلم مختلفون في وقوع طلاق الثلاث وتبلغ الأقوال فيها إلى أربعة وقد ذهب إلى كل قول إمام من الأئمة واحتج كل فريق بأدلة من النقل والعقل .
فحمل الناس على أحد هذه المذاهب وإلزام المفتين بذلك حجر على العقول وتضييق على المسلمين وتجهيل لعلومهم وهذا لا يقول به عالم .
فإن العلماء الراسخين لا يلزمون الناس بما يقولونه من مسائل الاجتهاد ولا يكرهون أحداً على ذلك ولا ترى هذا المسلك إلا فيمن قل علمه وكثر جهله فإنه هو الذي يحمل الناس على رأيه ويوجب العقوبة على مخالفه .
وأما العلماء الراسخون والفقهاء المجتهدون الذين اتسعت معارفهم وتنوعت علومهم فهم أبعد الناس عن ذلك .
قال الإمام أحمد رحمه الله . ما ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدّد عليهم .
ومثل هذا منقول عن الإمام أبي حنيفة ومالك والشافعي وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الرد على الطوائف الملحدة . أن أئمة أهل السنة والجماعة لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد ولا يكرهون أحداً عليه )) .
وأرى أنه من الضروري على القضاة والمفتين اتباع الكتاب والسنة ومعرفة الحق بدليله والتعرف على أحكام الشريعة وأسرارها وما تضمنته من المصالح الدينية والدنيوية وتوسيع المدارك بجرد المطولات من الكتب الحديثية والفقهية ولا سيما كتب الأئمة المجتهدين أمثال ابن تيمية وابن القيم والشوكاني فهذا يبعث على معرفة الحق واتباع ذلك .(/22)
واعتقاد بعضهم براءَة ذمته بمجرد التقليد للمذهب المنتسب إليه وأن الأمر خرج عن عهدته هذا غير صحيح فهو مأمور بالبحث عن الدليل ما دام له قدرة على ذلك لأن المستفتي إنما يسأل عن حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم لا يسأل عن قول المذهب .
ولا وجه لكون القضاة والمفتين يتهيبون العامة وأقاويل الأكثرية فالهيبة المحمودة هيبة مخالفة الدليل والفتوى بالتقليد .
وإذا جبن القاضي أو المفتي عن الصدع بذلك فلا أقل من كونه يسكت عن الباطل ولا يفتي بدون علم فإن المتكلم بالباطل شيطان ناطق والساكت عن الحق شيطان أخرس .
السؤال الخامس : ما هي عدة المطلقة ثلاثاً ؟
الجواب : الذي عليه أكثر أهل العلم والأئمة الأربعة وغيرهم أن عدتها ثلاثة قروء كالمطلقة الرجعية .
والقروء الحيض في أصح قولي العلماء وحينئذٍ إذا انقضت الحيضة الثالثة فقد خرجت من العدة .
وقيل عدة المطلقة ثلاثاً حيضة واحدة إذ لا رجعة للزوج والعدة إنما وجبت ليتمكن الزوج من المراجعة فإذا لم تكن له رجعة لم يكن عليها عدة بل استبراء بحيضة واحدة كالمختلعة والمسبية والزانية إذا أرادت أن تنكح والمهاجرة .
وهذا القول منسوب لأبي الحسين بن اللبان وعلق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله القول به على أن لا يكون الإجماع على خلافه وقال . ليس في ظاهر القرآن إلا ما يوافق هذا القول لا يخالفه .
وذكر نحو هذا القول الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين .
وقد زعم بعض المتأخرين شذوذ هذا القول وأن القرآن على خلافه وهذه دعوى ليس عليها بينة فليس في القرآن ما يخالف هذا .
وقوله تعالى { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } . ظاهر الآية في الرجعية وليست في البائنة بدليل قوله تعالى { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً ... }. والمطلقة ثلاثاً لا رجعة لها فكان معلوماً أن الآية في الرجعية . والله أعلم .
الجلسة الثالثة عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مجموعة من الأسئلة أجاب عنها فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله في جلسته اليومية بعد صلاة الظهر وكانت الإجابة مسجلة بصوته فتم تفريغها وعرضها على الشيخ بتاريخ 30 / 4 / 1422 هـ فأذن بنشرها .
السؤال الأول : فضيلة الشيخ . ما صحة حديث الدعاء مخ العبادة ؟
الجواب : هذا الحديث رواه أبو عيسى الترمذي من طريق الوليد بن مسلم عن عبد الله بن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر عن أبان بن صالح عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الدعاء مخ العبادة .
قال الترمذي . هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة .
وابن لهيعة ضعيف الحديث مطلقاً قاله البخاري ويحى بن معين وأبو حاتم وغيرهم وهذا المشهور عن أئمة السلف وأكابر المحدثين فلا يفرقون بين رواية العبادلةعن ابن لهيعة وبين رواية غيرهم وإن كانت رواية العبادلة عنه أعدل وأقوى من غيرها غير أن هذا لا يعني تصحيح مروياتهم فابن لهيعة سيء الحفظ في رواية العبادلة عنه وفي رواية غيرهم والكل ضعيف وأقوى هذا الضعيف ما رواه القدامى عنه والله أعلم .
وقال الترمذي رحمه الله في أوائل جامعه في الحديث عن استقبال القبلة بغائط وبول . وابن لهيعة ضعيف عند أهل الحديث ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره .
وقد صح الخبر بلفظ . الدعاء هو العبادة رواه أحمد في مسنده و أبو داود والترمذي وابن ماجه كلهم من طريق ذرّ عن يُسيع الكندي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { وقال ربكم ادعوني استجب لكم } قال ( الدعاء هو العبادة ) وقرأ { وقال ربكم ادعوني استجب لكم } إلى قوله { داخرين } .
قال ابو عيسى الترمذي هذا حديث حسن صحيح .
السؤال الثاني : هل في القيء وضوء ؟
الجواب : في ذلك خلاف بين أهل العلم .
فقال الإمام مالك رحمه الله لا وضوء عليه ولكن ليتمضمض وليغسل فاه وهذا مذهب الإمام الشافعي ورواية عن الإمام أحمد .
وقال أبو حنيفة بوجوب الوضوء وهذا قول الإمام أحمد في رواية لحديث ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ . رواه أحمد والترمذي عن أبي الدرداء .
وروى ابن ماجة من طريق إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلنيصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم .
وهذا حديث ضعيف جداً . وإسماعيل بن عياش ليس بشيء عن غير أهل بلده .
والصحيح في المسألة أنه لا يجب الوضوء من القيء .(/23)